الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 987
- بتاريخ: 02 - 06 - 1952
إن إلهكم لواحد.
.
للأستاذ قطب
عجيب هذا القرآن! يقرؤه القارئ ويعيده، ويحفظه ويرتله، ويفسره ويفهمه، ويخيل إليه أنه قد استوعب معانيه، وأدرك مراميه، ويمر بالنصوص بعد هذا مرا عابرا، غير متوقع أن يجد فيها جديدا غير ما فهمه منها ووعاه.
وفجأة يتلو أو يستمع، فإذا إنبثاقات جديدة عجيبة للكلمة وللآية تلتمع في الذهن والحس والقلب، لم تخطر من قبل أبدا؛ وإذا آفاق من التأملات والمشاعر والتأثيرات تتفتح، لا يدري أين كانت مخبوءة في النص الواضح البسيط!
وهكذا يبدو أن رصيد هذا الكتاب العجيب الخالد لا يغني ولا ينتهي، وأن معين الإلهام فيه لا يضمحل ولا يغيض، وأن الدنيا ستظل تكتشف فيه آفاق، كلما استعدت طاقاتها لتلقي ما فيه من إيحاءات:(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
تلك الآية البسيطة القصيرة التي عنونت بها هذه الكلمة (إن إلهكم لواحد). . كم من مرة تلوتها، وكم من مرة سمعتها، وكم من مرة ضمنتها. . ولكنني أنتفض فجأة على لمسة منها لروحي وحسي ومشاعري جميعا. لمسة لم أعهدها من قبل فيها، على طول صحبتي للقرآن، وعلى طول عيشي في ظلال القرآن. .
إن إلهكم لواحد. .
إنه مفرق الطريق في حياة البشرية. . أنه الانقلاب الأكبر في خط سيرها الطويل. . الانقلاب من العبودية إلى الحرية، من الخوف إلى الأمن، إلى الهدى والنور والنظام. أنه إعلان وجود الإنسان، الذي لا يستذل لإنسان مثله، كائنا من كان.
وإنني لأنظر إلى البشرية في تاريخها المتطاول، قبل أن توحد الإله، فأطلع على صحائف من الهوان، وعلى أودية من الحيرة، وعلى ألوان من القلق. . الأوهام تسحقها، والمخاوف ترهقها، والعبودية تطحنها. . وإن هي إلا جملة واحدة. جملة مشحونة بما يملأ صفحات وكتبا. بل بما يشغل أجيالا وقرونا. جملة واحدة تغير وجه التاريخ، وطبيعة الحياة، وضمائر الملايين، وعلاقات الأفراد والجماعات؛ وتلغي كتاب البشرية كله لتخط صفحة خالدة في كتابها الجديد. .
إن إلهكم لواحد. .
هو وحده القادر، وهو وحده القاهر. . لو اجتمع أهل هذه الأرض على أن يضروا أحدا من خلقه بغير إرادة منه ما قدروا؛ ولو اجتمع أهل الأرض على أن ينفعوا من خلقه بغير إرادة منه لما استطاعوا:(إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنفذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب)
إن إلهكم لواحد. .
لا تعنو الحياة إلا له، ولا تتوجه القلوب إلا إليه، ولا تنحني الهامات إلا لجبروته. . فإذا عفرت له الجباه مرة فقد عزت أمام الجبابرة. وإذا ركع له الراكعون مرة فقد نصبوا هاماتهم أمام الطغاة، وإذا عبده العابدون فإن العزة لله ولرسول وللمؤمنين.
إن إلهكم لواحد. .
هو وحده والكل سواه نمال. هو وحده والكل دونه ضئال. هو وحده يخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء:(قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير)
إن إلهكم لواحد. .
عقيدة ما أحوج المكافحين إليها. . تشد من عزائمهم، وتمنحهم القوة التي لا تصمد لها قوة، وتصلهم بالواحد الأحد الذي يجير ولا يجار عليه.
ما أحوجنا إلى هذه العقيدة - ونحن نجتاز امتحاناً عسيراً، سقطت فيه رجولات كثيرة. رجولات زائفة مموهة، خدعت الكثيرين. حنى إذا جاء دور الامتحان تهاوت تحت مطارقه، وتساقطت ذابلة صفراء كأوراق الخريف.
ما أحوج الذين جبنوا بعد تشجع، وتخاذلوا بعد تماسك، وأحجموا بعد إقدام. . . ما أحوجهم جميعا أن يتدبروا تلك الآية القصيرة، وأن تلمس قلوبهم جذوتها المقدسة، فيرتد الجبناء شجعاناً، والمتخاذلون أقوياء، والمحجمون أجرياء،. ويستشعروا كرامة الإنسان التي تأبى ذل الإنسان.
ألا كم سقطت رجولات مزيفة في غمرة الامتحان. . سقط بعضها تحت مطارق الخوف، وبعضها تحت مطارق الطمع، وبعضها تحت مطارق الحرص، وبعضها تحت مطارق
الجشع، وبعضها تحت مطارق الذل، وبعضها تحت مطارق الإرهاب. . . وكلها. . كلها ما كان أحوجها إلى لمسة من ذلك الروح، تنفض عنها الخوف والمطامع، وتطهرها من الحرص والجبن، فتتطلع إلى أعلى دون انحناء، وتعتز بالجبار القاهر فلا تعفو منها الجباه.
انتفضت كل هذه المعاني انتفاضة مفاجئة في نفسي، وأنا أمر مروراً عابراً بتلك الآية القصيرة الواضحة البسيطة. . فإذا جبابرة الأرض كلهم في عيني أقزام. . وإذا طغاة الأرض كلهم في حسي أوهام. . وارتسمت في نفسي بحروف من نور كلمات أخرى من ذلك القرآن.
(أأرباب متفرقون خير؟ أم الله الواحد القهار؟)
لا بل الله الواحد القهار، الله أحنى له الرأس مرة، ثم أنظر من عل إلى جميع الرؤوس. الله أسجد له مرة، ثم أنهض لأحتقر الجبارين، الله تستمسك يدي بعروته، ثم ليكن بعد ذلك ما يكون.
بعض من يختانون أنفسهم، ويخونون الإنسانية كلها معهم، يراودوننا على أن نفقد هذا الإله بعدما وجدناه! يراودوننا على أن نجرد نفوسنا من هذه القوة الكبرى. يراودوننا على أن نواجه قوة الشر والظلم دون سلاح.
إنهم يختانون أنفسهم، وإنها لخيانة للبشرية كلها في كفاحها الطويل، كفاحها ضد الظلم والشر، كفاحها ضد الحرص والجشع، كفاحها ضد الهوى والشهوة، كفاحها ضد الضعف والترهل، كفاحها ضد العبودية التي استبدت من قبل بالإنسان.
إنها معركة طويلة الأمد، فما أحوج الإنسان فيها إلى إله، إله واحد لا معبود للناس سواه.
سيد قطب
فضل المدنية العربية على المدنية الغربية
للدكتور فيليب حثي
أستاذ التاريخ بجامعة برنجستون بالولايات المتحدة
خلاصة موجزة لسبع محاضرات ألقاها الأستاذ باللغة
الإنجليزية في جامعة سان باولو
1 -
في الأدب
هنالك جسور ثلاثة اجتازت عليها المدنية العربية بعناصرها الأدبية والعلمية والفلسفية والفنية من الشرق العربي إلى الغرب الأوربي: وهي سورية في العهد الصليبي (1098 - حوالي 1300) وصقلية في عهد الأغلبيين (831 - 1091) ثم النور منديين، وإسبانيا في عهد الإسلام. والذي نعنيه بالأدب العربي ما أنتجته بالأكثر قرائح الشعوب السورية واللبنانية والعراقية والفارسية وتضمنته اللغة العربية. وأهم هذه الجسور إسبانيا التي أقام العرب فيها نحو ثمانية قرون (711 - 1492) ومن مدنها طليطلة التي أصبحت في القرن الثاني عشر مركزاً هاما للترجمة من العربية بفضل رئيس الأساقفة ريموند. وعقب طليطلة كاستيل وليون برعاية الملك ألفونسو الحكيم (1253 - 4) الذي أولع ولعاً خاصا بالأدب العربي. حتى بعد أن طرد الأسبان العرب من البلاد بقي المورسكو لمدة طويلة يكتبون الإسبانية بأحرف عربية وينشئون الأدب المعروف بالأب الأعجمي
أهم مادة في الأدب العربي إنما هي المادة الدينية. نعم إن القرآن الكريم ترجم إلى اللاتينية (1141) ومنها إلى الفرنسية ومن هذه إلى الإنكليزية (1649) ولكنه لم يكن له أثر بين في الأدب الغربي لما اتصف به أبناء الغرب من التعصب الديني ضد الإسلام. ولعل من أهم أثر هو قصة (المعراج والإسراء) المشار إليها في القرآن من طرف خفي (سور 1: 17) والتي توسع في شرحها والإضافة إليها القصاص وأصبحت مثلا تحداه الشاعر الإيطالي الخالد دانتي في ملحتمه (الكوميديا الإلهية). والظاهر أن دانتي تأثر بكتابات الشاعر الفيلسوف السوري المعري (توفي 1075) والشاعر العربي الصوفي الأسباني أبن عربي (توفي 1240).
ولعل المقامات التي أنشأها بديع الزمان الهمداني (توفي 1008) وتبعه فيها الحريري وغيرها أغنى كنز أدبي بعد القرآن. وبفضل العرب الأسبان دخل هذا الطراز من الأساليب الأدبية الجديدة إلى أوربا الغربية فقلده الكتبة الأسبان والطليان ولا سيما في القصص المسماة فيجارو وكانت أول قصة إسبانية من هذا النوع وفيها ما يماثل القصص جحا.
أتخذ الشعر العربي في إسبانيا ميزة جديدة قوامها وصف الطبيعة والتغني بجمالها. ومن هذا القبيل بعض أشعار عبد الرحمن الداخل (755 - 88) وابن زيدون (توفي 1071)؟
ومن المواضيع الجديدة التي عنى بها الشعر العربي الأسباني الهوى العذري الذي يرافق المجتمع المتصف بانعزال الحريم وتحجب النساء. فنسج على منوال هذا الأسلوب الجديد شعراء مسيحيون في إسبانيا وفي أوائل القرن الحادي عشر انتقل هذا الأسلوب إلى جنوبي فرنسا وظهرت آثاره في أدب
وهناك ضرب من الشعر القومي أنشده الشعراء العاميون من مسلمي إسبانيا بداهة مما يذكرها بأناشيد القوالين اللبنانيين المعاصرين. وكان من أهم أنواعه الزجل والموشح اللذان نسج على منوالهما شعراء إسبانيا والبرتغال، ومن إيبيريا سار هذا الأسلوب إلى فرنسا. وكان المنشدون الجوالون المدعوون تروبادور من جملته. ومن أول شعراء الزجل وأعظمهم ابن قزمان القرطبي (توفي 1160). ومجموعة الأناشيد التي جمعها ألفونسو الحكيم تحت عنوان والمحسوبة من أطرف المجموعة الشعرية في القرون المتوسطة إنما أوزانها من نوعي الزجل والموشح. وكذلك الأغاني المسيحية المعروفة ب من هذا الطراز. وكان المستعربون من أهم نقلة هذا الشعر.
ومعظم الأدب العربي من النوع القصصي ومن أبكر أمثلته (كليلة ودمنة) المترجمة عن السنسكريتية. هذه المجموعة العربية ترجمها ألفونسو فكانت من أول الكتب النثرية بالأسبانية ومن أول الكتب القصصية في هذه اللغة، وبعد القرن الثالث عشر أخذ الكتبة الأسبان والبرتغاليون ينسجون على منوالها، وتبعهم الكتبة الفرنسيون. ومما حبب الأسلوب القصصي العربي إلى أبناء الغرب ألوانه الزاهية وخياله الفني وتضمنه أمثولات أخلاقية لمنفعة السامع والمطالع، ويدخل في هذا الباب (مختار الحكم) الذي وضعه الأمير السوري مبشر ابن فاتك زهاء حوالي 1053 والذي ترجم إلى الإسبانية بعنوان وطبع بالإنكليزية
عام 1477 فكان أول كتاب طبع في هذه اللغة.
أما ألف ليلة وليلة وهي أهم مجموعة قصص عربية فجاءت متأخرة ولم تظهر بشكلها الحالي حتى القرن الخامس عشر، ولكن منها قصص كقصة السندباد البحري وصلت شفاها إلى الأسبان وترجمت إلى لغتهم. ومما لا ريب فيه أن بعض قصص شوصر بالإنكليزية وقصص بوكاشيو بالإيطالية ترجع إلى ألف ليلة وليلة الشفهية. يذهب المستشرقون إلى أن الرواية الحديثة على ما يعرفها أبناء الغرب ترجع إلى قصة ابن سراج بالأسبانية
أما الروائي الشاعر الأسباني العظيم سرفانتس فالمعروف عنه أنه بقي أسيراً في أيدي قرصان عرب من الجزائر نحو خمس سنوات وهو يدعي في مقدمة مؤلفه الرائع بأن كتابه من أصل عربي.
2 -
في العلوم
لم يكن لأبناء الجزيرة العربية لدى ظهور الإسلام علم بالمعنى الاصطلاحي، ولكنهم بعد أن تغلبوا في القرن السابع على الهلال الخصيب. وفارس ومصر أخذوا عن الشعوب المغلوبة من سورية ولبنانية وعراقية وغيرها، العلوم الحقيقية، وكانت العلوم السورية مؤسسة على اليونانية والآرامية والسامية القديمة. أما عصر الترجمة من اليونانية إلى العربية فيتناول نحو قرن (750 - 850) وكان مركزه بغداد وقوامه العلماء السوريون الذين كانوا يتقنون اليونانية منذ فتوح الاسكندر في القرن الرابع قبل المسيح.
وفي هذا القرن جاءت من الهند مخطوطة في علم الفلك فترجمت إلى العربية في بغداد وأصبحت مصدراً للزيج الفلكي الذي نشره الخوارزمي (توفي نحو 850) وكذلك جاءت من الهند مخطوطة رياضية دخلت بفضلها الأرقام الهندية إلى العالم العربي بما فيها الصفر.
ومن الأدب الفارسي نقل ابن المقفع في بغداد قصص كليلة ودمنة كما نقل أبناء بختيشوع، الأسرة السورية المسيحية، مبادئ الطب الفارسي الذي كان قد تأثر بالطب اليوناني.
ولكن أهم مصدر وأعزره نقل عنه العرب في ذلك العهد إنما كان المصدر اليوناني وذلك كان بفضل نشاط علماء سورية المسيحيين وشيخهم حنين بن أسحق (توفي 873) الذي كان له ولتلاميذه اليد الطولى في نقل كتب جالينوس الطبية ومؤلفات أرسطو العلمية
والفلسفية. وكانت عملية النقل من اليونانية إلى الآرامية أو السريانية لغة سورية يومئذ ومن هذه إلى العربية. أما السوريون غير المسيحيين وهم الصابئة عبدة النجوم في حران فإن اهتمامهم اقتصر على علمي الفلك والرياضيات؛ فنقلوا من اليونانية إلى العربية مؤلفات إقليدس وأرخميدس وكتاب بطليموس في الفلك والجغرافية وهو (المجسطي).
وعقب عصر الترجمة عن الهندية والفارسية والآرامية واليونانية عهد الإبداع. فلم يكتف العلماء العربيون بنقل تراق الأجيال السابقة؛ بل أضافوا إليه الكثير من نتائج تنقيباتهم وأبحاثهم وأغنوها من عندهم قبل أن يورثوها لخلفائهم.
ففي الطب نشاء الرازي (توفي 925) الذي كان أول من ميز بطريقة علمية بين الحصبة والجدري. وترجمت كتبه إلى اللاتينية في طيلطلة من أعمال إسبانيا بهمة جيرارد الكريموني توفي (1187) وبعد ذاك في صقلية. وأصبحت كتب التدريس. المعول عليها في كليات الطب الأولى في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا. كذلك ترجم جيرارد كتاب (القانون) في الطب لابن سينا (توفي 1037) ولعله أول كتاب يقول بعدوى السل. أما الطبيب الدمشقي ابن النفيس (توفي 1288) فإنه وصف الدورة الدموية قبل سرفيتس البرتغالي المنسوب فضل هذا الاكتشاف إليه بنحو ثلاثة قرون.
وفي إسبانيا زها أبو القاسم الزهاوي القرطبي (توفي 1013) أعظم جراحي عصره. وكتابه في الجراحة ترجم إلى اللاتينية في طليطلة وأصبح الكتاب المعول عليه للتدريس في جامعات أوربا وبقي كذلك في جامعة أكسفورد حتى عام 1778. وزها بعده أبن رشد (توفي 1198) المشهور بفسلفته الأرسطالية الذي كان أول من لاحظ أن من مرض بالجدري لا يمرض بهذا الداء ثانية، والذي كان أول من فهم وظيفة شبكة العين. ومعاصر ابن رشد وصنوه في الفلسفة ابن ميمون اليهودي (توفي 1204) كان أيضاً طبيباً، ولعله أول من وصف الطعام النباتي للمصاب بالبواسير. أما ابن الخطيب (توفي 1350) المعروف بأدبه فإنه كان أحد الأطباء القليلين الذين أدركوا أن الطاعون المعروف بالموت الأسود الذي اجتاح أوربا يومئذ وكاد يتركها خلوا من السكان إنما كان ينتشر بالعدوى من المريض إلى السليم لا بأمر الله.
وهنالك علمان مساعدان للطب ورقاهما العرب إلى حد غير مسبوق: النبات والكيمياء. من
هو أعظم عالم نباتي وصيدلي أنجبته القرون الوسطى في العالم المتمدن؟ هو بلا ريب أبن البيطار (توفي 1248) من مواليد ملقا بأسبانيا ودفين دمشق الشام. ففي كتابه (الأدوية المفردة) وصف ابن البيطار 1400 نبة منها 200 لم يسبقه أحد إلى وصفها. أما علم الكيمياء فيكفي القول أن هذه الكلمة دخلت اللغات الأوربية عن طريق العربية وأن ابا هذا العلم هو جابر بن حيان الذي زها في العراق حوالي 776.
وفي الكلمات العربية الكيماوية والطبية التي تسربت إلى اللغات الأوربية من العربية - كالإكسير والسودا والشراب والقلي والكحول والأئمد والأنبيق - دليل ساطع على ما هو مدين به العلم الغربي للعلماء العرب.
وفي علمي الرياضيات والفلك لمع العالمي الفارسي الأصل البغدادي الإقامة الخوارزمي (توفي حوالي 850). فهو أول من صنف كتابا في الرياضيات وعنونه (الجبر) ولما ترجم كتابه في توليدو في أواخر القرن الثاني عشر دخل هذا العلم إلى أوربا ودخل معه اسمه. وبفضل ترجمة هذا الكتاب دخلت (الأرقام العربي) بما فيها الصفر إلى اللغات الأوربية. وكلمة صفر في اللغات الأوربية الحديثة مأخوذة عن الكلمة العربية. والخوازمي هو أيضاً واضع الزيج الفكلي الذي نقله ألقونسو الحكيم ملك قشتالة وليون (توفي 1284) إلى الإسبانية وأصبح أساساً للزيج الفرنسي الموضوع بعدئذ في مرسيلية وانتشر شرقاً حتى الصين.
ويكفي للدلالة على فضل علماء العرب على أبناء الغرب أن عدداً من أسماء النجوم - كعقرب والجدي وذنب - لم تزل لليوم في اللغات الأوربية محتفظة بأسمائها العربية.
البقية في العدد القادم
فيليب حثي
6 - حسن البنا الرجل القرآني
بقلم روبير جاكسون
للأستاذ أنور الجندي
(يروي روبير جاسكون في هذا الفصل قصة لقائه مع الشهيد
البنا)
في فبراير سنة 1946، كنت في زيارة للقاهرة. . وقد رأيت أن أقابل الرجل الذي يتبعه نصف مليون شخص، وكتبت في النيويورك كرونيكل بالنص:
(زرت هذا الأسبوع رجلا قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخالمعارصر، وقد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه، ذلك هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان. وقد صار الإخوان عاملا مهما في السياسة المصرية، ويقال إن جملة الإخوان 80 % من لجان العمال والطلبة الذين كانوا في طليعة الحوادث الصاخبة الأخيرة في مصر. ويقول الأستاذ البنا: إن حركة الإخوان فوق الأحزاب، وسبيلها هو العودة إلى القرآن، وغايتها جمع كلمة المسلمين في كل أرجاء الدنيا.
هذا ما كتبته منذ خمس سنوات، وقد صدقتني الأحداث فيما ذهبت إليه، فقد ذهب الرجل مبكرا. . وكان أمل الشرق في صراعه مع المستعمر، وأنا أفهم جيدا أن الشرق يطمح إلى مصلح يضم صفوفه، ويرد له كيانه، وطالما رجا الكتاب والمفكرون الغربيون اقتراب اليوم الذي يتحقق فيه هذا الأمل.
غير أنه في اليوم الذي بات فيه مثل هذا الأمل قاب قوسين أو أدنى، انتهت حياة الرجل على وضع غير مألوف. . وبطريقة شاذة!
هكذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلا بالكنز الذي يقع في يده. .
. . لقد لفت هذا الرجل نظري بصورته الفذة، عندما.
كنت أزور القاهرة بعد أن التقيت بطائفة بكرى من زعماء مصر ورؤساء الأحزاب فيها.
كان هذا الرجل خلاب المظهر، دقيق العبارة، بالرغم من أنه لا يعرف لغة أجنبية. لقد حاول أتباعه الذين كانوا يترجمون بيني وبينه أن يصوروا لي أهداف هذه الدعوة؛
وأفاضوا في الحديث على صورة لم تقنعني.
وظل الرجل صامتا، حتى إذا بدت له الحيرة في وجهي، قل لهم قولوا له شيئا واحدا: عل قرأت عن محمد؟ قلت نعم. قال: عل عرفت ما دعا إليه وصنعه؟ قلت نعم. قال هو ما نريده.
وكان في هذه الكلمات القليلة ما أغناني عن الكثير مما حاول بعض أنصار البنا أن يقولوه لي
. . لفت نظري إلى هذا الرجل سمته البسيط، ومظهره العادي، وثقته التي لا حد لها بنفسه، وإيمانه العجيب بفكرته.
كنت أتوقع أن يجيء اليوم الذي يسيطر فيه هذا الرجل على الزعامة الشعبية، لا في مصر وحدها، بل في الشرق كله.
وسافرت من مصر بعد أم حصلت على تقارير وافية ضافية عن الرجل وتاريخه، وأهدافه وحياته، وقد قرأتها جميعا وأخذت أقارن بينه وبين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد أحمد المهدي، والسيد السنوسي، ومحمد عبد الوهاب، فوصل بي البحث إلى أن الرجل قد أفاد من تجارب هؤلاء جميعا، وأخذ خير ما عندهم، وأمكنه أن يتفادى ما وقعوا فيه من أخطاء. ومن أمثلة ذلكم أنه جمع بين وسيلتين متعارضتين، جرى على أحدهما الأفغاني، وارتضى الأخر محمد عبده.
. . كان الأفغاني يرى الإصلاح عن طريق الحكم، ويراه محمد عبده عن طريق التربية. . وقد استطاع حسن البنا أن يدمج الوسيلتين معا، وأن يأخذ بهما جميعا، كما أنه وصل إلى ما لم يصلوا إليه، وهو جمع صفوة المثقفين من الطبقات والثقافات المختلفة إلى مذهب موحد، وهدف محدد.
ثم أخذت أتتبع خطوات الرجل بعد أن عدت من أمريكا وأنا مشغول به حتى أثير حوله غبار الشبهات حينا، مما انتهى إلى اعتقال أنصاره، وهي مرحلة كان من الضروري أن يمر بها أتباعه، ثم استشهاده قبل أن يتم رسالته.
وبالرغم من أنني كنت أسمع في القاهرة أن الرجل لم يعمل شيئا حتى الآن، وأنه لم يزد على جمع مجموعات ضخمة من الشباب حوله، غير أن معركة فلسطين، ومعركة التحرير
الأخيرة في القنال، قد أثبتتا بوضوح أن الرجل صنع بطولات خارقة. . قل أن تجد لها مثيلا، إلا في تاريخ العهد الأول للدعوة الإسلامية.
وقد تقرر أن الرجل كان بعيد الأثر في كثير من الأحداث العالمية التي وقعت في الشرق، بل إن ما وقع في إيران كان خليقاً أن يقع في كل بلدان الشرق، لو طال عمر هذا الرجل. . وكان يمكن أن يتحقق لهذه البلاد الكثير لو اتفق حسن البنا وآية الله كاشاني على أن يزيلا الخلاف بين الشيعة وأهل السنة.
لقد التقى الرجلان في الحجاز سنة 1948، ويبدو أنهما تفاهما ووصلا إلى نقطة رئيسية لولا أن عوجل حسن البنا بالاغتيال.
كل ما أستطيع أن أقوله في هذه المقدمة، أن الرجل أفلت من غوائل المرأة والمال والجاه، وهي المغريات الثلاث التي سلطها المستعمر على المجاهدين، وقد فشلت كل المحاولات التي بذلت في سبيل إغرائه.
وقد أعانه على ذلك صوفيته الصادقة، وزهده الطبيعي، فقد تزوج مبكرا، وعاش فقيرا، وجعل جاهه في ثقة أولئك الذي التفوا حوله، وأمضى حياته القصيرة المريضة مجانبا لميادين الشهرة الكاذبة، وأسباب الترف الرخيص.
وكان يترقب الأحداث في صبر ويلقاها في هدوء، ويتعرض لها في اطمئنان، ويواجهها في جرأة.
لقد شاءت الأقدار أن يرتبط تاريخ ولادته وتاريخ وفاته بحادثين من اضخم الأحداث في الشرق، فقد ولد عام 1906 وهو عام دنشواى، ومات عام 1949، وهو عام إسرائيل.
وكان الرجل عجيبا في معاملة خصومه وأنصاره على السواء، كان لا يهاجم خصومه ولا يصارعهم بقدر ما يحاول إقناعهم وكسبهم إلى صفة، وكان يرى أن الصراع بين هيئتين لا يأتي بالنتائج المرجوة.
وكان يؤمن بالخصومة الفكرية، ولا يحولها إلى خصومة شخصية، ولكنه مع ذلك لم سيلم من إيذاء معاصريه ومنافسيه، فقد أعلنت عليه الأحزاب حربا عنيفة. .
كان الرجل يقتفي خطوات عمر وعلي، ويصارع في مثل بيئة الحسين، فمات مثلهم شهيدا.
وإنني على أتم يقين من أن أي حركة وطنية يمكن أن تظهر في الشرق بعد ذلك يمكن
إرجاعها إلى المقاييس التي وضعها هذا الرائد العملاق.
ولا يستبعد أن نؤرخ به الحوادث بعد قليل. .
لقد سمعت الكثير من خصومه، وكان هذا طبيعيا، بل كان من الضروري أن يختلف الناس في رجل استطاع أن يجمع حوله هذا الحشد الضخم من الناس بسحر حديثه وجمال منطقه، وقد انصرف هؤلاء من حول الأحزاب والجماعات والفرق الصوفية والقهوات ودور اللهو.
وكان لابد أن يصبح هذا مثار حقد بعض الناس الذين أدهشهم أن يستطيع هذا الرجل المتجرد الفقير أن يجمع إليه مثل هذا الشباب.
ومن الأمور التي لفتت نظري أنه أخذ من عمر خصلة من أبرز خصاله، تلك هي إبعاد الأهل عن مغانم الدعوة، فقد ظل عبد الرحمن ومحمد وعبد الباسط، وهم أخوته بعيدين عن كبريات المغاصب، ولطالما كان يحاسبهم، كما كان عمر يحاسب أهله ويضاعف لهم العقوبة إذا قصروا.
وقد أتيح لي أن ألقي بوالده الوقور، الشيخ عبد الرحمن البنا، وسمعته يتحدث مع بعض الإخوان. أنه كان يتمنى لو أن ابنه وضع الكتب في أمر الإسلام واكتفى بذلك؛ وقد رد عليه الأستاذ البنا بأنه منشرح الصدر لمعالجة الإسلام عن طريق إنشاء الجماعات وتأليف الرجال
للكلام صلة
أنور الجندي
1 - إندونيسيا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
(إنها لسلاسل متصلة من الحدائق الغناء)
سمو الأمير محمد علي
(إندونيسيا هي جزر الجنة)
إنها قطع من الماس تزين خط الاستواء
ملتا تولي
بهذه الصفات وصف الكتاب والجغرافيون إندونيسيا. ونحن في هذه الأيام في أشد الحاجة إلى أن يعرف بعضنا بعضا مما يؤدي إلى مزيد من التعاون بيننا؛ فربما كان في ذلك خير لنا وللناس جميعا. وقد تحدثت إلى القراء الكرام عن الباكستان، وهاأنذا أحدثهم عن إندونيسيا.
هناك في جنوب شرق آسيا وبينها وبين أستراليا تنتشر مئات من الجزر الكبيرة والصغيرة تداعبها أمواج المحيطين الهادي والهندي منذ أقدم العصور. . هذه الجزر هي إندونيسيا.
ولفظ إندونيسيا مركب من كلمتين: (إندو) ومعناها الهند (ونيسيا) ومعناها جزر. فإندونيسيا معناها جزر الهند. وكانت هذه الجزائر تعرف فيما مضى باسم جزائر الهند الشرقية، وكان العرب يطلقون عليها اسم جاوة، مع أن جاوة اسم لجزية واحدة من تلك الجزر المتعددة. وقد حاول الهولنديون تسميتها بالهند الهولندية ولكن الوطنيين رفضوا، واضطرت الحكومة الهولندية إلى الاعتراف رسميا باسم إندونيسيا في 23 أغسطس 1940 تحقيقا لرغبة الوطنيين الإندونيسيين.
وفي 17 أغسطس 1945 أعلنت إندونيسيا استقلالها، وجاهدت في سبيله، وأرغمت هولندا على الاعتراف به.
تتكون إندونيسيا من مئات من الجزائر يبلغ تعدادها أربعة آلاف تقريبا، ولكن أهمها: جاوه وسومطره وبورنيو وغينيا الجديدة (تريان) وسلبيس.
وتبلغ مساحتها 743. 340 ميلا مربعا، أي قدر مساحة أوربا تقريبا، وعدد سكانها 72 مليونا منهم 95 % مسلمون، 5 % مسيحيون وبوذيون.
وهنا ملاحظة جديرة بالذكر وهي أن إندونيسيا بمعناها السياسي تشمل الجزائر التي كانت خاضعة لحكم هولندا ثم استقلت عنها وهي التي ذكرناها سابقاً. أما إندونيسيا بمعناها الجغرافي فتشمل: جزائر الفلبين وكانت خاضعة للولايات المتحدة الأمريكية ثم استقلت عنها؛ وجزيرة فرموزا وهي مقر حكومة الصين الوطنية حاليا؛ وشبه جزيرة الملايو وهي تحت حكم بريطانيا؛ وجزيرة مدغشقر وهي تحت الحكم الفرنسي.
ويتكلم الإندونيسيون اللغة الإندونيسية وهي لغة دولتهم الرسمية، ولكن اللغة العربية منتشرة تؤدي بها الصلاة ويقرأ بها القرآن وتخطب الجمعة ثم تترجم إلى اللغة الإندونيسية.
ومناخ إندونيسيا استوائي، ذلك أن خط الاستواء يمر بوسطها، فهذه الجزائر تقع بين خطي 20 درجة شمالا و20 درجة جنوبا. ولكن يجب أن نذكر أن ارتفاع سطح هذه الجزائر وإحاطة البحر بها كان لهما تأثير كبير في المناخ، فقد خففا من حدة الحرارة وجعلا مناخ هذه الجزائر جميلا معتدلا وهواءها ورطبا نقيا. والدليل على ذلك أن درجة الحرارة في جاكارتا (بتافيا) تتراوح بين 20 ?، 25 ? ويبلغ متوسطها الشهري فبراير ويناير 25. 3 وفي شهري يولية وأغسطس 25. 8 وفي هذه الشهور تكون الشمس متعامدة على خط الاستواء.
وفي هذه المنطقة تنعدم الفصول فالحرارة دائمة ولكنها تزيد نوعا عنه تعامد الشمس على خط الاستواء في مارس وسبتمبر وتقل نوعا في يونيه وديسمبر لأن الشمس تتعامد في هذين الفصلين على مدار السرطان والجدي.
والمطر في هذه المنطقة كما هو الحال في الأقاليم الاستوائية دائم، ولكنه يزداد في فصلي تعامد الشمس على خط الاستواء ويقل نوعا عند تعامدها على المدارين.
ونظرا لوفرة المطر والحارة غزر الإنبات في إندونيسيا، وهي غنية بمناظرها الطبيعية الساحرة، وتكر فيها البراكين والجبال الخضراء كما تكثر فيها البحيرات والأنهار التي تروي تلك الأرض الواسعة المنبسطة المكسوة بالسندس الأخضر الذي يعطي منظرا فردوسيا جميلا ورونقا سحريا أصيلا، وقد قال سمو الأمير محمد علي حين زار إندونيسيا
(إنها لسلاسل متصلة من الحدائق الغناء).
وهذه الجزائر غنية بالإنتاج الزراعي والمعدني، فهي تنتج المطاط وجوز الهند والسكر والشاي والبن والتبغ والسكينا والتوابل والخيزران والأخشاب والأرز والفواكه والبترول والفحم والقصدير والرصاص والذهب والحديد.
وتنتج إندونيسيا 43 المطاط العالمي و32 قصدير العالم.
دولة إسلامية
يتجنى كثير من المستشرقين على الإسلام ويقولون عنه أنه دين انتشر بحد السيف. وليس أقوى في الرد على هؤلاء المفترين من ذكر قصة انتشار الإسلام في إندونيسيا. ذلك أنه معروف بداهة أن العرب لم يرسلوا حملة أو حملات إلى إندونيسيا لفتحها أو لنشر الإسلام بها. . وإذن فكيف دخل الإندونيسيون في الإسلام؟
وللإجابة عن هذا السؤال أحب أن أتحدث عن كثير من الإيجاز عن تاريخ إندونيسيا.
يعتقد بعض الجغرافيين أن الإنسان الجاوي كان أقدم أنواع السلالات البشرية التي وجدت في العالم. ويؤمن هؤلاء بأن موقع جاوة المتوسط في العالم مما ساعد على انتشار الإنسان في الكرة الأرضية، فجاوة سهلة الاتصال بأستراليا وبآسيا ومنها إلى أوربا وأفريقيا وأمريكا، ولكن هذه النظرية ما تزال في حاجة قوية إلى براهين تؤكد صحتها، وإن كان الثابت أن الإنسان الجاوي كان من أقدم سلالات الإنسان، فقد وجدت بقايا جثمانية يقدر عمرها بأربعين ألف سنة.
ويرجع أصل الإندونيسيون الحاليين إلى الجنس المغولي الطوراني. وقد هاجروا إليها من وراء جبال همالايا ووصلوا إلى الساحل الهندي ومن هناك ركبوا البحر إلى الأرخبيل الإندونيسي. وهناك هجرات أخرى وصلت إلى إندونيسيا عن طريق جنوب شرق آسيا والصين والصين الهندية.
وفي 545 م تعرضت إندونيسيا لهجرات أخرى من الهند، وتتابعت تلك الهجرات، واستوطن الهنود وتناسلوا حتى أصبحوا من أهالي البلاد الحقيقيين، وأقاموا فيها ممالك ودولا واسعة الأرجاء مترامية الأطراف، وكانت لها مستعمرات وأساطيل تشق عباب
البحار، ووصلت تجارتها إلى الصين وأستراليا الشمالية وأفريقيا والهند وبلاد الفرس، ومن هنا كانت البضائع تنقل بواسطة القوافل إلى البندقية بإيطاليا عن طريق آسيا الصغرى ومنها توزع في سائر أنحاء أوربا.
وفي هذا العصر انتشرت الديانة الهندوكية في إندونيسيا وشيدت كذلك المعابد والتماثيل للإله بوذا، وكذلك تشبع الإندونيسيون بالثقافة الهندية واصطبغ المجتمع الإندونيسي الصبغة الهندية فظهر نظام الطبقات المعروف عند البراهمة: طبقات الكهنة ورجال الدين وطبقة الأشراف والحكام وطبقة التجار والصناع وطبقة العمال والرقيق.
ويسمى هذا العصر بعصر الديانة الهندية.
دخول الإسلام
ليس من السهل تحديد مبدأ دخول الإسلام في إندونيسيا، ولكنا نستطيع أن نحدده بالتقريب على قدر الإمكان. فقد ورد في بعض كتب التاريخ أن التجار المسلمين من الهنود والفرس والعرب قد وصلوا في القرن التاسع الميلادي إلى شبه جزيرة الملايو. وليس معنى هذا أن الإسلام دخل تلك المنطقة في ذلك الوقت، ولكن معناه أن الاتصال بدأ بين المسلمين وبين سكان تلك البلاد في ذلك القوت على وجه التقريب.
وتروي كتب التاريخ بعد ذلك أن أحد الأمراء المسلمين من الهنود قد هاجر إلى سومطرا وعرض على سلطانها أو أميرها الإسلام فأسلم ولقب بالملك الصالح وقد توفي هذا الملك 1297م.
ويؤيد هذا الرواية ما ذكره الرحالة الإيطالي ماركو بولو الذي زار سومطرا 1292 حيث قال (إن سكان مجن هذه المملكة مسلمون).
وهكذا نستطيع أن نقول إن الإسلام قد دخل إندونيسيا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر.
على يد من دخل الإسلام إندونيسيا؟ ليس من السهل تبيان ذلك على وجه التحقيق. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن التجار العرب هم أول من أدخل الإسلام؛ ويقول فريق آخر إن الهنود أول من نشر الإسلام في تلك البلاد، ويذهب فريق ثالث إلى أن الإسلام قد دخل إندونيسيا على يد علماء من الفرس، ويؤيدون ذلك بوجود بعض كلمات إندونيسية مشتقة
من أصل فارسي.
ويذهب فريق رابع إلى أن الإسلام دخل إندونيسيا بواسطة التجار الإندونيسيين الذين وصلوا بتجارتهم إلى الخليج الفارسي حتى بغداد وغيرها من المدن الإسلامية، ثم بواسطة الهنود والفرس والعرب بعد ذلك.
ومهما يكن الأمر فإن دخول الإسلام في إندونيسيا لم يتم بواسطة سيف أو رمح وإنما على يد التجار المسالمين الذين دعوا الإندونيسيين إلى الإسلام فاستجابوا لهم ودخلوا في دين الله أفواجا.
وقد كانت سومطرا أول الجزائر دخولا في الإسلام ومنها انتشر في سائر أنحاء إندونيسيا، وبهذا انكمش ظل البوذية وأصبح 95 % من الإندونيسيين مسلمين.
وقد كانت الدولة الإسلامية التي قامت في إندونيسيا عظيمة قوية، وظل المسلمون سادة إندونيسيا حتى بدأت النهضة الأوربية الحديثة، وكشف طريق رأس الرجاء الصالح وتكالبت الدول الأوربية على الاستعمار. هنا بدأ صراع رهيب بين الهولنديين الذي عملوا على استعمار إندونيسيا وبين الإندونيسيين، وقد انتهى النزال بسيادة هولندا على حكام تلك الجزائر. ولكن الشعب الإندونيسي ظل يقاوم. وقد تعرض دعاة النهوض من أبنائه لكثير من الأذى والاضطهاد، فقد سجن ونفي الكثيرون، وعذب وشرد آخرون، ولكن الإندونيسيين صبروا والعقبى للصابرين.
ذلك أنه في 1940 دخلت اليابان الحرب وبدأت تستولي على الممتلكات الأوربية في جنوب وشرق آسيا، فاستولت على الصين وعلى الصين الهندية وعلى إندونيسيا وطردت الهولنديين ووقفت على أبواب الهند.
وفي 1945 هزمت اليابان وسلمت. حاول الهولنديون أن يعودوا إلى حكم الإندونيسيين، ولكن الإندونيسيين أعلنوا استقلالهم في 17 أغسطس 1945. حاولت هولندا إرغام الإندونيسيين على عودة الحكم الهولندي، ولكن الإندونيسيين استبسلوا في الدفاع عن حريتهم وهزموا الهولنديين، واضطرت هولندا إلى الاعتراف باستقلال إندونيسيا في 17 أغسطس 1949. مرديكا.
للبحث صلة
أبو الفتوح عطيفة
أبو العتاهية
للدكتور محمد عبد العزيز الكفراوي
أبو العتاهية والرشيد:
ليس يعنينا من حياة الشاعر في عهد موسى الهادي إلا ما أظهره الأول من قصر النظر ونكران الجميل، فقد كان الشاعر أثناء حكم المهدي صنيعة من صنائع هارون الرشيد، وكان ذلك بالطبع بغضب الهادي للمنافسة التي كانت بين الأخوين. وم يكد الأخير يلي الحكم حتى أقبل عليه الشاعر إقبال المنقطع إليه، وأعرض عن هارون بل آذاه إيذاء مريراً لا ضرورة إليه ولا مبرر له. . انظر إليه كيف يعرض بهارون في أبيات قالها مهنئاً الهادي بمولود:
أكثر موسى غيظ حساده
…
وزين الأرض بأولاده
وجاءنا من صلبه سيد
…
أصيد في تقطيع أجداده
كأنني بعد قليل به
…
بين مواليه وقواده
في محفل تخفق راياته
…
قد طبق الأرض بأجناده
من ذلك الحاسد الذي أكثر موسى غيظه؟ أليس ذلك الحاسد هو الرشيد؟ إننا لا نشك في أن ذلك هو مراد الشاعر؛ إذ أن نزاعاً مريراً كان قائماً إذ ذاك بين الرشيد والهادي بسبب محاولة الأخير تولية ابنه جعفر العهد بدلا من هارون ولي العهد الشرعي.
فليس عجيباً والحال كذلك أن يبادر الرشيد بإرسال أبي العتاهية إلى السجن عقب تولية الخلافة عقاباً له على ما أظهره من نسيان للجميل وخروج على مقتضيات اللياقة. بل العجيب حقا أن يذكر صاحب الأغاني أن الرشيد إنما أرسل الشاعر إلى السجن لامتناع الأخير عن إنشاد شيء من الشعر له، وما امتنع فيما يرويه الأغاني إلا حفظاً لعهد الهادي وضنا بشعره أن ينشد لأحد من بعده، وكيف يصبر الرشيد على هذا العبث، بل كيف ينسى للشاعر تعريضه به في شعره وهو الذي قتل أبا عصمة رئيس حرس جعفر بن الهادي لقوله له يوماً وقد قابل جعفر على أحد جسور بغداد: - (انتظر حتى يمر ولي العهد).
ومهما يكن من أسباب تلك الجفوة القصيرة فقد عادت الحال بين الرشيد والشاعر إلى ما كانت عليه من قبل، ونسي الخليفة أو تناسى ما كان من سوء أدب الشاعر وقلة وفائه.
والحق أن هارون كان مضطرا إلى مثل ذلك التغافل والتجاوز عن سيئات الشاعر إذ لم يكن له غنى عنه. فهارون مولع الفتيات الحسان يحادثهن ويختلط بهن ويسمع إليهن ينشدن الشعر ويغنينه أو يعزفن على نغماته، وما أكثر ما يجيش في صدر الخليفة من عواطف أو يعتلج بباله من خواطر نتيجة لاختلاطه بأولئك الجواري الحسان. وما أشواقه إلى أن يرى خواطره وقد ترجمت في شعر عذب وصارت أغاني وأناشيد تصدح بها جواريه الفاتنات. يروى لنا التاريخ - وما اقل ما يروي بجانب ما يهمل - أن الرشيد ربما أنشد البيت أو البيتين محاولا التعبير عن فَكرة أو خاطر خطر له ثم يكل ذهنه، وهناك يتلفت إلى من حوله من الشعراء علهم يسعفونه بإتمام ما بدأ. ويروي التاريخ أيضاً أنه ربما أعجب الرشيد بالبيت أو البيتين من الشعر وشرب عليهما وطرب وتمنى أن لو وجد من الشعراء من يلحق بهما بيتاً أو أكثر حتى يطول طربه وسروره، ومن أولى الناس بالجلوس إلى جانب الخليفة وإسعافه في مثل تلك الحال من أبي العتاهية الذي يقول فيه بشار بن برد وقد عجب من سرعة خاطره وسهولة قول الشعر عليه:(أشعر الناس مخنث أهل بغداد الذي يتناول شعره من كمه)
على أن شيئاً آخر كان يزيد في تعلق الرشيد بأبي العتاهية وشغفه بشعره وذلك هو حبه لعتبة، فقد خلق ذلك الحب بين الشاعر والخليفة نوعاً من المشاركة الوجدانية حيث كانا يجتمعان فيشكو كل منهما ما يلاقي في سبيل غرامه. ولعل الأبيات التالية تصور لنا أدق تصوير ما كان بينهما من علاقة في ذلك الشأن، وقد بلغ من تذوق الخليفة لتلك الأبيات وإحساسه بصدق معانيها أن أمر بإحضار الشاعر من سجنه وطلب إليه أن يعيد إنشادها على مسامعه ثم أمر له بخمسين ألف درهم على أثر سماعها، وإليك الأبيات: -
يا عتب سيدتي أمالك دين
…
حتى متى قلبي لديك رهين
وأنا الذلول لكل ما حملتني
…
وأنا الشقي البائس المسكين
وأنا الغداة لكل باك مسعد
…
ولكل صب صاحب وخدين
لا بأس إن لذاك عندي راحة
…
للصب أن يلقى الحزين حزين
أحس أبو العتاهية حاجة الرشيد الشديدة إليه فداخله شيء من الغرور والبطر، ولم يعد يكفيه أن صار جليس الخليفة وشاعره الأول، وفي ذلك ما فيه من تكريم، ولا أن يتناول كل عام
خمسين ألف درهم عدا ما يتفضل به الخليفة من منح وعطايا في شتى المناسبات، بل أخذ يلح عليه في أن يزوجه من عتبة، ولم لا؟ لقد كانت عتبة فيما مضى تعتذر عن الزواج بأنها كانت تخشى غضب المهدي أو زوجه. . أما الآن وقد ماتا وأصبح أمها بيد هارون فما الذي يقف في سبيل زواجه منها؟ ولم يكن الرشيد متحمساً لذلك الزواج، ولعله كان يعرف من أمر عتبة الشيء الكثير، وبعلم مقدما أنها لن توافق عليه، ومن ثم أخذ يكسب الوقت بإعطائه ميعاداً إثر ميعاد، واستمرت الحال على ذلك عشر سنوات كاملة. عشر سنوات ملأت الشاعر نقمة على ذلك الخليفة الذي يشرب ويطرب على ما أنشده الشاعر في عتبة من أشعار أودعها ذوب قلبه وعصارة نفسه، ثم لا يتحرك لإنقاذه أو يخف لتخفيف آلامه. نعم يروى المؤرخون أن الرشيد زار عتبة يوما من الأيام وفاتحها في شأن الزواج من أبي العتاهية فرفضت، فعاد الخليفة أدراجه واعتبر الأمر منتهيا. وما كان الشاعر من السذاجة بحيث يعتقد أن هارون مع ما كان عليه من بطش وجبروت قد عجز عن أن يحمل عتبة على الزواج منه لو أنه أخذ الأمر بشيء من الحزم والجد. وهكذا وقر في نفس الشاعر أن عشر سنوات كاملة كلها إخلاص وتفان في خدمة الرشيد ما كانت لتوجب للشاعر عليه وقفة واحدة حازمة، وقفة لو أنها تمت لغيرت من حياة الشاعر وذهبت بكل ما كان يعانيه من بؤس وحرمان، وما يحسه من ضعة وهوان. ومن الحق أن يقال إن عتبة لن تكن في نظر الشاعر مجرد فتاة ينالها أو يفشل في الحصول عليها، وما كان أهون خطبها لو كانت كذلك، فما أكثر أولئك الذين يحبون ويفشلون ثم لا يغير ذلك الفشل من مجرى حياتهم أو يضع من أقدارهم أو يسئ علاقتهم بغيرهم، ولكن لشاعرنا ظروفا خاصة. فقد كان فشله في الزواج من عتبة الدليل الواقعي على صحة ما كان يهجس في نفسه وما يتحدث به أعداؤه ومنافسوه من أنه وضيع بحكم مولده ونشأته. . وأن أي نجاح أدبي أو ثراء مادي لن يغير من تلك الحقيقة شيئا. . ومكن ذلك المعنى في نفسه إشارة عتبة أثناء رفضها الزواج منه إلى نشأته المتواضعة. ومن ثم ود الشاعر لو بدد تلك الهواجس التي كانت تلاحقه واكتسب ثقة بنفسه عن طريق الزواج من عتبة.
ونعود إلى هارون فنرى الشاعر وقد مل مقامه عنده وغناءه له، وتمنى أن لو وجد بابا غير بابه يذهب إليه، وقد سنحت له الفرصة سنة ثمانين ومائة للهجرة، فقد تولى الفضل بن
الربيع حجابة الرشيد في تلك السنة، وأخذ يضع الخطة لتقويض سلطة البرامكة، وسلاحه الأول في ذلك الدس والوقيعة، ذلك السلاح الفتاك الذي استعمله والده بنجاح ضد منافسه أبي عبيد الله وزير المهدي. ولكمن أنى له ذلك وهارون وجعفر البرمكي روحان في بدن واحد وجالس المنادمة والغناء تجمع بينهما من يوم لآخر، فإذا ما شربا وطربا تكاشفا حتى لا يكاد يخفي أحدهما عن أخيه شيئاً. فكيف يكون الحال لو كذب الفضل كذبة أو افترى فرية وألقى بها في أذن الرشيد فاكتشفها جعفر ولما تعمل عملها في نفسه بعد؟
لابد إذن لضمان نجاح خطة الفضل والتأكد من سريان سمومه في ذهن الرشيد ومن وضع حد لتلك المجالس الصاخبة التي تجمع بينهما، فلينتزع الفضل من مجلسهما إذن أبا العتاهية حتى لا يشيع البهجة والمرح فيه بما يمدهما به من شعر الغناء، بل ولتوحد الوسيلة للتشهير بتلك المجالس، وليذكر الناس بما فيها من مخالفة للدين، ولتوضع الأشعار للتنفير منها وممن يرتادها من الناس.
ومن أولى بأداء تلك المهمة من أبي العتاهية فهو ساخط على الرشيد بل ساخط على الحياة والأحياء جميعا، وهو رجل حريص يحب المال ويسعى إليه ولا يبالي يما يركبه من أهوال في سبيل الحصول عليه، وهو قبل كل ذلك شاعر مطبوع قادر على قول الشعر في كل فن وبكل مناسبة. فاتح الفضل أبا العتاهية في ذلك الأم، وأيأسه من هارون ومن عتبة ووعده الحماية من كل سوء أو مكروه يصيبه بسبب إعراضه عن الرشيد وهجره لمجالسه، ووعده إلى جانب ذلك مالاً كثيراً إن أنصت إليه واستجاب لرجائه. وانضمت زبيدة إلى الفضل، فهي حريصة على وضع حد لمجالس اللهو والطرب التي كان يجلسها الرشيد لأسباب لا تقل وجاهة عن تلك الأسباب التي حملت الفضل على بغضها والعمل على فضها، إذ أن تلك المجالس تجمع بين الرشيد والجواري الحسان من مغنيات وراقصات وعازفات، وفي ذلك ما فيه من استهواء للرشيد وشغل له عن زوجه وابنة عمه زبيدة.
وما إن سمع الشاعر ذلك العرض حتى قرر أن يقف من الرشيد موقفاً حازماً لا تردد فيه ولا هوادة، فأخبر الرشيد أنه لن يقول شعراً في الحب ما لم يخط خطوة عملية في شأن تزويجه من عتبة التي تلهمه ذلك الشعر.
وتعقد الموقف حين ثارت ثائرة الرشيد. . فأمر بإرسال أبي العتاهية إلى السجن وأقسم إلا
يخرجه منه حتى يقول شعرا. وهنا أقسم الشاعر أيضاً أنه لن يتكلم سنة إلا بالقرآن أو. . . لا إله إلا الله، وتلك حيلة بارعة من الشاعر. . فهو يعطي الخليفة سنة كاملة كي يصحح موقفه فيها فإن رجع لصوابه وزوجه من عتبة عاد إلى حظيرته. . وإن أبى إلا إهمال الشاعر والاستهانة بشأنه انضم إلى معسكر الفضل وزبيدة غير آسف ولا متردد، ولم ينس الشاعر أن يكتب إلى الخليفة من سجنه بأشعار ذات مغزى واضح، أنظر إليه وهو يجادل الرشيد جدالا منطقياً ويعجب له كيف يطلب إليه أن يقول شعراً في الحب وقد حرمه من عتبة التي كانت تلهمه ذلك الشعر: -
وكلفتني ما حلت بيني وبينه
…
وقلت سأبغي ما تحب وما ترضى
فلو كان لي قلبان كلفت واحداً
…
هواك وكلفت الخلى لما يهوى
ثم انظر إليه وهو يذكر الرشيد بمواعيده التي لا تنتهي إلى غاية: -
يا رشيد الأمر أرشدني إلى
…
وجه نجحي لا عدمت الرشدا
وابلائي من دعاوى أمل
…
كلما قلت تدانى بعدا
وأمني بغد بعد غد
…
ينفد العمر ولم ألق غدا
ومضت السنة ولم يستجب الرشيد أو قل لم تستجب عتبة لدعاء الشاعر الذي لم يجد بدا من الانضمام إلى المعسكر الآخر، متخذاً لنفسه أسلوباً جديداً في الحياة، يفي بأغراض زبيدة والفضل ويقضي حاجات في نفسه هو، وتلك الحاجات هي التنفيس عن عواطفه المكبوتة، والتعبير عما بكنه للحياة والأحياء من سخط ونقمة.
وبعد فقد بينا هنا ما كان للفضل وزبيدة من أثر في ذلك الانقلاب الذي طرأ على الشاعر سنة ثمانين ومائة للهجرة، وسنكشف في المقال التالي بعون الله تعالى عما لدينا من أدلة تثبت أن اتفاقاً كهذا قد تم بين الفضل وزبيدة من جهة وأبي العتاهية من جهة أخرى.
دكتور محمد الكفراوي
تاريخ الحركة العلمية الحديثة في حضرموت
للأستاذ أحمد عوض باوزير
قبل خمسين عاما، أو أكثر كانت (حضرموت) تعيش في عزلة تامة عن تطورات الثقافة في الأقطار العربية. وكانت دور (الكتاتيب) التي عاشت إلى وقت متأخر جدا هي كل ما هناك من مظاهر الحياة العقلية والعلمية.
ويجوز أن تكون (حضرموت) قد عرفت من مظاهر الحياة العلمية والعقلية غير هذه (الكتاتيب). إلا أننا لا نستطيع أن نحدد، من الناحية التاريخية، معالم تلك الحياة، أو نتبين آثارها الأدبية. فإن دراسة تاريخ الحياة الأدبية، والسياسية، والعقلية في حضرموت ليس من المتعذر فحسب وإنما كذلك عمل شائك لا يخلو من المفارقات والملابسات.
ونحن لا نريد أن نتبع مذهب (ديكارت) في هذه الدراسة العلمية، أو مذهب (الشك) كما يسميه الدكتور (طه حسين)؛ لأننا في فجر هذه النهضة الحديثة نطمع في الظفر بمعلومات أوفى، عن مظاهر الحياة العقلية، والعلمية. ولقد سررنا كثيرا، للفتوحات الجديدة، في التأليف عن التاريخ العام لحضرموت، وهي الفتوحات التي بدأها الأستاذ (صلاح عبد القادر البكري) حين أخرج كتابه (تاريخ حضرموت السياسي) وهو تعريف موجز بالحكومات السياسية، التي تعاقبت على (حضرموت) منذ صدر الإسلام إلى أواخر عهد السلطنات القائمة.
أما بعد: فإن (الكتاتيب) التي أثبتنا أنها كل ما بقي لنا من مظاهر الحياة العقلية والعلمية، فيما قبل الخمسين عاما الماضية لا ينفي أن يكون هناك من (النوابغ) من كانت ظروف حياته المعاشية أو أحاول استعداده الفطري قد أعانته على التفوق في العلوم الدينية والعربية، غير أن هذه (الحالات) الفردية لا يصح أن تكون مرآة صادقة للحياة العقلية والأدبية.
والذي يمكن الاطمئنان إليه في معرفة نشأة الحياة العقلية، في (حضرموت) هو أن ظهور المدرسة القديمة، أو ما يسمونه (بالمجامع العلمية)، في أوائل القرن الرابع عشر الهجري كان بداية طبيعية لتلك الحياة. وهذه (المجامع) تشبه إلى حد ما في نظام دراستها، تلك الجوامع القديمة التي كانت منتشرة في حواضر الدولة العباسية.
وأشتهر هذه (المجامع) التي نريد التنويه بفضلها هو (مجمع الشاطري) في سيئون، ومجمع (ابن سلم) في الفيل، ومجمع (مشهور) في الشحر. والمجمعين الأولين، أكثرهما تأثيرا في الحياة العقلية، وأبعدهما خطرا، في الحياة الاجتماعية. وإليهما ينتسب أغلبية (المتعلمين) من ذوي الكفاية النادرة، والإنتاج الرفيع. وقد كان يقوم بتدريس اللغة العربية، وأصول الشريعة الإسلامية فيهما أساتذة قديرون حذقوا تلك (الاختلافات) في المسائل الفرعية التي امتلأت بها كتب (الحواشي) المطولة و (الشروح) التقريرية.
ويكفي للتدليل على أهمية هذه (المجامع العلمية) أن يكون من خريجيها أمثال السيد (ابن هاشم العلوي) والمرحوم الشيخ (عبد الله محمد بن طاهر) والأديب المؤرخ (سعيد عوض با وزير) والسيد (محسن جعفر بوفمي). وغيرهم كثيرون.
وهذا لا يمنع أن يكون لدينا من الملاحظات عن هذه (المجامع العلمية) ما يفيد في تصوير الأحوال، داخل هذه (الجوامع). وهي ملاحظات استخلصناها أثناء مراجعاتنا للأنظمة التعليمية في المدة الحاضرة، وأولى هذه (الملاحظات) هو ما نسميه اليوم (بفوضى المناهج) فالطالب في هذه (المجامع) لا يمكن أن يتقيد (بالزمن) سواء أكان في التحاقه، أو في الأعوام الدراسية أو في مواعيد حضوره وغيابه.
وقد يبدو أن هذه (الملاحظة) ليست على شيء من الأهمية، أو الخطورة والعكس - في نظرنا - هو الصحيح. فإن هذه (الفوضى) تكون قد حرمت الكثير، الفرصة للاستفادة من (المواعيد) ولذلك تضطرهم إلى البقاء داخل هذه (الجوامع) أعواما أطول.
وثاني هذه (الملاحظات) أن هذه (الجوامع) تسرف كثيرا في مناقشة (الآراء) المتضاربة أو ما يسمونه بأقوال (الحواشي) وهي أقوال عديمة الفائدة، وتؤثر في نفسية (الطالب) تأثيرا خطيرا ينتهي به إلى (الفناء) وسط تلك (الحواشي) ويبعده عن الجوهر والعرض.
وهناك غيرهما من (الملاحظات). غير أننا لسنا بصدد الدراسة الخاصة. وفي هذا القدر الذي أثبتناه ما يكفي للتعريف بأحوال (المجامع) ونظام دراستها.
وظهرت في هذه الأثناء (المدرسة الحديثة) وهي تختلف تمام الاختلاف عن نظام الدراسة في تلك (المجامع العلمية). وأولى هذه المدارس هي مدرسة (الدباغ) في المكلا. وكان قد دعا إلى تأسيسها السيد (حسين آل الدباغ) وهو من الحجازيين الذين فروا على أثر الحملة
النجدية الوهابية.
وأنشأت (مدرسة الدباغ) في المكلا فرقة للكشافة، كانت أول فرقة منظمة. كما قد أجازت تعليم (الجغرافيا) و (التاريخ) و (الأشياء) وهي العلوم التي كانت (العامة) تعتقد أنها تفسد الدين، وتؤذي (الأسلاف). .
وعلى أثر ارتقاء عظمة السلطان (صالح بن غالب القميطي) عرش السلطنة القميطية، تغيرت الحياة العلمية تغيرا كبيرا. واقترن عهده (الزاهر) بالنهضة الحديثة التي سنأتي على وصفها في النبذة التالية: -
وقبل الإفاضة في الحديث عن مقومات النهضة الحديثة نعود إلى ذكر الحكومات السياسية المعاصرة التي تحكم (حضرموت). وهي الحكومات التي ترتبط و (الدولة البريطانية) بمعاهدة التحالف والصداقة، وأكبر هذه الحكومات نفوذا، وأوسعها رقعة. هي الحكومة (القميطية). ويتولى عرش هذه الحكومة، عظمة السلطان (صالح بن غالب القميطي) وهو يحكم القطاع الساحلي، ومناطق أخرى في البلاد الداخلية؛ وأشهر مدنها (المكلا). وهي من الموانئ الهامة في جنوب الجزيرة العربية، وعاصمة الحكومة القائمة. و (الشحر) وهي المدينة التاريخية القديمة. و (الفيل) وهي من المناطق الزراعية، ومركز النهضة العلمية الحاضرة. و (شيام) وهي مدينة التجارة.
وثاني هذه (الحكومات) هي الدولة الكثيرية. وهي من الحكومات القديمة التي يعود تاريخها إلى أواخر القرن الثامن الهجري. ورئيس الحكومة الحالي هو السلطان (حسين بن علي بن منصور الكثيري) و (تريم) و (سيئون) وهما من المراكز العلمية والأدبية في تاريخ النهضة - يخضعان (للحكومة الكثيرية) والأولى من المدة التاريخية القديمة، والثانية عاصمة الحكومة الحاضرة، ومهبط الأدباء، والمؤرخين من المحدثين.
وهناك غيرهما من الحكومات. وهو ما نسيمه بالحكومة القبلية. ولكن هذه الحكومة آخذة في الزوال بفضل سياسة دار المستشار البريطاني المقيم التي دأبت على نشر الأمن العام والقضاء على العصاة، من الخارجين عن الحكومتين، الفعليتين.
ولعل من أبرز مقومات النهضة الحديثة، في بلدان السلطنة القعيطية، هو تلك الجهود الصادقة التي يبذلها عظمة السلطان لتشجيع الحركة العلمية والاقتصادية. فقد ظل يتغشاهما
برعايته ويتعدهما بتوجيهه وإرشاده. وكان قد عهد إلى دار المستشار البريطاني المقيم في وضع تقرير شامل لإصلاح التعليم. ووضع هذا التقرير، عميد معهد التربية بالسودان المستر (قرفت) بدعوة من الحكومة القعيطية، ووكل المستر قرفث إلى الأستاذ (القدال) تنفيذ تلك المقترحات. وهو من المواطنين السودانيين.
والأستاذ القدال هو الذي تولى بعد ذلك، سكرتارية الدولة القعيطية. بعد أن أمضى عشر سنوات، في خدمة التعليم بحضرموت، وتم في العشر السنوات الماضية 1939 - 1951 توحيد المنهج العام وترميم المدرسة الوسطى. وإنشاء مدرسة المعلمين والثانوي الأصغر والمعهد الديني الجديد. ووسعت خزينته الدولة الإنفاق على هذه المشاريع العلمية، كما استجلبت عددا من الموظفين السودانيين للعمل على تنفيذ توصيات المستر قرفت بشأن تقدم التعليم.
وقد تم في السنوات الخمس الماضية إيفاد المبعوثين من خريجي التعليم الأوسط، إلى المدارس الثانوية في مصر، والسودان، وسرويا، والعراق. وقد عاد بعض هؤلاء إلى حضرموت والتحقوا بالمصالح الحكومية في الدولة.
ومن المآثر الطيبة التي خلدها عظمة السلطان، هو تأسيس المكتبة السلطانية بالمكلا، وهي من المكتبات الشهيرة، وتضم من المؤلفات القديمة والحديثة ما يربو على الثلاثة الآلاف في مختلف الفنون والعلوم.
وعلى الرغم من النقص المالي الذي تعانيه خزينة الدولة الكثيرية فإنها لم تقصر في العناية، بالشؤون التعليمية. فقد أنشأت المدرسة السلطانية في سيئون. وتولى إدارتها على التوالي، السيد محمد بن هاشم العلوي والسيد علي بن شيخ بلفقيه، وتدرس الحكومة الحاضرة مشروعا جديدا. لإنشاء نظارة للمعارف. وأعربت دار المستشار البريطاني عن استعدادها لتقديم الإعلانات المالية لهذا الغرض. ويقوم السيد علي بن شيخ بلفقيه في هذه الآونة بدراسة نظام التعليم الحالي في مدارس الدولة القعيطية، وهو من المتحمسين للفطرة والداعين إلى الوحدة.
وهناك غير هذه المدارس الرسمية في الحكومتين المدارس الأهلية، وهي تسير وفق مناهج خاصة، مقتبسة من مناهج التعليم في البلاد العربية، ولا يزال التعليم الأهلي يفتقر إلى
الجهود الكثيرة، والإعانات المالية، ليؤدي رسالته العامة على الوجه الصحيح.
ويقترح الأستاذ صلاح عبد القادر البكري في كتابه الجديد عن رحلته في جنوب الجزيرة العربية، أن يقوم المسئولون، في نظارة المعارف على إجراء تعديل شامل، في المنهج السوداني ليتمشى والأحوال الطبيعية، والتربوية في حضرموت.
هذا هو تاريخ الحركة العلمية الحديث. في حضرموت. أجملناه في هذه الصفحات. وهو تعريف بأوجه النشاط العلمي والثقافي في الخمسين عاما الماضية من تاريخ حضرموت. نرجو أن يفيد في التعريف، بهذه البلاد العربية، التي تسعى حثيثا إلى النهضة والرقي.
أحمد عوض باوزير
رسالة الشعر
ربيع الشاعر. .
للأستاذ حسين محمود البشبيشي
من أي عهد عتقت نشواتي
…
سكر الرحيق وعربدت كاساتي
ما الخلد، ما روضاته، ما السحر ما
…
آياته. . من هذا الآيات
ما العود ما رناته، ما الناي ما
…
حناته. . من هذه الحنات
ما الظل، ما أفياؤه، ما النور ما
…
لماحه. . من هذه اللمحات
دنيا من الألق العلي تنزات
…
من أفقها السامي لغور حياتي
فإذا الربيع يلفني بصفاته
…
وألفه بمشاعري وصفاتي!
وإذا حياتي جنة. جل الذي
…
قد صاغها من صحوة وسبات
ينساب فيض العطر بين زهورها
…
كمشاعري تنساب منتشيات
كمشاعري رشفت سلاف ربيعها
…
حسا، وكم سكرت من الرشفات
فهتفت من فرط لهيام وعربدت
…
كأسي وجن الخمر من نشواتي
أنا من ربيعك يا وجود فلا تدع
…
صنو الربيع يهم في ظلمات!
علمتني أن الحياة حقيقة
…
ضحكت فهل علمتني ضحكاتي؟
هذا الربيع اليوم لست أحسه
…
وهماً، ولكني أحس حياتي
قد كان يعبر بي كلمحة واهم
…
اليوم أعبره وبي صبواتي
الكون هذا الكون بين مشاعري
…
والغيب سر الغيب في خطراتي
إني أحسك يا ربيع بكل ما
…
يبدو لعيني رائع القسمات
فإذا مضيت إلى التراب ولفني
…
أصلي، وعدت إلى الظلام العاتي
وفقدت كل معالمي ومظاهري
…
غير انطلاق الروح بعد مماتي
سأرى الحياة هدى وأدرك كنهها
…
معنى. ويسعد صمتها سكناتي
وأعود في قبل الندى لزهوره
…
لأرى الربيع الطلق في سبحاتي
وأسير في الدنيا ربيعاً خالداً
…
سكب الذي ولى بكأس الآتي
من ذلك النشوان يخطر في الربى
…
ثملا، فيسكرها صدى الخطوات
تتفجر البيداء من خطواته
…
ماء، وتنبت رائع الزهرات
من ذلك الفنان، بعثر روحه
…
وفؤاده في السهل الربوات
فإذا السراب حقيقة وإذا الصدى
…
لحن يفيض بأقدس النغمات
من ذلك الخلاق من أجرى الهوى
…
والسحر من أحيا جديب حياتي
فإذا حياتي والربيع جديدة. .
…
وإذا ربيعي بالحياة موات!!
من ذلك المستور راح يهزني
…
هزا، ويغمر نشوة جنباتي
كحقيقة خفيت على ولم تزل
…
أسرارها تنساب في خطراتي
وأكاد أدركها بقلبي صورة
…
كملت، وإن عزت على نظراتي
كالله لست أراء، لكن كل ما
…
يوحي به يهتز في جنباتي
ألقاه في حلمي وفي صحواتي
…
وأراه في صمتي وفي سجداتي
هو خالق الجنات، إن صفاته
…
سطعت ربيعا عاطر الجنات
وترى الحياة كأن روحاً طائرا
…
يهفو بها نشوان في لهفات
تتخطر الأنسام بين رياضها
…
كتخطر الأنغام في صدحات
وتذيبني وأذيبها وأكاد من
…
وله القصيد أذوب في أبياتي
هذا ربيع الملهمين فغني
…
شعرا ندي الروح واللفتات
أنا قد ولدت مع الربيع فلا تسل
…
عني وسل إن شئت عنه حياتي
الشعر ألف بيننا بفنونه
…
والحب صورنا من الصبوات
والشعر ذوب مهجتي بكؤوسه
…
وأسال أكؤسه على طرقاتي!
فمفاتن الإلهام فوق عيونه
…
وروائع الأشعار في خطواتي!
يا ومضة من عالم قد أشرقت
…
جنباته نشوى من الومضات
يا قبلة تركت على ثغر الربى
…
زهر الحنان وحنة الزهرات
يا مهبط الوحي الشرود تدفقت
…
آياته بالوحي متنشيات
يا نبضة الحيوات في قلب الدنا
…
قلبي بحبك واله النبضات
يا شاعرا بعث الوجود قصيدة
…
سجد الوجود لها من اللهفات
يا مهجة طهرت ففاض نقاؤها
…
سحراً يبث الطهر في المهجات
الله صورنا نقاء طاهراً
…
والله طهرنا من النزوات
وأسال في جنبيك خمر حنانه
…
وأسال خمرك في منابع ذاتي!
فإذا كؤوسك روضة وإذا الطلى
…
عطر يضوع بأقدس النفحات
وإذا حياتك فرحة تجتاح ما
…
يجتاح نفسي من جوى وشكات
تأسو إذا جرح الشتاء وكم سرت
…
لمسات كفك في الربى حبوات
عجبا يكاد الترب ينبت ألسنا
…
تشدو الحياة وأعينا ألقات
كم مجدب فجرت ميت صخوره
…
مهجا تراقص أغصنا ثملات
فغدا زماني حانة ندمانها
…
أنا والربيع، فهات خمرك هات
حسين البشبيشي
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
حول محاضرة عن شعر أبو الوفا:
دعينا يوم الخميس الماضي إلى سماع محاضرة للدكتور إبراهيم ناجي بك بجمعية الشبان المسيحية، عنوانها (سيكولوجية شعر محمود أبو الوفا).
والدكتور ناجي له جولات موفقة في التعليلات والتحليلات النفسية، والأستاذ محمود أبو الوفا شعره حبيب إلى النفس.
لذلك كنا نتوقع أن ينال شعر أبو الوفا عناية العالم النفسي والأديب الكبير إبراهيم ناجي، ولكنا سمعنا بحثا تسعة وتسعون في المائة منه كلام في تعريف الشاعر والفرق بينه وبين الناثر، والواحد الباقي من المائة في شعر محمود أبو الوفا. . قد وصل إليه من حيث قال إن الكلمات العادية الجارية على الألسن يتناولها الشاعر فيبعث فيها الحياة ويكسبها إشعاعات يبلغ بها عواطف الجماهير، وكذلك أبو الوفا.
وقام - بعد محاضرة الدكتور ناجي التي ألقاها نائب عنه إذ اعتذر هو من عدم الحضور - الأستاذ حليم ديمتري، فتحدث عن (عنوان النشيد) للأستاذ أبو الوفا حديثا خلط فيه قليلا من الكلام على هذا النشيد وكثيرا من الكلام الذي يقصد به الدلالة على غزارة العلم وسعة الاطلاع! ثم ألقى النشيد كله وهو نحو ثلاثمائة بيت، وقطعا أخرى للشاعر، حتى استغرق ذلك نجو ساعة أمل فيها كل الإملال، لا بالشعر نفسه بل بما صنع في إلقائه. . ويظهر أن الأستاذ ديمتري لم يمرن لسانه على النطق الفصيح وبخاصة نطق الشعر، وقد حطم الأوزان تحطيم الأصنام. .
والعجيب أن الأستاذ ديمتري طرق موضوع التحرر من الأديان التي يراها قيودا عائقة في الحياة. على أساس فهم غريب للأبيات الآتية، وهي من (عنوان النشيد) حيث قال أبو الوفا في حوار بينه وبين الروح التي يستلهمها.
قلت: قل لي يا أخا الروح الرفيعه
ما لزوم الدين أو أي شريفه
لنفوس الناس ما دامت رفيعه
حين أن النفس مذ كانت ولوعه
بالتسامي والتعالي بالطبيعة؟
قال: لما لا ترى النفس الوضيعه
ثم، أخلوا الأرض من كل شريعة
إنما، والنفس ما زالت رضيعه
من أب سوء، ومن أم وضيعه
كيف ترك الدين أو نلغي الشريعه
إلى أن قال:
إنما الأديان آداب رفيعه
وهي تفسير جميل للطبيعه
فهم السيد ديمتري من هذه الأبيات ومن مثيلات لها في (عنوان النشيد) أن الشاعر يدعو إلى نبذ الأديان! وما كنت أظن أن مثله يحتاج إلى أن أقول له إن الشاعر يقول: إذا كنت لا ترى في هذه الدنيا نفسا وضيعة وكان إنسانها كاملا فلا مقتضى للدين والشريعة، ولكن الناس هم كما نراهم في ضعتهم ودناياهم، فكيف نستغني عن الأديان ذات الآداب الرفيعة وهي تفسير جميل للطبيعة. .؟
ولم يكن لائقا من السيد ديمتري أن يصول ويجول في ميدان (اللادين) وهو يتكلم في جمعية دينية!
وعلى رغم أن ديمتري قرأ (عنوان النشيد) كله، وفيه قول الشاعر بعد أن عرض حال العالم وما هي عليه من شر ونزاع:
ولئن تسألهم: فيم الخصام؟
لأجابوا هو من أجل السلام!
قل لهم: يا قومنا أي سلام!
ليس بين العقل والقلب انسجام
ذي هي العلة لا سوء النظام
على رغم ذلك قال ديمتري إن الشاعر يؤمن بأن العقل وحده هو الذي ينبغي أن يسود!!
وقد عقب الأستاذ محمد قطب على ذلك، فاستدل بتلك الأبيات وبقول الشاعر أيضا:
لا أرى الإيمان تشريعا وكتبا
بل أرى الإيمان وجدانا وقلبا
على أن شاعرنا يؤمن بالقلب وبالعقل، فهو يرى أن الدول الكبيرة التي تتحكم بالعالم اليوم لا ينقصها العقل، ومع هذا نراها تحدث في العالم الشر والنكر والعقل لديها متوافر! فالشاعر يدعو إلى مشاعر إنسانية تطهر هذا العالم الذي يتخاصم من أجل السلام.
الحياة الفكرية في مصر الحديثة؛
أشرت في الأسبوع الماضي إلى المحاضرة التي ألقاها الدكتور محمد كامل حسين في حفلة استقباله عصوا جديدا بمجمع فؤاد الأول للغة العربية واعدا بخلاصتها في هذا الأسبوع، وهذه هي الخلاصة:
تحدث عن سلفه في عضوية المجمع أحمد حافظ عوض، فكان مما قاله: أنه نشأ في عصر لا يعد خير عصور الحياة الفكرية في مصر، وآثاره الأدبية لا تخلو من صفات ذلك العهد، ولا يعد هذا عيبا، فحسب المرء أن تكون آثاره في ميدان الفكر صورة صادقة واضحة للعصر الذي يعيش فيه، وكذلك كانت آثار سلفي، ففيها تخبط الذين يلتمسون أسلوبا جديدا وتعثر الذين يتحسسون منهجا غير مألوف، ولا أكتمكم أني أحب كثيرا من هذا التخبط وذلك التعثر، بل بعضه أحب إلى نفسي من الكمال الفني، وإن لأجد سقارة أحب إلى من وادي الملوك، وأقدم الشعر عندي خير من شعر أبي تمام، وإن كنا لا نعرف للشعر العربي دور تعثر ولا طور بداءة، كأنما هو قد انبعث من رمال الصحراء أتم ما يكون جمالا، كما خرجت (فينوس) من أمواج البحر، والصورة القديمة أشهى إلى النفس من روائع (روفائيل) كأن الكمال الفني يشعرني قرب النهاية وضعف الشيخوخة.
ثم تحدث عن الحياة الفكرية في مصر الحديثة فقال: إني ممن لا يزالون يؤمنون بالفكر المحض وأثره في الحياة العامة. وأكثر الناس على أن الحياة الحديثة شغلتنا عنه بما هو أقرب منالا وأسرع جزاء، وأن المحدثين يفضلون العمل على الفكر، وأن الغلبة اليوم لما سميناه الماديات. وأننا فقدنا الإيمان وهجرنا الأخلاق واختلط علينا الخير والشر، ولا أريد دفاعا عن المحدثين، ولكني أقول إن هذه آراء لا تصدق إلا على ظاهر الأمور، واصل
الخطأ فيها ما طرأ من تغير على مكان الفكر من حياة الناس وعلى الصور التي تتمثل فيها الأخلاق. إلى أن قال: والناس في عصرنا هذا لم يفقدوا الإيمان وإنما شكوا فيما يؤمنون به، ولم ينكروا الأخلاق وإنما التمسوا لها وجوها غير التي اصطلح عليها القدماء، ولم يهجروا الكثير من الفضائل الفردية التي عكف عليها الأولون إلا ليستبدلوا بها فضائل اجتماعية ذهبوا إلى أنها لا تقل فضلا.
ثم عرض للاتجاه إلى المدنية الغربية، فقال إذا كانت المدنيات كلها قد وات وجهها شطر المدنية الغربية فإن ذلك ليس إعجابا بها أو خضوعا لقوتها، بل يرجع إلى أن طبيعة التفكير البشري في جوهرها واحدة، وأن كل ثقافة لا يقف بها النمو ستجد نفسها تسير على نهج يؤدي بها إلى ما يشبه المدنية الغربية.
ثم قال: وكان أول ما اتصلت الأسباب بيننا وبين التفكير الغربي تلك المؤلفات التي كتبت في خلال القرن التاسع عشر يسيرة هينة التفكير بسيطة الأسلوب رقيقة المعنى، فيها ظرف وإعجاب يشبه إعجاب المراهقين بالكبار، ثم تبين بعد قليل أن السير بطئ لن نبلع به ما نبغي بعد أن سبقنا الغربيون بقرون، فهرولنا وأخذنا بجرع من الحضارة الغربية جرعا قويا نروي به ظمأ شديدا، وأهل البدو - وهم أعلم الناس بالظمأ - يقولون: الجوع أروى والرشيف أنقع. ونحن لا نزال نفضل الري على النقع، ولا يزال فينا أثر الهرولة التي أغرمنا عليها إرغاما.
وذكر صفات للتفكير عندنا، فعد منها الهرولة وأتى ببعض مظاهرها، ثم قال: ومن تلك الصفات الكلاسيكية المبكرة، والكلاسيكية تعني في العادة المحافظة على أسلوب خاص من حيث لشكل وحده، ذلك أن كل تفكير صادق أو فن جديد ينشأ معه أسلوب في التعبير خاص به، ثم لا يزال ينمو حتى يبلغ درجة من الكمال يعترف بها الماس، حتى إذا نفد ما في هذا التفكير أو الفن من قوة في الشكل يرجى لذاته.
إلى أن قال: وعلينا أن نقتل الفصاحة فينا فهي شكل محض، وأن نتجاهل البلاغة فقد أصابنا منها شر كثير، وألا نضع للأسلوب قواعد الجملة فالقاعدة الوحيدة للجمال هي أن يكون الشيء جميلا. ثم قال: وأول ما يجب علينا عمله أن نترك وراءنا ظهريا كل ما حملنا عليه من هرولة وتمويه، ولنقلع عن المجاراة والاحتذاء، فقد بلغنا من الحياة الفكرية مبلغا
يستحيل معه النكوص إذا تركنا أنفسنا على سجيتها. وأهم ما يجب أن نعنى به هو العلم بالعربية؛ فإن أحدا لا يستطيع أن يأتي بعمل ذي خطر إلا أن يكون ذلك بلغته. والذين لا يملكون ناصيتها يظلون حيارى لا يقدرون على شيء من الأدب الرفيع.
تعقيب:
وبعد فإن المتأمل في تلك المحاضرة القيمة يراها - على قيمتها وما حوته من آراء ناضجة وأفكار طريفة وعلى سياقها الجميل - لم تخل من (الهرولة) وهذا طبيعي، لأنها جزء من الإنتاج الفكري الحديث الذي قال الدكتور كامل حسين إن من صفاته الهرولة. .
وبيان ذلك في الأسبوع القادم إن شاء الله.
عباس خضر
الكتب
مذكرات واعظ أسير
تأليف الأستاذ الشيخ أحمد الشرباصي
للأستاذ كامل السيد شاهين
ما كان لمحنة الإخوان المسلمين أن تمر بغير تسجيل، وما كان لهذا العسف الوبيل الذي نالهم أن يذهب دون أن يدفع هؤلاء الذين بطشوا بهم دفعاً بليغاً!.
وهذا الكتاب الذي أخرجه لنا الشيخ الشرباصي، وإن كان مذكرات؛ والمذكرات عادة تبرز فيها الذاتية، وتختفي الجماعية، إلا أنها ليست مذكرات في أيام طبيعية، بل في أيام عصيبة شاذة، مفرطة في الحلوكة والشذوذ - ومن ثم كانت تدور مع شخص كاتبها على الأحداث العامة والأوضاع المنحرفة، وكانت عين صاحبها يقظى لا يفوتها فائت، وكانت نفسه مرهفة لا يمر بها الحوادث دون أن تتردد فيها، وتمتزج بها، ثم تحكم عليها الحكم الذي ترتاح له.
لقد كان قلم الشرباصي في هذه المذكرات مصوراً. فهو يصور الحجز الكريه وما يجد المحجوز فيه من كرب عظام، وما تقاسى فيه الإنسانية من ذلة وامتهان، وما يسمع البرءاء فيه من دروس تخلق روح الإجرام وتغري بالفساد. وهو يصور جماعة (البوليس) فئة لا يعوذ بها البريء فتحميه، ويستجير بها الخائف فتجيره، ولكنها أداة صماء مسيرة يحركها الباطن كيفما يشاء. فئة لا تفهم من القانون إلا أنه الغطرسة الكذوب والاستعلاء المقيت والاستبداد بالمجرم والبريء على السواء. وفوق أنها مفتونة بمكانتها، مجنونة بطغواها - تجدها تتضامن للرشوة، وتباع ذمتها بالمال، وتلفق وتزور، وتداجى وتنافق. لقد حدثنا عنهم الأستاذ حديثاً منثوراً: حدثنا حديثهم في التفتيش، وحديثهم في القسم، وحديثهم في الطريق إلى المعتقل، وحديثهم في المعتقل نفسه. . فمن كان بخعاً نفسه أسفاً على شيء فعلى وضع هؤلاء وضع الصيانة والحفظ، والتحكم في مصائر الناس فليفعل!.
وهو يصور لنا الاضطهاد المرير الذي يلقاه المعتقلون: من تأخر الطعام، ومنع الزائرين، وتكويم الفضلات يفرح فيها الذباب الجسور، وأذى خاص للذين يكبرون ربهم، أو يؤذنون
للصلاة، أو يعكفون على القرآن وكتب الحديث، أو يخطبون للجمعة، أو يوقظون إخوانهم ليجتمعوا على أداء حق ربهم!
وهو يصور لنا في سخرية أولئك المتطفلين من المستغلين الذين ينهرون الناس ليظهروا بمظهر الغيرة الدينية، أو يحاولون أن يثبتوا تدينهم بشتم الذين تقعد بهم أعذار قاهرة عن القيام الباكر لصلاة الفجر، وأولئك الذين يجلسون مجلس الفتيا وبضاعتهم كلمة من شيخ أو خطبة من واعظ أو فتوى من عالم. وما أكثر ما تجد هؤلاء، وما أكثر ما تجد منهم، وما أكثر ما يجنون على أنفسهم وعلى غيرهم وعلى دينهم أيضا.
وهو يصور لنا أفاعي اليهود، يتمتعون في معتقلاتهم ويسمرون ويشربون ويقيمون الحفلات راقصة معربدة، وهم في خفارة رجال الأمن، وربما أشركوهم معهم في الطرب والفجور. فأما الإخوان المسلمين، فتصادر حرياتهم، وتقطع على ظهورهم بطون السياط، ويذهب بهم إلى الطور صاغرين واجمعين، ويوقفون صفوفاً أمام شرطي صغير يأمرهم وينهاهم فلا يردون له أمراً، ولا يخالفون له نهياً، وترد إليهم معونات وإغاثات من أهليهم فلا يصل إليها أيديهم.
وأبشع ما يطالعك من هذه الصور هذا الذي يشيع في الكتاب كله، من فوضى القساوة التي يلاقيها المعتقلون، فكل أحد يستطيع أن يغيظهم وأن يسطو بهم وأن يتحكم فيهم: متعهد الطعام، ومندوب الصحة، وقومندان المعتقل، وحراس الأبواب، وكل من اتصل بهم بسبب قريب أو بعيد.
والعجيب أن يتمالأ هؤلاء جميعاً على النكاية بهذه الصفوة المختارة، فإن دل ذلك على شيء، فعلى تغلغل روح الفساد والانتهاز في طبقات الأمة دون استثناء. وأعجب من هذا أن تكون الأحكام العرفية - في بعض الأحيان - أداة لخلق الفتنة، ورد الأيدي في الأفواه، والجريمة الكبرى أن يدعي البطشة الفجرة أن بغيهم وعدوهم إنما هو استجابة لرغبة كريمة. فلعمري ذلك اللؤم المضاعف!
الصور لا تنتهي. . فأينما رميت ببصرك في هذا الكتاب طالعتك صورة معتمة مؤلمة. وأنت بين ذلك واجد صوراً مشرقة وضيئة في صور التعاون والتضامن الذي تخلقه المشاركة الوجدانية في المحن الرازئة، وصور الإبداع والاختراع الذي تظهره الحاجة
الملحة، وصور الصفاء الروحي والمراقبة التي يدافع إليها العجز المطلق وضيق الحيلة والأمل في القوة الغالبة التي تعنو لها القوى جميعاً، وصور الحنين إلى الحرية التي يوحي بها الأسر الظالم والبطش الغاشم. وصوراً أخرى لا يبلغها الإحصاء وكلها واضحة ناطقة أبلغ النطق، صادقة أنصع الصدق، مؤثرة أبعد التأثير!
وفي الكتاب على ذلك مآخذ لولا أن الأستاذ صديق عاقل لأعفيناه من الخوض فيها. . مآخذ لا تشين الكتاب، ولو أنها تورث هذه الصور كلما من بعض الجوانب. . فالأستاذ حريص الحرص كله على أن يذكر دائماً بأنه رجل خطيب وأن له جهوداً ملحوظة في نشر الدعوة، وأن له أتباعا وأحباء. . وشهد الله أن ذلك صدق خالص، ولكن الكريه فيه أن يكون حديثا على لسان صاحبه وبقلمه، وقبيح بمثل الأستاذ أن يذكر بذلك ويكرره حتى يجد القارئ في نفسه استكراها وملالة من معاودته، وأخشى أن أقول أنه ربما أفضى به هذا الإلحاح العنيف إلى إصغار الكاتب والتهوين من أمره، ومثل هذا العيب جار في كتب كثيرة للأستاذ؛ نرجو أن يبرأ منه في كتاباته المقبلة إن شاء الله.
وأحسب أن من ذلك ما ذيل له كتابه من تقريظ مهما يقل فيه، فهو غال غلوا شديداً ليس من السداد إثباته، وليس هو بالأثر الأدبي حتى يغتفر للأستاذ وصله بكتابه النافع، فسائر هذه التقريظات غاية في الغثاثة والتفاهة، ومن ذا الذي يكتب كتاباً أو مذكرة ثم لا يجد من طلبته - وهم كثر - من يقرظه بمثل قول (الشاعر) فيما يقول الأستاذ للمؤلف: -
أالقلب فيك متيم لنضالكم
…
وكفاحكم للحق والإخلاص
أهلا بمطلعك السعيد عزيزنا
…
أهلا فضيلة (أحمد الشرباصي)!
لا أظن أنني أقف الأستاذ على جديد إن أنا زعمت له أن ذلك شين عائب لكتابه هذا. ولا أظن أنني أذكر منه ناصيا، إن أنا لفته إلى أن الكتاب حق القارئ، وليس حقا له حتى يشجع صغار تلاميذه على حساب القراء!
تلك هفوة. . وأخرى أن الأستاذ ربما ظن أنه وقف موقفا كريما بدفاعه عن الأزهر. وشر ما فعل بهذا الدفاع الذي لا يرعى الحق. فالإخوان يقومون بلب اللباب من رسالة الأزهر. ومجاد الأزهر كادت تلفها الالتفاف لولا هبة الإخوان. فإذا لم يرفع الأزهر صوتا بالاحتجاج، ولم يستطع إظهار غضبته من أن يكون التدين سبة وداعية للاضطهاد
والعسف. . فإنه من الخسة والدينية أن يسخر الأزهر وعاظه في أن ينالوا من الإخوان ويحكموا قيود البطش. . ألا أنه قليل للأزهر أن يلام، وقليل لرجاله أن يتهموا بالخور والضعف والتدليس وحب الدنيا. . وإذا كانت فعلتهم في النكر ما هي، فإنه لأنكر منها أن يدافع عنها ويوقف إلى جانبها.
وآخره ما آخذه على الأستاذ هفوة أدبية - ولو أنها ليست في موضوع الكتاب إلا أنها جاءت متصلة بموضوعه:
فالأستاذ يرى أن المتنبي كان مرغما على مدح كافور الإخشيد. . ولست أدري ماذا أرغمه، ولم جاء إلى مصر إن لم يكن قصده المديح. . المتنبي رجل مداح لا أقل ولا أكثر. فإن ذهب إلى الشام فلمدح أمرائه قصد، وإن جاء إلى مصر فلمدح حاكهما أراد فيه أنه أرغم على مدح كافور؟. .
ويحدث عن كافور أنه كان عبدا بليدا. . فأما العبودية فليست مما يعاب به الإنسان كإنسان ولا يسب بها من ربى تربية بريئة من روح الجاهلية، وأما البلادة. . فالحكم بها على كافور أمر يدعو إلى الضحك الذي تمسك منه البطون، فأين وجدها الشرباصي، وكيف ألصقها بها الحاكم الذكي الداهية. . لقد هجا المتنبي كافورا بما لم يسمع بمثله فلم يقل قط أنه كان غبيا، وعندما تهيأ لمدحه لم يجد أفقاً أوسع للكلام من أفق ذكائه ودهائه:
مجربا فهما من قبل تجربه
…
مهذبا كرما من غير تهذيب
حتى أصاب من الدنيا نهايتها
…
وهمة في ابتداءات وتشبيب
يدبر الملك من مصر إلى عدن
…
إلى العراق فأرض الشام فالنوب
ويقول الشرباصي إن الناس كانوا يسخرون منه عندما يلقبونه (مولانا الأستاذ)، والذي يظهر لي أن الأستاذ (أحمد لا كافور) لا يعلم أن كافور كان قبل توليته الملك، يدبر بيت الإخشيد. . وأن كلمة أستاذ كلمة فارسية من معانيها (المدبر). . فهذا لقبه؛ فهل - بعد ذلك - يكون من السخرية أن ينادي المرء بلقبه.
ويستدل الشيخ الشرباصي على غبائه وقلة فهمه بأن المتنبي كان يذمه ويهزأ به وهو لا يفهم، وآية ذلك عنده أمه قال فيه: -
وما طربي لما رأيتك بدعة
…
لقد كنت أرجو أراك فأطرب
والبيت - في الحق - محتمل للسخرية، محتمل للمدح، ولو سيق للمدح كان ضعيفا. . ورأيي أن المتنبي لم يقصد إلا المدح، وأن هذا من ضيق باعه لا من سوء قصيده، ودليلي عل ذلك عتيد. . دليلي من القصيدة نفسها، وشاهدي في سوابق هذا البيت ولواصفه. . قبل هذا البيت أبيات فيها رجاء ضارع، وخنوع ذليل، والتماس وضيع، وسؤال ملحف. أفيكون من المعقول أن يقف الإنسان موقفا يمرغ فيه حر وجهه في التراب ثم يكون ساخرات في الوقت نفسه؟ لا: أسمع إذن وتصور أبا الطيب: -
أبا المسك، هل في الكأس فضل أناله
…
فإني أغنى منذ حين وتشرب
وهبت على مقدار كفي زماننا
…
ونفسي على مقدار كفيك تطلب
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية
…
فجودك يكسوني وشغلك يسلب
أفهذأ قول ساخر؟ أيتفق أن يكون المتنبي في هذه الذلة الذليلة ثم يقول ساخرا من كافور إنني لما رأيتك شاع في نفسي السرور فأنت مما يتسلى ويتلهى به الناس؟ أما أنه لو جاء هذا البيت فريدا مسلوخا من سوابقه ولواحقه لكان سخرية خالصة! ولحق لابن جني أن يقول للمتنبي: ما زدت على أن جعلت الرجل (أبازنة) يعني قرداً!. وإن أحيل الأستاذ إلى ما كتبه الدكتور طه حسين في كتابه (مع المتنبي) عن هذه الأبيات ليرى إن كان المتنبي ساخر حقا. . وإن حاله كانت تستحق أحر الرثاء!
فأما قصيدته التي يزعم الأستاذ الشرباصي متابعة لمتأولة النحاة أنها جائية على التوجيه محتملة المديح والهجاء التي أولها:
عدوك مذموم بكل لسان
…
ولو كان من أعدائك القمران
فإنما يذهب بها مذهب الاحتمال أو التحميل أولئك الذين يتحاذقون بقدرتهم على التأويل والتخريج، فأما أحرار الأدباء والنقاد فليسوا من هذه الدعوى في شيء. . فلا يتم للأستاذ ما زعم أنه كان يمدح كافورا بهذه الموجهات إلا إن كان من عشاق التأويلات العقيمة التي لا وزن لها في شرعة الأدب الصحيح!.
وأعجب مما رأيت أن يقول لنا الشيخ الشرباصي أن المتنبي في هذه النونية مدح شبيباً مدحاً بليغاً في حضرة عدوه وقاتله كافور، وهذا أمر نوافقه عليه، ثم قال إن هذا المدح البليغ كان من المتنبي استجابة لدواعي الرجولة والبطولة، وهذا ما نراه فيه قد سقط، وإليك
أولا الأبيات:
برغم شبيب فارق السيف كفه
…
وكانا على العلات يصطحبان
كأن رقاب الناس قالت لسيفه
…
رفيقك قيسى وأنت يمان
وما كان إلا النار في كل موضع
…
تثير غبارا في مكان دخان
فنال حياة يشتهيها عدوه
…
وموتا يشهي الموت كل جبان
وقد قتل الأعداء حتى قتلته
…
بأضعف قرن في أذل مكان
أهتز الشيخ أحمد كما يقول اهتزازا عنيفا لهذا الموقف، ففيه - على ما يدعي - جرأة وشجاعة، وفيه صدع بكلمة الحق لوجه الحق، وهو - أي الشيخ أحمد - رجل مولع بعظائم الأعمال فيما قال أو كما قال!
يا لك من رجل طيب القلب، ماذا كنت تنتظر من المتنبي في مدح كافور بعد قتل شبيب؟ أكنت تنتظر أن يقول له: لقد قتلت شبيبا الجبان الحوار الذي كان يفرق من قتل دجاجة!. . لو قال ذلك لكان أجهل الناس بأسلوب المديح، ولكان قتل شبيب عملا تافها ساقطا لا وزن له، ولكان المتنبي لم يأت في مدح كافور بشيء. . ولكن المتنبي عمد إلى رفع شبيب وإعظام شأنه، والإشادة ببطولته، ونصب حوله هذه القلاع المحصنات فجعله صديقا للسيف، وأبرزه نارا مجتاحة لا تثير الدخان ولكنها تثير الرماد. . ثم تهيأ له بعد أن جعله أمنع من بيض الأنوق أن يقول إن كافورا صاده بأيسر صلاح وبأدبي جهد، فجعل كافورا بطلا أقوى وأعز وأمنع، وعاد بهذا اللباس الذي حاكه بد يا لشبيب، فألبسه لكافور (بعد أن عززه ومنعه) زاهيا سابقا! وبعد:
فقد قدمت أن هذا ليس من موضوع الكتاب، وأملي أن يسير المؤلفون من النقد الاجتماعي في هذا السير الحميد الذي سلكه الشرباصي. وإنني أعد هذا بدء الطريق للوصول إلى سلامة المجتمع ونظافته.
كامل السيد شاهين
البريد الأدبي
سلسلة رسائل الإمام الغزالي
وقعت في يدي خلال الأيام القريبة السابقة رسالة صغيرة عنوانها (التوبة بعد الذنب للإمام الغزالي رضي الله عنه وفي مقدمتها كتب الناشر أنه يقدم رسائل الإمام الغزالي التي تقع في حوالي ثلاثين رسالة، وأنه قد عثر على الأصل مخطوطا في مكتبة قرطجنة بإسبانيا بعد أن تحمل في الحصول عليها مشقة كبيرة. . .
وما إن قرأت هذا الكلام حتى أخذ مني العجب مأخذا، فما كنت أعتقد أن الاستخفاف بالأمانة العلمية يحدو بإنسان كائنا من كان أن يعبث بعلم رجل كالإمام الغزالي، ويقدم للناس منه زادا غثا، وقدرا ركيكا مضطربا، مدعيا أن هذا وذاك بضاعة الإمام الحجة، ومدعيا مرة أخرى أنه عثر عليها في مخطوطات بمكتبة قرطجنة في إسبانيا. بعد أن تحمل في سبيل الحصول عليها مشقة كبرى. .
ولست أدري ما الذي يحمله على أن يتحمل مشاق السفر إلى إسبانيا، ويتكبد النفقات الباهظة وغيرها، ورسالته الأولى هذه موجودة في الجزء الرابع من كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، وقد كان في استطاعته وهو في بيته أن ينقل منه رسالته المزعومة، دون أن يضطر الإبهام والتغرير إلى التحوير والتغيير والعبث بالمقدسات العلمية. .؟
أتخذ الناشر المصطنع عناوين لرسالته المزعومة، هي نفس العناوين الموجودة في الجزء الرابع من إحياء علوم الدين ومن كتاب التوبة وهو الأول من ربع المنجيات، مع التحوير والتبديل، فالعنوان الأول في رسالته هو (حقيقة التوبة) وفي كتاب الإحياء الطبعة العثمانية (بيان حقيقة التوبة وحدها) ص 3، وعنوان الرسالة الثاني (بيان وجوب التوبة وفضلها) وفي الإحياء نفس العنوان ص 4، وعنوان الرسالة الثالث (وجوب التوبة على الفور وعلى الدوام) وفي الأحياء (بيان أن وجوب التوبة على الفور) ص 7، وعنوان الرسالة الرابع (بيان أن التوبة الصحيحة مقبولة) وفي الإحياء (بيان أن التوبة إذا استجمعت شرائطها فهي مقبولة لا محالة) ص (11)، وعنوان الرسالة الخامس (بيان ما تكون عنه التوبة وهي الذنوب) وفي الإحياء (الركن الثاني فيما عنه التوبة وهي الذنوب صغائرها وكبائرها) ص 14، وعنوانها السادس (انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر) وفي الإحياء (بيان أقسام
الذنوب بالإضافة إلى صفات العبد) ص 14. . . وهكذا. . .
ولم يستطع الناشر المصطنع أن يجعل رسالته خاصة بموضوع التوبة، فتراه قد ألحق به موضوعا آخر هو موضوع الصبر والشكر، وكما عاث فسادا في نقل باب التوبة عاث فسادا أيضاً في نقل باب الصبر والشكر، وكأنه يلهو في ميدان لا فرسان فيه، والغريب أن الناشر المصطنع لم يتحر ذرة من الأمانة في النقل مما جعل علم الإمام الحجة ركيكا مضطربا يسئ إلى قدره، ويظهر أن مهمته كانت قاصرة على التجارة الهزيلة ولو على حساب الأئمة من العلماء. . .
وبعد. . . فمتى توجد الرقابة القوية التي تعمل على صوت المقدسات العلمية، وتضرب بيد من حديد على أيدي اللهاة العابثين بها. . حتى يبقى للعلم جلاله وقدسيته؟!
محمد عبد الله السمان
حول معنى (الأساطير)
انشرح صدري ليقظة الأستاذ (سلامة خاطر) الناقدة حينما قرأت ما كتبه في عدد الرسالة (984 ص 542) نافيا عن القرآن الأساطير، راجيا أن يكون الأستاذ توفيق الحكيم في إثباتها للقرآن راميا إلى معنى آخر غير المعنى المفهوم من الأساطير.
والحق الذي ينصره البحث العلمي الدقيق في منهجه الحديث هو أن الكلمات والعبارات تختلف مدلولاتها باختلاف الزمن وتطوره، فإذا أراد أديب أن يكتب أو يبحث فليجعل في حسابه فرق الزمن في تطور مدلول العبارة أو الكلمة.
وهذا أمر تدعو الحكمة (الحكيم) في كتابه (فن لأدب) أن يلحظ قدسية القرآن، فينزهه عن الشبهة، بل هذا خطأ منهجي يغفره أن نلحظ ما عناه القرآن الكريم نفسه من كلمة (أساطير) وأن ننوه عن حياة هذه الكلمة في مدارج التاريخ.
إن القرآن يريد بالأساطير في جميع آياته التي حكي بها شبهة المنكرين الصادين عن سبيل الله - يريد بها: الخرافات والأباطيل، والكذب والأضاليل. وجل القرآن أن يوصف بشيء من ذلك فليس فيه أساطير، وإذا أراد كاتب أن يصف قصصه فلينزل عند اصطلاح القرآن حتى يكون صادقا في التعبير عنه، معطيا للحق المنهجي قسطه كاملا غير منقوص، مراعيا
روح عصر التنزيل،. لقد سمى القرآن الأساطير لهو الحديث في سورة لقمان:(ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، ويتخذها هزوا).
وقد نهى الصحابة عن التعلق بها. . فقد ذكر المفسرون أن بعضهم كان يقرأ في (اسفنديار) فأنزل الله الآية: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن هو ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون)(سورة العنكبوت)
فإذا تحدثنا عن الفهم الصحيح لأي كلمة فلنتبع الطريقة التاريخية في الدرس، وبذلك نرتفع في بحوثنا الأدبية والعلمية، فوق الشبهات. إن كلمة من الكلمات (الرأي - التحريم - الكراهة - القياس) قد تباين مدلولها على مر الزمن في تاريخ الحياة الفقهية، عرف ذلك من عرك ميادينها.
وإن كل كلمة من الكلمات (الإعراب - النحو - الرفع - النصب - الجزم. . .) قد اختلف مدلولها في مدارج الزمن في حياة (النحو العربي) سبر غوره من مرن على (فناقله).
وإن كل كلمة من الكلمات (أدب - علم - فن) قد تباعد مدلولها القديم عن مدلولها الحديث في حياة العلوم والفنون، وإنه لا يتسنى لباحث في أية مادة عليمة أو فنية أن يكون دقيقا إلا إذا رعى هذا التطور التاريخي لمدلول الكلمات فيما يكتب أو يحرر.
فإذا قصد (الحكيم) بالأساطير معناها الفني المعاصر أو يحرر معناها القديم الغابر، فإنه - عندي - على كل حال ملوم.
إن قصص القرآن حق: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق)(سورة البقرة) - هو فكرة: (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون)(سورة الأعراف) - وهو عبرة: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). (آخر يوسف).
وهو بذلك تثبيت لأفئدة المؤمنين.
فكيف تلتقي قصصه - وتلك حالته - بالأساطير!. اللهم غفرا.
محمد إسماعيل الشلبي
دار. العلوم
سرني دفاع الأديب اللبيب محمود محمد السالم عن دار العلوم مع أنها لم تكن متهمة ولا مظلومة في كلمتي عن شعراء الشباب بالعدد الأسبق من الرسالة، وأنا أقر الأديب على رأيه الصحيح في الشعر الشعراء، وأشكره على ثنائه العاطر، ولكن الشيء الوحيد الذي أخالفه فيه، هو أن في الاستطاعة أن يحصي الناقد خمسة عشر شاعرا من أبناء دار العلوم أيام أن كانت مدرسة، أما بعد أ، صارت كلية جامعية، فهل يستطيع أحد أن يحصي لنا شاعرا أو اثنين؟ مع الاعتراف الكامل بمستوى دار العلوم الأدبي الرفيع في كلا العهدين.
أحمد أحمد العجمي
القصص
هيكل عظمي
لفيلسوف الهند وشاعرها رابندرانات
كان في الغرفة المجاورة لغرفة نوه الأطفال هيكل عظمي معلق يقرقع حينما تعبث به الريح وفي النهار كنا نسر بالاصطدام به.
وكان في هذا الوقت طالب من مدرسة الطب بكامببيل يعلمنا تشريح العظام لأن أوصياءنا كانوا يزعمون أنهم ينقشون في عقولنا العلم التام. ليت شعري لأي حد نجحوا؟ ولا جاحة لأن نقول ذلك لمن يعرفنا. والأفضل بلا شك أن نلتزم الصمت أمام من يجهلنا.
وقد كرت الأعوام واختفى الهيكل العظمي من الغرفة كما اختفى تشريح العظام من ذاكرتنا دون أن يترك أي أثر.
أزدحم منزلنا أخير بالمدعوين فاضطررت أن أقضي الليل في تلك الغرفة التي كان معلقا بها الهيكل العظمي والتي انقضى الزمن الذي كنت آلفها فيه. حاولت النوم بكل وسيلة فلم أستطع، أخذت أتقلب وأعد دقات ساعة الكنيسة طوال الليل. . . طفق مصباحي يختلج لحظة ثم انطفأ، وقد فقد أسرتنا بعض أعضائها حديثا، وهذا ما اقتاد فكري نحو الموت. .
ساءت نفسي ألا يشبه نور الصباح الذي يتيه في الظلمات من مسرح الحياة العظيم ضوء حياتنا الضئيلة الذي لا يلبث أن ينطفئ في كل ساعة من ساعات الليل أو النهار؟
ولتداعي الفكر عاودتني ذكر الهيكل العظمي، وبينما أنا أتصور شكل الجسم الذي كان يكسو تلك العظام، شعرت أن شخصا يدور حول سريري يسير متسكعا بجانب الحائط، ولقد شعرت بتنفسه السريع، وخيل إلى أنه يبحث عن شيء لا يجده، ويدور حول الغرفة بخطى سريعة.
ولقد خدعت في الحقيقة من شيء خلقه مخه المضطرب الذي حرم نومه، وظننت أو وقع الأقدام التي سمعتها ما هو إلا دقات شراييني في صدغي، ورغم ذلك شعرت بارتعاد مثلج. ولأطرد من مخيلتي هذا الهذيان صحت بأعلى صوتي:(من هناك؟) فأحسست بأن الخطى وقفت بجانب سريري وأجابني صوت (أنا الطارق وقد أقبلت لأختبر هيكلي العظمي).
ومن السخف أن يظهر الإنسان الهلع والخوف من خيال بسيط، ثم اكتفيت بأن أضغط على
وسادتي وأصيح بلهجة مخالفة للأولى: (إن هذا الشاغل الذي اقتادك في مثل هذه الساعة من الليل لمضحك؟ وماذا يهمك هذا الهيكل العظمي).
ويظهر أن الجواب انبعث من كلمتي نفسها: (إن عظام هذا الهيكل قد أحاطت قلبي ورأت محاسن شبابي الخلابة في ربيعها السادس والعشرين! وكيف أقاوم الرغبة الملحة في رؤيتها ثانية؟).
فقلت له بدوري: (إنها لرغبة شرعية فتمم بحثك واتركني لشأني عساني أجد النوم)
فرد الصوت: (أخالك وحدك وأود أن أجالسك لحظة نتسامر فيها. لقد كان يسرني أن أسجل الناس الحديث ولكني علم ألق في هذه الخمسة والثلاثين سنة الأخيرة إلا الأنين فوق نيران الموت، وما أحيلي أن أحادث اليوم رجلا مثل العهد السابق).
وقد شعرت أن شخصا أقبل وجلس بجانب ستائري فاستسلمت واستعنت بتوددي قائلا:
- ما أعظم ابتهاجي وسروري للسمر ولنبحث سويا عن موضوع شائق نتحدث فيه. .
إني لا أجد موضوعاً مسلياً اعظم من قصتي الشخصية فهل تسمح لي بسردها؟
وقد دقت في هذه الآونة ساعة الكنيسة الثانية صباحاً.
قال الصوت: (حينما كنت في عنفوان شبابي وكنت أقطن بين الأحياء سبب لي أحد الناس فزعاً ورعباً يفوقان رعب الموت: ولم يكن ذاك غير زوجي. وإني لا أجد ما أقارن به شعوري غير السمك المعلق في سن الشص فكأن شخصاً أجنبيا علقني بشص عنيف وانتزعني من دار طفولتي السعيدة حتى كنت لا أستطيع أن أفكر في الخلاص، وقد مات زوجي بعد الزفاف بشهرين بينما كان أقاربي وأصدقائي يبكون بكاء مرا لحظي التعس المنكود. وفي ذات يوم قال حمى لحماتي بعد ما أطال النظر على وجهي: (ألا ترين أن زوج ابننا لها عين سوء صائبة حاسدة؟) هل أنت مصغ إلى؟ وهل يهمك حديثي؟
- يهمني جدا وإن أوله ليدل على أنه شائق مسل!
- أتمم إذن حديثي. ولقد عدت إلى بيت أبي بكل سرور. ولو أن البيئة التي كنت فيها ما كانت تشعر بشيء من محاسني. . . لكني كنت واثقة من أنني أحرز جمالا رائعا نادرا. فما رأيك؟
- هذا شيء معقول جدا، ولكن لا تنسي أنني لم أرك قط.
- قط؟ وماذا تعمل بهيكلي العظمي؟ ها! ها! هذا لا يهم فإنني أمزح.
وكيف أجعلك تتصور أنه كان في هذين التجويفين اللذين تجردا من لحمهما عينان سوداوان يتلألأن بأنواع السحر والفتنة؟ أو أن الابتسام الذي كان يضئ هاتين الشفتين الورديتين لا يشبه في شيء هيئة الضحك العابس التي عرفتها، وعندما أذكر كل المحاسن والرشاقة ومتانة هاته الانحناءات التي كانت في شرخ الشباب تتفتح كالأزهار فوق هذه العظام النخرة لا أستطيع أن أكتم ابتسامي. وإني لأتألم من ذلك. وهل يستطيع مشاهير العلماء في زمن أن يفرضوا أن عظام جسم مثل هذا تخصص لدراسة تشريح العظام؟ وعلم أن طبيبا من الشبان المجاورين لنا شبهني بزهرة (الشمباك) الذهبية؟
حينما أمشي كنت أشعر بأن أقل حركاتي تفجر أمواجاً منسجمة تنبعث من كل وصب كلألاء الماس. كانت تمر على ساعات وأنا أشاهد في يدي اللتين كبلتا برشاقة الرجال الذين يتأجج فيهم نشاطهم.
ولكن هذا الهيكل العظمي قد أخفي عنك الحقيقة كشهادة الزور، ولك يكن في ميسوري أن أدحض تأكيداته الوقحة. أشعر أنني أحب أن أطرد النعاس من عينيك إلى الأبد بأن أستحضر أمامك الصورة الوردية الحية لجمالي بحث أمحو من أمامك كومة العظام المشؤومة التي تملأ ذهنك.
- كنت أستطيع أن أقسم بجسمك إذا كان لم يزل حيا، ولو أنه لم يترك منه أي أثر من العظام؟ لكن عقلي افتن بالصورة الوضاءة لجمال كامل يظهر بهاءه بقوة التضاد هذا الليل الفاحم الذي يحيط بها، وإني لا أقدر أن أقول أكثر من هذا.
- استمر الصوت في حديثه قائلا: لم تكن لي صاحبات لأن أخي الوحيد صمم على عدم الزواج. كنت وحدي في خدري وقد اعتدت أن أستلقي في الحديقة في ظل شجرة، وكانت الأحلام تستدرجني في يقظتي حتى خلت أن العالم كله قد شغفه حبي، وأن الدراري التي ما فتئت مستيقظة على الدوام لتثمل من نشوة بهائي. إن الصبا لتتنهد حينما تنتحل هلا عذراً لتتمسح بي يجناحها. وإن داست قدمي مرحاً فإن مجرد اللمس يفقده رشده. وإن فتيان العالم يظهرون أمامي كأنهم أعواد الكلأ تحت قدمي، ولا أدري لأي سبب يلازمني الحزن والكآبة.
وحينما تخرج شيكهار صديق أخي من مدرسة الطب أصبح طبيب أسرتنا، وقد لمحته مرات مختبئاً وراء ستار، وكان أخر رجلا غريب الأطوار لا يهتم بالنظر إلى العالم الخارجي، وكان بوده ألا تكون الدنيا مقفرة ويبتعد بالتدريج إلى أن يقبع في ركن مظلم. كان شيكهارد صديقه الوحيد الذي أتاحت لي الفرص مقابلته، وفي بلاط المفتونين بحبي الذي كنت أتخيله في أوقات نزهني الليلة كان كل شاب مشتت الفكر عند قدمي يستعير وجه شيكهار. هل أنت مصغ إلي؟ وما قولك في قصتي هذه؟).
فأجبت وقد سبقت لساني زفرة:
(وددت لو كنت يشكهارا)؟
- انتظر قليلا وأصغ أولا لآخر الحديث، وفي ذات يوم مطير أصابتني الحمى فجاء الطبيب يعودني، وكانت هذه أول محادثة جرت بيننا. كنت راقدة أمام النافذة وقد لطف ضوء الشمس عند غروبها بيضا لوني، وحينما نظر إلى الطبيب وضعت نفسي مكانه وطفقت أنظر إليه مغرقة في التصوير والتأمل، وشاهدت وجهي الشاحب في ضوء الأصيل موضوعاً فوق الوسادة البيضاء كزهرة ذابلة، وحلقات شعري الحمقى تعبث بجبيني، بينما أجفاني مطرقة باستحياء ناشرة ظلا معبرا فوق سحنتي.
سأل الطبيب أخي والحياء يلعثم لسانه ويخفض من صوته: (أتسمح لي أن أجس نبضها؟)
(أخرجت من تحت الغطاء قبضة مستديرة مدنفة ولاحظت حينما تفرست فيها أنها عاطل من سواري الصغير!).
لم أر في حياتي أجهل من هذا الطبيب في جنس النبض. كانت أصابعه ترتعد حينما تمس ذراعي، فإن قاس درجة الحمى في جسمي فإني شعرت بدقات قلبه وقستها من أصابعه - هل وعيت حديثي؟
فقلت: بكل سهولة، إن دقات قلوبنا تعبر عن أفكارنا.
- وبعد عدة وعكات وكثير من الشفاء والعافية وجدت أن عدد المفتونين الذي يؤمون بلاط حبي الخيالي آخذ في النقص حتى انتهى إلى فرد واحد، وفي النهاية استحال عالمي الصغير إلى طبيب ودنفة.
وبمناسبة مقابلتي اعتدت أن البس سرا طيلساناً أصفر وكنت أعقد حول شعري عقداً أبيض
من أزهار الياسمين، ثم أتناول مرآتي وأذهب إلى مكاني الذي ألفته تحت الأشجار.
إنك ترى بلا شك أنت مشاهدة جمالنا في المرآة يكون على ممر الزمن مملا؟ ولكن شيئا من ذلك لم يحصل لأني لا أنظر بعيني نفسها لأني كنت في الوقت نفسه أحد الشخصين، فكنت أختبر كما يختبر الطبيب، وكنت أطيل النظر وأفتتن وأشتعل بنار الحب. ورغما من انتباهي وحذري أغار أنين على فؤادي وسمع له صوت كنسيم الصبا في المساء.
ومن هذا العهد كففت عن الشعور بالوحدة، وفي أثناء نزهتي كنت أتتبع بنظراتي عبث أصابع رجلي الصغير بالرمل الناعمة، وكنت أسائل نفسي ماذا يكون شعور الدكتور لو كان حاضراً. كنت أمثل الشمس وقت الزوال مغيرة على الزرقاء بنورها الوهاج، ولم يعكر صفاء السكون غير صياح مقتطع المسر البعيد، وصوت وراء سياج الحديقة لبائع خواتم من البلور وهو ينادي نداء شجيا! فرشت على الكلأ ملاءة بيضاء لأستلقي عليها وأسندت رأسي إلى ذراعي وأرحت ذراعي الأخرى فوق الملاءة بشكل رشيق، وقد تخيلت أن شخصا يئن لاحظ وضع يدي الشائقة فشد عليها بين يديه ووضع في راحتي قبلة ذهبية وابتعد ببطيء. وأن وقفنا الحديث هنا فما رأيك؟
- (يكاد يكون ختاما مقبولا) وقد أجبتها بلهجة حالم. قالت: وستبقى الصور ناقصة قليلا ولكنني سأقضي بقية الليل في إصلاح هذا النقص.
- ولكنها تكون جافة. وكيف ندخل فيها الضحك؟ وكيف تصل إلى جعل الهيكل العظمي بضحك وينكر ملامحه؟
- دعني الآن أتمم الحديث. وما إن وجد الطبيب بعض المرضى حتى أخذ غرفة أرضية من منزلنا وأعدها لعيادته. وفي هذا الزمن كنت ألهو بسؤاله عن تأثير العقاقير والسموم والكمية الكافية لقتل رجل، فكانت هذه الأسئلة ملائمة لطبيعته فأجاب عنها بفصاحة ولباقة، وكان من نتيجة هذه المحادثات أن صارت عندي فكرة الموت عادية لا تثير أي أهتمام، وبذلك توطن الحب والموت عالمي الباطني. وإن حديثي قد قارب النهاية لأننا وصلنا إلى المرحلة الأخيرة.
- كما أننا وصلنا إلى المرحلة الأخيرة من الليل.
- وقدلاحظت بعد مدة من الزمن قلقا غريبا يساور الطبيب وظهر عليه كأنه يخجل من أمر
يريد أن يخفيه عني، وقد حضر مرة بثياب فاخرة وهندام ظريف ليستعير عربة أخي.
(كنت فريسة لتطلع شديد فصممت على سؤال أخي؛ وبعد أن دار بيننا الحديث من الشرق إلى الغرب قلت له: خبرني بالحقيقة يا أخي، اين ذهب الطبيب الليلة في عربتك؟
فأجاب أخي باختصار: إلى الموت.
- خبرني بكل صراحة أين يذهب.
- (ذهب ليتزوج) وقد أجاب أخري بطريقة أكثر وضوحا.
- أحقا ما تقول؟ وقد نطقت هذه الكلمة مصحوبة بقهقهة طويلة.
وقد علمت في آخر الأمر أن الخطيبة كانت غنية ورثت ميراثا عظيما سيغدق على الطبيب ثروة طائلة. ولكن لم أهانني بإخفائه هذا المشروع؟ هلا سألته يوما أن لا يتزوج حتى لا يصمي فؤادي؟ ولكن الرجال لا يؤتمنون. لم أعرف في حياتي إلا رجل واحدا، ولكن لحظة واحدة كانت كافية لكشف الحقيقة.
ولما رجع الطبيب من عمله وتهيأ للرحيل قلت له والضحك يغالبني: (سنتزوج في هذا المساء أيها الطبيب؟)
- إن فرحي قد أربكه بل زاده غيظا وحنقا
- ماذا جرى فإني لا أرى الأوركسترا؟
- فأجاب بتأوه: هل الزواج حادث مفرج؟
(عاودني ضحك عنيف ثم قلت له لا! لا! فذاك من المستحيل أن يعلن زفاف دون أضواء وموسيقى!
ثم ضايقت أخي حتى أعد معدات العرس وجعله بهيجا سارا.
ولم أنقطع لحظة عن التندر بالخطيبة وعن الوقائع التي ستمر بها وعن حالتي تلقاء هذه الواردة الجديدة.
- خبرني أيها الطبيب، هل ستستمر في جس نبض مرضاك؟
بخ بخ! إن عمل العقل الباطن وإن كان غير منظور لا سيما عند الرجال فإني أستطيع أن أؤكد بأن قولي كان على فؤاد محدثي كالحراب الفولاذية.
إن الزواج سيشهر بعد قليل في الليل. وقبل الذهاب شرب الطبيب هو وأخي كأسا من
النبيذ كعادتهما اليومية، وفي هذه الوقت طلع القمر.
(ثم تابعت حديثي قائلة والابتسام يعلو وجهي: هل نسيت زواجك؟ قد آن المسير).
وقد فاتني بعض التفصيل، فإني قبل هذه المدة قد هرولت إلى العيادة وأخذت مها مسحوقا ووضعته خفية في كأس الطبيب.
لقد شرب الطبيب كأسه بجرعة واحدة ثم قال لي بصوت متهدج من التأثر مصحوب بنظرة أخترقت فؤادي: (سأذهب) صدحت الموسيقى بأنغامها الشجية، ثم ذهبت إلى خدري ولبست ثوب الزفاف المنسوج من خيوط الذهب والفضة وتزينت بحلي ووضعت على شعري العلامة الحمراء التي تميز الزوجة وذهبت إلى الأشجار لأهيئ مضجعي.
وكان الليل جميلا وقد ذهبت رياح الجنوب المنعشة بمتاعب الدنيا؛ وقد تضوع شذا الياسمين والورد حتى غمر البستان البشر والفرح.
وكان أصوات الموسيقى تصل إلى سمعي أضعف مما كانت عليه، وطفق لألاء القمر آخذا في النقص، وانمحت من ذاكرتي الدنيا وصورة بيت الأسرة كأنها وهم تبدد ثم أغمضت عيني وأنا مبتسمة.
وقد تخيلت أن الذين سيقبلون لمشاهدة بسمتي الأخيرة المنطبعة على شفتي كأنها آثار نبيذ وردي، وأني سأدخل في مخدع زفافي الدائم ووجهي مضيء بنفس الابتسامة.
وا أسفاه على مخدع زفافي وثوب عرسي المنسوج المن الذهب واللجين! لأني حينما استيقظت من فرقعة العظام التي يخيل إلى أنها صادرة من هيكلي العظمي وجدتني في حضرة ثلاثة غلمان يتعلمون تشريح العظام في هيكلي. وفي هذا الصدر الذي كانت تخفق فيه أفراحي وأتراحي والذي تفتحت فيه وريقات زهرة صباي كان الأستاذ يبين بسبابته عظامي واحدة فواحدة، هلا وجدت أثرا من هذا الابتسام الذي درسته بكل عناية؟
وكيف وجدت قصتي؟
- إنها للذيذة محبوبة.
وفي هذه الفترة ابتدأ ينعق أول غراب.
ثم سألت: (هل أنت هنا؟)
فلم يرد عليّ أحد.
واخترقت أشعة الصباح مخدعي فأضاءته.
م. ح