الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 995
- بتاريخ: 28 - 07 - 1952
نقطة البدء
للأستاذ سيد القطب
لقيني الأستاذ الأديب الشاعر محمد فهمي وقد قرأ مقالي الأخير في الرسالة بعنوان: (إلى النائمين في العالم الإسلامي) فقال في شيء غير قليل من الحدة والضيق: لمن تكتبون هذا الكلام؟ وما قيمة توجيهه إلى شعوب كاملة من الأميين الذين لا يقرءون ما تكتبون؛ والقلة القلية التي تقرأ لا تملك أن تصل بكتلة الشعوب، لأنها شعوب جاهلة لا تدري شيئا مما حولها، ولا تستطيع شيء حتى لو درت، لأن الحياة في هذا العصر تريد شعوباً متعلمة وإلا فالموت والذل للأميين. . .
واستمعت إلى ثورته. . إن فيها كثير من الحق. وإن كان لهذا الحق بقية هي التي أردت أن أعرضها للناقد الثائر، لولا أنه لم يمهلني. لقد ارتفع صوته بالسخط، وأنا لا أريد أن أسترسل في مناقشة الساخطين الثائرين!
نعم. نحن في حاجة إلى توجيه حملات ضخمة لنشر التعليم في العالم الإسلامي كله نشراً سريعاً في خطوات جازمة حازمة، لا تسير بخطوات السلحفاة، نحن في حاجة إلى توجيه هذه الحملات لا إلى اليمن مثلاً حيث يحارب التعليم كما تحارب المخدرات، أو أشد وأعنف، لأن المخدرات هناك لا تقاوم، ونبات (القات) المخدر يزرع في كل مكان، ولا تفكر الدولة في مقاومته كما تفكر في مقاومة التعليم، ولا تطارده كما تطارد المتعلمين!
ولا إلى الحجاز ونجد حيث لا تبلغ ميزانية التعليم كلها ربع ميزانية فرد؛ ولا ينفق عليه عشر ما ينفق على السيارات والكماليات والعطور.
ولا إلى بلاد الشمال الإفريقي حيث يقف الاستعمار سداً في وجه الثقافة، حتى لتعد الكتب والمجلات محظورات، تهرب داخل طرود سرية، خيفة أن تثير شبهات الجمارك والبريد!
نحن في حاجة إلى توجيه تلك الحملات لا لمثل هذه الأصقاع في العالم الإسلامي، بل إلى مصر التي تعد أكثر بلاد العالم الإسلامي تقدماً من هذه الناحية، إذا استثنينا لبنان، ونسبة التعليم فيها أكثر ارتفاعاً.
نعم في حاجة أن نوجه تلك الحملات إلى مصر التي تعطي وكلاء الوزارات والمديرين العامين بدل سيارات، يتراوح شهرياً بين ثلاثين وأربعين جنيهاً ثم تخفض ميزانية التعليم
إلى الثلث بحجة التقشف! مصر التي تبعثر معظم ما تملكه من العملة الصعبة في شراء السيارات الفاخرة ثم لا تجد ما تشتري به مصانع أو آلات زراعية ميكانيكية أو آلات صناعية، أو حتى أدوات صحية، لأن ما لديها من العملة الصعبة محدودة! مصر التي يتعطل ثلاثة أرباع سكانها عن العمل، لأن مرافق العمل فيها محدودة ولا تملك توسيع مرافق العمل هذه، لأن ميزانيتها تحوي ملايين الجنيهات لشراء أثاث فاخر، وشراء يخوت فاخرة، وحضور ولائم ومؤتمرات ونزهات للمحظوظين!
لقد قال لي محدثي الثائر: دعوا الاستعمار لا تحاربوه الآن. نحن لا يهمنا أن يكون في أرضنا مليون من الجيوش الاستعمارية. إذا كان لدينا عشرة ملايين فقط من المواطنين المتعلمين. إن ألمانيا بالجيوش الروسية والأمريكية والإنكليزية والفرنسية، ولكن الجميع يترضونها، لأن الشعب الألماني شعب متعلم، لا يمكن أن تحكمه جيوش المستعمرين. .
وقال: دعوا الكفاح الاجتماعي لتعديل الأوضاع الاقتصادية - وحتى الدستورية - فهذه الأوضاع التي تشكون منها ستعدل نفسها بنفسها يوم يستحيل الشعب المصري أو أي شعب عربي أو إسلامي إلى شعب متعلم. .
كنت أريد أن أفهم محدثي أن هذا كله صحيح، ولكن هنالك أشياء أخرى يجب أن تكون في الاعتبار. لولا أنه لم يترك لي فرصة للكلام؟
نعم. إن الاستعمار لا يملك أن يعيش في بلد متعلم. . نعم إن الحرمان لا يمكن أن يدوم في شعب متعلم. . نعم إن الطغيان لا يمكن أن يقوم في وطن متعلم. . نعم. كل هذا صحيح؛ ولكن بقي أن نعرف: من هو الشعب المتعلم؟ ومن هو الفرد المتعلم؟
إنني أومن بقوة المعرفة. أومن بقوة الثقافة. ولكني أومن أكثر بقوة التربية. . .
إنني أنظر في تاريخ الاستعمار، فلا أكاد أجد له إسنادا إلا من المتعلمين. . كل الرجال الذين قدموا للاستعمار خدمات ضخمة. الذين مهدوا للاستعمار ومكنوا له. الذين كشفوا له عورات البلاد ومقاتلها. الذين تولوا عنه تحطيم معنويات الوطن وقواه الكامنة. الذين جعلوا أنفسهم ستاراً لمساوئ الاستعمار ومخازيه. . كلهم. . كلهم كانوا من المتعلمين!
كذلك كان الذين مهدوا للطغيان وأعانوه استمرءوا سلطان الجبابرة وهم يؤدون ضريبة الذل والعبودية الذين استغلوا النفوذ للإثراء على حساب الشعب. الذين أفسدوا ضمير الشعب
بالمحسوبية والرشوة والسرقة والغش. الذين خانوا الوطن والأمانة والخلق والضمير. . كلهم كانوا كذلك من المتعلمين!
نعم. إنه لو كانت الشعوب أو كثرتها من المتعلمين ما أمكن للسماسرة أن يسلموا البضاعة بهذا اليسر وهذه السهولة. هذا صحيح. ولكنه صحيح كذلك أن (الصنف) المتعلم الذي تخرجه المدارس في بلادنا اليوم، ليس هو الذي يقف في وجه التيار، وليس هو الذي يستعصي على السماسرة، بدليل أن كثرته يجرفها تيار العبودية والذل والفساد، دون أن ترفع رأسها، ودون أن تدافع عن كرامتها، بل عن إنسانيتها. . إن أنشودة (أكل العيش) هي النشيد القومي للجميع! وأكل العيش ممكن في ظلال الكرامة لو أرادها الجميع.
إن التعليم الذي نزاوله في مصر، ومعظم البلاد الإسلامية، تعليم فاشل، بل تعليم قاتل. إنه تعليم بلا تربية، بل تعليم يكافح التربية. إن المدارس والجامعات تخرج لهذه الأوطان فتاتاً آدمياً وحطاماً بشرياً. تخرج له عبيداً. نشيدهم القومي الخالد هو أنشودة (أكل العيش)!
لست أنكر على الشباب المتعلم أن يطلب رزقه، فالحياة لا بد أن تعاش. والمال عصب الحياة. بل لست ألوم هذا الشباب المتعلم، فلو وجد هذا الشباب أجيالاً من الأساتذة الصالحين، وتقاليد من النظم الصالحة، لكان أفضل شباب الأرض. ولكني أقرر الحقيقة المؤلمة، حقيقة أن معاهد التعليم في مصر كلها وفي معظم البلاد الإسلامية الأخرى. . لا تخرج رجالاً أحراراً بقدر ما تخرج عبيدا أرقاء. ولا تخرج شخصيات متماسكة بقدر ما تخرج فتاتاً آدمياً وحطاما بشرياً. . . إنها معاهد خاوية من الروح. . وهذا مفرق الطريق.
إن نظم التعليم وخططه ومناهجه وكتبه. . وأخشى أن أقول أساتذته. . لا يمكن أن تخرج رجالا أحراراً مفكرين مستنيرين. إلا الشواذ الذين يكافحون الجهاز التعليمي كله ويخرجون من براثنه سالمين.
ولقد كان ذلك قائما قبل تلك الفوضى الأخيرة، التي سميت (مجانية التعليم). إن التعليم كان يجب أن يكون بالمجان. وكل بلاد العالم المتحضر التعليم العام فيها مجان. ولكن المجانية شيء والفوضى شيء آخر. والذي حدث والذي تحقق هو الفوضى. أما المجانية فليس فيها قولان فقط، بل عدة أقاويل!
لقد كان الآباء يدفعون عشرة جنيهات للمدرسة الابتدائية أو عشرين جنيهاً للمدرسة الثانوية؛
فتقوم عنهم بتعليم أبنائهم، ذلك التعليم الخاوي من المثل الخاوي من الروح. . فأصبحوا اليوم مكلفين - من استطاع ذلك منهم - أن يدفعوا للدروس الخصوصية عشرين أو ثلاثين أو خمسين جنيهاً ليحصلوا لأبنائهم على النجاح في الامتحانات، لا عن طريق التعليم الخاوي من المثل الخاوي من الروح. بل عن طريق اطلاعهم على أسئلة الامتحان وتيسير الغش فيه!
إنها الكارثة. الكارثة المضاعفة التي تربي على ما كنا فيه
إن التعليم الذي نزاوله، والذي كنا نزاوله قبل حكاية المجانية الزائفة؛ ليس هو الذي يؤدي إلى كفاح الاستعمار، وكفاح الطغيان، وتعديل الأوضاع الاجتماعية المخلة بكرامة الإنسان. .
إن التعليم لكي يؤدي مهمته هذه يحتاج إلى تعديله من أساسه. . ومما يؤلم النفس إن هذا التعديل لا يحتاج إلى مال غير الذي ننفقه. وقد لا يحتاج إلى رجال غير الذين يزاولون اليوم مهمة التعليم. ولكنه يحتاج فقط إلى إيمان بهذا التعديل الشامل، وإلى عقليات قليلة ناضجة تشرف على التنفيذ. .
أم لعلني أمام عقدة العقد، وأنا أحسبها من الهين اليسير؟!
ألم أحاول مرة أن أغير نظام دراسة اللغة العربية ليقام على أساس سليم عام 1943 ففشلت. وكان الأمر يومها متروكاً إلى سعادة المستشار الفني الدكتور طه حسين؟!
ألم أحاول مرة أن أغير نظام دراسة التاريخ ليقام على أساس سليم عام 1947 ففشلت وكان الأمر يومها متروكاً إلى معالي الوزير المعارف الدكتور عبد الرازق السنهوري؟!
ألم أحاول عشرين مرة - بعد عودتي من البعثة إلى أمريكا - أن أنشئ لوزارة المعارف أداة فنية صحيحة، تقيم نظم التعليم ومناهجه على أساس سليم، ففشلت في هذه المرات كلها فشلاً ذريعاً؛ لأن المراد في هذه المرة كان إصلاحاً في الصميم؟!
لقد أفلح الاستعمار في تطعيم عقلية وزارة المعارف بالميكروب الثابت. . إنه يبدو دائماً في صورة كبار الموظفين!
نعم يجب أن ينتشر التعليم؛ ولكن أي تعليم؟ يجب أن يقوم هذا التعليم على أسس ثقافية سليمة، وعلى أسس تربوية سليمة. نعم وينبغي أن تكون له مثل، وأن تكون به روح.
وإلى أن يقيض الله لوزارة المعارف رجالا يؤمنون بهذا ويقدرون في الوقت ذاته على مقاومة الميكروبات الاستعمارية الكامنة في وزارة المعارف، في صورة كبار الموظفين!
إلى أن يقيض الله لوزارة المعارف أولئك الرجال، فليس أمامنا لمكافحة سموم الأجهزة التعليمية الحاضرة إلا المحاضن الخاصة، التي تتلقف الشباب الضائع، والحطام المفتت، فتعيد صياغته في قوالب جديدة سليمة، وفي جو روحي نظيف. لترد هذا الشباب الضائع الحائر رجالا كراماً على أنفسهم، كراماً على أوطانهم، كراما على ربهم. . .
وهذا ما يحاوله. . الإخوان المسلمون. .
سيد قطب
من المعارك الأدب السياسي
للدكتور عمر حليق
في الأوساط الاشتراكية في بريطاني هذه الأيام جدل حول تفسير المبادئ الاشتراكية التي يؤمن بها حزب العمال - أحد الحزبين الرئيسين اللذين يتنازعون الحكم هناك
ويتخذ هذا الجدل معركة فكرية سلاحها الكراريس والنشرات والمقالات التي ينشرها كهنة الحركة الاشتراكية في مجلاتهم الأسبوعية وحلقاتهم الأدبية التي يكثر انتشارها في مراكز النقابات العمالية وأوساط الثقافة والفن في الجامعات ومعاهد العلم
والمحرك الأكبر لهذه المعركة الفكرية هو المستر (أورين بيفان) - قطب من أقطاب حزب العمال نبت في (العشش) المزرية البائسة التي تتاخم مناجم الفحم في مقاطعة ويلز ولم يتلقى من التعليم المدرسي إلا مبادئه وثقافته عصامية تتلمذ فيها على الكتب والبحوث التي توفرها للطبقات الفقيرة في بريطانيا المكتبات الحكومية الدوارة بحيث تقدم الغذاء العقلي للباحثين عن الحقيقة من الذين حالت ظروف المعاش بينهم وبين التتلمذ على الأساتذة في معاهد العلم الرسمية. واستطاع المستر بيفان بفضل عصاميته الثقافية أن يرتفع من أقبية المناجم ومجتمعها العليل إلى مركز مرموق في الحركة العمالية، ومن ثم إلى قبة البرلمان؛ فالوزارة التي استقال منها في العام المنصرم (قبل أن تفشل وزارة العمال في الانتخابات الأخيرة) إعلاناً عن سخط لسوء اجتهاد زملائه من أقطاب الوزارة في تفسير وتطبيق المبادئ الاشتراكية التي يدين بها الحزب
فحزب العمال البريطاني يستند في قوته السياسية إلى عنصرين أحدهما: نقابات العمال التي تضم ملايين الناخبين من الأيدي العاملة، وثانيهما نفر من المثقفين لا ينتمون في محتدهم ونشأتهم إلى طبقة العمال؛ وإنما اعتنقوا المبادئ الاشتراكية وانضموا إلى الحزب الذي يمثلها في الحياة السياسية للبريطانية، وهؤلاء المثقفون يشكلون الدماغ المفكر للحزب. وهم يفهموا الاشتراكية كما وضع أساسها المفكرون الإنكليز ولا يعترفوا بأن تعاليم ماركس ولينين وستالين التي تطبق في روسيا اليوم هي السبيل الوحيد لتحقيق العدالة الاجتماعية في بريطانياً وهذا لا يعني أن الاشتراكية البريطانية خالية تماماً من نظريات ماركس؛ وإنما تحرص الرؤوس المفكرة وراء الحركات الاشتراكية في بريطانيا أن تطبعها بطابع
بريطاني فتتعمد أن تعزز نظرياتها بالبحوث الاقتصادية والاجتماعية والفلسفة السياسية التي سجلها المصلحون البريطانيون في معالجاتهم لمساوئ الثورة الصناعية التي قلبت أوضاع المجتمع البريطاني في القرن الثاني عشر
وينفرد (أورين بيفان) من بين أقطاب حزب العمال بأن يجمع في شخصيته مزيجاً من كلا العنصرين. فقد وفر له عمله في المناجم وتنظيم النقابات خبرة ثمينة وفهماً صادقاً لعقلية العامل البريطاني وحاجاته ومطالبه وحقوقه وواجباته. وكذلك استطاع المستر بيفان بفضل دراسته العميقة للاشتراكية البريطانية أن يجاري أقرانه من المثقفين من قادة حزب العمال الذين انضموا إلى الحزب برغم أن تربيتهم الجماعية التقليدية ونشأتهم في أوساط مترفة محافظة كانت تؤهلهم إلى غير ما اختاروه من معتقدات اشتراكية ونشاط سياسي يعنى بمشاكل الطبقات الفقيرة التي كانت تفصلهم عنها ستائر كثيفة من الفوارق الاجتماعية والفكرية والمصالح الذاتية
والمشهور عن الأدب السياسي في بريطانيا أنه شغوف ينشر البحوث القصيرة الموجزة لمشكلة من مشاكل الساعة في كتيب أو كراس أو مقال مدروس يظهر في نوع خاص من المجلات البريطانية تحرص على أن تعالج السياسة ودقائقها معالجتها لفنون الأدب وألوان الثقافة العامة
والجدل الذي يدور هذه الأيام بين أنصار المستر بيفان ومعارضيه في حزب العمال يتبع هذا التقليد البريطاني في الأدب السياسي. فقد أصدر الطرفان في الأشهر الأخيرة عدداً من الكراريس والنشرات والمقالات تشرح وجهات نظرها على أرفع ما يكون الأدب السياسي من نقاوة وعمق وتدقيق
فللمستر بيفان مجاله الخاص في مجلة (تريبون) التي تحررها زوجته، وكل مقال أو كتيب ينشره هذا القطب السياسي يولد صدى أبعد وأوسع من العدد المحدود من بيع المجلة أو الكتيب، امتد هذا الصدى في الآونة الأخيرة إلى درجة أزعجت المستر أتلي رئيس حزب العمال وزملاءه من أدمغة الحركة الاشتراكية البريطانية الذي اتخذ المستر بيفان سياستهم وآرائهم هدفاً لنقده العنيف. ولم يجد المستر أدلي وجماعته بداً من أن يواجهوا تحدي المستر بيفان بنفس السلاح فتألفت من بينهم جماعة من الكتاب السياسيين أطلقت على
نفسها اسم (الاتحاد الاشتراكي) واختارت البرفسور (آلان فلاندرز) أستاذ العلاقات الصناعية في جامعة أكسفورد رئيساً لها، وأخذت تكيل للمستر بيفان الصاع بالصاع. فلما أصدر المستر بيفان كتابه الهام (بدلاً من الخوف) أصدرت الجماعة كتيباً بعنوان (مقالات فانيانية (اشتراكية) جديدة) ولما رد عليها بيفان بمقال بليغ في مجلة (تريبون) أسرعت الجماعة فأجابت بكراس عنوانه (الاشتراكية: بيان جديد عن مبادئها) وضع مقدمته المستر أتلي رئيس حزب العمال
وقد خلق هذا الحوار لوناً من المتعة العقلية للذين يتابعون الأدب السياسي في بريطانيا - وهو لون من الأدب يحرص على بلاغة التعبير ومتانة الأسلوب وروعة الفن حرصه على عمق الدراسة وقوة المنطق وسلامة التفكير
والحوار بين قادة حزب العمال ورؤوسه المفكرة لا يقتصر على السياسة الداخلية للحزب وعلى علاقة بريطانيا الخارجية مع خصومها وحلفائها، وإنما يمس نواحي هامة من تيارات الفكر السياسي في حاضر الثقافة البريطانية؛ وهي ثقافة محافظة تمر الآن في مرحلة هامة تواجه فيها لوناً من التطرف الفكري يعبر عنه المستر بيفان ومشايعوه في الرأي وهم جماعة لها وزنها في الحياة السياسية وفي أوساط الأدب والفن كذلك
فهذا الرجل وآراؤه عنوان للتطور الفكري في عقل ثوروي يحرص على تغير الأوضاع على أسس اشتراكية بأن العنف والثورة المسلحة هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق العدالة الاجتماعية والواقع أن الحركة الاشتراكية في بريطانيا كما يؤمن بها ويعمل على تطبيق مبادئها حزب العمال تختلف في هذه الناحية اختلافاً جوهرياً عن الحركات الاشتراكية الأوربية، وهي حتماً تختلف عن اشتراكية السوفييت والدول الشيوعية الأخرى
وهذا الطابع السلمي للاشتراكية البريطانية هو الذي مكنها من أن تكسب ثقة خصومها المحافظين الذين دعوها إلى الاشتراك في الحكم إبان الحرب العالمية الأخيرة، وأن تستخلص منهم الحكم في سنوات ما بعد الحرب، وأن تشاطرهم السلطة التشريعية في البرلمان البريطاني حتى بعد أن أفلتت من يد العمال السلطة التنفيذية (الوزارة) إثر انتخابات العام المنصرم. وقد استطاع العمال الاشتراكيون في بريطانيا أن يحققوا هذا النصر المتتابع دون أن يلجئوا إلى إراقة نقطة واحدة من الدم أو أن يعصفوا بالحياة
الدستورية أو يعبثوا بالكيان الاقتصادي بالإضرابات وما إليها من الوسائل التي لجأت إليها الحركات الانقلابية الأخرى اشتراكيو أم شيوعية في أوربا الغربية الشرقية واليوم يجد نفر من أصحاب الرأي المسموع في حزب العمال البريطاني يرأسهم بيفان أن هذه الثورة السلمية التي حقق بها الاشتراكيون في بريطانيا خلال السنوات التي سيطروا فيها على الحكم جزءاً من المبادئ التي وضعوها تأسيساً للعدالة الاجتماعية. ولكن هذه الثورة السليمة لم تمكنهم من أن يحققوا الجزء الأهم من هذه المبادئ. فكيف السبيل إذن لتحقيقها الآن وقد فقدوا السلطة التنفيذية بعد أن فاز تشرتشل وحزبه المحافظ بسدة الحكم.
وأمعن المستر بيفان النظر في صلب هذه المبادئ فوجد أن أقرانه في قيادة عندما كان لهم قد تساهلوا في اتباع الخطوط الجوهرية لهذه المبادئ، فساوموا المحافظين على بعضها. فبدلاً من أن يصروا على توجيه الجزء الأكبر من ميزانية الدولة لتنفيذ مشاريع الضمان الاجتماعي ورفع مستوى الطبقات العاملة ومكافحة البطالة وإعادة التبادل التجاري مع روسيا والصين الشيوعية، وعوضاً عن أن يمعنوا في تأميم الصناعات والمنشآت الاقتصادية الكبرى ويقيدوا أرباح أصحاب الدخل الواسع، وبدلاً من أن يربطوا علاقاتهم مع مناطق النفوذ البريطاني على أساس سياسي واقتصادي جديد يضمن لبريطانيا صلات اقتصادية وأسواقاً تجارية سليمة بدلا من أن يعمل المستر أتلي وجماعته على تبعيد هذه الخطوط الجوهرية امتثلوا لضغط المحافظين ومن ورائه إغراء أمريكا المادي وضغطها السياسي والاقتصادي فتأثرت من جراء ذلك مشاريع الضمان الاجتماعي وبقي مستوى الطبقات العاملة على حالته الكئيبة. ولم يحرص البريطانيون (عمالا ومحافظين) على صيانة تجارتهم الخارجية إزاء المنافسة الأمريكية والألمانية واليابانية ففقدت بريطانيا كثيراً من أسواقها التقليدية. وانتقد المستر بيفان تقاعد بريطانيا عن تعزيز صداقتها مع الصين الشيوعية لتحتفظ بالسوق الصينية الكبيرة كمصرف المنتجات البريطانية وإعادة التبادل التجاري بين بريطانيا ومنطقة النفوذ السوفيتي في أوربا الشرقية. ووجد المستر بيفان أن هذا التصور في مصادقة الروس وحلفائهم، وأن انسياق بريطانيا في الامتثال لسياسة أمريكا العدائية لروسيا السوفيتية وما خلقه من سباق التسلح. كل هذا أثر في وضعية بريطانيا الاقتصادية والسياسية فكانت النتيجة أن ناصرت بريطانيا الفرنسيين في حروبهم
الاستعمارية في الهند الصينية وفي المغرب العربي، وعجزت المصانع البريطانية عن أن تجد لمنتجاتها أسواقا فعمت البطالة في مصانع النسيج في لانكشير، وعجزت المنشآت الصناعية البريطانية الأخرى عن تزويد زبائنها في آسيا وإفريقيا وأوربا اللاتينية بما يحتاجون إليه من آلات ومعدات بعد أن استأثرت برامج التسلح البريطاني بالجزء الأكبر من الحديد والمواد الخام.
وبسبب هذا التطور في وضعية بريطانيا الاقتصادية وبفضل امتثالها لإغراء أمريكا المادي وضغطها السياسي فشلت الاشتراكية البريطانية في تنفيذ إصلاحاتها الاجتماعية وفشلت بريطانيا في إنقاذ نفسها من شبح الإفلاس الاقتصادي والتدهور السياسي الذي أخذت تنحدر إليه في الآونة الأخيرة.
ولم يكتف المستر بيفان بالنقد وإنما رسم لحزبه والمجتمع البريطاني الأكبر برامج جديدة للخروج من هذه الورطة؛ فأشار في كتابة (بدلا من الخوف) أن لا تنساق مع أمريكا في إصرارها وعزمها على القضاء على النظام الشيوعي في روسيا والصين؛ وتهيئة الحرب اللازمة للمعركة الفاصلة.
وبفيان لا يؤمن بالشيوعية السوفيتية ولا يرغب في أن يجعل السياسة البريطانية مرتبطة بها. ولكنه مع ذلك يعتقد بأن في العالم مجالاً واسعاً لجميع الأنظمة السياسية. فهو لا يرى بأساً من أن تعيش روسيا بنظامها الشيوعي المطلق في نفس العالم الذي تعيش فيه أمريكا بنظامها الرأسمالي وبريطانيا بنظامها الاشتراكي واسكندنافيا بحركاتها التعاونية. وهو يعتقد أن روسيا لا ترغب في حرب جديدة ويستشهد على هذا بأن إنتاج روسيا من الحديد (ومقداره السنوي 30 ألف طن) لا يشجعها على الدخول في حرب مع أمريكا وحلفائها ومعدل إنتاجها من الحديد والمواد اللازمة لجهاز الحرب يفوق الإنتاج الروسي بعدة أضعاف.
وينصح بيفان قومه بأنه إذا استقلوا في سياستهم الخارجية عن أمريكا وضمنوا عدم اعتداء الروس على المصالح البريطانية استطاعوا أن يتفادوا برامج التسلح ونفقاته الهائلة، وأن يحولوا الإنتاج إلى صناعة سلمية تستعبد الأسواق التقليدية في الشرق على شرط أن تتبع بريطانيا أسلوباً جديداً في علاقاتها مع الشعوب التي لم يكتمل نموها الاقتصادي في آسيا
وإفريقيا. وهذا الأسلوب يستند إلى مبدأ المعونة الفنية لتستطيع هذه الشعوب أن ترفع مستوى المعيشة بين سكانها، وبذلك تزداد حاجتها من المنتجات الصناعية التي تصدرها بريطانيا، وهذا أسلوب باشرت حكومة العمال تنفيذه عندما كانت في الحكم فيما يعرف الآن بمشروع كولومبو الذي منحت فيه بريطانيا الدول الآسيوية المرتبطة بنظام الكومنولث بضعة ملايين من الدولارات لتنمية المرافق الاقتصادية وزيادة قوة الشراء والتعامل التجاري بين هذه الدول وبين بريطانيا.
ويكرر المستر بيفان في كتابه الأخير هذه النداءات في قوة وعنف ويتهم كبار رجال الصناعة وأصحاب المصالح الذاتية في حزب المحافظين بأنهم العقبة الكبرى في وجه هذه الإصلاحات التي يقترحها المستر بيفان. ولذلك فهوا حاقد على أقرانه في حزب العمال أمثال المستر أتلي لتعاونهم مع المحافظين في السياسة الخارجية. وفي مقالات بيفان وكتاباته نوع من الثورة ضد هذه الطبقة الصناعية التي يعتقد بأنها توجه سياسة بريطانيا لتتماشى مع السياسة الأمريكية. فهو لذلك يدعوا إلى وضع تشريعات قاسية تعصر أرباح هذه الطبقة وتنتزع عن طريق التأميم المنشآت الصناعية والمالية الهامة التي يملكونها.
وهذه الثورة على طبقة الصناعيين هي من أبرز النقاط التي يحاولها خصوم بيفان في الرأي من أقرانه الاشتراكيين. ففي الكراس الأخير الذي أصدره الاتحاد الاشتراكي بعنوان، الاشتراكية: بيان جديد عن مبادئها، هجوم على دعوة المستر بيفان لنصر الطبقة المترفة. ويقول واضعو هذا البحث بأن مبادئ الاشتراكية البريطانية لا تؤمن بصراع الطبقات وإنما تستند إلى أسس أخلاقية تضع الحرية الفردية فوق المساواة الاقتصادية. ويشير الكراس كذلك إلى أن بريطانيا في ظل وزارة العمال في الحكم وفي البرلمان قد خطت خطوات هامة في التسوية بين طبقات المجتمع عن طريق التشريعات التي وضعتها حكومة العمال في مجال الضرائب على الدخول والتركات وفي سياسة التأميم التي نفذت حكومة العمال جزءاً منها.
ويؤكد واضعو هذا الكراس بأن سياسة التأميم لا تعني أن على الدولة أن تملك كل مصدر من مصادر النشاط الاقتصادي في البلد؛ فالاشتراكية يجب أن لا تفسر على أنها سياسة تأميم فحسب، فقد أثبتت تجارب وزارة العدل بأن سياسة التأميم لا تحل بصورة أوتوماتيكية
المشاكل الاقتصادية والآفات الاجتماعية فإذا استبدلت بصاحب المصنع الدولة كمالك لمنشأة اقتصادية فإن العامل في هذه المنشأة سيظل يعتقد بأنه مهضوم الحقوق. ويجب أن لا يفهم العامل أن سياسة التأميم تجعله مالكاً للمصنع الذي يعمل فيه وإلا تولدت فوضى اقتصادية واجتماعية لا يقوى على ضبطها إلا نظام إداري قاس يعصف بالحرية الشخصية ويضع العامل والمجتمع في ظل حكم ديكتاتوري لا ترضى عنه فلسفة الاشتراكية البريطانية ومفهومها للعدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية.
واستنادا إلى مثل هذا المنطق يبرر خصوم المستر بيفان في الرأي تساهل حزب العمال في سياسة التأميم وقبولها لبرامج التسلح وتحالفها مع الأمريكان في السياسة الخارجية. فهم لا يوافقون المستر بيفان على أن روسيا السوفيتية راغبة في السلم، وأن قصور إنتاجها من الحديد والمواد الخام عن اللحاق بإنتاج حلفاء الغرب رادع لها من الدخول في المعركة الفاصلة. فقد دخل هتلر الحرب العالمية الأخيرة وكان إنتاج بلاده من مواد الاستعداد الحربي يقل عن إنتاج خصومه عدة مرات. ومع ذلك استطاع هتلر أن يبني آلة حرب جبارة شغلت العالم بأسره عدة سنوات طوال.
والطريف في معركة (الكراريس) هذه أنها سجل لاتجاهين هامين في التفكير السياسي المعاصر في بريطانيا وفي كثير من بقاع العالم الأخرى؛ فقد رسخ في عقلية المجتمع الإنساني الأكبر أن كيانه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي أصبح في حاجة ماسة إلى أسس جديدة من العدالة الاجتماعية والمساواة في الفرص الاقتصادية. والدعوة لهذا الإصلاح تجد صداها البعيد في أوساط الاشتراكيين في أوربا الغربية وفي رجال (العهد الجديد) من أتباع الحزب الديمقراطي في أمريكا؛ صدى يتجاوز الانفعال العاطفي ويتخذ البرامج الحزبية والسياسية العملية وسيلة لتنفيذ هذه الأسس الجديدة.
ففريق من هؤلاء الاشتراكيين لا يزال يؤمن بأن السياسة التطبيقية للمبادئ الاشتراكية يجب أن تتقيد بحرفية النظريات حتى لو استلزم ذلك تقييد الحرية الخاصة لطبقة معينة من المجتمع لا تنوي لهذه المبادئ خيراً. والمستر بيفان أميل إلى هذا الفريق منه إلى الفريق الآخر الذي ينظر إلى الأمور نظرة واقعية فلا تعترف بأن أسباب الطمأنينة المادية للفرد كما تسعى لتحقيقها النظم الشيوعية المطلقة ستوفر لهذا الفرد سعادة في المجتمع. فهناك
عناصر أخرى في السلوك الإنساني لا يمكن أن تصبح ضحية للطمأنينة المادية. من هذه العناصر حرية الفرد وما توفره الديمقراطية الصحيحة له من ضمان وكرامة. وقد رد المستر بيفان على أصحاب هذا الرأي فقال بأنهم يحملون الكلمات أكثر مما تتحمل. فبعض حقائق الحياة القاسية تهزأ في كثير من الحالات بهذه التعابير اللطيفة (كالطمأنينة المادية) و (الحرية الفردية) و (الديمقراطية الصحيحة) و (الكرامة) وماشاكلها.
ولكن أليست صناعة الأدب تفترض تحميل الكلام أكثر مما يتحمل؟ والأدب السياسي أدب فوق أنه سياسة.
نيويورك
عمر حليق
هلا قطعتم يد السارق؟
لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد عبد الله السمان
تحت هذا العنوان قالت السيدة سيزا نبراوي رئيسة الاتحاد
النسائي في مجلة المصور بتاريخ (206 1952) تعليقاً على
فتوى الأزهر ومؤتمر الهيئات الإسلامية بشأن حقوق المرأة
السياسية: (لقد دخلنا هيئة الأمم المتحدة وتغيرت طرق الحياة،
وعلى شيوخنا أن يتطوروا، في تفسير القرآن في الحياة، وإلا
فلماذا لا تقطع يد السارق، ولماذا لا يرجم الزاني والزانية؟ لقد
جعلنا قوانيننا) تعني الوضعية (تتفق في ذلك مع تطورات
الزمن)
نحن لا نود أن نناقش اتهام هذه السيدة الإسلام بالجمود وعدم صلاحيته لتطور الزمن، كما تهدف إليها كلمتها، ولكنا نود أن نناقش هذه المعركة الهزيلة التي أشعل نيرانها الغوغاء الثرثارون من الفريقين، والتي لا نعرف لها سراً إلا الثرثرة في غير جدوى، ولا ندرك لها هدفاً إلا تضيع الأوقات سدى وشغل الرأي العام عن مهام الأمور ولا سيما قضية البلد التي أصابت الذروة من الفشل، ونالت أعلى مراتب التهاون والإهمال.
إن الفريق الأول المؤيد لحقوق المرأة السياسية تتزعمه حركات نسائية هزيلة. تلعب من ورائها أصابع الاستعمار الذي يهمه يظل الرأي العام مشغولاً عن قضيته، ووراء هذه الحركات الهزيلة بعض الأقلام الهينة التي من رسالتها أن تبرز في غوغاء المعارك وضوضاء المناورات، وصخب المهازل. والناظر إلى هذه الحركات في مظهرها يعتقد أنها ستحقق للبلاد كل الخير، وتنهض بالوضع إلى القمة، وتدفع بالشعب إلى حيث يتربع فوق هامة المجد ولسنا ندري ماذا نفعل بصوت المرأة في الانتخاب إذا كان الرجل بعد لم يحسن إعطاء صوته؟ وماذا نفعل بنيابة المرأة شياختها، إذا كانت نيابة الرجل وشياخته بعد لم
تنجحا تحت قبة البرلمان، ولم تقدما ذرة من الخير لهذا البلد المنكوب،
إن عملية الانتخاب في الريف لم تزل عملية آلية، يتولى تحريكها العصبيات وذوو البطش وأصحاب السلطة من عمدة القرية إلى خفيرها. والفلاحون لا يفهمون من الأمر شيئا سوى أنهم يساقون يوم الانتخابات إلى الصناديق كما تساق المواشي إلى الحظائر. وأصحاب الحول والطول منهم لا يدفعهم إلى التأييد أو الخذلان سوى المنافع الشخصية، أو الحزازات الأسرية. وإن عملية الانتخاب في العاصمة لم تزل عملية تجارية يلعب خلالها السماسرة من رواد المقاهي وفتوات الأحياء دورا يشهد لهم بالبطولة ويقر لهم بالفروسية؛ لأن الطبقة المثقفة في العواصم تضم بأصواتها أن تكون وقوداً للضوضاء ودخاناً للمهازل!
ثم ماذا فعل البرلمان لمصر وهي لم تزل ترسف في قيود الذل والاحتلال؟ ثم ماذا فعلت أصوات الناخبين وصيحات المنتخبين ومصر لم تستطيع بعد أن تسحق الاحتلال الجاثم فوق صدرها وتزهق روح النفوذ الأجنبي الذي يسير دفة سياستها، ولا أن تظفر بالوحدة المؤكدة لشعب وادي النيل، ولا أن تنهض بالشعب إلى المستوى الذي يليق بالآدمية في دنيا الناس.
ثم ماذا فعلت هذه الحركات النسائية! هل استطاعت أن تعمم التعليم بين بنات جنسها، وإن تشق جداول الثقافة لينهل منها الجميع على السواء؟ ألا تدري المتزعمات لهذه الحركات أن نسبة المتعلمات لم تزل تافهة لا يقام لها وزن، وأن نسبة الجهل في السواد الأعظم من بنات جنسهن لم تزل عالية إلى درجة الخجل. فلتسهم هذه الحركات النسائية - إن كانت صادقة في جهودها - في تحقيق الوحدة والجلاء. ولتسهم بجانب هذا في النهوض بالمرأة ثقافياً واجتماعياً وعلمياً، بحيث تشمل نهضتها المدن والقرى والكفور، وليكن للمرآة بعدئذ ما أرادت من حقوقها السياسية والاجتماعية.
أما الفريق الآخر: وهو الفريق المناهض للحركات النسائية فتتزعمه الهيئات الإسلامية الراكدة وبعض رجال الدين المحسوبين على الدين ظلماً. والواقع أنه ليس لهؤلاء الناس أهداف حية يرغبون في تحقيقها حتى يعملوا، فهم يتصيدون المعارك الجدلية والميادين الفارغة ليثبتوا وجودهم. وهم يحاولون أن يجعلوا للإسلام سلطة في توافه المسائل ولو ظل مسلوب السلطة في مهام الأمور. ويؤولون في كتاب الله تأويلا فاسدا يتفق وضآلة الحجة
وتفاهة البرهان.
ولسنا ندري ماذا فعل هؤلاء الناس للإسلام حتى يخشوا الخروج عليه، ويتصنعوا الدفاع عنه! إن الإسلام لم يزل قريباً في مصر وفي كل بلد إسلامي، وإن شعوبه لم تزل رازحة تحت نير الاستعمار دون أن تقوى على تحطيمه، وإن قانون السماء لم يزل مبعداً لا ينظر إليه، ولا يكترث لوجوده، وإن شريعة الله لم تزل مضطهدة في كل رقعة إسلامية لا يعترف بقدرها، ولا يسأل عن كيانها.
ولسنا ندرى ماذا يضير الإسلام أن يكون للمرأة صوت انتخابي، وأن تدخل تحت قبة البرلمان وهو الذي أقر كتابه تلك المرأة التي تحكم حكماً ديمقراطياً شوريا، وسمح لها تناقش الخليفة في أمور الدنيا والدين، والتي بايعت الرسول كما بايعه الرجل سواء بسواء، وحابت معه في كل ميدان، وشاطرت الرجل الجلوس في بيوت الله.
إذا كان هؤلاء الناس يخسون على الأخلاق أن تزاحم المرأة الرجل، وأن تمهد للسفور والاختلاط بحقوق السياسة. فالملاهي والمراقص والحانات ودور اللهو والعبث أصبحت مجالا فسيحا للمزاحمة والاختلاط والسفور.
أليس من العار أن يتحدى الهيئات الإسلامية (شرذمة النساء) وتعقد من أجلها المؤتمرات، ويبعثر المال في النشرات وبرقيات الاستنكار والاجتماع؟ بل أليس من العار أن يتحدى هذه الشرذمة أيضاً رجال الدين فيصدرون الفتوى تلو الفتوى كأن لهم مصنعا من الفتاوى يخرج العشرات في كل لحظة؟
إننا نود أن نقول للفريقين رويدكم فإنكم تناضلون في ميدان لا بركة فيه ولا خير يرجى من ورائه. إنكم توهمون أنفسكم بأنكم تناضلون في سبيل الوطن والدين، وتزعمون أنكم تجاهدون في سبيل إحقاق الحق وإزهاق الباطل، ولو صدقتم في نضالكم وجهادكم لحققتم أماني الوطن وأعززتم الإسلام بتحقيق مطالبه. ولكن. . وما أمر ولكن على من ضل سمعهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
محمد عبد الله السمان
5 - إندونيسيا
الحالة الاقتصادية
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
الزراعة:
إندونيسيا أمة زراعية وما تزال الزراعة هي المصدر الرئيسي لثروتها.
ويعتبر المطاط أهم حاصلات إندونيسيا، فهو يكون 41 ، 8 % من قيمة الصادرات، وذلك بحسب إحصاء 1950 حيث بلغت قيمة ما صدر منه 1 ، 146 ، 000 ، 000 روبية.
ويلي المطاط أهمية سكر القصب، فإندونيسيا تمتاز بزراعة أنواع ممتازة من قصب السكر، ولما أصبحت مصر دولة منتجة لسكر القصب استخدمت تلك الأنواع الممتازة في زراعتها مما عاد عليها بخير عميم.
وأما جوز الهند فيزرع في جميع أنحاء إندونيسيا ولكن الجهات الشرقية منها تنتج أكثر الكميات، وقد بلغت قيمة ما صدر من جوز الهند المجفف 1950 211 ، 000 ، 000 روبية.
وتجود زراعة الشاي فوق المرتفعات في جاوا وفي الشمال سومطرا حيث يجفف الشاي ويعد للتصدير، وفي 1950 بلغت قيمة ما صدر منه 101 ، 000 ، 000 روبية.
والفلفل الأسود والأبيض من أهم حاصلات إندونيسيا وصادراتها وبلغت قيمة ما صدر منه 1950 80 ، 000 ، 000 روبية.
والطباق والبن وزيت النخيل من أهم الحاصلات والصادرات، والأرز يزرع بوفرة وهو الغذاء الرئيسي للسكان. وتنمو الغابات وكثير من أشجارها يؤخذ منه الخشب النافع الصالح لصناعة الأثاث وغيره.
وهناك حرفة أخرى متصلة بالزراعة اتصالاً وثيقاً وقد بدأت تحتل مكانا هاما في حياتها الاقتصادية وهي تربية الماشية. ذلك أن الفلاح الإندونيسي كان يهتم بالزراعة كل الاهتمام، وكانت تربية الماشية بالنسبة له عملاً إضافياً لازماً للزراعة. ولكن بعد عصر الاستقلال بدأت تربية الماشية واعتبارها مورداً من موارد الثروة القومية تحتل مكاناً هاماً لدى حكومة
الجمهورية فافتتحت في 1947 أكاديمية خاصة للطب البيطري لإعداد أطباء بيطريين للاستغاثة بهم في إرشاد الفلاحين وللعمل على تنمية إنتاج المواشي وترقية نوعها وزيادة عددها حتى تصل إلى المستوى الذي تكون فيه مصدراً من مصادر ثروة الشعب ومورداً هاماً من موارد رزقه
وأهم الحيوانات التي تربى في إندونيسيا البقر والجاموس ولأغنام والخنازير والخيل.
الري:
في البلاد الغريزة الأمطار لا توجد ضرورة لاستخدام وسائل الري الصناعي، فالنبات يستمد حاجته إلى الماء من المطر المتساقط.
وإندونيسيا تتمتع بقسط كبير من المطر لأنها واقعة عند خط الاستواء، ولكن يجب أن نذكر أن السنة في هذه المناطق تنقسم إلى فصلين: فصل تشتد به الحرارة ويغزر المطر وهذا يحدث عند تعامد الشمس على خط الاستواء في شهري مارس وسبتمبر، وفصل تقل فيه الحرارة نوعاً ويقل سقوط المطر ويحدث ذلك عند تعامد الشمس على مداري السرطان والجدي ونظراً لقلة الأمطار في الفصل الأخير رئي أنه لا بد من تنظيم وسائل الري حتى يتوفر الإنتاج، فمثلا الأرز يعتبر الغذاء الرئيسي للسكان، والأرز يحتاج إلى الماء الوفير لكي يجود. من هنا عنيت إندونيسيا منذ قديم الزمان بوسائل الري. ولكنها الآن وقد تزايد عدد سكانها وزاد تبعاً لذلك استهلاكها أصبحت مضطرة إلى العناية بوسائل الري حتى تضمن الغذاء لشعبها.
وقد كانت حكومة إندونيسيا في عهد الاستعمار تعنى بوسائل الري وذلك بسبب النظام الزراعي الإجباري الذي سارت عليه الحكومة الهولندية، فقد كانت الحكومة تجبر السكان على زراعة أنواع مخصوصة من الغلال وفي مناطق خاصة، وكان بعض أنواعها مثل قصب السكر والإنديجو لا يجود إلا إذا زرع في أرض تروى ريا كافيا. كل هذا دفع الحكومة الاستعمارية إلى العناية بوسائل الري.
وقد أقامت تلك الحكومة السدود والخزانات لحفظ الماء واستخدامها وقت الحاجة. والى 1935 تم بناء خزانات كبيرة مثل خزان بيجتان وبانشال وغيرها.
ولم تكن حومة الجمهورية الإندنوسية أقل اهتماما بالري من الحكومة السابقة، فقد وضعت
نصب عينيها تنمية الإنتاج حتى يتوفر للسكان الغذاء، وحتى تمنع حوادث المجاعات التي كانت البلاد تتعرض لها قبل الاستقلال. وقد وضعت الجمهورية الإندنوسية خططا لتجفيف مناطق المستنقعات في بورنير وغيرها لتوفر الرخاء لشعبها.
التعدين
يحتل البترول مركزا هاما في الاقتصاد الإندونيسي ويستخرج من جلوا وسومطرا وبورنيو وايريان. وفي 1950 بلغت الكمية التي صدرت 5 ، 994 ، 497 طنا وبلغت قيمتها 538 ، 600 ، 000 روبية
وتنتج إندونيسيا مقادير وفيرة من القصدير وهي من أهم دول العالم إنتاجا وفي 1950 صدرت 44 ، 308 طنا بلغت قيمتها 185 ، 200 ، 000 روبية.
وإندونيسيا غنية بالفحم والذهب والفضة والملح 0
الصناعة
تعتبر الصناعة أمر ناشئاً في إندونيسيا، ذلك أن الحكومة الاستعمارية كان يهمها أن تبقى إندونيسيا أمة زراعية تنتج لها ما تحتاجه من مواد أولية وتكون سوقا لتصريف مصنوعاتها، ولكن الحكومة الجمهورية عملت على النهوض بالصناعة، فقامت صناعة النسيج وصنع الآلات الحديدية وبناء السفن وصياغة المعادن النفيسة وعمل السكر وعمل الإطارات وصنع الأكياس وصناعة الإسمنت والأسمدة الخ. ولما كانت خبرة الإندونيسيين بالصناعة بسيطة فقد سارعوا بإرسال بعثات إلى أوربا وأمريكا الأمر الذي يساعدهم على النهوض بالصناعة في بلدهم. وإندونيسيا غنية بالمواد الخام وبالأيدي العاملة، ومن ثم فالمرجو أن تزدهر الصناعة فيها، ونرجو أن نراها في القريب أمة صناعية ناهضة.
التجارة
نشطت تجارة إندونيسيا نشاطا كبيرا منذ أن استقر وضعها السياسي 1949. ومعظم الصادرات حاصلات زراعية ومعدنية، ومعظم الواردات آلات ومواد صناعية.
ويحاول الإندونيسيون جاهدين أن يعملوا على موازنة ميزانهم التجاري، بحيث تكون قيمة الصادرات أعلى من قيمة الواردات، وقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد 1950.
السياسة الاقتصادية
ترمى الحكومة الإندونيسية إلى رفع مستوى المعيشة للشعب على أساس تنمية قوتها الاقتصادية، ويتحقق ذلك بالعمل على رفع شأن الزراعة وتحسين أحوال المزارعين والنهوض بالصناعة والتجارة وتحسين أحوال العمال وتأمين حياتهم.
وجدير بي أن أذكر أن إندونيسيا قد واجهت وما تزال تواجه عدة متاعب اقتصادية أهمها: عدم وفرة المواد الغذائية في بعض أنحائها وتأخر الصناعة بها ونقص قوتها الكهربائية واضطراب الأمن وعدم استقرار العدل في بعض جهاتها وكثرة النقود المتداولة وسوء طرق المواصلات بها. لكن على رغم كثرة هذه المتاعب فأننا نرجو لهذه الجمهورية الناشئة مستقبلا زاهرا، ويؤيدنا فيما نذهب أليه عظيم ثروة هذه الدولة وكثرة عدد سكانها وحرص زعمائها وشعبها على أن يرفعوا من شأنها. فحيثما سرت وجدت شعبا ناهضا: مدارس ويسرع الطلاب إلى أبوابها لتلقى العلم على اختلاف أنواعه، ومصانع تقام ومستشفيات تنشأ، وسعي دائب لتحقيق خير الوطن وزيادة إنتاجه ورفع مستوى شعبه، وعمل مستمر على تحسين علاقاتهم واتصالهم بإخوانهم في العالم الإسلامي! أليس كل ذلك دليل على نهضة حقيقية تبنى على أساس من العلم والأخلاق والدين. . ولعلك لو سألت حاجا مصريا: من كان أكثر حجاج الأمم الإسلامية عددأ؟ لأجابك على الفور: الجاويين (الإندونيسيين) وأنني بهذا أختم هذا البحث داعيا الله أن يحقق لإندونيسيا مستقبلا زاهر لتعيش أمة حرة وسط عالم حر.
أبو الفتوح عطيفة
دماء الشهداء
عروس الجنة
للأستاذ عمر عودة الخطيب
- 1 -
(في تاريخنا الزاهر دماء زكية خالدة خطت آية المجد الكبرى
ورسمت حدود عالم إسلامي واسع)
ع
جلس (أبو عامر بن صيفي) ومن حوله فئة من شباب (الأوس) قد غلظت أكبادهم، وقست قلوبهم، ورسمت المعارك التي خوضوها مع أعدائهم آثارها في وجوههم الكالحة المربدة. جلسوا مطرقين يسودهم صمت ثائر قلق. . . وكانت عيونه ترمق زعيمهم (أبا عامر) بنظرات ملؤها الإكبار والإجلال، ولكنهم لفرط مهابتهم له، وخضوعهم لسطوته، لم يجدوا من أنفسهم الجرأة في النظر أليه، والتبسط في الحديث معه، بيد انهم يعلمون أن من واجبهم أن تكون أيديهم دائما على مقابض سيوفهم ليسلوها من أغمادها إذا ما بدرت من زعيمهم أي إشارة لهم.
وكانت المدينة - إذا ذاك - تضج بالتكبير، ويتعالى في جنابتها هتاف يشق عنان السماء من هذه المواكب الفرحة التي زحفت إلى ظاهر المدنية وتسلقت أعلى النخيل، ترمق الأفق البعيد وترنوا إلى قافلة النور والإيمان. . . التي خرجت من مكة مهاجرة في سبيل الله. وتناهت إلى أسماع أبي عامر وأتباعه في مجلسهم ذاك، أصوات ناعمة رقيقة كأنها تسبيح الملائكة في الملأ الأعلى. فوقف (أبو عامر) يستطلع الأمر نبأ هذه الأصوات ووقف من حوله فتيانه ينظرون، فرأوا صبايا يثرب بأيدهم الدفوف، يسرون في موكب حافل جذلات غردات. . . وهن يرتلن نشيدهن الساحر:
طلع البد علينا
…
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
…
ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا
…
جئت بالأمر المطاع
وجلس أبو عامر وقد زادته هذه المواكب الطرية حنقا وحقدا، ونظر إلى اتباعه وفي صدوره مرجل يغلي (نار تشتعل. . وقال:(لقد جاء محمد إذا) وصمت قليلاً شأن من يفكر في أمر خطير ثم قال (واللات والعزى لن نتركه يجد في يثرب الراحة والاستقرار. . .) وأمن اتباعه في كلامه، وسلوا سيوفهم ورفعوها في الهواء، إيذانا بإعلان الحرب على محمد. . وانفرط عقدهم، وانصرفوا إلى بيوتهم. . وقد بيتوا أمرا.
(2)
دخل (حنظلة بن أبي عامر) وكانه شاب ريق الشباب، جاري العود، غض الأهاب، فألقى أباه غارق في تأمله، يصعد بين فترة وأخرى زفرات حرى تنم عما يعتلج في قلب صاحبها من هم وكمد. . وكانت اساريره تفضح ما في نفسه من حقد وثورة. . فوقف حنظلة غير بعيد منه وألقى عليه تحية المساء، فلم يشعر به ولم يلتف أليه. . ثم ضرب بقبضته على فخذه وصاح كالمحموم (كلا! كلا! لن تكون أرض يثرب لمحمد موطنا سهلاً!!) ورفع رأسه فرأى أبنه حنظلة واقفا، فنظر أليه نظرات صارمة كأنها جمرات الجحيم ثم قال:
- أهذا أنت يا حنظلة! اين كنت وقد انقض السامر وغاب القمر!
- كنت في دار أبي أيوب الأنصاري أستقبل محمد وأحييه. لطالما تاقت نفسي أليه، وحنت روحي إلى لقائه. . كنت قبل أن أراه كسالك البيداء. . تحرقه شمسها، ويلفحه غبارها، ويغمره ظلامها، وتعييه رمالها. . فلما أبصرته رأيت النور الإلهي بشراً سويا؛ تحف به الملائكة الله، وترعاه عناية السماء. . وحين مددت يدي أليه وصافحني - روحي فداء له - ذهلت عن نفسي، ورأيتني طائر ترفرف بجناحيه في رياض الخلد. . فأويت إلى ظل محمد. . ونسيت متاعب الصحراء سمع أبو عامر كلام أبنه؛ فقام كمن يتخبطه الشيطان من المس ثم قال:
- ويل لك يا حنظلة! أو قد صبأت! أكفرت بآلهتنا؟ هل سحرك محمد فنسيتني وعصيتني؟ كيف ألقى بعد اليوم فتيان الأوس وقد جاء لمي العار؟!
- لقد آمنت بمحمد (ص) منذ بعثه الله وكفرت بهذه الأوثان التي لا تضر ولا تنفع ولا تغنى من الحق شيئاً. . . لقد طهرتني رسالة السماء من الجاهلية. . وأخرجني محمد من
الظلمات إلى النور. . وسكب في روحي أيمانا يشع بالخير والنقاء. . وعلمني أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. . وإن المسلم في الدنيا خليفة الله بالأرض. . ينشر رسالته ويعلي كلمته. . وأنا أدعوك يا أبت إلى نبذ عبادة الأصنام، والإيمان بالله الواحد القهار. . بارئنا وقيوم السماء والأرض. وسكت أبو عامر قليلا ثم اصطكت أسنانه، وتلاحقت زفراته وقال:
- ماذا آري! ماذا اسمع؟ رحماك أيتها الآلهة! أغرب عن وجهي يا حنظلة. . فلا أراك بعد اليوم، وليس لي منذ الساعة بيثرب مقام.
ثم لبس رداءه وحمل سيفه، وامتطى راحلته، وصفق الباب وراءه صفقة عنيفة وأنطلق
(3)
ومرت سنتان ونصف. . حتى كانت تلك الليلة التي استوى فيها القمر بدرا، وملأ الكون نورا. وقد أنصرف حنظلة من المسجد فرحا يرقص قلبه طربا، وبعد أن بارك رسول الله زواجه بفتاه من الأنصار. . سار في أزقة المدينة، يحيط به أقربائه من الفتيان والبشر يملأ وجوههم؛ والسعادة ترفرف عليهم. . سارو يزفون حنظلة إلى فتاته في عرس لم تشهد المدينة له مثيلا. . فكان الفتيان يهتفون، والنساء يزغردن، وحلت الفرحة كل بيت. . لأن حنظلة حبيب إلى كل قلب، لما حباه الله من رقة في الشمائل، وكرم في المعشر، ونبل في الخلق. . إذا كانت الأصنام قد حرمته في مثل هذا اليوم حنان الأب وفرحته، فقد حباه الإسلام حنان كل أب في المدينة وعطف كل أخ. . فلا عليه أن يهنأ ويسعد وقد غدا الإسلام له أبا وأم. زف حنظلة إلى عروسه وكانت فتاة صنعتها رسالة محمد، فأقبلت عليه تتعثر في أثوابها، فحف أليها يستقبلها، فأفتر ثغرها الحلو عن ابتسامة عذبة أسرت قلبه، وملكت عليه لبه؛ لأنها ابتسامتها الأولى لرجل 0 فما عرفتها المدينة ألا فتاة عفة نقية، كالزنبقة المغلقة تنشر الشذى من خلف أوراقها البيضاء الندية. ونام حنظلة ليلته هانئا ناعم البال. . ورأى نفسه مع بعض إخوانه في روضة جميلة ضاحكة. . موشاة بالزهر، مضمخة بالعطر، تجري من تحتها الأنهار. . وتخطر في ورودها الحسان، وهن يوقعن أعذب الألحان. . وأفاق من غفوته وقص على عروسه حلمه الجميل. فابتسمت له وقالت: سيتحقق حلمك يا حبيبي. . وكادت يده تلامس يدها حتى سمع منادي رسول الله ينادي
بالخروج إلى العدو في أحد؛ فنظر أليها ونظرت أليه، ثم وضع ثيابه عليه وحمل سيفه وودعها. فانحدرت من مقلتيها دمعتان. . ولم تفارقها ابتسامتها.
(4)
خرج من صفوف المشركين فارس على جواد مطهم، وبيده سيف ثقيل يهزه هزات عنيفة، وينادي بصوت جهير. . كأنما يريد أن يجتاز به السهوب، ويزلزل القلوب. . ليصل إلى يثرب. . بلدته فارقها منذ أمد بعيد، بعد أن قطع على نفسه عهد أشهد عليه اللات والعزى، إلا يترك محمداً يجد في يثرب الراحة والاستقرار نادى في المعركة) (يا معشر الأوس! أنا أبو عامر) فإذا بأصوات المؤمنين القوية المرعدة تصك مسمعه بقوة وعنف:(لا مرحبا بك) وسمع حنظلة صوت أبيه. . ذلك المشرك الذي يحارب الله ورسوله، ويكيد الإسلام؛ فلم يسمعه صوت أب وإنما سمعه صوت مشرك يتحدى المسلمين فأخذته عزة الإسلام فهب يستأذن رسول الله في قتل أبيه فنهاه رسول الله عن ذلك فرجع كئيبا ينظر.
ولما أنكشف المشركون رأى حنظلة أبا سفيان قائد جيش المشركين. . يسير مزهوا يميل برأسه تهيا وكبرا. فأنقض عليه وضرب بسيفه قوائم فرسه فوقع على الأرض يصيح، وحنظلة يريد ذبحه، ولم يكد يرفع السيف ليهوى به على هامة أبي سفيان، حتى أدركه (الأسود بن شعوب) فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه ولكنه وثب كالأسد ومشى في الرمح وقد أثبته، فعالجه الأسود بضربة ثانية فخر صريعا.
وقبل أن يغمض عينيه. . تذكر عروسه وهي تبتسم له وتقول: سيتحقق حلمك يا حبيبي. . ورآها وقد انحدرت من مقلتيها دمعتان. . ولم تفارقها ابتسامة. . ورأى رسول الله يقبل نحوه. . فتعلق بالحياة وهم أن ينهض لاستقبال رسول الله ولكنه وقع على الأرض. . وقبل أن تفيض روحه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأترابه. . بصوت تقطعه الحسرات. . (إن صاحبكم هذا تغلسه الملائكة)
جبلة - سوريا
عمر عودة الخطيب
أبو هلال العسكري
بين البلاغة والنقد
للأستاذ عبد العزيز قلقيلة
تقدمت بهذه الدراسة إلى أستاذي الفاضل الدكتور (إبراهيم بك سلامة أستاذ البلاغة والنقد الأدبي بكلية دار العلوم عام 1949 فظفرت منه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى.
وأنا أهديها أليه على صفحات الرسالة الغراء تحية تقدير ووفاء وتهنئة بظهور كتابه الجديد الخصب (تيارات أدبية بين الشرق والغرب).
(ع. ق)
تمهيد
هذا بحث تكلمت فيه عن أبي هلال - في كتابه (الصناعتين) بين النقد والبلاغة، وكان مما وجهني أليه وحفزني إلى الكتابة فيه أني قرأت كتاب الدكتور محمد مندور (النقد المنهجي عند العرب) فهالني بل روعني أن يكون في القرن الرابع الهجري - وهو ألمع القرون وأحفلها بجلائل الأعمال في جميع أنواع المعرفة عند العرب - رجل بتلك الصفات وهذه النعوت التي أضافها أليه الدكتور، وقلت: ألا يمكن أن يكون في العرض من جانب الدكتور لأبي هلال ظلم للرجل وتحامل عليه؟ وعلى فرض أنه بهذا الفساد وذلك الانحراف ألا يمكن الاعتذار عنه!
وكان أن عولت على لقاء آبي هلال في كتابه والاستماع أليه ثم التحدث عنه بما يثبت حكم الدكتور آو ينقضه كم أذى من نفس قلقها وأراها إلى شيء من الاطمئنان.
وسيستبين القارئ منهجي في البحث: أما أجماله فهو قد جعلته ثلاث مراحل: الأولى: - تمهيد للقاء أبي هلال وذلك أني أحببت أو رأيت أنه لا ينبغي لمن يتصدى للقاء العفو أن يكون جاهلا بطبيعة عملهم ونواحي العبقرية والنبوغ غيرهم في هذا العمل 0 فكان هذه الإلمام السريع من جانبي بتلك البلاغة والنقد وتطورهما إلى عهده. ومنه وقفت على تشهيد نشأتيهما بل على وحدة الظروف التي خلقها؛ وإذاً فليس الغريب أن يلتقيا في تطورهما اكثر من مرة على أيدي رجال موزعين بينهما أو قد أحاطوا بهما فتكلموا فيها على اختلاف
في الميل إلى أحدهما آو زيادة في الاهتمام به. والمرحلة الثانية: - الاختلاف إلى أبي هلال والتردد عليه، بل مصاحبته مصاحب شديدة في أبواب الكتاب العشرة وفصوله الثلاثة والخمسون أستمع أليه فأفهم عنه وأعنون له. ولم أنس أني إنما سعيت لقائه لاحق حقا آو لأبطل باطل. فلم يغب عني وأنا في حضرة ما قاله: صاحب (النقد المنهجي) فيه. وكثيرا ما قررت كي صاحبي آو ترجمته موضحا عبارته، مستخلصا فكرته، وأضع إياها في ميزان النقد العام بها تثقل وترجح بينما مبين الدكتور قد شال بها وخف.
لهذا بعد أن فرغت من لقاء أبي هلال وودعته قمت بعملية تجميع للتهم التي وجهها إليه الدكتور مندور وناقشت واحدة واحدة وتلك كانت المرحلة الثالثة.
وكانت الخاتمة، فنبهت إلى أن أبا هلال وإن كان قد تأثر في البلاغة والنقد وجمعها بل ومزجها في كتاب فليس هو بدعا في هذا، لا في تاريخ النقد العربي ولا في تاريخ النقد العام
البلاغة والنقد ووظيفتهما
البلاغة بمعنى الكلام البليغ هي الأدب، وهي بهذا الاعتبار مادة البحث وموضوعة للبلاغة الإصلاحية والنقد الأدبي. ولن أتعرض لها هنا من الناحية، كما لن يكون من همي أن أتتبع تلك التعريفات التي أوردها أبو هلال في صدر كتابه وعلق عليها شارحا موضحا. بل يعنني من البلاغة ما كان يفهم قديما وما يفهم الآن من كلمة (البلاغة). أعني هذه القواعد وتلك التقاسيم آلت كونت هذا الثالوث الضخم (المعاني والبيان والبديع) ووظيفتهما: - أنها ترشنا إلى أحسن الوسائل التي تجعل كلامنا ممتعا نافعا مؤثرا. أما النقد الأدبي فهو من دراسة النصوص وتمييز الأساليب). ووظيفته (تقويم العمل الأدبي، وتحديد مكانه في خط سير الأدب) فكل منهما يدور حول تحقيق الصدق والقوة والجمال في النتاج الأدبي.
نشأة البلاغة وتطورها إلى عهد أبي هلال
من حسن فهم أبي هلال لطبيعة الأشياء هذا النص الذي نقله عن مجموعة التحفة البهية الدكتور زكي مبارك أن البلاغة ليست مقصورة على أمة دون أمة، ولا على ملك دون سوقة، ولا على لسان دون لسان. بل هي مقسومة على اكثر الألسنة. فهي موجودة في كلام
اليونان وكلام الفرس وكلام الهند وغيرهم. ولكنها في العرب اكثر لكثرة تصرفها في النثر والنظم والخطب والكتب وهم أيضاً متفاوتون فيها. فقد يكون العبد بليغا ولا يكون سيده، وتكون الأمة بليغة ولا تكون ربتها فالبلاغة قد تكون في أعراب البادية دون ملوكها وقد يحسنها الصبي والمرأة)
والبلاغة التي يقصدها أبو هلال في هذا النص هي (الملكة) أي القدرة على تأليف الكلام البليغ وهي قديمة جدا قدم الأدب. ليست هذه الآداب إلا آثارها ودلائل وجودها ولقد وجدت الآداب منذ وجدت الجماعة. وكان لهذه الجماعة تحضر وتمدن وعقيدة.
أما الاتجاه إلى دراسة هذه الآداب بقصد نقدها واستنباط قواعد البلاغة منها فهذا ما تأخر ظهوره اختلفت مظاهره عند كل أمة وفي كل أدب حسب الظروف والملابسات. أما عند العرب فقد نزل القرآن بلغتهم الأدبية وفيه كثير من الأنواع البلاغية؛ لكنهم ما كانوا في فهمه وتذوقه إلى علم آو معلم أنهم بلغاء بالطبع لكن الدين قد انتشر ودخل فيه خلق كثير من غير العرب بدءوا يقرءون القرآن فيلقاهم منه من الكلمات والآيات ما يعجزهم فهمه ويعز عليهم تأويله. ولهذا رأينا منهم من يسعى إلى بعض علماء العربية (أبي عبيد سنة 206 هـ) يسأله في معنى قول الله (طلعها كأنه رؤوس الشيطان) فيجيبه بما هو من صميم العربية ومألوف استعمالها.
(هذا نظير قول أمرئ القيس): -
أيقتلني والشرفي مضاجعي
…
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
ولكن هذا العالم الجليل لا يدع الموضوع يمر دون التفات منه لحاجة الناس إلى بيان فيه فيؤلف كتابه (مجاز القرآن) وتكون هناك محاولات وابتداءات تظهر في شكل رسائل آو مقالات، وتنشط هذه الحركة وتنمو، ويزداد سلطان المعتزلة ظن ويترجم منطق أرسطو فيتصلون به والفلسفة اليونانية؛ ويعجب الفرس وغيرهم بهؤلاء المتكلمين الذين يحكمون العقل والمنطق في جدولهم وحوارهم فينحازون لهم وينضمون إليهم.
وتروج هذه الثقافة وتشيع فتزدهر البلاغة وتنموا حتى إذا جاء القرن الثالث، عرف بجمع المادة الأدبية وعرضها في أبواب تنقصها الطريقة العلمية ولكنها موصولة أليها فهذا (الجاحظ)(255) يبتدئ به البيان ويكتب فيه ويجمع له مادة غزيرة، متعقبا بعضها أحيانا
بنقد يعتبر أساس للبلاغة وللنقد المنظم فهم يتحدث عن الفصيح وعن الفصاحة ويفرق بين الفصاحة بمعنى البيان وبين البلاغة بمعنى الوصول إلى الغرض؛ ثم يعرض لتعريفات عدة في البلاغة عند العرب، وعند غيرهم ممن لهم بالعرب اتصال جغرافي أو ثقافي.
ويعمل جهده في التدليل على أصالة البيان العربي وأنه للعرب خاصة، ويتكلم في الأسجاع ما يحس وقعه منه وما يسؤ مع التمثيل لهذا وذاك، ويطوف في بيانه وتبيانه على الشيء الكثير من الأنواع من البلاغة، وقد يؤرخ لها ويقارن بينها ضاربا الأمثال من القرآن والسنة والشعر القديم والشعر الحديث. ثم هو يعد صاحب المذهب الكلامي.
وبحق ما قيل من أنه أول باحث في البلاغة، ولكن أبحاثه لم تكن مبوبة ومرتبة، وإنما هي معلومات عابرة فتحت مغاليق هذا العالم.
وبموت الجاحظ حوالي منتصف القرن الثالث الهجري كانت البلاغة قد استقرت عند أوليات الأمور التي تبحث فيها وتفنن لها، وقد لخصها الدكتور طه حسين باشا آو عنوان لها بالأمور الآتية:
الكلام على صحة مخارج الحروف، ثم على العيوب التي سببها اللسان آو الأسنان آو ما قد يصيب الفم من التشوه.
الكلام على سلامة اللغة، والصلة بين الألفاظ بعضها ببعض، والعيوب الناشئة عن تنافر الحروف.
الكلام على الجملة والعلاقة بين اللفظ والمعنى، ثم على الوضوح والإيجاز والإطناب، والملاءمة بين الخطبة والسامعين لها، والملاءمة بين الخطبة وموضوعها.
الكلام على الخطيب.
أما النصف الثاني من القرن الثالث فقد ظهر فيه علمان من أعلام البلاغة، ترك كل منهما فيها من الآثار ما جعلها تنقسم إلى قسمين آو تسير في اتجاهين: أحدهما عربي صرف آو هو اقرب أن يكون عربيا صرفا، والثاني منطقي صرف آو هو اقرب أن يكون منطقيا صرفا: -
فأما أولهما: فهو عبد الله بن العتز (296 هـ) فهم ما قاله الجاحظ واهتدى بطريقته وجمع من فكرته مع زيادة علها ما ألفه وسماه (البديع) وجعل منها خمسة أنواع أصيلة عند العرب
القدماء وليست مبتكرة، يرد بذلك على المتحدثين الذين ادعوا اختراعها والسبق أليها وهي: -
الاستعارة والتجنيس، والمطابقة، ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها، والمذهب الكلامي وتطغى هذه الأنواع على غيرها في كتابه، لأنه يبدأ بذكر الخاصية ثم يورد أمثلة لها من القرآن والحديث والشعر، ويعقب على هذا بذكر ما عيب من استعمالها.
ثم بعد ذلك يذكر بعض محاسن الكلام والشعر، وهي كثيرة يجتزئ منها بالآتي: الالتفات، الاعتراض، الرجوع: الخروج من معنى إلى معنى، تأكيد المدح بما يشبه الذم، تجاهل العارف، هزل يراد به الجد، حسن التضمين، التعريض والكتابة، الإفراط في الصفة، حسن التشبيه، إعنات الشاعر نفسه بالقوافي، حسن الابتداءات.
والناظر في موضوعات كتاب (البديع) يرى أن علوم البلاغة: (المعاني والبين والبديع) لم تنفصل بعضها عن بعض، ولم توضع لها حدود تميزها. فإن المؤلف ساق أيوب البيان الثلاثة وهي الاستعارة والكناية والتشبيه مساق الأنواع البديعية في كتابة وأما ثانيهما: فهو قدامة بن جعفر (275 - 337)، كان نصرانيا ثم أسلم، درس الفلسفة والمنطق، وألف كتابا سماه (نقد الشعر). يقول أستاذنا الكبير طه حسين باشا (إن هذا الكتاب قد استغله كل مؤلف جاء بعده، وعندما نقرأه نحس من أول فصل أننا إزاء روح جديدة لا عهد لنا بمثله من قبل).
وقد ألم قدامة في كتابه بعشرين نوعا من أنواع البديع، توارد مع ابن المعتز في سبعة منها وانفرد بثلاثة عشر.
ونلاحظ هنا ما لاحظناه سابقا، وهو أن العلوم الثلاثة لازالت مختلطة.
وهنا نجد أنفسنا بصدد أبي هلال العسكري وكتابه (الصناعتين). فلنعد الآن من حيث أتينا، ولنسر هذا الشوط مرة أخرى كي ما نؤرخ للنقد.
يتبع
عبد العزيز قلقيلة
نظرات خاطفة
شاعر السودان
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
وهذا شاعر آخر من السودان، القطر الذي فتنت بنبل كرم أهله، وسموا أخلاقهم، وعروبتهم الأصلية، القطر العربي الأفريقي المصري الذي ظلت قيود الاستعمار البغيض تعض ساقية سنوات طوالا، وسوطه يلهب بالظهور، ويدمي الرقاب، وهو ثابت كالطود الأشم يكافح ويناضل في سبيل استقلاله وحريته، والمحافظة على لغته الأصلية، لغة القرآن الكريم، دون أن يلين آو يستكين، وبين حين وآخر يلتفت نحو منبع النور والثقافة والحرية ليهتف على لسان شبابه المتوثب:
أملي في الزمان مصر فحيا
…
الله مستودع الثقافة مصرا
نصر الله وجهها فهي ما تزداد
…
ألا بعداً علي وعسرا
إنما مصر والشقيق الأخ السود
…
ان كانا الخالق النيل صدرا
لا رغبنا ولكن دهراً
…
ناوأتنا صروفه كان دهرا
في هذا القطر المترامي الأطراف والجوانب، والشاسع الحدود، الذي يعيش فيه أهلوه واكثر شبابه غرباء الروح والفكر، يظهر بين فترة وأخرى فنان يعيش لأجل فنه يرى بعينه آلام شعبه، فيحرق نفسه بخوار لينير لهم السبيل القويمة لعله يوصلهم إلى محجة الخير والسعادة والكمال، ومن هؤلاء الأفذاذ الذين أنجبتهم هذه الأمة الكريمة العربية المحتد والأصل شاعر عربي النزعة مصري الهوى بدوي النفس لشعره جميع الخصائص والميزات التي يتصف بها الشعر (الكلاسيكي) الأصيل، من جزالة في الأسلوب، وإشراق في الديباجة، وجمال في المبنى والمعنى وهو الأستاذ محمد سعيد العباسي
ترجمة حياته:
كتب الشاعر تاريخه بقلمه فقال:
(أنا محمد سعيد العباسي بن محمد شريف بن نور الدائم بن أحمد الطيب العباسي منشئ الطريقة السمانية بمصر والسودان، ولدت بعز أديب ولد نور الدائم بالنيل الأبيض 33 من
رمضان 1298 هجرية، ولما انتقل بي والدي في حوادث المهدية إلى الشيخ الطيب بمديرية الخرطوم شمالا وبلغت من العمر سبع سنين أدخلني مكتبا (خلوة) لقراءة القرآن عند عمي الزاهد الورع الشيخ زين العابدين، ثم تنقلت في مكاتب أخرى تبلغ العشرين عدا، وكان والدي يأمرني أثناء قراءة القرآن بحفظ متن الآجرومية صورة لي بنفسه مع متن الكافي في علم العروض والقوافي، ويعد استرجاع السودان ودخول الجيش المصري طلب (كتشنر) من والدي إلحاقي بالمدرسة الحربية المصرية فدخلتها يوم 28 مارس 1899 وبعد سنتين استعفيت لأني رأيت أن لا أمل لي في الترقية وإن كنت أول الناجحين في الامتحان) ثم يسترسل المترجم فيذكر أساتذته الذين ثائر بهم فيقول: (إن أولهم كان أباه الذي حثه على حفظ أشعار الفحول القدامى ثم أستاذة الجليل المرحوم الشيخ عثمان زناتي الذي كان في طليعة الشعراء والأدباء في زمانه ومن رثائه له يستبان لنا ذلك حيث يقول:
فيا رحمة الله حلى بمصر
…
ضريح الزناتي عثمانية
غذاني بآدابه يافعا
…
وقد شاد بي دون أترابية
ويا شبيه الحمد إن القريض
…
اعجز طوقي وأعيانية
أعرني بيانك اسمع به الأ
…
صم، وانطق به الراغية
وهذا كل ما يعلمنا عنه الشاعر من سيرته التي كتبها بقلمه ولكننا لو رجعنا إلى مقدمة الكتاب التي كتبها الأستاذ محمد فريد أبو حديد بك نراه يوضح المميزات الخاصة بشعر العباسي وتأثره بالحياة المضطربة التي عاشها في السودان والحوادث السياسية التي تعرض لها والتي صحبته في أواخر القرن المنصرم، قال:
(فالسيد العباسي إذا صدح في شعره أحسست في موسيقاه أصداء أناشيد الشريف الرضى إذ تتردد في شعره حرارة السرة السادة الذين يحسون مسئوليتهم في المجتمع، وتجمع معها نغمة أخرى من كرامة السادة الذين يحسون قصر اليد عما يريدون، وإذا كان شعر السيد يمثل لنا ديباجية موسيقى السيد الكريم فإن فيه ألواناً أخرى تذكرنا بأرواح يملؤها الطموح وتتقد فيها حرارة القلب القوى الذكي إلى فن الشاعر الذي يغوص إلى اعمق المعاني ويصورها في ابرع اللوحات. ثم هو في ديباجته فذ لا يكاد يجد. الناقد عديلا ألا في عباقرة الشعراء من قدماء ومحدثين وإذا أردنا نحن أو أردنا ناقد آخر أن يكشف للقارئ عن تلك
التي أشار أليها الأستاذ أبو حديد فهل يستطيع، أما أنا فأقول بالإيجاد، ومن قرأ له مثل هذه الأبيات:
إلى كم أمنى النفس مالا تناله
…
يجوب الفيافي وادراع الفدافد
وقد رقد السمار دوني فهل فتى
…
يعير أخا البأساء أجفان رافد
فيا نفس أن رمت الوصول إلى العلا
…
ردى قسطل الهيجا وغمرتها ردى
أما ويمين الله وهي أليه
…
تقال فتغنى عن يمين وشاهد
سأصفح عن هذا الزمان وماجني
…
متى ظفرت كفاي منه بماجد
وإن ألقه بعت الحياة رخيصة
…
وآثرته باثنين: سيفي وساعدي
وقوله:
ما أعجب الأيام كم دفعت بنا
…
في ذي الحياة لشدة ومضيق
أنا في زمان عشت فيه بمعشر
…
يجزي الجميل لديهم بعقوق
طرحو المهند للعصاو استبدلوا
…
بالأمس تغريدي لهم ينعق
مادمت سباقا فليس بضائري
…
أبدا مقال مدفع مسبوق
لاشك في أن الروح التي كانت تعتلج في أجساد الشعراء السادة الفحول من شعراء العرب وخصوصا الفرسان هي نفسها التي كانت تضطرم بين جنبي شاعرنا العباسي إبان نظمه للأبيات الآنفة الذكر. ولا غرو فالعباسي كان من أرباب السيف والقلم وقد خاب في مضمار السيف فتركه ليبرع في الشعر أسوة بشاعر النيل حافظ إبراهيم. . على أن حافظا كان رحمه الله فقير محتاجا فكان يحس في أعماق نفسه بالمجاعة فأراد أن يكون شاعر القصر عساه يتمتع بمباهج الحياة في ظل القصور الفارهة الناعمة. . ولما خاب أمله اتجه إلى الشعب ليسكب ثورة نفسه وألم خيبته في الشعر الذي كان يعبر به عن آمال نفسه 0 أما العباسي فقد كان مكتفيا وكانت المادة متوفرة لديه فلجأ إلى الشعب يخاطبه بشكل آخر، شكل السيد الآمر، والزعيم المضطهد، لذلك جاءت في شعره أقباس من طموح الزعماء، وآلام من ثورة الأحرار الذين رغم انصرافهم إلى السياسة وأمور الدنيا لم ينسوا أخرتهم ودينهم لتأثير الناحية الدينية عليهم منذ نشأتهم.
البقية في العدد القادم
عبد القادر رشيد الناصري
الإسلام وحياتنا العامة
للأستاذ محمود عبد العزيز محرم
إن أمتنا أمة مسلمة. غير أنها لا تستوحي الإسلام في تصرفاتها ونظرتها للحياة وأحداثها. ولا ترى أن من الخير الذي يعود عليها بأجزل النفع أن تنظر إلى الحياة من خلال الفكرة الإسلامية. وإن كثيراً من الكتاب يخرجون علينا بأفكار مختلفة، منهم من يرى أن حياتنا يجب أن تنهض على الإسلام، ومنهم من يرى أنه يجب أن ننحي الإسلام عن حياتنا هذه، وأن نشرع فيها على أسلوب جديد يوافق روح العصر، ويقطع كل ما يصلنا بهذا الدين العتيق.
والعجيب أن أكثر هذه الكتابات التي تنادي بفصل ديننا عن حياتنا إنما هي بأقلام كتاب مسلمين. والمفروض أن المسلم يكون أحرص على دينه، وأغير عليه من أي إنسان آخر، حتى يؤدي واجبه نحو نفسه، ووطنه، وربه، على خير الوجه وأكملها. وهؤلاء الكتاب بعملهم هذا ينهجون نهج أقوام آخرين لا تربطهم بالدين الإسلامي رابطة، لا يكادون يهادنونه ويدعونه يرسم صورة للحياة الناضجة القديمة، ويقفون له بالمرصاد ينتقصونه، ويسفهونه، ويزرون به، وينعون عليه أحكامه وآدابه وتوجيهاته.
وإذا استوحى المسلم غير الإسلام فهو وغير المسلم سواء. وهو حرب على دينه. وهو عون لأعدائه عليه. وهو دخيل علينا لا يجوز أن نركن إليه، ولا نأتمنه، ولا نهادنه. وعلينا أن نحذره ونتعرف على نياته ودخائله لأنه أخطر علينا من العدو الألد والمهاجم الصريح.
ليس ما نشكوه في هذه الحرب هو الأجانب وحدهم، بل نشكو المسلمين أيضاً؛ هؤلاء الذين يعملون لهدف غير هدفنا، ويسعون لمثل غير مثلنا، ويبنون حياة لا تتفق وحياتنا. وبعد ذلك تتخذ أقوالهم وأعمالهم حجة على الإسلام إن لم تتخذ على أنها الفكرة الإسلامية في ذاتها. ونعني من وراء هذا العسف الغليظ والضر الأليم. وننفق من قوانا في جهتين، إحداهما داخلية، والأخرى خارجية.
هذا الإسلام بعيد عنا. وكلما نادينا بالاقتراب منه، والاسترواح في ظله، والاستقاء من نبعه، خرجت علينا الذئاب العاوية لتقتنص منا الغنم الشاردة، فتفرق وحدتنا، وتضرب في صفوفنا، وتزعزع إيماننا برسالتنا وديننا وأهدافنا المنيرة الحقة. ومن هنا يظل الإسلام
بعيداً عنا أطول مدة ممكنة، حتى يمتص المستعمرون وأعوانهم الثمالة الباقية من ذخائرنا، ثم بعد ذلك نكون جسداً هامداً لا خير فيه.
إذا أردنا أن يكون الإسلام أسلوب حياتنا فعلى كل مسلم أن يكون صاحب دعوة وصاحب رسالة. عليه أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن الواجب لا يتم إلا به، فعليه جزء منه، وعليه أن يبذل في سبيله، لا فرق بين رجل دين وغيره. فالإسلام، والعمل له، والإيمان به، دعوة كل مسلم ورسالته. والمسلمون جميعاً مسئولون عنه لا فرق بين إنسان وإنسان. أما هذا الكلام المعلول في مسؤولية المسلمين فليس من الإسلام في شيء. ليس في الإسلام رجل دين ورجل دنيا، ولا رجل مسؤول ورجل غير مسؤول، ولا فرد يعمل وآخر يعتمد على عمل غيره، إذ كل المسلمين في نظر الإسلام سواء، وهم مكلفون العمل له والإيمان به، لا يغني بعضهم عن بعض شيئاً.
إذا أردنا أن يكون الإسلام أسلوب حياتنا فعلى كل مسلم أن يهتدي به في حياته، فيحققه في كل عمل وقول، ويتجه إلى وجهته. ويشيعه في حياته العامة والخاصة، ويعتنقه مبدأ لا يحيد عنه، ويشارك به فيما يرى من رأي أو يرغب من رغيبة
على كل مسلم أن يجعل حياته إسلامية، وأن يفيض من خيرها وبرها على الوجود من حوله، وأن يحمل غيره على ما يحبه له ولنفسه وللناس جميعاً، من خير لا ينقطع، وبركة زاكية، وحب شامل، وإخلاص عميق في كل ميادين الحياة، في التجارة والزراعة، في التعليم والسياسة، في الاجتماع والاقتصاد، في خاصة الرجل وخاصة المرأة وفي المشترك بينهما.
ليس في هذا مشقة على أحد. فكل إنسان يستطيع أن يرسم حياته بالطريقة التي تروقه وتحلو له. وحياة الفرد ليست غير تحقيق عملي لعواطفه وأفكاره. وحوافز النفس وخلجات الضمير هي أمهات جلائل الأحداث. وتاريخ الأبطال والعظماء ما هو إلا انعكاسات القلوب الكبيرة والنفوس النبيلة.
إننا ننعى على الحكومة موقفها من الإسلام. والواجب أن ننعى على أنفسنا مثل ما ننعاه على هذه الحكومات، لأننا نستطيع أن نعمل الكثير لأنفسنا وللإسلام من غير أن نلجأ إلى حكومة نسألها العون ونستجديها العطف، حياتنا المنزلية، وحياتنا مع أصدقائنا، وحياتنا في
عملنا، وسلوكنا مع الناس عامة، وحياتنا الذاتية التي لا يطلع عليها إنسان - كل هذه مجالات مختلفة متفاوتة، نستطيع أن نحياها صحيحة وأن نبعثها إسلامية. وذلك متى ما تصورنا حياة سهلة سائغة سمحة واتخذنا هذا التصور هدفا لنا ومثالاً نسعى إليه.
وقد قرأت في مجلة الثقافة مقالاً لكاتب مسلم، هو الأستاذ محمد عبد الله عنان، وقد عنون الكاتب موضوعه بهذا العنوان (المرأة والحقوق الدستورية، لا محل للاحتكام بشأنها إلى الدين) ومن هذا العنوان وحده نستطيع أن نلمس حرص الكاتب على تخلي الدين على حياتنا العامة. مع أنه يجب أن نحتكم إلى الفكرة الإسلامية في كل شؤوننا العامة والخاصة، شؤون الفرد والجماعة، شؤون الرجال والنساء، شؤون الأطفال والبالغين، في عملنا السياسي أو الاجتماعي أو التهذيبي أو الذاتي، في سلوكنا الظاهر وسلوكنا الخفي. نحتكم إلى الفكرة الإسلامية في كل هذا حتى نتعرف على مواضع الرشاد ومواضع الزيغ في سلوكنا، وإذا ما نادى إنسان بمثل هذه الدعوة التي نادى بها الأستاذ عنان فإننا نعتبره أحد رجلين: إما أن يكون رجلا لا يعرف من أمر دينه الكثير، وإما أن يكون رجلا يعين غيرنا علينا. وهو على كلا الحالين غير محمود ولا مشكور.
يقول الأستاذ محمد عبد الله عنان في مقاله هذا (. . . ولا محل على الإطلاق أن يتخذ الدين أساساً لمثل هذا الموضوع، سواء لتوكيد التحريم أو الإباحة، وإذا كانت مصر دولة إسلامية فليس معنى هذا أنها دولة دينية، أو بعبارة أخرى أنها دولة تطبق أحكام الدين في سائر نواحي حياتها العامة. فالنظم الأساسية والقوانين المدنية والجنائية المصرية كلها نظم وقوانين تطبعها الصفة اللادينية. ولا يطبق في مصر شيء من أحكام الشريعة الإسلامية في العبادات أو المعاملات أو الحدود بصورة جبرية، فلا تقطع يد السارق ولا يرجم الزاني، ولا يعاقب شارب الخمر أو تارك الصلاة أو مفطر رمضان، وغير ذلك ولا يطبق منها إلا ما أمكن تطبيقه في شؤون الزواج والأسرة والميراث والوقف (القضاء الشرعي) وحتى هذا يعتبر قضاء استثنائياً بالنسبة للقضاء الوطني العام)
ويستطرد الكاتب قائلاً (فإذا ما تقرر ذلك، وهو أن النظم والقوانين المصرية هي نظم مدنية لا دينية، لأنها هي النظم والقوانين التي توافق روح العصر، ومقتضيات الحياة الاجتماعية الحديثة، فلا محل إذا لأن نجعل الدين حكماً في مسائل لا علاقة لها بالدين ولا تمس العقيدة
الدينية ذاتها، ولا محل إذا لنرجع بمطالب المرأة السياسية والاجتماعية إلى أحكام الدين ما دامت هذه المطالب لا شأن لها بالعقيدة الدينية. . .).
وتخرج من هذا الاقتباس بثلاث نقاط هامة مؤلمة ومؤسفة في نفس الوقت:
مصر دولة مسلمة ولكنها لا دينية، فدينها الرسمي هو الإسلام، غير أنها لا تطبق أحكامه في حياته العامة. والنظم والقوانين المصرية مدنية موافقة لروح العصر ومقتضيات الحياة الاجتماعية الحديثة. ومعنى هذا أن الدين وأحكامه لا يوافق روح العصر ومقتضيات الحياة الاجتماعية الحديثة.
أن الدين قد ضاق مجاله، ولم نطبق منه إلا ما أمكن تطبيقه وهو شيء يسير في شؤون الزواج والأسرة والميراث والوقف بحيث أصبحت هذه الأحكام اليسيرة قضاء استثنائياً بالنسبة للقضاء الوطني العام.
يمثل هذا الأسلوب في الكتابة والتفكير يتناول بعض الكتاب الحديث عن دينهم وحياتهم العامة. وهم يخلطون ما يرونه في واقع حياتنا بآرائهم الخاصة ونظرياتهم في الإسلام وصلاحيته. وإذا كانت حياتنا قد انحسر ظل الإسلام عنها في كثير من نواحيها، فليس معنى هذا أن ندع الأمور تجري إلى غايتها المشئومة، بل علينا أن نعرف ما نحن فيه وما نطمح إليه والأسباب التي توصلنا إلى ما نتمنى، والأسباب التي أدت إلى ما نحن فيه الآن، وأن نقرن ذلك كله بما كان لنا من ماضي زاخر مجيد والأسباب التي دفعت إليه - كل ذلك لنستخلص العبرة التي تقوم على ضوئها أسلوب حياتنا الراهنة، ونعالج مشاكلنا المعقدة، وننهض من كبوتنا السياسية التي لا تجد منها مقيلا.
إن الأمم الغربية الاستعمارية تنتفض فزعاً كلما فكرنا في ديننا وفي إخراجه إلى مجال الوجود العملي. والسبب في هذا ليس خافياً على أحد إذ أن هذه الأمم الغربية على يقين راسخ من أن ديننا ينظم حياتنا ويهذب نفوسنا، ويبعث الكامن فينا من القوة الخفية، ويوحد وجهتنا، ويبلغنا رشداً. وإذا كان أمرنا كذلك، فإنها الحرب على الاستعمار والاستغلال والفساد، وإنه البعث الجديد الذي ننشط منه إلى قيادة العالم وصدارة الأمم، وحينئذ لا يبقى لأمم الغرب سبب واحد تطمئن إليه، وتعتمد عليه، في تثبيت أقدامها في أنحاء العالم الإسلامي لاستغلاله وتسخيره.
على أن الغريب حقاً هو فزع بعض المسلمين من تطبيق مبادئ الدين. ونحن لا ندري علة لفزعهم هذا. هل نقول إنهم عملاء للمستعمرين؟ هل نقول إنهم يجهلون من أحكام دينهم ما لا يصح أن يجهلوه، هل نقول إن معين ثقافتهم الذي استقوا منه يحارب الإسلام في خفية، ويعكر صفوه، ويطمر موارده النقية؟ انهم على أي حال يعملون غير ما نعمل، ويشخصون إلى غير أفقنا.
مثل واحد بسيط للدلالة على لون التفكير اللاديني الذي يسيطر على بعض المسلمين، وهو في الموضوع الذي أشرنا إليه من قبل واقتبسنا فقرات منه، إن الكاتب المسلم يستوحي دينه في إعطاء المرأة حقوقاً سياسية أو غيرها، ويرجع إلى أحكامه يستفتيها، وعليه أن يلتزم ما تفتيه به هذه الأحكام، فإن أفتته بالإباحة فهي الإباحة، وإلا فالتحريم الذي لا وجه فيه لحل بعد ذلك. والكاتب اللاديني، المسلم رسمياً، اللاديني عملياً، يسارع إلى أمم الغرب يسألها ماذا فعلت؟ وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه؟ ومن الذي أعانها؟ وعلى خطوة أو خطوتين أو خطوات؟ وهناك! عند تقاليد هذه الأمم، وميراثها، وشرائعها، يجد الجواب الشافي الذي لا يحس حرجاً في الأخذ به والاعتماد عليه!
(ففي إنجلترا لم تنل المرأة حقوقها الانتخابية لأول مرة إلا في سنة 1918 ونالتها عندئذ جزئية، محدودة، ولم تنلها كاملة إلا في سنة 1928. وفي أمريكا لم تمنح هذه الحقوق إلا في سنة 1920، وبعد محاولات عديدة متوالية شملت كل ولاية بمفردها. . . . . . والمرأة لم تحصل على حقوقها الدستورية في بعض الدول الأوربية العريقة مثل فرنسا وإيطاليا والنمسا إلا بعد الحرب العالمية الثانية. ولم تحصل عليها في بلجيكا إلا في سنة 1948، وفي ألمانيا الغربية في سنة 1949)
وعلى هذا فإنه لا يجوز أن تحرم المرأة الحقوق السياسية ما دامت هذه الدول الغربية العريقة قد أعطت المرأة هذه الحقوق. يجب أن تعطى هذه الحقوق، دون نظر إلى ما يقوله ديننا في هذا الموضوع، لأن أحكامه عتيقة لا توافق مقتضيات العصر ولا روح التقدم. المهم أن نكون كهذه الأمم التي قلدناها، وقصصنا آثرها، وأسلمنا زمامنا لآدابها وتقاليدها وروحها. . . أما أثر هذا التقليد فينا. . . وأما وقوعنا في قبضة هذه الأمم تستغلنا. . . وأما انهيارنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بسبب تشربنا روح هذه الأمم وآدابها - كل هذا
ليس له عندنا كبير أثر. وهو حقيق أن ينسى ما دمنا ندور في فلك هذه الأمم ولو على حساب كرامتنا، وتقاليدنا، وديننا، وصالحنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي!
إن حياتنا بنت تصورنا وتفكيرنا. فإذا كان تصورنا إسلامياً، كانت حياتنا إسلامية. وإذا كنا لا دينيين في التصور والتفكير كانت حياتنا لا دينية. وعلينا الآن أن نختار، إما أن نتجه إلى الله الذي منحنا دستورناً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإما أن نتجه إلى هذه الدول (العريقة!) التي أذاقتنا المر، وألبستنا الهوان، وباعتنا في أسواق النخاسة الدولية - نعمل بدساتيرها، ونحتكم إلى قوانينها.
محمود عبد العزيز محرم
رسالة الشعر
ديوان مجد الإسلام
للمرحوم الشاعر أحمد محرم
يقدمه الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم
مسجد المدينة
المسجد الثاني يقام بيثرب
…
و (محمد الباني) يجد ويعمل
(عمار) أنت لها وليس ببالغ
…
عليا المراتب من يكل ويكسل
إن يثقل العبء الذي حملته
…
فلما يحمل ذو التباعة أثقل
ماذا بلغت من السناء على يد
…
أدنى أناملها السماك الأعزل؟
مسحته ظهراً منك طال منيفه
…
حتى تمنى لو يكوتك (يذبل)
هذا (رسول الله) في أصحابه
…
لا يشتكي نصباً ولا يتمهل
يأتي ويذهب بينهم فملثم
…
بالتراب، يغشى وجهه ومكلل
من كل قوام على أثقاله
…
سام، له ظهر أشم وكلكل
ما كان أحسنها مقالة زاجر
…
لو كان يعرف حكمتها المتمثل
هتف الإمام بها، فراح يعيدها
…
ثم انثنى متلطفاً يتنصل
(عمار) يالك إذ تلام، وياله
…
من ذي محافظة يلوم ويعذل
هجت ابن مظعون فأقبل غاضبا
…
حنقا، يجيش كما يجيش المرجل
ولقد يحيد عن التراب إناقة
…
من لا يحيد عن الضراب وينكل
مهلاً (أبا اليقظان) قرنك باسل
…
وأخوك في جد الوغى لا يهزل
ولئن أهاب الله (يال محمد)
…
صونوا الحمى، لهو الأشد الأبسل
السيف يعجز أن ينال غراره
…
ما ليس يعجز أن ينال المعول
أبو بكر يؤدي ثمن الحائط الذي أدخل في المسجد
إيه (أبا بكر) ظفرت بصفقة
…
شتى مغانمها لمن يتأمل
القوم عند إبائهم وسخائهم
…
لو يبذلون نفوسهم، لم يحفلوا
لا يقبلون لحائط ثمناً ولا
…
يبغونها دنيا تذم وترذل
الله يطلبه لنصرة دينه
…
والدين هم أنصاره، ما بدلوا
قالوا: أمنا يا (محمد) تبتغي
…
ما ليس يخلق بالأباة ويجمل
إنا لعمر الله نعرف حقه
…
ونعز ملته التي نتملل
نعطي (اليتيمين) الكفاء وإن هما
…
أبيا، ونتبع التي هي أنبل
خذ ما أردت فلن نبيعك مسجداً
…
يدعوه فيه مكبر ومهلل
هو ربنا، إن نالنا رضوانه
…
فلنا المثوبة والجزاء الأكمل
إيه (أبا بكر) خليلك مطرق
…
يأبى، وأنت بما يريد موكل
لا بد من ثمن يكون أداؤه
…
حكما يطاع، وشرعة ما تهمل
لولا الرسول وما يعمل قومه
…
جهل المحجة ظالم لا يعدل
وإذا قضى أمراً، فما لقضائه
…
رد، ولا في غيره متعلل
الحق ما شرع (النبي) وباطل
…
ما يدعي المرتاب والمتأول
لا بد من ثمن، ولست بواجد
…
في القوم من يضح الصواب فيغفل
أمر (الرسول) به فدونك أده
…
ولأنت صاحبه الكريم المفضل
يا باذل الأموال، نلت ببذلها
…
ما لم ينل في المسلمين ممول
أتبعت نفسك ما ملكت فمهجة
…
تنهال طيعة، وكف تهطل
بلال يؤذن للصلاة
أذن بلال لك الولاية لم تتح
…
لسواك، إذ تدعوا الجموع فتقبل
الله ألبسك الكرامة واصطفى
…
لك ما يحب المؤمن المتوكل
يا طول ما عذبت فيه، فلم تمل
…
تبغي التي اتبع الفواة الميل
(أحد) إلهك ما كذبت وما لمن
…
يرجو النجاة على سواه معول
أرني يديك: أفيهما (لأمية)
…
ورد من الموت الزعاف مثمل؟
للسيف سيف الله أهول موقعا
…
من صخرة تلقى، وحبل يفتل
لك في غد دمه إذا التقت الظبى
…
تحت العجاجة والرماح الذبل
أذن، فإن الدين قام عموده
…
ورست جوانبه، فما يتقلقل
هبط الجزيرة. فاحتوى أطرافها
…
وانساب في أحشائها يتغلغل
فكأنما طرد السوائم ضيغم
…
وكأنما ذعر الحمائم أجدل
خف الرجال إلى الصلاة وإنها
…
لأجل ما تصف الصفوف المثل
عنت الوجوه فراكع متخشع
…
يخشى الإله، وساجد متبتل
صلوا بني الإسلام خلف نبيكم
…
وخذوا بما شرع الكتاب المنزل
الله أيدكم به، وأمدكم
…
منه بنور ساطع ما يأفل
آثرتم السنن السوى، فجدكم
…
يعلو، وجد ذوي العماية يسفل
هل يستوي الجمعان هذا صاعد
…
يبني، وهذا ساقط يتهيل؟
يتألفون على الهوى وقلوبهم
…
(شتى) يظل شعاعها يتزيل
نصر على نصر، وفتح بعده
…
فتح يغيظ المشركون محجل
إن امرأ جمحت به أهواؤه
…
من بعد ما وضح الهدى لمضلل
الحق باب الله هل من داخل؟
…
طوبى لمن يبغي الفلاح فيدخل
الكتب
في حياة الفن
أم كلثوم
تأليف الأستاذة نعمات أحمد فؤاد
للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر
الغناء روح النفس، وروح القلب، يزيل الشجو بالشدو، ويبعد الآلام بالأنغام، وإذا تواءم الصوت المعبر، واللحن المصور، كان التحليق والسمو. ولعل أجل المواهب ما تعاطف (المشاركة الوجدانية) وما تؤالف النزعات الإنسانية، فالشعر، والغناء، والموسيقى، يكمل بعضها بعضاً في موكب الفن الرفيع، فالموهوبون في هذه الألوان ينغمون المشاعر، ويشاركون الأفئدة في اتجاهها الوجداني. والتعبير (فن) قبل أن يكون أداء. وقد أودع الخالق في الحواس القدرة على التذوق؛ فالأذان موصلة التناغيم في تأثر وانعطاف وإشباع، وهي صادقة الحكم ما دامت تتفاعل معها مثيرات الوجدان، لذلك عظم شأن التغني وارتفع قدر اللحن. أليست اللغة في أول أمرها أصواتاً؟ أليس التعبير عن الإحساس كان مقاطع ساذجة تدل على الغرض؟
بلى، فالصوت أصل أصيل في قوة التأثير والتأثر، و (الأوتار) الواهبة جمال الصوت ثروة إلهية أودعها المبدع الأعظم لتكون نعمة من نعمه الجليلة! وإن النعمة الممنوحة للشرق المكدود ممثلة في صوت (أم كلثوم) الذي يسري عن النفوس أوجاعها، ويسري في الحنايا سريان الكهرباء؛ فيؤثر تأثير السحر. . . لقد تسمعت إلى الكبد الحري التي كانت ترسل في التياع (يا آسى الحي هل فتشت في كبدي) وكنت في استهلال صبوبي أجنح بخيالي الصغير إلى عالم روحي بحت، وعشت في هذا اللحن أنهنه الأنة في صدري؛ فترسل الزفرة، وتريق العبرة، وأحسست في أعماقي أن الشادية خالدة، لأن تعبيرها (فني)، لا ترسل الكلمة مرتجلة اكتفاء بالصوت العذب، والتغريد الآسر، فكأنها تعرب ما يطرب؛ وتراعي مخارج الحروف الدقيقة مراعاة فيها العجب العجاب. وهذا هو الفرق بينها وبين سواها وهو عينه ما دعا الأديبة (نعمات أحمد فؤاد) أن تعرض لحياة (أم كلثوم) في كتاب
دقيق، أنيق، شائق، رائع.
لقد تميز أسلوب هذا الكتاب بالأصالة التعبيرية الفنية؛ فليس ثمت حشو، ولا إملال ولا صنعة. بل توافق، وتساوق، واتساق في أناقة شعرية ترف بين السطور فتلمع إلى الذوق الكتاب والكاتبة!
عرضت الأديبة حياة المفتنة المبدعة عرضاً في صدق وإخلاص وصفاء، ولهجت بوفاء (أم كلثوم) في غير موضع مما يدل على نقاء النفس، وطيب السيرة، وألمعت إلى (تحفظها) واستحيائها وانطوائها؛ ثم انطلاقها، ومسايرتها، وانفعالها في تحفظ وتوقر وأناة - وقد استغرق الحديث عن هذه النواحي نصف الكتاب ولا غرو فهو تأريخ فني يستدعى الإفاضة، والاسترسال والإيضاح.
هذا النزوع الفني من الأديبة دال على تأصل في الفهم وانفعال بالفن ومظاهره، لكنها أهدت الكتاب إلى (قيثارة الله) وهذه الإضافة لا تقع في نفسي موقع القبول، وكان في مقدور الكاتبة أن تهديه إلى (منحة الله) أو (هبة الله) أو ما أشبه التسمية التي تؤدي القصد من دون تحرج ولبس. ولا يقال إن للفن تعبيره الذي لا يتقيد بقيود، فهو متصل بالروح المجرد، لأن الأديبة قالت في موضوع آخر معبرة عن رأي (أم كلثوم) في حقيقة الفن (والفنان) فاهمة تعابير (الخيام) أنه:(إذا استشف فاعل المنكر ما وراء الأشياء، وشرب الخمر شاربها بعقيدة أنها تخلصه من عالم المادة وتساعده على النفاذ والمضي إلى ما وراءها؛ فهو ليس بآثم بنظر الفن) ثم تقول في موضوع آخر ص 130: (الفنان كالصوفي لا يتحرج من الأشياء تحرجاً ظاهراً كتحرج الفقيه؛ بل الخيرية والشرية عنده تتوقف على النية) هذا كلام وقفت عنده لأنه تخريج بعد عن القصد مما يتجه إليه المذهب الصوفي في أرقى مظاهره؛ فالمتصوف يتجرد عن المادة ليصل إلى الذات، وما جاء مشكلا يرد إلى الحقائق المجردة، أما (النية) فقدر مشترك لا يمكن الحكم عليه حكماً ذاتياً، وإباحة الفنان المعصية باعتماده على (حسن النية) لا يخرجه عن الإثم، فالملابسة أقوى دليل على العزم، والعزم مظهر النية ومدلولها، وهذا الاتجاه في فهم التصوف يتلاقى مع قول بعض المغرقين:(اعص الله لتعرف كيف تبكي وتعبده)!
على أن ذكر (الخمر) في الكلام الصوفي ليس القصد منه مادتها؛ بل الغرض (الغفلة عن
تذكر الذات العلية)؛ ومجرد التغافل يعد إثماً لدى الخواص وخواصهم من الواصلين. . ولذلك يقول (الخيام):
أسكرني (الإثم) ولكنني
…
صحوت بالآمال في رحمتك
والتعبير بقوله (صحوت) يرمز إلى مدلول التطابق في (أسكرني) المعطى معنى الغفلة لا الاحتساء!!
هذه ناحية دقيقة كنا نود أن تعرض لها الأديبة عرضاً فيه إلمام وتحر للحقيقة! ولا نشك في الإيمان العميق في قلب (أم كلثوم) إلى درجة تساميها بما تغني، وترفعها عن سوقية الأغاني وماديتها!
أما (الإيمان الواسع الأفق يتسامى عن الظهور بالتزمت والتحرج) ص 132 فلا نقر الأديبة عليه، لأن الإيمان فيه تصديق متصل بعمل، ولا نعرف مدى التسامي به إذا لم يرتفع عن الريبة ويتحصن بالتحرج!
وبعد؛ فإن هذا الكتاب تحفة فنية، تدل على استعداد فطري في صفاء الأسلوب بحسن ديباجته، وروعة أدائه، ونقاء عباراته، ولعل دراسة أغاني (أم كلثوم) هي اللامعة إلى المدى تمتع الأديبة بالذوق الرفيع!
أحمد عبد اللطيف بدر
البريد الأدبي
1 -
عقاب تذكر وتؤنث:
جاء في الصفحة (255) من كتاب (من أسرار اللغة) للدكتور إبراهيم أنيس ما يلي:
لعل شوقي حين قال:
أعقاب في عنان الجو لاح
…
أم سحاب فر من وهج الرياح
ولم يؤنث الفعل (لاح) رغم أن (العقاب) مؤنثة كأن في ذهنه مثل هذه الظاهرة التي جاءت في شعر القدماء ويعني الدكتور قول الشاعر:
فإما تريف ولي لمة
…
فإن الحوادث أودى بها
إشارة إلى تأنيث (الحوادث) وتذكير (أودى)
والحقيقة أن شوقي لم يخالف اللغة لأن العقاب كما في معاجم اللغة طائر يطلق على الذكر والأنثى. وهي من الأسماء التي يجوز فيها التذكير والتأنيث (كعقرب، وسلاح وسكين وقفا وقميص. . الخ. .) وجاء في الصفحة (516) من دائرة معارف القرن العشرين الطبعة الثالثة أن العقاب طائر من الجوارح يذكر ويؤنث ويجمع على أعقب وعقبان وعقبات. وقد عرف العرب هذا الطائر واشتهر لديهم فضربوا به المثل في العزة والمتعة فقالوا أمنع من عقاب الجو
قال الشاعر:
ما أنت إلا كالعقاب وأمه
…
معروفة، وله أب مجهول
فمنهم من يذكر العقاب كشوقي وكقول شاعر مجهول الاسم حيث يقول:
لقد لج الخباء على جوار
…
كأن عيونهن عيون عين
كأني بين خافقتي عقاب
…
يريد حمامة في يوم غين
ومنهم من يؤنثها كقول المتنبي
يهز الجيش حولك جانبيه
…
كما نفضت جناحيها العقاب
كما هو في الصفحة (155 من الجزء الأول من شرح ديوانه لعبد الرحمن البرقوقي. هذا ما أردت الإشارة إليه وعند علماء اللغة الفصل اليقين. .
2 -
زيادة في الوزن:
قرأت في العدد (989) من مجلة الرسالة الغراء قصيدة عامرة الأبيات للأستاذ الشاعر حسن كامل الصيرفي بعنوان (شعلة المجد) وجدت في البيت التالي منها خروجاً عن الوزن بزيادة (تفعيلة) واحدة في العجز وهي من بحر (الكامل)
الشاعر الحي الشعور نشيده
…
من قلبه ذوب ومن إيمانه الإيحاء
فما هو قول شاعرنا الرقيق؟!
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
توحيد مناهج التاريخ في البلاد لعربية
من أهم ما تسعى إلى تحقيقه الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية هو تنشئة جيل عربي يعتز بقوميته العربية ويقدس تراثه المجيد. ورأت أن علم التاريخ هو أهم الوسائل التي تحقق هذه الأهداف، فدعت إلى تأليف لجنة من الخبراء في التاريخ لوضع قواعد عامة يسترشد بها في تأليف كتب التاريخ المدرسية في البلاد العربية وتقرير مناهج موحدة في هذه المادة في مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي، وقد تألفت هذه اللجنة برئاسة حضرة صاحب السعادة الأستاذ محمد شفيق غربال بك وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية المصرية وعضوية حضرات الملحقين الثقافيين بالمفوضيات العربية بالقاهرة وحضرات: صاحب العزة الدكتور محمد مصطفى زيادة بك، الدكتور إبراهيم نصحي بك، الدكتور أحمد بدوي، الدكتور أبو الفتوح رضوان، الأستاذ علي إبراهيم عبده
وقد عقدة عدة اجتماعات ناقشت فيها شتى المسائل المتعلقة بكتب التاريخ المدرسية كالنظام المتبع في تأليفها واختيارها، ومادة الكتاب المدرسي في علم التاريخ، ونسبة الموضوعات بعضها لبعض، ونصيب التاريخ القومي والتاريخ العربي والتاريخ العالمي في هذه الكتب، والروح التي تعالج بها المسائل التاريخية، والمصادر التي تستقى منها المعلومات وهكذا. وقد عالجت اللجنة هذه المسائل وغيرها من ناحيتين: الأولى ما يسير عليه العمل فعلا في الوقت الحاضر في البلاد العربية المختلفة، والثانية ما يجب أن يراعى في المستقبل عند تأليف كتب التاريخ لهذه البلاد الشقيقة.
ورأت اللجنة أن تقسيم البحث إلى شعبتين: الأولى خاصة بكتب التاريخ المدرسية في المدارس الابتدائية والثانوية. واستندت اللجنة في هذا إلى مختلف العوامل التي تحدد الكيفية التي يكتب بها كتاب مدرسي في التاريخ وإلى اختلاف هذه العوامل في حالة كل من التعليمين الابتدائي والثانوي. إذ لا شك في أن غرض كل من التعليمين يختلف عن الغرض من الآخر، وأن الخصائص السيكولوجية التي يتمتع بها الطفل في المدرسة الابتدائية هي غير الخصائص التي يخضع لها المراهق في المدرسة الثانوية. كما أن المادة وطرق علاجها ووسائل توضيحها وكيفية عرضها تختلف كثيرا باختلاف مراحل الدراسة، وهو اختلاف قائم على اعتبارات اجتماعية ودراسية وسيكولوجية مقررة.
ورأت اللجنة أنه لا مندوحة من إقامة بحثها وقراراتها على ضوء ما هو حاصل فعلا في هذا الميدان في البلاد العربية المختلفة. ولذا قررت أن تدرس أولا كتب التاريخ المدرسية المقررة في مختلف البلاد العربية دراسة فحص وتحليل وتقويم. فقسمت أعضائها بحسب تخصصهم وكلفت كل مجموعة بفحص الكتب المتعلقة بموضوع تخصصها وتقديم تقرير عنها. ثم ناقشت اللجنة مجتمعة كل هذه التقريرات مناقشة أدت إلى اتفاق الجميع على القواعد العامة والمناهج التي تقدمها اللجنة باسمها، وقررت اللجنة أن يكون المدار في تقويم الكتب المستعملة الآن وفي تقرير القواعد العامة والمناهج التي ستتقدم بها هو ذلك التقدير القيم الذي وضعته شعبة التاريخ في المؤتمر الثقافي العربي الأول الذي انعقد في لبنان في صيف سنة 1947، والذي أدرج ضمن (مقررات المؤتمر) الذي نشرته الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية في القاهرة في سنة 1948 فدرس أعضاء اللجنة فرادى ومجتمعين هذا التقرير القيم واسترشدوا به.
ورأت اللجنة أيضاً ضرورة الاسترشاد بتقرير لجنة الخبراء الدولية التي دعتها هيئة اليونسكو إلى الاجتماع بدار الهيئة بباريس في أكتوبر سنة 1950 لدراسة طرق تدريس التاريخ وكتبه المدرسية والوسائل المؤدية إلى استخدام ذلك في تحقيق التفاهم بين الشعوب.
وقد أستغل كل عضو من أعضاء اللجنة ما تحت يده من الموارد الخاصة ككتب التاريخ المدرسية المقررة في الأجزاء الأخرى من العالم كالولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا، وكتب الطرق الخاصة بتدريس التاريخ ومطبوعات هيئة اليونسكو.
وفوق هذا كله استفادت اللجنة بما يعرفه كل عضو من أعضائها من حاجات الدول العربية الشقيقة في هذه الحقبة الدقيقة من تاريخها وما تستلزمه هذه الحاجات من التعاون، ولا شك في أن التعاون الفكري والثقافي هو أساس كل تعاون سياسي واقتصادي، والدول العربية لها من وحدة ظروفها التاريخية ومقوماتها الروحية والثقافية واللغوية المشتركة ما يمكن أن يكون أساسا متينا للتعاون في غير ذلك من ميادين الحياة يندر أن يوجد في أي مجموعة أخرى من دول العالم. وعلم التاريخ هو جماع كل هذه العوامل المشتركة ومن ثم وجب أن يعتمد عليه قي هذه الأمم الشقيقة في توطيد أواصر المودة والتفاهم بين أجيالها الناشئة.
وقد انتهت هذه اللجنة من عملها وقدمت تقريرها إلى الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية توطئة لعرضه على اللجنة الثقافية للجامعة العربية في دورتها القادمة التي ستعقد في عمان في 16 أغسطس 1952لإقراره وتوصية حكومات الدول العربية بتنفيذ المقترحات الواردة به.
القصص
اللص الثرثار
عن الإنكليزية
لما أضيئت الغرفة فجأة شعر اللص بالخطر، وكان هذا اللص يلقب
بين أصحابه بالدوق لجرأته على اقتحام المنازل ولحسن طلته وهيئته.
وقد قضى أكثر من عشرة أعوام في مخاطراته دون أن يعتقل مرة
واحدة. لكن الخوف يعتري أجرأ اللصوص عند وقوع الخطر.
وكان البيت مكوناً من طابقين: أما الأول فهو إدارة جريدة، وأما الثاني فهو مسكن رجل من الأغنياء كان مسافراً وكان البيت خالياً من السكان فجاء هذا الدوق ليسرقه على هذا الاعتقاد
لكنه لما دخل من النافذة وجد الغرفة مظلمة ورأى في وسطها منضدة وشم رائحة فأدرك أن في المنزل سكاناً لأن الرائحة هي رائحة وسكي، وكانت الزجاجة موجودة على المنضدة وبجانبها كأس وزجاجة من الصودا. ولما كانت النافذة لا تزال مفتوحة فقد تردد الدوق وهم بالعودة. ولكن في هذه اللحظة أضيئت الغرفة ووقف عند الباب رجل في يده مسدس وهو يقول:(من هذا؟)
فأجاب اللص: (حسن، استدع البوليس)
قال صاحب المنزل: (سأفعل) وفي نفس اللحظة دخلت سيدة فاختفت وراء صاحب المنزل وسألت: (ما هذا؟)
فقال صاحب المنزل:: (اذهبي فارتدي المعطف وعودي إذا شئت فانظري لصاً من أشهر اللصوص) وقال: (ألست الوغد الذي يدعونه بالدوق؟)
فابتسم اللص وقال: (نعم أنا الدوق ولكنني لست وغداً)
وكان الدوق في الخامسة والثلاثين مهيب الطلعة يحمل وقاره رجال البوليس على رفع أيديهم بالسلام عندما يرونه. وكانت ثيابه ثمينة وصوته ينم على السيطرة والنفوذ، وقال له صاحب المنزل:(إبق هنا) ثم مشى نحو آلة التليفون فجلس اللص أمام المنضدة ووضع
رجلا على رجل كأنه جالس في منزله أو كأنه ضيف كريم
وطلب صاحب المنزل قسم بوليس (لايم ستريت) فقال اللص: (بل اطلب قسم بوليس (واردور) فهو أقرب مكاناً ونحن تابعون له)
قال صاحب المنزل: (كما تريد) وطلب القسم الذي أشار به الدوق، ثم قال في سماعة التليفون:(من؟ مفتش البوليس؟ أرسل بعض جنودك الآن. أنا السير براندون برتون - شارع كوربري رقم 162 - عندي لص. الأمر لا يدعو إلى عجلة شديدة فإني أستطيع الانتظار حتى يحضر الجنود)
ثم ألقى السير برتون بالسماعة والتفت إلى اللص الجالس أمام المنضدة وقال: (مرحباً بك!) فقال الدوق: (إنني أعلم منك بأقسام البوليس؛ وأنا فضلاً عن ذلك أحب قسم واردو فإن سجنه من السجون الجديدة النظيفة) فقال السير: (إنني لم أر لصاً أبرد منك. ما مقدار العقوبة التي تظن أنه سيحكم عليك بها؟) ففكر الدوق لحظة ثم قال: (خمسة أعوام لأنهم سيسجنونني مدة سابقة بسبب حكم لم ينفذ. وقد كنت في الواقع لا أريد دخول هذا المنزل بل المنزل المجاور وهو نادي السباق)
مضت بعد هذا فترة في صمت ثم قال السير وهو يشير إلى زجاجة الويسكي: (اشرب كأساً إذا شئت)
فشرب وشكره ومضت فترة صمت أخرى. ثم قال السير برتون: (ولكن لماذا كنت تريد أن تدخل في نادي السباق؟)
فقال الدوق بلهجة تنم على الوثوق التام: (لقد كنت أعلم من قبل باسم الجواد الذي سيربح في السباق المقبل) فابتسم السير وقال: (أنا كذلك أعلم)
فهز الدوق رأسه وقال: (أنت مخطئ فقد تغير العزم على منح الجائزة لجوادك (ويت لادي) الذي كنت تعتقد حتى هذه اللحظة أنه صاحب الجائزة)
فامتقع وجه السير لما رآه يصرح باسم الجواد وصاحبه. وقد كانت الحقيقة أن التدبير جرى من قبل في النادي على أن ينال هذا الجواد الجائزة.
ثم قال اللص: (وكنت قد اشتريت أوراقاً للمراهنة على جوادك، ولكنني بعتها واشتريت بمائة وخمسين جنيها أوراقاً أخرى على الجواد الآخر لكي أربح خمسة آلاف جنيه وحملت
أصدقائي من اللصوص على مثل ذلك)
وكانت لهجة الثقة التي يتكلم بها اللص داعية للسير برتون على تكرار الابتسام وقال: (لكنه من المحتمل أن تخسر) فقال الدوق: (إن هذا مستحيل - لكن البوليس تأخر)
وكان إبداؤه هذه الملاحظة بمناسبة هي أن الساعة دقت الثانية بعد منتصف الليل. وقد نظر إليها اللص وأبدى تعجبه من ارتفاع صوتها حينما تدق دقة مزعجة مع أنها من أغلى طراز. فلم يجبه السير على هذه الملاحظة ولكن سأله: (ما اسم الجواد الآخر؟)
قال الدوق: (ليس من حقي أن أخبرك لأن المصدر علمي يتعلق بحادثة غرامية بين رجل أعزب وبين امرأة متزوجة. ولو أخبرتك باسم الجواد فقد تعرف هذه المرأة. وأرى مما يتنافى مع شرف الكبار من اللصوص أن يفعلوا ذلك. لقد كنت أسرق منزلاً لأحد الأغنياء فوجدته مستيقظاً ومعه امرأة فاضطررت إلى الاختباء وسمعت الحديث الذي دار بينهما وهو عن التدبير الذي تم لتغيير الجواد الرابح. وقد كان هذا التدبير لمصلحة الرجل وبواسطة تلك المرأة.
وهنا دخلت اللادي برتون وقد دهشت عندما وجدت زوجها واللص يتحادثان كأنهما صديقان ووجدت اللص جالساً مطمئناً. وزادت دهشتها عندما وقف اللص ووقف زوجها للترحاب بها عند الدخول. وقالت لزوجها: (ما الذي فعلت؟ ألم تستدع البوليس؟)
فتناول اللص كرسياً وأشار إليها بالجلوس فجلست وهي في غاية الدهشة مما تراه.
وقال السير: (اسمعي ما يقوله الدوق. لقد أخبرني بأن العزم تغير في نادي السباق ولن ينال الجائزة جوادنا (وايت لادي)
فنظرت اللادي في حيرة إلى اللص وقالت: (ما هو الجواد الأخير؟)
فقال: (لا تسأليني فإن القصة تمس شرف إحدى السيدات، وقد كنت منذ أسبوع أسرق بيت رجل غني فجلست في غرفة الاستقبال. وكان في غرفة النوم سيدة متزوجة تتآمر مع الرجل على موضوع السباق)
ولاحظ الدوق ارتباك السيدة مما بدا في نظراتها وصوتها، ولكن السير كان بطئ الملاحظة فلم يدرك شيئاً من ذلك.
وقالت اللادي: (وهل رأيت السيدة؟)
فقال: (لقد لمحت) فقال السير برتون (هل هي زوجته؟)
قال: (كلا وقد قلت الآن إنها متزوجة)
قالت اللادي: (ولماذا لم تظهر نفسك؟) فلاحظ السير على زوجته هذه الملاحظة: (وكيف يظهر نفسه ويتعرض للاعتقال؟)
فقالت: (إنه ما كان من المكن أن يعتقل ما دامت المرأة التي معه متزوجة)
قال الدوق بإباء وترفع: (إنني لا أستغل الأسرار ولا أتجر بسوء السمعة)
استمر اللص في سرد ما سمعه عن تغيير الجواد الرابح فاستثار اهتمام السير لأنه وثق من صدق ما يسمع لما فيه من تفاصيل عن شؤون النادي.
وفي أثناء الكلام دق الجرس فاستأذن السير من اللص وذهب إلى الباب. وفي أثناء غيبته التفتت اللادي إلى اللص وقالت: (أرجو أن تصارحني الآن، أليس المنزل الذي سمعت فيه هذا الحديث هو منزل اللورد آرثر جريفزلي؟)
قال: (نعم ولكن ما يدريك ذلك؟)
فقالت اللادي: (دع هذا التجاهل فإنني السيدة التي كانت هناك. ألم تكن الليلة ليلة الأربعاء؟)
قال اللص: (أأنت مجنونة حتى تعترفي أمامي بمثل هذا الاعتراف؟ لكن سرك على كل حال مصون في قلب يكتم الأسرار، وقد كانت الليلة ليلة السبت وكانت المرأة امرأة غيرك)
وقد كان اللص يحسب هذا القول مطمئناً لها ولكنه أخطأ فإن هذا القول لم يزدها إلا انزعاجاً. وألحت عليه أن يخبرها باسم المرأة الأخرى.
وقالت إنها لا تهتم لنفسها ولا تعبأ بالسر ولكنها تهتم لأن اللورد يدعو إلى منزله امرأة غيرها. وأخذت تلعن وتسب وتقسم أنه لن يكون بينها وبين اللورد علاقة)
وفي أثناء الحديث عاد السير برتون وقال إن الذي كان يدق الجرس هو رجل البوليس وإنه صرفه بأكذوبة اخترعتها وإنه يرجو من الدوق أن يخبره باسم الجواد الآخر.
قال الدوق! (لا تتعب نفسك فإني لا أسمح بذكر حديث يؤدي إلى معرفة المرأة) فقال السير: (عجيب والله أن يأتي لص في الساعة الثانية بعد منتصف الليل ليلقى علينا درساً في الأخلاق. قل وسأعطيك ما تريد من المال) فأبدى اللص علائم الاشمئزاز.
وقالت السيدة لزوجها: (ليس مما يتفق مع مكانتك أن تساوم مثل هذا الرجل على ما أفهمك أنه سر)
ولكنها رأت إصرار زوجها وتشبث الدوق وضاق صدرها بسرها وشعرت بأنها أحرجت فقالت: (إن الرجل الغني الذي يتحدث عنه هو اللورد آرثر جريفزلي والجواد الرابح جواده)
وقف الدوق مغضباً وقال: (هذا سر خنته)
ولكن اللادي خرجت باكية متعثرة وقد عرتها رعشة المضطرب فتبعها زوجها. ووقف اللص وحده وهو نادم على إفشاء السر أكثر من ندمه على أنه سارق.
وبعد ساعة عاد السير برتون وهو أصفر الوجه خائر القوى وقال: (إن اللادي اعترفت لي بالحقيقة كلها وهي ترجو مكافأة على إطلاق حريتك الليلة أن تسرق لها الخطابات التي كتبتها إلى اللورد آرثر)
فوعده الدوق بذلك
وفي الليلة التالية كان اللورد آرثر في حجرة مدير البوليس السري ليساعده على استكشاف جريمة
قال المدير! (ما هو الشيء المسروق؟) فقال: (رزمة من الخطابات يظهر أن اللص حسبها أوراقاً مالية)
فقال مدير البوليس: (وما فائدة البحث عنها؟ إن اللص سيمزقها كما كنت تفعل لو أعيدت إليك)
لكن مدير البوليس كان مخطئاً فإن اللص أخذها ليردها إلى اللادي برتون وقد نال في مقابل ذلك جائزة هاجر بها من إنجلترا إلى أمريكا وترك مهنته الدنيئة
ع. ق