المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 988 - بتاريخ: 09 - 06 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ٩٨٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 988

- بتاريخ: 09 - 06 - 1952

ص: -1

‌حديث رمضان

للأستاذ علي الطنطاوي

(أهديه إلى روح شاعر الروح، وأديب الشرق محمد إقبال)

علي

صدقوني أني لم أجد أشق على من هذا الحديث

كيف أشق بصوتي عجيج المعامل، وضجيج المصافق وصياح الملاهي والحانات؟

كيف أخاطب خطاب الروح من لا يعيش إلا للجسد، وأحدث حديث الآخرة من لا يؤمن إلا بالدنيا؟ كيف أنه جاء من التراب، وسيعود إلى التراب، من نقر الصخر، ونقل البحر، وخرق الأرض، وركب الهواء، وفجر الذرة، وأنطق الجماد، فامتلأ كبراً وغروراً، حتى نسى من خلقه، فقال: أنا ربكم الأعلى؟!

ومن جعل من الحديد والنحاس آلات لها لسان، فيه أجلى البيان، وأذنان تسمعان، ما لا تسمع الآذان، وعقل يحسب ما يعجز عن حسابه عقل الإنسان؟

نعم، إنكم تستطيعون أن تصنعوا من المادة تمثالا على صورة الحبيبة، له لونها ولينها، وله رائحتها وحرارتها، وأن تلمسوه بأيديكم، وتسمعوا معه صوتها من الراد، وتروا صورتها في الرائي، فتشغلوا حواسكم الثلاث بها، ولسانكم بمناجاتها، وعقلكم بتصورها، ولكن هل يغنيكم ذلك عن جسدها النابض بالحياة؟

هل تجدون في ذلك لذة الوصال؟

كلا. إنكم صنعتم الجسد، ولكنه كان جسداً بلا روح. وكذلك كانت حضارتكم

لقد ملكتم عالم المادة، ولكنكم خسرتم عالم الروح تقولون: ما عالم الروح؟

أما قمتم مرة في هدأة الليل، فتأملتم صفاء السماء ولمعة النجم، فأحسستم في قلوبكم بعظمة الكون؟

أما سمعتم مرة نغمة عذبة تسري في جنبات الليل سريان الصحة في الأجسام، فحلمتكم نبراتها إلى أودية الأحلام؟

أما قرأتم مرة قصة فوجدتهم لها ختمتموها أنكم فقدتم شيئا، وأحسستم في نفوسكم فراغاً، وأنكم هبطتم من الفضاء الواسع إلى أرض الواقع؟

ص: 1

أما تركتم مرة زحمة الناس، وضجة الحياة، ودخلتم بيتاً من بيوت الله ساكنا، فشعرتم بهوان الدنيا، وصغر الأرض، في جنب الله الملك الجبار، ووجدتم حلاوة الإيمان ولذة الاستغراق في العبادة؟

هذه لمحات من عالم الروح

وما لمعات العبقرية المبدعة إلا لمحات أخرى: يد تستطيع أن تحرك الستار، فتبدو من خلاله خطفات من مشاهد ذلك العالم تظهر في اللحن الخالد أو القصة أو القصيدة أو في هجمة ذهن جبار على الشاطئ القريب من بحار المجهول

ولكنكم حبستم نفوسكم من كثافة المادة في غار مغلق فلا ترون من بياض النهار إلا هذه الومضات تلمع من شقوق الصخر ثم تختفي

إنكم غارقون في لج المادة، فمن أين يتنفس الغريق في البحر نسمات الأسحار؟

إنكم تركضون في حلقة مفرغة، تسيرون سير السواني، تفيقون فتسرعون إلى الطعام تبتلعونه ابتلاعا، والجريدة تلتهمونها التهاماً، فإذا لبستم ثيابكم أسرعتم إلى العمل فانغمستم فيه، فإذا كان الظهر عدتم مسرعين إلى الدار فأكلتم وأسرعتم إلى الخروج، ثم عدتم مسرعين إلى المنام

ثم بدأتم من غد من حيث انتهيتم اليوم! ركض أبداَ، وإسراع دائما، ولا تعرفون إلى أين المسير!

قد غفلتم عن جمال الطبيعة من حولكم، فأنتم تقطعون أجمل مراحل الطريق، مرحلة السحر وأنتم نيام، لا تقفون على الروض تجتلون جمال الروض، ولا ترفعون أبصاركم إلى السماء، تفكرون في عظمة السماء، وغفلتم عن نفوسكم، فلا تخلون بها سعة كل يوم، تسألونها، وتتعرفون أسرارها، وتغوصون على جواهرها

حياتكم كلها مسرعة وسباق! سباق في الخير والشر، إسراع إلى الشر والخير

تسابقتم في قطع المسافات، فصرنا نطير من دمشق إلى بغداد في ثلاث ساعات، وكنا نبلغها في ثلاثة أشهر، فهل ربحنا؟ ربحنا الزمن، ولكنا خسرنا العواطف والشعور. كان الطريق يثير في نفوسنا ألف عاطفة، ويبقي فيها ألف ذكرى، نعيش بها دهراً، فصرنا نقطعه في غمظة واحدة!

ص: 2

وتسابقتم في العلم والفن، وفي القتل والتخريب، تهدمون في ساعة، ما تبنونه في سنين، فعل الأطفال والمجرمين والمجانين!

وها أنتم هؤلاء تتسابقون، أيكم أسرع إلى إهلاك البشر، بحرب شيطانية مدمرة لا تبقي ولا تذر. فمتى يستريح هذا الركب المجنون، الراكض المسرع، الذي يقفز كأنه يدوس على ظهور العقارب، ويجري كأن شياطين الجحيم جميعا تطارده

متى يسأل نفسه: ما الغاية، وما المصير؟

متى يقف لينظر إلى أين بلغ، وإلى أين المسير؟

أين يلقى المحطة في هذا السفر الطويل الذي لا غاية له، ولا أول ولا نهاية

في رمضان!

في رمضان يا أيها القارئ

هذه هي المحطة التي أقامها الإسلام في طريق البشرية لتقف عليها وقفة كل عام، تفرع فيها من هم البطن، وهم ما تحت البطن، ليسأل كل نفسه: من أنا؟ من أين جئت وإلى أين أصير؟

من أنا؟ أنا خط طويل، أقله في النور، وسائرة في الظلام، لقد كنت قبل أن اعرف نفسي، وسأبقى بعد ما يذهب عقلي وحسي، ولو حق لي أن أنكر مصيري بعد الموت لأني لا أراه، لحق لي أن أنكر ماضي قبل الولادة لأني ما رأيته.

وما أحوج أبناء هذه الحضارة اليوم إلى مثل هذه المحطة في طريق الحياة!

ما أحوجكم إلى من يذكركم بأن في الوجود ربا، وأن بعد الدنيا آخره، وأن الله ما خلق الناس عبثا، ولا تركهم سدى.

إنكم أغنى منا مالا، وأقوى قوة، وأكثر عمرانا، وأعرف منا بأسرار المادة وسنن الكون، ولكننا أغنى منكم بكنوز الروحيات، فتعالوا خذوا منا، فإن الإنسان قد عاش بلا علم ولا مال، ولكنه لا يعيش بلا روح.

ولقد جعل الإسلام الصلوات الخمس كل يوم، لتعود الروح في هذه اللحظات، إلى عالم الروح، وجعل الصيام شهراً في العام لينطلق الإنسان من إسار المادة شهراً في العام، ويحس اللذائذ العليا، ويتصل بالله

ص: 3

لذلك كان رمضان

فيا من لهم رمضان! لا تظنوا رمضان شهر جوع وعطش! إن رمضان شهر صفاء وحب وتأمل، وترفع عن المادة وأوضارها، وعن شهوات النفس وأوزارها، وإعراض عن مشاهد الطريق، للتفكر في غاية الطريق

ويا من ليس لهم رمضان! اجعلوا لنفسكم رمضان مثلنا، تعودون فيه إلى نفوسكم التي نسيتموها، وإلى إنسانيتكم وإلى ربكم

ويا أيها القراء من إخواننا العرب في العالم الجديد، ترجموا هذا الكلام، لإخوانكم (الأمريكان) ليعرفوا ما هو رمضان

علي الطنطاوي

ص: 4

‌الاستعمار البريطاني في الملايو

للأستاذ محمد جنيدي

أعاصير هائجة، ورياح عاصفة، تهب في الملايو لتقويض صرح الاستعمار البريطاني!. . .

أفكار ثائرة، ونفوس غاصبة. . . أبت الاستكانة لسيادة قوم فرضوا نفوذهم على شعوب ضعيفة بوسائل الخداع النفاق، والقوة والطغيان، فسلبوا حقوقها، ومحوا استقلالها، فعادت القهقري إلى حقب بعيدة. . . وقد دار الزمان دورته، وعادة الحياة إلى أجسام الشعوب المستعبدة، ودب النشاط فيها، فشرعت تكافح في سبيل استعادة حريتها المسلوبة، لتعيش على سطح هذا الكون حرة مستقلة، تشارك الشعوب الحرة في حفظ تراث الإنسانية، ودعن أسس السلام العالمي

وعندما وقفت أجهزة الحرب العالمية الثانية في الشرق الأقصى لتستريح من النصب الطويل الذي لاقته في سبيل استعباد الأمم الضعيفة، واستغلال خيرات أراضيها، ظهرت على مسرح السياسة الدولية أجهزة التحرير للشعوب الأسيوية تعمل في ضوء النهار، وفي حلك الليل، للقضاء على الاستعمار الغربي، لتقيم الدليل على حق الشعوب المستعبدة في تقرير مصيرها، كما نص عليه ميثاق الإطلانطيقي. . . الذي كان رمزاً لغاية الدول الكبرى لأعمالها بعد أن تضع الحرب العالمية الأخيرة أوزارها، كما كان شعلة وهاجة تشير بها للشعوب الضعيفة بالسير في موكبها لتنعم بالحياة الحرة الخالية من شوائب الفقر والخوف

لقد بدأت الشعوب الأسيوية المستعبدة تنتهج السبل الموصلة إلى تحقيق آمالها الوطنية، وتتخذ الوسائل الفعالة إلى التخلص من براثن الاستعمار الغربي، منتهزة الظروف القاسية التي أقعدت الدول الكبرى المهيضة الجناح عن المضي في مناهضة الحياة الحديثة الثائرة التي برزت في الشرق تطالب بنصيبها من الحرية

ففي الشرق الأقصى في إندونيسيا، أعلن الإندونيسيون استقلالهم وقيام حكومة جمهورية مستقلة في السابع عشر من شهر أغسطس عام 1945 (بعد مرور يومين على وقوف آلات الحرب والدمار في الشرق الأقصى) وأعدوا عدتهم لملاقاة كل الاحتمالات المتوقعة التي

ص: 5

سوف تظهر من جانب الدول الكبرى الاستعمارية، محاولة منها القضاء على استقلال إندونيسيا، وإعادة سيادتها مرة ثانية عليها. . . فاتحدت القوات الاستعمارية - الإنكليزية والهولندية واليابانية - للقضاء على استقلال إندونيسيا، وهدرت أفواه مدافعها تصب نيرانها الحامية على الإندونيسيين الأحرار، وضحى الشعب الإندونيسي في سبيل حفظ حريته وتدعيم أساس جمهوريته كثيراً من النفوس الطاهرة التي قدمت نفسها رخيصة على مذابح الحرية. . .

هذا في إندونيسيا، البلد المجاور لملايو، وهناك على الجانب الآخر من الملايو بلد ثائر غاضب. . . هو (فيتنام) فقد أعلن الفيتناميون الأحرار استقلالهم وظهور جمهورية شعبية مستقلة تتولى إدارة البلاد، وذلك في شهر أغسطس عام 1945

ولم ينج الفيتناميون الأحرار من غضب المستعمرين الغربيين الذين لعبوا دورهم السياسي والعسكري في فيتنام. . . فجهزوا عليهم جيوشاً جرارة للقضاء على حكومة فيتنام الحرة، كما سلحوا أذنابهم من الفيتناميين أتباع الإمبراطور باوداي، وقد خلق المستعمرون في الهند الصينية قوة دولية للقضاء على حكومة فيتنام الحرة، وبذل الفيتناميون دماءهم وأرواحهم في سيبل حفظ حكومتهم الحرة، ولا يزالون يكافحون الجيوش الاستعمارية ويكبدونها الخسائر الفادحة حتى تعترف السلطات الاستعمارية بحريتهم واستقلالهم، وفي خضم هذه المعارك التحريرية الأسيوية في الشرق الأقصى تحرك الشعب الملايوي، والتف حول زعمائه الأحرار، فنظموا صفوفهم ووحدوا جهودهم، وأنشئوا الأحزاب السياسية، وأقاموا المنظمات الثقافية، لتتولى شؤون الحركات التحريرية التي تتطلب التضحية في المال والرجال، ليقيموا حياة جديدة حرة في وطنهم الذي يلاقي الأمرين من الاستعمار الإنكليزي

لقد نهض الشعب الملايوي بعد ما رأى المعارك الاستقلالية الدامية تدور حوله بين الأسيويين الأحرار والغربيين المستعمرين، فطالب السلطات البريطانية بحرية بلاده، مستندا في ذلك إلى حقه الطبيعي والشرعي في الحرية والاستقلال، وعلة ما جاء في ميثاق الأطلسي الذي ضمن للشعوب الضعيفة حق تقرير مصيرها

وهنا تقف إنكلترا حائرة في هذا الجو المضطرب، أو في هذا الخضم الثائر في الشرق الأقصى، فالحركات الاستقلالية تلفح نارها الهند الصينية التي يقاتل فيها الفرنسيون قتالا

ص: 6

مريرا لإيقاف الزحف الشيوعي عن مناطق نفوذهم فيها، وتؤيد - إنكلترا فرنسا في حركتها العسكرية الضخمة في الهند الصينية لصد التيار الشيوعي عن المستعمرات الغربية في الشرق الأقصى فتشبثت إنكلترا بحقها الدولي في بقاء سيادتها على الملايو، وكان رد فعل لهذا أن غدت ملايا بركانا ثائرا، يشيع فيها الاضطرابات والثورات

إن الاستعمار الغربي في الملايو هو المسئول الأول عن الاضطرابات الحاضرة في جميع أنحاء ملايا، أو بعبارة - أوضح إن الاستعمار الغربي هو الذي أثار هذه الاضطرابات، وأشعل هذه الثورات، فالثورة الحاضرة في الملايو هي ضد الاستعمار البريطاني الذي رفض التسليم بحق الملايويين الشرعي في حرية بلادهم، وهي ثورة شعب على وضع يناهض تقدمه ويعرقل سيره. فلو أن السلطات الاستعمارية البريطانية قدرت مدى تغلغل الروح القومية في نفوس الشعب الملايوي كما قدرت مدى انتشار الروح الوطنية في الهند، لأفسحت المجال للشعب الملايوي ليسير في طريق الحرية والاستقلال، وليلحق الشعوب الأسيوية التي سبقته في هذه المضمار فغدت حرة مستقلة، ولكنها أغمضت عينيها عن هذه الروح الثائرة وعن هذه الحركات الهائجة، فأرسلت جيوشها الجرارة إلى الملايو لتخمد أنفاس الملايويين، وقد بلغ عدد الجنود التي - قذفتها بريطانيا إلى ملايا بعد الاضطرابات الحاضرة مائة وخمسة وعشرين ألف جندي، وتؤيدها مائة ألف جندي كانت موجودة في ملايا قبل الحوادث الأخيرة

يزعم الاستعمار الإنكليزي في الملايو بأن بقاءه فيها هو لحفظ النظام الديمقراطي والحقوق الإنسانية من داء الشيوعية التي تقضي على الحقوق الديمقراطية، وتقلب أوضاعها رأسا على عقب، وهذا الزعم ينهار تحت الحقائق الناصعة التي تثبت أن الشعب الملايوي شعب شرقي مسلم قد حماه دينه من العقائد الضارة والنظم الفاسدة التي تهدم كيان المجتمع

وهناك ادعاء آخر، وهو آخر ما في جعبة إنكلترا من الادعاءات التي تبرر بقاءها في الملايو، وحقها في استعمال الأسلحة ضد الثوار، وهو أن الثوار في ملايا ليسوا هم الوطنيين بل هم الصينيون الشيوعييون الذين يستمدون العون من الصين الشيوعية، وغايتهم القضاء على الاستعمار الإنكليزي في الشرق الأقصى. فهل هذا الادعاء قائم على دليل مستخرج من الحياة الملايوية الحديثة تستند عليه إنكلترا في حق قيامها بواجبها

ص: 7

العسكري للقضاء على الحركات الشيوعية في الملايو؟ لا. . . إنه ادعاء لا يرتكز على دليل ملموس. وهو إدعاء باطل، أريد به تضليل العالم بأن الملايويين قانعون بحياتهم الحاضرة تحت ظل الحكم البريطاني. . . وهذا إفك وافتراء. . . فإن الشعب الملايوي قد أبى الخضوع للحكم البريطاني، ولا يريد إلا التحرر من نفوذه الذي عاقه عن الحركة والتقدم مدى قرون طويلة

وإذا درسنا الحياة الحديثة في ملايا دراسة صحيحة من الناحية السياسية والثقافية - وهما الناحيتان البارزتان - لمعرفة مستوى نضوج الشعب، نجد أن الشعب الملايوي كغيره من الشعوب الأسيوية التي كانت مستعبدة قد عرقل سيره الطبيعي الاستعمار البريطاني، فالحكم البريطاني قد أغلق أبواب العلم والمعرفة أمام الشعب الملايوي، وحصره في محيطه الضيق، وفي أفقه العادي، لا يرتشف من مناهل العلم، ولا يتصل بالعالم الخارجي، برغم أن هذا الشعب محب للعلم، تواق إلى المعرفة، فهو شعب مسلم، يحثه دينه على التسلح بسلاح العلم، والتزود بالفنون الحديثة، كما أن الاستعمار البريطاني قد حظر على الشعب الملايوي إنشاء الأحزاب السياسية، وإقامة المنظمات الثقافية، فمنذ وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها لم تظهر في ملايا أحزاب سياسية أو منظمات ثقافية تدعو الشعب إلى التحرر من الاستعمار البريطاني؛ فالسلطات البريطانية أبعدت الشعب الملايوي عن ميادين الجهاد المقدس بعد الحرب العالمية الأولى كيلا تتقلص سيادتها عن ملايا، بينما كانت الأحزاب السياسية والمنظمات القومية قد برزت في إندونيسيا من 1908 وهي البلد المجاور لملايا

ومن المشكلات الصعبة التي تعانيها ملايا في حركاتها التحريرية اليوم، مشكلة الجاليات الأجنبية. فالزعماء - الملايويون يريدون التوفيق بين وجهات نظرهم ووجهات نظر الجاليات الأجنبية التي تكون عدداً مساوياً لعدد الوطنيين. . . ويبلغ عدد سكان ملايا خمسة ملايين ونصف مليون نسمة، ومن الطبيعي أن وجود هذا العدد الهائل من الأجانب في ملايا له تأثيره البارز في الحركات التحريرية الملايوية - نجاحا وفشلا، تقدما وتدهوراً

والتوفيق بين وجهات نظر الملايويين والأجانب هو كما يريده الملايويون الأحرار، اندماج الأجانب وهم يمثلون الصينيين في القومية الملايوية، بحيث يشعرون بما يشعر به

ص: 8

الملايويون من الآلام والاحساسات إزاء مشكلتهم القومية الكبرى. وقد تشبث الصينيون بوجهة نظرهم وهي بقاؤهم متمسكين بقوميتهم الصينية، ووجوب انتقال سيادة ملايا إليهم، وظهر من هذا تباين تام في الآراء والأفكار، واختلاف في الشعور والإحساس بين الملايويين والصينيين، وهذه العوامل المعنوية لها تأثيرها الخطير في الحركات القومية الملايوية، ولا شك أن هذا التباين من أحد العوامل التي تعرقل سير الحركات التحريرية الملايوية اليوم. ويجد الشعب الملايوي نفسه أمام عاملين خطيرين يناهضان حركاته ومقاوماته ضد الحكم الأجنبي. فالعامل الأول هو الاستعمار البريطاني، والعامل الثاني هو العدد الهائل من الصينيين الذين يشعرون بشعور وطنهم، ويحسون بإحساس بلادهم، ويستغرب القارئ الكريمن من وجود هذا العدد الكبير من الصينيين في بلد صغير كملايا، ونحن نوضح له أسباب ذلك

إن الاستعمار الإنكليزي هو الذي فتح أبواب الهجرة أمام الصينيين في ملايا، منذ بدأ يبسط حكمه عليها، كي يجد الملايويون عنصراً أجنبياً يزاحمه ويقعده عن العمل، سواء كان في حقل الاقتصاد أو في ميدان السياسة. وقد نجحت السياسة الاستعمارية الإنكليزية في عملها نجاحا تاما، فاليوم يجد الملايويون الأحرار عقبة كأداء في سبيل حل قضيتهم الوطنية مع السلطات البريطانية، فالصينيون ويبلغ عددهم مليونين ونصف مليون يطالبون الحكومة البريطانية بالسيادة على ملايا، تاركين الشعب الملايوي صاحب البلاد وراءهم. وقد أنتج موقف بريطانيا الصلب العنيد تجاه مطالب الملايويين في الحرية والاستقلال أن قام الصينيون بأعمال التخريب والتدمير في الملايو مشوهين بذلك روعة الحركات التحريرية الملايوية التي شملت جميع أنحاء ملايا. ويدل سير الحركات التحريرية اليوم في الملايو على أن الشعب الملايوي سائر في طريقه المرسوم. . . لتحقيق حريته واستقلاله برغم العوامل المناهضة له؛ وتشرق على ربوع وطنه شمس الحرية، فيغدو شعبا حرا يشارك شعوب العالم في إقامة صرح حياة جديدة قائمة على أساس العدل والرخاء

وإتماما لهذا العرض الموجز عن الاستعمار الإنكليزي في الملايو أقدم للقارئ الكريم موجزاً عن الوضع الإداري الحاضر في ملايا، وعن مركزها الاستراتيجي، وعن النشاط الثقافي الذي سيكون له الأثر الكبير في نجاح الحركات التحريرية التي يستعر لهبها في ملايا

ص: 9

تنقسم ملايا على بضع ولايات يتولى الحكم على كل منها حاكم يلقب بسلطان، تنتقل سلطته إلى ذريته من بعده. ولكل سلطنة مظاهر الدولة والحكومة، جيش وعلم وطوابع بريد وإدارات حكومية وقضائية ومالية، وبجانب السطان الوطني مستشار بريطاني يستمد سلطته من وزارة الخارجية البريطانية، وللحكومة البريطانية ممثل لها يلقب باسم (المندوب السامي) وهو الذي يشرف على سياسة ملايا الخارجية والمالية والعسكرية، وهناك بعض مقاطعات تحت الإشراف البريطاني المباشر، وتعدها بريطانيا ممتلكات لها

وتحتل ملايا مركزا هاما من الناحية الاستراتيجية لدول شرف جنوب آسيا، إذ تتسلط على مدخل الهند - وبورما وسيام والهند الصينية وإندونيسيا، وقد جعلت بريطانيا من جزيرة سنغافورة قاعدة حربية تتحكم في مياه المحيط الهندي

والحياة الثقافية الحاضرة في ملايا تبعث على الاطمئنان على مستقبلها، فقد فتح الأحرار الملايويون المدارس، وأنشئوا المنظمات الثقافية لتنوير أفكار الشعب، وتوجيهه إلى ما فيه نجاحه في حركاته التحريرية الحاضرة، ولنا عودة إلى البحث عن الحياة الحديثة في الملايو، لعلنا نوفق في إعطاء القارئ الكريم معلومات دقيقة عن ملايا الحديثة

محمد جنيدي

ص: 10

‌خواطر مسجوعة

الصوم سمو بالإنسانية

للأستاذ حامد بدر

الصوم سمو بالإنسانية: وتحرر من الحيوانية؛ فإن الشبع يدني الآدميين من البهائم، ويقلل الفرق بينهم وبين السوائم؛ والصوم يبعد أولئك عن أولئك، ويدني الأناسي من الملائكة

والصوم تعذيب، لكنه تأديب وتعذيب؛ يقهر الطغاة، وينشر المساواة؛ فالمحروم فيك كالمالك، لا فرق بين هذا وذلك

والصوم حرمان، لكنه إذعان وإيمان؛ فلا يكون ظمأ وجوعاً، قبل أن يكون إنابة إلى الله ورجوعا

شرع ليألف الصائم الزهادة، ويفقه حقيقة الورع والعبادة، فيقنع بما يكفيه مختارا، بعد أن أقنع إجبارا. ويرحم الفقير والمسكين، ويقدم من أيام الدنيا ليوم الدين، تاركا ما فضل لغيره، مشركا المحروم في خيره. ذاكرا أن ما عنده إلى نفاد، وأن البر والتقوى هما خير الزاد

ولا صوم لمن أمسك فكيه عن الطحن، ولم يمسك ما بينهما عن الطعن؛ أو صام عن الزاد، ولم يصم عن إيذاء العباد، فتناثر عابه، وتكاثر سبابه، واشتد هجره، ونفد صبره

فإن من لم يتق راضيا، ولم يبلغ مرضاة ربه متفانيا، ذهب صومه ضحية ثورته، وتلاشى ربحه أمام خسارته، وسبقه الحيوان الذي يصوم الأيام في صبر ودعة، ويصل في صومه الليل والنهار من غير بعبعة. يطوي البيد طويا، ويطأ الرمضاء صاديا راضيا

والصوم سر بين العبد ومولاه، لا يطلع على حقيقته إلاه. تبيت ناويا، وتصبح طاويا، زاهدا في مطعمك ومشربك، من فجرك حتى مغربك، كلما ألح الظمأ والسف عليك، والزاد في متناول يديك، قال الضمير: أمسك، واحكم نفسك بنفسك، وأذقها الحرمان، من آن إلى آن؛ لا تخضع لها دهراً، وتحرر في العالم شهرا. وتب إلى الله نصوحا، واخشع له جسدا وروحا. فإن أعز أهل العزة ذليل بين يدي الله. وأذل أهل الذل ذليل بين يدي هواه!

حامد بدر

ص: 11

‌فضل المدنية العربية على المدنية الغربية

للدكتور فيليب حتي

أستاذ التاريخ بجامعة برنجستون بالولايات المتحدة

خلاصة موجزة لسبع محاضرات ألقاها الأستاذ باللغة

الإنجليزية في جامعة سان باولو

3 -

في الفلسفة

كان للعرب قبل الإسلام أمثال وأقوال حكيمة يتداولونها على الألسنة ويتناقلونها من جيل إلى جيل، وكان لابد من الانتظار إلى ما بعد الفتح كيما يحكموا الاتصال بالفلسفة اليونانية عن طريق الترجمة بواسطة العلماء السوريين واللبنانيين قبل أن تغتني اللغة العربية بنظام فلسفي

وكان حنين بن إسحق (توفي 873) السوري المسيحي شيخ المترجمين في أيام الخليفة العباسي المأمون في بغداد؛ وهو الذي نقل مع تلاميذه فلسفة أرسطو والأفلاطونيين الجديدين من اليونانية إلى الآرامية لغة البلاد السورية ومن هذه إلى العربية. وللحال أصبح أرسطو (المعلم الأول) في الإسلام، وكان لابد من التوفيق بين تعاليمه وتعاليم القرآن، وهو المشكل الذي شغل أفكار فلاسفة العرب الأولين

وأول فيلسوف عربي عنى بهذا الموضوع هو الكندي الذي زها في أواسط القرن التاسع. وكان الكندي فيلسوفا ورياضيا وموسيقيا. وتبعه الفارابي من مواليد تركستان ودفين دمشق (950) الذي أصبح (المعلم الثاني) بعد أرسطو ووضع كتابا بعنوان (المدينة الفاضلة) على منوال (جمهورية أفلاطون)

كذلك فلاسفة العرب في الغرب فإن جهودهم العقلية تتوجت بالتوفيق بين الإسلام وفلسفة اليونان. وكان نجاحهم موفورا لأن الإسلام لم يكن فيه من العقائد والأسرار ما في المسيحية، ولم يكن له رجال دين لهم رأس ونظام شامل. ومن المعلوم أن الفلسفة اليونانية هي أعظم تراث من الفكر الأوربي القديم، والإيمان بوحدة الله هو أعظم تراث من الفكر السامي القديم. وهذان المجريان الفكريان التقيا في إسبانيا المسلمة وسارا جنباً إلى جنب

ص: 12

متسالمين متصافيين

إن مشاكل التوفيق بين المسيحية والفلسفة اليونانية هو نفسه اعتراض العلماء السكولاستيكيين، ولكنهم لم يوقفوا إلى حله لما في العقائد المسيحية من التعقيد ولما في الكنيسة من الأنظمة الأكليركية

والفضل الأكبر في شرح أرسطو وجعله مقبولا لدى الإسلام أولا والمسيحية ثانياً يعود إلى ابن رشد القرطبي (توفي 1189) الذي ترجمت شروحه في طليطلة في أواخر القرن الثاني عشر إلى اللاتينية وترجمت أيضاً في صقلية إلى هذه اللغة، لغة العلم في تلك الأيام وما لبثت أن أصبحت كتب التدريس الفلسفية في جامعات إيطاليا ومنها نابولي، وإسبانيا ومنها قرطبة، وفرنسا ومنها باريس؛ وغيرها من البلدان الأوربية

وابن ميمون اليهودي (توفي 1204) معاصر ابن رشد قام في سبيل الفلسفة اليهودية بالخدمة التي قام بها ابن رشد في سبيل الفلسفة الإسلامية. وكانت طريقه في التوفيق تفسير بعض آيات الكتاب المقدس تفسيراً مجازيا استعاريا. ومن الواضح أن البيرت ماغنونس وسبينوزا وكانت وغيرهم من فلاسفة أوربا المتأخرين من مسيحيين ويهود تأثروا بأفكار ابن ميمون

ونشأ في غرناطة فيلسوف مسلم لم يسبق له مثيل في تاريخ الفلسفة وهو ابن طفيل (توفي 1185) الذي وضع رواية (حي ابن يقظان) حاول فيها إثبات أن المرء إذا ترك لنفسه ولم يتأثر بعوامل خارجية من تربوية أو غيرها يستطيع أن يدرك حقيقة الخالق وواجباته نحوه، وبذلك أزال الحائط الفاصل بين ما هو طبيعي وما هو فوق الطبيعة. وترجم هذا الكتاب البديع إلى اللاتينية أحد أساتذة أكسفرد عام 1671. ومما لا ريب أن (قصة روبنسون كروسو) الطريفة منسوجة على منواله

4 -

في الفن

ذهب المسلمون إلى أن تمثيل الإنسان أو الحيوان بواسطة التصوير أو النحت أو الحفر إنما هو نوع من الخلق. والخلق هو ميزة إلهية فلا يجوز للإنسان أن يحاوله. وذلك كله نتيجة الاعتقاد بوحدة الله وأثر العبرانية القائلة بمنع عمل الأصنام

لذلك اقتضى أن يظهر الإسلام ميله الفني بوسائل جديدة من الزخرفة واستخدام الألوان

ص: 13

الزاهية المتناسبة والأساليب الهندسية والنباتية

أما الفرس الذي كان لهم تقليد فني عريق فإنهم بعد دخولهم في الإسلام استنبطوا التصوير المصغر، وأول كتب ظهرت فيه هذه التصاوير هي (كليلة ودمنة) و (المقامات). وفي إسبانيا تأثر المسلمون بالتقليد المسيحي، فلم يتردد عبد الرحمن الثالث الذي أعلن نفسه خليفة عام 929 عن وضع تماثيل إحدى سراريه في قصر الزهراء الذي شاده على اسمها. كذلك أقام بنو نصر الذين بنو الحمراء تماثيل للأسود فيها

برع العرب في الشرق والغرب في الفنون الصناعية. فالقرميد الملون لم يزل في الإسبانية والبرتغالية معروفا باسمه العربي (الزيجي). وبفضل العرب أصبحت طليطلة وقرطبة ومالقة مراكز هامة للخزف. وأصبحت طليطلة مركزا للقواطع والسيوف كما كانت دمشق. ولم تزل صناديق عاجية كثيرة من صنع قرطبة معروضة في متاحف أوربا وأميركا للآن. واشتهرت بلنسيه بصناعة الزجاج التي امتازت بها سورية ولبنان من العهد الفينيقي، ومن إسبانيا انتقلت هذه الصناعة إلى فرنسا وغيرها فتمركزت صناعة الخزف في بواتيه وقلدها عملة أولئك حتى القرن الخامس عشر

ومن الفنون التي رقاها أبناء العرب فن الخط الذي تقلده الصنعة المسيحيون على الأواني دون أن يفهموا فحواه

وبلغت الأقمشة حدا من الانتشار لم تبلغه قبل الفتح الإسباني والحروب الصليبية. ومن الكلمات العربية التي أخذها الإفرنج من العربية (مصلن) من الموصل و (بلدكن) من بغداد و (ديوان)

وفي البناء أسلوب معروف يدعى الأسلوب المغربي الذي امتزجت فيه عناصر إسلامية وغوطية مسيحية. ومن مميزات هذا الأسلوب القنطرة المشابهة لنعل الحصان والتي كان ظهورها للمرة الأولى في المسجد الأموي بدمشق في أوائل القرن الثامن. وقصور طليطلة وإشبيلية وقرطبة هي من أهم الآثار البنائية العربية وأجمل أثر هو الحمراء. أما المسجد الذي بناه عبد الرحمن الأول (توفي 788) وفيه 1293 عموداً فإنه الآن كاتدرائية. والزهراء لم يبق منها أثر مذكور

والكلمات التي يستعملها البناء والنجار في الإسبانية والبرتغالية معظمها عربية الأصل.

ص: 14

ومن أمثلة ذلك (الخزانة) و (القبة) و (الدعامة) و (الشطيحة) و (الطاقة)

ومن آثار الموسيقى كلمات عربية كثيرة لم تزل إلى يومنا الحاضر دارجة في اللغات الغربية. ومنها (العود) و (القيثارة) و (الصنوج) و (النفير) و (البوق)

البقية في العدد القادم

فيليب حتي

ص: 15

‌براعم شعراء الشباب

للأستاذ أحمد أحمد العجمي

في فصل الربيع من كل عام تأخذ الأرض زخرفها، وتلبس أجمل ملابسها المزركشة الملونة بأجمل الألوان، وتتجلى مفاتن الطبيعة في أبهج صورها البهية على ضفاف الترع والجداول وشواطئ والأنهار، بأفواف الأزهار والنوار والرياحين، وفي بطون الوديان وعلى ظهور الكثبان وبين جنبات الحقول والبساتين

وتبدأ الأشجار تروي قصة الخصب والري والنضارة، وتؤدي دورها الخالد المتجدد على مسرح الحياة، تكتسي بعد عرى، وترتوي بعد ظمأ، وتلين بعد جفاف طويل. كل يوم يمضي تبرز إلى الوجود براعم جديدة وليدة، تبدو على جوانب الأغصان، وتتفتح على أشعة الشمس، وتنعقد عليها أكاليل الندى كل صباح

هذه البراعم الجديدة الوليدة في الحدائق والبساتين هي براعم شعراء الشباب في حديقة الشعر والشعور

تظل براعم الأشجار تتجدد وتتعدد وتنمو في كل ربيع، بعضها يبلغ منتهاه ويصل إلى مداه في النمو الدائم عاماً بعد عام، وبعضها يدركه العطب أو يلحقه الجفاف فيذوي وهو غصن صغير

وهكذا براعم شعراء الشباب!

بعضهم تنمو قريحته وتزهو عبقريته عاماً بعد عام، فيتوالى إنتاجه ويتضح منهاجه وتصفو ملكته من الصنعة أو الزيف أو التقليد، وبعضهم يدركه العجز أو الوهن فيظل كالفاكهة الفجة، هي على الشجرة فاكهة بين الفواكه، ولكنها لا تروق ولا تشوق ولا تذاق!

في النصف قرن الأخير، شهدت مصر خاصة، وشهد العالم العربي عامة، بل شهد العالم في كل قطر ومصر - نهضة أدبية شاملة، في كل لون من ألوان الأدب، وفي كل عصر من عناصر الفن؛ كانت رد فعل طبيعي لما ران على العقول والمواهب والملكات، من ظلمات العصور الغابرة: عصور الظلم والنهب والاستبداد في الحكم، وعصور الجهل والجدب والتقليد في الآداب والعلوم والفنون

وكان حظ مصر عظيما موفورا في الحالين: كان حظها في عصر المماليك وقبله بقليل

ص: 16

بضع محسنات لفظية سخيفة يسعى إليها الشاعر سعيا واضحا مكشوفا كاللص الأبله يسرق الناس في رائعة النهار! فإذا تجاوز المحسنات كان همه السطو على المعاني القديمة أو تقليد كبار الشعراء في عصور الحضارة السالفة، وكان حظ مصر عظيما في النهضة الأدبية الأخيرة المباركة في كل وجه من وجوه الثقافة، ولا سيما الشعر، فقد قطعت فيه شوطا بعيدا وأحرزت فيه قصب السبق في حلبة الفنون

في الخمسين سنة الأخيرة، منذ وفاة محمود سامي البارودي، أول طلائع النهضة الحديثة، إلى الآن - لمعت في سماء الشعر شموس وأقمار وكواكب متعددة، توشك أن تكون خمسين شاعراً، وهو عدد - بحمد الله - ليس بقليل!

ربما يخطر في بالك الآن، هذا المثل العامي الظريف:(العدد في الليمون. . .!) وربما تستغرق في الفكاهة، أو تسرف في التجني، فتقول: إن خمسة فقط من هؤلاء الخمسين هم الخالدون الذين يعتد بهم ويعول عليهم، وتحفظ أشعارهم على أنها نماذج رائعة للخيال المنتج والتعبير الجميل، ومناهج مبتكرة للشعور الصادق والفن الأصيل. وأن هؤلاء الخمسة كالصلوات المكتوبة. خمس في العدد، وخمسون في الأجر والثواب!

فدعني أسألك هذا السؤال: من هؤلاء الخمسة الشعراء؟ فتسرع بالجواب: البارودي وصبري وشوقي وحافظ ومطران، فأقول: هؤلاء جميعا في فراديس الجنان، فما بالك بالأحياء؟ فتقول: العقاد وناجي ورامي وعزيز أباظة وعبد الرحمن صدقي، فأستدرك قائلا: ولكن في الطائفة الأولى أعلاماً يجب أن تذكر بالحمد والثناء. حفني ناصف وولي الدين يكن ومحمد عبد المطلب وأحمد محرم وعلي الجارم وزكي مبارك وعلي محمود طه وعبد الحميد الديب وفخري أبو السعود، وفي الطائفة الأخيرة عبد الرحمن شكري ومحمد الأسمر وصالح جودت ومحمد مفيد الشوباشي وبعد اللطيف النشار. . فتصيح من فرط الغضب أو من فرط الدهشة، أو من ملل السرد على الأصح: آمنا وصدقنا يا أخي!! عشرون شاعراً أو ثلاثون. . .

كم شاعراً من هؤلاء جميعا يستحق الدراسة، ويحتاج إلى البحث والاستقصاء؟ - جميعهم بلا استثناء. .!

نعم جميع هؤلاء الشعراء في حاجة ماسة إلى دراسة جديدة تبتعد عن الغلو والملق

ص: 17

والمجاملة، وعن التجني وسوء الظن والزراية. وقد كتبت فيهم جميعا كتابات أكثرها إن لم يكن جميعها لا يخلو من عيب من هذه العيوب

وليس هؤلاء الشعراء وحدهم في حاجة إلى أمثال هذه الأبحاث، بل إن هناك من هم أحق منهم بهذه الدراسات وأولى بالنظر والتعريف. . . هؤلاء هم شعراء الشباب

ما أحوج شعراء الشباب جميعا إلى دراسات منظمة وأبحاث مستفيضة في اتجاهاتهم الفنية ومذاهبهم الشعرية وألوانهم المختلفة في الشعور والتعبير، وما اشد حاجة هذه البراعم الغضة البضة في حديقة الشعر إلى من يتولاها بالري والتشذيب وينير لها السبل. في الصفوف الخلفية مواهب وقرائح وعبقريات ومبعثرة، أكثرها مع الأسف مدفون في التراب، لولا ما يتنفس به بعضهم حينا بعد حين، في الهواء الطلق والجو الفسيح ولو أتيحت الفرصة المناسبة لكثير من براعم شعراء الشباب لكان لنا طبقة جديدة وجبهة قوية تتجه بالشعر إلى أسمى المناهج الحديثة، وتصل بالفن إلى أعلى مراتب الخلود

وإذا كانت هذه البراعم الغضة في حاجة إلى النقد والتمحيص فلكي ننوه بها ونشد أزرها ونشجعها على السير الطويل في طريق الشعر بخطى راسخة وبجهاد لا يلين، بدقة وفطنة وإحكام؛ حتى لا تتكرر المأساة من جديد. . . مأساة التخبط والتقليد

لو أن إسماعيل صبري أخلص النصح لشوقي، وزين له في نشأته الأدبية اعتماده على نفسه، فنبت على ساقه وغاص إلى أعماقه، وعبر عن نفسه ورأيه وشعوره لكان لنا في شوقي (أمير الشعراء) غير الذي كان. . .!

ولو أن شوقي رسم الطريق أمام رامي، فحبب إليه الجزالة والرصانة والفحولة - لكان رامي شاعر الشباب الدائم ولو جاوز التسعين. . .!

ولو أن مصطفى علي عبد الرحمن، اغترف من بحر رامي، ونسج على منواله في الشعر الغنائي مع تعمق ورسوخ لرق شعره وراق!

ومن ناحية أخرى لولا أن العقاد آثر ابن الرومي كل هذا الإيثار، وأحب مذهبه الشعري كل هذا الحب - لما جنى ابن الرومي على شعر العقاد، وكاد يجعل بعضه سراديب عقلية وفكرية ينقصها نور العاطفة المشبوبة في شاعر كبير كالعقاد. .!

وكذلك ولولا أن سيد قطب وأحمد مخيمر والعوضي الوكيل هاموا زمناً طويلا بشعر العقاد

ص: 18

وطريقة العقاد - لكان لإنتاجهم رونق أجمل ولشخصيتهم صور تختلف عن الأصل في بعض الملامح والسمات!

من هنا تبدو بوضوح جناية التقليد والاحتذاء، وتبدو من الجانب الآخر جناية السير على غير هدى ولا اقتداء. ومن هنا أيضاً تأتي مهمة الناقد الأمين الحريص على رسم الخطوط، وهداية الضال إلى الطريق القويم

ويخيل إلى أن نقد كبار الكتاب والشعراء والفنانين عامة ليس نقدا صحيحا صريحا؛ لأنه يغلب عيه الإعجاب والإكبار، وتبرير الأخطاء أحيانا، وأحيانا يغلب عليه التهجم والتنقص والتجريح لسبب من الأسباب

ويخيل إلي أيضاً أنه مضت فترة طويلة خلا فيها الجو الأدبي من النقد الصحيح في ميدان الشعر الحديث، وأن الحاجة ماسة إلى ناقد يكمل هذا النقص ويسد هذا الفراغ الموحش الرهيب. وسأحاول بقدرتي المحدودة وجهدي الضئيل، أن أحمل على عاتقي هذا العبء الثقيل

وأود قبل أن أتناول بعض الشعراء بالنقد والدراسة أن أشير إلى منهجي في البحث إشارة خاطفة: سأخص كل شاعر على انفراد بدراسة مجملة أنبه فيها إلى الخطوط الرئيسية في شعره، فأشيد بحسناته ومزاياه، وأشير إلى بعض العيوب رجاء اجتنابها والسعي الحثيث إلى الكمال، على أنني سأبدأ بدراسة (براعم شعراء الشباب)؛ لإمكان انتفاعهم بهذه الدراسة، وشحذ ملكتهم النفاذة إلى الأعماق. وسأتناول شعراء مصر وشعراء البلاد العربية؛ ففي كل بلد منها طائفة من شعراء الشباب النابهين؛ في الإغضاء عن الإعجاب بقدرتهم الفنية إثم كبير

وليس في استطاعة أحد أن يلم بكل هذا العدد الضخم من النابهين والمغمورين من الشعراء، وسأقتصر على اختيار بعض نماذج صالحة للعرض والتقديم، من المغمورين أولا ثم من المعروفين أخيراً ممن يناط بهم الرجاء. وقد أشرت إليهم إشارة موجزة في كلمتي السابقة، وفي الكلمات التالية إن شاء الله تفصيل هذا الإجمال. وإلى اللقاء مع الشعراء كل أسبوع

أحمد أحمد العجمي

ص: 19

‌أبو العتاهية

للدكتور محمد عبد العزيز الكفراوي

أبو العتاهية مع الفضل بن الربيع وزبيدة

وعدنا في المقال السابق أن نورد الأدلة التي تثبت صحة ما ذهبنا إليه من أن الفضل بن الربيع وزبيدة قد شجعا أبا العتاهية على الإضراب عن إنشاد شيء من شعر الحب للرشيد ووعداه المال والحماية من كل سوء يتعرض له بسبب ذلك الإضراب. وقد حان اليوم موعد الوفاء بذلك الوعد، وسنبدأ بما يتعلق من ذلك بالفضل. ولعل أول ما يلفت نظر الباحث إلى وجود علاقة بين الشاعر وبينه هو انقطاع الشاعر عن مجالس الخليفة بعد شهور قلائل من تولي الفضل الحجابة للرشيد. والحق أن ذلك التقارب في الزمن بين الحدثين كان أول ما نبه أذهاننا إلى احتمال وجود علاقة بينهما. بل كان الشرارة الأولى التي انبعثت من أعماق ذلك الماضي البعيد لتفتح أعيننا على ما كان من انزلاق الشاعر إلى ميدان السياسة وتعاونه مع الفضل وزبيدة

وإن المرء ليعجز عن أن يجد مناسبة أخرى لتشدد الشاعر في مطالبة الرشيد بالتدخل السريع في أمر زواجه من عتبة، وإنا لنسأل أنفسنا لم اختار الشاعر ذلك الوقت بالذات؛ مع أن أنسب الأوقات لمثل ذلك الموقف الصلب كان عقب موت الخيزران، فقد كانت عتبة تعتذر عن الزواج باحتياج سيدتها إليها وعدم رغبتها في إغضابها؛ أما وقد توفيت الخيزران سنة ثلاث وسبعين ومائة للهجرة فإنا لنعجب لم انتظر الشاعر بعد سبع سنوات كاملة ليثور فجأة سنة ثمانين ومائة للهجرة؟. وما صمت في رأينا إلا لعجزه، وما ثار إلا لتقويه بما رأى من تشجيع الفضل وزبيدة

ويلفت النظر أيضاً ما أورده ابن الشاعر خاصا بإضراب أبيه عن قول الشعر في الحب: (. . . لما ذهب الرشيد إلى الرقة لبس أبي الصوف وتزهد وترك حضور المنادمة والقول في الغزل. . .) أليس للمرء أن يسأل لم أختار أبنه ذهاب الخليفة إلى الرقة ليؤرخ به لإضراب أبيه عن القول في الغزل؟ ألا يمكن أن يكون هناك علاقة بين الحدثين. يبدو لنا أن الرشيد إنما ذهب إلى الرقة فرارا من زبيدة التي كانت تدفعها غيرتها الشديدة التي التضييق على أأاتايي وتنغيصه كلما خلا إلى جارية من جواريه؟ فإذا صح هذا الافتراض

ص: 20

كانت العلاقة بين الحدثين قوية، إذ يتصل كل منهما بالنزاع الذي كان قائما بين الخليفة وزوجه حول اتصاله بجواريه على حسابها

ولندع هذا الاستنباط جانبا؛ لنعط للشاعر للفرصة كي يتحدث لنا بصراحة عما كان بينه وبين الفضل من اتفاق في هذا الشأن: - يروي أبو الفرج في الأغاني أن الرشيد وجد وهو بالرقة على أبي العتاهية وهو بمدينة السلام؛ فكان أبو العتاهية يرجو أن يتكلم الفضل بن الربيع في أمره فأبطأ عليه بذلك فكتب إليه أبو العتاهية: -

أجفوتني فيمن جفاني

وجعلت شأنك غير شأني

ولطالما أمنتني

مما أرى كل الأمان

حتى إذا انقلب الزما

ن علي صرت مع الزمان

فكلم الفضل فيه الرشيد فرضى عنه ورجع إلى حالته الأولى. ولعل القارئ يرى معنا صحة ما ذهبنا إليه من صراحة هذا النص فيما ندعيه من وجود اتفاق سابق بين الشاعر والفضل، وإلا فلم يتوقع أبو العتاهية أن يتكلم الفضل في أمره؟ ولم يسرع بتقريعه حين يتباطأ في ذلك التكلم؟ ثم انظر إلى الشاعر وهو يبدي دهشته وعجبه من أن يجفوه الفضل فيمن جفاه من الناس نتيجة لغضب الرشيد عليه كأن لم يكن هناك صلة بينهما، ثم يذكره في البيت الثاني بما كان من تشجيعه له على الثورة ضد الرشيد، مؤكدا له أنه لن يتعرض لمكروه ما بسبب تلك الثورة

ومن أدلة ذلك التفاهم والتعاون أيضاً ما كان يصيبه الشاعر من مال الخلفاء نتيجة لتوسط الفضل له، وأمثلة ذلك كثيرة، فمنها ما حدث به الأغاني من أن الرشيد قد حم يوما فذهب أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع برقعة فيها:

لو علم الناس كيف أنت لهم

ماتوا إذا ما ألمت أجمعهم

خليفة الله أنت ترجح بالنا

س إذا ما وزنت أنت وهم

قد علم الناس أن وجهك يسـ

تغني إذا ما رآه معدمهم

فأنشدها الفضل بن ربيع الرشيد فأمر بإحضار أبي العتاهية فما زال يسامره ويحدثه حتى برئ ووصل إليه بذلك السبب مال جليل. ويذكر أبو الفرج أن خالد بن أبي الأزهر قال: بعث الرشيد بالمرجشي إلى ناحية الموصل فجبا له منها مالا كثيرا من بقايا الخراج، فوافى

ص: 21

به باب الرشيد فأمر بصرف المال أجمع إلى بعض جواريه، فاستعظم الناس ذلك وتحدثوا به، فرأيت أبا العتاهية وقد أخذه شبه الجنون فقلت له: مالك ويحك؟ فقال لي: سبحان الله أيدفع هذا المال الجليل إلى امرأة ولا يتعلق كفي منه بشيء! ثم دخل إلى الرشيد بعد أيام فأنشده:

الله هون عندك الدنيا وبغضها إليكا

فأبيت إلا أن تصغر كل شيء في يديكا

ما هانت الدنيا علي. . . أحدكما هانت عليكا

فقال له الفضل بين الربيع يا أمير المؤمنين ما مدحت الخلفاء بأصدق من هذا المدح، فقال يا فضل: أعطه عشرين ألف درهم. ولم يقتصر هذا التعصب للشاعر والترويج له على عهد الرشيد. بل ظل الفضل على وفائه للشاعر حتى عهد الأمين. ومثال ذلك ما كان من الفضل حين ذهب إليه الشاعر بنعل مكتوب على شراكها:

نعل بعثت بها ليلبسها

قرم بها يمشي إلى المجد

لو كان يصلح أن أشركها

خدي جعلت شراكها خدي

فدخل بها الفضل إلى الأمين وأهداها إليه فاستخلص بها عشرة آلاف درهم للشاعر

أما تشيع الشاعر لزبيدة فقد بدا واضحا في أشعاره المختلفة التي كان يخدم قضيتها بها كما سنشرحه في حينه، ونقتصر الآن على مقطوعة واحدة أنشدها لأول خروجه من سجن الرشيد حين قرر أن ينظم إلى معسكر زبيدة والفضل

من لقلب متيم مشتاق

شفه شوقه وطول الفراق

طال شوقي إلى قعيدة بيتي

ليت شعري فهل لنا من تلاق

هي حظي قد اقتصرت عليها

من ذوات العقود والأطواق

جمع الله عاجلا بي شملي

عن قريب وفكني من وثاقي

لا يرى مؤرخو الأدب في هذه الأبيات إلا احتيالا من أبي العتاهية للخروج من سجن الرشيد الذي أقسم ألا يخرجه حتى يقول شعراً في الحب. وأما نحن فنرى فيها شيئا آخر إلى جانب ذلك بل وأهم من ذلك. نرى فيها مبادرة من الشاعر إلى البر بالعهد الذي قطعه على نفسه لزبيدة بأن يلتزم جانبها في كل ما يقوله للرشيد من أشعار. وها هو لم يعد ينشد

ص: 22

الرشيد من أشعار الحب ما يغريه بالجواري كما كان يفعل من قبل، بل يضرب للرشيد المثل فيما يجب أن يفعله في حياته الخاصة من الاقتصار على امرأة واحدة، وما تلك إلا زوجه وابنة عمه زبيدة، وكأنه يقول للخليفة إن حياة الاستقامة والزهد التي يستقبلها لا تستقيم له إذا فكر في أخرى بجانب زوجه. ولا شك أن الترويج لمثل تلك الأفكار يسر زبيدة ويثلج صدرها، ألا ترى أنها قد أغرت بعض جواريها بأبي نواس يضربنه حتى أشرف على الموت حين استباح لنفسه أن يتحدث إلى الرشيد في جمال الجواري وعذوبتهن؛ ثم عادت فأجزلت له العطاء حينما علمت أنه انتفع بالدرس القاسي الذي ألقته عليه وأخذ ينفر الخليفة من أولئك الجواري وينصحه بالاقتصار على زهرة قريش، وما كان يعني إلا زوجه وابنة عمه زبيدة. أليس ذلك هو نفس ما فعله أبو العتاهية في أبياته سوى أنه كان لبقا في خطابه فبدأ وكأنه يتحدث إلى نفسه. . وإنما كان يتحدث إلى الخليفة

هذا بعض ما كان من مظاهر تشيع أبي العتاهية لزبيدة. أما ما كان من تعصبها له ومناصرتها إياه فقد كان معروفا غير مجهول. وقد تحدثت عنه كتب الأدب في غير موضع، ومثال ذلك ما كان من مناصرتها له حين اختلف مع القاسم بن الرشيد وأحد ولاة عهده. فقد وقف الشاعر إجلالا للقاسم حين مر به موكبه ولكن الأخير تجاهله ولم يلتفت إليه فأنشأ:

يتيه ابن آدم من جهله

كأن رحا الموت لا تطحنه

وبلغ ذلك القاسم فأحضر الشاعر وضربه مائة ومقرعة وحبسه عنده، وما كان من أبي العتاهية إلا أن أرسل إلى زبيدة يشكو ما أصابه في أبيات لا تختلف في معناها عن البيت السابق، وما لبثت زبيدة أن كلمت الرشيد في أمره فاستدعاه إليه وكساه ولم يرض عن القاسم حتى بر الشاعر وأدناه واعتذر إليه

وليس القاسم هو الأمير الوحيد الذي يبسط فيه الشاعر لسانه غير هياب ولا وجل، بل نراه يغلو في إيذاء أمير آخر هو صالح المسكين عم الرشيد ويهدده بالقتل في أبيات غاية في الجرأة والتهور:

مددت لمعرض حبلا طويلا

كأطول ما يكون من الحبال

حبال بالصريمة ليس تفنى

موصلة على عدد الرمال

ص: 23

فلا تنظر إلى ولا تردني

ولا تقرب حبالك من حبالي

فليت الردم من يأجوج بيني

وبينك مثبتا أخرى الليالي

فكرش إن أردت لنا كلاما

ونقطع قحف رأسك بالقتال

ولم يكد ينجو من لسان الشاعر أحد من رجال الدول، وما حميد الطوسي وخازم بن حزيمة ويحي بن خاقان وعمرو بن مسعدة إلا بعض من شملهم الشاعر بإيذائه لأتفه الأسباب. نحن لا نشك في أن الشاعر كان مريضا مرضا نفسيا دفعه إلى بغض ذوي الجاه والنفوذ في عصره كما ذكرنا من قبل، ومع ذلك فنحن لا نشك في أنه ما كان ليسرف في هجومه ذلك الإسراف لو لم يكن له ركن شديد يأوي إليه كلما أوقعه لسانه في مأزق، وما حدث القاسم السالف الذكر إلا مثال واحد يبين لنا سر قوة الشاعر وإسرافه في عدوانه

ويظهر أن صلة الشاعر بزبيدة والفضل قد أكسبته جاها عريضا ومركزا رفيعا في الدولة، فأبو الفرج يروي أن منصور بين المهدي طلب إلى الشاعر أن يزوجه إحدى ابنتيه، وما كان منصور هذا بالضعيف ولا الخامل، وحسبك أن تعلم أن أهل بغداد قد عرضوا عليه الخلافة حينما اضطرب أمرها نتيجة للحروب التي كانت بين الأمين والمأمون. ويظهر أن منصورا كان حازما عاقلا إلى جانب نباهة شأنه وعلو قدره، وآية ذلك أنه رفض الخلافة وعمل في الوقت نفسه على تهدئة الفتنة وجمع كلمة الأمة

وقد ظلت صلة الشاعر بزبيدة وثيقة إلى آخر أيامها، فنراها تلجأ إليه حين قتل أبنها الأمين واحتاجت إلى أبيات من الشعر تستعطف بها المأمون، وقد أحسن الشاعر ترجمة شعورها فرضى المأمون عنها واكرمها، وسأل عن صاحب الأبيات وكافأه بمثل ما كافأته به زبيدة

وإنا لنراه لزاما علينا وقد تعرضنا لما كان لزبيدة من أثر في حياة شاعرنا نتيجة لغيرتها أن نذكر أمثلة لما كانت تثيره في نفسها من تلك الغيرة المريرة من عواطف وتدفعه إليها من أعمال. من تلك الأمثلة ما كان حين أحست تعلق الرشيد بجارية تدعى دنانير. وقد كانت دنانير هذه مملوكة ليحيى بن خالد البرمكي، وقد بلغ من افتنان الرشيد بها أن كان يزوها في بيت سيدها من وقت لآخر، وأهداها إلى جانب ذلك عقدا قيمته ثلاثون ألف دينار. نسيت زبيدة كبرياءها وراحت تشكو الخليفة إلى أعمامه، وقد كان رده عليهم حين خاطبوه في شأن دنانير إنه إنما يعينه منها غناؤها فقط ولا يهتم بشيء وراء ذلك. ولم تجد زبيدة بدا

ص: 24

من التظاهر بالرضا بذلك الوضع، بل ذهبت في مجاملتها إلى أبعد الحدود فأهدت الرشيد عشر جوار اعتذارا عما أبدته من غيره لا مبرر لها. هكذا يروي المؤرخين، ونحن لا نستبعد أن تكون زبيدة إنما أهدت إيه هؤلاء الجواري لتشغله عن دنانير التي أشعلت في نفسها أحر نيران الغيرة

ويقع الرشبد في حبال جارية أخرى فتهرع زبيدة لا إلى أعمام الخليفة كما فعلت من قبل، بل إلى أخته علية التي أقسمت لزبيدة لتجتذبن الخليفة إليها ثانية. وذات ليلة بينما كان الخليفة جالسا بفناء قصره أقبلت علية وزبيدة كل على رأس صف من جواريها وقد لبسن أفخر ثيابهن وأخذن يغنين:

منفصل عني وما

قلبي عنه منفصل

يا قاطعي اليوم لمن

نويت بعدي أن تصل

والحق أن المرء لا يكاد يتصور ذلك المنظر حتى يشعر بالرثاء لتلك الملكة التي دفعتها غيرتها الشديدة إلى مثل ذلك الموقف الذي لا تحسد عليه. ومع أن قصص زبيدة كثيرة إلا أننا نختتمها بالقصة التالية لما فيها من طرافة. وخلاصتها أن الرشيد هام يوما بجارية تسمى عنان، وكانت عنان هذه شاعرة من الطبقة الأولى، وكان الرشيد يعتذر عن تعلقه بها كلما خوطب في شأنها بأنه إنما يحبها لشاعريتها. وأوهت زبيدة إلى الأصمعي أن يحتال في تنفير الخليفة من عنان بوسيلة ما. . ووعدته على ذلك أجرا عظيما. وما زال الأصمعي يترقب فرصة للوثوب على فريسته حتى قال الخليفة يوما وقد ذكرت عنان في مجلسه: علم الله أنني لا أهتم بها إلا لشاعريتها. . فقال الأصمعي: هلا أحب أمير المؤمنين الفرزدق إن كان ما يعينه من عنان هو شاعريتها؟ وهنا ضحك الرشيد وضحك الحاضرون معه وهدأت فورة حبه لعنان ولو إلى حين

ويظهر أن زبيدة قد نفد صبرها ولم يعد لها قدرة على احتمال اللطمات المتوالية التي يكيلها لها هارون، فراحت تأثر منه بحيلة بارعة، وقد يكون من الخير أن نذكر تفاصيل تلك الحيلة كما يرويها المؤرخون ثم نذكر رأينا الشخصي فيها. يروي المؤرخون أن زبيدة كان لها قرد يسمى أبا خلف، وأنها كانت تعني به عناية زائدة، فكانت تقلده سيفا وخصصت له ثلاثين شخصا يقومون على خدمته ويسيرون بين يديه في شبه موكب كلما قام بجولة في

ص: 25

المدينة. وأصدرت أمرها بأن يؤدي التحية لقردها كل من يدخل عليها، ولم تكن تقنع ممن يدخل عليها كبيرا كان أو صغيرا بأقل من تقبيل يد أبي خلف. وقد ظل أبو خلف موضع الحفاوة والتقدير حتى دخل يزيد ين مزيد على زبيدة في بعض الشؤون وطلبت إليه أن يقبل يد قردها، فما كان من ذلك القائد الصعب المراس إلا أن استل سيفه وشطر القرد نصفن. وحزنت زبيدة لموت قردها حزنا شديدا وعزاها فيه الناس واستدعي الرشيد يزيد وطلب منه تفسيرا لما فعل بأبي خلف فأجاب: ما كنت لأخدم القردة بعد خدمة الملوك يا أمير المؤمنين. وهكذا يبدو أن المؤرخين لا يرون في أمر أبي خلف إلا عبثا بريئا من زبيدة. ونحن لا نشاركهم هذا الرأي، وأول ما لفت نظرنا إلى ما يمكن خلف ذلك العبث الظاهري من معان هو الشبه بين اسم القرد (أبو خلف) ولقب الرشيد (الخليفة) وتأويل ذلك أن زبيدة وقد ضاقت ذرعا بالرشيد أرادت أن تسخر منه في شخص ذلك القرد الذي أقامته مقام الخليفة بما أحاطته به من مظاهر العظمة من سيف في وسطه وحرس من حوله. . وما من شك في أنها كانت توجه إلى ذلك القرد من النكات اللاذعة ما يشق عليها أن توجهه إلى الخليفة نفسه. ولعلها أرادت إلى جانب ذلك أن تخبر الرشيد بأنه إذا كان قد وجد عوضا عنها في الجواري يخلو إليهن ويسعد بلقائهن، فقد وجدت هي الأخرى عوضا منه في ذلك القرد الذي يضحكها بما يأتيه من حركات أو يرسله من نظرات، وما من شك في أن الرشيد قد عرف ما تهدف إليه زبيدة واستاء له أشد الاستياء. . فكلف يزيد بن مزيد بقتله. وما كان استجوابه له فيما بعد إلا خدعة أراد بها استرضاء زبيدة

أما وقد فرغنا من الحديث عن علاقة الشاعر بزبيدة والفضل ابن الربيع فواجبنا أن نتحدث عن علاقته بالبرامكة خصوم الفضل. . وهو ما سيكون موضوع حديثنا في المقال التالي إن شاء الله تعالى

يتبع

دكتور محمد الكفراوي

ص: 26

‌2 - إندونيسيا

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

(ما من قوة في الأرض - حتى القنبلة الذرية - تستطيع أن تقضي على إرادة شعبنا في أن يصبح أمة مستقلة)

(ليس في استطاعتي أن أتصور عالما نصفه من الأحرار ونصفه الآخر من العبيد)

(إن إندونيسيا قد أخذت على نفسها ميثاقا مقدسا بأن تحارب الاستعمار وتكافحه أينما كان)

(إن إندونيسيا تعلن تأييدها التام لمصر وإيران)

الرئيس سوكارتو

مرديكا:

كلمة إندونيسية معناها الحرية والاستقلال، فإذا قلنا إندونيسيا مرديكا فإنا نقصد بذلك إندونيسيا الحرة المستقلة. ومرديكا (الاستقلال) هي صيحة الإندونيسيين الوطنية

والإندونيسيون قوم يؤمنون بالحرية ويقدسونها، وليس في هذا ريب فما زالت سياط المستعمر وويلات الاستعمار الهولندي ماثلة في الأذهان

لقد ظلت هولندا جاثمة على صدر إندونيسيا قرونا طوالا ومع هذا لم يضعف إيمان الإندونيسيين بالحرية، وقد كان انتصار اليابانيين على الروس 1905 أول خيط في ثوب الحرية الأسيوية ضد الاستعمار الأوربي. فقد آمن سكان آسيا بأن حريتهم يمكن أن تتحقق ولابد يوما أن يصلوا إليها. ولم يأت منتصف القرن العشرين حتى تحقق استقلال كثير من الشعوب الأسيوية: الباكستان إندونيسيا الهندستان برما وغيرها

وكما زلزل انتصار اليابان 1905 أقدام الاستعمار الأوربي لآسيا. . زلزل انتصارهم واحتلالهم لإندونيسيا 1942 أقدام الاستعمار الهولندي. فقد طرد اليابانيون الهولنديين واحتلوا الأرخبيل الإندونيسي. ولم يرض الإندونيسيون بهذا فإنهم كانوا ينشدون الحرية ولا يريدون إبدال استعمار باستعمار، ومن ثم أخذوا يعدون أنفسهم للجهاد المقبل. وقد ساعد اليابانيون على تدريب الإندونيسيين مما أكسبهم قوة عظيمة

وفي 1945 سقطت القنابل الذرية على المدن اليابانية فكانت إيذانا بانتهاء الحرب العالمية الثانية، وباستقلال إندونيسيا. ذلك أنه ما أن سلمت اليابان حتى أعلن الإندونيسيون

ص: 27

استقلالهم في 17 أغسطس 1945. وقد حاولت هولندا العودة إلى احتلال إندونيسيا ولكن الإندونيسيين قابلوا القوة بمثلها واضطرت هولندا إلى الأعراف باستقلال إندونيسيا في 27 ديسمبر 1949

وقد أعلن الدكتور سوكارتو في يوليه 1945 المبادئ الخمسة (البانتشا سيلا) التي قامت عليها الجمهورية الإندونيسية وهي: الإيمان بالله والمودة للإنسان والاعتزاز بالقومية والاعتراف بسيادة الأمة وتحقيق العدالة الاجتماعية

ووصف هذه المبادئ بأنها (أساس نفساني لإندونيسيا الحرة، فلسفة ذات تفكير عميق وروح ورغبات تامة يقوم عليها بناء إندونيسيا الحرة ثابتا مستقرا إلى الأبد.)

وقد زاد الرئيس سوكارتو هذه المبادئ إيضاحا وتفسيرا فقال: إننا قوم نؤمن بالقومية ويقصد بالقومية إقامة دولة إندونيسية تضم جميع الإندونيسيين تحت لوائهاويشعر جميع أبنائها بحاجتهم إلى أن يكونوا يدا واحدة وأمة متحدة ولا يمكن الفصل بين الإنسان والمكان، فوجود المكان شرط لقيام الدولة. والله قد خلق العالم وأقام فيه الوحدات الطبيعية: فجزائر إندونيسيا التي تتكون من جاوة وسومطرة وبورنيو وسبيس وغيرها تقف حاجزا بين المحيطين الهادي والهندي وعليها تتحطم أمواجهما. هذه الجزائر تكون وحدة طبيعية ويسكنها 75 مليونا من البشر فلم لا تكن دولة حرة مستقلة!

وإندونيسيا لا تريد أن تكون دولة حرة فحسب، وإنما تريد أن تكون دولة حرة في عالم حر. لقد ذاقت إندونيسيا ويلات الاستعمار فلتكن سياستها الجديدة مقاومة الاستعمار والوقوف في جانب الحرية

من أجل هذا وقفت إندونيسيا بجانب مصر وإيران في إبان صراعهما الأخير ضد الاستعمار البريطاني، وقد كانت إندونيسيا من اسبق الدول إلى الاعتراف بجلالة الملك فاروق ملكا لمصر والسودان وهو لقب جلالته الذي أقره البرلمان المصري بعد إلغاء معاهدة 1936 في أكتوبر الماضي

ولم تكن مصر أقل حبا لإندونيسيا، فقد كانت مصر من أسبق الدول إلى الاعتراف بالجمهورية الإندونيسية الوطنية الحرة، وليس هذا بكثير بل إنا نطمع فيما هو أكثر في المستقبل القريب إن شاء الله. إننا نريد إقامة وحدة إسلامية حرة تعيش في عالم حر

ص: 28

والمبدأ الثالث الذي تدين به إندونيسيا هو الديمقراطية بمعنى أن يكون الكل للكل والواحد للكل والكل للواحد: ، وبمعنى آخر أن تقوم حكومة إندونيسية يتمتع جميع رعاياها من مسلمين ومسيحيين وبوذيين بكافة الحقوق والواجبات، ولينعموا بالسعادة والطمأنينة والرفاهية والرخاء

وأما المبدأ الرابع فهو إقامة دولة تنهض بإندونيسيا وتجعل منها شعبا قويا يتمتع جميع أفراده بالحياة الهانئة مما يحقق العدالة الاجتماعية

وأما المبدأ الخامس والأخير فهو أن تقوم في إندونيسيا حكومة تكفل للجميع حرية العبادة، تكفلها للمسلم وللمسيحي وللبوذي على السواء

ويختم الرئيس بيانه قائلا: إن الحرية والاستقلال لا يمكن أن ينالها شعب إلا إذا اشتعلت روحه بالعزم على الحصول عليهما أو الفناء في سبيلهما)

نظامها الحكومي:

إندونيسيا جمهورية وقد نص دستورها على أن السيادة فيها يجب أن تكون للشعب الذي سيباشر تلك السيادة بواسطة المؤتمر الشعبي الذي يتكون من أعضاء المجلس النيابي ومن مندوبي المناطق والطوائف

والرئيس يتولى السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وهو القائد الأعلى للجيش والبحرية والطيران. وله وكيل أو نائب وكلاهما يختار بالانتخاب ومدة ولايتهما خمس سنوات

وقبيل مباشرة الرئيس لسلطته يقسم اليمين التالي أمام المؤتمر الشعبي أو المجلس النيابي:

(إنني أحلف إنني سأقوم بواجبي كرئيس للجمهورية الإندونيسية بأمانة وإخلاص لصيانة الدستور وتنفيذ القوانين وتكريس نفسي لخدمة الدولة والشعب)

وللرئيس حق إعلان الحرب وعقد الصلح وإبرام المعاهدات بموافقة المجلس النيابي، وهو الذي يعلن الأحكام العرفية ويعين السفراء والوزراء المفوضين والقناصل

والسلطة التنفيذية في يد الوزراء الذين يعينهم ويقيلهم رئيس الجمهورية وهم مسئولون عن وزارتهم أمام الهيئات النيابية

وتنقسم إندونيسيا إلى وحدات إدارية تحتفظ كل منها باستقلالها الذاتي إلى حد كبير

وقد نصت المادة الرابعة والعشرين على أن السلطة القضائية يجب أن تكون في يد المحكمة

ص: 29

العليا والمحاكم التابعة لها

ونصت المادة السابعة والعشرون على أن المواطنين يجب أن يكونوا كلهم في منزلة واحدة أمام القانون ويجب أن يكون لهم حق في العمل وفي توقع المستوى المعقول للمعيشة

ونصت المادة التاسعة والعشرون على أن الدولة تؤسس على الإيمان بالله رب العالمين وعلى أن الدولة تضمن حرية الشعب في إظهار الدين الذي يؤمن به وفي العمل به

وكذلك كفل الدستور لكل مواطن أن ينال حظه من التعليم ونص على أن تعد الدولة المعاهد اللازمة لذلك

وكذلك قرر الدستور أن الدولة يجب أن تعني بالرخاء الاجتماعي وبالفقراء والأطفال المشردين

هذا عن دستور إندونيسيا. أما عن مؤسساتها الدينية والسياسية فأهما: 1: مجلس شورى مسلمي إندونيسيا 2: حزب دار الإسلام 3: شركة إسلام 4: الجمعية المحمدية ولها فرع نسائي يسمى الجمعية العائشية. 5: جمعية نهضة العلماء 6: الاتحاد الإسلامي

وهذه الهيئات الإسلامية كانت تعمل على تحرير إندونيسيا فلما استقلت إندونيسيا أخذت تعمل على الاحتفاظ بهذا الاستقلال وصيانته وإعزاز كلمة الدين الإسلامي

وأهم الأحزاب بعد ذلك الحزب الوطني الإندونيسي وكان ينتمي إليه الرئيس سوكارتو قبل تولي رئاسة الجمهورية

أبو الفتح عطيفة

ص: 30

‌أثر المدرسة المصرية في الثقافة

للأستاذ ثروت أباظة

(تتمة)

وهكذا يدخل المدرس إلى الفصل وقد كتب عناوين درسه باللون الأحمر والتاريخ باللون الأزرق. ثم هو يلقي ما تقرر عليه أن يلقيه، ثم هو يسأل فيثور ويغضب أو يسر فيمدح

لا يهمه فهم التلاميذ الدرس أو لم يفهموه. . فلقد أدى ما أرادت وزارة المعارف أن يكون واجبه، أما الفهم وعدمه فلا شأن له، فإنما يختص بهذا - في رأيه - عقلية التلميذ فيطمئن نفسه أن الذكي منهم سيفهم والغبي لن يستطيع أن يفهم وإن رزق صبر أيوب

وواضح أن هذا الرأي إنما هو مخادعة للنفس، فقد استقرت معظم الآراء على أن الغباء المطلق غير موجود أو يكاد ينعدم، فلو فهم الأستاذ هذا فحاول أن يتعرف الناحية الذكية في تلميذ فيعالجها، ولكن هذا مرة أخرى سيعود به إلى ضميره ليحاول أن يرضيه، ومرة أخرى سيغاضبه المفتش والناظر فيغاضب عيشه وحياته

والطامة الكبرى أن يشعر المدرس أن المادة التي يدرسها لا تتلاءم وميول بعض التلاميذ، ولا شك أنه في هذه الحالة سيدير بذهنه أن الأمر إذا استقر على عدم ميل التلاميذ إلى مادته ونفورهم قد يكون مجلبة للشر موجها إليه، فإن الإدارة لا تفهم معنى ملاءمة أو عدمها بالنسبة للتلاميذ. وإنما تفهم أن مدرسا ما قد أحسن. فأنجح تلاميذه أو أن آخر قد أساء فأسقط، وإنما تبعا لأوامر وزارة المعارف نعذره إذا غضب من هؤلاء التلاميذ. وتجلى غضبه في الثورة بهم والإساءة إليهم حتى لا يضطر التلاميذ الذي لا يميلون إلى هذه المواد إلى حفظها فهموها أو لم يفهموها. فإنما أمنياتهم لا تمتد إلى أكثر من رضاء المدرس عليهم. وإذا شاء سوء حظ تلميذ ما ألا يحفظ إلا ما يفهم. فمصيره لا شك أن يعبر بفشله من إخوانه الببغاوات وأستاذه الثائر. فتنعقد العقدة في نفسه. ويعتقد أنه شخص فاشل في الحياة وإن لم يتداركه الله برحمته. فمصيره الفشل في كل أمر يتولاه. ولو قد فهم الأستاذ كيف يعامل هذه العجينة اللدنة في يديه. وكيف يشكلها صحيحة مبرأة من العقد. ولو عرف الأستاذ كيف تنطمس ميول تلميذه حتى يعرفها. ثم يوجهها إلى الطريق القويم. ولو عرف الأستاذ لانبثق لنا جيل مقبل على عمله حتى وإن كان فاشلا في الدراسة. فما الدراسة بدليل

ص: 31

النجاح في الحياة، وإنما هي فرع من فروع هذا النجاح، وليس حتما أن يفشل في الحياة كل كاره لناحية من نواحي هذه الحياة. وأن المستقرئ لحياة العظماء في الشرق والغرب يدرك كم نبغ في الفنون والعلم أناس فشلوا في المدرسة. ومن الناحية الأخرى ليس حتما أن ينجح في الحياة كل ناجح في المدرسة، وهذا قول ما أظنني في حاجة إلى التدليل عليه. فالشواهد أكثر ومن أن تعد. رحم الله شوقي الخالد حين يقول

وكم منجب في تلقي الدروس

تلقي الحياة فلم ينجب

لا شك أن في أخذ التلاميذ بهذه الشدة في التدريس كبتاً لأرواحهم الحرة المرحة. فهم لا يشبعون رغباتهم من ناحية الميل الثقافي وهم لا ينطلقون إلى اللعب إلا وعلى أكتافهم واجبات من المدرسة، وفي آذانهم توجيه آبائهم، وسخرية أساتذهم. .

والضحك غريزة لابد يتنفس عنها المرء. وما دامت الحياة المدرسية لا تفسح له المتنفس مبرأ من الشوائب. فهم معذورون إذا شاكسوا الأستاذ في أثناء الدرس وعذرهم لا يبرر عملهم. إذ أنه أمر لا يجب السكوت عليه، لأنه يعودهم ألا يأخذوا من الحياة ناحية جدية، ولكن الطريقة التي يعاقبون بها تزيدهم إصراراً على الضلال، وما كان الضرب أو الطرد بوسيلة ناجحة في يوم من الأيام لأنها إذا أصلحت المظهر؛ فهي لم تصل مطلقا إلى الجوهر، وإن وصلت فبعقدة نفسية أخرى من الخوف فتزداد المشاكل، وتصبح نفسية الطالب أشبه شيء بشبكة الصياد لا تحل إلا إذا قطعت

وقد يظن البعض أنه وإن كانت المدرسة ملومة في هذا فالبيت ملوم معها؛ لأن أكثر الآباء يبنون معاملتهم لأولادهم على الشهادات التي تصل إليهم من مدارسهم. والشهادات كما بينت لا تدل على حقيقة عقلية التلميذ؛ وإنما هي في الأغلب تدل على أن هذا التلميذ يجيد الحفظ، وهذا الآخر لا يجيده. والأب إزاء ما يرى من شهادة ابنه لا يهتم مطلقا بمعرفة العلوم التي يميل إليها ولده. وتلك الأخرى التي لا يميل إليها فيعالج الأمر بما تقتضيه الأبوة الرحيمة وقواعد التربية الحديثة. بل هو يسارع فيسب ابنه إن لم يضربه؛ وإن غلا في العطف عليه أحضر له مدرسا خصوصيا يلقي إليه التلميذ بجهله راجيا منه أن يزيله. قد يظن البعض أن الآباء في هذه ملومون؛ ولكنني أعتقد أن لهم فيما يفعلون عذرا. فإنما أملهم أن يتسلح أولادهم بالشهادة يجابهون بها الزمان. فإن أحضروا المدرسين يقومون بهم

ص: 32

ضعف أولادهم، وإن حاربوا سقوطهم بكل الوسائل التي تصل إليهم أيديهم فإنما هم آباء يزهيهم أن يقال عن أبنائهم أنهم نالوا الشهادة، ولا يهمهم من بعد تثقف هؤلاء الأبناء أم لم يتثقفوا، ولا بد لنا أيضاً أن نضع عقلية الآباء موضع تقدير؛ فإن الكثيرين منهم لم يتعلموا، فإن كنا نعذر المتعلمين منهم إذا هم أخذوا أبنائهم بالشدة دون النظر إلى ميولهم، فإنه من باب أولى حتم علينا ألا نأخذ على غير المتعلمين معاملتهم لأبنائهم

بين أوامر وزارة المعارف وبين تنفيذ المدرسين لها، وبين شدة الآباء أو جهلهم لا يمكن للطلاب أن ينالوا ثقافة من المدارس الابتدائية والثانوية. واعتقادي أن الميل إلى التثقيف إذا لم يتكون في هاتين المرحلتين فالأمل في تكوينه بعد ضعيف. ونظرية الضغط الذي يولد الانفجار قديمة معروفة، ولا شك أنكم قد لمستم مقدار الضغط في حياة التلاميذ في المدارس الابتدائية والثانوية، حيث يصبحون كالآلات تتحرك إذا تحركت تبعا لتلك الإرادات الثلاث من وزارة المعارف والمدرس والأب. وهي تيارات متعارضة. فوزارة المعارف تريد أوامرها أن تنفذ؛ والمدرس يريد أن ينتهي من المقرر أيا يكون ذلك الانتهاء؛ والوالد يريد لابنه أن ينجح أيا كان ذلك النجاح. وهكذا تتعارض الإرادات في اتجاهات لها شتى؛ ولكنها جميعا تلتئم على ألا ينال التلميذ ثقافة حقيقية وتتضافر على كبت ميوله الثقافية. وينعقد إجماعها على ألا يصيب التلميذ قسطا من الاسترواح النفسي؛ بل هو دائما بين عقاب وتوبيخ وسوء معاملة، وهو كالآلة أمام هذه الإرادات، تسيرها كل إرادة على حسب هواها، فيزيد الضغط. . فما ينفلت التلميذ من التوجيهية إلى الجامعة حتى يحدث الانفجار. . انفجار ضخم. . فينتقم من التلميذ من سنوات في حياته عكرة مظلمة. . أنه في الجامعة ولا رقابة، وخاصة إذا كان في إحدى الكليات النظرية فإنه هناك لا يرتبط بالجامعة في شيء إلا في أسمه يقيد بها. ثم في تلك المنضدة يجلس إليها في أوائل الصيف من كل عام حيث يؤدي امتحانه. والصلة بينه وبين أستاذه بعد ذلك مفقودة كالعدم، فإننا اليوم نلاقي أساتذتنا فنعرفهم ولا يعرفوننا. وهم معذورون ونحن معذورون. والنظام هو المسئول؛ إذ يستحيل على الأستاذ بالكلية أن يتعرف هذا العدد الهائل الذي يحشد له في المدرج، فقد بلغ عدد الطلاب الذين التحقوا بكليات الحقوق في سنة ما ألف طالب. فإذا أعطى الأستاذ لكل طالب دقيقة في اليوم أو دقيقة في الأسبوع فإنه يستحيل عليه أن يتعرفهم جميعا. فإذا كان التعرف

ص: 33

يستحيل فكيف يتمكن الطالب من الاتصال بأستاذه صلة تقرب له مناهل التثقيف. والتعمق في المواد

الحال في الكلية إذن أن الطالب على نفسه رقيب، فالأب لا يعرف عن أبنه شيئا، والأستاذ لا يعرف عن تلميذه شيئا. والطالب لم يتعود الميل إلى الثقافة حتى يحاول أن يثقف نفسه. والمواد التي تدرس له يحفظها غصصا رغم أنفه في الشهرين الأخيرين من العام لينجح فقط. وإذا لم يتسع له الوقت فبحسبه أن يذاكر نصف المواد، ويترك النصف الآخر إلى الدور الثاني، وإن ازداد الوقت ضيقا فليذاكر الأجزاء المهمة من مواد الدور الأول، ويعتمد على الحظ من بعد الله، وهكذا لا يتاح للطالب الجامعي أن يدرس حتى المواد المقررة عليه جميعا، فهو قد أضاع العام في الانتقام من الأعوام الماضية ويكاد يكون من المقطوع به أن الطالب الجامعي حتى إذا درس هذه المواد فإنها لا تكفيه حتى يقال عنه مثقف

إنني آسف كل الأسف إذ أقرر أن الشهادة لا تعني مطلقا أن حاملها قد تثقف، بل أعتقد أن الشهادة قد تقف بالمرء عن التثقيف، لأن أغلب حامليها يمسهم الغرور فيعتقد المتخرج منهم أنه أصاب ما لم يصب الأولون والآخرون، فإن سعى إليه الحظ بوظيفة ما مهما كانت بعيدة عن المؤهلات العلمية اكتفى وحمد الله، وقبل راحتيه من ظهر لبطن، ثم نسى ما تعلم فيضيع منه ما كان يجوز أن يصبح أساسا لثقافة معينة إن هو حاولها

أجدني مضطرا لأن أعقد شبه مقارنة بين هذه الحال وبين الحال في الغرب حيث يهتم المربون هناك بالشخصية الأدبية منذ بدء تكوينها، فيرسون الأسس السليمة والطفل ما زال في الرياض، ولعلكم تدرون أن أساتذة رياض الأطفال هناك هم أعظم الأساتذة تثقيفا، وأخبرهم بالنفس وتكوينها، فهم الذين يخلقون العجينة الأولى ويهيئونها لتتداولها بعد ذلك أيدي صناع تتعرف عقليات الطلبة وتتمشى معها، فيجد الطالب نفسه محاطا بجو اجتماعي صالح لتكوين سليم في كل مراحل تعليمه، ومن حوله الأساتذة يهدفون دائما إلى أن يقيموا رجالا قد اكتملت شخصياتهم، بعيدة عن العقد النفسية، وإذا كان علماء النفس قد أقاموا تقسيمات ثلاثة من المعرفة والوجدان والنزوع، فإنهم في الغرب يولون هذه الأقسام جميعا عنايتهم دون أن تطغي واحدة منها على الأخرى، وفي حين نعني نحن بالمعرفة فحسب، لا نتمكن حتى من نوالها، وإنك لتجد التعليم هنا يرهب اسم الغرائز ولا يجرؤ على ذكرها،

ص: 34

بينما نجدهم في الغرب يعترفون بها ثم يعلون السيء منها، ويهذبون ويتناولون النزاعات المختلفة فيوجهونها التوجيه الصحيح، بل إن بعض المدارس تعتبرها نقطة البدء في تكوين الشخصية، والأساتذة في كل الأدوار يشركون طلابهم في تثقيف أنفسهم، فلا يجعلونهم آلات استقبال فحسب. بل يتدربون معهم حتى يعرفوا ميولهم فيذكونها، ولا يمكن أن يصل الأستاذ إلى هذه المعرفة أو يعتقد أن هذا الجالس أمامه آدمي له عقل يفهم وينتج، وليس آلة تسجيل تلتقط لتحف

أنهم في الغرب يهتمون بالشخص ليخلقوا منه مثقفا فيخلقوه، ونهتم نحن بالمواد لتخلق منها أشخاصا فنقتلهم

جرت العادة عند كل مقارنة بيننا وبين الغرب أن نسب أنفسنا لنمدحهم وكم كنت أتوق لغير هذا، ولكنني أعتقد كما سبق أن قلت. . . أن أولي درجات الثقافة أن يعرف المرء بجهله حتى يسعى إلى العلم، فلابد لنا أن نعرف مكاننا حتى نسعى إلى ما هو أرفع منه، ونحمد الله، فقد علم القائمون بالأمر أين نحن ومدارسنا من الثقافة الحقيقية، فقاموا ويحاولون أن يقربوا بين الناحيتين المتناثرتين

فتألفت لجان تنعقد في هذه الأيام لتنظر في المقررات والمناهج وطرق التدريس؛ وتحاول أن تزيل عنها الأتربة المتكاثفة وتجلوها موائمة للتربية الحديثة، ومن بين هذه اللجان تألفت أخريات لوضع الكتب التي تتمشى مع النظم الجديدة المقترحة، وإلى جانب هذا أنشئت المدارس النموذجية محاولة للتحرر من قيود التقاليد العتيقة، فأصبح التعليم فيها يهدف إلى أن تطبق التلاميذ ما تعلمونه، وفي بعض العلوم الأخرى يجدهم يقدمون التطبيق على القاعدة العامة

وهكذا راحت هذه الأجنحة من التجديد تريش متحفزة للتحليق، والنية إن صدقت والعزم إن مضى سامقان بالتعليم المهيض إلى سماوات الثقافة الحقة فتصبح مع هذا الغرب العنيد في سماء واحدة، وإن أملنا إلى السماء أقرب بماض لنا عبقري وأمل لنا مرتقب، والله من فوقنا هو الهادي وهو المولى ونعم النصير. .)

ثروت أباظة

ص: 35

‌رسالة الشعر

رحلة

للأستاذ أحمد محمود عرفة

ما للنسيم ترق لمسته

فكأنه متودد غزل

أو طفلة عشقتك نظرتها

فمشى إليك فؤادها الجذل

أو بعض أطياف النعيم أتت

ممشوقة همت بها القبل

أردانها عطر، وأخيلة

وتوهج، كالنار تشتعل

هذا الصباح مني محلقة

أم غادة يجثو لها الأمل

أو دفقة الإبريق في ظمأ

عات عليه يعذب العلل

ناداك مبتهجاً فقمت له

والبشر في عينيك مكتمل

والروح أصفى في تألقها

من ماسة ضحكت له المقل

ما زلت تمشي فوق أخيلة

وندى الصباح عليه ينتقل

والكون كالمحراب أعينه

مسدولة الأهداب تبتهل

والطير تسبيح على فنن

أو رحلة بالأفق تحتمل

حتى شرقت من الجمال كما

بالماء غص الشارب الثمل

ورجعت تضرب في الضحى أسفاً

والناس حولك ضجة جلل

والدرب أشواك تمد إلى

قدميك أنيابا هي الحبل

والتنفس في أكفان وحشتها

ثكلى تذيع أنينها الكلل

والبيت قبر فاغر فمه

والقبر بين أهله رحلوا

أحمد محمود عرفة

أطياف!

للأستاذ عبد المنعم عواد يوسف

لئن كنت قد غبت عن ناظري

فما زلت كالحلم في خاطري

ترفرف مثل الشعاع الجميل

وتبرق مثل السنا الغامر!

ص: 36

ويبعث في النفس عذب الرجاء

وتوحي الفنون إلى الشاعر

فمهما تناءيت عن أعيني

ففي القلب ذكرك يا هاجري

لئن كنت قد غبت عن ناظري

فما زلت كالحم في خاطري

أراك تصفق في أضلعي

طروبا كتصفيقة الطائر

سعيدا بما ذقته في هواك

من الحزن واليأس يا آسري

فآه قلبي من بائس

وآه لقلبك من غادر

لئن كنت قد غبت عن ناظري

فما زلت كالحم في خاطري

تفجر في القلب نبع الأسى

فأنساب في هيئة الحائر!

أحدق في الأنجم الزهرات

وأرنو إلى الكوكب الساهر

فأحظى بطيفك من بينها

فأرجع في نشوة الظافر

لئن كنت قد غبت عن ناظري

فما زلت كالحم في خاطري

تجدد في النفس ذكرى غرام

طوته يد الزمن الجائر

وأحلام عهد مضى هاربا

بأطياف ذلك الهوى الفائر

ولكن منى الروح هل من لقاء

يهدئ من قلبي الثائر

لئن كنت قد غبت عن ناظري

فما زلت كالحم في خاطري

أحسك تحيى هنا في دمي

مطلا على جرحي الغائر!

وتنظر ما نالني من جفاك

فتأخذ في ضحكة الساخر

فيالك من مستبد جحود

ويالي من عاشق شاعر!

عبد المنعم عواد يوسف

ص: 37

‌الأدب والفنّ في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

هل نقتل الفصاحة فينا؟

أتيت في الأسبوع الماضي بفقرات من محاضرة الدكتور محمد كامل حسين التي ألقاها في حفلة استقباله بمجمع فؤاد الأول للغة العربية، وفيها وصفه للإنتاج الفكري الحديث في مصر بالهرولة، وهو يعني أن أصحاب هذا الإنتاج لا يتأنون ولا يتمهلون للتمحيص والإجادة، فهم مسرعون كأنهم مسوقون

ومن تلك الفقرات قوله: (وعلينا أن نقتل الفصاحة فينا فهي شكل محض، وأن نتجاهل البلاغة فقد أصابنا منها شر كبير)

نريد أولا أن نعرف الفصاحة لنرى هل تستحق القتل، وننظر في أمر البلاغة كذلك ولماذا نتجاهلها

الفصاحة هي أن يخلو الكلام من عيوب ليكون واضحا بيننا عذبا، ومن هذه العيوب أن تكون الكلمة ثقيلة على اللسان أو مكروهة في السمع أو غريبة وحشية غير مألوفة الاستعمال، ومنها أن يقع في الكلام تعقيد، أو تتنافر ألفاظ التركيب، وقد مثلوا لذلك بأمثلة كثيرة، منها كلمة (الجرشي) في قول المتنبي:

مبارك الاسم أغر اللقب

كريم الجرشي شريف النسب

لأنها ممجوجة لا يستريح إليها السمع، ومنها الشطر الثاني من البيت الآتي:

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب حرب قبر

لثقل تركيبه على اللسان، ومنها قول الفرزدق:

وما مثله في الناس إلا مملكا

أبو أمه حتى أبوه يقاربه

لتعقيده الناشئ من خلل النظم

أما البلاغة في الكلام فقد عرفوها بأنها مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته

فماذا جنت الفصاحة ليطالب الدكتور كامل حسين بإعدامها. . .؟ هل يريد أن نفقدها لنكتب كلاما متنافرا غريبا معقدا فنقول مثلا (كريم الجرشي) بدلا من (كريم النفس)؟ وهل يريد أن نتجاهل البلاغة لنؤلف كلاما لا يلائم الأحوال؟

ص: 38

أنا على يقين من أنه لا يريد ذلك، وإنما يريد عكسه، ولكنه (هرول) فسمى التشدق والتفاصح والإغراب وتكلف الإتيان بكلام يبهر الناس - فصاحة وبلاغة، ثم (هرول) مرة ثانية فدعا إلى خنق الفصاحة والإعراض عن البلاغة

ولو روي قليلا لتجنب الوقوع فيما عابه، ولبرئت محاضرته الرائعة من (الهرولة)، ولعلم - ومثله جدير بأن يعلم - أن ما يدعو إليه عن نفسه ما يرمي إلى إحيائه والعمل به

مجلة الأزهر

هذا أول عدد يصدره من مجلة الأزهر، الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات بك صاحب (الرسالة) وقد جعل فيه لمجلة الأزهر رسالة أوضحها في مقاله الافتتاحي (عهد جديد) فهي الناطقة بلسان الأزهر، (وليس الأزهر هذه البنايا ومن يعمرها من أساتذة وطلاب) إنما هو الإسلام، و (ليس الأزهر إذن جامعا للصلاة كجامع عمرو، ولا جامعة للعلم كجامعة فؤاد، وإنما هو فضلا عن التعبد فيه والتعلم به رسالة ودعوة) فالمجلة إذن (تدعو إلى الله بالدعاء البين، وتجادل عن دينه بالقول اللين، وترفع صوت الأزهر نديا فوق هذه الأصوات المنكرة التي تتخاطب بالحديد، وتتجاوب بالوعيد)

وهكذا جعل أستاذنا لمجلة الأزهر رسالة، فحق لنا أن نطلق عليه (صاحب الرسالتين)

والهدف البارز الذي ترمي إليه المجلة في زيها الجديد الذي خرجت به على الناس في غرة شهر رمضان، هو جلاء الثقافة الإسلامية وإبراز الفكر الإسلامي بصوره المختلفة من فقه وأدب واجتماع وفلسفة وتاريخ، يتمثل ذلك في هذه المقالات التي كتبها رجال أستطيع أن أو قول إنهم جميعا من الأزهر، وهم ثلاثة أنواع: أزهريون أقحاح كأصحاب الفضيلة الشيخ محمود شلتوت والشيخ عبد الرحمن حسن والشيخ محمد محمد المدني، وأزهريون نشئوا في الأزهر ثم فصلوا عنه وأخذوا بألوان أخرى من الثقافة والحياة، كالدكتور طه حسين باشا والأستاذ صاحب الرسالتين، وأزهريون اتصلوا بالثقافة الأزهرية عن طريق الاطلاع والأخذ عن شيوخه كما قال شوقي يخاطب الأزهر:

ما ضرني أن ليس أفقك مطلعي

وعلى كواكبه تعلمت السرى

ومن هؤلاء الأستاذ العقاد والأستاذ فريد أبو حديد بك

ويحوي العدد إلى جانب مقالات أولئك الأقطاب أبواب يقتضيها الفن الصحفي مثل (الآداب

ص: 39

والعلوم في شهر) و (أنباء العالم الإسلامي) و (النشاط الثقافي للأزهر)

وبعد فلي ملاحظات على هذا العدد من مجلة الأزهر، لا أرى مكاني من أستاذنا مانعا من إبدائها، وطالما فسح لنا في نقد الآخرين. .

ظهر هذا العدد في غرة شهر رمضان، وليس به شيء عن شهر رمضان، والعالم الآن يسمع من (صوت أمريكا) أحاديث عن الصوم وما يتصل به، ولا بد أن الأحاديث التي سجلت بالسفارة الأمريكية لخمسة من علماء الأزهر بمناسبة الصيام تلقى الآن في الولايات المتحدة، فلم يكن ينبغي أن تخلو مجلة الأزهر من شيء في هذه المناسبة

تبويب المجلة منوع منسق، ولكن الباب الأول (في الدين والفقه) كنت أفضل أن يكون (في فقه الدين). وقد نشرت مقالة الدكتور طه حسين باشا في باب (اللغة والأدب) وإنما هي تاريخ. وما نشر في باب (طرائف علمية وأدبية) لا يختلف في شيء عن موضوعات (العلوم والآداب في شهر). ويظهر أن بابي (ما يقال عن الإسلام) و (النشاط الثقافي الأزهري) كتبهما كاتب واحد، فهو مولع بالمقدمات وقد بدأ كلا منهما بـ (تمهيد) ممل كان أولى منه بالعناية الموضوعات نفسها

3 -

أهمس لبعض الكتاب: أن جددوا ولا تكرروا قول ما قلتموه من قبل. والمجلة تجزيكم فلا بأس أن تحملوا أنفسكم على شيء من التعب

مثال من الأدباء المضيعين

(دخل حضرة محمد شوقي أمين أفندي خدمة مجمع فؤاد الأول للغة العربية منذ إنشائه في سنة 1934 بمكافأة شهرية بلغت الآن ثمانية جنيهات، وهو على جانب كبير من الثقافة الأدبية واللغوية، وله من سعة الاطلاع ما يقوم مقام الشهادات العلمية، وقد استطاع أن يقوم بأعمال فنية كالتحرير في مؤتمر المجمع ومجلته ولجانه بكفاية وإخلاص وجدارة وامتياز، مما يستوجب إنصافه وتشجيعه وحسن تقديره)

هذه فقرة من مذكرة رفعتها وزارة المعارف على مجلس الوزراء سنة 1946 لإنصاف أديب أقرت له بالكفاية والجدارة والامتياز، وطلبت لتشجيعه وحسن تقديره منحه الدرجة السابعة بأول (مربوطها) وهو عشرة جنيهات، ووافق مجلس الوزراء على ذلك

وفي خلال ثماني السنوات التي تلت ذلك التاريخ إلى الآن منح الدرجة السادسة ثم الخامسة

ص: 40

فصار مرتبه خمسة وعشرين جنيها

ولم يكن ذلك القرار وما تلاه (استثناء)، وإنما كان لتسوية حالته وفقا للقواعد المقررة والأسس المالية لمعاملة الموظفين دون تخط أو زيادة، كما جاء في مذكرة معالي رئيس المجمع التي وضعها أخيرا طالبا فيها استدراك الخطأ الذي وقع

والذي وقع هو أن إدارة المستخدمين بوزارة المعارف رأت أنه ينطبق عليه قانون إلغاء الاستثناءات

الأستاذ شوقي أمين الأديب اللغوي الذي كان يشغل عالم الأدب واللغة من نحو ربع قرن بكتابته في المجلات والصحف أيام كانت الصحف تعنى بالأدب واللغة، والذي آثر في السنوات الأخيرة أن يعمل في خدمة اللغة والأدب جنديا مجهولا، وقد استهلكه مجمع اللغة ثمانية عشرا عاما، والذي هو على جانب كبير من الثقافة الأدبية. . الخ، ذلك الأديب تضيق الدولة به، لأنه لا يحمل شهادات عالية، فتنكبه في رزقه ورزق أسرته، وتعود به إلى الوراء منذ دخل المجمع موظفا على غير درجة بعشرة جنيهات في الشهر

وفي حملة الشهادات العالية من ليسوا على جانب كبير من الثقافة الأدبية واللغوية، ومن ليسوا على شيء من سعة الاطلاع

وفيمن أعفي من تطبيق إلغاء الاستثناءات من عبر (المانش)

أما من أنفق الشباب وسهر الليالي وآذى عينيه وأسقم جسمه في التحصيل والتثقيف فلا حساب له - في نظر دولتنا - مع هؤلاء ولا هؤلاء! ويجب أن نمنع القطرات التي قطرتها الدولة في فمه وفم عياله في مدى ثمانية عشر عاما

وهكذا وزن قيم الناس في هذا البلد

عباس خضر

ص: 41

‌البريد الأدبي

يا حكومة اليمن ويا أمانة الجامعة

يسوءني علم الله أن أعلن لقراء الرسالة في شرق العالم العربي وغربه نبأ تلك المأساة التي يعانيها في مصر سبعون شابا من خيرة شباب اليمن، ولا أدري من المسئول عنها، ولو علمت طريقة أخرى غير طريقة النشر في الرسالة تضع حدا لهذه المأساة الأليمة لفعلت. ولكني لا أجد إلا هذه الوسيلة لأستصرخ حكومة اليمن ومفوضيتها في مصر، وأمانة الجامعة العربية وسائر من يهمهم أمر العرب والمسلمين وسمعتهم في كل مكان. .

وتتلخص المأساة في أن للحكومة اليمنية بعثة من الطلاب في شتى المعاهد المصرية، يجمعهم بيت في حلوان أو يجمع معظمهم. وتتولى حكومة اليمن الإنفاق عليهم في مصر وعددهم حوالي السبعين شابا، كلهم متعطش إلى العلم لا يضيع الفرصة التي أتاحتها له حكومته في الأيام الأخيرة

ومع أن هؤلاء الطلاب كانوا يعيشون معيشة الشظف، لأن مخصصاتهم في ذاتها ضئيلة. إلا أنهم كانوا صابرين لا يشكون، قانعين بالفرصة التي تتيح لهم لتزود العلم، مهما قاسوا من شظف

ثم حدث - ولا أدري كيف - أن قطعت عنهم مخصصاتهم فجأة، وتركوا يواجهون هذا المصير المفجع وهم - على كل حال - غرباء. ولما لم يكن بد أن يأكلوا، وأن يشربوا، وأن ينيروا دارهم التي يسكنونها في حلوان، فإن الديون قد تراكمت على البعثة. وهي ديون للجزار والبدال وبائع اللبن وبائع الخبز وإدارة التنظيم في حلوان نظير النور والماء

وصبر البدال والجزار وبائع اللبن وبائع الخبز شهراً فشهرا، ثم أخذت تقع حوادث مؤسفة لا تليق بكرامة بعثة، ولا كرامة دولة. وصار المار في الشارع الذي به بيت البعثة - وهو نفس الشارع الذي أسكنه في حلوان - بسمع مشادات متكررة بين الدائنين والطلاب على قارعة الطريق. يتدخل فيها الخيرون من سكان الحي لفض النزاع، ورجاء البدال أو القصاب أو بائع اللبن الزبادي) أن يمهل الطلاب بعض الوقت، حتى ترسل إليهم حكومتهم مخصصاتهم الشهرية. ثم يتوسط أهل الخير عند تنظيم حلوان كي لا يقطع عنهم الماء والنور. . ومتى هذا كله؟ في أيام الامتحان التي يجب أن يتفرغ الطلبة فيها للاستذكار!

ص: 42

إنها مأساة في صورة مهزلة، تتعرض لها كرامة هؤلاء الشبان الكرام، الذين تركوا أهلهم ووطنهم في طلب العلم، ليعودوا فيكونوا النواة الأولى في الأداة الحكومية الحديثة المستنيرة في اليمن. وكل ملم بحالة هذا القطر العربي الشقيق يدرك مدى حاجته لعشرات من أضعاف هؤلاء الطلاب، كي يدخلوا النور إلى ذلك القطر، وكي ينقلوه إلى العالم الإنساني المتحضر

ولقد كان المنتظر أن توالي الحكومة اليمنية إرسال أفواج جدد من الطلاب بعد أفواج إلى البلاد الإسلامية المتحضرة، كي يتعلموا ثم يساهموا في إنشاء وطنهم، ولا أقول في تقدمه، فهو أولا في حاجة إلى الإنشاء!

إن الحكومة اليمنية جديرة بأن تحقق في هذه المأساة لترى من هو المسؤول عن إهانة كرامة طلاب البعثة وهم في غير وطنهم الأصيل. لا بل لترى من هو المسؤول عن إهانة كرامة الحكومة اليمنية ذاتها وسمعتها في العالم الإسلامي على ألسنة البدالين والقصابين وبائعي الخبز واللبن في حلوان!

وإلى أن تقوم الحكومة اليمنية بهذا التحقيق، فإنني أستصرخ أمانة جامعة الدول العربية هنا لتسرع بتقديم الإسعافات الضرورية لحفظ حياة سبعين طالبا مهددين بالجوع والعطش وقطع التيار الكهربائي، بل مهددين بالإيذاء من الدائنين الذي طال صبرهم في انتظار مخصصات الطلاب، وانطلق ألسنتهم بالسخرية والنكات اللاذعة، موجهة للطلاب المساكين!

إنها مأساة لا ترضاها دولة في القرن العشرين

سيد قطب

عتاب إلى أدباء السودان

على أثر المقال الذي نشرته في مجلة (الرسالة) الغراء بعددها 982، الصادر في 28 أبريل سنة 1952. والموسوم بـ (نماذج من الشعر السوداني الحديث)، حمل إلى بريد مصر والسودان طائفة من الرسائل يعبر بضعها عن حسن ظن مرسليها بأدب أخيهم الكاتب وحبه العروبة في أنحاء المعورة كافة؛ ويحمل البعض منها لونا طريفا من العتاب هو أشبه ما يكون بهمسة المحب على الحبيب، أو الصديق إلى الصديق، وها أنا أعرض ثم أعلق

ص: 43

عليه حسب ما أرتئيه، على أن أترك المجال لأخواننا أدباء السودان للكلام حوله

يقول لي الصديق الفاضل الأستاذ الشاعر هدى الأمين في رسالته المؤرخة في 11 مايو، بعد التحية الرقيقة التي أقدم إليه أحسن منها

إني أوافقك على توجيه اللوم لنا نحن شعراء السودان وأدبائه لا إلى إخواننا في البلاد العربية الأخرى، ومرد هذا التقصير لسببين:

أولهما، فقدان الصحف الأدبية التي تصلح لنشر الشعر والأدب في السودان، وهذا يعزى إلى عدم توفر المادة الكافية لديها، وثانيهما تخجلنا وانكماشنا على نفوسنا، وهذا طابع ظاهر في الخلق السوداني لم تعمل الحضارة الحديثة على إزالته. أما أنت فقد بدأت في كشف وشاح الخجل عن عواطف شعرائنا. ون يقف قلمك الفياض قبل أن يقدم إلى قلوب أبناء لغة الضاد وعقولهم بعض ما يخفق به القلب السوداني وما يوحي به العقل. .

وأنا أقول للأستاذ الأمين - بعد شكره على ما أرسل إلى من شعره، الذي أرجو أن أكتب عنه بعد أن تجتمع لدي بعض النماذج الأخرى من إخوانه الشعراء - ترى ما هو السبب في خجل شعراء السودان وعدم تقديم ثمار عقولهم إلى القراء؟ أليس هو فقدان الثقة بالنفس؟ فهل بعد هذا الدليل سبب آخر؟ لذلك أرجو أن يكون الأدباء عندكم أكثر جرأة، ولديهم من الشجاعة ما يكفي إلى فرض أدبهم على القراء ما دام هناك صحف ذائعة تحمل كل ما هو جدير بالإعجاب والخلود. ثم يا صديقي ما السر في هذا التشاؤم الذي يسيطر على كل بيت من أبيات شعرك؟ أليس هذا من عدم الثقة بالنفس؟ إن الرجل يا صديقي لا ينظر إلى الحياة بمنظار أسود إلا بعد اليأس الشديد، فهل سمعت قبل الآن بشاعر يطلب الموت سواك

في القبر ملتجأ لمن

قضى الحياة كميت

فلم التعلق بالحيا

ة وغايتي هي غايتي

لماذا كل هذا اليأس يا صاحبي، وأنت لا تزال طري العود، ندي الإهاب؟ أرجو ألا أسمع منك بعد اليوم إلا كل لحن ينبض بالأمل والحب والشباب. .

ويكتب إلى الأديب الزبير علي، في رسالته المؤرخة في 8 مايو 52 فيقول:

(ليست لدينا صحيفة أدبية بالمعنى الصحيح. لأن أكثرها لا يعنى بالآداب، ولاهم لها إلا

ص: 44

تسويد صفحاتها كل صباح بالمهاترات السخيفة)

أنا معك يا صديقي في هذه الناحية. . وهذا الأمر وهو السبب أيضاً في عدم اطلاع أدباء العربية على الأدب العراقي عدا ما ينشره بعض النابهين منا على صفحات مجلات مصر. . وأنا أرجو مخلصا من إخواننا السودانيين أن يفهموا أن الأدب فوق السياسة وأبقى من كل ما يسودون به من صفحات، مصيرها الفناء، فهل ترى يدرك أصحاب الصحف هذه الغاية؟

ويكتب إلى الأستاذ الشاعر جعفر عثمان موسى فيقول

(. . فكرت جدياً بعد كتابتك عني وإلحاح الأصدقاء في نشر شعري. .) وأنا أحب أن أهمس في أذنه مشجعا على النشر لأن إذاعة ثمار القرائح على الناس. . أثمن هدية يقدمها الفنان إلى بلده. . .

ويقول لي الأستاذ عبد الهادي مراد محمد في رسالته المؤرخة 15 مايو 1952 (. . وقد كتب لك من السودان - على ما أعتقد - جماعة أبانوا لك هل في السودان أدب بالمعنى الصحيح، بل لعلهم كانوا أصرح من ذلك فكشفوا لك العوامل التي حالت دون انتشار أدبنا. . .)

أما أنا فأجيبه بأنني عاتب على أدبائكم وعلى الصحافة السودانية أيضا. وسبب ذلك هو عدم الكتابة إلى عما طلبت. . كما أنني لست أدري ما السر في تهجم صحفكم الزاهرة علينا، وما أنا أنقل إلى قراء (الرسالة) ما نشرته صحيفة (النيل) في عددها الصادر يوم (15 مارس 1951) تعليقاً على النداء الذي نشره عن لساني الصديق الشاعر الأستاذ جعفر حامد البشير قالت

(. . . يجد القارئ في هذه الصحيفة دعوة كريمة وجهها الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري شاعر الشباب العراقي بواسطة صديقه الأستاذ جعفر حامد البشير الأديب المعروف لدى قراء (النيل)، والتي يدعو فيها أدباءنا وشعراءنا السودانيين بموافاته بمنتجاتهم في الأدب لإذاعتها ونشرها. .

هذا ما جاء في كلمة صديقنا الأستاذ البشير، ومن قبل ذلك وبسنوات طلب الأستاذ الدكتور زكي مبارك من أدبائنا أن يوافوه بمنتجاتهم الأدبية ليقدمها للعالم العربي. والذي يهمني في هذه المسألة هو لماذا يفكر إخواننا في البلاد العربية هذا التفكير العجيب، فالسودان قطر

ص: 45

تسوده اليقظة، وله من أدبائه وشعرائه ما لا يقل عن أي بلاد أخرى. ولهم مؤلفاتهم وكتبهم الخاصة، وفي إمكان إخواننا في البلاد العربية أن يسعوا لاقتناء هذه الكتب والمؤلفات، ومنها ما يمكنهم أن يكونوا فكرة عن الأب والأدباء السودانيين

. . إن السعي الحثيث الذي يتكبده أبناء السودان في الحصول على المعلومات الأدبية والسياسية والاقتصادية من البلاد الأخرى لا يقابله أي مجهود من جانب الأدباء في البلاد العربية. وإني لأرجو أن يقرأ أبناء البلاد العربية صحافتنا ويبعثوا إلينا بنتاج أفكارهم ويفسحوا لنا المجال في صحافتهم. . الخ. .)

هذا بعض ما كتبت صحيفة (النيل) الزاهرة. . والذي أود أن أعرضه لإخواننا في السودان، هو إن الباطل إذا قلب حقاً في عرفهم فإنه باطل في عرف النقد والميزان الأدبي، لأننا لا نعرف قطراً من الأقطار العربية يهتم بتكوين رأي ناضج عن مدى تطور النهضات الفكرية والاجتماعية في البلاد الأخرى غير العراق. . والعراق بغير تبجج أكثر الأقطار العربية الأخرى استهلاكا للكتب. . أما عن تكاسلنا في أقتناء مؤلفات أدباء السودان فأقول أين هي؟ إنني أفتش يومياً في مكاتب بغداد فلا أجد ذكراً لكتاب سوداني، ترى ما هو السر؟ أما عن صحافة السودان فكيف تستطيع الحصول عليها إذا كانت لا ترد العراق؟ إذا كان أصحاب الصحف أشحاء حتى في إرسالها إلينا! أما عن التعريف بالأدب السوداني فالجواب أتركه لأخواني أدباء السودان؟ ألم أعمل جاهداً في سبيل هذه المعرفة بواسطة ما أنشره عنهم في صحف العراق وغيرها من صحف البلاد العربية؟ ألم أسع في نشر آثارهم على القراء؟ أبعد كل هذا الجهد والعمل الذي لا أرجو منه سوى التقارب بين البلاد العربية أهاجم وأطعن في الصميم؟ ماذا تريد منا صحيفة (النيل) بعد هذا؟ أتريد أن تسلب منا حتى شعور الوحدة؟ قلد حاربنا بعض الساسة والرجعيين والأدباء في العراق لجرأتنا وقولنا الحق وتفضيلنا شوقي على الرصافي ومناداتنا بزعامة مصر وإعجابنا بنهضة مصر الأدبية حتى كدنا أن نحطم القلم ونهجر قول الشعر لنترك للغربان النعيب، فهل تريد أسرة تحرير (النيل) أن تحذو حذو الجهلة في العراق؟ هذا ما اتركه لأبناء السودان، أننا نعرف جيدا أن من واجبنا تأدية الرسالة التي نضطلع بها، ولو ذقنا من أجلها الدمار. أما الشهرة الجوفاء والصيت الفارغ فنحن نتركه للمغرورين وحسبنا قوله عز وجل

ص: 46

(فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. .) والسلام على من اتبع الهدى

بغداد

عبد القادر رشيد الناصري

بلاء!

لك أن تضحك بملء فيك، ولك أن تبكي حتى تستغرق في البكاء ولماذا لا يجوز لك أن تضحك وتبكي في آن واحد وأنت في مصر:

قبيل شهر رمضان المبارك ملأت شوارع القاهرة والإسكندرية إعلانات ضخمة تهلل وتكبر لقدوم رمضان لا أظن أن يدا واحدة سلمت من أن تنال منها، ولا عينا واحدة أيضاً برئت من أن تقع عليها لكثرتها وشدة الإلحاح في توزيعها

ولعلك قبل أن تعرف الحقيقة المرة تحسب أن وراء هذه الإعلانات خيرا سيعود على المجتمع في رمضان، أو برا سيخفف لوعة البائسين والمحرومين في هذا الشهر العظيم، أو فتحا جديدا في الصناعة المصرية سترقص له جنبات الوادي غبطة وفرحا، أو تهاونا في أسعار الضروريات بعثته رحمة رمضان في قلوب الذين لا يعرفون الرحمة حتى في شهر البركات والرحمات. . قد تحسب أن وراء هذه الإعلانات كل هذه أو شيئا منها، ولكنك حين تقف على الحقيقة المرة لا بد أن تنال الحسرة من نفسك والألم من قلبك، فلم تكن هذه الإعلانات إلا حملة من الدعاية الساخرة للفرق اللاهية العابثة الراقصة، التي أبت إلا أن تلهو وتعبث. . . ابتهاجا بشهر رمضان!

والغريب العجيب أنه ما من إعلان واحد إلا وكتب بالخط العريض البارز في أوله (ابتهاجا بشهر رمضان المعظم تحيي. .)

وكأن رمضان المعظم الذي يبتهج به عباد الله المؤمنين في الأرض، وملائكته الأبرار في السماء، تبتهج به الفرق المهرجة الراقصة في صالاتها! وكأن لياليه لم تكن لتجتمع خلالها قلوب العباد بالتزوار البرئ، ولتستمطر رحمات الرحمن بالفزع إليه في أسحارها، وإنما كانت لتقضي في حفلات من اللهو والفوضى والتهريج

ص: 47

لو أن هذه الفرق التي لم نجد رادعا في مصر يردعها، ولا يدا من حديد تضرب عليها، ولا جرأة من الرأي العام تضع حد لها. . لو أنها أعلنت عن تهريجها دون أن تشير إلى أن استعدادها لم يكن إلا ابتهاجا برمضان لهان الأمر، ولكن لماذا نفعل والحياء قد ضاقت به أرض مصر، والخجل أوشك أن يهاجر منها، كما هاجر منها المتنبي من قبل وهو يردد قوله المأثور

وكم ذا بمصر من المضحكات

ولكنه ضحك كالبكا

رمل الإسكندرية

نفسية عبد اللطيف الشيخ

إنها لا تعمي الأبصار

بعثت السيدة هيلين كيللر كتاب شكر إلى وزارة الشؤون الاجتماعية تسجل فيه شكرها على حفاوة المصريين بها. . بمناسبة عودتها إلى وطنها. .

ولقد أثارت قصة هذه السيدة دهشة الكثيرين ممن قرءوها وعجبوا كيف استطاعت أن تشق طريقها نحو المجد فتنال درجة (الدكتوراه) وقد حرمتها الطبيعة ثلاث حواس لا يستغني الإنسان عن واحدة منها. . . وهل يستغني الإنسان عن قوة الإبصار يميز بها الألوان والأحجام. . أو قوة الكلام والإفصاح يعبر بها عما يجول بنفسه وخاطره. . أو قوة السمع التي تربطه بالمجتمع الذي يعيش فيه؟!

كم من الناس يتمتعون بحواسهم وقواهم كاملة، ولكنهم لا يحققون شيئا مما حققته هذه السيدة التي لم يقعدها عجزها عن السعي والدأب والمثابرة!

كم من الناس لهم أعين لا يبصرون بها. أعمتهم الجهالة عن الحقائق فعميت عليهم، وصرفت أبصارهم إلى ما يضرهم ولا ينفعهم!

وكم من الناس لهم آذان لا يسمعون بها. . يصمونها عن الاستماع، فلا تصل إليها صيحة مظلوم يطالب بحقه، أو مستغيث نزل البلاء بساحته. . أو مستجير يلتمس العون والغوث

كثيرون يتمتعون بحواسهم وقواهم كاملة ولكنهم يعيشون على هامش الحياة، لا يوجهون هذه الحواس الوجهة التي تحقق لهم بلوغ أهدافهم، لماذا؟ لأنهم حرموا قوة لا تقل قدرا عن

ص: 48

قوى الحواس الخمس جميعا، وأعني قوة الإيمان، إيمانهم بالله، وإيمانهم بأنفسهم، وهذا الإيمان من مقومات النجاح في الحياة تعوض على الفرد النقص الذي يحسه بحرمانه من حواسه، وهذا هو المثل الناطق نراه أمامنا مجسما في حياة هذه السيدة التي استطاعت أن تثبت للعالم أجمع أن العمى لا يصيب العين، إنما يصيب القلب، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه المكنون (فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)

أنار الله أبصارنا وبصائرنا، وهدانا سواء الصراط

عيسى متولي

ص: 49

‌القصص

مبتور الساقين

للكاتب الفرنسي جي دي موبسان

جرت لي هذه الحادثة سنة 1882 وكنت مسافرا في القطار ومزمعا الانزواء بنفسي في إحدى مقاصيره، حين انفتح بابها وسمعت صوتا يقول لآخر:

- خذ حذرك من الزلل يا سيدي، فقد بلغنا ملتقى الخطوط (المقص) قم إن مرتقى القطار مرتفع

فأجابه صوت آخر:

- لا تخف يا لوران فسأعتمد على مقبض عكازي ثم ظهر لي رأس مستور بقبعة مستديرة ويدان تعلق بهما سيران من جلد، أخذتا تعتمدان وتستندان إلى جانبي باب القطار. ثم رفعتا بهوادة وبطئ جسما بديناً بعض الشيء سمعت لوقع أقدامه الخشبية نقرا على مرتقى القطار، وحين هم الرجل بالدخول إلى مقصورتي أبصرت نهاية بنطلونه المتراخي فبرزت لي من خلاله رجل خشبية سوداء لم تلبث أن لحقت بها أختها، فعلمت أن رفيقي مبتور الساقين ثم برز لي من ورائه رجل آخر راح يقول له:

- هل أنت مرتاح في جلستك يا سيدي؟

- نعم يا ولدي

- وإذن فهاك صررك وهذا عكازك، وهنا أبصرت خادما تبدو في سحنته معارف جندي قديم يصعد الى صاحبنا حاملا له بين ذراعيه كدسة من أشياء ملفوفة بأوراق، بعضها أسود وبعضها أصفر، حتى إذا وضعها في رف القطار الواحدة بجانب الأخرى، قال لسيده:

كل شيء معد لك يا سيدي: ففي هذه الصرر الخمسة أشياء:

السكر والملبس، والدمية، والطبل، والبندقية، وأخيرا الفطيرة الدسمة

- حسن جدا يا ولدي

- أتمنى لك سفرا ميمونا يا سيدي

- شكرا (يا لوران) وأنا أتمنى لك صحة موفورة، ثم غادر الخادم القطار بعد أن أغلق على سيده باب المقصورة

ص: 50

كان رفيقي في السفر في الثالثة والثلاثين من عمره تقريباً، على رغم أن شعره وخط أكثره الشيب، وكان حسن البزة والشارة، غليظ الشارب تبدو عليه الفراهة والقوة واكتناز اللحم، فبعد أن استقر ومسح جبينه وراح ينفث في الهواء دخان سيجاره رمقني بنظرة هادئة ثم قال:

- لعل دخان سيجاري يزعجك يا سيدي؟

- فقلت له: كلا، ولكن ما كدت أنطق حتى دهشت، ذلك أن هاتين العينين وذلك الصوت وحتى هذه السحنة لم تكن غريبة عني، نعم كنت أعرفها ولكن أين. . ومتى؟ وفي الحق قلد بدا لي أني لاقيت هذا الشاب وكلمته وضغطت على يديه ولكن ذلك كان بعيدا حتى لقد ضاع في ضباب كثيف يخيل للفكر معه أن يتلمس ذكريات الماضي ويتبعها كأنها الأطياف العابرة الهاربة، كان هو أيضاً يحدجني بنظره ويتفرس في وجهي متعرفاً كأنما داخله من التشكك بمعرفتي مثل ما داخلني، وتضايق نظرانا من هذه الملاقاة الملحة فاعترقا، على أنه لم تمض إلا ثوان حتى عادا وتلاقيا ثانية بتأثير حب الكشف والاستطلاع، وابتدرته أنا قائلا:

- يا الله يا سيدي: ألا ترى أنه يحسن بنا بدلا من أن يسارق كل منا صاحبه النظر أن نبحث معا عن المكان والزمان اللذين تعارفنا فيهما أول مرة؟ فأجاب بلطف:

- إنك لمحق يا سيدي، وهنا سميت له نفسي قلت:

- إني أدعي القاضي هنري (بونكلير) فتردد برهة ثم قال بعين غائمة بضباب الذكرى وصوت من يحضر ذهنه كي يستذكر شيئاً عفى عليه الزمن:

- آه. . ذكرتك تماماً، فقد صادفتك في (بوانسل) وكان ذلك منذ اثني عشر عاما قبل الحرب المشئومة. . .

- نعم يا سيدي. . . أوه. . . وإذا فآنت اللوتنان غاليه؟

- نعم أنا بعيني، ثم أصبحت الكابتن (فاليه) قبيل اليوم الذي فقدت فيه ساقي الاثنتين بإصابة فظيعة من قنبلة حربية

وهنا حدق كل منا في صاحبه من جديد يعد هذا التعارف. وتمثل في خاطري هذه الساعة منظر ذلك الشاب الجميل اللطيف الذي كان ملء العين والفؤاد بلباقته وخفته وجماله. ولكن

ص: 51

وراء هذه الصورة الغامضة الملفوفة بضباب النسيان، كانت تطفو على ذاكرتي قصة لهذا الشاب، كنت أعرفها وأنسيتها الآن، ولكني لم أنس أنها قصة جذابة الحوادث مغرية رغم قصرها لأن الحب لعب على مسرحها. ثم أخذت ظلال النسيان تنحسر عن ذاكراتي شيئاً فشيئاً؛ وإذا بها تتضوء وتستنير بها المسالك، فيطالعني من خلال سطورها الممحوة وجه فتاة مليحة، وإذا باسمها يرن في سمعي ويجري على لساني: الآنسة (ماندال). . لقد ذكرت كل شيء الآن. . وفي الحق لقد كانت قصة غرام تلك التي نسيتها أولا. كانت تلك الفتاة تحب هذا الرجل حين التقت به، وكان الناس يتحدثون عن زواجهما المنتظر القريب الذي كان يفجر ينابيع الفرح والسعادة في قلب صاحبنا الضابط

وهنا صوبت بصري إلى الصرر الموضوعة إلى الرف فوق رأس الضابط الكسيح. فإذا بها تهتز وتضطرب من حركة القطار، وإذا بي كأني أسمع الآن صوت الخادم يقول لسيده:

كل شيء معد لك يا سيدي. ففي هذه الصرر الخمسة أشياء: السكر، والملبس، والبندقية، والطبل وأخيرا الفطيرة الدسمة. وتألقت في لحظة بخاطري رواية لهذا الكسيح الذي أراه أمامي: رواية تشبه الشبه كله جميع ما كنت قرأته في القصص أو رأيته في المسارح؛ وذلك إما أن يتزوج الخطيب ذو العاهة خطيبته السليمة أو لا. وإذن فإن هذا الضابط المبتور الساقين قد وجد خطيبته بعد الحرب فوهبت نفسها له رغم مصيبته بساقيه. تمثلت كل هذا جيدا في بساطة، ثم عرض لي فجأة افتراض آخر أشبه بالحق وأقرب إلى الواقع المنتظر أيكون الرجل قد تزوج من فتاته قبل الحرب وقبل الفاجعة الأليمة بساقيه؟ أتكون الصبية المسكينة احتسبت الله في مصيبتها فيه وخضعت لمشيئة القدر القاسي، فهي تستقبل مكرهة هذا الكسيح الذي غادرها ملء العين ملاحة وسلامة قبل الحرب، وآب إليها بساقين خشبيتين وجسم ناقص لا يتحرك إلا على عكازين. أتراه سعيدا أو متألما؟! وقامت في نفسي رغبة لا تقاوم في الاستعلام عن قصة زواجه والاستفسار على الأقل عن النقطة المهمة التي أستطيع أن أبصر على ضوئها ما يود هو إخفاءه عني أو ما لا يمكنه الإفضاء به. ورحت أكلمه بأحاديث شتى، بينما عيناي مثبتتان على الصرر الملفوفة التي وضعها خادمة على رف القطار ثم استنتجت من محتوياتها أن له امرأة وطفلين: أما السكر والملبس فلامرأته، وأما الدمية فلطفلته، وأما الطبل والبندقية فلطفله، وأما الفطيرة الدسمة فله هو؛

ص: 52

وفجأة قلت له:

- لعلك أب لعائلة يا سيدي.

- كلا

فشعرت بشيء من الخجل والربكة لهذا السؤال كأني ارتكبت ما لا يتفق وحسن العشرة. لهذا عقبت:

- معذرة يا سيدي لقد ظننت ذلك مما سبق إلى سمعي من قول خادمك وإشارته إلى هذه اللعب. وأنت تعلم أن المرء لا يملك إذنه حتى ولو لم يرد ذلك. فافتر ثغره عن بسمة راضية ثم قال:

- وما قولك أني لست متزوجاً؟

وهنا بدت على دلائل الاستذكار والتأمل؛ ثم قلت فجأة:

- أوه! إن ما تقوله الحق، فحين تعرفت بك كنت عاقداً خطبتك على الآنسة ماندال فيما أظن؟

- نعم يا سيدي إن ذكرتك جيدة جدا. فاجترأت وتابعت:

وأذكر أيضاً أني سمعت أن الآنسة ماندال خطيبتك تزوجت موسيو. . . موسيو. . فلفظ الضابط في سكون هذا الاسم:

- موسيو فلوريل، أليس كذلك؟

- نعم هو بعينه. وأذكر أيضاً أني سمعت في ذلك الحين قصة فاجعتك، ونظرت إليه من جانب عيني فإذا بالدم يتدفق في وجهه أحمر قانيا، ثم إذا به يجيبني في حمية ونشاط مثل من يدافع عن قضية ضاعت له سابقا وفرط في حقه فيها وهو يريد الآن تبرير موقفه فقال:

- لقد كان من أعظم الخطأ بل والألم أن يذكروا أمامي اسم خطيبتي (ماندال) بعد إذ أبت من الحرب بدون ساقين، ويا للأسف، لم يكن بوسعي أن أقبل دون ألم وتقريع ضمير أن تصبح (ماندال) امرأتي: أترى ذلك يكون ممكنا؟ حين يتزوج المرء يا صديقي لا يفعل ذلك كي يتباهى على الناس بامرأة جميلة فتانة! إنما يفعل كي يعيش بجانبها ويتصل بها طوال الأيام والساعات والدقائق والثواني. فإذا كان الزوج مثلي كتلة شوهاء مبتورة فإنه بزواجه من فتاة ريانة الشباب يكون قد حكم عليها بالألم الممض وقسرها على حياته الناقصة

ص: 53

المحطمة حتى الموت، أنا أفهم وأقدر بل وأعجب بجميع التضحيات، ولكن حين يكون لها حدود تنتهي إليها، لهذا فأنا أستنكر من نفسي أن تحرم فتاة جميلة نفسها لأجلي من كل ما تهفو إليه جوارحها ونفسها من سعادة وملاذ وأحلام للصبا وللجسد أيضا، كل ذلك كي يقال عنها إنها عفيفة ظريفة كريمة، ثم كيف أطلب منها هذا وأنا نفسي حين أسمع على أرض الدار وقع عكازي وأنا أمشي وأحجل، أنا نفسي حسن أسمع هذا الصوت الذي يشبه وقع أقدام البغال يجيش في نفسي الحنق فأود خنق خادمي، وهل تظن أنه يمكن أن يقبل الزوج من امرأة أن تتسامح في شيء هو نفسه لا يغتفره لنفسه، ثم أتعتقد وتتصور أن ساقي الخشبيتين هاتين جميلتان في النظر فاتنتان للعين؟ وسكت وسكت فما عساي مجيبه؟ إن كلامه الصدق فهل بوسعي أن ألومه أو أخطئه، ثم سألته فجأة:

- هل لمدام فلوريل خطيبتك المتزوجة أولاد؟!

- نعم، طفلة وصبيان، ولهؤلاء الأطفال ما احمل من لعب في هذه الصرر كهدية، إنها وزوجها طيبان، وكان القطار في هذا الوقت يصعد ملتقى خطوط (سان جرمان) ثم يمضي تحت الأنفاق المتعاقبة في المحطة، ثم يقف، وعزمت على تقديم ذراعي تكأة للضابط الكسيح كي يستعين عليها في النزول من القطار لولا أن يدين امتدتا من باب القطار المغلق لمساعدته

- نهارك سعيد يا فاليه، فأجاب صاحبي الضابط

- سعد نهارك (يا فلوريل)، وقد كان خلف الرجل امرأته الجميلة تبتسم له أيضاً وهي ترسل التحيات الحارة المستورة بقفازين، وبجانبها طفلة صغيرة كانت تطفر من الفرح والابتهاج بلقاء صاحبي الضابط وبجانبها الآخر صبيان صغيران كانا يتناولان بشغف ونهم الطبل والبندقية وقد برزا من طرفي الصرر التي تسلمها أبوهما فلوريل

وحين هبط الضابط إلى إفريز المحطة أسرع إليه الأطفال فعانقوه في محبة وألفة وشوق؛ ثم اتخذت العائلة طريقها إلى المنزل، وفي أثناء الطريق أخذت الطفلة تسند بكفها اللينة الغضة مسند عكاز الضابط الكسيح وقد فاض وجهها بماء الابتهاج والطيبة والمحبة البريئة

ك. ح

ص: 54