الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 996
- بتاريخ: 04 - 08 - 1952
وأخيرا ظهر القائد المنتظر
كانت بلية العظمى أن تزعمها نفر من المحامين صناعتهم الجدل، وبضاعتهم الوعود، ووسيلتهم الخطب، وغايتهم المناصب. أكثرهم يقولون الحق ويفعلون الباطل، ويذكرون الأمة ويريدون الغنيمة؛ وأقلهم يطلبون التحرير، ويرغبون الإصلاح؛ ولكن قصارهم أن يخطبوا ما أسعفهم الريق، وإن يكتبوا ما واتاهم المداد، وإن يتظاهروا ما أمكنتهم الفرص، وإن يهتفوا ما أطاعتهم الحناجر! ثم أحترف الطماعون مهنهم الدفاع عن القضية الكبرى لأنها أوفر ربحا وأيسر كلفة، فكان من غرضهم أن تعرض، ومن مصلحتهم أن تطول! ثم أنقلب هؤلاء المحترفون صيادين في بحر زاخر بالخلاف والفساد والفوضى، بعضهم يطمع في اللآلئ، وبعضهم يقنع بالجيف؛ والشعب المظلوم المحروم يصارع الأمواج الرُّعن، ويجابه الصخور الصم، ويستغيث أفلا يرى ألا الشباك الجارفة تغرق أشلاءه وتجمع أسلابه! وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ويحسب كل عامة خاصة نشَّأته جدودنا العواثر تنشئه الوارث العابث المتبطل، فلم ينل ما يناله الإنسان العادي من التربية والتعليم، وإنما ثقفه الفراغ في الرأس والنفس والضمير ثقافة الفجار من أمراء بيته، فصاد الطير وقاد السيارة ولعب الورق أطلق المسدس!
كانت غاية همه أن يغني وإن يطغى وإن يحكم. ولم تكن غايته من الغنى أن يخفف شدة الفاقة عن رعيته، ولا من الطغيان أن يكفكف شرة الحزبية عن أمته، ولا الحكم أن يواجه سير النهضة في بلاده. إنما كانت غايته من الرغائب الثلاث السرف والترف والفحشاء والمنكر والبغي!
تناصر هذه الملك اللاهي وأولئك الساسة المحترفون على إذلال هذه الأمة ففرقوا كلمتها، وعوقوا نهضتها. وبددوا ثروتها، وسوءوا سمعتها، ودفعوا بها إلى هواة من هوى الفساد لا سبيل لها لنجاة ولا بصيص فيها لأمل. فلم يكن بد من أن يظهر في مصر مصطفى كمال ليعيد الروح إلى الجسد الميت، ويرد الكون إلى النظام الفاسد! وما محمد نجيب ألا الرجل الذي ادخره الله لهذا اليوم لتنكشف به غمة، وتحيا بفضله أمة، وينصلح على يده عهد ويبتدئ بإسمه تاريخ! وان مصر التي حلمت به كثيرا في ليلها الطويل، وانتظرته طويلا في سجنها المظلم لترجوا منه أن يكون لها ما كان كمال من تركيا: يطهر الحكم كما طهر الملك، ويرفع الشعب كما رفع الجيش، ويقيم الدولة والحكومة والأمة على أسس جديدة من
الخلق الفاضل والعدل الشامل والخير المحض والعلم الصحيح والعمل المثمر لا يثبت عليها دجل، ولا ينفق فيها غش، ولا يتطرق أليها فساد
لقد كان فرعون المطرود قادر على أولئك كله لو أراد؛ ولكن الله الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، لم يرد هذه النعمة إلا لمحمد نجيب. فلتكن إرادة الله!
احمد حسن الزيات
الحاجة إلى الجذور
الدكتور عمر حليق
في تراث الماضي ورواسخه ذخيرة من الطمأنينة الروحية جيلنا المثقل بالأعباء في حاجة أليها. وفي النفس رغبة ملحة لأن تعادل في نباهة بين ما تتشوق إليه في الحياة اليومية من هناء وطمأنينة واستقرار، وبين ما يكتنفها من قلق وفتنة وتشويش مبعثه تسيار الحوادث وطبيعة التيارات الفكرية التي تعصف بالمرء في طور الفتوة العقلية في حاضر جيل كجيلنا مشحون بشتى أنواع الصراع
فهذا الجيل عجيب بين أجيال التاريخ. ولد في أهوال الحروب، ورضع من دم الثورات، وشب في عهود الفتن والانقلابات، وفي عواصف الفوضى الثقافية والعاطفية التي تنقلها إليه مواصلات فكرية سريعة ربطت أركان المعمورة بعضها ببعض فأصبحت كالدف تنقر عليه من أي ناحية فينقل الصدى إلى السامعين.
وقد فرض على هذا الجيل مسؤوليات جسام، فوجد نفسه مشوش التفكير موزع الأهواء، فقد اتسعت مداركه بالعلم الحديث وازدادت احساساته بالتجارب فأصبح يبحث عن استقرار وحرية الانطلاق، لا كترف يزين به رجولته، ولكن كمعول لتحقيق الطمأنينة في مفاهيمها العديدة - اقتصادية وسياسية وثقافية - لعله مستطيع تلبية حاجاته، وهي تفوق في ماهيتها وكميتها حاجات الأجيال السابقة.
وفي إبان يقظة هذا الوعي يواجه جيلنا ألوانا من المغريات فينساق معها المرة بعد المرة راميا بمسؤولياته إلى الجحيم، ولكن سرعان ما تجذبه هذه المسؤوليات أليها في عنف وشدة لتذكره بان المغريات في هذا الجيل لا تنال اختلاسا، ولا تستطيع أن تمنع المتعة الحقة ألا إذا توافرت أسبابها الاقتصادية وأوسطها الاجتماعية ودون ذلك ستائر كثيفة نساجها من مقدمات البيئية وتركز الثروة وسوء توزيعها، وما أولدته من أنظمة الطبقات واختلال الميزان الاجتماعي وما نتج عن ذلك من كبت للمواهب وقضاء على الفرص والإمكانيات، وعلى كل هذه عقبات منيعة لا مفر لجيلنا المدرك لحقوقه وواجباته أن يجاهد للتغلب عليها.
وفوق هذه المشاكل الاقتصادية والسياسة والاجتماعية مشكلة أهم بتخبط فيها جيلنا حين يحاول أن يوفر للنفس ذخيرة ثقافية تعينه علة مواجهة هذا التحدي. فبين النفس
واستقرارها فوضى ثقافية تسربت إلى جيلنا من بلبلة برامج التعليم وتنوع الغذاء العقلي والروحي الذي يغزونا من كل الجهات، من تراث الماضي وقوته التي تهيمن على بيئتنا وتكويننا الخلقي، ومن تيارات فيها من عناصر التشويش والتناقض ما يفرض على عقولنا واحساساتنا صراعا لا رحمة فيه، ندفع إليه مسيرين لا مخيرين رغبة منا في أن نحقق لأنفسنا نهجا في السلوك وسبيلا إلى الطمأنينة تتناسب مع ما تشعبت به عقولنا وعواطفه من مبادئ وما تولد في أنفسنا من حاجة إلى العيش الشريف في عالم تشعبت مطالب العيش فيه وازدادت في مجال الموازنة مع مطالب الأجيال السابقة.
هذا والكثير من أشباهه بعض ما نواجهه من تحد. ومن ثم ألمت بشخصية جيلنا ألوان من القلق وضروب من المسؤوليات تفرض عليه أن يجد لمواجهتها حلولا سليمة
فمنا من ينساق إلى مغريات التطرف فيثور على النظم والمجتمع وبيئته وثقافته، ويعتقد بأنه واجد الخلاص في اعتناق هذه النظم والمبادئ المتطرفة التي يخيل إليه إنها ستوفر لأزمته أقرب الحلول وأقصر المسالك. وتاريخ الإنسانية ملئ بهذا النوع من أفراد المجتمع الذين يسأمون من بطأ التطور، فيلجئون إلى التغلب عليه بسلاح التطرف في العمل والتفكير.
ومنا من ينكر على جيله تعدد المطالب وتشعب المسؤولية فيختار العيش في الماضي المحافظ ويمتزج امتزاجا كليا في تقاليده وتراثه وبيئته لعله قادر على أن يحقق مطلب النفس من الطمأنينة والاستقرار الذي يبدو له أن الجيل السابق والأجيال التي أتت قبله قد استطاعت أن تنعم بها.
ولكن أكثرنا لا يرضى عن هذين الاتجاهين، فهو لا يستطيع أن يعيش في الماضي المحافظ في عزلة عن تيارات الفكر والتطور الذي ألم بالحياة وبالمجتمع الأكبر. فكل شيء في الحياة والمجتمع تلح عليه أن يواجه العصر بأسلحة العصر. ولكن أكثرنا مدرك كذلك بان التطرف والثورة على النظم ليست كفيلة بان توفر لهم ولقومهم ما هم في عوز إليه من عدالة واستقرار
فالثورة والاندفاع المتطرف في عالم تكتنفه الذئاب لا يحقق لجيلنا ما يطمحون إليه من أسس ومبادئ ألا إذا ارتضى لنفسه ولقومه أن يصبحوا فريسة لطبقة من المجتمع أو لدولة
من الدول التي تتحين ميلاد الأوضاع الثائرة فتزحف لتملأ (الفراغ) بدعوى حفظ الأمن والاستقرار. ولنا في اختباراتنا واختبارات غيرنا في كوريا وغير كوريا أمثلة وافية على ذلك.
وحين يحاول أكثرنا في صدق ونباهة أن يدفع عن نفسه القلق وإن يواجه مسؤوليات السياسة والاجتماعية والفكرية يجد نفسه تنزلق في مسلك وعر.
ففريق يندفع إلى الاعتقاد بان جوهر الأشكال هو توفير الحرية الديمقراطية خالية من سيطرة الذين ورثوها مع ما ورثوه من مال وعقار. ومن ثم يتجه هذا الفريق إلى النشاط الحزبي مدفوعا إلى ذلك برغبة تلح في أن يصلح الأداة السياسية فيحقق لنفسه ولقومه العدالة والطمأنينة في مفاهيمها العديدة، واثقا من أن الحرية السياسية (على نحو ما تفسرها الديمقراطية الغربية) ستوفرها له على أتم الوجوه وأحسنها. وهذا الفريق أميل إلى تجاهل العناصر الأخرى التي تشارك الحرية السياسية في الأهمية والقوة.
وفريق آخر يختار التفسير الاقتصادي لأزماته ومسؤولياته فيجد العلة الكبرى في تركز الثروة وفقدان التوازن في النظام الطبقي ويتحمس لاعتناق تعاليم (ماركس) وغيرة من أبناء الشيوعية ودعاة الاشتراكية على علاتهما. وهذا الفريق أميل في المراحل النهائية إلى الشك في صلاح هذا التفسير الاقتصادي منه إلى الثقة به. فأنبياء الشيوعية ودعاتها لم يتطرقوا إلا من طرف غير مباشر إلى ألوان العقد والمشاكل والمسؤوليات التي يواجهها جيلنا مجتمع عربي إسلامي هم بحكم البيئية والتراث والمقدمات وبفضل دوافعه الروحية والمادية يختلف في أوجه عديدة هامة عن المجتمعات التي عالج مشاكلها ماركس وفلاسفة الاشتراكية الأوربيون. ومثل هذا الفريق مثل الطبيب الذي يعالج أمراض المناطق الحارة بالأدوية والوصفات التي تعالج بها أمراض القطب المتجمد الشمالي. وهناك فريق ثالث يشارك أقرانه في مواجهة التحدي وملاقاة المسؤوليات التي فرضت عليه ولكنه لا يسمح لنفسه أن تقتنع بأي حل من الحلول التي أقتنع بصلاحها الفريقان الآخران. فهو لا يؤمن بان الحرية السياسية كما تبشر بها ديمقراطيات الغرب كافية وحدها لبناء المجتمع الجديد. فهذه الديمقراطيات نفسها ساعية لتطعيم أنظمتها بعناصر مستجدة من تطور الفكر والوعي في الجيل الجديد. وهذا الفريق الثالث لا يستطيع كذلك أن يتجاهل العناصر التقليدية
الراسخة - الدينية والثقافية والاجتماعية - التي تعيش عليها بيئته عندما يبحث عن الحلول في تعاليم الشيوعيين والمبادئ والنظم الأخرى التي وضعها المصلحون لمجتمعاتهم التي أن شابهت مجتمعنا في وجه فإنها تختلف عنها في أوجه أخرى.
وفي هذا الفريق نزعة كامنة - سمها ما شئت دينية أو قومية تصر على أن يرعى تراث الماضي وذخيرته، وهذه المقدسات والعناصر الخالدة التي تطفح بالروعة وتمتلئ بالطمأنينة والاستقرار في عالم يكتنفه التفكك والعقد والأزمات الروحية والمادية.
وهذه النزعة ليست لونا من الترف العقلي أو نوعا من المخدرات الروحية التي ما أكثر ما يتهم بها الراغبون في مواجهة التحدي في ترفع عن صرخات الاجتهاد الخاطئ للذين اعتقدوا بأنهم وجدوا الحلول لمسؤولية الجيل. بل الحق أن هذه النزعة ضرب منا الاجتهاد الجاد للبحث عن معقل للإيحاء الروحي والفكري لا ينضب معينه - وهو معقل لابد لكل من أحاطت به مسؤولية أو ألمت به أزمة من أن يلجأ إليه ليستمد منه القوة والشجاعة والرأي السديد
فجيلنا أشبه بالجيش المنهزم يواجه المعركة الفاصلة على حدود بلاده فهو لا يجد الحكمة في أن يغامر بما تبقى لديه من قوة ومناعة ليظفر بجزء من عتاد الأعداد وذخيرتهم ليتسلح بها في الموقعة الفاصلة، بل الحصافة في أن يجمع ما استطاع جمعه من ذخيرة وقوة محلية من طول البلاد وعرضها. فيقتلع أسلاك الحدائق وبوابات القصور وقضبان النوافذ ليصهر ويصنع منها سلاحا يتحصن فيه خندق مكين إلى أن يستعيد من بأسه ويجند قوته الكامنة في عزم شديد
وجيلنا في عراكه مع المسؤوليات الجسام التي تتحداه لا يستطيع أن يضمن لنفسه النصر إذا اختار المغامرة في المعركة الفاصلة فاندفع بجمع ذخيرته من فتات الآراء والمبادئ يلتقطها من أطراف الميدان الذي يسيطر عليه العدو الملاحق. بل أن طبيعة هذا العراك تفرض على جيلنا أن يختار لنفسه حصنا منيعا يجمع فيه ما استطاع اكتشافه من ذخيرة فكرية وتراث روحي من صميم المجتمع الذي نصب نفسه مدافعا عن حماه ساعيا إلى تحويله إلى مجتمع افضل
فكما أن آلة الحرب في أزمنة الصراع لا يمكن لها أن تقتصر في استعدادها على ما
تستورده من ذخيرة وعتاد وإنما تسعى جادة لإنشاء المصانع في أرض الوطن بعد أن تتيقن من أصناف المواد الخام المتوفرة في تربتها؛ فإن عراك الجيل يجب أن لا يقتصر في استعداده على ما يستورد من بضاعة فكرية مصادرها عديدة وإلا كان أشبه بالجيش الذي يتسلح ببندقيات بريطانية رصاصها بلجيكي وطائرات روسية لا يصلح لإدارتها ما يتوفر لهذا الجيش من غاز معكر.
فالمهم أن نعكف قبل كل شيء على إحصاء ما يتوفر لدينا من مادة خام - من بيئة ومقومات وتراث روحي - قبل أن نختار القوالب الفكرية المستوردة التي نطمح في أن نجهز بها أنفسنا وعقولنا لمواجهة مسؤوليات الجيل.
فبنا حاجة ماسة إلى الجذور؛ جذور الفكر وأحوال التراث ودعائم البيئة التي نشأنا فيها وطبيعة المقدمات الخلقية والثقافة التي يعيش عليها مجتمعنا.
ومن هنا أخذ فريق منا يندفع باحثا عن همزة الوصل بين تراث الماضي وذخيرته ومسؤولية الجيل الذي نحن منه
وبفضل ذلك وجد كاتب هذه السطور نفسه راغبا في أن يشارك قراء الرسالة في متعة نعم بها مطالعته لكتاب أصدرته المطابع الغربية مؤخرا لمؤلفة فرنسية شابة كلفها رجال المقاومة السرية في فرنسا إبان الاحتلال النازي أن تدرس الأسباب التي آدت التي أدت إلى انهيار فرنسا السياسي والعسكري وتقلص الروح المعنوية بين الكثرة الساحقة من أبنائها، وإن تستوحي من ذلك من ذلك أسسا للمجتمع الجديد الذي ألقيت مسؤوليات تعميره على عانق الجيل الذي هي منه.
فجاء هذا الكتاب سجلا لكثير مما يسود حاضر هذا الجيل من قلق وانفعال؛ وإيجاد صادقا لما تعتقد هذه الكائنات القديرة بأنه عون على مواجهة مسؤولياته الجسام.
وقد شغفت هذه المؤلفة سنوات طوالا بمعالجة موضوعات فلم تكترث للسل الذي كان يمتص حيويتها ولم تضع القلم ألا بعد أن تمت البحث فتلقف الناس الكتاب وزحفت هي إلى القدر لتقد رقدتها الأخيرة.
واسم المؤلفة (سيمون وايل) وقد توفيت عن (33) عاما أما الكتاب فترجمة عنوانه (الحاجة إلى الجذور) وهي الترجمة التي أختارها الناشر الإنجليزي.
فلنصاحب هذا الكتاب في عدد الرسالة القادم.
للكلام صلة
عمر حليق
خروج المتنبي من مصر
القسم الثالث
لحضرة صاحب العزة الأستاذ احمد رمزي بك
سافرت في آخر شهر أكتوبر سنة 1951 إلى خارج مصر لحضور اجتماع هيئة الأمم المتحدة ولم اعد ألا في النصف الأخير من شهر فبراير سنة 1952 لذلك تأخرت في الكتابة عن رحلة المتنبي الذي لازمني طول مدة إقامتي بعيداً عن مصر.
ذكرنا في المقالين الماضيين كيف قطع المتنبي المسافة بين الفسطاط ونخل في مرحلة واحدة وكيف مدح الهجن البيجاوية التي حملته هذه المسافة الطويلة بقوله: -
ولكنهن حبال الحياة
…
وكبد العداة وميط الأذى
ولم يقف أبو الطيب طويلا في نخل التي تركها بعد أن مر بها ونفسه مملوءة بالفخر فقال:
فمرت بنخل وفي ركابها
…
عن العالمين وعنه غنى
وسار من نخل حتى قرب من النقاب أو أشرف على ما نسميه اليوم رأس النقب وهو على حدود مصر الحالية. ثم نزل في الوادي وسار شمالا في القطاع الواقع الآن بين شرق الأردن ومصر والذي اصبح من أملاك إسرائيل. وانتهى إلى وادي تربان وهو وادي ينزل من الحميمة إلى المنخفض الواقع في هذا القطاع
ويظهر أن أبا الطيب المتنبي أخفى نيته واتجاهه في السفر إذا يقول.
وأمست تخبرنا بالنقاب
…
بوادي المياه ووادي القرى
وبقصد بوادي المياه ووادي القرى الاتجاه جنوبا إلى الحجاز بدلا من الاتجاه شمالا إلى الشام واخذ طريق الكوفة. ويظهر أن شمال الحجاز كان عامر في عصره بدليل ما جاء في كتاب ذيل الأمالي صفحة 121.
ولما علوت اللايثيى لشوقت
…
قلوب إلى وادي القرى وعيون
كما جاء في كتاب الأمالي صفحة 299 جزء 2 شعر جميل.
ألا ليث شعري هل أبيتن ليلة
…
بوادي القرى إني إذا لسعيد.
وجاء في صبح الأعشى جزء 4 صفحة 292 انه بضم القاف وفتح الراء المهملة وألف في الأخر جمع قرية.
قال:
في الروض المعطار: وهي مدينة كثيرة النخل والبساتين والعيون بها ناس من ولد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهم الغالبون عليها وتعرف بالواديين، والذي أخبرني به أهل الحجاز انه كان بها عيون كثيرة عليها عدة قرى فخربت لاختلاف العرب، وهي الآن خراب لا عامر بها ولو عمرت أغنت أهل الحجاز جميعا عن الميرة من غيرها.
ولما صعد المتنبي الهضبة المقابلة ووصل إلى وادي تربان باح بما يجول في صدره وقال أين أرض العراق كما جاء في شعره:
وقلنا لها: أين أرض العراق؟
…
فقالت ونحن بتربان: ها
وجاء في ديوانه أنه حينما صعد النقب ومر بثربان وفيه ما يعرف بغرندل فسار يوما وبعض ليلة ونزل.
وغرندل هي من المحطات التي قيل أن بني إسرائيل مروا بها بعد عبورهم البحر الأحمر - ذكر عنها صاحب كتاب أنها كانت مركز أسقفية تحت اسم أرنديلة وكانت واقعة على الطريق الروماني الذي يوصل إلى ايلياء (العقبة) الحالية.
ومن المدهش انه بمجرد قيام حرب فلسطين ودولة إسرائيل انقطعت المواصلات التلفونية بين مصر وسائر البلاد العربية
ثم انقطعت الطرق البرية بين مصر والحجاز وشرق الأردن حتى الطريق الذي سلكه أبو الطيب المتنبي لم يعد بوسعنا أن نسلكه فكان أن أصبحت إسرائيل في النهاية تتحكم في مواصلاتنا.
وتدل الأبحاث على أن هذه المنطقة بالذات كانت مسكونة بقبائل من العرب من معن وبني فزارة وسنبس.
وقبل وصوله إلى هذه المنطقة تلقاه رائد من بني سليم سار معه حتى وسط بيوتهم آخر الليل فضرب له ملاعب بن آبي النجم خيمة بيضاء وذبح له. وسار من غدة فنزل بين بادية معن وسنبس وهي التي كان الوزير الناصر أبي محمد اليازوري الفاطمي يخشى قوتها وكانت تسكن حول غزة ثم انتشر نفوذها بعد ذلك أخذت تقلق بال الفاطميين ثم انتقلت مع غيرها من بلاد الشام إلى مصر ومنها إلى المغرب. وقد ذكر الدكتور عباس
مصطفى عمار أن مواطنها حول غزة. وجاء في ديوان أبي الطيب أن منطقة نفوذها امتدت إلى الجنوب فشملت الأجزاء المحيطة بالعقبة.
ومن هذه المنطقة أي بين تربان وغرندل التي بجوارها اذرع والحميمة وهي مناطق معروفة بالتاريخ في القرن الأول الإسلامي وكان يسكنها طوائف من الطالبيين أبناء علي بن أبي طالب ومن العباسيين سلالة العباس طول عهد الدولة الأموية وذلك لما كانت عليه هذه المناطق من الخصب وكثرة المياه، وليكون أبناء أبي طالب والعباس بذريتهم وثرائهم على مقربة من دمشق وبعيدين عن شيعتهم في العراق والحجاز فيسهل على الدولة مراقبتهم وتقصي أخبارهم.
ويخيل إلى أن أبا الطيب كان غير مطمئن لسلامته إذا اتجه مباشرة إلى شمالي الحجاز عن طريق العقبة نظرا لما يعلمه من تحوط كافور واتصاله بعربان هذه المناطق. ويقول الديوان أن بعد أن أمضي ليلته في هذه المنطقة من أرض الشراة اتجه إلى جبال حسمي وواجهته رياح الحجاز وقال قصيدته:
وهب بحسمي هبوب الدبور
…
مستقبلات مهب الصبا
وجاء في ديوان إرم وهو علم لجبل من جبال حسمي من ديار جذام بين العقبة وتيه بني إسرائيل0 وهذا الجبل عال عظيم العلو تزعم أهل البادية أن فيه كروما وصنوبرا، وكان النبي عليه (ص) وقد كتب إلى زعماء قبيلة جذام أن لهم جبل إرم لا يشاكهم فيه أحد ولا يحاقهم فيه غيرهم.
وفي ديوان المتنبي أن امتداد جبال حسمي مسيرة ثلاثة أيام طولا في يومين عرضا ويعرفها كل من يمر بها ن وقد وجدا أبو الطيب في حسمي بني فزارة وفيهم أولاد لاحق بن مخلب فنزل بينهم لان أمير فزارة حسان بن حجمة كان بينه وبينه مودة وصداقة. وبهذا تحقق ما كتبه قبل ذلك من الشعر وهو بمصر إذا قال:
إذا سرنا عن الفسطاط يوما
…
خلفني الفوارس والرجالا
لتعلم قدر من فارقت مني
…
وإنك رمت من ضيمي محالا
للكلام بقية
أحمد رمزي
المدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي
هل المسيحية في ازدهار؟
للأستاذ الكبير الفاسي
هذا السؤال إذا اكتفينا في الجواب عنه بقبول ما يرد علينا في الإحصائيات على عواهنة، أجبنا عنه بالإيجاد، لأن الإحصائيات تزعم أن عدد المسيحيين في اطراد. على أنها تعتبر سكان أوربا كلهم مسيحيين كما تعتبر سكان أمريكا - جنوبا وشمالا كذلك مسيحيين. والإحصائيات لها منطوق ومفهوم وظاهر وباطن، ومن شأنها تصليح دليلا للمثبت ما دام لا ينفيها ناف يريد أن يثبت خلاف ما يدعيه المثبت.
والعبرة في كل شيء ليست بالعدد وإنما هي بحقيقة الواقع في الشيء المعدود؛ فإذا كانت المسيحية كثرة لأفراد فإن المسيحيين قليلو المسيحية، بعبارة أخرى فإن من يعتبرون في عدد المسيحيين سواء في أوربا أو في غيرها لا تسيطر المسيحية على أكثريتهم ألا بقدر ما تسيطر عليهم التقاليد والعوائد، بحيث أصبحت المسيحية في كثير من الأقطار ظاهرة اجتماعية أكثر منها معتقدات فلسفية وتعاليم وأخلاقا.
والناس طبقات، وأظهر هذه الطبقات طبقة المالكين وأصحاب رؤوس الأموال وطبقة العاملين لهم وهم العمال والمأجورون.
فالطبقة الأولى، وهي طبقة رؤوس الأموال، لا ترى في المسيحية ألا إطار يحسن فيه إقامة المهرجانات الاجتماعية من زواج ودفن. وتباهي في تلك المهرجانات ولا تترد في الإنفاق عليها. . ثم أنها عهد قريب كانت ترى في الدين أداة لتسكين غضب العامل والأجير والفلاح لما هم فيه من بؤس وشقاء؛ وترغيبهم في حياة الآخرة بما فيها من نعيم يعوضهم ما لم يدركوه من أنواع الخير والنعيم في هذه الحياة الدنيا. غير أن طبقة العملة استقطبت من سباتها وأدركت أن الدين شيء، وما هي عليه من بؤس وشقاء شيء أخر. وإن الدين، الذي هو إيمان وسلوه ورجاء، لا ينبغي أن يكون ذريعة لأصحاب رؤوس الأموال يتوسلون بها إلى استغلال عملهم الشاق المضني لجمع المال وتنميته ينفقون جزءا تافه منه على تشييد الكنائس وإقامة الصلوات ويتركونهم يعيشون هم وأولادهم في بؤرة الشقاء والمرض والبؤس
ولم تحصل هذه النتيجة في عقول العامل والفلاح والأجير بتعاليم الاشتراكية والشيوعية
طيلة القرن التاسع عشر فحسب، بل كان الفضل في ذلك لانتشار العليم أولا، ولفضائح الطبقات المالكة. ولفضائح الكنيسة الكاثوليكية الأخلاقية والمالية. بحيث اصبح العامل والقروي لا يغرهما بهرجة الدعاية وجمال المظهر وحسن الهندام، إذا يعلمون أن من يمثلون الدين لا يعيشون دائما حسب تعاليمه وإن أصحاب رؤوس الأموال لا يتأثرون من الدين بشء، فساءت الظنون وتبع ذلك ما هو ما هو اكثر منه أي فرار اكثر به العملة من حظيرة الكنيسة. وأحسن برهان على ذلك فقرات نسوقها للقارئ نقلا عن مجلة (إنكليزية) وهي لسان حال الكنيسة الأسبانية بقلم أسقف بلنسية جاء فيها:
(يتمنى العملة الإسبانيون استبدال الحكم في بلادهم ولكنهم يجهلون بأي شيء يستبدلونه، والعملة لا يخافون الكنيسة، وإنما يخافون رجال الجيش ويعتبرون ما يتقاضونه من الأجور لا يدفع عنهم البؤس وإنما هم مرغمون على تقاضيه من طبقة المترفين. والعملة من وجهة العلائق الجنسية مع نسائهم ليسوا من العفة في شيء: فالأعزب منهم لا يزيد الزواج والمتزوج منهم لا يرى في زوجه إلا أداة للمتعة الجنسية ويعمل على ألا يكون له من زوجه ولد. ويلاحظ أن حديث العملة فيما بينهم اكثر ما يدور حول النساء والشؤون الجنسية لا السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.)
ويختم الأسقف قائلاً: (لا يتورع العملة عن سرقة مستخدميهم كلما وجدوا لذلك سبيلا، وذلك أما بالقيام بالعمل أقل ما يمكن، وأما باختلاس بعض الأدوات. وهم يتصرفون هكذا كأنهم يقولون هذه بضاعتنا ردت ألينا! وما ذلك ألا انهم ملحدون).
ذلك ما يخص الشعب في أمة تعتبر أعرق الأمم الكاثوليكية ولا حاجة بنا لتعليق أو شرح إذ كلام الأسقف من حيث البيان قد بلغ الغاية القصوى. وإذا كان الأمر كذلك في مثل هذه الأمة فماذا يكون في غيرها من الأمم التي لعبت في عقول أفرادها التعاليم الماركسية والماسونية التي سيطرت على التعاليم في كثير من البلاد الأوربية وفرقت بينه وبين التربية الدينية. فحالة المسيحية في فرنسا لا تقل تحرجا عنها في غيرها. فقد نشرت جريدة رجعية كارفور في عددها الصادر في 30 أبريل الأخير مقالا بقلم أحد مساعديها الاختصاصيين في المسائل الدينية يقول فيه: (يمكن أن نؤكد من غير خشية الوقوع في الخطأ أن فرنسا في مجموعها تسير شيئا فشيئا في طريق العدول عن الأيمان بالله.
وإذا كان جمهور أهل البوادي لازال يقدم أولاده لماء المعمودية، ولا زال يتزوج ويقيم جنائز أمواته في الكنائس، مظهرا بذلك تشبثا بالكاثوليكية؛ فإن مجموع سكان المدن ألا من شذ - وحتى أفراد الطبقة الوسطى منهم وقسط من الطبقة البرجوازية العليا - كل هؤلاء أصبحوا يعتبرون الكاثوليكية كتحفة أثرية وعقيدة عتيقة دخلت في حكم التاريخ لا حاجة بالناس لإضاعة الوقت في مناقشتها والجدل فيها والخاصة في كل وسط من الأوساط الاجتماعية هي التي عدلت عن الأيمان بالله وهي التي قطعت علائقها بالكنيسة الرومانية متوجه نحو العلم والرقى العلمي، ونحو جميع الأوثان المزيفة التي نصبها العالم الحديث، وبذلك يحاولون تحقيق أهدافهم الإنسانية على أكمل وجوهها).
وبعد أن أطال الكاتب وأنبط في تصوير هذه الحالة التي تعتبر من صفحات الكاثوليكية السوداء في العصر الحاضر، زاد قائلا:
(أخذت فرنسا تبتعد عن المسيحية منذ القرن الثامن عشر ميلادي، وقد اصبح إغراقها في الإلحاد في الوقت الحاضر في أقصى درجة ممكنة، ويشمل ذلك عدداً كبيرا من الفرنسيين، وخصوصا أفاضلهم ممن ينعتون بكونهم محافظين ممن عرفوا بانتمائهم للنظريات التقدمية.
نعم أن الكاتب يقول بعد ذلك أن هناك رد فعل لا نزاع في وجوده من طرف الكاثوليكيين وخصوصا من الشباب لاسترداد ما فات الكنيسة من تأثير على النفوس، ونحن كذلك لا نناقش في هذا لأن الكاتب متفائل كل التفاؤل ونرجوا أن يكون موفقا في تفاؤله وإن تتوج تلك الجهود بالنجاح أو ببعض النجاح
ويختم مقاله المتشائم في بدايته المتفائل في نهايته بقوله: أن كنيسة فرنسا تتمتع بصحة جيدة 0
ونحن لا يسعنا ألا أن نبارك هذه الصيحة، لولا أننا فوجئنا بكتاب كتبة الراهب منتو كلار عنوانه: الحوادث والإيمان صادرته الكنيسة الكاثوليكية بعد ظهوره وحرمت قراءته على المسيحيين نظراً للأفكار التي يتضمنها والتي تعتبرها أفكار ثورية، وهذا الراهب من أولئك الرهبان الأذكياء الذين عرفوا أن من بواعث انتشار الإلحاد والكفر والابتعاد عن تعاليم المسيحية، كون من سبقوهم فيها - وخصوصا منذ فجر النهضة الصناعية في أوائل القرن المنصرم - لم يكونوا في صفوف العمال والفلاحين، بل كانوا في جانب الرأسماليين
يباركون في تصرفاتهم لاستغلال المال والعملة، وكانت الكنيسة الكاثوليكية كلما قاموا من بينها ومن بين رجال الفكر والمنتمين أليها من يندد بأعمال الرأس ماليين ويدافع عن العملة مثل الأب لكوردير والأب لمنى وغيرهما تقاومه وتحرم النظر في كتبه لأنها تشتمل على أفكار وأراء تعتقدها مخالفة لتعاليمها وقد قام في فرنسا بعض صغار الرهبان، واغلبهم من الشعب وأخذوا على أنفسهم التقرب من العامل والفلاح لدرس حالته أولاً وأعانته في شدته وضيق عيشته والدعوى إلى رحمته ليخرج بذلك مما هو فيه من بؤس وشقاء.
وإذا خرج من ذلك أبتعد - في نظرهم - كل البعد عن حظيرة الشيوعيين. ولقبهم مناوئهم - بالآباء الحمر - لكونهم يعيشون في أواسط العمال ويعيشون عيشتهم، ومنهم من يخدم في المعامل. وإذا كان عددهم الآن قليلا جدا لكون الكنيسة لا تنظر إليهم بعين الرضا - فإن أثرهم ملموس في أواسط العمال الذين يحسون منهم بصدق وإخلاص في المأمورية الإنسانية التي يهدفون أليها.
والعجب كل العجب أن بعض هؤلاء (الآباء الحمر) قد توصلوا في درسهم حالة العمال إلى نتيجة هي نفسها النتيجة التي توصل أليها الباحثون قبلهم من أصحاب النظريات الاقتصادية في كل زمان ومكان، وهي أن مسألة العمال الفلاحين - أو ما نسميه العدالة الاجتماعية - تحتاج إلى قلب النظام في الاستهلاك والاستغلال وإعادة النظر في توزيع الأراضي الخ - وهم بوصولهم لهذه النتيجة كأنما كانوا على موعد عندها مع مفكري الماركسية احب ذلك أمكره! لذلك فأنهم يسخطون الكنيسة والرأسمالية على السواء غير انهم لا يخشون في الحق لومة لائم وإن كانوا ناقدين لأوامر الكنيسة
ولكي تعرف رأي أحد هؤلاء (الرهبان الحمر) نأتي إليك بفقرات من الكتاب المذكور، يقول صاحبه ما نصه:
(لقد قوضيت أيام من فصل الربيع الأخير مع جماعة من المبشرين في بادية فرنسا في أواسطها. ولقد أنسلخ سكان هذه الناحية عن المسيحية بحث لم يبقى عندهم من مظاهر المسيحية ألا ما علق بتقاليدهم الشعبية وما هو ممتزج بخرافاتهم وأوهامهم التي تسود فيها معتقدات هي ألصق بالسحر من غيره. وكان حاضرا معي في هذا الجمع عدد من الرهبان والخوريين يبلغ نحو العشرين - ففحصنا يوما لدرس هذه الحالة وأمامنا سؤال واحد وهو:
ما العمل لرد أهل هذه الناحية إلى حظيرة المسيحية فكان جواب الجميع انه لا أمل لنا في ذلك قبل قلب نظام توزيع الأراضي واستغلالها، وهو نظام إنساني يعيش فيه الفلاح وهو ينظر للحياة نظرات لا آفاق فيها).
ورغما من كون هذه النظريات التي تشبع بها غير ما واحد من رجال الكنيسة وإن لم يتوصلا كلهم لنفس النتيجة أي قلب نظام الحالي في الامتلاك والاستهلاك، فإن الرجعيين من الفرنسيين وخصوصا أصحاب الحزب الملكي المنتمين لأحد زعمائه وهو موراس - يقولون في حكمهم على هذه النظريات: إن هذا دين جديد، مخالف لما كان عليه دين آبائنا لكونه لا يقر الحياة التقليدية التي عاش عليها الفلاح منذ قرون وتكونت منذ قرون، والذي يظهر من أمر هؤلاء الحوارين الصغار أن نظرياتهم لا تستند على كاثوليكية ولا على سياسة اجتماعية رشيدة، وإنما مبناها أقوال الماركسية!
ولا غرابة في هذا الحكم مادام مأتاه من قوم عرفوا بضيق الفكر وشذوذه في كل شيء. والعجب كل العجب أن متزعم الحركة الملكية في فرنسا يقول بخلاف ما يدعه من يزعمون الانتساب إليه، وقد عرف عن لوكنت دوباري أن له نظريات اجتماعية قد يرتضيها كثير من أحزاب العمال وهي مغايرة لكثير من نظريات أتباعه.
ولكن الذي لا نفهمه هو أن كثير من المسيحيين المترددين أو المتحجرين الحامدين أمام القضايا الاجتماعية سواء في فرنسا أو في إسبانيا أو إيطاليا - لم يعتبروا بما وقع لروسيا التي ترددت كثيرا وجمدت ما شاء لها من التعصب والجمود أن تفعل طوال القرن التاسع عشر، وعلى رأسها الأرستقراطية جبارة كانت تتصرف في الأراضي وما عليها من رقاب تصرف السادات والإقطاعيين، ولم تحاول حل المشاكل الاجتماعية بل لم يثبت أن قادتها أعاروا أذنا لسماع شكوى العامل والفلاح مما كانوا فيه من أنواع البؤس والشقاء. فنفس جواب الرجعيين في أوربا الغربية الآن كان يجيب به سادات روسيا العامل والفلاح ومن كان يتزعم حركتهما الإصلاحية مستندين في ذلك على سوء فهم الدين، وعلى تخدير الأعصاب الذي كان يقوم به رجاله المأجورون. ولكن ماذا كانت النتيجة سنة 1917؟
إنها كانت الشيوعية التي اكتسحت نصف أوربا وبعض من أسيا الآن، والتي ستضطر الإنسانية لصرف جميع ما تملكه في مقاومتها مع عدم تحقيق الغلبة عليها، لأن القضاء على
الخطر الروسي ليس هو القضاء على الخطر الشيوعي!
كانت الشيوعية نتيجة لتحجر المسيحية والمسيحيين وكانت روسيا هي أكبر الدول المسيحية مساحا وأكثرها عدداً ولكن النتيجة هي ما نعلم.
وذلك لا تغتر بقول من يقول: أن المسيحية في ازدهار، بناء كل الإحصائيات.
على أن ما يقال في شأن التأثر بالدين وتعاليمه والتهذب بأخلاقه ومبادئه في حق المسيحية والمسيحيين، قد يقال مع مزيد الأسف والحسرة في حق الإسلام والمسلمين مع ما لابد منه من التفرقة التي تقتضيها الاعتبارات التاريخية والجغرافية والاجتماعية.
عبد الكبير الفاسي
من أثار السيدة زبيدة
للأستاذ المغربي
قال محمد بن علي العبدي للخليفة القاهر وقد سأله يوما أن يحدثه عن السيدة زبيدة: كان من فعل زبيدة وحسن سيرتها في الجد والهزل ما بارزت فيه على غيرها.
فأما الجد والآثار الجميلة التي لها في المملكة فهي حفرها العين المنسوبة أليها في الحجاز. وتمهدها الطريق لمائها في كل خفض ورفع وسهل ووعر من مسافة أثنى عشر ميل، حتى بلغت بها مكة. وأنفقت عليها ألف ألف وسبعمائة دينار ولها كثير من أمثال هذا العمل العمراني.
هذا في الجد. وأما في الأمور التي تتباها بها الملوك في أعمالهم، وينعمون بها في أيامهم، وتزين بها سيرهم وأخبارهم. فهو أنها:
أول من أتخذ الآلة (أي أدوات البيت وأمتعته) من الذهب والفضة المكلة بالجوهر. وصنع لها الصناع الرفيع من الوشى حتى كلف الثوب نحو خمسين ألف دينار.
وهي أول من أخذ (الشاكلية) من الخدم والجواري يركبون الدواب ويغدون ويرحون برسائلها وحوائجها
وأول من أتخذ القباب على الهوادج من فضة وآبنوس وهندل، لها كلايب من الذهب والفضة، وهي ملبسة بالوشى والسمور والديباج وأنواع الحرير من الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق. واتخذت النعال المرصع بالجوهر. واصطنعت الشمع من العنبر. وقلدها أغنياء الناس في ذلك جميعا.
ولما أفضت الخلافة إلى أبنها (الأمين) قدم الخدم وآثارهم ورفع منازلهم ككوثر وغيره من خدمه، فلما رأت أمه شغفه بهؤلاء الغلمان المماليك اتخذت الجواري الحسنان المقودات وعممت رؤسهن، وجعلت لهن الطرز والأصداغ والاقفيا (لعلة يعنى الشعور تجمع على القفى بشكل خاص مؤنق) وألبستهن الأقبية والقراطق والمناطق (وهي من ألبسة شباب الجند وغلمان العسكر) وأرسلتهن وهن بهذا الزي إلى أبنها (الأمين) فراقت شكلهن. وأبرزهن في مجلسه أمام الخاصة والعامة وشاع أمر هذا الزي في الناس فجعلوا يتخذون الجواري المطمومات (أي المقصوصات الشعور من طم الشعر إذا جزة أو عقصة)
ويلبسونهن ملابس الغلمان: من أقبية ومناطق وسموهن (الغلاميات).
وقد اكثر وراء ذلك الزمن من وصف هؤلاء الغلاميات وفي طليعتهم أبو نؤاس
ويظهر أن اتخاذ هؤلاء الجواري الزي المذكور لم يكن بواسطة اللبوس من الثياب وطم الشعر فقط بل يتعدى إلى تصفيف الشعر كما يفعل الغلمان والى تخطيط شوارب من المسك والغالية والعبير على الشفة العليا تقليدا للشوارب الطبيعة. وقد أشار إلى ذلك أبو نؤاس بقوله:
حور طلعن مؤنثا
…
ت الدل في زي الذكور
أصداغهن معقربا
…
ت والشوارب من عبير
والعبير أخلاط من طيب تداف بالزعفران، فالجارية كانت تلبس لبوس الغلام وتخط على مواضع الشوارب خطا من العبير وفي لونه شقرة فيبدو كشارب الغلام أو ل ما يبدو وهو بعد أشقر أو أصفر، أما مواضع الصدغ من الجارية فلا يكون عليه شعر السالف مسترسلا أو سبلا كسوالف الجواري وإنما هن يقصصن ذلك الشعر ويلونه على شكل العقرب، أو لعلهن يكوين شعر الصدغ كما تكوى الشعور اليوم بحدائد خاصة. فالغلمان كانوا يومئذ يتخذون من شعر أصداغهن كهيئة العقرب. والجواري المتشبهات بهم كن يفعلن ذلك، فإذا نظرت لوجه الواحدة منهن أول ما يقع نظرك على أصداغ غلام وشوارب غلام ومن هنا كثر في لغة الغزل قول الشعراء معقرب الصدغ وعقرب الأصداغ ولا يكون ذلك على ما يظهر في الغزل بالغلمان الذين لهم على أصداغهم شعر ملوي ومثني على نفسه بحيث يمثل للرأي عقرب أسود يلسع. أما الجواري فليس لعن عقارب أصداغ، وإنما لهن أفاعي وحيات من ذوائبهن تتلوى على ظهورهن.
فلما سمع القاهر منى هذا الوصف تهلل ونادى بأعلى صوته اسقني يا غلام على وصف (الغلاميات) فبادر إليه جوار قدهن واحد توهمتهن غلمانا بالقراطق والأقبية: والطرز والأفقية ومناطق الذهب والفضة فأخذ الكأس بيده وجعلت أتأمل صفاء جوهر الكأس ولآلاء ما فيه، وحسن أولئك الجواري الغلاميات، ولمعان الحربة التي بجانبه. ثم التفت القاهر إلي وقال:
قد سمعت كلامك وكأني مشاهد للقوم حسبما وصفت وسرني ما ذكرت وفصلت
ثم أمر لي بجائزة أخذتها على الفور وانصرفت
هذا ما رواه عن (محمد بن علي العبدي) المتخصص في علم الملوك كما شهد له بذلك المؤرخ المسعودي، وقد علمنا من مسامرته للخليفة (القاهر وما أفاض به من وصف (الغلاميات) واسترساله في هذا الوصف إجابة لرغبته الملحة علمنا منه أن هذا الخليفة لم يكن على ما يحبه له منصب الخلافة من عفة وصلاح وحسن سمت ووقار، اللهم ألا إذا كان هذا من قبيل الدعاية التي أذن بها المأمون، فقد روى أن بعض جلسائه سأله:
هل تأذن لنا يا أمير المؤمنين بالداعية، فأجاب:
وهل يطيب العيش ألا بها؟
(المغربي)
درس مطالعة.
.
للأستاذ محمد علي جمعة الشايب
كان ذلك في الحصة السادسة وقد تسربت أذهان التلاميذ من نوافذ المدرسة وأبوابها إلى منازلهم حيث يهيأ لهم طعام الغداء وحيث ينتظرهم أهلهم وذووهم. . وقد كانت سحابة من التعب تلوح على وجوه التلاميذ تظهر من ثناياها إشراقة خفيفة من الأمل في الانتهاء من اليوم المدرسي وإلقاء هذا العبء الذي أثقل كواهلهم من أول النهار إلى منتصفه تقريبا؛ فهم لذلك يستحثون عقرب الساعة كما يستحث الناس آخر يوم من رمضان. وكنت أحس أن آذان التلاميذ ظامئة إلى موسيقى الجرس الآذن لهم بانتهاء اليوم ومغادرة المدرسة، ولعلهم لو فطنوا لقرءوا في وجهي من بين ثنايا هذه القوة المقتطعة من الضعف وذلك العزم المأخوذ من الإعياء مثل ما أقرأ في وجوههم أو بعض ما أقرأ. . ولكنة التلميذ الذي يعتقد أن مدرسه من حديد لا يلحقه الكلل أو التعب! وإن صدر النهار وآخره عنده سواء. 0 وكان موضوع الدرس هو (السلع الآدمية) من كتاب (المطالعة المختارة) للمدارس الثانوية. وخلاصة الموضوع - ولا أثقل عليك - أن شابين إنجليزيين جلسا على حديقة منزل بإنجلترا وسرحا بصرهما فيما حولهما فوجدا من محاسن الطبية ومفاتنها ما يأخذ النفس إعجابا ووجدا الطيور تنتقل من غصن إلى غصن في حرية وانطلاق؛ بل وجدا كل ما في الحديقة يدعوا إلى الحرية والانطلاق. تذاكر الشابان أن الحرية حق طبيعي، ويجب أن ينعم به الناس في الأرض كما تنعم به الطيور في جو السماء، وإن شقاء الإنسان مبعثه الإنسان، وما يدعيه الغربيون من مدينة وحضارة ليس ألا ستار يحجب عن الأعين كثيرا من الرذائل والوحشية. وعرضا لما يجري إذ ذاك من تجارة الرقيق فاعتزم الشابان أن ينتشلا وطنهما من تلك الحماة ويطهرا سمعة الأمة الإنجليزية من جريمة الرق المنكرة. . وقد كانت تجارة الرقيق في ذلك العهد قائمة على قدم وساق، فقد حدث أحد السائحين انه رأى زنجيين يصيدان السمك في داهومى وقد ملآ منه أسفاط عدة؛ فسمعا واقع أقدام خيل مقبلة فتركا ما صاداه وفرا هاربين من تجارة الرقيق الأوربيين، ولكن التجار أدركوهما وسلكوهما مع من معهم من الرقيق.
وقد بر الشبان بوعدهما. ونشر رأيهما في بلادهما، فصادف نفوسا تكره الظلم، ولم يمض
قليل حتى هبت الأمة الإنجليزية كلها تنادي بالقضاء على هذه التجارة الخاسرة، وكانت إنجلترا أسبق الأمم إلى هذه الدعوة الكريمة، ولم يكتف الشعب الإنجليزي بذلك بل جاد أبناؤه بأموال طائلة لشراء وطن في غرب أفريقية للعبيد المعتقين ثم تبعتها الأمم الأخرى في ذلك
لم أكد أفرغ من قراءة هذه الفقرات من الدرس حتى رأيت التعب قد طار عن وجوه التلاميذ كما يطير النعاس عن عين المذعور، وأحسست أن أعصاب التلاميذ المتهدجة من الإرهاق قد شدت من فورة الحماس وأنهم قد صبت فيهم قوة الأسد المتأهب للوثوب، وأخذت أقرأ في وجوه التلاميذ وعيونهم الارتياب في صحة ما ينطوي عليه هذا الكلام، وأخذوا يمطرونني بوابل من الأسئلة؛ فمن سائل يقول:
إذا كانت إنجلترا حقا هي أول من نادي بإبطال تجارة الرقيق فلماذا هذا الاستعمار المسعف؟ وهل هناك فرق بين الاستعمار والرق في نظر إنجلترا؟
وتطوع تلميذ بالإجابة عن هذا السؤال قائلا: أن الاستعمار ابشع أشنع من الرق لأن الرق استرقاق أفراد ولكن الاستعمار استرقاق شعوب، وقد يعتمد الرقيق على سيدة في مالكه وملبسه ومطالب عيشه ولكن الاستعمار يستحوذ على أقوات الشعوب وكسائها بل يمتص دماءها. . والرقيق يشترى بثمن ولكن الاستعمار ليس كذلك. 0 ولكن كان محرجا حقا ذلك السؤال الآتي:
كيف يشتري الإنجليز وطنا في غرب إفريقية للعبيد المعتقلين وهم اليوم يغتصبون الأوطان من الأحرار المسودين بل وقبل اليوم بعشرات السنين؟
وما أن انتهى التلميذ من إلقاء هذا السؤال حتى رمقته بنظرة الإعجاب ونظر التلاميذ إلى ينظرون الإجابة وعلى شفتهم ابتسامة خبيثة، وكأنهم فهموا أن المدرس يجب عليه أن يجيب عن كل سؤال حتى ولو كان السؤال لا يستطيع أن يجيب عنه البرلمان الإنجليزي ولا إيدن ولا تشرشل. . . وشاءت المصادفات أن تمر في شارع المدرسة هذه الساعة دبابتان إنجليزيتان فتفزع الشارع بصوتهما الأجش الغليظ فينسى التلاميذ الإلحاح في طلب الإجابة، والقيت على الدبابتين نظرة من نافذة الفصل فوجدتهما تهرولان وفيهما المدافع والجنود؛ وقد رآهما الأطفال الذين كانوا يلعبون بجمع الحصى من الصحراء المشرفة عليها
المدرسة فتسللوا إلى الحارات والبيوت هاربين؛ فحضرت في ذهني صورة الصيادين اللذين جمعا السمك في أسفاط عدة فلما رأيا تجار الرقيق تركا الصيد ووليا هاربين؛ فتبينت في ذلك شبها بين الاسترقاق والاستعمار، وعدت ببصري إلى الفصل فإذا هو يكاد يتميز من الغيظ، فقد كان أبناء الإسماعيلية الذين ذاقوا ماذا قوا، فقالت في هدوء ورزانة المدرس التي يطنعها أحيانا: لعل الله يبعث في إنجلترا شابين آخرين ترتفع صيحتهما للقضاء على الاستعمار وخنق أنفاس الشعوب
ودق الجرس وأنصرف التلاميذ وأنا أسأل نفسي من هذه الضجة التي أثارها هذا الدرس وقد درسته في العام السابق فمر في هدوء وسلام. . ولقد تمنيت لو سمع كله ذلك الدرس الصاخب فقد كان درسا حقا.
محمد علي جمعة الشايب
آراء جون ديوي في التربية
للأستاذ حسن محمد آدم
توفى أخيراً الفيلسوف الأمريكي جون ديوي الآراء والنظريات المشهورة في التربية. ومن حق الرجل علينا - حن المشتغلين بالتربية والتعليم - أن نكشف للناس عن بعض ما لهذا الفيلسوف من فضل على المناهج التربوية الحديثة في المدارس والمعاهد وبالتالي على الجيل الجديد الذي يتربى فيها في هذا القرن العشرين.
يعتبر جون ديوي صاحب مدرسة وصاحب مذهب في التربية وله أتباع وأنصار عديدون وآراؤه الفلسفية في التربية تتميز بأنها عملية ترتبط بواقع الحياة وترمي إلى نفع الإنسانية منفعة مباشرة، ولهذا أطلق على مذهبة التربوي مذهب البراجماسية. وإذا نظرنا هذه الآراء نجد أن ديوي يقرر أول ما يقرر أن (التربية يجب أن تهدف إلى تنظيم اشتراك الفرد في حياة المجتمع اشتراكاً إيجابياً عن وعي وقصد، كما يجب أن تهدف إلى الإصلاح الاجتماعي الذي لا يتحقق إلا إذا وجهنا نشاط الفرد وتفكيره نحو الاشتراك في المجتمع حتى يصبح فيه عضو نافعاً منتجاً)
وكانت هذه المبادئ التي بدأ يقررها وينادي بها حدثاً في حياة التعليم التي ألفها الناس وعكفوا عليها القرون الطوال. فإن السنة التي كان الناس يجرون عليها في تربية أبنائهم وتهذيبهم هي إرسالهم إلى المدارس بغية تلقي العلم واكتساب المعرفة عن طريق المربين الذين كانوا يتبعون طريقة واحدة هي طريقة إلقاء المعلومات وتلقينها للأطفال تلقينا نظرياً حتى تمتلئ بها أذهانهم وكانت هذه هي الطريقة المثلى لازديادهم علما وخبرة ومعرفة بالحياة!
وهاجم ديوي هذه الطبقة التقليدية الجافة وبين ما فيها من عقم وأوضح أنها لا تفيد الصغير بخبرات جديدة تحقق الغرض من اكتسابه لها، لأن موقفه السلبي الذي يتمثل في مجرد الإنصات والاستماع إلى خبرات الغير من شأنه أن يصرفه في غالب الأحيان عن الاستفادة؛ ومن شأنه كذلك أن يكرهه في مادة الدرس بما تدخله في نفسه من السآمة والملل، لأن الأشياء التي يكره على تقبلها لا تتعلق بذات نفسه لافتقادها عنصر التشويق ولبعدها عن ما يوائم ميوله الفطرية ويجاري غرائزه الطبيعية في هذه السن المبكرة.
هذا فضلاً عن أن انتفاع الطفل بما يتلقاه في مدرسته في حياته المنزلية والاجتماعية يكاد يكون مستحيلاً لأنه لا يجد ربطاً بين حياته في المدرسة وحياته في المنزل أو في المجتمع، وبذلك تكون التربية التي من هذا النوع عقيمة غير مجدية يصعب عليها أن تمد المجتمع بمواطن صالح واحد.
لهذه الاعتبارات كلها رأى (ديوي) أن التربية السليمة هي التي تقوم على أساس من خلق حياة طبيعية للتلميذ في المدرسة، مبنية على حاجاته وميوله ونشاطه الذاتي حتى يسعى بنفسه إلى اكتساب الخبرات الذي تنمي مداركه وتغذي عقله. . وبذلك نقل التلميذ من ميدان السلبية والركود إلى ميدان الإيجابية والعمل والنشاط. وبعد أن كان أساس التثقيف في الميدان الأول التلقين النظري الذي يأخذ فيه المدرس الجانب الأكبر من النشاط ولا يشاركه التلميذ فيه إلا بقدر ضئيل تافه. أصبح أساسه في الميدان الثاني التوجه العملي الذي يندفع فيه التلميذ من تلقاء نفسه بالتعليم، باذلاً النشاط الأكبر تحت إشراف مدرسه الذي لا تتعدى مهمته أكثر من التوجه والإرشاد إلى خير السبل لا كتساب المعرفة وتحصيل المعلومات.
وخالف (ديوي) رجال التربية التقليدية في أن هناك أغراضاً ثابتة للتربية لا تتغير بتغير الأحوال والظروف. فكان يرى أن التربية الحقة هي عملية نمو مستمرة ومتغيرة دائماً إلى ما هو أحسن بالنسبة لنوع المجتمع وظروفه ومثله العليا.
ولقد فهم كثيرون فلسفة ديوي هذه فهماً خاطئاً. إذ توهموا أن معنى هذا هو التحلل من البرامج والمناهج التربوية. ولكن ديوي كان ينص دائما على أن عملية النمو التي يقصدها ليست نمواً لا ضابط له. بل هي عملية نمو موجهة ومرغوب فيها هذا أنه لا ينكر المنهج بل غاية ما يشترطه فيه هو أن يكون مرناً ملائما المجتمع، منتظماً لمختلف أوجه النشاط التي تمكن الصغار من اكتساب خبرات جديدة في أطوار النمو المختلفة.
ثم إنه على أساس هذه الفكرة التربوية أقلع نهائياً في مدارس الأحداث الأوربية عن طريقة التلقين القديمة. ورسمت الطرق الحديثة في التدريس كطريقة المشروع وطريقة المشاكل وغيرهما. ويعتبر (وليم كلباتريك) و (جون ستيفنسون) اللذان يذكران إذا ذكرت هذه الطرق من تلاميذ ديوي الذين تلقوا عنه في مدرسته أفكاره الرئيسية التي بنوا عليها فلسفاتهم فيما بعد.
وكما كان لديوي أثره في الغرب كان له أثره أيضاً في الشرق وفي مصر خاصة. وقد بدأ المعنيون بشؤون التربية والتعليم يفتحون أذهانهم إلى هذه الفلسفة الجديدة واقتبسوا منها الشيء الكثير، وتعتبر المدارس النموذجية إلى حد ما خير من أخذت بآراء ديوي. وهذا لا شك خطوة طيبة إلى الأمام. ونرجو أن يأتي قريباً هذا اليوم الذي تتحرر فيه المدارس المصرية من الطرق التقليدية الجافة في التربية، وتعمم فيما بينها منهج ديوي وغيره من رجال التربية المحدثين بقدر ما تسمح به الظروف بيئتنا حتى نتخلص بذلك من الجمود والنقص المعيب الموجود في مناهجنا الحالية. وحتى يحين للتربية أن تثمر وتحقق المقصود منها.
حسن محمد آدم
الولاة والعمال في التاريخ الإسلامي
للأستاذ عواد مجيد الأعظمي
إن موضوع الولاة والعمال، موضوع فريد في بابه، يستوجب البحث والعناية، لأهميته في تبيان بعض الأسس المهمة في النظم الإدارية عند الإسلام. . وقد لعب الولاة، والعمال دوراً فعالا في إدارة الممتلكات الإسلامية في مختلف عصور التاريخ الإسلامي، وحاولت جهدي بيان سياستهم تجاه الأمور المالية، والسياسية، والإدارية، والعمرانية، والثقافية، والقضائية، وسياستهم نحو الرعية. . . وقبل البحث في سياسة الولاة من الناحية العملية، والواقعية، أرى لزاماً توضيح معنى الولاية، والإمارة، وتطور مفهومها، وملاحظة أسسها من الناحيتين النظرية والفقهية.
معنى الولاية (الإمارة) وتطور مفهومها
ليست الإمارة أو الولاية إلا شكلاً من أشكال الإدارة المحلية خاضعة بصورة مباشرة أو غير مباشرة للسلطة المركزية المتمثلة في السلطان أو الملك أو الخليفة. . ومنشأها يرجع إلى حاجة الأمة في إدارة البلدان التابعة لها؛ وبعبارة أخرى أن توسع الدولة وتعقد شؤونها المختلفة أدى إلى وجوب إنشاء الإمارة أو الولاية (ويراد بالولاية - الإمارة على البلاد، فيولى السلطان، أو الملك، أو الخليفة من يقوم مقامه في حكومة الولايات، وهي الأعمال في إصلاحهم. . وهذا النوع من الحكم قديم). . (وكان لكل إقليم حاكم أو عامل، والغالب أن يكون بطريقاً)(وكان أمراء الأقاليم يسمون (عمالا) ومعنى عامل يفيد أن صاحبه ليس مطلق السلطة - على أنه فيما بعد استعملت كلمة والى وهذا يشعر بالنفوذ والسلطان)
ويقولون (متز): (وبهذا الاسم كان يسمى - ولاة البلاد. . وكذلك أبناء بيت الخلافة) ومن كل هذا نرى، أن جميع المؤرخين المحدثين، يتفقون على مفهوم الولاية أو الإمارة في أنها - نيابة - (وال) عن الخليفة، أو الملك أو السلطان في إدارة شؤون الولايات التابعة له.
وقد تطور مفهوم هذه الكلمة - (فأطلقت كلمة (أمير) على يزيد بن عبد الملك كما أصبحت كلمة (عامل) في عهد بني أمية تطلق على رئيس الناحية الإدارية كالمدير الآن. .) وقد امتنع كافور بمصر من التسمي (بالإمارة) ورأى أن يجرى على رسمه في المخاطبة (بالأستاذية). . . على أنه في العصور السياسية المتأخرة اتخذت الإمارة شكل أمير
الأمراء:) فلقد لقب ابن رائق (أمير الأمراء) وصار بيده رئاسة الجيش وامتدت سلطته بصورة مباشرة على جباية الضرائب وعلى إدارة الحكومة المركزية، وغدا أسمه يذكر مع اسم الخليفة في خطبة الجمعة) والواضح أن لقب (الأستاذية) و (أمير الأمراء) كان نتيجة لضعف مركز الخلافة العباسية وزيادة النفوذ الأجنبي وتوسع حركة انفصال الولايات عن جسم الدولة العباسية.
الولاية فقهيا ونظريا
وقد صاغ الفقهاء نظرية الإمارة أو الولاية على النحو الآتي:
(1)
إمارة عامة
(2)
إمارة خاصة
والإمارة العامة على نوعين
(1)
إمارة استكفاء بعقد اختيار
(2)
إمارة استيلاء بعقد اضطرار
والإمارة عن اختيار تشمل سبعة أمور أوردها الماوردي وهي: -
(1)
النظر في تدبير الجيوش. . . وترتيبهم في النواحي وتقدير أرزاقهم
(2)
- النظر في الأحكام - وتقليد القضاء والحكام
(3)
- جباية الخراج - وقبض الصدقات وتقليد العمال
(4)
- حماية الدين - والذب عن الحريم - ومراعاة الدين من تغيير أو تبديل
(5)
- إقامة الحدود في حق الله وحقوق الآدميين
(6)
- الإمامة في الجمع والجماعات - حتى يؤم بها أو يستخلف عنها
(7)
- تسيير الجميع من عمله ومن سلكه ومن غير أهله حتى يتوجهون معانين عليه
وأما الإمارة عن اضطرار فهي التي يأخذها الوالي ويقررها الخليفة، وفيها يكون الوالي مستبداً بالسياسة أو التدبير، ولكن في المسائل المتعلقة بالدين تكون من اختصاص الخليفة فلا يمكن أن يغض النظر عن بدعة أو إهمال. . ومن ذلك يقول الماوردي: (وأما إمارة الاستيلاء التي تعقد عن اضطرار فهي أن يستولي الأمير بالقوة على بلاد يقلده الخليفة إمارتها ويفوض إليه تدبيرها وسياستها فيكون الأمير باستيلائه مستبداً بالسياسية والتدبير،
والخليفة بإذنه منفذا لأحكام الدين، وهذا وإن خرج من عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه ففيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يترك مختلاً مدخولا ولا فاسدا معلولا، فجاز فيه مع الاستيلاء والاضطرار ما امتنع في تقليد الاستكفاء والاختيار لوقوع الفرق بين شروط المكنة والعجز.
وأما عن الإمارة الخاصة. . . فيول الماوردي (يكون الأمير مقصور الإمارة على تدبير الجيش وسياسة الرعية وحماية البيضة، وتشمل المجتمع وموضع السكان ومستقر الدعوة - والذب عن الحريم - وليس له أن يتعرض للقضاء، والأحكام والجباية، والخراج والصدقات)
ونختم قولنا عن وظيفة العامل كما جاء في كتاب قوانين الدواوين (أن العامل هو المتولي، ويلزمه عمل الحسابات ورفعها، والكتابة على ما يرفعه من معاملته منها بالصحة والموافقة، وكل من الناظر والمشارف، إنما هو لضبطه، والشد منه، ويلزمه تحقيق الباقي إذا انصرف عن الخدمة)
هذه هي مصيغة الفقهية. . . لشكل الولاية، وأقسامها ووظيفة الوالي والعامل وسنبحث في الفصول الأخرى - الناحية العملية في سياسة الولاة والعمال في مختلف عصور التاريخ الإسلامي وعلى القارئ ملاحظة مدى المطابقة والمقارنة بين الناحيتين الفقهية العملية في سياسة الولاة والعمال في مختلف شؤون الحياة.
بغداد - العراق
عواد مجيد الأعظمي
-
شاعر السودان
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
بقية ما نشر في العدد الماضي
إذن فشعر العباسي هو شعر الفخامة والجزالة والموسيقى العربية الأصيلة ذات الإيقاع الكلاسيكي والرنين البدوي العنيف الذي يعيد لنا تارة صوراً من شعراء بني العباس وأخرى من شعراء الأمويين الذين عاصروا الخلفاء الراشدين وعمروا حتى أوائل الدولة التي اتخذت دمشق عاصمة لها.
على أنني وقد قرأت الديوان بإمعان رأيت ناحيتين مهمتين تطغي على شعره وهما:
1 -
حبه لمصر:
عرفنا أن الشاعر جاء إلى مصر في مطلع حياته ودخل المدرسة الحربية في القاهرة ليعد نفسه حامياً لسياج الوطن، وعلمنا أيضاً أنه مكث فيها مدة سنتين وكان آنذاك طري الإهاب، ندي العود، في فجر شبابه الريان فلذلك لم تعجب إذا ما ظل وفيا إلى الديار التي أبلى فيها بعض سني شبابه، ولا نستغرب منه حنينه إلى معاهد شبيبته ورفاق صباه؛ خاصة بعد ما ترك فيها أستاذه الشيخ زناتي الذي كان له الفضل الأكبر في توجيه وتثقيفه، لذلك نسمعه يقول فيها:
مصر وما مصر سوى الشمس التي
…
بهرت بثاقب نورها كل الورى
ولقد سعيت لها فكنت كأنما
…
أسعى لطيبة أو إلى أم القرى
وبقيت مأخوذاً، وقيد ناظري
…
هذا الجمال، تلفتاً وتحريرا
ووقفت فيها يوم ذاك بمعهد
…
كم من يد عندي لن تكفرا
دار درجت عال ثراها يافعاً
…
ولبست من برد الشباب الأنضرا
ثم يسترسل في وصف ربى مصر ومغانيها ورياضها وطيب هوائها العليل:
فهنا يسكب الشاعر ألمه الذي يحس به منذ فارق مصر وفرحة بالعودة إلى الذي أحبه وعقد عليه رجاءه ورجاء شعبه الكريم لذلك يهتف في مدح (ملك الوادي) من منبعه إلى مصبه
أقوى المالكين عزيمة
…
وأسدهم رأيا، وأكرم عنصراً
فأقام من صرح العروبة ركنه
…
مذ قام فيها منذراً ومبشراً
ثم يقول
مولاي يا زين الملوك ومن غدت
…
مصر به زين العواصم والقرى
علمت جاهلها وعلت فقيرها
…
وسقتهمو يمنى يديك الكوثرا
بوركت من ملك وبورك عهد
…
ك الميمون ما أبها سناه وأبهرا
انضر إلى السودان نضرة مشفق
…
فلقد أمض زمانهم وتنكرا
وهمو بعرشك لائذون ومالهم
…
إلاك من يذر العسير ميسرا
فلذا تراهم كالعطشان تطلعوا
…
بالدو يرتقبون مزنا ممطرا
ثم يصرخ صرخته الموجعة فيشرح لملك النيل حال شعبه وما فعل به المستعمر البغيض من تفرقة الصفوف وسجن الأحرار وخنق الحريات وكم الأفواه فيقول:
ضربوا بأقفاص الحديد عليهم
…
مثل الذي فعلوا بآساد الثرى
صبروا لها صبر الجبال رواسياً
…
وسروا وما ملوا مغالبة السرى
وسهرت أحدوهم بذكرك دائماً
…
وحدي وأشدو بلبلا أو مزهر
حتى لصغت كل أذن منهمو
…
قرطاً وكنت فريده المتخير
ونراه في قصيدة أخرى يتشوق فيها إلى عهد الشباب الذي قطعه في مصر وهو ناعم البال مستريح القلب فيقول:
هل إلى مصر رجعة وبنا ش
…
رخ شباب غض وزهرة عمر
وليال قد أشرقت في رباها
…
كلها في الأقدار ليلات قدر
ومكان كأن كل نسيم
…
ناشر في أرجائه طيب النشر
يبهر العين منه مرأى أنيق
…
من مروج قيد النواضر خضر
وهناك النسيم يبعث بالما
…
ء، ويزري والورق للماء تغري
وهناك البهي من كل زهر
…
وهناك الشجي من كل طير
بقعة شاكلت هوى كل نفس
…
فصبا نحو حسنها كل فكر
رب هل تلك جنة الخلد أدخل
…
نا إليها أم تلك جنة سحر
كنت في ذلك الحمى ناعم البا
…
ل خليا من كل قيد وأسر
فيك يا مصر لذتي وسروري
…
وسميري وقت الشباب ووكري
ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أن أكثر شعراء السودان لا يزالون متعلقين بمصر، يبنون عليها آمالهم وآمال شعبهم وبلادهم غير ملتفتين إلى صيحات دعاة التفرقة والاستعمار. هاتفين بالوحدة والتمسك بأهداف أمهم الحنون. وعلى رأس هذه الطبقة من الشباب المرحوم شاعر الإبداع التيجاني يوسف بشير. فهو يقول في قصيدته (ثقافة مصر)
عادني اليوم من حديثك يا (مص
…
ر) رؤى وطوفت بي ذكرى
وهفا باسمك الفؤاد ولجت
…
بسمات على الخواطر سكرى
من أتى صخرة الوجود ففرا
…
ها وأجرى منها الذي كان أجري
سلسبيلا عذب المشارع ثرا
…
راً، رويا جم الأوذاي غمرا
كلما مصر المسود منها
…
زاد في مجده جلالا وكبرا
كلما طوق (الكنانة) علماً
…
خولتنا منه روافد تترى
هو من صاغنا على حرم الن
…
يل وشطآنه دعاء وشكرا
فجر النيل يوم نشر في الأر
…
ض ضحاها وصاغ للناس فجرا
قال:
كن فاستجاش يقذف دفا
…
عاً ويجري على الشواطئ خمرا
ويقول أيضاً في قصيدته (رسل الشباب في مصر)
وشباب من الكنانة حمس
…
ينثرون الحماس صاعا بصاع
صرخوا بالعرين صرخة ذي مج
…
د مذال وذي مقر مضاع
في سبيل الجهاد عن
…
مصر بنو بمنصل ويراع
وأرى مصر الشباب حليفي
…
مجد فرعون أو ضجيعي يفاع
مصر دين الشباب في الحضر الراف
…
ة والبدو من قرى وبقاع
مصر أم الشعوب ماذا عراها
…
واعترى الشرق من وجي وضياع
حبذا الموت في سبيلك يا مص
…
ر لنشئ عن الحمى دفاع
قل لمصر وحيها في شباب
…
صيغ من جرأة ومن إزماع
شاد أركانها وشد ذراها
…
وابتنى صرح مجدها المتداعي
في جهاد عن العقيدة صدق
…
ونضال عن الحمى وقراع
مصر يا مهبط الحضارة والن
…
ور ويا مبعث الهدى كل ساع
وهكذا نجد أكثر أرباب الفن والقلم في السودان لا ينكرون فضل مصر عليهم بل يتجهون دائما وأبدا صوب زعيمة النهضة وأم البلاد العربية متخذين منها قبلة يوجهون إليها صلاتهم وتسابيحهم وأناشيدهم لأنها الملجأ الوحيد والمأمل الذي يخلصهم مما هم فيه، ولا غرو ففضل أعلام مصر وأدبائها وشعرائها يستوي فيه السوداني والسوري والعراق واللبناني وكافة العرب في أقطارهم. .
والناحية الثانية الظاهرة في شعر العباسي التي تظهر واضحة جلية في شعره هي بكاؤه على شبابه الذاهب وتذكره أيامه السالفة
2 -
ذكري الشباب:
تطالعنا لوعة تذكرة لأيام صباه في كل قصيدة من قصائده، فهو ببكي على ساعات لهوه وسني مراحه وذكريات أفراحه، والناظر في ديوانه يلمس هذه الظاهرة بوضوح تام فلنستمع إليه وهو يقول:
فارقتها والشعر في لون الدجى
…
واليوم عدت به صباحاً مسفرا
(سبعون) قصرت الخطى فتركنني
…
أمشي الهوينا ضالعاً متعثرا
من بعد أن كنت الذي يطأ الثرى
…
زهوراً، ويستهوي الحسان تبخترا
يا من وجدت بحبهم ما أشتهي
…
هل من شباب لي يباع ويشترى
ولو انهم ملكوا لما بخلوا به
…
ولأرجعوني والزمان القهقري
لأظل أرفل في شباب فاتني
…
زمن الشباب، وفته متحسرا
أو يقول:
ولله قلب قد سلا نشوة الصبا
…
وقد كان في ريعانه جد جاهد
وهل أبقيت الأيام شيئا ألذه
…
وقد أسلمتني للردى والشدائد
لذا بعت لذات الصبا غير نادم
…
وعدت لشيب لم يكن خير وافد
أو يقول:
ليت الشباب عاد لي
…
بعد المشيب والكبر
حتى أرى أين محط
…
الرجل كم كف القدر
أو قوله:
واليوم قصر بي عما أحاوله
…
وعاقني من لحاق الركب ما عاقا
وأنكر القلب لذات الصبا وسلا
…
حتى النديمين: أقداحاً وأحداقا
أحبو إلى الخمس والستين من عمري
…
حبواً وأحمل أقلاما وأوراقا
أو قوله:
ما أنس لا أنس إذ جاءت تعاتبني
…
فتانة للحظ ذات الحاجب النوني
يا بنت عشرين والأيام مقبلة
…
ماذا تريدين من موءود خمسين؟
أو قوله:
ولى شبابي وانطوت
…
أيام غصني الندي
جادك نجاح الحيا
…
من مبرق ومرعد
لأنت ريحان القلو
…
ب عدت أو لم تعد
وهكذا فنحن كلما قلبنا صفحات الديوان لا تقع أعيننا الإ على ذكرى مؤلمة لشباب مضى. . فهو كلما مرت به عجلة الحياة سجل أعوامها في شعره وهذا يرجع سببه كما يقول (علماء النفس) إلى كبت عواطفه وعدم الانسياق في ظرف اللهو التي يزينها الشباب وعدم إطاعة نوازع الجسد في دور الصبا؛ وذلك لوجده في بيئة جامدة محافظة ووجوده بين أحضان عائلة دينية متمسكة بتقاليدها، لذلك نجد طابع الألم مرتسما على كل بيت يذكر فيه شبابه كما يفعل اليوم أكثر الرجال الذين يحرمون في شبابهم من متع الحياة لفقرهم أو لانصرافهم إلى العلم ولكنهم عندما تتاح لهم الفرصة ولو في كهولتهم نراهم يركضون وراء الملذات كأنهم منطلقون من السجون، كما حدث للشاعر الرصافي فإنه بعد أن قضى شبابه وهو منطو على نفسه رأيناه في صدر رجولته يعب من كؤوس اللذة عبا، دون ما وازع أو رادع
ولذلك فإن العباسي محق ببكائه على أيام شبابه لأنه حرم من لذته وهو في كل ما قاله صادق العاطفة يحس فيه قارئه حرارة اللوعة وصدق الإيمان
إلى هنا نمسك عن الحديث لنترك المجال إلى غيرنا للكتابة عن هذا الشاعر لنعود مرة
أخرى إلى تقديم جديدة من شعراء السودان الشباب في أعداد قادمة إن شاء الله
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
ديوان مجد الإسلام
للمرحوم الشاعر أحمد محرم
يقدمه الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
هي الأواصر أدناها الدم الجاري
…
فلا محالة من حب وإيثار
الأسرة اجتمعت في الدار واحدة
…
حييت من أسرة بوركت من دار
مشى بها من (رسول الله) خير أب
…
يدعو البنين، فلبوا غير أغمار
تأكد العهد مما ضم ألفتهم
…
واستحصد الحبل من شد وإمرار
كل له من سراة المسلمين أخ
…
يحمي الذمار ويرعى حرمة الجار
يطوف منه بحق ليس بمنعه
…
وليس يعطيه إن أعطى بمقدار
يجود بالدم، والآجال ذاهلة
…
ويبذل المال في يسر وإعسار
هم الجماعة، إلا أنهم برزوا
…
في صورة الفرد فانظر قدرة الباري
صاح النبي بهم كونوا سواسية
…
يا عصبة الله من صحب وأنصار
هذا هو الدين لا ما هاج من فتن
…
بين القبائل دين الجهل والعار
ردوا الحياة، فما أشهى مواردها
…
دنيا صفت بعد أقذاء وأكدار
الجاهلية سم ناقع وأذى
…
تشقى النفوس بداء منه ضرار
تأهبوا، إن دينا قام قائمة
…
يومى إليكم بآمال وأوطار
أما ترون رياح الشرك عاصفة
…
تطغى على أمم شتى وأقطار؟
لن أترك الناس فوضى في عقائدهم
…
ولن أسالم منهم كل جبار
أكلما ملك الأقوام مالكهم
…
رمى الضعاف بأنياب وأظفار؟
الشر غطى أديم الأرض، فارتكست
…
أقطارهم بين آثام وأوزار
أخفى محاسنها الكبرى فكيف بكم
…
إذا تكشف عن وجه لها عار؟
لأنزلن ذوي الطغيان منزلة
…
تستفرغ الكبر من هام وأبصار
ظنوا الضعاف عبيدا بئسما زعموا
…
هل يخلق الله قوماً غير أحرار؟
ما غرهم إذ أطاعوا أمر جاهلهم
…
بواحد غالب السلطان قهار؟
يرمي العروش إذا استعصمت ويبعثها
…
مبثوثة في جناحي عاصف ذار
بعثت بالحق، يهدي الجامحين كما
…
يهدي الحيارى شعاع الكوكب الساري
أدعو إلى الله بالآيات واضحة
…
تهدي الغوى، وتنهى كل كفار
فمن أبى، فدعائي كل ذي شطب
…
ماضي الرسالة في الهامات بتار
الله أكبر هل في الحق معتبة
…
لمستخف بعهد الله غدار؟
ألم يكن أخذ الميثاق من قدم
…
فما المقام على كفر وإنكار؟
إن الأولى اتخذوا الأصنام آلهة
…
على شفا جرف من أمرهم هار
يستكبرون على من لا شريك له
…
ويسجدون على هون لأحجار
راحوا يجلونها من سوء ما اعتقدوا
…
والله أولى بإجلال وإكبار
لكل قوم إله يؤمنون به
…
ما يبتغى الله من إيمان فجار؟
النار أعظم سلطانا ومقدرة
…
في رأى عبادها، أم خالق النار؟
سبحانه من أله شأنه جلل
…
يهدي النفوس بآيات وآثار
لأكشفن عن الأبصار إذ عميت
…
ما أسبل الجهل من حجب وأستار
ما للسراحين بد من مصارعها
…
إذا انتضت سطوات الضيغم الضاري
ضموا القوى إنها دنيا الجهاد بدت
…
أشراطها وترا آي زندها الواري
لابد من غارة للحق باسلة
…
وجحفل من جنود الله جرار
خير الذخائر أبقاها ولن تجدوا
…
كالعهد يرعاه أخيار لأخيار
لا تنقضوا العهد إن الله منزله
…
على لسان رسول منه مختار
قالوا: عليك صلاة الله، إن بنا
…
ما يعلم الله من عزم وإصرار
آخيت بين الرجال يصدقون إذا
…
زلت قوى كل خداع وختار
جنود ربك، إن قلت اعصفوا عصفوا
…
يرمون في الحرب إعصار بإعصار
من كل منغمس في النقع مرتجس
…
وكل منبجس باليأس فوار
يتبع
إبراهيم عبد اللطيف نعيم
رسالة الشعر
- إلى مجلس الدولة
للأستاذ محمد يوسف المحجوب
يا معقلا أنصف الأحزاب كلهم
…
ولم يجد منصفا منهم إذا حكموا
الحق رائده. . . والعدل ديدنه
…
سيان مضطهد يشكوا ومنتقم
ليت الأولى هتفوا لما نصرتهم
…
تذكروا صنعهم بالأمس أو ندموا
بل ليتهم فكروا في يومهم لغد
…
لكنها شهوات النفس تضطرم
خلف السياسة والأحزاب أفسدنا
…
حتى القضاء. . له كادوا وما رحموا
لكنك لطود: لم تهتز إذا عصفت
…
بك الرياح. . ولا زلت بك القدم
يا موئل الدولة اضرب للحمى مثلا
…
عليا وبصر بني قومي فقد وهموا
كم حاولوا أن ينالوا منك وا آسفا
…
ماذا سيبقى إذا ما حصننا هدموا
لعل فيما رأوه عبرة لهم
…
لو أنصفوا قبلوا الجدران واستلموا
علمتنا أن روح العدل باقية
…
وأن صرح الهدى هيهات ينهدموا
وأن فيك قضاة كلما جلسوا
…
للحكم عفوا فما جاروا ولا ظلموا
لوجه مصر وللتاريخ ما كتبوا
…
وللعدالة والإصلاح ما رسموا
حصن البلاد: تحياتي وتهنئتي
…
وما أهنئ أقواماً لك احتكموا
لكن أهنئ فيك العدل مؤتلقا
…
فالعدل أعظم ما تحيا به الأمم
2 - حتى النساء.
.
حتى النساء وما قربن
…
من النيابة - بعد - قريا
أو ذقن طعما لانتخ
…
اب بات يشغفن حبا
دب الحلاف بجوهن
…
وقام معركة وحربا
أنظر لجمعياتهن
…
وما حوت: طعنا وسبا
أو ما ترى (الحزب النسائي)
…
قد غدا عشرين حزبا؟
فصلت رئيستهن عضوات
…
به إربا فإربا
وفصلن منه رئيسة
…
فاضحك معي عجباً وعجبا
البعض يأكل بعضه
…
قد صار جد الأمر لعبا. .
يا برلمان: متى أراك
…
بجوهن ملئت صخبا؟
وأرى معاركهن فيك
…
تطورت: لطما وندبا؟
يا أطول النواب زندا
…
من بني جنسي وأربى
وأشدهم لسناً وأجرأهم
…
- لدى الميدان - قلبا
يا صاحبي: قل لي إذا
…
زاحمنكم جنبا فحنبا
وغدا التنافس بينهن
…
وبينكم دفعا وجذبا
كيف المصير متى دخلن
…
البرلمان؟ وقيت ضربا
وحماك ربي يا زميل
…
ولا أراك الدهر غلبا
من (شبشب) يتهال إن
…
عارضت ثائرة وغضبى
ومن المخالب إذ ترى
…
أظفورها بقفاك (طبا)
ومن الدموع الزائفا
…
ت إذا انهزمن تفيض سبكا
ومن القرار بفصلكم
…
تمضيه (زنوبه)(وبنبا)
محمد يوسف المحجوب
الكتب
وحدي مع الأيام
للشاعرة الآنسة فدوى طوفان
للأستاذ كامل السوافيري
اعتقدت أني لست بحاجة إلى أن اقدم للقراء الشاعرة الآنسة فدوى طوفان صاحبة ديوان (وحدي مع الأيام) الذي أصدرته لجنة النشر للجامعيين، وهي الكوكب اللامع في سماء الشعر، والنجم الساطع في أفق الأدب، والبلبل الصداح في دوحة العروبة الذي غنى فأشجى القلوب، وهز النفوس.
عرفت فدوى منذ فترة تزيد على عشرة أعوام مما قرأته لها من قصائد ومقطعات على صفحات الرسالة الغراء، والأديب الزاهر وقد اختصتها بطائفة كبيرة من أنتاجها الشعري، فهزني شعرها وأطربني غناؤها، لا لأنه شعر نسائي ظهر في فترة أقفر فيها الشعر الحديث منه، لا لأن صاحبته آنسة تستحق المجاملة والتشجيع، ولكن لأنه صادرة عن شعور صادق، وموهبة فطرية. وكنت أتيقن أن يوماً قريبا آت تتبوأ فيه الشاعرة الناشئة مكانتها في موكب الشعر. وقد حققت الأيام ذلك وأصبحت فدوى طوفان شاعرة لا لفلسطين وحدها؛ بل لدينا العرب والعروبة.
وليس ديوان الشاعرة ألا مجموعة من القصائد المتناثرة هنا وهناك تخيرتها الشاعرة مما نظمت وضمتها إلى بعضها، لوجود وحدة نفسية بينها فهناك شعر كثير لم يتضمنه الديوان وأملها تنشره في ديوان آخر.
وأستميح صديقي الكاتب المعروف، والناقد اللامع الأستاذ أنور المعداوي العذر إذ أنوه بإشرافه الفني على إخراج الديوان. وأنا أعلم انه لن يرضيه هذا التنويه. ولكنه يرضي الفن والأدب، والى المشرف يرجع الفضل في الحلة الأنيقة التي ظهر بها الديوان أهدت الشاعرة الفاضلة ديوانها إلى روح شقيقها الشاعر المرحوم إبراهيم طوقان الذي قصف يد المنون غصنه الرطيب وهو ريان الصبى، ربق الشباب، وكان للشاعر الأخ والوالدة والأستاذ، فأحدث موته في قلبها فاجعة لم تستطيع الأيام أن تسدل عليها ستار النسيان،
وشق في فؤادها جراحا لم تندمل وفجر فيها ينابيع الحزن والآسى، فصاغت من دموع العين، ودماء القلب، المراثي تزخر باللوعة، وتفيض بالألم، وهي في حزنها عليه ورثائها له تلتقي بالشاعرة المخضرمة الخنساء في بكائها على أخيها صخر، ورثائها له، ويبدو أن فجيعة فدوى إبراهيم كانت فوق ما يحتمله قلبها، فأحالت حياتها الهانئة الوادعة إلى مأتم دائم ودموع لا تجف وزفرات لا تنقطع، وطبعت شعرها بطابع الأسى والحزن، فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائدها من الحزن الدفين، والحرقة اللاذعة.
أستمع أليها في قصيدتها (حياة) ص 39 من الديوان التي مطلعها:
حياتي دموع
وقلب لوع
وشوق، وديوان شعر، وعود
إذ تبكي أحبائها الراحلين إلى عالم الخلود، وتصور اللوعة على فقدهم، فتناجي روح المرحوم والدها، ثم تتجه إلى شقيقها إبراهيم الذي كان لها نبع حياة وحب، وضياء العين والقلب، وإذا برياح الموت العاتية تطفئ شعلته وتصبح الشاعرة وحيدة في ظلام الوجود، حائرة في قفار اليأس، ولا نور يهديها ولا أمل يناغيها
وفي ليل سهدي
يحرك وجدي
أخ كان نبع حياة وحب
وكان الضياء لعيني وقلبي
وهبت رياح الردى العاتية
وأطفأت الشعلة الغالية
وأصبحت وحدي
ولا نور يهدي
ألجلج حيري بهذا الوجود
ومن قصيدة (على القبر) ص 115 تناجي قبره فتحس أن للقبر إشعاعا من النور، وأنه أجمل القبور لان دنياها فيه، وفي قلبها مأتم دائم.
آه يا قبر. . له إشعاع نور
لا أرى اجمل منه في القبور
فيك دنياي وفي قلبي الكسير
مأتم ما أنفك مذبات لديك
قائما يأخذ منه بالوتين
وهنا أقف لحظة لأسجل أن فدوى قد بلغت القمة في هذا الفن؛ أقصد فن الرثاء من ناحية الصدق والشعور؛ والصدق الفني وأقصد به الصياغة اللفظية التي تتجلى واضحة في شعر الشاعرة. مما يدل على تمكن من لغة عدنيان، وإحاطة بإسرار بيانها، واستعمل مفرداتها. وللشاعرة في رثاء أخيها شعر كثير لم يتضمنه الديوان.
وتترك فدوى التي هدها الحزن وأضناها الأسى على إبراهيم. . إلى فدوى الشاعرة الوطنية التي ترى بلادها المقدسة تخر صريعة أمام العدوان الاستعماري الظالم - ولا أقول الاستعمار الصهيوني فنحن نعلم من يقف وراء الصهيونية - وتشاهد الكارثة المريعة تدمر بناء أمتها وتدك مجدها فتثور عاطفتها الوطنية، وترسل صيحتها الشعرية تستصرخ أبطال العروبة وتستنهض همم العرب ليدفعوا عن فلسطين العدوان ويدرءوا عنها العدو؛ فتقول من قصيدة (بعد الكارثة) ص 127
يا وطني مالك يخنى على
…
روحك معنى الموت معنى العدم
أمضك الجرح الذي خانه
…
أساته في المأزق المحتدم
لا روح تستنهض من عزمهم
…
لا نخوة تحفزهم، ولا همم
ولا يلبث الأمل أن يداعب قلب الشاعرة فتحس أن الغمرة ستنجلي، وإن هذا الليل المظلم سيعقبه فجر مشرق، وإن السحاب المركوم سيتبدد عن صفحة الجو، فلا يزال في الأمة العربية شباب أحرار من الذين يأبون الضيم، ويحاربون الهون أن يقعدوا عن ثأرهم.
ستجلي الغمرة يا موطني
…
ويمسح الفجر غواشي الظلم
هو الشباب الحر ذخر الحمى
…
اليقظ المستوفز المنتقم
لن يقعد الأحرار عن ثأرهم
…
وفي دم الأحرار تغلى النقم
ولقد عاصرت فدوى مراحل جهاد العرب في فلسطين ضد الاستعمار البريطاني
والصهيوني الآثمة. وشهدت قوافل أبطال الحرية المتتابعة، الذين قدموا أرواحهم رخيصة للدفاع عن أوطانهم منذ البطل المجاهد المرحوم عز الدين القسام. إلى الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936. وشهدت جبلي جرزيم وعيبال يموجان بالمجاهدين من أبطال جبل النار، فكان كل ذلك من أكبر العوامل التي جعلت من فدوى شاعرة وطنية تؤجج في النفوس عاطفة الدفاع عن الوطن. وتضرم فيها النخوة والحمية، وتذكر المجاهدين العرب بصفحات البطولة اللامعة التي سطوها التاريخ لأجدادهم الغابرين.
وتقع الكارثة عام 1948 وتهوى البلاد إلى حضيض الاستعباد وتهيم جيوش اللاجئين من أبناء فلسطين على وجوههم يبحثون عن المأوى فلا يجدون ألا المغاور والكهوف والأودية والشعاب والخيام المهلهلة التي لا ترد الحر والقر فيتخطفهم الموت زمرا لا فرادى. ويوحي هذا المنظر المريع الشعر في قلب فدوى فتنشد من قصيدة (مع لاجئة في العيد) ص 129
أختاه هذا العيد رق سناء في روح الوجود
أشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيد
وأراك ما بين الخيام قبعت تمثالا شقيا
متهالكا يطوى وراء هموده ألما عتيا
يرنو إلى اللاشيء. . . منسرحا مع الأفق البعيد
وأترك هذين الفنين الشعريين من الفنون التي حلقت فيهما الشاعرة الحديث عن فدوى الإنسانة التي لا تقف برسالتها الفنية عند تصوير عواطفها، وبث آلامها وأحزانها. شأن الشعراء الذين يتحدثون عن ذواتهم ولا يحسون بإحساس أمتهم ومشاكل مجتمعهم، ولأقرر أن فدوى فنانة وإنسانة تشاطر البائسين آلامهم، وتدعوا البشرية لتجفيف دموعهم. وتنادي بالعدالة الاجتماعية حتى لا يكون في الناس جائع ولا محروم. تقول من قصيدة (مع سنابل القمح) ص 26
كم بائس، كم جائع كم فقير
…
يكدح لا يجني سوى بؤسه
ومترف يلهو بدنيا الفجور
…
قد حصر الحياة في كأسه
لم تحبس السماء رزق الفقير
…
لكنه في الأرض ظلم البشر
بقي أن أقوال بعد ذلك أن هناك ظاهرة واضحة تطالع النقاد في شعر فدوى: وليست تلك
الظاهرة سوى فراغ الحياة. أوسمها إن شئت الحرمان. الحرمان من العطف والحنان. الحرمان القاتل الذي جعل الحزن يرين على نفسها، ويستحوذ على قلبها فيشعرها بأنها تحيا غريبة في دنيا الناس. ولعل اسم ديوانها أكبر دليل على ذلك حيث أضنتها الحيرة، وأستبد بها القلق، فرغبت عن الحياة وتمنت أن تنطق روحها من الأرض إلى السماء.
تقول في قصيدة (أشواق حائرة) ص 32
وهناك تومى لي السماء وبي
…
شوق أليها لاهف عارم
فأود لو أفنى وأدمج في
…
عمق السماء ونورها البلسم
وقد كررت الشاعرة هذا المعنى في قصائد متعددة من الديوان وقد أوحى أليها بهذا القلق بالتساؤل عن حقيقة الموت والبعث والخلود.
تقول قصيدة (خريف ومساء) ص 12
عجبا ما قصة البعث
…
وما لغز الخلود؟
هل تعود الروح إلى الجسم
…
الملقى في اللحود؟
وأنتقل إلى شعر الطبيعة في ديوان فدوى لأقرر أن الشاعرة قد تغنت بجمال الطبيعة في البيئة المحيطة بها، والشاعرة عاشت في مدينة عريقة في مدينة نابلس في فلسطين حيث يحتضن جبلا جزريم وعيبال المدينة، وعلى سفح الجبلين تكثر المروج التي أوحت للشاعرة بقصيدة (مع المروج) ص 9
هذى فتاتك يا مروج
…
فهل عرفت صدى خطاها
عادت إليك مع الربيع الحلو
…
يا مثوى صباها
درجت على السفح الخضير
…
على المنابع والظلال
روحا تفتح للطبيعة
…
للطلاقة والجمال
وقد حلقت الشاعرة في أجواء بعيدة، وتناولت فنون الشعر المختلفة، وبرهنت على أن طاقتها الشعرية متعددة المنافذ تغذيها ثقافة واسعة، واطلاع دائم
ولها في الديوان قصائد من تجارب شعرية اجتازتها الشاعرة فكانت تعبيرا صادقا عما يختلج في شعاب القلب ومسارب النفس، وتبدو هذه التجارب في القصائد الآتية.
من الأعماق، غب النوى، إلى الصدور
ولا ينحدر مستوى الشاعرة في هذه التجارب عنه في الرثاء والوطنيات. والتأملات والنزعات الفلسفية.
وبعد فأظنني قد قدمت للقراء صورة عن ديوان الشاعرة الملهمة التي قرءوها. والتي قدمها شعرها إلى القراء خير تقديم.
كامل السوافيري
البريد الأدبي
رسالة في أدب البشري
تلقيت عن طريق صحيفة (المصري) الغراء كتابا من الأستاذ جمال الدين الرمادي يقول فيه انه بعد رسالة جامعية عن المرحوم الشيخ عبد العزيز البشري للحصول على إجازة (الماجستير) ويستفسرني عما نشرته قبل سنوات في (الرسالة) عن شعر الشيخ البشري الذي كان ينشره في صحيفة (الظاهر) التي كان يصدرها المرحوم محمد أبو شادي بك
وكنت أريد أن أجيب الكاتب الفاضل برسالة خاصة لولا أني افتقدت كتابه خلال إقامتي في المصيف برمل الإسكندرية، ومن ثم أتبهم على عنوانه الذي طلب إلي أن أكتب إليه بوساطته.
والذي سمعته من شيخنا البشري عام 1934 أنه كان يقول الشعر وينشره في بعض الصحف ومنها جريدة الظاهر، على أن ما نشره في تلك الصحيفة لم يكن يعدو - فيما يظهر - هجاء الشيخ علي يوسف صاحب المؤبد رحمه الله أيام قضية الزوجية المشهورة عام 1904 ولو رجع الكاتب الفاضل إلى مجموعة الظاهر في تلك السنة لوجد عندها الخبر اليقين. فإذا غم عليه الأمر فإني انصحه بالرجوع إلى الكاتب اللغوي الأستاذ محمد شوقي أمين المحرر في مجمع فؤاد الأول للغة العربية فهو حجة في أدب البشري إذ كان يملي عليه مقالاته في أخريات أيامه.
والذي أعرفه من طبيعة الشيخ البشري أنه لم يكن يعنى بجمع ما ينشره في الصحف الدائرة، ولقد عهد رحمه الله إلى كاتب هذه السطور وبعض إخوانه في جمع المقالات التي احتواها فيما بعد كتابه (المختار).
وبعد، فأحب أن اشكر الأستاذ جمال الدين الرمادي حسن ظنه بصاحب هذا القلم الضعيف، وارجوا أن يوقفه الله لنشر أدب البشري قبل أن يعفى عليه الزمان.
منصور جاب الله
تحية طيبة
قرأت بالعدد 993 من الرسالة الغراء بحثا موضوعه (جحا القاضي) للأستاذ عطا الله
ترزي باشى جاء فيه ما يأتي: -
(ولئن كان جحا ضحكة بين الناس فإنه لم يكن صاغرا أو مهانا راضيا بالذل والضيم) وجاء الشرح بالحاشية لكلمة (ضحكة) هكذا: -
(هو من يضحك على الناس ويضحك الناس عليه) ونحن نتساءل أيريد الأستاذ الكاتب كلمة ضحكة (بفتح الحاء المهملة أم بسكونها؟) إن كان الأولى فالشرح الذي أورده على هذا في الحاشية خاطئ لا يستقيم وكذلك الأمر إن أراد الثانية.
تقول العرب ضحكة بضم ففتح لمن يضحك عليه الناس. وتقول ضحكة بضم فسكون لمن يضحك عليه الناس، ويكون الأستاذ على هذا قد أتى بشرح لا يخضع تحته أحد اللفظين.
قال ابن السكيت في الإصلاح والتبريزي في تهذيبه (إعلم أن ما جاء على فعله بضم للفاء وفتح العين من النعوت فهو على تأويل فاعل وما جاء منه على فعله ساكن العين فهو في معنى المفعول) وجاء بالمقامة الثالثة والعشرين (الشعرية) للحريري:
وإني لأكره أن تشيع فعلته بمدينة السلام. فأفتضح بين الأنام. وتحبط مكانتي عند الأمام. وأصير ضحكة بين الخاص والعام. . .) أي يضحك علي.
خميس محمد إبراهيم
على هامش الحياة - رسالة
(وبعد) فقد حدثتني نفسي أن اخط إليك هذه الرسالة، وقطعت الإحجام والإقدام شوطا بعيداً، وكاد يقعد بي عنها أني كتبت إليك مثلها يوما، فما حققت غرضا، ولا أصبت هدفا، وواجهتني حين التقينا بالصمت، فلم أدر مخبوء سرك، ولم أتكشف وقعها على نفسك، وظلت على خطتك في الحياة، لا تبالي نصيحة، ولا تحفل بتسديد، وكاد يقعد بي عنها ثانيا أن موضوع الحديث شائك، وقد أكون فيه متهما، وربما وصمتني فيه بالحيف أو التحيز، أو ما يحلو لك أن تسميه، ويشهد الله أن باعثه هو الشعور الأخوي الذي يوحد بيني وبينك، فمرد هذه الرسالة إلي، وإن توجهت. وما أخال واحداً منا يرضى أن يحايد أخاه أو يقنع منه باللقاء والافتراق، والتبسيط في الحديث، والجهد في الابتسام، وستر الخواطر، ولست أملك نفسي أن سلط عليك لسان أجنبي، أو نال منك نائل حقد ممن انقطعوا دون غابتك،
وانبهروا عن اللحوق بك، لست أملك نفسي أن أثور لك فأفقد أصدقائي، وأستهدف لملام الناس وتقريعهم، وخير لي ولك وللناس جميعا، أن تلقي إلي سمعك وتبذل من وقتك بمقدار ما تنظر في هذه الرسالة، فلعله أن تلتقط من بينها ما يضئ لك السبيل، فتمضي حيث يمضي الناس، لا تخلد إلى الأرض، أو تحيا في السماء وانه ليطفئ علي شعورك بأنك ربما أزريت بي وبقلمي وبسائر منهجي، فقد جلست مني يوما مجلسا فيه طائفة من الاتهام، وكثير من الحيف وخشيت على نفسي أن أكون كما جردتني من كل محمدة، وألصقت بي كل مذمة، وقمت خزيان من ترادفك وإطرادك، ولا أبرئ نفسي من المساقط والمزالق؛ فيما في الحياة من برئ من الذنب، وخلص من العيب، ولا حملت لك نفسي غيظا، أو ما يشبه الغيض، لأنك أخي، وما يمكن أن يريد أخي إلى إحراجي، أو إغاظتي أو النيل مني، أو الزراية بي، وأنت تفهم عني هذه الحقائق سافرة واضحة، وربما كان هذا هو الذي دعاك إلى الثورة علي بالأمس، كما أثور أنا عليك اليوم، ولا احب أن أتميز عليك في خليقة، أو أفظلك في مكرمة. هي مسائل من هامش الحياة ولكنها ترمى إلى الصميم، وقد تعدها أنت تافهة، ولكنها في اعتباري جسيمة، وهي لا تخصني أنا، فمن خلقي التسامح والعفو والإغضاء، ولكنها تمس أشخاص يمتون إلي بسبب، وهم يدققون في مسائل الحياة، بما لا يستوجب العتاب، لان ذلك منهج البشر، وما بد من الخضوع لهذا القانون، وقد تجنيت عليهم، وتخدعك نفسك أن رائدك الحق، وما سواء الباطل، وأنا وهم وسائر الناس لا نراه ألا تعنتا وشططا، ومبعثه الخيال، ومرده إلى الجور والتحيف. . إنها مسائل مما أراه يدنو من فهمك، ولا تقتصر عنه يدك، ولا يعوزك أن تفهم أن سوء الظن في أقوال الناس وأفعالهم يكاد يملك عليهم أسماعهم وأبصارهم، ويأخذ عليهم مسالك التعقل، فلا يدع للهدوء إلى أنفسهم طريقا، فإن رأيت ألا تضع نفسك مواضع التهمة، وتعلم أن هذا المجتمع البشري، يقتضيك أن تفهمه، وتعقل مواجبه، ولا تشذ عنه برأي، أو تنعزل بفكرة، في غير ما استهانة بكرامتك، أو امتهان لشخصيتك، كنت قد حققت أملي فيك، ورأيت أنني رميت إلى غابة، وأصبت في مسعاي، وإن تركت الثغرة تفصل بينك وبين الناس، ورغبت عن حديثي إليك وبرمت بدعوتي إياك أن تجانس الناس في اتجاهاتهم، وتتلاقى وإياهم في أفكارهم، فتجاملهم في غير نفاق، وتقدرهم بلا تكليف، وتأني إليهم الذي يأتونه إليك، فلن
تجد مجتمعا راقيا مهذبا يعينك على سلوكك، ويفسح صدره لآرائك، وما شد من عزمي في تحرير هذه الرسالة إليك إلا إنني اعلم فيك استعداداً فطرياً وسماحة، وخلقا، لا يمنعك أن تفيد من التجارب ما دامت شريفة المقصد، نبيلة الغاية، فاسمع يا أخي، ولا تضق بي، أو تمط من فمك، أو تغضن من جبينك، فما أريد ألا الخير. وأعلم أن أحد لم يوح إلي، أو يمل علي، وإنما أنا وحدي الذي ارتأيت كما رأيت؛ أنا وحدي حتى لا أكون سببا في متاعب ذهنية، كلانا في غنى عنها، لأنني أحبك، وأوثرك على سواك، فإن تلاقى رأيانا كان ذلك لي نجاحا، وإن رأيت إنني أبعدت في الفهم، وجرت في الرأي، فأحب شيء إلى نفسي أن تبين ما بصدق اللهجة، ونفاذ البصيرة، وإخلاص الدفاع، وكل ما أهدف إليه ألا أراك موضعا لقالة، أو ظنينا بجور، وهذا ما يعنيني أن أتحدث معك في أمره، أما سائر شأنك، فلا أدس أنفي فيه، لأنه سلوك شخصي قد يكون لك فيه تأويل أو مساغ، ولا أدعي لنفسي عقلا أكبر من عقلك، على كبر في السن، وكثرة في التجارب، وهاأنذا صنعت. . فهل تجد هذه الرسالة منك أذنا صاغية، وقلبا واعيا، فتسوى أمرك، وتدنوا من إفهام الناس، لتتقي أذاهم، وتكتفي من ظنونهم، وإلا فأين هو السلاح الذي أشهره في الدفاع عنك، إن تطاير من أجلك حديث، أو أثير حولك غبار، وسلام عليك.
محمد محمد الأبهشي
إلى الأستاذ حبيب جاماتي
قرأت كتابكم الذي أخيرا في سلسلة كتب للجميع بعنوان (أغرب ما رأيت) فعنت لي بعض خواطر أسجلها فيما يلي: -
1 -
حول تجارة الرقيق:
تمنى الأستاذ جاماتي أن يكون تقدم الزمن منذ عام 1930 قد خدم العبيد ضد النخاسين ولا أدري لماذا لم يتتبع الأستاذ الفاضل أخبار تجارة الرقيق بعد هذا التاريخ!!
وبالأمس القريب وفي سنة 1950 اتهم الكاتب الأمريكي لورنس جرسولد اليمن بتجارة الرقيق
فقد كتب مقالاً عنوانه (مازلت تستطيع أن تشتري جارية) وقد نشر هذا المقال في إحدى
المجالات الأمريكية ثم نشرته مجلة (وورلد) في عدد سبتمبر سنة 1950 وقد نقلت مجلة الفصول الغراء المقال بأمانة تامة وقدمته إلى قرائها في أقطار الشرق العربي. فانبرى لنقد المقال الأستاذ علي بن الآنسي اليمني وذكر أن اليمن ليس بها أسواق للرقيق. ومع احترمنا لرأيه بصدد اليمن. . وللحقيقة نقول أن كثيرا من المعلومات التي وصلت ألينا تدل على أن تجارة الرقيق لم يقض عليها القضاء الأخير. ولا يسعنا ألا أن نردد المثل العربي (وعند جهينة الخبر اليقين) ولعل تقدم الزمن كفيل بالقضاء على تلك التجارة الشائنة تماما في المستقبل القريب.
2 -
حول معجزات الهند:
سألني صديق عزيز وهو بين مصدق ومكذب عن معجزات الهند ولا سيما معجزات الحبل الهندي فقلت له: إن معجزة الحبل رآها ابن بطوطة الرحالة العربي القديم في القرن الرابع عشر الميلادي وعاينها بنفسه بل وذكر خبرها في كتابه عن رحلته المعروفة بتحفة النظار في عجائب الأمصار وغرائب الأسفار
وبعد أفلا كان من الواجب أن يشير الأستاذ جاماتي ولو بكلمة واحدة إلى ابن بطوطة وما شاهده في صدد الحديث عن الموضوع نفسه.
3 -
زرافة الباشا أولا:
إن من يقرأ ما كتبه الأستاذ حبيب جاماتي عن المسلة المصرية التي من الأقصر وتقوم الآن في ميدان الكونكورد بباريس قد يظن أن العلاقات لم تتوطد بين محمد علي باشا عاهل مصر الكبير وبين فرنسا ألا في سنة 1830 وهو التاريخ الذي أهدى فيه محمد علي الكبير مسلة الأقصر إلى عاهل فرنسا لويس فيليب. وللحقيقة والتاريخ أقول أن العاهل الكبير تبادل الهدايا مع ملوك فرنسا قبل سنة 1830 واهم هذه الهدايا التي أرسلت إلى فرنسا وكان لها صداها زرافة كانت مناط إعجاب الفرنسيين وعرفت بزرافة الباشا.
فحوالي عام 1835 بسطت مصر سلطانها على الجزء الجنوبي من الوادي وخضعت لها كردفان وأمر والى هذا الإقليم - من قبل عاهل مصر - وهو إذ ذاك مختار باشا الفرسان السودانيين بصيد الزراف وقد استطاع مختار باشا أن يرسل إلى محمد علي الكبير وكان بالإسكندرية في ذلك الحين زرافتين صغيرتين على قيد الحياة0
وقد استطاع دروفيتي قنصل فرنسا في مصر بوسائله الخاصة أن يحصل على إحدى هاتين الزرافتين كهدية لفرنسا من عاهل مصر ولتكون تحت تصرف علماء متحف التاريخ الطبيعي بباريس. وقد وصلت هذه الزرافة إلى فرنسا سنة 1827 وكانت مناط إعجاب الفرنسيين بل وتركت أثر كبير في الأدب الفرنسي في ذلك الوقت. . .
هذه وقد استفاض مسيو جبريل داردو (مدير وكالة الأنباء الفرنسية بالقاهرة الآن) في الكلام عن رحلة زرافة الباشا وعن أثرها في الأدب الفرنسي ودعم بحثه القيم بالوثائق والأسانيد، ويقع هذا البحث في اثنتين وسبعين صفحة من القطع الكبير وقد نشر هذا البحث في عدد يناير سنة 1951 من مجلة
وهي المجلة التي أخذت على عاتقها ذكر وبيان شتى العلاقات التي تربط بين فرنسا والشرق وبخاصة بين فرنسا ومصر.
ومن الأشياء التي أهديت إلى فرنسا كذلك عقب هذه الزرافة المعروفة بزرافة الباشا الزدياك أو دائرة البروج التي كانت بمعبد دندرة. . وأخيرا تأنى مسلة الأقصر التي اهتديت سنة 1830
شفيق احمد عبد القادر
القصص
عودة الروح
للكاتب الفرنسي تيودوردي بانفييل
استكملت السيدة هورتنس دافراي في 1882 ربيعها العشرين، وليس في قولي (السيدة) تجانفا مني ولا مينا. فقد كانت هورتنس زوجة، بل أرملة بائسة لا ولد لها يسهر ولا قريب يؤويها إلا جدتها (مدام دي برييل). . استقدمتها تلك الجدة لتشاطرها العيش في مسكنها بشارع ليل. وكانت هورتنس تنشق - بقرب جدتها - آخر نسمات العيشة العائلية الهادئة تهب عليها في ونى وهدوء. قد مضى الآن حولان كاملان على وفاة جدتها الطيبة التي ماتت حزينة قلقة على مصير حفيدتها إذ تتركها وحيدة في غياهب الفقر وأمواج الحياة. إنها عمرت ثمانين عاماً رأت فيها من تحب يتزوجون، ومن تعرف يرحلون ولم يبق منهم أحد تعهد إليه بحفيدتها البائسة.
ولما أحست مدام دي برييل بأجلها يقترب، رتبت أمرها في شهرها الأخير، كي لا تقلق بال حفيدتها. ولقد غالت الجدة في ذلك، فكانت ترمي أوراقاً كثيرة في النار وتحفظ الأخرى. وكانت الجدة تحتفظ - طوال مرضها - بصندوق صغير في دولابها الكبير. وكانت تضع مفتاحه في خيط من الحرير تحت الوسادة الحائلة. وكثيراً ما كانت الجدة تمسك الصندوق ساعات طوالا، كأنما تريد أن تنتهي من أمره إلى حل، وتتخذ حيال ما فيه قراراً. ودهمتها سكرة الموت قبل أن تقرر مصيره أو تتخلص منه.
واستشعرت السيدة دافراي قلقاً يساورها عندما عثرت يداها الباحثتان على الصندوق الصغير.
وقررت أول الأمر أن تحرقه - أمانة منها وإخلاصا - دون أن تعرف ما فيه من أسرار. ولكنها لم تفعل ذلك خشية أن تضيع - بحرقه - أداء واجب عليها أداؤه، أو وصية لا بد منها. وهكذا فتحت الصندوق وألفته مليئا برسائل جمة، لا تحمل العنوان على الأغلفة كما هي الطريقة الحديثة، ولكن تحمله على شرائح من ورق رفيع. وقد علمت - بعد أن بصرت بأول خطاب - أنها ليست رسائل جدتها مدام دي برييل، ولكنها رسائل أم جدتها - السيدة إيودكسي تيرين. وقد رأت هورتنس تلك الجدة العتيدة. فأنها لم تمت إلا أخيراً في
سنة 1882. ولها من العمر خمسة وثمانون عاماً.
على أنها تستطيع أن ترى خيالها كل حين إن أرادت، فأسرتها تحتفظ لها بصورة رسمها البارون جروس، في ميعة شبابها ووفرة صباها. وقد كان عن طريق غريزة ركبت فينا، نشعر بها ولا نستطيع أن نكيفها، أن رأت هورتنس دافراي بينها وبين صورة الجدة - التي صورت من ثلاثة وخمسين عاماً خلون - شبهاً قوياً. بل لتكاد - إذ تنظر إليها - ترى وجهها في مرآة صافية!
ذلك بأن الطبيعة يحلو لها في فترات مختلفة وفي أسرات خاصة، أن تعيد خلق وجوه درست وثوت بالتراب من أمد بعيد. . تعيد خلقها كما كانت، كأنها مثال يأخذ عدة أشكال من قالب واحد. ولكن المرء يسائل نفسه في تلك الأحوال: إلى أي حد يبلغ الشبه؟ أيقتصر على الوجه والخلقة؟ أم يسيطر على الأفكار والمشاعر؟ أم ينفذ إلى سواد الفؤاد؟! تلك مشكلة من مشاكل العلم الحديث يرمينا بها فتفتح أمامنا آفاقاً واسعة غير ذات بر ولا حدود.
وقبل أن تقرأ السيدة دافراي أولى الرسائل لمحت سكة كبيرة تتدحرج في الصندوق بجوار جداره الرقيق. فالتقطتها، وتفقدتها، فإذا بها رسم ملازم شاب، من ضباط الدولة الأولى، ذي شعر وحف جعد، وعينين يلمع فيهما بريق الشهامة وبأس الشباب. وجبهة قسمتها ندية جرح طولي إلى قسمين عريضين. ينبسط أكبرهما من حاجبيه إلى منبت الشعر بوسط المحيا. وجبهته عامة جبهة شجاع جسور. وأدمنت هور تنس النظر في الصورة، فجذبها بريق العينين، وفتنها سحر الجمال، وأخضعها بأس الهوى! فاستشعرت في قلبها آلافا من المشاعر المتضاربة المركبة، آلافا من الخوف وأخرى من سرور، إنها تحب! ولكن ويلها من تحب!؟ فتى مرت على وفاته حقب وأعوام، وتوالت على قبره أحداث ورجام! فتى دالت دولته، وراحت صولته، وقدر لها ألا تراه على الأرض حيا!. . . ولكن كثيراً ما لعبت الجذوة التي تلهبنا بالحقائق والأفكار! وكثيراً ما كانت الحقيقة شيئاً مستحيلاً، فليس ضرورة أن يكون الشيء ممكناً حتى نقول بأنه حقيقة.
وإنه لمن الضلال البعيد أن نقول بأن هوتنس قد فجئها الحب، ولكنها كانت تشعر في قلبها بحب قديم، له آلامه وآماله، ولسبب ما خمد وانطفأ بل نزع من القلب والذهن انتزاعاً. ولكنه استعر فجأة، وقفز إلى ذهنها وقلبها معاً يعذب هذا بالذكريات، ويكوي ذاك بالشوق
والألم.
وتفقدت الرسائل فإذا بإمضاء واحد يذيلها جميعاً. وقرأتها في شغف وجنون. ثم كانت لا تني عن القراءة والإعادة كأنها محمومة. ولم يكن عسيراً أن يجمع المرء خيوط القصة التي أنجبت تلك الرسائل
تزوجت جدتها السيدة إيوودكسي تيرين من أحد متعهدي الجيوش. وكان كهلاً أنانياً، أفسدته الخلاعة، وأضواه المجون. وقد مكنتها مهنة زوجها من الاتصال بضباط الجيش. فهام بحبها ملازم شاب من جند نابليون، يدعى بول فراند وجرفها تيار هواه. فلم تستطيع أن تقاوم أو تتشبث. فسايرت التيار في هوادة وإخلاص. فكان جميلا أن ترى عاشقين شفهما الهوى وبرح بهما الغرام يتعاطيان كؤوس الوصل مترعة هنية، وينهلان من منبع الحب الخالص. فيحلمان بسعادة خالدة، ونعيم مقيم. غير أنهما - طوال الوقت - يشعران بأجنحة الموت السوداء تصفق فوقهما كأجنة الخفاش الأعمش، وبإنسان بمسوح الردى الطخياء تهددهما بالبعد والحداد.
وسرعان ما تبددت الأحلام، وحلت المخاوف! لقد فرق الدهر المشتت بينهما أيام (أوسترلتز) وإبينيا وإيلو، أيام فريدلند ووجرام. . . وكانا قليلا ما يلتقيان - في تلك الأعوام العصيبة - لحظات معدودات. ولكن فراديير كان يختلس ما بين واقعتين أو ما بين نصرين فيسيطر لها - وهو أشعث أغبر - آيات الحب والهيام. ويبثها وقدة الشوق وجدوة الهوى. يسطر لها رسلات مترعة أسى وعذاباً، تقرأها الآن حفيدتها الصغرى بين دمع وأكف وقلب خافق، بين صدر يعلو ويهبط كالموج، وأنفاس حرى تذهب وتجئ. كان من أجل إيودكسي - كما كان من أجل نابليون - أن خاض فرانديير المعارك الدامية، وشرق في البلاد وغرب، وقاسي كثيراً واصطبر. كان يريد أن ينصر العاهل حتى النفس الأخير، وإن يكسب لإيودكسي عرشاً فحيما.
ومات في تلك الأثناء زوجها. وجن فرادنديير الأمل، وحن إليها ففكر في الرجوع إلى الوطن. وبينما الأمل ينمو ويوطد الجذور، والشوق يستعر والقلب خفاق، إذا به يقع في الميدان يتشحط في دمه المغرم، وإذا برصاصة تخترق صدره العاشق وتسكت قلبه الخافق. فثوى في حزون سمولنك الباردة وحيداً، لا قلب يخفق له، ولا دمع يترقرق في المحاجر
أسى عليه. ونعى فرادنديير زميل ائتمنه على سر قلبه وذات صدره. وكان خطاب الزميل مع الرسائل الأخرى في الصندوق الصغير.
ما في هذا الأمر من شيء غريب. ولكن الغريب حقاً أن يتراءى لهورتنس دافراي أن التوسلات والذكريات التي حفلت بها الرسائل. وإن الجوى والهيام كل ذلك لها هي من دون جدتها إيودكسي تيرين. واندفعت روحها الظامئة ناشدة ذلك الحب تاركة وراءها الحقيقة ونواميسها، وحلقت بالغرام في الخيال غافلة عن الواقع ونظمه، وتمادت في ذلك فاستباحت لنفسها أن تخلق المعدوم وإن توجد المستحيل! ولم تكتف بذلك بل وهبت نفسها لفرانديير هذا دون أن تفكر لحظة أنه مات منذ أمد بعيد، في تيه المجد وضجة النصر المبين. واعتقدت أنه يوماً موافيها، وأنها ملاقيته بعد أمد قريب أو بعيد، وأنها مسلمة عليه ومصغية لحديثه الحنون، ولم يخامرها في يقينها هذا شك، ولا وجدت على عقيدتها غباراً. . . رأت فأحبت فأغرمت فتعذبت ثم راحت تنتظر الحبيب بثقة واطمئنان!
لو رأى النائم المعجزات في حلمه لما استغرب، لأن النفس تكون متطلقة من الواقع ونظمه، والحقيقة وأشراطها. وكذلك لم تستغرب هورتنس دافراي - حينما كانت تزور مدام دي سيمور - أن تعلن الخادم قدوم السيد بول فرانديير
راته يدخل، هو بعينه الذي أحبت وتحب: بول فرانديير! بول فرانديير بشعره الوحف المجعد، وعينيه السوداوين، ثم بندبة الجرح في جبهته العريضة. . . لم يكن هناك فرق سوى انه يرتدي زي ملازم من مدفعية الفوج الإفريقي الأول. . . كلا! ولم تعجب مدام دفيراي إذ تراه، فقد كانت تنتظره بصبر واطمئنان. على أن قلبها غاص في حنايا صدرها البض، وراح يحطم ضلوعها بخفقه الشديد، وودت إن لم تكن بين ذلك الجمع من الرجال المتألقين وتلك الثلة من النساء ذوات الأساور والحلي، فتقفز كالغزال اليه، ثم تغيب في أحناء صدره الرحيب قائلة (هاأنا ذي)
وانحنى فرانديير لعمته مدام سيمور. ثم يرى هورتنس فجأة، فيبهت، لا عرف لديه ولا نكر، وغاض لونه واصفر وجهه، واستطاع بعد لأي أن يعتمد على الحائط وإن يجر قدمه الواهنة إلى مخدع كان لحسن الحظ خاليا، فتخاذل وارتمى على بساطه الثمين. ودهشت مدام سيمور من سلوكه الناشز عن العرف والتقليد، فتعقبته إلى حيث تداعى يئن أنينا.
ودخلت المخدع ساعة رانت عليه صفرة الموت وغاب عن الوجود.
واستدعت عمته طبيبا مشهورا من أضيافها. ولكنها أحست - بغريزة المرأة - أن هناك سرا لا يحسن ان تفض غلفه لأحد غريب. فجثت على العليل تدلك رأسه وصدغيه، وتنشقه بعضا من ملح قوي مفيق. ثم رفعت رأسه براحتيها واضعة تحتها وسادة من حرير غال.
ولما أن أفاق وثاب إليه الوعي، دس يده في جيب صداره وأخرجها تحمل رسما على ورق قديم حمله قبلات والهة، فأراه عمته، ثم صاح في فرح المجنون وطرفه غريق في الدمع الهتون:(أي بلانش! بلانش! إنها تحيا!) فأجابته عمته: بلانش! بالطبع! إن هورتنس دافراي تحيا، وهي فوق ذلك صديقتي. ولكن قل لي لم تدخل في زي الدولة الأولى؟ على انك لم ترها مرة واحدة! فما معنى تلك النوبة التي انتابتك من لحظة؟ فقال فرانديير:
- أني لم أرها إلا الآن ولكن روحي هامت بها من زمن بعيد، وأوسعتها حبا وعشقا. وقد استقر حبها بين جوانحي وفؤادي، وسرى بين لحمي وعظمي. لم يفارقني ذلك الرسم منذ خلص إلي وتناهى من ثلاثة أعوام خلون. واصطحبني في الفتح والحروب، في النفق والخنادق، فكان رسول السلام إلى قلبي الموله الجازع إذا ما اشتد النزال وحمى الوطيس، وكان بشير الحصانة إذا ما رنق على الرؤوس الموت ليختار على أي يقع. كان فيض الأمل ونبع الحياة، كان كل هذا برغم ما كنت اعلم من موت صاحبته. ولكني لا املك من امري شيئا. وكنت أعلل نفسي أني ملاقيها في جنان الرحمن حيث لا تعجز اللقيا. . . ولم يكن خيالي يستبيح لنفسه - وهو الشرود الجموح - أن يتصورها حية في عصرنا هذا. فهو إن صورها يصورها نائمة بجلال بين الورود والزهور في جدثها العاطر. فيطير لبي شعاعا، وتنسرق نفسي هياما وحبا!
- هذا حسن! ولكنك لم تحدث لي من أمر الصورة ذكرا. كيف تناهت إليك؟
- ذلك أمر بسيط! فقد كان لدى أبي - في مكتبته - مكتب مهجور. طلبته منه كي استذكر عليه فأعطانيه ولم يمهل. وقال لي انه من مخلفات - سميي - عمه الأكبر بول فرنديير. كان ملازما في جيش الدولة الأولى. ومات في سمولنسك في السابع عشر من سنة 1812. وكانت مفاتيح المكتب ضائعة فاضطررت إلى كسر أغلاقه، وفي أحد أدراجه الخفية عثرت يداي المجدودتان بتلك الصورة المقدسة، ولقد عشقتها من ذلك الحين
- حقا إن في ذلك الحادث جانبا كبيرا من الغموض والإبهام، وعلى أية حال فأنت شاب طليق وهي فتاة حرة. فلا مانع يفصلكما من الحب ويحرمكما الزواج
ولكن الأماني كانت سرابا. ادكر كل من بول وهورتنس صاحبه، فتذاكرا العهود وجددا الغرام، فنعما بجنة الحب أمد قصير. ولكن بول ذهب في فوجه إلى (تونكين) وهناك مات - كجده - برصاصة شقت الصدر وباتت في الفؤاد، أي بؤس وعذاب!
س. م