المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 981 - بتاريخ: 21 - 04 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ٩٨١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 981

- بتاريخ: 21 - 04 - 1952

ص: -1

‌غبار حول الكتلة الإسلامية!

للأستاذ سيد قطب

يجب أن يتوقع الدعاة إلى الكتلة الإسلامية غبارا كثيرا يثأر حولهم، وحول الفكرة ذاتها، غبارا من نواحي شتى: في الداخل وفي الخارج، بطرف مباشر وغير مباشر، تصريحاً وتلميحاً، من قريب ومن بعيد، عن طريق بعض السلطات وبعض العناصر وبعض الجماعات. . .

يجب أن يتوقعوا هذا كله منذ اليوم، لأن الدعوة إلى الكتلة الإسلامية مرادفة للدعوة إلى البعث الإسلامي آت لا ريب فيه؛ ولكن المعرضين والمناوئين لهذا البعث لن يستلموا بسرعة، ولن يسلوا عن طواعية. أنهم سيقاومون هذا البعث لن يستسلموا بسرعة، وأن يسلوا عن طواعية. أنهم سيقامون هذا سيقاومون هذا البعث إلى آخر لحظة، ويستخدمون جميع الوسائل، ومن بين هذه الوسائل تخويف المسلمين أنفسهم من هذا البعث آخر لحظة، وسيستخدمون جميع الوسائل، ومن بين هذه الوسائل تخويف المسلمين أنفسهم من هذا البعث أو إثارة مخاوفهم وشكوكهم حول الدعوة وحول الدعاة!

إن البعث الإسلامي آت لا محالة، لأنه حركة طبيعية غير مصطنعة. حركة تجيء في أوانها، ولم يكن مستطاعا أن تجيء قبل هذه الأوان. . ولقد حاولنا الكثيرون من قبل منذ أيام جمال الدين الأفغاني بل قبله، ولكنها لم تتم، لأنها في ذاك الوقت كانت دعوة رواد سابقين لزمانهم والمقتضيات هذا الزمان. أما اليوم فهي دعوة أوانها بعد أن تهيأت لها معظم الأسباب.

لقد انتهى العالم إلى كتلتين اثنتين قائمتين بالفعل، تتنازعان فيما بينهما على أرض الكتلة الثالثة ومواردها. كذلك انتهى عهد النوم والخمود الذي كانت تعانيه الكتلة الثالثة، وقامت شعوبها بلا استثناء تتملص من البراثن الاستعمار. ومهما تكن تلك البراثن من الشراسة والقوة، فإن تملص الفريسة وحده يكفي لإثبات البعث الجديد. .

ولقد آتت الحضارة الغربية أقصى ثمراتها. وبدا عليها الإفلاس. وبدأت البشرية تتلفت إلى منفذ - كما كانت تتلفت قبيل مولد الإسلام - والمذهب الشيوعي في الجانب الشرقي هو بدوره مذهب مادي كالحضارة الغربية، لا يختلف في طبيعة الحضارة المادية الغربية. وهو

ص: 1

مذهب تعسفي الفطرة البشرية ويعيش على كبتها وكبحتها بقوة الحديد والنار. فهو مذهب ضد الطبيعة البشرية؛ فمن المحال أن تطمئن إليه الإنسانية. . لقد تندفع إليه فرارا من نار الاستغلال الرأسمالي والطغيان الاستعماري. . ولكنه مجرد اندفاع اضطراري؛ كالمستجير من الرمضاء بالنار كما يقولون في الأمثال.

ويبقى النظام الاجتماعي الإسلامي وحده، يحمي البشرية من طغيان الاستعمار، دون أن يكبت الفطرة البشرية، ويحكمها والنار. .

وهذا ما يجعل البعث الإسلامي حركة كونية، حركة إنسانية. حركة طبيعية. . وهذا ما يجعله ضرورة لا لتخليص الرقعة الإسلامية وحدها من شر الاستعمار، ووقايتها في الوقت ذاته من شر الشيوعية، بل لتخليص البشرية كلها من المأزق الذي صارت إليه، ومن القلق الذي تعانيه، ومن الخواء الذي انتهت إليه حضارته الغرب بعد ثلاثمائة عام!

ولكن هذا كله ليس معناه أن حركة البعث الإسلامي ستلقي ترحيباً من الكتلة الشرقية أو الكتلة الغربية، أو إسنادهما وعملائهما ودعاتهما في الوطن الإسلامي. . وإذن فسيثور كثير. وقد بدت طلائعه من نواحي شتى. وفي صور شتى. وبوسائل شتى. .

اخذ بعضهم يثير الريب والشكوك، مدعياً أن الإنجليز أو الأمريكان هم الذين يخلقون حركة التكتل الإسلامية ليقفوا بها في وجه الشيوعية. .

وفي ذات الوقت أخذوا يثيرون المخاوف من رد الفعل في العالم المسيحي أي الكتلة الغربية - إذا التكتل العالم الإسلامي!!!

وهكذا في وقت واحد، يكون العالم المسيحي هو الذي يخلق حركة التكتل الإسلامي، ويكون هو نفسه الذي يكره حركة التكتل الإسلامي!!!

ومرة يأتي الغبار من جهة الهند، ومرة يجيء من ناحية لبنان، ومرة يجيء من فرنسا، ومرة يتبع من الأرض المصرية. . والصحافة المصرية المأجورة لأفلام المخابرات البريطانية والأمريكية تنفذ تعليمات هذا الأفلام. . وعملاء الشيوعية ينثرون الريب والشكوك في كل مكان. .

كل هذا يجب أن يكون متوقعا. ويجب مع ذلك أن تسير الدعوة إلى الكتلة الإسلامية في طريقها لا تحفل هذا الغبار. وأن تسير الاستعدادات العلمية في طريقها بضغط الشعوب

ص: 2

الإسلامية والعناصر الواعية فيها بصفة خاصة، فلا تترك للحكومات، كما تركت جامعة الدول العربية للأهواء!

انه لا خطر على حركة البعث الإسلامية أن يستغلها الاستعمار - كما حدث أحياناً لجامعة الدول العربية - لأن طبيعة الجامعة الإسلامية غير طبيعة الجامعة العربية.

إن الجامعة العربية حركة قومية عنصرية بعيدة عن الروح والضمير، حركة الجامعة الإسلامية حركة عقيدة وبعث روحي شامل. . فإذا جاز لعملاء الاستعمار أن يوجهوا الجامعة العربية أو يعرقلوها، فإن الجامعة الإسلامية سوف تستعصي على التوجيه.

إن حركة التكتل الإسلامي لن تتم لأن بضعة حكام من كل دولة سيجتمعون ويتآمرون! بل إنها ستتم لأن حركة وعي إسلامي ستعمر القلوب والإسلامية فهي بطبيعتها تأبى أن تسخر لأعدائها. إن الإسلام عقيدة استعلاء، فمن المحال أن تخضعأو تذل. إنها تقبل الخضوع يوم تكون هامدة خامدة، فأما حين تستيقظ فلا.

وإذن فلا خوف من استغلال هذه اليقظة لحساب الاستعمار والاستعمار يدرك هذا، ويثير الغبار حول الحركة الإسلامية، لأن تبلورها وبروزها هو النذير الأكبر تقلص ظله البغيض.

هذه الحقائق يجب أن تعرفها الشعوب الإسلامية، وأن تنفض عنها الغبار الذي يثيره أعداؤنا من الجانبين، ويسخرون له أقلاماً وصحفاً وألسنة، تعيش في صميم الوطن الإسلامي!.

وبعض الذين تخب الاستعمار الغربي أفئدتهم، فأفئدتهم هواء، يرتجفون من الذعر أن تثير الدعوة الإسلامية ثائرة العالم الغربي والعالم الهندي!. . كأن هذا العالم أو ذاك قد سالم المسلمين في يوم من الأيام، أو انه يسالمهم الآن!.

إن فظائع وشناعات ترتكب كل يوم ضد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. والأقليات الإسلامية في بعض البلاد تباد إبادة منظمة، وتضطهد بنفس الأساليب التي اتبعتها محاكم التفتيش الإسبانية أو أشد. .

وعلى ذكر الأسبان ها نحن أولاء نراهم يقومون بدور السمسار للكتلة الغربية في العالم الإسلامية وترى بعض رجالاتنا مع الأسف الشديد يقومون لهم بدو السمسار كذلك!.

ص: 3

أن أسبانيا في هذه الأيام ود العالم الإسلامي. وهي في ذات الوقت تسوى حسابها مع أمريكا!

ربما يقول الوقت بعضهم: أترى؟ أليس هذا دليلا على أن قيام الكتلة الإسلامية هو من وحي السياسة الاستعمارية؟

انه حق يراد به باطل! يجب أن نفرق بين البواعث الطبيعية لقيام الكتلة الإسلامية، وبين محاولة أن يستغل هذه الحركة الطبيعية.

إن قيام الكتلة الإسلامية اليوم، على أساس النظام الاجتماعي الإسلامي، وعلى أساس تحكيم الشريعة الإسلامي، في أساس تحكيم الشريعة الإسلامية في الحياة. . هو حركة طبيعية لا بد منها كما أسلفنا. . أما محاولة الاستعمار أن يستغل لحسابه هذه الكتلة الناشئة فهي محاولة مصطنعة يمكن القضاء عليها.

وإذن فلندع لقيام الكتلة الإسلامية، على أساس النظام الاجتماعي الإسلامي، لا على أساس أتفاقات دبلوماسية بين بعض السياسيين - على طريقة جامعة الدول العربية! - وليكن همنا أن ننشر حركة إسلامية حقيقي بين الشعوب. وهذا هو الضمان لاستقلال هذه الكتلة عن الاستعمار، وقيامها على أساس مكافحة الاستعمار.

وحين يقوم العالم الإسلامي على أساس النظام الاجتماعي الإسلامي؛ فانه سيكون في حصانة من الشيوعية، بل سيكون بدء تحطيم الكتلة الشيوعية، والنظام الشيوعي. .

هذه حقيقة واضحة تحب أن ننفض عنها الغبار؛ ونعرضها ناصعة للأنظار والأفكار. . .

سيد قطب

ص: 4

‌كلمات

للأستاذ علي الطنطاوي

5 -

مشكلة وجبة

سيدي الوجيه الكبير

قرأت كتابك الذي أرسلته إلى، وفهمت قصتك الطويلة، أما رأيي الذي تقسم على بأن أعلنه بصراحة، وأن أنشره.

فإني أخاف أن تغضب إذا أبديته لك، أو أن يلومني على إبدائه القراء.

لأن رأيي فيك يا سيدي المحترم أنك. . . أحمق كبير، ولا مؤاخذة، وأنك لا تصلح أبا لهذه البنت العاقلة، وأنك مع الأسف صورة لأكثر الآباء، لا تختلف عنهم إلا كاختلاف نسخ القصة المطبوعة بعضها عن بعض. فهمت من كتابك أن الخاطب الذي رغبت فيه ابنتك محام فقير، لا يملك إلا شرفه وخلقه وعزة نفسه، والمال الذي يأخذه بكد يمينه، وعرق جبينه

وأن الخاطب الشاب الجميل الغني المدلل وحيد أبويه، اسم الله عليه، الذي يملك وزنه ذهباً، لم تقبل به البنت لأنه ليس بصاحب علم، ولا بذي مهنة، وأنها أبت من تريد، وأبيت من أرادت، فبقيت بلا زواج.

وأنك حائر في هذه المشكلة لا تدري ماذا تصنع؟

ومشكلتك هذه يا سيدي مشكلة البلد كله.

مشكلة سببها أنتم أيها الآباء الذين يحسبون البنت سلعة فيهم يريدون أن يبيعونها، لمن يدفع فيها الثمن الأكبر، ويظنون الزواج صفقة تجارية، فيهم يتمنون أن يخرجوا منها بالربح الأوفى

أنتم سلبتم الزواج معناه الإنساني العاطفي، وجعلتموه معاملة مالية، يبحث فيها عن المهر والجهاز، والحفلات والولائم، قبل أن يبحث عن التوافق والحب، والسعادة الزوجية.

أنتم وضعتم الأشواك في طريق الشباب الذين يريدون بناء البيت، وإنشاء الأسرة، وإرضاء الله والخلق، وأقفلتم في وجوههم أبوابكم، ففتحتم لهم بذلك باب الفجور والفساد، وعبدتم لهم

ص: 5

طريق البغاء والمرض والإفلاس.

أنتم الذين يضحكون بصحة بناتهم، وبأخلاقهن وبسعادتهن في سبيل التفاخر والتكاثر، والعظمة الفارغة، ويضحون بعد ذلك بمصلحة هذا الوطن! أنتم المسئولون عن مشكلة البغاء السري أنت وأمثالك من الأدباء! وتسألني بعد ذلك رأيي؟

رأيي أنك مجرم كبير. . . يا سيدي الوجبة الكبير!

6 -

بترول

قرأت أن أمير إحدى المحميات العربية صار أغنى رجل في العالم، وأن البترول الذي ظهر في أرضه. . . سيأتيه كل سنة بـ. . . بمبلغ نسيت والله من ضخامته. . .

قرأت هذا الخبر فكدت من العجب أفقد عقلي

أيأخذ شيخ هذه المحمية وحده ثمن البترول، ويتصرف فيه على هواه ولا يقول له أحد. ماذا صنعت؟

ومن إعطاء هذا البترول؟ ومن كتب له به سند التمليك؟ في أي عصر نعيش أيها الناس؟

إنه بترول هذه الأرض التي أكلت أجساد أجدادنا. وشربت دماءهم: أرض العرب فهل ترونها ادخرته في بطنها ثلاثة ملايين سنة حتى يأتي في آخر الزمان الشيخ الفلاني فيأخذه وحده ملكا خالصاً له، ليعطيه لأمريكا أو لإنكلترا؟

إني لأسأل مرة ثانية: في أي عصر نعيش؟

وأين هي ديمقراطية أميركا وإنكلترا؟ أمن شرع الديمقراطية إن نبع البترول في صحاري كاليفورنيا أن يكون ملكا لترمان، ينعم بثمنه هو وأولاده وعبيده (إن كان عبيد) ويسخر لشهوائهم ولذاذاتهم، ويترك الشعب في بلائه وشقائه؟.

الديمقراطية كلمة يونانية الأصل، جاءت من (ديموس) أي الشعب، وكل شيء في الديمقراطية للشعب، وخيرات الوطن وبترول الأرض لأصحاب الأرض.

فلماذا لا يكون بترول أرض العرب للعرب، يسخر لمصالحهم ويشتري به لهم المجد والقوة، والحضارة والعلاء؟ لماذا لا نصير به أرض العرب جنات فيها من كل الثمرات، وفيها المدن والمصالح والقلاع والمدارس، وفيها الطرق والجسور وكل ما أنتجت المدينة وأثمر العمران؟ أليس ملك الشعب؟

ص: 6

أنى لأسأل، فهل من مجيب؟!

7 -

الزوجة الثانية

قابلت أمس صديقاً فوجدته ضيق الصدر، لقس النفس، كأن به علة في جسده، أو هما في قلبه، فسألته أن يكشف لي أمره فتأبى ساعة وتردد، ثم قال لي: أنت الصديق لا يكتم عنه، وإني مطلعك على سرى، ومستشيرك فيه: إني أريد الزواج.

- قلت: وما فعلت ربه دارك، وأم أولادك؟

- قال: هي على حالها.

- قلت. وهل أنكرت شيئاً من خلفها أو من دينها أو من طاعتها لك، وميلها إليك؟

- قال: لا والله!

- قلت: فلم إذن؟

- قال: إني رجل أحب العصمة وأكره الفجور، وقد ألفت زوجي حتى ما أجد فيها ما يقنع نفسي عم أن يميل إلى غيرها، وبصري عن أن يشرد إلى سواها، وأطلت عشرتها مللتها وذهبت في عيني فتنتها.

قلت: ما أقبح والله ما جزيتها به عن صحبتها وإخلاصها! وما أعجب أمرك تسمع صوت النفس، وأنت صوت العقل، وتتبع طريق الهوى، وأنت تحسبه سبيل الصلاح، وهذا من تلبيس إبليس، ومن وساوسه؟

وهل تحسب أن المرأة الجديدة تقنعك وتغنيك، إن أنت لم تقهر نفسك وتزجرها؟ إن الجديدة تمر عليها الأيام فتصير قديمة، وتطول ألفتها فتصير مملولة، وتستقرى جمالها فلا تجد فيها جمالا فتطلب ثالثة، والثالثة إلى الرابعة، ولو أنك تزوجت مائة، ولو أنك قضيت العمر في زواج، لو جدت نفسك أمرآة أخرى. . .

وهذي سير الملوك الذين كانت تجعل إليهم كل جميلة من كل بلد، وكان في قصورهم آلاف الجواري من كل بيضاء، وسمراء وسوداء، وعربية، وتركية، وكرجية، وأفرجية، من كل سن وكل لون، وكل جنس وكل شكل، فهل أشبع ذلك هوى نفوسهم؟ وهل عصمتهم من أن يتطلع أحدهم إلى المرأة الممنعة فيعشقها أو يهم حبا بها، ولا يرى لذته إلا بقربها؟.

وهل الزواج ويحك لهذا (الأمر) وحده؟ فأين الوفاء وأين التذمم؟ وأين حقوق المعاشرة؟

ص: 7

وأين روابط الولد؟ وهل تقوم الحياة على الحب وحده؟

هل يمضى زوج عمره في تقبيل وعناق؟ إن لذلك لحظات باقي العمر تعاون على الحياة، وتبادل في الرأي، وسعى للطعام واللباس وتربية الولد، واسترجاع الماضي والإعداد للمستقبل:

وهل تظنك تسعد بين زوجتين، وتعرف إن جمعتهما ما طعم الراحة؟ وهل تحسب أن ولدك يبقى معك وقد عاديت أمه، وصادقت غريبة جئت بها تشاركها دارها ومالها وزوجتها؟ فهل يرضيك أن تثير في أسرتك حرباً تكون أنت أول ضحاياها؟

لا يا صاحبي، لقد تغبر الزمان، وتبدل عرف الناس، فعليك بزوجك. عد إليها وانظر إلى إخلاصها، لا تنظر إلى وجهها ولا إلى جسمها، فإني قرأت كتباً في تعرف الجمال كثيرة، فلم أجد أصدق من تعريف طاغور:(أن الجمال هو الإخلاص) ولو أن (ملكة الجمال) خانتك وغدرت بك لرأيتها قبيحة في عينك. ولو أخلصت لك زنجية سوداء، كأن وجهها حذاء السهرة اللماع لرأيتها ملكة الجمال. . .

وثق أن ما حدثنني به سرا بيننا لا أفشيه أبداً، ولا أطلع عليه أحداً!!

وهل سمعت أن (أفشى) سرا؟!

8 -

نعم. لقد هزمنا!

إلى الأستاذ الذي كتب إلى فلم أعرف اسمه ولكن نم أسلوبه على فضله:

نعم. لقد هزمنا في فلسطين، ولكنها لم تهزم فينا إلا الأخلاق التي قبسناها من غيرنا، وتركنا لها أخلاقنا. ما هزم إلا التردد والاختلاف، والثرثرة والكلام الفارغ، وإيثار الزعماء مصالحهم على مصالح الأمة، واتخاذ الإنكليز والأمير كان أولياء، أما سلائق العروبة، أما خلائق الإسلام، أما الإرث لذي تركه محمد في عروقنا، معشر العرب وصبهفي دمائنا، فلم يهزم ولن يهزم أبداً.

إن لكل أمة أياما لها، وأياماً عليها، وليس العار أن يجزع من الغلب ويرضاه، ولا يعاود الكفاح، ولقد مر علينا في تاريخنا مصائب أشد هؤلاء، لقد قامت في هذه البقعة من فلسطين دولة أقوى من هذه الدولة الكسيحة، دولة زحفت أوربا كلها لتقيمها وتحميها، فعاشت أكثر من مائة سنة فأين هي اليوم؟

ص: 8

هدمها رجل واحد اسمه صلاح الدين، فذهبت حتى أن أكثر القراء لم يكن يدري بها، قبل أن يسمع مني الآن خبرها.

فلا تجزعوا كثيراً من ضياع فلسطين، بل اجزعوا من المصيبة التي هي أكبر من ضياع فلسطين، ومن ضياع بلاد العروبة كلها، لا أذن الله - أتدرون ما هي؟ هي أن تخسروا إيمانهم بأنفسهم وماضيكم، وأن تفقدوا كبرياءكم وتنسوا عزتكم، وتجهلوا مكانكم في هذه الدنيا.

تلك هي المصيبة حقا، ولن تكون أبداً ولئن داخل الضعف نفوساً قد اكتهلت وشاخت في ظلام الماضي القريب فسيكون من هؤلاء الأطفال، شعب نشأ في نور الاستقلال، وستلهب دمه ذكريات عشرة آلاف معركة مظفرة، خاضها الجدود، وسيخرق صماخ أذنيه نداء عشرة آلاف بطل، أنجبهم الجدود، وستدفعه إلى ميادين التضحية والبذل، حتى يطهر أرض الوطن من إسرائيل، وبغل بالدم هذه الصفحة التي كتبها في تاريخنا التردد والتخاذل والانقسام، وحتى يعيد مجد الماضي فيقرأ الطلاب في المدارس بعد حين، خبر هذه الدولة التي قامت يوما في فلسطين باسم دولة إسرائيل، كما نقرأ نحن اليوم خبر الدولة التي أقامها من قبل جموع الصليبيين.

ومن شك في هذا لم يكن عربيا ولم يكن مسلماً.

9 -

الآن يا بنت

الآن يا بنت؟! آلآن؟! بعد ما سفح الماء، واحترق العود، تكتبين إلى بدم القلب، ودموع العين تقولين: تعالوا يا عقلاء، ويا مصلحون، خبروني ماذا أصنع؟ وهل يقدر أحد أن يرد الماء الذي اندلق، والعود الذي احترق، والغشاء الذي أتخرق؟

وهل رجعت لبنت عذرتها، بعدما فقدتها، حتى تعودي عذراء كما كنت؟ فلا تطلبي المحال فإن الميت لا يعود. . .

وإنه قد بطل الخيار، ولم يبق إلا طريق واحد، فأنسى كل ما ذكرت أي من شرف أسرتك وهو أن عائلته، وغنى آلك وفقر أهله، وتوسلي إليه بك، فلعله قد بقى قلبه شيء من شرف الرجل؛ أو عاطفة الإنسان فيصلح ما أفسد.

أما أهلك فإن الأيام ستروضهم على الرضا بالواقع، فيندمل مع الزمان الجرح، وتذهب

ص: 9

القطيعة، ويطول بهم الفكر، فيعلموا أنهم هم المذنبون، وأنهم هم الذين ساقوك إلى دكان الجزار، وألقوا بك بين أنياب الذباب، عزلاء لا مخلب لك ناب، ولو أنهم نشئوك على عادات العروبة، وآداب الإسلام، لما كان الذي كانت، واعلمي يا بنتي أن قصتك مع هذا الشاب، زميلك في المدرسة، قصة كل بنت حواء مع كل ابن آدم، يميل إليها، وتميل إليه، (فطرة الله التي فطر الناس عليها) لكنه يريد منها غير ما تريد منه، إنها (وهي التي تحمل عليها) تريد أن يكون لها أبداً وحدها، كما تكون له أبدا وحده، يريد حبا باقيا لأن آثاره باقية فيها، تنتقل من الرغبة إلى الأمومة، وهو يريد أن يقطف الزهرة ويجني الثمرة، ثم الرغبة إلى الأمومة، وهو يريد أن يقطف الزهرة ويجنى الثمرة، ثم بوليها ظهره، يبحث عن زهرة أبهى لونا، وثمرة أشهى طعما، فالحب عندها استعراق ودوام، وهو عنده لذة ساعة، ومتعة نهار، إذا أخطأ معا، غفر المجتمع له خطيئته، ولم يغفر لها خطيئتها أبداً.

من هنا جاءت شكوى النساء من خيانة الرجال، ومن هما حرم الله، ومنع الشرف اقتراب الرجل من المرأة، إلا بعد أن تقيده بقيد الزواج، لئلا يتبع فطرته وهواه، فيقضى أربه ويهرب - إن هذه يحاول الخروج عليها، والتخلص منها، أفليس هذا عجيبا؟

على أنك لو لم تشجعيه لنا أقدم، ولو لم تضعفي عنه قوى، ولو تصونت عنه بالحجاب، وتمنعت منه بالخلق، ولو أن كل بنت كانت تحمل عقلها دائماً في رأسها، لا تنساه في قصة غرام ولا ديوان غزل، ولا على مقاعد السينما، وكرامتها بين عينيها، وتعرف كيف ترد عنها شيطان أنسي يبغي العدوان عليها بالكلام إن كان ممن يفهم بالكلام، وبكعب الحذاء تخلعه وتنزل به على رأسه، إن كان سيفها خبيثا قليل الحياء، لما فجعت بعفافها فتاة. فالأمر في أيديكن يا بنات، وإن أفسق الرجال وأجرئهم على الشر، يخنس ويبلس ويتوارى، إن رأى أمامه فتاة مرفوعة الهامة، ثابتة النظر، تمشى إلى غايتها بجد وقوة، وحزم، لا تتلفت الخائفة، ولا تضطرب الخجل، ولا تميس ميسان من يقول: هأنذا فمن يريدني؟

وبعد يا بنتي فلا تيأسى، فما في الذنوب ذنب غير الشرك يضيق عنه عفو الله، ولا في الوجود مذنب يرد عن بابه إن جاءه تائباً منيباً، وإن في عفو الله متسعاً لجميع العصاة (قل: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً)

علي الطنطاوي

ص: 10

‌المجتمع التقدمي

للدكتور قسطنطين زريق

مدير الجامعة وصاحب الوعي القومي

تدور على ألسنتنا في هذه الأيام بضعة ألفاظ أساسية نعبر بها عن عقائدنا ومناهجنا العملية، وعما نطمح إلى بلوغه من غايات وأهداف. من هذه الألفاظ: القومية، والديمقراطية، والاتحاد، والتقدمية، والاشتراكية، وأمثالها. ولما كانت المعاني التي نسبغها على الألفاظ لها خطورتها الكبرى فيما نصوغ من فكر وما نبني من منشآت، وجب علينا أن نوضح لأنفسنا حقيقتها، ونستخرج متضمناتها، كي نسير على هدى، ونشيد على أساس صحيح. ولملنا إذا تبينا الجوهر، وكشفنا عن الأصل، لا نضيع ما نضيعه الآن من جهد ووقت في مناقشة الأعراض والبحث عن الفروع.

ولا جدال في أن هذه المهمة الإيضاحية تقع أولا على عاتق رجال الفكر، فهم المسؤولون في الدرجة الأولى - إزراء مجتمعهم وإزاء التاريخ - عن تحديد المعاني، ورسم الأهداف، وتخطيط السبل وإليهم يتطلع المجتمع لقيادته في الكشف عن الأسس، وتمييز الأصول من الفروع، ووضع الأهم قبل المهم، والنهم الباقي قبل التافه الزائل.

وليس حديثي هذا سوى محاولة لإيضاح معنى لفظ من هذه الألفاظ الأساسية التي نرددها ومشتقاته المختلفة. فكثيراً ما نتحدث عن التقدم، والنقدية، والمجتمع النقدمي، وننقسم شيعاً تبعاً نفهمه منها. ولذا كان حريا بنا أن نقف بين آن وآخر لنتبين حقيقة ما نقصد إليه، ونتفق على ما نعني، توفيراً للجهد، وتوضيحاً لجوهر الخلاف - إذا كان ثمة خلاف - واتباعاً للأسلوب العلمي المنظم في المناقشة الفكرية والسلوك العلمي.

فما هو المجتمع التقدمي، وما هي الصفات الأساسية التي ننطوي عليها تقدميته؟

المجتمع التقدمي هو، أولا، مجتمع متحرك متطور، وإذا أردنا استعمال لفظة غريبة قلنا:(ديناميكي). وليس من الصعب علينا أن نفرق بين مجتمع بهذه الصفات وآخر يغلب عليه الركود والجمود. فالمجتمع المتحرك الديناميكي يتميز بالقوة والتغير. أما قوته فبإنتاجه المادي والعقلي: إنتاجه فيما يستثمر من موارد الطبيعة، ويستغل من كنوزها، وما يبنى من منشآت، وينظم من علاقات، وما يصاحب ذلك كله من نظر عقلي وبحث علمي. وتركيز

ص: 12

للمفاهيم. وتجميع للحقائق. وأما تغيره فبتطور منتجاته المادية، وأحواله المعاشية، وأخلاقه، وعاداته، وسبله في الحياة عموماً. وعلى العكس من هذا كله المجتمع الراكد (الستاتيكي) فهو، من ناحية ضعيف بإنتاجه المادي والعقلي، ومن ناحية أخرى ساكن واقف لا تتغير أحواله ونظمه إلا قليلا على ممر السنين.

ولا حاجة بنا إلى القول أن الحركة في المجتمعات المتحركة، والركود في المجتمعات الراكدة، ليسا صفتين مطلقتين، وإنما الاختلاف بينهما اختلاف نسبي يتوقف على أحوال هذه المجتمعات وعلى قوة العوامل المؤدية إلى الحركة والركود أو ضعفها. كذلك هاتان الصفتان ثابتتين لرجوعها - كما يعتقد البعض - إلى الجنس الذي يتكون منه المجتمع، والذي إن تغير أو تبدل فإلى حد أدنى بكثير من التغير أو التبدل الراجع إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية. إن الأبحاث الحديثة، واختبارات الإنسانية، قد أنبتت فساد التعليل الجنسي المطلق، وأقرت للعوامل الاقتصادية والاجتماعية بالأثر المستقبل الراجح، فلكم من مجتمع راكداً في بعض مراحل حياته ثم انتفض وتحرك، على ثبات في تكوينه الجنسي وإرثه العرقي. ولا ينكر أن للعرق أثره، ولكن هذا الأثر ليس مطلقاً، ولا - بعرفنا - راجحا، وإنما الراجح في تطور المجتمعات هو العوامل الاجتماعية المتشابكة الناتجة من علاقة المجتمع بمحيطيه وعلاقة عناصره بعضها ببعض.

وتبعاً لهذا نقول إن مرد الحركة (الدينا ميسم) في مجتمع ما إلى مقدرته على التفاعل بينه وبين محيطة الخارجي، وعلى تفاعله الداخلي في نفسه. والمحيط الخارجي ذو وجهين: محيط طبيعي مادي، وآخر بشري اجتماعي. والحركة والحياة تنشأن عندما يكون المحيط الطبيعي على درجة متوسطة بين اللين والشدة، بحيث تستدعي شدته نشاط المجتمع، وييسر لينة، في وقت ذاته، لهذا النشاط أن يزدهر ويثمر. فإذا كان المحيط الطبيعي ليناً كل اللين، واستطاع الإنسان فيه أن يرضى شهواته البدائية بأيسر السبل، لم يكن هناك داع للهمة والنشاط ولتوليد الحركة وبث الحياة. وكذلك، إذا كان المحيط في الطرف الآخر من حيث القسوة والشدة تغلب على مقدرة الإنسان، في المراحل الأولى من تطوره، وسل حركته، منع تقدمه. ومنع تقدمه. وهذا ما ترى واضحا كل الوضوح في المناطق القاسية المناخ، حرارة أو برودة أو رطوبة أو جفافاً، أو التي يغلب عليها الجليد أو الأدغال أو

ص: 13

الصحراء أو أمثالها.

إن هذه الظروف الطبيعية مؤثرة، كما قلنا، تأثيراً حاسما في المراحل الأولى من نشوء المجتمعات ونموها. وهي التي، في الأغلب، تبعث في مجتمع ما الحركة والجدب والجمود، إذ تستنفذ جهوده كلها في اقتناص عيشه الضئيل وتحصره في دائرة ضيقة يصعب عليه اجتيازها. أما المجتمع الذي تتيسر له أسباب الحركة والنمو، ويقطع في هذه الطريق شوطاً مديداً، فإنه يصبح قادراً على التغلب على المحيط الخارجي مهما اشتد وقسا: وها نحن نراه يستخرج المعادن من بطن الصحراء، ويركب متون البحور والأجواء.

ومثل المحيط الطبيعي المحيط البشري. فإذا كان هذا المحيط هيناً ليناً لا يمكن فيه أي خطر استهان أهل المجتمع عيشهم، وانصرفوا إلى ملذاتهم، وساروا إلى الركود فالانحلال. وإذا كان العكس من ذلك خطرا كله وتغلب على المجتمع بشكل المجتمع وكبتت حيويته. وتاريخ البشرية في الشرق والغرب مليء بالأدلة الواضحة على ما تقول، فلا تحتاج إلى إيراد أدلة مفصلة، وإنما يكفينا أن نشير إلى ما تعرضت له بلادنا العربية في الستمائة السنة الأخيرة من غزوات خارجية جامحة وضروب في الحكم الأجنبي المستأثر امتصت حيوية أرضها وسكانها، وجعلتها تركد وتعجز عن الإنتاج بأي شكل من الأشكال. أما الحالة المؤدية إلى الحركة والنمو فهي وجود الخطر - وإحساس المجتمع به - وما يتبع هذا الإحساس من بعث للهمم، وإثارة للنشاط، وتعبئة للجهود.

ولا تقتصر حيوية المجتمع المتحرك على التفاعل بينه وبين محيطه الخارجي: الطبيعي والبشري، بل تتمثل أيضاً في تفاعله الداخلي: بين أفراده، ومنظماته، وطبقاته. فالعلاقات البشرية في المجتمع الراكد علاقات بسيطة، قليلة التغير. أنا في المجتمع المتحرك، فهي تزداد على الأيام تطورا وتعقدا. والحيوية المنصرفة إلى الخارج لا تلبث أن تضعف وتنحل إذا لم تصحبها حيوية في الداخل تؤدي إلى نمو في شتى دوائر المجتمع: في العائلة، والمدرسة، والدولة، وسواها. بل نقول إن التفاعل والنمو في داخل المجتمع هما أصدق دليل على مقدرته على مجابهة المحيط والصمود في وجه قوى الخارج.

وخلاصة القول أن المجتمع المتحرك الديناميكي هو مجتمع متطور، متفاعل مع محيطه الطبيعي والبشري، ومتفاعل في ذاته داخليا.

ص: 14

ولكن ليس كل حركة تقدماً، ولا كل تطور نموا وارتقاء. فما هو السبيل إلى ضمان هذه الأهداف المنشودة؟ وإذا أردنا نحن في البلاد العربية أن ندفع بمجتمعنا العربي إلى الأمام فكيف نأمن أن يكون انبعاثه من ركوده، وتحركه من جموده من جموده، مؤديين فعلا إلى نمو وتقدم، وغير مقتصرين على مجرد الحركة والتغير؟ وبكلمة أخرى، ما هي المقاييس التي يقاس بها تقدم مجتمع على آخر، أو درجة التقدم أو التأخير في نفس المجتمع؟

توضيحاً لتفكيرنا في الموضوع الأساس أتقدم ببضعة مقاييس عامة لا بصفة نهائية حاسمة بل بصفة تمهيدية تجريبية، لعلها تكون أساسا صالحاً للبحث، وخطوطاً عامة نسترد بها هذا الميدان الواسع المتشعب.

أول هذه المقاييس، في نظري، هو مبلغ سيطرة المجتمع على الطبيعة وقدرته على ضبط قواها واستغلال مواردها. فالمجتمع الذي تحده قوة الطبيعة أو تتغلب عليه يكون عبداً لها خاضعاً لسلطانها، ويظل متأخراً عن سواء من المجتمعات التي سبقته في هذا المضمار. وتأخره عنها يكون في ناحيتين أساسيتين: الأولى سلبية والثانية إيجابية. أما في الناحية السلبية فيقي عرضه لأحداث الطبيعة وفعل عناصرها المادية والحية، يتحكم فيه نوع الأرض وشكلها وموقعها، ودوران الفصول، وتقلبات المناخ، وتتسرب إليه الجراثيم الفتالة، والأعراض الفتاكة. فهو، من هذا القبيل، مغلوب على أمره، مستعبد لمحيطه الخارجي. ثم هو محدود من الناحية الإيجابية أيضاً لعجزه عن استدار غنى الطبيعة، واستخدامه لتحسين معاشه وترقية حياته ماديا وأدبياً. وما دام ضئيل الإنتاج، مهدداً بالفقر والمرض، فهو حتما متأخر عن سواه، وغبر مجهز للسير في ميادين التقدم والرقي.

والمدينة الحديثة إنما تمتاز عن المدنيات السابقة في هذا المضمار، ولا حاجة بي هنا إلى التفضيل والإيضاح، فلأمر ظاهر بين دون دليل أو برهان. وإنما يجدر بنا أن نلاحظ أن المدينة الحديثة هي، من هذه الجهة، وحده غير متجزئة. ولا يغرنا اختلافها في نواحي أخرى، فهي في هذه الناحية متفقة كل الاتفاق. لننظر إلى القوتين الجبارتين اللتين تتنازعان العالم اليوم الغربية التي تتزعمها أمريكا، والقوة الشرقية التي تقودها روسيا، نجد أنهما كلتيهما قائمتان على الحرص الشديد والقدرة الجبارة على استثمار الطبيعة واستغلال مواردها. في كل منهما، في الولايات المتحدة وروسيا على السواء، وفي الدول الأخرى

ص: 15

بدرجات متفاوتة، اهتمام بالآلة، وانكباب على التكنيك، وحرص على الاقتصاد. وما الآلة والتكنيك والاقتصاد سوى التي يتسلح بها الإنسان لضبط الطبيعة وعلاقته، بها ينتج عن ذلك من علاقات اجتماعية.

وهذا الانكباب على الوسائل الإنتاجية هو سر الحركة (الدينا ميسم) ومصدر القوة النادية والعقلية في المجتمع الحديث على اختلاف ألوانه واتجاهاته. وهو الواجب الأول الملقى على عاتقنا نحن العرب اليوم، لأننا لا نستطيع أن نحمي كياننا إلا عن سبيله. فالعالم أصبح يضيق بغنى غير مستثمر، وموارد غير مستغلة. والدول تكاد تسير في معاملاتها على أن المجتمع الذي لا يستثمر موارده يخسر حقه فيها. ولئن كان القانون الدولي لا يقر هذا المبدأ، بل بالعكس يصرح بسيادة الأمة على أرضيها وإرثها الطبيعي، ولئن كانت شرعة الأمم المتحدة قائمة على مساواة الدول في هذه السيادة، فالواقع أن الدوافع المسيرة للدول في هذه تصرفاتها هي غير ذلك. ولا نكران أن الصهيونية بنت جانباً هاما من حجتها لقضيتها في فلسطين على تفوقها على العرب في استغلال الأرض واستخدام وسائل الإنتاج الحديث. وكان دعاتها يجوبون أطراف العالم مرددين هذه الدعاوة ويستقدمون الوفود والبعثات ليطلعوهم على سبقهم للعرب في هذا المضمار. وكان نجاحهم في هذا، مخالفته أبسط قواعد الحقوق الدولية مقنعاً لكثير من الناس وموجهاً للرأي العام العالمي في مصلحتهم. وليس هذا الواقع فعالا في مثل هذا العدوان الفاضح فحسب، بل هو مؤثر أيضاً في التدخلات الأخرى الأكثر خفاء، التي تدفعها قوى لا ترد من منطق المدينة الحديثة ذاته، لاستغلال البوار، وإحياء الموات، أينما كان ولمن كان.

فاستثمارنا لمواردنا هو إذن داعم لحقنا فيها وإهمالنا لها هو بالعكس، وسواء أشئنا أم أبينا لهذا الحق في مفهوم العالم الحديث. ثم إننا بهذا الاستثمار نهيئ لأنفسنا من الناحية الإيجابية وسائل الدفاع عن كيانا في الميادين الحربية والاقتصادية والسياسية والعلمية، ولا شك في أن سبق الصهيونية لنا قرونا في هذا المضمار هو الذي لها سبل عدوانها علينا واستجرار القوى السياسية والاقتصادية الكبرى إلى مساندتها في هذا العدوان.

وعندما نتبين هذا الواقع ونقره نخرج منه إلى نتائج حتمية لا مفر لنا منها. خلاصتها أن نهضتنا القومية، بما تتضمن من سياسة داخلية ودولية ومن تنظم اقتصادي واجتماعي

ص: 16

وتعليمي، يجب أن تبنى أولا على هذه الأركان المتسلسلة: آلة، تكنيك، اقتصاد، إنشاء. فيها يتحرك مجتمعنا وتسري فيه الروح الديناميكية التي تيسر الوسائل لملية كيانه أولا ولنقدمه في النواحي الأخرى ثابتاً.

على أن هذه الوسائل الإنتاجية الاستثمارية لا تأتي عفوا ولا تهبط من علو. وإذا استمددناها من سوانا فهي لا تبقي لنا ولا تعمل في مصلحتنا إلا اكتسبنا معها القوى الأصيلة التي ابتدعتها. والشعوب التي تقدمتنا في هذا المضمار لم تنلها إلا بعد أن حققت شرطها الأساسي وباعثها الأصلي: وهو التحري عن الحقيقة والأسلوب العلمي المنضبط والنتائج العلمية المحققة المتراكمة. هو العقل النامي المنتظم في نفسه المنظم لسواه.

ولا جدال في أن العقل الإنساني هو من أعظم القوى التقدمية في الوجود، فهو ما ينفك يبحث عن المجهول ويغتبط باقتحامه. وما اقتحام الرائد للمناطق المعزولة الصعبة بأيسر من اقتحام العالم للمجهول من أسرار الطبيعة والإنسان، وما نجاحه فيها أعظم، أو السرور الذي يبعثه في نفسه أشد. بل العالم هو في جوهرة وكيانه رائد ممتاز لا تسعد نفسه إلا بالمغامرة والتقدم.

ثم إن العقل المتمثل في جهد العالم الرائد ملح مستمر في تقدمه. فإن لم يطغ عليه ما يطفئ جذوته أو يبطل عمله سار من خطوة وقبض على حلقة من سلسلة الحقيقة المترابطة. وهو لا يقف عند حد ولا يرضى بحال، بل يندفع دوما إلى الأمام منقبا باحثا مكتشفا. هذا هو منطقة وكيانه وهو فيه منسجم مع منطق الحقيقة وكيانها.

ثم هو بعد هذا وذاك منتظم في تقدمه. فالخطىالتي يقبض عليها متماسكة. ذلك أن جوهر الحقيقة التي يسعى إليها ويتقيد بها ويخدمها جوهر متماسك متحد. وليس معنى هذا العالم لا يخطئ ولا يخرج عن السبيل السوي، فكثير ما وابتعد وضاع وضيع، ولكن الأسلوب العلمي المنبعث عن طبيعة العقل وجوهرة كفيل برده إلى الصواب والعبرة ليست الضلالات العريضة، بل في السير الأساسي المتصل والسلسلة المترابطة الحلقات. إن بناء العلم بناء متماسك الأحجار! وإذا اتفق أن وضع حجر فاسد فيه فالجهد العلمي خليق بأن يكتشفه يوما فيطرحه وكل ما بني عليه.

فالعلم، بجوهره الخالص وتقليده الإيجابي الأصيل، تقدمي. وتقدميته تتميز بالتطلع

ص: 17

والاستمرار والانتظام. ولذا كان مقياسا من أهم المقاييس التينقدر بها تقدمية مجتمع من المجتمعات. وهو من الناحية العلمية التطبيقية، أساس المقياس الأول: أي قدرة المجتمع على الطبيعة، لأنه، كما ذكرنا، الباعث الأقوى للعمل الإنتاجي الاستثماري. على أن أيضاً ناحيته التي يتجلى فيها مقدار الحقيقة المكتسبة والمجهول المكتشف. فإذا أردنا أن نقارن مجتمعين من حيث التقدم والتأخر، أو نقيس تقدمه مجتمع ما، أمكننا أن نركن إلى هذا المقياس: إلى درجة اكتساب المجتمع للأسلوب العلمي وخضوعه لسلطان العقل، والى مقدار الحقيقة المتراكمة التي يملكها ويؤمن بها ويسير على هداها.

وإذا أراد مجتمعنا العربي أن يكون تقدميا فعلا وجب عليه أن يتمسك بهذا العنصر التقدمي الحي، ويؤمن به، ويجعل سيرة مظهرا صادقا له، وحياته تجسدا لإيمانه به وبالحقيقة التي يؤدي إليها.

ترى أيكفي هذان المقياسان مقياس على الطبيعة ومقياس الاكتساب العلمي كيفية وكمية لقدر تقدمية المجتمعات؟ إن النظر الدقيق ليظهر أن هذين المقياسين لا يستنفذان التقدمية الصحيحة. ذلك أن استثمار الطبيعة هو، في الواقع، عامل مساعد أكثر منه عاملا أصيلا. فهو يهيئ الوسائل للتقدم ويدفع المجتمع قدما في جوهره وتمامه إلا إذا توفر له عامل آخر مستقل عنه. إنه يعد الأسباب ويهيئ ويجهز النتائج لكنه، بنفسه، لا يقر الغايات التي يجب أن توجه إليها الأسباب والقوى والنتائج، إنه يضع بين يدي المجتمع موارد وافرة استخرجها من الطبيعة وثروات استمدها منها وقوى فجرها من بطونها ولكن، ترى، لأي شيء يستخدم المجتمع هذه كلها؟ للبناء والتعمير أم للهدم والتدمير؟ للتحكم والاستئثار أم لنشر العدل والمساواة؟ للحرب أم للسلم؟ للتقدم الشامل المتوازن أم للتقدم الجزئي المضطرب؟

كذلك يقال عن العلم نفسه، وهو المقياس الثاني الذي اتخذناه. إنه يستكشف الحقيقة والحقيقة وحدها غالية ومبتغاه. ولكن من الذي يستخدم هذه الحقيقة ولماذا؟ هو أمر خارج عن سلطته، أو لعل العالم يساعد، عن وعي أو غير وعي، في استخدام الحقيقة لأغراض هدامة إلى التأخير والهلاك في حين أنها وجدت لتخدم التقدم والانبعاث.

فلضمان التقدم الصحيح لا يكفي توفير الوسائل؛ بل يجب تحقيق الغايات الصحيحة التي

ص: 18

توجه إليها. لا يكفي مجتمعنا أن يتغلب على الطبيعة ويضبطها، بل عليه مع هذا، إن لم نقل قبل هذا، أن يضبط نفسه ويتغلب على أهوائه. لا يكفيه أن يتبين الحقيقة التي اكتشفها بالعقل، بل عليه أن يولد الإدارة التي تمنع تشويهها أو استخدامها لما هو مناقض لطبيعتها، وبالتالي هادم لأركان المجتمع.

هنا تظهر العلة الأصلية في المدينة الحديثة وداؤها الدفين، فلقد أحرزت هذه المدينة تقدما شاسعاً واسعا في ميدان استثمار الطبيعة، لكنها لا تزال مقصرة تقصيرا شائنا في معرفة الغايات التي يجب أن توجه إليها نتائج هذا الاستثمار وفي تكوين الإدارة الصحيحة لهذا التوجيه. وقطعت كذلك لا تزال عاجزة عن الأمثال لها بل هي تمعن تحويلها عن غايتها واستخدامها للشر والفساد.

البقية في العدد القادم

قسطنطين زريق

ص: 19

‌2 - لغة المستقبل.

.

للأستاذ محمد محمود زيتون

تحية علمية إلى البرلمان الفيلسوف أستاذي الدكتور إبراهيم بيومي مدكور بك عميد الفلسفة الإسلامية بجامعة فؤاد الأول سابقا، وعضو مجلس الشيوخ، وعضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية.

ذكرت لك أيها القارئ نبذة عاجلة عن الرياضة وفرعها السابقين وهما علم العدد وعلم الهندسة، وفي المقال نعرض للمنهج الرياضي وماله من أثر في نفوس الرياضيين بحيث يكسبهم هذا الذوق الذي يسميه العلماء الروح الرياضي.

ولعلك يا قارئ تسأل: إذ كان العقل في كل ميادينه يعتمد على التحليل والتركيب - وكل في ذاته منهج مشروع - وإذا كان العقل يستعمل القياس والاستقراء، وليس في غنية عن أحدهما أو كليهما. . . ففهم نخصص للرياضة منهجاً؟. . وما هو هذا المنهج الذي به انفردت الرياضة؟

ألا إن التجارب التي نقوم بها لا تعدو أن تكون إحدى اثنتين:

1 -

تجربة خارجية أو مادية تبني قراراتها على موضوعات مادية.

2 -

تجربة داخلية أو ذهنية وهي التي قد تكون في الفكر عن طريق العالم الذي توجد صورته في مخيلتنا، وبمقتضاها نتمكن من تمثل الأعداد في نقط وأشكال.

فهل نحن نتلمس بالحدس - في هذه الأعداد وتلك الأشكال - النسب المجردة أو المثالية التي هي قوام الحقائق الرياضي؟

الحق أن دور البداهة في الهندسة غير منكر، ولكنه في نظر (رابييه) إلا عاملا مساعدا، ومحبة في ذلك لها وجاهتها: فهو يرى أن البداهة تغلو في تقدير الحقيقة المراد إثباتها، وإن كانت البداهة تلقي الضوء على طريق الاستدلال إلا أنه لا تستطيع أن يتخذ منها سندا متيناً، لأن الخطأ قد يتسرب منها إليه لإمكان نسرب الخطأ إليها.

وعلى ذلك، لا يمكن أن تعتمد العلوم الرياضية جمعاء على البداهة، ما دمنا قد افترضنا للفكر قيمة موضوعية، وإلا كانت العلوم التي تعتمد على البداهة فنوناً، وهنا تتوقف قيمة الفكر وموضوعه على (لحظات التجلي) حيث يكون العقل في حالة تصوف أو تأمل.

ص: 20

والرياضة - من ناحية أخرى - ليست في منهجها - تجريبية - لأن الاستقرار - ولا سيما العلمي - لا يضمن لنا الحقيقة ثابتة، كما أنها لن تكون قياسية، لأن القياس يضع مقدمات يفترض صحتها ثم يستخرج منها نتائج على الوجه المسنون.

لم يبق بعد إلا (البرهان ليكون هو منهج الذي تنشده الرياضة، ذلك لأن البرهان - كما يعرفه أرسطو - هو (قياس الضروري) وغايته: إقامة الحقائق الواضحة، أو التي سبق البرهنة عليها - غير مهتم بالضروب والأشكال التي ينتهجها المنطق الصوري. لذا يقول أرسطو (ليس كل قياس برهاناً، وإنما كل برهان قياس) كما أن البرهان كما يقول ليار (يقاوم قواعد القياس المنطقي، وفي نفسه له مبادئه التي لا يجدها في القياس، وهذه المبادئ ضرورية ضرورة الحقائق التي يقيمها)

والبرهان الرياضي لا يستغني عن التحليل والتركيب، والتحليل قد يكون مباشرا، وقد يكون غير مباشر.

فالتحليل المباشر يستلزم معرفة العناصر الموضوع، والسير بالقضايا تدريجياً مما تم إثباته إلى ما يراد إثباته، أما التحليل غير المباشر فهو البرهان بالخلف، وهو ليس برهانا بالمعنى الصحيح، وإنما هو إحراج، وفيه خطورة، وقد نهج المنهج الرياضي في تلافيها. ونقصد بهذه الخطورة ذلك العناد الحقيقي في القضية الشرطية المنفصلة. فالزاوية س إما أن يكون حادة أو متفرجة أو قائمة، فإذا تكن الأولى ولا الثانية كانت الثالثة حتما، اعتمادا على بدهية الزوايا. ومثل هذا البرهان لا يليق بالمنهج الرياضي المتفرد بإحدى هاتين الحسنيين، وقد اجتمعتا معا الرياضة وحدها.

لهذا، احتدم الجدل حول هاتين الميزتين بين الفلسفة والرياضة. يرى فيثاغورس أن العالم أشبه بعالم الأعداد، وأن العالم عدد ونغم، وأن الأعداد نماذج تحاكيها الموجودات دون أن تكون هذه النماذج مفارقة لصورتها.

وانحدرت هذه الأنظار الفيثاغورية إلى أفلاطون الذي ظل - بالجدل الصاعد - يرقي من المحسوس المتكثر إلى المعقول الواحد وهو (المثال)، ومنه انتقلت هذه الأنظار إلى الأكاديمية الجديدة، حتى لقد غالى أحد رجالها سبيزيب - في ربط الرياضة بالفلسفة؛ أي ربط الكائنات الرياضية وهي الأعداد والمثلثات بالصور إلى حد الخلط بينهما، وفسر

ص: 21

الوجود على ضوء هذه الكائنات الرياضية.

واعتبر (باسكال) المنهج الهندسي المثل الأعلى للمناهج، وعلى ذلك الأمور الفلسفية العليا كما لو كانت مسائل هندسية أو معادلات جبرية.

وأعطى (اسبينوزا) للفلسفة الأولى جفاف البراهين الهندسية وصورتها، وأخذ يتحدث عن الله، والحرية كما لو كان يتحدث عن أعداد.

هؤلاء جميعاً إنما يطمحون بأنظارهم إلى العمومية والمعقولية حتى يصلا إلى الحق والخير معا، وهما هدف الرياضة البحث التي لا تتوسل بغير العقل إلى غايتها.

وإذا كان المنهج الرياضي هو مجموع الوسائل والقواعد التي تمكن من بلوغ القوانين الرياضية الموثوق بها، فإن (الروح الرياضي) نوع من العقل يمكن من بلوغ الغاية، وهما في الحق متلازمان أولهما وجهان لشيء واحد: هذا موضوعي وذاك شخصي. فإذا نظرنا إلى جميع الوسائل العقلية بالنسبة إلى الموضوع المدروس فذلك (المنهج) أما بالنسبة إلى الشخص الدارس فهي (الروح).

يقول (فافر)(هنالك صفير ينعش العالم، ويحفز الباحث إلى الحقيقة، ولئن تعذر سماع هذا الصفير إلا أنه يباعد المرء عن الخطأ، هذا الصفير هو الروح العلمي).

ومن الناس من أوتى مواهب تجعله قادراً على متابعة الحقيقة، وتجعله ماهراً وتمكنه من التزام الوضوح، واجتناب غواشي الحق، ومثل هذا الموهوب لديه روح علمي. فما مظاهر ذلك في الرياضة؟

رسم أفلاطون في خياله تخطيط المدينة الفاضلة وكان ينشد في (الحاكم) شيئين هما: الجندية والفلسفة، فأنطق سقراط بهذه الكلمات البارعة (إن لنا نشيداً علميا غايته التعقل المنطقي، ويقع في منطقة النفوذ العقلي، وهو يجاهد لينظر نظراً قويا في الحيوان والنجم ثم في الشمس ذاتها. وهكذا يبدأ المرء يبحث بالمنطق ناشداً كل أنواع اليقين بفعل الذهن البسيط مستقلا عن أي معونة حسية، ولا يكف حتى يدرك بفعل الذهن النقي طبيعة الخبر الحقيقة، وهنا يبلغ آخر مدى العالم العقلي).

في أي فرع من فروع العلم تستقر قوة الحاكم المنشود؟ بحث أفلاطون فلم يجدها في الرياضة البدنية ولا في الموسيقى، وإنما وجدها في (علم الحساب) الذي (كل لعلم وكل فن

ص: 22

مفتقر إلى الاشتراك فيه) وبعد أن يبن فائدته في الحرب قال (إنه يلزم الفيلسوف في درسه لأنه ملزم بأن يسمو فوق التغير، ويلوذ بالثبات وإلا فلا يكون مفكراً ذكيا). . وذلك لسهولة انتقال النفس من المتغير إلى الحقيقة الثابت) ولأنه. . (قد يرفع النفس إلى فوق، ويحملها على البحث في الأعداد المجردة!)

. . (وإن العاكفين على الحساب - إلا الغدر منهم - سريعو الخاطر في كل العلوم، وإن الذين فهمهم بطئ إذا تثقفوا به وتمرنوا عليه ولو لم منه على فائدة أخرى يصيرون أسرع فهماً مما كانوا. .)، (والهندسة علم الموجود الدائم يجب أن تجتذب النفس نحو الحقيقة، وتضرب الضربة الحاسمة في ميدان الروح الفلسفي). .

(وإذن يجب أن نلقن تلاميذنا منذ الحداثة: الحساب والهندسة وكل فروع العلوم الابتدائية الممهدة لفن المنطق).

هذه أقباس من (جمهورية أفلاطون) حبذا لو عرضنا معها لوامع من (مقدمة ابن خلدون) ليرى القارئ إلى أمدى من التخبط بتعثر أولئك الأدعياء الذين لا يدرون من أين حينما يستأثرون بالعلم المدني الذي هبط به وحي مزعوم.

يقول ابن خلدون محبذا تعليم الحساب نوع تصرف في العدد يحتاج فيه إلى استدلال فيبقى معقودا للاستدلال والنظر وهو معنى العقل).

ويعلل الابتداء بصناعة الحساب بأنها (معارف متضمنة وبراهين منتظمة فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء مدرب على الصواب، وقد يقال: من أخذ نفسه بتعليم الحساب أول أمره، إنما يغلب الصدق لما في الحساب من صحة المباني ومناقشة النفس فيصير ذلك خلقاً ويتعود الصدق ويلازمه مذهباً)

ويقول عن فائدة الهندسة! إنها (تفيد صاحبها إضاءة في علقه، واستقامة في فكرة، لأن براهينها كلها بينه الانتظام، جلية الترتيب، لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها، فيبعد الفكر عن الخطأ وينشأ لصاحبها عقل على هذا المبيع (أي الطريق الواضح)، وقيل إنه كان مكتوبا على باب أفلاطون (لا يدخلن مدرستنا من لم يكن مهندسا) وكان شيوخا يقولون:(ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثواب الذي يغسل منه الأقذار، وينقيه من الأوضار)

ص: 23

وابتدع أفلاطون (مقياس السجية المنطقية) ليعرف به ما إذا كان يستطيع المرء أن يدرك الموضوع إدراكا إجماليا أولا يستطيع.

إلى أي مدى نجح التفكير الإنساني في استخدام المنهج الرياضي في ضروب العرفان؟ وما مقدار استنباطه من الروح الرياضي في ميادين الأعمال؟ وماذا تحقق من هذا وذاك في بناء (الحضارة الفكرية). .؟

هذا ما سنحاول الاستجابة له في العدد القادم، إن شاء الله.

محمد محمود زيتون

ص: 24

‌4 - الباكستان

دولة إسلامية

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

دين ودولة:

إذا أردت أيها القارئ الكريم أن ترى دولة إسلامية بالمعنى الإسلامي الدقيق فلا تحاول أن تبحث عنها في الشرق الأدنى، وإنما تعال معي إلى الباكستان فهناك سوف ترى تلك الدولة الإسلامية.

ففي الباكستان نرى أن الإسلام هو محور الحياة وأساسها، فالحياة السياسية والأنظمة الاقتصادية والحياة الاجتماعية تستمد أصولها جميعاً من الأنظمة الإسلامية. ليس في هذا غرابة، فقد قامت دولة الباكستان لتكون دار أمن وسلام للمسلمين من أبناء القارة الهندية الذين عذبوا واضطهدوا بسبب عقيدتهم الدينية. وإن سياسة الباكستان الإسلامية ليست فرضا من حكومة مستبدة على شعب مائع، بل هي رغبة شعب مؤمن قوى تنفذها حكومة مخلصة عادلة.

واجب قبل أن أتعرض لوصف النظام الإسلامي القائم الآن في الباكستان أن أناقش في إيجار أنواع النظم الحكومية التي قامت في العصور الوسطى والتي تأثرت بها الأنظمة الحكومية القائمة في عصرنا الحاضر.

انقسمت الأنظمة الحكومية التي في العصور الوسطى إلى نوعين: أحدهما قام في الشرق والآخر قام في الغرب.

فأما النظام الأول فقد وضع أساسه النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حين قامت الدولة الإسلامية الأولى في المدينة. كان القرآن دستور هذه الدولة وقانونها ومحمد (ص) زعيمها. ولما توفي النبي قام خلفاؤه من بعده بإدارة شؤون هذه الدولة، وقد تمكن الخلاء من توسع رقعة الدولة حتى صارت تشمل مساحات شاسعة تمتد المحيط الأطلنطي غربا إلى الصين شرقا.

كان الخليفة يرأس هذه الدولة ويجمع في يديه بين السلطتين الدينية والدنيوية: يؤم الناس

ص: 25

في الصلاة ويقيم حدود الله ويقود الجيوش ويجبي الزكاة ويجمع الضرائب ويصرفها على إدارة الدولة وينفق منها على الفقراء والمساكين. ولكن سلطة الخليفة لم تكن مطلقة أو استبدادية بل كانت مقيدة: فقد كان إيمان الخلفاء بربهم وخوفهم من عذابه يدفعهم إلى أن يحرصوا على إقامة العدل ورفع الظلم والسهر مصلحة الرعية. استمع إلى قول عمر ردا على من أشار عليه بترشيح ابنه عبد الله للخلافة من بعده (يكفي بني الخطاب أن يحاسب منهم عمر) واستمع إلى قوله (لو عثرت بغلة بالعراق لسئل عمر عنها يوم القيامة: لم يمهد لها الطريق؟) وهكذا كان الخلفاء يرون في الحكم مسئولية خطيرة وعبثا ثقيلا.

وكان الخليفة ينفذ أحكام القرآن ويشاور أصحابه. والله تعالى بقول (وأمرهم شورى بينهم).

وقد نجح النظام الإسلامي في إقامة دولة تتمتع بالأمن والسلام والعزة والمنعة.

هذا في الشرق. أما في الغرب فقد قام نظام آخر انقسمت فيه السلطة في الدولة إلى قسمين: سلطة دنيوية في يد الملك أو الإمبراطور؛ وسلطة دينية في يد البابا. وهكذا انفصلت السلطة الدينية عن السلطة الدنيوية في الغرب واتصلتا في الشرق.

ودار الزمن دورته وتقدم الغرب ونهض وجثم على صدر الشرق فاستعمر بلاده وعمل أن يهدم نظامه وتقاليده وعاداته. ولم يعدم المستعمرون أن يجدوا من الشرقيين أفرادا استهوتهم مبادئهم فسخروهم لتحقيق مآربهم. وعمل هؤلاء على تقليد الغرب، والواقع أنها لم تستطع أن تكسب مزايا نظم الحكم الغربية أو الشرقية على حد سواء.

إن أهل الغرب يؤمنون بأن قوة الشرق في عقيدته الروحية، وأن هذه العقيدة إذا ضعفت انهار الشرق. ومن ثم اتجه أهل الغرب إلى أن يباعدوا بين الشرق وبين عقيدته الروحية الخالصة، ووجدوا لأنفسهم أبواقا تردون وتعمل على تحقيق ما يرغبون. وهكذا قامت وقوانين حكومات وقوانين ضعيفة في الشرق هي التي نشاهدها اليوم وهي التي تقف متخاذلة أمام المستعمرين من أبناء الغرب.

إذا أردنا إذن أن نبحث عن الدولة الإسلامية بمعناها الإسلامي فعلينا أن نولي وجوهنا شطر الباكستان.

النظام الحكومي:

الحاكم العام هو رئيس دولة الباكستان. ولما كانت الباكستان مكونة من عدة مقاطعات هي

ص: 26

البنغال والبنجاب وباثان (إقليم الحدود الشمالية الغربية) والسند وبلوخستان فإن لكل مقاطعة مجلس وزراء وبرلمان. ويشرف على المقاطعات جميعاً مجلس وزراء مسئول أمام مجلس نيابي يمثل سائر المقاطعات في السياسة الخارجية والشؤون الحربية.

ولم يتم بعد وضع دستور الباكستان الجديد، وما تزال الجديد، وما تزال الجمعية التأسيسية تشتغل بوضعه. وجدير بالذكر أن نقول: أن المغفور له لياقت على خان قدم في 7 مارس 1947 اقتراحه التاريخي إلى الجمعية التأسيسية، ويقضي الاقتراح بأن يكون القرآن والسنة أساس دستور الباكستان الجديد. وقد وافقت الجمعية التأسيسية على ذلك الاقتراح بالإجماع.

وقد قدم الأستاذ أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في الباكستان مقترحات لتكون أساس الدستور فيها نلخصها فيما يلي:

1 -

الحاكمية في الدولة لله وحده.

2 -

الشريعة الإسلامية هي القانون الأساسي للدولة.

3 -

وظيفة الدولة تنحصر في أن تحقق مرضاه الله تعالى بالعمل في هذه الدنيا وفقا لهدايته المنزلة وفي ضمن الحدود التي عينها المولى وتعالى.

4 -

يجب أن تعمل الحكومة على تحقيق العدالة الاجتماعية والمحافظة على تحقيق أهل الدولة من هجمات الأعداء.

5 -

يجب أن تكون الحكومة شورية ينتخب أفرادها لصلاحيتهم وكفايتهم لإدارة شؤون الدولة.

6 -

كل تأويل للدستور يخالف مضمون القرآن والسنة لا ينفذ شرعا.

7 -

لا يجوز التفرقة بين الناس في الحقوق والواجبات بسبب لونهم أو جنسهم أو لغتهم.

8 -

يكون رئيس الدولة فيما يتعلق بالحقوق المدنية مساويا لكل مسلم آخر يجوز له أن يتخطى القوانين.

9 -

إذا خرج رئيس الدولة على الدستور يجب عزله.

وقد عرضت هذه المقترحات على المؤتمر الإسلامي في العام الماضي فوافق عليها باعتبارها (مبادئ أساسية لإقامة دولة إسلامية).

ص: 27

وهكذا يتضح لنا أن الباكستاني لا يستطيع أن يجعل نطاق الدين ضيقا بل يراه شاملا لكل شيء. وتتجلى تلك الروح الإسلامية في كل شيء. فالباكستان لا تسمع لدور السينما أن تعرض أفلاما فيها خروج على الدين والفضيلة، بل إنها تعمل دائماً على تطبيق المبادئ الإسلامية في جميع مناجي الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

في 12 فبراير 1952 افتتح حاكم عام الباكستان المؤتمر الاقتصادي الثالث فعدد المسائل الاقتصادية التي تواجه الباكستان وطلب معالجتها، وهذه المسائل هي (1) تطبيق المبادئ الإسلامية على النظم الحديثة (2) الإصلاحات الزراعية (3) زيادة الادخار ووسائل الاستثمار (4) توزيع الإنتاج بالعدل.

وختم الحاكم العام بيانه قائلا: إن الباكستان قامت لتكون مجالا لمجتمع إسلامي حدودها، فعلينا والحالة هذه ألا نتقاعس عن تحقيق هذا الذي جاهدنا من أجله.

وخطب وزير التجارة والاقتصاد فقال: إن عظمة الدولة الاقتصادية لا تنهض إلا توفر لها عاملان: الأيدي العاملة ووفرة الموارد الطبيعية، وقال إن القرآن يتضمن أحسن المبادئ الاقتصادية التي يمكن أن تطبق في الظروف الحاضرة وهي كفيلة بالتغلب على كل الصعاب التي يثيرها الرأسماليون والشيوعيون.

ومن كل ما سبق يتجلى لنا أن الباكستان تحاول جاهدة أن تقيم دولة إسلامية بالمعنى الإسلامي الدقيق. وفقها الله.

أبو الفتوح عطيفة

ص: 28

‌البلبل الذبيح

للمغفور الدكتور زكي مبارك

بعث إلى المجلة بهذه الكلمة المرحوم الدكتور زكي مبارك قبيل وفاته بأيام يرثي المرحوم الأستاذ علي محمود طه، وقد أخرناها انتظار لأي مناسبة تدعو إلى نشرها والمناسبة اليوم هي حفلة تأبينه التي أقامتها نقابة الصحفيين في هذا الأسبوع وقد وصفناها في غير هذا المكان.

أخي الأستاذ الزيات:

أرجو تكون بخير وعافية، وأن تجد في المنصورة الغناء ظلالا أجده في مصر الجديدة. وأرجو أن تكون تناسيت حزنك على البلبل الذبيح وهو الشاعر علي محمود طه.

آخر العهد به كان وكيلا لدار الكتب المصرية وكنت زميله هناك، وكنت أفرح بلقائه فرح الحبيب بلقاء المحبوب.

أظلمت الدار من بعده، فنقلني معالي الدكتور طه حسين إلى منصبي الأول وهو تفتيش المدارس الأجنبية فاسترحت من رؤية مكتب علي محمود طه خالياً، فقد ذوى الورد الذي كان يضعه في مكتبه كل صباح.

ومع أن الأعمار بيد الله فأنا أذكر أن الشاعر مات بالمرض الذي مات به أبي وهو ضغط الدم، فقد كان أبي لحميا لا يسيغ الطعام بدون لحم، وكذلك كان الشاعر علي محمود طه فقد كان لحميا بصورة تفوق الوصف.

دخلت دار الكتب فوجدت قنديل بك يبكي، وسألت عن السبب فعرفت أن شقيق الفقيد حضر ليخبر الدار أن الشاعر مات، فبكيت أنا أيضاً حتى شرفت بدموعي.

أعطانا المدير إجازة لنشهد جنازته، ولكن أخاه نقلة بسيارة إلى المنصورة وطنه الأول.

بين الكفر والأيمان.

من حق الشاعر أن يكفر بالله، وإن كان من واجبه أن يؤمن بالله، ولا أدري كيف كنت حين نظمت القصيدة الآتية وأنا أخاطب البلبل الذبيح:

يا ماضياً لبلاد ليس يشهدها

من يرتئيها وجفن العين وسنان

ص: 29

جميع من يرتئيها كلهم نفر

حجوا إليها وهم بالموت عميان

إن الحياة وهذا الموت يطلبها

في شرعه الصدق تزوير وبهتان

قالوا سنلقي غداً ما سوف يفرحنا

في جنة عندها البواب (رضوان)

فيها الفواكه من تين ومن عنب

وفي جوانبها حور وولدان

هذا جميل، ولكني بلا أمل

ففي حياتي ضلالات وكفران

إن الذي أسكت الغريد أسكته

وفي مشيئته جور وطغيان

إني إلى النار ماض خالد أبداً

ففي مسالكها للشعر ميدان

قالوا اسينصب في يوم الحساب لنا

عند المهيمن قسطاس وميزان

الموت نوم فلا صوت ولا خبر

خلوا فؤادي فإن النوم سلطان

هذا (علي) مضى لم يبكه أحد

ولا أفاض عليه الحزن فنان

أوحى إلى الشعر ما أوحى ومن عجب

أن يصدر الشعر وحياً وهو شيطان

أما بعد فهذه قصيدتي في رثاء البلبل الذبيح الذي لم يرثه أحد من الشعراء، وكان يجب أن يرثيه زميله أحمد رامي.

كان البلبل يمر بالقهوة مرور الطيف ليتحدث معي، ويأنس بلقائي، وكنت أتحداه أن يساجلني فلا يستطيع، لأنه لا يقوى على الارتجال، فقد كان يتأنق في شعره كما يتأنق في هندامه، والشعر في ذاته تأنق.

في سهرة بمنزل توحيد بك السلحدار ومعنا الأستاذ الزيات أخذ راية الشعر من أيديكم، فيقول: لن تستطيع يا دكتور.

أخرجت من جيبي ورقة وقرأت الأبيات الآتية:

عجب الناس من بقاء أديب

رغم بغي الخطوب والأيام

أنا أيضاً عجيب من طول عيشي

في زمان مجنح بالظلام

إن يوماً يمر من غير غم

هو طيف يمر في الأحلام

لا صديق يرد ديني عليه

لا حبيب بقي بعهد الغرام

قد سئمت الحياة أو سئمتني

فرمتني بكيدها الهدام

قال لي صاحبي: نراضع قليلا

تجد الرزق صافياً كالمدام

ص: 30

قلت: رزق من الرياء يوافي

هو هندي من الطعام الحرام

قال البلبل: هذا شعر نفيس

وزارني الأستاذ مرة ثانية في القهوة فرآني مكروباً فسأل عن حالي فأنشدته قول زكي مبارك.

يا سائلا ما الحال

ألحال أنت الحال

وسألني عن أسباب كربي فقلت: كان لي موعد غرام في مشرب تربومف بمصر الجديدة وهو يطل على الصحراء فانتظرني المحبوب دقائق وانصرف فصرخت بهذه الأبيات:

دقائق أضجرتك عني

وغادرت المكان بلا انتظار

فما حالي وقد مرت شهور

شربن الصبر من طول اصطباري

جلست أسامر الصحراء وحدي

وأشرب لوعة مزجت بنار

قال البلبل: وهذا أيضاً شعر نفيس

كان الشاعر علي محمود طه يكره الشاعر محمد الهراوي، وكانت بينهما مهاجاة تذكر بالمهاجاة بين عبد اللطيف النشار وعثمان حلمي، وهما شاعرا الإسكندرية، وكان البلبل مغرماً بمكايدة الهراوي، فأمضى معه إلى القهوة فيقول الهراوي: أشعارك يا سيد علي من فتات موائد الشعراء الأجانب!

فيقول البلبل: وأنت يا سيد محمد لا تدخل السينما ولا تشرب الخمر، فكيف تكون شاعراً؟

فيقول الهراوي أنا قلت:

هم أحلوا دم الأنام شراباً

كيف لا نستحل ماء الكروم

فيقول البلبل: هذا بيت جميل

ديوان الهراوي

الأستاذ محمد عبد الواحد خلاف بك يشهد بأن لجنة التأليف والترجمة والنشر قامت على قدميها بما جنت من أرباح (سمير الأطفال) وكان مقراً على جميع المدارس الأولية، ومع ذلك بخلت اللجنة يطبع ديوان الهراوي.

ودعوت أخاه الدكتور حسين الهراوي لطبع الديوان فوجد النفقات غالية.

فهل يمكن إنقاذ هذا الديوان قبل أن يضيع ضيعة أبدية؟

ص: 31

الشبيبي في مصر.

في العدد المقبل سأنشر في الرسالة قصيدة حييت بها معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي زميل الأستاذ الزيات في المجمع اللغوي، وقد نظمتها في الإسكندرية والبحر يضرب أمواجاً بأمواج:

محطة الرمل جننتني

وحيرتني بلا صواب

بها ظباء بغير عد

ولا بيان ولا حساب

عشرون ألفاً وألف ألف

أطلت في حبهم عذابي

زكي مبارك

ص: 32

‌في تأبين الدكتور زكي مبارك

المجد الطموح الجريء

للأستاذة زينب الحكيم

عرفت الدكتور زكي مبارك بالسماع به والقراءة له في بادئ الأمر، فقد كان له جيل من القراء والمعجبين، كما كان له حلقة من المنافسين المحنقين.

فلما رأيته. . وجدته رجلا متقشفا أشد ما يكون التقشف، فوقعت في حيرة شديدة، لأني عرفته غير هذا في كتابه (النثر الفني) الذي كنت سأشترك في تقريظه بعد أيام قلائل، وحدث أن اجتمعنا في الندوة، وتجلت شخصية زكي مبارك، وفاض علمه واطلاعه في الردود المفحمة التي واجه بها كل ما دار حول كتابه وكسب المعركة. ولا غرابة في ذلك فهو ابن الأزهر المجتهد المستوعب، وابن الجامعات المصرية والفرنسية، وابن جامعة الحياة العملية والصحافة. رجل نابه من الريف ينزح إلى القاهرة للتعلم، لم يتملق عظيما ولم يستجد ثريا لينجح في دراساته أو لينال رزقه. . . إنما هو رجل نجح نجاحا عزيزا مشرفا؛ فإذا لم يكن في حياة الدكاترة زكي مبارك إلا هذا، وإلا أنه شق طريقه بالنحت بأبرة في صخور الحياة الصلدة لكفاه فخرا وخلودا فكيف بنا وزكي مبارك له فلسفة، ولقلمه مدرسة، ولنفسه طموح وجموح وثورة؟! أودع كثيرا من كله مؤلفاته العديدة، ومقالاته العتيدة.

في ذمة الله الكريم فتوة

سكنت ولما تنته النهضات

في ذمة الله الرحيم فتية

شبل ينعم درسه وفتاة

في ذمة الله العزيز فقيدنا

وعليه من رب العلا الرحمات

يا آله لا تجزعوا إن الذي

في الخلد ذكراه إليه حياة

أيها السادة والسيدات:

أهدي إلى المبارك مجلدات (ليلى المريضة في العراق) ومما رأيته على غلاف الجزء الأول منها لعلي الجازم بك ما يأتي: - (لقد ابتكر زكي مبارك فنا جديدا حين نقل الغزل والتشبيب من الشعر إلى النثر) وهذه شهادة من أديب لا يستهان بها.

وكنت أتمنى لو أن زكي مبارك لم يسرف في هذا، فإن العبقرية الجامحة يجب أن تنظم

ص: 33

وأن تلتزم قواعد وحدودا، ولا سيما وليس عندنا معاهد للنوابغ ترعى نبوغهم. وتحرص على توجيههم.

أنظر إلى نتاج تجارب زكي مبارك فيما قاله في الجزء الثاني من كتاب ليلى: -

(أنا أشرب المر من عصير الحياة لأحيله على سنان القلم إلى شراب سائغ للشاربين) إن هذا القول يدل فعلا على أن الدكتور زكي قد ضحى بنفسه في سبيل غيره

قابل قوله هذا بقول من قال:

لا أذود الطير عن شجر

ذقت (طعم) المر من ثمره

لترى مقدار تضحية زكي، ومبلغ أنانية غيره. لقد أوذي زكي مبارك في سبيل النقد الأدبي. . . والنقد في الشرق ليس بمستساغ، ولا يقبل على أحسن وجوهه.

لهذا حمل زكي أعصابه فوق طاقتها، وظلم وقته ونفسه؛ فهل ولكنه بئس؟ كلا، وإنما أفلت زمام نفسه من يده في أحد أطرافه، ولكنه قبض تماماً على باقي نواحي نفسه الذكية السامية.

استمع لبعض ما قال عن النواحي الإنسانية في الرسول حيث تتجلى فلسفته، وتنجلي عبقريته في إحدى مقالاته الفريدة:

1 -

(يا محمد إنك إنسان ونبي، والنبوة عهد من عهود العظمة الإنسانية، إنك آية من آيات التاريخ.

2 -

أحبك أيها الرسول لأنك كنت إنساناً له ذوق وإحساس، ولم تكن كما يصورك الجاهلون الذين رأوا عظمتك في أن تكون حاليا لوحي السماء - وما أنكر وحي السماء - ولكني أمن بأن في السريرة الإنسانية ذخائر من عظيم الصدق والروحانية، وأنت أول من أعز السريرة الإنسانية.

3 -

أحبك أيها الرسول وأشتهي أن أتخلق بأخلاقك السامية، وأحب بنوع خاص أن أوفر من الشيطان كما فررت منه. . حتى أسلم بجهادي من شهوات النفس كما سلمت بجهادك من شهوات النفس.

4 -

أحبك لأنك أعززت الشخصية الإنسانية يوم اعترفت بأنها صالحة للخطأ والصواب.

ولكن ما رأيك فيمن يقاومون الحرية الفكرية باسم الغيرة على دينك؟

ص: 34

وما رأيك فيمن يحاربون الفنون والآداب باسم الدين؟

5 -

لقد فكرت مرات كثيرة في الاقتراب من روحك، فلم يعقني لأن بيني وبينك وشيجة من الإنسانية.

6 -

ودعاني الشوق إلى مسافرة خيالك، فرأيتك إنساناً كاملا لا تقع عينيه على غير الجميل من شمائل الأصدقاء.

7 -

وصحبك في إحدى غزواتك فهالني أن تكون رجلا نبيلا يصبر على الظمأ والجوع والأذى في سبيل الحق.

وشهدتك يوم الموت وأنت تواسي ابنتك فتقول:

(لا كرب على أبيك بعد اليوم) فعرفت أن الكرب في الدنيا مقصور على الرجال.

أيها الناس: هذا طرف عابر من حياة وعبقرية وفلسفة زكي مبارك. . فيها عظة وعبرة، وتدل على مبلغ ما خسرناه بموته، ولكن الحياة حق كما أن الموت حق (والله خلقكم ثم يتوفاكم) وزكي مبارك لم يمت فهو حي في قلوبنا ومشاعرنا - والسلام

زينب الحكيم

ص: 35

‌رسالة الشعر

البحيرة

(للشاعر الفرنسي لامرنين)

نظم الأستاذ عبد العزيز السيد مطر

يا إلهي! حرت في بحر الزمان!

هام فلكي في ظلام لا نهائي!

لا أرى الشاطئ يدنو، أو أرى

أين أمضى، ما أمامي؟ ما ورائي؟

طالما ناديت، أرجو مرفأ

لي، دون جدوى لندائي!

جئت وحدي ها هنا مستلهما

حدثيني، هل توافي يا بحيرة؟

شارف العالم تماما، فاشهدي

ما ألاقي من تباريح وحيره؟

رقص الموج، وغني، واستوى

ماؤك العذب على الصخر القريب

ومضى سنساب درا نحوها

يخطب الود، (جوليا) تستجيب

كان هذا أمس حلما، وانتهى!

أيعود الأمس أم سوف يغيب؟

اذكرى ليلة كناها هنا

نتساقي الحب، (جوليا) وأنا

عزف (المجداف) ألحان الأمل

فمضى (الزورق) مختالا بنا

وسرى الإيقاع في روح الزمن

فاستجابت كل نفس حولنا

شق صمت الكون صوت حالم

يجذب الأسماع بالسحر الحلال

صافح الآذان فاهتزت له

وهنا العالم يصغي للجمال

أبطئ الدورة يا أرض بنا

أيها الساعات لا يمض الأوان

خليانا وحدنا في حلمنا

تنهل الكأس، فإنا عاشقان

أسرعا ما شئتما مع غيرنا

أسرعا مع كل مكروب مهان

واحملا الآم عنه والضنى

واحميا العشاق من غدرالزمان

هل أجاب الدهر سؤلي؟ لم يجب؟

هكذا الدهر ضنين بالطلب

ها هو الليل تقضى مسرع،

هجم الصبح عليه، فهرب!

امزج الكأس بحبي واسقنيهـ

ادهاقا، فهي سلوى الحائرين

ص: 36

واقض كاللمح الأماني، واغتنم

إنما الدهر عدو الحالين!

فهو كالسهم مروقا، لا يشا

ء أناة أو رسوا بالسفين!

وبح نفسي من زمان حاسد

يكره الحب، ويهوى البائسين!

جعل الليل سواء، لو عدل

طال ليلى، وانقضى ليل الحزين

أيها الغور أجبني مخلصا

وتكلم أيها الماضي الدفين!

أيرد الدهر أياما مضت؟

أم طواها في ثنايا الذاهبين؟

ليت دهري يحفظ الذكرى لنا!

إنما الذكرى حياة العاشقين؟

هذه الليلة كانت نشوة

يبهج النفس شذاها إن خطر

أيها التاريخ خلد ذكرها

في نسيم الفجر، أو ضوء القمر

إنما الحب جميل دائماً

في هدير الموج، أو صفو اللجين

شاهد الكون هوانا فليقل

كل شيء (كانا عاشقين)

عبد العزيز مطر

ص: 37

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

تأبين الدكتور زكي مبارك:

أقامت نقابة الصحفيين يوم الجمعة الماضي حفلا لتأبين فقيد الأدب والصحافة الدكتور زكي مبارك، وقد توالي الخطباء والشعراء في هذا الحفل، فوفوا الفقيد حقه من الرثاء ودراسته حياته وأدبه. ويعتبر مجموع الكلمات التي لقيت كتابا عن (زكي مبارك) لا بأس به، وتحسن النقابة صنعا لو أنها قامت بطبعه ونشره.

كانت كلمة الأستاذ حافظ محمود - على إيجازها - وافية، وأفاض الأستاذ محمد عبد القادر حمزة في محاضرة التي تناول فيها جوانب مختلفة من شخصية الفقيد وأدبه، وكان الأستاذ مظهر سعيد - كعادته - مجليا في الخطابة، وكان ختام كلمته رائعاً إذ قال: كنت واحداً ممن اكتووا بنار الدكتور زكي مبارك، وقد أشبعني شتماً، ثم مات وبيننا عداوة، وقد سمعتم رأيي فيه، والفضل ما شهدت به الأعداء.

وتحدث الأستاذ حسين كامل عن جهاد الفقيد في القضية العربية فقال إنه من أوائل من نادوا بالوحدة بين الناطقين بالضاد.

وتطلعت الأنظار حين وقفت الآنسة زينب الحكيم. . . ترى ماذا عن زكي والدعوة إلى أخذها بالعنف. . ولكن الآنسة زينب جازت الفقيد إحسانا بإساءة، ومما قالته أن الدكتور زكي مبارك كان خفيفا على قلوب النساء سواء في عدواته ومناصرته. . . ولعل هذا من مصداق رأيه في النساء من حيث إنهن إنما يسكن بالشدة!

أما الدكتور منصور فهمي باشا فقد كان الحاضرون يتوقعون منه - باعتباره عضوا في مجمع اللغة وعميدا سابقا للداب - أن يكون على وفاق مع سيبويه. .

وقد ألقى الأستاذ محمد مصطفى حمام قصيدة جيدة تميزت بالانطباق على شخصية الدكتور زكي مبارك، مطلعها:

عابد الحسن هل جفا محرابه

مدمن العشق هل سلا أحبابه؟

ومنها:

الخطيب المبين أفحمه المو

ت وألغى بيانه وخطابه

ص: 38

الجريء المغاضب الصعب قد أو

دى فلن يملك العدا إغضابه

وهب الله للصدور صفاء

وتولى حسابهم وحسابه

حول تقدم الشاعرين الفائزين في مسابقة المجمع اللغوي

أتيت في الأسبوع الأسبق بخلاصة الكلمة التي ألقاها الأستاذ عباس محمود العقاد في تقديم الشاعرين الفائزين بجائزتي الشعر لهذا العالم في مجموع الأول للغة العربية. وقد عني الأستاذ في تلك ببحث أسباب الأزمة الشعرية في الغرب وما أدت إليه من قيام (الاستفزازيين) في الشعر وفي سائر الفنون، الذين فقدوا روح النضال ووجهوا همهم إلى تحدي المثل والمناهج والأهداف.

وقد لوحظ أن ذلك البحث استغرق جل عناية الأستاذ، فلم يظفر الفائزان منه إلا بسير من القول تطرق إليه بقوله إن حالة الاجتماع عندنا تختلف عن حالة البلاد الغربية، فلم تصل فنونا إلى ما وصلت إليه الفنون في الغرب من الحيرة والانقطاع عن المثل، واتخذ الديوانين الفائزين يا لجائزتين شاهدا على ذلك. وهنا موطن الملاحظة الثانية، وهي وهن العلاقة الموضوع الذي ظفر بأكبر الجهد وبين الديوانين اللذين طفا عليهما ذلك الموضوع وكانا أحق بالنظر والدروس في مناسبة إجازتهما.

كنا نتوقع أن يحدثنا الأستاذ عن شعر كل من الديوانين، معرفا أو ناقدا، وبين لنا خصائص كل منهما على حدة، ولم استحق الأستاذ إبراهيم نجا الجائزة الأولى، ولم استحق الأستاذ خالد الجرنوسي الجائزة الثانية.

حقا أن الأستاذ العقاد جرى أن يكون لكلمته في مثل هذه المناسبة موضوع عام، وأذكر كلمته في مسابقة من مسابقات المجمع السالفة، إذ أجرى الكلام فيها على المذهبين الشعريين: الاتباعي والابتداعي، وطبق ذلك على الشعراء الفائزين إذ ذاك وهم الأستاذة محمود غنيم ومحمد الأسمر ومحمود عماد.

ولكن الأستاذ الكبير هذه المرة أتى بموضوع لم يطبق نتيجته على الشعر الشاعرين الفائزين؛ ويخيل إلى أنه فعل ذلك تخلصا من الجرح الذي يتمثل في عدم انطباق هذا الشعر على مذهبه المعروف الذي يجعل القيمة الأولى للشعر فيما يتضمنه من (فكرة) ولهذا اختار منه - للاستشهاد - ما يلائم هذا المذهب.

ص: 39

وماذا يقول من يتحدث عن الشعر إبراهيم نجا إن لم يكن في مقدمة ما يقول، ما يمتاز به هذا الشاعر من الروح الشعرية الرفافة والتعبير البين عن الوجدان الصادق؟ ومن هنا - فيما يبدو لي - يتلمس العذر لصاحب المذهب الفكري في تجنب الحديث التفصيلي في هذا المضمار.

مسرحية (كدب في كدب)

قدمت فرقة المسرح المصري الحديث أخيراً على مسرح الأوبرا الملكية، مسرحية جديدة للأستاذ محمود تيمور بك عنوانها (كدب في كدب) وقد قام بإخراجها الأستاذ زكي طليمات مدير الفرقة.

تعرض المسرحية أشخاصاً يعيشون في بيئة (أرستقراطية)

فهذا (كريم بك) شاب وسيم يستهلك ثروته الكبيرة الموروثة في المقامرة على سباق الخيل، ويأتي في ذلك بضروب من السفه والتبذير والإتلاف حتى ينتهي به الأمر إلى الإفلاس، ويلتقي في خلال ذلك بالفتاة الجميلة (كريمة) التي تتبناها وتكلفها امرأة غنية هي (شقيقة هانم) ويبدي كل من الفتى والفتاة استخفافا بالآخر أول الأمر، ثم يزين لهما المحيطون بهما أن يتزوجا، فيقال لكريم بك إنك على وشك الإفلاس وهذه فتاة غنية، ويقال لكريمة شبه ذلك، فيصطنعان الحب ويتزوجان.

و (نصار بك) زوج شقيقة هانم رجل وضيع النفس يطمع في مال زوجته وقد تزوجها من أجل ذلك، ومن أغراضه أن يستأثر بهذا المال دون (كريمة) ثم يتظاهر بالعطف على الفتاة طمعا فيها. . فتجاريه أولا لتكشفه ثم تصده وتزجره، فيتمادى في خطته لحرمانها كل شيء.

و (نبيه بك) عمدة إحدى القرى يغشى مجتمعات القاهرة الراقية، يتطرف ويتأنق محاولا أن يبدو مثل أفراد هذه المجتمعات، ويوجه اهتمامه إلى (كريمة) رغبة في زواجها، ويحاول صديقه (نصار بك) أن يعاونه على ذلك، ثم ينتهي الأمر بهذين الصديقين إلى السجن لتلاعب في بعض الوثائق.

و (فواز بك) رجل سرى متزن حصيف خرجته تجارب العمر الطويل، يعمل على التوفيق بين أشخاص الرواية وخاصة (كريم) و (كريمة) على أساس فلسفته التي استفادها من

ص: 40

الحياة، وهي أن الإنسان لا بد له من الكذب والنفاق ليساير الناس ويواكب الحياة، فحين تنكشف حقيقة كل منهما للآخر فتبين إفلاس الغنى، وتنجلي ظروف الفتاة بذهاب الثروة التي كانت تظاهر بها، ويعرف كل منهما أن صاحبه كان يكذبه ويخدعه - يقوم فواز بك بهمته في إقناعها بأن ما كان منهما لا بأس به ولا ينبغي أن يؤدي إلى القطيعة بينهما ويخلي لهما المكان ليتفاهما. فيتفاهما عملا بفلسفة فواز بك، بل هما أكثر من ذلك يشعران بانتهائهما إلى تبادل شعور المودة، فيحمدان الكذب الذي تبادلاه أول الأمر إذ كانت نتيجته الحب. . . وتلتقي فلقتا الستار وهما في جحيم من القبل. . .

هل لهذه المسرحية موضوع؟ لا أريد أن أجرم بشيء من ذلك. يخيل إلى أولا أنها (رد فعل) للفن الوعظي الصارخ الذي يشتمل على الخطب ويعتمد على التأثير بالافتعال والمفاجآت.

وتيمور قصاص هادئ يرقب الحياة في سكون ونفاذ، ويتمثل ذلك على أكمله في هذه المسرحية التي يقدم بها أشخاصا ينتزعهم من الحياة كما هم ويدفع بهم إلى المسرح ليأتوا من الأفعال والأقوال ما يأتون في الحياة، وأحسب أن شخصية (فواز بك) تعكس بعض صفات المؤلف نفسه. .

والمسرحية ليس فيها صراع، فلا يأتي شوق المشاهد وتتبعه لما يجري فيها - لا يأتي ذلك من أحدث يتوق إلى أن يعرف كيف ينتهي، وإنما يجتذب المشاهد عرض التصرفات التي يراهامطابقة لما يجري في المجتمع، وطلاوة الحوار وما فيه من دعابات وإشارات إلى حقائق في النفوس الإنسانية.

وإذا كان لا بد من تلمس الموضوع فلا أجده إلا في هذه الفلسفة الواقعية التي تنطبق بها أفعال الأشخاص وأقوالهم، وكأنهم يقولون: ها نحن أولاء ناس من الناس نفعل ما تسوق إليه دوافعنا البشرية ولا يغنينا أن توصف أعمالنا بخير أو شر.

وكأني بالمؤلف يقول: إلى متى نظل نكذب ولا نستطيع أن نعيش بغير كذب، وليقل من يقول على المنابر، وليكتب من يكتب على الأوراق، في فوائد الصدق ومضار الكذب، ما يشاء، ولنقصد نحن إلى الواقع، وهذه هي نتيجة الكذب. . . الحب. . .

ومن مظاهر التوفيق في إخراج المسرحية ما قام به مخرجها الأستاذ زكي طليمات من

ص: 41

أنواع التعبير عن طريق المناظر والأضواء المطابقة والموحية، ويسترعي انتباهي دائماً في إخراج الأستاذ زكي طليمات حسن تنسيق المجموعات الصامتة وإحكام حركاتها ليحيل صمتها إلى نطق. . . ومن تلك المظاهر أيضاً حسن إعداد الممثلين الممثلات وإسناد الأدوار الملائمة إليهم واستنباط كفاياتهم الكامنة. هذا ولست أدري لماذا جعل نور الدمرداش في دور كريم بك يستمر في حالة عصبية من أول الرواية إلى آخرها، والمفروض في هذا الدور أن يكون صاحبه الشاب المتلاف مرحا طروبا. نعم قد يبتئس في بعض الأحيان لما يطرأ من سوء الحال، ولكنه لم يكن على ما ينبغي في عدة مواقف كانت يتطلب التلطف والمرح.

وألاحظ في تمثيل هذا الشاب (نور الدمرداش) أنه هو تقريبا في أدواره بالروايات المختلفة، فهو يكرر نفسه كما يقولون وتماثله في ذلك الفتاة (زهرة العلي) التي قامت بدور (كريمة) فالشبان لا تكفي وسلمتهما، بل لا بد لهما من التنويع والتجرد من السمة الواحدة.

وقد قام عبد الرحيم الزرقاني بدور فواز بك فأجاد بالاندماج في الشخصية المرسومة، وبراعة الاندماج من مميزات الأستاذ الزرقاني.

وكان أحمد الجزيري، الذي مثل سكرتير كريم بك، عصب الفكاهة في هذه الرواية، وقد وفق في دوره كل التوفيق، وكذلك علي كاسب الذي صور شخصية (العمدة) وما لا بسها من مفرقات فأجاد في ذلك.

أما سميحة أبواب فقد لاحظت أنها تقدمت تقدماً كبيراً، فقامت بدور (أرتست الحرب) خير قيام.

في ذكرى ابن سينا:

كان الدكتور محمد يوسف موسى من أنشط أعضاء اللجنة التي ألفت في الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية للإعداد للاحتفال بذكرى ابن سينا، فقد قام بستة بحوت في نواح مختلفة لصاحب الذكرى، منها بحث موضوعة (الناحية الاجتماعية والسياسية في فلسفة ابن سينا) وهو بحث قيم تناول فيه بالعرض والتحليل آراء ابن سينا في مسائل الاجتماع والسياسة، وعرض لما يمكن أن يطبق منها في العصر الحاضر. وقد قام المعهد الفرنسي في القاهرة بنشر هذا البحث باللغتين العربية والفرنسية.

ص: 42

وكان المفروض أن يكون الدكتور موسى بين أعضاء وفد مصر في المهرجان الذي أقيم ببغداد، ولذلك دهشنا رأيناه بالقاهرة في وقت انعقاد ذلك المعرجان. والذي حدث أن جميع أعضاء اللجنة سافروا إلى بغداد بصفات مختلفة، ممثلين للجامعات والهيئات العلمية والجامعات العربية. أما الدكتور موسى فقد أهمل إهمالا لا أجد له وصفا أخف من أنه غير لائق، فهو من أستاذة جامعة فؤاد الأول، ومن أبناء الأزهر، وكان أستاذا به، فكان يمكن اختياره ممثلا للجامعة أو للأزهر، ولم يكن أقل من أن يختار في وفد الجامعة العربية، وقد كان بين المندوبين من هو أقل منه نشاطا في هذه الذكرى، بل من لم يكن له نشاط فيها. . .

عباس خضر.

ص: 43

‌الكتب

عقيدة المسلم

تأليف الأستاذ الداعية محمد الغزالي

للأستاذ محمد فياض

من القواعد الاجتماعية التي نرى مع معتنقيها وجوب الأخذ بها: أن الشيء لا يوجد، أو بعبارة أدق وأصدق في الحكم، لن يكون له كيان إلا إذا كان المجتمع في حاجة إليه، وبمقدار ما تكون عليه حاجة المجتمع لشيء ما بمقدار ما يكون وجوده بل كيانه متحققاً في عالم الواقع، وكلنا يعلم انه قد يوجد عبقري في بيئة ما، ولكن تلك البيئة في حالة لا تسمع له بوجود أو كيان، أو في حالة لا تهيئ له الظروف التي ينبثق من ورائها نبوغة؛ ومن يدري فلربما لو قدر لنابليون، أن يعيش في غير عصره أو في غير بيئته؛ بل لم تكن بيئته على الوضع الذي كانت عليه إبان وجوده؛ لما قدر وجود أو كيان. . لأن استجابة مجتمعه إليه، كان متوازناً مع حاجته إلى قدرات (نابليون) وإمكانياته الخاصة.

وعندنا الآن في الشرق، حين نقتفي الآثار العديدة في ميادين الحياة العامة، على ما بها من تشابك واختلاط وتغلغل؛ وهنا في مصر على وجه الخصوص، حين نتتبع علائم الحياة في مجتمعنا العريق؛ نجد أن كل مظهر نشهده، وكل تقدم نحصل عليه. . إنما حدث ويحدث وفقاً لمقدار الحاجة الشعبية إليه، ولمقدار شعورنا بتلك الحاجة، ونعتقد أن ما يمنعنا عن التفضيل في تتبع الآثار الرئيسية التي تكشف عن حاجاتنا الاجتماعية والسياسية والفكرية. . في الشرق وفي مصر؛ هو أننا في غير موطن الحديث، خاصة والأحداث الشرقية والمصرية على السواء لم تستكمل حلقاتها النهائية بعد؛ وشيء آخر لعل القارئ يدريه، ولعله أن يتصل بشؤون السياسة الحاضرة أو نظم الحكم الموجودة. . من قريب أو بعيد!!

ولكننا مع ذلك، سنتحدث في ميدان من تلك الميادين، وعن كتاب من تلك الكتب التي خرجت إليه باعتباره أكمل كتاب وجد في حقله الخاص من ذلك الميدان، وعن مؤلفه باعتباره أول رائد أصاب في ذلك الحقل جسد الكمال.

فما سقنا تلك المقدمة المجملة إلا من أجل شيء أردنا توضيحه وأردنا الخلوص إليه، بعد

ص: 44

إقامة الأساس الذي تستند إليه فكرتنا عن ذلك الكتاب وعن مؤلفه العالم الأديب.

ونستطيع القول أنه منذ ربع تقريباً، وقد بدأت حاجة الشعوب الإسلامية إلى النهضة من جديد في الاشتداد؛ نعني أن هذه الشعوب قد بدأت في مرحلة الإحساس بالظمأ والجوع إلى الاستقرار العام والتنظيم الشامل. . على الأساس الإسلامي؛ ونعني أيضاً أن مشاعر الفكرة الإسلامية في نفوس هذه الشعوب قد دخلت في دور آخر دعامتاه: التكتل من جهة، والتكوين من جهة أخرى، ولقد كان ذلك الدور الحديث نتيجة طبيعية لأدوار الانحلال التي منيت بها القرون الإسلامية الأخيرة تحت وطأة الحكم الفردي، بما جره من ألوان الخلافة والإمارة والإقطاع؛ فذلك الانحلال الذي أصاب الشعوب الإسلامية هو نفسه الذي أشاع اليأس القاتل فيها، وشوه العقيدة والسلوك في القلوب والأذهان. . وهو نفسه أيضاً الذي أحدث الأمل كرد فعل طبيعي مباشرة، لما شاع من يأس وما استشرى من قنوط. ونملك أن نؤكد بأن ذلك الأمل قد بزغ أول ما بزغ، وأشرق أول ما أشرق. . في أرض الحجاز بدعوة (محمد بن عبد الوهاب) السفلية. . ثم ما أعقبه من أصداء الدعوة، في آسيا. . على يد الإمام الشوكاني، والسيد أحمد، وجمال الدين الأفغاني، وفي أفريقيا. . على يد السنوسي، ومحمد عبدة، وجمال الدين الأفغاني.

ويجب أن نقرر: أن الحكم الفردي الذي كان السبب الأول والمباشر، لانحلال الفكرة الإسلامية وتدهور شعوبها، هو الذي قضى على أزهار الدعوة الوهابية وانتشارها، وشوه حقيقتها في نفوس معتنقيها ومؤيديها إن لم يكن قد طمسها؛ وأن الطابع الفكري المحض، الذي اقسم به الدعاة من بعد ابن عبد الوهاب، هو الذي باعد بين عامة تلك الشعوب، بين هذه الدعوات وأطبها، فاتجه هؤلاء الدعاة إلى الحكومات دون الشعوب، والى الخاصة دون العامة. . وساعد على ذلك كله أن مرحلة الظمأ والجوع أو اليقظة الشعبية، لم تجاوز بعد الفجر الأول للأمل؛ وأن الروح التكوينية التربوية، وكانت شديدة البعد عن هذه الدعوات، وبخاصة فيما أعقب دعوة ابن عبد الوهاب من دعوات. وعلى أية حال. فقد مهدت دعوة ابن عبد الوهاب وما حدث بعدها من أصداء، لحدوث الفجر الصادق للفكرة الإسلامية؛ لتبدأ مرحلة الظمأ والجوع في الاشتداد؛ ولتدخل الجموع الشعبية في طور (التكتل) الذي تمخض حتى الآن عن (إندونيسيا والباكستان)، وفي طور (التكوين) أو طور الشروق - كما يحلو

ص: 45

لي أن أسميه - وقد قدر لذلك الطور أن يقبل في يسر من الرأي الشعبي العام، بغض النظر عما اعتراضه من صعاب. . نتيجة للجهل الشعبي الذي يكافحه ذلك الطور، ونتيجة للاستبداد الفردي الذي ما تزال بقاياه.

ولقد بدأ هذا الطور منذ ربع قرن، كما أسلفنا الإشارة، نتيجة للحاجة الشعبية، والجو المعد الملائم، الذي سبقته الإرهاصات والنذر، فقدر لداعية الشهيد (حسن البنا) أن يكون أول من يرتاد ذلك الطور، فتتكون على يديه هيئة إسلامية عالمية، كل أهدافها تنحصر في التكوين التربوي الاجتماعي، على المنهج الإسلامي الفردي للعقيدة والسلوك، قبل الدخول في دور (التكتل العام) الموحد، وأرى من التباشير ما يبني بالنقاء طوري (التكتل والتكوين) في ذلك الدور المنتظر. . في المستقبل القريب.

ومن طبيعة الدعوات الناجحة أن تنمو وتتسع، وتتعد جوانبها، حتى تشمل سائر مرافق الحياة. سواء منها الاجتماعي والسياسي والفكري. . . وقد كانت دعوة (الأخوان المسلمون) دعوة اجتماعية، تمثل الحاجة الاجتماعية للشعوب الإسلامية، وإلا لما قدر لها ذلك الصمود وهذا الانتشار. وكان لا بد لتلك الدعوة من الاتساع والامتداد، لتشمل كل ما يتصل بحياة الإنسان؛ وليس معنى استغراق الدعوة الاجتماعية، لكل من الميدان الفكري والسياسي، على تفرد معناها الخاص، بل إن أي ميدان تتناوله منهما لا بد وأن يكون إلى جوار معناه الخاص وصفة أخرى. هي الصفة الاجتماعية.

فالدعوة الاجتماعية إذن. . تزاوج بين طبيعتها وطبيعة الميدان الذي تعمل فيه. والحاجة الشعبية إذن. . كما احتاجت إلى الهيئات الاجتماعية في الميدان الشعبي الاجتماعي، فهي أيضاً تحتاج إلى الأفراد الأفذاذ، في الميدان الفكري، وفي الميدان السياسي. . وهي كلها دون شك حاجات عامة تحتاجها الفكرة الإسلامية وشعوبها. وفرق كبير بين الحاجات العامة التي تحتاجها الفكرة والشعوب، وبين الحاجة الخاصة التي تحتاجها الهيئات الاجتماعية لتسد الحاجة الشعبية في الميدان الاجتماعي.

والجانب الذي سنعرض له، هو الجانب الفكري من الميدان الاجتماعي، وهو بلا شك، يشمل حقلين اجتماعيين في الفكرة الإسلامية، هما: حقل (العقيدة) وحقل (النظام)(السلوك والتشريع). وفي هذا الجانب بحقليه، كتب الأستاذ محمد الغزالي كتبه، كواحد من الدعاة في

ص: 46

الميدان الاجتماعي؛ وزواج في مؤلفاته بين النظر إلى نظم الشرق الحالية، ونظم الإسلام التي كانت أو التي يجب أن تكون؛ بل زواج بين ما يصطرع في الأفق العالي من مبادئ ونظريات، وبين مبادئ الفكرة الإسلامية، بطريقة المقابلة أو التعرض. . يحدوه في كل ذلك الطابع الاجتماعي الذي تنشده دعوته الشعبية، والذي لا يهدف أصلا لغير الإصلاح الاجتماعي العام كمبدأ أساسي مقصود. والواقع الذي تتبعناه في كتبه، عن طبيعته كمؤلف. وطبيعة كتبه وطريقة عرضها، يؤيد لنا ما ننسبه إليه، من أنه يعمل في الميدان الاجتماعي وفي الجانب الفكري منه، ومن أنه يسد حاجة خاصة تحتاجها دعوة اجتماعية لتسد حاجة عامة من الحاجات الشعبية المعاصرة.

فالأستاذ محمد الغزالي؛ يفكر برأس عالم، بما يحويه المعنى العلمي من لوازم الدقة المنطقية؛ وينفعل بخواطر الأديب في وضع تأملي محدود؛ ويكتب بعد ذلك برأس هذا العالم، وقلم ذلك الأديب. ولكنه ليس بالفرد الذي يجول في محيط تفكيري خالص، فهو إذا عكس لا يضخم، وإذا أحاط لا ينسق، وإذا تغلغل لا يتوغل. ومع ذلك، فهو صفحة حساسة صادقة التصوير الجزئي للفكرة والمجتمع؛ فعدسة منظاره، ليست بالمجمعة المكبرة، ولا بالمفرقة الموزعة؛ فهو إذن. . باحث محدود المجال، لا يكتب للزمن كله، والمكان كله، والفكرة نفسها، بقدر ما يكتب لجيله وعصره ومن يعيش فيه، ولسوف تلمس في أسلوبه، ليونة الانسياب، وعقد المفاصل حين الانتقال من فكرة إلى فكرة، وقد يفقد أسلوبه أحياناً سلاسته التعبيرية وبساطته العامة. ولكن الفكرة والمعان، ستظل دائماً موصلة لما نبا عنه. ولسوف تحس من أصداء عباراته على طولها، لهجة الحديث، ونغمة النقاش، وهشيش العواطف، وحدة الحماسة: كأنك معه في وقعة تفاهم، تتراوح على وجهك أنفاسه. أما أداؤه فأداء تلقائي يجر في ركابه مصطلحات عديدة، تكونت أخيراً في الميدان الاجتماعي، من جراء البحث المستند على علوم المنطق والاقتصاد، والنفس والاجتماع، وأما تصويره، فكل ما نملك قوله فيه، أنه لن يخرج خصائصه ولا عن طريقته الناتجة من رأس العالم المدقق، وخواطر الأديب المتأمل.

وحين نقرأ كتب الغزالي، ورائدنا البحث عن طبيعتها وطريقة عرضها، فسنعرف أولا أنها عامرة باللمحات، ناطقة بقدرة المؤلف على الاستنباط والاستنتاج، ومدللة على طرافة

ص: 47

البحث وجدة جوانبه ومناحية، ولكنها لا تدلل كثيراً على أنه مفكر خالص وكاتب أصيل. . فوجد الموضوع - وإن وجدت في غالب كتبه - مفقودة الاستغراق والعمق، ووحدة العرض وجودته ضائعة تحت هذه العناوين العديدة التي تموج بها كتبه، والتي لا تجري على أساس من التتابع المنسق والتبويب المنظم. . ودقة التقسيم في الموضوع وفي الكتاب مفقودة العرض والطول، ولا تشمل عادة كل الأقسام المبتغاة. وسنعرف أخبراً عن بطابع العاطفة والإخلاص وعدم التحيز؛ وأنها طريقة ذعر منها منهج البحث الحديث. ونعلل ذلك بأن غالب كتبه قد كتب في مقالات، لتكون (فصولا ناضجة بالأيمان الحي، والمنطق الذكي، والعاطفة الحارة) وبأنه قد كتب بطريقة ذاتية محضة، لا تعتمد إلا على دقتها الخاصة، وثقافتها المختمرة، وخواطرها الذاتية، ولكن ذلك لا يطعن مطلقاً في سدها لحاجة الجانب الفكري من الميدان الاجتماعي، وما نظنه يقلل من أهميتها، كما لا نزعم لحظة، أنه سينقص قارئاً من عشرات الألوف الذين يقتنون كتبه!!

وهذا المنحى الذي ألمنا بجوانبه، هو ما يسيطر على ما أخرج الأستاذ الداعية محمد الغزالي في الحقل النظامي من كتب، سواء فيها من الإسلام والأوضاع الاقتصادية، والإسلام المفتري عليه بين الشيوعيين والرأسماليين، والإسلام والمناهج الاشتراكية، وتأملات في الدين والحياة - ومن هنا نعلم - إلى سوف يخرج في أفق (السلوك) في كتابه المرقوب (خلق المسلم)، ولكن هذا المنحى سوف يتغير كثير من جوانبه في كتابه (عقيدة المسلم) الذي أخرجه في حقل العقيدة، ليسد حاجة الفكرة والشعوب إليه، غير أن التغير في بعض الأحكام، لن يؤثر على مكانة الغزالي، كحاجة خاصة في ميدانها الاجتماعي.

ولست أدري والله، أكان يجب صدور هذا الكتاب منذ سنوات؟ أم أنه قد جاء في وقته الملائم؟ فقد انتهت العقيدة الإسلامية إلينا الآن، بل ومنذ أجيال عديدة، موسومة بعلم (الكلام)، مربوطة بعجلة المنطق (البيزنطي) مبتوتة الصلة بالفؤاد، شديدة التآخي مع العقل. بقواه الذهنية الجافة، ومقاييسه الآلية البحتة، وموازينه النظرية الخالصة، مما دفع بالعديد من طلاب العقيدة إلى الهرب من جفافها، ليقفوا بجوار العامة اليائسين، في رحاب التصوف وشطحاته، باحثين عن الجذوة التي تحي في قلوبهم جذور الأيمان، وتنعش في نفوسهم عاطفة الحب الإلهي. وكنا بين ذلك، في قفر مجدب من روح الأيمان العقيدي؛ لابتعاد

ص: 48

العاطفة الوجدانية عنه، ولصوق الجفاف الذهني عنه، وكانت حاجتنا الشعبية تحتاج إلى غربلته من الحصى، وتصفيته من الرواسب، وتنقيته من الخلاف، وتشذيبه من التطرف؛ بل تحتاج إلى أن تكتب موضوعات العقيدة من جديد، بروح الإسلام الخالد، الموازنة بين العقل والوجدان، والمنطق والعاطفة منذ أن عرفنا الفجر الأول للأمل، ومنذ أن عشنا في فجرة الصادق. ولقد خرجت إلى هذا الحقل العقيدي رسائل عدة؛ ولكنها لم تكن لتحمل روح الأيمان المنساب، وطبيعة العقيدة؛ أما هذا الكتاب. . . فقد حمل كل ذلك، وغربل، وصفى، ونقى، وشذب، حتى أحسست وأنا أقراه. . أنني أعيش في المشهد الأول للوجود، وأتصل بالله وبالكون وبالحياة، اتصالا أليفا لا تنفصم عراة، ولسوف أعود لقراءة ذلك الكتاب كلما دبت في أعصابي معركة، أو تسرب إلى نفسي قلق، والى روحي اضطراب.

وأعتقد من العبث في التفكير في تركيز الكتاب أو فكرته، ما دامت موضوعاته الشهيرة لا تتجاوز نطاق الإلهيات والنبوات والسمعيات، وما دام المؤلف الداعية لا تسمح لأحد أن يجمع خيوط كتاب له من يديه ليعرف هيكله العام. ولسنا نقصد أن المؤلف لم يتبع نهجا معينا في نسج كتابه؛ فقد خرج لنا المؤلف في موضوعات العقيدة ما تزال هي هي لا تزيد، اللهم إلا في فصول يستدعيها العصر الحاضر (كعقيدة الألوهية عند الفلاسفة والعلماء) و (بين النبوة والعبقرية) والشيء المتبقي إذن هو في معرفة المنارات الرئيسة، التي وضعها المؤلف نصب عينيه، حين طبخه لذلك الكتاب، ومن مقدمه الكتاب، نقتطف بضع نقاط ترشدنا إلى مناراته العامة:(هدف بحوث في العقيدة دفعتني إلى كتابته قلة الرسائل التي تعني بهذا اللون من علوم الدين، وتعرضه في أسلوب يتفق مع حاجة المسلمين المعاصرين)

(وقد رأيت أن أسواق الأصول العلمية لعقيدة المسلمة في نسق يخالف ما ألف الناس قراءته عن هذه الأصول في مظانها من ثقافتنا الدينية، لا لأني سآتي بجديد في هذا الميدان: بل نزولا على منطق التجارب، وانتفاعا بما اكتنف جوانب التاريخ الإسلامي من أحداث، وتوخياً للسير جهدي أن أتجنب أشواك الخلاف، فإذا استطعت طيه في السياق المطرد طويته وتجاهلته، وإذا اضطررت إلى خوضه عالجته على كره، وذكرت ما استبان لي أنه صواب. وقد أستجهل الطرف المقابل - ولا أكفره - لأن الجهل الفاضح كما ظهر لي،

ص: 49

أساس كثير من المشاكل العلمية المبهمة. وربما لمحت في أخلاق المجادلين عوجاًوفي أسلوبهم عنفاً، فأوثر مغفرة هذا كله، على مقابلة السيئة بمثلها؛ لأننا أمة فقيرة جدا إلى التجمع والائتلاف، فلندفع ثمن هذا من أعصابا. . والمرجع إلى الله)

ومع أن الكتاب خرج ليسد حاجة المسلمين المعاصرين في حقل العقيدة، ويعالج مشاكل العصر، فإن هذا الكتاب سيقبل الزمن كله؛ لأن هذه الحاجة وتلك المشاكل في حقل العقيدة، هي دائماً حاجة كل الشعوب، ومشاكل كل العصور: يضاف إلى هذه العلة: أن النسق أراد به المؤلف محو آثار الماضي السواء عن جبين الحاضر في هذا الحقل، قد دفعه إلى الحذر والأناة. . في تعبيره وتصويره وأدائه؛ وأن طبيعة الموضوع المقسمة المطروقة، ووحداته. . . العديدة، قد جعلت طريقة العرض لديه في هذا الكتاب، حسنة التكوين مقبولة. وهذان الأمران الأخيران، لم يعرفهما كتاب له من قبل، وهكذا نجح في ذلك الكتاب الواقع في 180 صفحة من القطع المتوسط، وسد به حاجة لدعوة اجتماعية في الميادين الشعبية.

وكل ما نرجوه، هو أن نشهد ذلك الكتاب مطبوعا بالملايين، شائعاً بين الشعوب كلها؛. . عسى أن تعرف عقيدة الإسلام في وضعها الطبيعي الفطري؛. ز وعسى أن تبصر حقائق التوحيد الإلهي. . والقضاء والقدر والجبر والاختيار. . والأيمان والعمل. . والخطيئة والتاب. . والخلود؛ فتنجاب روائح الفساد السياسي والاجتماعي والنفسي. . ولعل الخطورة إلى ذلك: أن ندرسه في المرحلة الثانية من التعليم الأزهري، لنخرج طائفة نبصر جيلها بعقيدتها؛ صحيحة خالية من الشوائب، ومع هذا. . فسنظل ننتظر المبحث المكتمل الشامل المبتكر. . في حل العقيدة من الميدان الفكري، مبحثا لا يتقيد بموضوعات الماضيين، التي نمت الجدل والزمن، بل يستغرق مساءل العقيدة في الكتاب والسنة، وأراء لا يكون في غير فكرة الإسلام عن (الله: والكون والحياة والإنسان) وحينئذ نرجو أن نتعرف إلى لب الإسلام كاملا غبر منقوص إن شاء الله

محمد فياض

ص: 50

‌البريد الأدبي

أخي الأستاذ محمود شاكر

صدقت والله؛ إني لم أقرأ ما كتبت في (المسلمون) ولقد فهمت مما قرأت في الرسالة أن الخلاف على دولة بني أمية، فقلت الكلمة التي لا أزال أراها حق، وأنا أعتذر إن كنت قد أخطأت الفهم، أو أسرعت في الحكم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

علي الطنطاوي

العدالة الدولية:

من أعجب ما قرأناه في الصحف أخيراً أن أمريكا قررت الامتناع عن الاقتراع أثناء عرض المشكلة التونسية أمام مجلس الأمن؛ حتى لا تغضب فرنسا؟! ومعنى هذا أن أمريكا تريد أن تجامل فرنسا على حساب شعب عربي أبي، يريد أن يتحرر من ربقة الاستعمار.

إذن ما هي المهمة الحقيقية لمجلس إنجلترا أن تغضب أمريكا. . فتمنع دولة عن الإدلاء، وهي تشهد بعينها - إن كان لهم أعين يبصرون بها أو قلوب يفقهون به - مآسي الاستعمار تنزل بساحة شعب أعزل من سلاح إلا من سلاح الحق.

ما هي المهمة الحقيقية لمجلس الأمن. . وكيف يؤدي هذا المجلس رسالته على وجه ترضاه العدالة. . والحال كما ترون. . أمة باغية لا يردعها رادع. . وأمة تجامل أمة على حساب شعب هضم حقه، فلجأ إلى ساحة العدل الدولي، يحمل في يمينه مظلمة وشكواه؟. .

ولسنا نجهل الباعث الذي استجابت له أمريكا حين امتنعت عن الاقتراع، خشية أن تغضب فرنسا. .

فأمريكا لا تريد أن تغضب اليوم فرنسا، لكيلا تغضب فرنسا أمريكا في يوم من الأيام!. .

فهل هذه هي العدالة الدولية، التي حققها مجلس الأمن؟!. .

عيسى متولي

إلى أستاذي رئيس التحرير:

لماذا. . . لماذا. . .

ص: 51

لماذا. . لماذا تغاضيت عني. . أما لاحتجابك عني مدى

أفي كل يوم تدق الرسالة كفي ولكن يموت الصدى

فما أنت تسمع هذاالنداء. . وما أنت ترحم تلك اليدا

وفيها من الدق جرح - يزول بعطفك إما بدا

أتتركني - لنفسي، لجرحي، هنا منشدا

وما من سميع، وما من مجيب إلى أن يلف حياتي الردى

ويمضي خيالي مع الهالكين - وشعري أيذهب مثلي سدى.

بربك تفسح صدر الرسالة. حتى أخط لنفسي، الطريق

فكم أنت نميت نبياً ضعيفا - بفضلك أصبح روضاً وريق

ورويته فاستوى عودة، وغنى الحياة بلحن رقيق

أفاض على الكون عذب النشيد فأسكره بالشذا والرحيق

ولولاك ما كان إلا صدى خفوتا - يواريه صمت عميق

أتتركني في هجير الحياة وأنت أب - من قديم - شفيق

وتهمل شعري فمن يا ترى بصدر الرسالة غيري خليق.

ومن يا ترى سيغني الجراح فيمكن فيها صراخ الألم

سوى شاعر يسنلذ الدموع ويقتات من همة المحتدم

أغانيه، ألحانه. . صورة لدنياه. . ويرسمها. . بالقلم

يود يرى شعره. . دمه. . يردده كل قلب وفم

فيفرح قبل اقتراب الرحيل وتطوى كف العدم

إليك أقدم شكوى الضعيف الخصم وأنت الحكم

فإن شئت أسبغت حولي رضاك فألفيتني صادحاً في القمم

وإن شئت قيدتني في السفوح. أغني، أغني، هنا للرمم.

كيلاني حسن سند

(الرسالة) لعل في نشر الشكوى إشكاء للشاعر الفاضل.

ص: 52

خطوط

نشرت الرسالة في عددها (977) قصيدة بعنوان (خطوط) الأستاذ محمد مفتاح الفيتوري، فدفعني جمال شعره إلى إنعام النظر فيه، والتعقيب عليه بكلمه لا تفي بما يدور في القلب؛ ومن العلامات الرئيسية على مكانة الشعر في النفوس، ووقعه الجميل في القلوب، النقد البريء له وإبداء الرأي الصحيح فيه.

يقول الشاعر في وصف الحصير العتيق:

حصير تقادم حتى يكا

د يخضر يرجع عشباً نضير

وكل ما تعلم أن الحصر المتقادم يسود ويعفن إن كانت هناك رطوبة، كما هو شأن حصر الفقراء، وكيف يكاد يخضر ويعود إلى عشب نضير؟ ويسند في بيت آخر الإهراق إلى (معول) فيقول:

وبهرق معولة في تراب

ليالية محتفرا رمسه

ولا أستطيع أن أتصور - في حدود طاقتي التصويرية - إهراق (المعول) في التراب، إنما الذي أستطيع تصوره هو الهدم به، وإهماله والتدمير به.

وختاما أود تكون هذه الكلمة بداءة صداقة متبادلة بين شاعر رقيق وقارئ معجب بشاعريته.

سورية

عفيف الحسيني

ص: 53

‌القصص

من روائع الأدب الروسي

رثاء!. . .

للقصصي الروسي أنطون تشيكوف

في صبيحة يوم صاح مشرق مات (عضو التحكم)(كيريل أفانوف بابيلونوف) صريع الداءين اللذين كثيرا ما أوديا بحياة الروس: إدمان الخمر وفظاظة الزوج. . . وكان الناس في شغل بتشييع موكب جنازته الذي كان في طريقه إلى القبر. . . إلا أن (بولافسكي) وهو صديق حميم للفقيد، أسرع فركب عربة أدت به إلى صديق له يدعى (زايوكين). ولزابوكين هذا قدرة على ارتجال الخطب فائقة فهو يقولها أني كان وحيثما يدعي، فلا تموته سنة ولا حمى ولا سكر عن ارتجالها. . . سواء أكان في مأتم يرثي، أو في حفل يلهج ويشيد، كانت الكلم تتدفق من فيه كالماء عزيزا سلسالا. . .

وكان هذا ما حدا ببولافسكي أن يسرع إليه، ولاسيما والخطب الذي ألم يحتاج إلى خطيب يعدد مناقب الراحل العقيد كزابوكين. . . وقال بولاكسي لزابوكين حينما لقيه:

- إنني آت لأدعوك. . . فهيا يا صاح ارتد معطفك واتبعني. لقد مات اليوم أحد زملائي، موكب جنازته في طريقة الآن إلى القبر. وليس لنا مثل هذه الخطوب غيرك. . . ليس لنا من خطيب راث مفوه سواك. . . ثق يا صاح أنه لو كان الميت وضيعا مركزه لما أزعجتك. ولكنه (الأمين). . . فلا يليق بنا أن نوسده التراب دون مرات تلقي أو خطب تقال. . .

فتتثاءب زابوكين وقال:

- الأمين؟ آه. أتعني ذلك السكير؟ -

- أنه هو. . ولكني لا تنس يا عزيزي أن مأدبة عشاء ستؤدب. وأجر العربة سيدفع، هيا يا صاح فما عليك إلا أن تلقي بإحدى خطبك على القبر. . وستلمس بعينك مدى عجاب المشيعين بك وتقديرهم لك. .

فأجاب (زابواكين) طلبه تردد ولا إحجام. . . وتكلف الحزن العميق تأهباً لما سيلقي. ثم

ص: 54

قال لصاحبه: إنني أعرف (الأمين). ذلك الوغد الزنيم. . عليه رحمه الله! وأدركا الموكب وقد بلغ المقادير، وحط النقش على الأرض، ووقفت أم الفقيد وزوجته وأختها تذر فإن الدمع الهتون - تبعاً - وما إن أنزل النعش في القبر حتى أعولت زوجه وصاحت باكية: دعوني أرحل معه. إلا أنها لم ترحل معه؛ مع أن أحداً ممن حولها لم يحل دون ذلك. ولعل ما حال دون أن تشاركه رمسه ذلك الراتب التقاعدي الذي ستتناوله. أما (زابوكين) فقد سكت حتى شمل الجمع السكون، فأدار بصره في الحاضرين وبدأ خطبته قائلا:

يا ترى أبصري وسمعي صادقان؟! أنني أشهد حلماً مرعباً يبدو لي فيه هذا الرمس المظلم الرحيب وهذا الحشد الباكي الحزين وا أسفاه. . . أنها الحقيقة. فليس ما أراه حلماً، وليست أبصارنا - ويا للأسف - بخادعة. . إن من كان حتى الأمس يفيض صحة ونشاطاً. . قد مات وروى التراب وأصبح ذكرى تستدر الدمع الساخن الغزير. لقد سلبه الردى منا، وهو لا يزال في عنفوان قوته وبهائه. . وأوح فتوته ونشاطه وإن بك متقدما في السن. . أية خسارة منينا بها. . من ذا الذي يستطيع أن يحتل مكانه في قلوب عارفيه. لدينا أيها السادة كثير من الموظفين. . إلا أن (بروكوفي أورزبتش) كان جوهرة يتيمة فيما كان يزدهي به ويفخر. وكان أيها السادة - المثل الأعلى للرجل الكامل الرفيع بخلقه، السامي بنفسيته. لقد كان الفقيد يأبى الرشوة فلم يرضيها يوما. وكثيراً يبدي مقته واحتقاره لمن كان يلح في أخذهاوتقبلها. لقد كان يرفضها كل الرفض ويزري ضعاف النفوس ممن كانوا على نقيضه. كما لا أظنكم تجهلون أنه كان يهب راتبه التافه على مشهد منا لزملائه المعزين وها أنتم الآن تسمعون بآدابهم نحيب الأرامل والأيامي اللائي كن يعشن من فيض إحسانه. لقد ذهب ذلك الذي وهب حياته للبر، نفسه للخير، وإنكم لا تعلمون بلا شك - أيها السادة - أنه كان أعزب ولم يزل كذلك حتى وسد التراب. . إنني لأتصوره الآن بوجهه المشرق الحليق وببسماته الحالمة العذاب، ويخيل إلى أنني أكاد اسمع صوته الرؤوف الذي كان يفيض حنانا ويقطر رقة وإخلاصا. فإلى رحمة الله يا (بروكوفي أوزبتش). . . إلى الجنان الخوالد أيها العزيز. . وداعاً أيها الراحل الكريم. .

وكان الخطيب مبدعا حقا في إلقائه فأحرز بها إعجاب السامعين. . إلا أن العارفين منهم بالميت أدهشهم مما قاله أشياء. ذلك أنهم لم يفقهوا علة ذكر الخطيب أسم الميت على أنه

ص: 55

(بروكوفي أوزبتش) وثانيا أن الكل كان لا يجهل أن الميت قضى حياته في تعكر صفو حياة زوجه، فكيف يقول الخطيب إنه كان أعزب؟ وأخبراً لقد كانت للميت لحية حمراء كئة ولم يك بحليقها. . فلماذا يصفه الخطيب بأنه كان حليقها؟! واشتد عجب السامعين وتبادلوا الهمس والنظريات. . وهزوا أكتافهم ساخرين.

وتابع الخطيب كلامه: أي (بركوفي أوزبتش) لقد كان وجهك شاحبا مرعبا. . إلا أننا كنا نعرف أن وراء ذلك قلباً طاهراً نبيلاً ونفساً كريمة) وما لبث السامعون أن لحظوا على الخطيب دهشة بلغت حد الذهول. فقد اتجه بصره إلى ركن من الحشد، ثم التفت إلى بولافسكي زائغ البصر، وقال بصوت متهدج: أنه حي!

- من تعني: إنه حي!

- بروكوفي أوزبتش. إنني أراه واقفا عند القبر!

- ومن قال لك أنه الميت.؟ إن الذي مات هو (كيريل إبفانوفتش) أيها الأبله.

- ولكنك قلت لي إن (الأمين) قد مات

- لقد كان (كيريل أفانوفتش) أمينا أيها الأحمق. . لقد حل محل (بروكوفي أوزبيتش) بعد أن نقل هذا ككاتب في مستهل العام المنصرم.

- أني لي أعرف هذا ولم يسبق لي به علم؟!

فأدار زابوكين وجه شطر القبر وواصل رثاءه وعينا (بروكوفي أوزبتش) عالقتان به تحدقان في حنق وغضب. . وما إن انتهى من الدفن وعاد المشيعون حتى أخذ زملاء (زابوكين) يلغطون. . . لقد دفنت رجلا حيا. . . وأسرع (بروكوفي أوزبتش) إلى الرائي حلقاً ساخطاً: لا بأس أيها الغبي الأحمق بخطبتك إذا كانت رثاء لميت. . أما أن ترثيني وما زلت حياة فإنها سخرية بي بليغة وتهكما بخلقي فظيعا. . . لقد قلت إنني لم أقبل الرشوة ولست بذي أغراض ومنافع. . ومثل هذا القول لا يقال عن موظف حي إلا بقصد إدانته واتهامه. . . لم يطلب منك أحد أن تصف وجهي المخيف المرعب. . . إنها إهانة فظيعة سوف ترى مني العقاب عليها)

ف. ع

ص: 56