الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 982
- بتاريخ: 28 - 04 - 1952
لا بد للإسلام من مؤتمر
ذلك عنوان مقال كتبته في مارس عام 1942، ونار الحرب العالمية الاستعمارية تتسمر في مواطن الإسلام وأقطار العروبة، والمسلون والعرب يصلونها ولا أرى لهم فيها، ولا رجية لهم منها، وإنما كانوا وما زالوا كعبيد الأرض، يملكهم من يملكها، ويستغلهم من يستغلها.
أهبت في تلك الكلمة برجال الدين - وهم المسئولون الأولون عن تنبيه المشاعر وتوجيه القلوب - أن يكون لهم ما للمبشرين والمستعمرين والمستشرقين من مؤتمرات تعقد العام بعد العام في الدولة بعد الدولة. وذكرتهم أن الله قد فرض على المسلمين مؤتمراً سنوياً بمكة حين فرض عليهم الحج؛ لأني لا أعلم لحج البيت وهو ركن من أركان الإسلام الخمسة، حكمة أسمى من اجتماع المسلمين من فجاج الأرض وآفاقها في وقت واحد، على صعيد واحد، ليتذكروا في أمور دينهم، ويتشاوروا في شؤون دنياهم. ولقد قلت فيما قلت:(لا بد للإسلام من مؤتمر يجمع زعماء الرأي في أهله، ليجددوا ما درس منه، ويوضحوا ما التبس فيه، وينفوا عنه ما غشيته من أساطير القرون وأضاليل النحل، ويجلوه للناس كما كان، صالحاً للحياة، كافلاً للفوز، ضامناً للسعادة. وليس مما نطمع فيه أن يجتمع هذا المؤتمر اليوم؛ فإن الزلزلة التي لا تنفك آخذة بأقطار الأرض وأفكار الناس تجعل العقبات والسدود من دونه؛ ولكنا نطمع أن يفكر أولو الأمر فيه ويهيئوا الأسباب له؛ حتى إذا عادت السلم وتحلق زعماء الأمم حول الموائد الخضر لإقرار السلام الدائم، واختيار النظام الملائم، اجتمع كذلك علماء الإسلام ليعرضوا على العقول الحائرة والأجسام الحائرة نظام الله، خالصا كما أوحاه، صافياً كما أنزله. نعم لا بد للإسلام من مؤتمر يقيم بي البهرج والصحيح حداً من نور الحق يجتمع عليه القطيع الشارد، ويهتدي إليه الركب المضلل. ولكن ليت شعري من الذي يفكر في هذا المؤتمر ويعمل له ويدعو إليه؟ لقد عقدنا الآمال بالأزهر في كل ذلك، فهل عقدناها بلعاب الشمس؟ إن علماء الدين هم الطوائف التي نفرت من كل فرقة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم. فإذا تفقهوا ولم ينذروا، أنكروا ما خلقوا له، وعصوا ما أمروا به. وليس الإنذار أن يلهجوا بذكر الحساب والعذاب، وإنما الإنذار أن ينبهوا المخطئ، ويوجهوا الحائر، ويرشدوا الغوي، وينصبوا في مجاهل الأرض أعلام الطريق)
ذلك بعض ما قلناه منذ عشر سنين في هذا المعنى فلم يستجب له اليوم غير الباكستان!
والباكستان مشرق من مشارق الشمس سيسطع فيه الإسلام من جديد فتعشو على أضوائه الهادية أمة السلام والتوحيد!
أحمد حسن الزيات
حسن البنا الرجل القرآني
للأستاذ أنور الجندي
(أشهد أنني لم أغير شيئا من (روح) كتابات (روبيرجا كون)
- الكاتب الأمريكي الذي التقى بالمغفور له الأستاذ حسن البنا
سنة 1946 واجتمع به طويلاً - ولكني أخذت (معالم) كتاباته
وملاحظاته وخطوط بحثه، كما أرسلها إلى صديق يطلب العلم
في (واشنطن)، وأضيفت عليها من الأسلوب الأدبي ما يجعلها
قريبة من مستوى (الرسالة)
(أ. ج)
لم أكن أظن أن الوقت قد حان بعد للكتابة عن رجل هز تاريخ مصر والشرق الحديث هزة قوية، تركت فيه آثاراً حية لا يمكن إنكارها أو تجاهلها أو الغض من قدرها، هي تلاميذه وحواريوه الذين لا يزالون على درجة من القوة والفاعلية
كنت أظن أم أمر هذا الرجل سيظل إلى وقت ما مبهما، يراه بعض الناس قديسا من القديسين، ويراه غيرهم طاغية من الطغاة؛ ولكن الحوادث في مصر قد أسرعت فأعادت إلى (الإخوان) مظهرهم الذي تجلى في صورة من القوة، أعادت إلى الأذهان أثرهم المعروف في توجيه الحياة السياسية والاجتماعية في مصر
وقد أختلف الناس في أمر كل (عظيم) وعبقري ونابغة، ولم يجتمعوا على رأي فيه ما دام حيا، ولكن الموت يحسم الأمر دائما، ويصرف عن صدور الناس أوهامها ويردها إلى شيء من الحق، فتحكم متجردة عن الهوى
وكان ضرورياً أن يختلف الناس في هذا الرجل، وكان حتما أن تفيض بعض النفوس بضروب من الحقد والحسد نحو رجل استطاع أن يجمع حوله الناس، وأن يؤلف بين طائفة ضخمة من الأتباع، بسحر حديثه، وجمال منطقه، وروعة بيانه، فتنصرف هذه المجموعة الضخمة من حول الأحزاب، والجماعات، والفرق الصوفية، وتنضوي تحت لوائه، وتطمئن
له وتثق به
وكان هذا مثار حسد الناس، وثار حقد بعض ذوي الرأي، وكان خليقاً بهم أن ينقموا وأن يحسدوا هذا الرجل المتجرد الفقير، على أنه استطاع أن يجمع الناس إليه بوسائل غاية في البساطة واليسر، وهي لباقته وحسن حديثه. . فيرفعهم فوق المطامع المادية، التي يجتمع عليها الناس عادة
وكان طبيعياً أن يتنكر له بعض الناس، وأن يذيعوا عنه بعض المرجفات، فليس أشد وقعاً في نفوسهم من أن يسلبهم أحد سلطاناً كان لهم. وليس أبعد أثرا في نفوسهم أن يجئ رجل من صميم الشعب ليجمع الناس حوله باسم القرآن، ويقول لهم أن الله قد سوى بين الناس بالحق، وجعل فضيلتهم عنده على أساس العمل والتقوى
خيل إليَ بعد أن انطوت حياة الرجل على هذه الصورة العجيبة، وثار حولها ذلك الغبار الكثيف، أن وقتاً طويلاً يجب أن يمر قبل أن يقول التاريخ الحق كلمته، ويروي المؤرخ النزيه قصته
غير أن الظروف السياسية في مصر سرعان ما تغيرت، وأمكن أن يكشف التحقيق في بعض القضايا بطلان كثير مما وصمت به دعوة الإخوان من إدعاءات، وأن يبرأ جانب هذا الرجل بالذات فيبدو نقيا طاهراً
وكنت قد التقيت بالرجل في القاهرة سنة 1946، ثم عدت إلى القاهرة مرة أخرى سنة 1949 بعد أن قضى، وحاولت أن أتصل ببعض الدوائر التي تعرفه فسمعت الكثير مما صدق نظرتي الأولى إليه
فقد علمت أنه كان في أيامه الأخيرة يحس بالموت، وكان الكثير من محبيه ينصحه بالهجرة أو الفرار، أو اللياذ بتقية أو خفية، فكان يبتسم للذين يقصون هذه القصة وينشد لهم شعراً قديماً:
أي يومي من الموت أفر
…
يوم لا قدر أم يوم قدر
يوم لا قدر لا أرهبه
…
ومن المقدور لا ينجوا الحذر
وكان لايني لحظة عن محاولة استخلاص أنصاره من الأسر، وكان يبلغ به الأمر مبلغه، فسيتيقظ في الليل، ويضع كلتا يديه على أذنيه، ويقول: إنني أسمع صياح الأطفال الذين
غاب آباؤهم في المعتقلات
إن تاريخ جهاد (الرجل القرآني) طويل. . ولكن أخصب سنواته أيام الحرب. . منذ أن خرج من المعتقل عام 1939، في هذا الوقت الذي شغلت الحرب الدنيا جميعها، عن الأحزاب، وعن السياسة، وعن كل شئ، كان الرجل لا ينام، كان يسعى ويطوف ويذهب إلى كل قرية، وكل نجع وكل دسكرة يفتش عن الشباب، ويحدث الشيوخ، ويتصل بالعظماء والعلماء، ويومها بهر الوزراء، وأعلن بعضهم الانضمام إلى لوائه الخفاق، وجيشه الجرار
وحاول الإنجليز أن يقدموا عروضا سخية. . فرفضها الرجل في إباء. ونامت الأحزاب في انتظار الهدنة، وظل الرجل الحديدي الأعصاب يعمل أكثر من عشرين ساعة لا يتعب ولا يجهد، كأنما صيغت أعصابه من فولاذ
لقد كان يحب فكرته حباً يفوق الوصف، ولم يكن في صدره شيء يزحم هذه الدعوة. كان يعشق فكرته كأنما هي حسناء! لا يجهده السهر، ولا يتعبه السفر، وقد أوتي ذلك العقل العجيب، الذي يصرف الأمور في يسر، ويقضي في المشاكل بسرعة، ويفضها في بساطة، ويذهب عنها التعقيد
كان لا يحتاج إلى الإسهاب ليفهم أي أمر، كأنما لديه أطراف كل أمر، فما أن تلقى إليه أوائل الكلمات حتى يفهم ما تريد، بل أحياناً كان يجهر بما تريد أن تقول له، ويفتي لك فيما تريد أن تسأل عنه
كان نفاذ البصيرة، نقادها، يرى ما وراء الأشباح، فيه من ذلك السر الإلهي الصادق قبس
كان يلتهم كل شئ، لا تجد علما ولا فكرا ولا نظرية جديدة في القانون، أو الاجتماع أو السياسة أو الأدب، لم يقرأها ولم يلم بها، ولم يحاول أن يفيد منها لدعوته وفكرته
ولم تكن هناك دعوة ولا نزعة ولا رسالة، مما عرف العالم في الشرق أو في الغرب، في القديم أو في الحديث. . لم يبحثها أو يقرأها أو يدرس أبطالها، وحظوظهم من النجاح أو الفشل، أو يحمل منها ما يصلح لتجاربه وأعماله
وكان يقول كل شئ، ولا تحس أنه جرح أو أساء. . وكان يوجه النقد في ثوب الرواية أو المثل، وكان يضع الخطوط ويترك لأتباعه التفاصيل
كان قديراً على أن يحدث كلا بلغته وفي ميدانه وعلى طريقته، وفي حدود هواه، وعلى
الوتر الذي يحس به، وعلى (الجرح) الذي يثيره
يعرف لغات الأزهريين والجامعيين والأطباء والمهندسين والصوفية وأهل السنة، ويعرف لهجات الأقاليم في الدلتا وفي الصحراء وفي مصر الوسطى والعليا، وتقاليدها، بل أنه يعرف لهجات الجزارين والفتوات، وأهالي بعض أحياء القاهرة الذين تتمثل لهم من القصص ما يتفق مع ذوقهم وفنهم
بل كان يعرف لغة اللصوص وقاطعي الطرق والقتلة، وقد ألقى إليهم مرة حديثاً
وهو يستمد موضوع حديثه - أثناء سياحته في الأقاليم وفي كل بلد - من مشاكلها ووقائعها وخلافاتها، ويربطه في لباقة مع دعوته ومعالمها الكبرى، فيجئ كلامه عجبا. . يأخذ بالألباب
كان يقول للفلاحين في الريف (عندنا زرعتان. . إحداهما سريعة النماء كالقثاء، والأخرى طويلة كالقطن)
لم يعتمد يوماً على الخطابة، ولا تهويشها ولا إثارة العواطف على طريقة الصياح والهياج. . ولكنه يعتمد على الحقائق، وهو يستثير العاطفة بإقناع العقل، ويلهب الروح بالمعنى لا باللفظ، وبالهدوء لا بالثورة، وبالحجة لا بالتهويش
ويعد (الحديث) عند بعض الناس آيته الكبرى، غير أنني علمت من بعض المتصلين به. . أنها آخر مواهبه، فقد كان أبلغ مواهبه القدرة على الإقناع، وكسب (الفرد) بعد (الفرد) فيربطه به برابط لا نفصم، فيراه صاحبه صديقاً خاصاً، وتقوم بينه وبين كل فرد يعرفه صداقة خاصة خالصة، يكون معها في بعض الأحيان مناجاة، وتنتقل بالتعرف على شؤون الوظيفة والعمل والأسرة والأطفال
وهذه أقوى مظاهر عظمته، فهو قد كسب هؤلاء الأتباع فرداً فرداً، وأصاب منابع أرواحهم هدفاً هدفاً، وإن لم يكسبها جملة ولا على صفة جماعية، وقد استطاع بحصافته وقوته وجبروته أن ينقلها من عقائدها وأفكارها، سواء أكانت سياسية أم دينية، إلى مذهبه وفكرته. . فتنسى ذلك الماضي، بل وتستغفر الله عنه، وتراه كأنما كان إثماً أو خطأ
ومن أبرز أعمال هذا الرجل، أنه جعل حب الوطن جزءا من العاطفة الروحية فأعلى قدر الوطن وأعز قيمة الحرية، وجعل ما بين الغني والفقير حقاً وليس إحساناً، وبين الرئيس
والمرءوس صلة وتعاوناً وليس سيادة، وبين الحاكم والشعب مسئولية وليس تسلطاً
وتلك من توجيهات القرآن، غير أنه أعلنها هو على صورة جديدة لم تكن واضحة من قبل.
يتبع
أنور الجندي
كلمة أخرى
للأستاذ علي الطنطاوي
سيدي الأستاذ عبد الجواد رمضان
ما تشرفت بمعرفة شخصك، ولكن تشرفت بتلاوة فضلك الذي يدل على فضلك ونبلك، وأنا أعترف يا أستاذ أني لم أقرأ مقالات أخي الأديب الضليع الأستاذ محمود شاكر في (المسلمون) ولم أطلع إلا على الجزء الأول من هذه المجلة، ولست مشتركاً فيها (مع الأسف)، ولا تباع في مكتبات دمشق فأراها، ولا أقول بذم أحد من الصحابة فضلاً عن القول بكفره والعياذ بالله أو نفي الإسلام عنه، ولا أنتقص بني أمية أقدارهم ولا أسلبهم فضائلهم، ولئن كنت كتبت مقالة في تمجيد بني أمية بالحق، لأكتبن مقالة في نقدهم بالحق. وما بنو أمية ولا غير بني أمية، ولا شيء في الدنيا إلا وفيه ما يمدح وما يذم، والكمال المطلق لله وحده، والعصمة للأنبياء. ولقد قال مثل مقالتي رجل فأنكرها عليه، ثم قبلها منه - من هو خير مني ومنك، ومن أهل الأرض: محمد رسول الله، حين قال له الرجل: يا رسول الله، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت.
فقال الرسول صلوات الله عليه: إن من البيان لسحرا.
فليس يرد على ما أوردته من فضل معاوية ومناقبه، ولست أنكره، ولكن قل لي: هل تنكر أنت أن معاوية بشر يخطئ ويصيب؟ وهل تنكر أن الإسلام حجة على معاوية، ومعاوية ليس حجة على الإسلام؟
فما حكم الإسلام في البدعة التي ابتدعها معاوية؟
هذا هو موضوع الكلام
لقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف، واستخلف أبو بكر، وتركها عمر لمجلس الستة، كل هذا معروف ولكن هل نال عمر الخلافة بعهد أبي بكر؟
لا يا أستاذ. وهذه الأخبار استقصيتما في كتابي (أبو بكر) وكتاب (عمر) وقد جمعت فيه ما تفرق من سيرة عمر في سبعين ومائة كتاب، وعوزت كل جملة فيه إلى مصادرها، والأخبار كلها على أن أبا بكر لما أحس الموت أمر الناس أن يختاروا لأنفسهم، فتركوا ذلك إليه، فاختار عمر وعرض ذلك عليهم فقلبوا به، فلما مات بايعوه فصار خليفة بالبيعة، أي
بالانتخاب الحر، لا بالعهد، وكذلك كان عثمان بن عفان خليفة من بعده بالبيعة، إن الإسلام لم يحدد أسلوب الحكم، وترك ذلك لرأي الأمة، ولكنه وضع أساساً لا يمكن إقامة الأمر إلا عليه، وهو الشورى والانتخاب الحر، فإذا انتخبت الأمة رجلاً وبايعته حرم الخروج عليه، ومنازعته الأمر، لئلا تعم الفوضى، والفوضى أكبر ضرراً على الأمة من الاستبداد
ومعاوية جاء ببدعتين:
الأولى: أنه انصرف عما وضع في عنقه من أمانة الحكم، والنظر لمصلحة الأمة، إلى تمهيد الأمر لابنه يزيد من بعده، جمع لذلك فكره، وسخر لذلك ماله وسلطانه، فصارت سنة من بعده، أدت إلى إضاعة أمر المسلمين بانصراف الخليفة عنه إلى أمر ولده، وإلى تولية من لا يصلح للولاية
الثانية: أنه حول الانتخاب الإسلامي الحر الصحيح إلى نوع من الترغيب والترهيب والتدخل، ولو أن المسلمين كانوا أحراراً في انتخاب من يخلف معاوية ما انتخبوا يزيد، ولا يخلو من فضائل. ولكن هل كان يزيد أتقى الناس؟ أو هل كان أعلم الناس؟ أو هل كان أحق الناس بالخلافة؟
وهل سار يزيد بالدولة سيرة أبي بكر وعمر؟ أم أظهر المحرمات، وجرأ الناس على الباطل؟ ومن أطلق لسان الأخطل الشاعر النصراني في أنصار رسول الله إلا يزيد؟ من فعل بالمدينة ما لا تفعله الروم والمغول إلا يزيد؟
إنه إذا قيل عن الأسود أبيض، يقال عن الأبيض لا محالة أسود. فإذا كانت حكومة يزيد وأمثاله حكومة إسلامية، فإن حكومة عمر لا تكون إسلامية لأنهما متناقضان مختلفان
وإذا كان عهد معاوية إلى يزيد من الإسلام، فإن صرف عمر الأمر عن عبد الله ليس من الإسلام. هذا إن كانا متشابهين متكافئين، فكيف وهذا يزيد، وذاك عبد الله!
وأنت تذكر يا أستاذ أن الذي قال عن معاوية، لقد جعل الأمر كسر وياً قيصرياً ليس على الطنطاوي! وأنت تعلم يا أستاذ رأي عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين في أهله من بني أمية، وفي حكمهم، وفي الحجاج وأمثاله خاصة!
وأنا أشكر لك نصحك الناس ألا يلوثوا ألسنتهم بدماء القوم، وأنا أول من يسمع هذا النصح، وما بي والله عداوة الأمويين، ولا محبة غيرهم، ولكن المقام مقام الدفاع عن الإسلام، ببيان
حكمه في حكم بني أمية، لئلا يحمل أحد سيرتهم على الدين فيقتدي بهم، فيضل عن سبيل الحق
علي الطنطاوي
بحث في الموسيقى الشرقية
للأستاذ نقولا الحداد
الموسيقى: فلسفة وعلم وفن. . فهي إذن بنت الطبيعة والفكر والاجتماع، فلا بدع أن يعنى بها الفلاسفة والعلماء وأصحاب الفن ويضعوا لها قواعد وقوانين، بل هي أولى ظاهرة كونية للدرس والتقرير والاستنباط
والصوت منذ القديم من قبل التاريخ مستند الإنسان في التعبير عن عواطفه وميوله وآماله. هو أصدق آلة للتعبير. فبالأحرى أن تكون الأنغام والألحان أداة لتفسير ما يطرأ على النفس من شعور داخلي. ولا بدع أن يتصدى علامة في الأنغام لشرح القوانين الموسيقية من جميع نواحيها، ويبحث البحث الفلسفي في شؤونها، ويدرس الدرس الفني للأنغام والألحان والتطريب
لا بدع أن يتصدى لهذا البحث العلامة الأستاذ ميخائيل خليل الله ويردى فيؤلف كتاب فلسفة الموسيقى الشرقية في أسرار الفن العربي. ولعله من قبيل التواضع لم يقل فلسفة الموسيقى الشرقية والغربية على الإطلاق وكل ما يمت الموسيقى بسبب. وقد ملأ في هذا البحث نحو 700 صفحة من القطع الكبيرة، وتواردت إليه رسائل من كبار العلماء وكبار الساسة وكبار الكهنوت من أمم مختلفة من الشرق والغرب مثنين على كتابه. وكان أهم هذه الرسائل رسالة من العلامة العظيم جوليان هكسلي مدير مؤسسة اليونسكو العالمية يشكر له فيها جهوده البالغ في إخراج هذا الكتاب الفذ، ويعده فيها أنه متى بلغ مشروع اليونسكو أشده سيعمل على ترجمة كتابه هذا إلى اللغة الأكثر شيوعا لكي تكون فوائده واسعة النطاق
وقد رد المسيو جيم توريس جوده المدير العام لمنظمة اليونسكو على كتاب المؤلف المصحوب بنسخة من الكتاب الذي نحن بصدده وعلى نسخ من محاضراته عن الموسيقى في بناء السلام العام يبلغه في رده أن المؤسسة العالمية لليونسكو مهتمة الاهتمام التام الذي أثاره عمله لديها. وقد رشح الأستاذ خليل الله ويردى لجائزة نوبل، واهتمت هذه المؤسسة بهذا العمل الجليل، ووعدت بالالتفات الذي يستحقه عمله، وهي ترى أن ترجمة الكتاب إلى اللغة الإنجليزية أو الفرنسية يسهل عمل المحكمين. وحبذا لو تصدى أحد الأدباء للترجمة وخابر الأستاذ خليل المؤلف في هذا الشأن واتفق معه على الترجمة. ولا ريب أن ترشيح
اليونسكو للمؤلف لدى منظمة نوبل هي خطوة شريفة قد تؤدي إلى الحصول على الجائزة التي ليست مقصودة بالذات من عرض الكتاب على المؤسسة؛ بل المقصود هو الحصول على هذا الشرف الكبير الذي سيتمتع به العالم العربي كله
الموسيقى العالمية
بحث الأستاذ خليل الله ويردى في الموسيقى عند جميع الأمم الغربية والشرقية الدنيا والشرقية القصوى. وطرق الموضوع من جميع أبوابه ولم يترك فيه شاردة ولا واردة. وأسهب جداً في السلالم الموسيقية على اختلاف أنواعها وأوطانها، لأن السلالم هي نوى الموسيقات وهي ينبوع الألحان وروح التطريب والطرب
السلم الموسيقي (أو الموسيقية) ليست غريزة طبيعية في أصل هذا الفن البديع الجميل، بل هي نزعة وطنية أو إقليمية. وليست من حتميات الطبيعة، إلا أن للسلم طرفين: قراراً وجواباً، وكل منهما صدى الآخر. هذا ومن سنن الطبيعة أن يكون بين القرار والجواب تجاوب أو اتفاق في الاهتزازات الهوائية الصوتية بحيث يكون الثاني مضاعف الأول في عدد الاهتزازات، بين الطرفين سلم يتدرج في نغمات يسميها بعض الموسيقيين مقامات. ويمكن أن يصعد السلم من جواب لجواب أعلى فيصبح الجواب الأول قراراً للجواب الأعلى وهكذا دواليك. فيرتقي السلم إلى سلالم متوالية كل منها جواب لما تحته وقرار لما فوقه. وقد ينتج من هذا الارتقاء سبع سلالم على الأقل كما هو الأمر في البيانو الاعتيادي
وتختلف النغمات أو المقامات باختلاف ذبذبات الوتر أو
اهتزازاته، أو اهتزازات عمود الهواء المنفوخ في القصبة أو
أية أنبوبة موسيقية حين تعزف أو تنقر. والشيء الطبيعي في
درجات السلالم هو أن ذبذبات أية درجة هي مضاعف ذبذبات
الدرجة التي تقابلها في السلم الذي تحته. وفي جميع الموسيقات
المعروفة في الغرب والشرق السلم ذو السبع درجات الأصلية،
وقد يترفع منها أجزاء درجات كأصناف وأرباع وأثمان 116
كما سيأتي بيانه. وللغناء عند القبائل الهمجية سلالم بسيطة جداً
قد لا تبلغ سبع درجات حتى ولا أربع درجات. والله أعلم
ولا أدري إن كان تقسيم السلم إلى سبع درجات تقسيماً طبيعياً. ولعله طبيعي لأن للنور سلالم موجية على مثال السلالم الموسيقية، وكل سلم نوراني هو جواب لما تحته وقرار لما فوقه إذا شبهت هذا بذاك. لأن في الطبيعة إشعاعاً كهرطيسيا أأااااأأا
ذا تموجات مختلفة الطول والعدد في الوقت. وهي تموجات أثيرية على حد تموجات الهواء الصوتية. والموجات الكهرطيسية طبقات؛ وكل طبقة هي مضاعف الطبقة التي تحتها في الموجات
ولنا أن نسمي كل طبقة كهرطيسية سلماً كالسلم الموسيقي. وفي الطبيعة ستون سلماً كهرطيسياً. ولكننا لا نرى منها إلا سلما واحداً هو سلم النور إلا بألوانه الرئيسية السبعة من الأحمر (وهو الأسفل) والبرتقالي والأصفر والأخضر والأزرق والنيلي والبنفسجي (وهو الأعلى)، وموجاته هي ضعفا موجات الأحمر، ولكن طول موجة الأحمر هي مضاعف طول موجة البنفسج، ولهذا يسيران معا في وقت واحد. على أننا لا نراهما إلا لونا واحداً هو الأبيض، ولا نراه إلا منحلا إلى ألوانه السبعة إذا نفذ في زجاجة الموشور أو في قطرات قوس قزح. هذه الألوان السبعة ليست في الموجات الأثيرية بل هي في خليات أدمغتنا البصيرة، فالخلية التي تنفعل من ذبذبة إحدى الموجات تصدر اللون المطابق لها. ولا نرى ما فوق البنفسجي وما تحت الأحمر إلا بواسطة آلات بصرية، كالنور الذي فوق البنفسجي، والنور الذي تحت الأحمر. وكذلك الأشعة السيني (أشعة رنتجن). فبين الصوت والكهرطيسية تشابه غريب في عدد الدرجات السبع. في كليهما هذا العدد 7 هو شيء طبيعي على الرغم من أن بين الدرجات سواء في الصوت أو في النور أجزاء درجات أخرى لا تحصى، وهي سر تعدد الألوان كما هي سر تعدد الألحان، ويظهر أن هذا الذين اتفقوا على السبع درجات في سلم صوتي أو نوراني رأوا أن هذا الرقم مقدس، لأن الله خلق فيه العالم واستراح في اليوم السابع
الأنصاف والأرباع
المعروف في جميع الموسيقات الغربية والشرقية أن للسلم سبع
درجات يعتبرونها أصلية، ويتفرع منها على قولهم أنصاف،
وفي الموسيقى العربية أرباع، وربما أثمان أيضا، وفي
اليونانية 116. والحقيقة أن الدرجات ليست درجات متساوية
ولا أنصافها حقيقية والأرباع كذلك. وإليك البيان:
اهتزازات الأصناف
51 57 لا نصف لها 68 76 82 لا نصف هنا
دو ري مي فا صول لا سي دو
اهتزازات السلم الأدنى 24 27 30 32 36 40 45 48
((الأعلى 48 54 60 64 72 80 90 96
الفروق بين الدرجات الأصلية والأصناف
6 6 8 10 6
في الفلسفة الطبيعية أو اهتزازات درجات السلم الأصلية منحطة إلى أسفل سلم الاهتزازات في الثانية، تتراوح الفروق بينها بين 2، 5 كما رأيت فيما تقدم. وهو أمر يدلك على أن الدرجات غير متساوية في الارتفاع والانخفاض وليست هي أنصافاً كما يزعمون. هذا السلم مدون في جميع كتب الطبيعيات لأنه هو بعينه في كتابين لمؤلفين أمريكيين مختلفين في الناحية. ولا أظن كتب الطبيعيات في أوربا تختلف عنهما من هذا القبيل
هذا السلم هو أوطأ سلم يمكن أن يسع. ولا أدري إن كان ذا وقع موسيقي في الأذن إذا عزف. ولكي نرى نصف الدرجة عدداً صحيحاً نزلنا إلى السلم الذي هو فوقه. . ومعلوم أن اهتزازات درجات السلم الأعلى مضاعف اهتزازات درجات السلم الأوطأ كما رأيت في الجدول هكذا ترى في البيانو مثلا ليس بين (مي) و (فا) إصبع أسود، وأما بين بقية الأصابع الأخرى البيضاء أصابع سوداء وهي ما يسمونه أنصاف درجات وما هي
أنصاف، كما ترى أن الفروق بين الدرجات الأصلية البيضاء ليست متساوية هي 6و4و8و8و10و6 في السلم كله، ولا أدري كيف يعتبرونها أنصافاً. على أن الذين يشدون أوتار البيانو أو يدوزنونها يعتمدون على السماع لأن أوتار أعصابهم السمعية تدو زنت على سلم البيانو أو السلم الإفرنجي
وكذلك الذين يدوزنون الآلات الوترية العربية، العود والكمنجة والقانون، يعتمدون على آذانهم كما يعتمدون عليها في العزف من غير اعتماد على علامات (نوتات)، وهي مهارة عجيبة مدهشة لأنهم يعزفون جميع الألحان من غير الاستعانة بنوتات. وجل ما يحتاجون إليه في ألد وزنة هو إما صفارة تصدر صوت نغم واحد يعتبرونه درجة (دو) ويجرون عليه في ضبط سائر الدرجات اعتماداً على آذانهم أو يعتمدون على أداة معدنية ذات شعبتين فينقرون الشعبتين فتصدران صوتاً يحسبونه درجة دو
وأما في ضبط أبعاد الدرجات بعضها عن بعض (وأعني ضبط اهتزازاتها) فقد اعتمد الموسيقيون العلماء على قياس الوتر المشدود بحسب طوله، فاعتبروا الوتر الذي طوله متر إذا عزف كان صوته دو. فإذا أمسك في وسطه تماماً كان صوت الذي يصدر من نصفه دو أخرى هي جواب لدو الأولى، ثم يقسم النصف إلى درجات حسب اصطلاحهم. وكان عند اليونان آلة لقياس الصوت تسمى مونو كورد أي ذات الوتر الواحد. ولا يخفى أن لمقدار الشد أن أحساباً لأن الوتر كلما اشتد ارتفع صوته، لذلك ترى أن السلالم غير متماثلة إلا في أن السلم الواحد هو قرار لما فوقه وجواب لما تحته على اعتبار أن اهتزازات الوتر في السلم الواحد مضاعف اهتزازات السلم الآخر أو أنصاف الاهتزازات التي فوق السلم الآخر كما تقدم البيان
ولاستخراج عدد الذبذبات أو الاهتزازات في كل درجة أو نصف درجة توجد آلة تسمى صونوميتر تسجل اهتزازات كل صوت. وقد استنبط الأستاذ وديع صبره (من بيروت) وكانت حرفته العزف على البيانو في باريس مدة طويلة صونوميترا يسجل به اهتزازات الأصوات الموسيقية في جميع درجاتها. وقد جاء به إلى مصر يوم كان المؤتمر الموسيقي منعقداً فيها. وكان غرضه أن يسجل به اهتزازات درجات السلالم العربية بجميع أنواعها وألحانها. ولا يخفى أن لكل لحن من الألحان العربية سلماً خاصاً، كالرست أو الحجاز كار
أو الصبا أو النهاوند إلى آخره كما سيأتي بيانه. ولا أدري إن كان الأستاذ صبره قد نجح في هذا المشروع.
للكلام صلة
نقولا الحداد
المجتمع التقدمي
للدكتور قسطنطين زريق
مدير الجامعة السورية وصاحب الوعي القومي
تتمة ما نشر في العدد الماضي
من هنا نشأ الخلل وعدم التوازن في كيان المدينة الحديثة: عدم التوازن بين الوسائل والغايات، بين التقدم العلمي والتقدم الأدبي، بين السلطة على البيئة والسلطة على النفس. هنا أصل العلل التي تعانيها هذه المدينة. هنا منشأ الأزمات الاقتصادية والهزات السياسية والمنازعات والحروب والأخطار التي تهدد عالمنا الحاضر بالهلاك والدمار
وهذا كله يظهر أنه لقدر التقدم الصحيح لا بد من مقياس آخر غير المقياسين اللذين ذكرناهما: مقياس أهم وأشد خطورة وأصعب من سابقيه تحديداً وتعييناً. هو المقياس الخلقي الأدبي: هو مقدرة المجتمع عامة، ومقدرة الأفراد الذين يؤلفونه، على التغلب على الهوى والطمع والاستئثار، هو احترامهم لكرامة الفرد وشخصية الإنسان
هذا التقدم الأدبي يظهر بمظاهر عدة: منها توفر الحرية السياسية والاجتماعية والفكرية وضمان العدل في القضاء وتساوي الناس في الفرص وما إلى ذلك من المبادئ التي جاهدت الشعوب بالثورات حينا وبالعمل المستمر حينا آخر لتحقيقها. وكل مرحلة من مراحل تطور البشرية تتميز بالجهاد في سبيل أحد هذه المبادئ. أما المبدأ الذي يشغل مرحلتنا الحاضرة ويملأ أجواء عالمنا دوياً فهو العدل الاقتصادي فالاجتماعي: أي حسن توزيع الوسائل التي يهيئها لنا استثمار الطبيعة. لم تعد مشكلة البشرية عامة مشكلة الاستثمار بل مشكلة التوزيع. ولذا أصبح هذا المقياس الأدبي الذي نتحدث عنه أهم من حيث بقاء البشرية وتقدمها من المقياس الأول الذي بدأنا به
هذا العدل الاقتصادي والاجتماعي أصبح، من حيث المبدأ، أمراً مثبتاً، وإن اختلفت الشعوب في مقدار العزم على تحقيقه وفي اختيار الطريق المؤدية إليه. ولذلك غدا مفروضا علينا، في تقديرنا تقدم مجتمع ما، أن ننظر في الوسائل، وبالتالي في الفرص المؤدية إلى تقدمهم المادي والعقلي والروحي. ولكن هذا المقياس على أهميته، لا يصلح أن يؤخذ وحده؛
بل يجب أن يضم إليه مقدار الحرية السياسية والفكرية التي يتمتع بها الفرد في المجتمع. والصراع القائم بين قوتي العالم الجبارتين اليوم إنما هو صراع بين أولوية هذين المبدأين: الحرية الفردية والعدل الاجتماعي. وبقاء المدينة الحديثة وازدهارها منوطان بمقدرتهما على التوفيق بينهما والمحافظة على القيم التي ينطوي عليها كل منهما
ولعلنا نستطيع أن نجعلهما وسواهما من المقاييس الأدبية في مقياس واحد شامل هو: مبلغ احترام الشخصية الإنسانية، أي الإقرار بأن لكل مواطن وكل إنسان شخصية لها حرمتها وكرامتها، وأن أي افتئات على هذه الشخصية يحرمانها من حق سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي هو إهانة لها ووصمة في جبين المجتمع
نستطيع هنا أن نفصل هذا المبدأ الأساسي فنتكلم عن مختلف الوجوه التي يتمثل بها. نتكلم عن حرية الفرد السياسية والاجتماعية والفكرية وعن استقلال القضاء وضمان العدل للجميع. نتكلم عن الفلاح وتحريره من نير العشائرية والإقطاعية، وعن العامل وضمانه من مساوئ الرأسمالية. يمكننا أن نوضح القضية النسائية ونبين العوائق التي يجب إزالتها من طريق المرأة والفرص التي يجب أن تفسح أمامها لتلعب دورها الخطير في حياة المجتمع. بوسعنا أن نلح على أهمية التعليم وضرورة نشره وعلى حماية الصحة العامة وتوفير الإمكانيات المادية والاجتماعية للمواطنين على السواء. كل قضية من هذه القضايا وأمثالها وجه من وجوه النهضة والتقدم، وهي إذا تحققت بمجموعها كونت المجتمع التقدمي المنشود، ولكنها كلها تنشأ من أصل واحد، إن لم يتكون ويثبت ويتم، كان الجهاد في سبيلها جهاداً متفرقاً متلاطماً. هذا الأصل هو احترام كرامة المواطن والإنسان وقدسية كيانه، والعزم الوطيد على محاربة كل تعد على هذه الكرامة أو أي ظلم لها، سياسياً كان أم اقتصادياً أم اجتماعياً أم فكرياً، من خارج المجتمع أو من داخله
إن المجتمع التقدمي مجتمع منسجم يتسامى فيه المواطنون في الفرص ولا يستأثر فيه فرد أو فريق بحكم ولادة أو إرث أو جنس أو أي فارق عرضي آخر لأنهم كلهم متساوون في الجوهر: في مواطنهم وفي إنسانيتهم
إلى أي حد تنشر هذه الفكرة في مجتمع ما؟ إلى أي عمق تنزل في نفوس أفراده؟ إلى أي مدى يسعون لتحقيقها عن طريق التعليم أو الجهد السياسي أو النشاط الاجتماعي أو العمل
الثوري؟ إلى أي حد يعتبر المواطن أو الإنسان وسيلة الاستثمار، أو، بالعكس، غاية في ذاته وشخصية تفرض الاحترام وتستوجب التنمية والإغناء. هذا هو جوهر المقياس الأدبي، المقياس الأعم، خاصة في هذه المرحلة الحاضرة من تطور الإنسانية، نظرا للتقدم الذي حصل في ميدان الاستثمار وفي الميدان العلمي والذي يكاد ينقلب تأخراً، بل انحلالاً ودماراً، نظراً للتأخر الواقع في المضمار الأخير
إن هذا العنصر الأخير - العنصر الأدبي - يختلف عن العنصرين السابقين في أن تقدمه ليس حتمياً كما هو الحال فيهما، فقد تحدث نكسات في حياة الشعوب يخف فيها احترام الشخصية الإنسانية والإرادة لتوفير نموها وازدهارها. ولذا تحتاج هذه الشعوب إلى الالتفات إلى تاريخها لتتحسس مجدداً تلك الهزات النفسية التي سمت بها فجعلتها تعي هذه المبادئ وتجاهد في سبيلها. تلك الأدوار في حياتها التي كانت فيها حقاً تقدمية
وهنا تتجلى أمامنا مسألة طالما شغلت المفكرين والعاملين منا، وهي العلاقة بين النظرة التقدمية وبين التمسك بالكيان التاريخي والميراث القومي. والواقع أنه ليس ثمة تناقض أساسي بين الأمرين إذا ضبطا وفهما فهماً صحيحاً وكانت عند المختلفين حولهما الإرادة المكينة لرؤية الحق والسير على هداه، فالكيان التاريخي والإيجابي والميراث القومي الباقي هما نتيجة لنظرة كانت عند الأسلاف تقدمية. لقد كان العرب في إبان نهضتهم تقدميين، جابوا الآفاق البعيدة، وساروا إلى غاياتهم بلا خوف ولا وجل: اقتحموا البلاد فاتحين وتجاراً ورواداً ومصلحين، نظرهم ممدود أبداً إلى الأمام، فبنوا دولة شاسعة الأطراف وأنشئوا حكماً خلده التاريخ. وعندما اتصلوا بالمدنيات الأخرى وتفتحت لهم من خلالها آفاق واسعة لم يتأخروا عن ارتيادها؛ فأنتجوا في ميادين العلم والفلسفة آثاراً ليس هنا مجال تبيان ضخامتها وجلالها. وأهم من هذا وذاك وأبقى ارتيادهم للآفاق الروحية، وتطلعهم إلى القيم الخلقية والأدبية، وأثر هذا كله في حياتهم العلمية وإنتاجهم الحضاري؛ هذا الاقتحام للميادين الطبيعية والعقلية والروحية هو باعث إبداعهم ومصدر عزهم ومجدهم. فلما خبت جذوتهم ضاقت آفاقهم وتخلفوا في ميادين الإنتاج فغلبوا على أمرهم. أما تراثهم الباقي فهو نتيجة تلك الروح التقدمية التي ذكرنا. وإذا ما عدنا اليوم إليه فلنقتبس تلك الروح، فنبد كما أبدعوا، ونخلف لأنفسنا ذكراً كما خلفوا
هذا النوع من الاستحياء التاريخي لا يتعارض والنظرة التقدمية الحاضرة خصوصاً إذا حققت هذه النظرة الشرط المتعلق بها، وهو أن نفهم التقدم بمعناه الواسع الشامل فلا تقف عند عناصره المادية والعلمية فحسب، بل نتناول أيضاً العناصر الأدبية والروحية، تلك العناصر التي قلنا إنها أساسية في تقدير التقدم الصحيح والتي كثيراً ما تهملها أو تقلل من أهميتها التقدمية الحديثة
ينتج من هذا أن المجتمع لتقدمي بالمعنى الشامل الصحيح لهذه الكلمة لا يحتاج لأن يقطع صلته بتراثه الباقي ما دام هذا التراث هو نفسه نتيجة لنظرة تقدمية وجهد تقدمي. بل بالعكس إن التقدمية الصحيحة والتاريخية الصحيحة نظرتان وسبيلان تتم الواحدة منهما الأخرى وتسندها وتقويها، وإنما الخلاف والتناقض بين التاريخية المتمسكة بما لم يكن في جوهره تقدمياً، والتقدمية الثائرة على الماضي بكامله المستخفة بالقيم الأدبية. وفي كليهما خلل وفساد. ولذا كان لا بد من أن يتنافراً ويتنازعاً. أما الحق فمن طبيعته أن يتصل بالحق ويبتهج بلقياه والانصهار فيه
ذكرت ثلاثة مقاييس رئيسية لتقدير تقدم مجتمع ما: سلطة المجتمع على الطبيعة، شيوع الروح العلمية، احترام الشخصية الإنسانية. هذه المقاييس قد تبدو في ظاهرها عامة بسيطة لكنها، فيما أرى، المقاييس الأصلية التي يفرع عنها كل مقياس آخر. ولا تخفنا بساطتها فالحق في جوهره في غاية البساطة
هذه المقاييس الثلاثة تحدد في النهاية في مقياس واحد شامل هو: الحرية. فاستثمار الطبيعة مؤداه تحرير المجتمع من سلطة المحيط الخارجي وبالتالي من الفقر والمرض. والتقدم العلمي جوهره تحرير المجتمع من الوهم والجهل. والتقدم الأدبي لا يتم إلا بالتحرير من الخوف والذل عند بعض طبقات المجتمع ومن الهوى والطمع عند الطبقات الأخرى. ولذا فالمقياس الشامل لتقدم مجتمع ما هو مقدار ما يوفر لأفراده من حرية: حرية من المحيط الطبيعي ومن المحيط البشري: الخارجي والداخلي. ومن الأمراض الداخلية: الوهم والجهل والهوى. والتقدم إنما يكون صحيحاً إذا تناول هذه الوجوه كلها لأن أي خلل أو أي فقدان للتوازن بينهما مدعاة للاضطراب ومجبلة للتدهور كما هو حال عالمنا اليوم
على أن الحرية لا تكون حقيقة ولا تؤدي مفهومها ما لم يصحبها عنصر متمم لها هو:
الانتظام. فالجهد العلمي، سواء أكان علمياً تطبيقياً كاستثمار للطبيعة أو نظرياً مجرداً كاكتشاف للحقيقة، هو في الواقع انتظامي. ذلك أن العلم، كما ذكرنا، بناء متماسك في نتائجه وأسلوبه. وكذلك التقدم الأدبي: أنه يصدر عن انتظام النفس بضبط الأهواء والشهوات
ولما كان هذان المعنيان المتكاملان: الحرية والانتظام - شأن كل صفة عقلية أو نفسية - لا يقومان إلا في شخصية إنسانية فإن المقياس الأخير للمجتمع التقدمي هو مقدار ما يتوفر فيه من شخصيات حرة منتظمة، شخصيات قد تحررت من محيطها ومن نفسها وانتظمت قواها ومواهبها فكان في انتظامها هذا كمال حريتها
لقد وردنا في حديثنا لفظتي: التقدم، والتقدمية. ولعلنا لم نميزهما تمييزاً كافياً. فالتقدم شيء وموضوعي يقاس بالمقاييس العامة التي ذكرناها؛ وبمقاييس أخرى تفصيلية متفرعة عنها. التي تتضمنها هذه المقاييس. وهي تنطوي على عناصر الرغبة والعزم والإرادة. فإذا لخصنا مقاييس التقدم بما يتحلى به المجتمع عن طريق الشخصيات المكونة فيه، من تحرر وانتظام، أمكننا أن نقدر التقدمية فيه بمبلغ ما له من تحفز وعزم وإرادة لاكتساب هذه القيم وإنمائها. هذا التطلع والتحفز، هذا العزم والتصميم، هذه الإرادة الدافعة، هذه الهيئة النفسية المتجهة نحو القيم الإنسانية العليا التي يلخصها التحرر والانتظام: هذه هي جوهر التقدمية المنشودة
أرجو أن لا يفهم من قولي هذا أن التقدمية صفة زائدة على التحرر والانتظام وإنما هي نتيجة ملازمة لهما. فالشخصية التي حققت هذين المعنيين المتكاملين هي شخصية تقدمية حتماً. وكذلك المجتمع: إذ أن صفته - كما قلنا - هي خلاصة صفة الأفراد الذين يتألف منهم. وبعبارة أخرى أن هذه المعاني الثلاثة - في الأفراد والمجتمعات - هي واحدة في جوهرها. فالتحرر إذ تحقق فعلا كان هو نفسه انتظاماً فتقدمية
ويستنتج من هذا أن الشخصيات الحرة المنتظمة ليست هي نتيجة للتقدم ومقياساً له فحسب بل هي - بمعنى أهم - العامل المؤدي إليه. ولا شك في أنه من الصعب عند تشابك العناصر الاجتماعية وتفاعلها فيما بينها فصل النتائج عن الأسباب فصلاً تاماً حاسماً. فكأي من نتيجة كانت بذاتها أيضاً سبباً لسواها بحيث يعسر تحيد أية من هاتين الصفتين تغلب
عليها. وهذا هو أصل الخلاف الذي ما زال قائماً بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع ومعللي التاريخ، والذي نجد صداه الصاخب عندنا في نظريات الباحثين وجهود العاملين
ولما كان لا بد لكل باحث في هذا الموضوع من أن يبدي رأيه الصريح في هذه القضية الأساسية، لأن منه تتفرع آراؤه في القضايا الاجتماعية عامة، فموقفي الخاص هو أن العوامل الشخصية الإنسانية هي العوامل الأصلية وما سواها هو إما عامل مساعد لها أو نتيجة عنها. لقد تكلمنا مثلا عن الآلة كسبب من أسباب التقدم لفعلها في استغلال الطبيعة وضبط العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. ولكن الآلة هي نتيجة عمل العقل المتحرر المنتظم. نعم إنها تساعد في إزالة الموانع وتحطيم الحواجز القائمة في وجه تحرر العقل فهي من هذا القبيل عامل مساعد. ولكن العامل الأصيل هو العقل الإنساني ذاته بل الشخصية الإنسانية المكتملة بتحررها فانتظامها فتقدميتها
وفي نظري أن ما يحرزه العربي من تقدم متوقف - في الدرجة الأولى - على ما ينشأ ويعمل فيه من شخصيات متحررة منتظمة تقدمية في ذاتها. ولا عجب في هذا! ففاقد الشيء لا يعطيه. عبثاً ننتظر إشاعة الحرية ممن لم يتحرر في ذاته أولا. عبثاً نتطلع إلى من لم ينتظم عقله وتنسجم قوى نفسه لأن يكون باعث انسجام وانتظام في المجتمع. عبثاً نرجو ممن يخشى المغامرة واقتحام آفاق العمل والعقل والروح أن يدفع بمجتمعه إلى الأمام
ولذا كان أخطر واجب علينا وأجسم عبء ملقى على عاتقنا تكوين هذه الشخصيات التي تصبح في المجتمع مبعث قوة وحياة واندفاع. ولا نكران أن للقوة والحياة والاندفاع مصادرها الأخرى، ولكن هنا - في الشخصيات الحية الفاعلة، المتحررة المحررة، المنتظمة الناظمة - المصدر الأول والمبعث الرئيسي
وفي الواقع أن هذا الاعتقاد هو أساس إيماننا بأولية التعليم والجامعي منه بصفة خاصة؛ فإنما بذلك ننشد مداواة العلة في جذورها وتهيئة العامل الرئيسي للانبعاث والتقدم. وعلى هذا الشكل يجب أن تفهم مهمة الجامعة الأصلية. إن للجامعة مهمات عدة على درجات متصاعدة من الخطورة والجلال. عليها تدريب شباب الأمة وإعدادهم للمهن الحرة. وليس من يستخف بهذه المهمة خصوصاً في مجتمع كمجتمعنا يحتاج إلى إنشاء شامل وإلى عاملين أكفاء في شتى نواحي الإنتاج: في استثمار الطبيعة، في ضمان الصحة، في نشر
التعليم. وقد بينا أثر هذه الأعمال كلها في تقدم المجتمع والضرورة الملحة لتدعيم تعليمنا الفتي وتوسيعه. وللجامعة فوق هذا مهمة المحافظة على التراث العلمي الإيجابي ودرسه بالبحث والتحري ونقله إلى الأجيال الصاعدة. وبهذا أيضاً تساهم في التقدم كحامية للعلم وخادمة للعقل. لكن مهمتها الكبرى، مهمتها الأصيلة، هي تكوين الشخصيات التي وصفنا؛ تلك الشخصيات التي يؤمن بها الجامعي بأنها العامل الأهم في التقدم والارتقاء
هذا كان لب الجامعات في التاريخ وهذا فعلها في نهضت الأمم؛ فإليه يجب أن نوجه جهودنا في جامعاتنا الوطنية
عن هذا السبيل - وعنه وحده - تبرر الجامعة وجودها في الوطن. عن هذا السبيل تساهم مساهمة أصيلة في تكوين المجتمع العربي المستثمر إمكانياته، القابض على جوهر العلم المتعلق بالقيم الأدبية والروحية، الصائن كرامة الوطن والإنسان، المجتمع العربي المتحرر، المنتظم، المجتمع العربي التقدمي الجامع بتقدميته هذه المعاني كلها.
قسطنطين زريق
نظرات خاطفة
من الشعر السوداني الحديث
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
أكثر الأدباء اليوم المتأدبين والمتذوقين للأدب بصورة عامة منغمرون في السياسة، وتتبع الحوادث الدولية، وما يجري خلف كواليس الأمم الكبرى التي تريد أن تقرر مصير الشعوب والإنسانية بالحق والباطل، لذلك فهم بعيدون عن تتبع النشاط الفكري والحركات الأدبية في البلدان العربية والشرقية بصورة خاصة. ولعل لهم العذر، وقد يكون العذر واضحاً لعدم اطلاعهم على الصحف الأدبية التي تمثل النتاج الأدبي في تلك الأقطار من جهة؛ وانغماسهم في المادة وتفضيلهم صرف المال في سبيل البطن والكماليات من جهة أخرى. كأنما الكتابة ضرب من الجنون لا يجب على المتمدين مزاولته، فلهذه الأسباب أقول إن أكثر الأدباء والمتأدبين - إن لم أقل كلهم - لا يعرفون عن الأدب السوداني الحديث - وخصوصاً الشعر منه - شيئاً، كما أنهم لا يدرون من هم أبطال النهضة الشعرية وروادها في هذا العصر - وعلى سبيل المثال أقول إن الكثرة الغالبة من أدباء العراق لم يسمعوا بشاعر الشباب السوداني التيجاني رحمه الله وهم حتى الآن لم يعرفوا أن له ديوانا موسوماً بـ (إشراقة) طبع مرتين فكيف بالأحياء - لهذا ولما كنت من المتتبعين للنهضات الفكرية الحديثة في البلدان العربية وخصوصاً السودان المصري ولي مع أدبائهم وشعرائهم صلات أخوة كريمة وثيقة - أرجو أن لا تفصم عراها الأيام - أحببت أن أقدم في هذه العجالة الخاطفة نماذج من الشعر السوداني الحديث على أن أتبع هذه المقدمة بأحاديث أخرى في المستقبل القريب إن شاء الله. وعليه توكلنا ومنه القوة والعزم
وأولى هذه النماذج هي لزعيم الشعر الإيداعي المرحوم التيجاني يوسف بشير
ولد شاعرنا في أم دومان سنة 1912م وهو أحمد التيجاني ابن يوسف بن بشير بن محمد بن الإمام جزري الكتيابي والكتياب بيت مشهور من بيوت السودان ممتاز بين قبائل الجعليين الذين عرفوا بالإقدام والسماحة، ولقب بالتيجاني تيمنا بالطريقة المعروفة، دفع وهو صغير إلى خلوة عمه الشيخ محمد القاضي الكتيابي فحفظ القرآن ومشى بعد ذلك في طريقه المرسوم إلى المعهد العلمي في أم درمان حتى تخرج منه ثم اتصل بالصحافة بعد
استيعاب كثير من كتب الأدب القديم وكتب الصوفية والفلسفة؛ فشغلته هذه الدراسات عن نفسه حتى دب إليه الوهن فتوفى سنة 1937م. هذا هو مختصر حياة التيجاني، ولكن الذي يقرأ شعره يدرك أن السنوات القصيرة التي عاشها الشعار ما ذهبت عبثاً - وإن كانت عمر الورد - لأنها تركت لنا أنغاماً عذبة يظل صداها يرن في سمع الكون مدى الزمان وإليكم اللحن الأول
النائم المسحور
أيها النائم في مهد أغاني ولحني
…
هكذا يدفق يا ناعس في حسنك حسني
هكذا ينفذ سلطاني ويستهويك حزني
…
هكذا يهبط في عينيك ما تدفع عيني
أنت يا واهب ألحاني ويا ملهم فني
…
أنت فجرت لي اللحن ففيأنك أمني
إنما أصنع من كرمك صهبائي ودنى
…
إنما أسحر عينيك بما تسحر م
يا أماني التي أعبدها من كل لون
…
وأغاني التي ألهمها ملهم جن
والتي ذوبها الشاعر في الصوت الأغن
…
كلما طار بها العود وقرأها المغني
خفقت ذات جناحين: مدو ومرن
…
عبرت كل فؤاد وتغشت كل أذن
هكذا يدفق يا ناعس في حسنك حسني
…
وكذا ينفذ سلطاني ويستهويك حزني
ومن هنا يدرك القارئ الكريم أن الناحية الغنائية هي التي تطفي على شعره وهي التي تقتصر على التغني بالحوالج النفسية والاحساسات الروحية الذاتية، وهو شعر جميل في حد ذاته وأكثره خالد؛ لأن النفس تميل إلى الإشادة بمن يشرح آلامها ويعبر عن انفعالاتها كما يقول الدكتور إبراهيم في خطبته التي لقاها في تأبينه، ولا نريد أن ندع التيجاني دون أن نقدم له قطعة موسيقية أخرى من شعره الغنائي الذي أعده من أخلد الشعر وإن اختلفنا أنا والأستاذ عباس خضر في هذا العدد. ولنسمعه في قصيدته المنشودة ص (20) من الديوان تحت عنوان:
جمال وقلوب. . .
وعبدناك يا جمال وضفنا
…
لك أنفاسنا هياما وحبا
ووهبنا الحياة وفجر
…
نا ينابيعها لعينك قربى
وسمونا بكل ما فيك من ضعف جميل استفاض وأربى
وحبوناك ما يزيدك بالغز
…
وضوحا وأنت تفتأ صعبا
وذهبنا بما يفسر معنا
…
ك، بعيدا وأنت أكثر قربا
من ترى وزع المفاتن يا حسن ومن ذا أوحى لنا نحبا؟
من ترى علم القلوب هوى الحسن، وقال عبدي من السحر ربا؟
من ترى ألهم الجمال وقد أعطاه من جبرة الحوادث عضبا؟
أن يبث الهوى مفاتن في جفن بليغ، وأن يجود ويأبى؟
من ترى وثق العرى بين مسحورين، أسماها جمالا، وقلبا؟
إنه صانع القلوب التي تنصب
…
في قالب المحاسن صبا
يا جمال الحياة في حيثما كا
…
ن أمانا، وحيثما كان رعبا
وجمال الحياة في كل من أعمل
…
شرقا وكل من سار غربا
أقس يا حسن ما تريد وتبغي
…
أو فكن هينا على النفس رطبا
أنا وحدي دنيا هوى لك فيها
…
كل كنز من المشاعر قربى
أي والله هذا هو السحر الحلال الذي يجري في لفظ موسيقي ولكنه عربي أصيل لا حوشي فيه ولا غريب، ورحم الله التيجاني بعد هذا حيث يهتف بلوعة المرحوم وهو يناجي حبيبه البعيد من قصيدته المنشورة في (ص 89) والمرسومة بـ
نعيم الحب. . .
إن لي من وراء عينيك هات
…
ين مصلى وفيهما لي مخدع
فيهما لوعة القلوب ونعيما
…
ها، وكم فيهما حديث موقع
ككم بجنبي من مفاتن ما تخفض عيناك من جلال وترفع
نفس هائم يصعده الحب
…
نديا كأنما هو مدمع
مر بي عابرا فأوردته نفسا أصابت من سحر عينيك مشرع
فيه من لوعتي أحاديث يغلي
…
في حواشيهما فؤاد مفزع
كل ركب منها رسول القلب المعنى إلى الملاك الممنع
أيهذا الحبيب ما بي إلا أن دنياي من نعيمك بلقع
أنا أشقى بالحب من حيث ما ينعم قلب وكم ألذ وأمتع
والهوى نعمة الزمان، ونعمى الخلد أسمي من الحياة ولمرفع
الجمال الذي استفاد به الله وجودا صعب المقادة أروع
وإلى هذا نودع التيجاني شاعر الشباب لنقدم لكم شاعراً آخر وهو معروف لدى القراء؛ فقد سبق أن طالعوا شعره في مجلتي الرسالة والثقافة الزاهرتين وصحف السودان وخصوصاً (الصراحة) و (التلغراف) وغيرها من أمهات صحف الخرطوم وهو صديقنا الشاعر المبدع الشاب جعفر حامد البشير الذي نترك ترجمة حياته الآن إلى مقال مفصل عنه، ولكن حسبنا أن نورد عنه هذه النبذة التي كتبها عنه الدكتور محمد النويهي أستاذ الأدب الهربي بكلية الخرطوم الجامعية. . والتي نشرتها جريدة (الصراحة) الغراء وها هي:
(أكون لكم جد شاكر إذا تكرمتم بإبلاغ شكري الجزيل وامتناني الصادق للشاعر الموهوب الأستاذ جعفر حامد البشير لقصيدته الفائقة في تحية النهضة النسائية. وأود لأن أنتهز هذه الفرصة لأعبر عن إعجابي المخلص بكل ما قرأت له من شعر، ولست أغالي إذا قلت أنه بين جميع الشعراء والسودانيين منذ التيجاني أحسنهم جميعاً بين سلاسة التنغيم وصحة الأسلوب؛ وبين صدق العاطفة وإخلاص المشاركة للروح السودانية. .) للشاعر البشير قصائد ممتازة مبثوثة في خفايا الصحف والمجلات، وها نحن نورد للقراء المثال الأول منها وهي قطعة بعنوان (نفديك) قال
يا مشرقا وضياء الشمس يغمره
…
لا زلت تمرح إشراقاً بإشراق
لفديك كيف تبيت الروح ظامئة
…
والنبع عندك نبع الحسن يا ساقي
بل في جمالك أنهار مطهرة
…
من كل عذب إلى الشطان دفاق
يا فاتني إن قلبي قد ظفرت به
…
أضحى خلايا صبابات وأشواق
قد لا مني فيك أقوام وما علموا
…
أني المدل بآدابي وأخلاقي
نزهت نفسي عن الفحشاء في زمن
…
أهلوه معشر مجان وفساق
قالوا، وأرجف أقوام وما علموا
…
أن العفاف دماء ملء أعراقي
يا سامح الله منهم، رغم ما اقترفوا
…
إني عليهم لذو عطف وإشفاق
ويبدو البشير في قطعته هذه شاعراً متزهداً غارقاً في حلمه عابئاً على وشاته أراجيفهم،
ورغم ذلك فهو سموح عطوف، وأظنه في شعره هذا متأثر بكتب الصوفية وطرائق شيوخها. على أن ذلك كله لم يؤثر على عاطفته فشعره سهل رقيق، وعاطفي عذب، وجرسه حلو فاتن، وللدلالة أكثر على هذه الناحية منه نسوق للقراء هذه الأبيات أيضاً من قصيدته (هوى يتجدد) قال:
وهوى أراه على المدى يتجدد
…
ما زال يهبط في الفؤاد ويصعد
هو في الصباحات الرطاب نسائم
…
نشوانة - ملء الفضاء - تعربد
ولدى الحوالك في العشايا شعلة
…
ما أن تزال مشعة تتوقد
محراب قلبي. . كلما عاودته
…
ألفيت فيه أخا هوى يتعبد
أنا للصبابة والغرام فإن أمت
…
فأنا الشهيد بحبه المتعبد
ألم أقل لكم إن أخانا البشير شاعر صوفي؟ وهل أدل على صوفيته ورهبنته (فأنا الشهيد لأنني متعبد في محراب الحب والجمال)
قدست سرك يا جمال وأذعنت
…
روحي وقلبي للمفاتن يسجد
يا حسن، يا نهر الحياة ونبعها
…
قلبي - فديتك - في الهواجر فدفد
أظمأته دهراً فهل من رشفة
…
تشفي لواعج أقسمت لا تبرد
أو قوله من قصيدة بعنوان (جمالك). .
جمالك لا غاضت ينابيع سحره
…
سيبقى لصنع الله أروع شاهد
أرى، ما أرى؟ دراً نضيداً، وبسمة
…
لها مثل إشعاع النجوم الفراقد
وهذا الجبين الحلو زان صفاءه
…
وميض بهيج الضوء جم التطارد
فأنت الذي فتحت قلبي للهوى
…
وألهت وجداني، فلست بجاحد
وأنت الذي وجهت للحسن خاطري
…
وشعري، عمداً منك أو غير عامد
الآهات جدد من حياتي فإنني
…
لأنكر من آثارها كل بائد
أعود إليك اليوم ولهان مدنفا
…
فهل أنت من فعل الصبابات عائدي
أفكر فيك الليل والصبح هائما
…
فألقاك والتفكير بعد معاودي
وما تمحى من خاطري لك صورة
…
هي النبع في جدبي ودنيا فدافدي
ولا أحب أن أنتقل بالقراء إلى شاعر آخر دون أن أشير إلى الميزة الفذة التي يتمتع بها
البشير والتي تكاد تطغى على شعره؛ هي هذه الموسيقى اللفظية الحلوة التي يزاوج بها معانيه وأخيلته
أما الشاعر الثالث فهو من الذين يتصفون بالرقة والنزوع إلى التجديد برغم كونه غير معروف للقراء، لأنه لا يميل لإذاعة شعره على الناس ولا نشره في الصحف. وكان هذا الصديق قد أرسل إلى مجموعة من شعره لأرى رأيي فيها فطالعتها بإمعان فوجدت فيها روحاً سامياً وشاعرية فذة لو تعهدها صاحبها بالصقل والمران لخلقت منه وتراً جديداً من أوتار الشعر في السودان؛ وهذا الشاعر هو الأستاذ جعفر عثمان موسى، وهذه أنغامه، قال من قصيدة له بعنوان (حياة خاوية) وسيرى القراء فيها مدى الحيرة التي تلازم الشاعر والألم الذي يعصف بحياته؛ قال
أطل على عالم بارد
…
كأني أطل بوادي العدم
ظلام ويأس وصمت كئيب
…
وكأس بها من عصير الألم
وفي كل ركن هموم ثقال
…
وثغر بعض بنان الندم
وقلب تحطمه لوعة
…
وخد خصيب بدمع ودم
فلا القلب نشوان من فرحة
…
ولا الروح سابحة في القمم
وفي النفس طاف الأسى والبكا
…
وسار المشيب ودب الهرم
فنفسي مبعثرة حيرة
…
وغارقة في بحار السأم
ظلام بعيني ونفسي مشى
…
وهم ثقيل بصدري جثم
ولي مظهر كلما داعيته
…
يدي بث حولي فحيح السقم
كأني بصومعتي راهب
…
أكب على ربه يستلم
ونام وأصبح صبح وقد
…
تهدم معبده والصنم
حنانك ربي سئمت الحياة
…
وضقت بنقلي علها القدم
وهاك نغمة أخرى، نغمة جديدة ثائرة متمردة على كل شيء حتى على الشاعر نفسه، ولنتركه يصف الحياة التي يتطلبها في قصيدته (القمم)
هناك في القمة العالية
…
فضاء وحرية النجاح
ترامى الضياء على الرابيه
…
وتزأر كالوحش هوج الرياح
هناك لا الشمس مسودة
…
ولا البدر مستتر بالسحاب
ولا الأنجم الزهر مربدة
…
ولا الفجر يغفو وراء الضباب
هناك السباسب مخضرة
…
وسفح الربى ورؤوس الهضاب
فالشاة من عيشها غدوة
…
وللظبي حظ كما للذئاب
أيا كتلا كقطيع الشياه
…
تساق إلى الموت بين الحديد
آلام تسيرون عمياً حفاه
…
وتحيون كرها حياة العبيد
إلى القمة الحرة الساحرة
…
إلى حيث شيدت قبور الجدود
إلى الشعلة الحية الباهرة
…
إلى العيش تحت ظلال الخلود
ألم تسأموا من رقاد الثرى
…
وإطباق هذا الظلام البغيض
ألا تبدءون صعود الذرى
…
وتنضون عنكم هوان الحضيض
ألم تسأم العنق أغلالها
…
ألم يسأم الجسم لذع السياط
أما مجت الظهر أحمالها
…
أما ملت الأنف مس البساط
لقد آن أن تبعثوا من جديد
…
وأن لنور الحياة الشروق
وآن لعهد طغى أن يبيد
…
وأن تبدؤوا في اقتحام الطريق
وأخيراً ماذا أذكر بعدما قدمت للقراء هذه النماذج من الشعر السوداني الحديث. . أقول أنا عائب على أدباء السودان وشعراءه لأنني رغم مرور أكثر من ستة أشهر على الدعوة التي وجهتها لهم على صفحات جرائدهم في الخرطوم بواسطة زميلنا الأستاذ جعفر حامد البشير لم يردني منهم شيء أستطيع أن أصنع منه دراسة أدبية مفصلة ودسمة لنشرها على الناس، فهل أنا الملوم أم هم؟ وهل بعد كل هذا يحق لجريدة (النيل) أن تنعتنا بالخمول وعدم الكتابة عن الأدب السوداني؟ إن هذا العتاب نفسه أوجهه لأدباء السودان وشعرائهم وأساتذة كلياتهم ومدارسهم العالية، راجين منهم إرسال نماذج من أدبهم وشعرهم للاطلاع قبل أن تذهب صحفهم فتتهم البلاد العربية وخصوصا العراق بعدم التنويه بأدب السودان الحديث. أما الصحافة السودانية فمع الأسف أننا لا نعرف عنها شيئا البتة ما يرسله لنا بعض الإخوان عن طريق المراسلة، وليت الصحافة السودانية تتكرم فتزودنا بنسخ من صحفها. . هذا ولنا عودة للموضوع قريباً وكل آت قريب إن شاء الله.
بغداد - أمانة العاصمة
عبد القادر رشيد الناصري
محمد إقبال
شاعر باكستان الأكبر
للأستاذ صلاح الدين خورشيد
يحتفل أهل باكستان في اليوم الحادي والعشرين من شهر أبريل كل عام بذكرى إقبال، الشاعر الفذ والفيلسوف الحكيم والزعيم المدره والسياسي النابغة، الذي يرجع إليه عظيم الفضل في إيقاظ وعي المسلمين في شبه جزيرة الهند، وشحذ قواهم وجمع كلمتهم، ثم وقوفهم كالبنيان المرصوص، هبوا للمطالبة بحقوقهم وضمان مصالحهم
فالواقع أن إقبالاً كان من أعظم رواد فكرة الباكستان، ومن أكبر العاملين على تحقيقها، غذ رأى - وهو ذو الرأي الصائب - أن المسلمين في شبه جزيرة الهند ليسوا بمجرد الفئة أو الطائفة، وإنما هم قوم لهم جميع ما للأقوام الأخرى من مقومات وخصائص، فلهم أسلوب للحياة يختلف عن نهج الطوائف الأخرى، لهم دينهم ولهم لغتهم ولهم تاريخهم ولهم أبطالهم. ولذلك رأى أن الحل الوحيد لمشاكل الهند الدستورية - كانت هذه المشاكل يكاد يستعصي حلها - هو أن يستقل المسلمون الأقسام التي يؤلفون فيها أغلبية السكان، يحكمون أنفسهم بأنفسهم ويسيرون سيرتهم التي يؤثرون
قال في خطاب سياسي ألقاه سنة ألف وتسعمائة وثلاثين في اجتماع حزب العصبة المسلمة ما معناه:
(أود أن أرى البنجاب وإقليم الحدود الشمالية الغربية والسند وبلوخستان دولة مستقلة قائمة بذاتها)، وفسر قوله هذا بأن:
(ليس من حل يؤدي إلى تكوين نظام دستوري مكين في الهند - حيث يتباين المناخ وتختلف العناصر وتتنوع اللغات وتتباين نظم الحياة - إلا في إقامة حكومات مستقلة تجمع بين سكانها وحدة اللغة والعنصر والتاريخ والدين وتقارب المصالح) ثم أوصى المسلمين في نفس الخطاب قائلاً:
(إنني لا أنصح المسلمين قط بقبول أي نظام لا يقر لهم بكيانهم السياسي المستقل)
لم يكن محمد إقبال رحمه الله لينطق عن الهوى عندما نصح بهذا لبني قومه، وإنما كان يعرب إعراباً صادقاً عما كان يخالج مشاعره - وهو الشاعر الفذ - من انفعالات
ومؤثرات تلازم حياته وحياة المسلمين من حوله.
فلقد ولد محمد إقبال شاعراً، مرهف الحس حديد المشاعر بعيد البصائر، وكان أبوه يتعهد تعليمه أيام صباه ويوصيه بتلاوة القرآن الكريم والتأمل في معانيه، فكان يطلب إليه أن يسترسل في تلاوة القرآن الكريم بعد الفجر كل يوم، وكان كلما رآه بعد الفجر سأله عما يصنع فيجيب إقبال بأنه يتلو القرآن، ولما ألحف الأب بأسئلته وألح كل يوم قال الابن:(يا أبت إنك تراني أتلو القرآن الكريم. . . فلم تعيد هذا السؤال عليَ وأنت عليم بما أصنع) فقال الأب: (بلى! ولكنني يا بني أردت أن أقول لك: أتل القرآن وكأنه أنزل عليك)
كان إقبال يروي هذا الحوار ويقول: (ومنذ ذلك اليوم بدأت أتفهم القرآن وأتفقه معانيه، فاقتبست من قبسه واستنرت بنوره)
بدأ محمد إقبال تعلمه بالقرآن الكريم شأن أكثر المسلمين، ثم تقلب في الدرس والمدارس حتى نال شهادته العالية من كلية الحكومة بمدينة لاهور، وفي سنة ألف وتسعمائة وخمس قصد إنكلترا لإتمام التحصيل العالي بها، ومنها سافر إلى ميونيخ حيث التحق بإحدى جامعتها ونال شهادة الدكتوراه في الفلسفة، وكان خلال إقامته في أوربا يتلمس ما شاب الحضارة الغربية من نزعة مادية قوية، ومن عصبيات عنصرية ولونية، فأراد أن بفهم الغربيين ما في الإسلام من نعم وفضل على المسلمين وعلى البشرية جمعاء، فألقى عدة محاضرات عن الإسلام والحضارة الإسلامية، قاصداً إزالة ما في أذهان الربيين من انطباعات خاطئة في هذه الحضارة العتيدة وذلك الدين المجيد
ولد محمد إقبال شاعراً، مرهف الحس حديد المشاعر، بعيد البصائر، وقد وصفه أستاذنا الدكتور عبد الوهاب عزام بك بأنه (أكبر شعراء المسلمين في هذا العصر، وأبلغهم تصويراً للحضارة الإسلامية، وأعظمهم أثراً في نفوس المسلمين، وأصحهم إدراكا لمقاصد الإسلام ومعانيه).
فإقبال لم يتخذ من الشعر هواية، فلم يتغزل أو ينظم الشعر التمثيلي أو الرومانطيقي، وإن اتخذ من الشعر حكمة وموعظة وهداية، فكان شعره فلسفياً موضوعياً أكثره، ذلك لأنه لم يقل (بالفن - من أجل الفن -) بل كان يؤمن بأن الشعر فن من الفنون الرفيعة التي ينبغي استخدامها لأجل النهوض بالمجتمع إلى أعلى مراتب الرقي، حتى روى عنه أنه قال مرة:
(إن وحياً صادراً من مصدر من مصادر التدهور والانحطاط، قد يكون أثره أشد فتكا من جميع جحافل جنكيز خان. . .)
وهو يرى أيضاً: (أن سلامة النفوس في أي شعب من الشعوب إنما تتوقف إلى حد كبير على نوع الإيحاء الذي يلقاه شعراؤه وفنانوه. . .)
ولذلك اتخذ إقبال من الشعر وسيلة لتحريك المشاعر بين بني قومه وشحذ همهم واستثارة عزائمهم، إذ أبان لهم ابلغ إبانة بأن لهم مجداً مؤثلاً وحضارة وتاريخاً مجيداً، واستحثهم على السعي والجهاد والتسامي بالمقاصد والغايات
وإليكم بعض الأمثلة من شعر إقبال كما يترجمها إلى العربية صاحب السعادة الدكتور عبد الوهاب عزام بك سفير مصر بالباكستان:
عليك السير لا ترغب مقيلا
…
وسر كالشمس لا ترقب دليلا
وهب للآخرين متاع عقل
…
ونار العشق فاحفظها بديلا
أثرت بنغمتي كل النوادي
…
ومن سر الحياة جعلت زادي
أضاء القلب من عقلي ولكن
…
جعلت عيار عقلي في فؤادي
أرى رمز الحياة بكل زهر
…
مجاز فيه يا قلبي الحقيقة
بترب مظلم ينمو ولكن
…
له عين إلى شمس الخليقة
وهذه نبذة من قصيدة ممتعة للشاعر محمد إقبال عنوانها وصية الصقر لفرخه وقد ترجمها الدكتور عبد الوهاب عزام بك أيضا:
متاع الحياة تعلم جهاد
…
وصبر على محنة واجتهاد
يقول لفرخ عقاب عتيق:
…
يريق الدماء يفوق العتيق
ولا تبغ سربا كسرب الغنم
…
توحد كقومك منذ القدم
سمعت وصات الصقور العقاق
…
بالا نقيم بظل وساق
فليس لنا رياض مجال
…
فسيح الفيافي لنا والجبال
صلاح الدين خورشيد
رسالة الأدب بين الأصفهاني والثعالبي
للأستاذ حامد حنفي داود
كثيراً ما تكون ذاتية الأديب سبباً في تضارب آرائه أو هدمها وخاصة حين يعمد إلى مقارنة كاتب بآخر من كتاب تاريخ الأدب العربي، فيحمله تعصبه للواضع أن يقدم آثاره على آثار غيره، أو يقدمه على أترابه من أجل سفر واحد من أسفاره
هذا ما لمسته حين أثار جماعة من الأدباء نقاشا حادا حول كتاب (الأغاني) الأصفهاني وكتاب (يتيمة الدهر) للثعالبي. وكانت المفاجأة عجيبة حقاً حين رأى ذلك الناقد الكريم أن كتاب الأغاني أدى إلى الرسالة الأدبية القدر الذي لم يؤده كتاب اليتيمة. ولعل ذلك الناقد هاله أن يقع كتاب الأغاني في واحد وعشرين جزءاً على حين يقع الآخر في أربعة أجزاء. وعلى هذا أصبح الأصفهاني - في نظره - أحق بالتقديم من صاحبه
هذه أحكام سريعة مليئة بالخطأ والعيوب. ولعله لم يحملنا على الوقوع فيها إلا في الأحكام السطحية التي نرسلها قبل الدراسة العميقة والآراء المحمصة
ولو أننا نستعرض حياة الأصفهاني في القرن الرابع والثعالبي في أوائل الخامس، ثم أخذنا نوازن بين آثارهما ومقوماتهما الأدبية لاستطعنا أن نجيل الحديث على غير هذا النحو، وأن نرسل أحكاماً دقيقة تقوم على الحجة والبرهان
كان الأصفهاني (356هـ) والثعالبي (429هـ) شيخي عصرنا في تاريخ الأدب ودراسته. وقد حملاً إلينا خلاصة الآثار الأدبية التي وصلت إلى علم هذين القرنين. ولكن شتان ما بين الرجلين في طريقة الأخذ وفي طريقة علاج النص الأدبي
ولعلنا نجد في حياة الرجلين وآثارهما وأسلوبهما ما يعيننا على تلمس ما بينهما من هوة واسعة في نقل (المادة الأدبية) إلينا وفي طريقة حملها وأدائها
عاش الأصفهاني في النصف الأول من القرن الرابع وهو عربي من نسل أمية، وولد بأصفهان يوم كانت موطن كثير من الأشراف النازحين والأمويين الهاربين خلال العصر العباسي الثاني. ولكنه انتقل إلى بغداد سريعاً حيث نشأ وتعلم. وهنالك جمع مادة كتابه الأغاني من الإخباريين وتلقفه من أفواه المؤرخين والمغنين ورواة الشعر، في الوقت الذي كانت فيه بغداد تموج بميادين الشعر، وتكاد تضيق بالشعراء والأدباء على اتساعها،
وهؤلاء غير من كانوا يفدون عليها من الدول الإسلامية شرقاً وغرباً وخاصة دولة بني بوية السياسة والحضارة الإسلامية في القرن الرابع
أما الثعالبي فإنه ولد بنيسابور ونشأ في بلاد المشرق حين كانت مسرحا للدول الفارسية الناشئة في ذلك العصر، وفي هذه البقعة من الأرض خالف الثعالبي في نشأته أعيان عصره حيث أخذ الأدب عن رغبة ملحة وميل شديد، فلم يحمل نفسه عليه حملاً أو يكرهها على صناعته كرها، بل كان ملهماً بطبعه وفطرته. وقد وهب إلى جانب ذلك قريحة وقادة وسجية مواتية، يدلك على ذلك أنه كان في أول أمره فراء يبيع فراء الثعالب في الأسواق. ولو كان من صناع الأدب ومتكلفي الشعر الذين يكرهون أنفسهم ويحملونها على علاج هذه الصناعة لصعب عليه أن يغير مجرى حياته على هذا النحو العجيب. وهو إلى جانب هذه الطبيعة المواتية يحمل بين جنبيه نفسا محسة وقلبا نابضا يطوع له صناعة الأدب ويفتح أمامه طريقاً سهلاً ميسوراً فيجد نفسه مشاركاً لأدباء عصره في إحساسهم مرتبطاً بعواطفهم حافظاً لأشعارهم ورسائلهم. ثم يأبى علية هذا الطبع السمح إلا أن يقوده إلى الكتابة الأدبية المنظمة عن بيئته التي عاش فيها، فيجد نفسه مرة أخرى حيال نزعة ملحة إلى تأريخ الحياة الأدبية خلال القرن الرابع كله، فيضع كتابه (يتيمة الدهر). ويخرج الكتاب صورة صادقة لهذه النفس في سهولتها وهذه العقلية في نظامها وهذه الحافظة في وعيها وهذه الثقافة في اتساعها.
أما الأصفهاني فيضع كتابه السالف في واحد وعشرين جزءاً وهو أضعاف مضاعفة لكتاب صاحبنا، سواء في مادته وأخباره. تراه يجمع فيه مادة وافرة من الشعر والغناء وأخبار الشعراء حتى أنه - كما يحدثنا أبو محمد المهلبي - وضعه خمسين سنة وأنه لم يستطع أن يكتبه إلا مرة واحدة في عمره. ويكفيه فخراً أن الصاحب بن عباد زعيم الشيعة وعميد الأدب العربي في النصف الثاني من القرن الرابع - يمدحه ويثني عليه، لما رآه من استقصائه للأخبار وجمعه لحكايات الشعراء حتى قال فيه:(ولقد اشتملت خزانتي على مائة ألف وسبعة عشر ألف مجلد ما فيها سميري غيره. ولقد عنيت بامتحانه في أخبار العرب وغيرهم فوجدت جميع ما يعزب عن أسماع من قرفه بذلك قد أورده العلماء في كتبهم، ففاز بالسبق في جمعه وحسن وضعه وتأليفه.)
وعلى الرغم مما أمتاز به الأصفهاني في جمع الأخبار واستقصائه إياها فإنه لم يأمن غائلة النقاد الذين جاءوا بعده: قال ياقوت. (وقد تأملت هذا الكتاب وعنيت به وطالعته مراراً وكتبت منه نسخة بخطي في عشر مجلدات ونقلت منه إلى كتابي الموسوم بأخبار الشعراء فأكثرت، وجمعت تراجمه فوجدته يعد بشئ ولا يفي به غير موضوع منه) وضرب الأمثال لذلك بحديثه عن أبي العتاهية وأبي نواس والأصوات المائلة في الغناء
وهنا يحق لنا أن نتساءل هل كان الأصفهاني في كتابه هذا يصور نفسه ويرسم إحساسه ومشاعره التي تربطه بأدباء عصره - كما فعل الثعالبي -؟ الجواب: لا. لم يكن كذلك فئ شيء لأنه كان يؤرخ لا أكثر. كتب الأصفهاني كثيراً ولكنه لم يكتب غير التاريخ الأدبي الصامت. وملأ أسفاراً ولكنها لا تعدو أن تكون أخبار الأولين والمعاصيرن من الشعراء. فهو أخباري من الطراز الأول، ومحدث مستطرد أمين بكل ما في كلمة المحدث من معنى. ولكنه لم يرسل نفسه على سجية الأدبي، فيذكر رأيه أو يبدي لناقده فيمن يخبرنا عنهم
ولعلك حين تستعرض طريقة العرض عند الرجلين تقف على صدق ما ندعيه - فأنت ترى الأصفهاني يتحدث عن الشاعر يصدر حديثه عنه بسلسلة طويلة من نسبه، يستطرد فيها ما شاء له الاستطراد، وقد يأتي فيها بالفريد المقبول وما كان يلذه السامعون في ذلك العصر حين كانوا يعون بالأنساب ويتفاخرون بها. ولكن الاستطراد به عند هذا الحديث الذي يرسله في حلقات النسب، فيتجاوز النسب إلى ما رواءه وينتقل بك إلى الحديث عن شخص آخر قد لا يربطه بالسابق إلا محض الاستطراد. وهو رباط شكلي بحت - وهنا يذكر لك أشعاراً وقصصاً وروايات تتعلق بالشخص الذي أدار الحديث حوله. حتى إذا ما انتهى به المطاف عاد إلى صاحبه الأول الذي ترجم له، فيحدثك عما وقع له من أحداث، وقد تنتهي به هذه الأحداث الجزئية المتعلقة بصاحبه إلى الحديث عن تاريخ عصره وما كان فيه من عبر ومواقع. ثم يحدثك آخر ذلك كله عن شعر صاحبه والأصوات التي غنيت من هذا الشعر وما لم يغن وما لم يعتبر من الأصوات المائة التي ذكرها في سائر كتابه. ويذيل الترجمة وفاة صاحبه إن كان في الاستطراد ما يناسب ذلك
فأنت ترى أن عنصر الاستطراد هو المنهج الأصيل في كتاب الأغاني وهو عين المنهج الذي استنه شيوخ الأدب العربي من قبل أبي الفرج. فالجاحظ (255هـ) وابن قتيبة
(176هـ) وأبو علي القالي (356هـ) وغيرهم من عيون الأدب العربي شرع واحد في هذا المنهج. وقد أثبت المنهج العلمي الحديث أن منهج الاستطراد كان شائعاً في كتابات القوم وأساليبهم منذ فجر الحياة الأدبية في الجاهلية والإسلام وظل حتى أواخر القرن الرابع الهجري
ثم جاء أبو منصور الثعالبي في أواخر القرن الرابع وخرج للناس بمنهج جديد لم يسبق إليه، حيث ترك صناعة الأدب على طريقة الاستطراد الذي شغف به القوم في حياتهم الأدبية. وأخذ يتحدث حديثا منظما عن تراجم الشعراء والكتاب، وهو لا يحدثك عن شعراء هذا العصر وكتابه ككل لا يتجزأ؛ وإنما يحدثك حديث العارف بالبيئة وآثارها في الأدب فيقسم بلاد المشرق إلى أقاليم مختلفة متباينة، ثم يحدثك عمن بهذا الإقليم من الشعراء والأدباء والكتاب
وهو حين يضع كتابه يتيمة الدهر يضرب أمامنا مثلا رائعا لم يسبق إليه في تأريخ الأدباء؛ مثلاً لا زلنا نحن معاشر المحدثين نعده متحررا طريفاً في بابه ولا سيما من الوجهة الفنية في تاريخ الأدب، فكتابه المذكور لا يعتبر كتاباً في تاريخ الأدب فحسب بل هو تاريخ أدبي إقليمي مستقل يتحدث صاحبه عن الحياة الأدبية ورجالها في الدول الإسلامية الشرقية في القرن الرابع
(للموضوع بقية)
حامد حنفي داود الجرجاوي
ماجستير في الأدب وأستاذ العربية وطرق التدريس بالمعلمين
الريفية
شعراء من أشعارهم
عدي بن زيد العبادي
للأستاذ محمود عبد العزيز محرم
تتمة البحث
فأنت ترى عدياً في القصيدة السابقة قد ذكر الأكاسرة والقياصرة، وذكر قصة رب الحضر، وذكر قصة رب الخورنق، وهو يعرف أنهم جميعاً قد ذهبوا، وألوت بهم الأيام كما تلوي ريح الصبا وريح الدبور بالأوراق الجافة، وقد كانت زاهية يوما، يانعة يوماً، جميلة مبهجة للنفوس والقلوب يوما، وهذا هو ديدن الأيام، فمن يبقى على الدهر، ومن خلدته المنون؟
والحضر كان قصراً بين دجلة والفرات، وأخو الحضر الذي ذكره عدي هو الضيزن بن معاوية ملك تلك الناحية وسائر أرض الجزيرة حتى بلاد الشام. وقد أغار فأصاب أختا لسابور الجنود، وفتح المدن، وفتك بها. ثم إن سابور جمع له، وسار إليه، وأقام على الحضر أربع سنين لا يستغل منهم شيئاً، حتى دلته النضيرة بنت الضيزن - وكانت صبيحة الوجه جميلة، وأحبت سابور حين رأته وأحبها - وأعانته، ففتح المدين وقتل الضيزن يومئذ
والخورنق قصر النعمان بن الشقيقة. وسبب بنائه أن يزدجرد بن سابور كان لا يبقى له ولد، فسأل عن منزل مرئ صحيح من الأدواء والأسقام، فدل على ظهر الحيرة. وكان عامله في الحيرة على أرض العرب النعمان بن الشقيقة. فأمره أن يبني الخورنق مسكناً له ولا بته بهرام جور وينزله إياه معه. وكان الذي بنى الخورنق رجلاً يقال له (سنمار)، فلما فرغ من بنائه عجبوا من حسنه وإتقان عمله، فقال لهم لو علمت أنكم توفوني أجرتي وتصنعون بي ما أستحقه، لبنيت بناء يدور مع الشمس حيثما دارت، فكرهوا منه تقصيره وأمروا به فطرح من أعلى الجوسق
وقد تناول الشعر قصة سنمار هذه، وضربه مثلا للرجل المجحود الفضل المنكر الجميل، فقال أبو الطمحان القيني:
جزاء سنمار جزوها، وربها
…
وللات والعزى، جزاء المكفر
وقال سليط بن سعد عن أبي الغيلان وبنيه حين جحدوه فضله وجميل فعله، وقد أخذ منه الكبر:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر
…
وحسن فعل كما يجزي سنمار
وقال آخر وقد جوزي بسوء، يدعو على من أساء إليه بعاقبة كعاقبة سنمار:
جزاني جزاه الله شر جزائه
…
جزاء سنمار، وما كان ذا ذنب
سوى رصه البنيان عشرين حجة
…
يعلى عليه بالقراميد والكسب
ورب الخورنق أعجبه قصره حين أشرف من أعلاه يوما وسره ماله وكثرة ما يملك، والبحر يجري عريضاً من تحته، والفلاح، والملك، والنعمة؛ حين رأى كل ذلك وتبصر فيه ارعوى قلبه، وفكر في فنائه وفناء الإنسان. ويقال أنه نزل من الجوسق وانطلق إلى الصحراء ولم يعثر له على خبر
فعدي بن زيد كان يعرف الشيء الكثير. وكان يميل إلى أن يفلسف ما يعرفه ويستنبط منه القواعد العامة والنتائج المحتومة. فرأى الكبراء والعظماء والآثار تحور إلى وادي الفناء، ورأى أن الملك لا ينفعه ملكه، والحصن لا يحمي سيده، والقصر لا تدوم مسراته ونعماؤه، ورأى كل حي إلى الفناء يصير، ورأى أن الخاتمة هي الهلاك والانطفاء، ورأي أن المنون يترصد للناس، ورأى أن الزمان لا يبلغ الإنسان ما يشتهيه ويأمله، فانطوت نفسه على آماله ومطامعه بائسة محزونة، وعرض هذا كله في شعره
وقد أثرت حوادث الزمان في عدي بن زيد تأثيراً كبيراً. وكان هو ميالاً إلى استخلاص الحقائق الدائمة من هذه الحوادث العارضة. وهو في هذه الأبيات التالية يقدم لنا عصارة حياته وخبرته المستمرة بالحياة وأبنائها:
فنفسك فاحفظها عن الغي والردى
…
متى تغوها يغو الذي بك يقتدي
وإن كانت النماء عندك لامرئ
…
فمثلاً بها فاجز المطالب وازدد
إذا ما امرؤ لم يرج منك هوادة
…
فلا ترجها منه، ولا دفع مشهد
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
…
فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذا أنت فاكهت الرجال فلا تلع
…
وقل مثل ما قالوا ولا تتزيد
إذا أنت طالبت الرجال نوالهم
…
فعق ولا تأت بجهد فتنكد
ستردك من ذي الفحش حقك كله
…
بحلمك في رفق ولما تشدد
وبالعدل فإنطق إن نطقت ولا تلم
…
وذا الذم فاذممه وذا الحمد فاحمد
ولا تلح إلا من ألام ولا تلم
…
وبالبذل من شكوى صديقك فاقتد
عسى سائل ذو حاجة إن منعته
…
من اليوم سؤلا أن ييسر في غد
وللخلق إذلال لمن كان باخلا
…
ضنينا، ومن يبخل يذل ويزهد
هذه الحكمة الرائعة إنما هي خلاصة تجارب عدي في حياته بعد أن بلا مر الناس ومر الأيام، وبعد أن لم تحقق له الأيام ما يصبو إليه، وبعد أن تبصر في مصير الناس - فقراء وأغنياء - بعد هذا كله، وبعد أم كون رأياً عاماً وفلسفة كاملة، لم ير خيرا من هذا الذي قدمه لنا في أبياته السابقة. وهي فلسفة تحنو على الضعيف، وتدعو إلى الرفق والحلم، وتعترف بتقلبات الأيام واختلاف الحظوظ، وترى أن أخذ الحياة بالجد والحيطة أتم وأرفق، وترى أن تكافئ الإحسان بالإحسان، وأن تؤدب نفسك، وتحفظها عن الغي والضلالة. والمعنى السارب في هذه الأبيات هو كف النفس وأخذها بالحكمة والحزم والحذر
وكان طواف عدي بالبلاد نعمة عليه ونقمة أيضاً. نعمة عليه لأنه اتسعت مداركه، وعرف كثيراً، وأحاط بكثير من أحوال الملوك والدول، وصقل نفسه وهذب عواطفه. ونقمة لأنه عرف كنه كثير من الأشياء، وعرف إختيان الناس بعضهم بعضا، وعرف كثيراً من الأحوال المشجية والمبكية، وهذا جعله يسئ الظن بالأيام والناس، فاصطبغت نظرته إليهما باليأس والقنوط. ونقمة لأن خلاطا بالناس، واختلافه إليهم واختلافهم إليه، وهم ذوو ألسنة متعددة ولغات متباينة وثقافات مختلفة، أثر في عربيته إلى حد دعا إلى الاحتراس منه. لأن طول العشرة ودوام المخالطة يدعوان الإنسان - رضا أو كرها - أن يأخذ عن مخالطيه ومعاشريه كثيراً، يأخذ من عاداتهم وآدابهم، ويتأثر بأذواقهم، وينحو منحاهم، ويميل إلى ما يميلون إليه، وقد يستعير منهم بعض ألفاظهم، ويصوغ أساليبهم، فتتأثر بذلك لغته، ويدخلها وهن لم تكن تعرفه من قبل
وهذا ما حدث لعدي بن زيد. وهو نفسه ما دعا ناقدي العرب إلى التنبيه إليه والاحتراس منه، فهم قد انتقصوه وحذروا من الاحتجاج بشعره، وذلك لخلطه بكثير من غير العرب من الفرش والروم
فعدي (كان يسكن الحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه واحتمل عنه كثير جداً، وعلماؤنا لا يرون شعره حجة)
وهو (شاعر فصيح من شعراء الجاهلية. وكان نصرانيا وكذلك كان أبوه وأمه وأهله. وليس ممن في الفحول. وهو قروي. وكانوا قد أخذوا عليه أشياء عيب فيها. وكان الأصمعي وأبو عبيدة يقولان: عدي بن زيد في الشعراء، بمنزلة سهيل في النجوم، يعارضها ولا يجري معها مجراها)
ومما يعاب عليه من شعره قوله داعيا النعمان إلى الصفح عنه:
أجل نعمي ربها أولكم
…
ودنوي كان منكم واصطهاري
يدعو النعمان إلى الصفح عنه من أجل نعمة قد تعهدها آباء النعمان، ومن أجل قربه منهم، ومن أجل مصاهرته إياهم. والمقصود من الاصطهار هنا المصاهرة. ولكن كتب اللغة لم تذكر لاصطهر معنى سوى ما جاء في قولهم:(اصطهر أي أذابه وأكله) ولو قال (وصهاري) لصح المعنى واتزن البيت
وذكر بعض الفارسي في شعره، وذلك حين وصف السحاب المتراكب، فوق رأس شيب، والبرق في السحاب يلمع لمعان السيوف، ويظهر صفحة الثوب المصون:
أرقت لمكفهر بات فيه
…
بوارق يرتقين رؤوس شيب
تروح المشرفية في ذراه
…
ويجلو صفح دخدار قشيب
والدخدار الثوب المصون وهو فارسي معرب، وأصله تحت دار
وهم يعدون من شعره أربع قصائد غرر:
الأولى يقول فيها:
أيها الشامت المعير بالده
…
ر وأ أنت المبرأ الموفورظ
أم لديك العهد الوثيق من ال
…
أيام؟ بل أنت جاهل مغرور؟
من رأيت المنون خلدن أم من
…
ذا عليه من أن يضام خفير؟
وفي الثانية يقول:
أعاذل ما يدريك أن منيتي
…
إلى ساعة في اليوم أدنى ضحى الغد
ذريني فإني إنما لي ما مضى
…
أمامي من مالي إذا خف عودي
وحمت لميقاتي إلى منيتي
…
وغودرت إن وسدت أو لم أوسد
وللوارث الباقي من المال فاتركي
…
عتابي فإني مصلح غير مفسد
ومن الثالثة:
لم أر مثل الفتيان في غبن ال
…
أيام ينسون ما عواقبها
ومن الرابعة:
طال ليلي أراقب التنويرا
…
أرقب الليل بالصباح بصيرا
ومن المعاني معان مجدودة، تسير من مكان إلى مكان، وتتناقلها الألسنة، من هذه المعاني المجدودة المعنى الذي أورده عدي بن زيد في قوله:
لو بغير الماء حلقي شرق
…
كنت كالغصان بالماء اعتصاري
فقد ورد على لسان الأحنف بن قيس في قوله:
(من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء. ومن غص بالماء فلا مساغ له. ومن خانه ثقاته فقد أتي من مأمنه)
وقال العباس بن الأحنف:
قلبي إلى ما ضرني داعي
…
يكثر أحزاني وأوجاعي
كيف احتراسي من عودي إذا
…
كان عدوي بين أضلاعي
وقال آخر:
كنت من كربتي أفر إليهم
…
فهم كربتي فأين الفرار!
وقال غيره:
إلى الماء يسعى من يغص بريقه
…
فقل أين يسعى بغص بماء
محمود عبد العزيز محرم
رسالة الشعر
في انتظار الصباح
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
في انتظار الصباح
…
الربا والبطاح
والسهول الفساح
…
والندى والأقاح
وثغور الملاح
…
والوجوه الصباح
كلها في انتباه
…
تستحث الحياة
هامسات الشفاه
…
تحسب الفجر تاه
والدياجي فلاه
…
أين منها النجاة؟
والليالي جراح
…
نام عنها الأساة
في انتظار الصباح
ضاق ليلي وطال
…
بالأسى والملال
أين طيف الخيال؟
…
في ضفاف الجمال
كسنا الفجر جال
…
في شعاف الجبال
غردي يا طيور
…
وأسمعي يا وكور
وارقصي يا زهور
…
للندى والعبير
عند شط الغدير
…
صاح فيه الخرير:
ذلك الفجر لاح
…
من وراء الستور
في انتظار الصباح
أحمد أحمد العجمي
يا شعر
للأديب كيلاني حسن سند
يا شعر، يا لحن القلوب، ويا نشيد الحائرين
يا نغمة جادت. . قيثارة الزمن الضنين
يا غنوة، طفحت بها. . كأس الصبابة. . والحنين
يا رعشة القلب الجريح، ويا صدى الروح الحزين
يا موجة غسلت جراحات الفؤاد من الأنين
يا وحي ليلي، والحياة يلفها حولي السكون
يا ابن الضلوع الحانيات على المواجع والشجون
يا دفقه الشوق الحبيس، وصرخة الأمل السجين
يا واحة بين الضلوع تنضرت فيها الغصون
آوى إليها - في الهجير - فأستريح وأستكين
يا من عصرتك من دمي لجنا فأنت له جنين
يا مشعلا بيدي يضئ لي الطريق فيستبين
لولاك يا شعري للذت من المواجع بالمنون
ولقت: ثوري يا رياح، وحطمي هذا السنين
عمري سواك نفاية في الأرض تحقرها العيون
الركب يضرب في الدجى وأنا مع المتخلفين
القانعين من الربيع، من الخمائل، بالدرين
الناظرين إلى المواكب وهي تستبق السنين
الناهلين من السراب، من الغواية، والمجون
الزارعين بوهمهم زهر الوساوس والظنون
العابدين رؤى الجمال، العازفين له اللحون
الساهرين وما غنوا. . حتى تقرحت الجفون
الراكضين مع النجوم، وهم على السفح المهين
لكن لأجلك قد رضيت وقد قنعت بما يهون
وتركت دنياي الحبيبة الشباب. . الكادحين
وشللت كفي عن مناي وعشت في كهف الفنون
أبكي وأضحك عازفا لحن المسرة والأنين
كيلاني حسن سند
البريد الأدبي
مأساة عربية:
هذه قصة من صميم الواقع أنقلها إلى القراء الكرام كما رواها لي صديق شاعر قد زار شرق الأردن وبض الأقسام العربية من فلسطين التي ضمت إلى الأردن مؤخرا، وليس لي فيها سوى الرواية. قال محدثي ونحن جلوس في (مقهى الزهاوي) ببغداد نتسمع إلى آخر الأنباء في السياسة الدولية: -
عند طوافي في شرق الأردن بصحبة زعيم فلسطين زرنا مدينة نابلس. وفي الطريق مررنا باللاجئين العرب الذين شردتهم السياسة اللعينة من ديارهم وكانوا يسكنون الخيام بمجموعتهم الغفيرة، وهم حفاة بألبستهم المهلهلة القذرة، وقد أردت أن أستفسر عن حالهم من صديقي الفلسطيني فأخبرني أنه يريد أن يريني صورة صادقة، ثم جذبني من يدي ودفع باب إحدى الخيام المبثوثة في طريقنا ودخل وأنا وراءه. وبعد السلام وإبداء التحية هتف صديقي، قومي يا (فلانة) لاستقبال صديقنا هو عربي عراقي جاء يستفسر منك لينقل إخواننا العرب في شتى الأقطار حالتكم. وما فرغ من كلامه حتى شرقت الفتاة بالدمع وهي تحتضن طفلا صغيرا بجانبها وكانت فتاة في أوج أنوثتها وشبابها، فلم أتمالك نفسي من التأثر، فأخرجت من جيبي بعض المال وسلمته إلى الطفل وخرجت وأنا ألعن الجامعة العربية وحكوماتنا على هذه السياسة اللعينة التي جلبت علينا العار والشنار، وفي الطريق روى صديقي الفلسطيني قصة هذه الفتاة قال:
- هذه (فلانة) بنت (فلان) وهو من كبار شخصيات فلسطين تخرجت من جامعات بريطانيا، كانت تملك من الأرض وبيارات الفواكه ما لا يحصر، استشهد أبوها وأخوها الأكبر في إحدى المواقع، أما أمها فقد ماتت كمدا، ولم بيق لها غير هذا الطفل وهو أخوها الصغير، وعندما استولى اليهود على فلسطين أصبحت هذه الآنسة الثرية لاجئة تعيش على الصدقات! فهل من مأساة أبشع وأفظع من مأساة هذه العربية؟! فقلت وأنا أشرق بدموعي: لتحل علينا اللعنة ما دامت عجلة الحياة تدور
هذه القصة انقلها إلى القراء، تاركا لهم التعليق وللجامعة الفخر والتبجح بالماضي المجيد
عبد القادر رشيد الناصري
تصويب أخطاء
منذ يومي قرأنا في العدد 973 من مجلة (الرسالة) الغراء مقالاً للدكتور محمد بهجت تحت عنوان (امرأتان عظيمتان من دولة المغول). وقد وقع في هذا المقال القيم أخطاء من جهة نقل الأسماء لبعض الأعلام. وغالب الظن أن منشأ هذه الأخطاء عدم معرفة الدكتور الفاضل الفارسية، ولعله أخذ معلوماته من بعض ما قرأ من الكتب الإنكليزية. بلى نذكر ما جاء في هذا المقال من الأخطاء معقبين عليها بالتصحيح
1 -
(نور جاهان) أصل الكلمة (نورجهان) ومعناها نور العامل، فإن كلمة (جهان) معناها العالم بالفارسية
2 -
(على كولي) أصل الكلمة (على قلى)
3 -
(شر أفغان) أصل الكلمة (شير أفكن) أي مصارع الأسد، فإن شير معناه الأسد وأفكن معناه المصارع
4 -
(جاهان جير) أصل الكلمة (جهان كير) أي القابض على العالم، فإن (جهان) معناه
العالم (كير) معناه القابض. وما كانت كلمة (جهان كير) هذه منية للملك نور الدين وإنما كانت لقباً لقب بها نفسه عند اعتلائه عرش المملكة، شأن غيره من الملوك المغوليين في الهند
5 -
(كرام) أصل الكلمة (خرم)
6 -
(بارفر) أصل الكلمة (برويز)
7 -
(دلكوشا) أصل الكلمة (دل كشا) أي فاتح القلب
8 -
(شاه دارا) أصل الكلمة (شاهدره)
باكستان
محمد عاصم الحداد
لسان العرب بين ابن سينا وابن منظور
جاء في تحيتك للشيخ ابن سينا أنه ألف لسان العرب، والذي أعلمه أن الذي ألف لسان العرب هو (ابن منظور الأفريقي)
عبد الله مرسي الطحان
(الرسالة) لسان العرب الذي ألفه ابن سينا غير لسان العرب الذي ألفه ابن منظور. نقل القفطي في كتابه (إخبار العلماء بأخبار الحكماء) عن عبيد الجوزجاني صاحب الشيخ الرئيس قوله: (صنف الشيخ في اللغة كتاباً سماه بلسان العرب لم يصنف في اللغة مثله، ولم ينقله إلى البياض حتى توفي، فبقى على مسودته لا يهتدي أحد إلى ترتيبه)
العيد الألفي للجامع الأزهر:
تلقت مشيخة الأزهر رغبة ملكية كريمة خاصة بالاحتفال بالعيد الألفي للجامع الأزهر، احتفالا يليق بمكانة هذه الجامعة العلمية الإسلامية التاريخية بين جامعات الأمم المتحضرة وبرسالتها الدينية الكبرى في مختلف الأزمنة والعصور
وقد تضمنت هذه الرغبة السامية أن يكون الاحتفال بهذا العيد عالميا تشترك فيه الشعوب الإسلامية، لأن رسالة الأزهر قد شملت هذه الشعوب جميعاً؛ ولا يزال الأزهر يستقبل من أبنائها من ينتهلون من معينه ليعودوا إلى بلادهم وأممهم رسل حضارة ودعاة هداية وإرشاد. وتشترك فيه كذلك الجامعات العلمية في مختلف الأمم بوصف كونه جامعة علمية ساهمت بالنصيب الموفور في تغذية العقل البشري برسالة المعرفة
وقد عطف فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، تنفيذا لهذه الرغبة الكريمة، على دراسة هذا الموضوع منذ بدايته حتى اليوم، وأمر بإعداد مذكرة تشتمل على بيان المقترحات التي سبق أن وضعت في صدد هذا الاحتفال في مختلف مراحل التفكير فيه، والإعداد له، وبخاصة تلك المقترحات التي وضعت في عهد المغفور له فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي يوم كان شيخاً للجامع الأزهر
وقد علمنا أن هناك اتجاهاً يرمي إلى وضع تاريخ مفصل لما درس من أمهات اكتب الإسلامية في الأزهر، في مختلف العصور، مع بيان الطريقة التي يمتاز بها كل عصر على حدة، في نظام الدرس والتدريس، ومع وضع دراسة خاصة للأعلام من الفقهاء والأئمة المسلمين الذين ألفوا هذه الكتب أو ساهموا في شرحها أو التعليق عليها، في مناسبة هذا الاحتفال التاريخي الكبير
وكذلك يرمي هذا الاتجاه إلى وضع تاريخ شامل للمذاهب الإسلامية الأربعة، كل مذهب منها على حدة، مع بيان المسائل المشتركة بين هذه المذاهب والمسائل التي اختلف عليها، وتوضيح ظروف هذا الاختلاف
والغاية التي يهدف إليها هذا الاتجاه هي أن يكون هذا المهرجان الإسلامي التاريخي مقترناً ببيان حقيقة الغاية من رسالة الإسلام في مختلف النواحي والوجوه
وسترفع هذه المذكرة إلى فضيلة الأستاذ الأكبر ليتخذ فضيلته على ضوء ما فيها من البيانات الخطوة التنفيذية الأولى نحو تنفيذ هذا المشروع الكبير
ويقال إن هذه الخطوة التنفيذية ستكون في أن يؤلف فضيلة الأستاذ الأكبر لجنة عليا من بعض جماعة كبار العلماء وبعض كبار المشتغلين بالعلوم العربية والدينية في الجامعات المصرية وغيرها من مختلف المعاهد الأخرى، وسيكون لهذه اللجنة أن تؤلف لجانا لدراسة مختلف الموضوعات كما تشاء
لغة الشاشة
لاحظت أثناء عرض الجريدة الأخبارية على الشاشة البيضاء أن اللغة التي تصحب العرض لا تراعى فيها القواعد النحوية، فقد ينصب الفاعل أحيانا. . وقد يرفع المفعول به أحيانا أخرى. . وهذا نقص نوجه إليه عناية المسئولين، لأن هذه الجريدة الأخبارية تعرض في أكثر من بلد عربي. . فماذا عساهم يقولون عنا. . ونحن نأبى إلا أن نتبوأ الصدارة من أمم الضاد!. . . كثيراً ما طرأت هذه الأخطاء اللغوية أذني فآلمتني. . ولا شك أن الغيورين على اللغة يشاركوني رأي. . ويضمون أصواتهم إلى صوتي!. .
إن المخرجين يبذلون عناية كبرى في إخراج هذه الأفلام، ويولونها جانبا غير قليل من جهودهم. . فيا حبذا لو ظفرت لغة العرض بمثل هذه العناية والرعاية!. . .
عيسى متولي
كاف التشبيه:
يضع كثير من الأدباء حرف الكاف في غير موضعه فيقلب
المعنى إلى النقيض وهم لا يشعرون. من ذلك مثلا أن الأديبة
بنت الشاطئ نشرت كلمة في أهرام 341952 وردت بها هذه
العبارة (تخرج الفتاة بشهادة تبيح لها احتراف التمريض
والتدليك كوسيلة للرزق) وتريد أن تنتقد اتخاذ هذا الفن وسيلة
للرزق فقط، مع أن التعبير لا يؤدي المعنى الذي ترمي إليه؛
إذ أن الكاتبة تعلم كل العلم أن التشبيه يقتضي أن يكون المشبه
غير المشبه به، ولا يمكن أن يستقيم المعنى مع هذا الوضع،
بل يستقيم تمام الاستقامة إذا قالت (وسيلة للرزق) أي بحذف
الكاف
إن فشو هذا الخطأ بين خاصة الأدباء اضطرني إلى أن أنبه إليه حتى وأنا بسبيل البحث في تيسير الكتابة، فلقد أشرت إليه في تقريري الذي رفعته منذ بضع سنين إلى المجمع اللغوي خاصا بتيسير الكتابة العربية، حتى لا يظن ظان أن إجازة الخطأ نوع من التيسير، وإلا كنا كمن ينصب جمع المؤنث السالم بالفتحة زاعماً أن فيه تيسيراً كبيراً، والواقع - كما قلت في تقريري هذا - أنه هدم لقواعد اللغة من أساسها ولا يمت إلى التيسير بصلة قريبة أو بعيدة
عبد الحميد عمر
القصص
الباب المفتوح
للكاتب الإنجليزي الكبير (الساقي)
- ستحضر خالتي في الحال يا مستر (نتل)، ولكن يجب في الوقت نفسه أن تجتهد في إنهاء حديثك معي
بهذه الكلمات بادرت الفتاة ضيفها عند دعوتها إلى غرفة الاستقبال، حيث كانت قد تركته ريثما تذهب لإخبار خالتها بقدومه: وفتاتنا صبية رزينة لم تتجاوز الخامسة عشرة من سنيها وحاول فرامتون نتل أن يتخير الكلمات اللائقة التي يستطيع أن يرضي بها ابنة الأخت الماثلة أمامه دون أن يكون في هذه الكلمات ما لا يرضي بغير مقتضى، الحالة التي ستحضر بعد قليل، وقد شك الفتى بينه وبين نفسه أكثر مما شك في أي وقت مضى، فيما إذا كانت هذه الزيارات الرسمية التي يتقدم بها إلى سلسلة من العائلات التي لا تربطه بها أية رابطة على الإطلاق، سيكون لها أثر فعال في علاج مرض الأعصاب المفروض أنه مصاب به. . . فقد قالت له أخته وهو يتأهب لرحلته الريفية:
- أنا عالمة بما ستكون عليه رحلتك! فلسوف تدفن نفسك حيث لا تتحدث إلى مخلوق من الأحياء، وعندئذ تضاعف الكآبة مرض أعصابك؛ وها أنا أكتب في الحال خطابات توصية أقدمك بها إلى جميع الذين أعرفهم هناك، ولقد كان بعضهم، على ما أذكر، وديعاً ظريفاً
تذكرة فرامتون كلمات أخته وتساءل في نفسه: ترى مسز سابلتون التي سيتقدم إليها بعد لحظة بأحد خطابات التوصية التي يحملها، تدخل في نطاق هذا البعض الوديع الظريف
وإذ لاحظت الفتاة الرقيقة أن فترة السكوت قد طالت بينها وبين الزائر الغريب سألته:
- أتعرف كثيرين من أهل هذه الناحية؟
فأجاب:
- أكاد لا أعرف أحدا هنا. وقد كانت أختي كما تعلمين، مقيمة هنا في الأبرشية منذ حوالي الأربع السنوات، وقد أعطتني خطابات توصية لفريق من أهل هذه الناحية. . .
وصاغ الفتى كلماته الأخيرة في لهجة تنم عن الأسف فتابعت الفتاة الرزينة حديثها قائلة:
- إذن أنت تكاد لا تعرف شيئا إطلاقا من أمر خالتي؟
فأجاب الفتى:
- لا أعرف غير اسمها وعنوانها
فهو لا يدري إذا كانت متزوجة أو أرملة. ولكن شيئاً في الغرفة لا يستطيع أن يتبينه على التدقيق كان يوحي إليه بأن في البيت رجالاً. . . على أن الصبية لم تلبث أن قالت:
- لقد نزلت بخالتي مأساتها الكبيرة في مثل هذا اليوم منذ ثلاث سنين كاملة، ويوافق ذلك الوقت الذي غادرت فيه أختك هذه الجهات
فسأل الفتى وهو لم يكن ليتصور أن المآسي تجد طريقها إلى مثل هذا المكان الهادئ المطمئن:
- تقولين مأساتها؟
فقالت الفتاة وهي تشير إلى أحد الأبواب المطلة على الشرفة وكان مفتوحا:
- قد يدهشك أن ترى هذا الباب مفتوحاً في مساء يوم من أيام أكتوبر كيومنا هذا؟
فأجاب فرامتون:
- إن الجو دافئ بالنسبة لهذا الفصل من السنة، ولكن هل لهذا الباب أي علاقة بالمأساة التي تشيرين إليها؟
فشرعت الفتاة تحكي القصة الآتية:
في مثل هذا اليوم منذ ثلاث سنوات خرج من هذا الباب زوج خالتي وأخواها الأصغر منها سنا ليصيدوا الطير على عادتهم اليومية، ولكنهم لم يعودوا من رحلتهم، لأنه عند اجتيازهم المستنقع للوصول إلى الميدان المفضل عندهم لصيد البكاشين ساخت أقدامهم في بقعة خادعة من الأرض اللينة، حدث في ذلك الصيف الذي كثرت أمطاره، على ما تعلم، حتى إن الأماكن التي كانت مأمونة في السنوات الأخرى لم تقو على الثبات فانهارت، وقد اختفت أجسامهم ولم يقف لها أحد على أثر، وهذا هو أفظع ما في المأساة
وما وصلت الفتاة إلى هذه النقطة من قصتها حتى فقد صوتها ما فيه من رنة الثبات وغلب عليه التأثر، ثم مضت تقول:
- مسكينة خالتي لا تنفك تتصور أنهم سيعودون يوماً ما ومعهم كلبهم الأسود الصغير الذي ساخ معهم أيضاً، وأنهم سيدخلون البيت من هذا الباب كما تعودوا أن يفعلوا كل يوم. وهذا
هو السبب في تركه مفتوحاً كل مساء إلى أن يهبط الغسق. وما أتعس خالتي العزيزة، فلكم كررت على سمعي قصة خروجهم، إذ كان زوجها يحمل معطف المطر الأبيض على ساعده، بينما روني أخوها الأصغر ينشد أغنية:(لماذا نثب يا برتي)، كما كان يفعل دائماً ليغيظها فقد كانت تقول إن هذه الأغنية تهز أعصابها، ولا أخفي عليك يا سيدي، أنني في بعض الليالي الساكنة الهادئة مثل هذه الليلة، يتسرب إلى نفسي غالباً شعور خفي بأنهم جميعاً سيعودون إلينا من خلال هذا الباب. . .
ووقفت الفتاة فجأة عن الكلام مضطربة بعض الشيء، وأحس فرامتون بالفرح عندما دخلت الخالة الغرفة تسوق أمامها سلسلة من المعاذير لتأخرها في إصلاح زينتها وقالت:
- أرجو أن تكون (فيرا) قد سلتك بحديثها؟
فقال فرامتون:
- لقد كان حديثها جد شائق
وقالت مسز سابلتون في نشاط وخفة:
- أرجو أن لا يضايقك فتح هذا الباب، فإن زوجي وأخوتي على وشك أن يعودوا من الصيد، وقد تعودوا أن يدخلوا دائماً من هذا الباب، وقد خرجوا اليوم لصيد البكاشين في البرك، وما من شك في أنهم متى عادوا تركوا على سجاجيدي المسكينة آثار ما تحمل أقدامهم من أوحال، وهذا شأنكم أيها الرجال؛ فهل توافقني على ذلك؟
ومضت تتحدث في انشراح عن الصيد وعن ندرة الطيور، وبخاصة البط في فصل الشتاء، ولقد بدا هذا الحديث لفرامتون مزعجاً فظيعاً، فحال جاهداً أن يحوله إلى مجرى أقل فظاعة وهولاً، فلم ينجح في ذلك إلا بعض النجاح، وقد تبين أن مضيفته لا توليه من عنايتها إلا جزءاً جد يسير، ولكن نظراتها كانت تتخطاه إلى الباب المفتوح وإلى ما وراءه من حقول ومستنقعات. فما من شك في أن زيارته هذه الأسرة في مثل هذه الذكرى المؤلمة لم تكن إلا مصادفة جد سيئة
وصور الوهم لفرامتون أن القوم الغرباء الذين يجتمع بهم والذين هم معارف الصدفة، عطاش إلى تعرف أقل ما يمكن من التفصيل عن مرضه وعلته ووسائل شفائه فقال:
- لقد اتفق الأطباء في أمرهم لي بأن ألزم الراحة التامة وأن أتجنب الانفعالات النفسية،
وأن أبتعد عن كل شيء يتصل بالمجهودالجسمي، ولكنهم غير متفقين اتفاقاً تاماً يتصل بمسألة الغذاء
فقالت مسز سابلتون:
- ألم يتفقوا؟
وكان صوتها في هذا السؤال صوت الذي جاهد التثاؤب في اللحظة الأخيرة. ثم لم تلبث أن ابتهجت فجأة وبدا عليها مظهر التنبه الشديد. . . غير أن هذا التنبه لم يكن لحديث فرامتون. ثم صاحت:
ها هم قد عادوا آخر الأمر في الوقت المناسب لشرب الشاي. ألا يبدو عليهم أن الأوحال تغطيهم إلى رؤوسهم؟
فارتجف الفتى ارتجافاً خفيفاً، ثم نظر إلى ابنة الأخت نظرة تحمل معنى الإشفاق. وكانت الطفلة تحدق من خلال الباب المفتوح، وفي عينيها معنى الرعب الخاطف: فدار فرامتون في مقعده وقد أحس بصدمة مرعشة من جراء خوف لا يدرك معناه ونظر إلى حيث تنظر الفتاة
فرأى خلال الغسق الهابط ثلاثة أشخاص يجتازون الحق إلى الباب المفتوح، وكانوا جميعاً يحملون البنادق على سواعدهم، وكان أحدهم يحمل ما عدا البندقية معطفاً أبيض من معاطف المطر ألقاه على كتفه، وكان يتعقب أقدامهم كلب صغير أسود تبدو عليه مظاهر التعب. واقترب هذا الجمع في سكون من البيت، وإذا بصوت فتى أجش يغني في الغسق:
(إني أسألك يا برثي لماذا تثب؟)
لم تكد عين فرامتون تقع على هذا المنظر حتى أمسك في عنف بعصاه وقبعته، وفي أسرع من لمح البصر كان قد اجتاز باب الردهة والممر المرصوف والباب الخارجي كأنه السهم المارق، حتى أن رجلاً مقبلاً على دراجة لم يتق التصادم به إلا في اللحظة الأخيرة منحرفاً فجأة إلى السور
ودخل القادمون من الباب المفتوح وقال حامل المعطف الأبيض:
- ها نحن يا عزيزتي قد عدنا ملوثين بالأوحال ولكن أكثرها جاف. ولكن من هو الرجل الذي اختفى لمجرد ظهورنا؟
فقالت مسز سابلتون: هو رجل غريب الأطوار جداً اسمه مستر (نتل) لا يستطيع أن يتكلم إلا عن مرضه، ولم يكد يراكم حتى اندفع إلى الباب خارجاً دون أن يلقي بكلمة وداع أو عبارة اعتذار، حتى لكأنه قد رأى شبح عفريت مخيف
فقالت ابنة الأخت في هدوء:
- أظنه قد خاف الكلب، فقد خبرني أن بعض الكلاب الضالة هاجمته مرة وطاردته حتى ألزمته الهرب منها إلى مقبرة في ناحية على ضفة نهر الجنج، وقد اضطر أن يقضي الليل في قبر جديد لم يدفن فيه أحد بينما الكلاب من فوقه تنبح مكشرة عن أنيابها، وفي ذلك ما يكفي لهز أعصاب أي إنسان
لقد كان من خصائص فتاتنا الرزينة اختراع الروايات على البديهة!
ع. ح