المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 985 - بتاريخ: 19 - 05 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ٩٨٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 985

- بتاريخ: 19 - 05 - 1952

ص: -1

‌سام.

.

للأستاذ سيد قطب

ذلك الذي تلمحه على وجوه الناس في هذه الأيام، وتلمسه في أحاديثهم في كل مكان. .

سأم من كل شيء، ومن كل فكرة، ومن كل عمل، ومن كل أحد، ومن كل اتجاه. .

سأم هو مزيج من ألم قد مات! ومن يأس من الأعمال والرجال، ومن (قرف) شامل، ومن استهتار.

يقلب الناس صفحات الصحف، ويمرون على العنوانات الضخمة بدون اكتراث، كأن لم يعد شيء يدعو إلى الاكتراث.

هذه الردود الذاهبة إلى لندن، الآيبة إلى القاهرة وبالعكس، إنها لا تعني أحدا. إن كل أحد يحس أنها ليست له، وليست من شأنه، وليست بشأنه، إنها أمور تعني أصحابها. تعني الذين يهمهم (قتل الوقت) هنا أو هناك!

كل أحد في هذا الشعب يعرف أن هذه الردود الذاهبة إلى لندن، الآيبة إلى القاهرة وبالعكس، ليست هي التي تخرج الإنجليز من الوادي. كل أحد يعرف أنه وقت ضائع ذلك الذي يصرف فيها. وأن الإنجليز يهمهم دائما أن يسوفوا انتظار لتحسن الظروف.

كل أحد في هذا الشعب يعرف أن الإنجليز يعرفون، أن هناك عشرين مليونا من البشر يعيشون خلف القضبان، وأن الذين يعيشون خلف القضبان لا حق لهم في الاستقلال!

ولكن أحدا لا يقول شيئا عن هذه المسألة، ولا يهم أن يفتح فمه عنها بحديث، ما فائدة أن يتكلم؟ ما جدوى أن يقول؟

سأم. سأم. سأم تموت منه الكلمات في الشفاه.

والأزمة الاقتصادية، إن بوادرها في الأفق تلوح. بل إنها لتجتاح الوادي. كل شيء في الريف يهوى: القطن، الإيجارات، المعاملات، بينما تكاليف المعيشة على حالها، والغلاء آخذ بالخناق.

ولكن أحدا لا يهم أن يصرخ، ولا يهم أن يستغيث، ولا يهم أن يشير بعلاج.

لقد سئم الناس تكرار الصراخ وتكرار الاستغاثة وتكرار الكتابة حول النقائص والعيوب. . كل كلام ذاهب كصرخة في واد، ليس لها من سميع.

ص: 1

لذلك لم يعد أحد يشكو. أنه ما فائدة الشكوى؟ ما جدوى الألم؟

سأم. سأم. سأم تموت منه الكلمات في الشفاه.

وحكاية التطهير، لقد ألقى إليها الشعب سمعه في أول مرة. ثم سحب اللحاف على رأسه ونام!

إن كل أحد يعرف أن الأمور فيما يختص بالشعب تسير كما كانت دائما تسير. . . مصالح الجماهير في دواوين الدولة لا يشعر بها أصحاب الدواوين. . . ما من حاجة تقضى لأنها يجب أن تقضى؛ الموظفون في مكاتبهم لا للعمل، ولكن للاتفاق على العمل! حتى المدرسون، ورثة الأنبياء، مربو الجيل، كل جهدهم اليوم للدروس الخصوصية، ومجانية التعليم أمست سخرية، بل كارثة على رؤوس الآباء. لقد كانوا يؤدون المصروفات المحدودة فيتعلم أبناؤهم. أما اليوم فلا يتعلم إلا من يؤدي ضريبة الدروس الخصوصية. هنالك عصابات من (المربين)، عصابات تفرض ضرائب معينة على الآباء، وإلا فليستمتعوا هم وأبناؤهم بتعليم المجان!

ولكن أحدا في الشعب لا يتألم ولا يصرخ، كما أنه لا يحفل بحكاية التطهير. أنه يعرف ما هنالك. فلا داعي إلى الكلام!

سأم. سأم. سأم تموت منه الكلمات في الشفاه.

ومصر بلد مجنون والحمد لله! بلد يحاول أن يستنقذ من رمال الصحراء ومن ركام الأملاح أشبارا أو أمتارا من الأرض كل عام. وتنفق وزارة الأشغال، ومصلحة الأملاك، ووزارة الزراعة ما تنفق من جهد ومن ومال في استنقاذ هذه الأشبار والأمتار من فم الصحراء، وردها إلى الخصوبة والعمار، ولكن هذا البلد نفسه يطمر مئات الأفدنة كل عام بالرمال والأحجار، مئات الأفدنة من أخصب بقاع هذا الوادي، يطمرها تحت الرمال والأحجار كي يحولها إلى مساكن! وهاأنذا صباح مساء أبصر مئات من الرجال يكدون اليوم بطوله ليفرشوا مساحات من الأراضي الخصبة بين المعادي والبساتين. على خط حلوان. يفرشونها بالرمال، ويطمرون ما عليها من زرع أخضر حي. يدفنونه بلا شفقة ولا رحمة، لتتحول هذه الأرض الخصبة إلى مساكن لشركة المعادي!

ومن قبلها حدث مثل هذا في مدينة الأوقاف، وفي الدقي وفي طريق الهرم، لقد أكلت

ص: 2

المباني هذه المساحات الشاسعة، بينما عشرات الألوف من الأفدنة، ومئات الملايين من الأمتار المربعة من الأراضي الرملية الجافة الجميلة الصالحة للسكنى بلا ردم ولا هدم تنتظر مشروعا واحد يحيلها عمارا، مشروع كهربة خط حلوان. .

ولكن مصر بلد مجنون والحمد لله. يجاهد جهاد المستميت لينقذ شبرا من عدم الصحراء، ويجاهد كذلك جهاد المستميت ليهب الصحراء فدانا يطمره بالرمال والأحجار.

أم إنني أنا المجنون؟ لأنني لا أفهم أن في مصر مصالح، وأن في مصر شركات؟

ثم مالي لا أصمت كما يصمت الشعب في هذه الأيام؟ ألا أحس ذلك السأم الذي يرين على الوجوه؟ ألا أشعر بذلك الهم الجاثم على الصدور؟

وفي هذا الوقت بالذات يطلع علينا الأستاذ أحمد العجمي في الرسالة بهتاف حار: أين الشعر أيها الشعراء؟

الشعر! الشعر يا سيدي هتاف حياة، ودعوة حياة، وتعبير حياة.

الشعر طاقة فائضة تريد لها متنفسا، وحيوية دافقة تبتغي لها مسيلا.

الشعر تعبير أحرار يملكون التعبير، لا جمجمة عبيد أو أسرى خلف القضبان.

الشعر انتفاضة قلب، وتحليق روح. لا وسوسة السلاسل ولا جرجرة الأغلال.

انظر يا سيدي حولك! أنظر إلى ذلك الذي تلمحه في الوجوه، وتراه في السمات.

إنه مزيج من ألم قد مات، ومن يأس من الأعمال والرجال، ومن (قرف) شامل، ومن استهتار.

إنه السأم. السأم الذي تموت منه الكلمات في الشفاه!

سيد قطب

ص: 3

‌في سبيل الإصلاح

من أخلاقنا

للأستاذ علي الطنطاوي

أليس عجيبا أن صار اسم (الوعد الشرقي) علما على الوعود الكاذبة، واسم (الوعد الغربي) علما على الوعد الصادق؟

من علم الغربيين هذه الفضائل إلا نحن؟ من أين قبسوا هذه الأنوار التي سطعت بها حضارتهم؛ ألم يأخذوها منا؟

من هنا أيام الحروب الصليبية، ومن هناك، من الأندلس بعد ذلك، وهل في الدنيا دين إلا هذا الدين (الشرقي) يجعل للعبادات موعدا لا تصح العبادة إلا فيه، وإن أخلفه المتعبد دقيقة واحدة بطلت العبادة؟ إن الصوم شرع لتقوية البدن - وإذاقة الغني مرارة الجوع حتى يشفق على الفقير الجائع - وكل ذلك يتحقق في صوم اثنتي عشرة ساعة، واثنتي عشرة ساعة إلا خمس دقائق، فلماذا يبطل الصوم إن أفطر الصائم قبل المغرب بخمس دقائق؟ أليس لتعليمه الدقة والضبط والوفاء بالوعد؟ ولماذا تبطل الصلاة إن صليت قبل الوقت بخمس دقائق؟

والحج؟ لماذا يبطل الحج إن وصل الحاج إلى عرفات بعد يوم الوقفة، أليس لأن الحاج قد أخلف الموعد؟

أو لم يجعل الإسلام إخلاف الوعد من علامات النفاق، وجعل المخلف ثلث منافق؟ فكيف نرى بعد هذا كله كثيرين من المسلمين لا يكادون يفون بموعد، ولا يبالون بمن يخلف لهم وعدا، أو يتأخر عنه، حتى صار التقيد بالوعد، والتدقيق فيه والحرص عليه، نادرة يتحدث بها الناس، ويعجبون بصاحبها ويعجبون منه. . . وحتى صارت وعودنا مانحة مانعة لا تعرف الضبط ولا التحديد.

يقول لك الرجل (الموعد صباحا) صباحا؟ في أي ساعة من الصباح؟ في السادسة؟ في السابعة؟ في الثامنة؟ إنك مضطر إلى الانتظار هذه الساعات كلها. (الوعد بين الصلاتين) وبين الصلاتين أكثر من ساعتين. (الوعد بعد العشاء). أهذه مواعيد؟! هذه مهازل وسخريات، لقوم لا عمل لهم، ولا قيمة لأوقاتهم، ولا مبالاة لهم بكراماتهم!

هذه مواعيدنا في ولائمنا، وحفلاتنا، وفي اجتماعاتنا الفردية والعامة.

ص: 4

دعيت مرة إلى وليمة عند صديق لي قد حدد لها ساعة معينة هي الساعة الأولى من بعد الظهر، فوصلت مع الموعد فوجدت المدعوين موجودين إلا واحدا له عند صاحب الدار منزلة. وتحدثنا وحلت ساعة الغداء وتوقعنا أن يدعونا المضيف إلى المائدة فلم يفعل، وجعل يشاغلنا بتافه الحديث، ورائحة الطعام من شواء وقلاء وحلواء، تملأ آنافنا، وتصل إلى معدنا الخاوية، فتوقد فيها نارا، حتى إذا اشتد بي الجوع قلت:

- هل عدلت عن الوليمة؟

فضحك ضحكة باردة وخالها نكتة، فقلت:

- يا أخي جاء في الحديث أن امرأة دخلت النار في هرة. . حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. ونحن جماعة وهي واحدة، وهي قطة ونحن بشر!

فتغافل وتشاغل. ثم صرح فقال: حتى يجيء الشيخ فلان.

- قلت: إذا كان الشيخ فلان قد أخلف الموعد، أفنعاقب نحن بإخلافه؟ وهل يكون ذنبنا أنا كنا غير مخلفين؟

والحفلات مثل الولائم، يكتب في البطاقة أنها تبدأ في الساعة الرابعة، وتبدأ في نصف الخامسة. وأعمالنا كلها على هذا النمط، ركبت مرة الطيارة من مطار ألماظة في مصر فتأخرت عن القيام نصف ساعة انتظار راكب موصى به من أحد أصحاب المعالي. ولما ثرنا معشر الركاب وصخبنا طار بنا، فلم يسر والله ربع ساعة حتى عاد فهبط فارتعنا وفزعنا وحسبنا أن قد جرى شيء، وإذا العودة من أجل الراكب المدلل صديق صاحب المعالي، وقد كان تأخر لأنه لم يحب أن يسافر حتى يدخل الحمام، ويستريح بعد الخروج كيلا يلفحه (اسم الله عليه) الهواء البارد. وكنت عائدا من رحلة رسمية فلما وصلت إلى مطار المزة وجدت أكثر من مائتي إنسان بينهم مندوب وزير العدل، ينتظرون في الشمس منذ ساعة كاملة.

والسيارات مثل الطيارات، والدكاكين والدواوين، والمقاهي والملاهي، كل ذلك يقوم على تبديل المواعيد وإخلافها، حتى لم يبق لشيء موعد معروف. فيا أيها القراء خبروني سألتكم بالله، أي طبقة من الناس تفي بالموعد، وتحرص عليه وتصدق فيه، وتدقق في إنجازه؟ الموظفون؟ المشايخ؟ الأطباء؟ المحامون؟ الخياطون والحذاؤون؟ سائقو السيارات؟ من؟ من

ص: 5

يا أيها القراء؟

يكون لك عند الموظف حاجة لا يحتمل قضاؤها خمس دقائق، فتجيئه وهو يشرب القهوة، أو يقرأ الجريدة، أو يشغل نفسه بما لا طائل تحته، فيصعد فيك بصره ويصوبه، ويقومك بعينه، فإن أنت لم تملأها، ولم تدفعه إلى مساعدتك رغبة فيك، أو رهبة منك، قال لك: ارجع غدا. فترجع غدا، فيرجئك إلى ما بعد غد. . . لا أعني موظفا بعينه، ولا عهدا بذاته، بل أصف داء قديما سرى فينا واستشرى، ودخل وتغلغل. .

ويكون لك موعد مع الشيخ، فيجيئك بعد نصف ساعة، ويعتذر لك، فيكون لاعتذاره متن وشرح وحاشية، فيضيع عليك في محاضرة الاعتذار نصف ساعة أخرى. وإن دعوته الساعة الثانية جاء في الثالثة. وإن كان مدرسا لم يأت درسه إلا متأخرا.

والطبيب يعلن أن العيادة في الساعة الثامنة ولا يخرج من داره إلى العاشرة، وتجيئه في الموعد فتجده قد وعد خمسة من المرضى مثل موعدك، واختلى بضيف يحدثه حديث السياسة والجو والكلام الفارغ، وتركهم على مثل الجمر، أو على رؤوس الإبر، ينتظرون فرج الله، حتى يملوا فيلعنوا الساعة التي وقفوا فيها على باب الطبيب، ويذهبون يفضلون آلام المرض على آلام الانتظار، ويؤثرون الموت العاجل المفاجئ على هذا الموت البطيء المضني.

أما الخياطون والخطاطون، والحذاؤون والبناؤون، وأرباب السيارات، وعامة أصحاب الصناعات، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنهم من أكذب خلق الله، وأخلفهم لوعد. الكذب لهم دين، والخلف عادة، ولطالما لقيت منهم، ولقوا مني، وما خطت قميصا ولا حلة، ولا صنعت حذاء، ولا سافرت في سيارة عامة سفرة، ولا بعثت ثوبا إلى مصبغة لكيه أو غسله أو تنظيفه، إلا كووا أعصابي بفعلهم، وشويتهم بلساني، وإن كان أكثرهم لا يبالي ولو هجاه الحطيئة أو جرير أو دعبل الخزاعي، بل إنهم ليفخرون بهذه البراعة في إخلاف المواعيد، والتلاعب بالناس، ويعدونها مهارة وحذقا.

فمتى يجيء اليوم الذي نتكلم فيه كلام الشرف، ونعد وعد الصدق، وتقوم حياتنا فيه على التواصي بالحق لا يعد فيه المرشح وعدا إلا وفى به بعد أن يبلغ مقاعد البرلمان، ولا يقول الموظف لصاحب الحاجة إني سأقضيها لك إلا إذا كان عازما على قضائها، ولا يعد الصانع

ص: 6

بإنجاز العمل إلا إذا كان قادرا على إنجازه، والموظفون يأتون من أول وقت الدوام ويذهبون من آخره، والأطباء لا يفارقون المكان ساعات العيادة، والخياط لا يتعهد بخياطة عشرة أثواب إن كان لا يستطيع أن يخيط إلا تسعا، وتمحى من قاموسنا هذه الأكاذيب. تقول لأجير الحلاق: أين معلمك؟ فيقول، أنه هنا سيحضر بعد دقيقة، ويكون نائما في الدار لا يحضر إلا بعد ساعتين.

ويقول لك الموظف، من فضلك لحظة واحدة. فتصير لحظته ساعة.

ومتى تقوم حياتنا على ضبط المواعيد وتحديدها تحديدا صادقا دقيقا، فلا يتأخر موعد افتتاح المدارس من يوم إلى يوم ويتكرر ذلك كل سنة، ولا يرجأ موعد اجتماع الدول العربية في الجامعة من شهر إلى شهر، ولا تعاد في تاريخنا مأساة فلسطين التي لم يكن سببها إلا إهمال ضبط المواعيد وإخلافها. ولو أنا حددنا بالضبط موعد القتال، وموعد الهدنة، وجئنا (أعني الدول العربية) على موعد واتفاق، لكان لنا في تاريخ فلسطين صفحة غير التي سيقرؤها الناس غدا عنا.

إن إخلاف الموعد الصغير، هو الذي جر إلى إخلاف هذا الموعد الكبير. فلنأخذ مما كان درسا؛ فإن المصيبة إذا أفادت كانت نعمة. ومتى صلحت أخلاقنا، وعاد لجوهرنا العربي صفاؤه وطهره، وغسلت عنه الأدران، استعدنا فلسطين، وأعدنا ملك الجدود.

فابدؤوا بإصلاح الأخلاق، فإنها أول الطريق.

علي الطنطاوي

ص: 7

‌4 - حسن البنا الرجل القرآني

بقلم روبير جاكسون

للأستاذ أنور الجندي

. . . أعتقد أن حسن البنا كان أهلا للمكان المرموق، والزعامة الحقة التي وصل إليها. . فقد كان تركيبه الجسدي والفسيولوجي، وأخلاقه وشمائله، وعواطفه وأشواقه. . وذكاؤه وعبقريته، ودهاؤه وحيلته، وقدرته على مواجهة الظروف والأحداث.

كان الرجل يفهم دعوته التي يدعو إليها على أوسع نطاق، وكان يؤمن بها أصدق إيمان، وكان يراها وسيلة إلى تحقيق وحدة الشرق، وتحريره، وخلق جيل جديد، يكسر قيود الاستعمار ويحرر الأوطان، وينفذ في الأرض شريعة الحق. . .

كان الرجل علما على دعوته. . ذلك أنه ليس من اليسير أن ندرس فكرة منفصلة عن قائدها، بل إننا لا نعتقد أن هناك رسالة يمكن أن تنفصل عن الداعي إليها، أو تقوم بعده على الوجه الذي رسمه لها. . .

فهي جزء منه وهو جزء منها، أو هما شقان للحقيقة الخالدة القائمة التي تنتظم نفوس التابعين له، أو المنضوين تحت لوائه. . .

وليس شك أن الزعماء والقادة هم أوعية المبادئ والبرامج والمذاهب. . هذه المبادئ التي ليست إلا كلمات منثورة في بطون الكتب، ليست العبرة بنصوصها بقدر ما تكون العبرة بالقائمين عليها وتنفيذها.

وعلى قدر إخلاص الداعية لمبادئه، وتطبيقها على نفسه، وعلى قدر صلابة عزيمته في تنفيذها وتطبيقها يتوقف نجاحهم.

أنا أؤمن بأن مبادئ الإخوان مرتبطة إلى حد كبير بذلك الرائد الأول الذي رسم خطوطها، وأقام بناءها حجراً حجراً. . فإذا ما قضى فأنا لا أستطيع أن أحكم على مدى اتجاه هذه المبادئ إلا بعد وقت طويل. .

لم يكن الرجل القرآني، فيما علمت، يسعى إلى فتنة، أو يؤمن بالطفرة. . ولكنه كان يريد أن يقيم مجتمعا صالحاً قويا حرا، وينشئ جيلا فيه كل خصائص الأصالة الشرقية. .

لقد ظهرت حركات إصلاحية كثيرة خلال هذا القرن. . في الهند ومصر والسودان وشمال

ص: 8

أفريقيا. وقد أحدثت هزات لا بأس بها ولكنها لم تنتج آثاراً إيجابية ثابتة.

وقد جاء هذا نتيجة لعجز بعض المصلحين عن ضبط أعصابهم عن مواجهة الأحداث واندفاعهم إلى الحد الذي وصل بهم إلى مرتبة الجرح قبل أن يتم البناء، كما جاء أثراً من آثار عزوفهم عن الاتصال بالشعب وتكوين رأي عام مثقف.

اختفت هذه الدعوات، وبقيت عبارات على الألسن، وكلمات في بطون الكتب، حتى قيض لها أن تبعث من جديد، وأن تستوفي شرائطها ومعالمها. . وأن تأخذ فترة الحضانة الكافية لنضوجها، وأفاد الرجل من تجارب من سبقوه، ومن تاريخ القادة والمفكرين والزعماء. . الذين حملوا لواء دعوة الإسلام، ولم يقنع بأن يكون مثلهم. . ولكنه ذهب إلى آخر الشوط، فأراد أن يستمد من عمر وخالد وأبي بكر. فأخذ من أبي بكر السماحة ومن عمر التقشف. . ومن خالد عبقرية التنظيم.

وربط خصومه بينه وبين الأحداث العالمية، فأتهم في حادث اليمن، ونسب إليه شيء من جهاد إندونيسيا. وكان له أثره في حوادث فلسطين.

وكان له موقف إزاء معاهدة صدقي بيفن، وموقف عندما اتجهت مصر إلى مجلس الأمن. .

كان حسن البنا لا ينام إلا بضع ساعات. . ثم ينفق وقته كله ساعة ساعة، ولحظة لحظة. . في العمل المتصل، وكان عقله مثلا رائعا للإعداد والابتكار والإنشاء. . الذي لا يقف ولا ينقطع، فهو إذا أصبح الصباح يكون قد أعد قائمة بالأفراد الذين يهمه الاتصال بهم. . ويحظر إلى مكاتب العمل قبل الموظفين. . ويظل يتنقل بين المركز والجريدة. . والشباب والمنزل، وفي كل مرحلة يؤدي عملا والتليفون يلاحقه. . وفي خلال ذلك يتحدث مع الناس، ويستمع إليهم، ويخطب، ويقرأ الصحف، وتعرض عليه عشرات الأوراق التي تتطلب رأيه، والخطابات التي ترد من أنصاره العديدين، في مختلف أنحاء العالم، وهي غالبا ما تكون مشفوعة بشيكات أو حوالات مالية. .

. . لقد رأيته وهو يقرأ خطابا من شاب من أتباعه، قد أرفق به نصف راتبه الشهري. . . وفجأة، تساقطت دموعه على الخطاب فبللته. . ورأيته وهو يودع بعض أنصاره المسافرين إلى خارج مصر، وهو يرسل نظراته الحادة في وجوههم المشرقة المحتفرة. .

وكان هذا العمل المجهد يزيده قوة. .، وكان لقاء أتباعه الذين يردون من مختلف أنحاء

ص: 9

القطر يملأ نفسه بالرضا، ويزيد عزيمته مضاء. . كان كل منهم، يحمل له أنباء جديدة، سارة، عن اتساع نطاق الدعوة وانضواء الشباب. .

وكان يوم الثلاثاء. . يوما مشهوداً يتجمع فيه بضع مئات من أنحاء القاهرة، ليستمعوا إلى هذا الرجل الذي يصعد المنصة في جلبابه الأبيض وعباءته البيضاء وعمامته الجميلة فيجيل النظر في الحاضرين لحظة. . بينما تنطلق الحناجر بالهتاف. .

. . ولا تدهشك خطابته بقدر ما يدهشك إجابته على القصاصات. . كان بعض هذه يتصل بشخصيته وحياته وأسرته.

وقد سئل مرة بعد أن ترك عمله في الحكومة ورفض مرتب الجريدة الضخم الذي كان يبلغ مائة جنيه: مم يأكل. . فقال في بساطة: كان محمد يأكل من مال خديجة وأنا آكل من مال (أخ) خديجة، يقصد صهره. .

وكان أعجب ما في الرجل صبره على الرحلات في الصعيد. . هذه الرحلات التي لا تبدأ إلا في فصل الصيف حيث تكون بلاد الوجه القبلي في حالة غليان. . وفي أحشائها يتنقل الرجل بالقطار والسيارة والدابة وفي القوارب وعلى الأقدام.

وهناك تراه، غاية في القوة واعتدال المزاج. . لا الشمس اللافحة، ولا متاعب الرحلة. . تؤثر فيه ولا هو يضيق بها. . تراه منطلقا كالسهم، منصوب القامة، يتحدث إلى من حوله، ويستمع، ويفصل في الأمور.

وقد أمدته هذه الرحلات، في خمسة عشر عاما، زار خلالها أكثر من ألفي قرية وزار كل قرية بضعة مرات، بفيض غزير من العلم والفهم للتاريخ القريب والبعيد، وللأسر والعائلات والبيوتات وأحداثها وأمجادها وما ارتفع منها وما انخفض. . . وألوانها السياسية وأثرها في قراها وبلادها ورضى الناس عنها أو بغضهم لها. . وما بين البلاد أفراداً وأحزابا وهيئات وطوائف من خلافات أو حزازات. . .

كان يزور أحيانا بلداً من البلاد بلغت فيها الخصومة بين عائلتين مبلغها، وكل عائلة تود أن تستأثر به لتنتصر على الأخرى، فيقصد إلى المسجد مباشرة، أو يغير طريق سفره فلا يستقبله أحد إلا بعد أن يكون قد قصد إلى دار عامل فقير في البلدة.

. . . وكنت إذا قلت له فلان. . الحسيني مثلا أو الحديدي أو الحمصاني قال لك. . إن هذا

ص: 10

الاسم تحمله خمس أسر أو أربعة. . إحداهما في القاهرة والثانية في دمنهور والثالثة في الزقازيق. . والرابعة في. . . فأيها تقصد؟

وكانت هذه الزيارات المتوالية طوال هذه السنوات المتتالية، قد كونت له رأيا في الناس. . فقل أن تكون قرية في مصر لا يعرف الرجل شبابها وأعيانها ووزرائها ورجال الأحزاب والدين والمتصوفة فيها. . ولا يكون قد تحدث إليهم واستمع منهم. . وعرف آمالهم ورغباتهم، ومن هذه الأحاديث الواسعة المستفيضة كان الرجل يستكنه (الضمير) الشعبي المصري على صورة قل أن أتيحت لزعيم أو داعية من قبل، فإذا أضفت إلى هذا قراءاته الواسعة واطلاعه الضخم، والتهامه لكل ما كتب في العربية عن الشرق والغرب، ونظريات العلماء والفلاسفة، عجبت لهذه القوة الكبرى التي فقدها الشرق. . يوم غيب الثرى هذا الرجل. ولدهشت كيف يمكن أن يمكن أن يملأ هذا الفراغ أو يسد هذا النقص، وفي خلال هذه الزيارات. . كنت ترى الرجل بسيطا غاية البساطة، ينام في الأكواخ أحياناً، ويجلس على (المصاطب) ويأكل ما يقدم له. . لا يحرص إلا على شيء واحد، هو ألا يفهم الناس عنه أنه شيخ طريقة. . أو من الطامعين في المنفعة العاجلة. ولقد حدثني أنه كان يدخل بلدا من البلاد أحيانا لا يعرف فيه أحداً فيقصد إلى المسجد، فيصلي مع الناس، ثم يتحدث بعد الصلاة عن الإسلام. . وأحيانا ينصرف الناس عنه فينام على حصير المسجد وقد وضع حقيبته تحت رأسه. . والتف بعباءته.

ولا شك أن هذا الجهد الضخم، قد أتاح له أن يلتقي بعشرات الآلاف من الناس. . خصوما وأنصاراً، شيوخاً وشبانا، مثقفين وعوام. . وأنه قد استمع إليهم وقال لهم. . وأفاد منهم خبرة ضخمة واسعة، أضافها إلى علمه وثقافته.

وإنني على ثقة من أن حسن البنا رجل لا ضريب له في هذا العصر، وأنه قد مر في تاريخ مصر، مرور الطيف العابر. . الذي لا يتكرر. . ولقد طالما كان يردد كلمته المشهورة (الناس كإبل مائلة لا تجد فيها الراحة. .)

للبحث صلة

أنور الجندي

ص: 11

‌الشرق الثائر

للأستاذ أبي الحسن علي الحسني الندوي

إن ما يرجع إليه الفضل في أهم الأحداث التي غيرت مجرى الأمور وفكت السلاسل وحطمت الأغلال وردت الأمر إلى نصابه والحق إلى أصحابه (غضبة) غضبها حق مهضوم، أو شعب مظلوم، أو حر يستعبد، أو دين يضطهد، أو كرامة تتهدد، أو كريم يتحدى.

إن الغضب - مهما قال فيه علماء الأخلاق وكيفما حلله المؤلفون في علم النفس - من علامات الحياة وسمات الرجولة، إذا حرمه فرد كان بالجماد أشبه منه بإنسان حي. وإذا تجردت منه أمة كانت قطيعاً من غنم أو لحماً على وضم، لا تستحق الحياة فضلا عن الاستقلال، ولا تستحق الاحترام فضلا عن الإكبار والإجلال.

إن الغضب هو حمة الفرد والجماعة التي يحميان بها نفسهما ويصونان بها حياتهما، وإن الله لم يحرم مخلوقا من سياج يحوطه ومن حامية تذب عنه، ولما منح الورد طبيعة الحرير، رزق الأشواك التي حوله طبيعة الحديد. . ولا بقاء لحرير إذا لم يكن دونه شديد أو حوله حديد.

إن الغضب قوة كامنة في النفس قد لا يعلمها صاحبها، فإذا أثيرت هذه القوة وانطلقت أتت بالمعجزات، وأظهرت الآيات البينات، وقربت البعيد، وأذابت الحديد، وأحالت اليأس رجاءً والممتنع ممكناً، وطوت المسافات البعيدة في لمح البصر أو أقرب.

إن للغضب في تاريخ الإنسان العام وفي تاريخ الإسلام أياماً مشهورة، وفضائل مأثورة؛ ومواقف مشكورة، وإن أروع هذه الأيام وأفخرها يوم غضبت الأمة وثارت الجماعة، وما أمثلة هذه الغضبات في تاريخ هذه الأمة بنادرة.

إن أشد ما نكب به هذا الشرق الإسلامي وإن أكبر ما جنى عليه في العهد الأخير أنه فقد طبيعة الغضب والتزم الحلم والأناة والرحمة والعفو والتنزل عن الحق في كل وقت ومع كل أحد، مع أنه لا حلم مع الضعف ولا رحمة مع العجز ولا عفو مع الإرهاق ولا تنزل مع القهر، إنما هي كلها أخلاق اضطرارية لا قيمة لها ولا فضل، وليس مصدرها إلا برودة الدم وموت الرجولة وانحطاط الإنسانية. . وقديماً وصف الشاعر العربي قبيلة أسرفت في

ص: 13

السماحة والعفو

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة

ومن إساءة أهل السوء إحساناً

كأن ربك لم يخلق لخشيته

سواهمو من جميع الناس إنسانا

لقد هجم الغرب على الشرق بدون داع ولا مبرر، لا دين ينشره، ولا رسالة يبلغها ولا فضيلة يحميها ولا عقيدة يدعو إليها. إنما هو الجشع الأرضي والشره الاقتصادي والاستغلال التجاري والاحتلال السياسي وبالإجمال طبيعة قابيل القديمة، هجم عليها بدافع الطمع والحرص فغزا عقوله ونفوسه وأسواقه وبيوته واتخذه ناقة ركوباً حلوباً يحلب ضرعها ويجز صوفها ويقتر عليها في مائها وعلفها، ويقسو عليها في استخدامها، واستأثر بموارد هذا الشرق، وخيراته وأصبح في بلاده الغنية التي تدر لبناً وعسلا كالأسفنج يمص الماء هنا ويصبه هناك، استأثر بمعادنه ومناجمه وبالذهب الأصفر والأسود، وأملى على شعوبه معاهدات وإيجارات جار فيها وغش وطفف الكيل وأخسر الميزان. . وضحك عليه كما يضحك على الأطفال وأقام عليه الحجر والوصاية كما تقام على السفهاء.

هجم عليه الغرب فاتخذه سوقاً مفتوحة لبضائعه وزبوناً دائماً لسلعه وعمالا مخلصين لمصانعه ووقوداً حاضراً لحروبه يسخر لأغراضه كيف شاء، ويسوقه إلى ميدان الحرب متى شاء ويجعله وقاية وجنة دون رجاله وبلاده ، ويعيش في بلاده بفضل هذه الخيرات والأيدي العاملة والجيوش الحامية عيش الأحرار والملوك، ويدل بمستعمراته وأسواقه وعبيده في الشرق على جيرانه ومنافسيه في الغرب.

وكان أكبر مجرم تولى كبر هذا الاستعمار الغاشم، وتفرد بالقسط الأكبر في هدر الحريات والكرامات واستعباد الشعوب والأمم ونشر القلق والاضطراب في العالم، وكان أكبر عامل من عوامل الفساد الخلقي والأثرة الاجتماعية واختلال النظم الاقتصادية وأكبر معاداة للإسلام وكيدا لأهله هي بريطانيا (العظمى) التي سبقت جاراتها وشقيقاتها إلى غزو الشرق واحتلال أقطاره واستعباد شعوبه.

وكانت أكثر هذه الأقطار الشرقية التي احتلتها بريطانيا إسلامية بالطبع، فكانت الهند التي لا تزال بلدا إسلاميا تحكمها - ولو بضعف كبير - أسرة مغولية، وكانت مصر التي تحكمها الأسرة العلوية وسواحل الجزيرة العربية الخاضعة للإمبراطورية العثمانية، هي

ص: 14

التي تكون الإمبراطورية البريطانية الجديدة، إذن فكانت بريطانيا هي المعتدية الغاصبة الظالمة. وكان الشرق الإسلامي هو المعتدى عليه.

ثم كانت بريطانيا هي التي ولدت المشاكل للشعوب الإسلامية وخلقت لها أزمات طريفة، فهي صاحبة الوحي وصاحبة الفكرة في دولة إسرائيل الجاثمة على صدر العالم العربي. وهي التي أبرزتها من العدم إلى الوجود، ومن التمنيات إلى عالم الواقع، وهي المسئولة عن جلاء العرب وضياع فلسطين العربية وشقاء أهلها والخطر الذي يهدد الحكومات العربية كلها.

ثم فاقت بريطانيا الحكومات المستعمرة كلها في النفاق والتزوير وأخلاق الثعالب والمكر والدهاء ونكران الجميل ونسيان الوعود، ونقض العهود، قد أثبت تاريخها أنه لا أيمان لها. . وأنها لا ترقب من مؤمن إلا ولا ذمة.

إن في تاريخ بريطانيا السياسي صفحات سوداء، لعلها لا توجد في تاريخ دولة مستعمرة أخرى، مع أن الاستعمار كله صحيفة سوداء. . فإذا اقتصرنا على تاريخ الاستعمار البريطاني في الهند وجدنا فظائع لا تزال وصمة عار في وجه الحكم الإنجليزي. ففي 13 من إبريل عام 1919م انعقدت - أيام حركة الاستقلال الوطنية في الهند - حفلة شعبية عظيمة في (جليان والاباغ) في مدينة أمرتسر حضرها عشرون ألفا من الجماهير، وكانت الحديقة التي احتفل الناس فيها محاطة بالأسوار من جوانبها الأربعة، وليس لها إلا منفذ واحد تخرج منه عربة واحدة، وحضر الجزار الإنجليزي المعروف بالجنرال (دائر) ومعه مائة وخمسون (150) جنديا، فأمر المحتفلين بالانفضاض وبعد دقيقتين - كما جاء في تقريره - أمر بإطلاق النار على هذا الجمع الحاشد الوديع، وأطلقت عليه ألف وستمائة طلقة (1600) مات منها - كما جاء في التقرير الرسمي - أربعمائة رجل مع أنه غير معقول ومخالف للبداهة أن يموت أربعمائة فقط بطلقات نارية يبلغ عددها إلى ألف وستمائة طلقة في مكان ضيق محصور على هذا الجمع الحاشد. أما عدد الجرحى فيتراوح كما قالت المصادر الرسمية بين ألف وألفين، وبات القتلى والجرحى طول الليل من غير ماء ولا إسعاف طبي.

وفي سنة 1943م كانت مجاعة بنغال الكبرى التي خلقتها الحكومة الإنجليزية في الهند

ص: 15

وفرضتها على أهل بنغال فرضاً لمصالحها الاستعمارية والسياسية كما تحقق علمياً وتاريخياً، ويقدر أن الذين هلكوا فيها يبلغ عددهم إلى خمسة ملايين.

وفي سنة 1947م وقعت الاضطرابات الطائفية الهائلة التي هيأتها ومهدت لها الحكومة الإنجليزية وتغافل عنها وارتضاها ممثلها الرسمي اللورد (مونت بيتن) المجرم حاكم الهند العام حينئذ، وكان أكثر من نصف مليون نسمة فريسة هذه المجزرة الإنسانية.

إن طبيعة الأشياء وغريزة الإنسان وشريعة العدل كل ذلك كان يحكم بل يفرض أن يغضب الشرق - وبالأخص الشرق الإسلامي - ويثور وينتهز كل فرصة للانتقام من بريطانيا وتصفية الحساب معها.

ظل الشرق الإسلامي خاضعاً - ولا أقول راضياً - لهذه الأوضاع التي تثير غضب الحليم لا يحرك ساكنا ولا يبدي سخطا بل يتحيز بين حين وآخر إلى المعسكر المجرم الذي يسميه الحلفاء كذباً ومينا بالمعسكر الديمقراطي ويحارب بجانبه ويستميت في سبيل شرفه وكرامته ويصدقه في عهوده ويحترم معاهداته، فاسترسلت بريطانيا - وأخواتها على أثرها - في سياستها الجائرة وأمعنت في غلوائها فأضر ذلك بالسياسة الأوربية كلها لأنها أصبحت كالفيل الهائج، وفقدت السياسة الدولية الاتزان والتفكير، وأغرى سكوت الشرق وهدوءه الزائد واحتماله المسرف المستعمرين بالاستمرار في سياستهم الغاشمة والانتصار للمدرسة السياسية الغربية القديمة التي تفكر التفكير الاستعماري وتحلم بالإمبراطوريات والمستعمرات.

فكان لا بد أن يغضب الشرق غضبة ترد المستعمرين إلى صوابهم ورشدهم وترد إلى السياسة العالمية اتزانها وتعادلها وترد إلى شعوب الشرق شرفها وكرامتها وترد إلى العالم الأمن والسلام.

وما كان يدري أحد أن إيران ستكون السابقة إلى هذه الثورة العادلة والغضبة الموفقة، وستنتصر هذا الانتصار الباهر، وستهاجم الغرب المتغطرس هذه المهاجمة المفاجئة القوية وتصفع بريطانيا الكريمة هذه الصفعة المؤلمة المخجلة التي يحمر لها وجهها وينتكس لها رأسها، إنها لصفعة موجعة حقا، مخجلة حقا، تألم لها كل إنجليزي في كل ناحية من نواحي العالم بل تأثرت بها أرواح وبناة الإمبراطورية البريطانية ومؤسسو مجدها في السابق،

ص: 16

وسيلتصق عارها بكل مولود يولد في بريطانيا إلى عهد بعيد.

لقد سر كل شرقي وكل مسلم بهذه الغضبة الفارسية، وكان يتمنى أن يغضب العالم العربي ويثور ويقوم قيام الثائر الموتور لأنه أحق بالغضب وأولى بالثورة من كل بلد وقطر، لأن بريطانيا (الصديقة للعرب) قد طوقته من كل جانب وتملكت جميع منافذه. . فهذا عدن العربي لا يزال مرفأ بريطانيا وقلعة بريطانيا الحصينة، والعقبة ومعان مما تحرص بريطانيا على الاحتفاظ بهما واحتلالهما، ولا تزال إمارات الخليج العربية خاضعة للنفوذ البريطاني، ولا يزال العراق مرتبطا بالعجلة البريطانية، ولا تزال فلسطين العربية تشكو بثها وحزنها وتئن من جراحاتها وآلامها، ولا تزال دولة إسرائيل برهانا ساطعا على صداقة بريطانيا للعرب ووفائها لهم، ولا تزال مصر محتلة بالجيوش البريطانية ولا يزال السودان المصري يرزح تحت أثقال الحكم البريطاني.

إذن فكانت غضبة العالم العربي - لو غضب - من أعدل ما شهد التاريخ من الغضبات، وكانت ثورته - لو ثار - من أشرف ما دون في الكتب من الثورات.

وكان لا بد من أن يغضب بلد عربي يتزعم العالم العربي ويقوده فكريا وثقافيا وسياسيا ويتمتع بمركز محترم ومكانة مرموقة ونفوذ ملحوظ حتى يسري هذا الغضب في جميع أقطار العالم العربي ويتردد صداه في جميع الشعوب العربية ويكون كما قال جرير الشاعر العربي

إذا غضبت عليك بنو تميم

حسبت الناس كلهم غضابا

هنالك طلعت مصر وغضبت غضبة جاءت على قدر وأرضت جميع المنصفين في العالم، أما العرب فقد أنشدوا بلسان واحد

هذا الذي كانت الأيام تنتظر

فليوف لله أقوام بما نذروا

حياك الله يا مصر العزيزة وبارك جهادك وقوى أبطالك وثبت مجاهديك. إن غضبتك سترضي أجيالك القادمة وتشرفها وستسجل لك فتحا عظيما في الشرق، فانظري في المستقبل وما يخطه لك القلم المؤرخ من سطور الثناء والإجلال، ولا تنظري في العقبات التي تعترضك فإنها زائلة وذائبة، وانظري إلى الثمار التي سيجنيها العالم العربي بالأخص والعالم الإسلامي بالأعم من جهادك فإنه يبث في العالم العربي الروح والحياة - وما أحوجه

ص: 17

اليوم إلى الروح والحياة - ويحرك فيه الحمية والأنفة، ويوقظ فيه الشعور ويوجد فيه الوعي السياسي، وصدقي يا مصر أن العالم العربي قد بلغ من الجمود مبلغا لا تهزه فيه إلا ثورة جبارة مثل ما تقومين به اليوم، فليست ثورتك هي ثورة مصر المحلية إنما هي نفخة صور للعالم العربي وفاتحة عهد جديد إن شاء الله في تاريخ العرب السياسي - احتسبي جهادك يا مصر وقدسيه بنفسك فإنه جهاد يعلي كلمة الله ويشرف الإسلام والمسلمين ويرفع رأسهم عاليا أينما كانوا، وإنه جهاد يغيظ أعداء الإسلام فحيي أبناءك المرابطين وأبطالك المجاهدين (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين)

اعلمي يا مصر العزيزة أن القوة الوحيدة التي يخضع لها العرب هي إرادة الشعب القوية والعزم الصادق الثابت والجبهة الموحدة؛ فاحرصي على قوة إرادتك حكومة وعلى وثبات العزم وتوحيد الصفوف وآمني بأن شعبا قد صدقت عزيمته وقويت إرادته وتوحدت صفوفه لا يمكن أن يجبر على ما لا يرضاه ويفرض عليه ما يأباه، فقوتك في الداخل لا في الخارج. قوتك في أبنائك ونفوسهم وعزمهم؛ فإذا أبوا إلا جلاء الجيوش الإنجليزية من منطقة القنال، ووحدة وادي النيل، فليست في العالم قوة تقف في سبيل هذا العزم، وإذا ألغوا معاهدة سنة 1936م في نفوسهم واستنكفت من استمرارها حتى فضلوا الموت على عودتها فاعلمي يقينا أنها قد ألغيت وليس لأمة في العالم أن تعيدها.

اعلمي يا مصر أن السياسة متقلبة بطبيعتها وأن الدين ثابت بطبيعته، وأن المصلحة متحركة بطبيعتها، فاستندي في جهادك إلى الإيمان والعقيدة أكثر مما تستندين فيه إلى السياسة والمصلحة، وأيقظي الروح الدينية وروح الجهاد في سبيل الله واعطفي عليها وعلى رجالها فإنها أمضى سلاحك وأقوى جنودك.

وأنت أيها العالم العربي فقم بواجبك وانتهز فرصة غضب مصر وثورتها واعلم أنها من الفرس السانحة التي لا تدوم ولا تعود، فاغضب غضبة واحدة وقم قومة رجل واحد، اغضب لنفسك إن لم تغضب لمصر - وهل هي إلا جزء من أحزانك وابن كريم من أبنائك، وانصح لنفسك إن لم تنصح لغيرك، فكرامتك اليوم منوطة بمصر فلا كرامة لك إن

ص: 18

هدرت كرامة مصر. فاحرص على كرامة مصر حرصك على كرامتك وجاهد في سبيلها جهادك في سبيلك. . أستغفر الله بل جهادك في سبيل الله وفي سبيل الدين وفي سبيل الحق والعدل.

إنك مسئول أيها العالم العربي ومعاتب وملوم على كل تقصير في جنب هذا الجهاد المقدس، وإنه محسوب عليك كما هو محسوب على مصر.

إن العدو ماكر داهية وقد جرب منك سقطات وزلات في السابق، وإنه واثق بولائك ووفائك فلا يخدعنك عن نفسك وعقيدتك، ولا يحولن بينك وبين مصر، ولا يشترين دولة من دولك أو شعبا من شعوبك بأرفع ثمن فإنه نار في الآخرة وعار في التاريخ - ولا أنسى أن أخاطبك يا مستر (جون بول) فأنت صاحبنا القديم عرفناك في الهند وعرفتنا، وأعتذر إليك إن كنت آلمتك بذكر الهند التي فقدتها، أريد أن أسألك أيها الشيخ السياسي المحنك عن هذا الدفاع الذي تفرضه على الشرق الأدنى فرضا وترهق به مصر الإرهاق الذي ضاقت به وغضبت عليه، هل يصح أن يسمى دفاعا؟ وأي فرق بينه وبين الاحتلال؟ وهل يجدي هذا الدفاع إذا لم ينشط له هذا الشعب الذي تدعي أنك تدافع عنه ولم يتحمس ولم يعاونك عليه؟ وكيف بك لو احتلت جنود أمريكا الحليفة الصديقة الزميلة بلادك على رغم منك ورغم من المستر تشرشل بحجة الدفاع عنك لأنك ضعيف قد أنهكتك الحرب الماضية هل تقر هذا الاحتلال وتسكت عنه يا مستر جون بول؟

إني لا أجد لك يا (جون بول) ولمصر مثلا إلا مثل زنجي وطفل. . فقد زعموا أن زنجيا كان يحمل طفلا وكان الليل شديد الظلام ولم يكن الزنجي أقل سوادا من الليل وكان الطفل كلما رأى الزنجي ارتعب وفزع، وبكى وكان الزنجي كلما بكى الطفل وخاف ضمه إلى صدره وآنسه وقال له مرة لماذا تبكي يا بني وأنت في حجري وأنا لا أفارقك؟ فقال الطفل أنت أصل بلائي وشقائي ومنك أبكي وأرتعب فيا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين.

وهكذا أنت يا مستر جون بول تريد أن تدافع عن مصر وأنت بغيض ما ثقيل على مصر ولا أحب إليها من مفارقتك، واعلم أخيرا يا مستر جون بول أن عهد الاستعمار قد انتهى من غير رجعة فلا تتعب نفسك في استرداده، وقل للمستر تشرشل كان خيرا لك أن تبقى

ص: 19

بطل الحرب الثانية وقاهر الألمان وأن تحتفظ بسمعتك: وعلى نفسك جنيت إذ رجعت إلى الحكومة. . وأخاف أن يكون مصيرك كمصير الإمبراطور البيزنطي هرقل الذي انتصر على الفرس وسجل لنفسه فتحا رائعا في التاريخ ثم صادم العرب فلم يمت حتى انهزم أمامهم فأحبط ماضيه وأساء إلى نفسه وكان كالساعي إلى حتفه بظلفه.

وكلمة أخيرة إلى الرئيس ترومان، ما هذا التعاون على الإثم والعدوان أيها الرئيس الجليل! وأين الديمقراطية التي تتزعمها وتزعم أنك تدافع عنها وتجاهد في سبيلها فلم نرك إلا مرددا لصدى بريطانيا، كأنك جبل لا تملك إلا الصدى، ولم نرك تقبض مرة على الظالم وتنصر المظلوم وتغضب للحق، ولم نرك انتصرت لشعب مستضعف ومنعت زميلتك بريطانيا من الظلم وحذرتها من عواقبه! بل بالعكس رأيناك تسابق بريطانيا وساويتها في جحد الحق والمكابرة وإرغام الشعوب على ما لا ترضاه ثقة بثروتك الضخمة ومواردك العظيمة. وما ننس فلا ننسى سياستك الغاشمة في قضية فلسطين وممالئتك السافرة لليهود وكيف احتضنت الصهيونية وتبنيت إسرائيل ولا تزال تحدب عليها كالأم الروم، أفليس من السذاجة، أو من الوقاحة - إذا سمحت - طمعك في صداقة العرب بعد ذلك.

ألا فليسمع مستر ترومان وليسمع الذي له أذنان أن سياسة الاستعمار قد فشلت، وأن الشرق قد بدأ يفهم الحقائق، وإن جرب الغرب بمعسكراته وجبهاته فلم ير إلا شرا ومرا وظلما وجورا ودعاوى فارغة وتبجحا وتنطعا وعبثا بالعقول. . وأن في الشرق الإسلامي عقولا لا تخدعها البهرجة والتزويق والوعود الخلابة. . وأن هنالك ضمائر وذمما لا يستطيع الدولار الأمريكي أن يشتريها ويتملكها. . فليرجع الغرب أدراجه وليشتغل بنفسه والدفاع عنه وليترك الشرق الإسلامي يقول كلمته ويدبر شؤونه ويدافع عن نفسه. . ومن المقرر أن الشرق الإسلامي والأقطار الإسلامية بعيدة عن كل هجوم وخطر إذا دفع المعسكر الغربي عنها حضانته وابتعد عنها.

أبو الحسين على الحسني الندوي

ص: 20

‌مصطفى صادق الرافعي

بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة على وفاته

للأستاذ محمود أبو رية

ينقضي بانسلاخ اليوم التاسع من هذا الشهر (مايو) خمسة عشر عاماً على وفاة نابغة الأدب وحجة العرب السيد مصطفى صادق الرافعي، فقد انتقل رحمه الله إلى الرفيق الأعلى في فجر يوم الاثنين الموافق 10مايو سنة 1937، وانقطع من هذا اليوم وحي البيان العربي الذي كان يتنزل على قريحة هذا البليغ الكبير فتخرجه آيات من البيان العربي لا تكاد تتفق إلا للأفذاذ من البلغاء الملهمين.

وإذا كان قد جاء في الأثر أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد للمسلمين دينهم، فإنه سبحانه يبعث بين الحين والحين من يجدد للغة العربية بلاغتها ويحيي في كل عصر معجزتها، ذلك أن حكمة الله لا تذر هذه المعجزة بغير أن يرسل لها من يحامي عنها، ويجدد فيها.

ولا يستريب أحد أن هذا النابغة قد بعثه الله في هذا العصر ليجدد من بلاغة البيان العربي، ويضيف من وحي قريحته إلى الميراث الأدبي.

وقد كان هو على يقين من أنه رسول بياني أرسل لتأييد بلاغة القرآن، ويحيي آدابه وأخلاقه التي هي حصون الإسلام، وأن عليه رسالة ثقيلة لا بد له أن يؤديها على وجهها، مهما ناله من العنت في سبيلها، وقد أجملها رحمه الله في قوله: -

(القبلة التي أتجه إليها في الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا أكتب إلا ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها ويمكن لفضائلها وخصائصها في الحياة، ولذا لا أمس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا، ثم أنه يخيل إلى دائماً: أني رسول لغوي للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه)

وقد عاش ما عاش يجاهد في سبيل هذه الرسالة لا يمل ولا يلين، وناله في هذا الجهاد ما ينال الرسل من جهادهم من أذى، وأصابه ما يصيبهم من إرهاق حتى لقي ربه راضياً مرضيا.

وإذا كنا اليوم لا نستطيع إشباع نهم القول في نواحي هذه الرسالة لأن المقام لا يحتمل ذلك

ص: 21

ولا يتسع له، وهذه الكلمة التي ننشئها لم تكن إلا من قبيل الذكرى في مناسبة عابرة، وكان لا بد لنا أن نعطر كلمتنا بشذا من أريج حياته، فإنا نأتي بذرة ومن جليل أعماله التي كان لها أثر خالد في الأدب العربي.

في أوائل هذا القرن ظهرت في مصر (بدعة لغوية) نادى بها ودعا إليها نفر من كتابنا، وكانت هذه البدعة تدعو إلى (تمصير اللغة العربية) بأن ندخل فيها من الألفاظ السوقية ونمزج تراكيبها بالمصطلحات العامية حتى تخرج لغة الكتابة في أسلوب يجمع كل اللهجات المصرية فيفهمها الناس جميعاً.

وكان يؤيد هذا الرأي الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد باشا بما ينشره في (الجريدة) التي كان يتولى تحريرها.

وما لبثت هذه البدعة أن أنجبت مولوداً سموه (الجديد) ومعناه أن تكون لنا عربية جديدة لا نجري في بيانها على أساليب العرب الفصحاء، وأن لا نتقيد فيما نكتب بأصول البلاغة العربية وجعلوا الميراث الأدبي البليغ (قديماً) يجب أن يذهب بذهاب أهله، ولأن هؤلاء الدعاة لم يجدوا أمامهم من يذود عن هذا الميراث ويدافع عن لغة القرآن أقوى من الرافعي فقد نحلوه زعامة الأدب الذي أصبح في رأيهم (قديماً) ونشبت بينه وبينهم معارك طاحنة كان ينازلهم فيها وحده (تحت راية القرآن) في حين أنهم كانوا جمعاً كبيرا ذا قوة وجاه وسلطان، ولم يزل يكافحهم بشباة قلمه البليغ حتى قضى على تلك البدعة وما نحلت وكتب الله النصر للغة كتابه.

ومن عجيب الأمر أنك ترى اليوم بعض من كانوا يدعون إلى هذه البدع قد أصبحوا من أشد الناس تعصباً لأساليب العربية في بيانها ولغتها.

ومن مآثره التي سجلها له الأدب العربي في صحائف مفاخره أنه لما أنشئت الجامعة المصرية في سنة 1908 لم يكن من مناهجها دراسة آداب اللغة العربية فغضب غضبة مضرية وحمل حملة صادقة على إدارة الجامعة لكي تتدارك تفريطها العظيم في جنب الآداب العربية، وما لبثت هذه الإدارة أن عادت إلى الصواب وقررت تدريس آداب اللغة العربية، ولا تزال هذه الدراسة تنمى وتزدهر.

ولم يقف جهاده وفضله في هذا السبيل عند ذلك النصر؛ بل دفعه اعتزازه بلغته وتمكنه من

ص: 22

آدابها إلى أن يخرج في هذه الآداب وتاريخها كتاباً بعد أن لم يكن لها كتاب شامل، فأظهر في سنة 1912 كتابه الخالد (تاريخ آداب العرب) ذلك الكتاب الذي لم يؤلف في موضوعه مثله؛ وبحسبك أن ترى شيح المجلات العربية (المقتطف) التي كانت تزن المؤلفات العربية بميزان دقيق قد عقدت له يوم صدوره فصلا ممتعا من إنشاء محررها العالم الجليل الدكتور يعقوب صروف تحدث فيه عن مزايا هذا الكتاب وفضائله ختمه بهذه العبارات الدقيقة:

(والكتاب حافل بالفوائد اللغوية والأدبية والنتائج الفلسفية، ولغته في المقام الأول من الفصاحة، وهو حقيق بأن يدعى كتاب الشهر الأول بل كتاب السنة، لأننا لا نتذكر أننا رأينا منذ سنة إلى الآن كتابا عربيا اقتضى جمعه وتبويبه واستنباط أدلته ما اقتضاه هذا الكتاب، وعسى أن يجد من إقبال القراء عليه ما هو أهل له)

ولم يكد الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد باشا يطالع هذا الكتاب حتى أنشأ من أجله مقالا ضافيا ملأ به صدر (الجريدة) نجتزئ منه بما يلي

قرأنا هذا الجزء فأما نحوه فعليه طابع الباكورة في بابه يدل على أن المؤلف قد ملك موضوعه ملكا تاما وأخذ بعد ذلك يتصرف فيه تصرفا حسناً. وليس من السهل أن تجتمع له الأغراض التي بسطها في هذا الجزء الأول إلا بعد درس طويل وتعب ممل.

وأما أسلوب الرافعي في كتابته فإنه سليم من الشوائب الأعجمية التي تقع لنا في كتاباتنا نحن العرب المتأخرين، فكأني وأنا أقرئه أقرأ من قلم المبرد في استعماله المساواة وإلباس المعاني ألفاظاً سابقة مفصلة عليها لا طويلة تتعثر فيها ولا قصيرة تؤدي بعض أجزائها، وإنا نكبر غرض الرافعي ونشكره على ما حققه)

أما أمير البيان شكيب أرسلان رحمه الله فقد جرد له مقالا بليغاً حلى به صدر جريدة (المؤيد)، مهد فيه بفذلكة نفيسة في دراسة الأدب العربي ثم استطرد إلى الإشارة بفضل هذا الكتاب وكان مما قاله:

(. . . كتب تاريخ الآداب العربية، ولم تكن الآداب وقائع تؤرخ ولا أدوارها عند العرب مما يسهل تتبعه وتبصر أعلامه على نصب من تآليف سابقة، بل هي أعلام طامسة ودروس دارسة، فرع لها ذلك الكاتب الضليع طنوب التحقيق حتى جمع من عظامها المبثوثة ورمامها المبعثرة هيكلا صحيحاً. وزاد بهجته ووفر شطر حسنه ما أوتيه من ملكة

ص: 23

العربية الفصحى والتمكن من ناصية التعبير عن كل ما أراد، فلو كان هذا الكتاب خطا محجوبا في بيت حرام إخراجه منه لاستحق أن يحج إليه، ولو عكف على غير كتاب الله في نواشئ الأسحار لكان جديرا بأن يعكف عليه).

وقد صدر من هذا الكتاب جزء ثان في (إعجاز القرآن) نجتزي

في بيان قدره، بما وصفه سعد زغلول به، وهو شيخ زعماء

مصر، وأبلغ سياسي في هذا العصر، وهاك جملا من خطاب

طويل أرسله إلى الرافعي من مسجد وصيف مؤرخ

1111926

(. . . ولكن قوما ما أنكروا هذه البداهة (أي عجز أهل البيان عن الإتيان بمثل القرآن) وحاولوا سترها فجاء كتابكم (إعجاز القرآن) مصدقاً لآياتها، مكذبا لأفكارهم، وأيد بلاغة القرآن وإعجازها بأدلة مشتقة من أسرارها في بيان مستمد من روحها، كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم.

فلكم على الاجتهاد في وضعه والعناية بطبعه شكر المؤمنين وأجر العاملين والاحترام الفائق)

وهذا الخطاب لم يكتب مثله هذا الزعيم الكبير لأحد غير الرافعي، ولا جاء في التاريخ كله كلمة في وصف كتاب مثل هذه الكلمة البليغة.

ومما يملأ القلب حسرة والنفس أسى أن قضى الرافعي رحمه الله قبل أن يتم هذا الكتاب، ومما يزيد في الأسى ويضاعف في الحسرة أنا لم نجد من أدبائنا الكبار من يتقدم ليحمل هذا العبء ويقوم بأداء هذا الواجب الذي هو في الحقيقة دين في أعناقهم جمعياً لا تبرأ ذمتهم منه حتى يؤدوه كاملا، وهم غير معذورين، وبخاصة فإن الأمور الآن ممهدة والطرق معبدة، وللأدب العربي عديد من الكليات بالأزهر والجامعات.

والحسرة في مثل هذا الأمر لا يضارعها إلا حسرة أخرى على تفسير القرآن الحكيم الذي أخرجته قريحتا الإمامين الجليلين محمد عبده والسيد رشيد رضا رحمهما الله فإنما - وا

ص: 24

أسفا - لم نجد (عالماً) من علمائنا (وهم ألوف) قد نهض لإتمام هذا التفسير، وكأن الأزهر (المعمور) قد عقمت أمه فلم تلد بعد الأستاذ الإمام محمد عبده أحداً. رحمه الله ورحم تلميذه النجيب السيد رشيد رضا.

ولقد كنا قرأنا منذ أكثر من ربع قرن في المقدمة التي أنشأها الدكتور طه حسين باشا لكتاب فجر الإسلام، أنه فرغ من وضع الجزء الأول من تاريخ الأدب العربي ففرحنا وانتظرنا أن تشرف علينا غرة هذا الجزء وما يليه، ولكن انتظارنا ذهب عبثاً.

ولقد كان للرافعي أسلوب في البلاغة خاص به بائن بنفسه لا يشاركه فيه أحد من الكتاب، يعرفه كل من وقف على أساليب الكتابة العربية حتى لو أخفاه عن الناس.

كنت مرة مع الأديب الكبير عبد الرحمن البرقوقي نجلس على أحد الأندية بالقاهرة في سنة 1921 ومر بنا بائع الصحف فتناول منه رحمه الله (جريدة الأخبار) وأخذ يقرؤها وإذا به يجد في صدرها كلمة أخذت نصف عمود عنوانها: (عجيبة لغوية - جنود سعد) ما كاد يقرؤها حتى دفع لي الصحيفة وقال: ترى لمن هذه الكلمة. ودفع لي الجريدة فقرأتها وقلت له: إن الظن الغالب أنها للرافعي ولم يكن قد وضع اسمه عليها. فقال هي له من غير شك ولا يستطيع غيره أن ينشئها.

وكان رحمه الله يعنى بتجويد عباراته ويبالغ في صقلها حتى تخرج في أروع صورة من البيان العربي، وكان لا يترخص في ذلك ولا يتسهل.

قلت له مرة بعد أن ظهر كتاب (حديث القمر) إن طائفة كبيرة من القراء لا تبلغ إفهامهم بعض عبارات هذا الكتاب، والرأي أن تنشئ كلاما لا يعلو على إفهام القراء! فغضب وقال: أتريدني على أن أنزل بأسلوبي إلى إفهام عامة القراء؟ إني أريد أن يرتفعوا هم إلى لا أن أهبط أنا إليهم، ولأن يكون لي ألفان من القراء الذين يفهمون أساليب العربية العالية خيرا لي من أن يكون لي عشرات الألوف من عوام القراء.

وجرى بيني وبينه مرة حديث عن أسلوب المغفور له الدكتور زكي مبارك فكان من قوله: إنك مهما قرأت له فإنك لا تكاد تجد من إنشائه عبارة بليغة يشرق منها نور البيان، وهو لا يعتبر شاعرا ولا ناثرا! فقلت له: وماذا يكون إذن بين كتاب البيان فقال (سمه نثرورا!) وهذه اللفظة التي استمرئها قد قاسها على لفظة شعرور. وقد كان مجتهدا في اللغة وله رأي

ص: 25

في القياس اللغوي مبثوث في كتبه، وقد نشرناه في الرسالة على ما نذكر.

وإذا كان الدكتور زكي مبارك رحمه الله في رأي سيد البلغاء (نثرورا! فسترى ماذا تكون درجات أولئكم الذين يظنون أنفسهم أنهم من كبار الكتاب ويسودون الصحف كل يوم بما يكتبون؟؟

ومن عجيب أمر هذا الرجل أنه كان من عزة النفس وكبريائها بحيث لا يخض لإنسان ولا ينافق لمخلوق ولا يستعين بكبير ولا يستنصر بوزير كأنه الجبل الأشم الذي لا يستند إلى شيء، وأن مرد ذلك إلى قوة إيمانه وكما يقينه، ومن كان مثله في قوة الإيمان وخالص التوحيد فإنه لا يستعين إلا بالله ولا يخشى إلا الله ولا يتوكل إلا على الله الذي إليه يرجع الأمر كله.

هذا ما تيسر لنا اليوم من القول في هذا العظيم الذي خلا مكانه، لا ريب كما يقول العرب، وهذه الكلمة التي نرسلها اليوم في ذكرى وفاته إنما هي سطر نضعه على هامش تاريخه الحافل بالمآثر والمفاخر إلى أن يأذن الله بتدوين هذا التاريخ الذي لا نظن أن أحدا يستطيع أداءه إلا إذا كان في مثل بلاغته حتى يأتي به كاملا على حقيقته.

ولعلنا بهذه الكلمة الصغيرة نكون قد أدينا بعض ما يجب علينا في هذه المناسبة، وأن تكون آية وفاء لشيخنا الرافعي رحمه الله، وتحية طيبة تصعد إلى روحه الطاهرة في الملأ الأعلى يرضى هو بها ويرضى الله عنها.

محمود أبو رية

ص: 26

‌6 - الباكستان

الحياة الاقتصادية

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

التعدين:

باكستان غنية بثروتها المعدنية وإن كانت هذه الثروة لم تستغل الاستغلال الكافي حتى الآن.

فالبترول يوجد في باكستان الشرقية والغربية بكميات وافرة ويبلغ ما تنتجه حقول البترول في البنجاب وحدها 15مليون جالون في العام، ومن المنتظر أن يزيد الإنتاج كثيرا. ومما يدل على وفرة البترول في باكستان أنه عثر على بئر في غرب البنجاب 1948 بلغ إنتاجها في اليوم 10000 جالون.

وباكستان ثاني دول العالم غنى بالكروم ويوجد في بلوخستان وإقليم الحدود الشمالية الغربية وتقدر قيمة ما يستخرج منه سنويا بنحو 12000 طن.

ويوجد الفحم في إقليم غرب البنجاب وفي بلوخستان وفي إقليم الحدود الشمالية الغربية وفي باكستان الشرقية.

أما الحديد فيوجد في إقليم الحدود الشمالية الغربية وفي إقليم السند الأدنى.

ويوجد الكبريت والذهب والنحاس والملح وأملاح البوتاس وأملاح الصودا والصوديوم بوفرة في باكستان.

ونظرا لوجود الفحم والبترول والحديد فإنه من المنتظر أن تزدهر الصناعة في باكستان وخاصة بعد توليد الكهرباء من مساقط المياه. وتولي حكومة باكستان اهتماما خاصا بترقية مشاريع توليد القوى الكهربائية، ويدلنا على ذلك أن مؤتمر الصناعات الذي عقد في ديسمبر 1947 قرر إنشاء مشاريع يتسنى معها توليد 500000 كيلوات كما أوصى بإتمام أعمال مشروعين: أحدهما في غرب البنجاب يمكن بواسطته توليد 26000 كيلوات، والآخر في باكستان الشرقية يمكن بواسطته توليد 60000كيلوات، وكل هذه المشاريع تهدف إلى النهوض بالصناعة في باكستان.

الصناعة:

ص: 27

تعتبر صناعة السكر من أهم صناعات الباكستان، وقد أسس منذ سنوات مصنع هائل للسكر يعتبر الأول من نوعه في آسيا كلها؛ إذ يبلغ إنتاجه السنوي نحو 50000 طنا، وتعمل الباكستان على مضاعفة إنتاجها ويساعدها على تحقيق ذلك صلاحية أرضها ومناخها لزراعة أنواع جيدة من قصب السكر.

صناعة الجوت

تنتج باكستان 80 % من الجوت العالمي. وقد كانت كلكتا مركز صناعته الرئيسية، ولكن في مشروع التقسيم أعطيت كلكتا للهندستان، وكان طبيعيا أن تعمل باكستان على إنشاء المصانع اللازمة لصناعة الجوت. وقد أخذت الباكستان فعلا في إنشاء المصانع واستوردت الآلات اللازمة لها.

صناعة الورق

المواد الخام اللازمة لصناعة الورق موفورة في باكستان وخاصة في باكستان الشرقية حيث تنمو الغابات بوفرة. ولهذا قررت حكومة الباكستان إنشاء مصنع لصناعة الورق في باكستان الشرقية.

صناعة المنسوجات

من الطبيعي أن تعني الباكستان بصناعة المنسوجات وخاصة القطنية والصوفية، وذلك بسبب حاجة السكان إليها وبسبب توافر القطن والصوف. ولهذا أنشأت الحكومة مصنعا للصوف ينتج يوميا 14000 رطل ومصانع أخرى لنسج القطن.

صناعة السفن

تقوم هذه الصناعة في الموانئ، وأهم مركز لها في كراتشي فيها عدة مؤسسات صناعية تصنع فيها القوارب والسفن الصغيرة وتصلح فيها السفن الكبيرة.

وفي باكستان الشرقية توجد عدة معامل لبناء القوارب وإصلاح السفن. وتهتم الحكومة المركزية بالنهوض بهذه الصناعة.

وإلى جانب هذه الصناعة تقوم صناعات أخرى هامة أهمها صناعة إنتاج الزيوت

ص: 28

والمصابيح الكهربائية وصناعة الآلات الحديدية والصناعات الكيمياوية وصناعة الأسمنت.

وإن باكستان تحاول جاهدة تدعيم الإنتاج الصناعي بها حتى تستطيع أن تنتج ما تحتاج إليه.

مستقبلها

الباكستان دولة ناشئة، وحاضرها يبشر بخير كثير إن شاء الله، وعناصر قوتها موفورة: فهي دولة واسعة المساحة كثيرة السكان؛ غنية بمواردها الطبيعية.

ولكن أهم من هذا كله أن حياتها تتركز على دعامتين هما أساس قوة كل شعب ومصدر عظمة كل أمة: فالباكستانيون قوم مؤمنون بدينهم، وفي الدين من غير شك قوة تهدي إلى السبيل الأقوم، ومشكاة تنير سبيل الرشاد. ويتجلى هذا واضحا قويا في كلمات أبي الباكستان محمد علي جناح: (ليس الإسلام مجرد مجموعة طقوس وتقاليد وتعاليم روحية، إنما هو دستور حياة كل مسلم. . . دستور ينهج عليه في حياته وتصرفاته في جميع النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهو دستور قائم على أسمى مبادئ العزة والنزاهة والعدالة.

إنما إلهكم إله واحد، وإن صفة الوحدانية من مبادئ الإسلام الأساسية، وليس في الإسلام ثمة فرق بين شخص وآخر، فمن مبادئه الأساسية المساواة والحرية والأخوة.

لا يستطيع شعب من الشعوب أن يتطور ويرتقي ما لم يكن متكافئا متآزرا، إننا كلنا مسلمون وكلنا باكستانيون، وعليكم بصفتكم أبناء الدولة أن تخدموها وتضحوا، بل وتموتوا من أجلها، لكي تجعلوها دولة سائدة).

وفي قول لياقت علي خان:

(. . . والباكستان لم تنشأ إلا لأن مسلمي شبه القارة أرادوا أن يتبعوا في حياتهم الطريق السوي الذي رسمه لهم الإسلام، وأن يتعاملوا حسب تعاليمه وتقاليده السمحاء، وإلا لأنهم أرادوا أن يبينوا للعالم أن الإسلام يستطيع أن يجد الدواء الناجع لتلك الأمراض والعلل التي تتفشى اليوم في كيانه وتسري في بنيانه.

. . . إننا كباكستانيين لا يعيبنا أننا مسلمون، لأننا نعتقد أننا باتباع ديننا القويم وتعاليمه السمحاء نستطيع أن نسهم بقسط كبير في رفاهية هذا العالم.

ص: 29

ونحن - شعب باكستان - نعتقد بإخلاص ويقين كما نؤمن بشجاعة بأن كل قوة وكل سلطان يجب أن يتمشى مع تعاليم الإسلام).

وهكذا نجد في باكستان أمة مؤمنة قوية تعتمد على نصر الله (ولينصرن الله من ينصره).

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تلتمس الباكستان أسباب القوة المادية فتعمل جاهدة على أخذ أحسن ما في الحضارة الغربية من علم وفن. وإذا اجتمع العلم والإيمان فالنصر محقق بإذن الله.

وتحقيقا لهذه الغاية تعنى الباكستان بجيشها عناية كبرى وميزانيته تبلغ حوالي 40 % من ميزانيتها. وتعني أيضاً بنشر الثقافة والتعليم فلديها أربع جامعات، 98 كلية، 1700 مدرسة عليا، 5000 مدرسة ثانوية، 40000 مدرسة ابتدائية، 110 مدرسة فنية صناعية الخ.

وتقوم المرأة في حياة الباكستان بواجبها خير قيام، فهي شقيقة الرجال وأم الأبطال وطبيبة المرضى والجرحى. وقد قام نساء الباكستان بجهد مشكور في حل مشكلة اللاجئين الذين وفدوا إليها من الهندستان عراة معوزين تركوا أموالهم وديارهم وأملاكهم وفروا بدينهم إلى الباكستان. أثارت هذه الويلات نفوس الباكستانيات فقمن بنصيب موفور في التخفيف عن المعوزين ومواساة الجرحى والمنكوبين.

ولم يقف جهد المرأة عند هذا الحد، بل نزلت إلى ميدان الصناعة والتجارة والطب، بل وأكثر من هذا أن المرأة تقدمت فحملت السلاح للذود عن الوطن، ودخلت معترك السياسة دون ضجيج أو جلبة، وهي قبل كل شيء وبعد كل شيء قدوة للمرأة الصالحة.

يقول الدكتور عمر فروخ: لقد دخلت المرأة الباكستانية معترك الحياة: في التمريض والطب والتجارة والصناعة وفي الجيش والأسطول وفي المجالس التأسيسية ودوائر الحكومة. . .

أما المرأة العربية فقد بدأت الاختلاط من الجانب الآخر: بدأت بالسينما وحمامات البحر وبالنزه وحفلات الشاي والكوكتيل. . .

إن الوطن العربي لن يستطيع أن يحفظ أخلاقه ولا أن يهيئ الجو الصالح للمرأة لتستفيد من مواهبها إلا إذا أعد لها برنامجا جديدا للتربية والتعليم!!

وهكذا نجد أن المرأة الباكستانية تقوم بدورها في إعداد أمة صالحة خير قيام، ويا حبذا لو اتخذتها المرأة العربية قدوة لها.

ص: 30

وأحب قبل أن أختم بحثي أن أذكر أن اللغة العربية منتشرة بين الباكستان، وإن كان معظم سكان باكستان الغربية يتكلم باللغة الأردية والبنغالية في باكستان الشرقية. ولكن الاتجاه الآن موجه إلى نشر اللغة العربية لأنها لغة القرآن.

وأخيرا: إن في جميع ما سبق ما يبشر بمستقبل عظيم للباكستان، ويكفي أن تكون أمة مؤمنة بربها قوية برجالها ونسائها، فإن هذا كله كفيل بتحقيق آمالها وآمالنا فيها إن شاء الله.

باكستان زنده باد

أبو الفتوح عطيفة

ص: 31

‌أثر المدرسة المصرية في الثقافة

للأستاذ ثروت أباظة

التثقيف في اللغة التهذيب. . ويقول العرب ثقف القناة أي شذبها. ومن هذا المعنى وجدت كلمة الثقافة. غير أن العقل أخذ مكان القناة وتدرجت الكلمة في هذه المدارج وأخذت سمتها منذ أزمان غاية في البعد. هذا هو التثقيف في معناه اللغوي. . أما من هو مثقف فهذا ما لم يدره أحد حتى الآن، فقد كثرت التعاريف وتعارضت. وأغلب الظن أن كل واضع لتعريف كان ينظر إلى نفسه حين يضع تعريفه فيجعل شخصه هو المثقف ومن دونه ليسوا جديرين بهذا اللقب. ولا شك أن في مثل هذه الأحكام الذاتية الشخصية جنوحا عن الدقة وابتعادا عن الحق.

وإنني لأعجز أن أضع تعريفا للمثقف لأني أخشى أن أزل بي التعبير. . ولكنني أستطيع أن أتصوره شخصا بعيدا عن التفاهة رفيعا عن الصغار احتك بالتجارب وتعلم منها بعد أن استوعب الكتب وفهمها. وأستطيع أن أتصوره شخصا بعيد الأفق متسع التفكير يقبل ذهنه أن يتفهم ما يعرض عليه، لا يرى في جهله بأمر مسبة وهو يقر بالجهل ويسعى إلى العلم. وأستطيع أن أتصور شخصا قد بعد عن فترة الغرور. . ذلك الغرور الذي لا أعني به الثقة بالنفس فإن الفارق بينهما دقيق. والشخص الواثق بشخصيته إذا غلا بعض الشيء في هذا الوثوق أصبح مغرورا. . والمثقف كما أتصوره من استطاع أن يضع الحد الفاصل بين الغرور والثقة، أو هو ذلك المرء الذي دعا له النبي عليه الصلاة والسلام حين قال:(رحم الله امرؤا عرف قدر نفسه فأراح واستراح) فذلك الشخص الذي يستطيع أن يصل إلى هذه المرحمة من الله عارفا قدر نفسه مريحا مستريحا. . الذي الشخص - إذا وجد - مثقف تهذبت نفسه؛ والنفس لا تهذب إلا إذا هذب العقل.

هذا هو الرجل المثقف كما أتصوره في مظهره الخارجي. . أما كيف يثقف المرء؟ ومتى يصل من الثقافة إلى المكان الذي يقال فيه إن الرجل قد تثقف. . أما هذا فما احسبني مستطيع الوصول إليه على وجه القطع، فالثقافات متعددة ومتشعبة، وقد يكون الشخص عالما بمادة ما كالكيمياء مثلا ثم هو لا يفقه شيئا في الأدب، أو قد يكون أديبا كبيرا وهو لا يعرف عن علم الإحصاء شيئا.

ص: 32

فهل يحسب المرء أن يكون عالما في ناحية من نواحي الحياة الثقافية حتى يكو مثقفا، أم لزام عليه أن يكون ملما بكل فن - في هذا اختلفت الآراء. . فإن من الإنجليز من من يعلم كل شيء لا يجيد شيئا. وصاحب هذا الرأي يرى أن يثقف المرء نفسه في الناحية التي تلتقي بميل طبيعي فيه حتى يصل منها إلى المدى البعيد - وإنني - إذا جاز لي أن أبدي رأيي، أرى أن هذا النهج في الثقافة أمكن لمنتهجه وخاصة في هذا العصر الذي أصبح التخصص فيه هو الأساس العلمي.

أرى ذلك في بدء التكوين على الأقل؛ أما إذا كان الرجل قد بلغ في ناحية ما مبلغ الأساتذة الكبار فإنه لا جناح عليه إن ألم بالفنون الأخرى.

على أن منابع الثقافة تكاد تتحد مهما اختلفت الآراء في سنن الثقافة نفسها، فهناك الثقافة المدرسية وتلك سنتركها إلى الكلام عن المدرسة، وهناك الثقافة التجريبية وهي التي تكونها حادثات الزمن ومجرياته، وهناك الثقافة الحرة وهي أغزر الثقافات تدفقا، فما أحسب رجلا تثقف من المدرسة وحدها، ولا من الزمن وحده، بل لا بد له من تلك الثقافة الحرة التي لا تقيده بمنهج معين، بل هي ميل طبيعي في النفس يغذيه صاحبه بما يقع في يده متصلا بهذا الفن بسبب ما ولا ضابط عليه في الاختيار، إنما هو يقرأ الرائع الشامخ، والهزيل الضئيل، فتنموا إمكانيته قوية في الإنتاج بما اكتسبه من العمل الكبير، قوية في النقد بما أخذ على العمل الصغير. وإننا إذا أمررنا بأذهاننا أسماء الأئمة الكبار من كل فن وعلم وجدنا أن الجانب الأكبر من ثقافتهم قد تكون من تلك الثقافة الحرة.

وقد رأى بعض الكتاب الغربيين أن العقلية الثقافية لا تبلغ أوجها إلا بعد مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى. . ونستطيع أن نسميها مرحلة الكسب وهذه المرحلة هي التي تتجمع فيها لدى المرء المعلومات المتناثرة فتتجلى في خلال هذه الفترة الناحية التي تتألق فيها الملكة الكامنة في نفس صاحبها، ويأخذ من نثار هذه المعلومات ناحية معينة يميل إليها ببحثه فتأخذ عقليته المقفلة في التفتح وتندى من بعد جفاف.

أما المرحلة الثانية. . فهي تلك التي ينسق فيها المرء معلوماته ويهذبها، ويقول صاحب هذا الرأي: إن المرء في هذه المرحلة إذا نسق معلوماته تنسيقا صحيحا يكاد يصل إلى الخلق بحيث يدق على الرجل العادي أن يفرق بين منسق وخلق.

ص: 33

أما المرحلة الثالثة. . فهي مرحلة الخلق ومن نتاجها الروائع الخالدات من كل فن وعلم. المفروض أن يكون هذا التقسيم منطقيا على العلوم والفنون، ولكن الواقع من الأمر أنه لا يكاد ينطبق إلا على دقة نادرة.

فإننا إذا ما شبناه أصبح حتما علينا أن نصدق أن كل ملتحق بكلية الحقوق يعرف من القانون ما جعله يميل إلى هذه الناحية، أو أن ملتحقا بكلية الهندسة بحث قبل أن يلتحق بها ودرس علوما عدة حتى اختار الهندسة بالذات. كما يجبرنا أن نفهم أن كل أديب درس قبل دراسته للأدب ضروبا أخرى من الفن كالرسم أو الموسيقى، ثم عزف عن كل هذا ليختار الأدب فنا - يجبرنا هذا التقسيم على هذا الفهم، ولكن الواقع من ناحية أخرى يجبرنا على عدم التصديق ولما كان الواقع دائما هو الغلاب المنتصر فإنه لا يسعنا إلا أن نحني له الهام، فلا نجاري التقسيم في مرحلته الأولى هذه، قائلين له إننا لا نستطيع أن نقرك، فإنه ليس حتما أن يقرأ المرء كل العلوم والفنون حتى يتمكن من اختيار علم أو فن؛ وإنما هي في أغلب الأحايين الصدفة أو البيئة. التقسيم إذن ليس شاملا فيما يختص بالاختيار.

أما فيما يختص بالمرحلة الثانية التي تنص على التنسيق والتقسيم فإنها تقصر هي أيضاً على الأدب مثلا فما رأينا أديبا ينسق معلوماته فيقول إن هذه الأبيات تنفعني في علم البديع، وهاته تفيدني في علم النحو، وهذه الكلمة حسنة أحفظها، وتلك قبيحة أنساها، وهذه بين وبين. إن أديبا ما لو فعل هذا لكان من أعظم جهلاء الأدب. والواقع مرة أخرى أن أحدا لا يفعل هذا، فالتقسيم قاصر، ولا شك أن الفارق بين تنسيق المعلومات وهو ما قصد إليه التقسيم وبين تنسيق العقلية وهو ما لم يقصد إليه التقسيم. . الفارق بين التنسيقين كبير. . فتنسيق المعلومات خطة استنها أحد الفلاسفة الغربيين ليصل بها إلى بعض الحقائق الفلسفية. فليس من الضروري إذن أن تكون هذه الطريقة ناجحة في كل علم، بل إن أغلب الفلاسفة لا يعترف بها في الفلسفة نفسها، أما تنسيق العقلية فهو أمر آخر ليس هنا مجال البحث فيه.

المرحلة الثالثة. . من هذا التقسيم ترتب الخلق على التنسيق أي أن صاحب هذا السؤال يرى أن من نسق معلوماته خلق، ومن لم ينسقها لن يخلق، وهو قول واضح العجب.

ترون أنه من الصعوبة بمكان أن نحدد الثقافة أو نحدد المثقف، وليس عجيبا أن نعجز

ص: 34

نحن، فقد قال ديهاميل:(الثقافة كالإيمان الذي لا يكفي أن نطلبه لنناله فهي نتيجة لمجموعة من الملابسات التي لم يكشف لنا العلم بعد تكوينها الحقيقي، ومع ذلك فنحن نعرف على الأقل بعضا من عناصرها المكنونة)

وهذا القول يريكم كم يصعب الأمر على التعريف، ولكن هذا لن يمنعنا من البحث وراء تلك العناصر القليلة التي تدخل ضمن تكوين الثقافة. واعتقادي أن الاعتراف بالجهل هو أول هذه العناصر، فحين يعلم المرء أنه ما زال يجهل لا بد له أن يسعى ليمنع عن نفسه هذا الجهل، وقد ترجم هذا شعرا أحد شعرائنا المعاصرين إذ قال:

هل رأيت الراكض المجنون يعدو خلف ظله

جاهدا يسبقه الظل ويغريه بنوله

هو منه خطوة لكنها كالكون كله

هكذا الإنسان في الدنيا ضليلا خلف عقله

كلما ازداد علوما زاد إيقانا بجهله

البقية في العدد القادم

ثروت أباظة

ص: 35

‌رسَالة الشِعر

ديوان مجد الإسلام

نظم المرحوم الشاعر أحمد محرم

يقدمه الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم

بريدة بن الحصيب وأصحابه يأتون بعده

وأتى بعده (بريدة) يرجو

أن ينال الغنى، وكان فقيرا

يركب الليل والنهار ويطوي ال

بيد غبراً سهولها والوعورا

في رجال من صحبه زعموا ال

إغراء نصحاً، واستحسنوا التغريرا

آثروا الله والرسول ففازوا

وارتضوها تجارة لن تبورا

أسلموا، وارتأى (بريدة) رأياً

ألمعيا، وكان حرا غيورا

قال: ما ينبغي لمثل رسول الل

هـ أن يألو البلاد ظهورا

كيف تمشي بلا لواء وقد أو

تيت من ربك المقام الأثيرا؟

ليس لي من عمامتي ومن الرم

ح عذيرا إذا التمست عذيرا

أخفقي يا عمامتي واعل يا رمح

ي فقد خفت أن تعود كسيرا

ومشى باللواء بين يديه

يتلقى السنا البهي فخورا

في خيمة أم معبد

ما حديث لأم معبد تستسقيه ظمآ النفوس عذبا نميرا؟

سائل (الشاة) كيف درت وكانت

كزة الضرع لا ترجى الدرورا

بركات (السمح المؤمل) يقري

أمم الأرض زائراً أو مزورا

مظهر الحق للنبوة سبحا

نك ربا فرد الجلال قديرا

في قباء

يا (حياة النفوس) جئت (قباء)

جيئة الروح تبعث المقبورا

أرفع (المسجد المبارك) واصنع

للبرايا صنيعك المشكورا

ص: 36

معقل يعصم النفوس ويأبى

أن يميل الهوى بها أو يجورا

أوصها بالصلاة فهي علاج

أو سياج يذود عنها الشرورا

غرس الله دوحة الدين قدما

وقضاها أرومة وجذورا

لو أردت النضار لم تحمل الأح

جار، توهي القوي، وتحني الظهورا

أرأيت (ابن ياسر) كيف يبني؟

أرأيت المشيع الشميرا؟

أرأيت البناء يستبق القو

م صعوداً، ويزدهيهم سؤورا

أرأيت الفحل الأبي جنيبا

في يد الله، والهزبر الهصورا؟

ينصب النحر للحجارة والط

ين، يغير الحلى، ويغري النحورا

ما بنى مثله على الدهر غر

راح يبني (خورنقا) أو (سديرا)

يجد الحق في البناء حصونا

ويرى الطير في البناء وكورا

حي بني عمرو بن عوف

(بورك الحي حيكم يا بني عم

رو بن عوف، ولا يزل ممطورا)

كنت فيه الضيف الذي يغمز الأن

فس والدور نعمة وحبورا

ما رأت مثلك الديار، ولا حي

الك القوم في الضيوف نظيرا

كرهوا أن تبين عنهم، فقالوا

إملالا أزمعت عنا المسيرا؟

قلت: بل (يثرب) انتويت وما أل

فيت نفسي بغيرها مأمورا

قرية تأكل القرى وتريها

كيف تلقى البلى، وتشكو الدثورا

طربت ناقتي إلى لا بتيها

فدعوا رحلها، وخلوا الجريرا

رحمة الله والسلام عليكم

(آل عوف) كبيركم، والصغيرا

ص: 37

‌الأدب والفنّ في أسبُوع

للأستاذ عباس خضر

جوائز فؤاد الأول الأدبية:

احتفل يوم 28 إبريل الماضي بتوزيع جوائز فؤاد الأول على الفائزين بها في هذا العام، وقد فاز بجائزة الأدب الأستاذان عزيز أباظة وفريد أبو حديد بك، على نحو ما أشرنا إليه في العدد الأسبق من (الرسالة)

وقد أجيز عزيز باشا على مسرحيته الشعرية (العباسة) وهي رواية إنسانية حلل فيها الشاعر موقف العباسة أخت الرشيد في زواجها السري بجعفر بن يحيى البرمكي، كسيدة من البيت المالك خفق قلبها بحب الزوج وحب الولد، وصور الصراع بين هذه العاطفة وبين الاعتبارات الأخرى التي جعلت الرشيد يعقد زواج وزيره بأخته سرا. وفي رأيي أن هذه المسرحية أحسن مسرحيات عزيز باشا كلها، وهي من الأعمال الأدبية الخالدة.

أما الأستاذ أبو حديد بك فقد أجيز على قصته (الوعاء المرمري) ولم يتح لي بعد قراءة هذه القصة، على أنني أعرف الأستاذ كما يعرفه الكثير قصاصا بارعا ظفرت ثروتنا الأدبية منه بطائفة من المؤلفات والقصص القيمة.

وبعد فلي ملاحظتان: إحداهما خاصة بتقسيم جائزة هذا العام، وتتعلق الأخرى بتكوين لجنة الجوائز الأدبية.

أعتقد أن الغرض من هذه الجوائز الملكية الكريمة - وهو تتويج عمل أدبي بارز - لا يتحقق كاملا إلا بمنح الجائزة كاملة لمؤلف واحد، وهي تماثل جائزة (نوبل) والذي نعرفه أن هذه الجائزة لم تمنح مجزأة للغرض السالف، لذلك لم يكن لجائزتنا هذا العام وقعها المأمول، إذ قسمت بين الفائزين الكبيرين.

تلك هي الملاحظة الأولى، أما الثانية فقد أثارها في خاطري أن الأستاذ فريد أبو حديد بك كان عضوا في لجنة الجوائز، فاعتذر عن عدم الاشتراك فيها هذا العام، فكان هذا فرصة طيبة لتقدير إنتاجه. ترى هل ننتظر اعتذارات أعضاء آخرين حتى يمكن تقدير آدابهم!

الرأي عندي أن يعاد تكوين اللجنة بحيث تشمل الأدباء الذين فازوا، حتى الآن، بالجائزة، وهم الدكتور طه حسين باشا والأستاذ عباس محمود العقاد والدكتور أحمد أمين بك

ص: 38

والدكتور محمد حسين هيكل باشا ومحمود تيمور بك وتوفيق الحكيم بك وعزيز أباظة باشا وفريد أبو حديد بك. ويتنحى عن عضوية اللجنة كل من له إنتاج تنطبق عليه الشروط.

احتفال الجامعة الشعبية بالربيع:

أعلنت الجامعة الشعبية أنها ستقيم (مهرجان الأدب والفن في عيد الربيع) ووصلتني دعوتها في يوم لا ربيع فيه. . فقد كان مغبرا حامي الأنفاس كأن هواءه ينبعث من أتون. . فشعرت بشيء من الغيظ لطفته المفارقة بين دعوة الجامعة والحال الواقعة، ثم داخل نفسي شيء من الخبث، إذ رجوت أن يأتي يوم المهرجان من هذه الأيام النكراء التي يتعاقب فيها الحر والبرد فيؤذي تقلبها الجسم ويقذي العين ويزكم الأنف ويسقم النفس، فأشمت بمن سيتغنون بالربيع وبهجته واعتدال جوه. . ولكن خاب رجائي، فقد كان ذلك اليوم الذي ذهبنا فيه إلى نادي الصحفيين لمشاهدة المهرجان، من الأيام النادرة الخاطفة التي يطل فيها الربيع على بلادنا ثم لا يلبث أن يعدو.

فلنغض هنا عن أعاصير الربيع و (خماسينه) ولنستمع إلى خطباء المهرجان وشعرائه، فقد نجد في ربيع الأدب ما يعوضنا عن ربيع الطبيعة.

افتتح الحفل بكلمة للأستاذ الشاعر الكبير عزيز أباظة باشا أثنى فيها على جهود الجامعة الشعبية في خدمة الفن والأدب، ثم قال إن العرب شغفوا بكل ما تزخر به الطبيعة من مباهج وفنون، وكان للربيع في الأدب العربي لمحات وإن كانت باهتة الأضواء إلا أنها تومئ إلى مدى تعلق النفس العربية بالجمال الكوني في شتى ألوانه ومرائيه، ومما يعجبني من وصف العرب للربيع قول ابن الرومي:

حبتك عنا شمال طاف طائفها

بجنة فجرت روحا وريحانا

هبت سحيراً فناجى الغصن صاحبه

سرا بها وتداعى الطير إعلانا

ورق تغنى على خصر مهدلة

تسمو بها وتمس الأرض أحيانا

تخال طائرها نشوان من طرب

والغصن من هزه عطفيه نشوانا

ثم قال الأستاذ عزيز باشا: إن رأيي في الذي كتبه العرب عن الربيع أنه بصفة عامة بعيد عن الروح الشعرية التي نأمل أن نجدها في أدبنا الحديث، فأغلب الذين تحدثوا عن الربيع لم يتجاوزوا حدود الملموسات والمرئيات حتى كأن الحياة، وهي العنصر الجياش في تكوين

ص: 39

الربيع، لا تمت إليه بصلة من الصلات.

وأنا لا أستريح إلى مثل هذه الأحكام المطلقة، فلا شك أن كل أدب يشتمل على الصادق والمزور والرائع والتافه. وأعلم أنه لا جدوى من المناقشة في هذه القضية، فلو استدل أحد الطرفين بأمثلة تتوافر فيها الروح الشعرية الصادقة، الطرف الثاني إنها من القليل، وإن أتى الثاني بما لا يصور الحياة الجياشة. . . فلن يعجز الأول عن أن ينسبه أيضاً إلى القلة. . . ومن لا يقتنع فليحص. . .

وألقى الأستاذ علي عزت الأنصاري كلمة عنوانها (الربيع في الأدب العربي) أشار إلى مثل ما قال به عزيز باشا. وقد أحسن بعرضه طائفة من الشعر العربي الذي قيل في الربيع مع شيء من التحليل لا بأس به.

وكانت كلمة الأستاذ محمد مصطفى حمام ظريفة كدأبه، وكان موضوعها (الربيع في الأدب الشعبي) وقد استرعى التفاتي قوله: أشهر أنواع الأدب الشعبي الزجل والشعر السهل الذي لا يعسر فهمه على العامة. فقد جعل الشعر السهل من الأدب الشعبي، ولست أدري هل فعل ذلك توطئة لقصيدته في الربيع التي أولها:

لي وللناس في الربيع معاني

ولنا في الربيع أحلى الأماني

فربيع الحياة عصر صبانا

وشباب الأرواح والأبدان

وربيع القلوب حب وقربى

وتواصي برحمة وحنان

إلى أن تدفعه روح المرح والدعابة التي جبل عليها فيقول

وربيع الجيوب إحراز مال

وامتلاء بالأصفر الرنان

وربيع الموظفين علاوات

ورزق يأتي بغير أوان

وقد نال الإعجاب واشتد التصفيق له إذ قال:

وربيع المصري يوم خلاص

وجلاء عن مصر والسودان

ولم ألتفت إلى ذلك لأخالفه في اعتبار الشعر السهل من الأدب الشعبي بل لأوافقه. . فالأدب ينسب إلى الشعب لأنه يعبر عنه ولأنه يفهمه، فإن كان جاهلا باللغة العربية لا يفهم ما يصاغ بها، فالأدب الشعبي هو العامي فقط، وإن تقدم في فهمها - كالواقع الآن - فكل ما يستسيغه من الأدب شعبي ولو كان بالفصحى.

ص: 40

ومن طريف الزجل الذي أورده الأستاذ حمام للأستاذ محمود بيرم التونسي - وهو نسيج وحده في هذا الميدان - قوله:

يا ورد أستنظرك

قبل الربيع بربيع=وأوهب لك العمر

وأجعل لأهل الملامة

في هوا شفيع=أوراقك الحمر

أنت اللي خليتني

وحدك عبد لك ومطيع=للبيض والسمر

وأوهب لك العمر

ياللي عمرك أنت قصير=ويقصر الهم

أوراقك الحمر

تشرب دم قلبي عصير=يا أغلى من الدم

للبيض والسمر

تهدي وأنت حر أسير=تنباس وتنضم

عباس خضر

ص: 41

‌الكُتُب

الديمقراطية في الإسلام

تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد

للأستاذ عبد الرازق عبد ربه

ظهرت في السنوات الأخيرة، مؤلفات عديدة في اللغة العربية تبحث في موضوعات إسلامية، ولم تكن تلك المؤلفات بأقلام الغربيين أو المستشرقين كما كان الأمر من قبل، وإنما كانت كلها بأقلام سادة من كبار الكتاب المصريين في هذا العصر الحديث؛ فالأستاذ سيد قطب بحث في العدالة الاجتماعية في الإسلام ثم خص الرأسمالية والإسلام بكتاب، وأستاذنا الدكتور أحمد أمين بك يصدر كتابا عن الإسلام بعنوان (يوم الإسلام) وها هو ذا أستاذنا الكبير العقاد الذي درس بطريقته المبتدعة الرصينة عظماء الإسلام في سلسلة العبقريات يصدر اليوم كتاب (الديمقراطية في الإسلام) بعد أن أصدر منذ خمس سنوات كتابه (الفلسفة القرآنية) ومن أحق من أستاذنا العقاد بالكتابة عن الديمقراطية؟ فهو كاتبها الأول المنافح عنها، الذائد عن حياضها حتى تعرض لما تعرض له من أقوال ذوي النظر القصير، وآراء ذوي العقل الكليل، ورمى بما لا يصح أن يرمى به الأستاذ العقاد.

فإذا كان الأستاذ العقاد يكتب اليوم عن الديمقراطية في الإسلام فقد كتب من قبل عن (الحكم المطلق) منددا به، ولعل حبه للديمقراطية وكراهيته للاستبداد حدا بأستاذنا الكبير أن يكتب عن هتلر في كتابه (هتلر في الميزان) وإن حيك حول هذا الكتاب من أباطيل لا تدل إلا على سخف في التفكير وفساد في الضمير.

وكتاب (الديمقراطية في الإسلام) يقع في ثمان وسبعين ومائة صفحة من القطع المتوسط، قامت بنشره دار المتعارف. والمسحة الغالبة في هذا الكتاب هي تلك المسحة التي يمتاز بها الأستاذ العقاد في كل ما يكتب، وأعني بها الثقة الواعية المتثبتة التي تدعوه أن يقرر ما يقرر في غير ما شك أو تردد. وشيء آخر يجده المتتبع لكتب العقاد أن أسلوبه مهما طال الكتاب أو قصر في مستوى واحد من البيان.

وما أجمل ما دفع الأستاذ الكبير إلى كتابة هذا البحث القيم (فإن الأمم الإسلامية في عصرنا

ص: 42

تنهض وتتقدم، وأنها أحوج ما تكون في هذه المرحلة خاصة إلى الحرية والإيمان متفقين، لأن الحرية بغير إيمان حركة آلية حيوانية أقرب إلى الفوضى والهياج منها إلى الجهد الصالح، والعمل المسدد إلى غايته، ومن الخير أن تذكر الأمم الإسلامية على الدوام أن الحرية عندها إيمان صادق، وليست غاية الأمر فيها أنها مصلحة ونظام مستعار)

ثم ينتقل الأستاذ بالقارئ من فصل إلى فصل تنقل الخبير بالمسالك والدروب دون أن يشعر بيأس أو فتور، ولا يسع القارئ إلا أن يمضي قدما في القراءة حتى يصل إلى الخاتمة.

ولا يسعني في هذا المقال إلا أن أشير على أولئك الذين ينفثون سموم المبادئ الهدامة بين الطبقات الجاهلة، أولئك الببغاوات التي تنطق ولا تعرف ما تقول. . أن يقرءوا ويتدبروا الفصل القيم الخاص بالديمقراطية الاقتصادية؛ ومن الخير أن يقرأ أولئك المتعصبون على الإسلام والمسلمين ذلك الفصل النفيس (مع الأجانب) ليعرفوا مدى تسامح الإسلام والمسلمين مع الأجانب. . ولن يقرأ أولئك المتعصبون ذلك الفصل إلا إذا ترجم الكتاب إلى الأوربية، ولعل الحاذقين لهذه اللغات ينهضون بهذا العمل الجليل، ولن أنسى ذلك الفصل الممتع (أقوال المفكرين الإسلاميين) وفيه عرض واضح على الإمامة والسياسة في الإسلام، إلا أن لي ملاحظة واحدة، وهي أن أستاذنا الكبير أتى بجزء من وصية الإمام علي بن أبي طالب لمالك بن حارث الأشتر النخعي حين ولاه مصر، وهذه الوصية منسوبة إلى الإمام علي فيما نسب إليه. نعم، إن الوصية ليست من كلام الإمام علي، وإنما هي بكلام العباسيين أشبه، لأن الكتابة المطولة لم تكن معروفة في العصر الأول من الإسلام ولم تكن لدى الإمام علي سعة الوقت وهدوء البال ليكتب هذا العهد المسرف في الطول، وما كان أجدر أستاذنا الكبير أن يحقق هذه المسألة وهو على ذلك قدير إن أراد.

على أن مثل هذه المسألة التي تدل على وجهة نظر خاصة بي، لا يمكن أن تقلل من قيمة هذا الكتاب القيم على ما به من أخطاء مطبعية يقع اللوم كله فيها على عاتق دار المعارف التي عودتنا أن نرى مطبوعاتها في حلل قشيبة من الطبع الأنيق الصحيح.

ولن أضع القلم قبل أن أرفع إلى أستاذنا العقاد تحية ملؤها الإكبار والإجلال، داعيا الله أن ينسئ في عمره ليمد المكتبة العربية بنفائس الكتب وفرائد المؤلفات.

عبد الرزاق عبد ربه

ص: 43

خواطر (في فن الأدب)

تأليف الدكتور توفيق الحكيم بك

للأستاذ إسماعيل كوكب

في الأمثلة الجارية: الكتاب يقرأ من عنوانه: يقال هذا في المقابلات وفي المعاملات وفي ظواهر الأشياء. . وعلى ضوئه احتلت الدعابات صدارة الحكم الابتدائي في المرئيات: وسار النظار والمحكمون والنقاد على سنن الدعابات حتى النهاية، فمن وجدها سراباً لعن الدعابات المعترضة وطالب بتغيير المسميات أو تعديلها، ومن وجدها نبعاً لا سراباً استنبط منها زاد المعرفة وأضاف إلى دعابة الأرض دعوة السماء (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).

عندما بدأت في قراءة (كتاب فن الأدب) لاح أمامي عنوانه الدخيل على القدامى وقراء الأدب، وعادت بي الذكريات إلى المساجلات بين نقاد الحكيم وعشاقه، وتذكرت صديقي الذي جن بأسلوبه كما جن (قيس بحب ليلى).

وقد استقبلت هذا الكتاب بتلك الخواطر فما كدت أرى دقة معانية البارزة في ربط ماضي الأدب بحاضره ومستقبله، وقوة تعبيره في مزج غربيه بشرقيه وسلامة خياله في إدماج القصة بالتصوير، وسرعة الخاطر في مسايرة المسرح والإذاعة والسينما، حتى كون إرهاصاً في ربط مستحدثات الأدب بمناهل لغة الضاد بعد أن سبكها بالفارسية ومزجهما بتلبد الأدب في الجاهلية وبعد الفتوح الإسلامية تدرج من أدب القفرة إلى أدب الواحة إلى أدب المدينة، ومن أدب الغابة إلى أدب الحانة، ومن أدب الدف والمزمار إلى أدب النوتة والأوتار، بعد أن سار في أسواق عكاظ ونقل من محاسن باريس وبغداد خلاصة تأملاته بين المدائن والقفار.

بعد هذا كاد أن يدركني جنون صديقي في كتاب الحكيم الجديد وعجبت من التسمية التي لا تقرأ في عنوان الكتاب. . فإن الفن الذي يقصده بموازينه وأصوله التي تفرع منها المسميات الجديدة للسينما وغيرها ليست كافية وليست أصيلة في التسمية بعد أن جعله جامعة عامة لفن الأدب ولغير فنه، ولذلك فإني أخالفه في التسمية كما أخالفه في بعض

ص: 44

الآراء والنظريات، تاركا الحكم فيها للمحكمين من الأدباء، وتقديرها للرأي العام بعد هذا.

أوجه الخلاف: في صفحة 8 تحليل دقيق للابتكار الأدبي استشهد فيه بشكسبير وما نقله عن بوكامنو وغيره من علماء الغرب: ولم أر استشهاداً لعالم شرقي (وما أكثرهم في هذا العصر) فهل عزت المفاضلة أم لم ينقل متقدم من متأخر ما يستحق التسجيل: أم شيء آخر؟ وفي صفحة 14 مزج للبلاغة والنقد لم أقنع بأسبابه، فإذا أجازه كان ما جاء بصفحة 17 لا يصلح دستوراً لنقده الجديد لأنه واحد في جميع العصور. . وفي صفحة 22 مراحل تنقلات الأدب الزمانية والمكانية واستشهادات عربية لم نر للأئمة الشرقيين المعاصرين من استشهادات أو عرض حتى للضروري من مستلزمات هذا التحول. وفي صفحة 24 قال (إن الأدب العربي لم ير في القرآن إلا نموذجاً لغويا ولم نر فيه النموذج الفني) فهل القرآن الذي لم يفرط في الكتاب من شيء قد أغفل هذا المستحدث الجديد. . أم عقلية معاصريه لم ترق في ذلك الحين إلى تذوق معانية ولم يتدارك أحد هذا النقص إلى اليوم: أم هناك تقصير من المعاصرين وهم الذين نزل بلغتهم القرآن اقتضته كراهيتهم لصاحب الرسالة في بدئها فأوجبت هذا الإهمال الجسيم الذي ظل عالقا إلى الآن: أم كما قال المؤلف (إن وحي الأدب العربي لم يرد أن يتحرك لا إلى أعلى ولا إلى أسفل لا نحو القرآن ولا نحو الشعب حتى تدارك الجاحظ هذا النقص فساير الشعب فاستحق اللوم لركاكة الأسلوب وعاميته (كما صور)

ولم يسعف هذا النقص مقامات الحريري وبديع الزمان من حيث اللغة والفن لسجعها وبلاغتها المصطنعة. وفي صفحة 119 مقارنات بين حقوق المرأة الغربية والشرقية وعدم تمتع الغربية بحقوقها السماوية وتمتعها ببعض الحقوق الوضعية التي لا فائدة فيها في غير المنظر، وتمتع الشرقية بواجبات تتمنى الغربية أن تصل إليها، وهاتان مشكلتان تتطلب كل واحدة منهما البحث والإفصاح وفي صفحة 112 عرض لكساد أسواق الشعر والأسباب وقد ذكر العلاج الإنجليزي لهذا التدهور ولم يأت بجديد في الأدب العربي. وفي صفحة 187 إشادة بأثر الشعر الرديء في السينما ولم نر الأراجيز المحلية والأغاني البلدية في غير أسواق بعض العوام، أما القيم المعنوية والفنية فأثرها شائع بين العامة والخاصة.

وبالنظر إلى كل باب من أبواب هذا السفر الجديد ترى فيه مدرسة قائمة في أسلوبها

ص: 45

ومعانيها وتوجيهاتها، فإذا جاز للعربية في تحولها الأدبي والفني وفي مستقبلها أن تضع فوق هامتها كتاباً نسجله للأجيال القادمة في سجلات الخلود، فإن كتاب جامعة الأدب (لا فن الأدب) في نظري هو كتاب الجيل.

إسماعيل كوكب

ص: 46

‌البرَيدُ الأدبيَ

تهاجي والشعراء

قرأت في العدد (981) من الرسالة الغراء مقالة المرحوم صديقنا الدكتور زكي مبارك (البلبل الذبيح) التي كتبها في رثاء زميله الشاعر الخالد المرحوم الأستاذ علي محمود طه، فاستوقفتني العبارات التالية منها:

كان الشاعر علي محمود طه يكره الشاعر محمد الهراوي، وكانت بينهما مهاجاة تذكر بالمهاجاة بين عبد اللطيف النشار وعثمان حلمي وهما شاعرا الإسكندرية.

إن المهاجاة كانت أيضاً تحصل بين المرحومين الرصافي والزهاوي، تحدث في بعض الأحايين حتى تصل إلى الخصومة والقطيعة، ومما حدث بينهما أنه بعد هجرة الرصافي إلى سورية ورجوعه إلى بغداد أقام له المعجبون بشاعريته حفلة تكريمية ألقى فيها قصيدته المشهورة ومطلعها

سر في حياتك سير نابه

ولم الزمان ولا تحابه

ومنها هذه الأبيات الرائعة:

كم مدع وطنية

من لم تكن مرت ببابه

فتراه ينفج لاعباً

فيها وينفخ في جرابه

ليكون مكتسباً بها

مالا تهالك في اكتسابه

فكأنما هو صائد

وكأنما هي من كلابه

أما الزهاوي وكان أحد المشاركين في هذه الحفلة فاستقبل الرصافي بقصيدة ختمها بقوله:

(وهذا أخي (معروف) أشدد به أزري)

فقال الرصافي لم يشأ إلا أن جعل نفسه (موسى) وجعلني (هارون) ثم أخفاها في نفسه، حتى إذا ما قدم بغداد الزهاوي بعد مكوثه في مصر أقيمت له حفلة تكريمية استهلها الرصافي بأبيات في تكريم الزهاوي منها:

أرى بغداد من بعد اغبرار

زهت بقدوم شاعرها الزهاوي

فعندما وصل إلى هذا البيت التفت الزهاوي إلى خاصة الرصافي وقال لهم:

هذا واجب عليه لأنني بحق شاعر بغداد وكأنما أنا أعنيه في قولي:

ص: 47

قد تسقط النخلة العيطاء لي رطبا

فقد رميت على عثكو لها حجرا

وعندما سمع الرصافي ذلك أجاب:

لقد أنصف الزهاوي نفسه، جعل نفسه طفلا وأنا سامق كالنخل (وكل إناء بالذي فيه ينضح)

ومن ذلك اليوم انقطع الزهاوي عن لقاء الرصافي والكلام معه. حتى فارقا الحياة، فبدد الموت ما علق بقلبيهما من أحقاد.

رواية بيت

في العدد 981 روت الأستاذة زينب الحكيم بيت أبي نواس على الوجه التالي عند تأبينها المرحوم الدكتور زكي مبارك

لا أذود الطير عن شجر

ذقت طعم المر من ثمره

والذي أعرفه كما هو في الديوان على الصورة الآتية

لا أذود الطير عن شجر

قد بلوت المر من ثمره

إلى هنا ولعل (بلوت) أقرب لألفاظ التواسي من ذقت الطعم.

عبد القادر رشيد الناصري

إلى الأستاذ العجمي

قرأت بإعجاب - في العدد الأخير من مجلة الرسالة - البحث القيم الذي تؤرخ فيه لشعراء الشباب المعاصرين في مصر، وتزنهم بميزان النقد الفني الأدبي، وتضع فيه لكل مدرسة من مدارس الشعراء منهجا واضحا محددا، وتلك روح طيبة تتسم بالجرأة والصراحة في الحق لا أشك في أنها أساس يقوم عليها النقد الأدبي في كل جيل.

غير أني آخذ على الأستاذ بعد أن وقف موقف الحمد والثناء من دار العلوم لما أنجبت للنهضة الأدبية الشعرية من شعراء يوم أن كانت مدرسة، آخذ عليه أنه ألقى الكلام جزافا حين أنحى باللائمة على دار العلوم وخريجيها بعد أن أصبحت كلية يكفي المتخرج منها أن يصيح أمام مفتش اللغة العربية:(أنا من حملة الليسانس)!

ولا أكتب تعقيبي هذا لأني طالب في دار العلوم فحسب، أدافع عنها؛ ولكن لأن الواقع والحقيقة يقرران عكس ما ذهبتم إليه، إذ ليس السبب في أن دار العلوم خرجت من شعراء

ص: 48

أفذاذ لأنها كانت مدرسة، وتخلفت عن الركب - كما تدعي - لأنها أصبحت كلية جامعية، فدار العلوم كانت وما تزال إلى اليوم تحمل لواء نهضة أدبية مستقلة متميزة في طابعها العام عن سواها.

ولا أحسب الأستاذ - وهو شاعر مجدد - يتناسى أن للشاعر وطنا خاصا يعيش فيه، ومصادر إلهام يستقي منها، بعيدة كل البعد عن المعهد أو المدرسة التي تلقى فيها العلم. ولا أحسبه إلا مؤمنا بأن السبب في شاعرية الشاعر ليس وقفا على أنه من دار العلوم أو من الآداب أو الأزهر، فذلك - على ما أعتقد - ما لا أثر فيه لشعر شاعر، وإلا فما هي الدراسات الأدبية التي تدرس في كلية الهندسة التي ينتسب إليها المرحوم الشاعر علي محمود طه؟ وهل تخرج شوقي أمير شعراء عصره من الأزهر أو دار العلوم أو الآداب؟

ولو أن الصحافة الأدبية أفسحت صدرها لكثير من طلبة دار العلوم وخريجيها في عهدها الحديث، لشهد الأستاذ أن في كلية دار العلوم نهضة أدبية لا تنكر، وشعراء مجددين يسيرون في الموكب جنبا إلى جنب مع طليعة شعراء مصر المعاصرين. هذا ولا يمنعني ذلك من إزجاء الشكر خالصا على بحثكم القيم.

محمود محمد سالم

استدراك

سقطت جملة من المقال المنشور في العدد السابق من الرسالة بعنوان (شخصية) جعلت الجملة مضطربة والمعنى غير واضح. وسأتدارك هذا البتر الذي أظن أنه كان مقصودا في كتابي المعد للطبع.

كذلك وردت كلمة (يضطلع في السطر الأخير من المقال وصحتها (يطلع) فتكون الجملة هكذا (ومن سخرية القدر أن يصبح حصل أفندي نائبا عن الأمة يطلع في أحد المجالس. . .

حبيب الزحلاوي

دعونا من هذه المهزلة

إني أعتبر مجرد الحديث عن المرأة وحقوقها السياسية مهزلة يجب أن يوضع لها حد، كما

ص: 49

أعتبر محاولة شغل الرأي العام بهذه المهزلة جريمة لا تغتفر في حق وطننا المنكوب. . فهل انتهت مصر بعد من تحقيق أعز أمانيها: الجلاء الخالص والوحدة الصادقة، حتى نشغل أنفسنا بحقوق المرأة السياسية، وتفسح صحافتنا السيارة - باستثناء الرسالة المحترمة - صدرها لمبارزة الفريقين المؤيد والمناهض، فتشعل بذلك معركة صاخبة يتلاشى في صخبها أعز الأماني وأطيب الآمال؟

إن المستعمر الغاصب بخير ما دام الرأي العام في مصر مصروفا عما يزلزل أقدامه ويقلق كيانه، ومشغولا بالجدل الممل المتعب في سفساف الأمور، وصغار القضايا، وتوافه المسائل. .

إننا نريد أولا تحقيق الجلاء التام الناجز عن وادي النيل حتى تطهر أرضه من رجس الاحتلال البغيض، وتحقيق الوحدة لشعبه حتى تعتمد على دعائم من الحق والقوة، والحرية والأخوة، وبعد تحقيق هاتين الأمنيتين تحقيقا صادقا لا زيف فيه ولا التواء، يجوز لنا أن نبحث ونجادل في مسألة حقوق المرأة السياسية وغيرها ما دام في ذلك خير يعود على الوطن العزيز.

إن من الحزم والإخلاص لوطننا أن نترك هذه الأمور اليوم، حتى ننتهي مما هو أهم وأحق، ويجب أن نفهم أن الرأي العام العربي يسخر اليوم منا، لأننا نسخر هممنا في توافه الأمور التي يمكن أن نستغني عنها قليلا، تاركين المهام التي تصون عزتنا، وتحوط كرامتنا بالمهابة والإجلال، وتسبغ على وجودنا وكياننا جوا من العظمة والتقدير!

فمتى يفهم هذا جيدا أشياع الفريقين المتناضلين؟ متى يتقون الله في دينهم ووطنهم؟

نفيسة عبد اللطيف الشيخ

ص: 50

‌القَصَصُ

ثروة لم تخطر على بال

للقصصي الإيطالي يوكانشو

لقد أجمعت الآراء على أن البلاد الواقعة على شاطئ البحر من ريجيو إلى جابتي هي أجمل البلاد موقعا في إيطاليا. وهناك على مقربة من سالرن عراء تطلق عليه الأهالي اسم شاطئ ملفي، به مدن صغيرة وحدائق، وكانت مدينة رافللو في ذاك العهد أبرزها رشاقة وازدهاراً، وكان بها رجل يسمى لاندولف من كبار الأغنياء ولكن نهم المال لا يشبع ولا يقنع، إذ أراد هذا الرجل أن ينمي ثروته فقضى طمعه على جميع ما ملكت يداه.

وبعد ما فكر في الأمر طويلا كعادة التجار اشترى سفينة عظيمة وشحنها بمختلف البضائع وسافر إلى قبرص. وحينما وصل إليها وجد كثيراً من السفن مشحونة بنفس البضائع التي جلبها فاضطر أن يبيع شحنته بأبخس الأثمان؛ فتملكه هم شديد لهذه الخسارة الفادحة التي ذهبت بغناه، وصمم على الانتحار أو الاستعاضة عما فقده بواسطة شخص آخر، فلا يرجع إلى بلده على تلك الحال بعد أن خرج منها غنيا محترماً. وباع سفينته واشترى بثمنها والمبلغ الضئيل الذي باع به بضائعه مركباً خفيفاً يصلح لأعمال القرصنة وسلحه جيداً واختار له بعض الرجال الأشداء وطفق يجوب البحار ويسطو على كل من يصيبه ولا سيما الأتراك حتى زادت ثروته وفاقت ما كان يملكه وقت ازدهار أمواله.

رأى أن غناه أصبح كافيا وأنه في حاجة إلى عيش شريف محبوب لا يحتاج إلى تعرض جديد للبؤس وتقلبات الأيام. وعزم على الرجوع إلى بلده والاكتفاء بما غنمه لأن ما حاق به من صروف الدهر جعله يخشى العودة إلى أعماله السابقة. فسافر إلى رافلو بهذا الموكب الخفيف، ولما ابتعد عن الشاطئ هبت رياح عنيفة فهاجت الأمواج ورأى لاندولف أن سفينته الصغيرة لا تستطيع مقاومة اللجج الهائجة فعزم على الالتجاء إلى جزيرة صغيرة، وبعد لحظة أقبلت سفينتان جنويتان لتحتميا في هذا الموضع من الجزيرة وكانتا آتيتين من الآستانة. وقد علم الركاب أن هذه السفينة الصغيرة يملكها لاندولف وكانوا يسمعون أنه من الأغنياء المولعين بالذهب والسطو على مال الغير، فاتفقوا على مهاجمته وسدوا عليه المسالك أولا ثم أنزلوا عددا من رجالهم إلى البر وبأيديهم وقسيهم وسهامهم وتخيروا لهم

ص: 51

مكانا يمكنهم من إصابة كل من يخرج من السفينة. ثم هب الباقي إلى القوارب وذهبوا إلى سفينة لاندولف وأسروها بدون مقاومة ثم نهبوا جميع ما فيها وأغرقوها واعتقلوا لاندولف في قاع مركب من مراكبهم ولم يتركوا عليه غير بعض ثياب خلقة. وفي الصباح تحسن الجو فسافر الجنويون إلى بوتان وسارت مراكبهم بكل اطمئنان طول النهار. وحينما أقبل الليل هاجت رياح عنيفة، واضطرب اليم فانفصل المركبان بعضهما عن بعض وارتطم أحدهما الذي يقل لاندولف في صخور جزيرة سيفالوني فتحطم كالزجاجة وافترس اليم مختلف البضائع والصناديق وحطام السفن، وطفق الملاحون يسبحون ويجالدون اللجج الهائجة في الظلام الحالك ويتمسكون بكل ما يصادفهم لينجوا بأنفسهم.

وأما لاندولف التعس الذي كان بالأمس يتمنى الموت لفقد ثروته فقد تملكه الخوف حينما رأى نفسه مشرفا على الهلاك، ولحسن حظه صادف لوحاً من الخشب فتمسك به إلى أن ييسر الله له من ينتشله من الخطر.

ظلت الأمواج تتقاذفه ذات اليمين وذات اليسار إلى أن طلع النهار فنظر إلى ما حوله فرأى صندوقاً صغيرا عائماً فحاول الوصول إليه ولكن هبت زوبعة ضاعفت عنف الأمواج وقذفت الصندوق حتى اصطدم باللوح الذي بين يدي الغريق فأفلت من يده وغاص لاندولف من قوة الصدمة، ثم طفا وشاهد اللوح بعيداً عنه ولكنه لمح الصندوق على مقربة منه فسبح حتى أمسك به وامتد على غطائه، وطفق يستعمل ذراعيه بدلا من المجاذيف، وأخذت تطوح به اللجج في كل صوب دون طعام، وقضى نهاره وليله على تلك الحال المضنية دون أن يعرف إن كان قريبا أو بعيدا عن البر لأنه ما كان يرى غير الماء والسماء. . .

وفي الغد طوحت به الرياح أو على الأصح إرادة الله السامية إلى جزيرة جولف، وأصبح جسمه كالإسفنج وهو منكمش على الصندوق كما يفعل الغرقى عند إشرافهم على الهلاك.

وكانت في تلك الساعة امرأة فقيرة تغسل آنيتها على الشاطئ فذعرت لرؤيته على تلك الحال وصرخت صراخاً عنيفاً. وكان لاندولف منهوك القوى حتى أنه لم يستطع النطق بكلمة. ولما اقترب الصندوق من الشاطئ وتأملت فيه المرأة ميزت شكل الصندوق ولمحت وجه الغريق فتأثرت بعاطفة الشفقة والحنان ونزلت بقرب الشاطئ وكان البحر هادئا وأمسكت لاندولف من شعر رأسه وجرته هو والصندوق إلى الشاطئ ونزعت يديه

ص: 52

المتشنجتين من الصندوق بقوة ثم وضعت الصندوق على رأس فتاة كانت معها ثم حملت لاندولف على ظهرها كالطفل وذهبت به إلى المدينة ثم أدخلته في حمام حار وغسلته ودلكته بالماء الساخن إلى أن أفاق وتحرك، وبعد إخراجه من الحمام سقته نبيذاً وأطعمته قليلا من المربى حتى انتعش وعاد إليه رشده. رأت هذه السيدة أن ترد إليه صندوقه وأن تشجعه على ما أصابه من المحن.

لم يفكر لاندولف قط في الصندوق إلا أنه ظن أن يجد فيه شيئا يستعين به على القوت بضعة أيام. ولما أراد أن يفتحه وجده خفيفا جدا فتملكه اليأس والقنوط، ثم فتحه بفارغ الصبر تطلعا لما يحتويه، وكانت السيدة قد غادرت بيتها لقضاء حاجاتها، فوجد فيه كمية من الأحجار الكريمة بعضها مصقول والآخر كما هو. ولسابق معرفته بالجواهر تحقق أنها ذات قيمة كبيرة، حمد ربه على هذه النعمة العظيمة ومجده، لأنه قد حرسه بعين عنايته وعوضه أضعاف ما فقد. وتشجع ونشط ونسى همومه، وعزم على أن يتصرف بكل رزانة وحكمة ليصل إلى بيته آمنا مطمئنا ولا يكون عرضة لمصاب جديد أو محنة غير منتظرة. ثم صر جواهره في قطعة من النسيج وعرض على السيدة أن تأخذ الصندوق مقابل كيس، فلبت طلبه ثم شكر لها حسن صنيعها ووضع كيسه على كتفه وسافر في مركب. ولما وصل إلى برنديزي انتقل إلى تراني وصادف هناك عدة رجال من بلده وكانوا من تجار القز والديباج فقص عليهم ما أصابه، ولكنه لم يبح لهم بالصندوق وما حواه فأعطوه حلة وأعاروه جواداً وبحثوا له عن رفقاء يصحبونه في سفره إلى رافللو.

ولما آب إلى بلده عاين جواهره فوجد فيها كثيرا من الماس الجيد بحيث أنها إذا بيعت بثمن معقول كانت قيمتها تساوي ضعف ثروته حينما فارق بلده. ثم أرسل مبلغا من المال إلى السيدة التي انتشلته من اليم في مدينة جولف وكافأ تجار الحرير الذين ساعدوه في تراني وعاش بقية عمره عيشة هنيئة شريفة.

م ح

ص: 53