الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 984
- بتاريخ: 12 - 05 - 1952
وا حسرتا على عزيز!
أشهد لقد أصابني ما يصيب الحي من فجائع الموت، فحزنت حزن المفجوع، وبكيت بكاء الموجوع؛ ولكن فجيعتين بعد فجيعتي في ولدي أشعرتاني لوعة من الحزن لم أجدها في فجيعة من قبل: فجيعة الأمس في علي طه، وفجيعة اليوم في عزيز فهمي!
لا أستطيع أن أصف لك هذا اللون من الحزن على وجه الدقة؛ لأنه
نادر الحدوث في القلب فهو غريب؛ ولأنه عميق الأثر في النفس فهو
غامض. أنه ذهول يتخلله وعي، وأسف تخالطه حسرة، وحرقة يغالبها
دمع، وذكرى يساورها قنوط، وسخط يكفكفه إيمان.
جاءني على غير انتظار ولا توقع أن زين الشباب عزيزا أدركه الموت الأسود وهو في طريقه إلى نصرة الحق وخدمة العدالة، فأخذني أول الأمر وجوم كوجوم المبهوت، فيه الدهش والشك والتبلد والحيرة. ثم تكرر النبأ الفاجع في صيغ شتى، فانجلى البهت رويدا رويدا، حتى تمثل لعيني الخطب الجلل على أبشع صوره وأفظع معانيه. تمثل لي مصاب نفسي في الخلق الرضي والطبع الحيي والفؤاد الذكي والإخاء المواسي والوفاء المضحي، فجزعت جزع الإنسان يرى قوة من الخلال الكريمة تفنى ولا تُخلف. وتمثل لي مصاب وطني في المحامي الوثيق الحجة، والخطيب الحافل الذهن، والنائب الشجاع القلب، والشاعر السمح القريحة، فجزعت جزع المواطن يرى ثروة من المواهب العظيمة تفقد ولا تعوض.
جزعت للإنسانية لأني أكاد لا أعرف من هذا الناس إلا آحادا من طراز عزيز قد برهنوا بالفعل على أن الإنسان الذي يسفل فيكون شرا من شيطان، يستطيع أن يعلو فيكون خيرا من مَلك. وجزعت للوطنية لأن هذا البلد البائس الذي يكابد سوء الأخلاق في داخله، ويجاهد شر الدول في خارجه، يفتقر في محنته إلى أمثال عزيز ليرفعوا قيمة الفضيلة في التعامل، ويعظموا قدر الكفاية في العمل.
عرفت عزيز فهمس في بغداد سنة 1932، وكان قد قدمها في رحلة جامعية. لم أعرف بالطبع جميع أعضاء الرحلة، وإنما عرفت عزيزا وحده، لأنه بارز في شخصيته، متميز في خلقه. لم يكد يعرفني حتى ارتاح إلى بأنسه، وأخذ يسمعني من شعره، ويحدثني عن
أمانيه. ثم توثقت بيني وبينه أسباب المودة فآثرني بحبه، وآزر (الرسالة) بأدبه. ثم أنفق في سبيل العلم والمجد زهرة عمره ونضوة شبابه، حتى أصبح أديبا له أسلوب، وفقيها له رأي، ومحاميا له سلطان، ونائبا له صولة، وسياسيا له صوت، واجتماعيا له رسالة. وفي لحظة من لحظات الشؤم تنبه فيها قدر، وغفل سائق، وطاشت سيارة، ذهب هذا كله كما يذهب الحلم، وتبدد هذا كله كما يتبدد الشعاع!
أحمد حسن الزيات
3 - حسن البنا الرجل القرآني
بقلم روبير جاكسون
للأستاذ أنور الجندي
. . . في الأزقة الضيقة، في أحشاء القاهرة، في حارة الروم، وسوق السلاح وعطفة نافع، وحارة الشماشرجي. . بدأ الرجل يعمل، وتجمع حوله نفر قليل؛ وكان حسن البنا الداعية الأول في الشرق، الذي قدم للناس برنامجا مدروسا كاملا، لم يفعل ذلك أحد قبله؛ لم يفعله جمال الدين ولا محمد عبده، ولم يفعله زعماء الأحزاب والجماعات التي لمعت أسماؤهم بعد الحرب العالمية الأولى. .
. . وأستطيع بناء على دراساتي الواسعة أن أقول إن حياة الرجل وتصرفاته كانت تطبيقا صادقا للمبادئ التي نادى بها.
وقد منحه (الإسلام) كما كان يفهمه، ويدعو إليه، حلة متألقة، قوية الأثر في النفوس، لم تتح لزعماء السياسة ولا لرجال الدين!
لم يكن من الذين يشترون النجاح بثمن بخس، ولو بجعل الواسطة مبررة للغاية، كما يفعل رجال السياسة، ولذلك كان طريقه مليئا بالأشواك، وكانت آية متاعبه أنه يعمل في مجرى تراكمت فيه الجنادل والصخور، وكان هذا مما يدعوه إلى أن يدفع أتباعه إلى التسامي ويدفعهم إلى التغلب على مغريات عصرهم، والاستعلاء على الشهوات التي ترتطم بسفن النجاة فتحول دون الوصول إلى البر.
كان يريد أن يصل إلى الحل الأمثل، مهما طال طريقه، ولذلك رفض المساومة، ولغي من برنامجه أنصاف الحلول، وداوم في إلحاح القول بأنه لا تجزئة في الحق المقدس في الحرية والوطنية والسيادة. . وكان هذا مما سبب له المتاعب والأذى.
واستدعى بعض من حوله الثمرة، وعجزت أعصابهم عن أن تقاوم البريق، فسقطوا في منتصف الطريق ومضى الركب خفيفا.
كان يؤمن بالواقعية ويفهم الأشياء على حقيقتها، مجردة من الأوهام، وكان يبدو - حين تلقاه - هادئا غاية الهدوء وفي قلبه مرجل يغلي، ولهيب يضطرم؛ فقد كان الرجل غيورا على الوطن الإسلامي، يتحرق كلما سمع بأن جزءاً منه قد أصابه سوء أو ألم به أذى، ولكنه لم
يكن يصرف غضبته - كبعض الزعماء - في مصارف الكلام أو الضجيج أو الصياح، ولا ينفس على نفسه بالأوهام، وإنما يوجه هذه الطاقة القوية إلى العمل والإنشاء والاستعداد لليوم الذي يمكن أن تتحقق فيه آمال الشعوب.
وكان في عقله مرونة، وفي تفكيره تحرر، وفي روحه إشراق، وفي أعماقه إيمان قوي جارف.
وكان متواضعا تواضع من يعرف قدره، متفائلا، عف اللسان، عف القلم، يجل نفسه عن أن يجري مجرى أصحاب الألسنة الحداد.
كان مذهبه السياسي أن يرد مادة الأخلاق إلى صميم السياسة بعد أن نزعت منها؛ بعد أن قيل إن السياسة والأخلاق لا يجتمعان.
وكان يريد أن يكذب قول تليران (إن اللغة لا تستخدم إلا لإخفاء آرائنا الحقيقية) فقد كان ينكر أن يضلل السياسي سامعيه أو أتباعه، أو أمته.
وكان يعمل على أن يسمو بالجماهير، ورجل الشارع، فوق خداع السياسة، وتضليل رجال الأحزاب.
ولأول مرة خاطب الجماهير زعيم بما يفتح العيون على الحقائق، ووضع دعوته على المشرحة، وقبل أن يسأل عن أدق الأشياء فيها وفي حياته الخاصة، فقد كانت توجه إليه عقب (أحاديث) الثلاثاء قصاصات، فيها أسئلة غاية في الإحراج، ولكنه كان يجيب عنها في منتهى البساطة والوضوح.
وكأنما أراد أن ينشئ للشرق روحا جديدة من المثل العليا، هذه المادة الضائعة، التي هزم بها الشرق الدنيا وفتح باب أطراف الأرض، كان يريد أن ينشئ القوة التي تصمد في وجه الخطرين الداهمين اللذين يهددان العالم وهما: الإلحاد والاستعباد.
كان يريد أن يجعل من الإسلام قوة تدفع الشيوعية الضالة، والرأسمالية الزائغة، وكان يطمع في أن يرفع الإسلام ويسمو به عن أن يكون خادما للاستعمار باسم الديمقراطية، أو للشيوعية باسم الاشتراكية، وإنما كان يرى الإسلام نظاما كاملا فوق الشيوعية والديكتاتورية والرأسمالية جميعا.
وقد استطاع الرجل - برغم كل ما دبر لوضع حد لدعوته أو حياته - أن يعمل، وأن يضع
في الأرض البذرة الجديدة، بذرة المصحف، البذرة التي لا تموت بعد أن ذوت شجرتها القديمة، ولم يمت الرجل إلا بعد أن ارتفعت الشجرة في الفضاء واستقرت.
ولن يستطيع مصلح من بعد، أن ينكر أن الرجل رفع من طريقه الكثير من العقبات والأشواك والصخور.
وكل حركة إصلاحية أو استقلالية تظهر في الشرق من بعد، سواء في مصر أو في المغرب أو في إندونيسيا، يجب أن يلحظ فيها ذلك الخيط الدقيق الذي يربطها بالرجل القرآني، الذي حمل المصحف ووقف به في طريق رجال الفكر الحديث الذين كانوا يسخرون من ثلاث كلمات:(شرق، وإسلام، وقرآن).
كان الرجل يريد أن يقول آن للشرق أن يمحص أفكار الغرب قبل أن يعتنقها، بعد أن غدت الحضارة في نظر أصحابها لا توفي بما يطلب منها، كان يقول علينا أن نوزن هذه القيم، وأن نثق بأنفسنا، وأن نعتقد أن ما عندنا لا يقل عما عند الغرب أو على الأقل لا يستحق الإهمال.
وأن على الشرق أن ينشئ للدنيا حضارة جديدة، تكون أصلح من حضارة الغرب، قوامها امتزاج الروح بالمادة واتصال السماء بالأرض.
وما كنت تعرض لأمر من أمور الحضارة الغربية، إلا رده إلى مصادره الأولى في الحضارة الإسلامية، أو في القرآن والسنة والتاريخ.
كان الرجل القرآني يؤمن بأن الإسلام قوة نفسية قائمة في ضمير الشرق، وأنها تستطيع أن تمده بالحيوية التي تمكن له في الأرض وتتيح له الزحف إلى قواعده واستخلاص حقوقه وحرياته.
كان يؤمن بأن الشرق وحدة قائمة كاملة، لو تخلص من مناورات الساسة ومن خلاف الطامعين، لقاوم وصارع.
للبحث صلة
أنور الجندي
الأصناف والحرف الإسلامية
للدكتور عبد العزيز الدوري
بقية ما نشر في العدد الماضي
أما كوردلفسكي وكوبرولو فيرون أن اندماج الفتوة بالنقابات حصل في القرن الثالث عشر في نظام (أخيان روم) وأن الأخية ظهروا في الأناضول بعد الفتح المغولي مباشرة في فترة فوضى واضطراب بعد أن دمر المغول الإدارة السلجوقية دون تعويض فظهر الأخية كمؤسسة قوية واسعة لها الرغبة والقدرة على التنظيم، وانتشروا بسرعة في الأرياف والمدن، وجعلوا (التكتل والكرم) دستورهم وطبقة أصحاب الحرف أساسهم الاجتماعي (وقتل الطغاة وصنائعهم) من واجباتهم.
ويلاحظ أن أعضاء كل جمعية من جمعيات الأخية كانوا أصحاب حرفة واحدة. ولكن حركتهم لم تكن مجرد تنظيم لأصحاب حرفة واحدة، بل جعلوا واجبهم حفظ العدل ومنع الظلم وإيقاف الظالم عند حده واتباع قانون ديني وأخلاقي وتنفيذ واجبات عسكرية إن دعت الحاجة للدفاع عن حقوقهم. وكانت العضوية مفتوحة للمسلمين ولغيرهم وهكذا تحقق في حركة الأخية (حسب هذا الرأي) اتحاد النقابة والفتوة والطريقة الصوفية.
ولكني أود أن أبين أن هذه افتراضات تحتاج إلى بحوث جديدة. فنظرية تيشنر معكوسة. فالتكتل الذي أدى للفتوة بدأ لدى العيارين والشطار أسلاف فتيان الناصر لدين الله. وكان بين الطبقة العامة وعلى صلة سيئة بالحكومة من قبل جماعة متهمة في مهنها وفي سلوكها. ثم تطورت الحركة بعد أن تأثرت بوضوح بالصوفية وصار لها قانون أخلاقي حسن. ولم تعترف بها الحكومة إلا في خلافة الناصر حين أكد على الناحية العسكرية فيها. وهذه الناحية تكونت نتيجة اضطراب الإدارة وسيطرة الأجانب في العراق. وصارت الحركة أرستقراطية في خلافة الناصر ثم صارت حركة العامة بعد الفتح المغولي. كما أن الفوضى مسؤولة عن تكتل الحرف وعن اهتمامها بحماية نفسها.
وكان الجهاد في الأناضول والحرب على الحدود الإسلامية البيزنطية خير دافع لامتزاج تقاليد الفتوة بالمبادئ الروحية الصوفية وبتقاليد الحرفة.
ثم إن ظهور بعض البدع والتساهل في المبادئ الدينية كان واضحا في الأناضول
للضرورات الثقافية والعسكرية على الحدود. ومع أن ظهور العثمانية أفقد الأخية كثيرا من سلطتهم ونفوذهم وأدى إلى تخليهم عن فعاليتهم السياسية والعسكرية إلا أنهم حافظوا على التعاليم الروحية والأخلاقية إلى الأخير.
ولا بد هنا من تسجيل ملاحظات المعلم جودت لقيمتها ولأنها تلقي ضوءاً على رأينا إذ يقول: (فأما الفتوة فهي عمدة إسلامية ومدنية عامة لجميع المسالك الصناعية والعسكرية والتصوفية والأدبية والتعليمية ليست مختصة بمسلك أو طريقة) وهو هنا يتحدث عن المفهوم الأخير الذي أشرت إليه.
ويذكر في محل آخر أن الفتوة (تفيد معنى السماحة الصناعية) ويبين أن: احتياج الصناع إلى الاتحاد محافظة لحقوقهم وأموالهم ضد الجبابرة والأقوياء من بواعث تأسيس هذه الهيئات. وأخيرا ينفي أية صلة للفتوة بالباطنية والإسماعيلية ويأتي بشواهد تنفيها.
ويستطرد إلى (أن الفتيان المذكورين في صحائف التاريخ والأشعار وفي الاستعمال الجاري ليسوا كلهم من هذا الصنف بل بعضهم. فبعض الرجال المتصفين بالفتوة العسكرية والشجاعة والرجولية محرومون من سمة الجود والكرم) وهم العيارون والشطار بالعربية) وهو بذلك يؤيد افتراضنا الأول. وهكذا نتوصل إلى شكل النقابة المستقرة بشعائرها المنظمة. فلكل نقابة دستور فيه عاداتها وشعائرها وقد وصلت بعض هذه الدساتير من القرن الرابع عشر الميلادي وما يليه. وقبل الدخول في التفاصيل هذه نبين أن هذه الشعائر فيها طابع الاستمرار والمحافظة. فالملابس التي ذكرنا مع إحلال السروال محل المئزر أحيانا، والماء بالملح محل النبيذ، والتعاون المطلق، وفتح الباب لغير المسلمين، ومكافحة التعدي والظلم بقيت، كما أننا نرى في بعض الحالات عيدا عاما للحرف تظهر فيه روائع بضائعها كما كان يحصل في بغداد في أواخر أيام العباسيين، حيث كانت الأصناف تتقدم في موكب حافل، كل حرفة تحتفي بنموذج لصناعتها في موكب يستمر طول اليوم.
وإن دققنا في دساتير النقابات نجدها تتكون عادة من ثلاثة أقسام - الأول يتصل بأصل الحرفة ومغامرات شيخها المؤسس وتعطى سلسلة تنشئة - مثلا - الله علم جبريل - جبريل علم محمد - محمد علم علي - علي علم سلمان الفارسي - سلمان علم الأبيار وهم حماة أهل الحرف - الأبيار علموا الفروع وهم الحماة الثانويون للشعب المختلفة في الحرفة
الواحدة - الفروع علموا بدورهم رؤساء الأصناف.
القسم الثاني - يحوي عادة قائمة بأسماء الأبيار والفروع لمختلف الحرف. وهم عادة أبطال من القرآن والتوراة والتاريخ الإسلامي - مثلا - آدم حامي الفلاحين والخبازين - شيث حامي الحياك والخياطين - نوح حامي النجارين - وداود حامي الحدادين والصياغ - وإبراهيم حامي الطباخين - وإسماعيل حامي صناع الأسلحة.
القسم الثالث - يحوي التعاليم لتثقيف المبتدئين وأسئلة وأجوبتها. ومع اختلاف التفاصيل الجزئية في تنظيم النقابات إلا أن الأسس واحدة.
تتكون كل نقابة من الأساتذة (مفرد أوسطة أو معلم) وهم يشكلون القسم الرئيسي من النقابات ويليه (الخليفة أو المتعلم) ثم (الصانع) ثم (المبتدئ) وفي بعض النقابات يغفل دور الصانع ودور الخليفة، ويكون الانتقال من مبتدئ إلى أوسطى. ويرأس النقابة (الشيخ) وهو موجود في جميع الأصناف. وقد يكون له مساعد يدعى (النقيب) منزلته منزلة الوزير من السلطان.
ولا يكون الانتقال من مبتدئ إلى الدرجة التالية في وقت محدود بل يعتمد ذلك على الأستاذ. وتختلف الحالات في تطبيق دستور النقابة، فمرة ينسب ذلك إلى الشيخ ومرة ينسب إليه بمساعدة هيئة المسنين من الأساتذة أو الاختيارية.
وتلعب حفلة الانتماء أو الترقية في الحرفة دورا مهما، وتتميز بارتداء بعض الملابس كالسروال والشد (أو شد الحزام) والمئزر أو الصدرية.
ولدينا بعض الأوصاف للنقابات الإسلامية. منها وصف السائح ابن بطوطة لحركة الأخية والفتيان في الأناضول. يقول (والأخي عندهم رجل يجتمع أهل صناعته وغيرهم ويقدمونه على أنفسهم وتلك هي الفتوة أيضا. وهم (الأخية والفتيان بجميع البلاد التركية الرومانية في كل بلد ومدينة وقرية ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالا بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعامهم الطعام وقضاء الحوائج والأخذ على أيدي الظلمة وقتل الشرط ومن لحق بهم من أهل الشر. ويبني (الأخي) زاوية ويجعل فيها الفرش والسرج).
ويقول (الفتيان الأخية كلهم بالأسلحة ولأهل كل صناعة (الأعلام) والبوقات و (الطبول) و (الأنفار) وبعضهم يفاخر بعضا ويباهيه في حسن الهيئة وكمال الشكة).
ويقول (ومن عوائد هذه البلاد أنه ما كان منها ليس به سلطان فالأخي هو الحاكم وهو يركب الوارد ويكسوه ويحسن إليه على قدره، وترتيبه في أمره ونهيه وركوبه ترتيب الملوك).
وننتقل بعد ابن بطوطة إلى سائح تركي هو (أوليا جلبي) الذي تحدث عن الأصناف بناء على طلب السلطان في أوائل القرن السابع عشر. ووصفه أول وصف كامل لنقابات مدينة إسلامية.
فبعد أن يصف (فتوت تامة) - كتاب الفتوة بتعاليمه وأساطيره، يذكر تركيب الحرفة من (الشيخ)(النقيب) والجاويش والأوسطة (الأستاذ) ثم (الشاكرد) أو (المبتدئ) أما الصانع فلا ذكر له.
ثم يعدد جميع الأصناف وحوانيتهم وشيوخهم. ولا مجال لوصف الأصناف وهي (1001) مصنف ويذكر أن الأصناف تنظم عرضا عاما (بهيئة استعراض) مرة واحدة سنويا. ويبدأ الموكب وقت الفجر ويستمر في سيره طول النهار حتى الغروب. وتمر الأصناف ببيت قاضي اسطنبول لأنه صاحب السلطة لتفتيش جميع الأوزان والمقاييس والأصناف، ومن التقاليد أن تهدي الأصناف إلى القاضي نماذجهم التي عرضوها ولكن بعضها كان يخفي ذلك. ثم تسير الأصناف إلى محلاتها وأسواقها وتتوقف كل تجارة وحرفة لثلاثة أيام بمناسبة الاستعراض. وكانت تعلق أهمية على الأقدمية في السير، ويصف (أوليا جلبي) نزاعا وقع بين القصابين وتجار مصر حول الأسبقية حتى صدر الحكم من جانب السلطان في جانب التجار.
ولدينا وصف آخر لتشكيلات الصناعة في سيروز (روميلي سنة 1250 هـ) فيذكر ابن قاضي البلدة أن لكل صنف سوقا مختصة ولكل حرفة رئيسا يسمى (أخي بابا) أو (كهيا) أو (متولي). وإدارة شؤون الحرف بيد الرؤساء أو الأخية تعاونهم هيئة إدارة (أهل اللونجة) من خمسة أعضاء ينتخبون من أساتذة الحرفة. ويندرج المنتمون إلى الحرفة من (يماق) المبتدئ وسنه أقل من عشر سنين، وبعد سنتين يتقدم ويصبح (جراق) وبعد ثلاث سنين يصبح (خليفة) وبعد ثلاث أخرى يصبح (أوسطة). ويوجد مجلس أعلى لكل الحرف يمثل الحرف برؤسائها وهؤلاء ينتخبون رئيسا عاما (كهيالرباش).
ويشرف الأخي على شؤون الحرفة الإدارية والمالية ويحل المنازعات ويرأس هيئة الإدارة ويجري المراسيم المخصوصة للأستاذ والخليفة والجراق ويرأس الحفلات ويقوم بالنظارة الدائمة على أحوال الأصناف، أما المجلس الكبير فيقوم بالإشراف على المتولين كافة ويفصل النزاع بين أهل الحرف ويحسم المشكلات التي لم يقدر المتولون على حلها ويسوي المصالح دون مداخلة الحكومة ويعرض لدى الحكومة ما يمس حقوق أهل الصناعات ويرعى حقوق أهل الصناعة.
ولكل حرفة صندوق وارداته من بدل الإيجارات وأرباح الأموال الموقوفة والوصايا ورسوم الانتماء والتبرعات من أهل الخير أو رجال الحرف. وينفق وارداته على التعميرات والرسوم ومعاونة فقراء أهل الحرفة وتقديم المعونة للعلماء والجهات العلمية. وكمثل يوضح ذلك نذكر قائمة مصاريف الحلاجين سنة 1290، بسيرزو وفيها ما يلي: -
فحم لفقراء البلدة وأهل الصناعة (680 قرشا). خبز للغذاء في رمضان (1200). أجرة تداوي فقراء أهل الحرف وعائلاتهم (350). للتجهيز والتكفين (170). للصدقات اليومية (1800). لمعلمي مكاتب الصبيان (1800). القحم والحصر للمكاتب (500) معاونة لحسن أغا المحترق دكانه (350). لقراءة البخاري الشريف والشفاء (350). أجرة الحاكم للنظارة بأمور الحلاجين (250). أجرة المتولية (رئاسة اللونجة 1200) كما يصرف من صندوق الحرفة على العجزة من أهلها المعلولين.
والمصدر الثالث بحث إلياس قدسي وهو مسيحي سوري قدمه إلى مؤتمر المستشرقين 1883 (الجلسة السادسة) عن نقابات دمشق سنة 1882. يخبرنا قدسي أن كافة حرف المدينة لها رئيس أعظم وهو (شيخ المشايخ) وأن منصبه وراثي في عائلة (العجلاني) وأنه لا يمكن إقالته أو استبداله. ويذكر أن أسلافه كانت تعين المشايخ لأكثر من مئتي حرفة وتأمر وتنهى وتقاص وتفصل في كل مسألة وتحسم كل مشكلة ولديهم يتقاضى الجميع. وكانت سلطته تمتد إلى حق الحكم بالموت. وعلى كل فقد بقيت لديه سلطة سجن رجال النقابة أو جلدهم لوقت طويل.
ويعتمد شيخ المشايخ على وقف وراثي ولكن سلطاته أنقصت بعد التنظيمات من زمن السلطان عبد المجيد (فقال تسلط شيخ المشايخ إلى حد غير متناه حتى يسوغ القول أنه غدا
محصورا بالتصديق على شيخ حرفة من الحرف بعد أن ينتخبه معلموها) وحتى في هذه الحالة كان تصديق الحكومة ضروريا فكان البعض خصوصا غير المسلمين يكتفي بهذا دون الرجوع إليه. وكان هذا الشيخ عالما في زمن قدسي ولكنه يجهل شؤون الأصناف.
ونظرا لكثرة واجبات شيخ المشايخ لم يكن باستطاعته تنفيذ كافة أعماله العامة، فكان يعين موظفا يدعى النقيب وهو يمثل شيخ المشايخ في الاجتماعات العمومية للحرف أو في حفلات الترقية، وكان له عدة نقباء عندما كانت وظيفته مهمة ولكن في زمن قدسي اكتفى بواحد وكان عارفا بشؤون الحرف بصورة طيبة.
ولكل حرفة شيخ ينتخبه شيوخ الكار ممن اشتهر بحسن الأخلاق والطوية وامتاز بمعرفة أصول الحرفة، ولا يشترط فيه كونه أكبرهم سنا أو كونه من الشيوخ بل يكفي أن يكون ماهرا محترما يستطيع تمثيل النقابة أمام السلطات. ومع أن المشيخة كانت تنتقل بالإرث في بعض الحرف إلا أن ذلك يستلزم موافقة شيوخ الكار وهذا يبقي صفة الانتخاب. ويبقى في منصبه مدى الحياة ما لم يصدر منه ما يوجب إبداله بسواه.
ويلاحظ قدسي أن الانتخاب يجري من قبل الأساتذة المتقدمين يجتمعون ويتذاكرون، فإن اتفقوا على شخص انتخب (وإلا عين شيخ المشايخ شيخا) ثم يصادق شيخ المشايخ عليه في حفلة خاصة.
أما واجبات الشيخ فتتلخص في: أن يعقد مجالس لمصالح الحرفة يترأسها ويسهر على حفظ ارتباط (الكار)، ويقاص من أتى بإخلال في حق الصنعة. وكثيرا ما يكون مكلفا بإيجاد شغل للفعلة. فيوصي بهم (المعلمين) وله وحده أن (يشد) بالكار (المبتدئين الماهرين) فيصيرون (صناعا) أو (معلمين) ومعه تكون (مخابرة الحكومة) فيما يتعلق بحرفته.
ويساعد كل شيخ في الحرفة (شاويش) يقوم مقام النقيب للشيخ ولكنه ينتخب من قبل الكار. ولم تكن له سلطة خاصة. بل كان رسول الشيخ يبلغ أوامره ويمثله وهذا المنصب قديم.
يخبرنا قدسي أن (المبتدئ) أو الأجير - وهو الولد الحديث السن الداخل إلى الحرفة - يشتغل عدة سنين دون معاش أو أجرة، ولكن البعض كان يستلم أجرا أسبوعيا زهيدا يسمى جمعية. وعندما يبدع المبتدئ في مهنته يرقى إلى مرتبة صانع وأحيانا إلى مرتبة أستاذ في نفس الوقت.
وكان الصناع في زمن قدسي يشكلون العمود الفقري للنقابة وهم يحفظون مستوى الصناعة وأسرارها.
ويصف قدسي بتفصيل حفلات الإجازة، أو الشد. وكانت تجري بحضور شيخ الحرفة وأساتذتها ونقيب الحرف والشاويش ويتولى الشاويش والنقيب عملية الشد.
وتؤخذ العهود على العضو بالمحافظة على أسرار الحرفة والصنع الجيد وأن لا يخون الكار ولا يغش الصنعة بشيء. ثم يتساءل قدسي في الأخير عن التشابه بين مراسيم الحرف وبين الماسونية الحرة في أوربا وعن سببه.
ونضيف بعض ملاحظات عن نقابات مصر في نفس الفترة. فهنا نجد الحرف تحت إشراف رئيس البوليس ويدعى رئيس الحرفة (شيخ الطائفة) وله مجلس من المختارين يدعوه بمثابة محكمة للنقابة. ويرفع المبتدئ إلى درجة أوسطة رأسا دون وجود مرتبة صانع. وهناك نوع من التأمين ضد البطالة والمرض يتعاون في تحقيقه أعضاء الحرفة. ولن أتطرق هنا إلى (النقابات الوضعية) للنشالين واللصوص وقطاع الطرق؛ وهذه وإن لم تكن جزءا من نقابات الحرف إلا أنها أثرت في الحط من سمعتها.
لقد تزعزعت هذه التشكيلات أمام الهزة الأوربية وزالت أو تضاءلت أمام الموجة الجديدة والتنظيمات العمالة الحديثة خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
ومما مر نستخلص ما يلي: -
1 -
أن النقابات الإسلامية نشأت من الشعب وكانت استجابة لحاجات العمال أنفسهم وكان موقفها أحيانا غير ودي أو عدائي للحكم. 2 - ثم نلاحظ أن أصحاب العمل من أستاذ وصانع ومبتدئ يكونون طبقة اجتماعية واحدة فيها مجال التقدم لكل فرد دون تناحر ودون الانقسام الذي ولدته رأسمالية أوربا. وهذا تطور طبيعي لظروف المجتمع الإسلامي الاقتصادية والاجتماعية.
3 -
تضم النقابات الإسلامية أفرادا من مختلف الطوائف في جو من التسامح الاجتماعي والفكري عكس ما حصل في الغرب.
4 -
للنقابات الإسلامية حياة روحية ومثل خلقية فهي قوة تهذيبية مهنية في نفس الوقت ولم
تقتصر على المهنة.
وهذه ناحية مهمة لا نراها في النقابات الأوربية. ولكن النقابات الإسلامية لم تصل إلى الأهمية السياسية للنقابات في الغرب وإن كانت لها أدوار هامة أحيانا.
وأخيرا يجب أن نذكر أن روح التكتل والانسجام في المؤسسات العلمية الراقية أو المدارس جعل الطلبة والأساتذة يكونون نقابة. ولهم بعض المراسيم المشتركة مع النقابات مثل اللباس الخاص (الروب) والإجازة. وتشابه الدرجات من تلميذ إلى معيد إلى مدرس إلى أستاذ.
هذا ما أمكن عرضه بإيجاز.
عبد العزيز الدوري.
5 - الباكستان
الحياة الاقتصادية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
الوضع الجغرافي:
أرى لزاماً علي قبل أن أتحدث عن الحياة الاقتصادية أن أتناول في كثير من الإيجاز الوضع الجغرافي للباكستان. ذلك أن الحياة الاقتصادية هي أولا وقبل كل شيء من إملاء الجغرافيا، فالعوامل الجغرافية تحتم على قوم أن يكونوا زراعاً وتحتم على آخرين أن يكونوا صناعاً أو تجارا أو رعاة. من أجل هذا أرى من الواجب علي أن أتحدث عن الطبيعة الجغرافية للباكستان حتى نستطيع فهم حياتها الاقتصادية.
تتكون الباكستان من وحدتين جغرافيتين: باكستان الشرقية وباكستان الغربية، والإقليمان منفصلان يبعدان عن بعضهما بنحو ألف ميل تقريباً.
فأما الباكستان الشرقية فتقع بين خطي عرض 20 ، 45 درجة شمالا و26 ، 30 درجة شمالا وبين خطي طول 88 درجة شرقاً و92 ، 30 درجة شرقاً وتبلغ مساحتها 53 ، 920 ميلا مربعاً وعدد سكانها 42 ، 120 ، 000 نسمة.
وتشمل الباكستان الشرقية قسما من السهل الذي ينساب فيه نهرا براهما بترا والكنج وتضم القسم الأكبر من دلتا الكنج، ويوجد في شمالها الشرقي بعض بقاع جبلية هي أجزاء من شرق جبال الهملايا التي تقع في شمال الهند.
أما مناخها فموسمي حار في الصيف إذ تبلغ درجة الحرارة نحو 83 درجة فهرنهيت ويسقط المطر غزيرا في الفترة من منتصف مارس إلى نهاية أكتوبر وذلك بتأثير الرياح الموسمية الجنوبية الغربية، وأما الشتاء فدفئ إذ تبلغ الحرارة نحو 64 درجة فهرنهيت ولكنه جاف لأن الرياح التي تهب في هذا الفصل تكون الرياح الموسمية الشمالية الشرقية. وهي رياح جافة لأنها تهب من داخل القارة.
أما باكستان الغربية فتقع بين خطي عرض 24 درجة شمالا و37 شمالا وبين خطي طول 61 درجة شرقاً و75 شرقاً وتبلغ مساحتها 310 ، 298 ميلا مربعاً وعدد سكانها 33 ،
570 ، 000 نسمة.
ولكن أراضي الباكستان الغربية ليست سهولا منبسطة مثل أراضي الباكستان الشرقية بل إن طبيعتها تتباين تبايناً كبيرا، فنجد القسم الشمالي وإقليم بلوخستان جبليا مرتفعا بينما نجد إقليم البنجاب وإقليم السند والإقليم الصحراوي أرضاً سهلة منبسطة.
والمناخ في الباكستان الغربية متباين أيضاً والتباين واضح جدا في توزيع المطر. فالمطر يسقط غزيرا في المنطقة الشمالية صيفا وسببه الرياح الموسمية، ويقل نوعا في إقليم البنجاب ولكنه يندر في الإقليم الصحراوي وفي بلوخستان. وأما الشتاء فيغلب فيه الجفاف ولكن تسقط بعض الأمطار في إقليم البنجاب شتاء بسبب وصول أعاصير الرياح العكسية إلى هناك.
وأما من حيث الحرارة فالمناخ متطرف: فدرجة الحرارة في يناير تصل نهارا إلى 75 درجة ف ولكنها تهبط ليلا إلى درجة التجمد، وأما في الصيف فتتراوح نهارا بين 90ف، 120ف ولكنها تقل عن ذلك كثيرا أثناء الليل.
وتوزيع المطر هام جدا، ذلك لأن حياة النبات تتوقف على الماء فإذا غزر المطر كثف النبات، وإذا انعدم المطر انعدم الإنبات.
والباكستان الشرقية غنية بأمطارها وأنهارها، فمتوسط سقوط المطر من 70 بوصة إلى 400 بوصة ويجري بها نهر الكنج وفروع دلتاه المتعددة ورافده البرهمابترا.
وأما باكستان الغربية فيجري بها نهر السند وفروعه الخمسة، ونظرا لجفاف المناطق الدنيا من حوض السند كانت لمشروعات الري في تلك المنطقة أهمية عظيمة إذ أنه يتوقف عليها تقدم هذه المنطقة إلى حد كبير.
ويجدر بي قبل أن أنتهي من هذه المقدمة الجغرافية أن أشير إلى أن الباكستان قد ظلمت تماما في تنفيذ مشروع التقسيم فقد أخذت منها كلكتا وهي أكبر ميناء في مصب الكنج، وقد أخذت منها دلهي لأنها اتخذت عاصمة للهندستان، وكذلك أعطيت بمباي للهندستان فأصبحت العاصمة والموانئ الرئيسية في حوزتها. وأكثر من هذا لقد رفضت الهندستان أن يسلم للباكستان نصيبها من الأموال المضروبة حتى تعجز عن دفع مرتبات موظفيها ويعمها الاضطراب والفوضى فتختنق الدولة الوليدة. ومع هذا كله رضي المسلمون. ألم يصبح
لهم وطن مستقل يعيشون فيه أحرارا، أجل أنه وطن فقير ولكن الله أغناه من فضله.
الزراعة:
الباكستان دولة زراعية وتعتبر الزراعة المهنة الرئيسية لسكانها؛ إذ أن 80 % من السكان يشتغلون بالزراعة.
وتقدر مساحة الأراضي الزراعية بحوالي 54 مليون فدان وهناك أرض بور يمكن إصلاحها تقدر مساحتها بحوالي 14 مليون فدان.
ولما كانت كمية المطر في باكستان الغربية لا تكفي حاجات الزراعة فقد أقامت الباكستان نظاما للري لا يضاهيه إلا نظام الري في الولايات المتحدة الأمريكية. إن نهر السند وفروعه تنبع جميعا من جبال همالايا ثم تنحدر جنوبا فوق السهول الفسيحة ثم تلتقي جميعا فتؤلف نهرا هائلا هو نهر السند الذي يجري جنوبا نحو ألفي ميل حتى يصب في البحر العربي. ومما لا يحتمل شكا أن هذا يلقي بكميات وافرة من مائه في البحر فعمد الباكستانيون إلى استغلال هذه المياه في ري جزء من الأراضي الواسعة الصالحة للزراعة في بلادهم، وتحقيقا لهذه الفكرة شقت قنوات حتى تصل المياه إلى الأراضي التي لم تكن لتبلغها وأقيمت السدود لحجز المياه للانتفاع بها في الري وفي توليد الكهرباء. ومن أكبر مشروعات الري في الباكستان الغربية سد سكر المقام على نهر السند قرب مدينة سكر في حوض السند الأدنى ويبلغ طوله حوالي الميل وهو أكبر سد في آسيا وتروى مياهه نحو ستة ملايين من الأفدنة، وتبلغ جملة الأراضي التي تروى بالقنوات نحو 23 مليون فدان؛ وهناك مشروعات لإحياء ستة ملايين فدان من الأراضي البور وجعلها صالحة للزراعة.
ويمكن تقسيم غلات الباكستان الزراعية إلى قسمين: غلات تستهلك في الداخل وغلات تصدر إلى الخارج، فأما غلات النوع الأول فأهمها الأرز والقمح وهما الطعام الأساسي للسكان؛ وتخصص مساحة ثلاثة أخماس مساحة الأراضي الزراعية لهذين المحصولين، ويزرع الأرز في باكستان الشرقية أما القمح فيزرع معظمه في باكستان الغربية.
وأهم الغلات بعد ذلك الشعير والذرة والقصب والسمسم والكتان.
وأما الغلات التجارية فأهمها:
الجوت:
ويزرع في باكستان الشرقية وتنتج الباكستان منه 80 % من المحصول العالمي، ومعظم مصانع الجوت قائمة في كلكتا ولذلك فبعد التقسيم اضطرت الهندستان إلى استيراد الجوت من الباكستان، وتعمل الباكستان جاهدة على إقامة مصانع لصناعة الجوت في داخل بلادها، وتبلغ مساحة الأراضي التي تزرع الجوت مليوني فدان ويقدر المحصول بحوالي 6 ، 800 ، 000 بالة (البالة=400 رطل).
القطن:
يزرع معظمه في باكستان الغربية وتقدر مساحة الأراضي المزروعة قطنا بحوالي 2 ، 704 ، 000 فدان والمحصول بحوالي مليوني بالة، ونوع القطن جيد.
الشاي:
يعتبر إحدى السلع الهامة التي تصدرها باكستان الشرقية إذ تقدر الكمية التي تنتجها سنويا بحوالي 45 مليون رطل يصدر 70 % منها إلى الخارج.
التبغ:
ويزرع منه في باكستان 33 ، 7 % من مجموع إنتاج الهند، وجملة الأراضي المزروعة في باكستان 308700 ومجموع الإنتاج 156300 طنا.
التجارة:
تعتبر الباكستان أهم دول العالم إنتاجا للجوت وتنتج 10 % من محصول القطن العالمي وكميات كبيرة من الصوف وتكون صادرات الباكستان من الجوت والقطن والصوف 90 % من صادراتها.
وتصدر الباكستان أيضاً كميات وافرة من الشاي وبذرة القطن والتبغ والجلود والسمك المجفف والملح الصخري وبعض المصنوعات مثل الأدوات الرياضية والآلات الجراحية.
وتنتج الباكستان كميات كبيرة من القمح تكفي حاجة سكانها وتفيض ويصدر الفائض وقدره نحو نصف مليون طن إلى الدول الأجنبية وخاصة إنجلترا.
أما أهم واردات الباكستان فهو الآلات الصناعية والمواد المصنوعة مثل المنسوجات
القطنية والغزل والخيوط القطنية والآلات ومصانع الغزل والسيارات والمصنوعات الحديدية والمواد الكيماوية والأدوية والعقاقير والورق وتكون الآلات الصناعية والمواد المصنوعة 77 % من مجموع واردات الباكستان.
وبريطانيا أولى الدول تجارة مع الباكستان وتليها الولايات المتحدة والهندستان وجنوب أفريقيا وبلجيكا وإيطاليا وفرنسا واليابان وهولندا والاتحاد السوفيتي ومصر.
وقد صادفت التجارة صعاباً عند بدء الاستقلال بسبب هجرة التجار الهندوس إلى الهندستان ولكن التجار المسلمين سرعان ما ملئوا الفراغ فتنشطت التجارة وتضاعفت حركة التوريد والتصدير.
كراتشي:
أهم موانئ باكستان الغربية إذ أنها تقع عند مصب نهر السند ومن ثم كانت منفذه التجاري وهي عاصمة دولة الباكستان، وقد تقدمت بعد 1947 (تاريخ الاستقلال) تقدماً كبيرا. ويكفي لإثبات ذلك أن نذكر أن عدد سكانها كان 450 ، 000 نسمة فبلغ الآن 1 ، 118 ، 000 نسمة.
وأما الباكستان الشرقية فقد حرمت من مينائها الطبيعي كلكتا، وأهم موانيها الآن شيتا جونج وهي تتقدم بسرعة لأن تجارة باكستان الشرقية تحولت إليها.
للبحث صلة
أبو الفتوح عطيفة.
السيدة زبيدة
للأستاذ عبد الواحد باش أعيان
لينحن التاريخ برأسه إجلالا لكثير من النساء النوابغ اللواتي سجلن أعظم الأعمال والمفاخر في صحائفه، وللمرأة العربية نصيب كبير في مفاخر التاريخ وروائعه، فمنهن الملكات الحازمات اللائى رفعن ممالكهن للسؤود والرفعة، ومنهن المحاربات البواسل، ومنهن الشواعر والأديبات، ومنهن من سجلن أعمال الخير والإصلاح في كثير من مرافق الحياة.
من أشهر هؤلاء النساء النوابغ وأعظمهن أعمالا للخير واهتماما في الإصلاح والتعمير هي الملكة العباسية الهاشمية السيدة زبيدة زوج هارون الرشيد وأم الأمين وبنت جعفر بن (أبي جعفر المنصور).
ولدت سنة 165 هجرية في أحضان العز ومهد الدلال، وترعاها قلوب بني العباس ويحيطها حبهم ورعايتهم ولا سيما جدها الخليفة الحازم أبو جعفر المنصور وكان يؤثرها بعنايته وحبه.
وهو الذي سماها زبيدة لما رأى من نعومتها وبياض بشرتها، وقد كانت تجمع إلى الجمال الباهر والأدب العباسي السامي عقلا كبيراً وذكاء نادراً وعلماً وأدباً كبيرين.
وفي خلافة عمها المهدي زفت إلى ابن عمها هارون الرشيد فكانت ليلة زفافها من الليالي المشهورة في بغداد يوم ذاك بالروعة والبهاء والفرح، وقد نثرت اللآلئ في جنبات طريقها على البسط الموشاة بأسلاك الذهب. وقد ألقى عليها من غالي الجواهر واللؤلؤ ما أثقلها وعاقها عن السير، فكانت عند زوجها وقد استأثرت بقلبه وخلص لها من دون جواربه وسراريه اللواتي يملأن قصره، وقد شغف بها الرشيد واطمأن إلى رأيها وتدبيرها وكمال عقلها حين أصبح خليفة، فأخذ يسترشد برأيها في حل المعضلات من أمور الدولة الإمبراطورية الإسلامية في ذلك العصر الذهبي، وأطلق يديها في بيت المال تنفق ما تشاء، وقد أنفقت أموالا عظيمة في الإصلاح والخيرات، تلك الأعمال التي خلدت اسمها بين أعظم نساء العالم كرماً وخلقاً وشرفاً، وسبقت من تقدمها من نساء الإسلام في الأعمال. ولقد قيل إنها أنفقت فيما ابتنت في طريق مكة من مساجد ومنازل ومشارب مليونا وسبعمائة ألف دينار زيادة على ما أنفقته (ويقدر بأكثر من مليون دينار) حين أوصلت الماء إلى مكة
في الحجاز من العين المعروفة بعين زبيدة، فقد كان المكيون والحجاج ينقلون الماء من مسافات بعيدة مضنية لشربهم وريهم وسقي حيواناتهم، وكان يتكلفون بذلك ويجهدهم فلما حجت الملكة المصلحة السيدة زبيدة أمرت بإحضار المهندسين والعمال وأن يقدروا كلفة العمل وما يتطلبه من المال فبلغ مبلغاً كبيراً استثقله خازنها فقالت كلمتها الخالدة (اصرف ولو كلفتك ضربة الفأس ديناراً) فلم تزل حتى تم لها ما أرادت ووصل الماء إلى مكة من مسافة اثني عشر ميلا في أرض وعرة المسالك. ولا زال منذ عهدها إلى اليوم. ولها أعمال أخرى لا تقل عما تقدم فخراً ومنفعة؛ فقد ابتنت المساجد الكبيرة الواسعة في أطراف بغداد ليتعبد فيها المسلمون فابتنت مسجداً قبالة دار الخلافة يسمى مسجد زبيدة وآخر في أراضيها وأملاكها الخاصة المعروفة بقطيعة أم جعفر وثالث بين باب خراسان ودار الرقيق ورابعاً البيت الذي ولد فيه الرسول بمكة ويسمى دار ابن يوسف، وكانت إلى كل هذا توزع العطايا والهبات على الفقراء والمحتاجين والأيامى كما كانت لا تتردد في مساعدة ذوي الحاجة من كبار رجال الدولة والمملكة.
ولقد كانت أما رؤوما تحنو على ابنها الوحيد محمد الأمين وتعني به عناية كبرى وتحبه حبا جما، فمن ذلك ما رواه خلف الأحمر وكان قد دعاه الرشيد لتدريس ابنه الأمين يقول: جاءتني جارية يوماً برسالة من أم جعفر (زبيدة) تعزم علي بالكف عن معاملته بالشدة في تعليمه وتأديبه وأن أجعل له وقتاً لاستجمام بدنه فقلت: الأمير قد عظم قدره وبعد صيته. وموقعه من أمير المؤمنين ومكانه من ولاية العهد لا يحتملان التقصير ولا يقبل منه الخطل ولا يرضى منه الزلل في النطق والجهل بالشرائع والعمى عن الأمور التي فيها قوام السلطان وإحكام السياسة (فقالت صدقت غير أنها والدة لا تملك نفسها ولا تقدر على كف إشفاقها).
وعلى ذكر ابنها الأمين، فإنه لم يكن بين خلفاء الإسلام من كان أبوه وأمه من بني هاشم غير علي بن أبي طالب وابنه الحسن والأمين بن الرشيد وفي ذلك يقول أبو الهذيل الشاعر:
ملك أبوه وأمه من نبعة
…
منها سراج الأمة الوهاج
شربت بمكة من ذرى بطحائها
…
ماء النبوة ليس فيه مزاج
ولقد ماتت للأمين بنت اسمها (أم موسى) كان شديد الكلف والحب لها فجزع عليها جزعاً شديداً فسمعت بذلك زبيدة فقدمت إليه وعزته ببلاغتها
نفسي فداؤك لا يذهب بك اللهف
…
ففي بقائك ممن قد مضى خلف
عوضت موسى فهانت كل مرزئة
…
ما بعد موسى على مفقودة أسف
وكان لها قصور عديدة جميلة تتناسب مع مكانة الملكة الشابة، منها قصر السلام وقصر القرار وغيرها في ضيعاتها وأملاكها الواسعة. وكانت على جانب كبير من الكرم والسخاء فيقول المسعودي (كتبت مرة تسأل أبا يوسف (رئيس القضاة في بغداد) تستفتيه في مسألة فأفتاها بما أوجبت الشريعة وكان يوافق مرادها فأكرمته بحق من فضة فيه ألوان من الطيب (الروائح) وجام ذهب فيه دراهم وجام فضة فيه دنانير وغلمان وتخت فيه ثياب وحمار وبغل. . . الخ).
وذكر بعض المؤرخين أن لزبيدة يدا كبرى في نكبة البرامكة، فقد كانت تخشى من جعفر البرمكي على ابنها الأمين وكان يقوم بأمر المأمون في ولاية العهد. ولكن في وصيتها التاريخية لقائد جيش الأمين علي بن عيسى حين خرج بجيشه يريد محاربة المأمون وأسره، ففي تلك الوصية الخالدة تظهر النفس الكبيرة التي تتنزه عن الدنايا والقسوة الأحقاد وقد قالت له (يا علي إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي فإنني على عبد الله (المأمون) مستعطفة مشفقة لما يحده عليه من مكروه وأذى وإنما ولدي ملك نافس أخاه في السلطان، فاعرف لعبد الله حق ولادته وأخوته، ولا تساوه في المسير ولا تركب قبله إذا ركب وإذا شتمك فاحتمل).
وكانت على جانب كبير من الآداب والأخلاق كما كانت أديبة بارعة وشاعرة حساسة، وإليك أبياتا رقيقة باكية ترثي بها ولدها الأمين حين سمعت بقتله:
أودى بألفين من لم يترك الناسا
…
فامنح فؤادك عن مقتلك الباسا
لما رأيت المنايا قد قصدن له
…
أصبن منه سواد القلب والراسا
فبت متكئاً أرعى النجوم له
…
أخال سنته في الليل قرطاسا
والموت كان به، والهم قارنه
…
حتى سقاه التي أودى بها الكاسا
رزئته حين باهيت الرجال به
…
وقد بنيت به للدهر أساسا
فليس من مات مردودا لنا أبدا
…
حتى يرد علينا قبله ناسا
هذه لمحة من سلسلة أعمال جليلة خلدتها تلك الملكة العباسية الطاهرة، وتلمس منها تدبيرها وأخلاقها وأعمالها الجبارة الباقية على مدى الدهر.
ولقد انطوت حياة هذه الملكة الكريمة سنة 216 هـ في بغداد بعد حياة كلها خير وجلال وسؤدد.
البصرة - العراق
عبد الواحد باش أعيان العباسي
شعراء الشباب
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
ظل الناس يتساءلون في جزع ولهفة وحيرة عن الشاعر الفرد الذي يخلف أمير الشعراء أو شاعر النيل بعد وفاة شوقي وحافظ بسنوات، وكانت هناك يومئذ أسماء لامعة تذكر في مجال التفضيل؛ ربما سر أحدهم أن يملأ فراغا شاغرا لسواه، وربما غضب بعضهم أن يكون بوقا لغيره ولو انعقد عليه الإجماع. . . من هذه الأسماء اللامعة: العقاد ومطران ومحرم والجارم.
وبينما كان الناس يختلفون فيما بينهم على هذه الأسماء وغيرها. كان هناك شبه إجماع على شاعر شاب، غنى الشباب بشعره الوجداني، فاتفقوا، أو اتفق أهل الفن منهم خاصة، على تسميته (شاعر الشباب).
أطلق لقب (شاعر الشباب) أول ما أطلق في مصر على الأستاذ أحمد رامي، وظل وحده يستمتع بهذا اللقب الجميل حينا من الدهر، ربما يربو على عشر سنين بكثير؛ حتى زحفت جموع الشعراء من كل صوب، وتعددت ألوان الشعر في كل مجال، وغمرت الصحف والمجلات والكتب والإذاعة موجة واسعة متدفقة جياشة بالشعر الجديد. فكان من العسير على شاعر غنائي واحد أن يثبت أمام هذه الجموع الزاحفة كالبنيان المرصوص.
وهال الناس هذا الموكب الضخم الفخم كأنه مهرجان رائع في ميدان فسيح يشق أجواز الفضاء بحناجر قوية وأوتار صاخبة وأبواق مدوية تكاد تصم الآذان؛ ولم يستطع الناس - أول الأمر - أن يميزوا بين هذه الوجوه المتلاحقة والصور المتتابعة في وسط الزحام؛ فسموهم جميعا (شعراء الشباب)!
في العشرين سنة الأخيرة أطلقت كلمة (شعراء الشباب) على أكثر من ثلاثين شاعرا، وما تزال تطلق على نحو عشرين شاعرا إلى الآن.
وإذا كان من العسير إحصاء أسماء جميع شعراء الشباب في مقال واحد - فمن السهل اليسير الإشارة إلى بعضهم على سبيل التمثيل؛ لا الحصر والتسجيل.
شاعران لا ثالث لهما اشرأبت إليهما الأعناق وتفردا بالشاعرية الخصبة والخيال الملهم والملكة الفنية التي تندر في كل زمان ومكان، بين أرباب البيان وأعلام الشعر الرفيع.
شاعران اثنان لا ثالث لهما: علي محمود طه وإبراهيم ناجي. لكل من هذين الشاعرين جو فسيح يحلق فيه، وخيال مجنح يصل به إلى آفاق المجد والخلود.
كان هذان الشاعران في مقدمة الرعيل الأول من شعراء الشباب، منذ عشرين سنة، وتدفقت وفود الشعراء على الميدان الأدبي بعد ذاك، وظل علي محمود وإبراهيم ناجي قبلة الأنظار ومهوى الأفئدة وموضع الإعجاب!
وظهرت أسماء لامعة بدأت تشق طريقها بين الزحام، وبدأ إنتاج كل شاعر منهم يتسم بسمة خاصة إذا استسلمت حينا للتقليد فقد انطبعت فيما بعد بطابع التجديد. من هؤلاء الشعراء: سيد قطب ومحمود غنيم ومحمود حسن إسماعيل وعبد العزيز عتيق وعبد العزيز محمد خليل ومحمد عبد الغني حسن وعلي متولي صلاح. وبعد سنوات قلائل لاحت في الجو الأدبي نجوم جديدة من الشعراء في شعرهم قوة وفتوة وتدفق وتنوع والتماع، من هؤلاء الشعراء: أحمد مخيمر والعوضي الوكيل وطاهر أبو فاشا وأحمد عبد المجيد الغزالي ومحمد هارون الحلو وعلي الجمبلاطي وعبد العظيم بدوي.
وهنا لا بد أن أحيي (دار العلوم) تحية عاطرة بأريج الحمد والثناء، تلك المنارة الرفيعة للأدب العربي التي انبثقت منها كل هذه الأضواء؛ فجميع الشعراء السابقين - في الفترة الأخيرة - وغيرهم كثيرون. . . هدايا إلى الشعر من دار العلوم. . ودار العلوم أيام أن كانت (مدرسة) أما بعد أن صارت (كلية) جامعية فحسب المتخرج فيها أن يصيح أمام مفتش اللغة العربية: أنا من حملة الليسانس!!
وبعد فترة وجيزة من الزمن لاحت بشائر نهضة شعرية جديدة، بعد ما اتضحت مدارس الشعر أمام الشباب، وارتسمت الفوارق البعيدة بين الجديد والقديم، وتعددت المناهج المختلفة أمام الأنظار، فسلك سبيل القافلة الصاعدة على السماء، هؤلاء الشعراء: عبد الرحمن الخميسي ومحمود السيد شعبان ومصطفى علي عبد الرحمن وإبراهيم محمد نجا وفؤاد كامل وعثمان حلمي وحسين البشبيشي وعبد الغني سلامة ومحمد السيد شحاته (شاعر البراري) وعبد العليم عيسى.
وبعد وقت قصير لفتت الأنظار وجوه جديدة، وخاضت المعركة أقلام ناشئة، في إنتاجها الشعري حرارة الشباب، وفي نزعاتها الفنية وثبات الخيال، وإن كان بعضها لم يستقر بعد،
وهذه الفرقة هي التي تحتل الآن أماكنها المناسبة في الصحف والمجلات، من هؤلاء الشعراء: كمال نشأت وكيلاني حسن سند ومحمد رجب البيومي ومحمد الصادق سعود وتوفيق عوضي أباظة وعبد العزيز السعدني ومحمد مفتاح الفيتوري ومحمد سلامة مصطفى ومحمد أحمد سالم وعمر عبد العزيز.
وليس من السهل - ولا من اللائق أيضا - أن نرتب هذه الجموع الزاخرة ترتيبا تنازليا - أو تصاعديا - كترتيب تلاميذ المدارس بحسب درجات الامتحان؛ فهذا عسير جد عسير، لتنوع المذاهب وتعدد الألوان.
ولكن من السهل النص على أن هؤلاء الشعراء جميعا من الممكن تقسيمهم إلى أربع طوائف متميزة: الطائفة الأولى جماعة الأحرار؛ لا يتبع الشاعر منهم أحدا بالذات، وليست له قدوة يحتذيها ولا إمام يأتم به ويسعى على هداه، وإنما لكل منهم نهجه الخاص وطريقه المعلوم وشخصيته المتفردة. وأما الطوائف الثلاث الأخرى، فطائفة تتبع شعر العقاد وطائفة تتبع نثر الزيات وطائفة تتبع زجل بيرم التونسي!
لست أمزح ولا أهزل حين أقول جادا: إن طائفة من شعراء الشباب المعروفين، ينحون في الشعر نحو بيرم التونسي في الزجل! وليس معنى هذا أنهم يخطئون السبيل، أو يرجعون القهقرى؛ فرب قصيدة واحدة من الزجل - الشعر الشعبي - خير من ديوان كامل من شعر فلان وفلان ، وسيأتيك البيان!
وإن مما يؤسف له حقا أن يلتفت الناقد الأدبي إلى ميدان شعراء الشباب الآن فلا يرى إلا القليل. فينعم النظر ويمد البصر إلى هنا وهناك فلا يرى إلا أشباحا تجري في الظلام وراء تفاهات وحماقات لا تغني ولا تسمن من جوع.
لقد تفرق الجمع أيدي سبا. . وانصرفوا - أو كادوا ينصرفون عن الشعر الذي خلقوا له وارتفعوا به إلى القمة! ولكن يبدو أنها قمة الحضيض إن صح هذا التعبير.
بعض الشعراء استهوته الصحافة اليومية أو الأسبوعية فأدلى دلوه في الدلاء وعلى الشعراء العفاء. وبعضهم انخدع بالإذاعة فاستسلم لما يطلب منه من القصائد والتواشيح لقاء أجر معلوم، وبعضهم كل همه العلاوات والترقيات والاستثناءات في كل عهد وبأي ثمن. وبعضهم غارق لأذنيه في (شرب العرق ولعب الورق)، وبعضهم اتخذ الكتابة والتأليف
حرفة مجدية. . . وأخيراً جدا اهتدى (بعضهم) إلى تقليعة ظريفة تريحه من كل هذا العناء. . افتتاح (دكان شعر) لبيع قصائد المناسبات.
مأساة متعددة الجوانب، مختلفة الأشكال، ولكن سببها واحد على كل حال. سببها أن الدولة لا تقدر الشعراء حق التقدير، فهم يبذلون كل جهودهم للحصول على المال من أيسر طريق، باسم الشعر في الظاهر.
حرام على هذه المواهب الفتية الجبارة أن تطأ الشعر بالنعال وأن تضعه هذا الموضع المهين؛ وإنه لشيء نفيس مقدس يصل بصاحبه إلى صميم الخلود، لا قشور المظاهر الجوفاء!
نريد الإخلاص للشعر، والعكوف على الشعر، والاهتمام بالشعر، يا شعراء الشباب! أما أن يضيع العمر على هذا النحو فرحم الله الشعر والشعراء!
قليل لدي العمر أقضيه في الشعر
…
فمن لي بأعمار الكواكب والبدر!
ثلاثون عاماً من حياتي قضيتها
…
ولم أقض حق الشعر مهما سما شعري
لدي من الأفكار دنيا رحيبة
…
رحابة آفاق السماوات في فكري
يجيش بها صدري ويغلي بها دمي
…
وألبث فيها كالمقيم على الجمر
أغوص وأطفو في بحور من الشعر
…
وأسبح من بحر لبحر إلى بحر!
كان هذا منذ سبعة أعوام. . أما الآن، ففي الأسبوع القادم وفي الأسابيع التالية إن شاء الله، تفصيل ما أجملت وتقييد ما أرسلت في شعراء الشباب.
أحمد أحمد العجمي
إسماعيل بن القاسم المعروف بأبي العتاهية
للأستاذ محمد الكفراوي
مقدمة:
يروي صاحب مسالك الأبصار أن أبا العلاء المعري كان يقول كلما أراد إنشاد شيء من شعر أبي العتاهية: قال الداهية أبو العتاهية. وتلك العبارة من أبي العلاء المعروف بدقته وعمقه ترينا مدى ما يتعرض له الباحث في حياة شاعرنا من صعوبات وما يواجهه من مشاكل، وذلك لأن من لوازم الدهاة من الناس الالتواء والغموض مما يجعل التعرف على مقاصدهم مما يفعلون ويقولون صعباً. والحق أن الناظر في حياة أبي العتاهية أو القارئ لشعره لا يكاد يفرغ مما يصادفه من مشاكل تريد حلولا، أو أسئلة غامضة تتطلب إجابة شافية.
وأهم تلك المشاكل وأشدها تعقيداً هو تحول الشاعر في سنة ثمانين ومائة للهجرة من شاعر حب وغناء إلى شاعر حزين متشائم لا عمل له إلا تزهيد الناس في الحياة وتنفيرهم من شهواتها، والإلحاح عليهم أن يتجهوا بقلوبهم وأعمالهم إلى ما هو خير منها وتلك هي الدار الآخرة. ولو أن الشاعر قد جعل من حياته الخاصة صورة صادقة لما يردده في شعره من دعوة إلى الزهد في الحياة، لقلنا مع القائلين أنه قد سئم الحياة بعد أن رفضت حبيبة نفسه عتبة الزواج منه، ومال إلى حياة الزهد والصالحين، وأسرف في ذلك الميل حتى لم يعد له ما يشغله إلا التحدث عنها والترويج لها في شعره. أما وإنه ما زال حريصاً على الدنيا أشد الحرص حتى بعد تحوله إلى ما يشبه حياة الزهاد، فلا وجه إذن لإدخاله فيهم. وهنا يعرض ذلك السؤال الذي لم يصادف جواباً مقنعاً في كتابة السابقين من مؤرخي الأدب العربي ألا وهو: أي شيء كان إذن سلوك أبي العتاهية إذا لم يكن زاهداً بالمعنى الذي نعرفه، وأي شيء كان يدفعه إلى ذلك السلوك المتناقض الغريب؟
لعل الإجابة عن هذا السؤال هي أهم وأبرز بحث في الدراسة التي نحن بصدد التقديم لها الآن، وقد استنفدت الكثير من وقت المؤلف ومجهوده، إذ وجد نفسه مضطراً أن يرجع إلى بيئة الشاعر وطفولته، لعله يجد فيها ما يلقي شيئاً من الضوء على ما اكتنف حياته من غموض واضطراب، وبعد دراسة طويلة مضنية أسفرت الحقيقة للباحث الذي تمكن من
ربط الانقلابات الاضطرابات التي طرأت على الشاعر في مختلف مراحل حياته - ومن بينها تحوله الصوري إلى حياة الزهاد - بما صادفه أثناء طفولته من ألوان البؤس والشقاء، وما أصابه في ذلك الحين من أمراض نفسية، وقد كان أشد تلك الأمراض تأثيراً على حياته وأعظمها إيلاماً له مولده الوضيع الذي جر عليه كثيراً من الخزي، وملأ قلبه حقداً على ذوي الجاه واليسار من أهل عصره.
على أن عوامل أخرى قد انضمت إلى تلك التجارب القاسية والأمراض النفسية التي صادفت الشاعر في طفولته، فأحدثت مجتمعة ذلك الانفجار الذي طرأ على حياة الشاعر سنة ثمانين ومائة للهجرة، والذي كان يعتبر حتى كتابة هذه السطور نوعاً من الزهد في الحياة. وأهم تلك العوامل هو سخطه على هارون الرشيد لأسباب سنذكرها فيما بعد، واستغلال الفضل ابن الربيع وزبيدة زوج الرشيد لذلك السخط. فكل من الفضل وزبيدة كان ناقماً على الحياة الصاخبة العابثة التي كان يحياها هارون بين جواريه الحسان وبصحبة وزيره جعفر البرمكي، لما في تلك الحياة من صرف للخليفة عن زوجه من جهة؛ وإضعاف لقدر الفضل بن الربيع من جهة كما سيأتي تفصيل ذلك. وقد وجدا في أبي العتاهية ضالتهم المنشودة، فهو ساخط على الحياة والأحياء وعلى الخليفة وحاشيته بنوع خاص، ورأيا في شعره خير وسيلة للتشهير بالملاهي وروادها، وبالتالي خير وسيلة للحد من نشاط الرشيد في ذلك الاتجاه الذي لا يرغبان فيه.
وهكذا تحول الشاعر من القول في الحب والغزل إلى التزهيد في الحياة والتنفير منها ومن شهواتها وملاذها متحاملا أثناء ذلك على ذوي الجاه واليسار من بني عصره. ومع أن ذلك النوع من الشعر لم يكن في الكثير الغالب إلا تفريجاً عن نفس الشاعر الموتورة وتعبيراً عن عواطفه المكبوتة، ومن ثم لم يكن يستحق عليه كبير جزاء، إلا أن الفضل وزبيدة لم يبخلا على الشاعر بالتشجيع المادي والأدبي لما كان في شعره من خدمة لأغراضهما.
هذه سطور قلائل لم نقصد بها إلا أن نعرض صورة مصغرة لأحد الموضوعات التي تعرض لها بحثنا. وإنا لنأمل أن يجد القارئ لما كتبناه عن أبي العتاهية إجابة لكل ما يجول في نفسه من أسئلة أو خواطر.
هذا وقد قسمنا البحث إلى ستة أبواب
الأول: يبحث في تأثر بيئته المضطربة ومنبته الوضيع على حياته.
الثاني: يتحدث عن حبه الفاشل وإلى أي حد كان سبباً في تحوله إلى ما عرف باسم الزهد.
الثالث: علاقته بالرشيد والفضل وزبيدة، واندماجه في السياسة.
الرابع: دراسة إنتاجه الشعري بعد سنة ثمانين ومائة، ومعرفة مدى تصويره لأفكاره.
الخامس: يبحث في عقيدة الشاعر.
السادس: فيه نقد أدبي لشعره.
طفولته وبيئته:
ولد أبو العتاهية إسماعيل بن القاسم في الكوفة سنة ثمانين ومائة للهجرة، وكان أبوه القاسم يشتغل حجاما بها. أما هو فكان يبيع الجرار، ولكنه ما لبث أن اعتزل تلك المهنة واشتغل بقرض الشعر قاصدا التكسب به. وحين سطع نجمه وضاقت به الكوفة ذهب إلى بغداد وجاهد حتى وصل ذكره إلى سمع الخليفة المهدي الذي أذن له في إنشاد الشعر بين يديه وأجزل له العطاء. ولكن خلافا شديدا نشب بين الخليفة والشاعر بسبب حب الأخير لإحدى جواري الأول وذكره لها في شعره، مما جعل الخليفة يغضب عليه ويضطهده. وحين مات المهدي اتصل الشاعر بابنه الهادي ثم الرشيد، وبعد عشر سنوات قضاها في خدمة هارون كان أثناءها محل عطفه ورعايته، ترك الشعر الغنائي الذي كان يؤلفه للخليفة وهجر مجلسه، ولبس مسوح الزهاد، وأخذ يتحدث عن الموت والقبر ويضع من قدر الدنيا وأهلها، ويدعو الناس إلى الزهد فيها، والبعد عن ملاذها وملاهيها، وينصحهم بالعمل للآخرة ونعيمها. تلك فكرة يسيرة عن أبي العتاهية كما يصوره التاريخ ويتصوره الناس أحببنا أن نقدمها بين يدي بحثنا.
والآن نعود إلى إبداء رأينا في الشاعر. ولا بد لمن يريد أن يدرس حياة الشاعر ويفهم شعره حق الفهم، لا بد له من معرفة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ذلك الانقلاب الخطير الذي طرأ على حياته سنة ثمانين ومائة للهجرة، والذي أشرنا إليه من قبل، وبدون الوقوف على ذلك الانقلاب وأسبابه لا يمكن لنا أن نفهم كل ما جاء بعده من أشعار مع أن معظم إنتاج الشاعر وكل ما يعرف باسم الزهديات، قد نظمه الشاعر بعد ذلك التاريخ؛ ولكننا لن نستطيع معرفة أسباب ذلك الانقلاب وأسراره حتى نعرف الكثير عن بيئة الشاعر وأسرته
وطفولته لنتبين مدى تأثير كل ذلك على حياته.
والمعروف عن الفترة التي ولد فيها الشاعر ونشأ فيها، أنها كانت مليئة بالفتن والاضطرابات، إذ أنه ولد قبيل سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الكوفة التي ولد بها وتربى فيها كانت مركز نشاط مناهضي الحكم الأموي من عباسيين وعلويين، وكانت لذلك مسرحا لكثير من مناظر ذلك النضال المرير، كان معنى ذلك أن الشاعر قد رأى وسمع أثناء طفولته بكثير من تلك الحوادث الدامية. وجدير بمثله أن يضيق ذرعا بالحياة والأحياء، وأن ينظر دائما إلى المستقبل نظرة اليائس المتشائم. وإنه لمن المؤكد أن روح اليأس والقنوط التي يصادفها القارئ لشعر أبي العتاهية، قد تمكنت من نفس الشاعر منذ ذلك الحين المبكر ولا سيما إذا لاحظنا أن أباه كان حجاما وكان بطبيعة عمله من ألصق الناس بتلك المناظر الدامية.
وإذا كنا بالرجوع إلى بيئة الشاعر وطفولته قد استطعنا أن نهتدي إلى أحد تلك العوامل التي أدت إلى شيوع روح التشاؤم في شعر أبي العتاهية فليس بمعيينا أن نتلمس الأسباب التي دفعت به إلى الحقد الشديد على ذوي اليسار والجاه من بني عصره حقدا يظهر واضحا في إنتاجه الأدبي بعد سنة ثمانين ومائة للهجرة، كما سنذكره في حينه. وقد اتضح لنا من تلك الدراسة التمهيدية أن نقمته عليهم كانت أثرا من آثار الضعة والخمول اللذين أحاطا بنسبه. فقد كان آباؤه من التفاهة بحيث لم يكن لهم نسب معروف، فهو عربي في قول بعض الناس ومولى على رأي آخرين. ثم نراه يضطرب في ولاءه فيتولى مندلا وحبان العنزيين تارة، ومنصور بن يزيد خال الخليفة تارة أخرى. ولكن ذلك الغموض والخمول لم يكن كل ما يفسد على الشاعر حياته كلما ذكر آباؤه وأجداده، فهناك والده الذي كان يشتغل حجاما، وقد كان ازدراء الناس لتلك المهنة وأهلها شديدا، ولا أدل على ذلك من الفقهاء - برغم ما ينادي به الإسلام من مساواة بين جميع المسلمين - لم يجدوا بدا من الخضوع لتقاليد العصر والحكم بعدم جواز زواج ابن الحجام من طبقة غير طبقته إلا في حالات خاصة، كأن الخزي والعار الذي ألصق به شر مستطير يجب ألا يتعداه إلى سواه.
ولدينا من الأدلة ما يثبت أن أبا العتاهية كان وهو لا يزال صبيا يشعر بضآلة شأنه ويتألم لموقف مجتمعه منه ونظرته إليه. فالأغاني يحدثنا أن قصابا تشاجر مع أبي العتاهية وشج
رأسه فأسال دمه ودعاه نبطيا، وذهب الصبي المسكين إلى مواليه يبكي وينتحب ويسألهم أن يمدوا إليه يد المعونة، وليست تلك المعونة هي وقف الدم الذي يسيل منه، ولكن محو ما أصابه من عار حين قال له القصاب (يا نبطي)، والسبيل إلى محو ذلك العار هو أن يعلن أولياؤه من عنزة أنه عنزي وقد كان. وما حادث القصاب إلا نموذج لحوادث أخرى كثيرة تكررت وجرت على الشاعر كثيرا من الخزي والشعور بالضعة.
ومن الحق أن يقال إن الشاعر كاد ينسى أو يتناسى ما مر به في تلك الفترة من تجارب قاسية، فقد استقامت أموره ولمع نجمه في سماء المجتمع حين صار شاعرا مجيدا بعد أن كان بائع خزف مهين، ولكن حدثا جللا قد عرض له فكدر عليه نشوة النجاح وأعاد إلى ذاكرته صورة الماضي البغيض وزاده إيمانا بأن الحياة ليست إلا موطنا للشقاء والألم، وأعطاه دليلاً جديدا على فساد نظام المجتمع، ذلك هو حبه لعتبة وهو ما سيكون موضوع حديثنا في المقال التالي إنشاء الله.
للكلام صلة
محمد الكفراوي
شخصية
للأستاذ حبيب الزحلاوي
بقية ما نشر في العدد الماضي
طائف من الإلهام البصير طاف في ذهن كبير حكيم منا أن يدعونا إلى وليمة. . . وما كاد الجمع المدعو يلتف حول مائدة ذلك الرفيق الداعي، وهي تماثل في الشكل لا في النوع الموائد التي كانت تنشر وتطوى على عجل في ميادين القتال، حتى انبسطت أسارير كل نفس، وابتسم كل ثغر، وارتسم السرور على كل محيا، ونصع كل جبين، ولا أقول (اختفى) بل أقول (تبرقع) الاكفهرار والتجهم والتوجس؛ كأن حدسا لدنياً شاع في كل نفس يهمس أن خلف الصفاء في موسم الشتاء سحبا وبروقا ورعودا مقبلة، وقد بدت طلائع غيومها حين وقف رب الدعوة يرحب بالمدعوين ويقول:
الشام أيها الإخوان، بيت واحد تسكنه أسرة واحدة متفرعة كأغصان الشجرة، والفروع الكبيرة فيها إنما هي قواعد ثابتة لعرش عربي، وصولجان إسلامي، تبذل الأرواح من أجلهما والمحافظة عليهما.
لم تنطو المائدة على عجل كما كانت تنشر وتطوى في ميدان الجهاد، بل تجلت طبيعة الشامي على حقيقتها في المباسطة والمزاح والنكتة، وهي لا تختلف عما هو مفطور عليه من الرزانة والجد إلا في الإمعان بالعمق، والإمعان في المغالاة، والإمعان في الإيلام. ودارت أحاديث، وجرى عتاب، وانجلت أمور، واتضحت مسائل، وانقشعت من ظلمات الغيوم وقائع، وافتضح سر الدساس المنافق، وبرز وجه إبليس ببسمته المعهودة، وحركة التواء عنقه التقليدية، وكاد إبليس الرجيم - عليه اللعنة المؤبدة - يقول (خذوني).
نظرت إلى وجه (حصل أفندي) هذا الشاعر الذي طالما وقف في الناس منتصب القامة، وشامخ الأنف، رافع الرأس، ينشد القصيد فيطرب، يتلاعب بالعواطف، ويهز النفوس. لقد رأيته الليلة ذابل العين، كسيف النظر، منحني الرأس، كسير النفس، ذليل الروح، فتذكرت موقفا لشاعر معاصر وقف أمام إسماعيل صدقي ثم بين يدي مصطفى النحاس، فتخيلته (حصل أفندي) وقلت إن هذا هو ذاك بعجره وبجره، وعينه ومينه، بنفاقه وكذبه؛ فرثيت لحال الشاعرين. نظرت إلى وجوه الرفاق فإذا بهم يخرجون على توقرهم لرب الدار
صاحب الدعوة، وعلى تقاليدهم في الترفع عن الضعيف المهين، والتعاظم على الذليل الحقير، وكادوا يفتكون بذلك الشاعر الآثم، وقدر رأيت (حصل أفندي) حسان الثورة، شاعر العرب والإسلام، ينكمش ويتململ ويلصق جسمه بمقعده وسرعان ما وقف صاحب الدعوة، ذلك الرجل الواسع الحيلة، الذي رسم خطته بحكمة وتدبر وقال: ليس فينا من لم يقم بنصيبه في قتال الأعداء، ولذلك أقترح تشكيل هيئة حاكمة منكم كالتي كما نشكلها في ميادين الثورة لمحاكمة من يخرجون عن مبادئها.
لم يطل النائب العام كلامه في بسط وقائع الجريمة لأن الخائن قد خانه دهاؤه وذكاؤه فاعترف بجريمته وعزا وقوعها إلى وسوسة الشيطان، وطلب بذل وضراعة أن يكون مستقبل أولاده رهينة عند إخوان عرفوه في حالتي قدرته على النفع وعلى الضرر.
اتجهت الأنظار صوب رئيس المحكمة، وتعلقت أنفاس اللئيم في شفتي هذا الحاكم الذي لا مرد لحكمه. . . وسرعان ما سمعناه يخاطب الجاني بقوله: ليس لي أن أدينك يا (حصل أفندي) بعد اعترافك. لقد كنت فيما مضى أستمد قوة حكمي من الخروج على القانون، أما الآن فكلنا خاضع لأحكام القانون وليس فينا، فيما أعتقد، من يرضى بإدانتك والحكم عليك، فلك وحدك أن تحكم على نفسك.
توهمت أن يد الشاعر امتدت إلى مسدسه تنتزعه من جرابه لتفرغ منه رصاصة في صدغه ولكن حصل أفندي كان في شبه ذهول أو غيبوبة.
علت الأصوات بالاحتجاج من كل جانب وقد أسكتها الرئيس بإشارة منه وقال: تعرفون أيها الإخوان أني أنا الذي أطلقت اسم (حصل أفندي) على صاحبنا هذا الذي كنتم تقولون أنه شاعر العرب والإسلام وإني حين كنيته تلك الكنية اعتباطا وارتجالا لم أكن أتوقع أن الحوادث وتطوراتها سترفع القناع عن داء دفين، وعلة لابدة في نفس هذا الذي كان دائما في مقدمة صفوف المجاهدين وقد انقلب فأضحى في طليعة أجراء المستعمرين.
ليس بيت ابن الوردي (لا تقل أصلي وفصلي) هو التخريفة الوحيدة في هذه القصيدة التي تدل على سذاجة نفس ناظمها وتفكيره الضحل، وهذا عيب شائع عند من يستشهدون بقول الشاعر اعتباطا وبدون روية.
لا أظن أن ابن الوردي كذاب منافق، إنما المنافق الكذاب حقا هو كارل ماركس واضع
نظرية محو الطبقات وتلميذه ستالين منفذ تلك النظرية الخاطئة بالقوة لا بالإقناع، فالمساواة بين الطبقات إنما هي التضليل بعينه، والدعوة إلى إهمال الأصول وإنكارها والتمسك بما حصل عليه الإنسان أو بما وصل إليه إنما هو الكذب الصراح.
قد نجد شعراء ومجتهدين وعلماء وأغنياء وعظماء ومصلحين نبتوا نبتة شيطان من الطبقة الدنيا.
لم تكن نفوس المدعوين مهيأة إلى محاربة روح الشر بالتسامي أو بالإغضاء عن هفوة من مواطن في حق وطنه ومواطنيه. وسرعان ما نهض أحدنا وهو ربع القامة، عريض المنكبين، مفتول العضل. يكاد أن يكون رأسه قائما على كتفيه لقصر في عنقه، ذو عينين صغيرتين تنبعث منهما نظرة صارمة، حارب الألمان في صفوف الفرنسيين، وقاتل الفرنسيين في كل ميدان من ميادين الثورة عليهم، وقال بصوت بدأ هادئا ثم أخذت نبراته تشتد دون ارتفاع.
باسم الثورة لا باسم القانون أنقض حكم حضرة القاضي، لقد غدوت من غير الخاضعين لقوانين هذا البلد الذي حماني لأن مجلس وزرائه قرر اليوم إبعادي وسأكون قرب ظهر الغد في سفينة تنقلني إلى أوربا، وإنه ليطيب لي أن أزيل الغم عن صدوركم وأعيد الراحة إلى نفوسكم، بإصدار حكمي أنا على هذا المخادع الغشاش والداعية الأثيم للطاعة لولي الأمر ولو كان من المستعمرين والخضوع لقوانين الذل والعبودية. والتفت صوب المنكود (حصل أفندي) الذي كان قابعا في مقعده لا يندى له جبين ولا يحمر له وجه ولا يصغر وقال:
لقد كنت تسعى وتتجول وتنتقل من مكان آخر بقدمك هذه أني لأرى من العدل بل من الرحمة أن أعفيك من إتمام سعيك، وإبطاء تجوالك بكسر قدمك هذه. وانقض عليه انقضاض الرجل الغاضب لوطنه وكرامة عروبته يلوي مفصل قدم المنكود ليا عنيفا.
كان الرعديد يصرخ ويولول. لقد استجار بالله، وبرسله وأوليائه، لقد حلفنا بأولادنا وأعراضنا أن ننقذه من بلائه.
لقد كلت أيدينا، وعجزنا على كثرتنا عن تخليص قدم المسكين من قبضة صديقنا المنتقم، ولم يتركها إلا بعد أن خلع مفصلها.
إن أنس لا أنس صاحب الدعوة، وهو طبيب قتل اغتيالا كيف صير بيته مستشفى وقد
أقامنا على خدمة من ضلله الشيطان.
لقد دار الزمان دورته ولا أحسب إلا أنه أتمها وهي على غير محورها الثابت. ومن سخرية القدر أن يصبح حصل أفندي نائبا عن الأمة يضطلع حتى اليوم في أحد مجالس نيابة دولة شقيقة.
حبيب الزحلاوي
رسَالة الشِعر
ديوان مجد الإسلام
نظم المرحوم الشاعر أحمد محرم
يقدمه الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم
في دار الأرقم ابن أبي الأرقم
ودعا (الأرقم) استجب تلك داري
…
تسع الدين محرجاً محصورا
وافها، واجمع المصلين فيها
…
عصبة، إن أردت أو جمهورا
وأتى (ابن الخطاب) يؤمن بالل
…
هـ ويختار دينه المأثورا.
قال: كلا، لن يعبد الله سترا
…
ويرى نور دينه مستورا
اخرجوا في حمى (الكتاب) أسودا
…
واطلعوا في سنا (النبي) بدورا
ذلكم بيتكم، فصلوا، وطوفوا
…
لا تخافن مشركا أو كفورا
إرادة قتل الرسول الكريم وهجرته
أجمعوا أمرهم وقالوا: هو القت
…
ل يميط الأذى ويشفي الصدورا
كذبوا، ما دام الهزبر أماني
…
مهاذير يكثرون الهريرا
لا وربي، فإنما طلب الكفار بسلاً وحاولوا محظورا
إن نفس الرسول أمنع جارا
…
من طواغيتهم، وأقوى مجيرا
ما لهم؟ هل رمى النبي تراباً
…
أم عمى في عيونهم مذرورا؟
ذهلوا مدة فلما أفاقوا
…
أنكروها دهياء عزت نظيرا
ينفضون التراب: من مس منا
…
كل وجه، فرده معفورا؟
أين كنا؟ ما بالنا لا نراه؟
…
ما لأوصالنا تحس الفتورا؟
أمن الحادثات ما يذهل العا
…
قل عن نفسه ويعمى البصيرا؟
أين ولي؟ لقد رمانا بسحر
…
فسكرنا، وما شربنا الخمورا
يا له مصعبا لو أنا أصبنا
…
هـ على غرة لخر عقيرا
راح في عبطة ورحنا نعاني
…
أملا ضائعا، وجدا عثورا
خيبة تترك الجوانح حري
…
يا لها حسرة تشب وتورى
رب آتيته على القوم نصرا
…
فتباركت حافظا ونصيرا
أنت نجيته، فهاجر يقضي ال
…
حق، لا خائفا ولا مذعورا
يوم ضجت جبال (مكة) ذعراً
…
وتمنت هضابها أن تمورا
تتنزى أسى، وتمسكها تم
…
نعها من ورائه أن تسيرا
هي لولاك لارتمت تقذف الصخ
…
ر وتزجي هباءها المنثورا
هاجها من جوى الفراق وحر ال
…
وجد ما هاج بيتك المعمورا
كاد يهفو فزدته منك روحا
…
فانثنى راجح الجلال وقورا
يا لها من (محمد) نظرات
…
زخرت رحمة، وجاشت سعيرا
نظرات شجية لا تعد ال
…
أهل أهلا، ولا ترى الدور دورا
قال: ما في البلاد أكرم من مكة
…
أرضا، ولا أحب عشيرا
فاسكني يا هموم نفسي، إن الل
…
هـ أمضى قضاءه المقدورا
إنني قد نذرت لله نفسي
…
والتقى الوفي يقضى النذورا
يقطع البيد بعد صحب كرام
…
قطعوا غارب العباب عبورا
كم رشيد آذاه في الله غاو
…
زاده طائف الهوى تخسيرا
ضرب الصحب في البلاد فأمسوا
…
لا يصيبون صاحبا أو سجيرا
في ديار لدى (النجاشي) غبر
…
ظل فيها سوادهم مغمورا
وتولى وللأمور مصير
…
يشتري ربه، ويرجو المصيرا
يوم يمشي (الصديق) في نوره الزا
…
هي يوالي رواحه أو البكورا
ينصر الحق ثائرا يمنع البا
…
طل أن يستقر أو أن يثورا
لا يبالي غيظ القلوب ولا يح
…
فل في الله لائما أو نذيرا
أقبل القوم يسألون أتحت الت
…
رب، أم جاور الطريد النسورا؟
نفضوا الهضب والجبال وشقوا ال
…
أرض طرا رمالها والصخورا
ويح (أسماء) إذ يجيء أبو ج
…
هل على خدها المصون مغيرا
صاح أسماء أين غاب أبو بك
…
ر أجيبي، فقد سألنا الخبيرا
قالت العلم عنده ما عهدنا
…
أجم الأسد تستشير الخدورا
فرماها بلطمة تعرض الأج
…
يال عن ذكرها صوارف صورا
قذفت قرطها بعيدا ورضت
…
من وجوه النبي وجها نضيرا
في الغار الأكبر، غار ثور
غار ثور أعطاك ربك ما لم
…
يعط من روعة الجلال القصورا
أنت أطلعت للمالك دنيا
…
ساطعا نورها ودينا خطيرا
صنته من ذخائر الله كنزا
…
كان من قبل عنده مذخورا
مخفر الحق لاجئا يتوقى
…
قام فيه (الروح الأمين) خفيرا
وقفت حوله الشعوب حيارى
…
من وراء العصور، تدعو العصورا
يا حيارى الشعوب ويحك إن ال
…
حق أعلى يدا وأقوى ظهيرا
لا تخافي فتلك دولته العظ
…
مى تناديك أن أعدي السريرا
جاءك المنقذ المحرر لا يت
…
رك قيداً، ولا يغادر نيرا
ورث المالكين والرسل الها
…
دين بالحق أولا وأخيرا
الحكيم الذي يهد ويبني
…
فيجيد البناء والتدميرا
والزعيم الذي يسن ويقضي
…
لبني الدهر، غيباً وحضورا
تترامى الأجيال بين يديه
…
تتلقى النظام والدستورا
ليس في الناس سادة وعبيد
…
كبر العقل أن يظل أسيرا
خلق الكل في الحقوق سواء
…
ما قضى الله أمره مبتورا
كذب الأفدياء ما ظلم الل
…
هـ، وما كان مسرفا أو فتورا
دبر الملك للجميع، فسوى ال
…
أمر فيه، وأحكم التدبيرا
يا (نصير الضعاف) حرر نفوساً
…
تتمنى الفكاك والتحريرا
ضجت الكائنات: هل من سفير
…
يتلافى الدنى؟ فكنت السفيرا
رب آتيتنا هداك، وأنزل
…
ت علينا كتابك المسطورا
فلك الحمد وافرا مستمرا
…
ولك الفضل باقيا مذكورا
أبو بكر الصديق وحية الغار
صاحب القائم المتوج بالفر
…
قان، بوركت صاحباً ووزيرا
أنت واليته، وعاديت فيه
…
من توخى الأذى، وأبدى النفور
أو لم تتخذ أباك عدوا
…
وتذقه الهوان كيما يحورا؟
إذ يقول (النبي) لا تضرب الشي
…
خ، وإن سبني، ودعه قريرا
إنما نلت بالمساءة منه
…
والدا مدبرا، وشيخاً ضريرا
ليت شعري: أصبت حية واد
…
تنفث السم، أم أصبت حريرا؟
نفثت سمها، فما هز (رضوي)
…
من وقار، ولا استخف (ثبيرا)
خفت أن توقظ (النبي) فما ير
…
ضيك أن تضعف القوي أو تخورا
أكرم الله ركبتيك، لقد أع
…
طاك سبحانه، فأعطى شكورا
أي رأس حملت يا حامل الإيم
…
ان سمحا والبر صفراً طهورا؟
سراقة بن مالك يريد قتل النبي
إتق الله يا سراقة وانظر
…
هل ترى الأمر هينا ميسورا
أم تظن الجواد تمسكه الأر
…
ض وتلوي عنانه مسحورا؟
أم هو الله ذو الجلال رماه
…
يمسك الشر راكضا مستطيرا؟
غرك القوم، فانطلقت ترجي
…
هـ خسيسا من الجزاء حقيرا
وضح الحق، فاعتذرت وأولا
…
ك الرسول الكريم فضلا كبيرا
فزت بالعهد فاغتنمته، وأبشر
…
(بسواري كسرى) فديت البشيرا
قل لأهل النياق: أوتيت أجري
…
حللا فابتغوا سواي أجيرا
ليس من رام رفعة أو سناء
…
مثل رام ناقة أو بعيرا
يتبع
الكُتبُ
الإنسان بين المادية والإسلام
تأليف الأستاذ محمد قطب
عرض وتعليق للأستاذ حسين عبد الفتاح سويفي
تتمة ما نشر في العدد الماضي
(المجتمع حاجة نفسية، تنبعث من نفس الفرد، من رغبة ملحة في ألا يعيش وحده، وسواء كان الخوف، والشعور بالوحشة أمام الحيوانات المفترسة، وقوى الطبيعة المجهولة، أو كانت المصلحة حين وجد كل فرد أنه يستطيع أن يدرك بالاشتراك مع غيره، ما لا يستطيع أن يدركه وحده، أو كانت غريزة الجنس، أو نزعة القطيع، فالنتيجة الأخيرة واحدة، وهي أن نزعة لا تقهر، هي التي أنشأت المجتمع من ضمير الفرد. . . . .
(وقد كان أمراً طبيعيا أن يكون المجتمع الأول في أضيق نطاق ممكن، وأبسط صورة ممكنة: أسرة: زوج وزوجة وأبناء. فتلك أول مجموعة يمكن أن تتغلب فيها نزعة الاجتماع، على النزعات الفردية المستقلة، وتخضعها لسلطانها بأي طريق. ومنذ تلك اللحظة، صارت الأسرة، هي الوحدة بدلا من الفرد، ومع أن الفرد ظل محتفظاً بكيانه، كشخصية مستقلة، إلا أنه، قد اكتسب في الوقت ذاته صفته الأخرى، كعضو في جماعة، ولم يعد في طوقه أن يحس أو يفكر أو يعمل إلا بصفتيه في آن واحد) هذه صورة يعرض عليك فيها حاجة الفرد إلى المجتمع الذي يعيش فيه، ولا يمكن أن يكون مستقلا بذاته، غنيا بفرديته. تقابلها صورة أخرى حين يراد للفرد أن يخضع لنزعته الجماعية إلى آخر المدى، على حساب فرديته وذاتيته، في الدول الدكتاتورية أو الشيوعية.
(إن الإنسان في آفاقه العليا، كائن له إرادة حرة، وكيان مستقل، صحيح أن له إرادة يحدها الصالح العام، وكيانه المستقل، يخضع لقدر من الإشراف يتحقق به في النهاية صالح الفرد وذاته بتحقيق صالح المجموع، ولكن الفرد في المجتمع الحر له رأي في تكييف هذا الصالح العام، وفي طريقة تنفيذه. رأي حر يتشاور فيه الناس علانية، دون خوف من سلطان الدولة. . وتجسس الرقباء. . . . والفرد حر في مشاعره التي لا تؤذي غيره،
يصوغها كما يشاء كيانه، وبنيته النفسية الخاصة، حر في فلسفته الشخصية التي ينظر بها إلى الحياة والكون في حدود الإطار الذي يتحرك فيه الجميع، متعاونين غير متصارعين، وحر في اختيار العمل الذي يناسبه ويشعر أنه ميسر له).
(وإن إنكار حق الفرد الممتاز في القيادة والتوجيه لجريمة مزدوجة، فهو أولا يبدد طاقة بشرية من نوع نادر ممتاز كان يمكن أن يستفيد بها المجموع لو أتيحت له الفرصة المناسبة، وهو كذلك يظلم هذا الفرد حين يعامله معاملة الأفراد العاديين، بدعوى المساواة المطلقة بين الجميع، فطالما أن الناس مختلفون في طاقاتهم الفردية، واستعداداتهم الجثمانية والفكرية والنفسية فدعوى المساواة المطلقة خرافة حمقاء)
وهذه صورة ثالثة للإنسان في وضعه السوي رسمها له الإسلام
(النظام الصالح هو الذي يوازن بين الفرد ومصالحه، وبين صفتيه المكونين له، كفرد مستقل، وعضو في جماعة، كما يوازن بين الجيل الواحد والأجيال المتعاقبة في نطاق الإنسانية الشاملة الرحيبة)
(إن مجرد الإسلام يعطي المسلم حصانة من الاعتداء على كرامته الإنسانية، وحقوقه البشرية، وأنه حين يكرم الفرد إنما يكرم المجتمع بأكمله)
وهل كان الفرد إلا ذرة في المجتمع الذي يعيش فيه؟
(لذلك يعني الإسلام عناية شديدة بكل فرد على حدة، لأنه الوحدة التي ينشأ المجتمع من اجتماعها بغيرها من الوحدات، واللبنة التي يقوم عليها البناء)
وحينما يتحدث عن الجريمة والعقاب، يقارن بين الأمم، التي تقدس حرية الفرد وتعتبر أن المجتمع هو المسئول عن جرائم أفراده، والأمم ذات النظم الجماعية (التي تبالغ في الحط من قيمة الفرد ولا تعترف له بكيان مستقل فتقسو تبعا لذلك في الحكم على جرائمه). والإسلام الذي يوائم بين الفرد والجماعة فلا يميل مع الفرد على حساب الجماعة. ولا مع الجماعة على حساب الفرد. وإليك قوله فيه
(أما الإسلام فله رأيه في الجريمة والعقاب، ينفرد به بين نظم الأرض، ويمسك فيه بميزان العدالة المطلقة بقدر ما يمكن أن يتحقق في دنيا البشر - فلا يسرف في تقديس حقوق الجماعة ولا يسرف في تقديس حقوق الفرد. . . . وذلك تبعا لنظريته المتوازنة التي ينظر
بها إلى الناس، لا من واقعهم الأرضي المحدود ولا من زواياهم المتضاربة، بل ينظر إليهم من أعلى، من السماء، فيراهم كلهم في لحظة واحدة، بنظرة واحدة شاملة. . . فحينذاك لا يبدون فردا وجماعة منفصلين متقابلين، بل يبدون وشائج متصلة، وعلاقات متداخلة، لا يمكن فصل بعضها عن بعض)
(والإسلام لا ينظر للجريمة بعين الجماعة فحسب، بل يمسك الميزان من منتصفه، فينظر إليها كذلك وفي ذات الوقت بعين الفرد الذي تقع منه الجريمة.
فهو حين ينظر إليها بعين الجماعة فيقرر حقها، في حماية نفسها من الجريمة، ويفرض لذلك العقوبات، ينظر إليها كذلك بعين الفرد، فيرى مبرراته ودوافعه لارتكاب الجريمة، فيعترف بها، ويعطيها حقها الكامل من التقدير والرعاية، ويعمل على إزالة كل الدوافع المعقولة، قبل أن يفرض العقوبة)
وحينما يتعرض للمشكلة الجنسية، يتعرض تعرض الرجل الخبير بطبيعة الجسد؛ العليم بطبائع النفوس؛ فلا تفوته رغبة من رغبات الجسد، ولا نزعة من نزعات النفس، ولا رأي من الآراء إلا حلله ليأخذ منه الصواب؛ ويدع الخطأ أو يبدي رأيه المستقل حين لا يقنع برأي من الآراء. كل ذلك في أسلوب ساحر؛ وحساسية مرهفة، وشعور طلق رحيب، وعقل باحث منقب؛ يقتحم بك المادة فتشعر بحرارتها وثقلها؛ وينطلق بك طائراً في روحانية شفيفة، تجتاب الآفاق، وترتاد العوالم، فتسمع معه همس الحور في قصور النور، أو مناغاة الجنيات في عالمها المسحور.
استمع إليه حينما يبين العلاقات بين الجنسين في أسلوبه الشيق الطلي
(إن الرجل في حاجة إلى المرأة، والمرأة في حاجة إلى الرجل لشيء آخر غير ضرورة الجسد، ودفعة الغريزة، إن كلا منهما ليجد عند الآخر، وفي رحابه (مشاعر) نفسية. الألفة والحنان والود والتعاطف مشاعر لا يجدها في أي مكان آخر، لا يجدها الرجل كاملة عند الرجل، ولا المرأة عند المرأة.
(إن كلا من الجنسين في حاجة إلى فرد من الجنس الآخر، يلقي إليه نفسه كلها. مشاعرها، وأفكارها، وينكشف له عن كل أسراره الدفينة، ويتجاوب معه ويتعاطف، ويجد منه حافزا وعونا لمواجهة الحياة، وتبعاتها المختلفة.
(وإن الدنيا كلها لتنفتح لقلبين متحابين متآلفين، ولا تنفتح لقلب واحد محروم من الحب والعطف، مقطوع من الألفة العذبة، ولو كان أكبر قلب لأعظم إنسان، بل هو لن يكون قلبا كبيرا، وهو محروم من غذائه الطبيعي، الذي لا تنقضي الحاجة إليه.
(وتلك وقائع قد يتفنن الشعر في تصويرها، في عالم المثل والأحلام، ولكنها بغير شعر ولا فن، وقائع علمية تشهد بصحتها الحياة كلها منذ فجرها إلى اليوم)
الله. ماذا يمكن أن يقول قائل أروع من هذا. وهل في الشعر أو النثر ما يعادل هذه الروعة، التي تأسر الألباب، وتأخذ بمجامع القلوب؟!
ثم استمع إليه وهو يتحدث عن شعور الحرمان، لتحس معه أنت أيضاً بشعور الرجل المحروم من الطفل، أو المرأة المحرومة منه، وكيف تقابل طبيعة كل منهما هذا الحرمان.
(وقد يجد الرجل أحيانا عملا، أو فكرة يغرق فيها نفسه ليسكت هذا الهاتف الملح، والحنين الملهوف للطفل، ولكن المرأة ما أقسى حياتها بغير طفل؛ إن الطفل جزء من المرأة حقا ومجازا، جزء من جسدها تحمله، وتغذيه من دمائها، ثم من لبنها وهو، خلاصة دمها، وجزء كذلك من كيانها النفسي، بحيث تشعر أنها معطلة، أو ناقصة، أو عاجزة، إذا لم تأت بنسل)
وحينما يتحدث عن الإحساس الجنسي، يبين لك ألوانه ودرجاته، ألوانه بريشة الفنان المبدع، ودرجاته بمقاييس العاطفة الدقيقة، فيشعرك بحرارة الجسد حينما تتخلله الرغبات العارمة الحارة، وانطلاقات الروح حينما تتخلص من قيود المادة، وتنطلق في عالم الصفاء واللطف.
(هناك الشهوة العارمة التي تتمثل في الجسد الهائج، والجوارح الظامئة، والعيون التي تطل منها الرغبة الهائجة المجنونة.
وهناك الشهوة الهادئة المتدبرة، التي تعد العدة في ترتيب وأناة، حتى تظفر بما تريد على مهل ودون استعجال.
وهناك الأشواق الحارة الملتهبة، التي تنبع من الجسد، ولكنها تمر في طريقها على القلب فيصفيها من بعض ما بها من (العكارة) أو يعطيها قسطا من العاطفة تمتزج بصيحة الجسد الملهوف.
وهناك الأشواق الطائرة المرفرفة التي تنبعث من القلب، وقد تمر في طريقها على الجسد فيمنحها بعض لهيبه المحرق وقد يختلط بها بعض العكار ولكنها تظل محتفظة بكثير من الصفاء
وهناك إشراقة الروح الحالمة، وقد صفيت من العكار كله، وصارت صفاء مطلقا، لا يعرف الجسد، وإشعاعه لا تعرف القيود، تعشق الجمال خالصا حتى من الإطار الذي يصب فيه.
(وهناك ألوان أخرى لا تدركها الألفاظ، ولا يقدر عليها التعبير)
(وبين هذه الألوان المختلفة مئات من الأحاسيس، تشترك في الأصل ولكنها تختلف فيما بينها أشد الاختلاف.
فأي كسب للإنسانية في أن تقول مع القائلين (كله في النهاية جنس).
أرأيت كيف يتدرج بك من نيران الرغبة الملتهبة إلى أنوار الحب الطاهر الطائر البريء، وينقلك من لفح الجحيم، إلى نفح النعيم في خفة ورشاقة، وبراعة ولباقة، ودقة وأناقة.
وحينما يتحدث عن القيم العليا، ويسائل منكرا، أو يستفهم مستنكرا لما يقوله العلماء التجريبيون، يشعرك معه بالسخرية الحارة مما يقولون:
(هل القيم العليا كلها خرافة، والمشاعر النبيلة كلها أوهام؟!
(هل كانت عبثا كل دعوة الأنبياء والمصلحين، وكل محاولة لتهذيب الطبائع البشرية؟! وهؤلاء العظماء من كل لون وفي كل باب الذين ضحوا بمصالحهم لصالح الإنسانية، الذين استعصوا على دعاء الشيطان، واستمعوا لهاتف الضمير، الذين أقاموا أنفسهم مثلا رفيعة للعدل والنزاهة والرحمة والتعاطف، والاعتداد بالكرامة، والإيمان بالأفكار العليا والجهاد في سبيلها. هل كانوا كلهم خرافة؟!
أبو بكر، وعمر، وعلي، وأبو عبيدة، وأبو ذر، وعمر بن عبد العزيز. . . وأخناتون، وغاندي، وبوذا وغيرهم وغيرهم. . كلهم أوهام؟)
ثم انظر إليه بعد ذلك وهو يمزق تلك الصورة القذرة التي رسمها فرويد للإنسانية، ليلوث بها كل جميل في مشاعر البشر، ويهوى بالإنسانية إلى درك سحيق من الانحطاط والتردي، وكيف يرد عليه من نفس كلامه ويمسك بتلابيبه، ويضيق عليه الخناق حتى لا يستطيع جوابا.
(قتلت الإنسانية أباها الأول ليستمتع الأولاد بأمهم في شهوة جنس دنس مسعور، ولكنهم ما كادوا يصنعون ذلك ويرون أباهم جثة هامدة، حتى اعتراهم الندم على فعلتهم الآثمة)
وهنا يأخذ الرجل من لسانه كما يقول:
(من أين يأتي الشعور بالندم لهذه الحيوانات الهائجة، التي تتصرف بدافع الحيوان؟ من الذي أوحى إليهم أن عملهم هذا خطأ لا يجوز؟ إننا هنا أمام شعور إنساني يفرق بين الإنسان والحيوان.
فهذا الندم على الجريمة، يؤكد وجود الحاسة التي تفرق بين ما ينبغي، وما لا ينبغي أن يعمل، وبين ما هو خير، وما هو شر، حاسة تقدر قيما ذاتية للأعمال، بصرف النظر عن الدافع الغريزي الذي يدفع إليها)
هذه واحدة
(ثم نظر الأبناء فيما بينهم، فوجدوا أن أحداً منهم لن يفور بأمه، إلا إذا قتل الآخرين، وإذن فستنشأ معركة عنيفة، لا تؤدي إلى تحقيق المصلحة المنشودة، فاتفقوا بينهم على أن يتركوا أمهم لا يمسها أحد منهم، وينصرفوا راشدين متآخين بدلا من أن يقتتلوا فينقلبوا خاسرين)
(وهذه هي الثانية
(شعور إنساني آخر. شعور التآخي على مصلحة عامة، بدل الأنانية القاتلة والصراع المرذول)
وإنما ساق هذا القول من أقوال فرويد، ليبين أن الإنسانية في أوضاعها الأولى، يوم كانت على فطرتها: لم تهذبها تعاليم الرسل، ولا آراء المصلحين، ولا عقول المفكرين. كان فيها استعداد فطري، لأن تندم على الإثم، وأن تعمل على تحقيق النفع المشترك، وأن تنفر من التنازع والخصام.
وقبل أن أنتهي من هذه الكلمة، أحب أن ألفت النظر إلى أسلوب المؤلف اللاذع الساخر، حينما يريد أن يسخر برأي من الآراء أو يفند قولا. ولكنها السخرية التي تجري فيها الحكمة، ويظهر فيها الاتزان. ومع ذلك فهو يرغمك على أن تضحك، وتغرق في الضحك، مع أنك مع كتاب جاد رصين.
فانظر إليه وتخيل معه حالة البشرية، لو أنها نفذت كلها تعاليم المسيحية، واعتزلت في
الصوامع والأديرة.
(أي كارثة كانت تصيب الإنسانية، لو أن الناس كلهم قد اعتزلوا في الصوامع والأديرة، فانقطعت الحياة بانقطاع النسل ووقف التقدم البشري كله بانصراف الرغبة عن الحياة الدنيا، إطاعة لأوامر السماء)
ثم استمع إليه، وهو يصور لك حالة المسيحيين داخل حدود الكنيسة، وحالتهم وهم بمنأى عنها.
(إذا كانت المسيحية لأسباب سياسية وتاريخية، قد انتشرت في رقعة كبيرة من الأرض، فإنها مع ذلك لم تطبق تطبيقا عمليا، وإنما بقيت في حدود الكنيسة، لا تبسط من ظلها على الأحياء إلا وهم خاشعون في صلاتهم، يسمعون التراتيل الساحرة، والصلوات المؤثرة، فإذا انطلقوا بعد ذلك إلى أعمالهم انطلقوا إليها بشرا لا مسيحيين، لا يدير أحدهم خده الأيسر لمن لطمه على خده الأيمن، ولا يقلع أحدهم عينه، ويلقيها عنه لأنها تعثره، ولا يرضى بأن يهلك عضوا واحدا من أعضائه، تكفيرا عن إثم من الآثام)
ثم اسمع إليه وهو يسخر من الشيوعيين الذين لا يرون للأخلاق قيمة ذاتية - إنما هي أشياء ابتدعها الرأسماليون - ولا يرون في الجريمة الجنسانية جريمة، لأنهم مضطرون، إلى إطلاق القطيع على سجيته. وإذن فأين الجريمة؟
(الجريمة الكبرى في الدولة الشيوعية، الجريمة التي تنشق لها السماء، وتنهد الجبال هدا، هي انتقاد النظام الشيوعي أو التعرض للإله الأكبر (بابا ستالين) أو أحد من الآلهة السابقين وخاصة الإله - لنين - تقدست أرواحهم ولهم الأسماء الحسنى - عند ذلك ينقضون جميعا على هذا المجرم الأثيم - فيسرعون به إلى المشنقة إن أرادوا به الرحمة أو ينفونه في ثلوج سيبريا إذا أريد له العذاب، وعندئذ تخرج الصحف الروسية مفاخرة مباهية، بأن الدولة قد قامت بحركة تطهير، لحماية النظام).
وفي الكتاب من هذه اللذعات كثير!
وبعد - فهذا الكتاب رحلة شائقة إلى ينابيع الحقيقة، وسفرة ميمونة إلى مناهل المعرفة. صاحبه شاعر بارع علاوة على أنه كاتب محقق، وبأسلوب الشاعر وتحقيق الكاتب أخرج هذا الكتاب.
حسين عبد الفتاح سويفي
البَريد الأدبيَ
ليس في القرآن أساطير
يقول الأستاذ توفيق الحكيم في كتابه الجديد (فن الأدب) الذي طبعته ونشرته مكتبة الآداب بالقاهرة ما نصه: -
(لقد أتى القرآن بجديد في فن الكتابة لا اللغة وحدها بل القصص والأساطير، لقد استخدم الفن القصصي في التعبير عن المرامي الدينية، ولكن المدهش أن الأدب العربي لم ير في القرآن إلا نموذجا لغويا. . ولم ير فيه النموذج الفني. فلم يخطر له استلهام قصصه، أو استغلال أساطيره استغلالا فنيا مستفيضا. . . الخ)(صفحة 24 من الكتاب المذكور).
ولست أدري على وجه التحقيق ماذا يريد أديبنا الكبير الأستاذ الحكيم بنسبة الأساطير للقرآن الكريم؟ وهل يحتوي كتاب الله المنزل على رسوله الصادق الأمين أساطير تستغل استغلالا فنيا أو غير فني؟ ومن هم الذين عناهم الله بقوله في (سورة الفرقان) آية 5 (وقالوا أساطير الأولين أكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا).
وإذا كان يقصد بالأساطير القصص فإن الفارق واضح بين القصة والأسطورة. . والقرآن الكريم (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)(سورة فصلت آية 42)
(وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق) سورة هود
(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين)(سورة يوسف آية 3)
(كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق)(سورة طه آية 99)
وبعد فلعل الأستاذ الحكيم يرمي إلى معنى آخر غير المعنى المفهوم من الأساطير. . . وأترك المجال لغيري من أهل البحث والتحقيق. والله ولي التوفيق.
سلامة خاطر
في الشعر العباسي:
تحت هذا العنوان نشرت مجلة الإذاعة المصرية في عددها الصادر بتاريخ 3 من مايو سنة
1952 مقالا قيما للأستاذ محمد البهبيتي وقد جاء في آخره ما يلي: -
يقول شاعر الخوارج في قتل ابن ملجم لعلي كرم الله وجهه
يا ضربة من تقي ما أراد بها
…
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحسبه
…
أوفى البرية عند الله ميزانا
فيأخذه شاعر الشيعة فيقلبه هذا القلب لاعنا قائله وهو عمران بن حطان
يا ضربة من غدور صار ضاربها
…
أشقى البرية عند الله إنساناً
إذا تفكرت فيه ظلت ألعنه
…
وألعن الكلب عمران بن حطانا. . .)
وقد ذكر جمال الدين أبو بكر الخوارزمي في الباب الثامن من فتنة الخوارج من كتابه (مفيد العلوم) ما يأتي بعد أن ذكر خبر معاوية وعمرو: -
فقالت الخوارج: -
يا ضربة من تقي ما أراد بها
…
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحسبه
…
أوفى البرية عند الله ميزانا
فأجابه عمران بن حطان: -
يا ضربة من لعين ما أراد بها
…
إلا ليهدم للإسلام أركانا
أضحى غداة تعاطاها بضربته
…
مما عليه من الإسلام عريانا
طوراً أقول ابن ملعونين ملتقطا
…
من نسل إبليس بل قد كان شيطانا
والرواية التي ذكرها الخوارزمي تدل على أن عمران بن حطان كان شيعيا وقد يكون بأبياته قد عارض الخارجي في مدحه قاتل علي كرم الله وجهه؛ وكيف يلعن نفسه كما ذكر الأستاذ نجيب؟
فما رأي الأستاذ نجيب في هاتين الروايتين وأيهما أحق بالتصديق.
شطانوف
محمد منصور خضر
القَصَصُ
هندي من الحمر
عن فرنز ميلر
للأستاذ كارنيك جورج ميناسيان
قال التلميذ عن نفسه وهو ينحني: روبرت سنو
لكنني كنت أعرفه من قبل، فهو أكبرنا سنا، وإن كنا أقدم منه عهداً في الدراسة. أنه يمتاز بلون برنزي، وعينين غائرتين تبرقان في الظلمة.
لم نلبث أن تعارفنا وأخذنا نتبادل التحايا والبسمات الصامتة، ثم جاء يسأل عن حجرة يسكن فيها، فأخبرته بوجود حجرة خالية إلى جانب الحجرة التي أقيم فيها، فوافقه ذلك. . أصبح جاري، فصار يزورني مساء، فأقدم إليه قدحاً من الشاي الساخن. . . حتى أوشك تحفظه أن يزول بتوطد الصلة بيننا، وسألته مرة:
- أتدري أني أغبطك؟
قال باسماً: - علام؟
- على لون طلعتك. . هذا الغريب الجذاب، الذي يذكرني بلون الهنود الحمر.
- لا غرابة في ذلك، فأنا هندي من الحمر!
وطفق يحدثني بأخباره الخاصة. . كان يحيا بين الغاب والبحيرات، فيجد في الغاب حيواناً يأنس إليه، كما يجد في البحيرات ماء يسبح فيه ويشرب منه. . فسألته:
- وما الذي دعاك إلى ترك عالمك الجميل واستبداله بعالم الدراسة.
فأجابني بقوله: - قال أحد العرافين لأبي أني ذكي وفطن، لا يجب تركي عابثاً عند بحيرة (هرنين)
- وبعد؟
- وبعد تركت عالمي وجئت إليكم.
فصمت، ولم ألبث أن سألته بكثير من الكياسة والتردد:
- ترى أرضيت عن ثقافتنا يا صاحبي؟
قال: - خلت نفسي ثملا. . وأنا أرى الشوارع والدور. . . وآلاف الأعاجيب الأخرى. . فكنت أمر مذهولا شارداً، أتحسس ما أرى وما أشاهد كي أتأكد أنني لست أحلم!
إن أمواج بحيرة هرنين لم تكن لتريني كل هذه الأعاجيب!
إن العجيبة الأولى التي أذهلتني هي السفينة العظيمة التي حملتني، وعبرت بي المحيط!
لقد خلت نفسي وأنا أراها تسير بسرعة وثبات على سطح البحر الزاخر. . أني أمام عمل من أعمال الآلهة. وقد ركعت حينئذ وصليت من شدة رهبتي!
ثم صمت، وأنشأ يحرك الملعقة في كوب الشاي، فتحدث حركته رنيناً حزيناً، عاد بعد انقطاعه يتمم حديثه فيقول.
- لم تكن حياتي الماضية تشمل غير الواضح المألوف. لكنني كنت أعجب وأنا أقصد البحيرة أن أجد في طريقة ريشة طير ذات ألوان جذابة مفرحة. كانت تبدو لي كأنها تخصني بتحية الصباح، لقد كنت أتناولها فرحاً وأداعبها مسروراً. . فأمسحها بجبيني تارة وبوجهي أخرى، وإذا ما هبت الريح كنت أرفعها وأرميها عالياً مع مسرى الريح.
- يا لها من لذة!
-. . كانت أموركم ألذ بكثير
- ولماذا تقول كانت، أو ليست كذلك الآن؟
- أبداً. .! إن التعليل والتشريح والتبسيط حطمتها، وذهبت بروعتها ولذتها. . .
- لا أفهم ما تقول
لم يجيبني، بل نهض وفارقني بعد تحية سريعة.
بقيت تلك الليلة أفكر في قول صاحبي. . . حتى طار النوم من عيني!
وفي الغد كنت أجلس بجانبه في المختبر، وأمامنا بطاريات الزجاج مبعثرة على المنضدة، في حين كان مصباح بونش يشع نوراً أزرق، توشك العين ألا تراه! وما كان أستاذنا قد حضر بعد، فقال لي رفيقي:
- ألم تلاحظ وجه السبورة السوداء تلك؟
- لاحظتها كثيراً، فقد كتبت عليها مئات المعادلات
- لم تفهم قولي، قلت لك وجهها. .
فحولت نظري إلى اللوحة، فلاحظت أن الأبخرة المتصاعدة من الأحماض قد تركت على سطحها أشكالا وخطوطاً غريبة، لو نظرها شخص بانتباه، لبدت له من تعاريج الخطوط رسم وجه لإنسان عبوس! فقلت لصاحبي:
- حقا أنه يبدو كوجه إنسان
- أتعلم وجه من هو؟. .
قلت ساخراً: - إنه. . وليد الاتفاق والمصادفة!
فقال مقاطعا - هذا هو وجه العلم! قد صورته مبتكرات العلم، فإذا هو وجه عنيد متجهم، لا تنبئ أساريره بأي معنى من معاني الرحمة!
وهنا دخل الأستاذ، فأنقطع كلامنا، لكني بقيت حائرا أستعيد رأي صاحبي ولا أدري أأصدقه أم أكذبه (وجه العلم العنيد المتجهم)؟ فأمضي بنظري إلى اللوحة، تاركا الأستاذ يشرح ويعلل، لأرى وجها عنيدا متجهما حقا!
لا ريب أن التبسيط يحطم اللذة والروعة، فلو بسطنا أسباب ظهور الوجه على سطح اللوحة فإننا لن نشعر بعد ذلك، بمثل ما يشعر هذا الهندي نحو ذلك الوجه الغريب!
. . وفي طريق عودتنا إلى غرفتينا قلت لصاحبي: -
- إني قادر على فهمك بعد الآن
قال - هيهات فأنت قد ولدت هنا في عالم العلوم، لا في عالم الطبيعة. . إنك لم تتمدد على العشب الأخضر، ولم تتفهم أسرار الحقول، فلا يمكنك أن تبثها أحزانك أو تشرح لها آلامك كما أفعل أنا! هذه لوحاتكم، ما رأيتم فيها غير المعادلات والمحاسبات. . والأحرف الكثيرة الجامدة! حين ثمة لوحات لنا عند بحيرة هرنين ترينا الطبيعة وكيف تحنو، والأيدي وكيف تتساند! حتى أنها ترينا الآلهة وهي ترتفع وتسمو عن. . .
وصمت فجأة! وكأنه استدرك ورأى أنه يقول ما لا ينبغي، فودعني ومضى عن طريقي. . لقد قدرت ألمه ولم أحنق عليه، وما كان المساء حتى طرق بابي وقال
- لقد كنت قاسيا معك
فكان جوابي أن قدمت إليه كوب الشاي.
وحين رفع الكوب إلى فمه، أخذ يبعث إلى بأنظاره من فوق حافة الكوب، فبدت لي عيناه
عندئذ غائرتين أكثر من قبل! ثم واجهني وقال:
- كان الأجدر بي أن أتصف باسمي فأكون باردا كالثلج. . على الأقل معك أنت.
فلم أجب، فاستمر يقول:
- إن الهدوء والرزانة من صفاتي. . لكن التبسيط الذي يذهب بروعة الأشياء!
فسألته قائلا: لماذا تطلب العلم إذن؟
- كان المبشر قد أحسن إلى كثيرا، فحين زودني بالمال وحثني على طلب العلم لم أستطع الرفض.
- ولماذا تخصصت في العلوم؟
- أخبروني هنا أني أهل للعلوم! إنهم يريدون أن يجردوني من الخيال، من خيالي اللذيذ! لأفنى في المعادلات العقيمة، لكنني لن أفعل هذا. . لن أفعل!
فصمت قليلا في حين كانت عيناه تبرقان ثم عاد يقول:
إن أهل العلوم قد أفسدوا علي أحلامي وخيالي، قالوا لي إن هذا من هذا، وإن الماء هو الجمع بين ذرة من أكسجين مع ذرة من هيدروجين! وإن ورد الزنبق مؤلف من هيدرات الكاربوليك والنيتروجين! وإن ماكنة السفينة بسيطة، فالمحرك لا يدور بقدرة الإله كما كنت أعتقد، بل بقدرة. . البخار! لقد عللوا لي الأشياء، وبسطوها وشرحوها، حتى بدت لي عادية بسيطة تافهة لا روعة فيها أبدا.
قلت له: إننا لا نؤمن بوجود الإله في محرك السفينة لكننا نؤمن بوجوده في محل آخر.
- تعني الكنيسة؛ دخلتها مرة فشعرت بنفور أعمق من نفوري من المعادلات.
- ما قولك إذن في شعرائنا؟
- أولئك شعراء؟ إنهم لا يؤمنون بالله حين يدعون أبدا أنهم يؤمنون! لقد لاحظتهم وهم منفردون بأنفسهم يرتلون الشعر، فرأيت السخرية تبدو في وجوههم واضحة كلما جاء ذكر الإله!
وقلت وقد أزعجني كلامه - ألست معي في أن للعالم اسما مهيبا محترما؟
- أنا معك في أن له اسماً مهيباً محترما. . . فقط! لكنه هو نفسه خال من الصفتين! أنكم تقولون عن العلم أنه سام كالآلهة وأن له أغواراً عميقة ليس لها قرار! ثم أراكم تنزعون
ثوب تلك الآلهة، المعبودة، وتتركونها عارية، ثم تجهزون عليها وتجردونها حتى من الخجل.
- الخجل، ما معنى الخجل يا سيدي؟
- ألم تسمع قول أستاذنا في الكيمياء؟ لقد قال إن ما ندعوها (بالحياة) مؤلفة من كذا أحماضا وكذا قلويات. . إلى آخر هذه الأشياء التي نسيتها.
فوجدت صاحبي يمضي إلى مذاهب متشعبة، وأن لا فائدة من معاندته ولا من تشجيعه على ما هو فيه، فقلت له:
- إذا نلت الدكتوراه فستغدو حرا، ولك ألا تنتبه إلى المحاضر ولا إلى المعادلات، ولك ألا تهتم إلا بعالمك الذي تحن إليه.
كل من قال الدكتوراه كان قد أجهده الاستذكار. . إلا الهندي سنو! فهو لم يراجع ولم يذاكر، فنال أجازة الدكتوراه من غير تعب أو إرهاق. وبدا لي أنه لم يعلق على الدكتوراه أملا من الآمال! إذ أن كثيرا ما رأيته وهو يسرح بأنظاره عبر الفضاء باحثا عن أحلام أخرى. غامضة، ما كنت أفهمها، ولعله هو نفسه أيضاً ما كان يفهمها، وبدا لي كأن وجهه قد تحجر وتجهم وأنه صار شبيهاً بوجه العلم الموسوم، على اللوحة السوداء.
احتفلنا بعد الامتحان، حيث خطب فينا العميد في قاعة الكيمياء، فلاحظت صديقي الهندي جالساً أمامي، وهو منصرف إلى تأمل ذبابة تطير عند النافذة! ولما قال العميد (علينا أن ندعو جيلنا بجيل العلم) ترك سنو ذبابته فتوجه إلى المحاضر فاستمر هذا يقول (ولكننا لسنا في المرحلة الأخيرة من مراحل العلم، فثمة معضلات أخرى كثيرة يجب أن نحاربها بالعلم). فلاحظت سنو يزداد انتباهاً. قال المحاضر (فنحن لن نرتاح حتى يسود العلم الأرض كلها، حتى نحطم العقائد البالية، حتى. .) وقاطعه بصوت عنيف (وماذا أبقيت للشياطين)؟ ووقف الصارخ فإذا هو سنو! فجعل يصرخ صراخاً كالعويل. . . لا ريب أن أهالي قريته يتسلحون به ضد الشياطين! ثم وثب على محبرة عامرة بالقرب منه، فألقاها على المحاضر. .! فتجنبها هذا. . ونزل من المنصة، فارتطمت المحبرة باللوحة السوداء؛ فتكسر زجاجها وسال مدادها على تعاريج وجه العلم، فتكالب على سنو من حوله، لكنه قاوم حتى نجح في أن يقذف بمحبرة أخرى في وجه. . العالم! فعلا الصخب والصراخ، حتى
حملوا سنو إلى الخارج حملا.
. . ومضى عام!
وإذا أنا أستلم رسالة من كندا، كانت من سنو الهندي، وكانت فيها هذه الكلمات:
(. . بينما كنت أتوجه ذات صباح إلى بحيرة هونين، مثلما كنت أفعل قبل مغادرة وطني، وجدت أيضاً ريشة طائر، من النوع الذي كنت أجده دائما كما ذكرت لك، فتناولتها لأرى من من الآلهة قد بعثها لي. . ولأداعبها وألاعبها كما كنت أفعل! وإذا أنا أمام ريشة بسيطة عادية لطائر معروف، لا تولد في أية لذة. إنما هي ريشة تتألف من كالسيوم وكوبلت 3)!
كارنيك جورج ميناسيان