الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 983
- بتاريخ: 05 - 05 - 1952
هذا هو الطريق.
.
للأستاذ سيد قطب
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وان الله لا يضيع اجر المؤمنين: الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسهم سوء، واتبعوا رضوا الله، والله ذو فضل عظيم. إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه، فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين)
قران كريم
كلما رأيت المتوجسين عن الجهر بكلمة الله، وهم يزعمون الإيمان بالله. . كلما سمعتهم يجمجمون بهذه الكلمة ولا يصدعون خيفة أن يمسهم القرح، وان نسلط عليهم قوى الشر والطغيان. . كلما وجدتهم يلبسون هذا الضعف ثوب الكياسة واللباقة والمرونة والدهاء. .
كلما أبصرت هذا كله تمثلت لي تلك الآيات القدسية الكريمة ترسم الطريق. . الطريق الذي لا طريق غيره إلى النصر والعزة والمنعة والتوفيق. . وهتفت من أعماق ضميري: ألا إن هذا الدين لواحد، ألا وإنه لن يصلح آخره إلا بما صلح به أوله. . ألا وان هذا هو الطريق. . .!
(الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل) انهم لم يقولوا: نحن قله ضعيفة في كثرة باغية، فلنصبر على الذل، ولنرض بالهوان، ولنجامل الشر، ولنتق الطغيان. .
حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. . فالمؤمن يوقن: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وإن أمر الله إنما يتم بعبادة الذين ينفذون أمره، وان السماء لا تمطر على الناس عزاً ولا نصر إنما هم يصلون قلوبهم بجبار السماء فتهون عليهم قوى الأرض، وتهون معها حياة الأرض. وعندئذ ينقلبون بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء. وعندئذ يمكن الله لهم في الأرض، لأنهم صدعوا بكلمة الله، ولم يخشوا غير الله.
ذكرت هذا كله وأنا احضر اجتماعاً يقول دعاته: انهم اجتمعوا لتجديد شباب الإسلام والعمل
لنصرة الإسلام، وإعزاز العالم الإسلامي. . فلما أن جاء ذكر الحكم بالإسلام والعمل بشريعة الإسلام، انتفض منهم الكثيرون مذعورين، أن يثير عليهم هذا القول ثائرة الاستعمار وغير الاستعمار، وان يسبب لهم متاعب وعوائق ليس إلى اجتيازها من سبيل. وقال أوسطهم إنما نحن مؤمنون بان الإسلام عقيدة وشريعة ودستور ونظام، ولكننا نؤجل هذا إلى حينه، ونأخذ فيما هو اسلم واحكم!
قلت في نفسي: كيف ينتصر المنهزمون في ضميرهم منذ اللحظة الأولى؟ وكيف يكافح قوى الشر والطغيان من يفرق أن يجهر بالحق في كلمات على الورق، أو كلمات على اللسان؟
وعلم الله ما عجبت لشيء عجبي لدبلوماسية الأقزام التي يزاولها منا الرجال. لا في ميدان الدعوة الإسلامية وحدها، بل في ميدان الصراع القومي مع الاستعمار، والصراع الاجتماعي ضد الطغيان، والصراع الإنساني ضد الشر كله وهو ألوان. .
انهم يسترون الضعف دائماً بستار (العقل) ويسترون الهزيمة دائماً ستار (المناورة) ويسترون حب السلامة دائماً بستار (المصلحة العامة)
وإذا جاز لرجال السياسة العصرية الكاذبة الخادعة أن يعتذروا بتلك المعاذير، فإنها لكبيرة أن يستعيرها منهم الدعاة الإسلام. الإسلام الذي يقول ربه لرسوله (فاصدع بما تؤمر) ويئسه ن رضى مخالفيه عنه مهماً جامل وحاسن، لأنهم لن يرضوا عنه إلا إذا ترك دينه جملة وعقيدته:(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)!
إن الذين نداورهم امهر منا في المداورة، والذين نحسبهم أنفسنا نخدعهم، اكثر منا يقظة واشد خداعاً. فلم يبق إلا ذلك الطريق الواضح الصريح النظيف: أن نقول كلمة الحق التي نريد، وان ندعها تقرع الأسماع والقلوب، وان نؤمن بالله الذي يقول:(ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. ولله عاقبة الأمور)
وبعد فإن الإسلام الذي ندعو إليه عقيدة ننبثق منها شريعة، ويقوم على هذه الشريعة نظام اجتماعي، ونظام دولي، ونظام إنساني. ولا سبيل فيه لفصل العقيدة عن الشريعة، ولا فصل الشريعة عن النظام الذي ننشئه وتحكمه. فهذه العقيدة لا تتم، بل لا توجد، إذا لم تنشأ معها
آثارها الطبيعية التي لا فكاك منها. فليتحسس عقيدته وليفتقدها من يرى الشريعة غير الشريعة الإسلام تحكم، ثم لا يبذل جهده في رد الأمر إلى شريعة الإسلام؛ ومن يرى نظاما غير النظام الإسلامي يسود، ثم لا يعمل عملاً أو يقول قولاً، يصحح به الأوضاع، ويحقق به الصواب.
إن الإسلام لا يعيش في الظلام، فهو نور يعيش في النور. وإن الإسلام لا يخادع ولا يداور، فهو كلمة الحق التي تكره المداورة والخداع. وإن الإسلام حقيقة واقعة تعيش في الأرض، لا سراً ولا مؤامرة تتواري عن الأنظار.
نحن نريد عالماً إسلامياً. . فلندع إلى هذا العالم على أسسه الواضحة الصريحة: شريعة إسلامية، ومجتمع إسلامي. . ولقد مضى - والله الحمد - ذلك العهد الذي كانت الببغاوات تثرثر فيه بان الدين رجعية، وبان الإسلام تعصب. . فقد اعترفت مؤتمرات (الخواجات) الذين تقلدهم الببغاوات بان الشريعة الإسلامية مرجع هام للتشريع الدولي. ولقد أعجبني الأستاذ الكبير الشيخ محمد عبد اللطيف ضرار مدير الأزهر، وهو يقول هذه الحقيقة منهكما على أحد ببغاواتنا (المثقفين)!
فمن قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم. فاصطكت أسنانهم، وارتجفت مفاصلهم، فلينظروا: أين هم من ذلك الطريق الذي رسمه الله، في كتاب الله:(إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) فلينظروا أين يتجه بهم الطريق!.
إن أضواء النصر تلوح في أفق الفكرة الإسلامية فتجذب إليها الكثيرين. منهم من يبتغي وجه الله، ومنهم من يحسبها تجارة كاسبة. ولكن الطريق طويل، والعقبات كثيرة، والقرح والابتلاء ولاستشهاد ينتظر المجاهدين. وسيحق على بعضهم قول الله:(لو كان عرضاً قرياً وسفراً قاصداً لاتبعوك. ولكن بعدت عليهم الشقة) وسيق على الآخرين قوله الكريم:
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا)
وأولئك هم الفائزون.
سيد قطب
2 - حسن البنا الرجل القرآني
للأستاذ أتنور الجندي
هذه (حلقة) أخرى من تلك (الخطوط) التي دونها (روبي اكسون) في مذكراته واطلع عليها (صديقي) الذي يطلب العلم في (واشنطن). . والتي ينوي الكاتب الأمريكي تضمينها في رسالة له عن (الرائد الأول للإخوان المسلمين) أ. ج
. . . . انتهت الحرب، وقد تجمعت للرجل قوة، تجعله قادراً على أن يملي رأيه على كل حاكم. . ومن هنا بدا الخطر
خطر الرجل الفرد الأعزل، الذي يعيش في بيت صغير، ولا يملك إلا مرتباً ضئيلاً، والذي جرد نفسه لفكرته، وسحق مغريات الدنيا فلم تعد تقف أمام إيمانه، وهزأ بكل وسائل الأغراء، وأسبابه، حتى شهد المراقبون أن ليس وراء فكرته امرأة ولا هوى!
وكان مؤرخو الشرق يتنبئون للشرق برجل يجتمع حوله. . وكانوا يقولون أنه لو وجده لقامت الكتلة الإسلامية، ولتحرر الشرق. .
وكان زعماء الغرب يخشون أن يكون قد وجد هذا الرحل فعلاً. . قالوها لأول مرة، بعد أن ثبت لهم أن (حسن البنا) لا تؤثر فيه المغريات، وأنه لا يخضع ولا يحنى رأسه. .
وجاءت حرب فلسطين، فأعطتهم تلك الصورة المزعجة الخارقة، صورة الفدائية الإسلامية على شكل لم يعهد بعد بدر والقادسية وأجنادين. . .
وعجب الغرب كيف يمكن أن تقوم في الشرق (فئة) تقدم نفسها للموت على هذه الصورة العجيبة.
وكان جهاد الإخوان فيها آية الآيات. . . فقد يهروا كل من اتصل بهم. . ووقف الخصوم يقارنون. . . ويرسمون الخطط لمستقبل الشرق على ضوء هذه القوة الخارقة.
واخذوا يتربصون الدوائر. . ولم يتأخر عنهم القدر، فقد كان في صفهم هذه المرة. . . وسرعان ما أعطاهم (محفظة) سيارة الجيب
وتجمعت القوى الحاقدة، والمغلوبة، وترابطت الأهواء بالمطامع. . في محيط الأحزاب والجماعات. . . وأثير الغبار الكثيف. . وأعلنت الاتهامات والإرهاصات، على أوسع نطاق
ووقف الرجل وسط النيران. . وقد خيل إليه أنه يستطيع أن يعمل شيئا وجرت معه اتصالات، متعددة، كان لها أثرها. .
وشاهد الرجل في أيامه الأخيرة، هذا البناء الضخم، وهو ينهار حجراً حجراً. . ينهار في عالم المادة، ويزداد قوة في عالم الروح. .
. . وقد أمد إيمان الرجل بفكرته، أنصاره بالقوة على احتمال كل ما أريد بهم، أمدها لأن تحتمل التعذيب الذي لقيه بل وخباب وعمار
أي إنسان كان هذا الرجل الذي صنع هذه النفوس المؤمنة الخالصة القوية الإيمان، التي احتملت هذا العذاب في صبر وثبات. . .
لقد جاء حسن البنا إجابة طبيعية لقول (غلادستون) حينما وقف في مجلس العموم البريطاني وهو يحمل (المصحف) ويقول: (مادام هذا الكتاب باقيا في الأرض فلا أمل لنا في إخضاع المسلمين)
ودهش الناس يومئذ! ماذا يقصد (غلادستون)
كان الناس في الشرق قد طوتهم ظلامات القرون. وأفسدت عقائدهم، أقوال العلماء من صنائع السلطان، الذين أغلقوا
باب الاجتهاد، وأفتوا لصالح الحاكم الظالم. . فلم يكونوا يفهمون من القرآن إلا أنه كتاب الله. . يقرءونه على القبور وفي الصلاة. .
حتى جاء حسن البنا، على اثر نداء غلادستون، ليقول للناس، إن خطر هذا الكتاب الذي يخشاه المستعمرون، ليس لأنه آيات تقرأ في الصلاة أو ترددها الشفاه، وإنما لأنه كتاب تشريع وقيادة، وإمامة وحكم
وإنما يخشى الغرب روح الإسلام التي لو تبدت، دبت اليقظة في أوصاله فأفسدت ذلك على المستعمرين أغراضهم. . وقامت في الشرق أمة تحب الموت في سبيل الحرية والكرامة والعزة. .
وكان حسن البنا هو الرجل الذي أخرجه التاريخ ليكتب هذه الصفحة الجديدة في تاريخ الشرق الحديث
ولذلك نظروا أبنا منذ اليوم الأول نظرة الترقب والتوجس والخوف، وحاولوا أن المر
سيكون اخطر مما يتصورون، وأن الشرق مقبل على فجر (صادق) يطوى الاستعمار طيا وأصروا على أن يطول الليل. . وان يذهب الفجر. . ولا يعود. . ترى هل استطاعوا؟
وقف الغرب يرقب في لهفة، ذلك الرجل الذي جاء ليجدد (دعوة) محمد بن عبد الله. ومضى يسير على نهجه في بساطة وأناة. . لا يسبق الحوادث، ولا يصدم نواميس الكون
الرجل الذي كان يعلم أن مهمته ضخمة. . وأنها أكبر من جهد الفرد. . ولكنه كان قوى العزيمة إلى الحد الذي يضفي الثقة على النفس. . فآمن بأنه سيصل
ومضى يعمل ويسهر ويكد ويجهد. . يقابل الناس، ويتحدث إليهم. . ويخطب فيهم. . ويكتب لهم
ومضى ينفق من صحته ومن أعصابه، حتى كان اليوم والليلة يضيقان بما يريد. . ومع هذا ظلت أعصابه قوية. . وكان يزداد مع الأيام تألقاً
لم يمرض يوماً، ولم ينم في فراش. . كأنما كان جسده محصن ضد المرض، وكان كثير الأسفار لا تجهده. . بل كان لقاءه لأعوانه، في كل مكان، يزيد روحه قوة، ويفيض على نفسه حماسة وإشراقاً
وكان موفقاً لا تقف عقبة في طريقة مهما عظمت
وكان لبقاً، فلم يلتق بإنسان مهما كان كبير، إلا استطاع أن يغلبه ويقنعه ويضفي عليه شعاعاً من روحه الوهاج
ولو كان في مصر يوم بدأت الأحداث لتلافاها، ولا استطاع أن يطفئ النار بل أن يزداد لهيبها. .
وعندما وقعت القرعة انصرف عن الرجل بعض الذين كانوا يلقونه من قبل بالإكبار من ذوى الرأي. . ودخلوا جحوره، وخشى كل منهم أن قف في وجه الطوفان الذي كانت تدفعه يده. . بل إن بعضهم انضم إلى خصومه ودارى معرفته السابقة له، بحرب عوان. .
. . توارى الذين كانوا يحرصون على أن يكسبوه أو يفيدوا منه. . وهذا شأن الشرق، يحنى رأسه للرجل الذي يتألق، فإذا انصرف عنه الجاه العريض، شيعه الناس بالسخرية والاستخفاف. . .
والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهي. . ولأم المخطئ الهبل
الكلام صلة
أنور الجندي
الأصناف والحروف الإسلامية
للدكتور عبد العزيز الدوري
تقديم
إن الناحية الاقتصادية من تاريخ المسلمين ناحية جديرة بالعناية والبحث لفهم ذلك التاريخ وما خلفه لنا من تراث. وهى على خطورتها لم تلق الاهتمام الذي تستحقه، نتيجة حداثة هذا الفرع من فروع البحث التاريخي من جهة، ونتيجة اعتقاد الكثيرين - حتى في الغرب - بأن ليس لدى المسلمين ما يدرس في هذه الناحية
ومن الطريف نواحي الحياة الاقتصادية تنظيمات العامة وتوجيه العمل في الحرف ولأصناف، فهي دليل حيوية اجتماعية، وظاهرة للشعور بالكيان مع رغبة في التعاون وإعلاء مستوى الصناعة وشأن أصحابها
وليس لي إلا أن أقدم الخطوط الأساسية، عارضاً فيها ما توصلت إليه ببحثي - خاصة في نشأة الأصناف والنقابات، مستفيداً في نفس الوقت من البحوث من سلف
وخلاصة رأيي الذي أعرضه هو أن تنظيم العمل كان نتيجة لظروف المجتمع الإسلامي، وأن أثر الحضارات القديمة هو في التراث الاجتماعي العام، وأن أوليات تنظيم العمل جاءت في اتجاهين: اتجاه سلمي هادئ يتمثل في حركات العيارين والشطار التي وسمت نفسها بالفتوة. وتلى ذلك اتصال الاتجاهين بدعايات الصوفية والقرامطة وبتشكيلات الفتوه وتطور الكل في اتجاه شامل
هذا ومن أراد التوسع أمكنه الرجوع إلى بعض البحوث خاصة تلك التي أثبتها في آخر الحديث
إن تنظيم العمل سواء كان ذاتياً أم صادراً عن جهة خارجية وثيق الصلة بأهميته في المجتمع وبأتساع نطاقه وبالأوضاع العامة المحيطة به. اجتماعية واقتصادية وسياسية
ولقد كان تنظيم العمل لدى المسلمين ذاتيا قام به أصحاب الحرف ووجهوه في مصلحتهم، فبدءوا بالتكتل ثم كونوا الأصناف والنقابات وساروا بها خطوات بعيده. ولكن هذه الناحية من تاريخ المسلمين لا تزال في إطار الفرضيات لغموض أولياتها، ولورود المعلومات عنها بعد أن قطعت مراحلها الأولى
ويبدأ اختلاف الرأي في نشأتها؛ فهناك من يرى أن النقابات الإسلامية هي استمرار للنقابات البيزنطية (أو الساسانية) القديمة، فقد كانت في الهلال الخصيب ومصر نقابات عند الفتح ولا ينتظر أن يقضى العرب عليها إذ أن سياستهم العامة كانت إبقاء التنظيمات القديمة في البدء على الأقل
وهذا رأى يصعب البت فيه لأننا ليست لدينا إشارات تذكر عن النقابات قبل القرن الرابع الهجري وهي في هذه الأخبار تختلف عن النقابات القديمة
ويرى الأستاذ ماسنيون في بحث له أن الحركة الإسماعيلية هي التي خلقت النقابات الإسلامية وأكسبتها صفاتها المميزة لها ويعتقد أن النقابات الإسلامية كانت قبل كل شيء سلاحاً شهرة الدعاة القرامطة في كفاحهم لضم الطبقات لعاملة في العالم الإسلامي لتكوين قوة تضرب نظام الخلافة فخم إذن أوجدوا النقابات وسيطروا عليها لاستغلال أصحاب الحرف. (أنظر كتابه عن الحلاج)
ويعطى ماسنيون رأياً أقرب للقبول في بحثه في دائرة معارف العلوم الاجتماعية، فيبين أن النقابات نشأت في البلاد الإسلامية في القرن التاسع الميلادي، وأنها لم تظهر نتيجة لمطالب الشريعة، بل كانت نمواً طبيعياً للتطور الاقتصادي العجيب الذي حصل في هذه الفترة في المدن الكبيرة: بغداد أولاً ثم البصرة وحلب ودمشق والإسكندرية والقاهرة والري. ويرى أن التطور الاقتصادي يتمثل في تمركز رأس المال نتيجة ظهور أصحاب المصارف (الذين كانوا يمدون الدولة بالنقد) وبتمركز العمل نتيجة اصطياد الرقيق الاستعمارية التي كان يمولها أصحاب المصارف ثم يبين أن الأصناف الإسلامية كانت لها مميزاتها منذ البدء ومع أنها كانت متأثرة بالنقابات المحلية القديمة ببيزنطية وساسانية إلا أنها لم تكن مجرد بعث لتلك؛ بل كانت بالأحرى مظهر رد فعل اجتماعي عنيف لجماعات العمال وأهل الحرف والفلاحين ضد الطبقة الحاكمة التي جمعتهم واستبعدتهم. وينتهي إلى أن تاريخ النقابات وثيق الصلة بالحركة القرمطية التي تمثل اجتماعية اقتصادية دينية سياسية زلزلت العالم الإسلامي بين القرن التاسع والقرن الثني عشر والتي تطورت ووسعت التنظيم النقابي
ويذهب الدكتور لويس إلى هيكل النقابات الإسلامية موروث من العالم اليوناني الروماني،
مع أنه لا يستطيع تحديد أصول تشكيلات النقابات وفيما إذا كانت بيزنطية أم لا ثم يرى أن الحركة القرمطية لعبت دوراً كبيراً في تطور النقابات وتركت أثراً عميقاً في تشكيلاتها. يذهب الدكتور لويس إلى تأييد الملاحظة الأخيرة ببعض الشواهد. فهناك اهتمام الإسماعيلية الخاص بالحرف وتخصيص فصل كامل في رسائل إخوان الصفا التي يتمثل فيها الميل الإسماعيلي لموضوع العمل فتقول الرسائل إن بعض الناس، (لا يعمل ولا يتعلم لكله وثقل طبيعة عن الحركة ويرضى بالذل والهوان في طلب معاشه كالمجدين السؤال. وأما من استولى عليه القمر لا يعمل من أجل مهانته واسترخاء طبيعته وقلة فهمه مثل النساء وأمثالهن من الرجال) وهذا تمجيد واضح للعمل
ويذكر تأييدا آخر في رأيه وهو أن النقابات كانت مضطهدة ومقيدة بقيود لا تعد في الخلافة العباسية وخاضعة لمراقبة المحتسب الذي كانت مهمته الأساسية (في رأيه) قتل أية محاولة للعمل المستقل فيها في بثها بينما كانت النقابات مرفهة وتتمتع برخاء عظيم ولها كيان حسن وامتيازات كبيرة عند الفاطميين
ويعتقد لويس بوجود آثار إسماعيلية في تنظيم الأصناف مثل فكرة المهدى المنتظر وفكرة التنشئة المتدرجة وضم أفراد من طوائف مختلفة في النقابات الواحدة.
ولكن التدقيق في بحوث من ذكرنا يشير إلى أن الأوليات لم تبحث كما يجب ولا بد من توضيح الجذور قبل بحث التنظيم
لقد كان في المجتمع الإسلامي صنفان من العمال: الأحرار والرقيق. أما الأحرار فهم أصحاب الصناعات في المدن ويلحق بهم أهل الحرف البسيطة كالزياتين وهؤلاء يكونون جمهور الطبقة العاملة
وكان مورد العمال بسيطا آنئذ ويصف حالهم أبو الفضل الدمشقي (وأما الصنائع العملية وهى المهن فقد قيل قديما: الصناعة في الكف أمان من الفقر وأمان من الغنى. وذلك أن الصانع بيده لا يكاد كسنه يقصر عن إقامة ما لابد له منه ولا يكاد كسبه يتسع لإقامة ضيعة أو عقد نعمة.) ويقول (وأيضا فإنه مع ذلك إذا ميز الناس دخل في أدون طبقاتهم)
أما طبقة العبيد فهي أوطأ طبقة وهي تشتغل في الحقول أو البيوت وأحياناً في الجيش.
وليس قلة مورد العمال بالأمر الجديد ولكن تطورات اقتصادية حصلت؛ فالمجتمع انتقل من
طور زراعي إقطاعي في العصر الأموي الأول طور تجاري زراعي في العصر العباسي. وقد أدى توسع التجارة الأول تضخم رؤوس الأموال والى الزراعة الكثيفة والى توسع الصناعة وإنشاء المعامل الكبيرة.
ولذا نشهد ظهور طبقة رأسمالية تضم كبار التجار وأصحاب المعمل وكبار الموظفين. وزاد في قوة هذه الطبقة وتوسع فعالياتها ظهور طبقة من أصحاب المصارف الذين هم تجار في الأصل أخذوا يتاجرون بالنقود
ثم نلحظ بسبب توسع المعامل وتكتلهم أكثر من فبل حتى صرنا نرى الألوف يشتغلون في محل واحد أو بقعة واحدة وهذا قوى الشعور بالمصلحة المشتركة وبالأهمية بقعة واحدة ز وهذا قوى الشعور بالمصلحة المشتركة والأهمية والقوة. ولابد أن نشير هنا الأول فكرة وضع الحرف والأصناف في أماكن معينة لكل سوقها وهذه واضحة في تخطيط بغداد عند بنائها وفي تنظيم القيروان وفي بناء سامراء. وهذه الفكرة الطبقية هي فكرة موروثة وأن كان المجتمع القديم قبل الأزهر من اثر فهو في تخليد هذه الفكرة. وهناك ما يشير الأول حصول ارتفاع في المستوى المعيشة وغلاء في الأسعار في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري دون حصول ارتفاع مقابل في الأجور. يضاف الأجور ذلك الفوضى العامة التي أحدثتها سيطرة الجند التركي مما عرقل الأعمال الحرة واضر بأصحاب الحرف قبل غيرهم. فأثر ذلك في خلق البطالة وروح التمرد والنقمة خاصة على الطبقات الغنية والحاكمة وبعد ملاحة هذه الأسس نستطيع ملاحظة موقف الحرف وأصحاب المهن
وتشير البوادر الأولى إلى اتجاهين في التنظيم الأول: تنظيم داخلي سلمي فيه حاول العمال تنظيم أنفسهم فنرى لكل حرفة سوق ورئيس تختاره الحكومة. ونلاحظ وجود تدرج في الحرفة فترى طبقتين: الأستاذة والصناع. وهذا واضح منذ النصف الأول للقرن الثالث الهجري. ولا يوجد سامرا الاقتصادي اضطهاد الحكومة للعمل في هذه الفترة؛ بل أن الحكومة كانت تراقب حركات الأعراب الذين يرتادون الأسواق لأسباب سياسية. ويجدر بالذكر أن وظيفة المحتسب لم تظهر إلا بعد انتهاء الفترة الأولى للفوضى التركية. إذ أن أول إشارة لوظيفة المحتسب تعود لخلافة المعتضد (279 - 289). وان نظرنا الاقتصادي مناشير الحكومة في القرن الرابع الهجري (حتى بعد انتشار الدعاية القرمطية) نراها تجعل
عمل المحتسب منع الغش في الصناعة والإنتاج منع الحيلة والتدليس في المعاملات والتأكد من صحة الموازين والمكاييل
ولكن يظهر أن الدعاية القرمطية أثرت في قسم من العمال خلال الفرن الخامس الهجري وأواخر الرابع الهجري وتوجد بوادر تشير الاقتصادي اتهام بعض فعالياتهم
والاتجاه الثاني كان اتجاهاً عنيفاً يدعو للثورة على أصحاب الأموال والخروج على السلطة وهذا يظهر في التكتلات العيارين والشطار. وأول إشارة وصلتنا الاقتصادي هذا التكتل وردت في التوخي وتعود للفرن الثالث وفيها يلاحظ شعائر الجماعة واضحة؛ فلهم ناد خاص سري يجتمعون فيه وشعارهم من الملابس نشر الأزرار على الكتف ولف المئزر في الوسط؛ كما أن الانتماء يتم بمراسيم أبرزها شد المئزر وشرب كأس من النبيذ. وكان أعضاء الجمعية يعملون ويسرقون أحيانا ويقتسمون الأرباح وعلاقتهم عدائية مع الحكومة. وكان هؤلاء يسمون أنفسهم الفتيان. ويجلب الانتباه أن العيارين والشطار كانوا يدعون أنفسهم بالفتيان
ظهر هذا التنظيم في مجتمع مادي ومما زاد قوة التكتل وشدته الدعايات الاجتماعية التي جاءت باسم الدين ولكنها ساعدت على تحسين الحال وتغير الأوضاع الاجتماعية. وتجلت في حركة الزنج وبصورة أقوى في حركة لإسماعيلية والقرامطة الذين تطرفوا في استغلال التذمر فقالوا بان الأنبياء والسلاطين أنزلوا العامة الاقتصادي مستوى العبودية الاجتماعية والشقاء المادي، وأعلنوا أنهم يريدون إرجاع العدل الاجتماعي وتحقيق الرفاه المادي. وهناك إخوان الصفا ووهم جمعية سرية إسماعيلية الميول اشتغلت ضد الخلافة وسعت لتهذيب العامة لتجعل ذلك وسيلة لأحداث ثورة سياسية دينية عامة.
ويظهر أن الطبقة العامة في العراق على الأقل لم تبق راكدة بل حاولت تحسين كيانها وتأثرت بالدعايات، فبعضهم انضم للحركة القرمطية ولحركة الزنج في ثورات عسكرية دامت نصف قرن، والبعض الآخر سعى بطرق علمية تعاونية لتحسين الوضع وكان لفوضى الجند التركي اثر مباشر في ذلك
ويظهر أيضاً أن حركة أصحاب الحرف التي ظهرت لدى العيارين والشطار والفتيان تأثرت بالاتجاهات الصوفية في القرن لخامس الهجري وأواخر اقرن الرابع الهجري، فنجد
القشري يشير الاقتصادي خلق سام للفتوة فيه إطاعة للشريعة والرأفة بالناس والعفو عن المسيء والكرم حتى مع المشركين والأمانة والصدق والتواضع، ويفهم من القشري أن حركة الفتيان انتشرت في العراق والشام وإيران لها اتباع من الطبقة المتوسطة إضافة الاقتصادي الطبقة الفقيرة
ولا يخفي أن الصلة بالصوفية حصلت في دور لا تزال الدعاية الإسماعيلية فيه قائمة، وهذا يجعل من الصلابة بمكان فبول رأى لويس من أن النقابات تحرج وضعها بعد اختفاء الحركة القرمطية وأنها لذلك اتجهت نحو ميول دينية كالتصوف. فنشاط الصوفية كان موازيا للنشاط الإسماعيلي.
ويظهر أن الفتوة تأكدت لديها الناحية العسكرية تدريجياً. وقد انتشرت تشكيلات الفتوة في جميع البلاد أفق خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر للميلاد. وصارت جمعية الفتوة وخاصة بعد أن تبناها الناصر لدين الله مجموعة فتيان يربطهم دستور ديني أخلاقي له واجبات وشعائر منظمة، وينتظر منهم التحلي ببعض الفضائل والقيام بخدمة عسكرية للإسلام
وبعد الفتح المغولي زادت صلة الفتوة العسكرية بالطرائق الصوفية وبنقابات الحرف. وقد بدأ ذلك في الأناضول وانتشرت في العالم الإسلامي حتى صارت كلمتا (نقابة) و (فتوة) تشيران الاقتصادي مدلول واحد، وقد لعب هذا الاتجاه دوراً خاصاً في تطور التاريخ الإسلامي العام
ولابد هنا من ذكر الآراء عن نشأة الفتوة؛ فالأستاذ تيشنر يرى ثلاثة أدوار للفتوة تمثل خطوات انحلال اجتماعي مطرد. فهو يرى أن الحركة الفتوة بدأت كحركة فروسية أرستقراطية؛ ثم تحولت فصارت حركة الطبقة المتوسطة في القرن الثالث عشر الميلادي وأخيراً هبطت في القرن الخامس عشر الاقتصادي أكثر من ذلك وأصبحت حركة العوام، وهكذا اندمج الفتيان بنقابات الحرف
ويرى تورنبخ أن الصوفية والنقابات لم يضموا جمعيات الفتوة بل قلدوها مقتبسين شعائرها ومثلها العليا وأخيراً اسمها
للكلام بقية
عبد العزيز الدوري.
زكي مبارك
الأديب الذي أحب العراق
للأستاذ نجدة فتحي صفوة
سيسأل قوم من زكى مبارك
…
وجسمي مدفون بصحراء صماء
فان سألوا عنى ففي مصر مرقدي
…
وفوق ثرى بغداد تمرح أهوائي
لم تكن خسارة الأدب العربي في وفاة الدكتور زكى مبارك رحمه الله هينة ولا بالتي يمكن أن تعوض
وقد قال الأستاذ الزيات في رثائه الرائع للمرحوم المازني (. . . . فإذا أضيف إلى ذلك أن المازني كان أحد الكتاب العشرة الذين يكتبون لغتهم عن علم، ويفهمون أدبها عن فقه، ويعالجونها بيانها عن الطبع؛ وان هؤلاء العشرة البررة متى خلت أمكنتهم في الأجل القريب أو البعيد، فلن يخلفهم في هذا الزمن الثائر الحائر العجلان، من يحمل عنهم أمانة البيان، ويبلغ بعدهم رسالة الأدب، أدركنا فداحة الخطب الذي نزل بالأمة العربية يوم توفى هذا الكاتب العظيم)
وهذا الكاتب آخر من أولئك (العشرة البررة) فقدته اللغة العربية يوم فقدت المجاور الأزهري، والناقد الألمعي، والباحث المتعمق، والشاعر المتغزل، ربيب سنتريس، وحبيب باريس وطبيب ليلى المريضة في العراق (الدكاترة) زكى مبارك
ولا ريب أن أدب زكى مبارك سينال ما يستحقه من دراسة الباحثين وعناية المؤرخين، ويحتل مكانه اللائق به بين أدباء جيله، واترك لأصدقاء زكي مبارك أن يرثوا الصديق الوفي، ولتلاميذه وعشاق أدبه أن يدرسوا الكاتب البليغ، ولزملائه ومعاصريه أن يترجموا للفلاح الذي دفعه جده وطموحه من القرية إلى الأزهر، ومن الأزهر إلى الجامعة، ومن القاهرة إلى الصف الأول بين أدباء هذا الجيل. . .
وإنما هذه تحية من عراقي إلى الأدب المصري الذي أحب العراق، فأحبه العراقيون، ومنح هذا البلد قطعة من قلبه، وجانباً من أدبه، فبادله أهله المحبة والإعجاب، وقابلوه بالرعاية والإكرام. . . .
تحية وفاء إلى تلك الروح اللطيفة المرفرفة فوق بغداد. . .
ترجع صلة الدكتور زكى كبارك بالعراق إلى عهود دراسته الأولى يوم عنى بالأدب العباسي وشغل نفسه أعوام طويلة بأدباء العراق، فبث هذه الدراسة في محبة العراق، واسترعى تاريخه الحافل تفكيره وألهب خياله. وقد خاطب العراقيين ذات مرة في بعض محاضراته العامة قائلاً:(وأنا في الواقع تلميذ بغداد قبل أن أكون تلميذ في القاهرة أو باريس، فإن رأيتم صراحتي فلا تلوموني، فاللوم على أسلافكم الذين شرعوا مذاهب العقل والمنطق)
حتى إذا دعي رحمه الله إلى التعليم في دار المعلمين العالية ببغداد سنة 1937 رحب بذلك قائلاً: إن من العقل أن اعرف جوانب من الشرق بعد أن عرفت جوانب من الغرب. وصح عندي أن الهجرة إلى العراق قد تشرح دقائق الأدب في العصر العباسي، وليس من المقبول أن يصح لمثلى أن يصف باريس عن علم، ويصف بغداد عن جهل.
وشد رحاله إلى بغداد، فكان لمصر فيها سفير أدبياً ممتازاً، وأحدثت زيارته فيها حركة أدبية ونشاطاً فكرياً بما كان يبثه قلمه - على عادته أيان كان - في صحافة العراق ومجتمعاته وأنديته من حيوية وحركة. (وما هي إلا أشهر قلائل) كما يقول (حتى كنت على صلات بمختلف الطبقات في بغداد، وحتى صحت لنفسي أخطاء كثيرة في فهم الأدب والتاريخ)
قضى زكي مبارك في العراق تسعة أشهر حافلة بالعمل زاخرة بالإنتاج، ولم يقف نشاطه في حدود عمله الرسمي، أو دروسه في دار المعلمين العالية، وإنما تجاوزه إلى تأليف ستة مجلدات عن العراق وكتابة مئات المقالات، وإلقاء عشرات المحاضرات. وقد عنى رحمه الله بشئون العراق الفكرية والثقافية عناية عظيمة، فدرس الأدب العراقي عن فهم وروية، وكتب عن المرأة العراقية ونهضتها، وتبنى فكرة إنشاء الجامعة العراقية، وتحمس لها أكثر من العراقيين، ودعا إليها في كل مناسبة - وأحياناً بدون مناسبة أيضاً - ولعله كان أول من دعا لها ووجه إليها أنظار المسؤولين، وحملهم على التفكير الجدي فيها. وتطوع رحمه الله لتصحيح ما كان خاطئا من الآراء والمعلومات عن العراق في البلاد العربية، فكان على قوله (من صور العراق في مصر، ومن صور مصر في العراق) وكان رسول الأخوة العراقية المصرية، أدى بقلمه ما لا تؤديه سفارات ولا معاهدات، قال في المصريين - وهو شاهد من أهلها - (إن المصريين يفدون إلى العراق وليس في
صدورهم ثروة غير الحب، ومن أجل هذا يحبهم العراقيين، فإن سمعتم أن مصرياً شقي في العراق فاعلموا أنه مصري مزيف)
كما قال في أهل العراق - وهو الخبير العارف بهم - (إن العراقيين يحبوننا اصدق الحب، فليعرفوا جيداً إننا نحبهم ونتمنى لهم كل الخير، وننظر إلى بلادهم نظر الأخوة الصادقة التي لا تضمر غير العطف والصدق).
وطلب إليه أن يلقى في بغداد محاضرات أدبية عامة، فاختار لموضوعها شاعراً عراقياً إكراماً ومجاملة لأهله، ولما رآه من شبه بين شخصية الشريف الرضى وشخصيته في تدفق الإحساس وكآبة العاطفة وغدر الزمان، فأدى بذلك خدمتين جليلتين، الأولى للأدب العربي، إذ أحيا ذكرى هذا الشاهر العظيم الذي لم ينل شعره ما يستحقه من عناية ودراسة. والثانية للعراق لما جره الحديث من ذكر العراق ووصفه وتاريخه. وكان رحمه الله بما عرف عنه من اندفاع الشعور وحدة العاطفة ورقة الطبع قد درس الشريف الرضى ودعا الناس إلى دراسته ودلهم على مواطن العبقرية والعظمة في شعره. ولكنه كان أول من صدق أقواله فيه، وزادته دراسته للشريف الرضى إعجاباً به، حتى قال عند تقديمه المحاضرات مجموعة في كتاب، على طريقته المعروفة:(إن الشريف الرضى في كتابي، اشعر من المتنبي في أي كتاب، ولن يكون المتنبي أشعر من الشريف إلا يوم المؤلف عنه كتاباً مثل هذا الكتاب!)
وفي بغداد نظم قصيدة ألقاها في (نادى القلم العراقي) يقول إنها أعظم ما نظم في حياته عنوانها (من جحيم الظلم في القاهرة إلى سير الوجد في بغداد) ومطلعها
وفدت على بغداد والقلب موجع
…
فهل فرجت كربى وهل أبرأت دائي؟
وقال رحمه الله في (وحي بغداد):
(وأخشى إلا اظفر بكلمة رثاء يوم يشمني الناس إلى قبري، فذاكرة بنى آدم ضعيفة جداً، وهم لا يذكرون إلا من يؤذيهم، أما الذي يخدمهم ويشقى في سبيلهم فلا يذكره أحد منهم بالخير إلا وفى كلامة نبرة تشير إلى أنه يتصدق بكلمة المعروف)
كلا يا صديق العراق ومحبه!
فلن ينساك العراقيون، وهم ذكروك لم يحسنوا إليك، وإنما احسنوا إلى أنفسهم، ولم يتصدقوا
بكلمة المعروف، بل ردوا دينا لك في أعناقهم. وانك لم تعد الحق يوم قلت:
(وستمر أجيال وأجيال، ولا ينسى أهل بغداد، أن مدينتهم عاش فيها رجل أحبها أصدق الحب، اسمه زكى مبارك.)
القاهرة
نجدة فتحي صفوه.
بحث في الموسيقى الشرقية
للأستاذ تقولا الحداد
بقية ما نشر في العدد الماضي
السلم العربي
ذكرت آنفاً أن لكل لحن من الألحان العربية سلما خاصا ولكن
لها سلماً عاماً أصيلاً تتفرغ منه درجات أنصاف ودرجات
أرباع وهذه الأنصاف والأرباع تستعار من الدرجات الأصلية
بالضغط على الوتر بالإصبع، أو باستعمال (البكلة) في القانون
التركي، أو باستعمال ضغط الإصبع، أو بدوزنة القانون
دوزنة خاصة حسب اللحن المراد. وهذا ما يجعل الموسيقى
العربية ممتازة على الموسيقى الغربية بحيث تصدر الألحان
المختلفة محاكية الانفعالات النفسانية. الأمر الذي ليس له
مشابه في الموسيقى الإفرنجية. وتشترك معها في هذه المزيه
الموسيقى التركية. وربما كانت الموسيقى اليونانية أميز منهما
في هذا القبيل لأن في سلمها 18 و116 من الدرجة علاوة
على النصف والربع كما يقال
والموسيقى العربية اقتبست كثيراً من الموسيقى التركية وهذه من اليونانية الأصلية المسماة (البيزنطية) وفي ألحاننا العربية كثيرا من الروح البيزنطية. ويقال إن المرحوم السيد درويش الملحن العظيم كان يختلف كثيراً إلى الكنائس الأرثودكسية لكي يسمع البصلطيكا
اليونانية أي البيزنطية لكي يقتبس منها العبارات الموسيقية الجميلة أو المؤثرة أو الحنونة. وفى أدواره التي سجلها لنفسه في أقراص الفونغراف كثيراً من الروح البيزنطية
السلم العربي (والتركي أيضاً) أدق السلالم الموسيقية في كل العالم لما فبه من أنصاف الدرجات وأرباعها، ويقتبس منه العازف بدل درجاته وأرباعها، ويقتبس منه العازف بدل درجاته الأصلية حسب مقتضى اللحن الذي يعزفه
ولإيضاح ذلك نرسم السلم العربي في درجاته وفروعها (الأنصاف والأرباع) كما ورد في كتاب الأستاذ فرج الله وردى الذي نحن بصدده صفحة 153 مع مقارنته بالسلم الإفرنجي
اهتزازات
ذرات
دو
1200
1200
كردان
1150
1167
ماهور
سي
1100
1110
نم ماهور
1050
1086
أوج
1000
996
عجم
9500
972
نم عجم
لا
900
906
حسيني
850
882
نك حصار
800
816
حصار
750
792
نم حصار
صول
700
702
نوى
650
678
تك حجاز
600
612
حجاز
550
588
نم حجاز
فا
500
498
جهاركاه
450
474
بوسلك
مي
400
408
نم بوسلك
350
382
سيكاه
300
318
كردي
250
294
نم كردي
رمي
200
204
دوكاه
150
180
تك زركوله
100
114
زركوله
50
90
نم زركوله
دو
الوتر المطلق
الوتر المطلق
رست أو رصد
ولا أفهم لماذا لا يكون عدد اهتزازات الدرجة الأولى من السلم الأعلى مضاعف اهتزازات الدرجة الأولى من السلم الأسفل. أعنى أن تكون اهتزازات (دو) العليا (كردان) مضاعف اهتزازات دو السفلى لأن تلك بداية السلم الأعلى وهى في الجدول ليست كذلك لأن العليا جواب للسفلي وهذه قرارها ولكن الأمر على خلاف ذلك بل هو بعيد جداً عن الظن
وفي كتاب الأستاذ الله وبردى ستون رسماً وجدولاً للسلالم الموسيقية الغربية والشرقية والقديمة والحديثة. وفيه تحقيق علمي للنسب المتصلة الموسيقية وعلاقتها بالأنغام وغيرها حتى إذا طالعتها دهشت لسعة اطلاع المؤلف وسعة تفكيره ودراسته وتحار في كيفية استيعابه لها، ولا تكاد تصدق أن عقلاً واحداُ حذق تلك العبارات المختلفة واستخرج تلك
الأرقام حتى ليخيل لك أن الموسيقى ضرب من العلوم الرياضة. وإنها كذلك في دراسة هذا الكتاب الساحر.
الجمال الموسيقي:
ربما كان القسم الرابع من الكتاب أجذب الأقسام لنفس القارئ المحب للفن لأنه تبسط واسع في الجمال الموسيقى فأستأذن حضرة المؤلف بكلمة مختصرة أبسط بها ذلك التبسط
قلنا آنفاً إن مزية الموسيقى العربية (والتركية أيضاً) هي في أجزاء هذه الدرجات من أنصاف وأرباع لأن لكل لحن طريقة خاصة في استعمال هذه الأجزاء مثال ذلك أن العازف الذي يعزف لحن النهاوند يستعمل (راجع الجدول) نم الحجاز بدل جهاركاه، ويستعمل كردى بدل سيكاه، ثم دوكاه الأصلية إلى أن يستقر على الرست (وقد أكون مخطئاً في هذا الترتيب) وهكذا لكل لحن استعارات خاصة من الأجزاء. فإذا عزف العازف هكذا ثم عزف على الدرجات الأصلية جهاركاه سيكاه دوكاه رست شعرت حالا بالفرق في اللحن لأنه في هذه الحالة يكون اللحن لأنه في هذه الحالة يكون اللحن رستاً لا نهاوند. وهكذا بتنوع الألحان العربية يتنوع العزف على الأرباع والأنصاف بدل الدرجات الأصلية، وبواسطة هذه الاستعارات يتولد عند العرب عشرات الألحان وهي التي تحكي العواطف الروحية المختلفة. وليس في الموسيقى الإفرنجية إلا القليل من هذه التنوعات لاستعمال أنصاف الدرجات (أو ما يسمونه هكذا وما هو بأنصاف) كما رأيت، ولذلك تعتبر الموسيقى العربية أرقى وأجمل بكثرة التنوعات التي فيها. ولا بدع أن تكون كذلك لأن أقدميتها صقلتها وجعلت التفنن فيها بدائع فنية ككل تطور وارتقاء. والموسيقى الإفرنجية بنت الأمس، ويظن أصحابها أن الاقتصاد فيها على أشياء الأنصاف وتقييدها بالعلامات جعلها فنية راقية، وعندي أن هذا التقييد جعلها سخيفة في أذن الشرقي. الموسيقى روح لا مادة، فيجب أن توضع تحت أمر الأذن (العصب السمعي) كما يفعل العازفون العرب، فتكون أوقع في النفس وأكثر اندماجاً بالروح وأخلب للب أما اللذين يستحبون هذه دون تلك أو تلك دون هذه فأوتار أعصابهم السمعية قد تدوزنت على سلالم ألحانهم فصارت تهتز مع اهتزازات موسيقاهم وتنفر من اهتزازات الموسيقى الأجنبية.
فهؤلاء مخطئون في استهجان موسيقى غيرهم والعكس بالعكس. وإذا كان الشرقي أو
الغربي لا يود أن يسمع إلا موسيقاه فلا تلمه إذا قال لك إن موسيقاه أطرب من تلك أو أن الموسيقى الأجنبية أطرب له من موسيقاه لأنه تعود سماع الموسيقى التي تطربه منذ صغره. فهناك أشخاص لا يتذوقون الفن ولا يفهمون أصوله ولا يطربون لأي موسيقى، فيقولون لك إن الموسيقى الإفرنجية ذات أصول وقواعد وفنون ولذلك يحبونها، والحقيقة أنهم لا يحبون شيئاً. ويقولون أيضاً أن الموسيقى العربية أو الغناء العربي عار من الأصول والقواعد والأغاني لأن الأغاني كلها فوضى. هؤلاء جهلاء أغبياء جداً وإنما هم يقولون هذا القول لكي يتمسحوا بالإفرنج ويقال عنهم انهم متمدنون. ولما كان السلم الإفرنجي لا يطابق السلم العربي حتى في درجاته الأصلية فيتعذر جداً على العزف أن يعزف لحناً حربياً على آلة إفرنجية مقيدة الدرجات كالبيانو والأرغن وأمثالهما. فإذا عزف عازف عليها لحنا عربيا ظهر ناشزا حتى انك لا تستطيع أن تسمعه إذا كنت قد ألفته على الآلة العربية كالعود والكمنجة والقانون. لا تستطيع أن تعزف أذان الصلاة على البيانو أو نحوه وتشمئز إذا سمعته؛ ولكن إذا سمعت الأذان من كمنجة الأستاذ سامي الشوا شعرت أنه ناطق بكلامه.
وكانت فتاة لبنانية تدرس موسيقى إيطاليا (حسب السلم الإفرنجي طبعاً) فغنت مرة سوريين أغنية بسيطة لبنانية على السلم الأفرنكى فلم يطق أحد سماعها لأنها كانت تغنى العربي على السلم الأفرنكى. وهنك أناس يستنكرون تكرار الكلام والتلحين بالغناء العربي. فهؤلاء محقون في استنكارهم وربما كان هذا التكرار هو العيب الوحيد في الغناء العربي المصري. والذنب فيه هو ذنب المغنين أنفسهم لا ذنب الملحنين. لأن الملحن قد يكرر عبارة ولكنه لا يكرر لحنها وإنما يلحن لتكرارها لحناً آخر. ومع ذلك لا نعذره كل العذر لأن الشعر عندنا سواء كان معرباً أو زجلاً غنى بالكلام فلا داعي لقضاء نصف ساعة أو أكثر في غناء أغنية كلامها معدود الألفاظ إلا إذا كان الكلام مكرر متنوع الألحان. سمعت مرة في الإذاعة المصرية مغنياً ينشد قصيدة (نالت على يدها ما لم تنله يدي) فقضى حصته في الإذاعة في إنشاد الأربعة الأبيات الأولى وكان يكرر كل بيت منها بكلامه ولحنه مراراً حتى زهقت وأعتقد أن جميع السامعين زهقوا أيضاً. أََيضاً. والقصيدة تشتمل على أكثر من عشرة أبيات فكان في وسعه أن ينشدها كلها وأن يتفنن في ألحانها أو أن يعتمد على ملحن
خاص يلحنها له.
الموسيقى والشعر:
وربما كان الشعر العربي يمتاز على أشعار معظم الأمم الأخرى ولا سيما الإفرنجية لأنه موزون وذو مقاطع معدودة ومحدودة في كل بحر من بحوره. ووزن الشعر العربي يتفق مع الألحان الموسيقية اتفاقاً طبيعياً لأن الشعر موسيقى والموسيقى شعر. ولهذا أفرد الأستاذ الله ويردى قسماً من كتابه العجيب فصلاً خاصاً مطولاً للعروض. بحث فيه بحثاً فلسفياً ثم علمياً مستفيضاً وضبط جميع الأوزان العروضية وتفعيلاتها وشرح قواعدها شرحاً علمياً عجيباً. فننصح لمن يريدون درس العروض أن يطلعوا على الفصل السادس من الكتاب في التوزين والإيقاع بل أن يدرسوه درساً.
بقيت لي ملاحظة طفيلية أرجو أن يغتفرها لي حضرة الأستاذ المؤلف وهى أنه ورد في مباحث الكتاب بعض اصطلاحات خاصة بالموسيقى. مثل ذرة وكوماً وليما وبعد طبيعي وبعد طبيعي وجناحان إلى غير ذلك مما هو من خصائص العلم الموسيقي وهو غير مفسرة في الكتاب التفسير الذي يحتاج إليه الدارس. وكان جديرا بحضرة الأستاذ أن يضع لهذه الكلمات معجماً آخر الكتاب أو في أوله مستوفى الشرح يرجع إليه الدارس كلما وردت أمامه كلمة منها إلى أن يستوعبها تماماً. وحبذا لو كان يضع للموسيقى كتاباً تعليمياً مدرسياً يقلل فيه جداًول الأرقام للطلبة الذين يريدون أن يتعلموا الفن حسب الأصول والقواعد.
وأخيراً أني متعجب جداً من جَلد الأستاذ ومقدرته على إذكاء هذا الفن من الناحية العلمية ولا سيما النسب الرياضية وغيرها، ولا أظن أحداً غيره درس هذه الدراسة المستفيضة.
حقاً أنه يستحق جائزة نوبل إذا أمكن أعضاء لجنة نوبل الإطلاع على ترجمة هذا الكتاب.
نقولا الحداد
3 - لغة المستقبل.
.
للأستاذ محمد محمود زيتون
تحية علمية إلى البرلمان الفيلسوف أستاذي الدكتور إبراهيم بيومي مذكور بك عميد الفلسفة الإسلامية بجامعة فؤاد الأول سابقاً، وعضو مجلس الشيوخ، وعضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية.
تبين لنا في المقال السابق أن المنهج الرياضي لا يتناول غير موضوعات الرياضة البحتة بفرعيها: الحساب والهندسة. وإلى هنا يقف المنهج الرياضي. وتقام السدود من دونه في سائر العلوم، ومن ثم يحل محله الروح الرياضي.
فالرياضي إذا اكتشف قانونا، لن تزل قدماه حتى يقنعنا بالصلة التامة بين قانونه الجديد وباقي البدهيات المسلم بها، أما الفيزيقي فأنا لا نطالبه - في حالة ما إذا سمح الله واكتشف قانوناً - بأكثر من أن يربطه بنظرية متعارف عليها، وإذن ما أثقل العبء الملقى على عاتق الرياضيين.
والفيزيقي - من جهة أخرى - ببحث عن المسائل جديدة يحدها بآلات معمله ويربطها ويعدلها حسب الحاجة، أما الرياضي فإنه يتحسس السبيل إلى بصيص من موهبة الإبداع ليصور مسائل جديدة يستطيع بمنهجه أن يتدخل فيها، هذه الموهبة انفرد بها كثير من المحدثين، وبلغت أقصاها عند (أرشميدس) كما يقول
كما أن (الرياضي والفيزيقي يستعملان القياس) هكذا يقول العلامة الفيلسوف (كلود برنارد وإذا كانت العمليات الحسابية تدخل في الميادين الأخرى، فإن هذه العلوم المطعمة بالرياضة، والعلوم التطبيقية أو الصناعات تختلف منهجاً لاختلافها موضوعا.
أما العلوم التي تتناول الوسط بين الفيزيقا والرياضة فإنها تستخدم منهجا هو مزاج من المنهج الرياضي والمنهج التجريبي. وذا كان مجرد الانتقال من الهندسة البحتة إلى الهندسة التحليلية كفيلاً بتغير المنهج الذي لا يعود بعد ذلك محتفظاً بخواصه البرهانية الحدسية الأولى - وكما يقول أستاذنا المرحوم المسيو (لالاند) فكيف إذا انتقلنا من ميدان إلى آخر.
فالعلوم تختلف موضوعاً ومنهجاً، وليس ذلك بمانع من أن يكون سير الاختراع في جميعها واحداً لا يتغير - كما يقول (تانرى
وإذا كان للرياضة أن تنفرد من حيث الموضوع بمثاليتها التي تتعالى بها على العلوم الأخرى في واقعيتها، فإن لها أن تنفرد بالمنهج البرهاني في مقابل المنهج التجريبي الذي تسلكه الفيزيقاً.
في الفيزيقا نرى أكثر القوانين إن هي إلا معادلات جبرية فقد فسر (براون) الحرارة بتوزيع الذرات حسب متوالية هندسية عرفت في الوسط العلمي باسم (الحركة البراونية)، وكذلك قانون الضغط وقانون الطفو كلاهما معادلات جبرية، وكلاهما إدراك سليم للنسبة بين متغيرين، تلك النسبة التي أدركها العقل بالحدس لا بالتجربة.
ومع ذلك نرى العلماء يختلفون في تفسير الظاهرة الفيزيقية اختلافاً يذهب بأحدهم شرقاً وبالآخر غرباً، فهذه ظاهرة الضوء: يفسرها (نيونون) حسب النظرية الشيئية وبربط رأيه ببدهيات ينقضها (وبجانز) و (فرنل) إذ يفسران الضوء بالتداخل والاستقطاب، ثم يأتي من بعدهم من يفسره بالنظرية الأثيرية.
وفي الكيمياء، ظل العلماء ردحاً من الزمن يعتبرون العناصر عدداً يعد على الأصابع، وبتقدم البحث أوصلوها إلى أكثر من تسعين، وما كان لهم أن يصلوا إلى بمواصلة التحليل، فاستطاعوا أن يضعوا قوانين المزج والتركيب الكيميائي في صور معادلات جبرية وثيقة يعتمدها العقل.
وفي العلوم الكونية جميعا، تمكن العلماء من صوغ قوانينهم في أرقام حسابية أو أشكال هندسية، وسبيلها العام إلى ذلك هو الاستقرار والتجريب ما دامت الموضوعات قابلة للمقياس والمقدار.
وفي البيولوجيا خضعت ظواهرها لهذا المقياس. يقول (بيكار (إن البحوث البيولوجية لا تقفنا على دخائل الأجهزة الداخلية، ولا يمكن أن نكون منها معادلات لها دوال على الوجه الذي نراه في عالم الفيزيقا).
والواقع غير هذا، فقد تقدم علم البيولوجي تقدما ملحوظاً، وتمكن من قياس الظاهرات البيولوجية وتحليلها وتغيير ظروفها لمعرفة التغييرات الناشئة عن ذلك، وهو لم يصل إلى هذا إلا بأمرين هما: التشريح والاستدلال؛ وبهذا التحليل تمكن من معرفة تركيب الخلايا والغدد لمعرفة أثر الحياة الفيزيولوجية في الحياة السيكولوجية، وبهذا انتهى إلى معرفة
خواص (الأدرينالين) ودوره الفسيولوجي، وانتهى إلى تأثيرات الجهاز العصبي بالجهاز التناسلي، وأثر الخلايا وتركيبها في السلوك العام، وانتهى إلى قوانين التنبيه الحسي العضلي، وسبيله إلى كل ذلك التجريب ثم التحليل والإحصاء والمقياس والرسم البياني والمعادلات الجبرية، وعلى ذلك يكون الروح الرياضي هو العون الوحيد على هذه المجاهدات البيولوجية.
أما في السيكولوجيا، فقد اعتبرت مظاهر السلوك وقائع تكشف عن طاقة كافة هي النفس، وبتحليل هذه الوقائع وقياسها، ورد المتشابه منها إلى أصل واحد، أمكن الوصول إلى بعض القوانين.
وفي العلوم الاجتماعية حاول المفكرون علاجها حسب المناهج الهندسية، دون أن يكلفوا أنفسهم مؤونة التعديل أي قانون بآخر، ومنهم من استخلص نتائج سياسية من الحكم السائرة والأمثال العامية فأخطئوا جميعاً، وسر هذا الخطأ هو محاولتهم علاج الفن على أنه علم، ومحاولتهم الحصول على فن قياسي غير معقول (مل
وحاول أفلاطون قديماً - وهو تلميذ الفيثاغورية الرياضية - أن يشيد المدنية اليونانية على اعتبار أن بني الإنسان أعداد، فلم تتحقق أحلامه، ولم يندفع به الخيال كما كان يهوى.
استطاع علماء الاجتماع المحدثون أن يتلافوا ما وقع فيه أفلاطون والفارابي وتوماس مور وكاميانيلا، فنظروا إلى أمور المجتمع على أنها (وقائع) في ذاتها ففسروها وجربوا عليها واتخذوا لها الإحصاءات، واستعانوا بالروح العلمية فاستبدلوا بالنسب الرياضية (روابط) سموها القوانين التي هي أشبه بالمعدن النفيس الذي كان نتيجة (انصهار) عدة عوامل في (بوتقة) المجتمع الذي وصل (مونتسكيو) إلى أغواره فألف (روح القوانين) وكما جمله (دوركيم) ميداناً للمجال الطبيعي فأنتهي إلى (الضمير العام وذلك بعد أن افترض فيه جانبية الكبيرين (لاستاتيكا) و (الديناميكا) شأنه في ذلك شأن المغناطيسية والكهربائية والميكانيكية والفلك سواء بسواء.
وبإنعام النظر في الميادين الاجتماعية، توصل علماء الاقتصاد إلى نتائج لها قيمتها، وذلك باكتشاف قوانين: العرض والطلب وقانون جريشام في النقد، وقانون ريكاردو في الإبراد العقاري، وقانون مالتوس في العلاقة بين زيادة السكان ومواد المعيشة، وقانون الغلة
المتناقصة، وقانون الغلة المتزايدة. وكذلك ظهر في تاريخ الحضارة قانون القهقري الذي توصل إليه (فيكو وتقدمت النظريات الاجتماعية كثيراَ بالاستعانة بالإحصاء، وصدقت قوانينها العامة منذ اعتمدت على العناصر الثلاثة الآتية:
1 -
معرفة طبيعة المجتمع معرفة مستقلة.
2 -
اقتباس المنهج من صميم هذه الطبيعة الاجتماعية
3 -
السماح للروح الرياضية والعلمية بتنظيم الموضوعية الاجتماعية والإشراف على وثاقه قوانينها.
وقد تبادر إلى الذهن أن هذه الروح الرياضية لن تتطاول إلى الفنون، ولكن الواقع غير هذا فالشعر والموسيقى يعتمدان على الانسجام أو التناسب بين الأنغام والتفاعل بين الأنغام والتفاعيل مقدراََ كل ذلك بأعداد. فالروح الرياضي سائد في أوزان الشعر وقوافيه، والفنون على اختلافها تستوعب جزءاََ كبيراََ من المنهج الرياضي من حيث: البداهة وموهبة الاختراع، والتقدير العددي والإلهام
ولا شك بعد هذا كله في أن المنهج الرياضي هو أوثق المناهج في استقرار النتائج. وكم ذا يود الفكر الخالص أن يحظى في شتى ميادينه بوثاقه الرياضة لولا القيود والسدود التي تعترضه وإن كان يجد ويسعى مخلصاً في التغلب عليها والوصول إلى هدفه السامي.
والرياضة إذن (قاسم مشترك أعظم) بين جميع المعارف. بل هي لغة مشتركة ووظيفتها الكبرى هي احتمال معاني الألفاظ الوجودية والتفكيرية معاً، والارتفاع بها عن المثقلات المادية، والأوشاب والأوضار التي طالما عوقت ركب المفكرين عن سعادة الدارين.
والأمل اليوم معقود على (التلباني) لتكون لغة الجميع حيث تصفو النفوس، وتخلص من فراشيها، وتتحقق أحلام فيثاغورس يوم قال (العالم عدد ونغم). وحل ينشد المحصلون إلا العدالة بين الناس ليكون في المساواة كالأعداد؟ وهل ينشد المربون إلا المحبة التي هي انسجام وتوافق كما هو الأنغام؟، وهل يكون هذا إلا بالتربية والاستقامة على نهجها، وليس بعزيز على الله أن تكون هذه (الأعداد والأنغام). . . لغة المستقبل.
(انتهى البحث)
محمد محمود وبتوق
شخصية
للأستاذ حبيب الزحلاوي
يلتزم أكثر الناس، أثناء أحاديثهم، كلمة واحدة أو جملة تجري على ألسنتهم مجرى العادة فتسمى لازمة، وهذه اللازمة إما أن تكون خفيفة تنساب مع الحديث انسياب الكلمة الحشو في بيت من الشعر لا يلتفت إليها سوى الذواقة العارف بفنون القريض، أو تقع في غير موقعها فتصك السمع، وقل من الناس من سلم حديثة من لازمة واحدة أو أكثر
من هؤلاء (الالتزامين) صديق يختلف في لازمته عن جميع الناس لأنه شاعر، والمفروض في الشعراء أن تكون لازمتهم شعرية ذات معنى ورمز وجرس. لذلك نرى شاعرنا هذا يلتزم بيتاً واحداً من لامية أبن الوردي المشهورة يردده في كل مناسبة على خلاف الشعراء الذين يفترصون كل فرصة للاستشهاد ببيت لشاعر قديم أو مخضرم أو حديث يناسب الموضوع يدللون به على قوة حافظتهم، ومضاء ذاكرتهم، وسعة اطلاعهم، أما التزام هذا الشاعر بيتاً واحداً لا يتبدل، فله دلالة نفسية سينقشع عنها اللثام خلال الحديث.
ومن الظريف في شاعرنا أنه يبدأ في إنشاد الصدر من البيت: (لا تقل أصلي وفصلي أبداً) ويسكت هنيهة كأنه يحرض ذهن السامع على إتمامه، ولويل لمن يتلكأ في رد الصدر على العجز فيقول:(إنما أصل الفتى ما قد حصل) لأنه سيكون حتماً من البلداء
طاب لأحد الظرفاء من أصحاب الشاعر، وكنا نسميه (شاعر العرب والإسلام) أو (حصان الثورة) أن يكنيه كنية تطابق لازمته الوردية فكناه (حصل أفندي). ومن عجب أن فاض أسم الشاعر بنعوته واندثر، وانتشرت الكنية المستحدثة وذاع اللقب الجديد بين جميع المشتغلين بالقضية العربية من ساسة وثوار
شخصية (حصل أفندي) كما أراها اليوم، فريدة في بابها بل هو قريع دهره وواحد هذا العصر، يجمع بين جميع الصفات والمزايا، والغرائز والملكات وأضدادها كلها ولكن كفته إلى اليسار هي الراجحة دائماَ!
ترى البشاشة في محياة يعلوها إلا كفهرار والتجهم، إن هش ورحب بدأ نابه وظفره، وإن نظر وحدق اختلطت عليك معاني تلك النظرات ووجب عليك الاستعاذة بمن لا يستعاذ بسواه على أصحاب النظرة المختلطة. يصاحب كل الناس وفي صدره جمرة من كل
الناس. مودته مدخولة، ظاهر الملق، مما حل مداور مخادع، يوهمك أنه يخزى، ولنه في الحقيقة لا يندى له الجبين، ولا يحمر له خد أو أذن، يلبس ثياب التقوى ومسموح الزهد، ولا يتورع من اقتحام بيوت الدنس واقتراف الإثم والرذيلة، يحلل المحرمات سراَ، ويتزندق ليقال أنه من زهرة أبناء العصر الحديث
يتحاكم كطفل، ويتواضع باستكانة، ويتعالى بحمق، ويتظرف بسماجة؛ ولنه داهية داهية، ولئيم لئيم
تراه في كل نادِِ ومجتمع وحزب، في الأفراح والمآتم، بصفق للخير ويطرب للشر، يغفر فاه لكل طعام من كل مائدة، ويكرع ما يتبقى في الأكواب، ولسانه كأضراسه لا يفتر عن اللوك والطحن والمضغ والبتلاع.
قد لا تعلم، مهما أوتيت من ذكاء وقوة استلماح، متى يتجافى الحق، ولا كيف يرتجل الزور. تعجزك ملامحه، وتخونك فراستك في وجهه الكثير القسمات الناتئة، والأخاديد الفائرة، وفي غموض في سحنته ومات لونها، وهو قدير على إدماج الجد بالهزل، والمزاج بالرصانة
يتغابى كأخرق، ويتبالد كأنه أعمى البصيرة، لا يتكدر ولا يغضب، ولا يرتج علية الكلام لأنه ذكي لامع الذكاء. وهو في مجمله خلط ملط كما يقول أصحاب الأمثال
يوهمك أنه كتوم للسر، صائن للخير، ولنه عقرب وشابة، وأفعوان سعاية، رسول سوء وفساد، وزارع عداوات وبغضاء
قلت أن شخصية (حصل أفندي) تجمع بين جميع الخلائق وأضدادها، وإليك لوجه المقابل للوجه الأول
عرفناه - منذ عرفناه - أنه من خاصة أوائل الرجال الذين بذروا بذرة الوطنية في صدور الأمة التي استكانت دهراً طويلاً لحكم الأتراك، وفي مقدمة الرجال العاملين في الأحزاب العربية التي كانت تضمهم غاية واحدة، وأن تظاهرهم آنذاك بالتفرق والتحزب والتشيع، يعمل هذا الحزب مع الفرنسيين، وذاك مع الألمان أو الإنجليز، لم يكن سوى خدعة ووسيلة للاستعانة بهؤلاء الأقوياء على الخلاص من حكم الأتراك الأقوياء الأشرار، ولكن غايتهم ومرمى سعيهم كان منصباً على نيل الاستقلال، وإعادة تأليف دولة عربية إسلامية تسير في
مواكب الحياة مع الشعوب الحرة
ثم عرفناه يحار ب بقلمه السيال، ولسانه الطلق، وبيانه الواضح في كل ميدان من ميادين استنهاض الهمم، ونفض غبار الخمول، واستثارة النفوس، وإذكاء لنخوة العربية
ثم رأيناه يحبس لسانه عن الخطابة، وقلمه عن الكتابة، وقد استبدل بهما بندقية وراح مع الثوار في ميادين الحماة، وجبال حوران، ومع أشاوس الدروز وأبطال منطقة الفوطة يقتنص ضباط جيوش المحتلين، ولم يرم جندياَ من الجنود المرتزقة أو من أبناء المستعمرات إلا فيما ندر.
لقد كانت له مواقع مشهورة، وحكايات في البطولة، ومعلقات في المغامرات، وكان برغم نشاطه العجيب، ونفسه الغدارة، لا يختلف عن المجالس الساسة، ولا يني عن درس أمور الوطن وتطوراته، وإبداء الآراء السديدة، ووضع رسوم الخطط مع الزعماء، غير أنه لما انطفأت نيران الثورة الكبرى التي تأججت سنة 1925 من جراء اختصام الزعماء على الرياسة واقتتالهم على المال الذي تبرع به كرام المصريين والأسخياء من أبناء سورية ولبنان في المهجر إعانة لثوار، تحولت فوهات بنادق بعضهم إلى بعضهم الآخر بعد أن كان ت مسددة إلى صدور الأعداء. . أقول ما كادت تنطفئ نيران الثرة وتتفرق جماعات لثوار حتى انكفأ الزعماء والقادة متخاذلين، منهم من يمم دمشق في أعناقهم محارم الاستسلام للغاصب المحتل، ومنهم من لاذ بمصر موئل الأحرار وحصن المجاهدين، يضمدون جراحهم، ويلمون شبعهم، ويوحدون صفوفهم، ويوفقون بين أحزابهم التي كانت في الأصل حزباً واحداً، يستأنفون جهادهم. ومن عجب أن (حصل أفندي) لم يكن مع الجماعة التي لاذت بمصر. بل راح مع من راحوا إلى دمشق يجرع ذل الاحتلال ويغب من صلف الفرنسيين أتراك الغرب
التأمت جراحات العرب الأحرار اللائذين بمصر فعاد إليهم نشاطهم، وتوفزت حيويتهم، وعلا صوتهم يدوي في المجامع والصحف، وما عتم أن أرهف العالم أذنه من جديد يسمع شكاوى هذا الشعب العربي العحيب المتوافرة فيه خصائص العظمة والسؤدد من ناحية؛ وعناصر الاستسلام والخضوع للأمر الواقع من ناحية أخرى. شكاوى فيها ترانيم للحياة، وأناشيد للحرية، وطالبة بالحق المغتصب، وزغردة للثورة، وتهديد بغسل وتطهير الأمة
التي تلوثت بالاحتلال بدماء المحتلين، ومن عجب، بل من سخرية القدر أننا كنا نسمع أصواتاً منبعثة من دمشق بتعب أصحابها كغراب البين يندبون العرب والعروبة. يلتصقون بهم ما هم منه براء، وينادون بالاستسلام للأمر الواقع، والطاعة الشرعية لولى الأمر والخضوع له وإن كان دخيلاً. وقد صار لزاماً على الأحرار المقيمين بمصر أن يحاربوا في ميدانين، ويقاتلوا عدوين، الأول مغتصب عات هو الفرنسي المستمر، والثاني سوري من أبناء الوطن ضالع مع المحتل الذي أفسد الأخلاق والضمائر، وأستبعد الأقلام والألسنة بالمال والشهوات.
في هذه الفترة من القلق والاضطراب، في هذه الآونة الحرجة في حياة أمة رامت النجاة من براثن الذئب فوقعت في مخالب لبؤة جائعة جشعة، في هذه الحقبة التي هي في حكم الضائع من أعمار الأمم، في هذه الفترة برز شخص (حصل أفندي) في مصر كنيته شيطان أو كفطر شق أرضاً رواها الندى ودفعها التعفن!!!
ومن عجب أن الذهن الشامي المفطور على الذكاء اللامع والسذاجة الصافية، أنطمس ذكاؤه وانطفأ نوره وبدت فيه السذاجة بأجلى مظاهرها فرحب بـ (حصل أفندي)(الذي كان ضالَا فوجد) وغفل أو نسى أنه تخلف عمداً عن ركب أقرانه الأحرار وقد يمم الشام وفي عنقه منديل الاستسلام والعبودية
بل الأعجب والأنقى أن جميع أبواب السياسة فتحت له، وأن أكثر طوايا الصدور نشرت له بغير ما ظن أو شك أو توجس
لقد كنت واحداَ من أولئك الذين خدعتهم أعذار ذلك الداهية اللسن، وانطلت عليه تلفيقا ته البارعة وتمويهه المتقن. . . لقد خفيت حقيقة (حصل أفندي) عن جميع إخوانه وأصدقائه، وأخذ كل منهم ينظر إلى الآخر نظرة فيها معاني النفر المستترة، والصمت على مضض، وما لبثا أن أصبح كل منا يتجنب أصدقاءه الذين وحد بينهم الاعتقال وميادين القتال، وتدبير المؤامرات، ووحدة الغاية الوطنية.
في صدر كل منا حفيظة، وتوجس، وخوف لا شك أن هناك شيطاناً يوسوس، ولأفعى تنفث سمها، وامرأة خداعه! ولكن أين هي المرأة والحية والشيطان؟ وراء أي ناع وتحت أي طلسان أو عمامة يستترون؟
مقتلة المحتلين واجب وطني وشرع مقدس، ومحاربة المواطنين الذين خنعوا للأمر الواقع ونكصوا عن الجهاد في سبيل الحرية ليست بالحرب الشعواء، ولكن حرب الشيطان، حرب الطابور الخامس، حرب دود الخل، حرب قتل المعنويات بعقاقير محلية، حرب صدم شعور الشباب بنصائح شيوخ رحماء) إنما هي حرب أكثر فتكا من القنابل الذرية، وأشد وبالاً من الجراثيم لأنها تصيب النفوس فترديها، وتفتك بالأرواح فتميتها.
البقية في العدد القادم
حبيب زحلاوي
ديوان مجد الإسلام
نظم المرحوم الشاعر أحمد محرم
يقدمه الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم
من حق القراء الأعزاء وقد راسلني منهم كثيرون لا تربطني بهم غير رابطة الفكر، وتفضل بزيارتي غيرهم سائلين عن الديوان الذي انتظروه أكثر من ستة أعوام، وأنتظره الإسلام والمسلمون أربعة عشر قرناً - ومن حق ناظمة على أن أقدم له بمزاياه، ومنزلته الأدبية، وصورة واضحة للملحمة الإسلامية ومكانتها من الملاحم الغربية، ولمن تفصيل هذه المقدمة طويل، وأنا أحرص ما أكون على الحيز الذي تكرم به الأستاذ الزيات بك على الديوان وناظمه، فحسبي أن أذكر اليوم في تقديم الديوان أن (محرماً) قد عمد إلى أروع الحوادث في تاريخ غزوات الرسول وإلى أشهر البطال، من وجهة نظرته الشعرية وسجل في شعره الرصين مالهم من مواقف مجيدة وأعمال خالدة.
وقد خالف شعراء الملحمة العربية، فكانت تغلبه عاطفته فيترجم عن شعوره بطرقة مكنته من أن يطيل الوقوف على حوادث هينة، وأن ينفذ إلى صميم المعاني وستقصى التفصيلات وبصورة الأبطال صوراَ كاملة.
وإلى أن تسنح الفرصة التي نعود فيها على بدء، أرجو أن يطالع القراء ديوان مجد الإسلام أو الإلياذة الإسلامية على هذا الضوء؟
مطلع النور الأول
من أفق الدعوة الإسلامية
أملأ الأرض (يا محمد) نوراَ
…
وأغمر الناس والدهورا
حجبتك الغيوب سراَ تجلى
…
يكشف الحجب كلها والستورا
عب سيل الفساد في كل واد
…
فتدفق عليه حتى يغورا
جئت ترمي عبابه بعباب
…
راح يطوي سيوله والبحورا
ينقذ العالم الغريق ويحمى
…
أمم الأرض أن تذوق الثبورا
زاخر يشمل البسيطة مدى
…
ويعمم الأرض أن تذوق الثبورا
زاخر يشمل البسيطة مدى
…
ويعم السبع الطباق هديرا
أنت معنى الوجود بل أنت سر
…
جهل الناس قبله (الإكسيرا)
أنت أنشأت للنفوس حياة
…
غيرت كل كائن نغييرا
أنجب الدهر في ظلالك عصرا
…
نابه الذكر في العصور شهيرا
كيف تجزى جميل صنعك دنيا
…
كنت بعثا لها وكنت نشوراَ
ولدتك الكواكب الزهر فجراً
…
هاشمي السنا، وصبحا منيرا
يصدعه الغيب المجلل بالوحي
…
الملقى ويكشف الديجورا
منطق القدرة التي تزهق القا
…
درعجزا، والعبقري قصورا
كل ذمر رمى النفوس بوتر
…
من خطاياه رده موتورا
خرت العرب من مشارقها الع
…
يا توالى هويها والحدورا
بات فيها ملك البيان حريبا
…
يسلم الجند والحمى والثغورا
أنكر الناس ربهم وتولوا
…
يحسبون الحياة إفكا وزورا
أين من شرعة الحياة أناس
…
جعلوا البغي شرعة والفجورا
تلك أربابهم: أتملك أن تن
…
فع مثقال ذرة أو تضيرا؟
قهروها صناعة أعجب الأر
…
باب ما كان عاجزا مقهوراَ
مالدى (اللات) أو (مناة) أو (العز
…
ى) غناء لمن يقيس الأمورا
جاء دين الهدى وهب رسول الل
…
هـ يحمى لواءه المنشورا
ضرب الكفر ضربة زلزلته
…
فتداعى وكان خطباَ عسيرا
جثمت حوله الحصون وظن ال
…
قوم ظن الغرور أن لن تطيرا
هدها ذو الجلال حصنا فحصنا
…
بالحصون العلي وسورا فسورا
بالرسول الهادي، ولصفوة الأم
…
جاد يقضون حقه الموفورا
يهرقون النفوس تلقى الردى المه
…
راف مثل الغدير يلقى الغديرا
إن في قتل للشعوب حياة
…
وارفا ظلها، وخيرا كثيرا
ليس من يركب الدنية يخشى
…
مركب الموت بالحياة جديراَ
أمن الحق ن تصد (قريش)
…
عن (فتاها) وأن تطيل النكيرا؟
سل (أبا جهلها) وقوما دعاها
…
فاستجابوا جهالة وغرورا
أولعوا بالأذى، فألفوا رسول الل
…
هـ جلدا على البلاء صبورا
كلما أحدثوا الذنوب كبارا
…
وجدوه لكل ذنب غفورا
ما به نفسه فيغضب يرض
…
يها وترضيه ناعما مسرورا
إن الًله، لا سواه، ودين
…
ملك النفس، واسترق الشعورا
يجد الناس والمقادير فيه
…
ويرى ما عداه شيئاَ يسيرا
ما زكا سابق من الرسل إلا
…
هو أزكى نفساَ وأصفى ضميرا
جاره (عمه) يقول أترضى
…
أن يقيموك سيداَ أو أميرا
ويصبوا عليك من صفوة الما
…
ل حيا ماطرا، وغيثا غزيرا
قال: يا عم ما بعثت لدنيا
…
أبتغيها، وما خلقت حصورا
لو أتوني (بالنيرين) لأعر
…
ت أريهم مطالبي والشقورا
إنه يشيروا بما علمت، فإني
…
لأدع الهوى وأعصي المشيرا
دون هذا دمي يراق ونفسي
…
تطعم الحتف رائعا محذورا
المطعم بن عدي
ما رأينا كالمطعم بن عدي
…
جانبا واصلا، هيوبا جسورا
آثر الكفر ملة وأجار الد
…
ين مستضعفا يدور شطيرا
رام (بالطائف) المقام فأعيا
…
فأتثنى يطلب الأمان حسيرا
وكل اللًه بالنبوة منه
…
أسدا يملأ الفضاء زئيرا
قائما في السلاح يجمع حولي
…
هـ شبولا تحمى الحمى ونمورا
يمنع القوم أن يصدوا رسول الل
…
هـ عن بيته ويأبى الخفورا
نقض الحلف من قريش فأمسى
…
أسلمته العرى وكان مريرا
عجبا للغوى يعطيك منه
…
عملَا صالحاَ ورأيا فطيرا
ما رأينا من ظن بالزرع شراَ
…
فحمى أرضه وصان البذورا
لو جزى الله كافرا أجرما أح
…
سن يوما لخلته مأجورا
في غار حراء
ظل مستخفيا (بغار حراء)
…
يعبد الله عائذا مستجيرا
يسمو القوم في الضلال ويمسي
…
للذي أطلع النجوم سميرا
راكعا سادا يسبح مولا
…
هـ ويزجى التهليل والتكبيرا
تهتف الكائنات يأخذها الصو
…
ت، وتحبى مكانه المهجورا
نال منها محلة لم ينلها
…
صوت (داود) حين يتلو (الزبورا)
نبرات قدسية تتوالى
…
نغما رائعا وتمضي زفيرا
رب طال الخفاء، والدين جهر
…
رب فأجعل مدى الخفاء قصرا
ماجت الأرض حوله، وتجلى الل
…
هـ ينهي بركانها أن يفورا
أوذى الدين في الشعاب وردت
…
يد (سعد) عدوه مدحورا
رقمت في الكتاب أول سطر
…
وأتم الدم المراق السطورا
أدبر القوم مختفين فلولا الل
…
هـ كادت رحى الوغى أن تدورا
أزمع (الضيف) أن يؤم سواه
…
منزلا، كان صالحا مبرورا
حله الوحي روضة شاع فيها
…
رونقا ساطعا، وفاح عبيرا
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الأزهر قبل (بريل):
زارت مصر أخيراً الكاتبة الأمريكية الصماء العمياء البكماء (هيلين كلير) وقد نقل الصحفيون، وتحدثت في نوادي القاهرة، عن كفاحها السياج الكثيف الذي ضرب بين حواسها الثلاث وبين الإدراك، فإذا نجاحها معجزة ومفخرة، وإذا بصيرتها تستشف - بواسطة اللمس - من الحقائق وفنون المعرفة ما يقصر دونه إدراك ملايين من ذوي الحواس الخمس. .
وقد عنيت (هيلين كيلر) الإنسانة العظيمة بموضوع العناية بذوي العاهات في مصر، فوقفت على القدر اليسير الذي تبذله الحكومة المصرية في هذا السبيل، فاستشعرت لطف حسها واصطنعت اللباقة في الثناء على ذلك (الجهد) وفي الحث على المزيد منه، ومما لاحظته أن المعاهد والدور التي تعنى بذوي العاهات عندنا لا تؤوى أكثر من خمسهم في البلاد. . . .
وتحية هذا القلم لهذه الضيفة الكبيرة - وهي تحية تليق بأمثالها من عظماء النفوس - أن أقدم لها (الأزهر!) فإنه لم يبد إلى الآن أنها ستلتفت أو أن أحدا سيلفتها إلى ذلك المعهد العريق الذي عنى ولا يزال يعنى بالمكفوفين، يعلمهم، ويتيح لهم فرص النبوغ وإظهار كفاياتهم العلمية، وييسر لهم بذلك التغلب على أهم ما يجر إليه حرمان البصر من صعاب في الحياة وهو احتلال مكانة راقية بين أبناء المجتمع بما يؤدون فيه من عمل يؤهلهم لها
وأخشى أن تنتهي زيارة (هيلين) لمصر وليس في ذهنها من العناية بذوي العاهات فيها إلا ما عرفته من ذلك الجهد الضئيل، فلا تعلم أن مصر سبقت العالم هذا المضمار منذ ألف سنة، فوجد فيها الأزهر قبل طريقة (بريل) بمئات السنين
وبعد فليت الأزهر يهتم بإدخال الطرق الحديثة إلى المناهج الدراسة للمكفوفين فيه، فيبنى جديدا على قديم ويضيف طارفاً إلى تليد. والأمل أن يكون ذلك على يد قائد الأزهر في وثبته الجديدة شيخة الحالي فضيلة الأستاذ الأكبر عبد المجيد سليم
ذكرى إقبال:
احتفلت سفارة الباكستان في مصر بذكرى الشاعر الفيلسوف الدكتور محمد إقبال يوم الجمعة الماضي بدار نقابة الصحفيين، وقد خطب في الحفل الأستاذ صلاح الدين خورشيد الملحق الصحفي بالسفارة ومحمد علي علوية باشا والدكتور حسن إبراهيم حسن بك والدكتور عثمان أمين، وألقى قصائد الشيخ الصاوي شعلان والأستاذ خالد الجرنوسي والأستاذ محمود جبر
والسفارة الباكستانية في القاهرة تبدي دائما نشاطا ملحوظاََ في الاحتفال بالمناسبات الباكستانية والإسلامية، وتكون هذه الحفلات فرصاً طيبة لتبادل الشعور بين المصريين ورجال الباكستان في القاهرة؛ وقد جرت السفرة على الاحتفال بذكرى إقبال كل عام منذ قيام هذه الدولة الفتية، وهو اهتمام تغبط عليه، وينبغي لنا - نحن المقصرين إزاء ذكريات أعلامنا - أن تأنسي بها في ذلك، وخاصة أن الذين يقولون في الذكريات الباكستانية عادة هم جميعاً - ماعدا الملحق الصحفي الباكستاني - مصريون أعتقد أنه من الممكن أن يقولوا أيضاً في الذكريات شوقي وحافظ وغيرهم من أدبائنا الراحلين الذين لا يذكرهم غير أهليهم الأقربين. .
والملاحظ في الاحتفالات السنوية لذكرى إقبال أن ما يقال في سنة يكرر في أخرى، فكلهم يقولون إن إقبال شاعر إسلامي استمد فلسفته من ثقافة الإسلام، وانه استحث قومه على الجهاد والتقدم، حتى تكونت الباكستان نتيجة لدعوته وثمرة لغرسه، ويذكرون تاريخ ميلاده ووفاته والجامعات التي التحق بها، ولا يفوت قائلهم أن يذكر أن إقبال لم يستطع العمل في الحكومة لأنه سقط في الكشف الطبي. . . . إلى آخر هذا الذي سمعناه في هذا العام كما سمعناه في الأعوام السابقة، ولا يكادون يخرجون عنه. .
وكم نود أن نسمع أستاذاً باكستانياً يحاضرنا في (إقبال) باللغة العربية التي لا يعرفها من رجال الباكستان في القاهرة إلا الملحق الصحفي. . . حتى العلماء الباكستان الذين يفدون إلى مصر، إذ نراهم لا يتحدثون باللغة العربية، ويتكلمون ويخطبون فينا باللغة الإنجليزية، ومن عجب أنهم يدعون بهذه اللغة إلى مؤتمرات من أعراضها جعل اللغة العربية لغة رسمية عامة لبلاد الإسلام والذين توجه إليهم الدعوة هم أهل البلاد العربية الإسلامية الذين يتخذون العربية فعلا لغة رسمية لهم وغير رسمية.
وأنا أعتقد أنه لا يتم التوحد والتفاهم بين شعوب مختلفة اللغات، وقد نزل الإسلام بالعربية، وارتضيناه دينا، فلا بد - لتقاربنا وتعاوننا - من التفاهم باللغة التي جاء بها وحملته إلى الناس
وأعود إلى ذكرى إقبال فأقول فأقول إن خير ما صنعته الباكستان لهذه الذكرى في مصر هو ترجمة أشعار صاجبها إلى اللغة العربية ونشرها بين الناطقين بالضاد. وقد قام بجهد مشكور في ذلك الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام بك سفير مصر في الباكستان والأستاذ الصاوي شعلان، وقد كان خير ما في الحفل شعر إقبال الذي أنشده الأستاذ الصاوي بعد ترجمته إلى العربية.
الطفولة في الأدباء:
في حياة بعض الأدباء والشعراء، أو في كثير منهم، وقد يمون في جميعهم، جوانب تبدو تافهة وذات دلالة لا تتفق وعظمة ما ينتجون من أدب وشعر، ولا شك أن المتأميلن في الحقائق في هذا المضمار يهتمون بتتبع تلك الجوانب ودراستها، وكثيراً ما يستضيء بها النقاد المحدثون فيما يتناولون بالنقد والتحليل من حياة الأدباء وآثارهم
ويحدثنا تاريخ الأدب عن كثير من ذلك، وإن كان منثوراً غير منظوم في دراسات ذات مقدمات ونتائج.
أقصد بذلك التمهيد لسياقه أطراف مما عرفناه في بعض أدباء المعصرين الراحلين:
كان الأستاذ كامل كيلاني يلتقي بأمير الشعراء أحمد شوقي بك في أصائل أيام المصيف بالإسكندرية، ومرة رآه مكتئباً مقطباً، فسأله في ذلك، فقال شوقي: سكرتيري مريض - شفاه الله، أليس تحت عناية الطبيب؟
- ما إلى هذا قصدت. .
- ماذا إذن؟
- أشار على الطبيب أن أمشي كل يوم مسافة قدرها ما بين خمس شجرات في صيف واحد على هذا الطريق، وأنا أمشي حتى أبلغ الشجرة الرابعة، فأشعر بالتعب، فأتوقف، فيقول لي (السكرتير): من أجل خاطري أمشي إلى الشجرة الخامسة! فأنا اليوم سأمشي إلى الرابعة فقط. .
- المسالة هينة. أعيرك سكرتيري يقول لك. . .
وحلت العقدة، ولم يقطع أمير الشعراء مشيه إلى الشجرة الخامسة، وشكر (الجميل) للسكرتير المعار. .
وكان المرحوم الأستاذ صادق عنبر - في فترة من حياته - موظفاَ في وزارة المعارف بمرتب لا يلائم مكانته الأدبية، وتولى هذه الوزارة رجل ممن يقدرون الأدباء. فرأى أديب كبير من الأصدقاء صادق عنبر - وهو أيضاً صديق للوزير - أن يلفت نظره إلى الأديب المغبون في رزقه بالوزارة، فحادث الوزير في الأمر، فوعد بزيادة مرتبه خمسة جنيهات في الشهر. واستقبل الوزير الأديبين الكبيرين في داره، وكان الموقف يتطلب من الأستاذ صادق عنبر أن يقبل على الوزير بحديث يكسب به مودته وإعجابه، ولكنه لمح بيد صديقة علبة كبريت أشعل لفافته ووضعها أمامه على النضد وكان الأستاذ صادق (مولعاً) بالكبريت! فوجه همه إلى العلبة. . . وجعل يخالس صاحبه ليأخذ من عيدانها ويملأ علبته! فسارع الصديق يدس العلبتين في جيبه، ليطمئن ويوجه انتباهه إلى الموضوع الذي أتيا من اجله. . . ولولا ذلك لضحى أديبنا الفقيد بخمسة جنيهات في الشهر لقاء عيدان من الكبريت لا تساوي خمسة مليمات. . . .
وكان فقيد الأدب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، إذا أراد أن يسري عن نفسه مما يهمه، يقوم إلى المرآة فينظر فيها إلى صورته ويخرج لسانه. . . وكان يعلل ذلك بأنه يريد أن يضحك نفسه ليذهب عنه ما ألم به. . . وهو تعليل مقبول ولكنه يدل على ما وراءه مما يتصل بموضوعنا.
ولعل تلك المشاعر، والتصرفات التي تمليها، من بقايا الطفولة في نفوس الأدباء، ولعل لكل واحد منهم طريقة خاصة به في (طفولته)، للازمة، وقد يأتيها في العلن متماجنا، وقد يصنعها في خلوته. . . .
ويرى الأستاذ توفيق الحكيم أن أعمال الأدب من امتداد طفولته وأنه يحاول أن يتخلص من مكافحة المجتمع لهذه الذخيرة (الطفولية) التي هي من ألزم الأمور للأديب وذلك كما جاء في الفصل الأول من كتابه الجديد (فن الأدب) وقد قرأت هذا الفصل بعد كتابة ما تقدم كما يقول الزملاء الصحفيون. . . .
عباس خضر.
الكتب
الإنسان بين المادية والسلام
تأليف الأستاذ محمد قطب
عرض وتعليق
للأستاذ حسين عبد الفتاح سويفي
لن يصدق القارئ بعد أن يفرغ من قراءة هذا الكتاب، أن مؤلفه شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره، فلو أن كاتباً أفنى عمره الطويل في البحث والاطلاع لينتج مثل هذا الكتاب لضمن لنفسه الامتياز والتفوق. إنه يسحرك ويستهويك من أول جملة في المقدمة إلى آخر جملة في النهاية، أنه يرضي ذوق الأدب، وروح الشاعر، وعقل العالم، ومنطق الفيلسوف
هو بحث سيكلوجي، يعرض عليك النفس، في ثوب تحليلي رائع، وتعبير أدبي موسيقي بديع، وإنك لتجد فيه رشاقة الأسلوب وقوة التعبير والتحليل، وسلاسة المنطق وسلامته، والمعرفة بأسرار النفس وخفاياها، وطبيعة تكوينها، ورأى العلماء والأديان فيها، ومدى ارتباطها بالحياة، وارتباط الحياة بها.
وهو يضع الإنسان بين المادية والروحية، وبين المذاهب الاجتماعية المختلفة والأديان السماوية، ويسلط عليه هذه الإشعاعات، ليقنعك فتقتنع معه بأن الإسلام دين فطرة، دين الحياة والأحياء.
نه يقول في المقدمة: (بينما يتطرف فرويد، في إطلاق النفس من عقالها، ورفع الكبت عن الغرائز المحبوسة، وتتطرف المسيحية من الجانب الآخر في فرض الكبت على الطاقة الحيوية للإنسان. يقف الإسلام بينهما موقفاً وسطاً، ولا يطلق الإنسان من عقاله، إلى الحد الذي يرده حيواناَ ويلقى ما تعبت الإنسانية من الوصول إليه في جهادها الطويل، من ضوابط لنزعات الحيوان)
هكذا في إيجاز بسيط يعرض عليك موضوع الكتاب موجزاً في بضع جمل، ثم يفصله لك تفصيلاً، يقنعك كل ما فيه بصدق ما يقول
وإنه ليفجؤك بالرأي أحياناَ، فيترك في نفسك مجالَا للتساؤل والحيرة، ثم لا يلبث أن يعيد
إليك أمنك وطمأنينتك ويردك إلى نفسك، ويرد نفسك إليك، فعند ما يقرأ الفصل الأول من الكتاب (نظرة المسيحية) وتطالع أولى فقراته:
(المسيحية دعوة مخالفة لطبيعة الحياة والأحياء، دعوة ترتفع بالإنسان عن نفسه، وتصل به إلى الآفاق العليا التي تسمو عن الجسد والمادة، الآفاق الطليقة من قيود الأرض. ومن نوازع الشهوات)(إنها قصيدة رومانتيكية ساحرة، وحلم جميل لشاعر نبيل - ولكنها مع ذلك مخالفة لطبيعة الحياة والحياء -)
لا شك أن سؤالَا يقوم نفسك؟! كيف تكون المسيحية مخالفة لطبيعة الحياة لا يتركك في هذه الحيرة طويلاً فيجيبك الإجابة المقنعة البسيطة الصحيحة.
(المسيحية حقنة مضادة للمادية اليهودية والرومانية التي كانت شائعة يوم بعث المسيح، فلزم إذن أن تكون كلها روحانية متسامية، لتتعادل مع تلك المادية، لعلها تصلح النفوس، ولكنها ليست نظاماً طبيعياً للحياة الدائمة في كل الأجيال وفي كل الشعوب) ثم يضرب لك الأمثال.
وحينما يتحدث عن فرويد، يعترف أنه عبقرية فذة، ولكنه لم يكن على صواب دائماَ فيما يبديه من الآراء. أنه ينكر عليه (نظرته إلى الإنسان على أنه كائن أرضي بحت، لايرتفع بمشاعره وعواطفه عن عالم الأرض إلا في حالات الشذوذ)
وينكر عليه وعلى دارون وعلى الغربيين عامة (هذه الروح المادية المتنكرة لكل قوة خارجة عن حدود الأرض، ولا نؤمن إلا بميدان العلم التجريبي) ثم يناقش هذا الرأي فيقول:
(إن العلم ما يزال في طفولته، وما يزال كل يوم يصل إلى آفاق جديدة، فيلغي إلغاء تاما معلومات كان ينظر إليها على أنها حقائق نهائية لا تقبل الجدل، ولا تحتمل التأويل)
إنه يريد من هؤلاء جميعاَ أن يقولوا قولاً غير هذا، يتمشى مع العقل والواقع أنه يريد من قائلهم أن يقول:
(إنني توصلت بالشواهد الثابتة، والتجارب المؤكدة، إلى إثبات كذا وكذا من الأمور، ولكن أمورا أخرى فاتتني ولم أستطع إدراكها، ومنها سر نشوء الحياة على ظهر الأرض والسر الذي يجعل الأحياء تتشبث بالحياة، وتتطور تبعاَ لذلك لمواجهة ما يحيط بها من ظروف، ثم
السر الخفي في قدرتها على هذا التطور العجيب، ولا يمكنني في الوقت الحضر أن أقول: إلا أنها من أسرار خالق الحياة التي لم يكشف عنها بعد الأحياء)
ولا يفوته حين يقول ذلك للغربيين، أن يأخذ علينا نحن الشرقيين (إيماننا الأعمى بكل ما يأتي به الغرب على أنه صواب لا خطأ فيه، ولماذا لا نعيد النظر في هذه الآراء والنظريات فنأخذ منها الصواب ونتجنب الخطأ، ولنا عقيدتنا الخاصة التي نعترف بالعلم كما نعترف بالدين، ونضع الإنسان في وضعه السوي)
وإنك لتحس الثورة العاتية في نفسه، على هذا العالم المادي الثقيل المتخلي عن إنسانيته حينما يختتم هذا الفصل بقوله: (ألا إنها المغلطة الكبرى لكل حقائق الحياة، والنفس البشرية هي التي أدت العالم، إلى الحيوانية المتجردة، التي أر تكس فيها بغير عذر الحيوان، وبغير حصافة الحياة التي رسمت للحيوان حدوداً معينة، تقف عندها غرائزه. . أما الإنسان الذي كرمه خالقه ورفعه، وجعل في يده أمر نفسه، فإنه ينتكس اليوم إلى حمأة يتعفف عنها بعض أنواع الحيوان.
ثم استمع إليه، واسخر معه كما سخر من التجريبيين، أولئك الذين يخضعون كل شيء للمعمل والتجريب، والتجريب العلمي (يؤمن الغربيون بكل ما يحمل خاتم التجريب، ويأخذونه قضية مسلمة، لا تحتمل الشك والتأويل، أما ما لا يخضع للمعمل فهو خرافة، أو على الأقل شيء ساقط من الحساب، ولما كان الله - مثلاً - لا يدخل المعمل، ولا يخضع للتجريب، فقد استغنوا عن خدماته، وأعلنوا أنه غير موجود)!
على أنه مع ذلك لا ينكر خدمات العلم التجريبي، التي أداها للبشرية، ولمنه ينكر، وينكر القارئ معه، إخضاع كل شيء للمعمل والتجريب، فهناك الجوانب الروحية التي لا يمكن أن تنكر لأننا نجهل جانباً منها
(قد يستطيع الباحثون ذات يوم أن يصلوا إلى نتيجة نهائية قاطعة، في المظاهر المادية لهذا الكون، أما النفس الإنسانية فهي عالم واسع غير محدود، ومازالت البشرية منذ مولدها إلى هذه اللحظة. تتحدث عنها، وتحاول الوصول إلى كنهها في آدابها، وفنونها، وفلسفتها، وأديانها، واجتماعياتها، فلا ينتهي الحديث، ولا ينقطع عنه نقطة معينة، وإنما يتقبل البحث كل مما قيل، وكل ما سيقال، ويبقى بعد ذلك الباب مفتوحاً للمزيد)
هذا حديث عقلية واعية صاحبة مرتبة، تعرف كيف تعبر وتدمغ الحجة بالحجة، وتقرع الرأي بالرأي، وتأتي بعد ذلك بفصل الخطابب، وهو يؤيد العلماء النظريين الذين يقولون (إن هناك نزوعاً، أو انفعالاً نفسياًيؤثر في الجسد، فينتج عنه حركة جثمانية تهدف إلى تحقيق هذا النزوع، أو إرضاء الانفعال، وينكر على التجريبيين قولهم: (إن الجسد هو الذي يتصرف في النفس)
يقول قائلهم (أي التجريبيون - إنني سمعت خبرا محزنا فبكيت، فنشأت من ذلك عاطفة الحزن! فالحزن نشأ من البكاء أي من الحركة الجسدية. وليس العكس، أن الإنسان يحزن فتنهمر دموعه - كما يقول العقلاء من عباد الله).
(ويقولون إنني رأيت الأسد فجريت، فنشأ من ذلك الخوف، لا أنني خفت فجريت)
أن المؤلف يؤمن بأن الجسد أداة منفذة لرغبات النفس، وينكر على فرويد إيمانه بالجبرية الشعورية التي تقول؛ إن الحياة النفسية مصدرها الجسد، والجسد إفرازات كيمياوية، ونشاط كهربي، لا سلطان لأحد عليه، لأنه يعمل بطريقة غير إرادية فقد انتفت إرادة الإنسان التي يكون بموجبها مسئولا عما يفعل).
وهل هناك دليل على تأصل المادة في حياة فرويد، وعلى عدم اعترافه بالأديان، والجوانب الروحية، أقوى من هذا القول لأن الأديان جميعاً تقول: بأن الإنسان محاسب على أعماله، لأنها تصدر عن إرادته، ولا تعفيه عن المسئولية حينما يرتكب خطيئة في حياته الدنيا، حنى القوانين الوضعية، تأخذ المجرم بالعقاب، لأنه مسئول عما يفعل، وإلا فلم يعاقب المجرم؟ ولم وضعت القوانين؟.
وليتصور القارئ أي فوضى كانت تسود البشرية، لو ترك الناس أحراراً فيما يفعلون، باعتبار أنهم غير مسئولين عما يفعلون! وأي فرق بينهم وبين الوحوش في الغابات والهوام في مسارب الأرض.
إنه حين يقول ذلك (ليسقط المسئولية الخلقية، ويسقط معها الإنسان).
وعندما يتعرض للشيوعيين يكشف زيف مذهبهم، حين يقولون:
(- إن الإنسان هو القوة الفعالة في هذا الوجود - وتلك جملة براقة قد توحي بأن أنصار هذا المذهب، يؤمنون بالإنسان وبالإنسانية في صورها الرفيعة النبيلة، الإنسان في
مجموعة، بما فيه من جسد وعقل وروح) فأنظر كيف يكشفهم ويفضح مذهبهم حين يقول: (إنهم لا يؤمنون بالإنسان، ليرفعوا من شأنه، ولكن لينفوا فقط تدخل الإله في شؤون الخلق، أما إيمانهم بالإنسان فعلى أساس أنه مادة، ولكن إذا سألنا ما هو الفكر؛ وما هو الشعور؟ ومن أين ينبعثان؟ يتضح لنا أنهما نتاج الدماغ البشري. . . وهذا الدماغ ليس إلا مادة. . .
وهنا تظهر طبيعة المؤلف الصاحية الواعية: فيقول:
(إذا كان العقل مادة، فإن الفكرة في ذاتها ليست مادة، لأنها لا تتحدد بحدود الزمان والمكان)
وهكذا يردهم إلى صوابهم حين لا يجدون الإجابة المعقولة
ثم يبين لك خطل الرأي الشيوعي في أن المادة هي أساس النظم الاجتماعية الصالحة، كانت الجوانب الروحية هي الأسس الأصيلة، التي أقام عليها نظاماً اجتماعياً صالحاً في مدى سنوات معدودات.
(إن الإسلام قد انتشر بسرعة مثالية، ما تزال فريدة حتى اليوم، ففي أقل من عشر سنوات، أيام عمر بن الخطاب، كان قد غمر فارس والعراق والشام ومصر والنوبة. . . لم يكن ثمة بارود، ولا اختراع حربي - مادي - يتفوق به حفنة من العرب الذين انطلقوا من الجزيرة، يبشرون بالإسلام، على قوى الإمبراطوريتين العريقتين، في فارس وبلاد الروم. . شيء واد هو الذي تغير، هو إحساس هؤلاء العرب بالحياة والكون، وبالحق والعدل الأزليين.
لقد كانت العقيدة الجديدة، هي القوة الدافعة في هذا البناء الجديد)
وعندما ينتهي المؤلف إلى (نظرة الإسلام) يتحدث عن الفرد من خلال عدسة الإسلام، فلا يترك جزءاً من جزيئات جسمه، ولا مسرباً من مسارب نفسه، ولا هاتفاً من هواتف رغباته، ولا غريزة من غرائزه إلا وبحثها تحت ضوء هذه العدسة. ثم يبين مقدار صلة الفرد بالسماء، ومدى سموه وصعوده، وعلاقته بالأرض ومدى انجذابه إليها - على حسب نظرة الإسلام - ثم يأخذ له صوراً متلاحقة لنزعات عقله وجسمه وروحه. . وكيف أن الإنسان يساير هذه النزعات، أو يحد من قوتها بالقدر الذي يضمن للفرد والحياة، اضطراً النمو، ودوام الأرقاء.
وإنه ليعرض عليك النظريات الإسلامية، في فلم منسق، يرضي روحك وعقلك، ويرد بك مناهل المعرفة الإسلامية. كل ذلك في أسلوب يكاد من الرقة يطير، ومن القوة يلتهب.
وهو مع ذلك كله، لم يأت بجديد على حسب (نظرة الإسلام) ولكنه ارتاد فعرف كيف يكتشف، واطلع فعرف كيف يفهم ويفهم، فارجع إلى هذا الفصل من الكتاب لأنه أضخم من التلخيص.
وفي باب الفرد والمجتمع يعرض عليك الآراء النظرية، والتطبيقات العلمية المختلفة للحكومات، ويبنين لك خطأ أولئك الذين يغلون في احترام الفرد على حساب المجتمع، والمجتمع على حساب الفرد فيقول (كلتا النظريتين مبالغ فيها إلى حد الإسراف المعيب)(فالفرد الذي يبلغ إحساسه بنفسه وذاتيته أن ينسى وجود الآخرين، والمجتمع الذي لا يفرض للفرد، أي وجود مستقل، كلاهما يتجاهل طبائع الأشياء، ويغفل عن حقيقة نفسية مهمة)
وقد كان من الممكن أن يكتفي بهذا القول ففيه وحده الإقناع، ولكنه دائماَ يأخذ في كثير من التفصيل والتعليل، لتزداد اقتناعاً على اقتناع
حسين عبد الفتاح
البريد الأدبي
فتش عن الرجل
. . نعم. . فتش عن الرجل. . فهو المسؤول الأول عن كل فرد من أفراد الأسرة التي ترعى شؤونها. . مسؤول عن زوجة وأبنائه وبناته. . . بحكم ما خصه الله به من نفوذ، فجعله قواما على زوجة، ولياَ على أبنائه، وكيلاً عن بناته، راعياً لشؤون الأسرة، شأنه شأن القبطان الذي توكل إليه مهمة القيادة، فيتجنب مواطن الزلل والأخطاء، ليسير بالركب قدماً إلى شاطئ السلامة والاستقرار. . وهذا يتطلب منه - إلى جانب حسن القيادة - اليقظة الحذر، والتبصر بالعواقب، ليحيط رعيته بسياج منيع يحميها، ويقيها الأحداث.
وإذا تهاون الرجل في القيام برسالته، فإن البيت لا يلبث أن يختل نظامه ويضطرب كيانه، وتهدده عوامل الشقاق التي تعصف به وتقوض صروحه!.
فإذا رأينا زوجة ضلت الطريق السوي، فأعلم أن هناك رجلاً لم يعرف كيف يهديها سواء السبيل، ويوجهها الوجهة القويمة، أو أنه ترك لها الحبل على الغارب، فأفلت من يده الزمام!
وإذا رأينا زوجة خرجت عن حدود الكرامة، وغشيت المجالس والأندية التي لا يليق بها أن تغشاها، تراقص الرجال وتحتسي الشراب، فأعلم أن هناك رجلاً مستهتراَ، أباح لها الخروج على هذه الصورة المزرية، وعلمها كيف تتناول الكأس. . وكيف تناوله!.
وإذا رأينا فتى جرفه تيار الغواية، وصرفته شياطين الإنس عن مثل الكرامة، فأعلم أن هنالك أبا أغمض عينيه وغفل عن رعايته وتوجيهه، فانتهى به الأمر إلى هذا المصير المظلم.
وإذا رأيت فتاة خدعتها المظاهر، وبهرتها الأضواء الزائفة، فأعلم أن هنالك أباً تهاون في الرقابة، فجنى على رعيته.
وهذه المآسي الاجتماعية التي نشهدها بين وقت وآخر، والتي تثير في نفوسنا اللوعة والأسى لما تتمخض عنه من تشرد الأبناء وانفصام العرى وانهيار البيوت؛ لو درسنا العوامل التي أفضت إليها، لوجدنا أن للرجل الإصبع الأولى فيها، فهذه الطفولة المشردة التي نشكو آثارها البغيضة، إنما هي ثمرة من ثمار الرجولة المشردة، وهذه الأنوثة التي
تودي بضحاياها إلى حياة الظلام إنما هي ثمرة الرجولة المشردة، لأن هذا الرجل الذي تصرفه عن بيته الشواغل، فلا يعود إلى بيته إلا في الهزيع الأخير من الليل لا يمكن أن يحقق رسالته كزوج ووالد؛ أنه يعود إلى البيت بعد أن يأوى الأبناء إلى فراشهم، وقد يغادر الأبناء البيت في الصباح المبكر قبل أن يراهم الأب، ويناقشهم في مختلف الشؤون التي يجب أن يحاسبهم عليها، فكيف ينتظم البيت وهو على هذه الحال من الفوضى والتفكك؟ فلتق اللًه هؤلاء الرجال في زوجاتهم، وفي أبنائهم، وفي بناتهم وليؤدوا رسالتهم على وجه الله، ويرضاه المجتمع
عيسى متولي
إلى القاضي الفاضل
أستحلفك بالله ألا تنفذ ما أوعدت به نقد بني أمية بالحق فقد أفضوا إلى ما قدموا؛ وهذا الإمام الشعراني نراه يعقد فصلا في بيان وجوب الكف عما شجر بين الصحابة ووجود اعتقاد أنهم مأجورون بقوله: (وذلك لأنهم كلهم عدول باتفاق أهل السنة سواء من لابس الفتن ومن لم يلابسها، كفتنة عثمان ومعاوية ووقعة الجمل، وكل ذلك وجوباً لإحسان الظن بهم وحملاً لهم في ذلك على الاجتهاد، فإن تلك أمور مبناها عليه، وكل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد والمخطئ معذور، بل مأجور، قال ابن الأنبا ري: وليس المراد بعد التهم ثبوت العصمة لهم واستحالة العصمة منهم، وإنما المراد قبول رواياتهم لنا أحكام ديننا من غير تكلف ببحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية، ولم يثبت لنا إلى وقتنا هذا شيء يقدح في عدالتهم ولله الحمد، فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن الرسول عليه السلام حتى يثبت خلافه، ولا التفات إلى ما يذكره بعض أهل السير، فإن ذلك لا يصح، وإ صح فله تأويل صحيح، وما أحسن قول عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه: تلك دماء طهر الًه منها سيوفنا فلا تخضب بها ألسنتنا)
هذا وقد زاد قدر الأستاذين الطنطاوي وشاكر وعات مكانتهما في القلوب ولنا أن نباهي بهما!
شطانوف
محمد منصور خضر
القصص
الشيطان
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
كانت المرأة العجوز مسجاة على فراشها وهي تعالج سكرات الموت، وترقب من بين أهدابها المرهقة أبنها وهو منتصب أمام طبيب القرية وتحاول بكل ما أوتيت من قوة وإحساس أن تتبين ماهية الهمس الذي كان يدور بينهما. كانت هادئة ساكنة رغم ثقتها من أنها ستموت عن قريب. . . ولكنها كانت مستسلمة للواقع الملموس. . . فهي قد أكملت الثانية والتسعين من عمرها. . . وهذا يعني أنها قد أتمت رسالتها في الحياة.
وتخللت شمس يوليو النافذة. . . وغمرت أشعتها الملتهبة أرض الغرفة وارتفع صوت الطبيب قائلاً بشدة:
- إنك لا تستطيع أن تترك أمك وحيدة يا (أونوريه) وخصوصاً وهي في مثل تلك الحالة فهي قد تموت بين آن وآخر وأجاب أونوريه بقلة اكتراث:
- مهما يكن المر. . . يجب على أن أذهب لحصاد الحنطة. . . وهاهو ذا الجو الملائم لذلك. . . ماذا تقولين في ذلك يا أماه؟
وبرغم شعور المرأة برعشة الموت وهي تسري في جسدها. . . فقد شارت إلى أبنها بالموافقة وهي تحت تأثير جشعها وعبادتها للمال.
وضرب الطبيب الأرض بقدمه محنقاً وهو يهتف:
- ما أنت إلا وحش غليظ القلب. . . ولكنني لا أسمح لك أن تفعل ذلك. . هل فهمت؟ أن كان عليك حقاً أن تحصد حقل الحنطة فلا أقل من استدعاء المرأة (رايت) للعناية بأمك وأنا أصر على ذلك. . أما إذا لم تفعل ما أشرت عليك به. . فسأتركك تموت وحيداَ كالكلب الأجرب إذا ما افترسك المرض بأنيابه وحانت منيتك. . فتذكر ذلك.
أي أحاسيس وجلة خالجت مخيلة أونوريه في تلك اللحظة؟
لقد كان يخاف الطبيب الوحيد في القرية، ولكنه إلى جانب ذلك كان يعبد المال ويقدسه؛ وتردد قليلا قبل أن يسأل الطبيب في النهاية قائلاً بارتياب:
- وكم تطلب المرأة رابت أجراََ للعناية بأمي؟
وتمتم الطبيب:
وأني لي أن أعلم. . إنها تتقاضى أجرها بالنسبة للزمن الذي تعمل فيه. . . فما عليك إلا أن نتفق معها شخصياً. . . وإنني أنذرك أنني أريد أن أراها هنا قبيل مرور ساعة واحدة
- حسن. . يمكنك أن تطمئن أبها الطبيب. هأ نذا ذاهب إليها.
وغادر الطبيب الغرفة بعد أن قال للشاب بلهجة تهديدية متوعدة:
- مرة أخرى. . . إنني لست هازلا في تحذيري لك إياك
وحين انفرد الشاب بأمه التفت إليها قائلاً بلهجة المغلوب:
إنني ذاهب لاستدعاء الأم (رابت) كما أصر على ذلك هذا الغر. . فكوني هادئة حتى أعود، ودون أن ينتظر إجابتها غادر الغرفة.
كانت الأم (رابت) امرأة عجوزاًتشتغل بكي الملابس وتنظيفها. . . وإلى جانب ذلك تعمل كممرضة لقاء أجر معلوم، وكان وجهها مجعداً كتفاحة معمرة. . . وهي حقود حسود. . . ذات طبع حاد لا يمكن أن يمت للرحمة البشرية بصلة.
وحين استقبلت أونوريه في منزلها. . . كانت منهمكة في مزج بعض الألوان لصبغ ثياب بعض فتيات القرية فبادرها قائلاً:
- كيف حالك أيتها الأم رابت؟ هل الأمور في طريقها العادي؟
والتفتت إليه المرأة مجيبة:
- نعم ، نعم. . شكراً. . كيف حالك أنت؟
- على أحسن حال. . إنها أمي التي تشكو
- أمك؟!
- نعم أمي
- وما خطبها؟
- إنها في طريقها نحو الأبدية وهذا كل ما هنالك
- هل بلغ بها سوء الحال هذا الحد؟
- لقد قال الطبيب إنها لن تعيش حتى الضحى
- إذاً ربد أن تكون انتهت الآن؟
- وتلعثم أونوريه قليلاً. . فكانت المرأة أشد منه دهاءً. . فلم يجد من مفاتحتها مباشرة بقوله:
- كم تأخذين للعناية بأمي حتى النهاية؟ إننا يائسون من التحسن كما تعلمين. . لقد كانت تعمل كفتاة في العاشرة رغم بلوغها الثانية والتسعين.
وأجابت الأم رابت في اقتضاب وتحفظ:
- إنني أتقاضى سعرين. . فللأغنياء. . فرنكان لليوم وثلاثة لليل. . . أما الفقراء. . ففرنك واحد لليوم واثنان لليل. . وسأعاملك كالفريق الثاني: واحد واثنان.
وراح أونوريه يفكر. . أنه يعرف أمه تماماََ. . ويعرف مقدار مقاومتها للمرض،. فلربما عاشت أسبوعا آخر رغم زعم الطبيب بموتها العجل، فأجاب المرأة قائلاً:
- كلا. . إنني أريد أن أكافئك إجمالياً لإتمام المهمة. . أنه نوع من المقامرة. . فلقد أكد الطبيب أنها ستموت حالاً. . فلو تم ذلك فسيكون ذلك أقل ربحاً لك وأقل خسارة لي.
ونظرت إليه الأم رابت بدهشة. . فلم سبق لها أن عاملت محتظراً بعقد. . وترددت لحظة. . وفجأة راودتها فكرة الخداع فأسرعت قائلة:
- لا يمكنني الموافقة على ذلك حتى أرى أمك
- إذن. . هيا بنا لرؤيتها
وجففت المرأة يديها م تبعته صامتة طوال الماشية وهي ترعى الكلأ، فتمتم أونوريه: اطمئنوا. . فستأكلون القمح الجديد عن قريب.
ولم تكن المرأة العجوز قد ماتت بعد. . بل كانت مستلقية على ظهرها، وقد امتدت يداها فوق غطاء الفراش الملون وقد بدا عليها الضعف والهزال. واتجهت الأم رابت نحو الفراش ثم حدقت في المرأة المحتضرة وتحسست بنفسها ثم مرت بيدها على صدرها وهي تصغي لصوت تنفسها الخافت الذي يشبه النزع، وألقت عليها بضع أسئلة حتى تتأكد من ضعف صوتها؛ ثم غادرت الغرفة بعد ذلك الامتحان يتبعها أونوريه. كان رأيها الشخصي أن المرأة لا يمكن أن تستمر على قيد الحياة حتى المساء
وسألها أونوريه بلهفة: والآن؟
وأجابته المرأة بخبث:
- ستعيش يومين وربما ثلاثة أيام. . وسأتقاضى منك ستة فرنكات.
وردد أونوريه قولها: ستة فرنكات؟ الله. . ست فرنكات كاملة؟ هل جننت أيتها المرأة؟ سوف لا تعيش إلا خمس أو ست ساعات على الأكثر.
واشتد الجدل بين الرجل والمرأة. . وأصرت المرأة على الرحيل. . فتخيل أونوريه حنطته في انتظار الحصاد، فلم يجد بداً من الخضوع وتمتم مستسلماً: سأعطيك المبلغ على أن ينتنهي الأمر كلية مهما طال أمده.
وأوسع خطاه نحو الحقل. . في حين رجعت الأم رابت إلى حجرة المريضة وهمست قائلة لها: لاشك انك تريدين الاعتراف يا مدام بونتمبس؟
وأشارت مدام بونتمبس برأسها إيجاباً. . فنهضت الأم رابت بسرور ونشاط وهي تهتف يا إله السماوات. . سأذهب لإحضار القس
وأسرعت المرأة في طريقها نحو القس. . وعادت معه وهي تضطره إلى الإسراع غير عابئة بدهشة الرجال الذين ينظرون إليهما باستغراب، ولا بنظرات النساء اللاتي كن يرسمن علامة الصليب على صدورهن. ورآهن أونوريه عن بعد. . فتساءل عن سبب إسراع القس، وما كان أسرع جاره في الإجابة عليه قائلاً: أنه سيتلقى اعتراف أمك دون شك.
ولم يساور أونوريه العجب لذلك. . بل واصل الحصاد في هدوء
وتلقى القس اعتراف مدام بونتمبس. ثم غادر المكان. . ومرة أخرى أصبحت المرأتان على انفراد وابتدأت الأم رابت تفقد صبرها وهي تعجب كيف أن المرأة لم تمت حتى الآن.
وشحب لون النهار. . وازدادت برودة الجو. وراحت فراشات الليل تحوم حول النافذة تحاول التحرر من أسرها كروج المرأة العجوز التي كانت راقدة دون حراك وعيناها محملقتان وكأنها في انتظار رؤية شبح الموت. . بينما أنفاسها تتدافع من صدرها بطيئة ذات صفير خافت أليم.
وعاد أونوريه. . فوجد أمه مازالت على قيد الحياة. . فتساءل دهشاََ عن كيفية إمكان ذلك. . ثم ودع الأم رابت بعد أن أوصاها أن تعود في تمام الخامسة مكن صباح اليوم التالي. . وفعلَا عادت المرأة قبل انبثاق الفجر وأسرعت بسؤال أونوريه قائلة: ألم تمت أمك بعد؟
وأجابها وهو يسير نحو الحقل: كلا وأظنها أحسن حالاً
وضاقت الأم (رابت) ذرعاََ، فتوجهت توا إلى حجرة المرأة المحتضرة فوجدتها كما كانت بالأمس تماماً. . هادئة ساكنة مفتوحة العينين، ويداها ممدودتان فوق غطاء الفراش الملون. . يبدو عليها الضعف والهزال؛ ورأت الأم رابت أن المرأة يمكن أن تظل هكذا يومين أو أربعة. . بل عاشت أسبوعاً آخر. . فأحست بانقباض يسود نفسها. . وبحقد هائل نحو ذلك الذي خدعها بأمه التي لا تريد أن تموت. وظلت عيناها محدقتين بمدام بونتمبس طيلة هذا الصباح حتى ى عاد أونوريه للغداء. ثم رجع إلى حقله لإكمال حصاد حنطته.
وكادت الأم رابت تفقد شعورها. فقد خيل إليها أن كل دقيقة تمر إنما هي زمن مسروق منها ومن حقها أن تتقاضى عليه أجراً.
وأحست برغبة قوية. رغبة مجنونة في أن تضغط على ذلك العنق الهزيل فتخمد أنفاس المرأة التي كانت تسلبها وقتها المقدس ولكنها حينئذ استطاعت أن تتصور بشاعة جريمتها.
وراودتها فكرة أخرى. واقتربت من المرأة المحتضرة، وهمست تسألها: ألم ترى الشيطان بعد؟
فأجابتها مدام بونتمبس هامسة: كلا.
وابتدأت الممرضة تلقى على مسامعها بعض القصص الخرافية المخيفة. فقالت إن: الشيطان يظهر عادة لهؤلاء الذين على وشك الموت قبل موتهم بدقائق معدودات، ثم راحت تصف لها شكل الشيطان، فادعت أنه يحمل في يده محصداً كبير وعلى رأسه قدر مملوءة بسائل يغلي مسمر به ثلاثة قرون. واستمرت في حديثها الرهيب، فعددت لها أسماء من زعمت أن الشيطان قد ظهر لهم قبل موتهم. وفعل ذلك الحديث فعل السحر في مدام بونتمبس؛ فبدت مضطرة حائرة، لا يستقر رأسها على الوسادة في مكان واحد.
واختفت الأم رابت حينئذ وراء الستار بجانب الفراش. وتناولت من صندوق بالقرب منها ملاءة بيضاء ألقتها فوق رأسها فحجبتها من قمة رأسها إلى أخمص القدم. ثم وضعت على رأسها قدراً بدت أرجلها الحديدية كثلاثة قرون مدببة. ثم أمسكت بيدها مكنسة مستطيلة. وما كادت تنتهي من كل ذلك حتى صعدت فوق مقعد مرتفع.
وفجأة رفعت الستار وبدت بهيئتها أمام المريضة.
ومرت لحظة فزع ورعب. . وحاولت المرأة المسكينة بكل قواها أن تهرب من الشيطان. شيطان الموت الرهيب، ولكنها ما كادت تتحرك حتى خانتها قواها وارتمت على الفراش مرة أخرى وانتهى كل شيء.
وبكل هدوء ودعة. أعادت الأم رابت بضاعتها إلى أماكنها، ثم أغلقت عين المرأة الميتة، العينين الفزعتين المحدقتين في خوف وفزع، ثم جثت على ركبتيها جانب الفراش وابتدأت تصلي على الراحلة بحكم العادة.
وحين عاد أونوريه من الحقل عند الغروب، وجد الأم رابت جاثية على ركبتيها تصلي، فتأكد أن روح أمه قد فاضت وابتدأ يفكر
لقد استمرت المرأة ف ي خدمة أمه ثلاثة أيام وليلة، أي أن أجرها كان يجب أن يكون خمس فرنكات، ولكن، يجب عليه الآن أن يفع ستة.
وغمغم قائلاً بغضب:
- يا للحظ السئ، لقد خسرت فرنكا
ع. ج