المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 986 - بتاريخ: 26 - 05 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ٩٨٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 986

- بتاريخ: 26 - 05 - 1952

ص: -1

‌رمضان

للأستاذ علي الطنطاوي

لما قعدت أكتب هذا الفصل، تقابلت في نفسي صورتان لرمضان:

رمضان المزعج الثقيل، الذي قدم يحمل الجوع في هذه الأيام الطوال، والعطش في هذا الحر المتوقد، يمشي في ركابه المسحر بنشيده الممل، وصوته الأجش، وطبلته التي يقرع بها رؤوس النائمين، من نصف الليل، من قبل السحور بساعتين، فترج أعصابهم رجاً، وتنفي النوم من عيونهم، والراحة عن أجسادهم. .

ورمضان الحلو الجميل، الذي يقوم فيه الناس من هدآت الأسحار، وسكنات الليالي، حين يرق الأفق، وتزهر النجوم، ويصفو الكون، ويتجلى الله على الوجود يقول: ألا من مستغفر فأغفر له؟ ألا من سائل فأعطيه؟ ألا من تائب فأتوب عليه؟ يسمعون صوت المؤذن يمشي في جنبات الفضاء، مشي الشفاء في الأجسام، والطرب في القلوب، ينادي: يا أرحم الراحمين. فيسري الإيمان في كل جنان، ويجري التسبيح على كل لسان، وتنزل الرحمة في كل مكان.

رمضان الذي ينيب فيه الناس إلى الله ويؤمون بيوته، ففي كل بلد من بلاد الإسلام مساجد، حفل بالعباد والعلماء، ليس يخلو مجلس فيها من مصل أو ذاكر، ولا أسطوانة من تال أو قارئ، ولا عقد من مدرس أو واعظ، قد ألقوا عن عقولهم أحمال الإثم والمعصية، والغل والحسد، والشهوات والمطامع، ودخلوا بقلوب صفت للعبادة، وسمت للخير، قطعوا أسبابهم من عالم الأرض ليتصلوا بعالم السماء. تفرقوا في البلدان، واجتمعوا في الإيمان، وفي الحب، وفي هذه القبلة يتوجهون كلهم إليها، لا عبادة لها، ولا التجاء إليها، فما يعبد المؤمن إلا الله. وما الحجر الأسود إلا حجر لا يضر ولا ينفع، ولكن رمزاً إلى أن المسلمين مهما تناءت بهم الديار، وتباعدت الأقطار دائرة واحدة، محيطها الأرض كلها، ومركزها الكعبة البيت الحرام، رمضان الذي تتجلى فيه أجمل صفحات الوجود.

إن الحياة سفر في الزمان، وركب الحضارة الغربية يقطع أجمل مراحل الطريق: مرحلة السحر، وهم نيام، ولولا رمضان ما رأينا جمال السحر.

رمضان الذي تتحقق فيه الاشتراكية، وتكون المساواة، فلا يجوع واحد ويتخم الآخر، بل

ص: 1

يشترك الناس كلهم في الجوع وفي الشبع، يفطرون جميعاً في لحظة واحدة، ويمسكون جميعاً في لحظة واحدة، كأن المسلمين كلهم طلاب مدرسة داخلية، يجتمعون على مائدة واحدة. تراهم في المساء مسرعين إلى بيوتهم، أو قائمين على مشارف دورهم، أو على أبواب منازلهم، فإذا سمعوا طلقة المدفع، أو رأوا ضياء المنارة، أو رن في آذانهم صوت المؤذن، صاح الأولاد بنغمة واحدة موزونة: أذن. . أذن. . وانطلقوا إلى دورهم طائرين كعصافير الروض.

فإذا فرغ الناس من طعامهم، أموا المساجد، فقاموا بين يدي الله صفاً واحداً، لا غني ولا فقير، ولا صغير ولا كبير، متراصة أقدامهم، ملتحمة أكتافهم، وجباههم جميعاً على الأرض، فأين في الوجود مساواة مثل هذه المساواة؟

رمضان الذي يجمع للصائم صحة الجسم، وصحة الروح، وعظمة النفس، ورضا الله.

إن الصيام من سنن الرياضيين، وسلوا كتب الرياضة، وسلوا شيخها اليوم مكفارن، ولست طبيباً ولكني جربت بنفسي، ورب مجرب أوعى من طبيب.

فأنا أحد من أضنتهم الرثية والحصوات في الكلى، وثقوا أنني راجعت في علاجها ستة وثلاثين طبيباً، أي والله، وأحسبني جربت كل علاج، فلم أجد لها مثل الصيام إلا عن الماء والحليب وعصير البرتقال.

وهذه سنة من سنن الله في الكون: من أكل أقل أصابه السل، ومن أكثر ركبته الأملاح والرثيات والنقرس، ولولا ذلك لأكل الأغنياء أكل الفقراء. تقول لهم (الطبيعة) التي طبعهم الله عليها: قفوا! فالمرض بالمرصاد، لمن نقص في الأكل أو زاد.

هذه صورة رمضان الحلوة، أفلا تستحلي معها مرارة الصورة الأخرى؟

رمضان الذي تشيع فيه خلال الخير، ويعم الحب والوئام، فإذا أردتم أن تصوموا حقاً فصوموا عن الأحقاد، واذكروا ما في أعدائكم من خلال الخير، فأحبوهم لأجلها، واغفروا لهم، وادفعوا بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينكم وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وليس يخلو أحد من خلة خير، وليس في الدنيا شر مطلق، حتى الموت! فإنها قد تمر بنا ساعات نرتجي فيها الموت، حتى إبليس فإن له مزية الثبات والذكاء. وما أمدح إبليس؛ لعنة الله على إبليس، ولكن أضرب للناس الأمثال!

ص: 2

وإذا جعتم هذا الجوع الاختياري، فاذكروا من يتجرع غصص الجوع الإجباري، واشكروا ربكم على نعمه. وليس الشكر أن ترددوا ألف مرة باللسان: الحمد لله! الحمد لله! ولكن شكر الغني البذل للفقراء، وشكر القوي إسعاد الضعفاء، وشكر السلطان إغاثة اللهفان.

وأعطوا من نفوسكم كما تعطون من أموالكم، فرب بسمة مع العطاء، تنعش السائل أكثر من العطاء، وكلمة خير لجار تحيي الجار، وبش في وجه ذي الحاجة والاعتذار عنها خير من قضائها مع الترفع عليه عند السؤال، والمن عليه بعد النوال.

واذكروا أن الله خلق الإنسان مركباً من ملك وشيطان وحيوان، فإذا هدأ الحيوان في رمضان بترك الطعام، وخنس الشيطان بردع الشهوة، بقي الملك، فتخلقوا بأخلاق الملائكة، فلقد كان المسلمون الأولون ملائكة الخير في الأرض، وكانوا يعيشون عيش الملائكة، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، قد فرغوا من شهوات البطن، فأجزأتهم تمرات في اليوم، وفرغوا من هم ما تحته، فلا تستهويهم شهوة، ولا يستعبدهم جمال، وعاشوا لهدف واحد، هو الواجب، فكان كل مسلم قطعة من هذه الآلة الضخمة الهائلة، التي أدارها الشرع، فأدارت الفلك.

كانوا يقومون لله، ويقعدون لله، ويأخذون لله، ويدعون لله. دعوا إلى البذل فأعطوا؛ جهز عثمان جيش العسرة من ماله، وأعطى عمر نصف ماله، وأعطى أبو بكر ماله كله، فقالوا ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله.

ودعوا إلى الجهاد، فجادوا بنفوسهم في سبيل الله، وأتوا العجائب، وقحموا الأهوال، حتى فتحوا ثلث العالم في ثلث قرن، ودعوا إلى العلم فكانوا أساتذة العالم. كانوا جناً في النهار، ورهباناً في الليل، وكانوا أكبر من الدنيا، لا لأنهم ملكوا الدنيا، فالدنيا لا يملكها كلها أحد، بل لأنهم زهدوا في كنوزها، فصارت كنوزها هي والتراب عندهم سواء. وأنت إن كنت تملك قرشاً ولا تطلب غيره، أغنى ممن يملك المليون ويطلب مليونين، لأن ذلك ينقصه مليون، فهو يحن إليه، ويتحسر عليه، وأنت لا ينقصك شيء.

فجربوا هذه العظمة في رمضان، لا تفكروا في الطعام، لا تثركم موائد الملوك، ولا ما احتوت المطاعم، ولا تفكروا بالنساء، لا يثركم حور الجنان.

هذا رمضان يا أيها الأخوان، فخذوا منه الصحة لأجسامكم، والسمو لأرواحكم، والحب

ص: 3

لقلوبكم، والعظمة لنفوسكم، والقوة والنبل، والبذل والفضل، وخذوا منه ذخراً للعالم كله يكن لكم ذخراً.

أعاده الله عليكم بالخير والنصر والإقبال.

علي الطنطاوي

ص: 4

‌كيف وجدت العالم العربي؟

تقرير مرفوع إلى جزيرة العرب

للأستاذ أبي الحسن علي الحسني الندوي

لقد كتبت وأنا متوجه إلى مصر، وقد تحركت بنا الباخرة في ميناء جدة يوم السبت 12 ربيع الآخر سنة 1370هـ 20 يناير 1951م، (وداعاً أيتها الجزيرة العربية غير مهجورة ولا مملولة، فليست هذه الرحلة إلا في سبيلك وللاتصال بأسرتك العزيزة المنتشرة على ساحل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، أبلغها تحياتك وأرى ما فعلت الأيام بها بعد انفصالها عنك، وما فعلت برسالتك التي حملتها عنك للعالم والأمانة التي تقلدتها، ثم أعود إليك إن شاء الله أحكي لك قصة هذه الأقطار الإسلامية العربية وما شاهدت في هذه البلاد من خير وشر، وما رأيت لأبنائك من وفاء لك وجفاء، بكل أمانة وصراحة، فالرائد لا يكذب أهله، ومن الكذب المهلك والخيانة المردية المجاملة في الأخبار والمبالغة في التفاؤل).

وهذا أوان إنجاز الوعد.

يسرني أن أقول لك أيتها الجزيرة العزيزة أن أسرتك العربية لا تزال تنتمي إلى الإسلام ولا تزال تعتز بعروبتها ولا تزال تنسب نفسها إليك وترد دينها ولغتها إلى منبعهما في ربوعك، ويبدأ تاريخ حياتها الجديدة بيوم أشرق فيه النور من غار حراء فكان الصبح الصادق للعالم، وقد احتضنت هذه البلاد تراثك الأدبي والثقافي وتبنت لغتك وضمتها إلى صدرها وزادت في ثروتها زيادة لا تخطر على بال منك ولا من شعراء جاهليتك، ولا يسعك عليها إلا الشكر والاعتراف بالجميل، وقد كانت هذه البلاد وفية للغتك، وفية لقوميتك، وفية لثقافتك وفية لتاريخك.

وأن أسرتك العربية لم تقطع صلتها في يوم من الأيام عن دينك الذي عاهدتها عليه وأوصيتها به يوم ودعتها وأرسلتها لتفتح العالم وتنقذه من الجاهلية. وكم حاول الحساد أن تقطع هذه الأسرة الكريمة صلتها عن الإسلام وترجع إلى جاهليتها الأولى أو تعتنق الجاهليات الحديثة. وكم زينوا لها الانسلاخ عن عقيدتها الإسلامية والانفصال عن الجامعة الإسلامية، وأن تدين بالقومية العربية والوطنية الضيقة، فلم تكن منها في كل عصر ومصر

ص: 5

إلا أن ثارت روحها الإسلامية وهاجت غيرتها الدينية فازدادت إيماناً بهذا الدين وأحبطت مساعي المفسدين، ولا نعرف من بين الشعوب والأمم أسرة أكثر وفاء وأعظم أمانة وأشد تعلقاً بالماضي وغيرة على اللغة من هذه الأسرة العربية التي تسكن الشرق الأوسط الذي هو مجرى تيارات المدنية والغزوات السياسية، فقد تطور كل شيء وقد تطورت هي كذلك في ثقافتها وأدبها وحياتها تطوراً كبيراً ولكنها لا تزال متشبثة بدينها متعصبة للغتها، فليهنك أيتها الجزيرة من أبنائك هذا الوفاء وهذه الاستقامة.

إن في العالم العربي كثيراً مما يسرك ويسر جيلك الأول لو بعث، فلا يزال الأذان تدوي به الآفاق؛ ولا يزال التوحيد والرسالة المحمدية يعلن بهما على الشرفات، والصلوات تقام والقرآن يتلى بلحن عربي شجي لو سمعته أيتها الجزيرة لطربت له واعتقدت أنه لم يقرأ إلا في هذه البلاد، ولو سمعت العلماء يفسرونه ويتكلمون في موضوع ديني لتوهمت أنه لم يفهم إلا في هذا العصر، والعلم يخدم وينشر، وفي كل يوم يتدفق سيل من المطبوعات الدينية لا يقل في الفيضان عن الزيت الذي يتدفق من شرقك إلى غرب العالم.

هذا كله مما أشهد به وأهنئك عليه، فقري عيناً وطيبي نفساً يا أم العالم العربي؛ فمن أحق منك بالسرور على ذلك ومن الأجدر منك بالتهنئة؟

ولكني وعدتك وأنا أودعك على ميناء جدة أني لا أخفي عنك شيئاً وأني أحمل إليك في رجوعي كل حلو ومر، وأروي لك من رحلتي ما يسوء ويسر، وقديماً قلت: أنجز حرماً وعد.

لست أدري أيتها الجزيرة العزيزة كيف أعبر عن شعوري المزدوج المركب، وكيف أصف لك ما وجدته وما افتقدته في هذه الرحلة الطويلة، وكيف أصور المعاني المتناقضة وكيف أجمع لك بين آلام وآمال. إني أستعير أولاً كلمة لشاعر مؤمن من بلادي قد زار العالم العربي قبلي ورجع منه حزيناً يلخص رحلته في بيتين من شعر، ذلك الشاعر هو الدكتور محمد إقبال الذي يقول:

(لم أسمع في مصر ولا في فلسطين ذلك الآذان الذي ارتجفت له الجبال بالأمس. إن السجدة التي كانت تهتز لها روح الأرض لقد طال عهد المحراب بها واشتاق إليها المسجد كما تشتاق الأرض الجديبة الخاشعة إلى المطر).

ص: 6

لا يخفى عليك أيتها الجزيرة أن مصدر هذا الآذان الذي كانت الجبال ترتجف له ارتجافاً وهذه السجدة التي كانت الأرض تهتز لها اهتزازاً، إنما هو القلب الفائض بالإيمان، الممتلئ بالحب والحنان، الجريء على الموت، الحريص على الشهادة، الزاهد في الدنيا، المستهين بالمادة، وقد ضعف هذا القلب من مدة طويلة وجنت عليه المادة الغربية والتعليم المادي فأفقدته كثيراً من حنانه وحرارته وخفقانه، وتأثرت بهذا التحول الحياة في كل ناحية من نواحيها ومظهر من مظاهرها وعم المسجد والمدرسة والمنزل والسوق، وشعر به كل من لم يفقد شعوره حتى قام بالأمس أمير الشعراء شوقي في دمشق يقول:

فلا الأذان أذان في منارته

إذا تعالى ولا الآذان آذان.

لقد عاتبت هذه البلاد العزيزة على هذا التحول كثيراً وحدثتها حديث رجل لرجل، ولكنها قالت لي: إن الجزيرة العربية هي المسئولة عن هذا التحول، فقد كانت مصدر الحياة والقوة والإيمان والروح في العالم كله، وقد كانت توزع الدم الجديد إلى شرايين العالم الإسلامي وعروقه فضلاً عن العالم العربي فشغلت في العهد الأخير بتصدير البترول عن تصدير دم الحياة الإيمانية، واكتفت باستصدار البضائع الأجنبية عن توريد بضاعة الإيمان وغذاء الروح إلى العالم. وجادلت عنك أيتها الجزيرة العربية كثيراً ولقد أوتيت جدلاً ولكنها أفحمتني بالدلائل والأمر الواقع، فأقنعيها بما شئت وأدلي بحجتك فإنما هي أسرتك ومن أقرب الناس إليك.

وسواء كان منك التقصير أولاً، وكنت المسئولة عن هذا التحول المؤسف أم كان غيرك، فإني أبشرك أني شاهدت في العالم العربي طلائع نهضة إسلامية قوية شاملة، وتباشير صبح صادق، فقد بدأ الرأي العام يستيقظ، وبدأ القلق الشديد يساور النفوس، والتذمر من الأوضاع الفاسدة يكاد يكتسح البلاد. وقد بدت حركة رد فعل عنيفة ضد الحضارة الغربية وقيمتها، وظهرت آثار ثورة فكرية سياسية ضد سيادة الغرب والوصاية العالمية التي سلطها الغرب على العالم وفرضها على العالم العربي فرضاً، واستمر يتحكم في أمواله وكنوزه وخيراته، كأنه سفيه أو مجنون أو طفل لم يبلغ سن الرشد، فها هي الأقطار العربية قد بدأت تفهم الحقائق وبدأت تواجه الغرب المتغطرس كرجل كريم يؤمن بشرفه وإنسانيته ويشعر بشخصيته وكرامته، وكرجل حي يعرف الغضب كما يعرف الرضا ويملك حق

ص: 7

الثورة إذا وجدت لها موجبات.

لقد بدأ العالم الربي يكفر بالغرب أحياناً بعد ما آمن به طويلاً وخضع له طويلاً وربط نفسه بعجلته فأصبح يرى نفسه مستقلاً؛ وعضواً كريماً في أسرة العالم، يعلم المفسد من المصلح ويميز بين الصديق والعدو ويحتفظ بحقه في الصلح والحرب والحلف والصداقة.

لقد بدأ بعض الأقطار العربية يرنو إلى التقدم الصحيح والاستقلال الصادق. قد بدأ يفهم أهمية الصناعات الوطنية والإنتاج والاكتفاء الذاتي والاستغناء عن البلاد الأجنبية في مرافق الحياة. وقد بدأ بعض هذه الأقطار يخطو نحو هذه الغاية وإن كانت هذه الخطوات بطيئة وقصيرة، خطوات رجل مثقل يئن من أثقال القديم، ولكنها بدأت تزحف كما يزحف الطفل بعد ما بقيت مدة طويلة تلهو بما كان الغرب يرمي إليها من ودعات، وبما يصدر إليها من بضائع وآلات. لقد بدأت الأقطار العربية تتعلم صناعة الموت بعد ما جهلتها طويلاً وهجرتها طويلاً، وأصبحت تعتقد أنه لا يعيش في العالم إلا من يستطيع أن يموت.

وأعظم ما يبعث الأمل في النفوس ويبشر بالمستقبل الإسلامي هو ظهور آثار الإيمان الجديد في العالم العربي، فإنك تعلمين أيتها الجزيرة العربية حق العلم أن أسرتك الكريمة ليست في حاجة - وكذلك العالم البشري كله - إلى دين جديد، فإن الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الخالد والرسالة الخالدة، وأنه لا يزال على جدته وقوته مهما تقادم الزمان، وانه يسع العالم كله والعصور كلها، ولكن أسرتك التي تدين بهذا الدين في حاجة ملحة اليوم إلى إيمان جديد بهذا الدين الخالد، دين كل عصر وجيل، فقد ضعف هذا الإيمان، وقد تجددت فتن، ونشطت دعوات متطرفة وقويت، وكثرت النكبات، ولا يمكن أن يواجه العالم العربي هذه الفتن، وهذه الدعوات وهذه النكبات بإيمان ضعيف بال، لا يستطيع أن يتحمل صدمة، أو يتغلب على شهوة، أو ينتصر على أنانية، أو يتحمل شدة، أو يقف في وجه دعوة، إنما هو إيمان منهار لا يستطيع أن يعيش ويتماسك في عصر قد جد فيه الجد.

ولكني رأيت في الأقطار التي مررت بها في هذه الرحلة بواكير إيمان جديد وطلائعه. لقد رأيت إيمانا فتياً وثاباً، لقد رأيت فتية وصفهم ربهم قديماً بقوله (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى، وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو

ص: 8

من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططاً. هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين، فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً) هؤلاء الفتية الأقوياء في إيمانهم - وإن كانوا كباراً في سنهم - الذين يعتزون بهذا الدين أكثر ما يعتزون بشيء، إنهم لا ينظرون إليه كتراث قديم وكأثر من الآثار العتيقة أو كشجرة قد انتهى نموها وانقطعت أثمارها، إنما ينظرون إليه كمنبع فياض يستمدون منه القوة والحياة، وكشمس ساطعة يقتبسون منها النور والحرارة في كل زمان ومكان، ولا قديم في الشمس ولا جديد، إنما هي حاجة الإنسان الدائمة ورسول النور والحياة في كل عصر ومصر، وبينما كان ينظر إلى الدين كقضية شخصية لا دخل لها في الحياة العامة، ولا رسالة لها للسياسة والاجتماع، ولا صلة لها بالحكم والتشريع، أصبح ينظر إليه كمنهج للحياة ومنهج للتفكير تتوقف عليه سعادة البشرية، وتنحل به عقد المدنية الحديثة. إن الإسلام لا يعيش على هامش حياتهم إنما يحل منهم محل القلب والعقل والروح. إنهم لا ينظرون إليه كدين من الأديان الكثيرة وكمنهج للحياة من مناهجها الجديدة، إنما ينظرون إليه كالدين الحق الوحيد الذي لا يبقى بعده إلا الضلال ولا يرغب عنه إلا من سفه نفسه. هؤلاء هم الذين قام بهم الإسلام في عصره الأول وسيقوم بهم في هذا العصر.

وأعجب ما رأيت هو قوة هذا الإيمان وجدته في الشباب المتعلم، فقد رأيت هذا الجيل الجديد يكاد يفوق الجيل القديم في قوة الإيمان والحماسة الدينية، رأيته يقبل على الدين كنعمة جليلة أو طرفة ثمينة، ويذكرنا بسروره وتقديره أولئك الرواد المغامرين الذين كانوا يخرجون لاكتشاف البحار والأقطار المجهولة ويتكبدون في سبيله من المصائب ما يشيب لهولها الولدان، فكان إذا نجح أحدهم في مهمته ملكه الفرح واعترته نشوة الانتصار ونسي ما لقي في طريقه من النصب والتعب واعتبر ما اكتشفه فتحاً جديداً في حياته وأعز من كل ما يملكه من قديم وما يعلم من قديم، رأيت في هذا الشباب من الشجاعة الأدبية ومن الثقة بالدين وتعاليمه والإعجاب بشخصياته التاريخية ومن التطلع إلى النظام الصالح ومن روح التضحية والإيثار والثورة على النظم الجائرة والأوضاع الفاسدة والتمرد على المادة ومكيائيلية المجتمع الزائفة ما يندر وجوده في الجيل القديم. لقد قرت بهم عيني وانشرحت لهم نفسي واجتمعت بهم وحادثتهم كثيراً في عواصم الشرق الأوسط، وقلت: هذا هو الجيل

ص: 9

المنتظر الذي سينهض بالشرق ويرد إليه قوته، وزعامته إن شاء الله.

إن نهضة العالم الإسلامي ونهضة العالم العربي أمر واقع لا يقبل شكاً ولا جدلاً، ولكن الذي أخشى أن تسبقك هذه الأقطار وأن يتأخر دورك كثيراً وحقك أن تسبقيها وتتزعمي هذه النهضة المباركة فأنت مادة الإسلام والبلد الأمين.

أما بعد فإني لست يائساً من العالم العربي ولا منك أيتها الجزيرة العربية، وأقول في لفظ شاعر الإسلام (إن إقبال ليس يائساً من زرعه الكريم الذي عاث فيه الوحوش والسباع فإن تربته الكريمة تأتي بحاصل كبير إذا تندت قليلاً) ولك أيتها الجزيرة أن تسقي هذه التربة الكريمة بزمزم، وبما شئت من دمع ودم.

أبو الحسن علي الحسني الندوي

ص: 10

‌وجهات النظر في مؤتمر موسكو الاقتصادي العالمي

للدكتور عمر حليق

يعتبر المؤتمر الاقتصادي العالمي الذي أشرفت الحركة الشيوعية العالمية على عقده في موسكو في أوائل شهر أبريل من أنجح خطوات الدعابة (لحملة السلم) التي أخذت الشيوعية العالمية تدعو إليها في حماس شديد في المدة الأخيرة.

فقد استعدت المحافل الشيوعية في موسكو وفي كثير من بقاع العالم استعداداً فائقاً في الدعوة للمؤتمر على أنه مجرد خطوة عملية لتشجيع التبادل التجاري الحر بين الدول الشيوعية من جهة، وبين دول العالم الأخرى سواء أكانت هذه الدول (محايدة) أو من خصوم النظام الشيوعي.

وقد حضر المؤتمر مئات من رجال الأعمال (من غير السياسيين) من شتى بقاع العالم بما فيها أمريكا وبريطانيا ومصر والهند والباكستان ولبنان وإيران وغيرها من الدول التي لها صبغة حيادية أو تلك التي تخاصم الشيوعية مخاصمة سافرة.

وقد توصل المؤتمرون إلى عقد صفقات تجارية واسعة مع أصحاب الأعمال الروس والبولنديين والتشيكوسلوفاكيين والشيوعيين الصين وغيرهم من الشعوب التي اتخذت الشيوعية لها عقيدة ونظاماً.

والذي أدى إلى نجاح هذه الصفقات التجارية الواسعة ما عرضه الروس والمندوبون الشيوعيون الآخرون من مغريات. فقد أعلنوا بأنهم على استعداد لتصدير الحبوب والأدوات الصناعية والمواد الكيماوية والأخشاب وغيرها من السلع والمنتجات إلى أوربا الغربية وأمريكا وآسيا مقابل الحصول على الأنسجة والمغزولات والمطاط والأدوات الكهربائية والسفن وقائمة طويلة عريضة من المواد التي لا تمت بصلة مباشرة إلى الاستعداد العسكري الذي يجتاح العالم هذه الأيام.

ولم يكتف المندوبون الشيوعيون في عروضهم الجارية على أساس المبادلة (مبادلة الاستيراد بالتصدير) مع الدول الغربية والآسيوية، وإنما أعلنوا استعدادهم كذلك لقبول أثمان ما تستورده البلدان الخارجية من محاصيل ومنتجات البلدان الشيوعية بالعملة المحلية للبلد المستورد.

ص: 11

وهذا يعني بأن الروس وحلفاءهم راضون بالتعامل بالجنيه الإسترليني والروبية الهندية والباكستانية والعملة المصرية وغيرها من العملة المتبادلة خارج منطقة الدولار الأمريكي والفرنك السويسري والمارك السويدي وغير ذلك من أنواع العملة الصعبة.

ولهذا الأسلوب إغراؤه الشديد خصوصاً لدى بريطانيا ودول أوربا الغربية وشعوب آسيا وأمريكا اللاتينية التي تعاني أزمة في توفير العملة الصعبة لاستيراد ما هي في حاجة إليه من محاصيل وسلع ومنتجات صناعية لا تستطيع الحصول عليها إلا بالدولار - والدولار عزيز هذه الأيام في كثير من بقاع العالم خارج أمريكا الشمالية.

وثمة أمر آخر له أهميته الاقتصادية. فقد أدى اشتراك الصين الشيوعية في مؤتمر موسكو الذي نحن بصدده إلى سيل لعاب الدول التجارية الكبرى كبريطانيا مثلاً. فبريطانيا تعاني الآن ضائقة مالية لعينة مبعثها اختلال الميزان التجاري وقصور الصادرات البريطانية عن اللحاق بالواردات، وهذا وضع أرغم بريطانيا على أن تنفق على استيراد الطعام والمواد الأولية من الخارج بنسبة تفوق بكثير ما يدخل إلى الاقتصاد البريطاني من أثمان الصادرات البريطانية إلى الأسواق العالمية. والبريطانيون يدركون أن الصين الشيوعية سوق تجاري مغري يعيش فيه أكثر من 400 مليون نسمة. فإذا توفر لبريطانيا بيع منتجاتها وبضائعها في السوق الصيني فإنها لا ريب مفرجة عن كثير من أوجه ضائقتها الاقتصادية الحادة.

وقد عرض المندوبون الروس على المندوبين البريطانيين في مؤتمر موسكو الذي نحن بصدده أن تشتري روسيا من المنسوجات البريطانية ما يبلغ ثمنه 30 مليوناً من الجنيهات. فإذا تمت هذه الصفقة فإنها ستعيد الحياة إلى مصانع الغزل والنسيج البريطانية في منطقة (لانكشير) المشهورة بجودة إنتاجها والتي أخذت في المدة الأخيرة تعاني أزمة بطالة حادة سببها قلة التصدير إلى الخارج بعد أن استعادت المنسوجات اليابانية مركزها في أسواق الشرق الأقصى والهند؛ وبعد أن عادت الحياة الصناعية في ألمانيا إلى البروز بشكل سريع خلق للإنتاج البريطاني منافسة شديدة في كثير من أسواق العالم.

ولما كانت شؤون ألمانيا واليابان الاقتصادية لازالت الآن إلى حد بعيد في يد السلطات الأمريكية والحليفة، فإن هذه السلطات لم توفر بعد فرصة لليابانيين والألمان بالتعامل

ص: 12

التجاري مع الصين الشيوعية، الأمر الذي يوفر لبريطانيا فرصة ذهبية لاكتساح السوق الصيني من جديد على نحو ما كانت تكتسحه قبل قيام النظام الشيوعي هناك.

وهذه الحقيقة الاقتصادية تنطبق على بريطانيا انطباقها على معظم بلدان أوربا الغربية. ولذلك وجدت عروض الشيوعيين في مؤتمر موسكو لدى الأوساط التجارية في أوربا الغربية قبولاً حسناً.

وقد سبق لخبراء الأمم المتحدة الاقتصاديين أن أوصوا في العامين الأخيرين بضرورة إعادة التبادل التجاري بين دول أوربا الشرقية وبين شعوب أوربا الغربية بعد أن كان هذا التبادل قد توقف أو كاد نتيجة لنجاح مشروع مارشال ومساعدات أمريكا المالية والعسكرية لدول الحلف الأطلنطي. ففي التقريرين الأخيرين اللذين وضعتهما لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوربا إصرار على ضرورة إعادة هذا التبادل على نطاق واسع إذا أريد لدول أوربا أن تكافح البطالة وسوء الأوضاع الاقتصادية المتفشية الآن في معظم القطاعات الأوربية.

وقد جاء في هذين التقريرين بعض الحقائق عن ضائقة أوربا الاقتصادية. فقد ارتفعت البطالة في إيطاليا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وبعض الدول الاسكندنافية ارتفاعاً بلغ في بعض هذه البلدان أعلى نسبة وصلت إليها البطالة منذ أن وضعت الحرب العالمية الأخيرة أوزارها.

ففي ألمانيا يبلغ عدد العمال العاطلين أكثر من عشرة ملايين، فانتعاش الصناعة الألمانية لم يصاحبه توسع في الأسواق الخارجية، وقد زاد الطين بلة ازدياد اللاجئين الألمان من المنطقة الشرقية (التي يسيطر عليها الروس) إلى المنطقة الغربية التي تشرف عليها سلطات الاحتلال الغربية.

وفي إيطاليا أصبحت البطالة مزمنة بسبب ازدياد عدد السكان وتوقف هجرة الطليان إلى العالم الجديد ورغبة الشعب في تحقيق مستوى من المعيشة عال لم تستطع الحكومات الإيطالية المتعاقبة أن تنميه بسبب فشل السياسة المالية وانتشار الأفكار الاشتراكية وعدم توفر المواد الخام للمصانع الإيطالية.

وقد ارتفعت أثمان هذه المواد الخام إلى درجة عالية بسبب منافسة الأمريكان والروس على شرائها من مصادرها الأصلية.

ص: 13

وقد عرض المندوبون الشيوعيون في مؤتمر موسكو على المندوبين الطليان طلبات تجارية لبناء السفن في الأحواض الإيطالية بمبالغ ضخمة بحيث تعود الحياة إلى هذه الأحواض التي أصبحت تعاني أزمة بطالة حادة.

وفي بلجيكا وهولنده ودول اسكندنافيا توقفت بعض المصانع عن الإنتاج لعدم توفر الأسواق فجاءت عروض الدول الشيوعية على مندوبي هؤلاء الدول مغرية.

وجدير بالذكر أن النشاط الاقتصادي في دول أوربا الغربية وبريطانيا محصور الآن في الصناعة الثقيلة التي لها علاقة بالمجهود الحربي. أما صناعة النسيج والأحذية والمنتجات الكيماوية وغيرها من الصناعة الخفيفة السليمة فقد تعطل البعض الأكبر منه عن العمل. وحين يتوفر لها مثل هذه العروض التي قدمها الشيوعيون في مؤتمر موسكو الاقتصادي فإن من الصعب مقاومة الإغراء في إعادة التبادل التجاري بين شرقي أوربا وغربيها.

وهذا بالضبط ما دفع أوساط السياسة العالمية للاهتمام بهذه الخطوة الروسية في مؤتمر موسكو التي تركز الجهد في الناحية الاقتصادية البحتة من حرب الأعصاب.

وكان طبيعياً أن تدرك الأوساط الأمريكية وجه الخطورة الروسية الجديدة وما لها من أثر على مصالح أمريكا السياسية والعسكرية والاقتصادية وصميم علاقاتها مع دول الحلف الأطلنطي وبقية أقطار العالم.

ويعلل الأمريكان هذه الخطورة الروسية الجديدة بأنها جزء من حملة (السلم) التي أخذ الشيوعيون يعملون لها بنشاط فائق على أساس ما يقول الأمريكان بأنه مبدأ جديد في السياسة الروسية. وفلسفة هذا المبدأ تقول (لنربح عن طريق السلم ما نحتاج إليه في صراعنا المسلح). ويقول الأمريكان إن حركة السلم الروسية هذه تتناقض وبعض الحقائق السافرة التي تعيش عليها سياسة موسكو الخارجية والداخلية. ومن هذه الحقائق كون الميزانية الروسية الحكومية معقدة بشكل لا يستطيع معه الناس أن يقدروا تقديراً سليماً مبلغ حصص الاستعداد العسكري الروسي من ميزانية الدولة العامة. ومنها كذلك تركيز الإنتاج الصناعي الروسي في تنمية الصناعات الثقيلة التي تعزز الاستعداد الحربي وتخفيض إنتاج السلع التي تصلح للاستهلاك السلمي. ومن هذه الحقائق أيضاً هذا العدد الهائل من القوات العسكرية الروسية التي توجد الآن تحت السلاح أو في عداد القوات الاحتياطية.

ص: 14

ويستشهد الأمريكان في معرض انتقادهم لحملة السلم الروسية بما يلمسه المراقبون في منطقة النفوذ السوفيتي من ازدياد السيطرة الروسية على مقدرات دول أوربا الشرقية والصين الشيوعية. وحين يحلل الساسة الأمريكان حملة السلم الروسية على هذا النحو فإنهم بالطبع واثقون من أن مؤتمر موسكو الاقتصادي لترويج التبادل التجاري بين الغرب والدول الشيوعية هو جزء من هذا التشويش السياسي الذي تهدف إليه روسيا في حملتها السلمية.

ورأى خبراء الشؤون الروسية في واشنطن أن مؤتمر موسكو يهدف إلى ثلاثة أمور رئيسية:

أولها - تشجيع الدول الأوربية الأسيوية ودول أمريكا اللاتينية التي تعاني أزمة اقتصادية بأن تقدم على المتاجرة مع الشعوب الشيوعية على أساس يضمن لهذه الدول التغلب على ضائقاتها الاقتصادية ومن ثم اتجاهها أكثر فأكثر نحو موسكو في السلوك التجاري والسياسي. فإذا استدرجت روسيا وحلفاؤها في بادئ الأمر هذه الدول الأوربية الأسيوية واللاتينية إلى المتاجرة الحرة فإن هذا الاستدراج كفيل بأن يربط عجلة الاقتصاد في هذه الدول التي ليست شيوعية إلى عجلة الاقتصاد السوفيتي بحيث تستطيع روسيا وحلفاؤها الشيوعيون معه الحصول على بعض المواد الحربية مع مضي الزمن.

ثانيها - تستطيع روسيا بخطوتها الأخيرة في مؤتمر موسكو أن تصرف ما تختزنه من بضائع ومنتجات لا يسري عليها الخطر الذي فرضه الأمريكان على حلفائهم في المعاملات التجارية مع منطقة النفوذ السوفيتي.

فالمعروف مثلاً أن محاصيل القمح والحبوب في روسيا تفوق حاجة الشعب الروسي. وللروس منفعة في تصريف هذه المحاصيل مقابل الحصول على سلع يستهلكها الشعب الروسي؛ وبذلك تتجه المصانع والأيدي الروسية العاملة التي تنتج الآن هذه السلع السلمية إلى إنتاج الصناعات الثقيلة النافعة للمجهود الحربي.

ثالثها - حين يزداد التبادل التجاري بين منطقة النفوذ السوفيتي والعالم الخارجي تزول بالتدريج من أفكار الناس المخاوف التي تحيط بنشاط الروس وعملائهم في سائر أقطار العالم. وهذا أسلوب يلغم النفوذ الواسع الذي بناه الأمريكان في أوربا الغربية وبقية بلدان

ص: 15

آسيا وأمريكا اللاتينية وتصاب فكرة الحلف الأطلنطي ومشاريع الدفاع عن الشرق الأوسط وعن المحيط الهادي بنكسات خطيرة.

هذا بعض ما أثاره مؤتمر موسكو الاقتصادي من تعليقات في صحف العالم وأنديته.

ولقد انفض المؤتمر الآن ونتائج أعماله رهينة بمدى حماس الأوساط التجارية في أوربا الغربية وآسيا وأمريكا الجنوبية إلى متابعة الاتصال بالأوساط التجارية الشيوعية التي كان عملاؤها يملئون قاعات الاجتماع وأروقته في مؤتمر موسكو. وقد عاد بعض رجال الأعمال الأوربيين والأسيويين إلى بلادهم يحملون عروضاً تجارية للتبادل التجاري مع الدول الشيوعية بمبالغ قدرت بحوالي 300مليون دولار.

إن هذه الخطوة الروسية الأخيرة دليل على أن العقلية الشيوعية مرنة تتلون حسب الحاجة وتتلاءم مع الظروف والمناسبات، وتستنبط من أساليب السلوك ما يلائم الأوضاع الطارئة وإن كانت هذه العقلية في قرارة النفس مقيدة بالهدف الجوهري لفلسفة ماركس ولينين وستالين.

عمر حليق

ص: 16

‌5 - حسن البنا الرجل القرآني

بقلم روبير جاكسون

للأستاذ أنور الجندي

(. . . في هذا الفصل، والفصل الذي يليه، والذي تنشره الرسالة في العدد القادم، يتحدث (روبير جاكسون) عن الشهيد (حسن البنا)، حديث ما سمعه وما عرفه منه، وقد أطلق عليه عنوان (مولد العملاق). وتبقى بعد هذا خطوط (عريضة) لفصل مطول مسهب بعنوان (الإسلام عند حسن البنا). . . وقد بعث في طلبه من صاحبي صديق الكاتب الأمريكي وقد عولت على أن أجمع هذه الفصول مضافاً إليها فصل (الإسلام) في كتاب خاص. . أرجو أن يتاح له أن يرى النور قريباً. .

الجندي

كان لابد أن يموت هذا الرجل الذي صنع التاريخ وحول مجرى الطريق شهيداً. . كما مات عمر وعلي والحسين، فقد كان الرجل يقتفي خطواتهم.

مات في عمر الزهر النضير، وفي نفس السن التي مات فيها كثير من العباقرة ورجال الفكر والفن. . وقضى وهو يسطع ويتألق.

وعاش الرجل كل لحظة من حياته، بعد أن عجزت كل وسائل الإغراء في تحويله عن (نقاء) الفكرة وسلامة الهدف. لم يحن رأسه ولم يتراجع ولم يتردد، أمام المثبطات ولا المهددات. . وكان الرجل قذى في عيون بعض الناس، وحاول الكثيرون أن يفيدوا من القوة التي يسيطر عليها، فقال لهم إن أنصاره ليسوا عصا في يد أحد، وإنهم لله وحده.

وحاول البعض أن يضموه إليهم أو يطووه، فكان أصلب عوداً من أن يخدع أو ينطوي. .

وكان على بساطته التي تظهر للمتحدث إليه، بعيد الغور إلى الدرجة التي لا تفلت متصلاً به أو متحدثاً إليه من أن يقع في شركه. . ويؤمن بالفكرة التي يدعو إليها. وكان لا يواجه إلا من يعترض طريق دعوته، وكان يستر من لم يكشف خصومته. .

وكان لا يهاجم عهداً مادام هذا العهد لا يحول دون الامتداد الطبيعي لدعوته. . وكان يدخر قوته للوطن، ويكبر نفسه ودعوته من أن يكونا أداة صراع داخلي. . وظن بعض الناس أن

ص: 17

هذا ضعف ولين ومسايرة، وما كان كذلك، فالرجل بطبيعته لم يكن يحب الصراع في معركة جانبية، ولا يقبل توزيع قواه. . وإنما يؤمن بالتطور والانتقال من مرحلة إلى مرحلة ومن دور إلى دور على أساس النضوج والتكامل، وكان هذا يزعج خصوم الوطن الذي لم يعهد سياسته تعلو على المطامع الفردية، وتتعالى على المطامع الفردية، وتعالى على الأغراض الذاتية، وتنقي جوها من الدوافع الشخصية الخاصة.

وكان الرجل على قدرته الفائقة في ضبط أعصابه، كيساً في مواجهة الأمور، لبقاً في استقبال الأحداث والأزمات.

وإلى هذا كله كان غاية الاعتدال، فكان يعيش براتب لا يزيد على راتبه المدرسي المحدود، وبين يديه الأموال الضخمة المعروضة من أتباعه وحوله من العاملين معه، ما يصل إلى ضعف أو أضعاف ما يحصل عليه.

وكان في بيته مثال الزهادة، وفي ملبسه مثال البساطة، وكنت تلقاه في تلك الحجرة المتواضعة الفراش، ذات السجادة العتيقة والمكتبة الضخمة، فلا تراه يختلف عن أي لإنسان عادي، إلا ذلك الإشعاع القوي والبريق اللامع الذي تبعثه عيناه، والذي لا يقوى الكثيرون على مواجهته، فإذا تحدث سمعت من الكلمات القليلة المعدودة موجزاً واضحاً للقضايا المطولة التي تحتويها المجلدات، وكان إلى هذه الثقافة الواسعة الضخمة، قديراً على فهم الأشخاص، لا يفاجئك بالرأي المعارض، ولا يصدمك بما يخالف مذهبك، وإنما يحتال عليك حتى يصل إلى قلبك ويتصل بك فيما يتفق معك عليه. . . ويعذرك فيما تختلفان فيه.

وهو واسع الأفق إلى أبعد حد، يفتح النوافذ للهواء الطلق، فلا يكره حرية الرأي، ولا يضيق بالرأي المعارض، وقد استطاع أن يحمل الرأي الجديد إلى الجماهير دون أن يصطدم بهم. . هذا الجديد الذي لو عرض بغير لباقة لوقفوا ضده وحاربوه. .

لقد نقلهم من وراثياتهم، وغير فهمهم للدين، وحول اتجاههم في الحياة، وأعطاهم الهدف، وملأ صدورهم بالأمل في الحرية والقوة. وكان له من صفات الزعماء، صوته الذي تتمثل فيه القوة والعاطفة، وبيانه الذي يصل إلى نفوس الجماهير، ولا تنبو عنه أذواق المثقفين. وتلك اللباقة والحنكة والمهارة في إدارة الحديث والإقناع.

وبهذه الصفات جميعها استطاع كسب هذه الطائفة الضخمة من الأنصار في هذا الوقت

ص: 18

القصير من الزمن، فحول وجهات نظرها، ونقلها نقلة واسعة. . دون ارتطام أو صراع.

كان سمته البسيط ولحيته الخفيفة، وذلك المظهر الذي لا تجد فيه تكلف بعض العلماء، ولا عنجهية المتمسكين بالسنة، ولا سذاجة الصوفية. . قد أكسبه الوقار.

ولقد كانت شخصية حسن البنا جديدة على الناس. . عجب لها كل من رآها واتصل بها. .

كان فيه من الساسة دهاؤهم، ومن القادة قوتهم، ومن العلماء حججهم، ومن الصوفية إيمانهم، ومن الرياضيين حماسهم، ومن الفلاسفة مقاييسهم، ومن الخطباء لباقتهم، ومن الكتاب رصانتهم.

وكان كل جانب من هذه الجوانب يبرز كطابع خاص في الوقت المناسب، ولكل هذه الصفات التي نقرأها في كتب شمائل الصحابة والتابعين، لم يكن مقدراً أن يعيش طويلاً في الشرق. . وكان لابد أن يموت باكراً، فقد كان غريباً عن طبيعة المجتمع، يبدو كأنه الكلمة التي قد سبق وقتها، أو لم يأت بعد.

ولم يكن الغرب ليقف مكتوف اليدين، أمام مثل هذا الرجل. . الذي أعلى كلمة الإسلام على نحو جديد. . وكشف لرجل الشارع حقيقة وجوده ومصيره، وجمع الناس على كلمة الله. . وخفت بدعوته ريح التغريب والجنس، ونزعات القومية الضيقة، واعتدلت لهجات الكتاب، وبدأ بعضهم يجري في ركب (الريح الإسلامية. .).

للكلام صلة

أنور الجندي

ص: 19

‌في تاريخ الأدب التركي

للأستاذ عطا الله ترزي باشي

تحدثت إلى القراء في أعداد الرسالة السابقة عن تاريخ الأدب التركي في عصوره المختلفة منذ النشأة حتى أوائل العهد العثماني بصورة مجملة.

وأعود اليوم إلى مواصلة البحث بدراسة الأدب العثماني دراسة عاجلة؛ على أن أترك أمر التفصيل والتمحيص فيها للقراء يراجعون المصادر التي استقيت منها مواد هذا المقال.

وأود قبل الخوض في مواد البحث أن أشير إلى أن الأدب التركي في هذا العهد لم يكن أدباً منحصراً في المناطق التي شملها الحكم العثماني فقط، وإنما كان نطاقه ممتداً إلى بلاد غير خاضعة للحكم العثماني، يقطنها الأتراك. فهناك الأدب الآذري، وهو فرع هام من فروع الأدب التركي المنتشر في أرجاء العجم وبلاد الأذربيجان. وقد نشأ بعد انقراض السلجوقيين وظهور المغول في تلك الأنحاء، ونما نمواً سريعاً حتى تغلغلت فروعه في الأدب العثماني، وعاش متأثراً به ومؤثراً فيه، محافظاً على صبغته الآذرية حتى اليوم. وقد آثرنا أن نتحدث - عند الكلام عن الأدب العثماني - عن هذا الأدب بإيجاز، وذلك وفق ما يتطلبه الحاجة ويهواه المقام.

وهناك بجانب الأدبين العثماني والآذري الجغتائي، وقد انتشر في مناطق (الخوارزم وآلتون أوردو). نبغ فيه أدباء مفكرون وشعراء معروفون؛ وقد انتقل إلينا كثير من الآثار التي ألفوها في مواضيع الدين والأخلاق والتصوف. ويعد (قطب) أول شاعر جغتائي نعرفه. له منظومة تركية قيمة بعنوان (خسووشيرين). وكذلك (خوارزمي) من شعراء الجغتائية المعروفين الذي اشتهر بكتابه المنظوم (محبتنامه) وغيره من الشعراء كثير، سواء عاشوا في بداية تأسس الحكم العثماني أو ظهروا في القرون التي تليها.

وهناك أدب المماليك، وظهر بين الأتراك الذين عاشوا في مصر زمناً وأسسوا لهم إمارات صغيرة هناك. وتميز هؤلاء بنشاطهم الأدبي الفعال وقدرتهم العظيمة على تنظيم الحركة الفكرية في البلاد. نشأ منهم عدد لا يحصى من العلماء والشعراء، وقد تركوا آثاراً فكرية كثيرة ومؤلفات أدبية قيمة. ويعد الشاعر (سيف سرائي) أشهرهم، وهو الذي ترجم كتاب (كلستان) للشاعر الإيراني (سعدي) إلى التركية نظماً.

ص: 20

وهكذا فإن نظرة عاجلة في الأدب التركي تطلعنا على أن هذا الأدب كان متفرعاً عند ظهور العثمانيين إلى عدة فروع هامة، منها العثماني والآذري والجغتائي والمملوكي. . . ولقد امتد أثر الأدبين الجغتائي والآذري قروناً طويلة وذلك بامتداد الأدب العثماني، حتى فقد الأول منهما مميزاته الجوهرية الخاصة واندمج في غيره من الآداب (التركية). ولا يزال الأدب الآذري قائماً بنفسه، محافظاً على مقوماته الأساسية حتى اليوم. أما الأدب العثماني، وهو موضوع دراستنا، فقد انقرض تدريجياً بعد زوال الحكم العثماني وظهور الدولة التركية الحديثة، وغدا اليوم أدباً تاريخياً مقصوراً على بعض الأندية الأدبية ويمثله في الوقت الحاضر شعراء محصورون.

ولننتقل الآن إلى العهد العثماني، وقد رأينا أن نتبع في تقسيمه إلى الأدوار هذا الشكل:

(أولاً) صدور الدولة العثمانية (ثانياً) دور الدواوين (ثالثاً) دور التنظيمات (رابعاً) دور ثروة الفنون.

صدور الدولة العثمانية:

ويبتدئ هذا الدور، حسب ما نراه، من وقت تأسس الدولة العثمانية (سنة 1300م - 699 هـ) حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. ويتميز الشعر في هذا الدور بنقاوة اللغة وسلاسة الألفاظ ورقة الأسلوب وقلة التكلف. فكان الشعراء يتجنبون غالباً استعمال الكلمات الغريبة في أشعارهم وينفرون من التصنع والتلاعب بالألفاظ. ولذا فإن شعرهم يمثل باستثناء أشعار بعض المتأخرين من الشعراء أبدع ما نظمه الشعراء العثمانيون على الإطلاق.

وامتاز هذا الدور بشيوع (المثنوي) بين الشعراء شيوعاً هائلاً، إذ لا يخلو أثر من الآثار التي ألفها الشعراء في هذا الدور من شعر المثنوي.

والمثنوي لون من الشعر اشتهر به الفرس منذ القديم. فنظموا به الملاحم التاريخية الكبرى والقصص الخيالية الرائعة أمثال (الشاهنامه) للشاعر الفارسي العظيم (فردوسي). و (المثنوي) لمولانا جلال الدين الرومي. . وقصة (يوسف عليه السلام وقصة (ليلى والمجنون) وغيرها كثير. . ويميز المثنوي عن غيره من الأشعار وجود القافية بين شطري كل بيت من أبيات المنظومة؛ ولا يشترط اتحاد الأبيات في القافية إذ يكفي أن يكون شطرا

ص: 21

البيت مقفيين.

ولشعراء الأتراك آثار شعرية كثيرة جرت مجرى المثنوي. وقد امتاز شعراء هذا الدور بتعصبهم لنظم المثنوي. فلا نكاد نرى شاعراً إلا وشغل نفسه بهذا النوع من الشعر.

وأول من اشتهر منهم في نظم المثنوي (مصطفى شيخ أوغلو) صاحب المثنوي المعروف (خورشيد نامه) ومترجم كتاب (كليلة ودمنة) إلى اللغة التركية. وقد عاش هذا الشاعر في عصر السلطان يلدبرم بايزيد. وكذلك الشاعر المشهور (عاشق باشا)(سنة 1272 - 1333) وقد اشتهر بمؤلفه (غريبنامه) في التصوف والأخلاق. وهو كتاب قيم يقع في اثني عشر ألف بيت من الشعر، في أوله مقدمة فارسية تتبعها قصائد تركية في نعت الإله ومدح الرسول ووصف المشاهير من المسلمين ثم يليها أبواب الكتاب العشرة، وكل باب مقسم إلى عشرة فصول تتضمن ملاحم شعرية مختلفة في وصف الجنة والجحيم والدنيا والآخرة والسماء والأرض والعناصر الأربعة في تكوين الحياة. . . الخ

ومن شعراء هذا الدور، (كلشهري) وقيل إنه عاش قبل (عاشق باشا) بمدة. له منظومة مترجمة من كتاب (منطق الطير) للشاعر الفارسي (عطار).

احمدي:

ويعد زعيم الشعراء في عصره. ولد سنة 1224م في مدينة (كوتاهيه) أو في مدينة (كرميان) من ولاية (بروسه) وذلك في سنة 735 هـ حسب ما ذكره طاشكبري زاده، كما وأن لطيفي صاحب تذكرة الشعراء ذكر أن مسقط رأسه هو مدينة سيواس حيث درس فيها العلوم وارتحل بعد ذلك إلى القاهرة، وكان يتردد هناك على مواطنيه حاجي باشا الذي اشتهر في الطب ومولانا محمد شمس الدين الفناري. وعند عودته إلى وطنه الأصلي التحق بخدمة أمير كرميان.

وأدرك احمدي غزوة تيمورلنك في البلاد العثمانية وحظي عند هذا الطاغية وأصبح نديماً له. ويروي عنهما لطائف كثيرة، وقيل إنه لم يعجبه البقاء عند تيمورلنك فالتحق بخدمة الأمير سليمان من أبناء السلطان يلدبرم بايزيد، وظل يصاحبه حتى مات السلطان فعاد احمدي إلى أماسيه.

واحمدي شاعر مبدع، وأهم ما يمتاز به هو إدخاله المواضيع الدنيوية في الأدب التركي

ص: 22

الغربي. ويعتبر كتابه (اسكندر نامه) أول مؤلف تركي قصصي بأسلوب الملاحم، فقد وصف فيه حروب الملك اسكندر المقدوني في (8250) بيتاً من الشعر ويتضمن هذا الكتاب آراء فلسفية طريفة وأبحاثاً في الطب قيمة. ولاحمدي ديوان نفيس ضم مجموعة من أشعاره في القصائد والغزل، وله منظومة بعنوان (جمشيد وخورشيد). وهي مثنو يحتوي خمسة آلاف بيت من الشعر. وقد عثر على هذا الكتاب قبل عشر سنوات وبضع سنين الأستاذ نهاد سامي وحققه مع كتاب آخر لاحمدي هو التاريخ العثماني فنشرهما في مجلد سنة 1939.

أدب السلاطين:

ويعد السلطان عثمان غازي مؤسس الدولة العثمانية أول من نظم الشعر بين السلاطين. له منظومات شعرية بديعة في الحماسة.

وهناك سلاطين كثيرة اشتغلوا في ساحة الأدب منهم السلطان بايزيد الثاني والسلطان مراد الثاني من شعراء هذا الدور، ويعد الأخير أول سلطان عثماني جمع أشعاره في ديوان خاص. ويعتبر السلطان محمد الفاتح أثقف سلطان عثماني على وجه الإطلاق. فقد كان هذا السلطان يجيد، بالإضافة إلى اللغة التركية، اللغات العربية والفارسية (وله فيهما أشعار) والعبرانية ولغة الصرب. وقيل إنه تعلم اللغتين اليونانية واللاطينية أيضاً، وهو شاعر مجيد، اختار له في الشعر اسم عوني مخلصاً.

وكان السلطان بايزيد الثاني، ابن السلطان محمد الفاتح، شاعراً وعالماً. وكذلك كان أخوه السلطان (جم) شاعراً مبدعاً له مكانة مرموقة في الأدب التركي. وأشعاره في غاية من الرصانة. . وكلها في الحزن. . فقد لاقى السلطان في حياته أنواعاً شتى من الهموم وألواناً مختلفة من العذاب بما لا يتحمله الإنسان. . لقد دب دبيب الفساد بينه وبين أخيه على السلطنة فأغواهما الشيطان حتى تقاتلا، وقدر له ولجيشه أن ينهزم. ففر إلى أوربه، ووقع بيد البابا الذي وعده خيراً، ولكنه لم يف. فلقي السلطان حتفه من كأس هيئت له وفيها سم مميت.

ووقائع هذا السلطان مشروحة في المصادر التاريخية بكل اهتمام. ولهذه الوقائع علاقة وطيدة بشعره، فهو يصف به آلامه ومصائبه بأسلوب عاطفي فياض يبعث في النفوس

ص: 23

الألم، ويحدث في القلوب كلوماً لا تلتئم.

مميزات هذا الدور

ذكرنا أن هذا الدور كان قد امتاز بكثرة ما نظمه الشعراء من المثنوي ووفرة ما أنتجه رجال الفكر والأدب من الملاحم والقصص. ونضيف إلى ذلك بعض المميزات الأخرى. وأول ما يبدر إلى الذهن في هذا الخصوص هو ما نلحظه من الاهتمام الشديد بالأدب الشعبي والعناية البالغة به. وقد ظهر شعراء سلكوا مسلك الصوفي المعروف الشاعر الشعبي (يونس أمره)؛ منهم (سعيد أمره)؛ من منتسبي الطريقة البكتاشية. . و (تايغو سز آبدال) الذي عاش في دور السلطان مراد الثاني. . و (حاجي بايرام) مؤسس الطريقة البايرامية في الأناضول. . . و (أشرف أوغلو) المتوفى سنة 1469م وغيرهم من الشعراء الذين كانوا متأثرين بأدب (يونس أمره) وبأسلوبه في الشعر.

وإن من أهم ما يختص به الأدب الشعبي في هذا الدور نشوء القصص الحديثة. وقد ظهرت هذه القصص تحت عنوان (حكايات دره قورقوت). وهي تعتبر كنزاً ثميناً للأدب التركي، وقد كتبها أحد الشعراء بلغة تركية سليمة وبأسلوب ممتع جذاب، مصوراً الحياة الاجتماعية والأخلاقية عند الأتراك في العصور القديمة تصويراً بديعاً؛ فيحدثنا فيها عن الحياة العائلية وعن العلاقة الزوجية، وعن موقف الأولاد من الأسرة، وكذلك يبحث لنا عن النواحي الثقافية والأدبية بصورة عامة.

ويمتاز هذا الدور من تاريخ الأدب التركي بنمو الأدب الجغتائي وتكامله. ولقد سبق أن رأينا أن الأدب التركي كان قد تفرع إلى فروع رئيسية ثلاثة: العثماني والآذري والجغتائي. وكلها آداب متشابهة من حيث الروح والجوهر، وإن كانت مختلفة في الشكل والمظهر. فنجد أنها جميعاً تنتظم تحت قواعد معينة وقيود متشابهة. فالأشعار في هذه الآداب التركية الثلاثة بأوزانها وأساليبها ومقاييسها ومفاهيمها متجانسة ومتشابهة إلى حد بعيد، وإنما الاختلاف كان في الألفاظ والحروف وفي قواعد اللغة وتنوع اللهجات في البلاد.

وامتاز الأدب الجغتائي في هذا الدور بنمو الوعي القومي بين شعرائه. وكانت فكرة القومية عندهم تستند على أسس علمية قوية وعلى مبادئ أخلاقية متينة. ويعد الشاعر (علي شير نوائي) من أعاظم الشعراء الذين قاموا بتمثيل الأدوار الرئيسية لتلك الحركة. فقد سجله في

ص: 24

كتابه الموسوم: (محاكمة اللغتين) ألفه في المفاضلة بين اللغتين التركية والفارسية، وترجيح الأولى بعد مقارنة دقيقة على الثانية. فنراه يذكر في هذا الكتاب على سبيل المثال مئات الألفاظ التركية التي يندر العثور على مرادفاتها في اللغة الفارسية. . بل ويتعذر على الفارسي أن يعبر عن معاني تلك الألفاظ من دون أن يلجأ إلى استعمال عدة كلمات مقابل لفظة تركية واحدة. . ونراه بعد ذلك يخلص لنفسه برأي خاص وهو أن اللغة التركية أوسع مادة من الفارسية وأغزر منها مورداً.

وعلي شير نوائي عالم وأديب وشاعر قدير. نظم الشعر في اللغتين، وكان فيهما مبدعاً مجيداً. ولقد ذهب البعض - على خلاف الأكثرية - إلى أن علي شير كان فارسياً. ولنا فيه رأي نبديه في عدد قادم من الرسالة.

وبقدر ما كانت فكرة الميل إلى اللغة التركية ظاهرة بين الشعراء الجغتائيين في ذلك الدور، فإننا نتلمس آثار هذه الفكرة في كلام الآخرين من الشعراء بوضوح. وفي كتاب (غريبنامه) وقد أشرنا إليه في أعلاه، أشعار يستدل منها على أن صاحبها كان متحمساً للأدب التركي واللغة التركية، حيث يبدي أسفه على وضع اللغة وحالة الترك بقوله:

تورك ديلنه كيمسنه باقماز أيدى

توركلره هركز كوكل آقماز أيدى. . . الخ المنظومة.

بمعنى أنه لم يكن هناك من يهتم باللغة التركية ويبالي بها. ولم يكن كذلك من يعطف على الأتراك ويبدي لهم الحنان.

شيخي ونجاتي

وهما من مشاهير الشعراء الذين عاشوا في نهاية هذا الدور. ويعتبران بحق من مؤسسي الشعر العثماني في القرن الخامس عشر الميلادي. لا يعرف تاريخ ولادتهما على وجه التحقيق. وقيل إن الأول، واسمه الحقيقي سنان، توفي سنة 1429م، والثاني، واسمه عيسى، توفي سنة 1508م. وكان شيخي متصوفاً سلك طريقة (حاجي بايرام ولي) وله مثنو منظوم بعنوان (خسرو شيرين) وآخر يدعى (خرنامه) ويتضمن نصائح وإرشادات على لسان الحيوانات. وله ديوان حققه الأستاذ (علي نهاد) ونشره في سنة 1934 - 1936. كما وقام مؤتمر اللغة التركية بطبعة في سنة 1942. ولنجاتي ديوان يضم أشعاره

ص: 25

كلها، وليس له أثر غيره. وقد اشتهر هذا الشاعر بعد إسلامه إذ كان نصرانياً ووقع أسيراً بيد الأتراك فأسلم واقترب من السلاطين وحظي كثيراً عند بايزيد الثاني. وصاحب أحمد باشا وزير السلطان محمد الفاتح، وكان هذا الوزير من الشعراء البارزين.

وهناك غيرهم من الشعراء أمثال جمالي ونظامي وخليلي والشاعرة زينب خاتون والأديبة الفاضلة مهرى هانم، ممن عاشوا في القرن الخامس عشر الميلادي وتركوا آثاراً شعرية كثيرة.

أدب المولد

قلنا إن هذا الدور من الأدب التركي تميز بكثرة التآليف الدينية والمنظومات الأخلاقية، وقد أشرنا إلى البعض منها في هذا المقال. ولعل أهم حادث أدبي ظهر في نهاية هذا الدور هو ما استحدثه الشاعر الديني العظيم (سليمان جلبي) المتوفى سنة 1421م بتأليفه المنظومة المعروفة في مدح الرسول (ص) وسيرته المسماة بـ (مولد). وهي منظومة لها قيمتها الكبرى في الأدب التركي. لحنها أهل الفن وتغنوا بها زمناً. ولا يزال الأتراك يتغنون بها في ذكرى المولد النبوي من كل عام، ويرددونها في إقامة المناقب النبوية في بعض الأوقات والمناسبات. وقد امتازت هذه المنظومة النفيسة بروعة النظم وطراوة الموضوع. ويعتبر أسلوبها مثالاً واضحاً للأسلوب السهل الممتع. وهي بهذا الاعتبار تعد بمثابة قصيدة البردة للبوصيري. وقد ألفها صاحبها في سنة 1409م إثر واقعة أثارت في نفسه الغيظ فأبدع في النظم؛ فجاء أثراً رائعاً لا يضارعه فيه أحد. وقد قلده شعراء كثيرون لم يبلغ أحد شأوه حتى اليوم.

عطا الله ترزي باشي

-

ص: 26

‌جوته

حياته وكتبه

للكاتب الألماني توماس مان

للأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت

عندما دقت الساعة الثانية عشرة في الثامن والعشرين من أغسطس سنة 1749، ولد في بيت نبيل من نبلاء فرانكفورت طفل شاحب اللون تبدو عليه علائم الموت بعد شدة مضنية من أم تبلغ الثامنة عشرة. . . لم تمض بضع دقائق على ذلك حتى نادت الجدة التي كانت قابعة على الفراش. . (اليزابيث، إنه حي!).

كانت هذه الصرخة، صرخة امرأة إلى أخرى، وكان الصوت صوتاً رقيقاً فيه المرح والفرح وفيه البشرى والحبور. إن الطفل الذي اجتاز البوابة السوداء محتقناً ضعيفاً، كان مقدراً له أن يقضي حياة فيها جلالة الوجود وعظمته. مضى على ذلك ثلاث وثمانون سنة تقلبت عليه صفحات من التاريخ تحته ومنها حرب السبع سنوات، ونضال أمريكا في سبيل الاستقلال، والثورة الفرنسية، وقيام نابليون وسقوطه، وانحلال الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وانبثاق فجر العصر البرجوازي.

هذا الشيخ الذي تعاقبت عليه كل هذه الحوادث، يقف أمام منضدته برأسه الأشيب وثباته والحلقات الغريبة من عمره المديد تضفي ظلالاً على عيونه السنجابية وتكسبها معنى خاصاً وهو يكتب آخر رسالة إلى صديقه القديم، الفقيه والسياسي (ولهلم فون همبولدت) في برلين فيقول في سياق رسالته (العبقرية هي تلك الموهبة التي تتشرب كل شيء دون أن تسيء إلى مقدراتها الأصلية. . وبالممارسة والتعلم والنجاح والتأمل والفشل - وبالتأمل أكثر فأكثر - تمتلئ أعضاء الإنسان بحريتها الغريزية إلى أن توحد المكتسب بالكامل لتنتج وحدة منسجمة تدهش العالم. المخلص غوته. .) وما كادت تمضي على وفاة جوته أيام قليلة حتى كتب فون همبولدت صاحب الشخصية الوهاجة الصريحة. . كتب معلقاً بأن هذا الإنسان أثر تأثيراً لا شعورياً وبمجرد وجوده فقط وبدون مشقة بما يحيط به وقال (إن هذا التأثر منفصل كل الانفصال عن عمله الإبداعي كمفكر وككاتب، ومرجع ذلك إلى شخصيته

ص: 27

العظيمة وعبقريته الفذة. إن شخصية كهذه هي التي تمكنت بقوتها الخاصة من جذب أنظار العالم إليها بصورة مدهشة، فكأن الطبيعة شاءت أن تظهر فيه سراً من أسرارها العجيبة). وقد عرض جوته يوماً من الأيام إلى ذلك بقوله (إن العوائل التي تستمر طويلاً في وجودها تبدع قبل انقراضها شخصاً يجمع كل ميزات أجداده بالإضافة إلى العواطف والمطامح الكامنة التي ظلت خافية عن الأنظار) ويعني هذا بمفهومنا العصري أن جوته لا يقصد من ذلك إلا نفسه. ولنا أن نتساءل وكيف حدث ذلك؟ وما يعني الاندماج في الحقيقة؟ إن جميع ذلك حدث - وما يزال يحدث - بصورة عفوية بسيطة، وكثيراً ما امتزجت عوائل وتزاوجت، وهذا التزاوج والتمازج يبدوان جليان فيما لو لاحظنا ما يحدث بين ممتهني الحرف المختلفة من كافة العوائل والطوائف والملل، ولنا في عائلة (لند هايمر) التي تصاهرت مع عائلة (تكستر)، مثال واضح لعائلة نزحت من فرانكفورت التي هي في جنوب ألمانيا، واتصلت بعائلتي غوته وتكستر، اللتين تسكنان في الشمال ما بين غابة ثورجينيا وجبال هارس. إنني أعتقد شخصياً أن عرق لند هايمر ينتسب بصلات قوية إلى الرومان - أي إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط - كما أن لها نسباً بالعروق البربرية التي امتزجت بها من زمن بعيد، وأن هذه العائلة كان لها التأثير الحاسم في تكوين طبيعة الشاعر العظيم، فقد ورث عن أمه - التي هي من هذه العائلة - والتي كانت قوية البنية، واضحة الملامح رقيقة المزاج، سمراء اللون، ورث منها - اعتماداً على الصور التي في حوزتنا - جبهته وشكل رأسه، واتجاهاته الفكرية الكلاسيكية، ورغبته في الأسلوب الجلي الواضح، وروحه المرحة، وسخريته، وجاذبيته، ونقداته، وكراهيته للطبيعة الألمانية، ومع ذلك فأن الطبيعة الألمانية كان لها تأثير غير منكور فيه يتبين ذلك من هدوئه ونقده الرائعين اللذين يمتاز بهما الألمان، أما من الناحية البايولوجية، فقد كان هذا الاتحاد العائلي مقدراً له أن ينتج هذه الظاهرة الملائكية. كان جده خياطاً يدعى فردريك جورج غوته، وكان فاشلاً في أعماله، تزوج مرتين ومات أكثر أولاده الأحد عشر في سن الطفولة إلا ثلاثة وأكبرهم كان مختل العقل، مات في سن الثالثة والأربعين مجنوناً لا رجاء فيه. أما والد الشاعر جوهان كاسبر، فقد كان العاشر لأبويه، وأصبح قاضياً يلقب بـ (المشاور الإمبراطوري) وكان هذا رجلاً شرساً مغضاباً يعيش في عزلة عن الناس، ولم يقم بواجب وظيفته مطلقاً،

ص: 28

وأما زوجته (اليزابيث) فقد ولدت له ستة أطفال، عاد منهم أربعة إلى عالم الظلال مبكرين، وبقيت أخت (وولف كانغ)، فرناليا، وكانت تعسة كئيبة، وكان الأجدر بها أن تكون راهبة من أن تكون زوجة كما قال أخوها، ومع ذلك فقد تزوجت لكي تموت في أيام نفاسها، تلك الأيام التي كانت تنظر إليها بعين ملؤها المقت والكراهية. وهكذا عاش (وولف كانغ) وحيداً فريداً، وقد تمكن أن يعوض بحياته المديدة عن حياة الجميع، ولكن حياته الأولى كان يعوزها الصحة كما كان الحال مع الآخرين، فداهمه السل طوال حياته الجبارة، ذلك المرض الخبيث الذي كان كامناً من سنين كثيرة في أعماقه، على أن هذا المرض لم يمنعه من الدراسة ودليل ذلك التحاقه بمدرسة (لنبرغ). وقد تألم كثيراً من النزيف الذي كان يعاوده بين حين وآخر مما اضطره إلى العودة إلى بيته شاباً مهيض الجناح، فاشلاً في دروسه ليزيد في آلام والديه. ولكن ذلك لم يدم طويلاً، لأن قواه عادت إليه في (ستراسبورغ) ما بين سن العشرين والثالثة والعشرين، حيث أكمل دراسته الحقوقية وسط صعوبات هائلة، وبعد أن تراجع عن منهاجه الذي رسمه لنفسه، وأخيراً حصل على الليسانس من كلية (وتيسلر - آن - ديرلاهن).

اشتغل الشاعر مدة من الزمن في المحاكم الإمبراطورية بصورة رتيبة، وبدون أي رغبة، وهكذا نراه لم يعمل شيئاً يستحق الذكر، غير انهماكه في الحب والتألم والأحلام والكسل، وغير تركه لروحه لتنمو نمواً حراً بديعاً في عوالم الأحلام. لقد كان يجذب إلى نفسه، بأسلوبه الخاص في لباسه وعاداته وتقاليده، يجذب إليها سخرية الناس وضحكهم واستهزاءهم، إلا أن ذلك لم يكن يؤثر في جاذبيته المشعة، وشبابه النادي، وتباهيه وخيلائه، كما أن موهبته الإشعاعية التي كانت تظهر بصورة جلية، كانت تنز بالقوة الجبروتية والروح المتعالية الوحشية، على أن هذه الروح تأنست بسذاجته التي لا توصف، وطيبته الحلوة وشبابه الغض البهي. كان رائع الجمال، وصديقاً حميماً للأطفال وللناس العاديين، لا بل أنه كان صديقاً للطبيعة نفسها، وكان في نفس الوقت (يشبه العصفور في تنقلاته وتجواله) كما حدثنا بذلك الشاعر هردر (كان سيداً عالي الجناب، ولكن بأرجل ضعيفة كأرجل الديك). وقد كتب غوته يوماً عن نفسه قائلاً: (أنا لا أعرف ما هو نوع التأثير الذي يكمن في، والذي يجذب الناس إلي، إن أكثر الناس تحبني، ولا طاقة لي بمعرفة ذلك).

ص: 29

ولابد أن هذا التعلق كان في أوجه عند بلوغ شاعرنا السادسة والعشرين، وخصوصاً لما أصبح مؤلفاً ذائع السيط، وناظماً لقصائد بارعة الجمال، ومن هذه المؤلفات كتابه (برلنكن) و (فرتر) وقطع شعرية أخرى من قصيدة (فاوست). إن جميع ذلك جعل من دخوله إلى (وايمر) نصراً رائعاً له، حيث ضمه إلى حاشيته دوقها الصغير، وكان غرضه من ذلك زيارة للمدينة ليس إلا. إن هذه الزيارة طالت حتى شملت كل حياته. وإذن فدخوله إلى (وايمر) والتحاقه بالوظيفة فيها كان مجرد صدفة، هذه الصدفة التي خدمت خطته النفسية، والتي أسماها (القيادة من أعلى).

اتصل جوته بالأمير (كارل أوغست) في (كارلز روهه)، يتوسط اثنين من الأرستقراطيين المعجبين به. وخطب هناك (ليلي شون مان) ابنة أحد نبلاء (فرانكفورت) ولكن خطوبته هذه لم تكن مستندة على حب أو افتنان، لأن الخاطب الصغير كان تعيساً جداً في أعماق قلبه، على ما حدث له من خبال كاد يمنع نفسه النقية من أن تقوم بواجبها، فاضطره ضجره إلى الهروب، فهرب إلى سويسرا بصحبة نبيلين متحمسين له، وكان قلبه يصرخ من أعماقه (يجب علي أن أذهب إلى العالم) وكان لصوته هذا صدى عميق في كتاباته، أما الصوت الذي تجلت فيه هذه الصرخة، فقد كان صوت عمله الحبيب، حياته التي كانت في أوج جاذبيتها وكمال نضجها، هذا الصوت الذي تكلل بالجمال والجلال، والعظمة الحقة، إنه صوت فاوست الذي أريد له أن يظهر في عالمنا هذا ذي الشئون والشجون، بصورة باهرة عذبة، جميلة رائعة فخمة.

وقع كارل أوغست في حبائل الحب مرتين، الأول تعلقه بالأميرة لويزا من (دار مستاد) والثانية مع الدكتور غوته نفسه، ولما تلاقيا كان كارل أوغست متزوجاً وأميراً ذا نفوذ وسطوة، فوضع كلاً منهما - أي لويزا وغوته - تحت رعايته وكانت عاصمته الصغيرة (مانيتز) ومن حولها القرى مسرحاً للصيد والفروسية، وقد بلغ بشاعرنا السرور غايته القصوى، إذ كان يتمتع بالجاه العريض والنفوذ الواسع، وبمصادقته وحبه للمتعلقين به كان يضفي عليهم شخصيته وشرفه وعظمته، حتى أصبح ذلك كله مدعاة لكراهيته!

يتبع

بعقوبة - العراق

ص: 30

يوسف عبد المسيح ثروة

ص: 31

‌إسماعيل بن القاسم

المعروف بأبي العتاهية

للأستاذ محمد الكفراوي

حبه الفاشل ومدى تأثيره على حياته

أوضحنا في المقال السابق مدى تأثير بيئة شاعرنا على شخصيته، وانتهينا إلى أنها قد غرست في نفس الشاعر عدة أمراض نفسية؛ أهمها التشاؤم والشعور بالضعة والنقمة على الأغنياء، ووعدنا أن نفصل القول اليوم في شأن ذلك الحب الفاشل الذي زاد حياة الشاعر تعقيداً وأدى إلى تمكن تلك الأمراض الاجتماعية من نفسه.

وقصة ذلك الحب تبدأ برحلة الشاعر إلى بغداد طالباً للشهرة، فقد كان يرجو أن يصل ذكره إلى سمع الخليفة المهدي عسى أن يعجب به ويستدعيه لإلقاء الشعر بين يديه. ولكن أنى له ذلك وهو شاعر ناشئ مغمور! لقد هداه شيطانه إلى أن يتغنى في إحدى جواري القصر، راجياً أن يدفعها الغرور وحب الظهور إلى ترديد ذلك الشعر في قصر الخلافة ولفت نظر المهدي إليه.

ونحن لا نشك في أن المصادفات لعبت دوراً خطيراً في حياة الشاعر فجمعت بينه وبين جارية ماكرة طموح من جواري الخليفة، وقد كانت في نفس الوقت تبحث عن مثل ذلك الشاعر الناشئ المغمور لحاجة في نفسها، تلك الحاجة هي التغني بجمالها وسحرها في شعره، وغايتها من ذلك لا تكاد تخفى على كل من له خبرة بشؤون ذلك العصر. فقد كانت الجواري إذ ذاك مطمح الأنظار، ويكفي لتأكيد تلك الدعوى أن نعرف أن الخيزران زوج الخليفة المهدي وأم الهادي والرشيد كانت من بين أولئك الجواري، ولم يقف بها سعد الطالع عند ذلك؛ بل استطاعت أن تجعل من بنات أخيها وأختها زوجات للهادي والرشيد. وليست الخيزران بفريدة في ذلك الشأن، فقد أقبل الخلفاء على الإماء إقبالاً شديداً حتى أن الرشيد قد أنجب من نحو عشرة منهن، وناهيك بمن لن ينجب منهن. والدرس الذي يمكن أن تتعلمه الجواري من مثل تلك الحال غير خفي، فلم يكن يعوز إحداهن لكي تصبح صفية أحد الخلفاء أو زوجة إلا أن تلفت نظره إليها بوسيلة من الوسائل. فما الذي يمنع عتبة والحال

ص: 32

كذلك أن تتقبل بصدر رحب غناء أبي العتاهية وإشادته يذكرها. . وهل هناك وسيلة للفت الأنظار إليها أيسر من شعر الغناء؟

هكذا بدأت علاقة الشاعر بعتبة كل منهما يحاول استغلال صاحبه لمصلحته الخاصة. ولكن العلاقة بينهما لم تقف عند ذلك الحد المادي. فعتبة يسرها ويرضي كبرياءها أن يكون الهائم بها المشغوف بحبها ذا مظهر حسن حيث أن قدرها وخطرها يرتفعان بقدر ما يرتفع قدر المعذب في سبيلها. . على حين كان شاعرنا ما يزال فقيراً مغموراً. وقد كان علاج ذلك عندها أن خلت بالشاعر يوماً من الأيام وأبدت اهتمامها بشأنه وناولته بضع مئات من الدنانير كي يرفع بها مستواه؛ وذلك بشراء ملابس فاخرة وحمار وما إلى ذلك.

وقد كان هذا مبدأ تحول خطير في نظرة الشاعر إلى عتبة؛ فلم تعد صلته بها نوعاً من عبث الشباب أو وسيلة إلى تحقيق ربح عادي، ولكن حباً شريفاً عميقاً فهي في رأيه ذلك الملاك الرحيم الذي لا يبادله حباً بحب وإخلاصاً بإخلاص فقط، بل يشفق عليه ويفكر في أمره ويسعى إلى رفع مستواه المادي والأدبي. . فكيف لا يحبها إذن ويسرف في حبه لها. أما عتبة فلا تزال حيث بدأت ولا يزال طرفها متعلقاً بالخليفة أو أحد أمراء البيت المالك، ولا يزال أبو العتاهية في نظرها ذلك الشاعر المغمور الذي لا يجيد شيئاً ولا يصلح لشيء إلا التغني بجمالها والعذاب في سبيلها. وقد اتبعت معه سياسة ماكرة ملتوية المراد بها إطالة تعذيبه وهيامه، وذلك بأن تدنيه وتقربه وتعده وتمنيه كلما اشتد به اليأس منها وعزم على نفض يده من شأنها. . ثم تمهله وتتغافل عنه كلما اشتد هيامه بها وإلحاحه عليها. . وأشعاره تمثل لنا الحالين. وإذا شئت فاستمع إليه وقد طلبت صراحة أن يتغنى بحبها حتى يعرفه القاصي والداني:

أعلمت عتبة أنني

منها على خدر مطل

وشكوت ما ألقي إليه

اوالمدامع تستهل

حتى إذا برمت بما

أشكو كما يشكو الأقل

قالت فأي الناس يع

لم ما تقول فقلت كل

أو شئت فاستمع إليه إذ يشكو هجرها له:

بخلت علي بودها وصفائها

ومنحتها ردي ومحض صفائي

ص: 33

فتخالف الأهواء فيما بيننا

والموت عند تخالف الأهواء

فإذا أضفنا إلى ذلك ما بدأت به من إعطائه قدراً عظيماً من المال مظهرة عنايتها به وما انتهت إليه من رفضها الزواج منه رفضاً باتاً رغم توسط الرشيد. . ازددنا يقيناً بصحة ما ذهبنا إليه من أنها لم تكن جادة ولا مخلصة في حبها له.

وقد كان من نتائج ذلك السلوك المضطرب أن ساءت العلاقة بين الشاعر والمهدي؛ فقد كان من الضروري لعتبة أن تقدم لأبي العتاهية سبباً معقولاً لترددها في أمر الزواج وأدبارها عنه كلما أقبل عليها. ولم يكن من العسير عليها أن تدعي أنها إنما تفعل ما تفعل خوفاً من إثارة غضب الخليفة وزوجه اللذين كانا يحرصان على بقائها في خدمتهما وانقطاعها إليهما. وازداد الطين بلة حينما أبرق الخليفة وأرعد على أثر سماعه شعراً لأبي العتاهية يعرض فيه بعتبة ويقحم الخليفة في أمره:

ألا إن ظبياً للخليفة صادني

ومالي على ظبي الخليفة من عدوي

وما كان من الخليفة إلا أن جلده وسجنه ثم نفاه إلى الكوفة؛ بل كاد يقتله بتهمة الزندقة لولا أن تدخل يزيد بن منصور خال المهدي لمودة كانت بينه وبين الشاعر.

كان من الطبيعي أن ينقم الشاعر على المهدي الذي أيقظه من حلمه الجميل على صوت السياط وهي تلهب ظهره وتفري جلده. وهنا أخذت تجارب الشاعر في طفولته وبغضه للسادة والأمراء تستيقظ في نفسه، أليس الخليفة أحد أولئك الأمراء القساة الطغاة بل قائدهم وقدوتهم فيما يفعلون؟ ألم يتخذ من سلطانه أداة للعدوان على شاعر بائس طموح لا جريرة له إلا أن أحب فتاة وأحبته؟ ألم يلصق به ذلك اللقب البغيض الذي وجد فيه منافسوه من الشعراء مادة خصبة للعبث به ومن ذلك قول والبة ابن الحباب: -

كان فينا يكنى أبا اسحق

وبها الركب سار في الآفاق

فتكنى معتوتها بعتاه

يالها كنية أتت باتفاق

وإذن فلا سعادة ولا استقرار للشاعر ولا للضعفاء من أمثاله حتى تبيد تلك الطائفة الطاغية المفسدة التي تتمثل في الخليفة ومن حوله من سادة وأمراء وقواد.

وهكذا كان حبه الفاشل سبباً من أسباب تغلغل حقده على ذرى الجاه والنفوذ في عصره على نحو ما سنبينه بعد.

ص: 34

وقد قضى الشاعر بقية أيام المهدي صامتاً عن عتبة لا يكاد يذكرها بشيء خوفاً من الخليفة. وما كاد الأخير يقضي نحبه حتى شعر أبو العتاهية بالأمن بعد الخوف والفرج بعد الضيق كما يصوره قوله: -

مات الخليفة أيها الثقلان

فكأنني أفطرت في رمضان

وقد ذهب بعض النقاد إلى أن الشاعر إنما يعبر هنا عن أسفه لموت الخليفة وأنه إنما يشعر بما يشعر به كل من أفطر عمداً في رمضان. . ولكن هذا في نظرنا تأويل بعيد كما أنه يناقض تلك الأبيات المشهورة التي قالها أبو العتاهية في موت المهدي والتي تبدو فيها روح الشماتة الوضيعة. قال الشاعر مشيراً إلى جواري المهدي: -

رحن في الوشى وأصبحن

عليهن المسوح

كل نطاح من الدهر

له يوم نطوح

نح على نفسك يا مسكين

إن كنت تنوح

لتموتن وإن عمر

ت ما عمر نوح

يتبع

محمد الكفراوي

ص: 35

‌أثر المدرسة المصرية في الثقافة

للأستاذ ثروت أباضة

- 2 -

ويعقب عنصر معرفة الجهل حب المرء للعلم أو الفن، وهذا الحب يكون وليد البيئة أو الصدفة، فكثيراً ما نرى شعراء لم يتلقوا في المدرسة علوماً، بل إن الشعراء الأقدمين جميعاً لم يعرفوا سبيلاً إلى المدرسة، وإنما هي الملكة والثقافة الحرة. وهكذا الشأن أيضاً مع القادة الأول الخالقين للنظريات العلمية الجليلة الأثر في الحياة العصرية، وأذكر منهم أديسون واستيفنسون.

يلي ذلك الصبر والمثابرة، إذ لابد للمثقف أن يقرأ ويكثر من القراءة، بل لابد أيضاً أن يصبر الإنسان نفسه فيقرأ ما لا يسيغه ليصل إلى ما يريد، فمن الأدباء مثلاً من لا يحبون النحو ولكن لا غنى عنه لاستكمال ثقافتهم الأدبية. ومن رجال القانون من لا يحبون علم المالية العامة مثلاً أو القانون الروماني، ولكن لابد لنا مما ليس منه بد، فهم يقرأونه بل ويدرسونه ليتموا ثقافتهم القانونية، هذا هو الصبر الذي أعنيه.

أهم العناصر جميعاً هو العقلية. . هناك عقليات حديدية مهما تثقفت بقيت جامدة، فإنك لتجد كثيراً من العلماء في القانون مثلاً أو الطب لا يعرفون عن غير علمهم في الحياة شيئاً، وإذا جلست إليهم وتحدثوا في غير ما يجيدون وجدتهم إلى العوام أقرب ما يكونون، وأشبه شيء بالقلم الرصاص يراه صاحبه من ناحية واحدة لا يكتب إلا منها فإن أدرته في يدك صار خشباً.

ليس حتماً على المثقف أن يعرف كل شيء، ولكن حتم على من يريد أن يقال عنه مثقف أن يفهم، والفهم من الله هبة إذا لم يعطها لإنسان فحسبه وحسبنا معه الله ونعم الوكيل.

بعد هذا العرض السريع للثقافة والتثقيف دعونا نتوكل على الله ونذهب إلى أبواب المدارس والجامعات المصرية لنرى ما تصيب الثقافة من هذه البيوت التي يقول عنها شوقي الخالد. .

بيوت منزهة كالعتيق

وإن لم تستر ولم تحجب

يدانى ثراها ثرى مكة

ويقرب في الطهر من يثرب

ص: 36

إذا ما رأيتهمو حولها

يموجون كالنحل عند الربى

رأيت الحضارة في حصنها

هناك وفي جندها الأغلب

هكذا تصور أمير الشعراء المدرسة. . أتراه كان في هذه الأبيات شاعراً خيالياً أم شاعراً واصفاً. رحم الله شوقي لقد رسم المثل الأعلى للمدرسة وأرادها حصن حضارة وغاب جنود. . ترى هل مدارسنا المصرية هكذا؟ هل تعمل المدرسة المصرية على تثقيف تلاميذها والارتفاع بمستواهم العلمي والأدبي؟ وهل يتجه الجهد في هذه المدارس إلى العناية بهؤلاء التلاميذ حتى يصبحوا كما قال شاعرنا الخالد جند الحضارة الأغلب وحصنها المكين.

إنه مما يؤسف له حقاً أن الجواب (لا)، إن المدارس المصرية لا تعمل على هذا، وإذا كان لابد لنا من التفاؤل فلنقل إن أغلب المدارس المصرية لا تعمل على هذا حتى الآن.

فمدارسنا المصرية مازالت تسير على النظم القديمة في التربية وهي المعروفة باسم التربية التقليدية. وحسبكم أن تعرفوا أن طريقة وست لتدريس اللغة الإنجليزية هي أحد النظم التي أدخلت إلى المدارس المصرية، وطريقة وست هذه فيما وصل إلى علمي معمول بها منذ نصف قرن أو أقل قليلاً، أي أن أحدث تجديد حصل في طريقة التدريس بوزارة المعارف كان منذ خمسة وعشرين عاماً. وبعد هذه الحقبة الطويلة من السنين تألفت لجنة قائمة الآن تحاول أن تتحرر من هذه الطريقة مبقية على أجزاء يسيرة منها.

نظام التربية التقليدية إذن هو النظام السائد في المدارس المصرية، وهذا النظام من شأنه أن يتوجه بعنايته إلى المواد الدراسية، فنرى المدارس وقد أوسعتها تبجيلاً واحتراماً، ونرى التلاميذ ركعاً لهذه المواد سجداً يؤمهم في صلاتهم البوذية رائدوهم من الأساتذة والمربين، فالمادة العلمية هي السيد الذي لا يحفل بالميول الشخصية ولا يعبأ بالاستعداد الطبيعي، وإذا كانت المدارس في أصل نشأتها قد قامت ليستفيد منها التلاميذ بالمواد إلا أن المدارس نفسها قد رأت أن تستفيد المواد بالتلاميذ، ثم استقرت على رأيها فوجدت أن الأمر هكذا أهدى وأيسر سبيلاً. فليس من الضروري عندهم أن يتفهم التلميذ المادة ويفقهها، بل حتم عليه أن يجيب إذا سئل، وحق عليه العقاب إن سكت. بل لقد جرفهم هذا المذهب إلى ما هو أدهى من ذلك وأظلم، فالتلاميذ بناء على أوامر وزارة المعارف يطالبون فقط بما يلقى إليهم بين

ص: 37

جدران المدارس، فإذا راق لتلميذ ما أن يدرس في خارج المدرسة متزايداً في علم يميل إليه فإنه يمتنع عليه كل الامتناع أن ينطق حرفاً مما تعلمه في الخارج. وإليكم مثلاً: لي صديق ظل يكتب في نقد الشعر مدة ثلاث سنوات في كبريات المجلات الأدبية ثم نقل إلى التوجيهية، وكان ضمن المنهج المقرر عليه فصل في نقد الشعر، ولكن صديقي بما يملك الشباب من غرور استكبر أن يذاكر هذا الباب، فحين امتحن أثناء العام في النقد، نقد الشعر الذي عرض عليه بغير الألفاظ التي ينقدها به النص مستحدثاً بذوق أدبي سليم فأبى عليه أستاذه هذا، وسقط في امتحان نصف العام. قد تقولون أنه مثل فردي يستثنى من القاعدة العامة والاستثناء لا قياس عليه ولا يتوسع فيه - ولكنه يؤسفني كل الأسف أن أقرر أن هذا الذي تعدونه استثناء، هو القاعدة التي يتوسع فيها ولا يقاس إلا عليها، وبحسبنا نظرة إلى كتاب من كتب النقد التي تدرس في المدارس حتى اليوم، فإننا نجد بيتين مثلاً يعقبهما النقد الذي يطلب إلى التلميذ أن يقوله، موضوعاً تحت الأبيات، يلزمه أن يقول إن في البيت إطناباً وحشواً، وركاكة في التعبير، وضعفاً في المعنى، أو يقول: إن في البيت جزالة في التعبير، وطرافة في المعنى، والنقد فيما نعلم، ذوق وتذوق، وليس ألفاظاً ونصوصاً، ولكنه في وزارة المعارف، هو هذه الكلمات التي أسمعها لكم الآن، بحيث يأتي الامتحان في آخر العام، والممتحن ملزم أن يسأل التلميذ في نص من هذه النصوص المقررة، والتلميذ ملزم أن يجيب بهذه الألفاظ المكررة، فإن رأى في الأبيات رأياً غير رأي واضع النصوص، فهو لاشك ساقط، وأقول لاشك لا استنتاجاً، وإنما عن علم، فهكذا درس لي النقد، وهكذا درس لمن أعرفه من زملائي وأخواني، وهكذا يدرس الأدب في المدرسة، فهو علم محفوظات، لا ماء فيه ولا استرواح، يمسك الذهن فلا يطلقه ويحده، وكان من شأنه أن يفسحه.

ذكرت الأدب مثلاً لأنه الفن الوحيد الذي يستطيع المدرس أن يجعل منه شيئاً جميلاً في أذهان الطلاب، فإن كان هذا الفن يسام هذا الخسف، فما الخطب بالجغرافيا والتاريخ والكيمياء والطبيعة. . كلها علوم جامدة مستعصية، ولكن الطريقة التي تتبع في المدارس اليوم تزيدها جموداً واستعصاء، وأيسر مثال لهذا أنني اليوم لا أفهم من الكيمياء كلها إلا أن الماء يتكون أكسوجين وأيدروجين فيه 1، 2 أيهما الواحد وأيهما الاثنان، نسيت. أما باقي

ص: 38

المنهج الذي درسناه وهو ما يملأ كتاباً يقع في خمسمائة صفحة من القطع الكبيرة فأنا لا أعرف منه شيئاً، وأقول لا أعرف لا لا أذكر، ومع هذا فقد امتحنت في الكيمياء ونجحت لأنني - وأعترف - حفظتها على غير فهم، فما سلمت ورقة الإجابة إلى المراقب حتى سلمت معها كل ما كنت أحفظه. قد يكون غباء ما ألم به إزاء الكيمياء، غير أني أجد الكثيرين من الأذكياء يشاطرونني هذا الجهل.

العلوم أشياء جامدة ينفخ فيها المدرس من روحه فيهب فيها الحياة، ولا يهب الحياة إلا خالق، ولا يصل إلى مرتبة الخلق إلا من تكاملت مقوماته وتوثقت ثقافته، ولا يمكن لهذه المواهب أن تكتمل، ولا لهذه الثقافة أن تتوثق إلا لشخص اطمأنت له جوانب الحياة وارتاح في مجال حياته، وهدأ تفكيره فيما يرتزق منه. أما إذا أكبت عليه المطالب الدنيوية وعلا صراخ أطفاله في أذنيه وانسعرت من حوله الأيدي المطالبة، وانثنت عنه الأيادي الواهبة، فلا أمل لنا فيه وقد كان المدرس إلى عهد قريب لا ينال من العناية المادية ما يشجعه على المضي في أداء الرسالة الضخمة الملقاة على عاتقه، فإن كان قد أهمل أو تراخى فلا جناح عليه، وإذا كان قد قدر لواحد من هؤلاء المدرسين أن يتغلب على هذه المصاعب المادية بروح له سامية أو بمورد آخر يدر عليه شيئاً، إذا كان قد قدر له هذا فهو لابد قد اصطدم وما يزال يصطدم بشاهقة أخرى تمنعه أن يخرج بتلاميذه عما أمرت وزارة المعارف دون التلاميذ، وشروط الإرضاء سهلة ميسورة، فما عليه إذا أراد أن يرضي المفتش إلا أن يتبع أوامر الوزارة في إلقاء درسه بعد أن يجمل كراسة تحضيره، فإن نفذ هذا أصابه من الخير ما تتقاصر دونه شم الهمم، وما على المدرس إذا أراد أن يرضي الناظر إلا أن ينجح تلاميذه في امتحانات السنة الدراسية، فيصبح له المكان السامق الرفيع، أما إذا أراد أن يرضي ضميره، فهو سيغضب المفتش والناظر جميعاً، وما أظننا نقسو عليه فنطالبه بإرضاء ضميره المستخفي في أغوار نفسه، ليغاضب الرؤساء، ويغاضب بعضهم عيشه وحياته.

البقية في العدد القادم

ثروت أباظة

ص: 39

‌رسالة الأدب بين الأصفهاني والثعالبي

للأستاذ حامد حفني داود

- 2 -

لعلك بعد هذا العرض المنهجي - الذي أوضحته لك في المقال السابق - توافقني على أن الثعالبي كان مؤرخاً فنياً وأديباً لوذعياً، على حين كان الأصفهاني مؤرخاً استطرادياً يقصر جهوده عند سوق الأخبار وهو يكيلها لك بغير حساب أو منهج يرتضيه عرف الحدثين اليوم.

ولعل المقارنة بين الرجلين لا تقف بنا عند هذا القدر. فهناك جانب خطير أول ما يستلفت الباحث فيه سعة الأفق التي نلحظها في مؤلفات الثعالبي حيث لم يكتف بما اكتفى به الأصفهاني من مؤلفات لا تتجاوز مادة الأدب. يدلك على ذلك أنك لا ترى علماً من علوم العربية إلا وله فيه إصبع ومشاركة وجولات واسعة تميزه عن غيره.

صحيح أن الأصفهاني يشارك صاحبه في تاريخ الأدب ولكنه خالفه في الطريقة حيث لم يتجاوز هذا التاريخ الاستطرادي الصامت الذي ذكرناه. ولا نكاد نستثني من ذلك إلا شذرات اعترف له بها المؤرخون في (تاريخ النقد الأدبي).

فقد عاش الأصفهاني في عصر كان مليئاً بالأصداء النقدية، رسم النقاد خلاله خطوطهم الأولى في حياة النقد الأدبي. وقد كان ذلك عقب المعارك الأدبية التي دارت حول أبي تمام (231هـ) والبحتري (248هـ) من ناحية، وحول أبي الطيب المتنبي (354هـ) شيخ شعراء ذلك العصر، والصاحب بن عباد (315هـ) زعيم نقدة الكلام وحامل لواء الكتابة والبيان في النصف الثاني من القرن الرابع - من ناحية أخرى).

هاتان المعركتان الأدبيتان وأمثالهما في القرن الرابع خلقت جيلاً عظيماً من النقاد الذين حملوا لواء النقد ووضعوا الأسس الأولى في حياته العلمية؛ فكان من بينهم: أبو بكر محمد بن يحيى الصولي (235هـ) صاحب كتاب (أخبار أبي تمام) وأبو الفرج الأصفهاني (356هـ) والقاضي عبد العزيز الجرجاني (366هـ) صاحب كتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه) وأبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (371هـ) صاحب كتاب (الموازنة بين الطائيين) والصاحب بن عباد (385هـ) صاحب كتاب (الكشف عن مساوئ شعر

ص: 40

المتنبي) وأبو منصور عبد الملك الثعالبي (429هـ) صاحب كتاب (أبو الطيب المتنبي: ماله وما عليه).

وأنت تستطيع من هذا الثبت التاريخي في حياة النقد الأدبي أن تستشف الخطوط الأولى في حياة النقد وأن تكشف اللثام عن معالمه الكبرى، ولعلك ترى معي أن الأصفهاني - رغم ما نسب إليه المؤرخون من مشاركة في (النقد الأدبي) - لم يترك لنا سفراً مخصصاً في حياة النقد كما فعل معاصروه الذين ذكرناهم لك. وأكثر من هذا ترى أن الصولي الذي كان أسبق منه في الزمن قد ترك لنا ما يصح أن نعتبره دستوراً قديماً في تاريخ النقد وهو كتاب (أخبار أبي تمام). ومن ذلك نعلم أن القول بمشاركة الأصفهاني في تدوين دعائم النقد الأدبي قول أجوف لا يستريح إليه الباحث المحقق، وعلى العكس من ذلك فإنك ترى الثعالبي - وهو آخر من ذكرتهمفي ثبت النقاد - ترك كتاباً خاصاً في النقد هو كتاب (أبو الطيب المتنبي: ماله وما عليه) ومع أن الكتاب في جملته كان صورة معادة لما جاء به سلفه الصاحب بن عباد، ولكنه على أي حال كتاب مفرد أورد فيه صاحبه كل ما ذكره الصاحب في نقد المتنبي وأضاف إليه شذرات في تاريخ الحياة النقدية وما دار بين المتنبي والصاحب من عصبية كان لها الفضل الأكبر في خلق شطرين من النقاد: شطر يتعصب للمتنبي وآخر يتعصب للصاحب.

وإذا تجاوزت معي دائرة تاريخ الأدب ودائرة النقد انكشف لك ما كان محجوباً عليك من أمر الثعالبي وشخصيته العجيبة، ورأيت كيف كان الرجل يمثل عدة أجيال في جيل، ويصور عدة مدارس في شخص واحد.

ولعل أول ما يلفت الباحث منزلة الرجل في تاريخ البلاغة، فقد انقضى القرنان: الثالث والرابع والبلاغة لا تتجاوز في مؤلفاتها الخطيرة كتاب (البديع) لأمير المؤمنين عبد الله بن المعتز، وكتاب (نقد الشعر) للكاتب قدامة بن جعفر و (كتاب الصناعتين) لأبي هلال العسكري. فلما أن كان أواخر القرن الرابع ومستهل القرن الخامس وكان الثعالبي استظلت البلاغة في ظل المدرسة الأدبية المتحررة التي أسسها ابن المعتز منذ قرن ونصف من الزمن، وكانت علومها وقتئذٍ تسمى (البديع). وقد نضج البديع عند الثعالبي نضوجاً ملموساً واتسعت أبوابه عما كان عليه. فأنواع البديع التي كانت لا تتجاوز سبعة عشر نوعاً في

ص: 41

مدرسة ابن المعتز صارت في مدرسة الثعالبي خمسة وثلاثين نوعاً، شرحها الثعالبي في كتابه (روضة الفصاحة وبهجة البلاغة في علم البديع).

والثعالبي الذي أعتز بذاتيته في تاريخ الأدب لا ينساها حين يحدثك عن أنواع البديع، كما أنه لا ينسى أن يبدأ كتابه هذا بمقدمة فنية تناسب طبيعة المدرسة الأدبية التي كان يرأسها. وأنت تلمس ذلك حين يعرف لك الفصاحة والبلاغة، ويوضح الغرض منهما. وهو يسمى علم البديع - أو علوم البلاغة على حد تقسيمنا اليوم - علم الأدب. ويريد به الوسيلة التي تؤد بك إلى صناعة الأدب.

وهو لا يكاد يحقق هذه النهضة البلاغية التي شرحناها حتى يطالعنا بأخرى حين يضع كتباً مفردة في البديع، يجعل كل كتاب منها خاصاً بالحديث عن نوع معين من أنواع ذلك العلم.

من هذه الكتب كتاب (النهاية في الكناية) وكتاب (الإعجاز والإيجاز) وكتاب (المتشابه أو أجناس التجنيس). وتعتبر هذه الكتب في تاريخ البلاغة أول محاولة في الأبحاث البلاغية الخاصة أو المفردة في باب واحد من أبوابها. وأنت حين تقرأ الأخير منها تحس بروح النظام والمنهج الثابت الذي لا يعتريه الاضطراب والملل كما كنت تحس ذلك دائماً في (يتيمة الدهر) حين أرخ للشعراء والكتاب. وهكذا يفتح أمامنا فتحاً جديداً آخر.

ثم نتقدم خطوة رابعة فنرى أن الثعالبي الذي شارك في تاريخ الأدب والنقد وعلوم البلاغة - نراه - يرفع القواعد من المدرسة اللغوية كما رفعها من مدرسة البديع. وهنا يضع أمامنا كتابه (فقه اللغة وأسرار العربية) على نحو خاص يخالف فيه أصحاب المعجمات في وضعهم؛ حين يرتبون مفردات اللغة ترتيباً أبجدياً ثم يأخذون في تفسير معانيها. فالثعالبي لا يذهب في كتابه هذا مذهب ابن دريد (321هـ) في (الجمهرة) والأزهري (370هـ)(في التعذيب) والصاحب بن عباد (385هـ) في (المحيط) وابن فارس (395هـ) في (المجمل) والجوهري (398هـ) في (الصحاح) - مع ما بينهم من اختلاف جزئي. ولكنه يجعل المعاني محور منهجه وأساس بحثه، فيذكر لك المعنى ثم يسرد ما يدخل تحته من ألفاظ. وهو في ذلك يرتب الألفاظ ترتيباً زمنياً أو تصاعدياً أو تنازلياً أو نوعياً حسب جوهر المعنى الذي يذكره ومقتضاه.

وأرجح كثيراً أن ابن سيدة الأندلسي (458هـ) تأثر به حين وضع كتابه (المخصص) مع

ص: 42

شيء من التوسع الذي نرجئ بيانه في مجال آخر.

ولم يقتصر الثعالبي على ما ذكرناه له من كتب في البلاغة واللغة، بل كان من النفر القليل الذين زودوا (المكتبة العربية) بكتب تزيد على الخمسة وعشرين كتاباً وليس للأصفهاني ما يقابلها.

وبعد فقد عرفت كيف كان أبو منصور الثعالبي مجدداً في تاريخ الأدب متزعماً لمدارس النقد والبلاغة واللغة في الوقت الذي كان فيه الأصفهاني لا يتجاوز دائرة التاريخ الاستطرادي الصامت فشتان ما بين الرجلين!

إن مثل الثعالبي فيما أداه للعربية من رسالة الأدب في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس مثل أبي عثمان الجاحظ في القرن الثالث. إلا أن أبا عثمان كان فيلسوفاً متفنناً في أسلوب العربية على حين كان أبو منصور مؤرخاً بارعاً للعربية، دارساً لعلومها وآدابها.

حامد حفني داود الجرجاوي

ص: 43

‌رسَالَة الشِّعر

في الذكرى

15 مايو

للأستاذ كامل الدجاني

إذا الشعب استكان أمام خطب

فعقباه التردي والبوار

وإن تهن الخطوب لديه يوماً

فلا يقضى على الشعب العثارا

كذلك سنة الدنيا: غلاب

وإيمان وعزم وانتصار

وذا شعب تصارعه الدواهي

يطول به الشتات والانتظار

ودون الأفق بيت، عز دهراً

ينيخ على مرابعه الإسار

وخلف السور يرصد مكر سوء

وأطماع وأعداء شرار

وذا عام يمر وراء عام

وذا ليل يكر وذا نهار

وليس ببارح خطر وضيم

وليس بزائل رجس وعار!

بداراً، فالحوادث راصدات

وفي ما كان درس واعتبار

وصبراً للشدائد فالعوادي

يعين على تخطيها اصطبار

وتوطين النفوس على حياة

جهاد الخالدين لها شعار

وسير الجد، فالمسرى طويل

وما من دون غايته قرار

وذكراً للديار وللمغاني

فأن الدار يدنيها ادكار

ونقشاً لاسمها في كل قلب

يخط حروفه نور ونار

أقيموا في الجوانح من سناها

منار هدى بذكراها ينار

وشبوا فيه ناراً من لظاها

مقدسة يدوم لها استعار

يؤججها حنين مستديم

ويقبسها مع اللبن الصغار

وحجوا بيتها الباقي وطوفوا

حواليها، وإن شط المزار

وعوجوا نحوها حتى تطلوا

ويظهر من معاهدها شعار

وتخفق عند رؤيتها قلوب

ويخفق من معالمها منار

ص: 44

هنالك كبروا سيما ولبوا

يلب البر منها والبحار

هنالك جددوا عهداً لديها

تجدد عهدها لكم الديار

وعودوا من مشاهدها بزاد

يزوده الفؤاد المستطار

إلى يوم لها لا ريب فيه

يفك به عن الدار الإسار

ويجتمع الشتات بها، ويلقى

أليف إلفه، أهل ودار

ويرجع نازح، ويفك عان

ويصدح فوق دوحته الهزار

وثأراً للكرامة في حماها

إلى أن يمحى بالثأر عار

وثأراً للكرام من الضحايا

إلى أن يرضى الشهداء ثار

وثأراً ترخص الأرواح فيه

إلى أن تسترد به الديار

وثأراً تشتفي فيه نفوس

بها من (دير ياسين) أوار

وما نبغي كبغيكم ولكن

قصاص فيه عدل واعتبار

جيوش العرب أي أليم ذكرى

تعاودنا، وأي أسى يثار

وأي عميق جرح ذي قروح

بأعماق النفوس له قرار

لقد أجهزت حين أردت غوثاً

وجئت لنجدة فإذا بوار

وسلمت البلاد بغير حرب

وقصر عن عطاياك (القرار)

وعدت سليمة، وهوى شهيد

وتم الدور وانسدل الستار!

إذا كان العنان رهين حبس

فلا يرخى إذا ثار الغبار

ولا غوث لديك لمستغيث

إذا دجت الخطوب ولا بدار

فما أغناك عن إعلان حرب

ومالك في الطراد بها خيار

وما يغني أسير عن أسير

إذا الأعداء في يوم أغاروا

لحسبك دمعة حري وعذر

قصارى العجز دمع واعتذار

لما لك، شظ في عتب لساني

وما لك ذا العتاب وذا الحوار

ولكن للأولى اتخذوك ستراً

ليحجبهم فما حجب الستار

فمازال الجناة بكل أرض

يجرون الذيول بحيث ساروا

وأنت رجاؤنا في كل حال

تقوم عليك آمال كبار

ص: 45

ليوم تشخص الأبصار فيه

ويغسل عن جبين العرب عار

كامل الدجاني

ص: 46

‌الأدب والفنّ في أسبُوع

للأستاذ عباس خضر

سعودي بالولاء

وقع بالأسبوع الماضي حادث بالسيارة التي قادها أحد السعوديين إلى حتفه. وقد ذكرت الصحف اسمه (سعد البلوشي) وقالت إنه من خدم الأمير طلال، وقالت إحدى المجلات إنه سكرتير الأمير، وسمته مجلة أخرى:(سعد طلال).

والرجل ليس سعودياً إلا بالولاء، فقد كان العرب ينسبون بالولاء كما ينسبون بالقرابة، ومن ذلك بشار بن برد العقيلي، ولم يكن بشار من بني عقيل وإنما كان ولاؤه لهم.

وقد تعلمنا في قواعد اللغة العربية أن التوكيد بالنفس والعين لرفع الاحتمال، فإذا قلت: قدم الأمير، احتمل أن يكون القادم خادمه أو (سكرتيره) فإن أردت أن تقطع هذا الاحتمال قلت: قدم الأمير نفسه أو عينه.

وهكذا: تتحدث الصحف عن الحادث وما يدل عليه ونتحدث نحن عنه في باب الأدب والفن بمجلة (الرسالة) من حيث اللغة وقواعدها. . . ولكل طريقته.

مجلة الأزهر

من الحوادث الأدبية الهامة هذا الأسبوع صدور مجلة الأزهر، في شكل جديد، وتحرير جديد، بعد أن أسندت إدارتها ورئاسة تحريرها إلى الأستاذ صاحب الرسالة. وقد علمنا أنه حشد لها صفوة من أقطاب الفكر والثقافة، وأرباب الأدب والبلاغة، ووزع أقلامهم على الأبواب المختلفة لهذه المجلة، من فقه ولغة وأدب وتاريخ واجتماع وفلسفة وعلم وشعر وقصص وتراجم وطرائف وأخبار. ثم زيدت صفحاتها إلى 124 صفحة؛ فإذا اجتمع لهذه المجلة المادة والفن والقوة والاختصاص، وكان لها رسالة معينة وغاية ملموسة؛ كان لنا أن نرجو منها الشيء الكثير، ونتوقع لها الفوز المبين، ونعقد عليها الأمل الواسع. وسيصدر عدد رمضان من هذه المجلة في الموعد الذي تصدر فيه (الرسالة)، فلا يسعنا في هذا الأسبوع إلا أن نرحب بها، أما وصفها والحديث عنها فسيكون إن شاء الله في الأسبوع المقبل بعد أن نقرأها قراءة استيعاب وتعقيب.

ص: 47

أيها الأدباء - اسرقوا الدولة

ماذا فعل أولئك الأدباء الذين كان لهم نفوذ في وزارة المعارف. . . ماذا فعلوا حتى استهدفوا لحملات صحفية ساقت بعض مثيريها إلى ساحة القضاء؟

كل ما فعلوه أن باعوا كميات من مؤلفاتهم لوزارة المعارف كي توزعها على الطلبة ليقرأوها. . .

ثم قال الحاسدون: أخذت الوزارة لهذا وتركت ذاك. . . وكان (ذاك) قد أخذت الوزارة له من قبل.

وسمع الدكتور طه حسين باشا كلاماً يقال وغباراً يثار، فآثر مذهب (ابن حنبل) ومنع كتبه عن التلاميذ. . ومع ذلك لم يسلم من التطاول والتجريح!

وليس في الأمر كله ما يستحق كل ذلك. . .

مئات من النسخ أو آلاف أخذتها الوزارة كأسلحة تغزو بها الجهل، وقد حوت من الأفكار ذخيرة غير فاسدة. . . وعادت على المؤلف بعشرات أو مئات من الجنيهات لقاء سهر الليالي وثمناً لعصير العقول وكد القرائح.

والدولة تقدر بطولة الأجسام وتهمل بطولة الأفكار، فقد نص قانون إلغاء الاستثناءات - مثلاً - على إبقاء ما منح لأبطال الرياضة، وتركت إدارات المستخدمين في وزارة المعارف وفي غيرها تهوي بالأدباء. . .

أيها المؤلفون - بيعوا للدولة ما استطعتم بيعه من كتبكم واستغلوا من نفوذكم في ذلك إن تيسر لكم نفوذ، وإذا عد ثمن هذه الكتب مالاً مسروقاً فأكثروا من هذه السرقة.

وإني أحرضكم على ذلك وأمري وأمركم إلى الله. . .

استقبال عضو جديد بمجمع فؤاد الأول

احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الاثنين الماضي باستقبال عضو جديد هو الدكتور محمد كامل حسين مدير جامعة إبراهيم. وقد ألقى كلمة الاستقبال الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، فتحدث عن نشأة الدكتور كامل حسين، فقال إنه كان يكتب في إحدى الصحف الأسبوعية منذ ربع قرن مقالات يذيلها باسم مستعار هو (ابن سينا) وكان إذ ذاك طبيباً شاباً

ص: 48

يستكمل دراسته في إنجلترا، وقد عاد إلى مصر سنة 1930 فاشتغل بالتدريس في كلية الطب، وقضى بها تسع سنوات أستاذاً لجراحة العظام، ثم اختير عند إنشاء جامعة إبراهيم مديراً لها.

وأشار الدكتور مدكور إلى النواحي المختلفة لشخصية الدكتور كامل حسين، ثم خص الناحيتين العلمية والأدبية بشيء من التفصيل. ومما قاله إن العالم الكبير يؤمن بالتجربة باعتبارها وسيلة المعرفة في العلم والحديث، ويؤمن بالعقل كوسيلة لاستخلاص القضايا العامة من التجارب الجزئية. ولما عرض للناحية الأدبية قال إن نشأته الأولى - من حيث حياته المدرسية - لم يكن فيها مجال أو باعث على الدراسة الأدبية، وإنما ساقه إلى الأدب حسه المرهف وقراءاته الشخصية، وقد دفعه كذلك إلى الأدب علمه، فهو يؤثر الفكرة الواضحة ويرى أن الحقائق العلمية تحتاج إلى التعبير الدقيق السليم، وقال إنه مزج العلم بالأدب، إذ عرض العلم عرضاً طلياً، ونحا في الأدب منحى العلم من حيث الدقة والتحليل والمقارنة، وأتى برأي له فيما وقع بشعر المتنبي من تعقيد إذ علله تعليلاً نفسياً بأن المتنبي طلب في حياته أموراً عزت عليه، فشعر بالإخفاق وتكونت عنده عقدة بسبب ذلك، فعمد إلى خلق صعوبات في شعره ليقنع نفسه بالتغلب عليها.

ثم ألقى الدكتور محمد كامل حسين كلمته، وقد تحدث فيها عن سلفه في عضوية المجمع المرحوم أحمد حافظ عوض بك، واستطرد إلى المحاضرة في الحياة الفكرية عندنا وموقفنا من المدنية الغربية.

والواقع أن الدكتور كامل حسين قدم نفسه بهذه المحاضرة تقديماً رائعاً، وقد دل بها على أنه أديب مطبوع ومفكر ممتاز، وقد تضمنت محاضرته آراء وخواطر قيمة ممتعة في الأدب واللغة والفكر والحياة. وأعد قراء (الرسالة) بخلاصتها في الأسبوع القادم إن شاء الله.

عباس خضر

ص: 49

‌البَريدُ الأدَبي

حول خطوط

عقب الأديب السوري الفاضل الأستاذ عفيف الحسيني على قصيدتي (خطوط) بكلمة نقد رقيقة، وشاها بما شاء له أدبه من جميل الشعور وجمال التعبير، ولقد رأيت أن أعقب على تعقيبه، بذكر وجهة نظري فيما أخذه حضرته على البيت:

حصير تقادم حتى يكاد. . . يخضر، يرجع عشباً نضير.

أنا لا أخالف الأستاذ في أن الحصير المتقادم يسود إذا كان في مكان رطب، ولكن ألا يرى معي أننا لو وضعنا كلاً من كلمتي (يسود ويخضر) في كفتي الميزان الذوقي لكانت الأخيرة أرجح وأسمح؟

ومعروف للجميع أن العرب يتخذون (الفعلين) طريقاً إلى معنى واحد هو شدة الاخضرار، ونكتفي بإيراد مثال من أدب القرآن الكريم في هذا الصدد:(ومن دونهما جنتان. . مدهامتان)، حيث عبر القرآن عن الحضرة الشديدة بالدهمة، وهي السواد الشديد، جرياً على المألوف من استعمال كل من الكلمتين في مكان الأخرى. .

ويقول الأستاذ الناقد عن البيت الآخر:

ويهرق معوله في تراب لياليه. . محتفراً رمسه

إنني لا أستطيع أن أتصور إهراق المعول في التراب. . وهنا أيضاً لا أستطيع أن أخالفه في استحالة إهراق المعول إهراقاً جدياً، ولكن ألا يرى حضرته أن الحركة الفعلية التي تصاحب المعول، من ارتفاع إلى انثناء إلى انخفاض، حتى يغيب في التراب. هذه الحركة أليست شبيهة بكل ما من شأنه أن يهرق محتواه كالكوب مثلاً؟ ولقد كان في مقدوري أن أعبر ب (يضرب) أو (يهوي بمعوله) مع الاحتفاظ باستقامة الوزن، وأداء المعنى، بل واكتمال الصورة أيضاً. لولا ما خيل لي من أن في هذا التعبير بالذات شيئاً مما يتساءل عنه الباحثون عن التجديد في الشعر الحديث، أما هذه الصداقة التي أبى الأستاذ الحسيني إلا أن يتوجني بها رغم ما رسمته (خطوط) من غرابة الخلقة، وشذوذ التكوين، فأنا أعتز بها، وأحرص عليها، وأعدها من حسنات الزمان الضنين علي.

محمد مفتاح الفيتوري

ص: 50

تصحيح في مقال فلسفة الموسيقى الشرقية

طالعت في عددي الرسالة 982، 983 مقالاً بقلم الأستاذ الفاضل السيد نقولا الحداد، فأشكر لكم اهتمامكم، وللكاتب المحترم فضله وجهده، ومع أن في المقال أخطاء لا تخفى على اللبيب، إلا أن هنالك ما يقتضي تصحيحه، فقد جاء بصفحة (498) في رأس جدول الأرقام الأولى كلمة (اهتزازات) والصواب (ذرات)، بمعنى أن العمود الأول هو الذرات الصوتية لدرجات السلم المعدل ذي الأربعة وعشرين ربعا، والعمود الثاني هو الذرات الصوتية لدرجات السلم التركي، التي توجد في عدادها درجات السلم العربي. وبناء على هذا التصحيح لا حاجة للعبارة التي وردت بعد الجدولين المذكورين مباشرة، إذ لا يخفى أن عدد اهتزازات أية درجة صوتية، هو ضعف اهتزازات قرارها، ونصف اهتزازات جوانبها.

دمشق

ميخائيل خليل الله ويردي

طريق شائك. . لا تفرشوه بالورود

من المآخذ التي نسجلها على كثير من صحفنا، اهتمامها البالغ بأنباء بعض الفنانات والراقصات، بنشر صورهن بأوضاع مختلفة، وكتابة الكثير عن أسفارهن، وتنقلاتهن من قطر إلى قطر، ووصف ما ترتديه كل منهن، من فاخر الثياب وما تقتنيه من حلي ومجوهرات، وما يهدى إليها في مختلف المناسبات من الهدايا القيمة. فهم بهذا يزينون لكثير من الفتيات الحياة التي تحياها هؤلاء الغانيات، وأخشى ما نخشاه أن تتأثر نفوس بعض الساذجات ممن تضيق بهن سبل العيش بما يقرأن ويشهدن، فيزين لهن الشيطان الفرار من الضيق إلى السعة، فتزل قدم بعد ثبوتها.

إننا نربأ بصحافتنا أن تهبط إلى هذا الدرك، والمفروض أن الصحافة رسالة سامية، لها أهداف نبيلة، هي توجيه النشء الوجهة القويمة، وتثقيفه الثقافة الصحيحة، وتلقينه المثل العليا، وتحبيب الفضائل إلى قلبه!

ونحن لا نحب أن تشيع هذه البدعة بين العذارى، فلا تزينوا لهن هذه الحياة، والطريق شائك محفوف بالأشواك. . فلا تفرشوه بالورود!

ص: 51

عيسى متولي

ص: 52

‌القَصَصُ

الحب فوق الجبل

عن الإنكليزية

كانت ماري تستطيع في يسر أن تسمع الحديث بين الشابين الجالسين على مقربة منها إلى منضدة في فندق بشارع (فليت ستريت) ولكنها لم تعر أحدهما التفاتاً خاصاً.

قال أكبرهما وهو أجملهما للآخر: (إذا كنت لم تذهب قبل الآن إلى اسكوتلاندا فاطلب إجازة واذهب إليها. وقد يشكو بعض المتقدمين في السن وضعاف الأبدان من شدة البرد فيها، ولكن هذا لا يمنع من وصف جوها بأنه جميل.

(وسأدلك على مكان بين الجبال ليس أطيب من هوائه ولا أروع من مناظره ولا أوفر من حاجياته مع يسر الثمن، ولا أجمع لأسباب الراحة والسرور، وقد طال تردادي عليه وآمل أن أذهب إليه أيضاً في الخريف).

ورأت ماري المستمع يشير بالموافقة ويقول: (لست أعرف هل أتمكن من الذهاب إليها أم لا، ولكني أريد أن أسألك عن بعض التفاصيل، وأنت تعرف أنني لا أحب النزول بالفنادق فهل من الممكن إقامة كوخ هناك خارج القرية؟).

فأجابه: (ذلك سهل. وسأدلك على نفس الكوخ الذي كنت أقيم به، وهو في جبهة برتشاير الغربية فاكتب إلى مسز (ماك بين) وقل لها إنك أخذت العنوان من جارفي بلير).

ولم يكن المستمع يعرف الجهة التي ذكرها جارفي بلير. ولكن ماري عرفتها وكتبت على ظهر مجلة كانت معها ذلك العنوان. ولم يخطر ببالها أنها أخطأت في ذلك لأنها كانت تريد الاصطياف أيضاً، وكانت اسكوتلاندا حلماً من أروع أحلامها ولكنها لم تكن تعرف أحداً هناك، وليس أجدر بإرشادها إليها من هذا الرجل الأسود الشعر والعينين الذي كانت تراه كل يوم على هذه المنضدة بالفندق وإن كانت إلى اليوم لم تبادله كلمة واحدة. . على أنهما كانا يتبادلان النظرات في كثير من الأحيان.

وفي تلك اللحظة كتبت ماري خطاباً رقيقاً إلى مسز (ماك بين) قالت فيه إنها سمعت اسمها وعنوانها مصادفة، وأنها ترجو أن تسمح لها بالإقامة في الكوخ مدة أسبوعين وتسألها عن شروطها في مقابل ذلك.

ص: 53

وفي اليوم الثالث وصل إليها الرد وكان مرضياً وفيه تطلب مرسلته تحديد اليوم والساعة لترسل إليها العربة تنتظرها وأمتعتها عند أقرب محطة لتنقلها إلى الكوخ الذي يبعد عن المحطة ثلاثة أميال.

وتم كل ذلك. وفي ليلة هادئة الجو معطرة النسيم كانت ماري واقفة أمام الكوخ وصاحبته مارجريت ماك بين ترحب بها ترحاب الصديق بالصديق.

قالت مارجريت: (أخشى أن يكون هذا المكان موحشاً لشدة هدوئه وخلوه من الأنيس. ولكنه يوافق اشتراطك في خطابك، وليس عمل يمكن أن يعمل هنا إلا المشي على سطح الجبال المزدانة بأعواد الزهر).

فابتسمت ماري وقالت: (إنها تألف هذه المناظر وتحبها، فقد اعتادت الاصطياف في الريف، وإنها لا تنتظر أن تسبب لها هدأة الحياة شيئاً من السأم.

وكان من حسن حظها أن الجو اعتدل وراق في الأيام الأولى من زيارتها لهذا الصيف. وفي يوم من الأيام قالت (مارجريت ماك بين): إنه في المساء سيأتي مصطاف جديد وسيقيم في غرفة أخرى من ذلك الكوخ). وقالت: (فإذا راقك مجلسه بعد التعرف به قدمت لكما الطعام معاً وإلا فإني سأدبر لذلك وسيلة تريحك).

فلم تبد ماري أي اعتراض بل سرت من وجود زميل من أهل بلدتها في هذا المصيف. وفي أصيل ذلك اليوم خرجت لتتنزه على سفح الجبل في طريق المحطة وهي تعد نفسها بأن تكون نزهة الغد برفقة رجل هي إلى اليوم لم تصاحبه. وفيما هي تعلل النفس بوعد جميل زلت بها القدم عند محاولتها الصعود إلى مرتفع من سفح الجبل فهوت وجرحت ركبتاها واستحال عليها النهوض ورأت رجلاً يسلك الطريق بين المحطة وبين الكوخ.

ولما دنا عرفت فيه صاحبها أسود الشعر والعينين (جارفي بلير). ونظر إليها وكاد أن يمشي دون أن يتكلم لولا أنها استوقفته وأخبرته بالخبر، وطلبت إليه أن يبلغ صاحبة الكوخ رجاءها لترسل إليها عربة تقلها: فقال: إن الكوخ قريب فإذا شئت فلنذهب إليه مستندة إلى ذراعي، وفي بحمد الله من القوة فوق ما قد تظنين.

قبلت ماري على خجل ما طلبه إليها. وكان لابد لهما من التحدث في أثناء الطريق فاعترفت له بأنها عرفت المكان من حديثه مع صاحبه. وقال لها: إنه كان يريد أن يأتي في

ص: 54

الخريف ولكن طرأ ما دعاه إلى التعجيل.

وقالت: (أرجو ألا يغضبك انتفاعي بعنوان كنت أنت تمليه على آخر) فقال: (كيف أغضب؟ لا بل يسرني كل السرور أن تشهدي صدق النصيحة التي قدمتها لصديقي، وأرجو ألا تضطرك الإصابة الحاضرة إلى لزوم الكوخ باقي مدة الاصطياف).

وفي اليوم التالي كانا واقفين أمام الغدير يتحادثان فقالت: (ما أجمل هذا المنظر!)

قال: (إنني لو أوتيت ثروة لحققت حلماً طالما كنت أنعش نفسي بتصوره، وهو أن أشتري كوخاً في مثل هذا المكان فأقضي فيه ستة أشهر من كل عام). قالت: (أهذا حلمك؟) فقال: (نعم ولي حلم مرتبط به). قالت: (أتخبرني ما هو؟). فقال: (منذ عام رأيت فتاة فأحببتها وأريدها زوجة ولكني لا أملك ما أسديه إليها غير حبي). فتشجعت الفتاة أكثر مما كانت وقالت: (ربما كانت الفتاة لا تطمع في غير الحب). ثم قالت: (هل أرشدتها إلى هذا المكان الذي أرشدت إليه صديقك؟) فابتسم وقال: (إنني لم أكن كلمتها على الرغم من أني كنت أراها كل يوم. وقد انتهزت جلوس صديق معي فرصة لأذكر المكان بصوت عال على مسمع منها. وكنت أعلم أنها تريد الاصطياف). فاحمر وجه ماري وقالت: (ربما كان عند صاحبتك مثل الذي عندك، وربما سبقتك إلى الكوخ طمعاً في لقائك).

وعادا إلى الكوخ. وبعد ذلك اليوم اشتد قلق (مارجريت ماك بين) بسبب التصاقهما لزاماً، ولكن قلقها عاد سروراً حين أعلناها أنهما يريدان البقاء بالكوخ شهراً آخر هو شهر العسل.

ع. ق

ص: 55