المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 990 - بتاريخ: 23 - 06 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ٩٩٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 990

- بتاريخ: 23 - 06 - 1952

ص: -1

‌البعث الديني في الغرب

للدكتور عمر حليق

يتساءل الدكتور (راينهولد نايبور)، أحد أقطاب اللاهوت البروتستنتي في أمريكا، عما إذا كان المجتمع الغربي يمر الآن في بعث ديني كفيل بأن يتسرب إلى صميم السلوك السياسي والاقتصادي للشعوب المسيحية في الغرب، فيضع حدا لهذه الأخطاء الشنيعة التي تشوب سلوك الإنسانية، وتدون صحف التاريخ بأحرف النار والدمار.

وجواب هذا القطب البروتستنتي عن القسم الأول من هذا التساؤل، أن هناك اتجاهات واضحة في الإنتاج الفكري، وفي السلوك اليومي للشعوب الغربية، تدل بوضوح على أن هناك بعثا دينيا تزداد مظاهر جلاء يوما بعد يوم. ولكن صاحبنا يعترف بأن من الصعب عليه - وعلى أي كان من المراقبين المعاصرين لحاضر السلوك الديني في أمريكا وأوربا الغربية - أن يقدم البراهين القاطعة على هذا البعث الديني، براهين تستند إلى حركة جديدة ثابتة الأركان كتلك التي سجلها عن حركات البعث الديني، وحدد أزمانها ومعالمها وأقطابها وأهدافها ومبادئها. ويعترف هذا الزعيم البروتستانتي كذلك بأنه قد يكون مخطئا في تفسير لمظاهر هذا البعث الديني الجديد. فقد تكون هذه المظاهر ليست إلا سحابة صيف عابرة، لا تستطيع أن تحيي موات الأرض.

وقد عالج الدكتور نايبور هذه الناحية في حاضر الثقافة المسيحية في بحوث عديدة منها كتابه (الإيمان والتاريخ وفصول وكتب أخرى تدرس في أكبر معاهد الديانة البروتستانتية في أمريكا.

ويستشهد هذا العالم البروتستانتي للدلالة على أن الغرب يمر في فترة إحياء ديني بأمرين:

أولهما نجاح نفر من الوعاظ المسيحيين في أمريكا وبريطانيا برد الآلاف من الرعية إلى حظيرة الكنيسة، كما تدل على ذلك إحصاءات الهيئات الكنسية.

ثانيهما هذه الظاهرة القوية التي أخذت في السنوات الأخيرة تتسرب إلى الإنتاج الأدبي والفني في أوربا وأمريكا، ظاهرة تجد الخلاص في مشاكل النفس وأزمات الضمير في الإيمان والرجعة إلى الدين. ويشترك في هذه الرجعة نفي من الكتاب والشعراء في ثنايا المنظوم والمنثور من إنتاجهم الأدبي.

ص: 1

وبعض هؤلاء الأدباء والمفكرين يدعو إلى الرجعة إلى الإيمان بأوسع معانيه، مسيحيا كان أم بوذيا أم كنفوشيا، وتتخذ هذه الرجعة إلى الدين لونا من التصوف العميق كما هو الحال عند الأديب البريطاني الشهير (آلدوس هسكلي) الذي نشأ في بيت خاصم العقيدة الدينية خصومة عنيفة، واشترك جده الأكبر مع (داروين) في مناقشة التفسير الديني بطبيعة الأشياء، وأصول النشوء والارتقاء. ولآلدوس هكسلي كتاب يعالج فلسفة التصوف في الشرق والغرب، في تحبب وإعجاب ولون من الإيمان العميق بها.

وجدير بالذكر أن الاتجاه نحو التوسع في نشر التعليم الديني قد عم معظم الأوساط الجامعية في أميركا الشمالية، كما أشار إلى مؤتمر رؤساء الجامعات الأمريكية، وهيئات الخريجين الذي انعقد مؤخرا في شيكاغو.

فإلى ما قبل سنوات قليلة كان التعليم الديني مقصورا على موضوع أو موضوعين، يعالجان التوراة والإنجيل (العهد القديم والعهد الجديد) من ناحية أدبية بحتة، تتعمد تربية الذوق الأدبي والثروة اللغوية أكثر مما تهدف إلى شرح التعاليم الدينية ودقائقها.

والشعب في أمريكا يتحدث الآن عن ذيول القرار الخطير الذي أصدرته منذ بضعة أسابيع فقط محكمة العدل العليا بواشنطون، وهي أهم مرجع قضائي في الولايات المتحدة الامريكية، وأقرت به الحق لطلبة المدارس الحكومية، الابتدائية والثانوية، في أن يختاروا حصة معينة من جدول الدراسة الأسبوعي، يتلقون خلالها دروساً دينية، كل حسب المذهب الذي ينتمي إليه ويختاره له أبواه أو أولياء أمره. وجدير بالذكر أن التعليم الديني في المدارس الحكومية في أِمريكا، لا وجود له مطلقا. وإذا علمنا أن حوالي 90 % من الطلبة الأمريكان يتلقون علومهم الابتدائية والثانوية في مدارس الدولة أدركنا خطورة هذا الوضع على الحياة الروحية بين الأحداث الأمريكان، والفضل في الإبقاء على الحياة الدينية يرجع إلى نظام (مدارس الأحد) التي أنشأتها الكنائس البروتستانتية، واقتبسته عنها الكاثوليك واليهود، ليتلقن الحدث فيها أمور دينه مرة كل أسبوع على يد القساوسة والحافظين للتعاليم الدينية من رواد الكنيسة وأتباعها.

وهذه القسوة في إبعاد التعليم الديني عن برامج المدارس الحكومية في أوربا الغربية وأمريكا الشمالية، يعود إلى السياسة التي تعمدت فصل الدين عن الدولة، وهي سياسة

ص: 2

اتبعتها بعض الدول المسيحية لتتفادى الصراع الطائفي بين مواطنيها، فالبروتستانت والكاثوليك، يعيشون جنبا إلى جنب في الدول المسيحية، والصراع المذهبي بين الكاثوليكية والبروتستانتية كان ولا يزال على حدته المعهودة، فالبروتستانت تتهم الكاثوليك بالولاء لمركزية الفاتيكان وسلطة البابوية، وهي سلطة يعتقد البروتستانت بأنها تتعارض في بعض الحالات مع المبادئ الديمقراطية وحق الجماعات الدينية، بان تواجه مشاكلها الروحية المختلفة على ضوء الأوضاع والظروف الخاصة التي تتميز بها الجماعات، ولا موجب لأن يتقيد الناس بمركزية الفاتيكان وهي مركزية يعتقد البروتستانت بأنها صارمة.

وقد كان للنفوذ اليهودي القوي في دخيلة الولايات المتحدة اثر في تقرير الاتجاه بفصل الدين عن الدولة. فالتعاليم المسيحية بروتستانتية كانت أم كاثوليكية، تدين بصلب المسيح، وألوان المشادة والتعذيب والتآمر والتنكيل التي صاحبت نشوء المسيحية بين العبرانيين. وإذا جردت برامج التعليم في المدارس الحكومية من نشر هذه التعاليم المسيحية، أزيلت تدريجيا من أذهان الناشئة حقائق الصراع المذهبي بين المسيحية واليهودية من جهة، وبين الكاثوليك والبروتستانت من جهة أخرى. وقد نجح اليهود في توحيد جهودهم مع البروتستانت في أمريكا وجعلها جهدا مشتركا للوقوف في وجه الفاتيكان. فتم فصل الدين عن الدولة في مظاهر رسمية على الأقل، ومنها التعليم الحكومي. والواقع أن البروتستانت اكثر ميلا إلى التسامح مع اليهود منهم إلى مصافاة الكاثوليك. فالفاتيكان يدرك إدراكا تاما خفايا اليهودية العالمية ومطامعها وأهدافها، ولذلك فهناك صداقة مفقودة بين الفاتيكان وحكماء صهيون.

قلنا أن قرار محكمة العدل الأمريكية الأخير، قد تغلب على مشكلة التعليم الديني في مدارس الدولة، وذلك تلبية لحملة عنيفة شنها أولياء أمور الطلبة، وأشاروا فيها إلى أن خلو برامج التعليم من الدروس الدينية قد خلف أزمات روحية وأخلاقية لم تعد تقوى أساليب التعليم الحديث على معالجتها دون معونة الدين، وهذه الحملة من الأدلة التي يستشهد بها بعض زعماء الدين المسيحيين في معرض إشاراتهم إلى البعث الديني الذي يعتقدون أنه أخذ ينمو في حاضر الغرب.

ومما لا ريب فيه أن الثقافة الدينية تجد في أوربا - باستثناء منطقة النفوذ الشيوعي -

ص: 3

مرتعا أكثر خصوبة، منه في العالم الجديد.

فللكاثوليك جذوع راسخة في ألمانيا وفرنسا، فمدارس الفكر العتيدة التي تمثلها: مجلة فرانكفورتر هافتي في ألمانيا، ويتزعمها في فرنسا جيلون وماريتان، هي من دعائم الفكر الكاثوليكي في حاضر الثقافة الفرنسية خاصة، والأوربية على وجه العموم.

ويراقب الفاتيكان هذا النشاط في إطار العقيدة الكاثوليكية مراقبة دقيقة، فبين رجال الكهنوت في الكنيسة الكاثوليكية - وعلى الأخص في فرقتها المثقفة كجماعة اليسوعيين والبندكتيين - جماعة تفرغوا لحاضر الأدب والفن والفلسفة، وساهموا في دراستها والتعقيب عليها، ووفروا لأنفسهم نفوذا بالغا، ساعدهم على تحقيق ما للفاتيكان من قوة في المواصلات الفكرية الحديثة، في دور النشر والصحف، وهيئات الإذاعة. وحين يلمس الفاتيكان شعوبية في التفكير بين المثقفين الكاثوليك من غير رجال الكهنوت، يلجأ البابا إلى هذه المنشورات البابوية التي تعبر في لغة دقيقة عميقة عن رأي الفاتيكان في شؤون الفكر والبحث العلمي. وقد أصدر البابا في 21 أغسطس عام 1950، واحدا من هذه المنشورات الهامة بعنوان (في الإنسانية) شرح فيه موقف العقيدة الكاثوليكية من البحث العلمي، الذي يعتمد أن يبرز المكتشفات الحديثة في علوم الطبيعة والذرة والفلك والتعليلات الفلسفية، على أساس المقارنة مع التراث الكاثوليكي في هذا النوع من النشاط العقلي. وقال البابا أن الكنيسة الكاثوليكية لا تقف موقفا معاديا للبحث العلمي، فبعض ألوان هذا البحث قد يكون متمما للقيم الدينية والأخلاقية التي تستند إليها الديانة المسيحية. ولكن الذي يخشاه الفاتيكان هو أن يتطور هذا النشاط العقلي، فيتحمس لتشريح العقيدة الدينية بمبضع البحث العلمي، فيفسد على النفوس اطمئنانها. وبعض حقائق هذا الإيمان لا يمكن أن تفسر تفسيرا علميا كما يفسر التفاعل الكيماوي والحركة الميكانيكية، فإذا كان القصد من تسليط أضواء البحث العلمي على العقيدة الدينية ليزداد قبولها بين الناس، فحري بالمتحمسين لهذا القصد أن يتريثوا قبل أن يشكل عليهم الأمر، ويدفعوا إلى الشك والإلحاد. فكما أن لمقدرة الإنسان حدودا وقيودا تجعله في بعض الحالات عاجزا عن تعليل الأسرار العلمية وخفاياها، فإن لمقدرة الفكر على تحليل الإيمان بالعقيدة الدينية، حدود وقيود كذلك. فالتطرف في كلتا الحالتين، يفسد على المرء إيمانه بالعلم وإيمانه بعقيدته الدينية.

ص: 4

هذه الإشارات التي تصدر عن الفاتيكان بين آنة وأخرى هي وليدة دراسة دقيقة للاتجاهات الفكرية في الجماعات التي تؤلف المجتمع الكاثوليكي بأوسع معانيه. وهذه الإرشادات هي بمثابة فتاوى يشترك في وضعها أهل الاختصاص من الكرادلة والمتبحرين في علوم الكنيسة، والعاكفون من كهنوتها على متابعة الأدب والفن والتيارات الثقافية المعاصرة.

وليس للكنيسة البروتستانتية - بسبب تشعب فرقها - مركزية تشابه الفاتيكان. ولذلك فإن تسجيل الاتجاهات الدينية بين البروتستانت يكون بنوع من الدراسات الإحصائية التي يغرم بها الأمريكان، وهم اليوم عماد العالم البروتستانتي. وعلى كل فإن كلتا الطائفتين - البروتستانتية والكاثوليكية - تمر الآن في نوع من البعث الديني، سواء تعرف عليه البروتستانت بطرق الإحصاء، أم سجله الكاثوليك في الفاتيكان بأساليبهم الخاصة.

والمراقب للحياة الدينية في الغرب، لا يصح أن يعتمد في تسجيله لظواهر هذا البعث الديني على أقوال رجال الدين أنفسهم، فهم بحكم حماستهم وعلاقتهم المهنية بالدين، أميل إلى تجسيم الظواهر، منهم إلى معالجتها معالجة إيجابية.

ففي الغرب أناس من غير رجال الدين، يلمسون ظواهر هذا الإحياء الديني، ولكنهم يفسرونها تفسيرا خاصا.

فمنهم من يقول أن الرجعة إلى الكنيسة مبعثها (أزمة الأعصاب) التي تعتري الناس في أوربا وأمريكا، بعد أن أتت الحرب الأخيرة، والحرب الباردة الحالية على البقية الباقية من الاستقرار النفسي، الذي تركتها الحرب العالمية الأولى والأزمة الاقتصادية الخانقة التي حلت بالغرب في فترة ما بين الحربين.

وبعضهم يدعي بان المجتمعات أميل إلى التعلق بلون من الإيمان الديني الثابت حين تداهمها ظروف حادة من الهستريا الشاملة التي تصاحب فترات القلق السياسي والاقتصادي، كهذه الفترة التي تمر بها المجتمعات في أوربا وأمريكا اليوم. فالرجعة إلى الكنيسة - في رأي هؤلاء البعض - مدفوعة بالرغبة في التخلص من المآزق النفسية والمادية التي هيمنت على ملايين الأنفس التي أخذت تكفر بالمبادئ الاقتصادية، بعد أن بليت بشرورها في الحرب الأخيرة وحرب كوريا، فرغبت في أن تتخذ لنفسها مخرجا في اختيار المبادئ الدينية.

ص: 5

ومن الطريف أن طغيان العلم، وما خلفه من آلات الدمار الذري وقنابل الجراثيم، قد وفر لرجال الدين في أوربا وأمريكا فرصة حسنة للدعوة وترويج المبادئ الدينية، فالوعي الباطني للمجتمعات في أوربا وأمريكا يرتجف هلعا من القنابل الذرية، والبحوث والإرشادات للوقاية من ويلات هذه القنابل وملحقاتها لم تبعث في هذا المجتمعات أملا في النجاة والوقاية التامة، وإنما زادت خوفهم خوفا، وحين يتطرق الواعظ الديني في كنيسته - على سبيل المثال - إلى موضوع القنبلة الذرية وأهوالها، ويقول لسامعيه بأن ابن آدم يعبث بآلات علمية، ولا يدري إلا الله مدى شرورها وأهوالها، وان المخترعات الحديثة هي وليدة الصدفة، وليست وليدة العقل البشري الجبار، والدليل على ذلك عجز هذا العقل البشري عن استنباط الوقاية من هذه الشرور العلمية. حين يتحدث الواعظ بمثل هذا المنطق يجد لدى سامعيه آذانا صاغية، وهذه الآذان لا يهمها في أكثر الحالات أن تدرك عظمة الألوهية بقدر ما ترغب في الخلاص من مخاوفها وقلقها. فإذا عجز العلم عن إزالة هذه المخاوف وإبادة هذا القلق، فلا مفر من أن يجد المرء السلوى في القضاء والقدر والعناية الإلهية.

ومن هذه الظاهرة يلمس المراقب للحياة الدينية في الغرب الرغبة بين الأوساط الدينية البروتستانتية والكاثوليكية بإقحام الدين في الحياة السياسية والنشاط الاقتصادي، وهي محاولة لا تعلن صراحة عن رغبتها في إعادة وصل الدين بالدولة، فالفكر الغربي قد وطد في أسسه الجوهرية مبدأ فصل الدين عن الدولة، وإنما ترغب في أن يتسرب التفكير الديني إلى صميم السلوك السياسي والاقتصادي، ليحاول صياغة سياسة الحرب والسلم بلون من الإشعاع الديني، بعد أن سيطرت عليه القوة الماردة، قوة العلم وما خلفه من معاول للحرب والتوسع الاقتصادي.

وبين البروتستانت والكاثوليك خلاف على أساليب الوصول إلى هذا الهدف؛ فالفاتيكان، وان كان راغبا في توطيد السلم والإخاء، والحد من استعمال آلات الدمار الجهنمية التي استنبطها العلم؛ إلا أنه يفضل لو تم هذا السلام بعد القضاء على الشيوعية واقتلاع جذورها، ولو كانت الوسيلة إلى ذلك حربا عالمية جديدة، إلا أن البروتستانت - أو على الأقل طائفة من أبرز زعمائهم - يعتقدون بان الحرب الطاحنة، إذا حلت بهذا العالم فإنها لن تقضي على الشيوعية فقط، بل إنها ستقضي على معالم الحضارة المسيحية الغربية

ص: 6

كذلك؛ ولذلك فبين أقطاب البروتستانت - كجماعة الكويكرز مثلا - من يعتقد بإمكانية العيش لجميع النظم السياسية والاقتصادية المعاصرة، إذا صفت النية، وساد جو العالم لون من الروحانية، والسلوك الديني القويم.

نيويورك

عمر حليق

ص: 7

‌شخصية الشافعي على ضوء علم النفس الحديث

للأستاذ أنور الجندي

يتمثل لي الإمام الشافعي حين أدرس سيرته، عملاقا نحيلا، ضامر الجسد، مقبول الطلعة، على الرغم مما قيل عن ملامحه. . فليست الملامح في الحق هي كل شئ. . وقد تبدو غير متسقة، ولكن يبرز من ورائها (روح) صاحبها غاية في القبول والتقدير عند من يتصل به.

وأرى فيه مظهر الرجل الذي يصفه علم النفس الانطوائي. .، وكل الرجال الذين احتضنوا الأفكار والدعوات والمذاهب، كانوا من هذا الصنف

وقد عرف الشافعي بأنه يحب العزلة أحيانا، ويلجأ إلى الصمت أحيانا، وأنه يمكن لنفسه بذلك من التأمل والدرس والمراجعة وهي عدة الفقيه والداعية.

وأتاح له هذا الجسد النحيل، القدرة على السفر والرحلة واحتمال مشقة الانتقال بين العراق ومكة واليمن ومصر.

ولد في مكة، ورحل إلى المدينة، ثم سافر إلى اليمن، ثم حمل إلى بغداد، ثم عاد إلى مكة. . . وقصد إلى بغداد ثم إلى مصر، حيث أقام فيها بقية حياته. .، وقد أتاحت له هذه الرحلة، وهذا التنقل المتصل، خلال هذه المنطقة التي كانت تعد في ذلك الوقت قلب العالم الإسلامي، فرصة واسعة لدراسة طبائع الناس وأخلاقهم ومعرفة مصالحهم واتجاهاتهم، وفهم الحياة ومشاكلها وقضاياها.

وقد أنضجت الرحلة ذهن الشافعي وتفكيره، وأمدته بقوة سيكولوجية رائعة، وأتاح له ذكاؤه المتقد، وقدرته العقلية الجبارة، مرونة ولباقة جديرين بالتقدير. فهو قد غير مذهبه، الذي وضع أصوله في العراق، حين استقر في مصر، ووضع بدلا منه مذهبه (الجديد) الذي ضمه خلاصة تجاربه وملاحظاته ودراساته خلال تلك الفترة الطويلة التي قضاها متنقلا في الأقطار الإسلامية. .، وكانت تجارب الأئمة والفقهاء الذين التقى بهم، وقرأ لهم، قد تبلورت في نفسه، واستقرت، فاختار منها ما رآه صالحاً مع البيئة الجديدة التي أستقر فيها.

وإذا كان يقال أن أبا حنيفة قد شرع بروح العراق، وان مالكا قد شرع بروح الحجاز، فإن الشافعي قد شرع بروح مصر. ويكاد الشافعي إلى ذلك أن يكون رابطة العقد بين فقهاء عصره، فلقد ولد في العام الذي مات فيه أبو حنيفة، وتلقى العلم على مالك في المدينة،

ص: 8

فبهره بجودة حفظه وألمعية ذكائه،. . ثم كان ابن حنبل من تلاميذه.

وقد التقى حين قدم العراق بأبي يوسف ووكيع، وبذلك يمكن القول أن الشافعي قد أحاط بالفقه الإسلامي في عهده واستوعبه استيعابا كان كفيلا بان يجعله عميد الفقهاء وإمامهم في عصره، فهو الإمام الذي وضع الموازين والمقاييس، وضبط الفقه، بعد أن جادل الفقهاء وانتصر عليهم.

فإذا تركنا الحديث في فقه الشافعي للفقهاء، وذهبنا نتقصى (شخصيته) الإنسانية وجدناها غاية في القوة والسمو والحيوية، وتعدد الجوانب وسعة الأفق، وذلك بالإفاضة إلى ما أثر عنه من براعة وذكاء.

يتحدث الذين عاصروه عنه، أنه كان محببا إلى نفوس عارفيه، وكان إشعاعه ولباقته وحسن حديثه يكسبه حب الناس وثقتهم. . مما كان يزيد عدد أتباعه ومريديه يوما بعد يوم.

وأنه قد توافرت له صفات الداعية، صاحب المذهب، هذه الصفات التي تتمثل فيما أثر عنه من طول أناة وحلم، وابتسام ثغر، وإشراق وجه وبعد عن الغضب، وتواضع وخفض جناح وسلامة صدر، وصفح عمن يسئ إليه. . وبعد عن التعصب، وإملاء الرأي. . فقد كان يعذر مخالفيه في الرأي ويقبل منهم.

ويرجع ذلك إلى الإصابة النفسية التي كونت (طابعه) طابع الزعامة، فقد كان (رياضيا) تعلم الرماية وأغرم بها وأجادها، وكان يرمي عشرة في عشرة وقال عن نفسه (كانت همتي في الرمي والعلم).

وقد نقل أسلوب الرياضيين، من ميدان الرمي، إلى حلبة الفقه، فكان واسع الصدر إزاء معارضيه.

وآية قدرته في الإقناع على طريقة الرياضيين، إقناعه الرشيد ببراءته وهو يخوض بحراً من الدماء، فقد صرع أمامه تسعة، استلت السيوف اللامعة أعناقهم، فلما جاء دوره أعطته عارضته القدرة على أن يناقش الرشيد ويقنعه وهو في هذا الجو العاصف، وإزاء هذه الشخصية الجبارة.

لقد أتهم بالعمل ضد الرشيد وحمل مقيداً من اليمن مع عشرة من أصحابه، فلما جئ بهم إلى الرشيد، وضع حدا لأجلهم، أما هو فقد أقنع الخليفة. . قال له وهو بين النطع والسيف. .

ص: 9

(. . يا أمير المؤمنين ما تقول في رجلين أحدهما يراني أخاه والآخر يراني عبده. . أيهما أحب ألي؟ قال الذي يراك أخاه! قال: فذلك أنت يا أمير المؤمنين. فلما وضع يده على الخيط. . مضى يثبته بقوة، قال: إنكم ولد العباس وهم ولد علي، ونحن بنو عبد المطلب، فأنتم ولد العباس تروننا أخوتكم، وهم يرونا عبيدهم.

. . . ونجا

وقد بلغ به حب الرماية أن لم يكن جلال السن والإمامة بمانع إياه عن أن يرمي.

وقالوا عنه أنه كان يقصد في لباسه، ولم تعرف له صغيرة، وكان يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئه أهل (القرآن) فيسألونه، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل (الحديث) يسألونه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا. . ثم تستوي الحلقة (للمناظرة) والمذاكرة، فإذا ارتفع النهار تفرقوا، ثم جاء أهل (العربية) والعروض والشعر والنحو حتى يأتي المساء. . والشافعي جالس في حلقته لا يضيق بالعلم ولا بالناس.

ولا عجب فقد كان الشافعي أديبا يتذوق الشعر، ويقول أجوده، ويقدر الجمال ويعجب به في مختلف صوره النفسية والحسية، بل لقد كاد أن يكون أديبا خالصا أو فنانا خالصا، لولا أن أتيحت له فرصة دراسة الفقه، فمضى فيه، حتى برز وبلغ القمة. .

وقد روى عن ذكائه وألمعيته وسرعة حفظه الكثير، مما زاد في قوة شخصيته أضف إلى ذلك ما روى من أنه إذا تكلم كان صوته أشبه بالصنج أو الجرس، وكان إذا قرأ القرآن التف حوله الناس، وعجوا بالبكاء. . قال بعض أتباعه (كنا أردنا أن نبكي قلنا قوموا إلى هذا الفتى المطلبي الذي يقرأ القرآن. . فإذا أتينا استفتح القرآن فتساقط الناس بين يديه وكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته)

ومن هنا جاءت قوته كداعية، يستطيع أن يجمع الناس حوله وأن يحببهم إليه، وتلك من الشمائل التي لا تتوافر للكثيرين.، وقديما كان الصوت الجميل وطلاقة اللسان من أدوات الداعية الفذ.

ويرجع السر في فصاحة (الشافعي) إلى أنه أقام بالبادية فلقن اللسان العربي.

وفي المدينة وصل إليه علم (مالك) كله، فقد لزمه حتى مات، وفي بغداد وصل إليه علم (أبو حنيفة) كله بعد أن حمله محمد بن الحسن. . ومن ثم اجتمع له علمان: علم أهل

ص: 10

الرأي، وعلم أهل الحديث.

وقد وصل الشافعي بعلمه وثقافته إلى درجة المجتهدين، وارتفع عن أن يكون من أتباع (مالك)، أو تلامذته الذين يجرون في حدود مذهبه، فكان ذلك مصدر الخلاف بينه وبين المالكية في مصر، وقد لقي من ذلك عنتا شديدا.

وتوافرت للشافعي كل وسائل (العالم)، كما توافرت له كل وسائل (الداعية) فقد أثر عنه أنه كان يذهب إلى الصباغين يتساءل عن معاملاتهم، ويرتاد السوق يحدث أصحاب الحرف. .

وبلغت به الثقة أن كان يعرف أن أهل مصر فرقتان: فرقة مالت إلى قول مالك وفرقة مالت إلى قول أبي حنيفة، ولكنه كان يقول في حماسة ظاهرة (أرجو أن أقدم إلى مصر فآتيهم بشيء أشغلهم به عن القولين جميعا. .)

وقد حدث ما توقعه. . غير أن الخلاف لم يلبث أن نشب بين أتباعه وأتباع مالك فلقيه فتيان ابن أبي السمح المالكي ليلا فضربه أحدهم بمفتاح حديد فشجه. .، فلم يسعف بالعلاج فمات. .

. . وقد مات فقيرا، ولم يترك شيئا يذكر، وكان قد أجهد نفسه في الفترة التي قضاها في مصر إجهادا بلغ به غايته.

أنور الجندي

ص: 11

‌2 - جوته

للأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت

تابع ما نشر في العدد 986

غوته يعتزل الحياة السياسية

وأخيراً وصلوا إلى النتيجة المحتمة فقال: (كم أكون أحسن حالا وأهدأ بالاً إذا أنا نسيت المشاجرات السياسية ووجهت قواي للعلوم والآداب التي لأجلها ولدت. وكل من يجعل حياته للوظيفة - إلا إذا كان أميراً سيدا - فهو إما أن يكون سخيفاً أو مغتصباً أو مجنوناً). وبمرور الزمن أصابت غوته الهموم وهاجمته الغموم، فأصبح مريضاً مرة أخرى وأراد التخلص من هذا الوضع الذي تردد فيه فقرر الفرار ناجياً بأهابه. وكان سبب ذلك - على ما نعلم - حادث غرام سقط في شبكته وذلك بتعلقه بالآنسة (فون شتاين) تلك الفتاة الغامضة الخفية، التي لم تخص من الجمال ولا من العاطفة بشيء يذكر. وقد كان لهذه الحادثة تأثير بالغ في حياته مدى جيل. ولو لم يفر بجلده لتحطمت حياته آنذاك، وكانت إيطاليا في هذه المرة محط رحاله - تحت سماء بهيجة رائعة وفي وسط شعب جنوني، أما هذه المرحلة من حياته فقد جعلها للتأمل في الفنون العظيمة، وكانت بمثابة تجربة أغنى بمعانيها وألطف في مدلولها من حادثة غرام تظهر فيها الفروسية الكاذبة التي شاءت الصدف أن تفرض عليه فرضاً في (وايمر).

إن إدراك معنى هذه التجربة صعب جدا ليس علينا وحسب بل حتى على المؤرخين الأدباء ودارسي غوته، فهم لا يعرفون عنها شيئاً، وهم يعترفون بذلك صراحة. ومن العسير علينا أن نشعر بما كان يشعر به من عواطف هي عواطف السعادة والتحرر والانعتاق، والتي يعبر عنها بتعجب بأقواله (إنني ولدت ولادة ثانية، ولادة حقيقية في ألوم الذي وصلت فيه ورما) وأشعر (بشباب جديد، شباب ثان، إنسان جديد، حياة جديدة) و (أشعر بتغيير في نخاع عظامي). كل ذلك أظهره في رسائله التي بعث بها إلى (شارلوت فون شتاين) التي تركها بدون وداع

إن الشمول هو الغرض الأساسي الذي كان يسعى إليه جهد استطاعته؛ والكلمة التي كانت

ص: 12

لا تفارق شفاهه باستمرار في ذلك الوقت، فالتاريخ الطبيعي والفن والأخلاق. . . الخ أصبحت جميعاً منسجمة بنفسه؛ وقد علق على ذلك بقوله (إني أشعر أن شمسي تسطع سطوعا باهرا). أجل أن شمسه سطعت في تأملاته التي كان يخص بها الفنون القديمة، وكان ينظر إليها لا بمنظار رجل يدري شيئاً بعيدا عن نفسه، بل كان ذلك طبيعة نامية فيه، فقال عن نفسه (إن الطفل المريض والضعيف سابقاً يمكن أن يتنفس الحرية بطلاقة مرة أخرى)

ماذا عنت إيطاليا بعبقريته

ليس في مكنتنا سوى تخمين العوامل التي أثرت في شخصيته. . ومن هذه العوامل علاقته بميزات البحر الأبيض المتوسط، التي كان لدمه بها صلة وكان لهذا العامل (إللاألماني) فوائد تحريرية عليه، فهي التي وسعت غريزته العظمة فيه، وهذه الغريزة مستمدة من الغريزة التاريخية. وقد وضعت إيطاليا الصبغة النهائية على قسمات وجهه، فأصبح الألماني المهذب ذا وجه ألماني بالنسبة إلى وطنه، ووجه ثان هو أقرب إلى وجوه الموظفين الخجولين والمتظاهرين بالحشمة، وفي الوقت نفسه تغير فيه كل شيء فأصبح متزنا كاملا مكتفياً بذاته، منطويا في قرارة ذاته على نفسه وغدا اتصاله بالناس صعبا جدا، ولم يبق من صلاته المصداقية القديمة شيء يذكر، فشعر كل واحد من أصدقائه بالبرودة المتجمدة التي كانت تظهر عليه.

وقد علق أحد أصدقائه بعد أن قضى معه ليلة من الليالي بما يلي: (وشعرنا وكأننا نعيش في محيط بارد جدا وكانت السآمة تخيم علينا بثقلها، وأضحت شهامته ملاطفة وحشمته ظاهرية. أما (شلر) الذي لم يكن يلحظه غوته في غضون إقامته في أول شتاء قضاه في (وايمر) فقد حدثنا عنه بقوله (كانت له موهبة تأسر الناس وتسحرهم سواء أمان ذلك في الأمور البسيطة أم الكبيرة، على أنه كان يحتفظ بنفسه فوقهم، وكان الناس يشعرون بوجوده بسرور بالغ، ولكن وجوده كان كوجود الآله لا يعطي من نفسه)

ولكن عملا منافيا أجترحه بعث الناس ذوو الأخلاق العالية والسلوك الحسن على الغضب عليه، وتتلخص هذه الفعلة بإيوائه فتاة إلى سريره، وكانت هذه الفتاة جميلة وجاهلة جدا، وكانت بائعة ورد واسمها (كريستيانا فولبيوس)، وكانت هذه العلاقة علاقة دعارة استفزازية

ص: 13

صارخة، ومع ذلك فقد جعلها بعد عدة سنين علاقة شرعية، ولكن المجتمع لم يغفر له ولا لها، ولدت كريستيانا له عدة أطفال، ولم يبق منهم في قيد الحياة إلا أوغست الذي وصل إلى منتصف العمر وأصبح ثقلا مرهقا على والديه بسلوكه المتوحش وأخلاقه الفظه وعاداته الذميمة وعربدته الشائنة.

كان غوته يشبه في شبابه (أبولو) أو هرمز (اللهم إلا قصر ساقيه) يشبههما في رشاقته، ولكنه اكتسب سمنة عندما بلغ من الكبر عتيا، وكان ذلك في إيطاليا وفي بداية القرن الذي لازمه طويلا فأصبح وجهه بدينا كئيبا وخدوده متهدلة فتحول أبولو حتى غدا (جوبتر) بالذات، راس رائع وحاجبان بديعان بارزان يعلوهما شعر غزير ملفوف معتنى به، وعينان سوداوان يشعان بالروح مظللتان بظلال التعب والكلل، كما أن لباسه كان يميل بمظهره، إلى المحافظة، أما خشونته التي طالما كان يفخر بالتظاهر والتباهي بها في شبابه فقد اتخذت شكلا واقعيا في سيماء الرجل العجوز، وهكذا اجتمعت فيه خشونة شكلية وتظاهر رسمي وخيلاء خادعة، فحولت كلامه إلى حديث رجل متعلم عادي.

غوته يصبح أسطورة العظمة

تمتاز الفترة بين السبعين والثمانين من عمر غوته بأنها فترة العظمة الأسطورية، وبأنه أصبح الممثل الحقيقي للثقافة الغربية في أوسع معانيها، فشرع الناس يحجون إليه من جميع أنحاء العالم، وكان غوته يكره النظر خلال النظارات، ولذلك لم يكن يحظى لابسو النظارات بحفاوته! أما الزائرون الذين زاروا أماكن غريبة أو شاهدوا مناظر بديعة فقد كانوا محط حظوته والتفاته، وكانت أوامره إليهم تتخلص بـ (قف! دعنا نقتل هذا الموضوع بحثا). كانت فيه رغبة ملحة لمعرفة كل شيء، وإرادة للتصرف على جميع الحقائق التي يمتلكها الآخرون، وإذا ما أظهر أحد الزوار شيئا طريفا أو قدم معلومات ممتعة دعاه للعشاء معه، فيقدم له ما يشاء من المأكولات والمشروبات على طريقة الملوك، وربما سمح له بمشاهدة المجموعات النادرة من الزخارف النحاسية والأوسمة والآثار القديمة التي كان يحتفظ بها في قصره الفخم الذي أهداه إياه الدوق العظيم (قصر فراد بلات)؛ أن الاحترام الهائل الذي حظي به الرجل كان راجعا بالدرجة الأولى إلى جلال كتاباته المبدعة، وما من شك في أن أسلوب حياته وما كان يهواه من العلوم والهوايات أضفت ستارا شفافا

ص: 14

ساحرا على شهرته كحكيم، ونسجت برودة من العظمة حول شخصه، بحيث أن كل ذلك كان يبدو جليا في الرسائل التي كانت تعنون إليه، فكان مراسلوه الفرنسيون يلقبونه بـ (السيد العظيم) وهو لقب الأمير، كما أن إنكليزيا كتب إليه بعنوان (إلى صاحب السمو العاطر الأمير غوته في (وايمر). وقد علق الرجل الشهم (غوته) على ذلك بقوله (لعل الناس عندما يخاطبونني بهذه اللهجة يقصدون الإمارة الشعرية)

ولما مضى الشاعر العظيم لحال سبيله كان الرجل الألماني العادي والذي لم يقرأ شيئا من كتبه يخاطب صاحبه بقوله (هل سمعت أن غوته العظيم مات؟) وكثيرا ما أوصلته الأمراض الشديدة إلى حافة القبر، ومن ذلك أنه في السنة الثانية والخمسين من عمره هوجم بمرض الحمرة البشرية ونوبة سعال شديدة، وبعد مرور أربع سنوات انقض عليه مرض النومينيا مع نوبات حادة، كما أن داء المفاصل ومرض الكلى هاجماه فاضطر إلى الرحيل إلى بوهيميا. وما أن أقبلت سنة 1823 - وقد بلغ سنة الرابعة والستين - حتى نجده واهن القوى روحيا وجسديا. كان ذلك بمثابة رجعة لوداع الحب في (ماري باد) وعلى الرغم من أن المرض الذي أعقب ذلك كان صعبا وصفه، ولكنه كان قتالا في تأثيره.

والخلاصة أن علاقته بالحياة أخذت تدريجيا تتعرض للخطر، ولشد ما كانت هذه العلاقة موضعا لإيثاره وحبه وغرامة، فحاول جهد ما استطاع أن يتظاهر بالخشونة كي يلعب دوره الذي قدر له، دور ابن الأرض القوي، دور ابن شجرة النبق، وكثيرا ما كان يباهي بذلك. أما أسلوب حياته فكان صحيا، ولكنه كان أكولا متحمسا، وكان يعير شهيته الشيء الكثير من التفاته مع كراهية للكعك والحلويات.

إن غوته يمكن أن يعتبر - بمقاييسنا الخاصة - مدمنا للخمر، لأنه كان يشرب قنينة كاملة من الشراب في العشاء علاوة على عدة أقداح من الشراب الحلو في وقت الغداء، وكانت عادته ذم الأشخاص الذين يفقدون حيويتهم بسرعة، وقد أشار على ذلك في حديث طويل مع أحد أصدقائه - وقد بلغ آنئذ الحادية والثمانين - في معرض كلامه عن وفاة سومرنغ) العالم الألماني الشهير في التشريح فقال:(وسمعت بأن سومرنغ توفي في الخامسة والسبعين من عمره التعس وحسب. أن الناس جبناء فهم لا يملكون القوة الكافية للاحتفاظ بعمر أطول من ذلك، وعليه فليس لي إلا أن أمدح صديقي (بنتام) الاقتصادي الإنكليزي،

ص: 15

ذلك الراديكالي المجنون لأنه أكبر مني بأسابيع قليلة) وأضاف مشاركه في الحديث بقوله (يا صاحب الفخامة لو كنت ولدت في إنكلترة مثله لأصبحت راديكاليا مشابها له ولانتقدت معايب الحكومة كما فعل هو) فما كان من غوته، وكانت سحنته تشبه سحنة (ميفتوفيلبس) إلا أن يجيب (وماذا كنت تظن؟ لو إنني ولدت في إنكلترة لأصبحت دوقاً أو مطرانا دخله ثلاثون ألف جنيه استرليني) أن هذا هو التفاخر بعينه، والتبجح السافر، والشعور الراسخ بالتفوق، أنه كان يعتقد بصورة أسطورية بأنه لا يمكن له إلا أن يولد تحت احسن الظروف، وأن الانتقادات لا تصدر إلا من أناس ليسوا حائزين على امتيازات ومواهب خاصة.

جوته في أوج قوته

كان غوته معجبا بشعار خاص هو (الجزاء الكامن) في هذا التعبير الذي لم يكن يقف (يصمد) أمام المنطق، ولكنه كان بدهياً على شفتيه، ماذا يعني هذا التعبير؟ أن الجزاء ليس كامنا، أنه يحقق ويحصل عليه، وكل شيء كامن ليس فيه للإنسان فضل (اللهم إلا إذا فصلنا الكلمة من مضمونها الأخلاقي) وهذا ما يقصده هو بالذات. أن هذا التعبير تجن واضح على الأخلاق ولكل نضال واجتهاد. وقد اعتاد غوته أن يقول مفسراً بذلك نظريته (يجب أن يكون الإنسان كي ينتج شيئا) أو بكلمة أخرى أن ما كان يعنيه لا يخرج عن كون الفضل والكرم في الوجود حاصلا بصفته وجوداً لا بصفته عملا، وقد عبر عن عقيدته هذه بصورة متنوعة، ولكن الجملة التالية هي احسن ما أراد أن يقوله (كثيراً ما سمعت الناس يقولون: آه لو أن لتفكير لم يكن صعباً لهذه الدرجة، ولكن الشيء المزري، أن أية كمية من التفكير لا تساعد الإنسان على التفكير، بل يجب أن يكون تفكير الإنسان صحيحا بالطبيعة كي تقف جميع أفكارك الجيدة أمامك، كما يقف أبناء الله الأحرار فينا دونك بقولهم: نحن ها هنا). الطبيعة! لم يكن غوته - في قلبه - ابن أبيه مطلقا، ولو أنه لحد ما يعيد بعض الميزات الأبوية، ولكنه في الحقيقة ابن أمه، أبن (فراد أجا) - بنت اللندهمري - تلك الفتاة ذات المزاح الشفاف، وأكثر من ذلك كان في الحقيقة ابن الأم الكبيرة، ابن الطبيعة نفسها. أما فكرته عنها فكانت الكمال بعينه وضرورة الوجود الذي كان متعلقا به أشد التعلق، ومفهومه له كان لا يتعدى عالما حرا من الأسباب والتصاميم المتداخلة في عالم يعيش فيه

ص: 16

الشر جنبا إلى جنب مع الخير، وقد بين ذلك بصورة جليلة بقوله (نحن نناضل في سبيل جعل الفن كاملا بذاته. أما هم (يعني الأخلاقيين) فيفكرون في التأثير الخارجي، هذا التفكير الذي لا يهم الفنان الحقيقي كما لا يهم الطبيعة نفسها، فهي عندما تبدع أسدا أو طيرا لا يهمها أن تلاحظ شيئا من ذلك). فموهبته المبدعة كانت هبة من الطبيعة التي تحتضن الشر والخير سواء بسواء. فكما أن تأليهه للطبيعة كان المنبع الرئيسي لطيبته، كذلك كان في نفس الوقت منبعا للا مبالاته وقلة حماسته وسخريته من الأفكار وكراهيته للتجديد، الذي كان يعتقد بأنه محطم لحياة نفسها. وهذه هي الأشياء الوحيدة التي كان ينتقد عليها. وعليه فليس غريبا أن ترى مقته للثورة الفرنسية مع أنه بشر بمبادئها ومهد لها بكتاباته، أما مؤلفه (الآم فرتر)، الذي أنتجه في عنفوان شبابه، والذي كانت فيه العاطفية واضحة بارزة، فقد هز أسس النظام الاجتماعي القديم هزا عنيفا. أن موقفه هذا تجاه الثورة الفرنسية يعيد إلى الذاكرة موقف أرازموس تجاه (الإصلاح الديني)، أرازموس ذلك الهولندي العظيم الذي عمل جهده للتمهيد للإصلاح، ولكنه تنكر له بتقزز وامتعاض. وقد جمع عوته نفسه هذين الحادثين (المقلقين) ببيته المشهور لا في هذه الأيام، أيام الاضطرابات، رفضت الفالسية الثقافة الهادئه، كما فعلت اللوثرية ذلك في عهدها). وهو كذلك، وكذلك فعل عندما رفض القبعة الكاردينالية التي قدمها البابا إلى (الإنساني العظيم) وقد اعتذر عن ذلك بأعذار رقيقة، فهو لم يرد أن يجعل من نفسه حليفا للنظام القديم الذي انهارت معظم قيمه، ولا نصيرا للنظام الجديد الذي اعتبره غير مهذب، ومع كل ذلك فسياسة غوته المحافظة كانت مزعزعة لا يركن إليها ولا يعتد بها. ولما أصدر (فريهر كاكدن) سنة 1794 بيانه المعروف الداعي إلى توحيد المثقفين الألمان كي يضعوا أقلامهم في خدمة (الصالح) - أي قضية المحافظين - ولكي نكون أكثر دقة، إنشاء اتحاد ألماني لتخليص البلاد من الفوضى، وقف غوته صديق كارل أوغست المخلص وشكر البارون لثقته به، ولكنه أعتذر بقوله (إنه من المتعذر ربط الأمراء والكتاب في قضية واحدة)، فانسحابه هذا، ومحاولته الابتعاد عن كلا الجانبين، ينطبقان تماما على إبرازموس أيضا، ولكن غوته كان إبرازموس ولوثر متقمصين شخصا واحدا؛ كان اتحاد لطيفا وشيطانيا في نفس الوقت، وكان وجوده يمتاز بكونه مثالا وقدوة لغيره. كان مثالا يحتذيه الألمان، وقد تمكن بنفسه من تحقيق المثالية

ص: 17

الألمانية لا بل مثالية الإنسان، مع ذلك فقد وقف كثير من معاصريه وقد بلغ بهم الأذى والمرارة حدا جعلهم يكرهونه، وقد عبر عن ذلك بورن بقوله (إن قوته كانت قوة تخريبية بدلا من أن تكون قوة إنشائية، وقد كانت عائقا للتقدم وخصوصا جموده السياسي، وطبيعته الكارهة للفكرة الديمقراطية الوطنية التي كانت تمثل العصر، فكان يعارض حرية الصحافة وحرية التقدم والديمقراطية والقانون، وكان يعتقد بأن كل شيء معقول في ظل الأقلية). وكان يؤيد الوزير الذي كان يطبق خططه ضد رغبات الشعب، وكان يشعر شعورا عميقا بالغرور الإنساني، وقد اعترف يوما، بأن مجرد النظر إلى وجهه يكفي للتخلص من الكآبة، ولكنه لم يكن يؤمن إلا إيمانا ضئيلا بالإنسانية ومستقبلها الحسن، فلا يمكن تعليم الناس العقل والعدالة، ولا يمكن إنهاء الحروب وإراقة الدماء والتذبذب في الشؤون العامة

للكلام بقية

بعقوبة

يوسف عبد المسيح ثروت

ص: 18

‌نساء عرفن في زمن النبي

للأستاذ ناصر سعد

هذه نبذة مختصرة عن نساء عرفن في زمن محمد (ص) منهن من اشتهرن بعمل خير أفدنه به فتركن لأنفسهن أحمد الأثر بنفسه فاثنى عليهن. . ومنهن من دعون لإيذائه ومحاربة دينه الحنيف الجديد فتركن لأنفسهن أسوأ الأثر بنفسه وغضب الله عليهن ورسوله؛ ولا ريب في أن الخيرات منهن اندفعن وراء إخلاصهن للرسول العظيم ووراء إيمانهن بدينه الجديد فأتين بما يبهر من الأعمال وخلدن أسماءهن فرقين مكانة عالية في الإسلام والتاريخ تحفز المرأة الحديثة إلى اقتفاء آثارهن والتحلي بصفاتهن الحميدة؛ وأما الأخريات اللواتي دعون لإيذائه ونبذ دينه فقد أندفعن وراء عصبيتهن لغشاوة كانت ترين على قلوبهن حتى تبين للبعض منهن الحق من الباطل فيما بعد، فتسرب الإيمان إلى قلوبهن وأسلمن وعدن يحمدن الإسلام مكفرات عما سلف من أعمالهن فعفا عنهن الرسول (ص). ومن أولئك النساء:

آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة أم النبي (ص) حملت به فكان كل ما في الدنيا بهيجا بعينها، تبتسم لها الحياة فتبتسم لها، وليس يسعد المرأة أكثر من مولود تضعه بعد مشقة الحمل والولادة إذ يهون عيها كل ألم لابتسامة تنظرها من مولودها الذي تضع فتحنو عليه وتحبه، لأن بهذا الحب سر الوجود والحياة، وما زالت الحياة تبتسم لإبنة وهب حتى ذهب عنها شريك حياتها عبد الله بن عبد المطلب وهي ما زالت تحمل جنينها - على أصح الأخبار - فبدت في سماء حياتها سحابة سوداء أزالت عن ثغرها تلك الابتسامة والبهجة، وملأت قلبها عزماً وحزماً صممت بهما أن تربي مولودها المرتقب خير تربية ليمحو ما بقلبها من الحزن بدعابته وابتسامته، فولدته وعلى محياه سيماه النبوة، وأرضعته بلبان الشرف والسؤدد. ثم إنها أما لضعف اعترى صحتها أو لعادة كانت جارية آنذاك أرضعت وليدها من ثويبة مولاة أبي لهب التي أرضعت عمه حمزة (ض) ثم أرضعته أم كبشة حليمة بنت أبي ذويب السعدية التي أرضعت معه عمه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ولم تزل آمنة تجد بتربية ولدها بكفالة جده حتى ظهر من حسن خلقه وجمال طبعه - على صغر سنه - ما يدهش ويحير. فمن ذلك أنه لما كفاه عمه أبو طالب بعد وفاة

ص: 19

أمه وجده، وعمره سبع سنوات، كان حين يجلس مع صبيان البيت يكف عن النهب وتمتنع يداه، على عكس لداته من الأطفال، مما اضطر عمه أن يعزل له طعامه، وليس لنا أن نقول أن ظهور هذا من محمد (ص) كان ليتمه وشعوره بالوحدة. . كلا فإنه تربى في هذا البيت وألف صبيانه. وإنما ذلك سر إلهي ونتيجة للتربية الصحيحة التي نهجتها آمنة بتربية ولدها لأن للمرأة الأثر المباشر في تربية وليدها وتنشئته، هذا هو أثر آمنة بنت وهب في حياة سيد البشر (ص)

ومنهن مرضعته حليمة السعدية التي مر ذكرها. . وهذه المرأة كانت على جانب عظيم من حسن الطبع وجمال الخلق ورقة القلب؛ فمرضعات بني سعد كن يأتين مكة ليرضعن أبناء أشرافها لضيق ذات أيديهن، ولم تجد حليمة غير يتيم عبد المطلب لترضعه فحركها العطف عليه وهي لا تنتظر من المال ما ينتظره صويحباتها اللواتي رافقنها إلى مكة لغرض الإرضاع؛ فهي لو لم تكن ذات شرف وخلق قويم وقلب رقيق لم يرضع عبد المطلب حفيديه محمدا وأبا سفيان. فهي بني أسد بن بكر بن هوازن تنتهي بقيس يلان. . بقي النبي (ص) عندها أربع سنوات ربته على المروءة والشهامة والصدق والأمانه ثم ردته إلى أهله وعمره خمس سنين وشهر واحد. وقد أحب النبي مرضعته حبا كثيراً حتى أنه لما أخبرته بعد فتح مكة إحدى نساء بني سعد بوفاتها ذرفت عيناه عليها ثم قالت له الناعية: - (أخوك وأختاك محتاجون) فأرسل إليهم ما يحتاجونه. فقالت له تلك الناعية: - (نعم والله المكفول كنت صغيراً، ونعم المرء كنت كبيراً عظيم البركة). . لا ريب في أن الذكريات تلك الساعة عادت برسول الله فتذاكر أيام طفولته وحنو مرضعته عليه وألفته مع إخوانه، إنها لساعة حلوة مرة اختلطت بها ذكريات الطفولة السعيدة وجلال الموت. هذه حليمة التي ذرف عليها دمع النبي (ص) تركت ولا شك أثراً عميقاً بقلبه الرقيق الحساس.

ومنهن أم أيمن (بفتح ميمها) بركة الحبشية مولاة عبد الله أبيه، حضنت محمداً بعد وفاة أمه. ولا ريب في أن هذه المرأة وقد احتواها بيت عبد المطلب وخدمت ابنه عبد الله كانت المرأة بارة بمحمد، تعترف بجميل جده وأبيه، وتقدر أثر اليتم بنفس ربيبها وشعوره به، فأحاطته بعطفها وحنانها، وخففت عنه ذلك الألم وهو الطفل المرهف الحس فاعتاض بها عن أمه، كان لها جميل الأثر في نفسه.

ص: 20

ومنهن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي ابن كلاب المرأة الحكيمة الموسرة كلمها أبو طالب في أن توكل محمداً على تجارتها وهو الصادق الأمين، فتأملت وهي المرأة الرشيدة فأنست خيراً ووكلت محمداً واشترطت له كل سفرتين بقلوصين، فصار يذهب بتجارتها ويقدم إليها الربح الجزيل بأمانة وإخلاص، فلما أعجبها إخلاصه وأمانته وصدقه عزمت على التزويج منه ولم تكن معه على صلة متيسرة بدليل وساطة نفسية بنت منية أو كما قيل بوساطة ميسرة مولاها بينهما. وكان أبوها خويلد يرغب عن تزويجها من محمد، فاحتالت بأن دعت قوماً من قريش فيهم أبوها وقدمت إليهم طعاماً وشراباً، فلما أكلوا وشربوا وثمل خويلد قالت له: - (إن محمد بن عبد الله يخطبني فزوجني إياه) فزوجها ورضي بذلك، فقامت إليه وألبسته وطيبته على عادة من يزوج ابنته آنذاك، ولما أفاق ورأى ما هو فيه سألها يقول: - (ما شأني؟) قالت: - (زوجتني من محمد بن عبد الله). قال:. . (أنا أزوج يتيم أبي طالب؟ لا لعمري) قالت: - (ألا تستحي. . تريد أن تسفه نفسك عند قريش فتخبر الناس أنك كنت سكران؟) ثم رضي بعد إلحاح وتم الأمر، وعمرها أربعون سنة ولمحمد من العمر خمس وعشرون سنة. . أن هذه الرواية لخير دليل على تعلق خديجة بمحمد وحبها إياه لما اتصف به من الخلق الحميد، وإلا فلا يعز عليها الرجال وهي الشريفة الموسورة. . وليس فضل خديجة على الإسلام بمجهول ولا مداراتها للنبي بمنكورة، فلقد كان لها رضي الله عنها أطيب الأثر بحياة الرسول قبل النبوة وبعدها إذ كانت تزوده بما يكفيه من الطعام فيذهب لغار حراء يقيم فيه الأيام والليالي متعبداً مفكراً في أمر ربه. ولما جاءه الحق من ربه رجع لخديجة وهو يرتجف ويقول: - (قد خشيت على عقلي) فشجعته وقالت: - أبشر - ولله - لا يخزيك الله أبداً. . إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر) ثم صدقته وأسلمت؛ هذه سيدة قريش التي كان لها الأثر الفعال بحياة محمد (ص) والتي كانت أول أم للمؤمنين.

ومنهن أسماء بنت أبي بكر (ض) كانت ذكية الفؤاد شديدة الحرص والحساسية، بدليل تمكنها من نقل الزاد للنبي (ص) وأبيها (ض) وهما مختفيان في الغار. . فلم يطلع على سرها أحد من قريش. . إذ لولا يقظتها لتمكنوا من معرفة مكان النبي وألحقوا به الأذى. أن تاريخ هذه المرأة في الإسلام معروف، وإنما أوردنا عنها هذه النبذة لنتصور أثرها بقلب

ص: 21

الرسول في تلك الساعات الحرجة الرهيبة التي هدر بها دمه مذ صمم أهل مكة على قتله.

ومنهن أم معبد عاتكة بنت خالد بن خليف الخزاعية، وهذه المرأة لما توجه النبي إلى المدينة وقد اقترب منها ونزل بيتها فقال عندها وظهر من آيات معجزاته ما أدهش أم معبد فقد مسح ضرع شاة لها فحلبت لبنا كثيراً وبقيت كذلك للسنة الثامنة عشرة بعد يوم الهجرة، ومن ذلك ظهور البركة في الطعام الذي قدمته أم معبد للنبي فأكل منه وتزود وكان قليلا بعينها. هذه عاتكة الخزاعية هي التي صارت فيما بعد داعية للنبي ودينه الجديد تبشر به لإعجابها بسمو أخلاق نبيها وآيات معجزاته.

ومنهن عائشة أم المؤمنين (ض) بنى بها النبي في المدينة بعد الهدرة بتسعة أشهر، وأثرها بحياة الرسول أشهر من أن نترجم له، فقد أحبها الرسول وصارت بعد وفاته ثقة برواية الحديث الشريف. وقد كانت من النساء اللواتي يعتنين بالمحاربين في الغزوات فتقدم إليهم الماء والطعام محمولا على ظهرها.

ومنهن عصماء بنت مروان الأموية كانت تكره النبي وتؤذيه وتحرض الناس وتؤلبهم عليه وتعيب دينه، فكان لهذه المرأة وهي على هذا الوصف أسوأ الأثر بقلب النبي (ص) ولذا رأيناه مجد من قتلها وفتك بها، وذلك أن عمير بن عدي وهو أعمى من رهطها وكان موالياً للنبي حلف ليقتلنها أن عاد النبي من بدر لأنها كانت تؤلب الأعداء عليه، فلما رجع ذهب إليها عمير ليلا فوجدها نائمة ولها رضيع يرضعها فأبعده عنها وغرس سيفه في صدرها فقتلها وخرج دون أن يعرف أحد بامره، فلما كان الصبح جاء عمير إلى المسجد ليصلي مع النبي، ولما صلى وانصرف نظر إليه النبي وقال: - (أقتلت ابنة مروان؟) قال: - (نعم يا رسول الله) قال: - (نصرت الله ورسوله) فقال عمير: - (هل علي شيء من شأنها يا رسول الله؟) فقال النبي: (لا ينتطح فيها عنزان). . هذه المرأة التي كانت تؤلب الأعداء على النبي وتدعو لإيذائه كانت ولا شك على وئام مع أعدائه الذين كان منهم اليهود فقبحها الله وقبح ما كانت تدعو له. .

ومنهن سلافة بنت سعد بن الشهيد زوج طلحة بن أبي طلحة؛ كانت من أعدى أعداء النبي ويكفي تبياناً لذلك تحريضها ذويها على المشاركة في الحرب ضده في غزوة أحد، وأنها وضعت مائة من الإبل جائزة لمن يأتيها به، وكان أن حمل زوجها طلحة راية المشركين

ص: 22

بإحدى الحملات في أحد فقتل ثم حملها بعده أبنها أبو شيبه فقتله حمزة (ض) وحملها بعده حموها أبو سعد بن طلحة فقتله سعد بن أبي وقاص، فحملها بعده ابنها مسافع بن أبي طلحة فقتله، عاصم بن ثابت فحملها بعده أبنها الحارث فقتله عاصم أيضا، هذه المرأة التي جعلت بيتها بوتقة يغلي بها الحقد على رسول الله زاد هذا القتل في حقدها عليه وعلى المسلمين معه فحلفت لتشربن الخمر في قحف عاصم بن ثابت قاتل ولديها مسافع والحارث فأخذت تحث المشركين على الثبات وتدعو لحمل اللواء حتى تداول حمله كثيرون من قريش كان نصيبهم القتل، فحملت عمرة بنت علقمة الحارثية الراية بعدهم فتراجع المشركون يطلبون السلامة. . وفي ذلك يقول حسان بن ثابت (ض) معبراً إياهم

عمرة تحمل اللواء وطارت

في رعاع من القنا مخزوم

لم تطق حمله الزعانف منهم

إنما يحمل اللواء النجوم

ومنهن فاطمة الزهراء وأثرها بحياة النبي غير خاف على أحد فهي حبيبة أبيها وأوثق الناس صلة به وأشفقهم عليه. . خرجت مع نساء من المدينة وهي تلهف على أبيها. . فقد جرح بأُحد فلما رأت جراح وجهه احتضنته وعانقته وصارت تمسح الدم منه ثم أخذت ماء وغسلت وجهه. . ما أروعه من موقف خفق فيه قلب محمد بحب ابنته وحنوه عليها. . وكأني بالزهراء (ع) تلك الساعة يترقرق الدمع من مآقيها ويخفق قلبها بالحب والحنان. هذه الزهراء وما أنصح حبها لأبيها وما أحسن إسلامها. . خرجت هي وأربع عشرة امرأة منهن أم سليم بنت ملحان وعائشة أم المؤمنين (ض) فحملت الماء في قربة والزاد على ظهرها تطعم المؤمنين المحاربين وتسقيهم. . هذه الزهراء أم حفيدي الرسول تركت أجمل الأثر في قلب أبيها الحنون.

ومنهن هند بنت عمر بن حرام زوجة عمرو بن الجموح. . امتلأ قلبها بالإيمان وحب الدين الجديد، فلم تزل تحرض ذويها على قتال المشركين في أحد حتى استشهد زوجها وهو يقاتل رغم عرج كان به، واستشهد ابنها خلاد وأخوها عبد الله فحملتهم على بعيرها وأتت المدينة فرأتها أم المؤمنين عائشة (ض) بظاهرها وقد خرجت تستروح مع صويحبات لها. . فقالت لهند: - (عندك الخبر. . ما وراءك؟) قالت هند: - (أما رسول الله فصالح وكل مصيبة بعده جلل) قالت عائشة: - (من هؤلاء؟) قالت: - (أخي وابني خلاد وزوجي عمرو بن

ص: 23

الجموح) قالت: - (فأين تذهبين بهم؟) قالت: - (إلى المدينة أقبرهم)! ما أكبر هذا القلب قلب هذه المرأة وما أعمره بالإيمان! وأي رجل يحمل مثل هذا القلب وأية امرأة. . يا للعجب امرأة تفقد زوجها وابنها وأخاها في يوم واحد فلا يرتجف لها قلب ولا تدمع لها عين! أنه حال مدهش والله. . ولكن لا عجب ولا دهشة فإن الإيمان بالله وحب الشهادة في سبيل الدين لا يجعلان منفذاً للحزن في القلب. . ما اعظم هذه الإمرة إذ قالت لرسول (ص) حين يذكر قتلاها: - (يا رسول الله أدع الله أن يجعلني معهم) إنها لم تقل هذا جزعاً من الحياة بعد ذويها، بل قالته حبا بالشهادة فلعلها تنالها مدافعة عن دينها الذي آمنت به وطهر قلبها من كل رجس.

البقية في العدد القادم

ناصر سعد

ص: 24

‌مواكب القلوب

للأستاذ علي محمد السرطاوي

علمت الشجرة المثمرة، يا ألهي، أن تعلن عن نضوج الفاكهة التي تحملها أفنانها بين الأوراق الخضر، بمعان من الألوان، وكلمات من الأريج.

وكسوت الورود والرياحين الغلائل المصبغة بألوان الشفق والفجر وقوس السحاب، وجعلت لها ألسنة من العبير، تهمس بها الأنسام في أذن الفراشات الراقصة في عرس الطبيعة ومواكب الربيع

وألبست الروابي، والوهاد، والمروج، الحلل السندسية الخضر الموشاة بالألوان التي لا تحصى من الأزاهير؛ تطل من ورائها الأسرار المتوارية وراء لسان الطبيعة الأبكم، ونواميسها الأبدية الثابتة؛ فراحت الأجناس من كل ما يدب على هذا البساط الأخضر ويتحرك، مدفوعة نحو أجناسها، في جنون من العاطفة المشبوبة والحس المخدر، إلى حيث تدري أو لا تدري، فوق ألسنة من لهيب يحرق ولا يميت، ووراء الصوت المدوي في الأعماق، والجوع الذي لا تشبعه النظرات، والظمأ الذي لا يصل إليه الارتواء أبدا.

وجعلت لقلب المرأة لسانين فصيحين بارزين في أجمل مكان من صدرها؛ يصرخان في ظمأ قاتل، ويبحثان في جهد لا يلغه النصب عن طيف الحبيب المجهول؛ بمعان من كبرياء الجمال، وألفاظ من دلال الحسن، وتعابير من اهتزاز ساحر عنيف وراء الغلائل الشفافة التي تكبح جماحهما، كما تكبح اللجم الجياد، فيتراءى من خلفها جمال الربيع الدائم ومعانيه.

سبحانك يا إلهي! لقد أشعت في الطبيعة الجمال البكر الفاتن؛ يتجدد ولا يفنى؛ واختصرت هذا الجمال الأبدي البديع في أروع ما صنعت يداك؛ فخلقت المرأة وجعلتها الرمز الخالد لأسرار الطبيعة وجمالها، وجلالها، وجبروتها، وفتنتها، فكانت المعجزة السرمدية الأولى والأخيرة التي شاءت قدرتك أن تكون صورة مصغرة لأروع ما في الوجود؛ جعلت الظلام الحالك شعرها حينا، وذهب الأصيل حينا آخر، والنور المشرق وجهها، والبانة قوامها، وعبير الأزاهير أنفاسها، وحمرة الشفق وجنتها، واللؤلؤ ثناياها، وأوراق الورود شفتيها، ثم اختصرت كل هذا الجمال العبقري المركز لتصنع به عينيها؛ فتدافعت بالمناكب وراءهما أطياف مجنحة من الماضي والمستقبل ونواميس الطبيعة وأسرار الغيب وجمال الوجود.

ص: 25

وحين ترسل المرأة رسالة الحب الأولى إلى القلب الظامئ الخلي من أطراف عينيها، إنما تبعث إليه بأطياف عابرة من سعادة السماء في جنات الخلود وفردوس النعيم.

وحين يحكم الحب القلب الإنساني وتجلس حواء على عرش الحب فيه، إنما تحمل إليه أقوى ما في الطبيعة من جبروت العواصف العاتية، والبراكين الثائرة، والأنواء المزمجرة، والبروق الخاطفة، والرعود المقهقهة، وتشيع فيه فتنة الربيع، وجمال الشفق، وسحر الفجر، وخرير الأمواه، وأغاريد الطيور.

لقد أوشكت حواء يا إلهي أن تنازعك السلطان في الأرض وتصرف عن حبك القلوب؛ عبدها البشر في طفولة الحياة الإنسانية، وشادوا لتلك العبادة الهياكل والمعابد، وما زالت عبر العصور معبودة القلوب؛ هياكل القصور الباذخة، والأكواخ المتواضعة، والخيام الساذجة؛ تركع الحياة ذليلة على أقدامها؛ تعز وتذل، وترفع وتخفض، وتهز الدنيا إذا شاءت بيسارها.

والمرأة كالمرآة الصافية الأديم؛ تظهر جوهر القلب الذي يحمل حبها، فيتراءى في ذلك الجوهر وراء الضباب الكثيف من الدم واللحم، صافيا نقيا. ولذلك كان الحب محك الصفات، وميزان السجايا، ومقياس الضمير؛ فلكم انخفضت نفوس وارتفعت أخرى حين أتصل بها حب المرأة في الحياة.

وكلما تحركت مواكب الربيع المعطار في أعراس الطبيعة؛ توقظ الحياة وتحركها في مواعيدها التي لا تتبدل، أقبلت مواكب القلوب الظامئة في زوارق الشباب، تعبر عباب الزمن إلى الضباب الكثيف وراء الأفق البعيد المجهول.

لم تكن الفنون الجميلة في حقيقتها إلا القرابين؛ قدمتها القلوب راكعة أمام طيف المرأة الساحر الجميل في عصور التاريخ: فالموسيقى، والشعر، والرسم، والنحت، والتمثيل، والغناء، ليست غير الأنين القاتل انبعث من حناجر القلوب، وهي ترفرف محترقة، حائمة، حول قلوب بنات حواء، اللائي قد أقمن حولها ألسنة محرقة من لهيب الجحيم.

شد ما يلقي القلب الذي تناديه المرأة للحب من عذاب في حبها؛ يراها في أحلامه، ويرتسم وجهها الجميل على كل ما تبصر عيناه، ويتردد اسمها مع الوجيب وراء ضلوعه؛ فكأنما استطاعت نظرتها الأولى أن تحمله إلى عالم قفر لا يرى غيرها فيه.

ص: 26

وتبقى الحياة لغزا مبهما غامضا أمام القلب الإنساني حتى تشرق شمس الحب فيه من نظرة امرأة؛ فإذا الدنيا، وإذا الحياة غير الحياة، وإذا السماء تتلاقى مع الأرض لتملأ جوانبها بكل ما فيها من خير ونعيم.

لقد كان العباقرة والشعراء والفنانون من صنع المرأة، وكان المجرمون والمحتالون والأشرار من صنعها ايضاً؛ وكلما رأيت إنسانا قد رفعته الحياة على هامتها، فابحث عن اليد الناعمة التي رفعته إلى ذلك المكان؛ وإذا رأيت إنسانا آخر يهوي في الجحيم، ففتش عن القدم الناعمة التي سحقته تحتها، في غير ما رحمة إلى حيث لا يعود.

والمرأة كتلة محترقة من الإحساس الدقيق العنيف، متطرفة إلى أبعد غايات التطرف، لا تعرف الاعتدال ولا ترى إلا عند الطرفين المتناقضين. فإذا اضطرم قلبها بالحب ضحت بكل شيء وبحياتها في سبيل الحبيب، وإذا خفق ذلك القلب بالبغض وعاش الحقد فيه، انقلبت إلى عملاق لا يعرف الرحمة ولا يعرف الحدود في طريق الحقد والانتقام والأذى.

وحواء كالعاصفة لا تهدأ أبدا؛ تهز كل ما حولها هزا عنيفا، شأنها في ذلك شأن الإعصار المدمر العاتي، وهي كالنار تحرق نفسها، وتحرق كل شيء حولها.

وحين خلق الله وجه المرأة، كما يقول الرافعي، رضوان الله عليه، طوى أشعة القمر بعضها إلى بعض فكون منها ذلك الوجه المشرق الجميل، وانتزع من أعماق الشمس كتلة ملتهبة أودعها وراء قلبها، وغدت بالفطرة في سجيتها نورا ونار، نسمة وإعصار، بناء وتدميرا.

لقد نزل بالأمس القريب في سبيل المرأة ملك عن عرش الأرض ليجلس على عرش الحب في قلبها، ولكن العواصف التي هبت عليه من بين جوانحها، حالت بينه وبين الوصول إلى ذلك العرش الخالد، فعاد أدراجه، ينادي عليها في الفلوات بعد أن أدبرت عنه، ويجري في يأس قاتل وراء السراب في فيافي الحب وصحراء الخيبة.

أسعد إنسان في الوجود ذلك الذي تفتح له المرأة قلبها على مصراعيه ثم تغلقه بعد أن تجلسه على عرش الحب فيه. وحين تغلق المرأة قلبها على حبيب، لا تستطيع قوة في الوجود أن تخرجه منه، أو تضع إلى جانبه حبا جديدا.

لقد تكون الدر في أصدافه تحت أمواج البحر للمرأة، والذهب والأحجار الكريمة في طبقات الأرض للمرأة، وكل ما تنبت الأرض من ورود ورياحين وطيب للمرأة، وكل ما تنتجه

ص: 27

العبقرية الفنية من صناعة ونسيج للمرأة، وكل ما يشاد من قصور المرمر للمرأة.

لقد شيدت قصور الحدائق المعلقة في بابل القديمة لامرأة، وتاج محل في الهند لامرأة، وقصر الحمراء في الأندلس لامرأة، وتهدمت يد لادي هاملتون فأزاحت الستر عن عبقرية الأميرال نلسون، ويد جوزفين عن نابليون، وبياتريس عن دانتي، وكليوبطرة عن يوليوسس قيصر، وليلى عن المجنون.

إن عين المرأة دائبة البحث في الحياة عن مجنون يهيم بحبها، ولكل امرأة في حياة قلبها مجنون يهيم بها وتهيم به في حب صحيح. والمرأة حين تبحث عن ذلك المجنون فلا تراه في حياتها، إنما يكون ذلك إيذانا بانهزامها من الحياة وفشلها، وحين تفشل المرأة في الحب، يقودها الفشل إلى طريق القبر الموحش الحزين، وتنطوي على نفسها في صمت كئيب قاتل طويل، يذهب ربيع الحب منه، ويقبل الخريف عليها فيه فتذوي معه كما تذوي أوراق الدوح في قبضة الأعاصير.

الحب حياة المرأة، وما أقسى تلك الحياة إذا لم تعثر المرأة فيها على الحبيب في مسالك الوجود! وما أشد تعاسة القلب، تجمعه روابط الزواج بامرأة، ويلاقيها في أجمل ليلة في الحياة، وهي كلزنبقة البيضاء العاطرة في ملابس عرسها، على غير أساس من الحب الصحيح المجرد عن معاني التراب.

الحب هبة السماء إلى الأرض، وصفو الحياة ونعيمها، وهو هبة القلب إلى القلب، ولا يستطيع الذهب والجوهر العثور عليه في الدنيا.

لقد ابتدأت الحياة بامرأة واستمرت بامرأة وستنتهي بامرأة حين تشاء القدرة أن يزول الوجود.

علي محمد سرطاوي

ص: 28

‌زعماء التاريخ

مصطفى كمال أتاتورك

للأستاذ عبد الباسط محمد حسن

(لم يكن مصطفى كمال. رجلا من رجال المصادفة والحظ. يرفعه إلى البطولة خلو الميدان. ويدفعه إلى الزعامة غباء الأمة. وإنما كان من الصفوة المختارة الذين يضع الله فيهم الهداية للقطيع الذي يوشك أن يضل والحيوية للشعب الذي يأبى أن يموت. . .)

(الزيات بك)

- 3 -

انتقل مصطفى كمال إلى دمشق. . مبعدا عن القسطنطينية. وكان السلطان يظن بذلك أنه لن يستطيع أن يواصل عمله ونشاطه. . وأن صلته بأقرانه قد انقطعت. . وأن وجهوده قد توقفت - ولو إلى حين -!!

ولكن كيف تهدأ نفس (مصطفى) الثائرة، وتخبو آماله العريضة، وتسكن حركته المتدفقة!

لقد بدأ يواصل عمله ونشاطه في دمشق وبيروت. . واتصل (بمفيد لطفي) وهو أحد زملائه القدامى. . في المدرسة الحربية. . وأحد مؤسسي فروع الجمعية في بلاد الشام. . . كما اتصل بقائد ميناء (يافا) وكان مناصرا لأعضاء الجمعية وظل مصطفى يطوف بمختلف بلاد الشام. . داعيا إلى إصلاح الإمبراطورية العثمانية - مركز الخلافة الإسلامية.

ولكن أهل هذه البلاد من العرب. . لم يحفلوا بدعوته. . وكان معظمهم ثائرين. . لا من أجل حرية تركيا. . ولكن من أجل حرية بلادهم. . ومنذ ذلك الحين بدأ مصطفى كمال ينظر إلى وطنه مستقلا عن بقية أجزاء الإمبراطورية. . ووضع أساس سياسته الذي سار عليه طول حياته (تركيا. . للأتراك).

وفي الوقت الذي أبعد فيه مصطفى كمال عن القسطنطينية. . تكونت عدة جماعات وطنية منها (جمعية الاتحاد والترقي) التي كان هدفها الرئيسي وضع دستور للبلاد. . فلما سمحت له الظروف بالعودة إلى وطنه. . أراد أن يشترك في هذه الجمعية ولكنه لم يكن على وفاق مع زعمائها. . ولذلك فضل العمل بمفرده.

ص: 29

وفي سنة 1908م. . قامت ثورة في تركيا الفتاة. . التي انتهت بالحصول على الدستور ولم يكن لمصطفى نصيب في هذه الثورة.

وحينما نشبت الحرب بين إيطاليا وطرابلس. . رأى أن يتطوع لمعاونة القوات الوطنية التي تحارب الغزاة الإيطاليين. . وقد استطاع الوصول إلى ميدان الحرب. . رغم معارضة الحكومة العثمانية. . وتضييق الرقابة الإنجليزية. . المسيطرة على مصر في ذلك الحين. . وظل يعمل في الميدان الجديد إلى أن نشبت الحرب البلقانية. . ضد تركيا سنة 1912م.

وحينما نشبت الحرب الكبرى. . انضمت تركيا إلى ألمانيا. فاشترك مصطفى كمال في هذه الحرب. . وقام بنصيب كبير في الدفاع مع بلاده حتى وصل إلى مرتبة الزعامة الحربية. . رغم معارضة وزراء الحربية له. ووقوفهم في وجهه. . وإبعاده في كثير من الأوقات عن ميادين القتال. . وقد حاول الإنجليز مرتين اقتحام الدردنيل. . ولكنه استطاع أن يردهم المرة تلو المرة. . حتى تراجعوا في 14 ديسمبر سنة 1915. . . ولذلك أطلق عليه اسم (منقذ الدردنيل)

وكان مصطفى كمال يحمل على الألمان حملة شعواء. . ويقول (إنه من الحمق والجنون أن نسمح للأجانب بالسيطرة على الجيش)، وهو عدة الحياة لنا. . يجب علينا نحن الأتراك. . أن ننهض بجيشنا. وإنها لإهانة للوطن كله أن ندعو ضباطا بروسيا ليتولى عنا تنظيم جيشنا. .)

وحينما انتهت الحرب. . خرجت تركيا مهزومة ذليلة. . وكانت النكبة الكبرى على الدولة العثمانية احتلال اليونان لمنطقة أزمير - فقد كان ذلك يبعث في نفوس الأتراك ألما وحسرة وقلقا. . ويدعو إلى التشاؤم. . والخوف من المستقبل.

خرجت تركيا من الحرب مهزومة ذليلة. . فأنتهز اليونانيون الفرصة. . وطلبوا من الحلفاء أن يسمحوا لهم باحتلال أزمير.

وفي الخامس عشر من شهر إبريل سنة 1919م. . بدأت الجيوش اليونانية تنزل أرض الأتراك - الذين كانوا بالأمس القريب سادة عليهم - وقد اقترن نزولهم في هذا الميناء بالوحشية والقسوة. . فاعتدوا على الأهالي المسالمين. . وقتلوا عددا كبيرا من الجنود الأتراك. . وقد رأت الكاتبة الفرنسية مدام جوليس ما حدث عند نزول اليونانيين في

ص: 30

أزمير. . فتقول في مذكراتها:

(بدأ اليونانيون ينزلون إلى البر. . وقد انتظموا صفوفا يتقدمهم علم يوناني كبير. . وازدحمت على جانبي الطريق الخالي من الأتراك. جموع من الأروام. . وقفت تهتف للقائد اليوناني الكبير - فنزيلوس - وكانت وجهة المحتلين والمتظاهرين. . الثكنة العسكرية التركية. . التي آوى إليها جنود الحامية التركية مع عدد عظيم من الضباط. . والشبان القدمين للاقتراع. . وكان جنود الحامية قد سلموا أسلحتهم تنفيذاً للأوامر. . وما هي إلا فترات قصيرة حتى أحاط الجيش المحتل بالبناء. . ثم دوت طلقة من أحد المتظاهرين كانت إيذانا بحركة فاجعة. . فقد صوب المحتلون مدافعهم. . فطارت مصاريع النوافذ الزجاجية. . وامتلأ الفناء بجثث القتلى والجرحى. .

وحاول الأتراك المحاصرون أن يدافعوا عن أنفسهم. . فاخذ أحدهم قطعة قماش رفعها. . وسار صائحا في إخوانه. . كي يتبعوه، ولكن نيران المدافع كانت أقوى من بسالتهم، فمات منهم كثيرون)

يقول المؤرخ الإنجليزي الكبير هربرت فشر (قد يتحمل الأتراك احتلال أية دولة لأزمير، أما أن تخفق الراية اليونانية الحقيرة المزدراة فوق أي صقع من أصقاع آسيا الصغرى، فكان يعد من جانب كل تركي وطني صميم إهانة لا تغتفر ولا تطاق ولذا أثار نزول الجيش اليوناني في أزمير موجدة الترك، وأهاج حفيظتهم، وأذكى في نفوسهم تصميما على مقارعتهم، وأتاح لمصطفى كمال، منقذ الدردنيل وأنبغ قواد الجيش التركي، الفرصة لخلق دولة تركية مستقلة لخلق دولة مستقلة جديدة)

نظر مصطفى كمال إلى الحالة السيئة التي وصلت إليها بلاده. . فلقد أبعد الأتراك عن قناة السويس. . وطرد من العراق وسوريا وفلسطين. . وألقى الأسطول الإنجليزي مراسيه في مضيق الدردنيل. . . وغدا السلطان دمية في أيدي الساسة البريطانيين. . ولم يبق للأتراك سوى آسيا الصغرى التي أحتل اليونانيون جزءاً منها. . وبدأ مواطنوه يخضعون للحكم الأجنبي، ويفقدون الثقة في حاضرهم ومستقبلهم. . ولا يفكرون في وسائل الخلاص!!

ومع هذا الفساد في الحكم. . والتشاؤم من المستقبل المظلم. . بدأ مصطفى كمال يفكر تفكيرا جديا في تحرير وطنه. وتخليص بلاده. وبعث الشعور القومي من جديد.

ص: 31

وكان برنامجه يقضي بالعمل على استقلال تركيا استقلالا كاملا. . ثم تنظيم الحياة القومية تنظيما مستمدا من أصول الحضارة الغربية.

أخذ مصطفى كمال يبث الدعوة إلى فكرته. ويجمع المخلصين حولها. . وكان مما حدث أن قابل السلطان - وحيد الدين - وحدثه عن آلامه. . وحاول أن يبث فيه الجرأة والصلابة. . ولكن السلطان خاف على مركزه ونفوذه. . وخشي أن يغضب الدول الكبرى. . ولذلك رفض مساعدة مصطفى كمال.

وحينما شعر المراقبون الأجانب، بهذه المساعي التي يبذلها، والجهود التي يقوم بها. خشوا أن يكون لحركاته أثر في القسطنطينية عاصمة الدولة. ومصدر توجيه الأمة. . ولذلك عملوا على محاربته (ومقاومة حركته) وذلك بإبعاده عن العاصمة. .

البقية في العدد القادم

عبد الباسط محمد حسن

ص: 32

‌أبو العتاهية

للدكتور محمد عبد العزيز الكفراوي

انتهينا من بيان الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ما حدث من انقلاب في حياة شاعرنا سنة ثمانين ومائة للهجرة، وعرفنا أن أهمها هو شعوره بالضعة لما كان من وضاعة آبائه وأجداده، وما استتبع ذلك من حقد على ذوي الجاه والنفوذ في عصره، وسخط على الحياة والأحياء عامة. وثانيهما نقمته على هارون وبغضة له. وثالث تلك الأسباب هو تدخل الفضل بن الربيع وزبيدة وتشجيعهما للشاعر على الثورة ضد الخليفة.

واليوم تبدأ المرحلة الثانية في دراستنا وهي الثيام بجولة في شعره لنرى مدى انطباق ما قدمنه من نظريات على تلك الأشعار، ولنبدأ بما كان من شعر الشاعر خاصا بهارون. ولعل القارئ الكريم يتوقع مما ذكرناه آنفا أن يرى لأبي العتاهية في هارون نوعين مختلفين من الشعر: شعر ينبعث من نفس مليئة حقدا على الخليفة لما كان من تثاقله في أمر عتبة ثم ما كان من حبسه للشاعر في غير جريرة اللهم إلا استعماله لحقه الطبيعي من الامتناع عن الغزل. وشعر من نوع آخر لا ينفس به الشاعر عن نفس مغيظة أو عواطف مكبوتة، ولكن يحاول فيه أن يفي للفضل وزبيدة بما أخذه على نفسه من تسخير ملكته الشعرية لخدمتها.

وقد كان النوع الأول يتمثل في تأليب الناس على الخليفة أملا في تقويض ملكة وزوال سلطانه، ويتمثل أيضاً في تلك الأشعار الكثيرة التي كان يرجو فيها للخليفة موتا عاجلا يريحه ويريح منه، فمن ذلك تلك الأبيات التي أرسلها الشاعر إلى خزيمة بن خازم أحد قواد الرشيد الأكفاء والتي يقول فيها:

ألا أن تقوى الله أفضل نسبة

تسامى بها عند الفخار كريم

إذا ما اجتنبت النفس إلا على التقى

خرجت من الدنيا وأنت سليم

أراك أمرأ ترجو من الله عفوه

وأنت على مالا يحب مقيم

تدل على التقوى وأنت مقصر

أيا من يداوي الناس وهو سقيم

وأذللت نفسي اليوم كيما أعزها

غدا حيث يبقى العز لي ويدوم

والأبيات كما هي الآن مجردة من تعليق الرواة لا توحي بان وراءها معنى خاصا، وما هي إلا كغيرها من القصائد الكثيرة التي يمر بها القارئ في ديوان أبي العتاهية ويأخذها على

ص: 33

أنها نوع من الوعظ لم تقصد به شخص بذاته ولا يهدف إلى غرض بعينه حتى أن جامع الديوان قدم لها بقوله (وقال في تقوى الله وحسن منافعها وحميد عاقبتها) والآن انظر المناسبة التي قيلت فيها حتى تعرف بالتحديد قصد الشاعر بها: وإليك ما يرويه الأغاني في بيان تلك المناسبة: (حدث حبيب بن عبد الرحمن عن بعض أصحابه قال: كنت في مجلس خزيمة فجرى حديث ما يسفك من الدماء فقال: والله عذر ولا حجة إلا رجاء عفوه ومغفرته. ولولا عز السلطان وكراهة الذلة وأن أصير بعد الرياسة سوقة وتابعا بعد ما كنت متبوعا ما كان في الأرض ازهد ولا أعبد مني. فإذا هو بالحاجب قد دخل برقعة من أبي العتاهية مكتوب فيها الأبيات السالفة فغضب خزيمة وقال: ولله ما المعروف عند هذا المعتوه الملحف من كنوز البر فيرغب فيه حر. فقيل له. وكيف ذلك؟ فقال: لأنه من الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله)

يظهر أن خزيمة كان يجلس إلى نفر من الشيعة أو غيرهم من الطوائف التي كانت تنقم من هارون ميله لسفك الدماء، ويظهر أنهم لاموا خزيمة في تعاونه مع هارون لما يرتكبه الأخير من مظالم. والأبيات واضحة في معناها وفيها يثبط الشاعر خزيمة عن مناصرة الرشيد ويذكره بآخرته ويبين له أن الفخر إنما هو في التقوى والعز الحقيقي إنما هو عز الآخرة لا الدنيا.

وإليك أبيات أخرى من قصيدة قالها الشاعر وهو في سجن الخليفة وفيها يقول.

أما والله أن الظلم لؤم

وما زال المسيء هو الظلوم

إلى ديان يوم الدين نمضي

وعند الله تجتمع الخصوم

ستعلم في الحساب إذا التقينا

غدا عند الإله من الملوم

سينقطع التروح عن أناس

من الدنيا وتنقطع الغموم

تنام ولم تنم عنك المنايا

تنبه للمنية يا نؤوم

تموت غدا وأنت قرير عين

من الغفلات في لجج تعوم

ومع أن القصيدة تسعة عشر بيتاً فنحن نعتقد أن الشاعر إنما أرسل منها إلى الرشيد الأبيات الأخيرة فقط واحتفظ بالباقي لنفسه، لا كما يذكر الرواة من أنه أرسل القصيدة بتمامها إلى هارون، ولو أنه فعل لأستوجب سفك دمه. الأبيات الأخيرة التي أرسلها تروي هكذا:

ص: 34

ألا يا أيها الملك المرجى

عليه نواهض الدنيا تحوم

أقلني زلة لم أجر منها

إلى لوم وما مثلي ملوم

وخلصني تخلص يوم بعث

إذا للناس برزت الجحيم

وشبيه بذلك تلك الأبيات التي يقوم فيها الشاعر:

أراك لست بوقاف ولا حذر

كالحاطب الخابط الأعواد في الغلس

أنى لك الصحو من سكر وأنت متى

تصح من سكرة يغشاك في نكس

ما بال دينك ترضى أن تدنسه

الدنيا وثوبك مغسول من الدنس

ويروي أبو الفرج أن أبا العتاهية أنشد الرشيد بعض أبيات هذه القصيدة حين قال به الأخير: عظني فقال الشاعر. أخافك فقال له أنت آمن فأنشد:

لا تأمن الموت في طرف ولا نفس

إذا تسترت بالأبواب والحرس

واعلم بان سهام الموت قاصدة

لكل مدرع منها ومترس

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

إن السفينة لا تجري على اليبس

ووجه الشبه بين القصيدتين أن كلا منهما تحتوي على أبيات فيها اعتدال، ولذا أمكن إنشادها للرشيد وأخرى لم ينشدها الشاعر لما فيها من المظاهر الحقد والضغينة ولكنها في الوقت نفسه تبين لنا رأي الشاعر في الخليفة وعواطفه نحوه، وإننا لنرجح أن الشاعر قد قال في هارون مقطوعات شعرية غير التي أسلفنا عبر فيها عن بغضه له وحقده عليه، ولكن الرواة لم يهتدوا إلى غرض الشاعر منها حيث أنها لم تقترن بما يميزها من ظروف وملابسات على نحو ما حدث في الأمثلة السابقة، فنحن مثلا لا نشك في أن أبا العتاهية كان يقصد الرشيد حين قال:

حتى متى تصبو ورأسك أشمط

أحسبت أن الموت في اسمك يغلط

أم لست تحسبه عليك مسلطا

وبلى وربك أنه لمسلط

ولقد رأيت الموت يضرس تارة

جثث الملوك وتارة يتخبط

إلى آخر ما قاله في تلك المقطوعة، وإنما ذهبنا هذا المذهب لأن هارون الرشيد كان إذ ذاك الشخص الوحيد الذي له من السلطان والسطوة ما يمكن معه أن يشك في تسلط الموت عليه إن الحق لشخص ما أن يشك في تلك القضية، كما ذكر الملوك في البيت الثالث يرجح أنه

ص: 35

كان يعني بما يقول واحداً منهم، على أن الشاعر يبدي لنا رأيه في الرشيد بصراحة وذلك في أبيات يبدؤها بقوله:

إن الملوك بلاء حيثما حلوا

فلا يكن لك في عيش لهم ظل

ومما يحمل على الاعتقاد بان أبا العتاهية إنما كان يعني بما يقول هارون ما أخذه الشاعر على الملوك من الملل حين يتحدث إليهم متحدث، واتهامهم الناصح بالغش وذلك يمثل حال الشاعر مع الرشيد بالذات، لأنه الخليفة الوحيد الذي كانت علاقته بالشاعر تسمح بمسامحة أحدهما للآخر، ومن ثم تعطي فرصة لحديث معاد مملول أو نصيحة غير مقبولة.

والآن وقد وقف القارئ الكريم على طبيعة ما كان بين أبي العتاهية والرشيد من علاقة يسرنا أن نشركه معنا في تدبر القصة التالية: يروي أبو الفرج أن رسول ملك الروم قدم إلى الرشيد فسأل عن أبي العتاهية وأنشد شيئا من شعره وكان يحسن العربية، فمضى إلى ملك الروم وذكره له فكتب ملك الروم إليه ورد رسوله يسأل الرشيد أن يوجه بأبي العتاهية يأخذ فيه رهائن من أراد وألح في ذلك، فكلم الرشيد أبا العتاهية في أمر سفره فأباه، واتصل بالرشيد أن ملك الروم أمر أن يكتب بيتان من شعر أبي العتاهية على أبواب مجالسه وباب مدينته وهما:

ما اختلف الليل والنهار ولا

دارت نجوم السماء في الفلك

ألا لنقل السلطان عن ملك

قد انقضى ملكه إلى ملك

ألا توافقنا على أن في هذه القصيدة شيئا من الغرابة؟ فإذا صح أن سفير الروم كان يعرف العربية وكان لذلك يتذوق شعر أبي العتاهية فما بال ملك الروم يتطلع إلى سماع شعر أبي العتاهية هو الآخر؟ فهل كان يعرف العربية أيضا؟

ومهما يكن من شيء فنحن نشك في أنه كان متحمسا لشعر أبي العتاهية تحمسا يدعوه إلى أن يلح في طلبه ذلك الإلحاح، وأكبر ظني أنه كان يريد استغلال الشاعر استغلالا سياسيا على نحو ما تفعل الدول اليوم من اجتذاب أحد أبناء الشعوب المشتبكة في حرب معها إليها، وتسخيره للدعاية ضد الحكومة القائمة في وطنه. فما من شك في أن جواسيس كثيرة كانت تعمل إذ ذاك لصالح الروم وكانت تتخذ من بغداد مركزا لنشاطها، وما من شك في أن الروم كانوا على علم تام بأساليب تلك الدعاية وآثارها، ألا ترى أنهم استغلوا رجلا آخر

ص: 36

قبل أبي العتاهية وهو يونس بن أبي فروة الذي كتب لهم كتابا فيما أخذه الإسلام من معايب بزعمه. فما الذي يمنعهم حين علموا ما علموا عن بغض أبي العتاهية للرشيد من استقدامه إليهم وإعطائه فرصة كاملة لتسجيل ما كان يأخذه على الرشيد من ميل إلى اللهو وعكوف على الملذات واستهتار بالدين. وليس هناك أدنى شك فيما كان يمكن أن تحدثه تلك الأشعار من أثر شيء في روح جيش الرشيد المعنوية، فقد كان كثيرا من أولئك الجنود يذهبون إلى حرب الروم والحماسة الدينية تملأ صدورهم لما يعتقدونه من عدالة القضية التي يدافعون عنها، ولكن حين يتضح لهم أن حليفة المسلمين وحامي حمى الإسلام وقائد تلك الحملات ما هو ألا رجل خليع مستهتر وليس له من مظاهر الدين إلا احتراف الحروب ضد الروم فستخبو حماستهم وتضعف عزائمهم وتتفرق كلمتهم. ونحن لا نستبعد أن يكون ملك الروم إنما أعجب بالبيتين اللذين ذكرا فيما سبق لما يبشران به من موت الرشيد، ذلك الخصم العنيد الذي فشلت جيوش الروم في صد غاراته أو وقف حملاته. هذا ويذهب البروفيسور جيوم إلى أن ما أورده الأغاني خاصا بما كان بين ملك الروم وأبي العتاهية من مكاتبات وما كان من إعجاب الأول بشعر الأخير ليس إلا محض اختلاق أراد به مختلقة أن يبرهن على أنه كان من بين ملوك المسيحيين من هو أشد حرصا على سماع الموعظة الحسنة من ملوك الإسلام.

وإنا إذ نترك الكلمة الأخيرة في تلك المسالة إلى القارئ الكريم ليسرنا أن نعود معه إلى تلك القصائد والمقطوعات التي كان الشاعر يهدف فيها إلى تنفير الرشيد من اللهو والعبث وفاء بما قطعه على نفسه للفضل وزبيدة من عهود. وأول ما يلاحضه الباحث على تلك المقطوعات هو كثرتها وتنوعها، وقد أدى إلى كثرتها وتنوعها على تلك الصورة ما كان من ميل الشاعر الطبيعي إلى ذلك النوع من الشعر الوعظي، فقد كان ذلك اللون من الشعر يستهوي العامة فيجمعهم حول الشاعر ويزيد في حبهم واحترمهم له، وفي ذلك تعويض لما يحسه من ضعة نتيجة لضعة آبائه وأجداده.

وقد كانت طريقة الشاعر في وعظ الرشيد تختلف من وقت لآخر تبعا للمناسبات، فهو حينا ينهاه عن اللهو نهيا مباشرا وحينا يذكره بما أصابه من شيب وأحيانا يبصره بما لا بد أنه ملاقيه من موت. وهكذا تعتقد أن الشاعر كان يخاطب الرشيد بكثير من المقطوعات التي

ص: 37

تنهي عن اللهو واللعب كتلك التي تبدأ:

أنلهو وأيامنا تذهب

ونلعب والموت لا يلعب

أسلك بني مناهج السادات

وتخلقن بأشراف العادات

على أنه إذا كان هينا لينا في المقطوعتين السابقتين فقد يصل أحيانا إلى حد الإزعاج كما في قوله:

أيامن بين باطيه ودن

وعود في يدي غاو مغن

إذا لم تنه نفسك عن هواها

وتحسن صوتها فإليك عني

فإن اللهو والملهي جنون

ولست من الجنون وليس مني

وأي قبيح اقبح من لبيب

يرى متطرباً في مثل سني

إذا ما لم يتب كهل لشيب

فليس بتائب ما عاش ظني

ولعلنا لا نكون قد ذهبنا بعيدا إذا ادعينا أن بعض تلك المقطوعات كان ينشد بصورة جمعية، ومن يدري لعل زبيدة كان لديها من الجواري من يقوم بإنشاد تلك الأشعار في جانب من جوانب قصر الخلاقة لترد بذلك على ما كان ينشد في الجانب الآخر من أناشيد الحب والغزل، ألا توحي موسيقى المقطوعتين التاليتين أنهما إنما أنشئتا لذلك الغرض

أنظر لنفسك يا شقي

حتى متى لا تتقي

أو ما ترى الأيام

تختلس النفوس وتنتفي

خير الرجال رفيقها

ونصيحها وشقيقها

والخير موعده الجنا

ن وظلها ورحيقها

والشر موعده لظى

وزفيرها وشهيقها

وليس ذلك بغريب على زبيدة، ألا ترى أنها عهدت إلى مائة من جواريها بقراءة القرآن في قصرها ليلا ونهارا، وما نظن أن ذلك العمل كان خالصا لوجه الله تعالى وإنما كان للغرض الذي أشرنا إليه في السطور السابقة.

وقد أعتمد الشاعر في تنفيره من الملاهي والملذات على مخالفتها للدين ومجانبتها للآداب العامة، وكان ينظر إليها في بعض الأوقات نظرته إلى ضرب من ضروب الجنون الذي لا يليق بالعقلاء من أمثاله! فكيف بخليفة رسول الله وابن عمه وولي أمر المسلمين من بعده.

ص: 38

وأخيرا ينتهي عنها لما تعقبه من حسرات أو تصيب به من فساد وتحطيم.

أما شيب الرشيد المبكر فقد أعطى الشاعر فرصة كاملة لوعظه والإلحاح عليه في ذلك إلحاحا مملا. فاللهو في رأيه من شأن الشباب؛ أما الشيوخ فالوقار والتدين أولى بهم، ألم يجعل القرآن سن الأربعين الحد الفاصل بين حياة اللهو وحياة الجد إذ يقول (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن اشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه) ولم لا والشيب نذير الموت بل هو الموت بعينه:

الشيب إحدى الميتتين تقدمت

إحداهما وتأخرت إحداهما

ويزعم الشاعر أن المرء بالذات في شيخوخته كما كان يشعر بها في شبابه، ففيم إذن يرتكب الآثام وينتهك الآداب:

وإذا كبرت فهل لنفسك لذة

ما للكبير بلذة متمتع

ونحن لا نشك فيما كان يصيب هارون من ضيق وارتباك عند سماع تلك الأشعار؛ ألا ترى ما فعله بأحد المغنين حين غناه:

وأرى الغواني لا يواصلن امرأ

فقد الشباب وقد يصلن الأمردا

وقد أمر الخليفة به فسحب على وجهه وأخرج من المجلس وقال له: يا ابن الفاعلة أتعرض بي في عنائك؟

وإنا إذ نختتم هذا المقال لنرجو أن نعود إلى استئناف الكتابة في هذا البحث بعد أسابيع قلائل أن شاء الله تعالى

محمد عبد العزيز الكفراوي

ص: 39

‌رسالة الشعر

موكب العيد. .

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

يا حبيبي أقبل العيد وضئ القسما

وتجلى مشرق الطلعة حلو البسمات

كسماء تتلألأ بالنجوم النيرات

أو كزهر ماج بالأشذاء فوق الربوات

فاستفق يا ناعس الطرف ويا حلو التثني

ومع الأطيار فوق الدوح هيا لنغني

يا حبيبي أي عيد طاف بالزوراء ضاح

عاطر الأنفاس كالبهجة منشور الجناح

أهو (الفطر) وذي ضجة أعراس الملاح

أم ترى موكب (آذار) تهادي في البطاح

هاتفاً بالفرحة الكبرى وباللحن المرن

صادحاً في كل قلب، هازجاً في كل أذن

يا (هنائي) أنت لي عبد مع العيد سعيد

حبك الملهم لي فجر على شعري جديد

أنت هذا الوتر الشادي بقلبي والنشيد

أنت هذا النغم المسحور والنور الوليد

أنت أنغامي وأحلامي وأقداحي ودني

أنت عطر عبق الشعر به بل كل فن

يا (هنائي) سئم الليل اصطباري واشتياقي

كم شربت السهد - والشوق معي - مر المذاق

ونديمي القمر الولهان، والسلوان ساقي

أتملاك على البعد، فأهفو للتلاقي

ص: 40

وأغني يا منى نفسي ما هذا التجني؟!

أو ما يكفيك تسهيدي وتشريدي وسجني

أو ما تكفيك آمالي على كفيك تطوى؟

أو ما تشجيك أحلامي على النار تلوى؟

أو ما يرضيك وأزهاري على الأشواك تذوي؟

صرت من حبك مأساة على الأيام تروي

رددت أصداها الأطيار من غصن لغصن

وإذا بي دمعة مخنوقة في كل جفن

عني يا (دجلة) أنغام الصبايا الفرحات

وانشري الفتنة في الوادي، وفوق الربوات

شاركي (بغداد) بالأنس، وهاتي النغمات

نحن في عيد تحلى بالأماني النضرات

وتجلى فوق (بغداد) وضيئاً كالتمني

كيف لا يطرب سمع الكون من سحر التغني

هو عيد عم دنيا الشرق، والشرق وضئ

فتجلى فيه نور من هداه قدسي

وهو عيد مثل أنغامي وأوتاري شجي

عيد عزكم تمناه إلى الشرق الأبي

وكم اشتاقت إلى ضاحي سناه كل عين

فعمى يغمر وجه الشرق منه ومض حسن

عبد القادر رشيد الناصري

ص: 41

‌الكتب

أسس الاصطلاح العالمي

تأليف الأستاذ محمد عبد الغني

للأستاذ منصور جاب الله

منذ أربعين عاماً أو تزيد، والأستاذ محمد عبد الغني يعمل منافحاً لنشر الدعوة الإسلامية على حقيقتها داعيا إلى الأخذ بتعاليم الإسلام في كل شأن من شؤون الحياة، مستصرخا الحكام وولاة الأمر أن يهبوا للإصلاح على أسس قويمة من الدين الحنيف والشريعة السمحة.

وعلم الله أننا ما بصرنا بالأستاذ محمد عبد الغني متوانيا ولا متخاذلا في نشر رسالته رغم المعوقات والمخذلات التي وضعت في طريقه، فهو على الدوام يخطب في المساجد والجوامع، أو يراسل أولي الشأن في المهم من الأمور، أو يحبر المقالات المطولة وينشرها في الصحف، أو يؤلف الكتب حسبة لوجه الله لا يبغي كسبا ماديا ولا ربحا ماليا.

ولقد قدمت لقراء (الرسالة) بعض مؤلفات الأستاذ محمد عبد الغني قبل سنوات ن وأبرزت النهج الفريد الذي اختطه المؤلف لنفسه، وألمحت إلى جرأته الشديدة في عرض وجهة نظره غير مبال بما قد يلحقه من أذى الحكام أو أوصاب الحياة.

واليوم يقدم لنا الأستاذ المجاهد أحدث مؤلفاته مختاراً له هذا العنوان (أسس الإصلاح العالمي على ضوء الهدى الإسلامي) ومن خلال العنوان يدرك القارئ الغرض السامي الذي يستهدفه مؤلفنا الفاضل، ولندع المؤلف يتحدث في مقدمته حيث يقول:

(أي إنسان ينظر إلى الإنسانية لا بالمنظار المركزي ولا بالمنظار الجنسي والمذهبي، بل بالمنظار العالمي الإنساني، يضع أمامه ذلك الاعتبار الذي وضعه الإسلام، واعتبار أن العالم كله على اختلاف ملله وأجناسه وأنواعه، وعلى تنائي دياره وأقطاره، يتصل بتلك الصلة الأولية العظيمة، صلة الأبوة والأمومة الأوليين، والذي يقدر تلك الوشائج الرحمية لا ينظر لأي أمة بالمنظار الأسود، منظار التحيز الممقوت، والتعصب الجنسي والوطني والإقليمي المرذول، بل ينظر إليها كأنها أمة شقيقة لأمته وكأن أفرادها إخوة له في

ص: 42

الإنسانية وفي الفضائل والكمالات البشرية، وإذا تسامى عن التحيز والهوى تحاشى أن يندفع للأضرار بفرد مهما تكن تبعيته وملته وجنسيته ووطنيته، وإنه إن غفل عن تقدير هذا الشعور وتحامل على من يخالفه في الاعتبارات الشخصية والمركزية فقد تجرد عن القيم الروحية، تجرد عن الروح الإنسانية وانحدر إلى التعصب والى حضيض الوحشية)

بهذه الفكرة المتسامية بدأ المؤلف رسالته، ثم تحدث عن شقوة هذا العالم اللذي نعيش فيه وأورد بيانات إحصائية عن القتلى والجرحى والمنكوبين في الحربين العالميتين الماضيتين، وفي الحروب التي وقعت بينهما والتي تلتهما، واستطرد من خلال ذلك إلى أن ساسة العالم لو قد فاءوا إلى مثل روحية عليا لجنبوا الإنسانية كل هذه الموبقات.

ثم تحدث المؤلف عن حرب الموبقات والشهوات وما ينفقه كل شعب على شهواته المتلفة كالخمر والمخدر وما إلى ذلك، ثم عطف من ذلك الحديث إلى الحديث عن عظمة الإسلام وشهادة العلماء الأعلام من غير المسلمين بروحانية هذا الدين الحنيف، وكيف أنه الحصن الملاذ الذي يمكن أن يقي الناس جميعا من التردي في مهاوي التهلكة.

ثم تدرج من ذلك إلى تبيان أنواع العبادات في الإسلام وبسطها بسطا فلسفيا يدعو إلى الإعجاب، ووازن بينها وبين العبادات في الأديان الأخرى، وخلص من ذلك إلى أن الإسلام جماع الأديان كلها، انتظم فضائلها وجمع أشتاتها، فانصبت فيه الخلاصات الروحية بحسية آخر الرسالات السماوية.

وبعدئذ أنشأ المؤلف يسرد الأدواء التي حاقت بالإنسانية ويصف لكل داء ما يكفل شفاءه من آيات كتاب الله، ولقد أوفى الأستاذ عبد الغني من ذلك على الغاية حتى أنه استعان بكل ما في القرآن الكريم من الآيات البينات، وبدت تلك الكلمات القدسية كالوشي الصقيل على صفحة الخريدة الحسناء.

وأنحى المؤلف إنحاء شديداً على المدنية الغربية التي فرقت الناس شيعاً، ونشرت روح التعصب الديني والطائفي، ودعت إلى فض الخلافات بالقوة المسلحة، فأوغرت الصدور، وأرثت الحزازات، وإذا العالم يسير في طريق الفناء والدمار.

وعرج الكتاب بعد ذلك على مواقف السلف الصالح من أبناء الإسلام في تقويم المعوج، ونشر الإصلاح والنصح للخلفاء والعمال.

ص: 43

وختم المؤلف كتابه بمقترحات توجه بها إلى ولاة الأمور، وأخص هذه المقترحات المطالبة بالرجوع إلى التشريع الإسلامي (فلو وفقنا للرجوع إلى الإسلام فقد وفقنا لإنقاذ الأمة مما تعانيه من الخطوب والكروب والويلات التي تستهدف معها لسخط الله وانصباب صواعق النقم على رؤوسنا) إلى آخر ما قال الكاتب بجرأته التي تسترعي الانتباه.

وفي مقدمة المقترحات التي عني بها صاحب (أسس الإصلاح) تأليف وزارة للشؤون الإسلامية تكون لها الولاية على إقامة الشعائر الدينية فتعاقب المسلم الذي يتوانى في أداء الفرائض من صلاة وزكاة وحج إن استطاع إليه سبيلا، وكذا تتولى القضاء على هذه البوائق التي ارتكس فيها المسلمون مندفعين وراء تيار المدنية الكاذبة، ويقوم على رأس هذه الوزارة - وزارة الشؤون الإسلامية - وزير يلقب بشيخ الإسلام - وهو غير شيخ الأزهر - (تكون له الهيمنة على شيوخ المعاهد وله السيطرة في الوزارة الإسلامية وعلى سائر الوزارات والهيئات فيما يتصل بالشؤون الدينية وتكون تحت إدارته قوة عسكرية لتنفيذ الأوامر الدينية) وبعد ذلك (يعين مجلس إسلامي أعلى تحت رياسة شيخ الإسلام لإعداد المؤلفات الدينية للرد على الطاعنين في الإسلام وعلى الطوائف الخارجة عنه) ثم اقترح (عقد مؤتمر إسلامي كل عام ينهض بالمسلمين) كما يرى حضرته (توسيع اختصاص المحاكم الشرعية على مثل الحكم الإسلامي في فجر الإسلام)

وبعد، فإن الأستاذ عبد الغني مستحق ولا شك كل إعجاب لهذا المجهود الذي بذل، وهذه الشجاعة الأدبية التي لم تتخل عنه في كل أطوار حياته، جزاه الله عن الإسلام والمسلمين.

منصور جاب الله

ص: 44

‌البريد الأدبي

بين أستاذين

جاءنا من الأستاذ كامل السيد شاهين رد على رد الأستاذ أحمد الشرباصي لا تلائم لهجته طبيعة الصداقة والزمالة بين الأستاذين الفاضلين، فرأينا أن نطويه معتذرين، إبقاء على المودة واكتفاء بما نشر

دعابة إلى الأستاذ علي الطنطاوي

ما يمنعك يا سيدي من أن ترحل على بعير، أو تقيم في خباء. . ما دمت تود مناجاة الرمال، ومرافقة الوحشة ثلاثة أشهر تنفقها في سخاء بين (دمشق) و (بغداد) فما الذي يقف حجاز بينك وبين ما تريد؟

لقد طوت المدينة الحديثة الأبعاد الفسيحة، كما تطوى اليد الكبيرة السفر الصغير، حتى جمعت العالم حول مائدة، وإذا كانت الدنيا اليوم بين فكي صداع، تلوكها أنياب التهديد والوعيد، فأن البشر لعلى أمل كبير في انتصار السلام، ما دامت دعوات (العلمية) تلقي النصير في (المواطن العالمي) ويذهب المؤمنون بالإنسان من المتفائلين - وهي خصلة نبوية، إلى أن زمانا ستبزغ شمسه، فيه تموت لغة الإقليم، وتحيي لغة (الإنسان) ولكنك - يا سيدي - تبغي رجعة إلى عهد طفل، تقطع رحلته بين بلدين متجاورين في شتاء أو صيف، وتتكلم فيه القبيلة بلغة، بينما تتحدث أختها في أرضها، وتحت شمسها يقول (البعد جفاء) ولا شك أن زمنا يقاس فيه الوقت بالصوت والنور؛ خير من زمن يرخص الوقت فيه حتى يقاس بالمبهم كالحين والدهر.

إن ما يدعو إلى العجب فيكم يا معشر الواعضين أن يقف الواحد منكم يغمره وهج (الكهرباء) وينشر كلمة على الناس (الميكرفون) ثم لا يعلو صوته إلا بصب اللعنات فوق رأس الحضارة الناهضة، كان الحضارة كثيب من ذر لا يلبث أن يطير من نفخ الهواء؛ أو كأن حكم العاطفة المرتجلة، والشعور المتقلب، افضل من سيادة العقل، وتجربة (المعمل)

بني سويف

بركات

ص: 45

في جوار الله تلميذ من تلاميذ الرسالة

نشأ الوجيه علي مصطفى الزارع من أثرياء طما محبا للعلم والأدب، جعل من داره ندوة يسعى إليها كل شيخ وقور، وشاب مثقف، وطالب بحث في الأدب أو فقه في الدين، وكان أكثر الساعين إلى ندوته الموظفون الغرباء، فيجدون في رحابها كرما وجودا، وفي مكتبتها ثقافة وأدباء وفي جلساتها مرحا مهذبا يخفف عنهم لوعة الغربة وجفوة البعد.

وكان (للرسالة) الغراء لدى الوجيه الأديب مكانة محفوظة، وفي مكتبته الضخمة ركن ملحوظ، ولا أظن أن عددا واحدا من الرسالة ظهر دون أن يشتريه ويستوعبه حرفيا، ويناقش موضوعاته في ندوته، كما لا أظن أن كتابا واحدا ظهر لصاحب الرسالة دون أن يقتنيه مزينا به صدر مكتبته زافا بشراه إلى رواد ندوته - كان مشغوفا بالصحف على اختلاف ألوانها ومشاربها ومعنيا بها، ولكن شغفه بالرسالة وعنايته بها كانا يحملانه على الخروج من داره في يوم ظهورها ليستقبلها في نهاية الشارع أو في ميدان المحطة وقت مجيء القطار.

ومنذ أيام قرأت في الصحف نبأ انتقاله إلى جوار الله فريثته إلى نفسي ونعيته إلى قلبي، فقد كان نعم الصديق الذي لا يعرف غير صفاء العشرة، ونقاء الألفة، ووفاء الأخوة، وكرم الصحبة، ورثيت لحال أسر نكبها الدهر وتنكرت لها الحياة، كان لها معوانا، ولنوائبها ملجأ، ولآلامها مسكنا، ولدموعها مجففا

ولم يمض يوم واحد على نعيه في الصحف حتى تكشفت وفاته عن مأساة يرتجف لها القلم ألما، ويعتصر القلب دما، فقد ظهر أن الوفاة لم تكن طبيعية، وإنما كانت نتيجة اعتداء وحشي على الأديب الفقيد من أيد أثيمة لوثت بالجبن والنذالة، انتهزت فرصة عزلته وأنهت حياته متحدية غضب السماء وسطوة القضاء، غير آبهة بما ستخلفه المأساة من فجيعة في الأسر المنكوبة التي كان يعطف عليها، وفي الأصدقاء الذين كان يوفي إليهم حقوق الصداقة والأخوة، لقد تناقلت الصحف أن القتلة هم أخوته طمعا في الميراث الزائل لأن الفقيد لم يكتب عليه أن يؤذي إنسانا أو يسئ إلى أحد، كان يحب الخير للجميع، ويبذل الخير ما وسعه البذل للجميع، وكان إنسانا بكل ما في اللفظة من معنى، وما أعلم أن قلبا

ص: 46

واحدا كان يضمر له ذرة من الكراهية لأن خلقه جعله جديرا بحب القلوب قاطبة، وكان أديبا شهما وكريما حفا، ولكن هذه الصفات كلها لم ترحمه من عدوان الأيدي الأثيمة النذلة. .!

لقد ذهب صديق الرسالة أو فقيدها إلى جوار ربه وهو أكثر ما يكون رضا عن ربه، وبقيت الأيدي الأثيمة تنتظر في الدنيا سخط الرأي العام ونكال العدالة. . . وفي الآخرة لعنة السماء. . .!

محمد عبد الله السمان

كن جميلا

قرأت بإعجاب مقال الأستاذ أحمد مصطفى حافظ بالعدد 978 من الرسالة الغراء ولكني فيما أعتقد لي مندوحة عن التسليم بكل ما عرضه الأستاذ على بساط البحث من آراء. . .

فلقد استدل الأستاذ على أصالة الشاعرية وطبيعة الانفعال الفني بأبيات من الشعر الكئيب الحزين. . وإني لأفهم من هذا مشاركة الأستاذ - وجدانيا على الأقل - لهذا اللون من الأدب. . ومن رأينا أن رسالة الفن ليست الكآبة واليأس. . وأن جمال الكون وبهاء الوجود ليسا من الهوان على الشاعر الفنان الحق حتى يدعها إلى الأفكار السوداء المتشائمة. . . وأن العقاد الفيلسوف ليقول: (. . . ما زلت أعتقد وأزداد مع الأيام اعتقاداً أن بغض الحياة أسهل من حب الحياة، وأن الأدوات النفسية التي نلمس بها آلام الحياة أعم وأشيع وأقرب غورا من أدوات النفس التي نلمس بها أفراح الحياة العليا ومحاسنها الكبرى، فالفرح أعمق من الحزن في رأيي ولا مراء! وليس الحزن قدرة بل هو انهزام أمام قدرة. . . أما الفرح فهو القدرة والانتصار. . .) فنحن لا نستحسن - مثلا - قول (الأديب المسترسل) حين يقف بين أحضان الطبيعة البهيجة: (إني أرى الجبال هموما ثقيلة جاثمة فوق صدر الأرض. . بل نميل عن هذا الأديب لنسمع من الآخر قوله:

الزهر حيانا بثغر باسم

والنهر قابلنا بقلب صافي

ثم نسمع من الزهاوي قوله:

الناس تحيى بالمنى

فما لها عنها غنى

ص: 47

لولا المنى ما عشت أن

ت سالما ولا أنا

لا تدلهم أنفس

لها من المنى سنا

ولا يرى ذو اليأس م

اأمامه وإن رنا

اليأس نار تحرق الرو

ح وتفني البدنا

ويجعل العمر قصير

اويطيل الشجنا

أمل حياة كلها

طيب هناك أو هنا

أسمعت يا أستاذ أحمد:

أمل حياة كلها

طيب هناك أو هنا

حاول أن تتدبر جيدا يا أخي مغزى هذا البيت. . .

ثم اتل معي قول إيليا أبو ماضي:

أيها الشاكي وما بك داء

كن جميلا تر الوجود جميلا

. . . وبعد فهذا هو الشعر الحي الممتلئ الأعطاف في الحقيقية، الذي لا يتجاوز حاجة المقام الأسنى. . وقد كان الأخلق بسيادتك أن تستدل به، وبمثله؛ وأخيرا هذه كلمة لوجه الحقيقة المجردة. . . والله!

حسين كامل عزمي

جوائز قراءة الأعداد المركبة من الشمال إلى اليمين:

أحال مجلس مجمع فؤاد الأول إلى لجنة الأصول ما طلبه حضرة العضو المحترم الأستاذ أحمد حسن الزيات بك من قراءة الأعداد المركبة مع المائة فصاعدا من الشمال إلى اليمين أسوة بقراءتها من اليمين إلى اليسار، وما أثير حول هذا الموضوع من نقاش في المجلس.

وقد رجعت اللجنة إلى كتب النحو للوقوف على ما كتبه النحاة في هذا الموضوع، فوجدت في شرح الكافية لنجم الأئمة محمد بن حسن الرضي المتوفى سنة 648؟ أو سنة 668 النص الآتي:

(. . . وتعطف المائة على ذلك العدد نحو أحد ومائة، واثنان ومائة، وثلاثة ومائة - أو تعطفه على المائة نحو: مائة وأحد. مائتان وأحد، ألف واثنان، في العلوم معدود وفي غير

ص: 48

المعلوم مائة ورجل، ألف ورجلان، مائة وثلاثة رجال.

والأول أي عطف الأكثر على الأقل أكثر استعمالا ألا نرى أن العشرة المركبة مع النيف معطوفة عليه في التقدير، فثلاثة عشر في تقدير ثلاثة وعشرة وكذا ثلاثة وعشرون أكثر من عشرين وثلاثة الخ. . . .)

ومن الأمثلة التي ذكرها صاحب التصريح عند كلامه على العدد قوله: (كانوا تسعمائة وتسعين وتسعا فألفتهم.)

وقد انتهت اللجنة إلى جواز الأمرين على السواء. وأقرها مجلس المجمع على ما رأت.

ص: 49

‌القصص

القاضي السعيد

للفيلسوف الروسي تولستوي

قام المليك ثملا من الرقص الفاتن على أنغام المزامير يرنو إلى جمال الراقصات الباسم. . ويصغي إلى أحاديث الندامى ترن في مسامعه مرجعة أنباء الساحر الرهيب، ذي القوة الخارقة والسحر العجيب، وأقاصيص ذلك القاضي السعيد الفياضة بالغرائب، المملوءة بالأعاجيب!

وأيقظه نسيم السحر المرتعش، فنادى غلامه وقال: سمعت في العشية من صحبتك أن في أقصى المملكة قاضياً واسع الحيلة، عظيم الذكاء، يعرف الكاذب إذا رآه من الصادق، وله في ذلك نكات حلوة وطرائف طلية. . ولقد هفت نفسي إلى رؤيته فهيأ يا غلام جوادي، وأحضر لي زادي، وائت لي بلباس لا يعرفني به أحد من رعيتي، كي أذهب فأرى صدقه من تدجيله.

وبعد ساعة. . انطلق الملك يسري. . بين شعف الجبال وأحضانها، وهو يحث السير ويغذه؛ حتى إذا ما وصل إلى بلد القاضي - وقد ارتفعت الشمس وقاظ النهار - لقيه رجل قد قطعت ساقاه وتهشم وجهه وجحظت عيناه، فاقترب منه، وهو يتكئ على عصوين أسندهما إلى إبطيه. . وأخذ يقبل أقدامه ويطلب إحسانه. فتصدق الملك عليه؛ وهمز حصانه وسار على مهل.

وفرح البائس إذ ضحكت له المنى ولكنه لحق بالمليك وأمسك بأثوابه لا يدعها، فغضب الملك وثار وقال له:

- ما شانك أيها الرجل، وماذا تريد؟ طلبت فأعطيناك. وشكوت فرحمناك. .!

قال الرجل بصوت يشيع فيه الحزن واللوعة:

أوصلني يا سيدي إلى ساحة المدينة، فأنا يائس عاجز وأخاف أن تطأني الجمال بأقدامها إذ تمشي مشيها الوئيد. . أوصلني إليها يا سيدي والله يجزيك أحسن الجزاء.

ورق قلب الملك وأشفق عليه. فحمله بين يديه وأردفه. ثم انطلقا حتى أتيا ساحة المدينة الكبرى. قال الملك آنذاك:

ص: 50

- ها هي ذي ساحة المدينة أيها الرجل، فاهبط آمنا!

قال الرجل:

- وي! هذا حصاني فلم تريد اغتصابه مني؟ أهذا جزاء من يعطف عليك ويشفق؟ يا للوقاحة! ويل لك من العذاب الذي سيصيبك! هيا هيا دع الحصان وامض إلى سبيلك. وإن لم تفعل فخير لك ولي أن نذهب إلى القاضي السعيد فنسأله، وهناك يظهر الحق ويزهق الباطل!

وشده الملك وعجب من هذا المحتال البائس. ثم ثار وغضب، وأرغى وأزبد، والتف حوله أهل المدينة، فساقوهما إلى القاضي ليحكم بينهما.

وأتيا القاضي يجران وراءهما الناس، وقد جاءوا ليستمعوا إلى حكمه. واستوى القاضي على كرسي مزين بالذهب المتوهج، وبدأ ينادي المتخاصمين فرداً فرداً

وجيء بعالم أصلع الرأس، كث اللحية، حماري الأذنين وإلى جانبه قروي رث الهيئة، ممزق الأثواب، على وجهه إمارات الغباوة، كانا يختصمان على امرأة حسناء على وجهها سحر وطلاوة. . هذا يدعي أنها خليلته، وذاك يقول إنها حليلته. .

واستغرق القاضي في صمت عميق. . . ثم قال:

- دعا حسناءكما عندي وتعاليا إلي غدا

وتقدم جزار إلى جانب بدال. وكان الجزار يرتدي ثوبا مليئا دماً، وكان البدال يرتدي لباسا زين ببقع الزيت الحية.

قال الجزار:

- لقد اشتريت من هذا الرجل يا مولاي زيتاً ثم عمدت إلى قميصي فأخبأته تحت جيبه. ولكنه هجم علي، وانتزعه مني، فجئنا إليك يا مولاي، أنا أمسك بيدي دراهمي وهو يمسك بتلابيبي لئلا أفر، ولكن الدراهم لي، وما هو إلا سارق أثيم!

قال البدال:

- كذب ما قاله يا سيدي وبهتان. . لقد جاء إلي ليبتاع من زيتي، فملأت له وعاءه، فلما أراد الانصراف طلب مني أن أبدل له قطعة ذهبية بقطع فضية، فرحت أعطيه الدراهم. . . ولكنه فر بها يا مولاي، فلحقت به. . . وأحضرته إليك. .

ص: 51

واستغرق القاضي في صمت عميق. ثم قال:

دعا الدراهم عندي وتعاليا إلي غداً. . .!

ونودي الملك والسائل. قال الملك:

- أنا تاجر يا سيدي، وهذا لقيني وأنا في طرف المدينة فرثيت له وأشفقت عليه، ثم أعطيته ما يخفف من ألمه ويزيد في فرحه. . فلما انطلقت إلى ما أنا ماض من أجله، لحق بي وطلب أن أوصله الساحة الكبرى. فأردفته. فلما كنا في الساحة الكبرى، طلبت إليه أن يتركني فأبى، وقال هذا حصاني جئت تنتزعه مني. فالتف حولنا الناس وساقونا إليك. هذه قصتي يا مولاي فاحكم بما تريد!. .

قال السائل:

- يا للكذب يا مولاي! لئن كذب وافترى، فما أنا إلا صادق أمين. . كنت أجتاز المدينة ومعي الحصان فرأيته في بعض الطريق. . . فطلب مني أن أوصله إلى الساحة الكبرى فقد أنهكه السير الطويل. فلما أتيت به الساحة قال هذا حصاني. . .

فاحكم يا مولاي أيدك الله وأطال بقاءك!

وفكر القاضي وقدر. . . ثم قال:

- سأعرف الكاذب من الصادق. . دعا الحصان لدي وارجعا إلي غداً

وتفرق الناس، ومضى كل إلى سبيله، وذهب الملك يفكر في هذا القاضي الذي سماه الناس (السعيد)

أقبل الليل، فجلس الملك يفكر في أمر ذلك البائس المسكين ويتذكره، فملأ صوته المضطرب سمعه وفؤاده، وهو يتساءل عن جزائه وكيف يكون. فلما أضناه التفكير أسلم نفسه للكرى. فنام نوماً عميقاً، رأى فيه من الأطياف ما لا يحصر، ومن الأشباح المرعبة ما لا يحد، وضحك النهار فاستيقظ الملك. . وأخذ يرتدي أثوابه، ثم مضى إلى المدينة ليطوف في أسواقها فلما أجاز ساحة الحي وجد غريمه يتدحرج نحو دار القاضي.

وكان الناس يأتون زرافات زرافات، فقد أعجبوا بالقاضي فغدت نفوسهم في شوق ملح لكل ما يقول. وجاء المتخاصمون فتقدم العالم والقروي. فنظر القاضي إليهما وقال:

- أيها العالم! إنها زوجتك فخذها وامض بها إلى دارك. . . أما أنت أيها القروي، فجزاؤك

ص: 52

خمسون جلدة تنالها في الساحة الكبرى على ملأ من الناس!. . .

وانصرف العالم وزوجته، وأخذ القروي ليجلد

وجيء بالجزار وبائع الزيت، فقال القاضي:

- أيها الجزار! ها هي ذي دراهمك فخذها. أما أنت. . فجزاؤك خمسون جلدة تنالها في الساحة الكبرى على ملأ من الناس!. .

وأخذ الجزار دراهمه. ومضوا بالبدال ليجلدوه

وتقدم الملك والسائل. فقال القاضي للملك المتنكر:

هل تعرف حصانك جيدا؟

- نعم يا مولاي!

- وأنت أيها السائل؟

- وأنا أيضاً يا سيدي!

- اتبعاني إذن. . .

وانطلق القاضي بهما إلى الإسطبل وقد امتلأ بالجياد. فقال للملك: دلني على حصانك. . . فدله الملك، ثم أخرجه وأدخل السائل. . فدله عليه أيضا، فلما خرج القاضي قال: خذ حصانك أيها التاجر، فهو لك، أما أنت فستجلد خمسين جلدة في الساحة الكبرى

وهم القاضي بالانصراف. . . فتبعه الملك وقال له:

- أريد يا مولاي أن اعلم كيف استطعت أن تعرف أن المرأة كانت للعالم، وأن الدراهم كانت للجزار. . وأن الحصان كان لي فقد حار عقلي في فهم ذلك. .!

قال القاضي:

- أما المرأة، فقد أتيت بها إلى داري، وقلت لها ضعي في هذه المحبرة مداداً. فأخذت الدواة فنظفتها، ثم ملأتها مدادأ. فعلمت أنها تعلم ذلك من قبل، والدواة لا توجد إلا عند العالم. فحكمت أنها امرأة العالم وليست خليلة القروي. أما الدراهم فقد وضعتها في إناء مليء بالماء، وقلت لنفسي، أن كانت لبائع الزيت فلا بد أن تطفو على صفحة الماء قطرات من الزيت جاءت إليها من يديه. ولكن الماء بقى صافياً، فعلمت أن الدراهم ليست لبائع الزيت وإنما هي للجزار

ص: 53

وصمت القاضي قليلا، فلما طال صمته قال الملك:

- والحصان يا سيدي؟

قال القاضي:

لقد قلبت الأمر بين يدي فلم أجد حيلة أنفع من أن تدلاني على الحصان، فعرفته أنت كما عرفه السائل، ولكني رأيت الحصان أدار وجهه نحوك، ورفع أذنيه عندما دنوت منه. فلما جاء السائل أرخى أذنيه ورفع إحدى رجليه يريد رفسه، فعلمت أن الحصان لك

فابتسم الملك ضاحكا، ثم تقدم من القاضي فقال له:

أيها القاضي! نعم العدل بك عيناً، لست بتاجر، ولكني الملك!

ودهش القاضي وارتجف رهبة ثم انحنى وقال:

- عفوا يا مولاي. . أنا عبدك

- قم أيها القاضي وسل. .

- إن ثنائك علي لمكافأة لي يامولاي، وانحنى ليقبل قدميه

- قم. . . قم أيها القاضي السعيد. . فلقد صدقت بك. . .

وآمنت. . . لقد صدقت وآمنت. . . ومنذ الغد ستكون لي وزيراً!

ص م

ص: 54