الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 989
- بتاريخ: 16 - 06 - 1952
ضريبة الذل.
. .
للأستاذ سيد قطب
بعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهضة لا تطاق، فتختار الذل والمهانة، هربا من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة رخيصة، مفزعة قلقة، تختف من ظلها، وتفرق من صداها، يحسبون كل صيحة عليهم، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة!
هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة، إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة. يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيراً ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون
وإنهم ليحسبون أنهم ينالون في مقابل الكرامة التي يبذلونها قربى ذوي الجاه والسلطان حين يؤدون إليهم ضريبة الذل وهم صاغرون. ولكن كم من تجربة انكشفت عن نبذ الأذلاء نبذ النواة، بأيدي سادتهم الذين عبدوهم من دون الله
كم من رجل باع رجولته، ومرغ خديه في الثرى تحت أقدام السادة، وخنع وخضع، وضحى بكل مقومات الحياة الإنسانية، وبكل المقدسات التي عرفتها البشرية، وبكل الأمانات التي ناطها الله به أو ناطها الناس. . ثم في النهاية إذا هو رخيص رخيص، هين هين، حتى على السادة الذين استخدموه كالكلب الذليل؛ السادة الذي لهث في إثرهم، ووصوص بذنبه لهم، ومرغ نفسه في الوحل ليحوز منهم الرضاء!
كم من رجل كان يملك أن يكون شريفا، وأن يكون كريما، وأن يصون أمانة الله بين يديه، ويحافظ على كرامة الحق وكرامة الإنسانية، وكان في موقفه هذا مرهوب الجانب، لا يملك له أحد شيئا، حتى الذين لا يريدون له أن يرعى الأمانة، وأن يحرس الحق، وأن يستعز بالكرامة، فلما أن خان الأمانة، التي بين يديه، وضعف عن تكاليف الكرامة، وتجرد من عزة الحق، هان على الذين كانوا يهابونه، وذل عند من كانوا يرهبون الحق الذي هو حارسه، ورخص عند من كانوا يحاولون شراءه؛ ورخص حتى أعرضوا عن شرائه، ثم نبذ كما تنبذ الجيفة، وركلته الأقدام، أقدام الذين كانوا يعدونه ويمنونه، يوم كان له من الحق جاه، ومن الكرامة هيبة، ومن الأمانة ملاذ
كثير هم الذين يهوون من القمة إلى السفح، لا يرحمهم أحد، ولا يترحم عليهم أحد. ولا يسير في جنازتهم أحد، حتى السادة الذين في هووا من قمة الكرامة إلى سفوح الذل، ومن عزة الحق إلى مهاوي الضلال
ومع تكاثر العظات والتجارب. فإننا ما نزال نشهد في كل يوم ضحية. ضحية تؤدي ضريبة الذل كاملة. ضحية تخون الله والناس، وتضحي بالأمانة وبالكرامة، ضحية تلهث في إثر السادة، وتلهث في إثر المطامع والمطامح، وتلهث وراء الوعود والسراب. . ثم تهوي، وتنزوي هنالك في السفح خانعة مهينة، ينظر إليها الناس في شماتة، وينظر إليها السادة في احتقار
لقد شاهدت في عمري المحدود - وما زلت أشاهد - عشرات من الرجال الكبار يحنون الرءوس لغير الواحد القهار، ويتقدمون خاشعين، يحملون ضرائب الذل تبهظ كواهلهم، وتحني هاماته، وتلوي أعناقهم وتنكس رؤوسهم. . ثم يطردون كالكلاب، بعد أن يضعوا أحمالهم، ويسلموا بضاعتهم، ويتجردوا من الحسنيين: في الدنيا والآخرة، ويمضون بعد ذلك في قافلة الرقيق لا يحس بهم أحد حتى الجلاد!
لقد شاهدتهم وفي وسعهم أن يكونوا أحراراً ولكنهم يختارون العبودية، وفي طاقتهم أنت يكونوا أقوياء، ولكنهم يختارون التخاذل، وفي إمكانهم أن يكونوا مرهوبي الجانب، ولكنهم يختارون الجبن والمهانة. . شاهدتهم يهربون من العزة كي لا تكلفهم درهما، وهم يؤدون للذل دينارا أو قنطارا. . شاهدتهم يرتكبون كل كبيرة ليرضوا صاحب جاه أو سلطان، ويستظلوا بجاهه أو سلطانه وهم يملكون أن يرهبهم ذوو الجاه والسلطان!
لا بل شاهدت شعوبا بأسرها تشفق من تكاليف الحرية مرة، فتظل تؤدي ضرائب العبودية مرات. خرائب لا تقاس إليها تكاليف الحرية. ولا تبلغ عشر معشارها. وقديما قالت يهود لنبيها:(يا موسى إن فيها قوما جبارين، وإنا لن ندخلها ما داموا فيها، فأذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون). . . فأدت ثمن هذا النكول عن تكاليف العزة، أربعين سنة تتيه في الصحراء تأكلها الرمال، وتذلها الغربة، وتشردها المخاوف. . وما كانت لتؤدي معشار هذا كله ثمنا للعز والنصر في عالم الرجال!
إنه لابد من ضريبة يؤديها الأفراد، وتؤديها الجماعات، وتؤديها الشعوب. فإما أن تؤدي هذه
الضريبة للعزة والكرامة والحرية، وإما أن تؤدي للذلة والمهانة والعبودية! والتجارب كلها تنطق بهذه الحقيقة التي لا مفر منها ولا فكاك
فإلى الذين يفرقون من تكاليف الحرية، إلى الذين يخشون عاقبة الكرامة، إلى الذين يمرغون خدودهم تحت مواطئ الأقدام، إلى الذين يخونون أماناتهم، ويخونون كراماتهم، ويخونون إنسانيتهم، ويخونون التضحيات العظيمة التي بذاتها أمتهم، وبذلتها الإنسانية لتحرر وتتخلص
إلى هؤلاء جميعا أوجه الدعوة أن ينظروا في عبر التاريخ وفي عبر الواقع القريب، وأن يتدبروا الأمثلة المتكررة التي تشهد بأن ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، وأن تكاليف الحرية أقل من تكاليف العبودية، وأن الذين يستعدون للموت توهب لهم الحياة، وأن الذين لا يخشون الفقر يرزقون الكفاية، وأن الذين لا يرهبون الجاه والسلطان يرهبهم الجاه والسلطان
ولدينا أمثلة كثيرة وقريبة على الأدلاء الذين باعوا الضمائر وخانوا الأمانات وخذلوا الحق وتمرغوا في التراب، ثم ذهبوا غير مأسوف عليهم من أحد، ملعونين من الله! ملعونين من الناس. وأمثلة كذلك - ولو أنها قليلة - على الذين يأبون أن يذلوا، ويأبون أن يخونوا، ويأبون أن يبيعوا رجولتهم بيع السماح. وقد عاش من عاش منهم كريما، ومات من مات منهم كريما
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)
سيد قطب
من وحي القمة القاصية:
قطيع الصيف في باريس
للدكتور علي شرف الدين
في كل عام - وفي مستهل الصيف خاصة - يقبل على باريس هذا القطيع من أطراف أوربا. مختلفات الجنس واللغة، متباينات الأعمار والثقافة، في عيونهن غرارة، وخلف الأجفان مستقبل حافل بالدموع، ما عرفته ولا فكرن فيه، وفي إشارتهن براءة، وما تصيب الفواجع غالبا غير القلب البرئ، كأنما تحب السماء هذه القلوب، فهي تمتحنها بالآلام لتزيد في طهارتها قبل أن ترفع إليها
أطلقهن الرعاة من مراعيها الآمنة، وأبحن لهن - وهن الناشئات - أن يقبل عليهن المساء، وهن في غير مراح الحقل بعيدات عن سمع الراعي ونظره، وما بالع من أطلقهن في الثقة، ولا أسرف في حسن الظن، ففي قلوبهن من وحي الفطرة الأصيلة عصمة، وفي آذانهن من ترانيم الكنيسة صدى رائع يغلب كل الأصداء، ولكنها سنة الشباب والحب، جديدة في كل عصر، وإن أعادت نفس القصة في كل جيل
أقامت لهن باريس معارض الفن ومناهل للأدب، وحشدت لهذا أقوى ما يأسر النفس والعين. يمضي الصيف وهي مع الرعيل في الغدو والرواح، يهديها رسول الأمن في الجماعة، ويملأ عينيها نور الفرح بما ترى وتسمع، لا تلبي غير نداء المعرفة، ولا تغشى غير المواطن الآمنة، في صالات الموسيقى، وفي الكسمبور، وتحت قباب البانثيون. . .
فإذا تقدمت بهن الإقامة رأيت شيئا جديداً: رأيت أن القطيع قد استحال إلى أسراب، ثم استحال السرب أخيراً إلى (الغنمة القاصية)، ولكن في صحبة جديد، ولا تشك حين تراهما في أن ملاكا يحرس هذا الحب الجديد، فما تزال سمات القطرة في الوجوه تنادي بنبل العاطفة، وما يزال في العيون شعاع يكشف عن قلب برئ. ومن ذا الذي لا يبارك على حب تذكيه غرارة السن، ويرعاه من العاطفة ميل ساذج صريح؟
ويمضي الصيف فيبقى نصف القطيع قائما في باريس لا يريم. ويتقدم الزمن قليلا، فإذا جدة الحب قد أخذت تبلى، وإذا بهجة اليسار قد أخذت تنطفئ، ليأخذ مكانها ظلام الحاجة، وإذا هذه الغلائل البيضاء التي كانت ترف بالأمس على هياكل من النور كما يرف جناح
الحمائم السابحة في صبح الربيع. . قد استطال الفقر في ذيولها، كما استطال الحزن والألم في هياكلها. بقية من جمال يغزوها الهم الناصب، والضنى الملح، في انتقال مفاجئ من حياة إلى حياة، ما أبعد كلا منهما عن الأخرى
هذه المدللة التي أكرمها الفلاح، وأقامها في الحقل (الآمن) تستملي حياة الدعة والسعادة، وتضفي على الحقل ربيعا أجمل من ربيع مروجه، قد أصبحت تعمل في حقل آخر، عمل الأجير لا المالك، ويهولك ما ترى حين ترى أن هذه المدللة التي لم تجاوز العشرين قد أخذت تؤجر في الحقول. . . لم تعد تصغي للموسيقى ولا تغشى محاضرة، ولا تحفل لهذا التاريخ الرابض في معالم باريس، ولكنها في مقاهي سان جرمان مع الغاضبات من الأهل، الساخطات على الحياة، وأخيراً في كهوف الليل الحمراء على ضفة السين. . .
إن لها شخصية كما يدعي صاحبها الذي أطلقها من المرعى (الآمن) فهو لا يسأل - ولا يحب أن يسأل - كيف تعيش؟ وهي (الحضرية) المدللة التي ما عرفت العمل، وما خلقت إلا لتضفي النور على ما حولها. . . إنها شخصية تمنحها إياها الحضارة في تمام العشرين، وقد نسيت الحضارة أن الزهرة هي الزهرة، في أول الربيع، وفي عنفوانه، وفي نهايته، وأن الطبيعة عرفت هذا فنثرت من حولها الشوك لترهب القلوب الطامحة، وتدفع الأيدي عن جناها. وتمر بك هذه الذابلة التي كنت تسعد بالنظر إليها، فتعاف أن تراها رحمة وإشفاقا، ولكأن هذا العربي قد أرادها في هذه الصورة القوية من شعره
كنت مشغوفا بكم إذ كنتم
…
شجراً لا تبلغ الطير ذراها
لا تبيت الليل إلا حولها
…
حرس ترشح بالموت ظباها
وإذا مدت إلى أغصانها
…
كف جان قطعت دون جناها
فتراخى الأمر حتى أصبحت
…
هملا يطمع فيها من يراها
ويح المسيحية وويح الشرق منك يا أوربا! ألا تذكرين حديث (الغنمة الضالة) في الإنجيل؟ ألم يطلب إلى الراعي أن يبحث عنها حتى ولو تعرض القطيع كله للضياع؟ أنه يعلمك كيف تكون القيم الإنسانية عندك خيراً من (المصلحة) وكيف تحرصين على الاستجابة لهواتف الروحية، وإن لم تدع إليها (المنفعة). إن القطيع من غير شك خير من الواحدة، ولكنها الساعة الرحيمة التي تكسر كل مقاييس الموازنة، وتحطم كل موازن المقارنة
هي إذا (الشخصية) أو (الحرية) أو (سن الرشد) وغير هذا من الكلمات التي تزعجينها في بطون القواميس - تقيمين منها قانونا حين شعرت بالاستخذاء والظلم، سن الرشد!! المعروف أو سن الرشد الحقيقية تبتدئ منذ الميلاد، وتنتهي غالبا قبيل العشرين أو عندها، وعند العشرين تبتدئ سن الرعاية والملاحظة. . .
على أن لك في سنة الرشد رأيا غريبا - رأي يتغير حسب المصلحة والعصبية الشعوبية: تعطين سن الرشد للأفراد، وتحرمين منها الجماعات، تعطينها للغنمة القاصية وتمنعين منها الجامعة تستمد القوة والرشد من جماعتها وائتلافها. لكم تعمدن إلى القطيه تمزقين من وحدته حتى استحال إلى غنمات قاصية لا تكاد إحداها تسمع نداء الأخرى، ثم زعمت لنفسك عليها سلطانا في دعوى باطلة مزورة، تارة (برسالة الحضارة) وأخرى بأنها لم تبلع سن الرشد، وقد كان في اجتماعها وتآلفها الرشد كل الرشد، ولكنها المصلحة التي أنكرت فيها حقوق الإنسانية ويح المسيحية وويح الشرق منك يا أوروبا!
أسرفت في السرور حتى قتلت في نفوس أبنائك الإحساس بالسرور، وأقمت للوثنية هياكل مكذوبة، تقدمين لها قرابين دامية، هي أشلاء ضمير ممزق في معركة صرعت فيها (المنفعة) كل هواتف الروح، وما رضيت أن تشهدي وحدك هذه الأصنام بالأمس في قصر شابو، ولكنك تدعين معك فرائس السياسة، وغنائم القوة، ليشهد مضارع حقوقهم وأمانيهم. . .
حتى (الإنيسكو) هذا الرجل الوقور، سخرت منه أوربا و (ضحكت عليه) فغرزت في عمامته أعلام الشعوب ترفرف متساوية متكافئة، نعم نعم ترفرف متساوية متكافئة في (الهواء) تقولين له:(ما أحوجنا إلى رأيك في التربية والتعليم) ثم تسرين له في أذنه: (رسالتك شاقة، وإنك لتعرف ما بين السطور، فكن ماهر النفاذ، لطيف الأداء، فما أحوجك إلى (لكياسة) لتصل من التربية إلى (. . . .) فيبتسم هذا الرجل الوقور بينما ينكث أطراف لحيته المستعارة (إنني خبير (بالسجعة) المقصودة، وما أيسر أن تجمعهم هلي ضرب واحد من التسليم، ومنهج متحد من التربية، حتى تلتقي الأهواء، وتتآلف النزعات، وهناك تتم (السجعة المفقودة)، وقد نسيت أوروبا ونسي معها هذا الرجل شبه الوقور أن الشهوب لم تكن شعوبا لأن الأنهار تفصلها أو لأن الجبال تحد ما بين تخومها، ولكن الشعوب كانت
شعوباً لأن لكل شعب أمنية يفيض بها قلبه، أمنية تستغل حياته وتأخذها من أقطارها لا تلبث أن تستحيل إلى مادة حية في أغنية خالدة مقدسة. ما لي أنسيت الحديث؟ لقيتها مرتين مواظبة على محاضرات (أحلام معتزل) لجان جاك روسو. إنها تلتمس عنده في ساعات عزلته، ما يسمح على جراح نفسها. إنها قد نسيت الماضي، الماضي البعيد والقريب، وما كانت تحب أن تثير هذه الذكرى، فإنها قد تجاوزت منطقة الألم، واستراحت إلى نسيان يوشك أن يسبغ الطمأنينة والهدوء على قلبها، وكانت نفسها صحيحة لم تكسر، مشرقة لم تنطفئ، وإن كان يسبح في جبينها الهادئ شعاع شاحب ترف على حواشيه ذكريات خافته، تدافعها بالصبر والأمل، وقوة الإيمان بحياة جديدة
وكان شأني يضيق بمعاونة تغنيها، ولم أجد غير سيدة تركية هي وزوجها مثل عال لحضارة الإسلام في باريس، قلت لها: إنها كما ترين حزينة كسيرة وما أحسبها تحسن الكثير من عمل المنزل، وما أحسبها إلا حملا عليك لن تضيقي به، ولها من ثقافتها في منزل شرقي ما يهيئ لها الحياة فيه، فطالعت السيدة أسارير وجهها، فلم تشهد تمردا، ولم تر أثرا لهذه النكسة التي تطبع على وجوه المغلوبين في حياتهم الساخطين عليها، فابتدرت قائلة (فإبنتي إليها منذ اليوم) ثم استدركت مستعجلة (معلمتها لا خادمتها) ثم التفتت إلى زوجها كمن تطمئنه على نهوضها بحياتها (وعندي لها من ستسعد يهن ويسعدن بها، وأن تضيق بحياتها من نشأت في سويسرا الفرنسية. . .)
مضت أيام لقيتهم بعدها، وكان السيد التركي كعادته يقضي الساعات في مكتبته، رأيته أشبه ما يكون بالمستغرق في حلم. فلم أشأ أن أقطع عليه تأمله، حتى انتبه متهلل الوجه سروراً (إنه شعر حسن جميل) قلت لمن؟ قال لشاعر تركيا عارف حكمت الهرسكي، ثم أقبل يقرأ، ولكن صوتا آخر قطع عليه قراءته، صوت أحسب أني سمعته قبل اليوم، فاتجهت نحوه فإذا في الحجرة القريبة منا قد جلست هيلين وإلى وجوارها طفلة في العاشرة من عمرها، ومن حولها ثلاثة من فتيات تركيا الحديثة، أقبلن للدراسة في باريس، ولا غنى لهن عن دراسة اللغة، سمعتها تملي عليهن قطعة لأندريه جيد، يصف فيها سمات الإدراك والفهم، تجري في أسارير طفلة بكماء قام على تربيتها قس سويسري، حتى أدركت الأصوات وفهمت الحديث يجري من حولها (. . . لقد نبضت سماتها بالحياة فجأة، وجرى في جبينها
إشراق أشبه ما يكون بالشعاع الذي يسبق الفجر في أعالي الألب والذي ترف له القمة المتوجة بالثلوج. . لم يكن ابتساما، ولكنه لون من خواطر المتصوفة. . . لم يكن قط ما زادها في هذه اللحظة معرفة وإدراكا أكثر منه حبا وهياما. . .)
قلت للسيد (لست أدري أيهما خير من الآخر: الباستير السويسري مع جرتريد، أم السيد التركي مع هيلين؟) قال (الباستير من غير شك لأن جرتريد قد خرجي على يديه من الصمت إلى الإفصاح. . أما أنا فلم أصنع إلا ما يجب لها، وما هو من حقها في الحياة، وخير منهما جميعا الهرسكي الشاعر، ثم أعاد إلى يده ديوانه وأخذ يترجم عن التركية:
(ليس حتما أن تنتقل النفس من النور إلى الظلمة، لأن النور طبيعتها ففيم التحول وهي مستريحة إليه)(ومن الحتم أن تنتقل من الظلمة إلى النور ليس فقط لأنها تشعر بالغربة والإبحاش، ولكن لأن وطنها الأول يحمي هو الآخر رعاياه)
باريس
علي شرف الدين
دكتور في الأدب الفرنسي البحت من السوربون
فضل المدنية العربية على المدنية الغربية
للدكتور فيليب حتي
أستاذ التاريخ بجامعة برنجستون بالولايات المتحدة
خلاصة موجزة لسبع محاضرات ألقاها الأستاذ باللغة
الإنجليزية في جامعة سان باولو
5 -
نهوض الشعوب العربية الحديثة
العالم العربي قطعة متصلة تمتد من مراكش على الأتلنتيكي غرباً إلى العراق على خليج فارس شرقاً تجمعها اللغة والثقافة. وهي تتألف من وحدات أربع: أفريقية الشمالية، مصر، الجزيرة العربية، والهلال الخصيب
فأفريقيا الشمالية هي من حيث الجغرافية جزء من القارة الأفريقية، ومن حيث الثقافة والتاريخ جزء من الشرق الأدنى. وهي تتميز عن غيرها من الوحدات العربية بقربها من أوربا وبعدها عن قلب الإسلام وقلة الدم العربي في سكانها وكثرة المستعمرين الأوربيين المستوطنين فيها مما جعلها تسير في طريق لنفسها. وهذه الوحدة الإفريقية هي الأولى التي وقعت تحت النفوذ الأوربي السياسي وانفصلت عن جاراتها المسلمات. فالروح القومية العربية للآن لم تبلغ فيها حدا عالياً
وكانت الجزائر أول بقعة فيها احتلها الأوربيون وهم الفرنسيون وذلك عام 1830. وتبعها تونس التي احتلها الفرنسيون عام 1881. أما مراكش فتقاسمها الفرنسيون والأسبان في بداءة القرن العشرين؛ وبقيت طرابلس الغرب في حوزة الأتراك العثمانيين إلى عام 1912 عندما احتلها الطاليان وأطلقوا عليها الاسم الروماني القديم ليبيا. وستكون ليبيا أول بلاد من هذه الوحدة تتحرر وتستقل بفضل قرار من الأمم المتحدة يقضي بذلك في أول كانون الثاني من عام 1952
ومصر من حيث الجيولوجيا والجغرافيا جزء من أفريقية ومن حيث التاريخ والثقافة جزء من آسيا الغربية. فمصير مصر في كل أدوارها كان مرتبطا بالبلدان في شرقيها لا في غربيها. وهي باعتبار سكانها (20 ، 000 ، 000) وخصب أرضها وغنى أبنائها في
مقدمة الدول العربية وتطمح إلى الزعامة بينها. وكان الإنكليز قد احتلوا مصر عام 1882 ولكنها نالت استقلالها الناجز سنة 1936
والجزيرة العربية تمتاز باحتوائها الأماكن المقدسة، مكة والمدينة. وهي بداعي تقاليدها الدينية وجغرافية أرضها تعيش عيشة منفردة انعزالية غير متأثرة بالعوامل الخارجية. لذلك انكسرت موجه التأثير الغربي الأوربي بما فيها من قومية وعلمانية ونزعات عصرية حديثة، على شواطئ الجزيرة دون أن تحدث بها هياجاً ملحوظاً. وفي أوائل الثلاثين من هذا القرن اكتشف الأمريكيون في شماليها - في البلاد السعودية - معادن غنية للزيت ولكن أثر الشركة الأمريكية يكاد يقتصر على بقعة محاذية للخليج الفارسي. وفيما سوى المملكة السعودية فهنالك مملكة اليمن المستقلة وهذه أيضاً متصفة بالمحافظة على القديم وعدم الإجابة لدواعي المدنية العصرية الحديثة
والهلال الخصيب يتألف من سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق. ولقد كانت سورية ولبنان إلى نهاية الحرب العالمية الثانية تحت الانتداب الفرنسي ولكنهما اليوم جمهوريتان مستقلتان. وكانت فلسطين وما وراء الأردن والعراق تحت الانتداب الإنكليزي. ومقاومة الانتداب الفرنسي في سوريا ولبنان ونشط الروح القومية الوطنية، كما أن مقاومة الانتداب الإنكليزي في سائر بلدان الهلال الخصيب ومقاومة الصهيونية نشط الروح القومية فيها. ولقد كان تقدم العراق السياسي من الانتداب في عام 1918 إلى الملكية عام 1921 إلى الاستقلال والانضمام إلى جامعة الأمم عام 1932 أمراً مذكوراً. والعراق اليوم مثل مصر حكومته ملكية دستورية
وعليه نرى أن الأمم العربية في غربي آسيا التي كانت حتى الحرب العالمية الأولى خاضعة للحكم العثماني قد فازت بين الحربين العالميتين باستقلالها وأخذت تسير في قافلة الأمم العصرية الديمقراطية الناهضة
6 -
أثر الغرب الحديث في البلدان العربية
ظلت البلدان العربية رازحة تحت الحكم العثماني أربعة قرون (1516 - 1918) كانت بمثابة القرون المظلمة في تاريخها الطويل. عاش أبناء العربية في هذه القرون محافظين على القديم مقيدين بالتقاليد لا يشعرون بشيء من التقدم الأوربي ولا يهتمون به. فكان
الجمود أهم ميزة لمدنيتهم
وجاءت حملة نابليون على مصر عام 1797 بمثابة الهزة الأولى التي أيقظتهم من سباتهم. وكان نابليون قد جاء بمطبعة عربية من روما فأقامها في القاهرة وأنشأ معها أكاديمية للآداب والعلوم ومكتبة. فكانت هذه المطبعة أول مطبعة في وادي النيل. وعقب نابليون في حكم البلاد محمد علي فأرسل البعثات العلمية والحربية إلى البلدان الأوربية ولا سيما فرنسا وإيطاليا، ولم يكتف بذلك بل استدعى من أوربا إلى بلاده ضباطاً وأساتذة وأطباء ومهندسين، وأسس في القاهرة مدرسة طبية وأخرى هندسية. وكان يحلم محمد علي على بتشييد إمبراطورية عربية يكون هو على رأسها
وأثر الغرب الذي بدأ في مصر ما لبث أن امتد إلى سورية ولبنان وذلك في عهد إبراهيم باشا ابن محمد علي في العقد الرابع من القرن التاسع عشر (1831 - 40) فأخذت الرسالات التبشيرية من كاثوليكية وبروتستانتية تشيد المدارس والكنائس فالأمريكيون أسسوا في بيروت عام 1834 المطبعة التي لم تزل تعمل باسمهم. وفي عام 1866 بنوا الجامعة الأمريكية. وعلى الأثر شيد اليسوعيون الفرنسيون مطبعتهم التي لم تزل في مقدمة مطابع الشرق وجامعتهم المعروفة في بيروت. وما لبث أبناء لبنان وسورية أن أقاموا المطابع والمدارس والمكاتب والجمعيات العلمية والأدبية على منوال المنشآت الغربية. وعقب عصر الترجمة من الإنكليزية والفرنسية عصر الإبداع والاستنباط في الأدب والعلم والفن
وكان من نتائج النهضة الأدبية أن تولد الوعي القومي بين أبناء العربية وذلك بعد أن أدركوا بفضل هذه المدارس شيئاً من ماضيهم المجيد وتاريخهم المليء بالمفاخر. فاليقظة السياسية عقبت اليقظة الأدبية. وتولدت في أفكار القوم الروح القومية بما فيها من الرغبة في التخلص من الحكم التركي وتقرير المصير والاستقلال السياسي
وكان رواد هذه النهضة معظمهم من أبناء لبنان المسيحيين ومن خريجي المدارس الأميركية الذين وجدوا في مصر مجالا أوسع للعمل
فأساس النهضة العربية الحديثة إذن أدبي علمي. وعلى ذلك الأساس تشيدت دعائم الوطنية والقومية العربية. وكل ذلك بتأثير الموجة الغربية التي نقلت إلى الشرق أفكارا علمانية
واقتصادية واجتماعية وسياسية جديدة. وكان من أهم الأفكار السياسية فكرة الديمقراطية وتقرير المصير
ولم تكن الروح القومية العربية في بادئ أمرها من النوع الإقليمي بل من النوع الشامل. كان أساسها اللغة والثقافة لا الدين، وكانت ترمي إلى جمع المسلم والمسيحي المصري والسوري واللبناني على صعيد واحد هو الصعيد الأدبي
7 -
نشوء القومية والفوز والاستقلال
كانت البلدان العربية الآسيوية حتى الحرب العالمية الأولى وحدة مفردة تخضع للحكم العثماني. على أن تلك الحرب كان من نتائجها تفكك عرى الإمبراطورية العثمانية وسلخ البلدان العربية وتجزئتها إلى وحدات متعددة مما آل إلى تجزؤ القومية العربية البدائية
فمصر بعد أن احتلها الإنكليز عام 1882 صار همها الأول التخلص من ذلك الاحتلال. فأصبح لها مشاكل خاص بها. وبفضل ذلك أخذت القومية فيها تصطبغ بصيغة محلية موضعية وانفصلت عن القومية العربية الشاملة. يومئذ اكتشف المصري أنه مصري واتخذ شعاره (مصر للمصريين) وفي عام 1931 نالت مصر استقلالها بعد أن أمضت مع إنكلترا معاهدة لعشرين سنة تخول الإنكليز حق استخدام المرافئ وطرق المواصلات المصرية في أيام الحرب وإبقاء حامية بريطانية على ترعة السويس
كذلك سورية ولبنان بفضل مقاومتها للانتداب الفرنسي الذي أصبح مشكلهما الخاص بهما افترقتا عن بقية البلدان العربية وتولدت فيهما روح إقليمية خاصة. وكان أبناء سورية ولبنان يشكون من عدم اعتبار فرنسا لقوميتهم ومن فرض اللغة الفرنسية عليهم ومن تقسيم البلاد السورية إلى ولايات والسماح لتركيا باحتلال سنجق هاتاي. فمقاومة الانتداب جاءت بمثابة مسن يشحذ عليه القوميون سيوف وطنيتهم إلى أن أعلن لبنان جمهورية مستقلة وكذلك سورية وذلك عام 1945. وكان لبنان في الكثير من أحقابه ولا سيما في العهد العثماني يتمتع بمقدار مختلف من الحكم الذاتي
أما مشكلة فلسطين التي وقعت تحت الانتداب الإنكليزي فما زاد عرقلته حشر الصهيونية فيه. وهي الحركة الأجنبية التي اعتبرها العرب بكليتهم حركة اعتداء وظلم. فالجهاد ضد بريطانيا والصهيونية نتج عنه روح فلسطينية محلية. وبعد أن ظهرت إسرائيل (1948)
ضم الملك عبد الله ما تبقى من فلسطين إلى مملكته وبذلك زالت فلسطين من الوجود
وكان الملك عبد الله قد بدأ حياته السياسية الهامة أميراً على ما وراء الأردن وذلك عام 1922 بعد أن طرد الفرنسيون أخاه فيصل من عرش سورية المحدث
بيد أن سياسة الانتداب الإنكليزي في العراق جاءت من الطراز المستنير المتساهل، ففي عام 1921 بعد أن فشل الأمير فيصل في محاولته الملكية في دمشق نصبه الإنكليز ملكا على العراق. وفي عام 1930 تخلى الانتداب البريطاني عن كل حقوقه في هذه البلاد واعترف بالعراق بلاداً مستقلة. فالعراق سبقت شقيقتها سورية في ميدان التطور السياسي مع أن سورية كانت تسبقها في التقدم العمراني والثقافي
والمملكة العربية السعودية هي من صنع ملكها الحالي عبد العزيز بن سعود الذي شيد لنفسه مملكة جديدة منتشرة من الخليج الفارسي إلى البحر الأحمر ومنطوية على معظم الجزيرة العربية الشمالية والمتوسطة. وهو الذي طرد الملك حسين والد عبد الله وفصيل من الحجاز. وجاء اكتشاف الزيت بغزارة فائقة في صحاري هاته البلاد حادثاً تاريخيا هاما إذ بواسطته فتحت بعض أطراف البلاد أبوابها لقبول العوامل العمرانية الغربية الحديثة. ولشركة الزيت الأميركية التي نالت امتياز الاستثمار عام 1933 الفضل في جعل دخل المملكة العربية السعودية أعظم دخل لبلاد عربية في العالم
وفيما سوى هذه المملكة فهنالك مملكة اليمن في الجنوب التي لا تزال حكومتها ثيوقراطية وأبناؤها بعيدون عن المؤثرات الخارجية العصرية من علمية وفنية وعلمانية. فاليمن لا تزال محافظة على القديم بعيدة عن مجاري العمران التقدمي الحديث
إن كانت الحرب العالمية الأولى نتج عنها تقسيم البلدان العربية وتجزئتها وتوليد قوميات وطنية فيها فالحرب الثانية جاءت نتائجها عكس ذلك. شعر أبناء العربية أن مصلحتهم الاقتصادية والسياسية تقضي بجمع كلمتهم وتوحيد أهدافهم فمالوا إلى التعاضد والتعاون والوقوف المحد في وجه العدو الخارجي. وكان من نتيجة ذلك تأليف جامعة الدول العربية وقوامها مصر وسورية ولبنان والأردن والعراق والبلاد العربية السعودية واليمن. وللجامعة دستور يكفل لكل دولة فيها الاستقلال التام ويقضي بحل المشاكل بين الأعضاء إذا كان ثمة مشاكل بطرق سليمة ويفرض التضامن على دفع الاعتداء من الخارج. وللجامعة لجنة
سياسية وثانية اقتصادية وثالثة ثقافية. ومع رغبة الجزائر ومراكش وتونس في الانضمام إلى عضويتها فالدستور لا يجيز ذلك إلى أن تحقق كل واحدة من هذه البلدان استقلالها الداخلي التام
ومع أن الجامعة نالها شيء من الكسوف بداعي المعضلة الصهيونية التي تولدت منها إسرائيل فهي الآن تحدد حياتها وتسعى للعمل الصالح الشامل. وعلى نسبة ازدياد شأن هذه المنظمة في الشؤون الدولية تزداد قسمة الأعضاء فيها
فيليب حتي
الأمثال في حياة اللغة
للأستاذ حامد حفني داود
الأدب العربي بمعناه الخاص ينقسم إلى قسمين: شعر ونثر. النثر العربي صور شتى أهمها: الرسائل الأدبية بأنواعها الثلاثة: الديوانية والعامة والخاصة - ثم التأريخ الفني والقصص - ثم لحوار والمناظرات - ثم المقتضبات والتوقيعات - ثم الحكم والأمثال - ثم الملح والفكاهة
وقد آثرت في هذا المقال أن أتحدث عن (الحكم والأمثال) لما لاحظته فيها من تطور عجيب تخالف فيه فنون النثر العربي سواء في نشأتها وتأريخها
والحكمة في اللغة: القول الجليل ذو المعنى الشريف، والمثل: القول البليغ المقتضب يضرب لشرح أمر أو تفسير ظاهرة أو تأكيد معنى من المعاني. ولا تختلف الحكمة عن المثل كثيرا، وربما كان أخص ما تمتاز به أنها أقدم منه استعمالا وأشرف معنى وأعمق فكراً وأدل على المقصود وأبقى مع الزمن
أما نشأتهما فترجع إلى أحداث قديمة تتعلق بواضعي اللغة أو المتكلمين بها في أقدم عهودها؛ فأكثر الأمثال يعود بنا في نشأته وظهوره إلى العصر الجاهلي، يوم كانت اللغة في عنفوان شبابها، وكادت تنحصر في الجزيرة العربية، والعرب بعيدون عن الأعاجم تقريبا، وقبل أن يختلطوا بهم ويتفشى اللحن فيهم
ولكن من هؤلاء الذين أرسلوا هذه الأمثال؟ لا شك أن هذه الأمثال لم تنزل من السماء أو ينزل بها الوحي. ولو أننا استطعنا أن نصدق أن مفردات اللغة كانت (تلقينية توقيفية) كما يزعم الفقهاء استدلالا بقوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها) فإننا نجزم أن أكثر الأمثال - إن لم يكن جميعها - (اصطلاحي)؛ لأنها - كما سنحقق - من صنيع العربي الصراح ووليدة تفاعله المستمر مع بيئته
وربما كان شعراء الجاهلية أسبق من خطبائها إلى هذا اللون من الفن النثري. وقد تعجب لذلك لأن أكثر الأمثال لون من ألوان النثر وليست من باب الشعر. ولكنك لا تلبث أن تقتنع إذا علمت أن العناصر الأدبية وهي: الفكرة والخيال والعاطفة والأسلوب. تتحقق في نفسية الشاعر قبل الناثر. ومن هنا كانت الأمثال أشبه بالشعر المنثور يرسله الشاعر قبل الناثر
ولعلك تؤيد هذا الزعم الذي ذهبت إليه إذا علمت أن أكثر الأمثال العربية التي دونها لنا القدماء من مؤرخي الأدب العربي ترجع في وضعها إلى هؤلاء الشعراء الجاهليين
وقد كان شعراء الصعاليك - وهم الرعيل الأول من شعراء العصر الجاهلي - اعظم حظا وأوفر نصيبا من إخوانهم في هذا الباب. ولعل ذلك يرجع إلى استعدادهم الفطري البالغ وتفاعلهم الصريح بالبيئة العربية الصارخة التي أبدعت هذا اللون من الأدب النثري. واشتهر من بين هؤلاء جماعة كثيرون عرفوا بضربهم في فيافي الجزيرة وتصرفهم في مجاهلها. نذكر منهم على سبيل المثال: (تأبط شرا) و (أبا الطمحان القبني) و (السليك بن الملكة) و (والشنفري)
وقد كانت هذه الأمثال وليدة أحداث ووقائع اعترضت هؤلاء الشعراء في حياتهم. قيل: لما أسر أسيد بن جابر (الشنفري)، قال إخوان أسيد للشنفري: أنشدنا. فقال: (إنما النشيد على المسرة) فأرسلها مثلا. وحكوا أن (السليك: سار ليلة على رجليه رجاء أن يصيب شيئا ثم نام، وبينما هو نائم جثم عليه رجل وقال له: استأثر، فرفع السليك رأسه قائلا (الليل طويل وأنت مقمر) فذهبت مثلا حدث كل ذلك والعرب في بيئتهم، ونطقوا به منجما وفق أحداث الحياة ووقائعها، ولم يرثوه عن أجدادهم تلقينا وتوقيفا كما ورثوا مفردات اللغة وإنما تحكمت البيئة في الاصطلاح والتواضع عليه
ولم يكد يظهر الإسلام وينتشر في بقاع الأرض شرقا وغربا حتى نمت هذه الأمثال - كما نمى غيرها من آداب اللغة - إلى ألسنة المتأدبين والناطقين بالعربية من عرب وأعاجم. ولكن قافلة الأمثال لم نسلك الطريق الذي سلكته قافلة الرسائل وغيرها من صور النثر. أريد أن أقول: إن تاريخ الأمثال العربية يغاير في نشأته وتطوره تاريخ الكتابة والرسائل مغايرة تامة. ذلك لأن الأمة العربية لم تنشأ حاجتها إلى الكتابة المنظمة والرسائل المدونة التي نقرأها في كتب الأدب إلى حين تعقدت الحياة واتسعت رقعة الدولة واحتيج إلى العمال في الأقاليم لإحصاء أمور الإمبراطورية الإسلامية وتنظيم سياستها الداخلية والخارجية. أما الأمثال فإنها لم تتحدد بهذا الزمن أو تختنق في هذه الدائرة الضيقة أو تتوقف على هذه الأسباب لأنها من الحياة اليومية في الأسرة والمجتمع. وقد كانت ولا تزال في كل زمان ومكان من الرجل الساذج والعامي والجاهل ومحدود الثقافة في الوقت الذي كانت فيه ولا
تزال من الكاتب الكبير والأديب المبتكر. بل ربما كانت عند الساذج والجاهل أوفر استعمالا من غيره
ومن هنا نستطيع أن نعلل كيف كانت الأمثال أسرع فنون النثر تطوراً، وكيف سلكت طريقها في الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموي وهي تنمو نمواً مطرداً. إنها لم تتأخر إلى هذا الحين الذي نشأت فيه الكتابة الديوانية؛ التي جودها عبد الحميد الكاتب وأستاذه سالم. بل سلكت طريقها صعداً إلى الأمام منذ مولدها على لسان العربي في بيئته الجاهلية، وتلونت بالحياة الاجتماعية في شتى أحوالها وأطوارها وصورها المختلفة في التاريخ؛ ذلك لأنهما - كما قدمت - كانت جزءا من لغة الحياة وزخرف القول الذي لابد للناس منه في كل يوم
وهنا لا نعجب إذا رأينا أن تطور الأمثال لم يقف أو يجمد في اليوم الذي وقفت فيه وجمدت حياة الكتابة الديوانية أواخر القرن السابع ولا شك أنك ترى معي أن هذا راجع إلى السبب الأول نفسه - وهو أن الأمثال من الأدب اليومي عند العامي والبليغ على السواء. فظاهر الاستعمال والتفاعل مع الحياة اليومية هي التي حفظت للأمثال رونقها وأبقت عليها حياتها
وثمة فارق آخر تتميز به الأمثال عن غيرها من فنون النثر، ذلك أن هذه الفنون الأخرى حين جمدت في أواخر القرن السابع صارت صوراً أدبية قديمة كلاسيكية لا وجود لها في واقع حياتنا اليومية، فلم يستطع أحد من الأدباء المتأخرين أن ينقلها إلى واقع الحياة، كما لم يستطع العامة أن ينقلوها إلى لغتهم الدارجة أو تأخذ مكانها من نفوسهم وحياتهم التي تتطور يوما بعد يوم. لقد عجزت هذه الفنون عن مواصلة حياتها لأنها جفت قبل أن تصل إلى أيدي العامة واستعمال سواد الناس لها، على حين تلونت الأمثال تولناً سريعاً بعاميتنا العربية وخاصة في العصرين: المملوكي والتركي. واستطاعت خلال هذه الحقبة الطويلة أن تخوض معركة العامية وأن نحرز النصر وأن تكسب جائزتي (التحرر) و (الخلود) معاً - دون أخواتها من فنون النثر. ومن ثم فرضت نفسها على الحياة كما فرضت العامية نفسها
ولعلك تعجب كثيرا حين ترى سبعة أعشار لغتنا العامية - اليوم - من هذه الأمثال. فلا تكاد تسمع أحداً ممن يتكلمون بالعامية الصرفة أو العامية المهذبة لا يستعمل هذه الأمثال
بين الفينة والفينة. وهناك كثيرون من مفطوري العامة من يستطيعون أن يجعلوا حديثهم كله سلسلة عجيبة متتالية من الأمثال. ولم العجب وقد ولدت وتحورت في بيئتهم التي يعيشون فيها وورثوها عن آبائهم. فهي صنيعة وراثتهم وبيئتهم وعقليتهم وطوع ألسنتهم
وهل منا من ينكر ذلك ونحن نتحدث عن ظاهرة طبيعية واجتماعية. لغوية من مظاهر الطبع والسليقة. وإذا كنا نصدق أن من الصوفية من تحرز في كلامه المباح من أن ينطق بغير الآيات القرآنية في كل ما يسأل فيه أو يجيب عنه، وأن من الشعراء من حاول أن يجعل جميع كلامه من الشعر ولا فرق عنده بين أحاديث الأدب والأحاديث المباحة. وأن الكسائي قال: لو شئت أن أجعل جميع كلامي مما يقوله النحاة في اصطلاحاتهم لفعلت، وأن إنساناً سأله: ما حكم رجل سها في سجود السهو فأجابه باصطلاحات النحاة: (المصغر لا يصغر)
أفبعد ذلك كله نعجب - ونحن في معرض الطبع - من أن تمثل الأمثال السواد الأعظم من لغتنا العامية أو تصبح سبعة أعشار ما ينطبق به العامة في الشارع والمنزل ومكان العمل. إنها ليست سوى ظاهرة طبيعية لا عجب فيها
وإنما العجب الأكبر إن كان لابد من العجب أن تنطلق (الأمثال) وهي صورة من صور النثر الفني في هذا النماء السريع العجيب المطرد، وأن تتطور مع الحياة ويكتب لها الخلود في كل عصر كما تطورت (لغة الحديث) وكتب لها الخلود تماما. فتراهما تظهران في ثوبين من العامية الإقليمية في مصر أو غيرها من الأقطار العربية
ولعل ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على ما بين (التراكيب المثلية) - إن صحت هذه النسبة - وبين لغة الحديث اليومية من قرابة جوهرية واضحة أصيلة لا نستطيع دفعها أو إنكارها
للكلام صلة
حامد حفني داود
أبو العتاهية
للدكتور محمد عبد العزيز الكفراوي
علاقته بالبرامكة
ذكرنا فيما سبق أن أبا العتاهية كان يلتزم جانب الفضل ابن الربيع في النزاع الذي نشب بينه وبن البرامكة، وقد أقمنا الدليل على ذلك بما كان بين الشاعر والفضل من تواد وتعاطف. وسنحاول اليوم أن ننظر إلى المسألة من جانبها الآخر، فنرى مدى ما كان بين الشاعر والبرامكة من عداوة أو صداقة، فإن كانت الأولى فقد استقام لنا ما ذكرناه آنفا من أن التعاون بين الشاعر والفضل كان تعاونا سياسيا يهدف إلى مضادة البرامكة، وإن كانت الأخرى فقد التوى الحديث واضطرب
ومن حسن الحظ أن نرى الأدلة على ما كان بين البرامكة وأبي العتاهية من خلافات متعددة، بقدر ما كانت شواهد انسجامه مع الفضل متنوعة، ومن ذلك ما حدثنا به أبو الفرج من أن متحدثا ذكر في مجلس يحيى بن خالد البرمكي يوما أن أبا العتاهية قد نسك وجلس يحجم الناس للأجر تواضعا بذلك؛ فقال يحيى: أم يكن يبيع الجرار قبل ذلك؟ فقيل له نعم، فقال أما في بيع الجرار من الذل ما يكفيه ويستغني به عن الحجامة؟ فإذا عرفنا أن يحيى بن خالد كان على جانب عظيم من الحصافة والرزانة؛ أيقنا أنه ما كان ليفوه بتلك العبارة المنكرة لو لم يضمر للشاعر حقدا شديدا أنساه حلمه ووقاره. ومن ذلك ما روي أيضاً من أن الرشيد قال يوما للشاعر، وقد أعجبه ما رأى حوله من مظاهر ملكه: صف لنا ما تراه في مجلسنا من مباهج الحياة. فأنشد:
عش ما بدا لك آمنا
…
في ظل شاهقة القصور
يسعى عليك بما اشتهي
…
ت لدى الرواح أو البكور
فإذا النفوس تقعقعت
…
في ظل حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنا
…
ما كنت إلا في غرور
وما كاد الرشيد يسمع الأبيات حتى بكى بكاء مرا، فقال الفضل بن يحيى وكان بالمجلس: استدعاك أمير المؤمنين لتسره فسئته! فقال الرشيد: دعه وما يريد، لقد رآنا في عمى فأحب ألا يزيدنا منه. أرأيت كيف كان الفضل بين يحيى يضيق ذرعا بأبي العتاهية وبالطريقة
التي يتبعها في بلبلة بال الرشيد وتنفيره من الحياة وزينتها، على حين كان الفضل بن الربيع يغريه بذلك ويثيبه عليه
وشيء آخر يزيدنا إيمانا بما ذهبنا إليه من انقطاع صلات المودة بين أبي العتاهية والبرامكة، وذلك هو أننا لا نجد له بيتا واحداً من الشعر في مدحهم. أليس ذلك عجيبا حقا في ضوء ما نعلمه من حرص أبي العتاهية الشديد على جمع المال، وما نعلمه إلى جانب ذلك من كرم البرامكة الذي كان مضرب الأمثال؟ فهل كان أبو العتاهية جالاه بأنباء ذلك الكرم والبرامكة منه قاب قوسين أو أدنى يغادونه ويراوحونه في بغداد؟ كلا لم يكن شاعرنا جاهلا بشيء من ذلك، ولكن صلته بالفضل بن الربيع ومناصرته له عليهم حرمته عطفهم، ما بيته وبينهم. وإذا أعوزك الدليل على ذلك، فاستمع إلى أبي الفرج إذ يقول: سأل أبو العتاهية صالحا الشهرزوري - وكان صديقا له - أن يكلم الفضل بن يحيى في حاجة له، فتردد صالح في ذلك وأبدى استعداده لأن يمنح الشاعر ما يشاء من ماله الخاص، ولكن الشاعر أبى إلا ما يريد، وأنب صالحا وقرعه في عدة مقطوعات شعرية، ولما وصل صالحا الأبيات التالية:
أهل التخلق لو يدوم تخلق
…
لسكنت ظل جناح من يتخلق
ما الناس في الإمساك إلا واحد
…
فبأيهم إن حصلوا أتعلق
هذا زمان قد تعود أهله
…
تيه الملوك وفعل من يتصدق
لم يجد بدا من الذهاب كارها إلى الفضل ومعه الأبيات السالفة، وكلمه في شأن أبي العتاهية، فقال الفضل: لا والله ما شيء على الأرض أبغض إلى من إسداء عارفة إلى أبي العتاهية، وقد قضيت حاجته لك
أرأيت كيف كان الفرق واضحا بيم معاملة الفضل بن الربيع للشاعر، ومعاملة الفضل بين يحيى له؟ فبينا نرى الأول لا يكتفي بما يسبغه على الشاعر من ماله الخاص، بل ينتزع له الأموال من الخلفاء، ويروج لأشعاره عندهم، إذ بنا نرى الشاعر لا يكاد يجرؤ على القرب من الفضل بن يحيى حينما تعرض له حاجة عنده، بل يطلب له الشفعاء والوسطاء
وإننا لنعتقد أن فهم ما كان بين الشاعر والبرامكة، وما كان بينهم وبين الفضل بين الربيع من خلاف على النحو الذي ذكرناه؛ هو الطريق السليم إلى تفسير حدث غامض في الأدب
العربي، لا يكاد المرء يتدبره حتى يحس أن هناك فراغا في نفسه أو القصة يحتاج إلى ملء. فقد روى الصولي في أوراقه أن يحيى بن خالد البرمكي شعر بحاجة إلى حفظ كتاب كليلة ودمنة، ولكي يسهل ذلك الأمر على نفسه طلب إلى صنيعته أبان اللاحقي أن ينظمه له. ويشتد حرص يحيى على إنجاز نظم الكتاب في أقصر وقت، فيحبس أبانا في منزله إلى أن يفرغ منه، ثم يعطيه جائزة سنية عند انتهائه من الكتاب. ويذكر الصولي أن جعفراً البرمكي كان يحفظ الكتاب أيضا. ثم يذكر في مكان آخر أن يحيى قال لأبان: هلا قلت شيئا في الزهد، وأن أبانا نظم أشعارا كثيرة في الزكاة وغيرها من العبادات. ويروي أبو الفرج أنه نظم قصيدة شماها ذات الحلل، ذكر فيها مبدأ الخلق وأمر الدنيا وشيئا من المنطق، وينسبها بعض الماس إلى أبي العتاهية. والآن فلنناقش هذه الأخبار واحدة فواحدا. أما ما كان من رغبة يحيى وجعفراً في حفظ كليلة ودمنة فأمر يستوجي التساؤل: لم عني البرامكة بهذا الكتاب تلك العناية الشديدة، ولم حرصوا على حفظه أو حفظ شيء منه، ولم كانت العجلة في نظمه عجلة أدت إلى حبس ناظمه؟
والإجابة عن تلك الأسئلة تسهل علينا إذا نظرنا إلى موضوع الكتاب، فما هو إلا محاورات وضعت ألسنة الحيوانات، وتدور حول ما يدبره بعض الناس للبعض الآخر من مكائد، وما يبيتون لهم من شرور، وآية ذلك أن أولى قصصه وأهمها نصف حال شخصين متحابين متوادين دخل بينهما ثالث، وما زال يسعى بينهما بالسوء حتى أفسد ما كانا عليه من مودة ثم أهلكهما جميعا. ولعل القارئ الكريم قد رأى معي تمام الشبه بين موضوع الكتاب وما كان يمثل إذ ذاك على مسرح بغداد من روايات؛ أليس هذان المتحابان هما البرامكة أو قل جعفر البرمكي بالذات من جهة، وهارون الرشيد من جهة أخرى، كما أن الداخل الثالث بينهما هو الفضل بن الربيع. ألا يمكن أن يكون يحيى وابنه جعفر، إنما أرادا بحفظ ذلك الكتاب أن يجدا المادة حاضرة كلما عنت مناسبة لتبصرة الرشيد بما كان يدبره له ولهم الفضل بن الربيع من مكائد توشك أن تذهب بأكفأ وزرائه وأوفى أصدقائه، وكفى بذلك وبالا على الطرفين؛ نعم، قد يكون ذلك بعض ما قصدوا إليه من حفظ الكتاب. وليس ببعيد أن يكون البرامكة - وقد حاورا في أمرهم لكثرة ما يرميهم به الفضل من مكائد - قد عمدوا إلى حفظ ذلك الكتاب حتى يجدوا فيه جواباً شافيا لكل ما يعرض لهم من أسئلة،
ومخرجا مما يقعون فيه من مآزق، وإرشادا لما يمكن أن يلتزموه من أساليب الحيطة والحذر. والحكمة حينئذ في وضع الكتاب في قالب شعري واضحة، فإن الشعر أيسر في الحفظ وأخف على اللسان؛ ولذلك كان مستودع المثل السائر والحكمة البالغة منذ القدم، ولا شك أن فنا كهذا شأنه أكثر ملاءمة لمجلس الخليفة من النثر
وأما ما كان من إيحاء يحيى بن خالد إلى أبان بأن يقول شيئا في الزهد، مع ما يعلمه من أن الزهد ينبعث من النفس ولا يفرض عليها، وما يعلمه أيضاً من أن أبانا كان رأسا من رؤوس الزنادقة في عصره، فأمر أريد به النيل من أبي العتاهية الذي كان يحتكر ذلك الفن الأدبي، ويبني عليه صرح عظمته الشعرية، ولا أدل على غيرته على ذلك الفن وحرصه على ألا يشاركه فيه أحد، من انزعاجه حين علم يوما أن أبا نواس قد بدأ يقول الشعر في الزهد، ثم ما كان من إرساله رسولا إلى أبي نواس يحذره أن يقول شيئا في الزهد؛ ويخبره أن ذلك فن اخترعه هو وسيحميه من كل مغير عليه أو مشارك فيه، ويظهر أن أبانا لم يستطع إقحام نفسه في عالم الزهاد، لما عف عنه جيدا من انتمائه إلى دنيا الزنادقة، ولما كان لابد له من الاستجابة لمولاه في صورة من الصور، فقد أخذ ينظم الأشعار في العبادات من زكاة وصلاة ونحوها، وكأن أبانا قد أراد أن يذكر أبا العتاهية بالأثر المشهور (ما تقرب عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، وأن يخبره بأنه يجب على المرء أن يشعل نفسه بالعبادات، لا أن يطيل الحديث عن الموت والقبور وما تؤدي إليه من خراب العالم ودماره، مسميا ذلك زهدا وورعا
وأما ما أورده الصولي من أن أبانا قد أنشأ قصيدة سماها ذات الحلل، وقد أودعها شيئا من المنطق، وأن بعض الناس كان ينسبها إلى أبي العتاهية، فدليل جديد على أن أبانا كان يعارض أبا العتاهية في شعره، ويحاكيه محاكاة شديدة، حتى اختلط أمرهما على الناس، وصاروا ينسبون ما لأحدهما للآخر
والآن وقد عرفت رأينا في الدوافع المختلفة التي أفضت إلى ما حدث من تحول في حياة شاعرنا من مرج إلى كآبة، ومن تفاؤل إلى تشاؤم، لعلك متطلع إلى معرفة آراء السابقين في ذلك. ونحن حين نحاول الإشارة باختصار إلى تلك الآراء، نرجو من القارئ أن يتذكر ما قدمناه في صدر بحثنا من أن الشاعر كان ملتويا في التعبير عن آرائه، لما كانت
تتضمنه أحياناً من مهاجمة الخلفاء والوزراء، ولذلك كان من الصعب أن يصل مؤرخو الأدب إلى أغراض الشاعر الحقيقية، إلا إذا توفروا على دراسته دراسة تحليلية، وأوتوا الزمن الكافي لمثل تلك الدراسة، وذلك ما لم يحظ به الشاعر من قبل، وهكذا عاش شاعرنا مجهولا حتى أمس القريب، لا يعرف عنه الناس إلا أنه كان زاهدا، وذلك نرجو أن ينتهي هذا البحث إلى نفيه عن الشاعر نفيا تاماً
ومع أننا قد اعتمدنا في تكوين رأينا عن الشاعر على دراسة بيئته وطفولته ثم أشعاره دراسة هادئة مطمئنة، فإننا نظلم القدماء إذا لم نذكر أنهم أيضاً قد أوردوا بعض لمحات يمكن أن يهتدي بها الساري في دياجي تلك الحياة المعقدة الغامضة، ونعني حياة شاعرنا. من ذلك ما أورده الأغاني من محاورات دارت مع الشاعر أو دارت حوله، أو أبيات شعرية قيلت فيه من أعدائه ومنافسيه، وكل ما يقال عن تلك الأخبار أنها كانت سلبية، ونعني بذلك أنها بما أكدته من بخل الشاعر الشديد وحرصه العظيم على جمع المال، فقد نفت أن يكون الشاعر قد نهج نهجه الجديد في الحياة، الذي يبدأ عام 180 هجرية تحت تأثير ميل حقيقي إلى الزهد كما نعرفه نحن، ولكنها تقف مكتوفة اليدين عند ذلك الحد، فلا تذكر لماذا إذن لبس ملابس الزهاد وأكثر القول في الزهد
ومن ذلك تلك المحاورة التي دارت بينه وبين ثمامة بن أشرس حينما قال الشاعر:
ألا إنما مالي الذي أنا منفق
…
وليس لي المال الذي أنا تاركه
إذا كنت ذا مال فبادر به الذي
…
يحق وإلا استهلكته مهالكه
فقال له ثمامة: إن كنت تؤمن بما تقول، فلم تحبس عندك سبعا وعشرين بدرة في دارك، لا تأكل منها ولا تشرب ولا تزكي، ولا تقدمها ذخرا ليوم فقرك؟ فقال يا أبا معن والله إن ما قلت لهو الحق، ولكني أخاف الفقر والحاجة. ومن ذلك أيضاً ما رواه صاحب الأغاني عن العباس بن عبيد الله قال: كنا عند قثم بن جعفر بن سليمان وعنده أبو العتاهية ينشد في الزهد فقال قثم: يا عباس اطلب الساعة الجماز حيث كان ولك عندي سبق فطلبته، وحين حضر مجلس قثم وجد أبا العتاهية ما زال ينشده في الزهد، فأنشأ الجماز يقول:
ما أقبح التزهيد من واعظ
…
يزهد الناس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقا
…
أضحى وأمسى بيته المسجد
يخاف أن تنفد أرزاقه
…
والرزق عند الله لا ينفد
فلو علم قثم أن أبا العتاهية صادقا في التعبير عن شعوره حينما يقول في الزهد لما عبث به كل العبث؛ ولما أغرى الجماز به
ولكن إبراهيم بن المهدي يخطو خطوة إلى الأمام، فيذكر بعض ما كان يدفع الشاعر إلى القول في الزهد:
لا يعجبنك أن يقال مفوه
…
حسن البلاغة أو عريض الجاه
إني رأيتك مظهرا لزهادة
…
تحتاج منك لها إلى أشياه
فهو يبدي شكة الشديد في صدق الشاعر فيما يدعيه من زهد، ويعتقد أنه إنما يقول ما يقول كي يبني له جاها بين العامة الذين يستهويهم كل ما يدور حول الدين من أحاديث. أو لعله يشير على ما كان للشاعر من نفوذ وصولة نتيجة لاتصاله بالفضل بن الربيع وزبيدة
ولعل اكثر الناس معرفة بأسلوب أبي العتاهية في الحياة هو أبو العلاء المعري، وقد دون رأيه فيه في مقطوعتين من الشعر يقول في إحداهما:
الله يرفع من يشا
…
ء رتبة من بعد رتبه
أظهر العتاهي نسكا
…
وتاب عن حب عتبه
والخوف ألزم سفيا
…
ن أن يحرق كتبه
فأنت ترى شك أبو العلاء في نسك أبي العتاهية وسخريته منه واضحة في البيتين الأولين، ويزيد البيت الثالث ذلك الشك تأكيدا بما يعتقده من مقارنة بين حال شاعرنا وحال سفيان الثوري الذي دفعه خوفه من الخليفة إلى تحريق كتبه. وكأن أبا العلاء يريد أن يشير إشارة لطيفة إلى أن أبا العتاهية إنما تظاهر بالزهد، وأكثر منه القول فيه ليستر ما كان يضمره للخليفة وأنه كان يعني الخليفة نفسه بكثير مما كان يقوله في ذلك الباب على نحو ما سنشرحه بعد
وفي المقطوعة الأخرى يقول أبو العلاء:
أرى ابن أبي إسحق أسحقه الردى
…
وأدرك عمر الدهر نفس أبي عمرو
تباهوا بأمر صيروه مكاسبا
…
فعاد عليهم بالخسيس من الأمر
بكسوة برد أو بإعطاء بلغة
…
من العيش لا جم العطاء ولا غمر
فلا يضع الله المساعي في التقى
…
فمن يسع فيها لا يخف غبن الدهر
أما ما قاله الكوفي في الزهد مثل ما
…
تغنى به البصري في ضفة الخمر
فأبو العلاء يدعو أهل العلم والأدب هنا أن يسعوا بأدبهم فوق حاجات بطونهم وأجسادهم، وأن يهدفوا فيما يقولون إلى أغراض أسمى وأنبل من أغراض هذه الحياة الفانية. وبيته الأخير ظاهر في تأييد ما ندعو إليه خاصا بزهد أبي العتاهية، إذ لا يرى فرقا كبيرا بين زهديات أبي العتاهية، وخمريات أبي نواس، حيث أن كلا منهما كان يجري بشعره وراء غرض مادي، وإن اختلفا في الطريقة والمذهب
أما المستشرون فهم في نفس الحيرة والاضطراب التي كان فيها الأوائل حول مقاصد الشاعر، ويقترب نيكلسون منا اقترابا شديدا، حين يشير إشارة خفيفة في هامش كتابه ، ، إلى أن أبا العتاهية ربما كان قد ترك مجلس الخليفة ومال إلى الزهد لكراهيته للحياة التي كان يحياها شعراء البلاط في ذلك الوقت
محمد عبد العزيز الكفراوي
زعماء التاريخ:
مصطفى كمال أتاتورك
للأستاذ عبد الباسط محمد حسن
(لم يكن مصطفى كمال. رجلاً من رجال المصادفة والحظ.
يرفعه إلى البطولة خلو الميدان. ويدفعه إلى الزعامة غباء
الأمة. وإنما كان من الصفوة المختارة الذين يضع الله فيهم
الهداية للقطيع الذي يوشك أن يضل. والحيوية للشعب الذي
يأبى أن يموت. .)
(الزيات بك)
- 1 -
يقال إن التاريخ يخلق العظماء. . . إذ يتيح لهم فرص الزعامة. . . ويمهد لهم سبل العظمة. . . كما يقال إن الزعماء يخلقون التاريخ. . . لأنهم يغيرون اتجاهاته، ويؤثرون في أحداثه. . . ويعملون على تكوينه وخلقه بصورة جديدة. . .
والواقع أن للزعامة أسباباً عامة. . . متصلة بتاريخ الأمة. . . وأسباباً خاصة متصلة بحياة الزعيم، بحيث لا نستطيع أن نرجعها إلى تاريخ الأمة وحده، أو لظروف داخلية معينة. . . كما أن تاريخ الدول - قديمها وحديثها - متأثر بسياستها الداخلية. . . وظروفها الدولية. . . لهذا يتأثر التاريخ بحياة العظماء. . . ولكن العظماء ليسوا كل شيء في تاريخ الدول. . .
وزعماء التاريخ يظهرون في غالب الأحيان. . . حينما تشتد ببلادهم الأزمات. . . ويتعقد الموقف السياسي، ويختل الميزان الاجتماعي والاقتصادي. . . وتنحرف الأمور عن سيرها المستقيم. . . حينئذ يشعر الزعماء بآلام شعوبهم أكثر مما تشعر. . . ويدركون الأخطار المحيطة بهم أكثر مما تدرك. . . ويفكرون التفكير العميق في معرفة أسباب الداء. . . ووصف الدواء. . . ثم يأخذون بيد بلادهم. . . وينيرون أمامها السبيل. . . ويهدونها إلى
الحق وإلى صراط مستقيم. . .
وتاريخ الشعوب في مختلف العصور والأزمان. . . حافل بكثير من الزعماء والقادة. . . سواء كانوا زعماء سياسة، أو قادة فكر، أو أبطال حرب. . . وهؤلاء جميعاً ساهموا بنصيب كبير، وقسط وافر في نهضة بلادهم. . .
ولقد ظهر في العصر الحديث - في الشرق والغرب على السواء - زعماء كثيرون. . اتصف معظمهم بالجرأة والحزم. . وسرعة البت في الأمور. . وكان لكل منهم أثره في تكوين الأمور. . وتشكيل الحوادث. . وتوجيه الأمم. . من بين هؤلاء مصطفى كمال في تركيا. . وهتلر في ألمانيا. . وموسوليني في إيطاليا. .
ظهر مصطفى كمال في تركيا بعد الحرب الأولى. . وق خرجت منها مهزومة ذليلة. . ولم تكن الهزيمة في تلك الحرب أول الكوارث التي لحقت بتركيا. . فقد انتزعت القوات البريطانية من الأتراك سوريا وفلسطين والعراق خلال الحرب. . كما سبقتها هزائم الحروب مع إيطاليا ودول البلقان. . كما سبقتها أزمات إنشاء الحكومة النيابية. . وقد زاد في حرج الحالة بعد انتهاء الحرب. . احتلال اليونانيين لكثير من الولايات التي كانت تابعة لتركيا، ونزولهم في أزمير. . .
كان العالم كله يتوقع أن الأتراك وهم على هذا الحال من الضعف. . لن تقوم لهم قائمة قبل عشرات السنين. وإذا بهم يخيبون ظن الدول. . ويعملون على إحياء تركيا وبعثها من جديد. . . وكان ذلك بفضل زعيمها العبقري (مصطفى كمال. . .)
رأى مصطفى كمال. . . أن من الواجب العمل على قيام حركة قومية نضالية. . . تهدف إلى الاستقلال والحرية والكرامة. . . وتعمل على توحيد قوى الأمة. . ومقاومة كل حركة أجنبية. . لذلك ترك القسطنطينية. . مركز الدول العثمانية. . ورفع علم القومية العثمانية في أنقرة. . بعيداً عن مرمى مدافع الحلفاء. . وهاجم جيوش اليونان. . فردهم على أعقابهم خاسرين. .
وكان مصطفى كمال يؤمن كل الإيمان بحيوية الأمة التركية. . واستعدادها للنضال في سبيل الحرية والكرامة والعزة. . وكان إيمانه بوطنه أكبر مشجع له على العمل. . وخير دافع له للنهوض ببلاده. . لذلك أثار حربا دامت ثلاث سنوات من سنة 1919 - 1922م.
استطاع بعدها أن يملي شروطه على الدول الأوربية الكبرى. . فمزق معاهدة (سيفر) التي كانت الحكومة الشرعية قد قبلتها. . وأجلى اليونان عن الولايات التي كانت قد احتلتها، وأرغم الدول على التسليم باستقلال الوطن التركي في معاهدة (لوزان)، وبذلك كانت تركيا الدولة الوحيدة التي رفضت صلحا يملي عليها إملاء. . أو معاهدة تفرض عليها فرضا. . ولم يكن تخليص الوطن التركي من المستعمرين إلا مقدمة لسلسلة الإصلاحات الجريئة التي قام بها أتاتورك. . والتي أعطت لتركيا مظهر الدولة المتمدينة العصرية
- 2 -
ولد مصطفى كمال سنة 1881م. . . في مدينة سالونيك. . . وهي بلدة إغريقية الأصل، وكان أبوه (علي رضا) موظفا صغيراً في الجمارك. . وأمه (السيدة زبيدة) من أسرة محافظة تتمسك ما استطاعت بالتقاليد الموروثة، لذلك كانت أمنيتها الكبرى. . أن ترى وحيدها مصطفى في مدرسة دينية إسلامية حتى يصير شيخا من شيوخ الدين. . .
أما والده فكان يرغب في أن يثقف ولده ثقافة غربية. . وكان الفوز لأبيه في النهاية، فدخل المدرسة وعمره سبع سنوات وقد غادر أبوه بعد ذلك وظيفته. . استعدادا للحياة الجديدة، وما تتطلبه من نفقات - فاشتغل تاجر أخشاب. . . ولم يلبث إلا قليلا حتى مرض مرضه الأخير وما قبل أن يرى ولده في المدرسة العالية. . .
وجدت الأم نفسها وحيدة في (سالونيك) ولم يكن هناك من يرعى شؤونها، ويتولى أمورها. . بعد أن فقدت زوجها وعائلها. . وكان معها من هو أحق منها بالعناية والرعاية. . لذلك وجدت نفسها مرغمة - أمام قسوة الحياة - لأن تنتقل مع صغيرها. . إلى منزل أخيها. . وكان مزارعا في قرية قريبة من المدينة. .
وهناك في وسط الحقول. . نسى مصطفى المدرسة والعلم وأقبل على حياته الجديدة. وعاش كما يعيش صبيان القرية في أحضان الطبيعة. . ونعم بحرية لم ينعم بها من قبل في (سالونيك)
وظل هكذا عامين كاملين حتى بلغ من العمر إحدى عشرة سنة، أكتسب فيها خشونة الفلاحين في طباعه، كما أتكسبها في بنائه الجسمي، ولم يعد يرضخ لمشيئة أمه كما كان حاله من قبل
وكان مصطفى على الرغم كم عناده وصلابته، شديد الذكاء قوي الملاحظة - وكانت أمه تنظر إلى حياته الجديدة، فتشعر بالأسف العميق لأنها لم تسطع أن تحقق الأمنية التي أرادها له أبوه، وهو أن يدخل المدرسة العالية، كما أنه - في نظرها - لم يخلق للقرى والحقول، والسير طولب حياته وراء الماشية، لذلك ظلت تبذل جهودها حتى التحق ولدها بالمدرسة من جديد. . .
وجعل مصطفى يتابع عمله في المدرسة بجد وعناية حتى أكمل تعليمه بها، فاقترح عمه أنه يلحقه بالمدرسة العسكرية في سالونيك، وكان مصطفى ميالا بطبيعته لحياة الجندية، يقول في مذكراته عن هذه الفترة (كان يسكن في البيت المجاور لنا - طالب بالكلية الحربية يدعى (أحمد)، وكنت أحسده كلما التقيت به، على هندامه الجميل، وكذلك كنت كلما التقيت في الطريق بضابط يسير مرتديا ثيابه الزاهية الخلابة، أقف مبهوتا؛ وأنا أتابعه بنظري، لذلك ما كدت أنتهي من دراستي الابتدائية حتى صممت على أن أدخل الكلية العسكرية لأصبح ضابطا أزين جسمي بالملابس العسكرية الجميلة. .)
التحق مصطفى بالمدرسة العسكرية، فأظهر نبوغاً وتفوقاً على أقرانه، مما جعل أساتذته يوصون بنقله إلى مدرسة حربية أخرى ولما أكمل علومه بالمدرسة الجديدة، التحق بمدرسة أركان الحرب في القسطنطينية حيث تخرج فيها برتبة (يوزباشي)
وكان مصطفى خلال هذه الفترة قد تطور تطوراً غريبا، فلم يعد ذلك الطفل الصغير الذي يلهو عابثاً في الحقول، أو يتشاحن مع أحد أقرانه لأمر تافه بسيط، فقد تعلم الفرنسية أثناء دراسته وقرأ كثيراً من الكتب الثورية مع صديق له يدعى (فتحي) قرأ فوتير وروسو، وهوبز، وجون سيتورات ميل، كما اشترك في جمعية (الوطن) وهي جمعية سرية تعمل على محاربة الاستبداد السياسي، وتحطيم القيود الأجنبية، وأخذ يكتب النشرات الحماسية ناقداً فيها سياسة السلطان ورجال الدين وداعياً إلى تحطيم القيوم، ومحاربة الظلم والاستبداد، على اختلاف صوره
كانت تركيا في ذلك الوقت تحت حكم السلطان (عبد الحميد) الذي وقف عقبة في سبيل الحركات الإصلاحية الكبرى، والذي ألغى مجلس النواب ليصيح الحاكم المطلق في تركيا - والذي فرض رقابة شديدة على الشعب، حتى ذكروا أنه ما من ثلاثة تكلموا معا في أمر
من الأمور إلا وكان أحدهم جاسوساً للسلطان (بعد الحميد. . .)
ولذلك لم تمض فترة طويلة حتى استطاع جواسيس السلطان القبض على زعماء جمعية الوطن، وتقديمهم إلى المحاكمة، وبذلك أبعد مصطفى كمال عن القسطنطينية ونفي إلى بلاد الشام. . .
(للكلام بقية)
عبد الباسط محمد حسن
من يسمع؟
مهداة إلى الأستاذ الحوماني
للأستاذ خليل رشيد
تفضل الأستاذ الحوماني قبل هنيهة من الزمن فأولاني ثقته لشرف المساهمة في كتابه من يسمع؟ وها أنا أجيب دعوة الأستاذ الحرماني شاكراً له ثقته الغالية؟ راجيا تفضله بالقبول:
من يسمع؟
من يسمع عنوانه جديد لكتاب جديد من مبدعات الأستاذ الحوماني وضعه بعد خروجه عن ألف فكرة لألف رجل في كتابه مع الناس. وللأستاذ الحوماني فكرة واحدة يعتز بها هي إيمانه بقول المنقذ الأعظم صلى الله على ذاته الزكية: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. .
والكتاب فكرة لم تولد بعد. . ولكنا نلمس روح الثورة والتمرد على المجتمع وعاداته المكبوتة في نفس الأستاذ التي ينبئ بها عنوان كتابه من يسمع؟ وأكاد أسمع بحة صوته وهو يبث شكاته وأذاته من صدى عنوان كتابه هذا. وأستطيع أن أرى سحنة وجهه وقد بدت عليها سورة الغضب. وثورة الأديب. وإني لأستشف قلبه وقد سيطر عليه كلمة من يسمع.
أي نعم يا أستاذ
أصرخ ملء فمك
أغضب ملء جمجمتك
تألم ملء قلبك
فليس هناك من يسمع. ولن تجد من يسمع. ولو أخرجت ألف كتاب وكتاب على غرار فلان
من يسمعك. . من يصغي لصرير قلبك. . من يسمع قلمك القاسي المرير وهو ينشد أنشودة الإصلاح. ويرعف باسم الحق الذبيح صابا وعلقما على صفحات فلان؟
من يسمعك. وأنت ترجع لحنا حزينا. وتنشد نشيدا مؤلما فيه عنف الموت وصرامته على قيثار فلان؟
من يسمع هذا اللحن الحزين والكل ثمل بكأس حواء يتغنون بوحي الدموع والنهود والقبل؟
وقد جن الناس بالثمر المجنون. فهم بين لاه بالثمر وعابث بالعفاف. ليس هناك من يسمع، أو يصغي لحديث فلان، وأنشودة فلان وفيه صرامة الحق ومرارة الصراحة
من يسمع كلمة الحق وصرامة القول فيها. ومن يستسيغ مشرب كأس ملؤها صاب وعلقم. وأي مسمع لا ينبو النغم الشاكي الحزين؟
من يسمع كلمة المصلح وهو يدعو إلى بيع موت عاجل بحياة آجلة؟ من يصغي لحديث المرشد وهو يدعو إلى قتل اللذة المرذولة وموت العاطفة وكبح الشهوات. والانضمام تحت راية نفسه؟
ومن يسمع غرزة مبضع الجراح وهي تستأصل شأفة الداء. ولا تتقزز نفسه؟
من يسمع نداء الضمير وهو يصرخ من الأعماق بمواساة الضعيف وصلة الرحم ونصفه المظلوم. ونبذ العداوة والبغضاء ونزع ما في الصدور من غل؟
من يسمع كتاب الله وهو يدعو إلى ما فيه الخير والصلاح والنفع العميم للبشر؟
من يسمع دعوة الرسل والمبشرين لطريق الهدى والصلاح. ومن يسمع دعوة الأديب وهو يدعو إلى ارتقاء المثل العليا، والمثل العليا صعبة المرتقى؟
من يسمع دعاة العقل والفضيلة وفيها ما فيها من جهد وكفاح؟
نعم أيها الأستاذ؟
لن تجد من يسمع لضياع الموازين وفقدان المقاييس. وضيعة الأخلاق. .
لن تجد من يسمع. وليس هناك من يسمع ولن يسمع فلان. وليس هناك من يسمع فلان. . ما دام فلان. . لا يريد أن يسمع قول الحق. وكلمة الصراحة وكل الناس على شاكلة فلان حتى أنا وأنت:
وإن أبيت إلا أن تسمع هؤلاء الصم شكاتك. فاصرخ ملء فمك حتى تتمزق رئتاك وحنجرتك وردد
من يسمع؟
فلن تجد من يرد عليك غير صدى بعيد من أغوار الماضي وأعماق التاريخ
لقد أسمعت إذ ناديت حيا
…
ولكن لا حياة لمن تنادي
خليل رشيد
مصادر التاريخ الحضرمي
للأستاذ أحمد عوض باوزير
تمهيد:
هناك حقيقة تاريخية ثابتة ينبغي مراجعتها، قبل البدء في الحديث عن (مصادر التاريخ الحضرمي). ومن المؤرخين المحدثين الذين فطنوا أهمية هذه الحقيقة، السيد علوي ظاهر الحداد، مؤلف كتاب (الشامل). فقد ورد في رسالة له أسماها (جنى المشاريخ) ما يفيد في تقرير هذه الحقيقة
وفحوى هذه الحقيقة التاريخية، هو أن التاريخ السياسي القديم، لحضرموت لا يمكن دراسته منفصلا عن تاريخ اليمن الكبير، أو عن تاريخ الإسلام في الجزيرة العربية حتى إلى ما بعد نشوء الدولة الكثيرية، في أواخر القرن الثاني الهجري. ويقال في تعليل قيام بعض الحكومات القبلية، واستقلالها أثناء هذه الفترة الزمنية، أن ذبك كان نتيجة لأحوال الضعف المادي والأدبي، في حكومات اليمن المتعاقبة، أو في عاصمة الخلافة الإسلامية
ومما يفيد في تقرير هذه الحقيقة كذلك أنشتار الفرق الدينية في حضرموت، فإن ذلك الانتشار يعني امتداد النفوذ السياسي والأداري، إلى هذه الرقعة من الجزيرة العربية. وأظهر هذه الفرق (الأباضية) ثم (القرمطية). وكان ظهزرها أيام أضطراب دول الزياديين في اليمن، في أواخر القرن الرابع الهجري و (الإسماعيلية)
ما هي مصادر التاريخ الحضرمي:
وإذا كنا قد أثبتنا هذه العلاقة بين تاريخ حضرموت، من جهة، وتاريخ اليمن أو الجزية العربية، من جهة ثانية. فيحسن بنا أن نتساءل. ما هي ماصدر التاريخ الحضرمي إذن؟ وما هي نوع العلاقة في هذه الوحدة السياسية والاقتصادية؟
والجواب على أولهما، وهو أن هناك كثير من المصادر التاريخية، بأقلام جمهرة من الحضرميين النابهين، غير أن أهمها قد ضاع، ولم يبق منها غير مقتطفات، أو شذرات متفرقة. ومن هذه المصادر تاريخ (بازرعة) وتاريخ (حنبل) وكتاب (الفرج بعد الشدة في إثبات فروح كندة) وتاريخ (الشبلي) و (شنبل) وغيرهم من المؤرخين. وحتى هذه المصادر
لا يمكن أن تؤخذ على علاتها، دون الرجوع إلى الأحوال العامة، في تاريخ البلدان المجاورة التي يتصل تاريخها السياسي اتصالا وثيقا بسير الأحوال في البلاد الحضرمية
أما عن نوع العلاقة، في هذه الوحدة السياسية والاقتصادية بين حضرموت وغيرها من الدويلات في الجزيرة العربية فذلك يعني تفصيل الحكومات السياسية التي تعاقبت على اليمن منذ صدر الإسلام، إلى وقت انفصال حضرموت نهائيا عن حكومات اليمن في أواخر القرن الحادي عشر كما نذهب إليه
ومن العسير جدا على الباحث في تاريخ هذه الحكومات المتعاقبة، أن يهتدي إلى تحديد هذه العلاقة، تحديدا شاملا. فإن المجال لا يزال مفتوحا للدراسات التاريخية، وهذا النقص يكاد يكون ملحوظا للمعنيين بدراسة تاريخ الجزيرة العربية: ولذلك فإننا عاجزن حتى الآن عن تحيد تلك العلاقة؛ لأن ما لدينا من المباحث العلمية والمراجع التاريخية لا يكفي في تقرير هذه الحقائق تقريرا ضافيا ومفيدا
كيف ضاعت هذه المصادر:
ويذهب السيد الحداد برسالته (جني المشاريخ) في تعليل أسباب ضياع تلك المصادر التاريخية التي أشرنا إليه آنفا إلى انتشار البداوة والجهل بين سكان حضرموت؛ لأن انتقال تلك المؤلفات إلى أيدي أولئك النفر في الجهلة، معناه الإهمال والضياع
وربما كان هناك من يريد أن يسأل: كيف أمكن نبوغ تلك الفئة من المؤرخين، وسط تلك الجهالة المتفشية. ولا إخال أن (الحداد) كان ينتظر بداهة هذا السؤال، فقد أثبت في موضع آخر من رسالته السابقة (أن الذين قدر لهم الإقبال على العلم منهم في تلك الأزمة إنما تهيأت لهم أسباب خاصة، تيسر لهم معها التفرغ لذلك)
وأنا وإن كنت أوافق (الحداد) في بعض ما ذهب إليه في تعليل أسباب ضياع المصادر التاريخية، غير أني أعتقد أن هناك سببا أقوى، وهو أن المتأخرين من المتعصبة، قد رأوا في سيرة الأسلاف ما ينكرونه عليهم من المذاهب أو النحل. فعمدوا إلى أخفاء تلك المؤلفات وطمسها، في بعض الأحيان. وقد ذهب إلى مثل هذا الرأي بعص ذوي النظر والباحثين
محاولات في تاريخ الحضرمي:
ظهرت في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، محاولات أولية في تدوين التاريخ الحضرمي القديم؛ وهي محاولات بدأت ضيقة، ثم أخذت تتسع تدريجا، فقد ظهر كتاب (الشامل) لمؤلفه السيد علوي الحداد. وكتاب (تاريخ حضرموت السياسي) للأستاذ صلاح البكري، وكتاب (تاريخ الدولة الكثيرية) للسيد محمد بن هاشم، وكنت قد اطلعت على نسخة خطية، بالمكتبة السلطانية بالمكلا من كتاب (التابوت) للسيد عبد الرحمن بن عبيد الله
وأستطيع أن أجزم أن هذه المؤلفات على الرغم من حداثتها لا تخرج عن سرد الحوادث سردا عاما دون تعميق أو توصيب. وقد إعترف السيد (ابن هاشم) في كتابه (تاريخ الدولة الكثيرية) بهذه الحقيقة، فقال في مقدمة الكتاب:(وبعد فقد التزمنا على أنفسنا في هذا الكتاب أن نكتب ما عثرنا عليه في كتب التاريخ من أخبار القوم مجردة من الملاحظات والانتقادات والأخذ والرد والتحليل والتركيب)
ويحاول السيد ابن هاشم أن يبرر هذا المسلك التاريخي بقوله (ولست أجد لي حقا في مؤاخذتي أشخاصا على سلوك سلكوه أناخت على علله وأسبابه السنون، ودفنت مبرراته ومسوغاته ظوال القرون)
ونحن لا نقر السيد (ابن هاشم) وهو الكاتب الأديب على هذا النحو من التفكير. وسواء أكانت المبررات التي زعهما صحيحة أم عير صحيحة فإننا كنا نتوقع أن يعمد إلى (المعول) لنبش الحقائق وغربلتها، وأن يبرأ من تلك الشفقة والرحمة، لأنها لا تجردي في منطق الوقائع التاريخية أو لا تفيد كثيرا
وأود في ختام هذا الحديث القصير أن أشيد بأسلوب (ابن هاشم) في الكتابة: ذلك الأسلوب الأدبي الرصين الذي يطالع القارئ من حين لآخر، في أكثر من مكان من الكتاب
هذه فذلكة عن (مصادر التاريخ الحضرمي) أقدمها في أنسب الأوقات وأصلحها، لعلها تفيد في إنارة السبيل للمعنين بدراسة التاريخ الحضرمي القديم وتعين على فهم الحقائق التاريخية الكبرى
غيل باوزير
أحمد عوض باوزير
رد على نقد
حول (مذكرات واعظ أسير)
للأستاذ أحمد الشرباصي
شاء الكاتب الصديق الشيخ كانل السيد شاهين أن يملأ أكثر من ثلاث صفحات في (الرسالة) الغراء بالحديث عن كتابي الأخير: (مذكرات واعظ أسير). ومن حق القراء على الرسالة أن ينفسح صدرها لكلمة النقد كما ينفسح لكلمة التقدير؛ ولكن الواجب المسلم هو أن يكون الحديث ذابال، وأن يكون النقد ناهضا على أساس متين من الحق والصدق، حتى يسلم من الهوى والظنة، ويرتفع عن السباب والمهاترة
ولقد بسط الشيخ شاهين رداء الحديث في صدر كلامه مادحا مطريا، ثم جمع أطرافه على وحزات من النقد يحسبها في الموضوع، ونراها مصطنعة ليبدو الكاتب وكأنه يعادل بين التأييد والتنفيد، حتى يقال له: ما ابرعك مادحا وقادحا؛ وهيهات!. . .
وعلى الرغم من مقدمة الكانب العريضة المشعرة باستفادته من الكتاب وتأثره به، وعلى الرغم من أنه اعتراف بأن (المآخذ) التي سيذكرها (لا تشين الكاتب) ولا تتناول موضوعه وفصوله، ولا تروث صورا إلا (كلفا من بعض الجوانب) فقد شاء له حرصه على الإفاضة في القول أن يملأ صفحتين بالدوران حول خذخ الملاحظات التي لا تسين ولا تتصل بالموضوع
ويؤسفني أن أقرر أن أولى ملاحظاته ينقصها الصدق، فقد ادعى عليّ أنني أكثرت في كتابي من ذكر (أني خطيب، وأن لي جهوداً ملحوظة في نشر الدعوة، وأن لي أتباعا وأنصارا). . وأين ذلك في الكتاب أيها الصديق؟ لعل حديثا جرى عن طريق المؤلف في خطابته، وعن حرصه على وصل المنبر بالحياة الاجتماعية، وهذا لا ضير من تقريره، أنه رسم طريقة وتحديد توجيه؛ ولك امرئ إذا كتب (مذكرات) تحدث عن مثل هذا وأضعافه، ولا يعاب ذلك ولا يذم. . ولعل حديثا جرى على قلم صاحب (مذكرات واعظ أسير) عن رواد مسجد المنيرة - على أيامه أطيب التحيات - وهؤلاء الرواد كانوا من غير شك يؤلفون مدرسة إسلامية متواضعة تحدث الناس عنها هنا وهناك. . . أما وصف المؤلف نفسه بأنه خطيب وبأنه عظيم المجهود وبأن له أتباعا وأنصارا، فحديث مصنوع أو
موضوع!
وآلم السيد شاهين ما جاء في خاتمة الكتاب من تحايا الشعراء والأدباء للمؤلف بمناسبة الإفراج عنه والفرحة بعودته إلى حياة الحرية والانطلاق، وشاء أن يعبر عن ألمه بهذا الحكم الصارم - أو الوارم -:(فسائر هذه التقريظات غاية في الغثاثة والتفاهة) ومن السهل على كل إنسان أن يصدؤ مثل هذه الأحكام العامة التي ينقصها الرشد والتبصر. ولعل الكاتب لم ينس أن العرب اختصروا الطريق في حكمهم على القرآن المجيد فقالوا أنه (أساطير الأولين)!. . . ومن المؤسف مرة أخرى أن أذكر الشيخ شاهين بأن هذه التحايا لم تكن تقريظات. ولم يستكتبها أستاذ من طلبته كما زعم متجنيا، بل هي صورة عواطف ومشاعر لإخوته كرام سبقوا بها قبل ظهور الكتاب بشهور ونشر أغلبها، واصحابها لهم مكانتهم الأدبية وماضيهم الشعري، ولذلك عنوت بعنوان (تحية وذكرى)، ومن الطريف - وليس مما يعاب كما توهمت - أن تسجل العواطف المتبادلة بين التلاميذ الأحياء والأساتذة الأوفياء - وعد النظر عن غير هؤلاء فهم كالهباء -. . . وهل يعد غاية في الغثاثة والتفاهة قول أحد المحيين:
عفواً إذا زل مما قلته قلمي
…
برغم أن جنا زلاته الخطر
أوخذت ظلما وهذه رحمة سبقت
…
من أن تؤاخذ عدلا أيها القمر
وهل يعد غاية في التفاهة والغثاثة قول الثاني:
لبيك لو قبل المعاند فدية
…
أو لم يزعه ضميره المتغابي؟
إني لأدخر الثناء لعالم
…
لاقى الصعاب بعزمة الوثاب
متدرعا بالصبر، لا متراجعا
…
في الحق، أو مستهدفا لعتاب
لقد أبعدت أيها الصديق، وحملت هذه التحايا ما لا تطيق!
وكبرى الكبائر عندي أن يعتبر الشيخ شاهين دفاعي عن الأزهر الشريف المعمور (هفوة)! كبرت الكلمة منك أيها الصديق. . . الأزهر الذي رضعت لبانه وتمتعت بخيراته وسعدت بكنوزه وعلوت باسمه ينال منك هذا الجزاء؟. ثم أنت لا تقتصد في النقد، ولا تكتفي بالتوجيه، ولا تقنع باللوم، بل تجور وتجور، فتنال جبهة الأزهر الشماء بما تشاء، ثم تسرف فتقول وبئس ما تقول: (ألا أنه قليل للأزهر أيلام، وقليل لرجاله أن يتهموا
بالضعف والتدليس وحب الدنيا، وإذا كانت فعلتهم في النكر ما هي، فإنه لأنكر منها أن يدافع عنها ويوقف إلى جانبها)!!
أهذا كلام يقال، ومن أزهري، ومن رجل يعمل تحت أسم الأزهر الشريف حتى اليوم؟. . . دون ذلك يا صاحبي وتفترق طريقانا. . . ثم إن هناك فرقا بين (الأزهر) و (الأزهريين) يا صاحبي، فالأزهر معنى وفكرة ورسالة وتايخ له جلاله وهيبته، والأزهريون قوم يجوز عليهم الخطأ، إذ ليسوا بمعصومين، وإذا كان فيهم من فرط، ففيهم أعلام جاهدوا ولا زالوا يجاهدون، ومن الكفران أو الطغيان تعميم الحكم على الجميع بهذه الصورة القاسية، وكدت أقول (الغلبية) ومعذرة إليك أيها الصديق، فقد فتحت الباب!
ومن الذي قال لك إنني (أيدت) الأزهريين جميعا وبلا استثناء وعلى طول الخط؟. . ألم أنتقد شيخ الأزهر الأسبق على موقفه من اعتقالي؟ (ص11) و (ص25). . ألم أسرد رأس شاب ثائر في علماء الأزهر وموقفهم من المحنة بعبارته الشديدة المكشوفة (ص 28)؟. . . وحتى في دافعي عن الأزهر والأزهريين قد أشرت إلى بعض العيوب الموجودة في البيئة الأزهرية وذكرت أسباب ذلك ودوافعه، ولما تطاول القول في ذم الأزهر بلا إبقاء قلت (ص 98):(إن هذا لا يليق، وليس من مصلحة أحد، وليس هذا أوان الطعن، والأزهر يجب أن يصان عن التحطيم والتهديم، وحبذنا لو تركنا أخطاء الأزهريين، ويجب أن نتذكر أننا لو جردنا الأزهر من كا حسناته لما فقد المعنى الإسلامي العظيم الذي يجعله حصنا يخيف المارقين)
ثم تأتي أعجوبة الأعاجيب، وهي أن يعتبر الشيخ شاهين تفسيري رثاء المتنبي لشبيب العقيلي بأنه (هفوة أدبية) ولست أدري أبنا الذي هفا، وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين؛ والحكم هنا هم القراء، فليطالعوا كلامي في كتابي وكلامك في تهجمك. ليروا رأيهم. . إن تفسيري لرثاء المتنبي على الوجه الذي أوردته ليس (تأويل نحاة) ولكنه ذوق أديب وفن بصير وحديث تاريخ، فعد إلى دارسي المتنبي إن شئت لتفهم، واقرأ ما كتبه الجارم في (الشاعر الطموح) عن هذا الموقف بالذات لتعرف معنى الرثاء هنا على وجهه الذي أريد به
لقد فر المتنبي إلى مصر، والفار يركب الصعب من الأمور، وقد حسب المتنبي كافورا قبل
أن يراه أشياء فلما رآه لم يجد شيئا، ولكنه أصبح في حماه وتحت سلطانه، فلير حسنا ما ليس بالحسن، وليمدح العبد المخصي الذي لا تعاب ذات عبوديته، ولكن يعاب تمليكه وهو عبد بين أحرار، وليسخر به كما يسخر الناس قائلين (يا مولانا الأستاذ). . يا سيدنا المدير، يا ولي نعمتنا، ولعنة الله على زمان يتولي السيادة فيه العبيد. . وشاهين يتخذ من مدح المتنبي لكافور شواهد على عظمة كاوفر، فما رأيه في أهاجيه التي خسف بها كافوراً إلى أسفل سافلين؟. . ما رأيه في هذه الأهاجي التي جعلت العبد المخصى أضحوكة في كل فم؟. . وهل بعد قول المتنبي هازئا:(لقد كنت ارجو أن أراك فاطرب)؟. . وماذا يقول الإنسان عن (الأضحوكة) من الناس أو الحيوان غير هذا يا شيخ؟. . . وهلا أدركت ملغ سخرية المتنبي في قوله لكافور:
عدوك مذموم بكل لسان
…
ولو كان من أعدائك القمران
نعم ولو كان (القمران) من أعداء كافور لوصفا بالذم؟ وممن؟. . من كان لسان. . بإسلام بإسلام!. . أبعد هذه سخرية؟
وسقط الشيخ سقطته حين توهم أن المتنبي أطال المديح في شبيب بعد قتله لبري الناس أن كافورا كان ينازل خصما قويا وأنه كان أقوى به فتغلب عليه وقهره. . إنما يصح هذا في الأذهان يا فلان لو كان كافور نازل شبيبا في معركة، أو صاله مصاولة الأنداد، ولكن لعلك لا تعرف أن كافورا قضى عليه بأسلوب الخسة واللؤم، فدس عليه من سمه، وتلك خطة الجبناء، وذلك حيث يقول المتنبي:
وقد قتل الأعداء حتى قتلته
…
بأضعف قرن في أذل مكان
وأرجو أن تتمهل حتى تدرك مبلغ التعريض بكافور في قول المتنبي عن شبيب:
وما كان إلا النار في كل موضع
…
تثير غبارا في مكان دخان
فنال حياة يشتهيها عدوه
…
وموتا يشهي الموت كل جبان
إن التعبير ينطق صارخاً: يا كافور، أيها الجبان، إنك لن تنال شرف الميتة التي متها عدوك، فأين أنت منه يا عدو البطل الراحل؟
ويصف الشيخ شاعر العربية المتنبي بأنه (مداح فقط) وما أثقل كلمة (فقط) هذه. . فأين حكمة المتنبي إذن، وأين خبرته بالنفوس، وأين تصويره للطبائع البشرية، وأين أحكامه
الدقيقة العميقة على الحياة والأحياء؟. . وثالثة الأثافي أن يصف المتنبي بأنه (ضيق الباع)!. . ما شاء الله!. . رحم الله المتنبي يوم جلجل بصوته فردد أبياته التي اختتمها بقوله:
فيا موت زر، إن الحياة ذميمة
…
ويا نفس جدي إن دهرك هازل!
أما بعد، فللنقد أصوله وقواعده، إذا توافرت فيه وجب الخضوع له والرجوع إليه، وإذا عدمها كان تطاولا أو جهلا؛ ولست أدري مبلغ القواعد التي استند إليها أو نهض عليها نقد الكاتب الصديق. بعد ما قدمت من حديث وقل سلام!
أحمد الشرباصي
رسالة الشعر
شعلة المجد
مرثية فقيد الوطن المرحوم الدكتور عزيز فهمي
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
خل العزاء فما يفيد عزاء
…
ساد الظلام وغامت الأضواء
الشعلة انطفأت، وكان وراءها
…
للمدلجين الحائرين رجاء
خل العزاء ودع لدمعك سيله
…
متدفقا، فهنا يطيب بكاء
خل العزاء فلست تملك منطقا
…
متماسكا إن هبت النكباء
الشعلة انطفأت، وأية شعلة
…
كانت؟ تبارك نورها الوضاء!
صك النعي مسامعي فأحالني
…
شبحا تطير بلبه الأنباء
مات العزيز، فمات جيل كامل
…
للمجد تتبع خطوه العلياء
لهفي على الآمال يصدع ركنها
…
قدر، ويهدم أسهن قضاء
يا راقداً في حفرة محصورة!
…
كانت تضيق بروك الأرجاء
أي المواهب فيك أبكي إنها
…
يعيا بحصر كمالها الإحصاء!
الشاعر الحي الشعور، نشيده
…
من قلبه ذوب ومن إيمانه الإيحاء
والكاتب العذب البيان ترسلا
…
يزهو بسحر بيانه الإنشاء
والمدرة الطلق اللسان مدافعا
…
لا الجاه غابته ولا الإثراء
والنائب الحر العقيدة هاتفا
…
بالحق لا ضعف ولا استخذاء
تخذ الصراحة مبدأ وعقيدة
…
لم توحها حزبية عمياء
وطنية تسمو على أمثالها
…
ويكل عن إدراكها القرناء
ومجاهد ثبت الفؤاد مكافح
…
لم يثنه سجن ولا إيذاء
لهفي على تلك الخلال تضيعها
…
في لحظة سيارة وعناء!
عوجلت والوطن الحزين بحاجة
…
لمواهب لم تذكها الأهواء
شقت عليك جيوبهن حرائر
…
وبكي لهول النكبة البؤساء
كم أدمع كفكفتها، ومصائب
…
واسيتها! والنبل فيك ثراء
تسعى إلى الخير العميم مطأطئا
…
هاماً، فلا زهو ولا استعلاء
كنت الشباب مجملا برزانة
…
والمكرمات يزينهن حياء
كنت الإخاء التبر أصفى جوهرا
…
وأعز ما صدق الوفاء إخاء
حلو اللقاء سجية وطبيعة
…
ما في خلالك صنعة ورياء
أدب كمؤتلق الضياء عرفته
…
وشمائل علوية سمحاء
وإذا دعتك الحادثات تلقفت
…
يدك الدعاء، فلا يخيب دعاء
متقدما للموت لا متهيباً
…
والموت عندك صنعوه الإبطاء
ما زلت تسبقه إلى حوماته
…
حتى طغت في الغفلة الهوجاء
فذهبت يا زين الشباب رواية
…
للناس أروع ما روى الندماء
كانت حياتك نفحة علوية
…
حسدت على النعمي بها الغبراء
ما طال عمرك في الحياة وإنما
…
طال التحدث عنك والإصغاء
أو بعد أن لجت بنا الظلماء
…
واستبهمت في الظلمة والحيناء
وتحطمت في الصخر كل سفينة
…
وتناثرت في اللجة الأشلاء
وتألب الموج الغضوب فلا ترى
…
إلا جبالا ساقها الدأماء
لا الشط وضاح المعالم مشرق
…
أبداً، ولا تتكشف الأنواء
نجد العزاء! ونحن أعجب صورة
…
لا نحن أموات ولا أحياء
الشعلة انطفأت، وأية شعلة
…
تهب الضياء، وما هلا أكفاء!
خل العزاء فنحن في هول طغى!
…
في كل أفق محنة وبلاء
نشكو الصبابة في هوى أوطاننا
…
وقلوبنا عصفت بها البغضاء!
متنابذين وحولنا أشد الشرى
…
قد حددت أنيابها الزرقاء!
متغافلين عن الخطوب وقد سعت
…
أشباحها الجنية السوداء!
سبعون عاما لم يعظنا هولها
…
أبداً، ولم يتنبه الحكماء
نحن الأسارى في القيود نظنها
…
حليا فتأخذنا بها الخيلاء
ماذا كسبنا بعد طول جهادنا؟
…
الكسب غرم، والجهاد هباء!
حرية الوادي رواية ساخر
…
كل الفصول شبيهة وسواء!
يا مصر حظك في الرجال مرزأ
…
لا كانت الأدواء والأرزاء
أو كلما قدمت خطوة ظافر
…
عادت تقهقر خطوك الشحناء!
أو كلما استكملت عدة مؤمن
…
بالحق قص جناحك الأعداء!
يا مصر حظك عاثر، وعثاره
…
أن ينطوي أبناؤك الأمناء
كان (العزيز) بطوله مذخورة
…
لغد، فمات به غد ورجاء
قل النظير له وما أقصى المدى
…
حتى يلوح مع الغد النظراء!
يا أمتي! يا أمة الألم الذي
…
بلغ المدى، لا مسك الضراء!
منذ اختلفنا في الجهاد طوائفا
…
ما ضمنا في وحدة زعماء
حتى فقدت عزيزك الحر الهوى
…
فتوحدت في النكبة الأنباء
يبكونه بدم القلوب موسداً
…
نعيت به الحرية الشماء
كان الإباء مجسدا في رقة
…
فثوي مع الخلق الرقيق إباء
كان الكفاح مبرأ ومنزلها
…
فمضى المكافح والضمير براء
للحق عاش، وفي سبيل قيامه
…
مات المنافح عنه وهو فداء!
أأبا شهيد الحق إن فجيعة
…
نزلت بساحك خطبها مشاء
في كل عين دمعة مهراقة
…
وبكل قلب لوعة ورثاء
طوت المنون ذخيرة أعددتها
…
لم يرحم القلب اللهيف قضاء
للمجد أنت نذرته ووهبته
…
والنذر عند الله فيه جزاء
والمجد جسر متاعب رقدت على
…
جنباته الرواد والشهداء
أنجبت للوطن الكريم فتى له
…
في المكرمات صحائف غراء
ورث الشجاعة عنك وهي عزيزة
…
في الناس حين تجابه الآراء
ورث النزاهة عنك وهي يتيمة
…
في الناس حين تفاضل الأسماء
يا باكيا من قلبه ذهب الأسى
…
بالناس حين أصابك البأساء
قلبي يذوب أسى على الطود الذي
…
هزت قواعد بأسه اللأواء
ترنو إلى الأفق البعيد وقد خبا
…
في الأفق هذا الكوكب اللألاء
وتجيب زفرتك الحزينة أمة
…
محزونة فتعيدها الأصداء
حسن كامل الصيرفي
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
حول محنة الأدب:
أثار الدكتور طه حسين باشا في (الأهرام) موضوع الركود الذي اعترى حياتنا الأدبية في السنوات الأخيرة، وذكر لهذا الركود ثلاث أسباب قال أنه يقصر الكلام عليها وإن كان هناك غيرها، أولها الظروف السياسية وما تأتي به من فرض الرقابة على النشر، وقد استغرقت هذه الرقابة أكثر من خمس عشرة سنة في أقل من ربع قرن، والحرية قوام الحياة الأدبية الخصبة فإذا ذهبت أجدب الأدب وعقم التفكير
أما السبب الثاني فيسأل عنه الأدباء والشيوخ أنفسهم ويسأل عنه الناشرون معهم، فكثير من الشباب يكتبون فلا يجدون قبولا من الناشرين ولا تشجيعا من شيوخ الأدب
وأما السبب الثالث فهو ضعف التعليم الأدبي في مصر، فالأدب يدرس في المدارس والمعاهد والجامعات على نحو يحزن أكثر مما يسر، وإنتاج الأساتذة ضعيف، والمتخرجون في أقسام اللغة العربية بالجامعات لا يعرف بعضهم كيف يبحثون في كتاب الأغاني لأنهم لم يسمعوا بفهرست الأغاني الذي وضعه جويدي
وعندي أن أهم الأسباب في محنة الأدب هذه الطبقة من رؤساء التحرير البعداء عن الأدب، فقد كان يشرف على تحرير الصحف في الأيام التي ترحم عليها العميد إذ كانت تتنافس فيها الصحف أيها يكون أشد عناية بالأدب - كان يشرف عليها أدباء أمثال أنطون الجميل وعبد القادر حمزة وحافظ عوض وأمين الرافعي، ثم خلف من بعدهم (شعيط ومعيط و. . .) ممن حرموا نعمة الطبع الأدبي وبعدوا كل البعد عن الثقافة الأدبية
وزعم هؤلاء أن القراء لا يريدون أدبا. . لأنهم أنفسهم لا يريدون أدبا. . والقراء مظلومون، ففيهم الأدباء والمتأدبون ومن يحبون القراءة الأدبية ولو لم يكونوا أدباء ولا متأدبين
وتقدم إلى أولئك المشرفين على الصحف صنف من الشباب الأدعياء ببضاعة أقلها تافه، وأكثرها قشور منزوعة من الآداب الأجنبية مع معالجتها بالتحوير والتشويه. . وهم يختارون لها العناوين المثيرة والصور المغرية، ويتقبل رؤساء التحرير هذه البضاعة
ليجتذبوا بها القراء
وهم في ذلك كمنتجي الأفلام والقصص التي يقدمونها، بعضها كلام فارغ يؤلف هنا، وكثير منها ممسوخ مما هناك. والمنتجون كرؤساء التحرير يبهر البريق أبصارهم، وليس لهم بصائر ينفذون بها إلى جوهر الأدب والفن
ووراء كل ذلك أدب أصيل وملكات كامنة أشار إليها عميدنا في مقاله الثاني إذ استدل بما كتب الكاتبون تعقيبا على مقال الأول على أن في أدبنا حياة كامنة تريد أن تظهر وخصبا مستترا يريد أن يملأ الجو العقلي سعة ورخاء، مستشهدا بقول ابن الرومي:
وكمين الحريق في العود مخفي
…
وكمين الرحيق في العنقود
ولا يحتاج ذلك الأدب المستتر إلا إلى من يبرزه ويثيب عليه وينظم العلاقات بين أصحابه وبين طلابه من القراء
(كتاب فن الأدب):
المؤلفات التي تتناول دراسة فن الأدب تستمد أصولها وقواعدها من أدبنا العربي الموروث في منثوره ومنظومه، وتتحدث عن بلاغته بما رسمه الجاحظ وعبد القاهر
فأما أدبنا الحديث، أدب القصة والمقالة وخطرات النفس في استجابتها للحياة، فما زلنا نستمد أصوله ونتعرف ملامحه فيما كتبه أدباء الغرب ونقاده، إذ نحن نقتبس تلك الألوان الأدبية من الفكر الغربي في نهضتنا الحاضرة، ونعالج تجربتها وتمثيلها في طابعنا الشرقي وأدبنا العربي
وقد تجلت تلك التجربة وذلك التمثيل في بضعة كتب ظهرت من قبل، منها (أصول الأدب) و (دفاع عن البلاغة) للأستاذ أحمد حسن الزيات بك، و (فن القصص) للأستاذ محمود تيمور بك، و (النقد الأدبي) للأستاذ سيد قطب، ولعل هذه الأربعة هي المؤلفات التي يعتد بها في هذا المجال، فما أعرف كذلك غيرها
وهذا هو الأستاذ توفيق الحكيم بك يخرج لنا اليوم كتاب (فن الأدب) حافلا بالآراء والأفكار والاتجاهات التي تصور لنا معالم فن الأدب، أو الأدب الفني، بوحي مزاولته الخاصة، وبطابعه الخاص
في هذا الكتاب أكثر من سبعين فصلا في اثني عشر بابا، مثل باب الأدب والفن، والأدب
والدين، والأدب والمسرح، والأدب والصحافة، وهكذا إلى آخر الأبواب، ولعل المتتبعين بما يجري به قلم الحكيم يعرفون أن كثيرا من هذه الفصول سبق نشره، على أنها في هذا الكتاب الحافل ملتئمة الشمل، مستكملة الجوانب، منسقة تنسيق طاقات الأزاهير
وقد أجمل المؤلف رأيه في الفن والأدب، في تلك الكلمة التي صدر به كتابه إذ يقول:(الأدب هو الكاشف الحافظ للقيم الثابتة في الإنسان والأمة، الحامل الناقل لمفاتيح الوعي في شخصية الأمة والإنسان، تلك الشخصية التي تتصل فيها حلقات الماضي والحاضر والمستقبل. والفن هو المطية الحية القوية التي تحمل الأدب خلال الزمان والمكان. والأدب بغير فن رسول بغير جواد في رحلة الخلود، والفن بغير أدب مطية سائبة بغير حمل ولا هدف. ولقد كان همي دائما محاولة الجمع بين الرسول وجواده. ولقد رأيت دائما الأدب مع الفن، والفن مع الأدب، لهذا سميت هذا الكتاب: فن الأدب)
وهذا الكتاب يجلو لنا شخصية الأستاذ (توفيق الحكيم) وانعكاس نظرته على الأدب والفن، ولكن الميزة الكبرى فيه أن هذه الشخصية تعبير رائع عن روح شرقية صميمة في نظرتها إلى مشكلات الحياة وقضايا الفن والأدب. وهو بهذه الميزة يرتفع عن أن يكون تكراراً أو اقتباساً لتلك الدراسات الأدبية المقررة بين الكتاب والنقاد الغربيين وغير الغربيين. وكثير من فصول هذا الكتاب لو ترجم إلى أية لغة أجنبية لبقيت له طرافته وجدته، ولبقيت له دلالته على شخصية صاحبه (الحكيم) الأديب الشرقي الفنان
وقد حوى الكتاب - على ما فيه من جد كثير - فصولا هي إلى التفكيه والترفيه أقرب، ولكنها تطوي الحكمة والعبرة، ومن أجمل هذه الفصول ذاك الفصل الذي تمثل فيه الأستاذ (الحكيم) أن (شكسبير) ظهر في (مصر) اليوم، مصريا، لغته العربية، وتراثه الأدبي العربي، ثم أخذ يفرش طريقه بالعوائق والمثبطات التي تعترض طريق الكاتب المصري العربي الآن، وختم ذلك الخيال اللطيف بقوله:(حقا لو ظهر (شكسبير) اليوم لكان فكره تبلبل، وعقله تحير، ولكان عمله أعسر، وواجبه أكبر، وعقباته أضخم، ومجهوداته أضنى. من حسن حظه أنه ولد في (إنجلترا) في القرن السابع عشر. . .)
عباس خضر
البريد الأدبي
1 -
البيتان للمتنبي
كنت أطالع كتاب (نديم الخلفاء) عن حياة الحسين ابن الضحاك لمؤلفه الأستاذ عبد الستار أحمد فراج فلفت نظري في الصفحة 117 هذا البيتان اللذان نسبهما المؤلف للخليع
بأبي من وودته فافترقنا
…
وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
فافترقنا حولا فلما التقينا
…
كان تسليمه على وداعا
فقد جاء في الصفحة (279) من الجزء الثاني من التبيان شرح ديوان أبي الطيب المتنبي لأبي البقاء العكبري أنهما للمتنبي وقد قالهما ارتجالا في صباه. .
وكذلك ورد في جميع دواوين المتنبي
فما هو قول الأستاذ فراج ومن أي المصادر استقى نسبة البيتين للخليع؟ هذا ما أرجو أن يشير إليه، ولا يفوتني أن أقدم يدي للأستاذ أهنئه على كتابه الممتع الطريف وبحثه الحلو الجديد مع إعجابي وتحياتي
2 -
الموشح لابن الخطيب
نسب الأستاذ عمر الدسوقي الأستاذ بكلية دار العلوم في الصفحة (44) من الجزء الأول من كتابه (في الأدب الحديث) الطبعة الثانية الأبيات التالية من الموشح المشهور
جادك الغيث إذا الغيث هما
…
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
…
بالكرى أو خلسة المختلس
لابن سهل الإشبيلي عند كلامه عن المعلم بطرس كرامة وشعره، والحقيقة أن البيتين المذكورين هما من موشح للوزير (أبو عبد الله بن الخطيب) قاله معارضة لموشحة ابن سهل الأندلسي ومطلعها
هل دري ظبي الحمي أن قد حمى
…
قلب صب حله عن مكنس
فهو في حر، وخفق مثلما
…
لعبت ريح الصبا بالقبس
والموشحتان موجودتان بكاملهما في ديوان ابن سهل المطبوع في مصر سنة 1928 هذا ما لفت نظري وأحببت أن أذكر به الأستاذ وفقد الله في جمال العلم والتأليف
3 -
إلى الأستاذ كامل كبلاني
قرأت أمس مقالك القيم المنشور في الصفحة (1149) من مجلة (الهلال) في العدد الخامس الذي أصدرته عن (أبي نواس) وقد جاء في مقالك (بين شوقي وأبي نواس) ما يلي:
(قالوا: إن أمير مصر، أعجب بمعارضة شوقي للبوصيري في قصيدته التي أسماها (طراز البردة) بمناسبة حج الأمير إلى الأقطار الحجازية
وقد مر الأمير على دار شاعره - بعد عودته من الحج - فأعطب بما رآه من بديع الزينة التي افتن فيها شوقي ليظن احتفاءه بعودة سيده فقال الأمير:
(يا شوقي لقد أعجبتني قصيدتك، كما أعجبتني زينتك)
فقال شوقي الأبيات التالية
زين الملوك الصيد مر ببابي
…
كرما، وباب الله طاف ببابي
يا ليلة القدر التي بلغتها
…
ما فيك بعد اليوم من مرتاب
ما كنت أهلا للنوال وإنما
…
نفحات أحمد فوق كل حساب
لما بلغت السؤل ليلة مدحه
…
بعث الملوك يعظمون جنابي
بدران: بدر في السماء منور
…
وأخوه فوق الأرض نور رحابي
ثم
هذا أين هاني نال ما قد نلت من
…
حسب تدل به على الأحساب
قد كان يسعى للرشيد ببابه
…
فسعى الرشيد إليه وهو ببابي
هذه الأبيات فقط هي التي ذكرتها من الشوقية الخالدة. . فهل لك يا سيدي وأنت المعجب بأميرنا الخالد أن تزف إلى عشاق شعره القصيدة بأكملها. . نحن ننتظر منك هذا الأثر القيم على صفحات الرسالة الزاهرة. . فهل نحن بالغون ما نريد
عبد القادر رشيد الناصري
التسول أمام بيوت الله
إن الذي لا ريب فيه أن التسول في مصر قد اصبح حرفة من الحرف الثابتة الدعائم، ومهنة من المهن التي لها قدرها وخطرها، فلا تكاد تسير في شارع من الشوارع، أو تخطو في ميدان من الميادين، أو تضع قدمك في مركبة من المركبات العامة حتى يفاجئك سيل لا
ينقطع من المستولين والمتسولات، كل يدعي الحاجة أو يتصنع البؤس أو يزعم الفاقة
ولو أن قطعان التسول قد اقتصر نشاطها على الشوارع والميادين والمركبات العامة إذا لهان الأمر، ولكن هذه القطعان تأبى أن ترحم بيوت الله من بلائها، وقصر على أن تزاحم المصلين بمناكبها دون أن تتفضل لو بذرة واحدة من الحياء والخجل. .
إننا حين نمر بمسجد كمسجد الحسين أو مسجد السيد زينب أو مسجد الإمام الشافعي بالقاهرة مثلا، وحين نمر بمسجد أبي العباس والأباصيري بالإسكندرية، وغير هذه المساجد في المدن الكبرى، لابد أن تقع أعيننا على قطعان التسول وقد اتخذت عتبات هذه المساجد أوكارا تنفث منها سمومها على المصلين في كل وقت من ليل ونهار
وكأن المسئولين في مصر لا يكادون يفهمون أن هناك أجانب يزورون مصر؛ ويقصدون المساجد الكبيرة بالذات، ويعودون إلى بلادهم، وفي مخيلتهم صورة فظيعة لفوضى التسول في مصر، وإلا فلم يغضون الطرف عن هذه الوصمة التي تلطخ جبين الوطن بالعار! إننا نرى هذه المناظر المنكرة فنتميز من الغيظ، وتمتزج في صدورنا الآلام والحسرات، ولكنا لا نستطيع أن نفعل شيئا لأننا لا نملك من الأمر شيئا
إذا كان ولاة الأمور يعجزون عن أن يطهروا مصر بأسرها من وصمة التسول، فلا أقل من أن يصونوا بيوت الله منها ليحفظوا عليها جلالها ووقارها!
رمل الإسكندرية
نفسية عبد اللطيف الشيخ
عبيد الناس
بات كثير من الناس يخشون بعضهم كخشية الله أو أشد خشية، ويحرصون على إرضائهم وطاعتهم أكثر من حرصهم على إرضاء الله وطاعته. . ممال زعزع إيمانهم، وأوهن عقائدهم، فاعتقدوا أن مصيرهم مرتبط بمصير هؤلاء الذين يخشون. . وأن حياتهم رهن إرادتهم، إن شاءوا أسعدوهم ورفعوا درجاتهم، وإن شاءوا نبذوهم فطردوا من جنة الخلد التي يوعدون!. .
ما زال بيننا الكثيرون من عبدة الأصنام. . وأعتقد أنني أسيء إلى عبدة الأصنام إذا شبهت
هؤلاء المارقين بهم. . يؤلهون الأشخاص، ويكادون يعبدونها من دون الله، ويخرون لها سجدا!. .
نسو الله فنسيهم، وأنساهم أنفسهم، ونضب معين التقوى من قلوبهم، وزلزل الخوف أوصالهم، يمشون في ركاب ذوي الجاه، يوقفون كل جوارحهم على طاعتهم، يزينون لهم القبيح ويقبحون لهم الطيب، مردوا على النفاق، تعرفهم بسيماهم، وبأساليبهم، يخادعون الله ويخادعون الناس، ويحسبون أنهم مهتدون!. .
يعبدون الله على حرف، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم، إذ يبيتون ما لا يرضى من القول، ولو أنهم خشوا ربهم كخشيتهم أنفسهم لاستقامت أمورهم، وانصلح حالهم، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم!.
عجباً لهم، أيخشون الناس والله أحق أن يخشوه!. .
أين هم من الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً، وقالوا حسبنا الله ونعم والوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل، لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم. . .
عيسى متولي
بنك مصر القاهرة
القصص
خمسة أعوام في عذاب
عن الإنكليزية
ليس في وسع إنسان مهما يكن شعوره بالفضل وبالترفع أن يفاخر بأنه
لا يعبأ بالمغريات وبدوافع الشر أو بأنه يحتقرها. فالإنسان لا يعرف
كم تتغير نفسه تحت أحكام المؤثرات
وإني لأروي على سبيل الاستشهاد على صدق هذه النظرية القضية الآتية التي سمعتها من أحد رجال البوليس السري في لوندرا
ماتت زوجة تاجر غني لم يكن له إلا ولد واحد، فتزوج من أرملة في منتصف العمر. وكان ابنه شابا فلم يرض عن هذه الزوجة. وكان يشتغل في غير المدينة التي فيها أبوه، فامتنع عن مراسلته بعد هذا الزواج. ولكن الأب كان راضيا بهذا الثمن، وهو غضب ابنه في مقابل تلذذه هو واستمتاعه مدة العام الذي بدأ بالزواج وانتهى بوفاته
ولأسباب لم تظهر قط كان الجزء الأخير من هذا العام كله ريبة وسوء ظن ودسائس في هذا البيت، لأن الخدم الثلاث كن يرتبن في مقاصد الزوجة. وكانت أقدمهن وقد قضت في خدمة المنزل بضعة أعوام تعد نفسها في موضع الجاسوس على أعمال الزوجة. وقد كانت تنصت فسمعت زوجها يتوعدها عدة مرات بأن يغير الوصية بحذف منها اسمها بتاتا. فكانت تجيبه بأنها تجد الفقر أخف عبئا من معاشرته على وفرة غناه
وكانت تلك الخادم تستدعي زميلتيها ليسمع ثلاثتهن مثل هذا الوعيد. وقد فهمن جميعا علة الخلاف بين الزوجين. فلما مات الرجل انتظرن أن تكشف الوصية لهن عن جلية أمر الخلاف
وقد كانت دهشتهن عظيمة عندما جاء المحقق وتبين أن الوصية تحرم ابنه من الميراث وتعطي الزوجة ألفي جنيه في كل عام وهي كل إيراده طول حياتها
وكان من الطبيعي أن تشعر الزوجة بالراحة والاطمئنان عند ما صارت مالكة لهذا الإيراد. وزالت الحزازة التي كانت تشعر بها أيام حياته. وبعد يومين من الوفاة جلست أمام مكتبها
تكتب الردود على التعازي. . وقد فرغت سريعا من هذا الواجب ثم أخذت تقلب أوراق زوجها وهي لا تزال مبتسمة. ولكنها لم تكد تقرأ اثني عشر سطراً حتى قطبت جبينها وعرتها دهشة، لأن الذي كانت تقرؤه إنما هو النص الأخير لوصية زوجها؛ وهو يحرمها كل شيء ويهب تركته كلها لابنه. وكان تاريخ هذا النص قبل أسبوع واحد من الوفاة، وعلى والوصية توقيعات شهود من الأحياء. فجلست تفكر فيما سيؤول إليه أمرها لأن البقية الباقية من ذلك العمر ستكون حياة فقر مدقع. ولذلك كان الإغراء الذي تجد نفسها تحت تأثيره قويا جدا، فهو ليس بين الشرف وبين انعدامه، ولكن بين الغنى وبين الفقر. وكان عمرها إذ ذاك خمسين عاما وهي لا تستطيع التكسب بوجه من الوجوه. ورأت أنه إذا لم يكن أحد ليذيع أمر هذه الوصية فلماذا لا تلزم الصمت؟
وحملت الوصية في يدها ومشت إلى الموقد ولكنها وجدته خالياً. وكانت من قبل ذاهلة عن ذلك وعن أن الليل كان قد انتصف. وكادت تمزق الوصية ولكن الخادمة في هذه اللحظة دخلت ووقفت واجمة فسألتها: (ماذا تريدين؟)
ابتسمت الخادمة ولم تجبها فقالت: (ما الذي تعنين؟)
فحاولت المرأة أن تضحك ولكنها لم تستطع. وقبل أن تتحرك أية حركة كانت الخادمة قد اختطفت من يدها الورقة التي ستتركها في فقر مدقع فصرخت تلك صرخة يأس، وحاولت أن تسترد الوصية
وعلى الرغم من التفاوت في السن فإن الخادمة كانت أقوى المرأتين فاستطاعت التغلب على سيدتها. وتلت الوصية في هدأة ثم قالت بعد الفراغ من ذلك: (لقد فهمت الآن)
قالت الأرملة: (لقد وجدت هذه الورقة منذ دقيقة فقط وأردت أن. . .) فقالت الخادمة مقاطعة: (أردت أن تحرقيها لو كان في الموقد نار)
ثم مضت فترة صمت قالت بعدها الخادم: (من حسن حظك أن أكره المستر وليم ابن سيدي المرحوم، فإذا سلكت مسلكا حكيما فإنه لن يعلم أحد بأمر هذه الوصية)
سمعت المرأة هذه الكلمات فأثلجت صدرها لأنها كانت شديدة الخوف من الفقر، فاستدعت الخادمة وأجلستها بجانبها وعرضت عليها اقتسام الثروة بينهما وأن تدفع لها ألف جنيه مقدما
فلما تم الاتفاق على ذلك قالت الأرملة: (والوصية؟ هل تمزقينها) فقالت الخادمة: (كلا بل ستبقى معي إلى الأبد)
ورأت الأرملة أن خادمتها لا تقبل المناقشة في الأمر فأذعنت. ومن ذلك اليوم أصبحت الخادمة هي السيدة الحقيقة في المنزل فبدأت بطرد سائر الخدم واختارت آخرين؛ وكان ثاني عمل أتته أن أحضرت ابنها إلى المنزل وأطلقت عليه لقب السكرتير لتلك الأرملة فكان يلازمها في الصباح وفي المساء
صارت الحياة مؤلمة في نظر السيدة لأنها أصبحت تشعر بعد إخفاء الوصية بأنها ارتكبت جريمة منكرة وبأنها باتفاقها مع الخادم قد وضعت نفسها في مركز ذليل، ولكنها احتملت حالتها خمسة أعوام في صمت؛ وفي بدء العام السادس ذهب الخدم ليقدموا الشاي إلى كبيرتهم التي يعرفونها أنها السيدة الحقيقية فعادوا يصرخون ويعلنون أنها ماتت
وظنت الأرملة أن الحظ عاد إلى الابتسام؛ ولكن سرعان ما أخفق أملها لما أمرت ابن تلك الخادم بأن يترك خدمتها فتنكر لها وهددها بإظهار الوصية
ولما رأت أن حالة الذل ستبقى كما هي بل ستزداد لأن خضوعها لهذا الرجل سيكون أشد إيلاما لنفسها من خضوعها لأمه - لما رأت ذلك ملكها اليأس وذهبت إلى إدارة البوليس، ولكن جهلها بالقانون جعل رجل البوليس يضحك منها لأن الوصية التي تخشى شرها قد بطل مفعولها بعد وفاة ابن زوجها عن غير وارث وأصبحت هي من تاريخ الوفاة مالكة للتركة
كانت إذن في الأعوام الثلاثة الأخيرة تقبل الذل خشية من ظهور وصية تجعلها هي المنفردة بمال
ع. أ