الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 992
- بتاريخ: 07 - 07 - 1952
الإمبراطورية ذات سبعة الأرواح
للدكتور عمر حليق
حرب مستمرة في الهند الصينية الفرنسية، وثورات عنيفة في تونس، وغضبة تحمل في ثنياها الدم والنار في مراكش والجزائر، وتيارات قومية تجتاح مدغشقر وممتلكات فرنسا الأفريقية، وأعباء عسكرية ترهق كاهل الميزانية الفرنسية الآن، وقد جاء البعث الألماني بظله المخيف على حدود فرنسا، وضائقات اقتصادية زعزعت كيان (الفرنك) وأخلت بميزان فرنسا التجاري والنقدي، فزادت من حدة التوتر الداخلي بين هذه الأحزاب السياسية الكثيرة التي تؤلف البرلمان الفرنسي وتجعل الوزارة الفرنسية أضحوكة الأندية والمحافل السياسية. ويعجبني هذا العنوان الفكه الذي صدرت به إحدى الجرائد الدنمركية أنباء القلاقل في تونس في الآنه التي سقطة بها الوزارة الفرنسية سقطات متتابعة خلال بضعة أسابيع، فقد كان العنوان على النحو التالي:
تونس تشتكي من أن الحالة الداخلية في فرنسا متوترة
هذه المشكلات والأزمات والضائقات التي تواجه فرنسا اليوم، تدفع المرء إلى أن يتساءل: هل الإمبراطورية الفرنسية في طريق الزوال؟
لقد استمع الناس إلى المسيو شومان وزير خارجية فرنسا، يستجمع كل ما لديه من ظرف ولباقة فرنسية ويناشد الجمعية العامة لهيئة الأمم في جلسة باريس، بأن تتريث قليلاً قبل أن تدين فرنسا بالعبث بحقوق المراكشيين. ففي جعبة فرنسا خطوط جديدة لسياسة مثالية، لا لمراكش فحسب، بل لجميع هذه الشعوب التي تعيش في ظل العلم الفرنسي.
ثم أستمع الناس مؤخراً إلى مندوب فرنسا في مجلس الأمن يعد العرب والآسيويين الذين تبنوا قضية تونس في مجلس الأمن، بأن في حافظة وزارة الخارجية الفرنسية مشروعات مثالية لحل المشكلة التونسية. وكل ما تطلبه فرنسا فترة معقولة من الزمن، تعد فيه الأمر وتنشر على الناس ما أعدته من أسس جديدة لعلاقة فرنسا بالشعوب الآسيوية والأفريقية الخاضعة لها
وقد كان كاتب هذه السطور في إحدى جلسات مجلس الأمن الأخيرة الخاصة بتونس، يتحدث إلى صديق من أحد وفود أمريكا اللاتينية (وهي منطقة تربطها بفرنسا روابط
روحية وثقافية متينة) وذلك خلال الدفاع البليغ الذي كان مندوب الباكستان في مجلس الآمن السيد أحمد بخاري يفند فيه مزاعم فرنسا وتأويلاتها عن القضية التونسية، قال الدبلوماسي اللاتيني وقد تأثر من بلاغة البخاري:(أنتم أيها العرب والآسيويون على حق في مؤازرة تونس، ولكن لما لا تعطون فرنسا الفرصةالكافية لإصلاح ما أفسده استعمارها القديم على ضوء ما وضعته اليوم من سياسة تقدمية تثبت علاقات فرنسا مع مستعمراتها على أساس جديد نبراسه التعاون الصادق والشركة الأمينة في إطار (الاتحاد الفرنسي) على نحو ما انتهجته بريطانيا في (الكومنويلث) وحلت به أزماتها مع الهند والباكستان والمناطق الأخرى التي كانت ملكاً للتاج البريطاني؟ ويبدو أن (لاتينية) صديقي الدبلوماسي كانت أشد من نظرته السياسية، فقد ساررني محذرا: لا تخطئوا في قوة الإمبراطورية الفرنسية برغم ما أثخنت به من جراح. فهذه الإمبراطورية الفرنسية كالقطط لها سبعة أرواح.
والواقع أن قسماً من الرأي في أوربا وأمريكا يشاطر هذا الدبلوماسي رأيه في هذه الأرواح المتعددة التي تكمن في الإمبراطورية الفرنسية! وليس من الصعب أن ندرك سر هذه النظرة إلى حاضر فرنسا. فصناع السياسة الفرنسيين يجندون كل ما توفره لهم ثقافتهم من ظرف ولباقة ومرونة لغوية ومنطقية، لإقناع الناس بأن في جعبة وزارة الخارجية الفرنسية حلا جديداً لهذه الأزمات والضائقات التي تعانيها فرنسا في آسيا وأفريقيا، في ما تنشره في الملأ العالمي من تفاصيل (الاتحاد الفرنسي) الذي تطمح فرنسا بواسطته أن توازي في الحقوق والواجبات بين سكان فرنسا وسكان المستعمرات والمحميات الخاضعة للفرنسيين.
ترى ما مبلغ الصدق في هذا الادعاء وما حظ هذا (الحل) الفرنسي من النجاح؟ وهل حقاً أن الإمبراطورية الفرنسية ذات السبعة أرواح، أم أنها تمر الآن في مثل ما مرت به الإمبراطوريات في التاريخ القديم والحديث من رقي وانحطاط
وحقيقة الأمر أن نعرف اليوم أنها أكبر إمبراطورية معاصرة بعد أن تضاءلت ممتلكات بريطانيا في عالم ما بعد الحرب. فلفرنسا اليوم سيطرة مباشرة على حوالي 77 مليونا من البشر يعيشون في فسحة من الأرض مساحتها تزيد على 4 ملايين ميل مربع ونصف ميل، موزعة على القارات الخمس، بحيث لا تغيب الشمس عنها. وهذه المساحات الشاسعة مرتبطة بفرنسا بخطوط أصبحت من الوهن بحيث لا يدعمها اليوم إلا الحديد النار، سواء
في الهند الصينية الفرنسية أم في شمال أفريقيا العربية. وفرنسا اليوم برغم لباقتها في إقناع الناس بأن التحاد الفرنسي في صيغته النهائية سيحل محل الحديدوالنار، كدعامة للروابط الودية بين فرنسا ومستعمراتها ومحمياتها، إلا أن خبراء الشؤون الفرنسية لا يؤمنون بذلك، ويصرون على أن جوهر سياسة فرنسا الاستعمارية اليوم، يهدف إلى التخلص والتملص من المستعمرات في آسيا والمحيط الباسفيكي، وتركيز الجهد في شمالي أفريقيا العربية، وجعلها (امتداد) جغرافياً للوطن الفرنسي، وتحويل هذه المنطقة العربية إلى حصن منيع للثقافة والحضارة الغربية، تحي فرنسا فيه موات ثقافتها اللاتينية في أمن ورخاء لا توفرها لها اليوم الأرض الفرنسية وما يحيط بها من أخطار الهجوم الألماني والسيطرة الشيوعية) على حد قول كاتب أمريكي خبير بالشؤون الفرنسية في العدد الأخير من مجلة (عالم الأمم المتحدة).
ولعل هذا ما يفسر لنا سر هذا التعنت الشديد، والتحرش الصاخب الذي تعالج به فرنسا مشكلة تونس والجزائر ومراكش، والقسوة الدبلوماسية العنيفة التي لجأت إليها فرنسا في مواجهة الدول العربية والآسيوية التي تبنت قضية شمالي أفريقيا أمام الأمم المتحدة.
إذن فخرافة (الحل) الفرنسي وفكرة (الاتحاد الفرنسي) وأسطورة الإمبراطورية ذات السبعة أرواح، ليس إلا رماداً تذره فرنسا في عيون الناس، لتعميهم عن حقيقة الهدف الذي تطمح فرنسا في أن تعالج به مآزقها الإمبراطورية، وهو هدف واقعي يعترف بأن الإمبراطورية الفرنسية لن تستطيع العيش حتى بسبعة أرواح، وأنها اختارت أن تقصر قبضتها الشديدة القاسية على أقرب المناطق لها، وهي شمالي أفريقيا العربية.
وإذن فالإمبراطورية الفرنسية في تفكك وانحلال. وعلماء النفس يقولون لك أن المرء حين يعتريه نوع من التفكك والانحلال يميل إلى العنف والقسوة في أغلب الحالات. ولعل هذا يفسر هذه القسوة العنيفة الشريرة التي تمارسها فرنسا ضد إخواننا المغاربة، قسوة لا حدود لها، فقد أهلكت الحراب الفرنسية في الجزائر منذ سنوات قليلة 40 ألف شخص من الرجال والنساء والأطفال، في حملة (تأديب) واحدة. وحوادث تونس اليوم مثل واضح على هذه القسوة الفرنسية. ألوف من الفرنسيين، قادة ورعاعا قابعون في غياهب السجن وقيود الاعتقال، وحراب سنغالية سوداء تفتك بالنساء والأطفال والرجال، وكأنما تشهد بذلك
حوادث (كاب بون) الأخيرة، واضطهاد مرير يعانيه المراكشيون، اضطهاد ومذلة تشهد بها مواخير منطقة (القصبة) في الدار البيضاء، حيث يعمرها بنات السادة والأشراف اللاتي شردهن الفرنسيون من جبال الأطلس والمدن المراكشية بعد ثورة الريف والثورات العديدة التي أتت في أعقابها ولا تزال.
ويحب كاتب هذه السطور أن يروي على سبيل المثال حادثة واحدة تشهد على (فضائل) الحضارة الغربية التي تنوي فرنسا أن تجعل أفريقيا العربية حصناً منيعاً لها. فقد زرت مدريد منذ بضعة أشهر، وأثار تطفلي أحد خدم فندق (ريتز) الذي كنت أقيم فيه؛ فقد كان شيخاً وقوراً محني الظهر، في عينيه مذلة وانكسار تبعث في النفس الحنان له والرغبة في مؤاساته. ولم يكن يعرف أنني عربي، ولم أكن أعلم أنه من سادة قبيلة جليلة القدر في جبال الأطلس المراكشية. ولما تم تعارفنا وأنفقنا الساعات يسرد على فيها مأساته السياسية، وقسوة المنفى والتشرد على كرامته وشيخوخته، لمحت أنه يخفي سراً لم أستطع استدراجه إلى الحديث عنه في جلستنا الأولى، فقد كانت كرامة الرجل وطيب محتده أعظم وأرفع من أن يعترف بسره الدامي إلى صديق عابر.
سر وأي سر! سيد في قومه يوثق بالقيود، ويشاهد الضباط الفرنسيين يفتكون بعرض بنته الصغرى، ويتناولونها الواحد بعد الأخر، ثم يرمونها كما لو كانت قطعة من العظم إلى الجنود السنغاليين، الذين كانوا يفتكون بامرأته في حظيرة الدار. وقد وجد الرجل في (مدريد) مصدراً للعيش، ولكنه عيش ذليل، يزداد مذلة كلما تذكر الرجل أن ابنته الآن عاهر في ماخور ملحق بمعسكر فرنسي في الساحل المراكشي. ولولا أن الانتحار محرم على المسلمين لما فضل هذا السيد الوقور الحياة يوماً واحداً.
ومع ذلك فدعوة فرنسا إلى جعل أفريقيا الشمالية حصناً منيعاً للحضارة الغربية تجد - مع الأسف المرير - في أوربا وأمريكا بعض الآذان الصاغية.
ٍوعلى قدر هذه الشناعة الفرنسية يتأجج حماس المغاربة العرب في تحقيق السيادة القومية والتخلص من الاستعمار الفرنسي. ولذلك فإن كل ما يعترض هذه الحركات الوطنية في تونس ومراكش والجزائر من عقبات ومصاعب، لن تقوى على جعلهم حصناً للحضارة الغربية، فالمسألة ليست مقصورة على كف أعزل يلاطم حربة حادة الرأس، فجوهر
الصراع في المغرب العربي يستند إلى أعمق ما في المبادئ من معتقدات خلقية ودينية بالإضافة إلى المبادئ السياسية والاقتصادية. ويبدو أن الإمبراطورية الفرنسية قد أخطأت اختيار المكان والزمان لتحويل هذه المنطقة العربية الإسلامية إلى حصن منيع للحضارة الغربية. . فليست هذه هي المرة الأولى التي تواجه فيها العروبة والإسلام هذا النوع من الصراع الخلقي والديني.
وما دامت العروبة والإسلام راسخين في بلاد المغرب، ومادام الزمن يخدم الآن الشعوب العربية والإسلامية في المعترك الدولي، ومادامت دعائم (الحضارة الغربية) قد طوحت أو كادت تطوح بالوطن الفرنسي نفسه. . فإن زوال الإمبراطورية الفرنسية أمر لا مفر منه حتى لو كان لهذه الإمبراطورية سبعة أرواح. فروح واحدة شريفة المبدأ. . صقلتها الآلام والتجارب. . كفيلة بأن تعمر وتشهد هلاك هذه الأرواح السبعة.
بقي أن يشارك العرب والمسلمون إخوانهم المغاربة في هذا النوع من الصراع (الإمبراطوري) اللعين مشاركة جدية.
نيويورك
عمر حليق
3 - إندونيسيا
للأستاذ أبو الفتوح عطية
جنة المأوى:
الله في حسناء ذات عذار
…
(جاوا) وربك جنة الأبرار
هذى الطبيعة قد بدت في قاعها
…
للقلب فاتنة وللأنظار
جمعت فأوعت من بدائع آيها
…
سورا مفصلة وغير قصار
الله أكبر كم وراء جمالها
…
أفق من السحر الحلال الساري
الله أكبر أنها من جنة ال - خلد التي وعد العباد الباري
هذه أبيات من قصيدة يتغنى فيها أحد الشعراء بجمال جاوة وسحرها، وفيما يلي وصف لأشهر الجزائر الإندونيسية.
جاوة أكثر الجزائر الإندونيسية عمراناً وسكاناً وان لم تكن أكبر مساحة. على أنه ليس معنى ذلك أنها جزيرة صغيرة جدا إذ تبلغ مساحتها 132 ، 000 كيلو متراً مربعاً، ويبلغ عدد سكانها 50 ، 000 ، 000خمسين مليوناً من الأنفس وهو عدد ليس بالقليل.
فسكان مصر عشرون مليوناً، وسكان بريطانيا بأسرها أقل من عدد سكان جاوة وحدها.
ويلاحظ أن هذا العدد من السكان جعل جاوة من أكثر جهات العالم ازدحاماً بالسكان، فإن نسبتهم تقدر بنحو ألف شخص في الميل المربع. وأنا أريد أن أصل إلى شيء آخر، ذلك الشيء هو أن جاوة جزيرة غنية وفيرة الموارد كثيرة الخيرات. . وإلا ما استطاع هذا العدد الضخم من السكان أن يعيشوا فيها، ذلك لأن الإنسان لا يعيش إلا حيث تتوافر له سبل الحياة من مسكن وغذاء. . وهي جميعاً موفرة في جاوة.
وجاوة جزيرة مستطيلة تقع عند خط الاستواء، وتتوسطها سلاسل من الجبال، وتمتد على سواحلها الشمالية والجنوبية سهول خصبة يجري بها عدد كبير من الأنهار، يتجه بعضها إلى الجنوب حيث يصب في المحيط الهندي، ويتجه بعضها إلى شمالاً حيث يصب في بحر جاوة.
والجبال في جاوة جبال بركانية مما جعل تربتها غنية خصبة، وقد ساعدت خصوبة التربة وغزارة الأمطار على وفرة الإنبات مما جعل جاوة من أغنى مناطق الإنتاج الزراعي في
العالم.
ومناخ جاوة والجزائر الإندونيسية لطيف معتدل برغم وقوعها عند خط الاستواء، ويرجع السبب في ذلك إلى ارتفاع سطح الجزائر والى إحاطة البحر بها. . فقد خفف هذان العاملان من حدة الحرارة وجعلا المناخ لطيفاً معتدلاً.
وجاكرتا عاصمة الجمهورية الإندونيسية وعاصمة جاوة، ويمكن أن تسمى قاهرة الشرق الأقصى،
فهي تشبه القاهرة إلى حد بعيد؛ فكلتاهما تأخذ بأسباب المدينة الحديثة: عمارات شاهقة، وسيارات فاخرة، وشوارع مزدحمة، ومحال تجارية كبيرة، ورجال ونساء يأخذون بأسباب المدينة الحديثة في حياتهم وأزيائهم.
وقد نمت جاكرتا كثيرا بعد الاستقلال وتزايد عدد سكانها واتسعت رقعتها، وتعتبر مركزاً هاماً للطيران، وهي سهلة الاتصال بباقي أنحاء جاوة وبباقي جزائر الإندونيسية والعالم، سواء بطريق البحر أم بطريق الجو.
وفي جاكرتا فنادق ودور سينما ومطاعم من الدرجة الأولى، وفيها حديقة للحيوان وأحواض لأنواع السمك المختلفة وأماكن للألعاب الرياضية على اختلاف أنواعها.
وفي جاكرتا مدارس ابتدائية وثانوية وعالية وعدة كليات للجامعة الإندونيسية، منها كلية الطب والحقوق، وفيها متحف ومرصد يعتبر من أقدم المؤسسات العلمية في جنوب شرق آسيا إذ يرجع تأريخ تأسيسه إلى 1858.
ومحطة الإذاعة بجاكرتا تمتلك أقوى أجهزة للإرسال والاستقبال في جنوب شرق آسيا، وتذيع يومياً بسبع لغات ويبلغ عدد سكان جاكرتا مليونين من الأنفس.
سومطرا:
إحدى الجزر الكبرى. . ويفصلها عن شبه جزيرة الملايو مضيق ملقا. وتبلغ مساحتها 473659 كيلو متراً مربعاً وسطحها جبلي، وفيها بحيرات وأنهار كبيرة تصلح للملاحة، وبها مزارع كبيرة للمطاط والتبغ والشاي، وبها معمل لتجفيف الشاي بعد أكبر معامل الشاي في العالم على
الإطلاق.
ويبلغ عدد سكانها عشرة ملايين نسمة، وعاصمتها ميدان دين وقد كانت هذه الجزيرة أول مهد الإسلام في إندونيسيا.
بورنيو:
أكبر الجزائر الإندونيسية بعد غينيا الجديدة، إذ تبلغ مساحتها 539460 كيلو متراً مربعاً، ويتبع ثلثها الشمالي لبريطانيا، أما الثلثان الباقيان فقد كانا تابعين لهولندا، وبعد الاستقلال أصبحا جزءاً من الجمهورية الإندونيسية. ويبلغ عدد سكانها حوالي مليونين ونصف تقريباً ويشتغلون بالتجارة والزراعة والصناعة وصيد السمك، وعاصمتها بانجارماسين.
جزيرة بالي:
وتقع شرق جاوة ويفصلها عنها بوغاز بالي، وهي جزيرة صغيرة، إذ تبلغ مساحتها 5400 كيلو متر مربعاً، ويبلغ عدد سكانها 1 ، 362 ، 250 نسمة ومعظمهم وثنيون.
وهذه الجزيرة مشهورة بطبيعتها الجميلة وفنونها وآثارها التي تجذب السياح إليها من جميع بقاع الأرض، وممن زارها شارلي شابلن وبرنارد شو وويلز.
ويعنى أهلها بالرقص بنوع خاص، إذ يعتبر الرقص في نظر سكانها جزءاً ضرورياً لحياتهم ولا عجب في ذلك، إذ أنهم يعتبرونه طقساً من الطقوس الدينية. والقرية التي لا تمتلك جوقة موسيقية أو فرقة راقصة تفقد احترامها وقيمتها في عين السكان فيبادرون إلى تلافي هذا النقص ورفع هذا العار.
هذا وصف مختصر للجزر الإندونيسية الهامة
إندونيسية رابا:
قامت في السنوات الأخيرة محاولات لإقامة إندونيسيا العظمى، وهي تهدف إلى جمع جميع الجزائر الإندونيسية تحت راية واحدة، أو بعبارة أخرى أن تكون الملايو والفليبين والجزر الإندونيسية الحالية دولة واحدة، وبهذا التوحيد تبلغ مساحة إندونيسيا رايا 910. 562 ميلا مربعا، وعدد سكانها
93.
780. 833 نسمة، 90 % منهم مسلمون. حقق الله الآمال.
الحيلة الاجتماعية:
تمتاز الحياة الاجتماعية في إندونيسيا بأنها حياة شرقية إسلامية، فالعلاقة بين أفراد الأسرة متينة، والتعاون بين السكان سواء في القرية أو المدينة قائم. هذا وحياة إندونيسيا الاجتماعية مصبوغة بالصبغة الإسلامية إلى حد بعيد، فالأخلاق الإسلامية تتغلغل في نفوس الإندونيسيين تغلغلاً عميقاً، فتراهم يكرهون الرياء والتظاهر، ويتمسكون بلدين تماماً.
وفي أوائل القرن العشرين كانت الحياة العامة في إندونيسيا من فكرية واجتماعية وسياسية في حالة خمول وركود، وما لبث الإندونيسيون إلى حقيقة مركزهم، فتكونت الجمعيات التي تهدف إلى الإصلاح، وكان في مقدمتها الجمعية المحمدية وقسمها الخاص بالنساء المسمى بالعائشية، وكان شعارها (قليل الكلام كثير العمل) وكانت ترفض الاعتراف بفرع لها إلا إذا قام بعمل اجتماعي ملموس مثل إنشاء جامع أو مسجد إلى الخ.
وبفضل نشاط المصلحين والجمعيات تنبه الوعي القومي في إندونيسيا حتى حقق الله لها الاستقلال.
والمرأة الإندونيسية لم تعرف الحجاب ولكنها كذلك لم تعرف الابتذال ولا الاختلاط المزري، فلم تدخل حماماً مختلطا ولا مرقصاً، ولم يستطيع المستعمرون أن يفتحوا ماخورا واحد في البلاد!!
من اجل هذا أقبل الإندونيسيون على أفلام مصر السينمائية أول الأمر لأنهم يحبون مصر، ولكن لما وجدوا في الأفلام المصرية من ابتذال انصرفوا عنها وقاطعوها. وهكذا أضر مخرجو السينما بسمعة مصر وبمركزها!!
وقد قامت المرأة الإندونيسية بنصيبها في ميدان النشاط الاجتماعي، وكانت ما تزال مثلا كريما للمرأة الكريمة. ومن أعظم نساء إندونيسيا المرحومة رادين كارتيني، فقد تزعمت حركة الإصلاح الاجتماعي ورسمت في رسائلها (من الظلمات إلى النور) الخطة المثلى التي تسير عليها المرأة الإندونيسية في جهادها الإصلاحي. وبفضل تعاون الإندونيسيين رجالا ونساء تحقق
استقلالهم
للكلام صلة
أبو الفتوح عطيفة
حول قبر الاسكندر
للأستاذ عبد المنعم مختار
(يقول المعاصرون بأن قبر الاسكندر نفس مسجد النبي دانيال نفسه أن لم يكن تحته والذي كان يدعى منذ القرن السابع عشر باسم مسجد سيدي الاسكندر)
رأي القدماء
أن المصادر القديمة تحدثنا بأن الاسكندر أوصى قبل وفاته بأن يدفن بواحة الإله آمون (سيوة) ولكن بطليموس سوتير عمل على دفنه بمدينة ممفيس حسب عادة المقدونيين في الدفن. وجاء بطليموس الثاني الفيلادلفي بعد والده ونقل الجثة إلى الإسكندرية، وأخبرنا بوزنياس عن ثورة الرأي العام عليه واعتبر نقله إلى الإسكندرية إجراما وشناعة أكثر مما فعله بتزوجه بأخته أرسنيوي - لإقلاقه راحة البطل العظيم في مضجعه الأخير - وكذلك لم يلق من بلاطه وأعوانه أي استحسان لهذا النقل لجدث ملك عظيم اعتبر في مصاف الآلهة. وابتنى له قبراً في غاية الفخامة والإبداع، وكان الضريح داخل الأرض، أما البناء الذي أقيم فوقه فكان يشتمل على سلم الدخول كعادة المدافن والمعابد الإغريقية، ثم فناء مربع هو الناووس (اوبيستودوم) ثم ممر طويل يصل إلى الضريح الموجود به النعش وقد ألحق به معبداً للكهنة القائمين بأجراء الطقوس الدينية. ثم تطوق المعبد أروقة دائرية شيدت في عصور متأخرة ولما كان الاسكندر مؤسس الدولة الإغريقية فقد اتخذ الملوك مدافنهم حول قبره بعد حرق جثثهم كما حدثنا بوليب بالتفصيل، وقد شيد فيلادلفيوس مدفناً لوالده سوتير، ولنفسه ولزوجته. ويحدثنا كوريمون عضو متحف الإسكندرية في سنة 80 بعد الميلاد عن القبر بمخطوطه الذي نشره الدكتور بوتي. . . أما قبره هناك فكان مزيناً بالرخام وهو مضجع في ناووس محفور اسمه على غطائه، وحول نعشه قبور من الحجر السماقي أقل فخامة من قبره هي قبور الملوك السبعة وزعيمهم بطليموس سوتير. . .
ونخرج بنتيجة هامة حققها ودرسها كل من الدكتور بوتي والأب لويس ملحمة في أن القبركان في منطقة صارت مدفنا ملكياً بوسط المدينة.
الآراء الحديثة
وجاءت الآراء الحديثة بجديد عن قبر الاسكندر كذب البعض دفنه بالإسكندرية والبقية التي حبذتها انقسمت على أنفسها إلى ثلاث فرق: الأولى في أن القبر تحت مسجد النبي دانيال وهذا ما سأناقشه تفصيلا، والآخر في منطقة المقبرة الشرقية، ورأي أخر بعيد الاحتمال بالمقبرة الغربية.
وإني أتقدم برأيي المتواضع وقد يكون على خطأ وقد يكون صائباً. . وان كان فيه مسحة من الصواب فإنه ليقارب الآراء الأخرى البعيدة الاحتمال والتصديق.
قيل بأن قبر الاسكندر كان فيمنطقة طريق السيما المتقاطع مع شارع كانوب (النبي دانبال وفؤاد الأول) وهو يمتد من بحيرة مريوط جنوبنا إلى شاطئ البحر الأبيض شمالا بالقرب من شبه جزيرة معزل تيمونيوم والمكتبة ودار الحكم والسوق والجمنازيوم. . وقد ورد بأشعار هيرونداس وآراء الدكتور برتشيا بأن معبد الزاربوم ومسلات كليوباترة الشهيرة كانت بأول الطريق، وان بنهايته يوجد منتزه بيوم. وإذا فقبر الاسكندر أن وجد فمن البداهة أن يطل على الميدان والمنتزه لكي تظهر روعته، وان كان على الميدان فهل هو عن يمين أو يسار الشارع؟ يقول أسترابون لوصفه القبر بأنه كان عن يمينه عند دخول الإسكندرية. فهل دخل الإسكندرية عن طريق شارع السيما من جهة البحر؟ أم عن طريق الميناء الداخلي بمريوط؟ أنه قد دخل بطبيعة الحال عن طريق السيما ومنه فإن القبر عن يمينه أي يمين الشارع. والذي أراه عند تطبيق مبادئ هندسة تخطيط المدن القديمة والرجوع إلى تخطيطالمدن القديمة كمدينة صور مثلا نجد أن القبر يوجد على الجهة اليمنى لوجود كثير من المخلفات، منها مخلفات معبد على الطراز الدوري وأعمدة كورنثية بالجهة اليمنى من الشارع، ولما توسع الملوك بنوا مقابرهم حول هذا الضريح كما يجزم الأستاذ زكي علي ببحث له بمجلة كلية الآداب بجامعة فاروق الأول المجلد الثاني، والدليل على ذلك وجود أعمدة بجوار مسجد سيدي عبد الرزاق في نفس الشارع وهي لاشك معابد تكميلية لقبر الاسكندر أو المعبد ذو الأروقة الدائرية التي بجوار القبر. والذي يرجح هذا الرأي وجود بقايا مقابر ملكية اكتشفتها البعثة الفرنسية بالقرب من ذلك المكان (مسجد العطارين - وشارع محطة مصر القديمة) والعثور على ناووس ينسب إلى الاسكندر والذي أدى إلى رأي الأستاذ ألن ويسالمشهور عن تمصر الاسكندر ودفنه في تابوت نقل من قبر أمير
فرعوني من الأسرة الثلاثين.
القرن السادس عشر
ذكر الرحالة مارمول بأن قبر الملك اسكندر يقع علىبعد 300 متر من كنيسة القديس مرقص الموجود بشارع النبي دانيال، وعند التطبيق نجد أنه لا ينطبق قياسيا على مسجد النبي دانيال، ثم أن المقياس أن عين مكانا وكان صحيحا في تعينه مكان القبر فهو لم يذكر هل المكان يوجد عن يمين أو يسار المكان المتخذ مبدأ للقياس. واستناداً على رأي الدكتور بوتي في أن القبر يوجد بالجهة اليمنى وبوسط المدينة، ومن الحفريات التي أجراها الأستاذ حسن عبد الوهاب بمنطقة المسجد، وبالرجوع إلى أبحاث كل من الأستاذ أرثرلين أمين متحف فيكتوريا ولبرت الدكتور ألن ويس المنشورة بنفس المجلة يتضح بأن منطقة القبر والمسجد والقبر هي من بقايا العصور العربية القديمة. . وقد فصل الأستاذ حسن عبد الوهاب في المسألة بأن القبر ليس موجوداً بتاتاً في هذا المكان وخرج إلى التأكيد بأن منطقة كوم الديماس (كوم الدكة الحالية) كانت مقبرة إسلامية منذ القرن الثالث الميلادي.
هل كان قبر الاسكندر معروفا في العصور القديمة؟
إن يد التخريب قد أحدثت بهذا الهيكل كثيراً من الآثار، فقد سلب بطليموس الحادي عشر تابوت الاسكندر الذهبي وبدله بآخر من مادة زجاجية (وقيا من نوع من الرخام الشفاف جداً) كما زادت كليوباترة الأخيرة على فعل سلفها بأن سلبت المقبرة كل ما هو ثمين. ولم يقتصر الغزو الأجنبي على فتح وتدمير البلاد، بل عمل على سلب محتويات المقابر. وفي القرن الثالث انقادت الثورات بالحروب الدينية ضد الوثنية والحرب العامة لتفكك الإمبراطورية الرومانية فنالت الإسكندرية منه الأهوال ومنها المقابر الملكية التي أصبحت أثرا بعد حين (لما هو معروف عن تعصب المسيحيين الأوائل ضد كل ما هو وثني) حتى لنجد القديس يوحنا في خطبة ألقاها في ختام القرن الرابع يتساءل (خبروني أين يوجد قبر الاسكندر).
وهناك مصدر آخر هام وهو كتاب جغرافية مصر لأميلينو يقول. . . إنهم عندما كانوا ينزعون الأنقاض من المكان المسمى بكوم الديماش (كوم الدكة) عثروا على أدوات من
الذهب يرتقى عهدها إلى عهد الاسكندر وذلك عند بناء كنيسة هناك باسم النبي إيليا ويوحنا في زمن توفيل بطريق الإسكندرية في القرن الرابع. . . ومن قوله يتضح بأن بقايا القبر كانت موجودة بكوم
الديماس، فهل نزعت تلك الأنقاض من تحت التل - الذي نشأ في عصور تلت بناء المقبرة فغطاها - لبناء تلك الكنيسة وهي التي تكبد مجهوداً جباراً في إزالة الأتربة للوصول إلى تلك الأنقاض في مستوى المدينة القديمة.
ومن هذا نخرج بنتيجة هامة وهي أن المؤرخ لم يكن له قصد معين في تعيين مكان رفع الأنقاض والتي ولا شك انتزعت من المكان القريب جداً، والذي يكاد يقارب بناء الكنيسة الموجودة على التل والتي بنيت عليه ثم قام على أسسها على مر الزمان مسجد يعرف باسم النبي والملك إسكندر، ولقربه من قبر الاسكندر سمي بهذا الاسم.
هل القبر تحت مسجد النبي دانيال؟
اتضح من البحث أنه لا اصل لتسمية المسجد باسم النبي دانيال لأن هذا النبي الكريم دفن ببلاد العيلام بمدينة السويس كما هو وارد في الكتب المقدسة وطبقاً لتحقيقات كثيرة نفي ذلك، منها رأى فضيلة الأستاذ بشير الشندي المسهب. وهذا المسجد لم يظهر للوجود إلا في خلال القرن السادس عشر تقريباً ولم يذكره أحد من المؤرخين والرحالة من العرب قبل ذلك التاريخ علماً وهم معرفون بذكر التفاصيل والإطناب وذكر الروايات المتعددة والمصادر المتضادة. فلم يتعرضوا لهذا المسجد ولو بإشارة بسيطة مما يدل على عدم وجوده في تلك الفترة من الزمن - فالحافظ السلفي وصف كوم الديماس بأنه مقبرة إسلامية، وجاء البلوى في القرن السادس الهجري فوصف المدينة وآثارها والفنار ولم يتعرض لذكر المسجد. ثم تلاه ابن جبير والبغدادي اللذان وصفا كل آثار الإسكندرية عدا المسجد وكان يستحق بعض عنايتهم أن وجد، ثم جاء بعدهم مؤرخو القرن الرابع عشر والخامس عشر الميلادي مثلا ياقوت والمقريزي والسخاوي وغيرهم وكانت أخبارهم سلبية عن المسجد. حتى أن الرحالة الأجانب في تلك الفترة الذين وصفوا دقائق المدينة وخباياها لم يتعرضوا بأي إشارة عن المسجد والقبر مثل سبرياك دي إنكوناه، وليون الأفريقي. ثم جاء الرحالة مارمول في منصف القرن السادس عشر فذكر أن قبر النبي إسكندر كان في وسط المدينة
بين الخرائب قريباً من الكنيسة المرقصية المجاورة لمسجد النبي دانيال والمسافة بينهما 300 متر أي أن القبر هناك قبر الملك والنبي إسكندر وقبر النبي دانيال. وهذا دليل على أن القبر ليس بمسجد النبي دانيال.
ومن الوقائع السالفة نخرج بنتيجة هامة جد وهي أن القبر زال من الوجود منذ القرن الرابع الميلادي.
ثم أن المؤرخين العرب لم يتعرضوا لشيء غير موجود حتى ظهر أخيراً بعد أحد عشر قرناً بإسم النبي إسكندر في عصر المماليك. فليس من المعقول أن كان المسجد موجوداً أن يتجاهله القوم أحد عشر قرناً من الزمان لم يتعرض له في خلالها أي مؤرخ.
في العصر الحديث:
وفي القرن الماضي أدى أحد تراجمة القنصلية الروسية أنه وجد سرداباً تحت مسجد النبي دانيال ومنه شاهد ناووس الملك الزجاجي وحوله قراطيس وكتب من البردي. والظاهر أنه قد قرأ قول أسترابون في وصف المقبرة، حتى أن محمود الفلكي باشا عندما عين المكان وجد أنه مملوء بالحجارة وقطع الرخام علاوة على الرطوبة التي تتلف الكتب (وهذا المكان هو قباب وصهاريج ماء رومانية) ثم أن هناك رأياً أخر في أن التابوت من مادة رخامية شفافة جداً وليس بزجاج فكيف أدعى الترجمان بأنه من الزجاج؟ جاء الأستاذ حسن عبد الوهاب وأجرى حفرياته عند ترميم المسجد فوجد صهريج ماء ملاصقاً للإيوان العربي للمسجد وأجرى فيه وفي منطقة حفريات (الصهريج وطابقيه ومسارب مائه الثلاثة) فظهر بأن تلك المنطقة مقامه على مقبرة إسلامية ثم وصل إلى مستوى المدينة القديمة فلم يجد أي دليل على وجود ما ينم عن وجود مباني إغريقية حتى ولا بقايا كنيسة النبي إيليا التي بنيت بالقرن الرابع في نفس المكان. والظاهر بأن هذا الترجمان قد وجد ممراً ولكنه غير قبر الإسكندر وربما كان إحدى هذه الصهاريج المنتشرة بهذا المكان.
ويتضح بأن قبر الإسكندر موجود بمنطقة السيما ولكنه ليس تحت المسجد لأن المسجد وأساسه وطراز مبانيه إسلامية، وبرغم أن شكل المقبرة والمسجد غريب عن الطراز الإسلامي فالدكتور بريشيا يرجع أصل المسجد إلى تلك الكنيسة الرومانية القديمة، ولذا كانت مؤثرات المسجد المعمارية غريبة عن الفن الإسلامي.
أين مكان القبر الآن بالضبط؟
بالرجوع إلى أصول تخطيط مدينة الإسكندرية الذي أجراه دينوكرات والمقارنة بآراء المهندس هيبوداموس في ذلك الفن ومن التطبيقات والآراء التي بحثها الأثريون عن احتمال وجود المقبرة في مركز المدينة - نجد أن الأسكندر دفن في منتصف المربع الذي يطل على منتزه بيبوم من الجهة اليمنى - ومكان القبر حالياً المربع الذي تدخل فيه الحديقة الصغيرة التي بأخر شارع النبي دانيال وجزء من الشارع وشارع كنج عثمان حتى مباني مصلحة التليفونات ثم منطقة شارع عبد المنعم وما ورائها. ومن الاستناد إلى الآثار وبقايا المباني التي عثر عليها عند تخطيط ميدان المحطة والميدان والباقي جزء منها - بقايا أعمدة تحت تلك الحديقة - يتضح بأن واجهة المعبد كانت منتزه وميدان محطة مصر التي هي متنزه بيبوم. أما مجموعة الأعمدة التي بجوار مسجد سيدي عبد القادر فإنها تكون (أوبيستودوم) الذي كان يقام به الطقوس الدينية، ومن المحتمل أن تكون جزءاً من البهو والأروقة الدائرية التي كانت حول المقبرة. (والتي كان يقوم بها الكهنة الذين يخدمون المقابر الملكية) والبقايا الموجودة على يمين المقبرة بالعطارين وشارع محطة مصر القديمة وشريف على بقايا مقابر الملوك السبعة.
ومن وصف المقبرة الذي أوضحه استرابون يتضح بأن الضريح والمعبد يقارب طراز معبد البارثينون من حيث الفناء المربع وأن السلم المرتفع الذي يتبعه البهو مباشرةً يشابه معبد في طرزه.
هذا هو رأيي وقد يكون على خطأ ولكن فيه أجزاء كثيرة على صورة صحيحة.
وهناك رأي اه وجاهته اضطررت إلى التحقق من مناهج بحثه ودراسته ويقدمه المهندس السكندري جان نيقولابيدس. وهو (أن قبر الاسكندر ليس في منطقة السيما إذ ليس من المعقول وجود مقابر الملوك في حي الأعمال بالقرب من التياترو والسوق والمكتبة والجمنازيوم بل هو في حي الدلتا (حي الدلتا) الشرقي بالقرب من الباب الكانوبي حيث معابد إيزيس وضريح متلارنيوتيس وتميزيس حيث المقبرة الشرقية المشهورة بالقرب من قبر كيلوباترة وأنطونيس كما يذكرنا به ديوكاسيوس) وقد استند المهندس على أدلة في تاريخ هندسته من تاريخ تخطيط المدن القديمة بعد دراسة عشرين عاما وقد استعان بقول
أسترابون السالف الذكر (أن قبر الاسكندر على يميني عند دخولي المدينة) والذي يعضد رأيه أن المصادر التي استعان بها تذكر لنا أن القبر بالقرب من قبري كيلوباترة وأنطونيوس القريبة من معبد إيزيس الموجود برأس لوكياس (السلسلة حالياً) حيث مقابر ضاحية اليوسيس والحي الملوكي وحيث مقابر الأكابر والعظماء. فهل من المعقول دفن الإسكندر في منطقة السيما البعيدة في داخل البلاد بالقرب من السوق؟ أم بالقرب من مدخل المدينة ألا وهو الساحل.
وإن رأيه في قول أسترابون يمكن تطبيقه على مكان القبر بالقرب من مدخل المدينة من الجهة اليمنى أن دخل عن طريق البر، والمعروف عنه أنه دخل عن طريق البحر لاستعماله في الوصف. . البحر جداً شمالياً لها. وقد عين المهندس مكان المقبرة بالشارع الذي يفصل مقابر الكاثوليك عن الأروام بالشاطئ.
وإن العثور على صديق للإسكندر وقائد من قواده بتلك المنطقة والعثور على مقابر في سنة 1866 بالقرب من الباب الكانوبي الملاصق لسور المدينة المقدوني في الشمال الشرقي حيث معابد ديميتر الذي بناها بطليموس الثاني والتي تخص المبعوثين الدينين واكتشاف مقابر لأكابر الجند في نفس المنطقة محفورة في الصخور ومكتشفها هو مارت دينيسيون 1894 والكونت دي زغيب 1892 تؤيد قول الأستاذ نيقولا بيدس - وإن كان لم يعتمد على تلك المراجع - من أن المقبرة الشرقية جزء من مدافن العظماء لأنها المكان القانوني للدفن حسب الطقوس والتقاليد اليونانية.
وهذه الآراء تؤيد رأيه نظرياً ولكنها ليست أدلة يقينية واضحة بل نظريات هندسية أستنتاجية، فإن كانت تتطابق في مدن أخرى. فإن ظروف مدينة الإسكندرية من حيث الظواهر الطبيعية تخالف ذلك. فأرض المدينة رملية - فأنقى للبناءين القدماء حفر تلك المقابر العظيمة في باطن الأرض والذي أصبحت من الشروط الأساسية في طقوس الدفن عند البطالسة والرومان
وهناك رأي أخر لا أجد بداً من سرده، هو أن المستر ألن رو مدير متحف البلدية سابقاً يرى أن الإسكندر دفن بالمقبرة الغربية حيث المدينة الرومانية، وقد أخبرنا أسترابون بأن تلك المنطقة كانت مروجاً ترعى فيها القطعان. وأظن أنه ليس هناك أدلة منطقية تعضد هذا
الرأي. والأمر الطريف أن الأستاذ ألن ويس يقول أن الإسكندر دفن في منطقة مسجد العطارين واستشهد (بالعثور على تابوت منهوب) ولم أجد عبارة أخرى مخففة (أقدمها للقارئ) ومسروق من إحدى مقابر ملوك الأسرى الثلاثين ودفن به فكأن الإسكندر ذلك الغازي الجبار أفتقر إلى تابوت من الحجر فما بالك بتابوت من الذهب.
هذا هو مجمل الآراء التي قدمتها ومن ضمنها رأيي. وعساي أن أكون قد وفقت بالمساهمة في كشف النقاب عن قصة قبر الإسكندر، تلك الألغاز المجهولة لمؤسس مدينتنا المحبوبة الإسكندرية. ثم هذه هي مشكلة قبره الذي أبى علينا الزمان التشرف بمعرفة أخباره فما بالك برؤيته.
عبد المنعم مختار
هلن كلر
العمياء الصماء البكماء
للأستاذ نيقولا الحداد
حقاً أن هلن كلرن الدكتورة في العلم والفلسفة أعجوبة أمريكية تفوق جميع عجائب أمريكا التي هي مجموعة عجائب العالم في هذا العصر.
هذه مرأة مرضت في النصف الأول من عامها الثاني ففقدت جهازي عصبها البصري والسمعي فأصبحت عمياء صماء بكماء. بكماء لأن الإنسان لا يمكن أن يتكلم إذا لم يسمع، يعني أنها فقدت الحاستين الرئيستين من حواسها الخمس، فلم يبقى لها إلا الذوق وهو حاسة يندر أن تستفيد منها في التفاهم، وحاسة الشم وقد تستفيد منها جزءاً يسيراً من الفهم والتفاهم، وحاسة اللمس أو حاسة التحسس في أناملها وكفها وظاهر جسمها. ولذلك انتقلت حاستا البصر والسمع إلى أناملها وكفها وسائر بشرتها ثم إلى جميع بدنها فأصبح التحسس هو الشعور الرئيسي عندها، وإنما كان لها من قوة العقل وشدة الذكاء ما يمكنها أن تقرأ وتكتب (بقلم الرصاص)، وأن تقرأ في كتب العميان بلمس الحروف الناتئة، وأن تقرأ نقراً من أصابع معلمتها وسائر أهلها وذويها، وتخاطبهم بحركات أناملها على أكفهم. وأخيراً تعلمت أن تلفظ الكلمات التي يفهمها الذين يلازمونها ويعاشرونها هذا ما يدهش له الناس في الغرب والشرق ويعجب به الأمريكان وهم منشئو أمريكا الحديثة أم العجائب، فلا بدع إذن أن ندهش نحن إذ نرى هذه المرأة وهي تخاطبنا عن يد سكرتيرتها وأن لا يصدق بعضنا أنها عمياء صماء، وأن يضنوا أنها ألعوبة أمريكية للدعاية، وليس في الدنيا فكرة أسخف من هذه الفكرة.
أجل هي أعجوبة الزمان. وربما كان أعجب منها أو مثلها عجباً معلمتها السيدة سوليفان التي لازمتها 16 سنة إلى أن أخذت درجاتها العلمية العالية.
مس سوليفان مولودة في سبرنفيلد من ولاية كاستشوتس التي فيها مدينة بوسطن المشتملة على جامعة هرفود المشهورة. وهذه السيدة في أول عمرها أصيبت بمرض أفقدها بصرها، ولكنها لم تدخل معهد العميان إلا في الرابعة عشرة من عمرها. وبعد حين عاد إليها بعض بصرها، وبقيت في المعهد إلى أن أتمت علومها وبدا منها ذكاء حاد باهر، وقدرة فائقة على
التعلم والتعليم، وبعد نهاية دراستها اتفق أن طلب الكبتن أرثر كلر أبو هلن إلى الأستاذ أجنوس رئيس هذا المعهد يرجو منه أن يرشده إلى معلمة لابنته، فأرشده إلى مس سوليفان هذه.
والكبتن أرثر كلر من قرية توسكوميبا من ولاية آلاباما وله هناك أملاك واسعة يستغلها. وله غير هلن ابن يدعى تجايميس وابنة صغرى تدعى ميلرد. وزوجة تدعى كايت أدمس وقد تزوجها أرملا وهو أكبر منها سنا.
ورحبت أسرة كلر بسوليفا ترحاباً حاراً. وكانت هلن بين الخامسة والسادسة من عمرها، فرأتها مس سوليفا طفلة مملوءة حياة وعافية، جميلة الطلعة مشرقة المحيا، ولها عينان كأنهما نرجستان، ليس فيها عيب (لأن العيب في المركز البصري في الدماغ) ورأت أنها كثيرة الحركة تجري من مكان إلى مكان بلا انقطاع. وتلمس كل شيء ولا يندر أن تكسر الآنية التي تعبث بها أو تتلف المتاع الذي تمسكه.
في أول الأمر تهيبت مس سوليفان تربية هذه الطفلة وتعليمها. ولكن لما لها من دراية بهذا الصنف من الناس الناقص الحواس وما لها من الحذق في تربيته، وما استشفته من الذكاء في هلن عزمت على أن تجعل منها إنساناً فائق الخواص والصفات، وقد جعلت رأت أنها صعبة المراس جداً شديدة القدرة بالغة النشاط، وأنها ما دامت بين أهلها يصعب ترويضها وتدميثها، فإنتقلت بها إلى منزل صغير لأهلها في أرض لهم لا تبعد أكثر من ميلين عن توسكوميبا، وأقامتا وحدهما هناك، وكان الطعام يرسل إليهما من البيت كل يوم، ولكنهما ما لبثتا هناك أكثر من أسبوعين فعادتا إلى البيت.
ورأت سولفيان أن تطويعها بالقوة والعنت يزيدها شكاسة وعناداً وشراسة فقررت أن تملكها بالمحبة، فكانت تهبها كل يوم ما توده من كعك وفاكهة ولعب أطفال، وكان أهلها يتفاهمون معها بإشارات تعودوها، فتحسنت عشرتها قليلاً. وقررت المعلمة أن تعلمها الحروف الأبجدية بكتابتها على كفها بأصابعها، وأول كلمة أدخلتها في عقلها بالكتابة كلمة لعبة إذ رسمت الحروف على كفها ثم أعطتها اللعبة. ثم أخذت اللعبة منها وجعلتها تطلبها بكتابة الحروف على كفها (كف المعلمة) ثم كتبت المعلمة بأصابعها على كف هلن كلمة (كعك) وأعطتها كعكة، وهكذا فعلت في إعطائها اللبن ووعاء اللبن الخ.
وكان لهلن ذكاء عجيب فما علمت كلمة إلا حفظتها حالاً ولا تنساها، الأمر الذي سهل على المعلمة مهمتها جداً. وبدأت هلن تفهم أن لكل شيء اسماً يرسم على كفها. ثم شرعت تعلمها الأفعال مثلاً: شرب، أكل، جاء، راح، فكانت إذا جاعت ترسم على كف معلمتها كلمتي:(لبن. هلن) فتصحح المعلمة الجملة هكذا: (هلن تريد لبناً) ثم (هلن تريد أن تشرب لبناً) على هذا النحو نجحت المعلمة في تعليمها في شهر واحد مائة كلمة، وما وجدت صعوبة إلا في تعليمها الأسماء المجردة عن المادة كالحب أو الشر أو الطيب أو السرور. وفي آخر السنة كان رأس مالها تسعمائة كلمة، وهو قدر كافي للتفاهم والتدرج في كسب كلمات أخرى.
وعلمتها في خلال ذلك قراءة كتب العميان الابتدائية ثم الكتب الأخرى فنجحت بسرعة فائقة حتى صارت تقرأ الكتب الراقية. ثم علمتها أن تكتب حروف العميان بواسطة الآلة الكاتبة للعميان فبرعت عاجلاً وصارت تكتب بها ما تريد أن تقوله وماذا يمنع أن تستعمل الآلة الكاتبة التي يستعملها المبصرون، فما لبثت أن صارت تكتب بها ما كانت تكتبه على الكف، صار هذا بعد أن دخلت معهد بركنز للعميان.
أما كيف صارت تكتب بيدها بقلم الرصاص الكتابة التي يكتبها الناس فانقل رسالتها بهذا الصدد إلى مجلة سنت نيكولاس في يونيو سنة 1892 وكان عمرها حينئذ 12 سنة
(عزيزي محرر مجلة سنت نيكولاس
(يسرني جداً أن أرسل إليك خط يدي لأني أود أن يعرف الصبيان والبنات المبصرون الذين يقرئون مجلة سنت نيكولاس كيف يكتب العميان. وأظن أن بعضهم يستغربون كيف نكتب السطر معتدلاً لا اعوجاج فيه. عندنا لوحة مسطرة سطوراً منخفضة قليلاً نضعها بين الصفحات حين نكتب. فالخطوط المتوازية في اللوحة تجري عليها السطور. فحين نضغط بقلم الرصاص على السطر المنخفض يبقى السطر معتدلاً. فنرسم الأحرف الصغرى في القلم المنخفض والأخرى المرتفعة ترتفع إلى فوق القلم والأخرى ذات الذيول إلى تحت القلم. نمسك القلم باليد اليمنى ونرشدها بإبهام اليد اليسرى لكي نعلم أننا نرسم الحروف في مواقعها بلا ضلال. في بادئ الأمر تصعب الكتابة جداً على هذا النحو، ولكن بالممارسة والمواظبة تصير سهلة جداً، وحينئذ يمكننا أن نكتب رسائلنا إلى ذوينا وأصحابنا. إن الذين
يزوروننا يودون أن يرو الطلبة العمي كيف يكتبون)
وقد نشرت مجلة آخر ساعة نموذجاً من خط هلن فكان آية من الإتقان والجمال واعتدال السطر.
ولم تدع المعلمة سوليفان وسيلة للتفاهم إلا علمتها إياها. ومن ذلك أنها علمتها نطق الكلمات وإن كانت لم تسمعها، وطريقتها أنها تضع أصابعها على فم المتكلم وإبهامها على حنجرته وتجتهد بعد ذلك أن تقلد حركات فمه وحجرته فتصدر اللفظ مشابهاً لصوت المتكلم ولكن ليس بوضوح تام. وهذا يستلزم أن تعرف كل كلمة صوتية تقابل الكلمة المخطوطة بحروف العميان أو المنقورة على كفها بأصابع معلمتها، ولا يخفى ما في هذا من العنت والصعوبة، ولكنه يقضي حاجة أحياناً. فأحيانا تتكلم هلن جملة لا يفهمها السامعون ولكن معلمتها أو سكرتيرتها تفهمها وتقولها للسامعين. وقد تعلمت هنا في مصر أن تلفظ جملة (السلام عليكم).
قرأت كتابها (قصة حياتي)، وهو يشتمل على ثلاثة أقسام: -
الأول تاريخ حياتها، والثاني معظم رسائلها التي أرسلتها لأساتذتها وصواحبها وذويها بخط يدها بالحروف المعروفة على الطريقة المشروحة آنفاً. والقسم الثالث تقارير المعلمة مس سوليفان التي كانت ترسلها كل حين بعد آخر إلى مس صوفيا هوبكنز الموظفة في معهد العميان ومنها تتصل بالأستاذ أنا كنوز مدير المعهد. وهذا القسم هو اقصر الأقسام الثلاثة ولكنه أهمها؛ لأنه تبسيط لكيفية تعليم هلن ووصف لسلوكها وأعمالها.
ولما نجحت مس سوليفان في التفاهم معها بالأصابع وبالكتابة وبالضرب على الآلة الكاتبة للعميان أدخلتها إلى معهد بركنز للعميان. وبقيت تلازمها حتى انتهت من العلم هناك. وإذا كانت تضرب الكلام على آلة العميان الكاتبة فلا مانع من أن تضرب الكلام بالكتابة العادية على التيب ريتر الذي نستعمله نحن.
نعم أن هلن محرومة حاسة السمع ولكن جسمها يحس باهتزازات الأصوات وبارتجاجات الدوي فهي من هذا القبيل أرهف إحساساً من السامعين والمبصرين.
في ذات يوم حضرت سباق كرة قدم بين جامعتي هرفرد وبابيل، وتقول في إحدى رسائلها أنه كان في ذلك المكان نحو 25 ألف نفس. وكانت تحس بدوي التصفيق الهائل. قالت كدنا
نخرج من جلدنا لشدة وقع الدوي علينا. وكنا نظن أننا في ساحة حرب.
وفي يوم أحد كانت هلن ومعلمتها في نيويورك وحضرنا الصلاة في كنيسة القديس برتولومبيوس. وكان الواعظ دكتور جريز يتكلم ببطيء وكانت سوليفان تنقل إليها كل كلمة تقريباً. وبعد نهاية الصلة طلب هذا الواعظ إلى المستر ورن الذي يعزف على الأرغن أن يعزف شيئاً لأجل خاطر هلن. ووقفت هلن في وسط الكنيسة تماماً حيث تكون ارتجاجات ذلك الأرغن العظيم قوية. تقول هلن: وكنت أحس أمواج صوت الأرغن تصدمني كما تصدم أمواج البحر السفينة.
ويوم كان أهل هلن ينتظرون المعلمة سوليفان كانت هلن تشعر بحركة غير اعتيادية في البيت وأن هذه الحركة لاستقبل شخص. وإذا كان أبوها قادماً في عربته تشعر بقدومه. كان إحساسها البدني يفوق إحساس البشر. وهنا في مصر كانت تعرف حين يصورها المصورون لأنها كانت تشعر بصدمات النور اللامع لوجهها وبدنها. . . وسئلت مرة كيف تشعر بالتصفيق الشديد فقالت أحس الأرض تميل تحت قدمي.
وفي معهد بركنز استعدت هلن للدخول في كلية ريد كليف لكي تدرس بكالوريوس علوم، فكتبت إلى رئيس الكلية أن يسمح بحضور مس سوليفان معلمتها معها لكي تنقل إليها الكلام والأسئلة. وهي تقدم الأجوبة مكتوبة على الآلة الكاتبة. فسمح، ولكن لما كانت تتقدم للامتحان لم يسمحوا لمس سوليفان أن تترجم لها. . بل كانوا يقدمون لها الأسئلة مكتوبة بلغة العميان على الآلة احترازا من أن تدس مس سوليفان لها بعض ملاحظات. ما دخلت هلن امتحان ألا خرجت فائزة.
البقية في العدد القادم
نقولا الحداد
الأمثال في حياة اللغة
للأستاذ حامد حفني داود
- 2 -
عرفنا أن الأمثال ولغة الحديث توءمان. وأن هذين التوءمين - وحدهما - استطاعا أن يسايرا الحياة على ما فيها من خير وشر، وما فيها من فصاحة مقبولة وهجنة ممقوتة، ثم هما استطاعا أن يكشفا عن أصول العربية الفصحى تارة ويحملا رواسب العامية الإقليمية الطارئة تارة أخرى، ثم هما إلى جانب هذا وذاك يستجيبان للحياة ويعيشان في نفوس الناس، ويمثلان كل ما طرأ على اللغة من نماء مطرود وتطور مستمر يدل دلالة قاطعة على أن اللغة كائن حي يعيش ويتطور كغيره من الأحياء.
إذا عرفنا كل ذلك فإننا بلا شك نستطيع أن نحدد موقفنا من العربية إذا أردنا أن نأخذ بزمامها، وإن ندفعها إلى الصف الأول الذي كانت تحتله في صدر الإسلام - يوم كان القرآن - وكانت الفصحى وقبل أن تختلط بالعجمي وتصاب بما أصيبت به من رواسب اللغات الإقليمية سواء في مقاطعها وإعرابها وتراكيبها.
فقد هبطت اللغة العربية - بعد أن خرجت من الجزيرة - في أقاليم جديدة لم يتكلم أهلها بالعربية من قبل. وانتشرت في هذه الأقاليم بسرعة عجيبة لم يعهد تاريخ اللغات مثلها وساعدها على هذا الانتشار أنها كانت تحمل لواء الدين الجد في يمينها، والانقلاب السياسي والتحول التاريخي الأكبر يسارها. ولكن هذا الانتشار - على الرغم من كل هذه السر - لم يتم في يوم وليلة وإنما كان نتيجة تفاعل مستمر بين اللغة (الغازية) و (المحلية) دام وقتاً من الزمن تحققت فيها إلغاء - تارة - للغة الغازية التي فرضت نفسها في مصر وبلاد المغرب وتخوم العراق والشام، على حين استمسكت أقاليم آخر كالهند وبلاد فارس بلغاتها المحلية بعد أن اعتصمت بعوامل كثيرة حفظت لها طابعها القديم وأبقت عليها كيانها وثقافتها. وهي عوامل كثيرة نترك الحديث عنها إلى موضوع أخر يتعلق بطبيعة اللغة ومقوماتها، ولكن الشيء الذي لابد من ذكره أن العرب استطاعت أن تترك أثرا في كلتا الحالتين لأن (الأثر) نتيجة حتمية لـ (المؤثر) مهما كان ضعيفاً، كما أن (التفاعل الكيماوي) نتيجة حتمية لـ (المواد القابلة للتفاعل) مهما اختلفت كمياتها.
ففي مصر تغلبت الغربية على اللغة القبطية ثم تفاعلت بلغات أخري كالفارسية والتركية. ولازلنا نرى آثار هذه اللغات في (العامية المصرية). أما في العراق فقد كانت رواسب الفارسية أعمق وأشد ظهوراً في عاميتهم. على حين نرى شيئاً من آثار التركية وقليلاً من السريانية في بلاد الشام.
ونحن إذا تتبعنا أقاليم الصنف الثاني التي لم تغزها اللغة العربية غزواً تاماً رأينا أنها خضعت بالمثل لنظرية (المؤثر والأثر وهذا على الرغم من قوتها السياسية، وعلى الرغم من ابتعادها عن مركز الثقافة العربية. فأنت ترى أن اللغة الفارسية القديمة التي تسمى (الفهلوية) تتطور بسبب هذا التفاعل وتبدو في وثوب جديد هو (الفارسية الحديثة). وقد أثبت البحث اللغوي أن ستين في المائة من ألفاظها عربي صرف. كما ترى أن اللغات الهندية التي تمت بصلة إلى الفصيلة (السنسكريتية) نالت ما نالتها أختها من الأثر فظهرت إحداها في ثوب جديد هو (اللغة الأردوية). وإن ما اشتملت عليه الأردو من ألفظ عربية لأكبر دلي يؤيد استمرار هذا التفاعل.
وإذا كانت الأمثال - كما قدمنا في المقال السابق - تلونت بالبيئة وتطورت مع الزمن كما تلونت لغة الحديث وتطورت تماماً - أدركنا بوضوح ما بين الأمثال ولغة الحديث من سمات عجيبة كشفها أمامنا الاستقرار ولم نصنعها صنعاً أو نبتدعها ابتداعاً، ثم إذا كانت الأمثال - وحدها من بين فنون النثر - هي التي استطاعت أن تستمر مع الزمن وتلين لهذا التفاعل الدائم كما استمرت ولانت لغة الحديث - كان خليقاً بنا أن ندرك وجوه الشبه بينهما وأن نقف عندهما وقفة المصلح اللغوي الذي يتلمس الطريقة المثلى في النهوض بأمر اللغة، وإن موقف المصلح اللغوي هنا يشبه تماماً موقف العالم الطبيعي الذي يتوسل إلى معرفة الشيء بشبيهه. ويقيس ما غمض عليه من المسائل بما وضح أمامه منها حتى يصل من البسيط إلى المركب، أو قل هو كالطبيب المجرب الذي يستخدم دماء الأصحاء في حقن أجسام المرضى من بني الفصيلة الواحدة.
والأمثال - عنده - هي النص الأدبي الحي الذي لم يعتوره الجفاف أو يلحق به الجمود أو تحجبه الصنعة أو يحول فيه التكلف والتعمل دون تذوق الناس له سواء الخاصة منهم والعامة. فما أشد حاجة ذلك المصلح إلى أن يتخذ من مادة ذلك النص المصل الواقي الذي
يعيد به الحياة إلى رميم هذه الفنون اللغوية الأخرى إذا أراد أن يرفع من مستوى تعليمها ونشرها
وهكذا يصبح تعليم الأدب في مدارس المرحلة الثانية بأنواعها قاصراً عن أداء الرسالة التي ننشدها من تذوق النص الأدبي مادمنا لا نعالجه في هذه الصورة الحية. بل أن تدريس الأدب للناشئة في صورة ما يشرح لهم من جيد الشعر والنثر يعتبر دراسة كلاسيكية تقليدية لا تصلح لهذه المرحلة من التعليم، لأن الصلة بين هذه النصوص وبين نفوس التلاميذ تكاد تكون مفقودة، بعيدة كل البعد عن متناول مداركهم. وهي صورة بتراء لا تحقق الجانب العملي المقصود في الدراسات الأدبية الحية - إلا إذا أردنا أن نخرج ناشئة يستوعبون ولا يتذوقون، ويفهمون الفكرة فهماً عابراً ولا يمارسونها ممارسة عملية. أن مثل هذه الدراسات لا يمكن بحال أن تخرج أديباً إنشائياً يعالج الفكرة الأدبية ويواجهها في حيز حياته وبيئته، ولكنها تخرج ببغاء يردد ما لا يفهم وإن فهم شيئاً أو عالجه فهو بسفاد الغراب أو بالكبريت الأحمر أشبه.
وهنا يحق لك أن تسألني: وما علاقة تدريس الأدب بالأمثال في حياة اللغة؟ وكيف تستغل هذا الفن في تدريس الأدب لتلاميذ هذه المرحلة - أن كانت هناك علاقة.
أما عن علاقة الأمثال بفنون اللغة وآدابها فلا سبيل إلى تكراره بعد الذي ذكرته لك من صلات وطيدة بين لغة الحديث والأمثال والحياة. بينما تحس بخطورة البحث وأهمية التطبيق حين تفكر في هذا الفن وتبحث فيه على أنه وسيلة من وسائل إصلاح اللغة والنهوض بآدابها. وهي في المدرسة غير المجتمع العام.
ففي المدرسة أرى أن تستغل دراسة الأمثال العربية الأصيلة في الفصول الأولى من مدارس هذه المرحلة. ويرجع المدرس في ذلك إلى الكتب المعتمدة في هذا الباب ككتاب الأمثال للميداني. ويلتقط منها بقدر الطاقة ما يقابل الأمثال العامية في معناها ومبناها ومرماها. ويستطيع المربي الحصيف أن ينجح في تدريس الأدب العربي في هذه الصورة نجاحاً محققاً؛ وأن ينهض بالثروة اللغوية والأدبية للأسباب الآتية:
1 -
إن نصوص الأمثال في ذاتها سهلة ميسورة مهما التوت مفرداتها اللغوية؛ لاتساع معناها وجرس مبناها، ولأن لها في الغالب ما يقابلها من الأمثال العامية ولو من ناحية
المعنى والمرمى.
2 -
إن الناشئة في هذا المقام يحاطون بجو عربي خالص، وذلك حين يعرض المدرس إلى دراسة ما حول (المثل) من تاريخ وأحداث طريفة دعت العربي إلى إرساله في هذه الصورة وهو في بيئته العربية.
3 -
وبقدر ما يكون الحديث عن الأمثال وأسباب إرسالها قريباً من جو القصة - يكون نجاح المدرس في دراسة نصوصها، لأن التلاميذ في هذا الدور حديثو عهد بدراسة القصص في مدارس المرحلة الأولى. وطبيعة الأمثال وانتشارها في بيئتهم تغريهم بحفظها واستعمالها في مواضعها من الكلام، وتحملهم على تتبع ما يقوله المدرس وما يصطنعه من إثارة المشكلات خلال هذه الدراسة. وفي ذلك نجاح كبير وتحقيق للأهداف التي تدعو إليها التربية الحديثة. وهو علاج الفكرة في حيز الحياة نفسها!
4.
. . وأخيراً يستطيع المدرس في دراسة نصوص الأمثال على الرغم من ضآلة طولها أن يحقق من الفائدة ما لا يستطيعه في تدريس درس من الشعر أو فن من فنون النثر الأخرى، لأن هذه الأمثال تعتبر درساً في الحياة الاجتماعية عند العرب ودرساً في التاريخ ودرساً في الأساليب العربية ودرساً في مفردات اللغة - بالإضافة إلى إحياء تراثنا الأدبي القديم.
وإذا زود التلاميذ بدراسة النصوص الأدبية في هذه الصورة ومرنوا على هذا النوع من التذوق سهل عليهم أن يتذوقوا نصوصاً من الشعر والنثر في السنوات المقبلة. كما يستطيعون بعد ذلك أن يزودوا بعجالة من النصوص تمثل تطور التاريخ الأدبي في كل عصر. وعند ذلك يتحقق الغرض المقصود من تدريس الأدب في هذه المرحلة - الذي يهدف إلى التذوق ومتابعة البحث.
ذلك في المدرسة. . أما في المجتمع فيتسع مجال الإصلاح ويتضاعف واجبنا في النهوض بحياة إخواننا العامة: الفكرية والأدبية. ولدينا من إقبال عامة المثقفين على القصص وكتب الأدب ما يشجع على رفع مستوى العامية وينهض بها حتى تصبح أقرب إلى الفصحى من ما كانت عليه بالأمس القريب. ولن يكون ذلك إلا بعلاج لغة الحديث من الطريق الحساس الذي يميل إليه العامة وتألفه نفوسهم. . ألا وهو (الأمثال العامية) فنقدم إليهم قصصاً مبسطة
يزودون فيها بهذه الأمثال. والكاتب البارع هو الذي يستطيع بلباقته أن يصل بين حاضر الأمثال العامية وغابرها، وأن يقرب أذهان القارئين من أصولها الفصحى حتى إذا حقق هذا الغرض أخذ بأيديهم إلى متابعتها في كتب الأدب. وهذا واجب كتاب القصة في مصر وواجب المتأدبين من علماء النفس.
ومن هنا تتقارب الخطى وتسد الثغور وترمم الثلمات ويرأب الصدع ونقف من الطبيعة موقف الحكيم المتفنن الذي يستطيع بلباقته أن يتحكم فيها وأن يوجهها توجيهاً علمياً لا يتفانى مع قوانينها. أريد أن أقول: إننا بهذا القدر نستطيع أن نوجه النماء المطرد في اللغة العربية ككائن حي، وأن نقوم من اعوجاجه في نفوسنا - لا في ذاتها - وذلك العمل جدير بالتنفيذ، وهو أعظم من مما نقوم به اليوم من تعريب وتصويب.
حامد حفني داود
أستاذ اللغة العربية والتربية بمدارس المعلمين
شوقيتان لم تنشرا في الديوان
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
1 -
توطئة
يعلم قراء (الرسالة) الزاهرة مدى إعجابي بشعر أمير الشعراء المرحوم أحمد شوقي بيك، ويعلم القراء الكرام أيضاً تعصبي له وتفضيلي شعره على غيره من الفحول الكبار، ومن تحصيل الحاصل قولي أن نهضة مصر الأدبية الحديثة قامت على أكتاف ثلة نادرة من أفذاذ الرجال، كان على رأسهم شوقي الذي استطاع بما وهبه الله من عبقرية ملهمة وقريحة وقادة وعلم غزير، أن يثب بالشعر العربي إلى قمة الإبداع، بعد أن كان محنطا بقوالب من المحسنات اللفظية السخيفة، فهو بحق الحد الفاصل بين موت الشعر وحياته، لأنه رحمه الله لم يكن كغيره من شعراء القريحة، أمثال الرصافي وحافظ، يعتمد على محصوله اللغوي من الألفاظ والمرادفات، ومحفوظة من عيون شعر من سبقوه من الأفذاذ، كزميله سامي البارودي، بل كان نسيج وحده وطراز لا شبيه له، لأنه كان يغترف من بحر خضم متلاطم الأمواج، هو بحر العبقرية والإلهام والنبوغ، ولو لم يكن كذلك لما تقدم شاعر النيل لمبايعته هاتفاً:
أمير القوافي قد أتيت مبايعاً
…
وهذي وفود الشعر قد بايعت معي
ولا أجد في معرض الحديث عنه وعن شعره أصدق ولا أكمل من قول المرحوم الرافعي؛ إذ قال فيه: (هذا الرجل انفلت من تاريخ الأدب لمصر وحدها كانفلات المطرة من سحابها المتساير في الجو، فأصبحت مصر به سيدة العالم العربي في الشعر، وهي لم تذكر في الأدب إلا بالنكتة والرقة وصناعات بديعة ملفقة، ولم يستفض لها ذكر بنابغة ولا عبقري. ولولا البارودي وصبري وحافظ في المتأخرين وكلهم أصحاب دواوين صغيرة لما ذكرت مصر بشعرها في العالم العربي. على أن كل هؤلاء لم يستطيعوا أن يضعوا تاج الشعر على مفرق مصر ووضعه شوقي وحده.
كل شاعر مصري هو عندي جزء من جزء ولكن شوقي جزء من كل. والفرق بين
الجزأين أن الأخير في قوته وعظمته وتمكنه وأتساع شعره جزء عظيم كأنه بنفسه الكل. ولم يترك شاعر في مصر قديماً وحديثاً ما ترك شوقي، وقد اجتمع له ما لم يجتمع لسواه، وذلك من الأدلة على أنه هو المختار لبلاده فساوى الممتازين من شعراء عصره وارتفع عليهم. . أن شوقي من النفس المصرية بمنزلة المجد المكتوب لها في التاريخ بحرب ونصر. . الخ)
وإلا فدلوني على شاعر غير شوقي تمكن أن ينظم في كل الفنون والأبواب فيجيد ويبدع؟ أنا أعلم أن أكثر الشعراء في لون من ألوان الشعر فيشتهرون به كما حدث بالفعل. فأبو نواس مثلاً أجاد في الخمريات وأبو العتاهية في الزهديات والنابغة في الاعتذارات والمتنبي في الحكمة وهكذا. . أما أن يجيد الشاعر في كل باب فهذا لم يحدث في تاريخ الشعر العربي قط ولم يتح منذ الجاهلية حتى الآن إلا لشوقي؛ لأن شوقي لم يكن شاعر مصر فقط ولا العروبة وحدها ولا الإسلام خاصة، بل كان شاعر الشرق كله أو قل الإنسانية جميعها، وهكذا يكون الشعراء العالميون الخالدون. وشوقي بعد هذا كله جمع في رأسه ونفسه نفسيات جميع الشعراء وأفرغها بعد فحصها في ثوب جديد خاص به، وبذلك دل على أن أسلوبه لا يجاريه أسلوب، حتى ليستطيع المتذوق لشعره أن ينسب كل ما قال من الشعر له حتى ولو غالط مدح ونسبها إلى غيره؛ لأن ألفاظه وتعبيره وديباجته تنم عليه كما ينم العطر على الوردة ولو اختفت بين الأشواك، وهذه ميزة قلما ينفرد بها أحد غير العباقرة الملهمين.
وإذاً فمن تكرار القول وإعادة الحديث أن أبدي إعجابي بشوقي إلى هذه الدرجة من الإفراط والتطرف، ومن التبجح أن أذكر ذلك، ولكني في هذا الحديث مرغم لأنني أعجب غاية العجب من عدم عناية أدباء مصر بشعر سيد شعرائهم وخصوصاً شعره لم يدرج في كتاب ولم يضم إلى دواوينه الأربعة. ولما كنت أعتقد أن لشوقي قصائد كثيرة لم تنشر أخذت أعنى بجمع أكثر القصائد التي أعثر عليها في بطون الصحف الأدبية القديمة التي كانت تسعى إلى نشر ما يقوله أمير دولة الشعر وكرسي الأدب حتى تمكنت بعد جهد جهيد وسعي متواصل أن أحصل على عشر قصائد نشرت أثنين منها في الرسالة الغراء قبل عام وها أنا أتبعها الآن بقصيدتين من عيون شعره، على أن أقدم بعد ذلك ما لدى من شعره في
كتاب صغير بعنوان (شوقيات لم تنشر) بعد أن أقدم لهذا الشعر مقدمة ضافية تليق بمكانة قائلة
عتاب لأنجاله:
لا أظن أن شاعراً في الدنيا أحب أنجاله وأولاده بقدر ما احب شوقي علياً وحسيناً، والمتتبع لقراءة شعره يلمس حنانه لهما في كل ما نطق به، حنان الأبوة الصادقة والقلب العطوف، فهل بعد ذلك الحنان بر أنجاله به، أنا لا أريد أن أتحامل عليهما إكراماً لأميرنا. . ولكني أود أن أقول ما سبب تقاعسهما عن جمع ما لديهما من شعر في ديوان جديد؟ المال موجود لديهما والحمد لله! دور النشر ما أكثرها في مصر! ثم ما ذنبنا نحن المعجبين بشوقي وبشعره أن نحرم منه! أين إذن مسرحية (البخيلة) ومسرحية (الست هدى) وهما تمثلان ذلك العصر أصدق تمثيل؟!
أين شعر والدهما الباقي؟! إني أهيب بكل أديب عربي يحمل بقلبه ذرة من الحب لشوقي ولمصر أن يحث الأستاذين الكريمين وهما أكبر أنجاله على طبع روايتيه الشعريتين (البخيلة) و (الست هدى) ليسديا بذلك إلى المسرح والشعر يداً تذكر فتشكر. كما أطالب أخواني الأدباء الذين يحرصون على قراءة شعر شوقي في ديوان جديد أن ينشروا ما لديهم من شعره المنسي على صفحات الرسالة الزاهرة أو يرسلوه إلي لأضمه إلى مجموعتي كي أستطيع أن أظهرها للوجود في القريب العاجل أن شاء الله.
الشوقية الأولى
قلت إنني عثرت بعد تنقيبي وبحثي في حنايا الصحف على بعض الشوقيات التي خلت منها دواوينه. . وأولى هذه النفحات عثرت عليها في الصفحة (270) من الجزء الرابع مجلد (5) من مجلة (الزهراء) القاهرية لسنة 1347 هـ - 1928 م والذي كان يصدرها في مصر الأستاذ محب الدين الخطيب خال صديقة الأستاذ الطنطاوي. . وهذه الدرة الشوقية نظمت في تكريم الشاعر الأستاذ المرحوم عبد الحميد بك الرافعي. . وقد قدمها محرر الزهراء بهذه الديباجة:
(أقيمت في طرابلس الشام حفلة تكريم عظيمة للشاعر الكبير الأستاذ عبد الحميد بك
الرافعي في شوال الجاري (أي سنة 1347 هـ) ألقيت فيها قصيدة أمير الشعراء)
فمن هو هذا الشاعر الذي كرمه شوقي؟
لم أجد للشاعر عبد الحميد الرافعي ترجمة أعتمد عليها ولكن وجدت في (مختارات الزهور) كلمة عن شعره هي:
(عبد الحميد بك الرافعي من أدباء طرابلس الشام المعدودين، وسليل أسرة عريقة في النسب. مشهور عن أفراده العلم والفضل. أما شعره فشعر البداوة مع مسحة حضرية فصيح الألفاظ، جيد التراكيب. له ديوان حافل بغر المنظومات. .)
ومن شعره قوله في (المشيب)
يا شيب عجلت علي لمتي
…
ظلماً، فيا ابن النور ما أظلمك
بدلت بالكافور مسكي وما
…
أضواه في عيني وما أعتمك
من يقبل الفاضح في ساتر
…
فهات ليلاك وخذ مريمك
غرك أن الشيب عند الورى
…
يكرم، هل في الغيد من أكرمك
فليت أيام شبابي التي
…
أرقتها غدراً، أراقت دمك
وإلى هنا أقف عن الشرح لأقدم للقراء وخصوصاً المعجبين بعبقرية أبي علي الخالد قصيدة كاملة وهي التي ألقاها في تكريم الرافعي
أعرني النجم أوهب لي يراعا
…
يزيد (الرافعيين) ارتفاعا
مكان الشمس أضوء أن يحلى
…
وأنبه في البرية أن يذاعا
بنوا الشرق الكرام الوارثوه
…
خلال البر والشرف اليفاعا
تأمل شمسهم ومدى ضحاها
…
تجد في كل ناحية شعاعا
قد اقتسموا ممالكه فكانت
…
لهم وطن (الفصحى) مشاعا
هموا زادوا (الفضاء) جمال وجه
…
وزادوا غرة (الفتيا) إلتماعا
أبو في محنة (الأخلاق) إلا
…
لياذاً في العقيدة وامتناعا
أووا شيباً، وشباناً إليها
…
تخالهم (الصحابة) والتباعا
إذا أسد الشرى شبعت فعقت
…
رأيت شبابهم عفوا جياعا
فلم ترى (مصر) أصدق من (أمين)
…
ولا أوفى إذا ريعت دفاعا
فتى لم يعط مقوده زمانا
…
شرى الأحرار بالدنيا وباعا
عظيم في الخصومة ما تجنى
…
ولا ركب السباب ولا القذاعا
تمرس بالنضال فلست تدري
…
أأقلاماً تناول أم نباعا
ويا ابن السابق المزري ارتجالا
…
برواض القصائد وابتداعا
أما يكفي أباك السبق حتى
…
أتى بك أطول الشعراء باعا
شدا الحادي بشعرك في الفيافي
…
وحركت الرعاة به اليراعا
وفات الطير ألفاظاً فحامت
…
على المعنى فصاغته صناعا
إذا حضر البلابل فيه لحن
…
تبادرت له الحمام استماعا
مشى (لبنان) في عرس القوافي
…
وأقبل ربوة واختال قاعا
وهز المنكبين لمهرجان
…
زها كالباقة الحسنى وضاعا
وأقبلت الوفود عليه تترى
…
كسرب النحل في الثمرات صاعا
غدا يزجي الركاب وراح حتى
…
أظل (دمشق) وانتظم البقاعا
ترى ثم القرائح والروابي
…
تبارين افتناناً واختراعاً
ربيع طبيعة وربيع شعر
…
تخلل نفح طيبهما الرباعا
كأنك بالقبائل في (عكاظ)
…
تجاذبت المنابر والتلاعا
بنت ملكا من (الفصحى) وشادت
…
بوحدتها الحياة والاجتماعا
فعادت أمة عجباً وكانت
…
رعاة الشاء والبدو والشعاعا
أمير المهرجان، وددت أني
…
أرى في مهرجانك أو أراعا
عدت دون الخفوف له عواد
…
تحدين المشيئة والزماعا
وما أنا حين سار الركب إلا
…
كباغي الحج هم فما استطاعا
أقام بغبنه لم يقض حقا
…
ولا بل الصبابة والنزاعا
(طرابلس) انثنى عطفي أديم
…
وموجي ساحلا وثبي شراعا
كسا جنباتك الماضي جلالا
…
وراق عليه ميسمه وراعا
وما من أمس للأقوام بد
…
وإن ظنوا عن الماضي انقطاعا
ألم تسقى الجهاد وتطعميه
…
وتحمي ظهره حقباً تباعا؟!
شراعك في (الفنيقيين) جلى
…
وذكرك في (الصلبين) شاعا
كأني بالسفين غدت وراحت
…
حيالك تحمل العلم المطاعا
(صلاح الدين) يرسلها رياحاً
…
وآونة يصففها قلاعا
أليس البحر كان لنا غديراً
…
وكانت فلكنا (البجع) الرتاعا
غمرنا بالحضارة ساحلية
…
فما عيا بحائطها اضطلاعا
توارثناه أبلج عبقريا
…
ذلول المتن منبسطاً وساعا
ترى حافاته انفجرت عيوناً
…
ورفت من جوانبه ضياعا
فما زدنا الكتاب الفخم حرفاً
…
ولا زدنا العصور الزهر ساعا
عقدنا معقد الآباء منه
…
فكنا البهم قد خلف السباعا
كأن الشمس مسلحة أصابت
…
عفيفاً في طيالسه شجاعا
تحجب عن بحار الله حتى
…
إذا خطرت به نضت القناعا
وما رأت العيون أجل منها
…
على أجزاء هيكله اطلاعا
فما كشروقها منه نعيما
…
ولا كغروبها فيه متاعا
هذه عصماء شوقي التي قالها في تكريم الشاعر الكبير المرحوم عبد الحميد بك الرافعي وهي كما يراها القارئ الكريم نفحة خالدة من نغمات شاعر الشرق الخالد الذي لم يك شاعر مصر وحدها بل شاعر الإنسانية برمتها وإن حدد هو فقال:
كان شعري الغناء في فرحة الشرق وكان البكاء في أحزانه ومثل شوقي يظل خالداً ما ظلت الشموس تدور في أفلاكها. وفي العدد القادم أن شاء الله أقدم (شوقية أخرى)
دراسة وتحليل
الجواهري شاعر العراق
للأستاذ محمد رجب البيومي
2 -
ونترك كارثة فلسطين لننتقل إلى أذناب المستعمرين. . .
ولا تكاد تخلو إحدى قصائد الشاعر من تجريح هؤلاء الأذناب والتشهير بهم، بل أن إنجلترا الغادرة لم تنل من الشاعر ما ناله أذنابها المتزعمون، وللجواهري وجهة نظره الصائبة في ذلك، فالإنجليز مهما عصفوا بالشرق والإسلام، وناهضوا الحريات بشتى الوسائل، فهم يخدمون وطنهم بما يرونه. والأساليب الظالمة، أما هؤلاء الأذناب فخائنون آثمون يشنون الحرب على بلادهم، ويصادرون حرياتها وكرامتها في غير هواهم وإشفاق، وقد يبلغ بك الأسف أشده إذ تجد الشاعر يقارن به عهدين، عهد برز فيه الاستعمار سافراً بوجهه الدميم، يأمر وينهب ويسلب ويبتز، وعهد رجع فيه المستعمر إلى الوراء خطوة ووقف خلف ستار رقيق شفاف ينظر ما ينفذه صنائعه من تعسف وبطش، وقد أخلى الطريق أمامهم فما استشعروا عاطفة نبيلة، أو أحسوا بواجب قومي، بل صالوا ذئاباً نهمة جشعة وعاثوا أضعاف ما عاث المستعمر الظلوم، وانطلقت المطامع من مكامنها تحتجر وتدخر وكانوا ستاراً لعورات المحتل ومثالبه حتى فضل الناس أن يعودوا إلى العهد الأول فيقابلوا الاحتلال وجهاً لوجه!! إذ رأوا بعد التجربة الأليمة أن افتراش القتال أهون من افتراش الجمر، فأضحت أمنيتهم أن يضعوا الصفاء بأيدهم من جديد، وكانوا يشتكون الجدب والمحول فرأوا من هؤلاء المستوزرين جرادا يستأصل ما بقى من الغصون والأوراق بدل أن يهطلوا غماماً ينعش الأرض ويسقى الزرع ويضاعف الثمر وليس الجواهري سادراً في خياله، بل أنه يضع في يد قارئه الحجة، فيتساءل عن حرية النقد التي كانت تجد مجالها في عهد المستعمر، فلا يرى لها صدى يتجاوب، وينظر إلى السجون والمعتقلات، فيراها تستقبل أضعاف من كانت تستقبلهم قبل ذاك؟ فليذرف الشعر دمعه الغزير على الشرق الكليم، وما يوجه إليه من طعنات قاتلات:
فكم في الشرق من بلد جريح
…
تشكي لا الجروح ولا الضمادا
تشكي بغي مقتاد بغيض
…
تأبى أن يطاوعه انقيادا
فكانت حيلة أن يمتطيه
…
رضيع لبانه فبغى وزادا
صدى للأجنبي ورب قفر
…
أعاد صدى فسر بما أعادا
فكانوا منه في العورات سترا
…
وكانوا فوق جمرته رمادا
تروي من مطامعه وأبقا
…
لهم من سؤر ما ورد النمادا
وكان إذا تهضمه غريب
…
أقام له القيامة والمعادا
فأسلمه الغريب إلى قريب
…
يسخره كما شاء اضطهادا
فبئس منى لمصفود ذليل
…
لو أن يده لم تضع الصفادا
وبئس مصير مفترشين جمرا
…
تمنيهم لو افترشوا قتادا
وكانوا كالزروع شكت محولا
…
فلما استمطرت قطرت جرادا
والشاعر ذو نظرة واعية فاحصة، فهو ينظر إلى أعمال هؤلاء مدركاً عللها وأسبابها، وقد فطن إلى أن المدرسة الاستعمارية التي تخرج المستوزرين في شتى الأمم العربية مدرسة واحدة متفقة المناهج والأساتذة، حتى لكأنها توزع من هؤلاء نسخاً مطبوعة على الشرق، وفي سطور كل نسخة وظروفها ما يتفق ومبادئ الاحتلال وأغراضه، ويتضح هذا بجلاء في قصائد الشاعر، فأنت ترى ما يمثل في العراق نظير ما يمثل في كل قطر شقيق. وسيعرض لنا الشاعر في فرائده رواية محبوكة الأطراف، منسقة الفصول، وقد استمدت أبطالها وحوادثها مما يجري في الشرق الصريع من محن وأرزاء، وهو بعد موفق في مسرحيته، بارع في أدواره إلى حد كبير، وسأدير لك الشريط لتجد في الفصل الأول ما لا يغيب عن ذهنك من ألاعيب الاستعمار في كل قطر منكوب، فأنت أمام مستوزر بغيض يعرف ما يكنه له الشعب من احتقار وازدراء، فيقابل ذلك بالبطش العنيف، والرقابة المليئة بالدسائس والمؤامرات، فإذا أراد أن يختلق ما يبرر فظائعه الآثمة لجأ إلى الدستور فأخضع نصوصه الفضفاضة إلى ما يريد من تعسف وإرهاق، وأوجد الشروح المتكلفة، والتفاسير المموهة، ممهورة بأسماء قانونية يغريها الذهب والمنصب والجاه، فتحيل النهار ليلا والحق باطلا، فإذا وجد الحجة القانونية الموهومة في يده، لجأ إلى المجلس النيابي فبدده في طرفة
عين، وشرد أعضائه الأحرار، وأخذ يتحدث عن الحرية والمساواة والنزاهة، وأجرى انتخابات باطلة زائفة، وقد حشد لها رهطاً من الأنصار والأنسباء، فإن تجاوزهم فإلى فريق وصولي نفعي يروح مع الذئاب ويغدوا مع الرعاة، وبذلك يضمن الحجة الدستورية لبقائه في المنصب، دون أن يغفل أولياء نعمته من المستعمرين، فيسوق إليهم ما يريدون، وفوق ما يريدون، وإن جر على بلده النكال والوبال، هذا الفصل المؤسف من الرواية يمثل في كل قطر نكب بالاستعمار، وإن الشاعر ليبرزه بوضوح إذ يقول على لسان أحد هؤلاء:
اتخذت الورى بالظن أحصى خطاهمو
…
ورحت لدقات المقلوب محاسبا
ولم أر للاثم الفظيع ارتكبته
…
سوى أنني أديت للحكم واجبا
لجأت إلى الدستور في كل شدة
…
أفسر منه ما أراه مناسبا
أكم به الأفواه حقا وباطلا
…
وأخنق أنفاسا به ومواهبا
أهدم فيه مجلسا لا أريده
…
وإن ضم أحراراً غياراً أطايبا
وأبني عليه مجلساً لي ثانيا
…
أضيع ألكاكا عليه رواتبا
وأحشد فيه أصدقائي وأسرتي
…
كما ضم بيت أسرة وصواحبا
فإذا أنهي الفصل الأول من المسرحية أدار الشريط مرة ثانية. فطالعك في الفصل الثاني بفريق من المستوزرين جذبهم الاستعمار إلى موائدهم، وأظهر لهم العطف الزائد والحب الأكيد لبلادهم، ورآهم أهلا لمحالفته على البأساء والضراء، وأبرم معهم وثائق خادعة، ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب، فطار بها الأغراء كل مطار، ورجعوا إلى بلادهم يتشدقون بالعزة والحرية والاستقلال! ويدعون أنهم أنقذوا الوطن من براثن الاستعمار، إنقاذاً مشرفاً يتفق وكرامة البلاد، فإذا حزب الأمر وتغير الوضع الدولي، تنكر الحليف لوثائقه، وسخر بأذنابهم وحلفائه، وأخذ يفسر النصوص تفسيراً مجحفاً ظالما وطالب بحقه كصديق محالف في الانتزاف والاستلاب، وهنا فقط يتيقظ النائمون من رقدتهم فيردون في الوثائق أغلالاً خانقة، وقيوداً ثقيلة مرهقة، فيتنصلون مما اقترفوه، كمولود تحدر من سفاح، ويلصق كل فريق جريمته بأخيه، ويعرف الجميع أن معاهدة الذئب للحمل ماكرة باغية، ولا سبيل إلى مصادقة غريم يهدد صاحبه بالمحق الذريع، ثم يضحك الشاعر من غفلة هؤلاء الذين لا يلمسون بدائه الأشياء فيتخبطون تخبط العشواء، حتى يفجئهم الواقع المرير بما لا
ينتظرون، هذا هو الفصل الثاني من الرواية السياسية المؤلمة وأظن القارئ قد تشوق إلى رؤيته فلينظر في هذه الأبيات
ووضع أمس كلهمو لواه
…
به واليوم كلهموا لواحي
تنصل منه زورا صانعوه
…
كمولود تحدر من سفاح
وذموا أنهم كانوا عكوفا
…
عليه في الغدو وفي الرواح
وتأريخ أريد لنا ارتجالا
…
فآب كما أريد إلى افتضاح
شحنا دفتيه بمغمضات
…
(كأحداق المها مرضى صحاح)
وغلقنا مظاهره حسانا
…
مزغرفة على صور قباح
وأحللناه وهو ضريح شعب
…
محل الوحي جاء من الضراح
نجرعه زعافا ثم نظفي
…
عليه محاسن الشيم القراح
وربة صفقة عقدت فكانت
…
كتحريم الطلاق على النكاح
تدبر في العواصم من مريب
…
خبيث الذكر مطعون النواحي
يفوح الخمر منها في اختتام
…
ويبدو البتر منها في افتتاح
ويسفر نصها المسود خزيا
…
ومظلمه عن الغيد الملاح
وحلف ليست أردى من ذهول
…
أعن جد ينفذ أم مزاح
لنا حق يرجى بالتماس
…
وباطلهم ينفذ بالسلاح
وليست بعارف أبداً حليفاً
…
يهدده حليف بأكتساح
ثم يدور الشريط فيعرض لك المؤلف فصله الثالث والرابع والخامس حتى تنتهي المسرحية الأليمة بانتهاء ديوانه، ولن أجد من نفسي الرغبة في تتبع الفصول وتحللها تحليلاً يرشد إلى كوامنها السياسية، فهذا ما لا يغني عن قراءة ديوان الشاعر، بجزأيه الكبيرين، وبخاصة إذا كان الحديث عن هؤلاء الأوشاب يسجل أكثر قصائد الديوان، سواء أكانت في الرثاء أو السياسة أو الاجتماع، فهم القاسم المشترك في كل ما يجلب الكوارث على البلاد، وقد وصفهم الشاعر بما لا يعد مبالغاً فيه، وصور الحقد في نفوسهم. ورسم القطوب والعبوس والانقباض، وجميع ما يلوح في وجوههم الانفعالات والغضون، وتهكم بثرائهم المغتصب وجاههم الزائف وشهواتهم الجامحة العاصفة، ونظر إلى أوسمتهم اللامعة نظرات
أطفأت ما بها من تألق وبريق، وحسبك أن يقول:
تداول هذا الحكم ناس لو أنهم
…
أرادوه طيفاً في المنام لخيبوا
ورب وسام فوق صدر لو أنه
…
يجازى بحق كان بالنمل يضرب
نشاربه بين المخازي وراقه
…
وسام عليها فهو بالخزي معجب
ولن نترك ما قاله الشاعر في أعداء الشعوب دون أن نشير إلى سخريته الهازئة من أمانيهم الخادعة، وعجبه لغفلتهم ممن يتهددهم من مصير أليم، وترقبه الساعة الفاصلة التي تستيقظ فيها الشعوب النائمة على صوت لجب صاخب يبعث بها التوثب والطموح، فتندفع هائجة إلى فلول الخونة من الأذناب فتدوسهم بالنعال، وتطؤهم بالأقدام، وكم يؤلمك أن يتمنى الشاعر من هؤلاء أن يقتدوا بإنجلترا! فيهادنوا المروءة والرجولة ويحاربوا العقائد والمذاهب، وأنى يكون ذلك، والشعب البريطاني يقظ متوثب، يقدر زعماؤه كرامته وحيويته، أما أذنابهم في الشرق فلا يعترفون بحمية وإباء، فصادروا الحريات، وكمموا الأفواه، فأنطلق الجواهري يقض مضاجعهم، وكشف الأستار عن مثالبهم الفاضحة إذ قال:
ولقد رأى المستعمرون فرائسا
…
منا وألفوا كلب صيد سائبا
فتعهدوه فراح طوع بنانهم
…
يبرون أنياباً له ومخالبا
مستأجرين يخربون بيوتهم
…
ويكافئون على الخراب رواتبا
الشاربين دم الشباب لأنه
…
لو نال من دمهم لكان الشاربا
والحاقدين على البلاد لأنهم
…
حقرتهمو حقر السليب السالبا
ولأنها أبدا تدوس أفاعيا
…
منهم تمج سمومها وعقاربا
شلت يد المستعمرين وفرضها
…
هذى العلوق على الدماء ضرائبا
ألقى إليهم وزره فتحملوا
…
أثقاله حمل الثياب مشاجبا
وأذابهم في الموبقات فأصبحوا
…
منها فجوراً في فجور ذائبا
يتمهل الباغي عواقب بغيه
…
وتراهموا يستعجلون عواقبا
حتى كأن مصائرا محتومة
…
سودا تنيلهموا منى ورغائبا
يتبع
محمد رجب البيومي
رسالة الشعر
حر مقيد وعبد مسيب
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
في الناس عبد قيده رهبة
…
أو رغبة في هذه الفانية
يعيش هجيراه: وا حسرتا
…
لطمعي يا حسرتا لما ليه
يبيت موفورا ولكنه
…
مرزأ قد حرم العافية
معبد إلا لدى نفسه
…
قد أطلقته في الخنا راضية
يرتع في سوآته سائباً
…
كما تجر الكلأ الماشية
وفيهمو حر له همة
…
لكل قيد في الورى قالبه
تعلو على القيد به نفسه
…
تطير في آفاقها العالية
تراه من ذل الورى مطلقا
…
مقيدا من نفسه الآبية
أنعم به مقيدا مطلقا
…
حرية بين الورى غالية
لا يتسع وقتنا للخطب القصار
سمعت بمحفل خطبا طوالا
…
تصاب لها المسامع بالسقام
فقلت: عجبت للخطباء تزجى
…
فسيح القول في ضيق المقام
فكم وقت أضاعوا في كلام
…
سخيف النسج منفرط النظام
فقال محدثي: إنا سمعنا
…
عجيب القول عن أحد العظام:
(يضيق الوقت عن خطب قصار
…
فنرمي بالطويل من الكلام)
عبد الوهاب العزام
بنيتي
إذا تطلعت إلى وجهها رأيت أمي مرة ثانية
للأستاذ أنور العطار
بنيتي عصفورة شادية
…
تلعب في عش الصبا لاهية
بنيتي لحن رقيق سرت
…
في مهجتي أفراحه صافية
يهفو إليها القلب من وجده
…
فتنتشي أحلامه الماضية
بنيتي شعر تغنت به
…
روحي في عزلتها الساجية
بنيتي وحي تلقيته
…
من نفحة عطرية سارية
من عبق الزهر سقاه الندى
…
خمرته العلوية الشافية
ومن نشيد النبع في حقله
…
ومن صلاة الغابة الخاشية
ومن صفاء الجدول المنتشي
…
ومن رؤى الأمسية الحالية
من عودة القطعان مسحورة
…
تصغي إلى شبابه الراعية
والدرب في سكرته حالم
…
يسبح في الأنشودة الشاكية
والقرية السجواء في صمتها
…
مطلة من شوقها رانية
بنيتي أمنيتي في الدنيا
…
ومأملي والبغية الغالية
سريرها يهتز في أضلعي
…
تنام في أعطافه هانية
أيامها مشرقة بالمنى
…
ضاحكة بالبشر والعافية
بنيتي طيف تعلقته
…
من صغري والفتنة النائية
صورة أمي سربت في دمي
…
وانبثقت من طفلتي بادية
بغامها وشوش في مسمعي
…
وطاف في مهجتي الصابية
إذا تطلعت إلى وجهها
…
رأيت أمي مرة ثانية
أنور العطار
الكتب
فن المقابلة. . . مبادئه وطرقه
تأليف آنيت جاريت
للأستاذ محمد عثمان محمد
كثيراً ما يتوقف نجاح الفرد في حياته العامة على قوة شخصيته ومدى تفهمه وإتقانه لفن المقابلة.
فقد يستقبلك شخص يستحوذ عليك أدبه ورقة حديثه فتنجز له في الحال طلبه، وتقدم له ما استطعت من مساعدات، وقد يستقبلك آخر بأسلوب السوقة والدعماء فتنفر منه ولا تحقق له أملا، أو تنجز له طلبا.
كما أن الأخصائي أو القائم بالمقابلة في أية هيئة أو مؤسسة أو منظمة اجتماعية يتوقف نجاحه في عمله إلى حد كبير على هذه الشخصية وعلى مدى تمكنه وإدراكه لهذا الفن كذلك.
ولذا كان ولا يزال للمقابلة شأن عظيم في الدوائر السياسية والمجالات الدولية وفي المنظمات الإنسانية المختلفة التي تقوم بتأدية الخدمات الاجتماعية للأفراد والجماعات وفي مكاتب الاستعلامات وفي المصالح الحكومية وفي البنوك والشركات العديدة وفي المستشفيات العامة وفي المصحات وفي عيادات الأطباء وفي مكاتب المحامين والمحاسبي وفي دور النشر والصحافة وفي غيرها وغيرها.
وقد قام أخيراً المعهد العالي للخدمة الاجتماعية بالإسكندرية مشكورا بترجمة مؤلف قيم يدور حول هذا الموضوع إلى اللغة العربية اسمه (فن المقابلة - مبادئه وطرقة) بقلم الأخصائية الأمريكية آنيت جاريت.
والكتاب من الحجم الصغير، ويقع في مائة وثماني عشر صفحة، وقد تناولت المؤلفة في فصوله السبعة فهم الطبيعة البشرية والحالات النفسية للقائم بالمقابلة وأغراض المقابلة وكيفية القيام بها والأشياء التي نبحث عنها فيها، وأخيرا الظروف الضرورية للمقابلة الحسنة، ثم اختتمت بحثها الممتع هذا بكلمة عابرة موجزة عن (ثقافة الأخصائي) وما يجب
أن يتزود به من معلومات عامة وخاصة حتى يقوم بما وكل إليه من عمل في المؤسسة التي ينتمي إليها على الوجه الأكمل.
وقد يتصفح المتصفح الكتاب فيرى لأول وهلة أن بحثه يدور حول المقابلة من ناحيتها (المهنية) فقط، وأنه ما نشر إلا لينتفع به الأخصائيون والقائمون بالمقابلة في مختلف المنظمات والمؤسسات، ولكنه لو تفكر حقا لوجد أن كل ما جاء في تضاعيفه ما هو إلا دراسة مستفيضة وافية مفيدة للجميع، للأخصائي ولغير الأخصائي.
ومن الملاحظ أن المؤلفة لا تعرض بحثها فيه عرضا سطحيا سهلا، ولكنها تلجأ في أسلوب سلس إلى التركيز فالمناقشة والشرح والتبيين.
أسمعها حين تتكلم عن حوافز السلوك الإنساني (ص 17) فتقرر أن الكثير من سلوك الإنسان يصعب علينا تعليلة، وأننا (. . . قد نفلح في تقديم تبريرات بارعة ولكنها قد لا تجد القبول حتى منا أنفسنا. . .) ثم تعمد إلى الشرح والإيضاح بقولها (. . . أمثال ذلك كيف تستبد بنا ثورة الغضب إذا كان علينا أن ننتظر دقيقة واحدة، على حين أننا نقف في أوقات أخرى في الصف ننتظر دورنا هادئين مدة نصف ساعة!؟ ولم ننزل عقوبة صارمة بطفل ما لأنه ارتكب هفوة يسيرة على حين نتجاوز عن أخطاء له أشد شناعة؟)
ثم اسمعها حين تتحدث في موضوع آخر عن الصراع بين الدوافع (ص 28) قائلة (إننا كثيرا ما نشك فيما قد يصدر عنا من أحكام، وكثيرا ما نعيد النظر كرات فيما اخترناه متحسرين على سابق اختيارنا الذي قد يبدو لنا أننا كنا فيه غير موفقين) ضاربة المثل بالطالب الذي يتخلى عن إخوانه في حفل بهيج ليعود إلى استذكار دروسه استعدادا لامتحان مقبل من أنه (. . . يشعر شعورا قويا أثناء الاستذكار أن هناك قوة تجذبه إلى الحفل، وفي بعض الأحيان قد تكون هذه القوة من السلطان بحيث تغير اختياره فإذا هو مسرع إلى إخوانه، وعندئذ فقط يشعر بصوت الضمير محاولا في يأس أن يجذبه إلى عمله. . . وأيا كانت الرغبة التي تنتصر في النهاية والتي نفسح السبيل لها في حياتنا. . . فإن الرغبة المهزومة لا تموت، ولكنها تثور بين وقت وآخر. . .)
وهكذا لا تتناول نقطة من نقاط الكتاب إلا وتستوفيها شرحاً وتمحيصاً ولقد لفت نظري واستوقفني طويلا قولها في صفحة 46 (. . . وهنك خطأ يسهل الوقوع فيه وهو أن
تعرض على - عميلك - توكيدات غير حقيقية كأن تقول: أنا واثق أنك ستتحسن قريبا أو ستحصل على عمل في القريب العاجل أو سيتهيأ كل شيء على خير ما يرام، فمثل هذه الملاحظات فضلا عن أنها لا تطمئن - العميل - فإنها تسبب له شعورا بالشك في إمكان فهم القائم بالمقابلة للموقف وبالتالي قدرته على المساعدة)
فهل على الطبيب المعالج مثلا أن يصارح مريضه الطريح الفراش المعاني بحقيقة علته إذا كانت مستعصية ولا أمل له في الشفاء منها؟! أليس من الأفضل أن يتذرع بالحكمة فيطرد الوهم القاتل ما استطاع من فكره وأن يوهمه بأن علته هذه التي يشكو منها غير مزمنة ولا هي غير مستعصية. وأنه واثق الوثوق كله من أن حالته بأذن الله ستتحسن قريبا؟!
نعم، ليس من الحكمة ولا من الخير أن يكون المرء في جميع أحواله صادقا، ولا أن يكون في جميع ظروفه كاذبا، ولكنه يجب أن يكون للصدق موضعه، وأن يكون للكذب موقفه ومبرره
ورحم الله شيخ المعرة كم كان صادقا موفقا حين قال في لزومياته:
أصدق إلى أن تظن الصدق مهلكة
…
وبعد ذلك فاقعد كاذبا وقم
محمد عثمان محمد
البريد الأدبي
مفرد شمائل
جاء في مقال شخصية الرشيد للأستاذ أنور الجندي في العدد 991 من الرسالة الزهراء ما يأتي: وتلك شمائل الرجل الفذ: والمعروف أن مفرد شمائل شمال بالكسر بمعنى الخلق والطبع، ولم أعثر على شميلة التي استعملها الأستاذ، ويحضرني قول عبد يغوث:
ألم تعلما أن الملامة نفعها
…
قليل وما لومي أخي من شماليا
كما يحضرني قول لبيد وقد جمع المفرد والجمع في شعار واحد
وهم قومي وقد أنكرت منهم
…
شمائل بدلوها عن شمال
عبد الرزاق عبد ربه
رسالة السينما في تربية الشعوب
إن (للسينما) في بلاد الغرب رسالات لها قدرها في تربية الشعوب، ولها خطرها في النهوض بها، وما من رواية تعرض على الشاشة في تلك البلاد إلا ولها قصة حية، وموضوع قوي، ومعان عظام تأخذ بالألباب. .
إن (السينما) أصبحت هناك وسيلة إلى تربية الشعوب والنهوض بها، وتقويم أخلاقها وبذر بذور المثل العليا في نفوسها ودفعها إلى الأمام نحو الحياة الصحيحة لتصل إلى غاية المجد ونهاية السؤدد، وبذلك أمكنها أن تؤدي لأوطانها خدمات كثيرة جليلة، وأن تكون لها رسالة تنال تقدير الجميع وثقتهم.
أما هنا في الشرق - ولا سيما في مصر - فلم (تصبح السينما) بعد، وبكل أسف إلا عاملا من عوامل الترفيه ليس إلا، يغزوها أفراد الشعب ليشبعوا أنظارهم من المناظر الماجنة، ويرفهوا عن أنفسهم بالنكات الفارغة - وإذا حاولت أن تجد قصة لها مغزاها الاجتماعي أو السياسي أو الخلقي فلن تجد، وبذلك استساغت الطبقة المثقفة أن تنفر من الرواية المصرية متجهة إلى الرواية الغربية تنهل من معانيها وترتوي من مثلها.
إننا لا ننكر أن بعض السينمائيين يتجهون اتجاها سليما في التأليف والإخراج، ويقدمون للشعب المصري زاداً طيبا يرضى عنه الجميع، ولكن هذا الزاد ضئيل الضآلة التي تجعله
ضائعا بين الغث الكثير الذي لا ساحل له.
إن الألم ليملأ نفوسنا حين نجد الشوارع والميادين والصحف تغص بالإعلانات عن روايات، تعال سلم - ما تقولش لحد - أحبك أنت - قبلني يا أبي - لهاليبو - بيت الأشباح - في الهوى سوى. . وما إلى ذلك من الفوضى التي لا حد لها. وكم كنا نود من صميم أنفسنا ألا نقل عن الغرب في هذا الجانب، ولنا من طبيعتنا ما يساعدنا على ذلك، ولنا من أحوالنا ما يجعلنا في مسيس الحاجة إلى القصص الحية ذات المعاني التي تنهض بنا في كل شأن من شؤون الحياة.!
نفيسة الشيخ
الاقتباس من القرآن
. . أعتاد الكتاب والشعراء أن يضمنوا مقالاتهم وكتبهم وأشعارهم بعض آيات من القرآن الكريم. وربما لم تكن هناك أدنى صلة بين المقال والموضوع الذي نزلت الآية من أجله. لذلك عد العلماء هذا النوع من الاقتباس من النوع المحرم الذي ينبغي أن تعاف النفوس مساغه. . وفي ذلك يقول الإمام الحجة أبو عبد الله محمد المعروف بابن قيم الجوزية في كتابه (كنوز العرفان في أسرار وبلاغة القرآن). يقول في مبحث الاقتباس ما يأتي: - (. . . وقد أودعت جماعة من الشعراء وجلة من الكتاب الفضلاء في أشعارهم ورسائلهم وأنواع فصاحتهم التي هي من جملة وسائلهم آيات من كتاب الله تعالى وسموه اقتباس من القرآن. وهذا مما قد نهى عنه جلة العلماء وأفاضل الفقهاء الأتقياء وكرهوا أن يضمن كلام الله تعالى شيئاً من ذلك أو يستشهد به في واقعة من الوقائع كقولهم لمن جاء وقت حاجتهم إليه - ثم جئت على قدر يا موسى - وأشباه ذلك لأن ذلك كله صرف لكلام الله عن وجهه وخروج له عن المعنى الذي أريد به. . فمن التضمين النهي عنه قول عبد الله بن طاهر لأبن السرى حين ملك مصر وقد ورد رسوله وهديته إليه - لو قبلت هديتك نهاراً لقبلتها ليلاً - بل أنتم بهديتكم تفرحون - وقال لرسوله - إرجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون - وأوحش من ذلك وأعظم منه قول الشاعر: -
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف
…
بما جناه وانتهى عما اقترف
لقوله. . أقل للذين كفروا
…
إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
إلى أن قال: هذا وما أشبه مما يعدونه من الفصاحة والبلاغة وهو مما ينبغي أن تعاف النفوس مساغه وهو مندرج في التحريم لما فيه من عدم الإجلال لكلام الله عز وجل والتعظيم. وكيف يليق أن يجمع بين المحدث والقديم؟)
محمود حمدي زقزوق
اقتراح. . ودعوة
بضعة أسابيع أخرى. . وتزف دار الرسالة العدد الألف من هذه المجلة الكريمة.
العدد الألف! أليست تستوقف هذه الكلمة الصغيرة نظر كل قارئ وكل كاتب تصله بهذه المجلة صلة، أي صلة؟ أليست تشير هذه الكلمة الصغيرة إلى المنارة التي رفعتها! سامقة هذه المجلة على شاطئ المفاخر العربية في جهادها الطويل في محيط الأدب والعلم؟
أليست من المفاخر الخالدة في تاريخنا الحاضر أن تواكب الحياة مجلة أدبية جدية كالرسالة كل هذا العمر المديد؟ إن مواكبة الرسالة للحياة لم تكن نزهة خالية إلا من المرغبات والمنشطات والمبهجات. .
لقد كانت مواكبتها للحياة هذه الفترة كلها جهاداً ونضالاً. . كانت تحمل أمانة العلم الخالص، وكانت تضطلع برسالة الأدب الإنساني الحر. . وما أثقله حملاً! وأمانة العلم تبهظ أشد الكواهل! وما أخطرها وظيفة، ورسالة الأدب الحق تهول أثبت الأفئدة!
وكانت تخوض - بما تحمل - من ظروفها أعنف الأمواج، ويناهضها من كل مشاكل جهادها المنزه المجرد أضرى الأنواء. . ومع ذلك فقد أدت الرسالة أماناتها أمثل أداء. . وسمت برسالتها إلى أخلد الآفاق وأمجادها. . يقر بذلك كل قارئ ورد غديرها، ويشهد به كل كاتب وقع على روحها!
فهل تمر بعد ذلك هذه المناسبة السعيدة - مناسبة العدد الألفي - دون أن تستلفت أحد؟!
ألا يجدر بأبناء العربية أن يقفوا هنيهة يحيون فيها هذا المجاهد العظيم في هذه المناسبة العظيمة؟
ألا يقتضينا الولاء قبل الإنصاف أن نسجل للرسالة هذا الفخر الفاخر بكلمة تكتب أو كلمة
تقال؟
إني أقترح على راعي هذه المجلة العظيم الأستاذ الزيات بك أن يخرج من العدد الألفي عدداً ممتازاً. .
وإني أدعو أدباء العربية أن يتبادروا للمشاركة في هذه المأثرة الأدبية النادرة - تحية الرسالة بمناسبة عددها الألفي!
محمد الأرناؤوط
القصص
تجربة قاسية
مترجمة عن الإنكليزية
إن التغير المستمر الذي طرأ على مركز المرأة قد سبب كثيراً من مصائبنا الاجتماعية، ولا تزال الحالة تزداد كل يوم سوءاً وما دامت المرأة ترى واجبها في الحياة أن تكون أماً وزوجة وربة منزل فهي شريكة الرجل في سروره وحزنه وغناه وفقره، ولكنها متى تركت هذا المجال فلا يمكن أن تكون إلا واحدة من اثنتين: إما خادماً للرجل وإما حاكمة له، ومن أجل ذلك كانت أتعس السيدات هن نساء الطبقة التي يدعونها بالطبقة الراقية واللواتي يقضين أيامهن كسالى بليدات ويعهدن بكل واجب من واجباتهن إلى أخريات، فإنهن اقل شعوراً بالسعادة من سائر النساء.
ولقد كانت بطلة هذه القصة من النوع الأخير. . فإنها نشأت وظلت طوال عمرها لا تقدر مسئولية لشيء، فهي تنتقل من يد المرضعة إلى يد المربية إلى معلم الموسيقى والرقص دون أن تشعر في هذه الأدوار إلا بأنها مخدومة، وأن على غيرها واجبات لها وليس عليها لأي إنسان أي واجب.
وتزوجت من رجل متقدم في العمر فمات وهي لم تبلغ الخامسة والعشرين، وقد وجدت نفسها عند موته غنية ذات معجبين كثيرين بجمالها وهي حرة في اختيار ما تريد وترك ما تشاء، فكانت نتيجة حياتها على هذا النمط أن بالسأم وأحست بأن الحياة عبء ثقيل عليها، فكان لذلك كل عملها أن تقتل الوقت كأنما هي لا تريد إلا التخلص من حياتها جزءاً فجزءاً. ولكنها مع هذا السأم من الحياة كانت زينة الحياة وبهجتها في أعين كثيرين، ومن الغلطات الشائعة أن الناس يحسبون أن جميلة العينين وسيمة الوجه تكون حتماً ذات ذكاء يتناسب مع جمالها وتكون ذات روح شعرية.
ولئن كان في السيدات من تجتمع فيهن هذه الصفات فإن صاحبتنا البارونة أديل لم تكن كذلك بل كانت روحها قاتمة مظلمة كانت متوسطة الطول نحيلة شديدة البياض بحيث يظهر في جلدها الناصع لون عروقها الزرقاء. وهي جميلة الوجه والأنف صغيرة الفم وردية الشفتين ذهبية الشعر، ولكن عينيها كانتا أجمل شيء فيها فقد كانت نظراتها الوسنى مثل
نظرات الحالم.
وقد قضت سنوات في الحداد على زوجها تتنقل بين البلدان فزارت إيطاليا وفرنسا الجنوبية وإسبانيا، وكان أحب أماكن الاصطياف إليها جبال التيرول حتى لقد جمعت كل صورها ومناظرها فوضعتها في غرفة استقبالها. وفي يوم من الأيام أرادت أن تتسلق إحدى قممها المكللة بالجليد فلبست ثوباً من الفرو وأمسكت بعصا غليظة وصعدت إلى الجبل قبيل الغروب، فلما وصلت إلى مكان مرتفع منه كانت الشمس قد غابت. ثم وجدت أنها ضلت الطريق وأصبحت محاطة بحفائر مكدسة بالثلج بحيث لا تستطيع العودة ولا الاستمرار في المشي.
وحاولت عبثاً أن تجد لها منقذاً، فرأت من المستحيل أن تتقدم أو تتأخر أو تعلو أو تهبط فاستغاثت بأعلى صوتها، ولكنها لم تسمع غير صدى صوتها فأخرجت من جيب معطفها مسدساً وأطلقته ولكنها لم تسمع غير دوي الطلقات، فخارت قواها وجلست على صخرة بعد أن أزالت ما عليها من الجليد وظلت تبكي. وبعد ربع ساعة مر عن كثب منها رجل يصفر فنادته وكلمته بلهجة لم تتكلم بها منذ سنوات وهي لهجة التوسل والضراعة، وطلبت إليه أن ينقذها فمشى نحوها رافعاً قبعته محيياً باحترام. وعرض عليها مساعدته فشكرته شكر الضارع الخاضع ورأت من ثيابه ومن الأسلحة التي يحملها أنه من هواة الرياضة والصيد. ودلتها هيئته على القوة والإعجاب.
قال لها: (اسمحي لي أن أحملك)
فقالت: (أخشى أن اسبب لك تعباً كثيراً)
قال: (لا داعي إلى مثل هذا القول)
ثم حمل البارونة بين يديه فشعرت وهي محمولة بشعور غريب لم تجربه من قبل. وكانت أنفاسه الحارة تدفئ خديها فتسائل نفسها أي شعور هو الذي تجده في نفسها في هذا الوقت، هل هو الحب؟
فلما وصل بها إلى الفندق الذي تقيم فيه شكرته ودعته إلى زيارتها ووعدها بأن يرافقها في فرصة أخرى إلى جبال التيرول. . وسألته عن اسمه فقال أنه فرديك فون فاردورف.
قالت: (أنت ذلك الروسي الشهير؟ لقد سمعت اسمك يتردد كثيراً في الأوساط العالية)
فأخبرها فاردوروف بأنه من أسرة ألمانية تنتمي إلى أصل روسي، وأن ضياعه في كونترلاند ولكنه لم يزرها منذ سنوات لأنه كان في العهد الأخير يزور بقاعاً مختلفة من الأرض.
وفي اليوم التالي زارها فاردوروف ودار الحديث عن زياراته لأمريكا الجنوبية وأفريقيا الشمالية وقرأ لها قصة أو قصتين من قصص إيفان ترجنيف. وكانت تصغي إلى حديثه متلذذة وتدعوه إلى تكرار زيارته فكررها. وصارت بعد ذلك تخرج معه إلى جبال التيرول وإلى غيرها من المتنزهات وتدعوه للعشاء كل ليلة فأخذ الناس يتحدثون عن علاقاتهما وعن احتمال زواجهما قبل أن يتم التفاهم على شيء من ذلك.
وفي ليلة من الليالي كانا جالسين معاً في المنزل فقالت إديل
(إننا سنفترق سريعاً يا فاردوروف) فقال: (لماذا؟)
قالت: (لأنني تغيبت عن المنزلي طويلا وأريد العودة، فهل تزورني هناك؟) فقال: (ما الذي تعنين؟ هل تحبين ألا أزورك)
قالت: (ما الذي تعنيه أنت؟ إنني أتأثر كثيراً إذا ابتعدت عنك) فقال الروسي بلسان متلعثم: (هل تسمحين؟. . . ألا يغضبك. . .؟)
قالت: (تكلم! ما الذي يمنعك من الكلام) فقال: (إنني أحبك يا إديل)
فأطالت البارونة التحديق في وجهه فقال: (لا تمنعيني عن الكلام حتى أقول كل ما أريد)
قالت: (ولكنني لم أعد أؤمن بالحب) فقال الروسي: (أعرف ذلك ولم أعلل نفسي قط بأنك ستجازينني على حبي بمثله ولكنك قلت لي مراراً إنك تعيشين بغير غرض ولا تسرين من أي بواعث السرور فعيشي معي زوجة لي وأنا الكفيل بأن ينشأ في قلبك ميل لي بعد الزواج)
فنظرت إديل نظرة شاردة من النافذة دون أن تجيبه بأي جواب وسكت الروسي لحظة ثم قال. . (قرري يا سيدتي بكلمة منك إما حياتي وإما موتي)
فأجابته وهي تبتسم: (الحياة أو الموت؟)
قال: (نعم إنني أعني ما أقول فإني أفضل الموت إذا لم تحبيني. .
فقالت المرأة التي لا قلب لها: (هذا مجرد تعبير)
قال: (كلا ولكنها الحقيقة فاختاري لي الحياة أو الموت)
فقالت: (إنني سأعطيك مهلة عام فإذا لم تستطيع في خلالها إقناعي بأنك تحبني حقيقة وإذا لم تستطيع أن تبعث في نفسي عاطفة الحب نحوك فإني سأقضي عليك بأن تقتل نفسك)
قالت ذلك ثم بدأت تضحك ضحكاً عالياً فقال الروسي وهو عابس مقطب: (إذا حكمت بعد انقضاء العام بأنه لا أمل في الحياة معك فإني أفعل كما تريدين ولكن يكون لي عندك رجاء آخر)
قالت: (ما هو؟) فقال: (أن تقتليني أنت)
قالت: (لك ذلك) فقال: (ولكن هل تستطيعين؟)
فقالت: (ولم لا؟ أنه يستوي عندي أنه يستوي عندي أنا أن تقتل عندي نفسك من أجلي أو أن أقتلك بيدي) فقال الروسي: (إذن فما هديني على أنه بعد انقضاء العام إما أن تقتليني أو تتزوجي مني)
قالت: (أعاهدك على ذلك ولكن يجب أن تتذكر أنت أيضاً تعهدك عند انقضاء العام وألا تنتظر مني رحمة)
فقال: (لا وسط بين الحالتين فإما أن تكوني لي وإما أن أموت)
ومد كلاهما يده إلى الآخر فتعاهدا على ذلك
ومضى العام وهما يعيشان معاً في منزلهما بفينا وكان الليل ساجياً من ليالي الربيع الجميلة وهي جالسة على نمرقة بجانب الشرفة وهو جالس عند قدميها فقالت: (هل نسيت)
قال: (نسيت ماذا؟) فقالت: (هل نسيت عهدنا؟ إن اليوم موعده) فعرت جسم الروسي رعشة باردة وقالت له همساً: (أدن مني وأخبرني ما هو رأيك اليوم قي تعهدك قبل أن تسمع حكمي)
قال: (إنني أرتعش. . .) فقالت: (إذن فاسمع الحكم: (إنك قد أقنعتني بأنك تحبني فليس عندي شك في ذلك. . .)
وهنا ارتمى الروسي على قدميها ليقبلها فقلت: (لا تتسرع فإنك لم تسمع بقية الحكم)
فقال: ما الذي تعنين؟ فقالت: (إنك أقنعتني بأنك تحبني ولكنك لم تستطع أن تجعلني أحبك)
قال: (ما أشد قسوتك يا إديل!)
فقالت: (إنني أكلمك كلاماً صريحاً شريفاً)
قال الروسي: (أنا عند حكمك إذن فاقتليني)
فقالت: (هكذا سأفعل فإني ذاكرة عهدي. وروحك الآن في يدي ولن أتركها هبة لك. إنني لا أحب ولكنني أريد أن أكون محبوبة وأن يحبني من يحبني فيموت تحت قدمي وأنا أنظر إليه نظرة احتقار)
قال: (هل تجدين فيما تقولين؟) فقالت: (ألا تصدق؟ هل حبك لنفسك أكثر من حبك لي؟) قال: (كلا كلا: وإني مستعد للموت) فقامت وعادت وفي يدها زجاجة صغيرة مملوءة بسائل أسود وقالت: (إشرب هذا).
فتناولها وقال: أشرب في حبك يا إديل ثم قال: (ناوليني يدك فإن قواي تخونني).
ثم أظلمت الدنيا في عينيه. وبعد ساعتين أفاق فوجد رأسه على حجرها وهي تنظر إليه وعلى وجهها ابتسامة دالة على السعادة
قال: (ما الذي حدث؟) فنادته باسمة بصوت عذب فقال: (هل أنا أحلم الآن؟ ألم أمت؟) قالت: (كلا وستعيش وستكون لي زوجاً فإني أحبك كما تحبني) فقال: (وماذا كان السائل الأسود الذي في الزجاجة؟ ألم يكن سماً؟)
قالت: (كلا، ولكنه مخدر) فقال: (لماذا؟)
قالت: (لكي أجربك) فوقف الروسي مسرعاً وقال: (تقولين إنك تحبيني؛ ولكنك مع ذلك تتركيني أقاسي أشد الآلام بقصد اللهو والتسلية. إن المرأة التي تفعل ذلك لا تستطيع أن تملك قلبي) قالت إديل بصوت الخائف: (ألم تعد تحبني يا فاردورف؟ ما الذي جعلك تتغير هذا التغير الفجائي؟ ألم تعد تحبني؟) فقال: (إنني لا أحبك الآن ولن أحبك في المستقبل، وداعاً!)
فطوقت إديل عنقه بذراعها وقالت: (أستحلفك بحق السماء ألا تجعلني أتعس إنسانة في الوجود) فقال: (أنت التي أتعستني وأتعست نفسك. وداعاً)
قال ذلك ثم تخلص منها فارتمت على قدميه ولكن ذلك لم يفد وأظهر قوة إرادته فخرج مغضباً
ولما جاءت الخادمة وجدت إديل مستلقية على الأرض جثة هامدة
ع. ق