الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 991
- بتاريخ: 30 - 06 - 1952
إسلام أمريكاني
للأستاذ سيد قطب
الأمريكان وحلفاؤهم مهتمون بالإسلام في هذه الأيام. إنهم في حاجة إليه ليكافح لهم الشيوعية في الشرق الأوسط، بعدما ظلوا هم يكافحونه تسعة قرون أو تزيد، منذ أيام الحروب الصليبية! إنهم في حاجة إليه كحاجتهم إلى الألمان واليابان والطليان الذين حطموهم في الحرب الماضية، ثم يحاولون اليوم يكل الوسائل أن يقيموهم على أقدامهم، كي يقفو لهم في وجه الغول الشيوعي. وقد يعودون غدا لتحطيمهم مرة أخرى إذا استطاعوا!
والإسلام الذي يريده الأمريكان وحلفائهم في الشرق الأوسط، ليس هو الإسلام الذي يقوم الاستعمار، ليس هو الإسلام الذي يقوم الطغيان، ولكنه فقط الإسلام الذي يقوم الشيوعية! إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم ولا يطيقون من الإسلام أن يحكم لأن الإسلام حين يحكم سينشئ الشعوب نشأة أخرى، وسيعلم الشعوب أن إعداد القوة فريضة، وأن طرد المستعمر فريضة، وأن الشيوعية كالاستعمار وباء، فكلاهما عدو وكلاهما اعتداء!
الأمريكان وحلفائهم إذن يريدون للشرق الأوسط إسلاما أمريكانيا، ومن ثم تنطلق موجة إسلام في كل مكان. . فالكلام عن الإسلام ينطلق في صحافة مصر هنا وهناك، والمناقشات الدينية تغرق صفحات بأكملها في صحف لم يعرف عنها في يوم ما حب الإسلام ولا معرفة الإسلام. ودور النشر - ومنها ما هو أمريكا ني معروف - تكتشف فجأة أن الإسلام. يجب أن يكون موضوع كتبها الشهرية. وكتاب معروفون ذوو ماض معروف في الدعاية للحلفاء، يعودون إلى الكتابة عن الإسلام، بعد ما اهتموا بهذا الإسلام في أيام الحرب الماضية ثم سكتوا عنه بعد انتصار الحلفاء! والمحترفون من رجال الدين يصبح لهم هيل وهيلمان، وجاه وسلطان، ولمسابقات عن الإسلام والشيوعية تخصص لها المكافآت الضخام.
أما الإسلام الذي يكافح الاستعمار - كما يكافح الشيوعية - فلا يجد أحدا يتحدث عنه من هؤلاء جميعا. وأما الإسلام الذي يحكم الحياة ويصرفها، فلا يشير إليه أحد من هؤلاء جميعا. .
إن الإسلام يجوز أن يستفتي في منع الحمل، ويجوز أن يستفتي في دخول المرأة البرلمان، ويجوز أن يستفتي في أمر الصيام في المناطق القطبية؛ ويجوز أن يستفتي في نواقض
الوضوء. ولكنه لا يستفتي أبدا في أوضاعنا الاجتماعية أو الاقتصادية أو نظامنا المالي. ولا يستفتي أبدا في أوضاعنا السياسية والقومية، وفيما يربطنا بالاستعمار من صلات.
والديمقراطية في اللإسلام، والبرفي الإسلام، والعدل في الإسلام. . من الجائز أن يتناولها كتاب أو مقال. ولكن الحكم بالإسلام، والتشريع بالإسلام، والانتصار للإسلام. . لا يجوز أن يمسها قلم ولا حديث ولا استفتاء!
وبعد فقد حدث أن هذا الإسلام الأمريكاني قد عرف أن في الإسلام شيئا يقال له (الزكاة) وعرف أن هذه الزكاة قد تقاوم التيار الشيوعي لو أخذ بها في الشرق من جديد. . ومن هنا اهتمت (حلقة الدراسات الاجتماعية) التي عقدت في مصر في العام الماضي بدراسة حكاية (الزكاة) هذه، أو بدراسة مسألة (التكافل الاجتماعي في الإسلام).
ولما كانت أمريكا من وراء حلقة الدراسات الاجتماعية، فإن ذوي الشأن في مصر لم يروا أن يقفوا في وجه حكاية الزكاة؛ كما وقفوا في وجهها يوم فكر فيها عبد الحميد عبد الحق باشا وهو وزير للشؤون الاجتماعية! أن ذوي الشأن يستطيعون الوقوف في وجه الزكاة يوم يكون الآمر بها هو الله. أما يوم أن يكون الآمرون بها هم الأمريكان، فليس أمامهم إلا الخضوع والإذعان!
وعلى ذلك ألفت في مصر لجنة من بعض أساتذة الشريعة في الجامعة، وبعض رجال الأزهر، وبعض الباشوات، لدراسة مسألة (التكافل الاجتماعي في الإسلام) وبخاصة حكاية الزكاة، لا لوجه الله، ولا لحساب الوطن، ولكن لوجه الأمريكان، ولحساب حلقة الدراسات الاجتماعية.
وهنا بدا وجه الخطر. . أن الأمريكان لو عرفوا حقيقة التكافل الاجتماعي في الإسلام لفرضوه فرضا على الشرق الأوسط، لأنهم لن يجدوا سدا أقوى منه في وجه الشيوعية. والتكافل الاجتماعي في الإسلام يفرض على الأموال تكاليف، ويفرض عليها حقوقا، ويعترف للملايين بحق الحياة. ودون هذا وتتقطع الأعناق. .
وإذن فلا مفر من تخبئة الأمر على الأمريكان! ولا مفر من الاحتيال على النصوص؛ ولا مفر من تخفيف الأعباء التي يفرضها الإسلام على الأموال؛ ولا مفر من أن تخرج اللجنة من الزكاة نفسها بظل باهت لا يتناول إلا التافه، ولا يمس الأموال إلا بقفاز من حرير.
إنه لو كان الأمر أمر الله والدين لهان، ولكنه أمر الأمريكان! أن ما تقرره الشريعة الإسلامية شيء، وما تقرره حلقة الدراسات الاجتماعية شيء آخر! أن حلقة الدراسات الاجتماعية لا يجوز أن تعرف سر الإسلام الذي لا تعرفه، وإلا فرضته على أهل الإسلام!
ولكن بعض أعضاء اللجنة من المعاندين المكابرين الذين لا يعرفون كيف يكتمون النصوص؛ ولا يعرفون كيف يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ولا يعرفون كيف يشترون بآيات الله ثمنا قليلا.
هؤلاء الأعضاء ما يزالون متشبثين بان يطلعوا الأمريكان على السر الخطير، وما يزال الأعضاء الآخرون يلاقون من تشبثهم عنتا، ولا يدري إلا الله كيف تسير الأمور!
إنها مهزلة. بل إنها لمأساة. . ولكن العزاء عنها أن للإسلام أولياءه الذين يعملون له وحده، ويواجهون به الاستعمار والطغيان والشيوعية سواء، أولياءه الذين يعرفون أن الإسلام يجب أن يحكم كي يؤتي ثماره كاملة. أولياءه الذين لا تخدعهم صداقة الصليبين المخولة للإسلام، وقد كانوا حربا عليه تسعمائة عام.
إن أولياء الإسلام لا يطلبون باسمه برا وإحسانا، ولكن يطلبون باسمه عدالة اجتماعية شاملة كاملة؛ ولا يجعلون منه أداة لخدمة الاستعمار والطغيان، ولكن يريدون به عدلا وعزة وكرامة؛ ولا يتخذون منه ستارا للدعاية، ولكن يتخذونه درعا للكفاح في سبيل الحق والاستعلاء.
أما دور العلن الذي يعلن بالإسلام في هذه الأيام؛ وأما المتاجرون بالدين في ربوع الشرق الأوسط، وأما الذين يسترزقون من اللعب به على طريقة الحواة، أما هؤلاء جميعا فهم الزبد الذي يذهب جفاء عندما يأخذ المد طريقة، وسيأخذ المد طريقه سريعا، أسرع مما يظن الكثيرون، إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا. (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفوا في الأرض كما أستخلف الذين من قبلهم. وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم. وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً. يعبدونني لا يشركون بي شيئا). . صدق الله العظيم
سيد قطب
شخصية الرشيد
على ضوء علم النفس الحديث
للأستاذ أنور الجندي
يقف (هارون الرشيد) على رأس القمة التي بلغتها الدولة العباسية، بل التي بلغها تاريخ الإمبراطورية الإسلامية كلها. .، هذا المجد الذي لم يلبث طويلا بعد ذلك، والذي كان خلال عهد المأمون امتدادا للدفعة القوية التي بلغها الملك في عهد الرشيد. وحسبك بالخليفة الذي روى عنه أنه قال للسحابة المارة (أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك)
اختلف المؤرخون حول الرشيد اختلافا شديدا، فذهب بعضهم إلى أنه كان يصلي مائة ركعة كل يوم، وأنه كان يتصدق بمائة ألف درهم، وأنه كان يحج عاما وغزو عاما. وذهب البعض الآخر إلى القول بأن قصره كان صورة صحيحة لقصص (ألف ليلة)، وأنه كان مرحاً طروبا يقيم مجالس الغناء والأنس تنتظمها أكواب الراح، وأنه كان يقضي غالب وقته بين الغناء والموسيقى، والمغنيات والقيان.
على أنه ليس من الغريب أن يجمع الرشيد بين الصورتين المتباعدتين اللتين يجمعهما دلاله الشخصي القوي الحيوية، الدافق الشباب، البالغ الفتوة.
وليس على الرشيد من بأس على ضوء طبعه هذا من أن يعيش هاتين الحياتين معا، ويمتزجهما على نحو من الاعتدال فهما؛ قريبان جدا، يلتقيان دائما، إذا بعدت عنهما مبالغات القصاص وأحاجي الرواة.
وليس على الرشيد من ضير أن يعقد مجالسه فيستمع إلى السمر والغناء والموسيقى. .، ولا يمنعه ذلك من أن يصلي لله مائة ركعة، وان يمضي إلى الحج عاما والغزو عاما.
وكل وقائع حياة الرشيد الصحيحة التي بين أيدينا، تدل على أنه أمضى حياة جادة كل الجد فقد حفلت حياته القصيرة بالغزو والجهاد، فما كان ينتهي من غزاة حتى يفترع أخرى،. .
كذلك كان منذ شبابه الغض إلى اليوم الأخير من حياته.
وأبرز ظاهر حياته أنه رجل حرب وقتال، أشربت روحه بالجهاد وقيادة الجيوش ونضال العدو، وكانت أغلب غزواته في أرض الدولة البيزنطية، فلما ولي الملك نظم الشواتي والصوائف وحرض على إرسالها، ثم خرج بنفسه إلى قتال الروم بعد أن نقضوا المعاهدة،
ومنعوا الجزية.
وقد كان حفيا بمغالبة الخصوم والأعداء، لا يهدأ ولا يستريح إلا لنصر يكسبه من وراء نصر، فلا يلبث أن ينتهي من صراع الأعداء على حدود الدولة البيزنطية حتى يعاود الصراع مع العلويين الذين يظهرون هنا أو هناك محاولين الفتنة أو منازعين على الملك،. . وهو في هذا كله صلب العزيمة، قوي العود، على غاية من البسالة والحيوية. .، وهي صفات لا تجعل صاحبها بحال في صف المنقطعين للهو أو العاكفين على الهوى. .
وفي هذا يقول الشاعر:
ومن يطلب لقاءك أو يرده
…
ففي الحرمين أو أقصى الثغور
وقد بدت هذه النفسية المصارعة الجارفة. . على أوضح صورها وأقواها حين استبان له غدر البرامكة. . فصرعهم في ليلة واحدة، على أسلوب غاية في الجرأة والحسم والبتر، ولم يقبل فيهم شفاعة، حتى شفاعة ظئره التي أرضعته وربته. . وكانت عنده في مقدمة الشافعين المشفعين.
وليس شك في هذا التصرف الجريء بالنسبة للبرامكة. . بعد أن أطلق أيديهم في أمور الملك سبعة عشر عاما، حتى بلغوا مكانا عاليا، واستطار اسمهم، وعلا صيتهم. . وفي الوقت الذي كان يعلم انهم هم الذين أوصلوه إلى الملك ومكنوا له منه، لدليل أكيد على قوة نفسية الرشيد، قوة تزري بما عرف عن جده المنصور. .
وإن ظلت نفس الرشيد تحتفظ بطابعها الخالص من السماحة والرقة واللين والمراح والإشراق.
. . وآية ذلك الذي نذهب إليه في نفسية الرشيد، أنه في رحلته الأخيرة إلى خرا سان، حمل إليه أحد الخوارج، وكان في أشد حالات المرض، وفي سكرات الموت، فأمرهم بقتله أمامه، وظل يملأ نظره من دمه المهدر، وهو مسجى على وشك أن يبلغ الأجل من علته.
وكان الرشيد خلال حياته التي لم تتجاوز الخامسة والأربعين، حامل لواء الحضارة الإسلامية في الشرق - بالإضافة إلى منصبه كخليفة للإمبراطورية -، فقد احتضن الثقافة والفن، وشجع رجال الشعر والموسيقى والغناء. . وأفسح لهم وكنهم من الابتكار والتجديد والإبداع، وعنى بالتأليف، وأعان الفقهاء، وفتح لهم أبواب التحدث والقضاء، وعقد لهم
مجالس البحث والمساجلة والمناقشة في مختلف المسائل.
. . واتصل بعميد الغرب في عهده، شارلمان ملك فرنسا وجرمانيا وإيطاليا. . وأرسل إليه وفداً. . وأهدى إليه مفاتيح بيت المقدس، علامة على الود بين الشرق والمغرب والشرق، وبين الإسلام والمسيحية.
ثلاث نجوم: كانت تدور في فلك الرشيد، أمه الخيزران، وزوجه زبيده، ووزيره جعفر.
أما الخيزران فقد كرهت الهادي، لأنه كان يصرفها عما تبغي من مظاهر السلطة والنفوذ، وأما الرشيد فقد أباح لها ما تشاء منه، وإليها يرجع بعض الفضل في أن يقفز إلى الخلافة، قبل أن يجيء دوره في ترتيب الوراثة وولاية العهد.
وأما زبيدة فزوجه الأولى، التي كان يؤثرها على كل زوجاته وسراريه وجواريه، وهي أم الأمين وكانت ذات رأي وتدبير، فكان الرشيد لا يرى بدا من أن يأخذ بمشورتها، وأن يطلق يدها في إنشاء القصور وتعمير المساجد وحفر العيون المعروفة باسمها. .
وأما جعفر فكان محببا إلى نفسه غاية الحب، حتى لقد روى بعض المؤرخين أنهما كانا يدخلان في ثوب واحد، وهو أن قيل على أنه ضرب من المجاز، يصور مدى ما كان بينهما من الحب الصادق والود الأكيد.
وروى أن جعفر تصرف باسم الرشيد في أمور غاية في الدقة فأقره الرشيد وقبل منه ورضى عنه، ولم يمنع هذا جعفراً من أن يقع به ما وقع عندما قضى فيه الرشيد بأمره.
وتلك شميلة من شمائل الرجل الفذ، تثبت في وضوح قوة عارضته؛ ولو كان كما روي عنه من الإسراف في الترف لما استطاع أن يحسم أمره بالقوة والبراعة والحكمة في الوقت المناسب.
فإذا أخذ عليه بعد ذلك أمر، فهو أنه بايع للأمين بولاية العهد وللمأمون بخراسان وللقاسم بولاية العهد بعد المأمون. .
في عقد واحد، وكان هذا الذي فعل الرشيد بعيد الأثر من بعده، وهذا خطأ من أخطاء العاطفة المتحمسة، والعقل الراغب في حسم الأمور، الذي يظن أنها تنقاد من بعده وفق سلطانه. . وإرادته.
وهو أشبه بما قيل عن رضائه عن صداقة جعفر والعباسة، وجمعهما في حضرته وإنفاذ
أمره بزواجهما، دون أن يلتقيا كما يلتقي الأزواج. .
فإذا صح ما ذهبنا إليه من أمر الرشيد الذي عاش حياته مقسما بين الحرب والحج، ومغالبة الأعداء والخصوم من الروم، والعلويين البرامكة. .، فلا يمنع هذا العظيم المشبوب بالحماسة والقوة والحيوية، من أن يرد موارد المتاع بالسمر ومجالس الطرب، فذلك يتمشى مع طابعه ولا يتعارض معه بحال من الأحوال.
وقد أداه طبعه السياسي والواضح هذا إلى أن يرسم الخطط للأمور التي يمكن أن تقع بعد عهد طويل. . ولا بأس عليه من أن يخطئ. . خطأ المجتهد، في أن ينظم المملكة من بعده على صورة مبايعة طويلة المدى لأولاده، أو أن يقتل الخارجين، وهو على وشك الموت.
ولا شك أن تصرفه في كسب صداقة شارلمان، وإهدائه إياه مفاتيح بيت المقدس، هو من وعي السياسي النابه الذي يريد أن يحول بين عادية الصراع بين الشرق والغرب، وهو ما امتحنت به المملكة الإسلامية بعد ذلك.
وجملة القول في الرشيد أنه كان من أبرع ساسة الشرق، وخلفاءه الإسلام، وأنه لم يكن بالمترف اللين الناعم كما صوره صاحب الأغاني، أو كاتب ألف ليلة وليلة، ولكنه كان قاسيا جبارا، فيه روح المجاهد المحارب، وعاطفة الشباب الفوار، الذي لا يحب الهزيمة، والذي يتعقب خصومه ويفتك بهم، والذي يحب مجالس العلم، ومجالس الفن، ويلقاها مرحا مبتسما طلقا، وإن طوى النفس على عزيمة ماضية تبرز في قوة حين يتصل الأمر بشخصه أو سلطانه
أنور الجندي
السلام العالمي والإسلام
للأستاذ محمود عبد العزيز محرم
الإسلام حرب والمسلمون متعصبون.
هذا هو الحبل الذي شنقنا به أنفسنا كثيرا. وشنقنا به المستعمرون كثيرا؛ ولا زلنا كل يوم نجده قريبا من أعناقنا للساعة التي نريد أن ننتقم من أنفسنا فيها أو ينتقم منا فيها غيرنا.
وإذا كان من صالح الدول الغربية الاستعمارية وغيرها، أن تباعد بيننا وبين ماضينا ومعتقداتنا، فإنه ليس من صالحنا نحن أن نباعد عنا هذا الماضي وهذه المعتقدات. والأمم الغربية كلها مردة على الإفلات من قبضة الدين حتى ما تستطيع الرجوع إلى حظيرته مرة أخرى، وهي تريدنا على أن نكون مثلها، فنخلع عنا هذه الروحانية العالية والتوجيه السامي والإرشاد المنير حتى تجد فينا مرتعا خصبا، تحقق فيه آمالها ورغائبها، لأنها تعلم حق العلم، أن ديننا - هذا الدين الإسلامي الحنيف - يقف دونها، ويحول بينها وبين ما تبغي، ولا يكاد يفسح لها طريق الاستغلال والاحتكار والإذلال والاستعمار.
وطالما سعت الأمم الغربية إلى هذه الغاية، والعصور الماضية لا زالت تتراءى لنا في صفحاتها بالعظات والأخبار الحروب الصليبية المتكررة، والهجمات المتتابعة من الغرب على الشرق في محاولات كثيرة لتشويه الدين الإسلامي، وتسفيه العقلية الإسلامية، والاستيلاء على بلاد الإسلام.
وقد اشتبك الغرب بالشرق - منذ الإسلام - اشتباكات كثيرة، كتب النصر في بعضها للشرق، وكتب النصر في بعضها للغرب. على أن نصر الشرق كان مرجعه في كل مرة إلى الاستمساك بعقائده الرفيعة، ومثله العالية، ودينه الرباني الحنيف. ويوم انتصر الغرب على الشرق، كان ذلك بعد أن تخلينا عن ديننا، وغلبنا على أنفسنا، وسعينا وراء رغائب الحياة الذليلة ومثلها الهابطة، نفني أعمارنا وقوانا، ونجعل منها سدا منيعا يحرمنا الاسترواح في ظل رسالتنا، وطرائقها الحيوية، وأهدافها.
لقد استعمر الغرب بلادنا، واستولى على مواردنا، واحتكر مجالات النشاط الاقتصادي، وساقنا إلى حروب لا شأن لنا بها! غير أن أعظم ما فعله خطرا، هو تلك الطائفة (المسلمة!) التي رباها ونشأها وأعدها لحكم البلاد، ووقف هو من وراء ستار يملي عليها
ويدفعها إلى ما يريد.
هذه الطائفة (المسلمة!) تقتل الإسلام وتقتل المسلمين بأسلوب استعماري غير مباشر، بعد أن فرغ الاستعمار من كل ما يطيق في هذه السبيل بأسلوبه المباشر، واخترع لنا هؤلاء جميعا فكرتي السلطة الدينية والسلطة الزمنية اللتين اعترف بهما الغرب لتنحسر ظلال الدين عن مرافق الحياة، وحاولوا أن يوهمونا بان السياسة شيء والدين شيء آخر. وارتفعت أصواتهم المتخاذلة هنا وهناك لتنشر في الشعوب المستكينة هذا المبدأ الخبيث.
نحن في بلادنا، وقد انطلقت إلينا الدول الغربية من بلادها، فمزقت العالم الإسلامي مزقا، وعذبت المسلمين في كل قطر حلت به، وضربتهم بالذل والفقر والفساد، كلما بدت محاولة لإرجاعنا إلى مبادئنا الدينية حتى ننهج في الحياة نهجا صحيحا، أذاع المستعمرون بيننا بلسانهم أو بلسان عملائهم، أن الإسلام حرب وأن المسلمين متعصبون، وأنه لا دين مع سياسة، ولا سياسة مع دين.
لذلك تجدنا في حاجة إلى تصحيح هذه الأوضاع الخاطئة التي جرت عليها السنون أذيالها، والتي تبدو الآن لكثير من الناس حقيقة لا مفر منها، في حاجة إلى فهم ديننا إلى حقيقته، والرجوع به إلى مصادره الأولى؛ يوم كان سياسة عملية زاكية، تعمر ولا تخرب، وتهدي ولا تضل وتعدل ولا تظلم، وتحسن ولا تسيء، في حاجة إلى فهم أن ديننا سياسة وأن سياستنا دين، وأن حياتنا في أنفسنا ومع غيرنا لا بد أن تقوم على هذا الأساس. في حاجة إلى فهم قيمة عقيدتنا في الحياة، ومعرفة أسلوبها في فض مشاكل الناس ومشاكل الأمم، ودراسة أهدافها، ودراسة موضوعية صحيحة. في حاجة لأن نفهم هل الإسلام حقيقة دين حرب! وهل المسلمون بالتالي متعصبون!
في هذا كله أخرج الأستاذ قطب كتابه الرائع (السلام العالمي والإسلام) وهو من أول سطر فيه يسجل وظيفة العقيدة الدينية (فعمر الإنسان محدود، وأيامه على الأرض محدودة، وهو - بالقياس إلى هذا الكون الهائل الذي يعيش فيه - ذرة تائهة لا مستقر لها ولا قيمة، وعمره بالقياس إلى الزمن الهائل من الأزل إلى الأبد ومضة برق أو غمضه عين.
ولكن هذا الفرد الفاني. . يملك في لحظة أن يتصل بقوة الأزل والأبد، أن يمتد طولا وعرضا في ذلك الكون الهائل، أن يرتبط به في أعماقه وأمشاجه بوشائج من القربى لا
تنفصم، أن يشعر أنه من تلك القوى الهائلة وإليها، أنه يملك أن يصنع أشياء كثيرة، وأن ينشئ أحداثا ضخمة، وان يؤثر في كل شيء ويتأثر. . . يملك أن يحسن الوجود في الماضي والاستقرار في الحاضر، والامتداد في الآتي، يملك أن يستمد قوته من تلك القوة الكبرى التي لا تنضب ولا تنحسر ولا تضعف، وإنه لقادر إذن على مواجهة الحياة والأحداث والأشياء بمثل قوتها، فما هو باللقى البضائع، ولا بالفرد العاجز، وهو يستند إلى قوة الأزل والأبد وإلى ما بينه وبينها من وشائج.
تلك وظيفة العقيدة الدينية، وذلك أثرها في النفس والحياة والعقيدة الإسلامية تنظر إلى الإنسان ككل، دون تفرقة بين سلوكه وأهدافه ونوازعه ودوافعه، ودون تفرقة بين روحه وعقله وجسده (فهي تشمل كل نشاط الإنسان في كل حقول الحياة، فلا تقصر مهمتها على حقل دون حقل، ولا على اتجاه دون اتجاه. إنها لا تدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فما لقيصر وقيصر ذاته، في العقيدة الإسلامية - كله لله. وما لقيصر حق ليس للفرد من رعاياه، وإنها لا تتولاه روح الفرد وتهمل عقله وجسده، أو تتولى شعائره، وتهمل شرائعه، أو تتولى ضميره وتهمل سلوكه، وإنها لا تتولاه فردا وتهمله جماعة؛ ولا تتولاه في حياته الشخصية وتهمل نظام حكمه أو علاقات دولته.
(والإسلام يعد الحياة وحدة، وحدة من ناحية الزمن متماسكة الحلقات، متدرجة الخطوات، متضامنة الأجيال، متعاقبة الأطوار. وحدة من ناحية الفطرة؛ متماسكة النوازع والأشواق، ممتزجة المادة والروح، قابلة للارتفاع إذا حسن توجيهها وتزكيتها، مستعدة للهبوط إذا ساء التوجيه والقيادة (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها).
وإذا كان الإنسان ينظر إليه ككل، وإذا كانت الحياة ينظر إليها كوحدة، وإذا كانت الحياة قابلة للهبوط إذا ساء التوجيه، ومستعدة للارتفاع إذا حسنت التزكية، وإذا كان ذلك كذلك فإن الإسلام يرسم طريقة فذة لتربية هذا الكل الذي هو الإنسان، وللارتقاء بهذه الوحدة التي هي الحياة. فسلام الضمير، وسلام البيت، وسلام المجتمع - كل هذه أهداف سعى إليها الإسلام على طريق معبدة وبوسائل عملية مثمرة، حتى يطمئن الفرد فيطمئن البيت، وإذا ما أطمئن البيت أمن المجتمع. وبعد هذا كله تظلل الحياة والأحياء أعلام الأمن والسلام.
أن الإسلام يرى أن سلام الأمم والجماعات إنما هو من ذات الفرد الذي يكون الأمم والجماعات، فالفرد هو اللبنة الأولى التي أن صلحت صلح البناء كله، وإن فسدت وكانت واهية ضعيفة انهدم البناء كله من أساسه. الفرد ذو قيمة، لأنه هو الذي يكون الأمم، وهو الذي ينشر المحبة والسلام، وهو الذي يسعى بما شب عليه إلى نظام في الحياة أمثل، ولذلك رعاه الإسلام حق الرعاية وهداه ووجهه وأرشده إليها. هذا وهو فرد، أما إذا كان في مجتمع صغير - مجتمع الأسرة -، فقد وضع له القوانين والنظم، وراعى في ذلك حياة فرد آخر أو أفراد آخرين، ليكونوا أداة عاملة في رقي الحياة. فشرع الرباط المقدس يربط بين الزوجين، وحرم الاختلاط والتبرج؛ وسن الحدود لحماية الأعراض. وأحل الطلاق وهو أبغض حلال إلى الله. وأباح تعدد الزوجات ليمكن مواجهة أحداث الزمن ونوازله. ثم جعل العائلة كلها متكافلة في السراء والضراء؛ في حال القدرة يفيض بعض أفرادها على بعض، وفي حال اليأس يعين القادر المحتاج.
وإذا خرج الفرد إلى المجتمع الأكبر لم يتركه الإسلام، بل يسن له من القوانين والمبادئ والنظم ما يكفل لهذا المجتمع حياة صحيحة، وما يدفع به في ثقة وأمن لتحقيق إرادة الله وكلمته، تلك الكلمة التي بها نزلت الشرائع من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فالرسل جميعا في هذه الكلمة سواء: وهم مكلفون دعوة الناس إليها، وهم مكلفون هم ومن معهم الدفاع عنها والتضحية في سبيلها.
لم يغفل الإسلام في هذا المجتمع الأكبر الأدب الاجتماعي النفساني. ولم يقصر في بذر بذور الحب والرحمة، وفرصة التعاون والتضامن. وشرع أهدافا عليا يسعى إليها المجتمع السليم. ونظم الحكم، وضمن العدالة القانونية. وضمن الأمن والسلامة وضمن الحياة المعيشية. وعادل بين الطوائف والأفراد اجتماعيا. وقرر في المال أصولا قيمة تضمن سلامة المجتمع.
الله واحد. صدر عنه كون واحد. بكلمة منه واحدة. وهداه بشريعة واحدة. كل هذا ليأمرنا بالوحدة والمحبة والتعاون، وتحقيق كلمة الله التي أرادها على مر الأيام والدهور، من صدق وعطف ورفع ظلم، وإحسان وتعاون وإثمار، ووقوف في وجه الطغيان، ومحاربة الاستغلال الفردي والجماعي، والتزام الجادة، والنأي عن كل ما يحط الإنسان والإنسانية.
هذه هي رسالة الله التي جاء بها موسى وعيسى ومحمد. فلسنا نخرج على أمم الغرب ودوله بجديد حين ندعو إلى هذه الأهداف السامية، لأنها من صميم رسالتهم من قبل أن يحرفوا الكلم عن واضعه، ومن قبل أن يفصلوا الدين عن الدولة. ومع ذلك فهم يرونها شيئا غريبا، لأنهم مردوا على النفاق والاستغلال والشهوة، ومردوا على مقاطعة رسائل الوحي ومخاصمة الأنبياء، إذ في هذا الرسائل حد من طغيانهم وعبثهم ولهوهم واستغلال للأمم والشعوب.
الإسلام دين سلام لا دين حرب. وهو يقاوم الحروب في كل مظاهرها إلا فيما يتفق ورسالته العالمية؛ فهو لا يرضى الحرب العنصرية، ولا يرضى حرب الدينية كما يفهمها الأوربيون، ولا يرضى حرب الاستعمار والاستغلال، ولا يرضى حرب الأمجاد الزائفة للملوك والأبطال، ولا حرب المغانم والأسلاب؛ إنما هي حرب واحدة يرضاها، ليقر السلم والعدل في الأرض، ولينعم الناس بالهدوء والأمن، ولينسموا أنسام الحرية والتقدير. وهي الحرب التي يعلنها على الظلم في جميع صوره وأشكاله، فلا يهادن قوة ظالمة على وجه الأرض، سواء تمثلت هذه القوة في صورة فرد يتجبر على الأفراد والجماعات، أو في صورة طبقة تستغل الطبقات، أو في صورة دولة تستغل الدول والشعوب. إنها كلها صورة واحدة في عرف الإسلام، صورة منافية لمبادئه الأساسية، وعليه أن يجاهدها ما أستطاع، وعليه ألا يهادنها إلا ريثما يتجمع لكفاحها، ولا يعاونها ولا يقف في صفها بحال من الأحوال (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)
هل الدين الذي يسعى إلى هذه الغاية دين حرب؟ هل الدين الذي لا يفرض نفسه عقيدة على الناس دين قتال؟ هل الدين الذي يحرم الإكراه في العقيدة دين عسف؟ وهل المسلمون الممتثلون لهذه الغايات الشريفة متعصبون؟ نعم متعصبون! ونعم هو دين حرب! في رأي الدول الغربية التي رفضت الخضوع لدينها الصحيح! وفي رأي بعض (المسلمين) المحسوبين على الإسلام ظلما وعدوانا!
هذا الكتاب الجميل الرائع من صفحته الأولى إلى صفحته الأخيرة لتقرير السلم في رأي الإسلام. هذه السلم التي تتمثل في دفع الظلم وإقرار العدالة الاجتماعية وحسب. هذه السلم التي تبدأ من ضمير الفرد وتنتهي إلى هذا العالم الأوسع. وقد قدمت حقائق هذا الكتاب
مؤيدة كلها بالأسانيد القرآنية والنبوية ومأثورات السلف الصالح.
وحين كنت أطالع هذا الكتاب، كان يقوم بنفسي اعتراض أو رأي أو حاجة، فما هي إلا بضعة سطور أو بضع صفحات حتى أجد ما أحب وأرجو، كأنما كنت معه على ميعاد غير منظور.
وإن السلام الذي ننشده بهذا الكتاب، وبدعوتنا الربانية المشرقة، ليحمنا على التدقيق في كل ما نكتب وما نقول. وإنه قد حاك بنفسي حائك من هذه العبارة (ويكسب الإسلام في النفس السكينة والأمن والسلام، بالركون إلى الله والاطمئنان إلى جواره، والثقة في رحمته ورعايته وحمايته. وهي خاصية العقيدة الدينية التي يشارك الإسلام فيها سائر العقائد السماوية. وإنما يتميز الإسلام بأن العلاقة فيه مباشرة بين الرب والعبد، لا يدخل فيها كاهن ولا قسيس، ولا تتعلق بإرادة مخلوق في الأرض ولا في السماء).
وأنا أحسب أن العلاقة المباشرة بين الرب والعبد ليست مقصورة على الإسلام، إنما هي في الديانات السماوية كلها، من آدم إلى موسى إلى عيسى إلى محمد بن عبد الله، ولكن الوغول في هذه العلاقة حدث على أيدي المحترفين بالدين من الكهان والقسس الذين بدلوا في كلم الله، ولا شك عندي أن الأستاذ المؤلف يقصد بعض الديانات التي زورها أهلها وانحرفوا بها عن سياستها المرسومة.
ويقول الأستاذ المؤلف (حتى الجريمة لا يجوز إثباتها بتسور البيوت والتجسس على الناس في مأمنهم. وقد حدث أن مر عمر بن الخطاب في إحدى جولاته الليلة ببيت سمع فيه صوت رجل وامرأة لعله رابه، فتسور الحائط لينظر، فإذا رجل وامرأة ومعهما زق خمر. فقال عمر. يا عدو الله! أكنت ترى أن الله يسترك وأنت على معصيته! فقال الرجل: يا أمير المؤمنين: أنا عيد الله في واحدة وأنت في ثلاث. فالله يقول (ولا تجسسوا) وأنت تجسست علينا. ولله يقول (وأتوا البيوت من أبوابها) وأنت صعدت من الجدار ونزلت منه والله يقول (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) وأنت لم تفعل.
وهكذا لم يجد عمر أنه يملك عقابه، فاستتابه!
وأحسب أن الإسلام يبيح التجسس فيما هو صالح الرعية والقيام على حياطة القوانين. وعمر رضي الله عنه ما خرج إلا متجسساً مستطلعاً. ويبدو لي أن هذه القصة وضعت
وحملت على عمر. وإلا فإنها لكبيرة من هذا الفارغ الوقح أن يجابه عمر هذه المجابهة: رجل معه امرأة، ومعه زق خمر، وصوت الرجل والمرأة يدعو من يسمعه عرضا إلى الاسترابه به، فإذا ما استشرف أمير المؤمنين لينظر ما رابه يناظره هذا الفارغ الوقح في أصول الدين! أن عمر لم يعاقبه لو كانت القصة حقيقية، لا لأنه تجسس، ولا لأنه أتى البيت من غير بابه، ولا لأنه لم يستأنس ولم يسلم، ولا لأن حجة هذا الفارغ فلجت عمر، بل لأن شروط العقاب لم تتوفر، فلم يبق إلا التعزيز وهذا ما فعله عمر.
إن الكتاب كتاب إسلامي قرآني. وإني أراه يمتاز بمميزات ثلاثة: الأولى وحدة موضوعة. الثانية أنه سد نفوسنا حاجة ملحة في هذا الفترة من الزمن. الثالثة بيانه المشرق وتعبيره الرائق.
محمود عبد العزيز محرم
جوته
للأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
تابع
حاجته للغضب والعنف:
طبيعي أن أقول جوته هذه هي عين التشاؤم، ولكنه أساساً كان راضيا بالوضع القائم؛ لأن روح المسالمة كانت بعيدة عنه. وعلى النقيض من ذلك كان يشعر شعوراً جارفاً بالقوة النضال (كي يتمكن الإنسان أن يتفوق على أخيه) وهذا يذكرنا بقول (فاكنر) عندما تتحرك القوة بدون خوف يعجبني المجلس الحربي كثيراً). زد على ذلك أنه كان يعترف بذلك جهاراً وهو القائل (أنني أشعر بالتعاسة عندما أكون متصالحاً مع الآخرين) وهناك شواهد كثيرة يمكن استنتاجها من قناعة وسروره بالعنف والعقاب واستعداده لإسكات الآخرين بالقوة الغاشمة (ونبذ إضراب هؤلاء الناس من المجتمع المتمدن)
إن الشيء التعس حقا والمزعج للوطنيين الذين كانوا يسعون لتثقيف ألمانيا وتحريرها سياسيا أن يكون الشاعر في طليعة لمناهضين لهم ولمقاومين لفكرتهم التحررية، وما أن واتاه الأجل المحتوم حتى شعر الناس براحة بالغة وتنفسوا الصعداء لخلاصهم من هذا الكابوس، وعلى الرغم من اعتقاده بان الحرية لا يمكن أن تعني شيئاً للأرقاء؛ فإنه سمح لنفسه بالمزيد منها بصورة لا محدودة ولا موصوفة ولا مدركة، حرية كاملة، حرية كانت تتشكل بجميع الأشكال وكانت تطالب بالاطلاع على كل شيء وان تدرك كل شيء، وعلينا أن نتذكر أنه لم يكن كتاباً بل إنسانا مفعماً بالتناقضات، إنسانا عظيماً ذا متناقضات هائلة وقد أحب أن يدعو نفسه (مناهضاً للمسيحية بعناد وتصميم). ولم يترك فرصة لا يظهر فيها بعاطفيته الشديدة ضد الأخلاق المسيحية، ولو أن ذلك لا يمنعنا من ملاحظة طبيعته الطيبة، وكذلك الحال مع غوته الذي ناصر الوثنية، وهذا الانتصار للوثنية لا يمكن أن يعارض حقيقة وجوده الروحي، والتي كانت تقر بالثورة الادراكية. ولعل خير دليل على ذلك قوله (أن كل نوع من الألم فيه عنصر إلهي). وطبيعي أن نقول أن الرجل بالرغم من أنه عارض ذلك مئات المرات وقال:(إن الإنخذال والتألم ليسا من طبيعته في شيء) وقد أعلن
بلهجة شديدة قاسية ذات يوم (إن الإنسان له حرية في الحياة بأن يكون إما مطرقة أو سنداناً). . وقوله (يظهر لي أنه من الخير أن يكون الإنسان مطرقة من أن يكون سنداناً) وهو أمر مألوف منه، ولكن الذي يدعو إلى التمعن لرضاه (تحمل الضربات المتوالية الأبدية). والآن ننتقل إلى شعاره الجديد والمعروف ب (النفور) فقد ظل ملازماً لكتاباته كما كانت (الحرية) شعار (شلر) و (الفداء) شعار واكنر، وكل شيء يدعونا للتردد باعتبار هذا الشعار شعاراً وثنيا على الرغم من إيمانه بالقوة والنضال لأن قوله:(أن الحرب ف الحقيقة مرض عجز عن معالجته الأطباء وهي مخالفة للسنن الطبيعية) رد بليغ على إيمانه بالقوة. أما مسيحيته كعامل ذي أهمية كبرى في تكوين شخصيته فقد كانت فقد كانت تعود بالدرجة الأولى إلى تربيت البروتستانتية. . وقد أسترعي انتباهه بصورة جدية ترجمة لوثر للكتاب القدس فعلق على ذلك بقوله (أنني أتمكن أن أضيف على ترجمة لوثر ولكن بصورة أحسن) ولكن البروتستانتية لم تلبث أمام حدة نقده بل نراه ينبذ ذلك ويلتجئ مرة إلى مدح القوة البدنية أو يلتجئ إلى الكاثوليكية الموحدة للديمقراطية مرة أخرى فيقول (يجب أن يكون الإنسان كاثوليكيا كي يتمكن أن يشارك العامة في عيشه وأن يختلط بهم ويتعرف على مشاكلهم وأن يكون واحداً منهم يشاركهم في السراء والضراء.
سريان التناقض في جميع أعماله ومؤلفاته:
ضعه أينما شئت من طبقات التفكي أو الوجود - استناداً على الشواهد التي لا تقبل الجدل - فستجده حتما في الطبقة المناهضة المعارضة، وهذا من مميزاته حتى في مواقفه الخلقية مثلا، وموقفه فيما يتعلق بالزمن نفسه لا يختلف عن ذلك في شيء فتراه متباطئاً متكاسلا حيناً وتراه مراعيا جهده الوقت حيناً آخر تحت شعار المألوف (ما أغنى إرثي وما أروعه. أن الوقت هو ملكي وأرض حصادي). أما من الناحية الفنية فقد كانت مؤلفاته تناقضاً غريباً بحد ذاتها، فبينما نراه يمثل نفسه تمثيلا موضوعيا (أيوليا) في سخريته، نجده في الوقت ذاته غنائيا واعترافيا، يرسم بأغانيه صورة نفسه ويعبر عنها أحسن التعبير.
ولعلنا بوصفنا إياه كمعترف ومكفر عن ذنوبه نصيب كبد الحقيقة من أن نصفه بأية صفة أخرى، ولنا الآن أن نتصرف على ذلك بصورة إجمالية، كيف كان يشرح حياته ويبين الأهواء التي كانت تتنازعه؟ يمكننا الإجابة على هذا السؤال باطلاعنا على نقاط الضعف
في حياته وكتبه: - فانتحار (فرتر) وخيانة (كلافيكو) وهسترية (تاسو) ودعارة (إدوارد) وخبث (فرناندو) في مؤلفه (استيلا) دلائل ناطقة على سلوكه
إن الإنسان عندما يلاحظ تهوره وسخريته من أدب (المستشفي) ورغبته في تغيير ذلك بأدب روحي سام عوضاً عنه. ومع ذلك فقد كان له (مستشفاه) الخاص، وفي (مستشفاه) هذا يجد اعترافه وضعفه الإنساني باديين بكل جلاء. حتى أن مؤلفيه (مايستر) و (فاوست) يبدوان وكأن الوهن قد أصابهما في جوهريهما وهما لا يعدان شيئا بالقياس إلى الرجولة المثالية التي امتلكت على الشاعر مشاعره.
وعلى الرغم من أن ميزة الرجولة لا تظهر بوضوح في كل هذا النتاج المتنوع كما هي الحال مع (شلر) إلا أن النزعة الروحية الإنسانية بادية في كل ما كتبه بصراحة تدعو إلى الإعجاب وبأمانة تفوق الوصف وبدقة لا متناهية، وفي كل ما كتبه يظهر طابع سحر سخصيته بصورة بارزة، بحيث يمكننا أن نقول وبحق أن الإبداع الأدبي جميعاً قديمه وحديثه لا يوازيه بقوته وسحره.
وكمثال على ذلك أحب استعرض تمثيليته (أكمونت). هذه التمثيلية التي كانت مثاراً للنقد من الناحية الدراماتيكية وحتى من الناحية الفنية المحضة. ومع خروج هذه التمثيلية على جميع نظم المسرح إلا أنها تتسم بجمال فتان، بأخلاق بطلها، ذلك البطل صاحب النزعة الأرستقراطية والشعبية معاً. وما من شك أن روح اللامبالاة الرقيقة التي تسري في مسارب هذه التمثيلية تظهر غوته على حقيقيته بجميع رغائبه وشخصيته، والتي هي في نظري أوج الكمال التي ارتقى إليه سحر غوته - نجد ذلك في أكثر مؤلفاته في علاقته اللاعاطفية مع (كلارجن)؛ تلك الفتاة الصغيرة التي كانت من عامة الشعب وأخت (كرجن) التي عرض لها نفسه بلباسه الملكي الأسباني وهو يحمل الميدالية الذهبية لمجرد غرامه بآهاتها وواهاتها. . وهنا نجد (نرجسيته) التي تتمثل في حبه للفتيات السذج اللائى كان يعتقد بأنهن يمثلن عالم الروح والحب، ولم يربط نفسه بهن إلا برباط الغرام المؤقت، هذا الرباط الذي لم يكن إلا طارئاً ينثره غبار الزمن فينحل وكأنه لم يكن. أما فكرة الزواج فكانت فكرة خيالية عابرة كحبه ،
حياته الغرامية:
كانت حياة غوته في الحب فصلا غريبا، والمتتبع للثقافة العامة مجبر على التصرف بشؤونه الغرامية لكي يكون انطباعه عنها صحيحاً لا تشوبه شائبة، فألمانيا في الأيام - التي نحن بصددها - كانت مثاراً لهذه الحوادث، وليس لدارسي غوته إلا تعداد هذه الحوادث كما كان يفعل (زيوس). أن هذه الحوادث أضحت الآن تماثيلفي (كاتدرائية) الإنسانية، وأما ركوعه وخضوعه أمام (فردريكة) و (ومريانه) و (لوته) وتذلله أمام أقدامهن - وهن ما فيه عليه من سيطرة ونفوذ - فلم يدم طويلا لأنه رأى العواطف الهوج وخرج مما تورطه به مفعماً شهامة وبأساً، وربما كان في هذا الحوادث ما يعوض عن تناقضه الذي كان ينتابه وولاؤه الذي كان أبداً مائلا إلى الانهيار. لأن حبه - في الحقيقة - لم يكن إلا ضرورة ووسيلة لغاية، تلك الغاية التي تتمثل في عمله الأدبي.
كتب مرة على (لوته) قائلا. . . إنك لا تشعرين بفرتر كما يجب وإنما الذي تشعرين به هو أنا ونفسك. وإذا كان في إمكانك أن تشعري بواحد من ألف مما يعنيه فرتر إلى آلاف القلوب لقدرت المتاعب التي تحملتها في سبيل التعبير عنه)
وطبيعي ألا تفهمه النساء ولكنهن تحملن عبئه اضطرارا.
ونظم غوته الشعر منذ البداية على الطريقة الفرنسية والإيقاع اليوناني القديم، وكان شعره موهوبا منسجماً مع روح العصر، فيه خفة ورقة وعذوبة. وقد أصبح بتطور الزمن شاعراً يشار إليه بالبنان في دستراسبورغ، بتأثير هردر. وكان لاتصاله بهوميروس واسيان وشكسبير، وخصوصاً بالأخير الذي كان معجباً به أشد الإعجاب في جميع أدوار حياته، وولعه بالكتاب المقدس وبالغناء الشعبي أثر هائل في توجيه حياته الأدبية وتنمية روح الطلاقة والانطلاق والصفاء فيه. أصبح هردر بفضل تعلمه وعمق إدراكه وغريزته النقدية القائد الأدبي للثورة التي طفت على ألمانيا سنة 1770؛ ولكنه كان يعوزه سر العظمة الملهمة والسحر الأدبي واللطف الإنساني، التي كان تلميذه غوته يتمتع بها جميعا، وهذا هو الذي جعل الشاب اليافع يبز أستاذه ويتفوق عليه. وإني أعتقد أن هردر شعر بذلك ولم يتمكن من مغالبته المرارة التي أحدثتها تصاريف الأيام في نفسه. ليس في إمكاننا الآن أن نشعر بمقدار الاستفزاز الذي حدث في ربيع العبقرية، والعاصفة التي أثارتها قصيدته (مرحباً وإلى اللقاء) وكيف أن سياق القوافي وتيارها الجارف بعثر ما تبقى من رماد زيف
الشاعر الواقعي هردر، كما أن قصيدته (غوتس فون بيرلنجن) كان لها الوقع نفسه، تلك القصة التي هزت المسرح بأسلوبها الشكسبيري وبعرضها الألماني القديم، وقد وصفها فردريك الكبير بقوله (إنها جنون لا شكل له) ونبذها، ولكنها مع ذلك حازت سمعة هائلة باستفزازها وتحديها لجميع النظم الشعرية وسخريتها بما تواطأ عليه الشعراء، فوصفها غوته نفسه بأنها أحدثت رضا شعبيا شاملا وذلك في كتابه (الشعر والحقيقة). ثم نأتي بعد ذلك إلى بعض المشاهد الأولى من (فاوست) فنجد أصدقاءه يصفقون والمداد لم يكد يجف، ويتحدثون بفرح متزايد (عن الشخص الذي ينمو بصورة منظورة)
أما (الآم فرتر) تلك القصة التي انطبعت بطابع الرسائل فلم تقتصر على أصدقائه والمقربين إليه أو مدرسته الخاصة ولا حتى بلاده ألمانيا، بل تعدتها إلى العالم فاحتضنها كما احتضنته هي. ولا ريب أن العاطفية الواهنة الخجلة التي أبدع في جلائها هذا الكتاب الصغير، هي التي جلبت إلى مؤلفه مقت الأخلاقيين بالرغم من إخلاصها الطبيعي، وأثارت في الوقت نفسه عاصفة من الاستحسان اللامحدود من قبل الشباب. إنها كانت كالشهاب الذي سقط في مستودع مفرقعات فأحدث انفجاراً للقوى الخطرة التي كانت متحفزة للانطلاق. ويبدو أن الرأي العام في جميع الأقطار كان ينتظر - وبصورة سرية - هذا الكتاب من شاب ألماني مغمور في المدينة الإمبراطورية. . ومن الغريب أن نابليون نفسه كان يحتفظ بالترجمة الفرنسية لهذا الكتاب في الحملة المصرية. لم يتمكن غوته أن يجرب نجاحاً عاصفاً كما جربه في هذا الكتاب، فإنتاجه الذي شغله طوال حياته لم يقابل بمثل الحماسة التي قوبل بها هذا الكتاب.
أما كتابه (ولهلم مايستر) فقد لاقى رواجا كبيرا وعد من وجهة النظر الفنية - أي من وجهة النظر الرومانسية - بمصاف الثورة الفرنسية ونظرية (فخته) في العلوم. وعلى أي حال فإن هذا التأثير يمتد إلى (سترفتر) و (كلر) و (الجبل السحري) ولكنه يعد الثاني بالنسبة إلى (فرتر) في مدى نجاحه، وهذا ينطبق بالفعل وبصورة أوسع على كتابه (القرابة المنتخبة) وأشخاص روايته هذه يمثلون رموزاً وبيادق في لعبة ثقافية تدعو إلى التفكير العميق. . أما كتابه (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي) والذي احتوى على مالا يثمن من جواهر غوته فقد ظلت طبيعته الأولى في المكتبات مكدسة بدون أن تلقى رواج يذكر.
أنهى غوته القسم الثاني من فاوست تجهد جهيد وتعب شديد، لأن قوته البدنية كانت في تدهور مستمر؛ وقال بخصوص ذلك ما يلي:(إن هذه الأوقات سخيفة جدا لدرجة أنها أقنعتني بان جميع مجهوداتي المضنية المخلصة سوف لا تجازى، بل سيرمى بها على ساحل البحر! وستحطم هناك إلى أن تتغطى برمال الشرف). .
تأثير فاوست العالمي
نشرت بعض القطع من القسم الثاني من فاوست في حياة غوته وخصوصاً ملحمته (هيلين) التي نشرت في جميع المجلات الفرنسية والأسوجية والروسية، وقد علق على ذلك غوته بقوله:(إن الأدب الوطني لم يعد له مكان يذكر في عصر الأدب العالمي، وإن كل شخص يجب أن يبذل جهده للإسراع بإيصال هذا العصر إلى ذروة قوته)
كيف أدمج العالم بذاته؟ وكيف أثر فيه؟ ماذا أعطته كل من إنكلترا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا والشرق الأقصى وأمريكا؟ وكيف أثر في الحياة الثقافية لهذه البلدان جميعا؟ كل ذلك وأكثر من ذلك يشرحه لنا المؤرخ الأدبي (فرتر سترخ) في كتابه (غوته والأدب العالمي)(والذي لا يزال أكبر مصدر في دراسة غوته.) وقد قال أمرسون بخصوص فاوست ما يلي: وإن الشيء البارز في هذا الكتاب هو الذكاء الهائل. أن ذكاء هذا الإنسان محلل جبار للعصور القديمة والحاضرة على السواء، بما فيها من الأديان والسياسة وأساليب التفكير؛ محلل لها إلى عناصرها وأفكارها المبسطة). فهذا الذكاء هائل وهذه الإحاطة الشاملة والتنظيم الدقيق والعقل الممتزج بالشاعرية، كانت تمثل فكره الجبار الذي كان ينبض بمشاعر المستقبل بشجاعة خارقة. ومن الغرابة أن نتصوره وقد تحدى الموت بإدراكه للمستقبل وبتوقه له، وهو لا يزال في دور الصيرورة والتكوين، وليس في الناحية الأخلاقية والظاهرية وحسب، بل حتى في الناحية العملية، هذا التوقع الذي كان واجب كل شخص الإسراع بإعداده والتهيؤ لاستقباله والعمل على برازه إلى حيز الوجود وفي الحقيقة فإن كتابه (رحلة ولهلم مايستر) الذي وضعه في أواخر أيامه - يتضمن فكرته الأساسية وهي (النفور). أما مثله الأعلى المتقمص في فكرة (الشخصية الكونية) فنراها تذبل تدريجياً حتى تسقط نهائيا من مؤلفاته الأخيرة فيحل محلها العصر الإجماعي، وأما ما نجده في هذا الكتاب فهو عدم أهلية الفرد للقيام بما يتطلبه المجتمع منه كفرد، ولذا فاجتماع الناس هو الذي يكون مفهوم
الإنسانية، وعلى ذلك يصبح الإنسان بمثابة عمل وأهميته تبرز لكونه يقوم بدور فعال في سبيل الثقافة الاجتماعية، وكذلك يظهر مفهوم الجماعة بوضوح وجلاء عن طريق إحلال العلاقة الاجتماعية محل الفردية الضيقة.
وليس من شك في أن عمره الطويل - على وقاره - لم يتطرق إليه الجفاف ولا التصلب، فقد كان مفعما بالحساسية والدهشة والاستماع بالحياة ورفع شان الأفكار العصرية، وقد كان الحديث الدائر على مائدة سيد القرن الثامن عشر لا يتعدى نطاق الأفكار الطوبائية والمشاريع العمرانية، كحفر قنال لإيصال المحيط الهادي بخليج المكسيك وحفر قناة أخرى لإيصال البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر. وقد كان يؤكد دائماً ذلك بقوله:(وإن تحقيق هذه الأشياء يستحق مني العيش خمسين سنة أخرى). أما ثقته بالمستقبل فقد كانت تحتضن العالم كله، وأما حماسته فكانت نتيجة لشعوره بالقيمة العملية للحقائق العلمية وتأثيرها في نبذ الأفكار الغيبية التي كان العالم متأثراً بها ومريضا بسبها فسعى جهده لتخليصه منها. وقد نظم كل هذه المشاعر ببيته التالي (إي أمريكا! أن حياتك أحسن من حياتنا هنا في القارة، فأرضك لا تعوقها الصخور ولا القباب القديمة الخربة) وجميع هذه القباب هي من آثار (السخافة القديمة) التي يمقتها أشد المقت، وكان يصر على تهديمها كي يحب الإنسان الحياة على اعتبار هذه الآثار من الناحية المعنوية - كانت تمثل في نظره الرجعة العاطفية (السخافة) التي كانت تقف حجرة عثرة في سبيل التقدم البشري، وقد ناضل شاعرنا من فجر حياته لتحطيم أحزاب هذه السخافات لما لها من تأثير في العقول؛ يبدو ذلك من قوله في كتابه ولهلم ما يستر (إنهم لا يخافون شيئا كخوفهم من الفطرة السليمة، ولكن عليهم أن يخشوا السخافة التي هي الهول بعينه: ولكن الفطرة السليمة تعرقل مسعاهم لتحقيق مآربهم فعليها السلام ولتترك جانبا، ولتقدم السخافة ما يحلو لها وما عليك إلا أن تجلس وتنتظر)
ومع ذلك فجوته لم يحبس ولم ينتظر بل صمد (وقف) بشجاعته وبأسه ويجلد ويناضل في سبيل إبادة هذه السخافة، وفي سبيل أركان الفطرة السليمة. أليس اتجاه السخافة هذه بذاته يهدد الإنسانية اليوم؟
أجل أن ذلك لم يخف على بصيرة جوته فعرفها وشعر بها وهي تنمو؛ ولذا وجدناه بطلا
مغموراً في مقارعته لها، وهذه القوة هي التي جالدها لا الثورة ولا الدستور ولا حرية الصحافة ولا الديمقراطية. ولقد قيل أن آخر كلمة صدرت من فمه قبل أن يغمض عينه الإغماضة الأخيرة (دعوا ضياء أكثر يدخل علي) ولكن هذا القول لا يمكن الاعتماد عليه بصورة قطعية، ولكن الشيء الذي قاله حقيقة في كلمته الأخيرة، والكلمة التي ناضل طول حياته في الدفاع عنها هي (وأخيراً أن الشيء المهم هو التقدم!)
بعقوبة
ترجمة - يوسف عبد المسيح تروت
أقباس من الكتاب
المؤمنون الفائزون
للأستاذ نور الدين الواعظ المحامي
(قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون الذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، والذين هم لأمانتهم وعدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون، أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون)
قرآن كريم
أخي المؤمن:
إن مثل الإيمان في القلوب، كمثل النور في الظلام، فكما أنا النور ينير ديجور الظلام، ويبدد أشباحه، ويزيل مخاوفه، ويبعث الطمأنينة فيه، ويطرد أوهامه، فإن الإيمان ينير القلوب ويبعث الحياة فيها، ويكشف عنها أغطيتها الكثيفة، ويقذف الانشراح فيها. . فتصبح القلوب المؤمنة (كالربيع) في جمالها و (كالسماء) في صفاءها، فتنجلي أسرارها، وتنكشف خفاياها، فتبدو لماعة تسر الناظرين، ملهمة تبهر بصيرة المتدبرين. . يفيض الطهر ويتدفق منها الصدق والإخلاص. تلك هي القلوب التي تعي وتفقه، وتدرك وتبصر: وأن مثل المؤمن كمثل المصباح، فكما أن المصباح يزداد ضياء وشعاعاً بزيادة النور فيه، فكذلك المؤمن، يزداد طهراً، وصدقاً وإخلاصاً، بزيادة الإيمان في قلبه، ويزداد انصياعاً للحق، وانقياداً للحقيقة، بقوته فيه؛ لأن الإيمان إذا استقر في قلب، فإنه يغذيه بالمكارم، ويسقيه بالفضائل، ويمدد بالإعمال الصالحة. . فيكون صاحبه مؤمناً، كريماً، فاضلا، بعمل الصالحات، ويتواصى بالحق، ويتواصى بالصبر. ذلك هو الإيمان الحق. . وذلك هو المؤمن الصادق.
لكي تنمو شجرة ذلك (الإيمان) في قلب امرئ ما. . وتثمر. . لا بد من ارتباط القلب بقوة مبدعة عظيمة. . وانقياد لها في الحركة والسكون. . والمنشط والمكره، حتى يكتسب القلب
(رهبة المراقبة) من تلك القوة المبدعة، السرمدية، الحكيمة الأزلية التي هي علة الوجود وسره الذي لا يدرك كنهه) وخير وسيلة لارتباط القلب بإرادة تلك القوة المبدعة هو (التمثيل) بين الواحد الأحد. . الذي لم يلد ولم يولد، في الصلاة بخشوع صادر من القلب، منبعث من جوانحه، لأن الصلاة هي معراج الروح إلى الملأ الأعلى. . بها تغرس بذرة الإيمان في القلب، وبالاستمرار فيها في شجرته، وبالإكثار منها تثمر. . (الذين هم في صلاتهم خاشعون (كما لا بد من إيتاء الزكاة تزكية للأموال من الدنس. وإيفاء لحقوق السائلين (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) لأن الحق يستلزم إيفاءه، والممتنع عن إيفائه عاص يجب محاربته وعقابه. إذ لا تهاون في الحق لسمو منزلته وعلو مكانته، وخطورته، لأن في ضياع الحقوق اختلال توازن العدالة، وتحكم الظلم في مصير الناس. ولا بقاء لملك مع الظلم، لأن العدالة أساس الملك. . ولا عدالة مع إنكار حقوق السائلين والمحرومين. (والذين هم للزكاة فاعلون). ولكي تستمر شجرة ذلك (الإيمان) في النمو والحياة. . لا بد من ترفع عن كل ما هو باطل وضلال، وفسق وفجور، وإعراض عن المعاصي وابتعاد عنها وسمو عن اللغو، وإغراق في حب الحكمة، وصيانة للوقت الذي هو كالحياة. . وترفعاً عما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال.
(والذين هم عن اللغو معرضون). كما لا بد من اجتناب الفحشاء والمنكر، صيانة للنسل، وحفظاً لحدود الرحمن تعظيماً له، وإكباراً لما امرنا به من التزام الخلق العظيم، لأن الإنسان مكرم لسيطرة العقل على شهواته، واعتداله بين ما تتطلبه الروح والجسم، لأن انطلاق الشهوات قتل للنفوس، وهدم لأسس الاجتماع، ونهاية الأمر وإباحية لا تبقي ولا تذر. وفي كبح جماحها تكريم للنفوس وحفظ لها، وبناء لأسس الاجتماع وتهذيب له. . . (والذين هم لفروجهم حافظون). ولكي تبقى شجرة ذلك الإيمان في حرز من الجفاف والذبول. . لا بد من إتصاف المؤمن بصفة الأمان، إذا أؤتمن لم يخن بل يؤدي الأمانات إلى أهلها، وإذا عاهد أو عاقد أوفى بعهده ولم يخالف. لأن الأمان والعهد والعقد والتزامات تترتب في الذمة يجب إيفاؤها، من دون إهمال، لأن في ذلك زعزعة لمبدأ (الثقة) ونقض لدستور الفطرة السليمة (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون). كما لا بد من صفة المواظبة على الصلاة في مواقيتها، لأنه سئل الرسول (ص) يا رسول الله، أي العمل أحب إلى الله؟
قال الصلاة في وقتها. ثم أي؟ قال: بر الوالدين. ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله؛ لأن المواظبة على الصلاة في وقتها دليل على تعلق القلب بها ومحبته إياها. . حتى تنقلب إلى قرة العين كما يقول الرسول (ص). . وفي تعلق القلب بالصلاة ومحبته إياها. . امتزاج لطيف بمشاعر روحية سامية لا يدركها إلا العارفون (والذين هم على صلواتهم يحافظون).
أيها الأخ الحبيب. .
إن نداء يرن في أذني وينبئني (بأنك مشتاق لتكون من المؤمنين الفائزين في الدنيا والآخرة) لأن الفوز غذاء الروح وان الإنسان قد جبل على حب الفوز والفلاح، ولكنه كثيراً ما يجهل سبيل الفوز وطريق الفلاح. . فيصد عن السواء السبيل، فتعالى معي. . وقلوبنا متعانقة. . وأرواحنا ممتزجة، نتدبر آيات الذكر الحكيم ونتأمل فيها، كي ترسم لنا سبيل الفوز، وترشدنا إلى طريق الفلاح. . إنها تهمس في آذاننا، وتقول: يلزمكم كي تكونوا من المؤمنين: -
1 -
إيمان طافح مع خشوع قلبين، في الصلاة. وحفظ لمواقيتها ومواظبة عليها
2 -
إعراض عن اللغو، وترفع عنه، وحب للحق والحكمة
3 -
أداء للزكاة، إيفاء لحقوق السائلين والمحرومين
4 -
طهر كامل، واجتناب للفحشاء وصيانة للنسل. وحرص على الشرف.
5 -
رعاية للعهد، والتزام للعقد، وحفظ للأمانات
هذه هي سبيل الفوز - أيها الأخ المؤمن - فهل أنت مستعد لإتباعها وسلوكها؟ (أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون)
نور الدين الواعظ المحامي
كركوك - عراق
زعماء التاريخ:
مصطفى كمال أتاتورك
للأستاذ عبد الباسط محمد حسن
(لم يكن مصطفى كمال. رجلا من رجال المصادفة والحظ. يرفعه إلى البطولة خلو الميدان. ويدفعه إلى الزعامة غباء الأمة. وإنما كان من الصفوة المختارة الذين يضع الله فيهم الهداية للقطيع الذي يوشك أن يضل. . والحيوية للشعب الذي يأتي أن يموت. .)
(الزيات بك)
- 5 -
انتقل مصطفى كمال إلى الأناضول. . . مبعدا عن القسطنطينية، وكان عليه أن يعمل على تسريح جيش الأناضول، وحل جمعية الاتحاد والترقي، بناء على رغبة السلطان وحيد الدين.
وقد أشترط مصطفى كمال قبل انتقاله أن تكون له صفة رسمية، وان يكون تحت أمره فيلقان كبيران، يتبعهما أربع فرق، كما يكون له الحق في إصدار الأوامر والتعليمات للقرى المجاورة لمنطقته، ولو لم تدخل في دائرة تفتيشه، وكذلك الاتصال بجميع قوات وولاة الأناضول.
ومع أن هذه الشروط أثارت دهشة وزير الحربية، وجعلته يتردد في التوقيع، إلا أن فكرة إبعاد مصطفى كمال عن القسطنطينية، ونفيه إلى الأناضول كانت قوية ومستحكمة. . ولذلك وافق بعد تردد، ومنحه الامتيازات التي أرادها لنفسه
وصل مصطفى كمال الأناضول في اليوم التاسع عشر من شهر إبريل سنة 1919م، هو اليوم الذي يعتبره مؤرخو النهضة بداية للحركة الكمالية، ثم بداية للعهد التركي الحديث.
وكان مصطفى كمال قد حزم أمره على البقاء في الأناضول إلى أن تظفر الأمة باستقلالها، لذلك بادر بالاتصال بالقواد والولاة اتصالا برقيا، وأخذ يبث في نفوسهم روح الثورة، وعمل على تأليف مؤتمر وطني للنظر في أحوال الأمة التركية، ولكن السلطان لم يقبل تأليف مثل هذا المؤتمر، فقابل مصطفى كمال ذلك بالاستقالة من السلك العسكري، وحمل
لواء الجهاد كزعيم قومي. .
وفي اليوم الثالث عشر من شهر سبتمبر سنة 1919م وقع ميثاقا يقضي بمواصلة الحرب إلى أن تتحرر أرض الوطن من العدو الدخيل، فانضوى تحت لواء كل من دبت في قلوبهم الحياة، وانبعثت من نفوسهم الحمية والغيرة على الوطن التركي الذليل!
وكانت أهم القرارات التي أصدرها المؤتمر الوطني. . (أن جميع أجزاء الوطن بحدوده القومية كل لا يتجزأ، وأن تكافح الأمة ضد أي احتلال أجنبي، وتستمر في كفاحها في حالة انحلال الدولة العثمانية، وأنه إذا عجزت الحكومة العثمانية عن الدفاع عن استقلال الوطن، فتؤسس حكومة مؤقتة في الأناضول لهذه الغاية، وهذه الحكومة تختار من قبل المؤتمر الوطني. . وإذا لم يكن منعقدا، فمن قبل هيئته التمثيلية. .)
ولذلك لم تمض فترة طويلة على قرارات المؤتمر، حتى أقام حكومة جديدة، واتخذ (أنقرة) عاصمة له، وأعلن انفصاله عن السلطان.
حينئذ أصبح مصطفى كمال - صاحب السلطة المطلقة، فهو رئيس الحكومة الجديدة، وقائد جيوش المقاومة، وعليه يتوقف استقلال البلاد.
وفي هذه اللحظات التي كانت البلاد أحوج ما تكون فيها إلى توحيد الجهود، وجمع الصفوف. . أخذ السلطان يقاوم مصطفى كمال مقاومة فعليه، فاستصدر فتوى أعلن فيها عصيانه وخيانته للسلطان. . وطبع منها آلاف النسخ، وألقى بها من الطائرات في جميع أنحاء الأناضول، وكان لهذه الفتوى أثران كبيران:
أحدهما من جانب الشعب الذي بدأ يتخلى عنه، والآخر من جانب اليونانيين الذين أرادوا أن يوسعوا منطقة احتلالهم، فأخذوا في التقدم والهجوم شرق ولاية أزمير. .
وكان الموقف في غاية الحرج، والبلاد تحيط بها الأخطار من كل جانب، لكن مصطفى كمال أظهر قوة وحزما وثباتا واستطاع في نهاية الأمر أن يوحد الأمة، ويستعد للنضال من جديد.
تقدم اليونانيون تقدما سريعا في بلاد الأناضول، فوقعت في أيديهم كوتاهية وأفيون قرة حصار، وأخذت جيوشهم تتقدم إسكي شهر الجيش التركي، وكانت خطتهم تقضي بمحاصرة الجيش ومحاولة إفنائه، حتى يستطيعوا الوصول إلى قلب الأناضول، والقضاء على حركة
المقاومة في أنقرة ذاتها. .
وحينما شعر عصمت - قائد الجيش - بالخطر الذي يهدد البلاد، بادر بالاتصال بمصطفى كمال، ليتولى بنفسه قيادة الجيوش ومحاربة اليونانيين.
فلما وصل مصطفى كمال أخذ يدرس الموقف دراسة تامة، ثم أصدر أمره في النهاية بإخلاء إسكي شهر، والتراجع إلى الوراء ثلاثمائة كيلو متر والوقوف عند نهر سقاريا، وقد كان لهذه الأوامر صدى كبير في نفوس أفراد الشعب، فبدءوا يغادرون أنقرة خوفا من تقدم الجيوش اليونانية، كما لاقى مصطفى كمال معارضة شديدة من جانب نواب المؤتمر.
وبعد فترة قصيرة بدأت المعارك من جديد، واستمرت أربعة عشر يوما، أظهر فيها الأتراك قوة وثباتا، وكان يقال عن مصطفى كمال (إنه كان يعمل وكأنه صيغ من حديد؛ وكان ينام أقل الوقت. . كما كان يجلس أكثر وقته إلى مصوراته الجغرافية، وإلى ضباطه يعمل معهم في جلد لا ينفد)
وقد كان لجهوده الجبارة وخططه البارعة أثر كبير في ضعف قوى اليونانيين، وتراجعهم عن المدينة، مما جعل الناس في كل مكان يهتفون بحياة الزعيم، ويطلقون عليه منذ ذلك الحين لقب (الغازي)
ولم يكن هذا النصر ليكفي مصطفى كمال، لأنه عقد العزم منذ البداية على أن يخلص البلاد نهائيا من اليونانيين، ويشهد العالم والتاريخ على أن دولة الظلم لا تدوم، وإن طال الأمد
استمر مصطفى كمال يواصل عمله ونشاطه، فجند جميع الشبان القادرين على حمل السلاح، واتفق مع فرنسا وروسيا، حتى يضمن جانب الدول الكبرى. وفي ذلك الوقت حدثت سلسلة من الكوارث والاضطرابات في داخل اليونان، كان لها رد فعل في الجبهة الآسيوية، فلم يعودوا قادرين على الوقوف أمام الأتراك
وما كان للجيش اليوناني أن ينتظر عونا من الحلفاء، بعد أن خرجت الدول الكبرى من الحرب ضعيفة محطمة، وبعد أن اتفق الفرنسيون مع الأتراك.
ولهذا ترك اليونانيون بمفردهم يجابهون العاصفة، ويواجهون جيش المقاومة. وفي 17 أغسطس سنة 1932م، أقام الزعيم مباراة كبرى لكرة القدم، اشترك فيها رجال الجيش، وأعلن أنه ذاهب لحضور المباراة، وكان في الواقع ذاهبا لإصدار أوامره لقواده وضباطه.
وعاد إلى أنقره، دون أن يثير الشبهات.
وفي اليوم الرابع والعشرين من أغسطس. . دعا رجال أنقره إلى حفاة راقصة. . استمرت طول الليل. . وأخبر ضيوفه أنه منهمك في عمل هام. . ثم خرج من البيت قاصدا ميدان القتال! وما هي إلا ساعات حتى اخترق الأتراك خطوط قوات الاحتلال. . وشطروها شطرين. . وكان مصطفى كمال يتنقل من فرقة إلى فرقة مشجعا الجنود وضاربا لهم أروع الأمثلة في الجهاد غير عابئ بسيل الرصاص ينهال حوله من كل جانب. . وفي النهاية انجلت المعركة وانتهت بهزيمة اليونانيين، وفرار البقية الباقية منهم إلى أزمير. . وقد أصدر مصطفى كمال أوامره إلى الأتراك قائلا لهم:
(أيها الجنود. . أن هدفكم هو البحر الأبيض. . فإلى الأمام واستمر يتتبع الجيش الهارب حتى قضى على معظمه. . وقد أنقذت سفن الحلفاء عددا كبيرا من المسيحيين الذين فروا أمام الجيش التركي المنتصر.
ومنذ ذلك الوقت لم يبق في تركيا كلها يوناني واحد، وأصبح الأتراك وجها لوجه أمام الحلفاء المرابطين في المضيقين، وتأهب العالم لرؤية ما سيكون، ولكن سادت روح التبصر والحكمة والاعتدال في اللحظة الأخيرة، ووقع الطرفان شروطا للصلح تقوم على أساس استقلال الوطن التركي، وتحلي الحلفاء عما تمسكوا به من منع الأتراك من استرداد حكمهم في أوربا
وهكذا استطاعت تركيا أن تحصل على استقلالها بفضل جهاد زعيمها العبقري (مصطفى كمال)
ولم يكتف الزعيم بذلك، بل ألغى السلطنة والخلافة، وأعلن الجمهورية، وقام بسلسلة من الإصلاحات الجريئة، التي أعطت لتركيا مظهر الدولة المتمدينة، والتي جعلت (مصطفى كمال) علما من أعلام الترك، وزعيما لنهضتها الحديثة
عبد الباسط محمد حسن
نساء عرفن في زمن النبي
للأستاذ ناصر سعد
بقية ما نشر في العدد الماضي
ومن هؤلاء النسوة هذه المرأة الفذة أم عمارة نسبية بنت كعب العامر قلبها بالإيمان وحب الله ورسوله والدين الحنيف ذهبت هي وابناها عبد الله وحبيب من زيد بن عاصم وزوجها غزية بن عمرو فاشتركوا مع المسلمين في وقعة أحد وشدت نسيبة ثيابها على وسطها تسقي الجرحى. ولما انهزم المسلمون أتت النبي وصارت بين يديه تدافع هي وذووها عنه بالسيف والقوس، ولما جاء ابن قميئة المشرك يريد قتل النبي (ص) كانت أم عمارة مع من اعترضوه وردوه فضربها على عاتقها ضربة مبرحة - قيل وقد أصيبت أم عمارة هذه ذلك اليوم باثني عشر جرحاً سيف أو رمح أو سهم. ويكفيها فخرا أن الرسول أثنى عليها وقال: - (لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان، ما ألتفت يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني) وهكذا كانت المرأة المسلمة عامرا قلبها بالإيمان لا فرق بينها وبين الرجل أن سلما وإن حربا. وكم فضل النبي من أمثال نسيبة على الرجال عندما كان يتكلم السيف والرمح! فأين المسلمات اليوم من أخواتهن في ذلك العصر؟
وهذه رفيدة أو - كعيبة - بنت سعد بن سعد الأسلمية التي بنت خيمة في مسجد النبي في غزوة الخندق وعرفت الخيمة باسمها، كانت تأتي بالجرحى إلى خيمتها فتعالجهم وتخدمهم تصلح من شانهم. كانت كرئيسة ممرضات تدير مستشفاها ذاك. . فما أعظمها من امرأة بارة بإخوانها المسلمين المحاربين وما أرحمها بهم، تسهر وتنصب في توفير العلاج وتدبير الراحة لهم! ومثل هذه المرأة يجب أن تكون قدوة للمرأة الحديثة التي يجب أن تهزها الغيرة على الوطن والإيمان بحبه فتنخرط في سلك المتطوعات المرهفات عن الجنود في سوح الوغى، والمرأة الغربية وإن كانت قد غزت نساء العصر الحديث في هذا المضمار فالعربية قد سبقتها بأشواط وأشواط منذ أقدم الأزمان.
ومنهن بنانة امرأة الحكم القرطي كان زوجها اليهودي من ألد أعداء النبي (ص) فهو بعد العهود ولمواثيق التي أبرمت بين النبي واليهود في المدينة حرض امرأته تلك، إذ أشار عليها بان تلقي رحى من حصن الزبير بن طابا اليهودي على جماعة من المسلمين كانوا
يستظلون بفيئه فشدخ رأس خلاد بن سويد فأمر النبي بقتلها وقتل كل من أنبت من ذكور اليهود، هذه المرأة كان عملها هذا من جملة ما أقلق بال النبي وأدى إعلانه الحرب على اليهود الذين نقضوا العهود فاستحقوا غضب الله ورسوله.
ومنهم أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أسلمت بمكة وهي شابة لم تتزوج بعد، وكانت تخرج ببادية لها بها أهل ثم تعود لبيت أبيها، فلما اشتاقت إلى اللحاق بالمهاجرين في المدينة خرجت على عادتها كأنها تريد أهلها بالبادية فرأت راكبا حكت له أمرها وشوقها إلى معقل المسلمين فأركبها بعيره وسار بها حتى أوصلها المدينة فدخلت على أم سلمة زوج النبي (ص) فأخبرتها بما جرى لها خائفة من أن يردها النبي لقومها حسب شروطه وعهوده مع أهل مكة قبل الفتح وكانت قريش قد نقضتا مرارا فلما رآها النبي رحب فيها ثم نزل بها من القرآن آية الممتحنة (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) ولما جاءها أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة لم يعطها النبي إياهما مستندا على نقض قريش العهود فبقيت أم كلثوم في مكة حتى تزوجها فيما بعد زيد بن حارثة.
ومنهن أميمة بنت بشر الأنصاري زوجة حسان بن الدحداح القرشي المشرك المعادي لرسول الله (ص) لما رأت أن عز الإسلام ارتفع وأن أهلها أسلموا بالمدينة وهي في مكة مع زوجها فرت منه وأتت المدينة مشتاقة إلى الإسلام فلما وصلت هم النبي بأن يردها إلى زوجها لولا نزول آية الممتحنة تلك التي نزلت بحق أم كلثوم بنت عقبة التي مر ذكرها فزوجها الرسول ابن حنيف فولدت له عبد الله بن سهل.
وهذه زينب ابنة الحارث أخت مرحب الفتاة اليهودية التي حفزها البغض والحقد والطلب بالثأر فعملت شاة وسمتها وأتت رحل النبي عندما كان بخيبر فلما جاء النبي رحله قدمت الشاة له وهو لا يعرفها فجلس هو وأصحابه ليأكلوا فمد يده الشريفة إلى ذراع الشاة فأخذها شيئا منه فلما مضغه وابتلعه وعرف ما به أمر من كانوا معه بالكف عن الأكل وقال: - (كفوا أيديكم فإن هذه ذراع تخبرني أنها مسمومة) ولما مات بشر بن البراء من السم أمر النبي بإحضار زينب وقال لها: - (سممت الشاة؟) قالت: - (من أخبرك؟) قال: - (الذراع) قالت: - (نعم) قال: - (فما حملك على ذلك؟) قالت: - (قتلت أبي وعمي وزوجتي ونلت
من قومي ما نلت فقلت أن كان نبيا فستخبره الشاة وإن كان ملكا استرحنا منه) فقتلها النبي. قيل ولما مرض مرضه الأخير (ص) قال: - (ما زالت أكلة خيبر يصيبني منها عداد حتى كان أوان أن تقطع أبهري) وقبضه ربه إليه متأثرا من ذلك السم. كتبنا إليك هذا أيتها المرأة المسلمة كي تتخلقي بأخلاق الخيرات المسلمات اللواتي كن يغمر الإيمان قلوبهن فضحين لدينهن كل غال ورخيص.
ناصر سعد
دراسة وتحليل
الجواهري شاعر العراق
للأستاذ محمد رجب البيومي
- 1 -
منذ عام نزل الشاعر العرقي الكبير الأستاذ محمد مهدي الجواهري ضيفا كريما على مصر، وقدمته الصحف المصرية إلى قرائها تقديما ينبئ عن مكانته الأدبية الممتازة في عالم الشعر، وكنت أقابل كثيرا من الأدباء والمثقفين في ربوع وادي النيل، فأجدهم لا يروون شيئا من قصائد الشاعر العراقي، ويتطلعون في لهفة وشوق إلى أثر من آثاره فلا يجدون، إذ أن الصحف المصرية لم تنشر له قبل ذلك ما يصله بالقراء والمتأدبين. وأذكر أني فتشت في كثير من مجلاتنا الأدبية فلم أعثر على شيء يذكر، إذا استثنيت ثلاث قصائد نشرت في آماد بعيدة متفرقة بأبولو والرسالة والكاتب المصري. وزاد الطين بلة أن الكاتب الفاضل الأستاذ عبد الخالق طف نشر بمجلة الثقافة الغراء (يونيه سنة 1951) مقالين كبيرين عن الشاعر العراقي، فأعطى القراء بمصر عنه فكرة غير تامة، إذ اعتمد في بحثه على ديوان الشاعر الصادر في أوائل سنة 1935 مع أن الجواهري لم يبرز في مضمار الإبداع إلا بما قاله بعد صدور هذا الديوان من قصائد عامرة ممتازة تحتل مكانها اللائق في الأدب والتاريخ. وكأن الكاتب قد أحس بتقصيره فوعد القراء أن يطالعهم ببحث جديد عن الشاعر في عهده الأخير، ومضى أكثر من عام دون أن يفي الأديب بما وعد؛ فرأيت لزاما على أن أقدم الشاعر للقراء من جديد.
وقد طرق الجواهري أبواب الشعر فنظم في الغزل والرثاء والوصف والسياسة والاجتماع، غير أنه تبوأ مكانته الأدبية بقصائده السياسية التي عبرت تعبيرا صادقا عن مشاعر العرب في شتى بقاع العربية. والحق أن الشعر السياسي قد أرتفع على يده إلى قمة عالية أعادت إليه سابق مجده في مطلع هذا القرن، حين كان حافظ ونسيم والمصري والكاشف ومحرم وعبد المطلب في مصر والزهاوي والرصافي والكاظمي في العراق، يهزون المشاعر هزا عنيفا بما يبدعونه في هذا المضمار، فلم تكن ثمر حادثة كبيرة أو صغيرة إلا رأيت لها
صدى قويا يبعثه الشعر السياسي في النفوس، وقد نضطر إلى إيجاد فارق هام بين ما قاله شعراء العراق في الميدان السياسي وما قاله شعراء مصر، فأولئك كانوا قادة جماهير، وموجهي نفوس، بقصائدهم الحماسية، وهؤلاء كانوا صدى لما يتجاوب في الميدان السياسي فحسب، فهم ينظرون إلى اتجاه الشعب وميوله ثم يعبرون عن مشاعره، دون أن يسبقوه بإيقاظ وتوجيه، وقد بقي هذا الفارق إلى يومنا هذا، فلديك فرق شاسع بين ما يقوله الجواهري في قصائده السياسية، وبين ما نطالعه لشعرائنا المصريين في الأفق السياسي على قلته وندرته، بل أخشى أن أقول أن الشعر السياسي قد مات موتا على يد هؤلاء الهائمين في آفاق الخيال، ومتاهات الذهول. ولولا كارثة فلسطين وحوادث القنال الدامية لما سمعت لهم شيئا يذكر على الإطلاق. وسيجد القارئ لشاعرنا العراقي سبقا ظاهرا حين يستعرض خرائده الجياد، ونحن نجمل هنا الحديث عنه في أغراض محدودة، كيلا تتشعب بنا الدراسة إلى منادح شاسعة لا نستطيع أن نحيط بعوالمها الرحبة الفسيحة، ونبدأ بالحديث عن فلسطين الشهيدة! فمأساتها الفاجعة أحرى بكل تقديم.
لا جدال في أن فلسطين قد هزت عواطف العرب هزا عنيفا، فترقرقت دموعهم حارة ملتهبة، واتقدت جذوات الحزن والحسرة في جوانحهم المشتعلة وقام الشعراء في شتى الحواضر العربية بتخليد المأساة واستنهاض الهمم، وقد طالعت أكثر ما قيل في هذا الكارثة الدامية، فوجدت ما ينبئ عن صدق الشعور، ولوعة الإحساس، في طراز باهت لا يخرج عما قيل منذ قرون في مأساة الأندلس، وكأن الشعر قد رجع بأصحابه إلى الوراء فلم يتقدم خطوة واحدة، عما كان عليه منذ ضياع هذا الفردوس البهيج، فقصارى كل شاعر أن يسترجع ويولول دون أن يشرح البواعث الأصلية للنكبة، ويحلل الكوامن المقنعة من وراء الحجب والأستار، وقد ربأ الجواهري بأدبه أن يقف عند الصراخ والعويل، فاندفع ينقب عن الصلال الخبيثة التي نهشت هذا العظم الرميم، ونفثت سمها القاتل في الجسم الهامد فخر صريعا لا حراك به. ورد النكبة إلى ثلاث عوامل بارزة كانت السبب والحقيقي في وقوع المأساة، وأقوى هذه العوامل إنجلترا الغادرة! فقد لبست ثياب الدهاء فأظهرت الوقوف على الحياد حاشدة وراءها جيشا عنيفا من الحقد والنفاق والابتسام! مغلفة أسرارها الخبيثة عن الأغرار من القادة والزعماء، وقد وجدت أمامها - لسوء الحظ - فريقا يهيم بحبها في
كل واد، وينزل على إرادتها في كل مطلب، يهادن إذ تطلب الهدنة، ويحارب حين تدفع به إلى الخراب والوبال، وقد مد له في الذهب اللامع، فملأ خزائنه، وضاعت فلسطين شهيدة على يده، وهذه حقيقة مرة يفصح عنها الشاعر في شجاعة ويقظة إذ يصيح
حماة الدار لولا سم غاو
…
أساغ شرابه فرط التمادي
ولوغ في دم الخل المصافي
…
فقل ما شئت في الجنف المصادي
ولباس على ختل وغدر
…
ثياب الواقفين على الحياد
وخب لا يريك متى يواتي
…
فتأمن شره ومتى يعادي
تطلع إذ تطلع في رخى
…
وتقرع حين تقرع في جماد
ولولا نازلون على هواه
…
سكارى في المحبة والوداد
نسوا إلا نفوسهم وهاموا
…
غراماً حيث هام بكل واد
أجرهمو على ذهب فجروا
…
فلسطين على شوك القتاد
وقادوها له كبش افتداء
…
صنيع الهاربين من التفادي
لكنتم طب علتها، وكانت
…
بكم تحدى على يد خير حاد
فإذا ترك إنجلترا الداهية وأذنابها الضعفاء، لجأ إلى العامل الثاني، فتسائل عن سر من أسرار النكبة في رأيه، وجهر بالحقيقة سافرة حين أعلن أن هذه المنكوبة لم تضع بددا بحيلة ساحر، أو غضبة قدر لا مرد له، ولكن لأنها - وأخواتها - مسترقة مستذلة قد خيم فوقها الثالوث الأشأم، فلم يبرحها الجهل والفقر والمرض، لحظة من اللحظات، وقد منيت جميعها بفريق من الطغاة، قضوا على المواهب العالية، وحاصروا العقائد المبادئ، ووضعوا الأبرياء في الأصفاد والأغلال، وقام في كل قطر شقيق حجاج طاغ يزيف إرادته، وزياد باطش يعصف بحميته، بينما يملأ يديه من الذهب السائل، ويرسل شهواته مطلقة الأعنة، فلا تذر من شيء عليه، ويفتح أبواب السجون لشهداء الرأي والوطنية والاستقلال، حتى خمدت النخوة العربية، وغرق الشرقي العربي في لجج الاستعباد والهوان. . ذلك ما يفصح عنه إذ يقول:
حماة الدار ما النكسات سر
…
ولا شيء تلفف في بجاد
ولا لغز يحار العقل فيه
…
فيجعل ما سداس من أحاد
ولكن مثلما وضحت ذكاء
…
ونور حاضر منها وباد
فما ذهبت فلسطين بسحر
…
ولا كتب الفناء بلا مداد
وما كانت فلسطين لتبقى
…
وجيرتها يصاح بها بداد
وست جهاتها أخذت بجموع
…
وجهل واحتقار واضطهاد
شعوب تسترق فما يبقي
…
على أثر لها ذل الصفاد
تساط بها المواهب والمزايا
…
وتحتجز العقائد والمبادئ
وتطلع بين آونة وأخرى
…
(بحجاج) يزيف أو (زياد)
فيذوي الخوف منها كل خاف
…
ويصمي الجور منها كل باد
وتنتهب البلاد ومن بنيها
…
يؤوب الناهبون إلى سناد
وتنطلق المطامع كاشرات
…
تهدد ما تلاقى بازدراد
وتنطبق السجون مزمجرات
…
على شبه وظن واجتهاد
والعامل الثالث في رأي الشاعر هو ما لدى اليهود من منعة وعتاد، فقد جذبوا الرأي العالمي والصحافة العربية بما توفر لديهم من حذق وإخلاص، وقد تربوا تربية صالحة قوية، فحذقوا العلوم والصناعات، وساهمت المرأة لديهم في البيت والمصنع والمعبد والقتال، فليس فيهم من فقير يستجدي الأكف، ولا ملقى بقارعة الطريق تحمله أمه في الكور بجهد جهيد، ولا زعيم خائن يغضب المال والجاه على حساب الضحايا والأبرياء، ولا مماسيخ مشوهون قد حطمهم السغب والكلال!! هؤلاء جميعا لا يوجد أحد منهم لدى الأعداء، مع أننا لا نجد غيرهم في جيوشنا الواهنة المتخاذلة!! فكيف تتعادل الكفتان!؟ ويتحقق المحال، هذا ما يصرح به الشاعر إذ يقول:
جيل تصرم مذ أبدى نواجذه
…
وعد لبلفور في تهديدها قطعا
والساهرون عليه، كل منتخب
…
بيني ويهدم أن أعطى وإن منعا
تهوى العروس على أقدامهم ضرعا
…
وتحتمي سادة الدنيا بهم تبعا
مررت بالقوم (شذاذ) فما وقعت
…
عيني على متمن غيره ضرعا
ولا بملقى وأهليه بقارعة=ولا بحاملة في الكور من رضعا
ولا بمن يحرس الناطور أرجلهم
…
مهروءة سهلت للكلب منتزعا
وعند سلعته تصغي البنون لنا
…
نغلي - ونرخصها في الأزمة - السلعا
وجدتها عندهم زهوا منورة
…
البيت والبحر والأسواق والبيعا
بينا تراقص بالأنغام صاحبها
…
إذا بها توسع الألغام مزدعا
ونحن ما نحن! قطعان بمذأبة
…
تساقطت في يدي رعيانها قطعا
في كل يوم زعيم لم نجد خبرا
…
عنه ولم ندر كيف اختير واخترعا
أعطاهمو ربهم فيما أعد لهم
…
من الولائم صفوا فوقها المتعا
كأسين، كأسا لهم بالشهد مترعة
…
وللجماهير كأس سمها نقعا
قتالة، خوف ألا تستاغ لهم
…
أوصاهمو أن يسقوهم بها جرعا
وينطلق الشاعر في الحديث عن هؤلاء المتزعمين! وكيف زودهم الاستعمار بوصاياه الخارقة، فصبوا على الشعوب كؤوس الصاب مترعة بالسم الناقع، وقد أدركوا بعض الحذق، فلم يصبوا الكأس مرة واحدة، فتقضي على الشعوب القضاء السريع، بل ساقطوا الجرع السامة نقطة نقطة، لتأخذ وقتا طويلا في التنويم والتخدير، بينما أعدت لهم كأس مترعة بالرحيق السلسال فتنهلوا منها وعلوا كما يشاءون، وليس الزعماء جميعا طراز واحدا، ففيهم من خلصت نبته وكان قصاراه أن تدمع عينه ثم يمسح دموعها بمنديله الرقيق!! وهو على إخلاصه لا يرضى الشاعر! إذ يريد المتحفز الوثوب الكاشر الصائل، وأنت تعجب له حين يدعو في مطلع قصيدته إلى اليأس، فيخلق له الحسنات المتتابعة، فهو ذو حد يقف لديه الأمل الحالم، وهو مصحر الأرجاء لا يمد الظل على اللصوص والأوشاب!! ولكن أي يأس ذاك؟! أنه اليأس من الوعود الكاذبة، والآمال المزعومة، أنه اليأس الذي طوح بالباستيل فاقتلعه من أغواره، وقذف بطارق إلى النصر بعد أن حطم سفينه، ووقف من وراء البحر، وأمام العدو، فكان لابد من النصر في تلك الحنادس الحالكات.
وإن من حسنات اليأس أن له
…
حدا إذا كل حد غيره قطعا
وأنه مصحر الأرجاء، لا كنفا
…
لمن يلص ولا ظلا لمن رتعا
اليأس أطعم بالأشلاء مقصلة
…
عدلا وطوح بالباستيل فاقتلعا
وطارق منه أعطى النصر كوكبه
…
نزرا وعدى إلى الأسبان فاندفعا
ورغم الظلمة الداجية التي تكتنف الشاعر في حديثه عن المأساة، ورغم شعوره بالعلل الأصلية للنكبة، وإلمامه بالأوضاع الشائنة التي جلبت هذه الكارثة المروعة، رغم ذلك كله يتعلل بالنصر القريب - بعد أن يئس من الوعود البارقة - ويمد خيوط الأمل للشباب المتوثب، ويدعو إلى الممات في سبيل الحياة المرتقبة؛ ويفسح الصدور للرصاص، ويحذر من الخوف والخور والقنوط، كما ينتقل بريشته الملهمة إلى طبيعة فلسطين، فيصور الفجر المترقرق فوق الروابي الخضر كوشاح فضي لامع، ويحمل إلى القارئ أنفاس المروج العاطرة، ويسمعه ألحان الوحي في مهابطه المقدسة؛ وغناء داود مع الطيور في أورشليم الحالمة؛ ثم يدعو الشباب الفلسطيني المكافح إلى الاعتماد على نفسه؛ فالشعوب العربية لا تجيد غير العويل والبكاء؛ فهي تدق من الأسى راحا براح؛ ويدا بيد؛ ثم تقف عند ذاك!! فإن تجاوزته فإلى الخطب الرنانة والقصائد المسهبة؛ ولن تجد أوجع من الحقيقة المريرة يعلنها الشاعر صريحة سافرة فيقول عن قومه في يأس واكتئاب
أأم القدس والتاريخ دام
…
ويومك مثل أمسك في الكفاح
فلا تتخبطي، فالليل داج
…
وإن لم يبق بد من صباح
ولا تعني بنا إنا بكاة
…
نمدك بالعويل وبالصياح
ولا تعني بنا، فالفعل جو
…
مغيم عندنا والقول صاح
ولن تجدي كأيانا نصيرا
…
يدق من الأسى راحا براح
ولا قوما يردون الدواهي
…
وقد خرست بألسنة فصاح
يتبع
محمد رجب البيومي
رسالة الشعر
موشح
اللؤلؤ المنحدر
للأستاذ محمد زكي الدباغ
زارني والليل في طرته
ومحيا البدر من غرته
يتجلى الحب في نظرته
قمت أستقبل عندي قمرا
…
يزدري في برده بالقمر
خائفا لاذ بصدري ورنا
خلفه - من خشية الواشي بنا
خافق القلب اضطرابا وأنا
خافق القلب عليه حذرا
…
وسرور باللقا والظفر
كلما البدر علينا طلعا
خبأ الوجه بصدري جزعا
وإذا تغريد طير سمعا
أتلع الجيد ومد البصرا
…
متبعا أوهامه بالنظر
يحسب النجم عيونا تنظر
ونسيم الروض عينا يخطر
وإذا صبرته - لا يصبر
وهو أن يأنس قليلا نفرا
…
وبكى باللؤلؤ المنحدر
خده المشرق حسنا وجمالا
شب جمر الوجد فيه فتلالا
كلما قبلته زاد اشتعالا
أتراه في فؤادي استعرا
…
أم فؤادي منه في مستعر
يا حبيبي ما الذي قد أفزعك
أنت في ثوب الحيا ما أبدعك
عادت الأفراح للروح معك
فابتسم لي فالهناء استتر
…
في ثنايا الكوثري العطر
مل على صدري فالغصن يميل
ألصق الخد بخدي يا جميل
واسقني من مرشف كالسلسبيل
ذوب شهد فوق قلبي قطرا
…
كالندى يقطر فوق الزهر
وإذا ما الثغر أتصل
هز أوتار فؤادي بالقبل
واستمع منه أغاريد الأمل
فهو قيثار غرام طهرا
…
مطرب اللحن شجي الوتر
زال عنه خوفه فابتسما
وبدا في وجده ما كتما
فاغتنمناها وكانت نعما
قد حلت وردا وطابت صدرا
…
لم يشبها غير بعض الحذر
محمد زكي الدباغ
الكتب
السقامات
قصة طويلة ليوسف السباعي
للأستاذ كارنيك جورج ميناسيان
لعل الأستاذ السباعي من أكثر الأدباء المصريين إنتاجاً، فهو ينتج بمعدل أربعة كتب في العام الواحد عدا القصص القصيرة الأخرى التي يكتبها للصحف، ونحن لا نحاسب الكاتب على كثرة نتاجه أو قلته، وإنما نحاسبه عن النتاج نفسه، وعن قيمته الفنية والأدبية والاجتماعية.
لو تأملنا كتابات السباعي السابقة ثم تأملنا كتابه الأخير لوضعنا الكتب السابقة كلها في كفة، وكتاب السقامات في كفة أخرى.! فالكاتب في كتبه السابقة كان يتأرجح بين أساليب شتى. لا تربطه صفة واحدة، ولا يميز مؤلفاته أسلوب خاص! كان يكتب لمجرد الكتابة. كان بكتب كي يمد (مسامرات الجيب) بقصة كل أسبوع، ولا شك أن هذا (الروتين) في الإنتاج الأدبي قد يجعل الكاتب يغض النظر عن القيم الفنية بعض الشيء، فيحصر اهتمامه في إعداد قصة قبل الوقت المعين!
أما في (السقامات) فقد ظهر للقارئ بأسلوب مميز خاص. وبقلم الكاتب المتمكن المتعمق. فالكتاب يقع في أكثر من خمسمائة صفحة من القطع المتوسط. فليس تأليفه إذن من السهولة بمكان! فالشوط الطويل الذي قطعه السباعي قد تقصر دونه الأنفاس، وتكل الأيدي، وتجهد الأذهان؛ ولكن أنفاس السباعي لم تقصر، ويده لم تكل، وذهنه لم يجهد! فقد مضى بكل اعتداد، وبكل جرأة، وخطا الخطوة الأولى. حتى انتهى إلى الخطوة الأخيرة. ومن هذه الناحية أستحق كل إعجاب.
ونعود إلى الكتاب فنتأمله بعين فاحصة، فنراه يشمل قصة محلية، من الجو المصري القديم. قصة شبيهة بقصة (زقاق المدن) لنجيب محفوظ. من حيث البيئة وتعدد الأبطال، والفكرة المستترة وراء الحوادث. . وهي إعطاء صورة صادقة للجو المحلي القديم في مصر. فالقصة قصة بيئة. لا قصة أسرة. قصة جماعة من الناس جمعتها الحياة في صعيد واحد،
ولونتها الحياة بلون واحد. فكل أفرادها من الطبقة الفقيرة التي تكدح طول النهار، ولا تكاد تظفر باللقمة التي تشبع!
لقد حاول الكاتب محاكاة نجيب محفوظ، كما هو واضح في رسم الشخصيات، ولكن محاولته لم تنجح مثل نجاح محفوظ. فهو في بداية قصته تطرق إلى شخصيات كثيرة، حشرها ضمن محور القصة، وجعلها من أبطالها الأولين، كما فعل محفوظ، لكنه لم يكد يخطو خطوات، حتى ترك أكثرها في حالها. . . واقتصر على قسم منها معدود! في حين نرى محفوظ لا يترك شخصية واحدة تفلت من نطاق قصته. . أنه يسيطر عليها سيطرة تامة، فيحصرها حصرا، ويجعلها في القصة ذات أثر فعال.
مجمل القصة: السقا شوشة يعيش مع ولده وأم زوجه المتوفاة، عيشة راضية، وهو إذ يتغدى ذات مرة، عند (الحاجة زمزم) المرأة المخيفة! يصادق (شحاته أفندي) الذي كان قد جاء إلى (مسمط زمزم) ليأكل على الحساب. . . بناء على دعوة من الحاجة اعتبرها دعوة حب. . وغرام! كان جيبه فارغا، لذا فقد كادت الحاجة زمزم تجرده من ثيابه بعد أن عجز عن دفع ثمن ما أكل. فتدخل شوشة في الموضوع ودفع الثمن منقذاً الأفندي من براثن الحاجة! ويعد ذلك نرى شحاته الذي يعمل في توديع الأموات إلى قبورها يعيش مع شوشة، كما نراه يأخذ شوشة إلى قهوته، ويعرفه بأصحابه ويبسط له مهنته.! حتى ينام شحاته أفندي ذات يوم على أمل أن يستيقظ فيذهب إلى موعد غرامي اشتراه بخمسين قرشا من (تاجر الأغراض) الذباح! ينام الرجل فلا يستيقظ أبدا. ولا يلبث المعلم شوشة أن يأخذ مكانه في المهنة، مستعملا نفس البدلة التي كان يستعملها المتوفى، لأنه يريد أن يتعرف إلى سر الموت! الموت الذي خطف منه زوجه، وتركه وحيدا محروما. وتقبل عليه الدنيا فيرتقي إلى رئيس للسقايين. يتحكم في توزيع المياه على الزبائن، ولكنه لا يترك مهنة المتوفى. حتى يفاتحه ولده بمخاوفه، طالباً إليه أن يكف عن توديع الموتى، فيعده الرجل، لكنه في اليوم التالي لا يغادر فراشه، فيحعل ولده محله في توزيع المياه! وما أن ينتهي من ذلك ويعود إلى أهله، حتى يجد البيت قد انهار وقضي على أبيه! فلا يلبث الابن أن يسرع فيرتدي بدلة شحاته أفندي، الخاصة بمودعي الأموات. . فيمضي أمام نفس أبيه ليودعه المقر الأخير، أنه أيضاً يريد أن يكشف عن الموت سره. .!
وتنتهي القصة والابن قد أصبح أبا، وتربع على عرش المياه مكان أبيه، وقد وضع بالقرب منه لافتة فيها هذا الآية الكريمة (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)
والغريب أن الكتاب يبدأ الآية وينتهي بها، كما أنها تتردد في حوار القصة أربع مرات تقريباً دون أن يكون بينها وبين القصة صلة ما.! لعل المؤلف يريد أن يعزي أبطاله ويمسح على مصائبهم وهم في غير حاجة إلى ذلك. فالآية مفروضة فرضاً محشوة حشواً! فالصلة بعيدة بينها وبين مغزى القصة كما قلت، فأين الصابرون؛ بل أين الفواجع التي صبروا عليها؟ الحوادث كلها بسيطة عادية. لا تدعو إلى الصبر، لأنها توحي بالقناعة. وبالأضل من أناس مثل أولئك الفاسقين الراضين، وإن كان المؤلف قد افتعل موت الرجلين افتعالا، إذ حرمهما الموت الطبيعي وذلك لم يتمكن أن يجعل أبطاله من الصابرين المؤمنين، لأنه جعلهم يشعرون أن الموت جاء بالمصادفة وأن القدرة الخفية لا دخل لها فيه.
لقد فاجأنا المؤلف بموت شحاته أفندي في منتصف القصة وشحاته هو الوحيد الذي يسيطر على انتباه القارئ وجذب اهتمامه، لأنه الوحيد - حتى ذلك الوقت - الذي كان يسعى إلى هدف فيجعل للقصة مسحة من التشويق، فاجأنا بموته، وبذلك ماتت عقدة القصة، وتلاشى التشويق، وكأنما انتبه الكاتب إلى خطئه، فكشف للقارئ عن عقدة أخرى. . كانت مختفية عنه حتى ذلك الوقت، وبكل هذه العقدة شخصية شوشة. . الذي أخذ يسعى إلى كشف سر الموت واستجلاء أمده!
ولنا ملاحظة أخرى بشأن شحاته أفندي. فقد جعل له المؤلف شخصية ماجنة عابثة تتأثر حين ترى أمامها امرأة. فهو يتغزل حتى في الحاجة زمزم، الضخمة المخيفة.! ثم عاد - المؤلف - وأسكنه مع المعلم شوشة، ونحن نعلم أن هناك، في أعلى شقة هذا الأخير تقطن أسرة (علي الخشت) أن لهذه الأسرة فتاة ناضجة، تتردد على أسرة شوشة فتساعد الضريرة أم آمنة فإذا ما نزل شحاته عند شوشة لم تعد ترى أثراً للفتاة! وكان المتوقع أن يراها شحاته، وان تحدث بينهما أشياء. .! فما الذي جعل الفتاة تختفي عن مسرح الحوادث بمجرد ظهور شحاته؟
وهناك أمر آخر. فإن شوشة بعد موت شحاته أخذ مكانه وصار هو الآخر من (الأفندية)
يودع الموتى إلى المقر الأخير في وقت أصبح فيه موظفاً في تصريف المياه. أي أنه يجب عليه أن يعمل طول النهار في وظيفته ثم يزاول مهنة شحاته بعد ذلك أي عند المساء. وهنا بعض التناقض. لأننا رأينا شحاته بعد قد تأخر قليلا ذات صباح فزجره الحانوتي الرئيس! فكيف لا يتأخر شوشة؟ وهو لا يزاول هذه المهنة إلا ليلا، مع العلم أن الموتى لا يدفنون إلا في النهار!
لقد اهتم المؤلف برسم شخصية (الحاجة زمزم) اهتماما كبيرا حتى جاء رسمه بليغا رائعا مثيرا؛ فحسبنا أن لها أثراً كبيرا في القصة أوانها هي البطلة الأولى فيها؛ ولكننا وجدناها تختفي تماما عن مسرح القصة، ثم تعود قبيل النهاية؛ عودة قصيرة؛ تخيب آمال القارئ وهي مع ذلك عودة مفتعلة! جاءت على إرسال الأب ابنه إليها ليطالبها بالريال المتبقي له عندها، لأنه لا يملك شيئا أبداً! وهنا الكثير من الضعف، لأن الأب قد أقبلت عليه الدنيا، وأصبح رئيسا للسقايين. كما أنه يعمل سرا في دفن الموتى، وان الموتى كثيرون كما قال المؤلف! وقد رأيناه في الليلة السابقة في الحمام مع أبنه يدفع المال بسخاء، فكيف بنا نجده في الصباح خالي الجيب تماما! كان الأوفق للكاتب ألا يكلف نفسه إعادة الحاجة زمزم؛ وأن يجعل له حيلة أخرى لإبعاد الابن عن أبيه كما ينهدم البيت وهو عنه بعيد!
وفي الكتاب بعض الأخطاء النحوية والإملائية التي لا أخالها إلا وليدة السرعة أو وليدة المطبعة. فقد جاء في (ص99)(. . وكان الثلاثة. . .) في حديثه عن ثلاث نساء! وقد تكرر هذا الخطأ في (ص101) وفي (ص102)(كانت النساء الثلاث في الفناء تتجاذبن الحديث) وفي (ص467)(لم تشعره جدته ولا أبيه)!
وهناك أخطاء طفيفة لا تؤثر في قيمة الكتاب. ويجب ألا أنسى أن السباعي قد أبدع في (ص290) حتى (ص300) في الكلام عن الموت على لسان شحاته أفندي، فقد جاء ذلك الكلام مطابقا شخصية شحاته كل المطابقة
والكاتب بعد هذا يتأرجح بين العامية والفصحى. وهذا ما يؤكد أن الكاتب عاجز عن التعبير الكامل بالفصحى، بالرغم من أنه يبرر مسلكه في المقدمة قائلا:(إن الغلبة - في الحوار - للعامية، لأنه من المستثقل الممجوج أن نحاول إنطاق أشخاص باللغة العربية في القصة، وهم لا يمكنهم في حياتهم الطبيعية أن ينطقوا بها). إنك يا أستاذ يجب أن تصور أولئك
الأشخاص تصويرا فنيا، لا أن تنقل أقوالهم كما هي، فالفنان هو الذي يضيف على الحوادث العادية مسحة من الجمال والسمو، ولا يرضى أن ينقلها كما هي، ولا أن يصورها كما تصور آلة التصوير المناظر الطبيعية
كارنيك جورج ميناسيان
البريد الأدبي
في مقال لعميد الأدب:
نشرت (الأهرام) الغراء في عددها الصادر في الخامس عشر من الشهر الجاري مقالا لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين باشا بعنوان (بين الأدب والصحافة) جاء فيه قوله (والغريب أنها - (ويعني الصحافة) - تقدم الكتب إلى القراء تقرظها حيناً وتنقدها حيناً آخر) وأقول: يقال في اللغة: نقد الدراهم وانتقدها: أخرج منها الزيوف، وماز بين الدرهم الزيف والدرهم الوازن غير المخلوط. وفي اللسان: النقد والتنقاد: تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها. أنشد سيبويه:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة
…
نفي الدنانير (تنقاد) الصيارف
ونقد الكتاب: إظهار عيوبه ومحاسنه، ومن ثم فلاو لقول عميد الأدب (تقرظها حينا) لأن النقد - كما سبق والقول - يشمل المحاسن العيوب. قال الشاعر:
والموت (نقاد) على كفه
…
جواهر يختار منها الجياد
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فأذكر أن المؤلفات العربية التي تعنى بالنقود قليلة ولا نعرف منها إلا أربعة: الأول للبلاذري في آخر مصنفه (فتوح البلدان) والثاني (رسالة في النقود الإسلامية) للعلامة المقريزي عني بنشره فارس الشدياق في مطبعته الجوائب. والثالث: هو الجزء العشرون من (الخطط التوفيقية الجديدة) لعلي باشا مبارك. والرابع: رسالة مخطوطة أشار إليها الأب أنستاس ماري الكرملي في كتاب (النقود العربية وعلم النميات) للإمام العلامة المحدث المؤرخ تقي الدين أحمد بن عبد القادر المقريزي الشافعي، وهو مطبوع في المطبعة العصرية بالقاهرة سنة 1939
والنميات: علم يستدل به على أنواع النقود والرصائع التي ضربت في أزمنة مختلفة وبلاد شتى، وفي أيام ملوك وقياصرة وأباطرة متنوعة، واحدها النمى. القاموس: 0النمى: صنجة الميزان. . . والفلوس أو الدراهم التي فيها رصاص أو نحاس. . والجمع نمامي). والرصائع - في اللسان - زر عروة المصحف. والرصيعة: عقدة في اللجام عند المعذر كأنها فلس، وقد رصعه. والرصيعة: الحلقة المستديرة، وسيف مرصع: أي محلى بالرصائع وهي حلق يحلى بها. الواحد رصيعه
قال الفرزدق:
وجئن بأولاد النصارى إليكمو
…
حبالى وفي أعناقهن (المراصع)
وبعد: فأذكر أن عميد الأدب كان دعا الأدباء والكتاب في مقالة (محنة الأدب) إلى أن يشقوا على أنفسهم في الغوص على فرائد اللغة وأسرار البلاغة، وها نحن نستمع إلى نداء الأديب العميد فنكتب كلمتنا ملبين الدعوة منبهين إلى ما يحسن التنبيه إليه وقد سبق قلم. والسلام
عدنان
نسبة البيتين:
في العدد رقم 989 من الرسالة الغراء 16 يونيو سنة 1952 كتب حضرة الأستاذ الفاضل عبد القادر رشيد الناصري يطلب مني أن أشير إلى المصدر الذي استقيت منه نسبة ما يأتي للحسين الخليع في كتابي نديم الخلفاء
بأبي من وددته فافترقنا
…
وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
فافترقنا حولا فلما التقينا
…
كان تسليمه علي وداعا
فقد جاء في شرح العكبري لديوان أبي الطيب المتنبي وفي جميع دواوين المتنبي نسبتها للمتنبي وقالهما ارتجالا في صباه
وقد تفضل حضرة الأستاذ الكريم عبد القادر الناصري فهنأني وحياني مبديا إعجابه بكتابي وإني أشكر لحضرة الأخ الفاضل هذا التقدير وأحيي فيه ذلك الشعور النبيل نحو المؤلفين. لا أنكر أن البيتين نسبا للمتنبي في المصادر السابقة وهي في حقيقتها مصدر واحد هو ديوان المتنبي، أما المصدر الذي نسبهما للحسين بن الضحاك فهو زهر الآداب ج3ص163. وعلى الرغم مما راجعته من مصادر لم أجد ما يرجح نسبة البيتين لأحد منهما، وقد اعتمدت نسبتهما للخليع لأنه أولا أسبق، والغالب أن ينسب للاحق ما هو للسابق ثانيا، أنهما لرقتهما للخليع أقرب، وثالثا لأن شعر الحسين بن الضحاك ضاع أكثره ونسب إلى غيره من شعره كثير. ومشكلة تنازع الأبيات في الكتب الأدبية تحتاج إلى دراسة طولية وجهود ضخمة وعلى الأخص كل ما فيه (قال الشاعر، وقال آخر، وقال غيره ويقول القائل. . الخ) ومن أمثلة التنازع هذه الأبيات:
لا وحبيك لا أصافح بالدمع مدمعا
من بكى شجوة استراح وإن كان موجعا
كبدي في هواك أسقم من أن تقطعا
لم تدع سورة الضنى في للسقم موضعا
نسبت في الأغاني ومعجم الأدباء وابن خلكان ومسالك الأبصار للحسين بن الضحاك، ونسبت في مصارع العشاق ص425 لأعرابي ونسبت في زهر الآداب ج1 ص250 إلى محمد بن يزيد الأموي
وكنت أحسب أن وجود البيت أو الأبيات في ديوان يقطع بصحة بنسبتها إلى صاحبه، ولكني وجدت مثلا هذا البيت
فلو لم يكن في كفه غير روحه
…
لجاد بها فليتق الله سائله
نسبت في الأغاني ج13 ص35 إلى عبد الله بن الزبير الأسدي وهو شاعر أموي، وفي شرح ديوان زهير بن أبي سلمى أن نسخته انفردت بنسبته إلى زهير وهو أقدم من سابقه، ونسب لبكر بن النطاح في شرح ديوان أبي الطيب للواحدي ص198 ودلائل الإعجاز ص387 والإبانة عن سرقات المتنبي ص46 والوافي بالوفيات المجلد الأول من الجزء الثالث وفوات الوفيات ترجمة بكر بن النطاح، ونسب في كتاب التحف والأنوار ص79لدعبل. . أما في شرح المضنون ص156 ومسالك الأبصار ج9 وديوان أبي تمام فقد نسب لأبي تمام قبل دعبل وولد بعده وهم جميعا عباسيون. وهناك من أمثلة كثير ولا يخفى ذلك على الأستاذ الفاضل عبد القادر الناصري. وأكرر شكري له وتحياتي وتقديري
عبد الستار أحمد
خطأ نحوي
نشرت جريدة (الراية) الموصلية الغراء قصيدة مزدوجة القوافي للسيد زكي الجادر في العدد (29) من سنتها الأولى منها هذان البيتان
إيه يا زهرة الحياة مضى الأ
…
مس فكنا من بعده عشاق
جئتك اليوم في فؤادي حنين
…
وبعيني لهفة واشتياق
فقافية البيت الأول منصوبة لأنها خبر كان، وقافية البيت الثاني مرفوعة معطوفة على لهفة وهي مرفوعة. وهذا مثل من التجديد في الشعر العراقي الذي تدعو إليه الجريدة التي تشرف على تحريرها السيد شاذل طاقة أستاذ الأدب العربي في مدارس الموصل. . .
عبد القادر رشيد الناصري
القصص
السكيرة
القصصي الفرنسي جي دي موباسان
وقفت العربة ذات الحصان الواحد أمام مزرعة الأم (ماكلوار) تحمل المعلم (شيكو) خمار (دي به فيل) وهو رجل في العقد الرابع خشن المعارف هائل الخلقة أحمر الوجه بطين سمين، على وجهه سيما الخبث المكر
هبط الرجل سلم العربة، ثم ربط حصانها بخشبة معترضة ومشى على ساحة الدار
كانت الأم (ماكلوار) تمتلك أرضاً تجاوز مزرعته، طالما تشوقت نفسه إلى ابتياعها منها، وضمها إلى أرضه لولا أن كان يصده عن هذه الرغبة تعصب من العجوز عنيد وتصلب شديد. وكانت تقول:
- إني ولدت في هذه الأرض، وستجنني تربتها. . .
ففي هذا الصباح ألفي العجوز، وهي دردبيس في الثانية والسبعين من عمرها، أمام منزلها معنية بتقشير (البطاطس) كانت منكمشة الجلد، جافة اللحم، منضوخة الوجه. وبرغم ذلك كانت دائبة على عملها وكأنها في ربيع العمر تقدم منها المعلم (شيكو) وربت على كتفها في دعابة ثم قال
- وصحتك أيتها الأم، هل هي جيدة وأبداً جيدة؟
- أحمد الله، وأنت أيها المعلم؟
- بخير، ولولا قليل من الألم لكنت هانئاً راضياً
- جد مليح. ثم لاذت بالصمت وأخذت تقشر البطاطس وتديرها في حذق ومهارة، بين أصابع يابسة عقداء معروقة، تشبه أرجل السراطين، وفي يدها اليمنى سكين عتيقة منثلمة لا تكاد تقطع الجبن
وحين فرغت من البطاطس، وأضحت لماعة صفراء، ألقت بها في قدر مملوءة ماء. فإذا دجيجات وأفراخ تسعى إليها ناقة مقوقئة، ثم تختلس ما تبقى في حجرها من قشور البطاطس، وتتراكض في خبث عنها وفي منقار كل منها ما غنمت من قشور
كان المعلم (شيكو) يرقب هذا المنظر في سأم وضيق وفي نفسه أمر، وعلى لسانه كلام
يجتهد في انتزاعه، وأخيرا وفق فقال
- ألا خبرتني أيتها الأم (ماكلوار)
- وما عساي مخبرتك به؟
- ألا زلت ترفضين بيعي مزرعتك؟
- هذا أمر قد فرغت منه أيها المعلم (شيكو) فلم إقلاقي به مطلع كل صباح ومهبط كل ليل؟
- ولكني يا سيدتي وجدت حلا للمسألة أن رضيت به خرج كلانا راضياً بصفقته غير أسف ولا مغبون
- وما هو هذا الحل؟
تبيعينني أرضك ثم تحتفظين بحق استثمارها ما بقيت على قيد الأحياء، أفلا يرضيك هذا أيضا؟
فشغلت العجوز عن تقشير البطاطس، وراحت ترمي الرجل بنظر حاد عنيف تحت جفنين أجعدين. ثم قال الرجل مفسراً:
- إنك أن ترضي بهذه الصفقة تتسلمي في منتهى كل شهر مائة وخمسين فرنكا أحملها إليك في عربتي. أتتدبرين قولي؟ أتفقهين حديثي؟ مائة وخمسون فرنكا ثم لا تتبدل لك حال، ولا تتغير حياة؛ فستظلين في حقلك آمنة السرب رافهة العيش لا يدينك أحد، ولا تعملين أمراً، ولا تنصبين نفسك لعمل. إلا أن يكون استلام مائة وخمسون فرنكا، مطلع كل شهر، عملا شاقا يكد وينضب. قال هذا وطفق ينظر إليها فرحاً مستبشراً وعلى وجهه الطيبة والصلاح والمسكنة. . والعجوز تلحظه حذرة متيقظة. وقد كبر في وهمها أنه خادع لها وناصب لاصطياد مزرعتها أحبولة من ألفاظ منمقة مزورة. على أنها سألته في خبث:
إنك لتؤكد لي أن المزرعة ستظل في حوزتي فهل بلغ من أريحيتك أن تتبرع لامرأة عجوز بهذا الراتب الضخم دون فائدة تعود عليك؟ قال المعلم شيكو وقد أدرك ما تنطوي عليه غمزة العجوز.
لا أثقل عليك يا سيدتي في شأن الأرض، فلسوف تغلين خيراتها وتنتفعين بثمراتها ما مد الله في حياتك العزيزة. غير أني أرجوك أن تكتبي لي صكا شرعيا، يخولني حق امتلاكها
بعد عمرك الطويل أن شاء الله. ولبثت المرأة وهي تصغي لقول المعلم مأخوذة دهشة حائرة لا تملك لرأيها إبراما ولا نقضا، ولا لموقفها من الرجل إجابة ولا رفضاً، وأخيرا قالت:
إنه لا يسعني رفض اقتراحك، فلو أنظرتني أسبوعا آخر أتبصر أمري وأروي رأيي. فأطاع المعلم (شيكو) ثم غادر الأم فرحاً فخوراً، كأنه الملك الجبار، استولى على بلد عدوه بالحديد والنار. . أما الأم (ماكلوار) فقد مضت أيامها ساهمة حالمة، لا يستقر جنبها على مضجع، ولا يزور جفنها سنة من نوم. ثم استشرت بها حميا التردد وعصفت نار الحيرة فكادت توطن نفسها على الرفض التام، لولا أن ذكرى المائة والخمسون فرنكا الطنانة البراقة، التي توشك أن تتدحرج في حجرها مطلع كل شهر، كانت تلهب رغبتها الخامدة وتذكي أطماعها الهامدة.
وأرادت أن تضع لترددها حدا، فمضت إلى الموثق الشرعي تنفض له جملة حالها وتستنصحه في أمرها. فأشار إليها بالاطمئنان ونصح لها بالرضا بحل المعلم (شيكو)، ولكنه اشترط عليها لذلك، أن يضاعف لها الراتب فيجعله ثلاثمائة بدلا من مائة وخمسين فرنكا لأن مزرعتها تساوي في أقل ثمن 160 ألف فرنك، ثم قال لها في أضعاف حديثه:
- لئن عمرت خمسة عشر عاما، فلن ترزئي صاحبك أكثر من أربعين ألف فرنك - فاستقلت جسم العجوز هزة من الطمع حين ذكرت الثلاثمائة فرنك التي سوف تحضى بها رأس كل شهر ولكنها على ذلك ظلت حذرة مبلبلة الخاطر، تنوشها الهواجس، وتتوزعها الوساوس فهي تتوقع حيناً مفاجأة مفجعة وآنا مكيدة مستورة، لا تبصرها ولكنها تحسها، ولبثت حتى المساء تناقش المسألة بكل حل، وتواجه المقترح من كل جهة. ثم. ثم لم تستقر على عزم ولم تتوجه جهة من الرأي
وجاءها المعلم شيكو يستطلع رأيها ويستعلم غرضها الأخير فأنهت إليه قرارها النهائي، بلزوم رفع مرتبها الشهري، وحين رأت هزة الإخفاق تركب أوصاله، ونار الغيظ تحتدم في عينيه، وبوادر الرفض تتوافد على لسانه، أظهرته على قائمة السنين التي يمكن أن تعيشها بعد هذه الصفقة فقالت:
- إني من الوهن ورقة العظم واشتعال الشيب بحيث لا أستطيع الانتقال إلى سريري إلا مستندة إلى الأذرع، أو محمولة على الظهور
ومهما يمتد بي خيط الهرم، فإنه كخيط العنكبوت وشيك الانبتات سريع الانقطاع. وهل بعد الثلاثة والسبعين عاماً التي توقر كاهلي حياة ترجى أو عيش ينتظر؟ وقاطعها المعلم مغيظا فقال.
- إنها لمحاولة فاشلة منك يا سيدتي أن تصطنعي العجز وتتظاهري بانقطاع المنة. ثقي أن منجل الموت لا يعرف سبيله إلى شجرتك قبل أربعين سنة في أقل تقدير، وإني أراهن على أنك أنت التي ستتولين دفني، فما هذا الخوف والفزع من الموت؟
وتصرم عمر النهار في الجدل والنقاش والأخذ والرد، وجهد المعلم (شيكو) الجهد كله ليقنع العجوز بالنزول عن طلبها الجائر المرهق فما عاد بطائل. وحين لم يجد مندوحة من إجابتها رضي مكرهاً بدفع الثلاثمائة فرنك. . . وغيرت سنين ثلاث وصاحبتنا العجوز كالسروة العتيقة لا يزيدها المزق إلا صلابة وجلداً على الأيام، حتى يئس المعلم من موتها وخيل إليه أنه مرغم على دفع مرتبها الضخم نصف قرن أو يزيد، وان صفقته كانت هي الخاسرة المغبونة، وأنه لا بد موف على الخراب صائر إلى الإفلاس أن ظلت معاهدة الصداقة والود بين العجوز وعزرائيل متينة العرى.
كان يتردد على المرأة الفينة بعد الفينة بحجة السؤال عن نضوج الحنطة، أو الاستفسار عن موعد الحصاد؛ فكانت تستقبله في خبث، وفي قلبها الشماتة والتشفي، وفي معارف وجهها صورة الافتخار والزهو للدور المضحك المسلي الذي لعبته على مسرح بلاهته وغفلته. فكان يرتد سريعاً إلى عربته ويجمجم:
- وإذن فليس في نية هذه البهيمة أن تموت؟ فلم يكن يعرف لمشكله حلا ولا لعقدة أزمته فكاكا. فكانت تمر به ساعات يود فيها لو أهوى على عنق العجوز فخنقه، وروحها فأزهقه، مما في نفسه من الغيظ والحنق والموجدة، وظل زمناً يلتمس وجهة الحيلة للخلاص من طلعة العجوز المشؤومة. وأخيرا ظفر بما يرجو؛ فغدا عليها يوماً يطفر من البشر والسعادة، ويصفق بيديه من الفرح والمرح، وبعد أن ناقلها برهة حديث المجاملة والود قال:
- ألا قولي لي أيتها الأم ماكلوار فيم امتناعك عن زيارة منزلي حين مرورك على حانة (إيدي فيل)؟ أن الحديث فيه ليلذ ويمتع، وأنا هناك يا للأسف مقطوع الصلة من الصديق، منبت الوشيجة من القريب، لا يؤنس وحشتي زائر، ولا يمر علي عابر. فزوريني أن
تكرمت وكلي ما طاب لك فلست مرزئك مالا ولا مكلفك دفع طعام أو شراب. زوريني ففي زيارتك تشيع البهجة في قلبي وينتشر السرور في داري
وفي الغد لم تكلفه الأم إعادة الاستزارة، فراحت إليه في عربتها، والشمس لم تغادر خدها الوردي، وحين بلغت الحانة ربطت حصان العربة في الاصطبل، ثم دخلت عليه طالبة الغداء الموعود.
لم يكد يصدق عينيه المعلم شيكو، وراح ينشط في خدمتها ويجتهد في مرضاتها، كأن أمامه سيدة نبيلة لا قروية بخيلة، ثم أخذ يفتن في تقديم فاخر الأطعمة والآكال وغريض اللحم من الطير المبهر، والدجاج المحمر، ولحم الخنزير المشوي، وأصناف من الخضار والفواكه والتوابل، ولكنها لم تصب من هذه الآكال الدسمة إلا ما يوافق معدتها العجوز التي اعتادت الاكتفاء بحساء اللحم الرقيق، أو قطع الخبز المغموسة بالزبد، وألح الرجل وعزم عليها. ولكنها لم تأكل مضغة ولم تشرب جرعة حتى القهوة امتنعت من تناولها. وأخيراً قال لها وهو يناولها قدحاً من (الكونياك):
- أو ترفضين أيضاً هذا القدح؟
- أما هذا فأقبله دون أن أقول لا. فرجت أركان الحانة بصوت المعلم يقول:
- (روزالي) أيتها العزيزة. احملي لنا كل فاخر معتق من الكونياك. وظهرت الخادمة تضم إلى صدرها زجاجة طويلة ممشوقة ازدانت فوهتها بطابع الكونياك الفاخر. فتناولها المعلم شيكو وأفرغ منها قدحين، ثم عاطى العجوز أحدهما قائلا:
- إنه لكنياك لذيذ شهير، أفلا تتذوقينه يا سيدتي؟
فتناولته الأم (ماكلوار) شاكرة وطفقت تتحساه جرعات صغيرات، وما أن فرغت من القدح الأول حتى أفرغ لها المعلم قدحاً ثانيا، فأعرضت عنه أولا ثم أكرها المضيف بالقول اللطيف والتجمل الظريف والنكتة المستملحة. وكان عازما على إردافه بثالث ورابع لولا أن عالنته برفضها وامتناعها
- ولكن هذا يا سيدتي ليس خمراً؛ أن هذا إلا حليب مصفى، أبتلع عشرة أقداح منه دون أن يتعتعني السكر أو تذهب بوقاري النشوة، لا يكاد يستقر في الجوف كالسكر المذاب حتى يتبخر في الجسم دون أني يجد طريقة إلى الرأس. وليس كمثله شيء لصحة الجسم
وابتعاث النشاط. فدعا ذلك العجوز إلى أن اجترعت نصف الكأس الثالثة، ولم تجرؤ على استنفادها لأنها شعرت بفعل المسكر بأطرافها، وتلعاب الخمر بأعطافها. فأهرعت إلى عربتها ومضت. . وغدا عليها صاحبنا في عربته ذات الحصان الواحد وحين استقر بهما المجلس أخرج من جوف العربة برميلا صغيرا، فيه خمر الأمس، ثم جلسا يعيدان سيرة البارحة، ولما استقر في جوف كل منهما ثلاثة أقداح، غادرها المعلم قائلا:
- ما أراني بحاجة لأقول لك أن الخمر التي أبقيتها لك تكفيك مدة، فإذا فرغت منها فعندي لك اللذيذ المعتق لا أبخل عليك به، وكلما ألححت في الطلب ألح على السرور وطبت نفساً. .
وآب إليها بعد أيام أربعة، فألقاها على الباب معنية بتقطيع الخبز الذي تعده للحساء، فاقترب منها أنفاً لأنف وبدرها بتحية الصباح، فنفحته منها رائحة (الكحول) وملأت خياشيمه، هنالك أضاء وجهه بنور البشر والفوز ثم قال:
- ألا تقدمين إلي قدحا من الكونياك. .؟ وجلس الاثنان يعاقران الخمر ويشرب كل منهما نخب صاحبه. . ولم يطل الأمر بالأم (ماكلوار) حتى شاع عنها أنها تعاقر الخمرة متخيلة لنفسها وفي الحق كان الجيران يلقونها إما مستلقية أمام مطبخها أو ساحة دارها لا تعي، أو منطرحة في الطرق والشوارع لا تحس، فيحملونها إلى بيتها جثة لا حراك فيها ولا وعي. .
ولم يعد المعلم شيكو يتردد على بيتها، فكان يقول للجيرة راثيا:
- إنه لما يبعث الأسى أن تدمن هذه العجوز الشراب وهي في أرذل العمر، مع أن الخمر تعجل خطواتها إلى القبر
وفي الحق لقد وجدها أهل القرية ميتة على بساط الثلج صباح عيد الميلاد عقب سكرة إنكليزية أبلت فيها البلاء الحسن وورث المعلم (شيكو) أرضها كما خوله الصك، فكان يقول:
- لو لم تتلف العجوز البلهاء صحتها بسموم الخمر، لعاشت عشر سنين أخر!
ك. ح