المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 998 - بتاريخ: 18 - 08 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ٩٩٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 998

- بتاريخ: 18 - 08 - 1952

ص: -1

‌الوثبة المباركة

لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد عبد الله السمان

مهداة إلى المجاهد الأكبر القائد العام

في أصيل الثلاثاء (2271952) جلسنا ثلة من الشباب الناضج

فكرا ووطنية، على مقربة من قصر المنتزه بالإسكندرية.

وبدأنا الحديث فيما يهم مصر وأماني شعبها المغلوب على

أمره، وما كانت أنسم الشاطئ العذبة، ولا أمواج البحر

المتراقصة، ولا أشعة الشمس الذهبية التي تخطف الأبصار

لتشغلنا عن الحديث عن مصر وآلام مصر. ولست أدري لم

كانت أنظارنا ترمق قصر المتنزه، متجهة إليه لا ترغب في

التحول عنه! لم تكن متجهة إلى هذا القصر باعتباره الحصن

الذي يعلق الشعب عليه كل آماله، لأن هذا الاعتبار كان بمثابة

نظرية ابتكرها النفاق والملق والصغار، وأثبت خرافتها ستة

عشر عاما حكمت مصر خلالها حكما إقطاعيا تسوده الأنانية

واللصوصية والاستهتار، حكمت بالحديد والنار دون رحمة

بأناتها وزفراتها، فرزحت تحت أعباء ثقال من الفاقة والحرمان

والبؤس والشقاء، وتجرعت كؤوسا فائضات من الكبت

والاستبداد. . .

ص: 1

إذن فما كانت أنظارنا خلال الحديث ترمق قصر المنتزه باعتباره حصن الأمل لمصر البئيسة، ولا باعتباره كعبة الرجاء التي يجب أن يرتكز عليها محور الجهاد والنضال في سبيل الوطن، ولا باعتباره أي معنى من المعاني التي يسر لها ويطمأن إليها، وإذا كان يطيب لأناس - زعماء كانوا أو غير زعماء - أن يسرفوا إسرافا بغيضا في صياغة العبارات التي تجعل هذا القصر وأخواته بمثابة قلاع حصينة لمصر، ومشاعل مضيئة لنهضتها، والتي تجعل ساكن القصر وحاشيته في صفوف الملائكة الأطهار، والمجاهدين الأخبار، والمخلصين الأبرار، فليس معنى هذا أنهم صادقون نزهاء ما دامت لهم مصالح يبذلون في سبيلها شرفهم وكرامتهم، إن كان فيهم بقية من الشرف والكرامة، ومادام تكوينهم الشخصي لا يؤهلهم إلا الحياة الذلة والملق والصغار. وإذا كان يطيب للشعراء أن يصوغوا الثناء والمديح في لآلئ من القصيد، ويضفوا على العرش وصاحبه (المفدى) ألقابا من صنع الخيال الفاسد، ونعوتا من الملق الزائف. فليس معنى هذا أنهم حجة فيما ينشدون وفيما يضفون من ألقاب ونعوت. . .

أخذنا نتحدث تارة همسا خفيفا، وتارة أخرى بأطراف الشفاه، وحديثنا يدور حول محور واحد، هو أن القصر موطن البلاء، وأساس الفساد والعقبة الكأداء في طريق كل نهضة من شأنها إلى أن تصل بمصر إلى القمة، وإن حاشيته لم يكونوا في يوم من الأيام سوى سماسرة على حساب البلد المنكوب؛ وعصابة مغامرة ستقذف بالعرش إلى الهاوية إن قريبات وإن بعيدا، وما جهاد الأحزاب وزعمائها إلا لوان من التخدير والتغرير بالشعب الصابر المصابر. وليس للأحزاب المصرية وزعمائها من هدف سوى التربع على كراسي الحكم ليتحكموا لا ليحكموا، وليستبدوا لا ليعدلوا، وليستغلوا لا ليبذلوا، وليجشعوا لا ليقنعوا. . .

قلت: إن عم الجالس على العرش هو الذي مهد للاحتلال ليحمى عرشه من غضبه الشعب، حين تلاشت شخصيته وسط أمواج متلاطمة من الفساد، وتلقى تهاني الصغار من المتزلفين وأشباههم حين انتصر الاحتلال الغاشم على شعب مصر، ووطئ بنعاله كرامة الوطن. ومن وقتها أصبح هذا الاحتلال لازما لعرش مصر يحميه من صولة الشعب حين يثأر لكرامته. وثقوا بأن المحتلين أنفسهم ليسوا بأرغب في بقاء الاحتلال من المجالس على العرش نفسه،

ص: 2

لأن الاحتلال يمكنه من أن يستبد ويبطش، ويلعب ويستخف، دون أن يناقش أو يحاسب، والزعماء من خلفه يلهون ويعبثون ويرضون من الأمر بالحكم تارة وبالألقاب تارة أخرى، والشعب مغلوب على أمره يقنع بالرضا والتسليم. وثقوا مرة أخرى بأنه لن يخلص البلد من الشر بشتى ألوانه إلا إحدى وسيلتين لا ثالث لهما: زعيم صادق ينفخ في روح الشعب حتى يهب من نومته، أو ضابط شجاع يضع روحه فوق كفه، وإذا وجد الزعيم الصادق فليس من السهولة أن يحيي شعبا نكبه الحكم الإقطاعي حتى وهن وأثقلته أنات الاستبداد والبطش به حتى سكن، وإذا وجد الضابط الشجاع فليس من الميسور له أن يطبع الجيش على طابعه، بعد أن آل أمره إلى الجهلة المستغلين، وتغلغل بين صفوفه كثير من الوضعاء في أخلاقهم وشخصياتهم.

لقد طال بنا الحديث ولم يتصرف أنظارنا عن قصر المنتزه سوى منظر الشمس في لحظاتها الأخيرة. والبحر يتأهب ليفغر فاه فلتقمها في بطنه، أجل طال بنا الحديث ونحن لا ندري أننا كنا مع القدر حين سطر نهاية الظلم الجاثم فوق صدر مصر، وإن أنظارنا لم تتحول عن القصر إلا لتودع شمسا لن تشرق عليه مرة أخرى، وأننا حين كنا نتحدث عن آلام مصر وأنات شعبها، كان في العباسة بالقاهرة أسود تخفق نبضات قلوبهم من أجل مصر وشعب مصر، أصروا على أن يضعوا حدا للفساد الذي بلغ الذروة، والفوضى التي وصلت القمة، والهمجية التي فاقت همجية القرون الوسطى، ولم يكاد الليل أن ينتصف حتى منحت الدنيا مصر صبحا جديدا وعهدا مشرقا، كتب لها فيه الخلود، ولجيشها البطولة، ولشعبها الكرامة إلى الأبد. . .

كانت وثبة جريئة مباركة، أمدها الله بقوته، وشملها بعنايته، وهتف لها الشعب من صميم قلوبه وأعماق نفوسه، وأدهشت العالم بحسن تدبيرها، وحزم تنفيذها، وإيمان القائمين بها، وغيرت مجرى التاريخ في بلد ظل مجراه راكداً فيه سبعين عاما، ومحت عارا أسكن مصر الحضيض وأنزلها منزل الدول الراكدة المتخلفة عن الحضارات والنهضات. . .

إنها فرصة أوجدها جيش مصر الباسل للشعب لعله يخلق نفسه خلقاً آخر لا تشوبه شوائب الدعة، وللأحزاب لعلها تضع المناهج والبرامج التي تنهض بمصر، وللزعماء لعلهم يبدءون عهدا جديداً فيما يفيد الوطن، ولدعاة الإصلاح لعلهم يرسمون خطط الإصلاح

ص: 3

الرشيدة في أمن وهدوء. . .

إن هذه الوثبة المباركة لنقطة تحول في تاريخ مصر، لن تنساها أبد الدهر لجيشها الباسل، حسبها تقديرا لها وفخراً بها أنها أذلت جبارا عنيدا خدعه الغرور حتى لم يحسب أن في الدنياذلا وظالماً غشوماً خدعه الحمق والسفه حتى لم يحسب أن في السماء قصاصا وعدلا، ومستخفا طائشا غرر به بطانة السوء وحاشية الشر فهوت به إلى الدرك الأسفل فاصبح في ذمته التاريخ. . .

إن في التاريخ عظات ولكنه لم يتعظ، وفي سلوك جده عبرة ولكنه لم يعتبر. كان يعيش في دينا غير دنيا الناس، وخيل إليه أنه إله يجب أن يعبده شعب مصر، (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) صدق الله العظيم

محمد عبد الله سمان

ص: 4

‌عدد (1000) من الرسالة

ذكريات وخواطر

للأستاذ على الطنطاوي

لما سمعت أن الرسالة كادت تستكمل أعدادها الألف، دهشت وفرحت، كما يدهش من يقال له لقد غدا ولدك شابا، ويفرح به كأنه شبابه لأول مرة، وما ذاك عن جهل به أو إهمال له، بل لأنه لا يزال يذكر مولده وطفولته، ولأنه يراه كل يوم فلا يحس أنه تغير، ولا يدري متى جاوز الطفولة إلى الشباب، وأنا أذكر أبداً فرحتي بصدور الرسالة، وموقف أخي أنور العطار، وقد جاء بالعدد الأول منها فخبأه وراء ظهره، وقال: أحرز.

- قلت: ماذا؟ - قال: الزيات أخرج مجلة أدبية.

إنني أحس من شدة وقع الفرح في نفسي لما قالها كأن قد كان ذلك أمس. . . فكيف مرت الأيام حتى بلغ عمر الرسالة ألف أسبوع؟ كيف مر هذا الأمد الطويل، وكأنه من قصره ليالي الوصال!

ألف عدد؟! كم أنفقت من ذهني في إعداد المقالات لها، ومن أعصابي في ارتقاب وصلها! وكم سألت الباعة عنها؛ في شارع رامي في دمشق، وفي سوق السراي في بغداد، وفي العشار في البصرة، وعلى السور في بيروت، وعند باب السلام في مكة، وعند الجسر في الدير، وفي شارع الملوك في حيفا، وفي كل بلد عشت فيه أو مررت به! وكم قرأت مسوداتها وراء مكتب رئيس التحرير في الإدارة، وأمام الآلات في المطبعة! كانت الأيام عندي السبت والأحد ويوم الرسالة، وكانت تتبدل على المشاهد، ويتغير الرفاق؛ ولكن الرسالة هي رفيقي الدائم! أذكر كل عدد منها، وكل مقال نشرت فيه، وكل مناقشة فيها وكل بحث، وقالت زوجتي أول ما قدمت علي:

- إنني لا ضرة بي، ولكن الرسالة ضرتي.

ثم رأت - وهي من أعقل النساء وأفضلهن - أنها ضرة لا تضر ولا تؤذي.

كم وضعت فيها من قلبي ومن فكري، ومن مشاهد حياتي ومن ذكرياتي، ومن آلامي ومن آمالي، من سنة 1933 إلى اليوم.

ألف عدد، وستعيش الرسالة إن شاء الله حتى تبلغ الألف العاشر، وحتى تكون من أعلاق

ص: 5

المكتبة العربية وكنوزها - وقد كانت.

ستعيش حتى يصير في مثل عمر (المقتطف)، وليست المقتطف - مد الله في عمرها - بأحق منها بالخلود.

ولقد كان للرسالة فضل على اللغة، وفضل على الأدب، وفضل على الأخلاق، وكان لها عمل كبير في إحياء روح الدين في دنيا الإسلام.

ولقد أخرجت للناس كتابا وشعراء، وكانت مدرسة للبيان العربي، جئناها شبابا فمشينا في ركاب شيوخ الأدب، وبقينا فيها حتى أوشكنا أن نعد في الشيوخ، وهل بعد خمس وأربعين شباب؟

لقد ولى الشباب، وذبلت زهرة العمر، وجاءت الكهولة، إن نسيتها ذكرتني بها كل جارحة من جوارحي، وكل عضو من أعضائي: أن أثقلت الطعام قالت المعدة: حاذر إنك لم تعد شابا. وإن مارست ما كنت أمارس من الرياضة قال القلب: قف إنك لست بشاب. وإن تعرضت للبرد قالت المفاصل: تنبه، لقد فارقت عهد الشباب.

وإن تطلعت إلى الحب، أو ابتسمت للجمال، قال الفؤاد الملول السأمان. . . ويا ما أشد ما يقول الفؤاد السأمان الملول!

وإن اشتعلت في الأعصاب نيران الحماسة، وأخذت (ذلك) القلم الذي كنت أكتب به في الأيام الخوالي، تراءت لي هموم الأسرة، فأطفأت نار الحماسة في أعصابي.

كنت وحيدا خفيفا؛ وكان لي جناحان من أحلامي وأماني، فأثقل ظهري بناتي الأربع وأمهن وعماتهن وعمة أبيهن، واصطدم جناحاي بأرض الواقع، فبينت ضلال الأحلام وكذب الأماني، فتحطما، فكيف يطير بغير جناحين من يحمل هم ثماني نساء؟

إني لأقف الآن لأراجع حسابي، وأنظر ماذا ربحت وماذا خسرت!

أما الرسالة فقد أفضلت علي، وأضاءت للناس مكاني، ومشت باسمي إلى بلاد ما كنت أسمع بها، وجاءتني بالشهرة والجاه ومجد الأدب، وعرفتني بإخوان كرام في أقطار ما دخلتها ولا أظن أني سأدخلها، وهذي رسائلهم تحت يدي من المشرق والمغرب، من إيران وإندونيسيا واليابان؛ فهل تعلمون أن للرسالة سوقا وقراء في اليابان؟ ومن تونس والجزائر ومراكش وأميركا. ولقد كتبت مرة مقالة عن - الحياة الأدبية في دمشق - فتجاوبت في

ص: 6

الرسالة أصداؤها ببضع عشرة مقالة فيما أذكر عن حياة الأدب في هاتيك البلدان، وكانت مناقشة مرة بيني وبين الأستاذ محسن البرازي، الذي صار رئيس الوزراء حسني الزعيم، ثم قضى رحمه الله. فجاءني التأييد من - جاوا - وهذه جريدة - برس - بشيراز تنشر الآن كتابي الجديد (كلمات) مترجما إلى الفارسية، بقلم الأديب الفارسي الأستاذ أحمد آرام؛ مع تعليقات في المدح والتأييد شعراً ونثراً، يمن بها على القراء، وهي على وشك الترجمة إلى الأردية ولولا الرسالة ما كان هذا كله.

ولكن ما جدوى هذا كله؟ ما الشهرة؟ ما الجاه؟

إن لأكتب هذه الكلمة وأنا في دار في مضايا منفردة في الجبل، وأنا مريض وحيد منعزل، فهل أذهبت الشهرة عني المرض، أو دفع الجاه عني الملل؟ وكذلك أنا في دمشق، أنا منذ سنين أعيش في حلقة مفرغة لا تكاد تتجاوز الدار والمحكمة والسينما، حتى يوم الجمعة، وحتى يوم العطلة أذهب إلى المحكمة كالحمار (ولا مؤاخذة. . .) الذي يدور بالسانية، إن أطلقت عنقه من الحبل عاد يدور، لأنه مربوط من قيد العادة بحبل لا تراه العيون.

فماذا ينفعني في عزلتي وسأمي أن يمدحني في بلاد الله من ألف، وماذا يضرن أن يذموني أو ألا يكونوا قد سمعوا باسمي وماذا يفيدني وأنا أعيش في دمشق عيش الغريب، أن يكون (وهذا هو الواقع - ولا فخر) بين كل عشرة يمرون في أي شارع فيها، خمسة على الأقل يعرفون أسمي، ويحفظون طرفا من مناقبي، أو أطرافا من مثالبي.

ولقد اشتغلت الجرائد منذ سنة أسبوعا كاملا بشتمي وسبي في صفحاتها الأولى من أجل تلك الخطبة المشهورة، وفعلت مثل ذلك أيام الانتخاب سنة 1947، ونسبت إلى نقائص تشبه إبليس، فهل يصدق القراء أني لم أبال بها، حتى أني لم أقل أكثرها. أقسم بالله أن هذا الذي كان؟ ولقد نشرت الجرائد مرات أخرى أطيب الثناء عليّ، وألصقت بي مناقب تزين الملائكة فما باليت بها أيضا، لأن كل طرفي قصد الأمور ذميم والثناء إن زاد كالهجاء إن زاد، كلاهما أقرب إلى الكذب وما أن ملك ولا أنا شيطان، ولي حسنات ولي سيئات، وأنا أعرف بنفسي من سائر الناس. . .

إني لأسأل مرة ثانية: ما الشهرة؟

إن الشهرة وهم ليس له في سوق الحقيقة قيمة، وليس له في ميزان الواقع وزن، حتى أن

ص: 7

هذا الحرف (أي الشهرة) لا يصيب لغة، ولا تكون الشهرة في الفصيح إلا بالعيب والعار والفضيحة ولكن الألسنة أدرتها على هذا المعنى، فكتبنا للناس ما يفهموا.

إن الشهرة سراب زائف، إنها مثل (المستقبل) الذي يركض وراءه الناس كلهم فلا يصلون إليه أبدا، لأنهم إن وصلوا إليه صار (حاضرا) وعادوا يفتشون عن مستقبل آخر يعدون إليه كحزمة الحشيش المربوطة برأس الفرس يسعى ليدركها وهي تسعى معه أبداً!

إنني أقول هذا من أعماق قلبي مؤمنا به؛ ولقد مر علي زمان كان أحلى أماني فيه أن أسير فيشير إلى الناس بالأيدي يقولون هذا علي الطنطاوي، وإن أعلو خطيبا كل منبر، وإن أجد أسمي في كل صحيفة، وكان قلبي يتفتح للجمال، ويستشرق للحب، فلما جربت هذا كله، وذقت لذته، صار كل ما أرجوه أن أتوارى عن الناس، وإن أمشي بينهم فلا يعرفني منهم أحد.

لقد مر بي أكثر العمر، ورأيت الحياة، ونلت لذاتها وجرعت آلامها، لم تبق متعة إلا استمتعت بها، فلا اللذائذ دامت ولا الآلام، ولا الشهرة أفادت ولا الجاه، ولقد شهدت حربين عالميتين، ورأيت تعاقب الدول على الشام من العثمانيين إلى الفرنسيين إلى من جاء بعد، ومن قام ومن قعد، ومن أتى ومن ذهب، ولو أردت الوزارة وسلكت طريقها لبلغتها من زمان كما بلغها من مشي على أثري في الدراسة وفي الحياة، ولو شئت لكنت من المشايخ الذين تقبل أيديهم ثم تملأ بالمال، فيملكون الضياع والسيارات، ويصيرون بحرفة الدين من كبار أبناء الدنيا؛ ولكني ما وجدت شيئا يدوم. تذهب الوزارة فلا تترك إلا حسرة في نفوس أصحابها، ويصحو الناس فيعلمون أن الذي يأكل الدنيا بالدين، لا يمكن أن يكون من الصالحين المصلحين، فزهدت في المناصب والمراتب والمشيخات، وهانت على وصغرت في عيني؛ ولم يبق لي من دنياي (الآن) إلا مطلب واحد: يقظة قلب أدرك بها حقائق الوجود، وغاية الحياة، وأستعد بها لما بعد الموت، وهيهات يقظة القلب في هذا العالم المادي!

إن الذي يبلغ ذروة الجيل تنكشف له الجهة الأخرى، فيرى ما بعد الانحدار، وأنا قد بلغت ذروة العمر وانحدرت ولكني لم أبصر شيئا، إن الطريق مغطى بالضباب، وقد أضعت مصباحي في زحمة الحياة، ومعترك العيش.

ص: 8

أما الرسالة فقد أفضلت عليّ وأحسنت إلي. وما أشكوها، إنما أشكو دهري، وأشكو نفسي، ومن حق الرسالة عليّ تحية خير من هذه التحية في عيدها الألفي؛ ولكني أكتب بيد عليل، من فكر كليل، ولي من الأستاذ الزيات الصديق النبيل، العذر الجميل.

علي الطنطاوي

ص: 9

‌ميثاقان لا ميثاق واحد

للدكتور عمر حليق

لم يكن بد لهذه الناسكات السيئة التي منيت بها قضايا العرب والمسلمين وقضايا دولية أخرى في هيئة الأمم من أن تخلق في عقول الناس وأفئدتهم فتورا إزاء كل ما يصدر عن هذه الهيئة العالمية من نشاط.

وليس في ذلك من عجب. فهيئة الأمم المتحدة في ميثاقها وفي أهدافها نتاج فكري تحمست ليصاغته وتحديده في أعقاب الحرب العالمية الأخيرة جماعة من أئمة الفكر السياسي المعاصر مزودين بمثالية عميقة ودراسة دقيقة لمشاكل الإنسانية وآمالها، ورغبة صادقة لإصلاح ما أفسدته الحروب وشرورها من دنيا الناس وفي عقولهم وأفئدتهم.

ولكن تاريخ الإنسانية منذ أقدم العهود يأبى إلا أن يتجاهل قوالب الفكر الصائب ودعائم المثالية الصادقة؛ ويندفع في صياغة الأحداث على نحو يراعي جنون السياسة وشذوذ أساليبها ومسالكها أكثر من مراعاته لاتزان الفكر وروحانية المثاليين من بناة المجتمع الذين تجردوا مما يتعرى السياسة العملية من انتهازية لا ترحم ومكر لا يرتدع.

وفي خضم هذه الجلبة التي تنبعث عن شقاق المعسكرين المتطاحنين الغربي والسوفيتي في حلقات الأمم المتحدة وصدى تراشق التهم ومساوئ السلوك الذي توجه به وفود هذين المعسكرين أعمال الأمم المتحدة وقراراتها. . . في هذا الخضم تندثر معالم جزء عام من العلاقات الإنسانية تعمل على خدمته هيئات اختصاصية متفرعة عن هيئة الأمم في واحدة أو أكثر من هذه القاعات الهادئة المكيفة بأحدث آلات التهوية والإضاءة والمزينة بفاخر الأثاث والتي تطل على النهر الشرقي التي تحيط بمقر الأمم المتحدة الدائم هنا في نيويورك. ولجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة واحدة من الهيئات الاختصاصية التي تعمل خلال انفضاض الجمعية العامة في فصل الربيع والصيف وهذه اللجنة هيئة لا تضم جميع الدول الأعضاء في هيئة الأمم - وهم ستون دولة - وإنما تقتصر على فئة مختارة تمثل نختلف النظم السياسية المعاصرة والمناطق الجغرافية التي تقسم إليها هذه المعمورة، ففيها الروس والأمريكان والبريطانيون والفرنسيون؛ وفيها من يمثل القارة الآسيوية والشرقي العربي وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

ص: 10

وقد أنشأت هذه اللجنة منذ أن استقر لهيئة الأمم كيانها الداخلي في السنتين الأوليين من عمر هذه المؤسسة العالمية. وكلفت هذه اللجنة في عام 1947 أن تصوغ ميثاقا عالميا يضمن للفرد في المجتمع ما وهبه الله من حقوق طبيعية وما اكتسبه من حقوق قانونية وسياسية واقتصادية واجتماعية وفرها لها تاريخ الفكر وصراع الناي وتطور المجتمع على مدى الأجيال.

إذن فمهمة اللجنة هي في الواقع مهمة مثالية المفروض فيها أن تستوحي العقل والروح؛ وإن تتجنب نزاعات السياسة الانتهازية وفوضى السلوك الدولي الذي يهيمن على أعمال معظم اللجان والهيئات والمجالس في الأمم المتحدة.

وكان من المنتظر أن يستغرق وضع هذا الميثاق العامل لصيانة حقوق الإنسان وقتا طويلا. لكل ثقافة ولكل كتلة سياسية تفسير خاص عن جوهر الحقوق والواجبات للفرد في المجتمع الأكبر، وهذا التباين مردة اختلاف اجتهاد الثقافات والنظم الفكرية وفلسفات السياسة والاقتصاد في إيضاح صلة المواطن بدولته والنظم القائمة عليها؛ وعلاقة الفرد بالجماعة الإنسانية التي تشاركه العيش في بقعة معينة من هذا العالم الواسع.

ومضت لجنة حقوق الإنسان تعمل في تؤده، فتوصلت في دورتها الأولى والثانية (1947 و1948) لوضع مسودة الميثاق وخطوطه الرئيسية، واتفقت مبدئياً على أن تنشر في الناس الأسس الفكرية وخلاصة المبادئ والنظريات التي تستند إليها في صياغة المواد التفصيلية لهذا الميثاق العالمي، ومن ثم وضعت وثيقتها الموجزة المعروفة (بإعلان حقوق الإنسان) وهي بيان قصير لا يعرض جوهر الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لبني البشر، ولا يدخل في تفصيلها وتعريف الناس بنا يتصل بها من حقوق فرعية وصيانة ذلك والمطالبة به. وتركت هذه التفاصيل الجوهرية إلى الميثاق الشامل الذي قررت اللجنة متابعة الدارسة والبحث في مواده وفصوله إلى الدورات القادمة.

وفي سنة 1948 وافقت الجمعية العامة لهيئة الأمم على صيغة (إعلان حقوق الإنسان) كما صاغته اللجنة، وأوصت الجمعية العامة اللجنة بأن تتابع عملها لصياغة المواد التفصيلية لهذه الحقوق.

وأخذت اللجنة تعقد دورات متتابعة فاجتمعت في عامي 1949 و1950 وتوقفت عن العمل

ص: 11

في عام 1951 بسبب تأخر بعض الدول عن الإجابة على الأسئلة التي وجهتها اللجنة إليها عن مدى انطباق التشريعات المعمول بها في تلك الدول على مبادئ حقوق الإنسان. ثم عادت اللجنة فعقدت دورة أخرى هذه السنة في المقر الدائم لهيئة الأمم هنا في نيويورك استغرقت تسعة أسابيع من 14 إبريل إلى 13 يونيو وترأس هذه الدورة الدكتور شارل مالك رئيس الوفد اللبناني الدائم لدى هيئة الأمم. وقد سبق للمسز روزفلت عقيلة رئيس الجمهورية الأمريكية الأسبق أن ترأست عددا من الدورات السابقة.

وفي خلال هذه السنوات التي انقضت على تألف لجنة حقوق الإنسان في عام 1947 ألم بالعلاقات الدولية من التوتر ما أتاح لجنون السياسة وشذوذها أن ينافس الاتزان والمثالية التي كان المفروض في اللجنة وأعضائها أن يهتدوا بها في اجتهادهم لصياغتهم لميثاق حقوق الإنسان كمعاهدة عالمية تتقيد بها الدول مترفعة عن المؤثرات والأهواء والنزعات السياسية ومتقيدة بالمثل الفكرية والوعي الثقافي واليقظة العاطفية التي تسود المجتمع المعاصر في عالم مرت به في الأزمنة الحديثة ألوان من التطور والتجارب ما أرهق احساسات الفرد وأذكى وعيه وفرض على الدولة نهجا في السلوك واجب في تهاد التشريع يتناسب مع يقظة هذا الشعور وشدة هذا الوعي.

ولذلك فقد سيطرت على جو اجتماعات لجنة حقوق الإنسان في دورتها الأخيرة اعتبارات سياسية زادت من شدة التباين بين الثقافات والنظم التي يمثلها أعضاء اللجنة.

فأصر المندوبون الروس وزملاؤهم من الدول التي تؤمن بالناظم الماركسي على ضرورة توكيد الحقوق الاقتصادية للفرد في الميثاق الدولي الذي تشغل به اللجنة توكيدا مفضلا على التوكيدات الأخرى؛ لأن العنصر الاقتصادي في رأيهم هو المهيمن على سلوك الفرد إزاء الدولة والمجتمع؛ وعلى اجتهاد الدولة والمجتمع في مجاراة هذا السلوك، ولم يأخذ المندوبون الأمريكان وحلفاؤهم - وهم كثرة بين أعضاء الأمم المتحدة - بهذا التفسير الماركسي، وأخذوا يشرحون - في كلام كثير وفي مقترحات عديدة وتعديلات متلاحقة - بأن الديمقراطية الحقة كما يفهمها الأمريكان ويمارسونها في أنظمتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي الضمان الوحيد لحقوق الإنسان وتنظيم علاقاته مع الدولة ومع إخوانه في الإنسانية. ومن ثم كان المنطق الأمريكي في النقاش وفي المقترحات والتعديلات التي

ص: 12

وجهت إلى مواد الميثاق المقترح يتعمد توكيد الحقوق المدنية السياسية والأسس الديمقراطية (كما يفهمها الأمريكان) في الحكم وفي سلوك الفرد توكيدا مفضلا على سواه من التوكيدات.

وكان من الممكن أن تسود وجهة النظر الأمريكية في أعمال اللجنة بفضل ما للأمريكان من نفوذ في أعمال الأمم المتحدة لولا ظاهرة مستجدة في حاضر السلوك الدولي. . هذه الظاهرة يمثلها وتعبر عنها طائفة من الدول الصغرى في آسيا وأمريكا اللاتينية وهي دول إن فقدت النفوذ العسكري والسياسي في تسيار العلاقات الدولية فإن لها ضربا آخر من النفوذ يستند إلى تعداد أصواتها في المؤتمرات الدولية - وهو تعداد يرجح الكفة حين يتكتل ويجمع على اتخاذ خطوة يختلف عليها الكتلتين الرئيسيتين (السوفيتية والأوروبية - الأمريكية) التي تكثر اختلافاتها في حلقات التفاوض أو الخصومة الدولية.

وإزاء اختلاف الروس والأمريكان في وضع حجر الزاوية وتحديد نقطة الارتكاز في حقوق الإنسان وهي العنصر الاقتصادي أن الحرية السياسية والمدنية بأوسع معانيها نشط منودبو الدول الصغرى الذين يمثلوا آسيا (ومعهم مندوب مصر الدكتور محمد عزمي) وأمريكا اللاتينية إلى التكتل، أصروا على أن تجربتهم في عهود الاستعمار والسيطرة الأجنبية لم تقنعهم بأن توكيد الحرية السياسية كما فسرها الأوربيون والأمريكان كاف لأن يضمن للفرد حقوقه الطبيعية وحقوقه المكتسبة، وإن التطور الذي ألم يحاضر الفكر يفرض على اللجنة أن توازن موازنة عادلة بين فضائل الحرية السياسية بمعانيها الواسعة الشاملة وبين فضائل الضمان الاقتصادي والاجتماعي. فالناس في الشعوب الآسيوية والأفريقية واللاتينية التي لم يكتمل بعد نموها الاقتصادي والاجتماعي لا تستطيع أن تضمن حقوقها السياسية وتوطد حرياتها الديمقراطية ما لم يتوفر لديها من أسباب العدالة الاقتصادية والضمان الاجتماعي ما يساعدها على أن تنال حرياتها السياسية كاملة، فالفرد الذي لا يتوفر له فرص اقتصادية تعينه على ملء معدته، وطريق اجتماعية تساعده على تغذية عقله بالعلم والتحصيل، لا يحسن الانتفاع بحريته السياسية حتى لو تحققت له كاملة في الدساتير والتشريعات.

وتعمد مندوبو الدول الصغرى أن يفهموا اللجنة بأنهم في حماسهم لتوكيد التوازن بين الضمان الاقتصادي - الاجتماعي، وبين الحرية السياسية والمدنية؛ ليسوا مدفوعين بعداء أو ولاء لأي من النظم (السوفيتية أو الأوربية - الأمريكية) وإنما هم مقيدون بما يلمسونه

ص: 13

من تباين في مجتمعاتهم والآسيوية والإفريقية اللاتينية وبين المجتمعات الأوربية والأمريكية في مدى التطور وفي مستوى الوعي وفي معاول الاجتهاد للحاق بهم في ميدان المساواة الدولية.

والدول كالأفراد فاقدة الحول بمفردها ولكنها شديدة البأس في تكتلها وتكافلها، وهكذا كان حال مندوبي الدول الصغرى في لجنة حقوق الإنسان، فقد فرضوا بفضل تآزرهم على الروس والأمريكان وجهة نظرهم، فلم يجد هؤلاء مفرا من أن يلاقوا رغبات الدول الصغرى. فاستنبطت العقلية الأنجلو سكسونية ما اعتقدت أنه حل وسط. وتقدم الوفد الأمريكي وحلفاؤه باقتراح يطلب من اللجنة أن تحصر الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في ميثاق؛ وإن تجمع الحقوق السياسية والمدنية في ميثاق ثان، ويترك للدول الخيار في قبول أي من الميثاقين أو قبولهما معا.

ورفضت أكثرية الدول الآسيوية واللاتينية قبول هذا الاقتراح الأمريكي؛ وقالت بأن الهدف من صياغة حقوق الإنسان في ميثاق عالمي توقعه جميع الدول هو ضمان الحريات الكاملة للفرد. فلا معنى لأن نفصل بين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبين الحقوق السياسية والمدنية، فكلاهما متمم للآخر. فالخيار في مثل هذه الحالة يقضي على المبدأ الذي تستند إليه اللجنة وهو مبدأ الإجماع. فكما أن السيادة جزء لا يتجزأ فإن الحرية كذلك لا تتجزأ.

ورفض الوفد الروسي هذا الاقتراح الأمريكي وأخذ بوجهة نظر أكثرية الوفود الآسيوية واللاتينية لا لأنهم يشاركونه في الرأي - فالحقوق السياسية في روسيا نفسها مفصولة عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية - ولكن الوفود الشيوعية في الأمم المتحدة تعارض كل اقتراح أو فكرة يطرحها الأمريكان على بساط البحث في الأمم المتحدة مهما كان صائبا. وهذا الحال ينطبق كذلك على موقف الأمريكان من اقتراحات الروس وحلفائهم.

واستطاع الوفد الأمريكي أن يضمن الفوز لاقتراحه بوضع ميثاقين لحقوق الإنسان بدلا من ميثاق واحد. وجدير بالذكر أن الهند قد خرجت عن الوفود الآسيوية الأخرى في معارضة الاقتراح الأمريكي، وشاء بعض الخبثاء في هيئة الأمم أن يفسروا تراجع الهنود على ضوء المباحثات المالية التي كانت تقوم بها الهند مع أمريكا آنئذ والتي أدت فيما بعد إلى منح

ص: 14

الهند معونة مالية سخية.

وكذلك خرجت لبنان إلى إجماع الدول العربية والآسيوية في معارضتها للاقتراح الأمريكي. ولرئيس وفد لبنان الدكتور شارل مالك غرام لا حد له بكل ما يمت إلى أمريكا بصلة.

ولم تجد اللجنة إزاء إقرار الاقتراح الأمريكي بأكثرية تافهة بدا من أن تتابع عملها لوضع ميثاقين بدلا من ميثاق واحد، وأكثريتها الساحقة مؤمنة بأنها ستستطيع في المراحل النهائية حمل الجمعية العامة لهيئة الأمم على دمج الميثاقين في ميثاق واحد بمؤازرة بقية الدول الصغرى التي ليست ممثلة في لجنة حقوق الإنسان والتي لها أكثرية الأصوات في الجمعية العامة.

أما المرحلة التي وصلت إليها اللجنة في دورتها الأخيرة فلا تتعدى مراجعة المواد الأساسية للميثاق الذي يسعى لأن يضمن الحقوق المدنية والسياسية، وإلقاء نظرة عابرة على الميثاق الثاني الذي يعتني بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ولم تدقق اللجنة في المواد الإضافية التي صيغت في دورات سابقة لتخويل الأفراد حق رفع الشكوى، وتقديم المظالم ضد الدول التي تمتهن حقوقهم؛ وهناك محاولة تقوم بها الدول الشيوعية ونفر من الدول الأوربية والأمريكية لمنع الأفراد والهيئات والمؤسسات الشعبية من رفع الشكاوى والمظالم إلى لجنة حقوق الإنسان.

وقد صمدت وفود الدول الآسيوية لضغط شديد، وجهته الدولة الاستعمارية فيما يتعلق بإدخال مادة (حق تقرير المصير للشعوب التي لا تحكم نفسها بنفسها) في ميثاق الحقوق المدنية والسياسية، وهذا يعني اعتراف لجنة حقوق الإنسان بأن صراع الشعوب الخاضعة للحكم الأجنبي هو حق مشروع منصوص عليه في ميثاق حقوق الإنسان. وهذا طبعا أمر لا ترضى عنه الدول الاستعمارية، وقد أخذت الولايات المتحدة الأمريكية بوجهة نظر بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وغيرها من الدول المستعمرة، ولكن اللجنة لم تجد بدا من إدخال مادة (حق تقرير المصير) على الميثاق بعد جدل استغرق جلسات عاصفة، ساد فيها الرأي للوفود الصغرى من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.

والفقرة الأولى من هذه المادة تنص على أن (لجميع السكان ولكل الشعوب حق تقرير مصيرهم؛ وهو حق يقرر في حرية تامة وضعيتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية

ص: 15

والثقافية).

والفقرة الثانية تطلب من جميع الدول أن تسعى لتثبيت حق تقرير المصير في جميع المناطق (الخاضعة لها) بموجب ما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة.

والفقرة الثالثة تؤكد بأن حق تقرير المصير يشمل سيادة الشعب وامتلاكه لثروته القومية وخيراته الطبيعية؛ ولا يصح في أية حالة من الحالات لأية دولة أو دول أن تتذرع بأي من الأعذار أو الحقوق (المفتعلة) لتحول بين الشعب وبين امتلاكه لأسباب العيش (الشريف).

وقد دافع مندوبو مصر والدول الآسيوية الأخرى عن هذه القرارات دفاعا مجديا إزاء معارضة الدول الاستعمارية، وفندوا بالنقد اللاذع الأعذار التي يتذرع بها الاستعمار للسيطرة على مصادر القوة في البلدان الصغيرة، سواء لسد الفراغ كما هو الحال في نزاع مصر وبريطانيا حول قناة السويس، أو تنفيذا لمعاهدات أبرمت في أوضاع شاذة، كما هو الحال في وضعية الحماية الفرنسية في تونس وبقية أقطار المغرب العربي، أو تحقيقا لوعد مزور، كوعد بلفور البريطاني للحركة الصهيونية في امتلاك بلد كفلسطين ليس لبريطانيا حق التصرف في مصيره.

أما الفوارق الجوهرية بين الميثاقين: ميثاق الحقوق المدنية والسياسية، وذلك الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فتتلخص فيما يلي:

(1)

تعتبر اللجنة أن الحقوق المدنية والسياسية هي فوق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولذلك فإن تطبيقها يجب أن يتم فورا، بينما يصح أن تطبق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مراحل (تدريجية) تتماشى مع حالة البلد الاقتصادية ومبلغ وعيها الاجتماعي والثقافي.

(2)

ميثاق الحقوق الاقتصادية (الخ. . .) يجب أن لا يطبق عن طريق التشريعات الحكومية فقط، وإنما عن طريق السعي الحر للفرد وللجماعة كذلك. وليس على الدولة إلا أن تساهم - ما استطاعت إلى ذلك سبيل - في توفير الإمكانيات الحسنة للفرد وللأمة للحصول على هذه الحقوق.

وهذه نقطة كانت مجال نقاش حاد. فقد أصر مندوبو الدول الشيوعية على أن ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا يتم إلا عن طريق التشريعات الحكومية،

ص: 16

والحكومية وحدها.

(3)

بينما تعمد ميثاق الحقوق المدنية والسياسية أن يشرح جوهر هذه الحقوق، وتفاصيلها الفرعية؛ أهمل ميثاق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هذا الشرح، وصاغ المواد في مبادئ عامة يشوبها الغموض وتكون مدعاة لسوء الاجتهاد أو للتطرف فيه.

وسبب هذا التباين في لغة الميثاقين ومضمونهما هو اختلاف فلسفات الحكم والنظم السياسية والمعوقات الثقافية التي تعيش عليها الكتل الدولية التي تهيمن على أعمال الأمم المتحدة هذه الأيام.

وبعد فهذا استعراض متواضع لموضوع خطير؛ فليس أنفع لمجرى العلاقات الإنسانية من أن يدرك الفرد ماله من حقوق تستند إلى وثائق دولية همها أن توفر له ذخيرة (قانونية) يستعين بها على توطيد حقوقه الطبيعية والمكتسبة حين يعصف بهذه الحقوق نظام غاشم، إن أفلح في طبت الرأي العام المحلي، فإنه أضعف من أن يقهر الرأي العام العالمي، بعد أن تشابكت عناصره في معظم ألوان النشاط الإنساني.

وما هذا الاتجاه الذي ساد في لجنة حقوق الإنسان لتجزئة الحقوق إلى مدنية سياسية، وأخرى اجتماعية ثقافية، إلا محاولة لإعادة عجلة الحياة والوعي الإنساني خطوة إلى الوراء؛ ولكن الحياة قطار يسير هذه الأيام بوقود الفكر الواعي والشعور المتقد، ومن خصائص المواصلات أن تسير قدما، لا أن تعود القهقري.

نيويورك

عمر حليق

ص: 17

‌علم النبي بالغيب

للأستاذ ناصر سعد

ذكرت لنا كتب التاريخ الإسلامي أن النبي (ص) كثيراً ما كشف عن حوادث لا يعرف سرها إلا أصحابها، وكثيراً ما أنبأ عن حوادث المستقبل فكانت كما قال. إن النبي ولا شك كان يعلم الغيب فيخترق بعقله أو بروحه الحجب ويعرف حقائق أسرار الكون، وكل ذلك بقوة إلهية وهبت له كنبي عظيم جعله ربه خاتما لأنبيائه، ولا مجال لتكذيب هذا الأمر اليوم بعد أن أقر علم النفس الحديث (قراءة الأفكار) واثبت علم الأرواح أن بالإمكان إحضارها ومحادثتها، وإن بعض نجاح الأناس العاديين بهذين العلمين هذا الزمن لهو خير دليل على تمكن النبي (ص) من اختراق حجب السماء والاتصال بالأرواح الخيرة والملائكة، لأنه زيادة على السر الإلهي المودع فيه ذو نفس أكبر وأزكى، وذو عقل أوسع وأنمى من عقول البشر. ونقول إنه سر إلهي أودعه محمدا (ص) بعد البعثة؛ إذ لو لم يكن كذلك لظهر له من المعجزات قبل بعثه ولتحدث عنها التاريخ. ولما كان في تلك الحوادث متعة وفي عرضها إظهار لعظمة النبي أحببنا أن نعرض بعضها على باصرة القارئ؛ فنقول إن من تلك الحوادث:

حادث عمار بن يسار (رض) لما دخل على الرسول (ص) وقد أرهقه قريش بالأذى وحملوه وأثقلوه باللبن فقال (يا رسول الله! قتلوني، يحملون على ما لا يحملون) فقال رسول الله (ويح أبن سمية ليسوا بالذين يقتلونك. إنما تقتلك الفئة الباغية) قيل وسمع رسول الله (ص) يقول (ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فإن الحق يومئذ لمع عمار) ولما كانت صفين خرج عمار على رأس كتيبة لعلي بن أبى طالب (ص) فطعنه أحد رجال معاوية فانكشف مغفره عن رأسه فضربه الرجل على رأسه فقتل (ض)

ومنها أن النبي (ص) لما خرج إلى العشيرة ونزل بها ذهب علي بن أبي طالب (ض) وعمار بن ياسر (ض) إلى عين ماء ونخل لبني (مدلج) فنظرا كيف يعمل أهلها ثم عشيهما النوم فناما وسفت عليهما الريح التراب وما هما إلا برسول الله (ص) يوقظهما قائلا لعلي: (مالك يا أبا تراب؟ - لما عليه من التراب - ثم قال: ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين قالا: بلي يا رسول الله. قال: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذا -

ص: 18

ووضع يده على قرنه - حتى يبل منه هذه - وأشار إلى لحيته -). وقد كان ما كان من ضرب ابن ملجم رأس أمير المؤمنين علي على رأسه. ومن ذلك أن صفوان بن أمية وعمير بن وهب اجتمعا في الحجر بعد نكبة قريش ببدر وأسر وهب بن عمير بن وهب؛ فقال صفوان يذكر القتلى من أصحابه: والله إن في العيش بعدهم خيرا، فقال عمير: صدقت والله. أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء؛ وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله - قال صفوان: على دينك أنا أقضيه عنك وعيالك مع عيالي أواسيهم ما يقوا لا يسعني شيء ويعجزهم، فقال عمير: فاكتم شأني وشأنك. قال صفوان (أفعل) ثم أعد عمير سلاحه فسم سيفه وذهب إلى المدينة يريد النبي فرآه عمر على باب مسجد الرسول وهو يحمل سيفه فدخل على رسول الله (ص) فقال له: يا نبي الله! هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه، قال: فأدخله عليّ، فلما دخل عمير بن وهب ورآه الرسول (ص) ورأى عمر قد أخذ بحمالة سيفه قال: أرسله يا عمر. ادن يا عمر، فلما دنا فمن النبي قال: انعموا صباحاً، فقال النبي: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير. بالسلام تحية أهل الجنة، فقال عمير: أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث العهد، قال النبي: فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه، قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال قبحها الله من سيوف وهل أغنت شيئا؟ قال النبي اصدقني ما الذي جئت به؟ قال: ما جئت إلا لذلك، قال النبي (ص) بل قعدت أنت وصفوان في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم ذكر جلية الأمر فانبهت عمر وقال: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء. . الخ ثم اسلم.

ولما أسر العباس عم النبي يوم بدر وطلب منه النبي أن يفدى نفسه ويفدي أبني أخويه عقيلا ونوفلا قال فإنه ليس لي مال، قال النبي (ص) فأين المال الذي وضعته عند أم الفضل بمكة حين خرجت وليس معكما أحد؟ ثم قلت إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا ولعبد الله كذا، قال العباس: والذي بعثك بالحق نبيا ما علم بهذا أحد غيرها، وإني لأعلم أنك رسول الله، ثم إنه فدى نفسه بمائة أوقية ولكل من ابني أخويه أربعين أوقية وقال: تركتني أسأل الناس في كفي، ثم إنه أسلم وأمر ابن أخيه عقيلا فأسلم.

ومن ذلك ما روى عن سلمان الفارسي (ص) قال ضربت في ناحية من الخندق فغلظت

ص: 19

على صخرة ورسول الله (ص) قريب مني، فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان على نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربة لمعت تحت المعول رقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، ثم ضرب به الثالثة فلمعت تحته برقة أخرى، فقال سلمان للنبي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال الرسول: أو قد رأيت يا سلمان؟ قال نعم، قال أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح بها المشرق - وكان كما قال رسول الله من الفتوحات التي من بها الله على الإسلام، وهنا نقول إنه يتراءى للقارئ الكريم أن ظهور البرقة من دق الحديد بالحجر شيء عادي لا يبهر الناس ولكن الحال هنا ليس كذلك؛ لأن من مثل سلمان الفارسي والذي خبر الحياة وعركها ورأى ما رأى من جبال فارس والحجاز لم يكن لتعجب من البرقات الثلاث إلا لأنه رآها حدثت بحال غير عادية طبعاً.

ومنها أن رسول الله (ص) لما خرج لغزو بني المصلطق وسلك بالناس الحجاز ووصل ماء بقعاء ثم راح منها هبت عاصفة شديدة خاف منها المسلمون، ولما رأى النبي جزعهم قال: لا تخافوها فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار - قيل فلما وصل المسلمون المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت وهو أحد عظماء بني قينقاع قد هلك ذلك اليوم.

ومن ذلك أن رسول الله (ص) لما دخل الكعبة بعد الفتح أمر بلالاً (ض) أن يؤذن، وكان أبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جالسين بفناء الكعبة ولم يسلم هذان الأخيران بعد فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيداً ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغضبه، فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه محق لا تبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً لو تكلمت لأخيرت عني هذه الحصى - قيل فلما جاءهم الرسول (ص) قال: قد علمت الذي قلتم، ثم حكى لهم ما كانوا تكلموا به، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله. . . والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك.

ومنها أن حاطب بن أبي بلتعه لما تهيأ الرسول (ص) لفتح مكة كتب كتابا لقريش ينبئهم فيه بما عزم الرسول وأرسل كتابه ذاك مع سارة التي كانت مولاة لبعض بني عبد المطلب؛ فأخذته هذه ووضعته على رأسها تحت شعرها وراحت تطلب مكة، ولما علم رسول الله

ص: 20

بالخبر من السماء أرسل علي بن أبي طالب (ض) والزبير بن العوام (ض) وطلب منهما أن يلحقا بالمرأة ويأخذا كتاب حاطب منها؛ فذهبا ولحقا بها في بعض الطريق وبحثا في رحلها فلم يجدا للكتاب أثراً فقال علي (ض) إني أحلف بالله ما كذب رسول الله ولا كذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت المرأة أن لا مناص من إظهار الكتاب ناولته إياهما فأتيا به رسول الله (ص) فسأل حاطباً عن ذلك فقدم للنبي سبباً واهياً لما حدث منه وطلب عمر (ض) أن يسمح له بقتله فلم يسمح له ذلك، ثم نزلت بحق حاطب هذا هذه الآية الشريفة (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدكم أولياء تلقون إليهم بالمودة. .).

ومن تلك الأنباء أن أهل جرش لما أرسلوا رجلين منهما إلى الرسول (ص) بالمدينة لينظر في أمره قال الرسول والرجلان جالسان عنده: بأي بلاد الله شكر؟ فقام الجرشيان وقالا يا رسول الله ببلادنا جبل بقال له كشر وكذلك يسميه أهل جرش فقال: إنه ليس بكشر ولكنه شكر، قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ قال: إن بدن الله لتنحر عنده الآن - ثم جلس الرجلان إلى أبي بكر (ض) فقال لهما: ويحكما إن رسول الله (ص) الآن ليعني لكما قومكما فقوما إلى رسول الله (ص) فاسألاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما، فلما أتيا الرجلان الرسول وسألاه ذلك قال: اللهم ارفع عنهم - قم إنهما لما رجعا لقومهما وجداهما قد أصابهم صرد بن عبد الله اليوم والساعة التي أخبرهما بها الرسول - قيل ثم أسلم أهل جرش.

ومنها أن رسول الله (ص) لما مر بالحجر إبان أمره الناس بغزوة تبوك نزل ماء وأمر الناس ألا يشربوا منها وأمرهم إن كانوا قد عجنوا منها أن يعلفوه للإبل ومن جملة قوله في ذلك: ولا يخرجن أحمد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له - قيل فعمل الناس بما أمر به النبي (ص) إلا رجلين منهم خرج أحدهما لقضاء حاجة فخنق على مذهبه وخرج الآخر فذهبت به الريح لجبلي طي؛ فلما علم الرسول (ص) بذلك قال: ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحبه.؟ فأما الذي خنق فقد دعا له الرسول فشفى، وأما الآخر فقد أهدته طي للرسول عند قدومه المدينة.

ومن ذلك أن الرسول لما بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك ملك كندة النصراني قال له: إنك ستجده يصيد البقر، ثم جد خالد يطلبه ولما كان على مد البصر من حصنه في ليلة مقمرة كان أكيدر وزوجته على السطح يستروحان وقد كثر البقر حول الحصن حتى

ص: 21

أنه كان يضرب الأبواب بقرونه؛ فقالت امرأة أكيدر: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله، قالت: فمن يترك هذه؟ قال لا أحد، ثم إنه أمر بفرسه وسلاح صيده فركب هو وأخوه حسان ونفر من وقومه يريد صيد البقر فلما أوغلوا في الفلاة ولقيهم خالد حاربهم فقتل حسان وأسر أكيدر ذاك.

ومنها أن عبد الله بن أنيس (ض) لما بعثه الرسول لمنازلة خالد بن سفيان بن نببح الهذلي الذي جمع الجموع لمحاربة الرسول قال لرسول الله: يا رسول الله انعته لي حتى أعرفه، قال: إنك إذا رأيته أذكرك الشيطان وآية ما بينك وبين أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة، قيل فلما خرج عبد الله ورأى خالداً في ظعن له وقت العصر وجده كما وصفه الرسول (ص) فلما قتله وعاد ورآه رسول الله قال: أفلح الوجه، فقال عبد الله: قد قتلته يا رسول الله، قال: صدقت ومنها أن عمير بن عدي الأموي لما قتل عصماء بنت مروان الأموية عدوة النبي وذلك بغرسه سيفه في صدرها ليلا ولم يعرف أحد ذلك وجاء المسجد ليصلي الصبح مع الرسول قال له النبي بعد أن هم بالخروج من المسجد: أقتلت ابنة مروان؟ قال: نعم يا رسول الله قال: نصرت الله ورسول، فقال: عمير: هل على شيء من شأنها يا رسول الله؟ قال: لا ينتطح فيها عنزان

العراق

ناصر سعد

ص: 22

‌شوقيتان لم تنشرا في الديوان

بقلم محمد عدنان حسين

قرأت في العدد (992) من مجلة الرسالة الغراء مقالا للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري بنفس العنوان الذي أكتب به مقالي.

كان عنوانا أثار الرغبة الجارفة في حتى لم أستطع أن أبدا بمطالعة المجلة من أولها، وإنما استعجلت الأمر وقلبت صفحاتها إلى أن وقفت على المقال المذكور، وطفقت أقرأها بلهفة. وكيف لا؛ وأنا الآن أمام عقدين لؤلؤيين سأمتع ناظري ببهجتهما، ومنهلين عذبين سأغذي روحي بسلسالهما الخصب.

كنت أنساب مع أفكاري في القصيدة دون ما شعور خارجي وكأن جميع أوصالي انقلبت مشاعر، وحلقت طائرة في جو فسيح من المتعة والنشوة حتى انتهيت منها فجأة وامتد بصري إلى ما بعدها لأنها من غدير الثانية ما يطفئ أوامي بعذوبتها، ولكن كلمة (العدد القادم) صدمتني وتمنيت أن لو نشرت القصيدتان معا حتى لا ينقطع عليّ حبل هذه اللذة الروحانية، وكان عزائي أن موعد العدد القادم قريب.

وتلقفت العدد التالي (993) بنهم وملت على الشوقية الثانية لأسبغ على نفسي من رونقها غلالة سحرية تجعلني.

ولم تكن التوطئة التي قدم بها الأستاذ الناصري لمقاله لتزيدني إعجاباً بأمير الشعراء، فلقد ملك عليّ كل عواطف الإعجاب منذ أمد طويل، ولا عجب فهو يضطر كل مكابر إلى الاعتراف بعظمته ومكانته في ذروة الأدب.

وإنني لأذكر تماما أنني كنت من المكابرين الذين يأبون أن يعترفوا بأن (شوقي) هو حامل لواء الشعر منذ أكثر من عشرة قرون، وكنت أفضل عليه المرحوم (حافظ إبراهيم) شاعر النيل؛ ذلك لأنني قرأت ديوان (حافظ) وأعجبت به وأحتل في قلبي مكانة سامية قبل أن أطلع على بحر (شوقي) الزاخر وأمواجه المتلاطمة في حال الانفعال والقوة، أو حين تتلاعب النسمات الرقراقة. وإنما كنت قد اجتزأت ببعض النتف من شعره، وعلمتني هذه التجربة ألا أطلق الحكم اعتباطا قبل الدرس والتدقيق.

ولأعد إلى الحديث عن الشوقيتين اللتين أزفهما الآن إلى إخواني قراء الرسالة الغراء نزولا

ص: 23

عند رغبة الأستاذ الناصري، ولأنني أعلم أن النفوس صادية إلى السلسبيل القراح:

الفرق بين الشوقيتين اللتين نشرهما الأستاذ الناصري، وهذه التي أنشرها الآن على صفحات (الرسالة) الزهراء هو أن الأوليين ترف طيور البشر في سمائهما، وترن ألحان السرور في جوهما، لأنهما قيلتا في مهرجانين شارك أمير الشعراء القائمين عليهما في التفاعل مع تموجات الأعراس والانطباع بقالب الفرح، وهذه إنما هي موجات من الأسى تجتاح النفوس، وأنغام بائسة مصطدمة بقوة الأقدار لأنها قيلت في رثاء (الخديوي توفيق).

لا عجب إذا انتحى أمير الشعر زاوية الحكمة في عبقريته ليغرف منها ما عركته به تجارب الحياة ويلبسه برد الوعظ ويبرزه للملأ الغافل الغارق في غفلته القاتلة حتى يوقظ النفوس النائمة من سباتها، ويجعلها تنتفض أمام هذا التذكار الذي يهزها هزا: الموت: القضاء: الحساب: كلها بيد الله. الكون ما أحقره أيها الغافلون: وبئست الحياة فيه.

بئست الدار دارنا بكت المولود من قبل علة للبكاء

حسنت نارها وساء قراها

هل رأيت المجوس في الظلماء

بينما القوم موقدوها صباحا

إذ تراهم وقودها في المساء)

حديث يطول! ولكنني أكتفي بما قلت لأقدم إلى إخواني القراء هذه المرثية التي حرم منها ديوان أميرنا لعل بها ما يرجونه. وسأقدم لهم في العدد القادم شوقية أخرى خلا منها الديوان. . إن شاء الله! وهذه هي القصيدة.

رثاء الخديوي توفيق

بين ماضي الأسى وآتي الهناء

قام عذر النعاة والبشراء

نبأ معذر نفي بعضه بع

ضا فكان السفيه في الأنباء

سر من حيث شاء كل مصاف

ساء من حيث سر كل مراء

ما نظرنا محمداً في فتاه

إن غفرنا الضراء للسراء

هابنا الدهر فيه حيا وميتا

فأتانا من دائنا بالدواء

وعزاء البلاد أن يخلد الم

لك ويحيى الآباء في الأبناء

لهف نفسي على نظام نعيم

حله الدهر باليد العسراء

كل شيء إلى شتات ويبقى

في التئام جماعة الجوزاء

ص: 24

بئست الدار دارنا أبكت المو

لود من قبل علة البكاء

حسنت نارها وساء قراها

هل رأيت المجوس في الظلماء

بينما القوم موقدوها صباحاً

إذ تراهم وقدوها في المساء

وثراها بينا يرى المرء منه

ذا وطاء حتى يرى ذا غطاء

عاذت الطير منه بالجو لكن

علقت من حبالها بهباء

ود (لازار) يوم أحياه عيسى

لو تذوق المنون طعم الفناء

وهوى يوم عاود لموت لو لم

يحيه للردى فتى العذراء

ولو أن الفرار في وسع نفس

لزم العرش صاحب الإسراء

إن سر الحمام في النفس سار

وقصاري الطبيب في الإفشاء

فهو الداء واحد ورثته الن

اس عن آدم وعن حواء

والذي ارتاحت العقول إليه

زخرف من وساوس الحكماء

(في أمان النعيم توفيق مصر)

فرع خير الولاة والأولياء

يا جمادى ألم يكن كل بدر الأ

رض يفدي بنصف بدر السماء

يا جمادى أما ترى حاضر الب

درين عطلا من السنى والسناء

يا جمادى فجعت فيه أباه

رجباً صاحب اليد البيضاء

يا أميري أبا أميري المفدى

من لشعري بذلك الإصغاء

أسهرتني النون فيك ونامت

لا خلت علينها من الأقذاء

وأطارت عن المضاجع جنبي

أسكن الله جنبها كل داء

أعجلت منك مصدر العدل والإح

سان والحلم والتقى والسخاء

من رأت مصر ملكها مطمئن الم

هد فيه وفي ابنه بالوفاء

قام بالأمر والبلاد بلا ما

ل وشمل الأمور ذو أجزاء

جاو العصر فخره ببنيه

وفخار المصري بالقدماء

فبنى للبلاد للعلم دوراً

تتباهى بالفتنة النجباء

وأبى أن يقال عن مصر والأه

رام فيها تضن بالبناء

ويحول المحراث من هرم بي

ن ثراها الوافي وبين الثراء

ص: 25

ويرى الناس أن فلاح هذا العص

ر فلاح غابر الآناء

فحباها دار الفنون وحيا

ها بدار الزراعة الفيحاء

ومحا السخرة التي عهدها عه

د قيام الأهرام في الغبراء

ليس للناس بعد خطبك رأي

يا مبيد الخطوب بالآراء

علم السلم عند رأسك ساهي ال

طرف باك بالعبرة الحمراء

أمسك النعش منك سيفا مهيبا

طاهر النصل زاهداً في الدء

وذوى فيه منك روض كريم ال

غرس داني مواقع الأفناء

وانطوت فيه منك شمس تجلى

عند تهطال خمسة الأنواء

ملأ النعش منك والكفن الأط

هر ملء السرير ملء الرداء

ما هممنا بأن نفديك حتى

نقض الدهر فيك عهد الفداء

وبعثنا لك الرجاء طبيباً

فنعوه إليك قبل اللقاء

لا جزلا الله قصر حلوان خيراً

وجزى عابدين خير الجزاء

ذاك أخفى عنا سناك وهذا

بفتاك السامي العلي في أزدهاء

أعذرت يوم أنذرت فتلقت

ك ونار الفراق في الأحشاء

شاد توفيق مصر ما شاء ومن فض

ل وعدل لقومه وعلاء

وأبى الدهر سرعة فيه إلا

أن يتم الله نظام البناء

هو ذا الدهر عند بابك ألقى

عذره فاعف لا بعد للرياء

وتجلد لأجل مصر فلولا

ك لماهم قلبها بالعزاء

واحمل السيف والبس التاج وارق ال

عرش وانهض بالدولة العلياء

وزد الملك من شبابك حسناً

وأثر عصره بذاك الذكاء

فكفى الوقت مرشداً لك ترقى

فيه مرقى ملوكه العظماء

وكفى العلم منك أنك تدري

كيف ترقى البلاد بالعظماء

فأعد دولة المنابر فينا

إن هذا الزمان بالخطباء

وارع قانوننا الرحيم وخذه

مستضيئاً بأشراف الأسماء

أنت إن أحصيت لغات البرايا

ترجمان الزمان في الفصحاء

ص: 26

زرت ما زارت النجوم من الأ

رض وفارقته مقيم الثناء

فسبرت الزمان أرضا وناسا

وقلوب الملوك والأمراء

وتركت الورى يقولون لا يت

رك هذا الأمير للأذكياء

لك عند الملوك منزلة في الس

حب فاغنم رعاية الأصفياء

وتعزز برب (يلدز) حامي

حوزة الدين قدوة الخلفاء

إن (عبد الحميد) سيف نضته

آل عثمان (هاشمي) المضاء

صدق الوغد مصر فيك ومازا

ل حفيا بآلك الكرماء

ورأى فيك رأى نور من الصد

ق جديراً بذاتك الغراء

لك شورى أبيك تلقى صوابا

في مائي رجالك الأمناء

إن تحرر عقولهم تملكك الآ

راء والنيرات بالأضواء

ولك المجلس الرفيع جلاه

أبلج الرأي مكرم الوزراء

بايع الجيش منك إسنكدر الأك

بر في البأس والنهى والفتاء

ضاحك السن لا بتسام المواضي

مائل العطف لاهتزاز اللواء

إن خيلا حملن (سوز ستريس) الع

صر أولي الجياد بالخيلاء

ضاقت الأرض عن جلالك في السل

م فماذا تركت للهيجاء

حبذا الجند أنهم يا ابن (إبرا

هيم) أبناء صحبة الأقوياء

قمت فيهم قيام جديك من قب

لك في يومي الندى والفداء

وعلى الآل من علاك جلال

وكذا الرأس زينة الأعضاء

وحواليك (كامل) الفضل والص

نو (علي) متوجا بالبهاء

دام يرقي في ظل ملكك بدراً

في ذرى السعد ساطع اللألاء

وتهنأ بالنعمتين وفاخر

بسماء أعظم بها من سماء

وطني قبلتي وأنت إمامي

بك فيها لوجه ربي إقتدائي

راعني وارعني وكن لي أصفى

لك حبي وخدمتي وولائي

ولساني فإنه لك إرثا

عن أبيك اشتراه بالآلاء

أنت مصر ومصر أنت فدوما

أبداً في رفاهة ووفاء

ص: 27

جبلة سوريا

محمد عدنان حسين

ص: 28

‌الأدب واللغة من الكائنات الحية

للأديب محمد عثمان الصمدي

- 2 -

كان هذا الشعور العربي باللغة ومفرداتها بل الأدب أيضا. ومن أجل هذا نرى أن اللغة قد نشأت بطريقة وجدانية. ومن أجل هذا أيضاً اختلفت ألوان البلاغات في القديم والحديث. وظل كذلك هذا الشعور في العصر الجاهلي إلى زمن كبير من صدر الإسلام حتى أصبحت اللغة لغة حياة جديدة ففقدت كثيراً من مدلولاتها على الزمن من جهة، ومن جهة أخرى زحزح الاستعمال في شؤون الحياة الجديدة كثيرا من مفرداتها عما كانت عليه في العصر الأول. وبذلك خسرت تلك الشحنة العاطفية التي أشرنا إليها من قبل. ولكنها ربحت غير قليل من الصقل والمرونة والمواتاة.

كان إذن عصر بني أمية عصر شباب للغة كما كان عصر شباب الأدب، الفطرة فيه قوية لم يبعد بها الزمن من عهود البلاغة المطبوعة. والسلائق غنائية بسيطة لم تتركب بعد بساطة الحياة التي كانت تمارس في ذلك الزمان. هذا والأخلاق بوجه عام لم تتميع بعد بتأثير الحضارة، وما تتيحه للناس من خفض ولين ووثارة. وإنما كانت الأخلاق تمتاز بشيء من القوة والصرامة وقلة الفضول. والأثر الأدبي تبعا لذلك يبدو ومطبوعا قد خلا من كل تكلف وتعمل، وإن احتمل فيه قائله ضروبا من العنت والمشقة والعناء. وسيظل ذلك العصر كما كان منهلا ينهل منه أبناء العربية صورا من الكلام البليغ في كل زمان ومكان، ما نطق بالعربية لسان.

ولكنه لم يكد يدنو من أواخره حتى بدت في الأدب طلائع البديع كما تتبين ذلك من بعض عبارات للجاحظ في البيان والتبيين. وقد كان من الطبيعي أن تتطور طرق البيان بعد أن لانت العرائك وأصبح تلمس الجمال المصنوع من مطالب الحياة.

وثمة شيء آخر، وهو أن الحياة العقلية لذلك العهد وإن بلبلت الخواطر والأذهان لم تكن قادرة على أن تنفخ من روحها في موضوعية الشعر شيئاً له خطر. وكل ما استطاعت أن توحي به هو فنية الصورة الشكلية أو فلسفتها دون الموضوع. ومن هنا جاء البديع وانتقل الأدب لذلك من طور إلى طور في تدرج طبيعي ملحوظ.

ص: 29

ثم يمضي في هذا الطور حتى ينتهي إلى كهولته في العصر العباسي الأول. وهو يستقبل عهد الجديد حاملا إليه ما حصل الشباب، وفيضا غير كبير مما كان عليه من أريحية وحمية وحماسة، وإنه ليمضي في عهده هذا مستوعبا لما حوله من مختلف ألوان العيش، منتفعا منا يحيط به من الثقافات والمعارف. مستجيبا لما يحف به من حضارة وترف ونعيم. ومع هذا فقد هبطت درجة حرارته. وناله كثير من الفتور والإعياء. وأصبحت صور الأداء قوالب محفوظة تصلح لكل ما يملأ منها الفراغ. وأمحت فيه أو كادت تلك السلائق الغنائية المستجببة المشبوبة. أو قل صارت رواسب عقلية فحسب. ولكن الغناء أصل من أصوله ولا معدي للشعر عنه بحال. فليستعض عنه بتلك الغنائية التي تجئ نتيجة لتلاؤم الجمل والعبارات والألفاظ. ولهذا فهو مجرد فن فقط، يظفر به من يعانيه بشيء من الدربة والممارسة، وبالبصر بمنازع الكلام. وهو في عمومه ككل شيء تلده المدنية يروقك منه الصقل والتنسيق ولكنه قلما ينبض فيه روح، وإن لم يخل من الألمعية والنفاذ أحيانا. ولقد استتبع خلوه من الروح خلوه من الموضوع؛ وبالتالي فقد الوحدة التي تربط بين عناصر الأثر الفني المحتفل به. وبذلك فهو معرض للحياة بكل ألوانها ما اختلف منها وما ائتلف. ولا ريب في أنه احتفظ بأكثر مما ينبغي من تقليد للقديم، ومن ترسم له لخطاه ولئن اتخذ مادته مما حوله من حياة، فهو قد اتخذ أيضاً أدوات التصوير لها، والتعبير عنها من حياة البادية دون الحياة المعاصرة له، تلك التي كان ينبغي له ألا يعدوها في شيء سواء في ذلك مادته أو وسائل الإفصاح عنها والأداء. وليس من العجب في رأينا - وإن لم يكن من الحسن - أن يرجع إلى الحياة البادية فيتخذها موضوعا؛ أو يتخذ منها أداة للبيان. فهو كما قلنا، وكما قلنا، وكما نريد أن نقول، كائن حي. وأي عجب في أن يرجع الكائن الحي إلى ذكرياته وفي وسعه الرجوع إليها. تلك التي قد تتيح له العزاء والسلوى. أو تحقق له المثل الأعلى فيما هو منه بسبيل. ثم هل انقطعت تلك الوشائج التي تربط بين حاضره وماضيه. ومن المحقق أنها لم تنقطع. بل هي أوثق وأقوى مما كان يجب أن يكون. وشيء آخر يجب أن نلفت إليه النظر في هذا المقام. وهو: ما هي الصلة بين الأديب والأدب. وعندي أنها صلة الموصل الكهربائي بالتيار. أو هي صلة الشعلة بحاملها يتسلمها ثم يذكيها ويعدو بها ليدعها آخر الشوط إلى من يضع بها صنيعه وهكذا. ثم ما هو الأدب؟ أليس الأدب في

ص: 30

حقيقته بعض دوافع الحيوية في النفس. ولئن صح هذا فإن سلسلة حيوات الأدباء الذين تعاقبوا في لغة ما تؤلف امتداداً لحياة الأدب على الزمان. ومن ثم فهو كائن حي. وهو كذلك في تطور وتجد. لأنه أثر من آثار تلك الحيوات التي لا بست الزمان والمكان. وهذان لا يستقران على حال. ولهذا فقد كان الأدب في تطور وتجدد في كهولته التي نتحدث عنها إلى جانب عناصر التقليد التي انحدرت إليه من ماضيه القديم ولا تزال حية فيه

كان هذا شأنه، تجدد في مسايرة الحياة المعاصرة له. وتحجر في وسائل الأداء والتعبير. وكما تحجرت فيه صورة الأداء، كذلك تحجرت اللغة في أنفس الناطقين أيضاً. وأصبحت مفرداتها لا تدل على المعنى اللغوي منها فحسب. واندثر ما كان فيها من شحنة وجدانية، بل لقد سار النظر إلى العبارات وإلى فهمها فهماً إجماليا. ونظن الفقرة الأخيرة هذه في حاجة إلى توضيح فلنضرب لها مثلا. قال بعض الشعراء من قصيدة يحي مؤتمر جغرافيا.

يا موكب العلم قف في أرض منف به

يناج مهداً ويذكر للصبا شانا

كان المستمع إلى هذا البيت لا يعنيه منه إلا معناه على وجه الإجمال. وهو أن العلم نشأ أول ما نشأ في مصر القديمة. دون أن يلتفت إلى النداء إلى موكب العلم. ولا إلى الأمر بوقوفه أرض منفيس تلك المدينة المصرية القديمة. ولا إلى مناجاته لمهده الأول. ولا إلى ما كان له من ذكرى شأنه في صباه، وحسب القارئ أو المستمع المعنى المجمل الذي أشرنا إليه.

للكلام بقية

محمد عثمان الصمدي

ص: 31

‌ديوان مجد الإسلام

للمرحوم الشاعر أحمد محرم

يقدمه الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم

(تابع)

اليهود والمنافقون

دعا فأجابوا، والقلوب صوادف

وقالوا استقمنا والهوى متجانف

مضى العهد لا حرب تقام ولا أذى

يرام، ولا بغي عن الحق صارف

لهم دمهم والدين والمال ما وفوا

فإن غدروا فالسيف واف مساعف

سياسة من لا يخدع القول رأيه

ولا يزدهيه باطل منه زائف

رسول له من حكمة الوحي عاصم

ومن نوره في ظلمة الرأي كاشف

يسالم من أحبارهم وسراتهم

رجالا، لهم في السلم رأي مخالف

يغيظهم الإسلام، حتى كأنما

هو الموت أو عاد من الخطب جارف

إذا هتف الداعي به اهتاج ناقم

وأعول محزون، وأجفل خائف

إذا ما تردى في الضلالة جاهل

فما عذر من يأبى الهدى وهو عارف؟

يقولون قول الزور - لا علم عندنا

كفى القوم علما ما تضم المصاحف

لهم من سنا التوراة هاد وللعمى

ركام على أبصارهم متكاثف

دنا الحق من بهتانهم ورمى بهم

غلى الأمد الأقصى هوى متقاذف

عنا ابن أبي من هوى التاج لاعج

وطاف به من نشوة الملك طائف

جرى راكضا ملء العنانين فانتحى

له قدر ألقى به وهو راسف

فما مثله في مشهد الإفك فارح

ولا مثله في مشهد الحق آسف

ظنون يعفيها اليقين، ودولة

من الوهم تذروها الرياح العواصف

يهيب بأضغان اليهود، تشبها

عداوة قوم شرهم متضاعف

وما برح الجبر السمين يعزهم

ويأكل من أموالهم ما يصادف

أعدوا له المرعى فراح مهبلا

كظنك بالخنزير واتاه عالف

ص: 32

ينوء بجنبيه، ويرتج ماشيا

إذا اضطربت منه الشوى والروانف

رماهم بها عمياء، لم يرم معشرا

بأمثالها أحبارهم والأساقف

فقالوا غوى أبن الصلت وانفض جمعهم

يريدون (كعبا) وهو خزيان كاسف

رمى (الصادق الهادي) لفيفة نفسه

بصادعة تنشق منها اللفائف

فأما (لبيد) فاستعان بسحره

رويدا أخا (هاروت) تلك الطرائف

أعندك أن السحر لله غالب

تأمل لبيد أي مهوى تشارف

و (شاس بن قيس) هاجها جاهلية

الذكر تطيرها الحلام الرواجف

يقلب بين الأوس والخزرج الثرى

وقد وشجت فيه العروق العواطف

يذكرهم (يوم البعاث) وما جنت

رقاق المواضي والرماح الرواعف

غلت نخوات القوم مما استفزهم

وراجعهم من عازب الرأي سالف

وخفوا يريدون القتال، فردهم

نبي يرد الشر والشر زاحف

دعاهم إلى الحسنى، فأقبل بعضهم

يعانق بعضا، والدموع ذوارف

أتى أبن سلام يؤثر الحق ملة

وينظر ما تأتي النفوس العوازف

تسلل يستخفي، وأقبل قومه

وللؤم منهم ما تضم الملاحف

فقيل اشهدوا؛ قالوا: عرفناه سيدا

تجل مساعيه، وتعلو المواقف

هو المرء، لا نأبى من الدين ما ارتضى

ولا ندع الأمر الذي هو آلف

فلما رأوه خارجا، ينطق التي

هي الحق قالوا: عاثر الرأي عاسف

ظننا به خيرا، ولا خير في امرئ

أبوه أو سوء على الشر عاكف

ظلمناه لم يوصف بما هو أهله

فماذا له إن أخطأ الرشد واصف؟

تراموا بألقاب إذا ما تتابعت

تتابع شؤبوب من الذم واكف

أهاب أبو أيوب ردوا حلومكم

أعند رسول الله تكفى المآزف

وقال (الرسول) استشعروا الحلم إنما

يسود وستعلي الحليم الملاطف

أتؤذون (عبد الله) أن يتبع الهدى

فيا ويحه من مؤمن، ما يقارف

أهذا هو العهد الذي كان بيننا

أهذا الذي يجني العقيد المحالف

تولوا غضابا، ما تثوب نفوسهم

ولا ترعوى أحقادهم والكتائف

ص: 33

يذيعون مكروه الحديث وما عسى

يقولون والفرقان بالحق هاتف

إذا بعثوا من باطل القول فتنة

تلقفها من صادق الوحي خاطف

يشايعهم في القوم كل منافق

إلى كل ذي مشنوءة هو دالف

شديد الأذى يبدي من القول زخرفا

وكالسم منه ما توارى الزخارف

زحالف سوء ما يكف دبيبها

وأهون شيء أن تدب الزحالف

أقاموا على ظلم، كأن لم يكن لهم

من العدل يوما لا محالة آزف

لكل أناس يعكفون على الأذى

معاطب من أخلاقهم ومتالف

رويد يهود؛ هل لها في حصونها

من البأس إلا ما تظن السلاحف

يظنون أن لن ينسف الله ما بنوا

ولن يثبت البنيان والله ناسف

سيلقون بؤسا بعد أمن ونعمة

فلا العيش فياح ولا الظل وارف

(يتبع)

ص: 34

‌رسالة الشعر

جيش. . . وشعب

للأستاذ الشاعر محمد عبد الغني حسن

ألا قل للنيام كفى المنام

إرادات الشعوب لها احترام

زمان الظلم والطغيان ولى

وليس عليك يا زمن السلام!

لكل رواية قامت ستار

نعم! ولكل مهزلة ختام

فقل للحالمين على دوام

وظنوا أنهم خلدوا وداموا

فراحوا في أباطيل الأماني

وتاهوا في مساريها وهاموا

وظنوا أنهم بلغوا مكانا

حصينا لا ينال ولا يرام

كذبتم فالليالي ساهرات

وعين الله عنكم لا تنام

تعالى الله ليس يدون شيء

على حال. . . ولله الدوام

مضت بكم الحوادث وهي حبلى

ومرت إثرها العبر الجسام

وأنتم في ضلالتكم رقود

وفي ظلمات شهوتكم نيام

تطاول عهدكم بالضيم حتى

كأنكموا أمنتم أن تضاموا

أكان لكم مع الأيام عهد

تؤكده المواثق والذمام؟

أكان لكم مع الأحداث حلف

بأن مقامكم قدس حرام؟

فهل منعتكمو يوما بروج

مشيدة، وأسوار ضخام؟

وهل حرستكمو يوما سيوف

وهل عصمتكمو يوما سهام؟

وما تغني الحراسة عن بناء

تزلزله المفاسد والأثام؟

وما تجدي الحراسة في لواء

تمزقه العواصف والركام؟

سياج الملك معدلة وتقوى

وطهر في الضمائر واحتشام

وعفة طعمة لا يحتويها

شراي في المحارم أو طعام

ومن لم يعتصم بالعدل يوما

فليس له على الدنيا اعتصام

أيا أرض الكنانة قد تجلت

لك الآفاق، وانقشع القتام

ولاحت في السماء خيوط فجر

له في مطلع الشرق ابتسام

ص: 35

وخر على ثراك الطهر رجس

وذابت موجة. . . واندك هام

وكانت ثورة لك لم يخضب

دم فيها، ولم يضرب حسام

تولتها السواعد من رجال

صناعتهم فعال. . . لا كلام

يثرثر بالسياسة كل لسن

وهم صمتوا لنيتهم وصاموا

لقد فاض الإناء ففاضوا

وقام المجد يدعوهم فقاموا

فلسطين الشهيدة لقنتهم

فثارات البطولة لا تنام

لقد كانت ذخيرتهم سلاحا

تلملمه الموائد. . . والمدام

ويجمعه من الشهوات قوم

صغار في منازعهم. . . لئام

وقيل بطانة تحمي بظهر

خفافيض يشجعها الظلام. . .

حمى الله البطولة في رجال

همو ركن الكنانة والدعام

هم الجيش الذي صنعته مصر

وصاغته مآثرها العظام

هم النجباء وحدهم (نجيب)

وهم همم تألفها همام

لقد غضبت كرامتهم لمصر

وويل الظلم إن غضب الكرام

حماك الله من جيش أبي

إرادته مضاء واعتزام

ألم تك ناطقا بلسان شعب

تأجج بين جنبيه الضرام؟

إذا الأحرار بالشكوى أبانوا

فإن عذابهم أبدا غرام

وإن كتبوا فسخطوا احتدام

وإن خطبوا فعسف وانتقام

لقد كذب الطغاة غداة ظنوا

بأن النقد يمسكه اللجام

هبوهم قيدوا الأفلام منا

فهل للنفس إن ثارت خطام

تولى عهد مفسدة وظلم

وبان الحق وانحسر اللثام

وعهد عبادة الأشخاص ولى

فما الدستور أصنام تقام

أقيموا الحق بينكمو متينا

فليس بغيره لكمو قوام

ونحو كل ثرثار بغيض

بضاعته اللجاجة والخصام

فما في الوقت متسع لهذر

يؤججه السباب والاتهام

أهزل حين جد الجد فيكم

وفوضى حين طوقكم نظام؟

ص: 36

فما (التطهير) ألفاظ عذاب

وتعبير يزخرفه الكلام

دعوا الأقوال إنا قد سئمنا

وليس لهن يتسع المقام

محمد عبد الغني حسن

ص: 37

‌من بعيد

للأستاذ محمد محمود عماد

غدا ترحلين

لشط الجمال ومهد الفتون

وبحر تميس عليه السفين

ووحدي أبقى بقيد الظنون

ولا تدركين

وقر القرار

ولم تتركي لي مجال الخيار

ولكن أردت فشط المزار

وعز اللقاء وعز الجوار

وكان اليقين

قرار عسير

وليس تقبله باليسير

ولكن تقبلته بالسرور

عسى تبصرين بوجهي الحبور

ولا تألمين

وتحت السماء

لقد كنت أرجو هناك اللقاء

ولي في وجودك ظل وماء

ولكن نريد فيأبى القضاء

وتنفردين

قرار يهون

يهونه للفؤاد الحزين

وجودك في جوها تمرحين

ص: 38

وأنك في شمسها تنتشين

إذا تسبحين!

بتلك البقاع

إذا سار يوما هناك الشارع

على صفحة الماء مثل اليراع

فحييه عنى بتلك الذراع

وتلك اليمين!

وعند الغروب

إذا تبصرين الشعاع الغريب

يذيب بأمواهها ما يذيب

ألا فاذكريني، إني قريب

إذا تذكرين

وإما أندفق

بخدك فجر عليك انبثق

ألا حدقي حدقي في الشفق

فقلبي هناك. . هناك احترق

بشوق دفين!

وعند المسير

إذا ما رأيت خفاف الطيور

تجوب السماء وتعلو الصخور

ألا حمليها السلام الوفير

لإلف حنون

حديث القلوب

حديث لعمري عجيب. . عجيب

يجمعنا في شعاع المغيب

ص: 39

كلانا لديه سميع مجيب

لهمس الشجون

ويا طفلتي!

سأفتقد البدر في ليلتي

وأفتقد الإلف في جولتي

إلى أن أضمك في قبلتي

متى ترجعين

محمد محمود عماد

ص: 40

‌الأدب والفنّ في أسبوع

للأستاذ أنور الجندي

يجب أن يكون (الأدب) قد استقبل عهداً جديداً، تتحول فيه مقاييسه وأساليبه ومظاهر إنتاجه، بحيث تجري مع هذه النهضة الجديدة وتوجهها.

فالأدب في طبيعته الحقة صدى النفوس وصوت المشاعر ومظهر الأنات الكامنة في الأعماق، وقد أصيب خلال الفترة الماضية بما أصيبت به الحياة السياسية والاجتماعية من اضطراب وفساد. .، وتغلفت روحه الفنية بحجاب كثيف من النفاق والمداجاة والدجل والأوهام.

ولا شك أن فريقا من الكتاب قد آمن برسالة الأدب، وحاول خلا لا لعهد الذي انتشر فيه الضباب أن يتكلم وإن يقول، ولكنه كان مضطرا لأن يستعمل الرمز، وإن يصطنع الإيماء، وإن يتخذ من اللف والدوران وسيلة إلى الإفضاء وإن لم تكن وسيلة للإفصاح.

يجب أن يكون (24 يوليه 1952) حد فاصلا في تاريخ مصر بين عهد وعهد، وبين جيل وجيل، فقد انتهت به مرحلة الانتقال العصيبة القاسية التي شهدت مصر فيها أهوالا من الطغيان والأحقاد والآثام.

كان يوم 24 يولية ختاما لمرحلة تمزقت فيها وحدة الأمة، واستشرى لفساد، واشرأبت الفتنة، وتنازعت الناس عوامل الوصولية والرشوة والاستعلاء.

وكانت الحزبية، والسياسة والاستعمار الوصولية، من العوامل البعيدة المدى في الأدب والفكر والفن.

أما اليوم فقد بدأ عهد جديد، يتاح للأدب فيه أن يؤدي رسالته على أكمل وجه، في حرية كالة، وهو عهد انتهت به القصة الداعرة، والكلمة المكشوفة، وانتهى عهد إغراء القراء، وهدهدة غرائزهم،. . . والنزول إلى مستواهم، ورسم الصور العارية، ونشر الكتابات المثيرة.

يجب أن يكون عهد الأدب الرخيص والأفكار البهلوانية التافهة قد انتهى مع العهد نفسه، ويجب أن يستجيب الأدب لعهد القوة والعزة، وإن ينفتح لروح الحرية، فينشئ الأدباء فنونا من القول فيها حماسة ورجولة وتوجيه وإصلاح.

ص: 41

لقد دبت في مصر حياة جديدة، خصبة غاية الخصوبة، مشرقة كل الإشراق، تريد أن تستنقذ الكنانة العزيزة من الوهدة التي انحدرت إليها وكادت أن تتردى فيها. . .، والكتاب رسل الإصلاح والخير والحق والجمال. . . وهم سناد النهضات، وأعمدة الكفاح. . وإذا كان بعض الكتاب قد أسروا بأنهم كانوا لا يستطيعون الإعلان عما يريدون حلال الفترة العصيبة التي مرت بالبلاد من قبل، فقد جاء الوقت الذي يمكن توجيه الشعب فيه إلى العمل الصالح، والحياة الطيبة، والارتفاع فوق الصغائر والدنايا والشهوات والآثام.

لقد استجاب الشعب للوثبة الجديدة فبرهن على ضمير نقي، مازال حيا، فعلى الكتاب أن يمدوا هذا لضمير بالنور والنار، والحب والخير.

مذكرات الرافعي

ها هو ذا الأستاذ عبد الرحمن الرافعي، مؤرخ الجيل، بضع أخيراً بين أيدينا، مذكراته السياسية بعد أن أرخ مصر منذ أول الحركة القومية، في بضعة عشر مجلدا، تعتب في مقدمة الأبحاث التاريخية الخالصة، المجردة من الهوى، والغاية، التي ظهرت في عصرنا الحديث.

ومع أن عبد الرحمن الرافعي من أقطاب الحزب الوطني، ومع أنه عاش في تلك الفترة المظلمة التي ضعفت قدرة الناس فيها عن الجهر بالحقائق، واصطنعوا المداورة في الكتابة حتى لا تمس هذا أو ذاك، إلا أنه كتب التاريخ في صراحة وجلاء ودون محاباة، ووضع حياته ومصالحه في كفه، والحقائق في الكفة الأخرى. . . وقامر بالأولى وضيعها في سبيل الأخرى.

والرافعي بعيد الأثر في جذور النهضة المعاصرة؛ فقد كان أول من تحدث في حرية عن سعد زغلول وفؤاد والأحزاب السياسية القائمة، وكانت لكتاباته نتائج جعلته موضع الاضطهاد من جميع الجهات، كرهه الإنجليز وكرهه رجال القصر، وكرهه رجال الأحزاب، لأنه كتب عنهم في صراحة وكشف عن عيوبهم وأخطائهم.

رجل يفعل هذا لابد أن يكون قد تجرد من مطامع دنياه، فهو على حد المثل يروي عن عمر (إن كلمة الحق لم تدع لي صديقا)، لقد وهب الرافعي نفسه لتاريخ مصر، وآلى على نفسه أن يحرره خالصا بالحق وللحق، وافتدى به كل مطمع من مطامع الدنيا. وأنفق على طبع

ص: 42

هذا التاريخ الضخم من جيبه الخاص، ومن رزقه وليس له مورد إلا مكتب المحامي.

ولا شك أن الرافعي مثل من أمثلة العلماء الأبرار المتجردين، أولئك الذين عاشوا داخل المعامل السنوات الطويلة في سبيل تحقيق علمية خطيرة.

كذلك فعل الرافعي، وضحى بكل شيء، بمنصب المستشار والوزير والنائب والشيخ وعضوية الشركات في سبيل شيء واحد، أن يكتب تاريخ مصر خالصا صادقا.

وكان وهو الوطني حزباً لا يمالئ على حساب مذهبه السياسي؛ ولا يفهم العمل السياسي على أنه حزبية حمقاء.

والرافعي من أخلص تلاميذ (محمد فريد)، ومن أوفى الناس له، وهو على جانب كبير من التواضع والحياء، وقد كان يركب الترام وهو وزير، وكافح في ميدان السياسة كفاحا ضخما بدا منذ 1924 حتى اليوم واشترك قبل ذلك في ثورة 1919، وكان بعيد الأثر في تكوين الجبهة الوطنية سنة 1935.

المسلمون

صدر العدد العاشر من مجلة (المسلمون) وبذلك تكون هذه المجلة الشهرية التي يصدرها الأستاذ سعيد رمضان قد أتمت عاما كاملا.

وقد تفضل صاحبها فأهدى إلى بعض أعداد هذه المجموعة فوجدتها على جانب كبير من القوة في التحرير، والجمال في التنسيق، وقد لقيت (المسلمون) منذ صدور العدد الأول منها تقدير قراء العربية وإعجابهم من إندونيسيا إلى المغرب، إذ كانت بحق امتداداً طبيعيا للشهاب التي كان يصدرها الإمام الشهيد حسن البنا، والتي هي صورة من مجلة النار التي كان يصدرها السيد رشيد رضا من قبل.

وقد سارت (المسلمون) على نسق (الشهاب) ونظامه وحجمه، واتخذت نفس الأهداف، أهداف الدعوة إلى الفكرة الإسلامية وتبليغها وعرضها على طريقة مستحدثة، وقد استكتبت طائفة من خيرة المعنيين بالثقافة الإسلامية وبالدعوة إلى إصلاح المجتمع عفن طريق الإسلام، وقد انتظم فهارس أعدادها عدد كبير من أقطاب الفكر والأدب في مصر والشام والعراق أمثال معروف الدواليبي ومصطفى السباعي ومصطفى الزرقا، وأبو زهر والبهي الخولي ومحب الدين الخطيب.

ص: 43

وليس في ذلك غرابة، فالأستاذ سعد رمضان من حواري الإمام الشهيد، ومن الشباب الذي نبغ في الخطابة منذ سن باكر حتى كان صورة قريبة في خطابته من عميد الإخوان ورائدهم الأول، وقد كان سكرتيراً لتحرير الشهاب إبان صدوره، وجاب بلاد الشرق العربي وأقام فترة من الوقت في الباكستان، وله أصدقاء وقراء في إندونيسيا والعراق وسوريا. . وهو يعرف جميع زعماء العالم الإسلامي.

وتمتاز (المسلمون) بروح التناسق والوحدة بين موضوعاتها ودراساتها فهي مجلة توجيهية خالصة، تعرض الإسلام على أنه نظام صالح للتطبيق، وتواجه المشكلات الاجتماعية في الشرق مواجهة البحث والدراسة والعلاج.

وإنا لننتهز هذه الفرصة فنهنئ صاحبها على مجهوده البار الواضح في باب (أفق العالم الإسلامي) ونرجو ألا يصر على أن تظل قاصرة على المشتركين وحدهم، وأم يعرضها على القراء عامة فهو حتما سيجد بينهم من يرحب بها ويقرأها بشغف.

. . . والفن

وكان للفن حظ في النهضة الجديدة التي بدأت في 24 يوليه 1952. . . هذا التاريخ الذي يؤرخ به عهد جديد لمصر. . . فقد قرأنا في بعض الصحف أن النية متجهة إلى أن ينصب على قاعدة التمثال المقامة في ميدان الإسماعيلية تمثال للبطل أحمد عرابي أول جندي رفع رأسه في وجهة الغاضب، وجهر بكلمة الحق في وجه المستبد،. . . وقد ظل اسم عرابي منكورا، لا يجوز الكتابة عنه، ولا تمجيده، ولا الاحتفال به. . .، حتى جاء اليوم الذي يرد فيه عرابي مكانه كبطل للتحرير قال للحاكم الظالم (لن نستعبد بعد اليوم).

وأوقد الشعلة الأولى التي رفعها الجيش سنة 1881 في سبيل تحرير مصر؛ حتى جاء (محمد نجيب) بعد سبعين عاما فأتم الرسالة.

ولا شك أن المثالين سيتبارون في سبيل صناعة تمثال غاية في الروعة لبطل الجيش الأول. . .، ولابد أن هذه النهضة في الفن ستتصل برجال طالما غمط حقهم وكانوا يقفون دائما في وجه الظالم أمثال عمر مكرم ومحمد كريم وغيرهم.

أنور الجندي

ص: 44

‌البريد الأدبي

ذكرى ورجاء في مناسبة العدد الألفي للرسالة

بعد أسابيع. . . يطالع قراء الرسالة العصماء عددها الألفي، ومجلة الرسالة تعد في طليعة المجلات النابضة بالآداب الرفيعة، الناهضة بكل ما استحدث في الضاد من علوم وفنون.

وغني عن البيان أن لصاحبها الأستاذ أحمد حسن الزيات أكبر الفضل في إبرازها بتلك السمة الأخاذة الرائعة التي وضعتها في مقام الصدارة من الأدب الحي.

وللأستاذ الزيات مكانته الملحوظة، لا في مصر وحدها بل في الأقطار الشقيقة عامة وسائر الديار الناطقة بلفة القرآن، بما برز فيه من أدب عال، وأسلوب جزل رصين، قوي البيان، راسخ البنيان، سديد الهدف، بعيد المرامي، هذا إلى ما عرف عنه من خلق عظيم، وذوق سليم، وغيرة إسلامية قومية وطنية.

وأشهد أنني ما طالعت فاتحة مقال، بارع الاستهلال، في جميع الأحوال لأستاذنا الزيات، إلا وجدت حافزاً قويا يحفزني لإتمام المقال، حتى لم أعد أقنع بما ألفه وزفه للعربية الفصحى من كتب قيمة جمعتها وقرأتها مرات، ومازلت أطلب المزيد منها.

غير أني أحب أن تفسح رسالتنا الغراء صدرها الرحيب لبعض الملاحظات التي نعرضها لذكرها والذكرى تنفع المؤمنين.

كانت الرسالة في أول عهدنا بها، أفسح مجالا، وأكبر حجما، وأقرب منالا، فلما عطلت الحرب الأخيرة موارد الروق، وضنت على الصحف والمجلات بوفرته، ضاق النطاق، وشجت الأوراق، حتى عاد العدد من المجلة لا يتسع لأكثر الموضوعات. وعشاق الرسالة يحبون أن تكون مجلتهم الحبيبة، جامعتهم العامة، يلتقون فيها بخواطرهم، ويتبادلون نواحي الفكر المختلفة، في الآداب والعلوم الاجتماع.

وفي باب (البريد الأدبي) مجال ضيق الحدود، لا يتسع لأكثر من ثلاث رسائل في غالبية الأعداد. وباب القصص الغربية والمصرية كسابق العهد - مجال واسع لا يزال شاغرا في مجلتنا الأثيرة.

ولقد كانت ومازالت مجلة الرسالة تعتبر مجلة الخاصة من الممتازين بالثقافة العالية؛ لهذا أصبحنا لا نجدها إلا في أماكن محدودة - يوم صدروها، وهي تكاد تطالعنا بغير المقالات

ص: 46

الخاصة لفئة خاصة، من كتاب وأدباء الأقطار العربية، وقد تتغير الأسماء وتتجدد الأقلام ولكن في النذر اليسير منها.

فإذا ما عن لأديب من عشاق الرسالة - وكثير ما هم - أن ينشر على صفحاتها بعض ما يعتز ويعتد به من إنتاجه - بعد الكد وطول البحث، أو دفعه دافع من غيرة أدبية، أو حب استطلاع علمي، إلى الفزع إليها، ضنت وما اطمأنت لغير الأسماء اللامعة.

ولو جاز لأديب يعيش في عزلة مثلي، أن يكتب في معظم الصحف والمجلات العربية، مقالات أدبية، وقصائد ومقطوعات شعرية، قرابة ربع القرن مضى من الزمان. . أقول لو جاز له ذلك، لما استطاع أن يجتاز امتحان الرسالة العسير!!

(أحرام على بلابله الدو

ح حلال للطير من كل جنس)

وفي البريد الأدبي بالعدد 993 تحت عنوان (دار العلوم) كلمة للأستاذ (محمد علي جمعة الشايب) فيها إشارة لبعض ما توجهنا إليه.

فإذا لم تكن مجلة الرسالة الناهضة، هي الملجأ الأمين، والمفزع المنصف، لإبراز المواهب وصقل الأفكار وشحذ القرائح. فمن للشعر والشعراء والأدب والأدباء الذين ضاقوا بتدهور سوق الأدب، وقصوره على النواحي الماجنة المبتذلة، لغالبية الناشئين من أدباء اليوم والمطمورين من شعراء الجيل.

لقد حمدنا لأستاذنا الزيات ما أضفناه على مجلة الأزهر من جمال، وما أضافه إليها من بحوث قويمة وأبواب آية في الروعة ومتانة الصياغة، وطرافة النواحي الدينية والتاريخية والأدبية والاجتماعية، فبعد أن كانت مجلة الأزهر مقصورة على طائفة من أهل العلم، والبحث الديني، أصبحت مجلة الجميع! أما آن للرسالة أن نجدها أيضاً مجلة الجميع وملتقى الأدباء والشعراء في مصر والأقطار العربية على السواء؟

وأذكر لصاحب الرسالة قوله في مقال: (الرسالة في عامها الحادي عشر)(وإذا قدر الله للرسالة أن تخرج من محن هذه الحرب وفيها حشاشة نفس، كانت حرية بعد ذك أن تستهين بكل صعب، وتثبت على كل خطب) إلى أن يقول: (ويؤمئذ يتسع لها المجال فتشارك جاهدة مخلصة في رأب ما تصدع وتجديد ما تهدم) وإنا لمنتظرون وعلى الله قصد السبيل.

سلامة خاطر

ص: 47

(الرسالة) تشكر للأستاذ الكاتب حسن ظنه وجمال رأيه، ونعده

أن نعمل جاهدين لتحقيق ما أراد وتنفيذ ما اقترح.

الصحافة الأدبية في العراق

اتصل بي كثير من أدباء وشعراء البحرين والكويت والقطيف وعدن بريديا طالبين مني إرسال بعض صحف العراق الأدبية للإطلاع على الحركة الفكرية الحديثة، لأنهم يجهلون كل شيء عن الأدب العراقي المعاصر، ولا يعرفون شيئا عن أدباء وشعراء الشباب إلا القليل الذي لا يبل الصدى ولا يقنع الغلة، فهم مثلا لا يستطيعون أن يرسموا خطوطا واضحة عن شاعر أو أديب عراقي لأنهم لم يقرءوا له البتة، ومن كان ينشر منهم في صحف بغداد السيارة، فهم يعرفونه لأن صحف العراق لا تصل أبداً؛ أما الذين ينشرون في صحف مصر ولبنان وسورية والمهجر العربي في أمريكا فهم فئة قليلة جدا، تكاد تعد بأصابع اليد الواحدة؛ وفي الوقت نفسه كتبت إليهم جميعا أعتذر عن تلك المهمة لعدم وجود مجلة أدبية راقية تمثل الأدب العراقي المعاصر خير تمثيل تستحق أن تكوم سفيرا بيننا وبين البلدان العربية الأخرى، وكاد الأمر ينتهي عند هذا الحد لو لم يصل العراق هذا الأسبوع بعض الأدباء المعروفين، منهم شاعر القطيف الأستاذ محمد سعيد المسلم، والأستاذ عبد الله الطائي من البحرين. وفي معرض الحديث عن الأدب العراقي عاب الطائي علينا خلو البلاد من صحيفة أدبية راقية، وأيده الأستاذ المسلم، فأخبرتهما أنني أحسست بهذا النقص قبلهما. لذلك منذ أكثر من عام قدمنا طلبا إلى مديرية الدعاية العامة حول منحى الرخصة اللازمة لإصدار مجلة أسبوعية أدبية باسم (الخميلة) لتكون منبرا حرا للآراء وبعد إجراء المعاملات الرسمية من الشرطة وإكمالها حفظت المعاملة لأن وزير الداخلية لم يوافق على ذلك في حين أنه وافق على إعطاء الترخيص - الامتياز - اللازم لكل من هب ودب من الأميين وأنصاف المثقفين. . فسكت على مضض، ثم قابلت صديقي الأستاذ المجاهد سلمان الصفواني صاحب جريدة (اليقظة) الغراء وشكوت له معاملة الدعاية معي، فأجابني بالحرف الواحد:(إنك يا أستاذ لست بأمي ولا بمشعوذ) ثم لجأت إلى صديقي سعادة الأستاذ محمد جواد الخطيب المحامي عضو البرلمان العراقي وعضو اللجنة العليا في حزب

ص: 48

الاتحاد الدستوري - الحزب الحاكم في وزارة السعيد - فقال لي إنك شاعر معروف وأديب لك مكانتك في البلاد العربية، ويكفي أن (الرسالة) تحمل كل أسبوع نتاج قلمك إلى القراء، ولكن الحكومة لا توافق على منحك الامتياز. قلت له: لماذا؟ في حين أن من أعطتهم الإجازة اللازمة لا يعرفون حتى كتابة أسمائهم فسكت.

ثم رجعت مرة أخرى إلى موظف كبير في الدولة قلت: يا سيدي إن الحكومة تحاربني في رزقي الذي يدر علي من قلمي؛ فقال كيف؟ قلت: إن مدير الدعاية بأمر من وزير الداخلية منعني من إصدار مجلة أدبية، وهي كما تعلم دعاية للأدب العراقي الذي يجب أن يعلن عنه، لأن الأمة التي لا أدب لها لا قيمة لها؛ قال: هذا أمر وزاري، قلت: ما رأيك في أنني نظمت شكواي في قصيدة رفعتها إلى الأستاذ الجليل الزيات، وسأنشرها قريبا ومنها:

أأبا (الرسالة) والحديث كما ترى

شجن ولولا أن يقان أعادا

لأسلت من شكواي جرحا داميا

هيهات يلقي في العراق ضمادا

في أي مملكة يموت أديبها

جوعاً وتختزن الكلاب الزادا

في أي مملكة يقيد شاعر

ليعيث وغد في البلاد فسادا

ثم ختمتها بقولي له:

ما زلت في بغداد أحتمل الأذى

حتى سئمت من الأذى بغدادا

قال ومتى ستنشرها كاملة؟ قلت: خلال هذا الشهر

هذه قصة الصحافة الأدبية في العراق أسوقها شاهداً وأطلب من كل قارئ التعليق عليها أولا، ثم أريد أن يفهم إخواني الذين يعتبون عليّ لكوني أنشر في مصر ولا أحب النشر في العراق، أنني لا أحب أن أقبر بين ظلال العبودية، وتحت أقدام أذناب المستعمرين الجهلاء. فهل من سميع؟

بغداد

عبد القادر رشيد الناصري

جمعية جديدة للمسلمين في أمريكا الشمالية

وقع الاختيار على عبد الله اجنام من سيدار رابيدز ليكون أول رئيس للجمعية الدولية

ص: 49

لمسلمي أمريكا الشمالية التي تألفت هذا الأسبوع.

وتهدف الجمعية الجديدة إلى تعزيز أواصر الصداقة والأخوة والتفاهم بين المسلمين في أمريكا الشمالية؛ كما تهدف إلى زيادة التفاهم بين المسلمين في الولايات المتحدة وإخوانهم في الوطن من ذوي المذاهب الأخرى.

وتعتبر الجمعية أول محاولة للوحدة يبذلها ستون جالية إسلامية في الولايات المتحدة فضلا عن خمس عشرة جالية أخرى مبثوثة في أنحاء متفرقة في كندا.

وقد نهض بعبء تأليف الجمعية الجديدة المندوبون الخمسمائة الذين مثلوا مسلمي الولايات المتحدة وكندا في المؤتمر الذي عقد تحت إشراف جمعية الشبان المسلمين في أمريكا - ومقرها في سيدار رابيدز - وأستغرق ثلاثة أيام.

هذا وقد ألقى الدكتور محمود حب الله الأستاذ بالجامعة الأزهرية المنتدب لإدارة معهد الدراسات الإسلامية بواشنطن كلمة في المؤتمر قال فيها إن اتباع التعاليم السماوية سيؤدي إلى خلق عالم ينظر فيه الناس إلى أنفسهم كأعضاء في أسرة دولية قبل أن يكونوا أبناء وطن واحد.

شكوى طلاب العلم من وزارة الداخلية

كانت ووزارة الداخلية في العهد البائد لا تؤمن بالشباب؛ ولولا ذلك لما منعت عشرات الطلاب المصريين من السفر إلى الخارج للاستزادة من العلم، متعللة في ذلك بأتفه الأسباب. وهناك طلاب كثيرون فاتتهم الفرص التي لن تعود، وضاعت عليهم البعثات التي كدوا وجاهدوا في سبيل الحصول عليها، وذلك لأن وزارة الداخلية كانت كافرة بإخلاص الجامعيين، وكل جامعي لديها فهو متهم لا لشيء إلا لأنه جامعي؛ وهي لهذا كانت تحتاط وتأخذ حذرها، وعندما يأتيها طلب جواز سفر من أحد الجامعيين كانت تقوم بالتحريات الشاملة الطويلة عن ماضيه وحاضره ومستقبله! فإذا وجدت أدنى شبهة رفضت في إصرار التصريح له بالسفر.

ألم يكن هذا ظلما للعلم وللمتعلمين؟

أليس من حق كل مصري أن يرحل إلى معاهد العلم الأجنبية كي يعود إلى وطنه أكثر قدرة على خدمته؟ وأنا واحد من هؤلاء الجامعيين، تخرجت من كلية الآداب، ومنحت بعثة

ص: 50

دراسية من إحدى الحومات الأوربية؛ فأعددت العدة للسفر، وكدت أن ارحل لولا أن عملت من وزارة الداخلية يومئذ أنني ممنوع من السفر. . .

أجل! ولم تبد الوزارة أسباب هذا المنع. ولم أجد أنا له في صفحة حياتي مبرراً.

أيعامل إنسان معاملة المجرمين لا لشيء إلا لأنه يريد أن يتعلم؟

هذه شكوى جامعي مخلص، عسى أن تجد في مجلتكم سبيلا لآذان المسئولين في هذا العهد الجديد السعيد.

م. . . .

ص: 51

‌القصص

الرسالة الأخيرة

بقلم رالف بلومر

أخذ الناس على أنفسهم أن يتجنبوا سبيل الأخطاء، ووضعوا نصب أعينهم أن يحيدوا عن طريق الأغلاط؛ ومع ذلك فكثير منهم من يهوى في هاويتها، ويتردى في حمأتها؛ بل أصبحت وكأنها من مستلزمات الحياة؛ أو من ضروريات البشر، فقد ترى البعض يتدارك الخطأ قبل وقوع في نتائجه، والآخر يقع فيه ويتخبط في إشراكه وجرائره.

بيد أن الأخطاء كثيراً ما يمحو بعضها بعضاً. وهنا نرى أالقدر يشاء للعض أن يجني من وراء ذلك ويربح. . . ويشاء للبعض الآخر أن يخسر من جرائه بل ويهلك.

أخذت يد (جرافيل فورلاند) ترتجف ارتجافاً تحت المصباح الكهربائي الموضوع على المكتب؛ وهو يترع كأسه من شراب البراندي. وما كاد يفرغ من ذلك حتى تقلصت يده على الكأس وتمتم: لقد انتهى كل شيء، وعما قريب سأمسي في حالة أخرى آن بها كل عدوان الدنيا وغدرات الناس، وهجران الزمن.

ثم غيب يده في درج المكتب وأخرج مظروفاً وضعه نصب عينيه.

لقد طالما عاب عليه رئيسه الكولونيل باكستر إهماله وتوانيه، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل راح يقدح فيه وينال منه أمام زملائه في الجيش وإخوانه، وقد قال له فيها قال. . . (فورلاند!. . سوف لا تسلم من ارتكاب الحماقات والأخطاء مادمت حيا. . إن حياتك لمليئة بالأغلاط، مفعمة بالأخطاء منذ أن أدركت معنى الحياة. وإني أقول لك على رؤوس الملأ: (إن دخولك في رحمة الله أو إلقائك في قرار الجحيم لن يكون ألبته سولا نتيجة حتمية لإحدى هذه الغلطات. . أيها الرجل! إنك تعيش على الأخطاء وستموت من جرائها).

وأطلق فورلاند العنان لأفكاره تحلق في أجواء السنتين الماضيتين، وهو يكتب عنوان الكولونيل على الظرف.

ونحى المظروف جانباً، ثم أمسك بإحدى يديه الرسالة التي كتبها منذ لحظة. بينا كانت يده الأخرى تعبث في حركات عصبية مضطربة بمسدس متوسط الحجم.

وراحت يمناه تجريان على كلمات الرسالة.

ص: 52

(الكولونيل أ. هـ. باكستر

سيدي الكولونيل

أرجو المعذرة يا سيدي إذا وجدتم أن هذا الكتاب لا يمت إلى أعمال الجيش بصلة. وسوف أكون - حينما يصلكم هذا - إما في جنة الخلد أو في عذاب السعير. هناك حيث ينال المرء جزاءه من جنس عمله. وقد فضلت هذه النهاية وآثرتها لأني عجزت عجزاً بيناً عن إعادة ما امتدت إليه يداي الآثمتان من أموال الفرقة التي وكلت بحفظها. ووسد إلى أمر حراستها والعناية بها. ولا عجب إذا وصلك كتابي هذا قبل اكتشاف الحادث، فذلك ما علمت على أن يكون.

وكان الأمل يشيع في نفسي حتى الآن، لظني أني لابد واجد طريق الخلاص الذي ينئيني عن ذلك المأزق الضيق الخانق. وكان مما يغمر نفسي بالأمل ويفيض عليها بالرجاء، أن يوم اكتشاف الحادث ليس منا بقريب، بل دونه أيام عديدة، وليال كثيرة، تمكنني من إخفاء الأمر وتسديد العجز وإكمال النقص.

غير أن الأيام قد مرت، ولليالي قد تصرمت، وأصبح اليوم المروع الرهيب قاب قوسين أو أدنى؛ فلا يمر الليل حتى يفيض نوره، ولا تمضي ساعات إلا ويبزغ فجره وتترجل شمسه. كل ذلك وأنا كما كنت. . . عاجز عن إخفاء الحادث، أو إكمال النقص الذي أحدثته يداي الملوثتان. . فليس أمامي في هذه الحال غير السجن والعار. . سوى الخراب والدمار. . وليس ذلك مما أسيغه أو أرضاه.

أما عن المبلغ المختلس فقد بلغت قيمته حتى الآن ستمائة جنيه أو تزيد. فهل يدور بخلدك يا سيدي أنه في وسعي إعادته إلى مكانه من الخزانة دون أن يدري أحد؟ قد يكون ذلك ممكنا من وجهة نظرك، ولكن المعجزات لا تحدث في عصرنا هذا يا سيدي الكولونيل، إنما الأخطاء فحسب هي التي يشيع حدوثها، أو إحداثها إن شئت.

وقد تقول: إنه كان في وسعك أن تقترض المبلغ؛ غير أني سوف لا أكون معك إبان اكتشاف الحادث، بل أن روحي هي الأخرى ستأبى أن تحضرك، لأني لا أرضى أن تزعجك. ولا أود أن تهيجك.

وإني على يقن أن رحيلي إلى العالم الآخر هو خير سبيل تطرق، وأفضل طريق تسلك؛

ص: 53

ودعني أقول لك: وداعا يا سيدي الكولونيل!

المخلص

درافيل فورلاند

ملازم أول

وغيب الرسالة بعد ذلك في الظرف وختمه. . . ثم ألصق عليه طابع البريد. وكان هو يفعل ذلك حالما ساهما، مفكراً واجما، تتناوب وجهة الحمرة والصفرة. يرى يديه ترتجف وأصابعه ترتعش. . . ولم يكن ذلك لما يشعر من تأنيب في الضمير لسرقته، أو وخز في النفس لفعلته. بل كان ذلك لأنه لا يستطيع درء الفضيحة عنه، ولا يمكنه دفع العار بعيدا منه، ولأنه سيفقد عمله لما أتاه من المنكر، ولما اقترفه من الجرم.

إن السبيل الوحيدة والطريق السهلة المعبدة للخلاص من الفضيحة، والاغتسال من العار اللذين سيجرهما عليه اكتشاف الحادث. هي رصاصة تحترق رأسه.

وأبصر يده ترتجف وهو يشعل إحدى لفافات التبغ، فأيقن أن تظاهره بالثبات وادعاءه الرزانة والهدوء إن هما إلا قناعا شفافا يخفي وراءه ما يصطخب في نفسه ويعج من عوامل الرعب والفزع الهائلة. . . وقال بلهجة الواثق يحدث نفسه:

- سينتهي كل ذلك سريعا. . ما هي إلا ضغطة واحدة لهذا الزناد وينتهي الأمر كله، بل ويشق على أي أحد أن يلحق بي أو ينالني.

وأخفى المسدس في أحد أدراج المكتب، ثم تناول الرسالة، وغادر البيت ليودعها صندوق البريد، أي حظ تعس ذلك الذي يلازمه؟ من له بمن يمد له يد العون فيرد المال المسلوب قبل أن يجردوا الخزانة؟ أي دهر جائر ظلوم، هذا الذي يأبى مساعدته وتخليصه من وهدة العار التي تردى فيها، وهاوية الدرن الذي تمرغ فيه.

وتمتم فورلاند يحدث نفسه:

- ها هو ذا آخر يوم من أيام حياتي، ينقضي تحت سمعي وبصري.

وألقى الرسالة في صندوق البريد، ثم كر راجعا إلى مثواه.

وهناك أخر المسدس وأدناه من رأسه المحموم، وزم شفتيه، وغمض عينيه، وراحت إصبعه

ص: 54

تضغط شيئاً فشيئاً وكاد كل شيء ينتهي، لولا أنه سمع وقع أقدام تقترب منه أعقبه سلعة مكبوتة ودق خفيف على الباب.

ودخل الخادم فألفى سيده منتحيا ناحية من المكتب جالسا في تراخ وخمول، أما المسدس فقد كان مختفيا وراء علية السجاير.

- لقد جاءت الآن فقط يا سيدي

فاه الخادم بهذه الجملة في صوت خافت ولهجة احترام وهو يمد يده إلى سيده برسالة مسجلة. . . فتناولها فورلاند بيد مرتجفة ثم أومأ إليه بالانصراف.

وفض الظرف في عجلة واضطراب فسقطت منه الرسالة وهو يخرج حزمة من الأوراق المالية كانت فيه.

والتقط الرسالة وأخذ يقرأ ما جاء فيها بعينين جاحظتين.

(سيدي: لقد أمرني عمك جيمس. . ب. موبيث أن أرسل إليك هذا الكتاب وبه ألف من الجنيهات، وهي نتيجة الارتفاع المفاجئ لأسهم شركة آبار البترول، التي كان لك حظ الاشتراك فيها عند فجر حياتك).

وكانت الرسالة ممهور بإمضاء مسجل شهير.

وأحس فورلاند رغبة ملحة في أن برفع عقيرته بالصياح فرحاً وابتهاجاً، ها هي ذي ألف جنيه في يده. . . ملكه وحده، لا ينازعه فيها منازع. ولا يشاركه فيها شريك، سيعيد ما اختلسه في صبيحة اليوم التالي قبل اكتشاف الأمر دون أن يعلم أحد. . . أية معجزة أية خارقة. . أي حظ سعيد؟ لقد هزأ بالمعجزات وهاهي ذي قد حدثت، وسخر من الخوارق وها هي ذي قد حلت.

بيد أنه عبس قليلا وهو ينظر إلى المال، لماذا لم يرسله عمه صكا على المصرف؟ ولكنه عاد وتذكر أن عمه يمقت معاملة البنوك، بل هو لا يثق بها ولا يأمن لها، إن عادته دواما أن يدفع بالنقد.

وتذكر قول عمه له ذات يوم: (أصغ إلي يا فورلاند، إن شركتنا هذه وإن كانت لا تدر علينا أي ربح الآن. فإنها ستغدو في مدى زمن - طال أم قصر - من أعظم الشركات الدولية في العالم) إذن فهذه هي أولى الأرباح. . . إذن ستترى عليه المبالغ بعد الآن. . .

ص: 55

وفورلاند يعلم عن عمه أنه ما كان يرسل إليه فلسا واحداً، إذا درى بموقفه الدقيق الحرج؛ إنه - أي عمه - يكره أن يرى أحد أفراد الأسرة يتلوث بهذا العار، ويتمرغ في هذا الرجس. وتقطب جبينه وهو يفكر. . حسنا!. . سيعيد المال المسروق فتبقى له بعدئذ أربعمائة جنيه أو تقل، ولن يكون هناك ما يشينه ويعيبه أمام عمه أو يحط من قدره. بيد أنه أن كوحش حبيس؛ وزأر كأسد جريح، حينما تذكر الخطاب الذي أرسله الكولونيل بعنوان بيته في (إيست كوست). . . لا مرية أنه سيتسلمه في الصباح الباكر.

وهب واقفاً في ذعر. . ما الذي بحق الشيطان جعله يتسرع ويرسل الكتاب؟ أما كان لأولى به أن يتريث إلى الصباح؟ إنه لا يسعه الآن أن يتلافى الأمر أو يتفادى الكارثة. . ولا يمكنه أن يعيد المال؛ ويزعم أنها مزحة من مزحة، أو مهزلة أراد بها التسلية واستطلاع ما قد يحدث. فقد يرتاب الكولونيل في الأمر، ويجرد الخزانة بعين أخرى. . منتبهة متيقظة. ويميط اللثام عن التلاعب الذي أحدثه بالمال منذ سنتين.

وألقى فورلاند المسدس في درج المكتب. ووضع المال في حرز حريز. ثم تناول قبعته وغادر مثواه إلى صندوق البريد.

يا للحظ التعس. ويا للأمل الخائب!! لقد أفرغت الرسائل التي في الصندوق منذ عشر دقائق فحسب.

وتراءت له أشباح السجن والفضيحة والعار. فجن جنونه. إن مصيره الآن في يدي رجل، ولو أنه طيب القلب إلا أنه لا يلين ولا يرحم في مثل تلك الأمور. ثم إنه عمه جيمس لا يتردد في ازدرائه ولفظه والتبرئ منه إذا بلغه خبر جريمته الشنعاء وإثمه الكبير الزرى.

وأبصر مكتب البريد يجثم في نهاية الطريق فهرول إليه. وألفاهم هناك في عجلة من أمرهم وهم يفرزون الرسائل.

وارتدى فورلاند ثوب الهدوء وثبات الجنان وهو يدلي إليهم بأنه أرسل بمحض الخطأ والتسرع خطاباً يود استرداده. ثم وصف لهم الظرف.

فأجاب أحد العمال في رقة مشوبة بحزم أن إعادة أية رسالة إلى صاحبها ضرب من المستحيل وأفهمه أن مصلحة البريد تعد نفسها مسئولة عن الرسائل حتى تصل إلى المرسلة إليهم.

ص: 56

فأخذ فورلاند يتهدد وتوعد تارة، ويلين ويتذلل تارة. وكان كل ذلك عبثاً. فلمح إليهم بالرشوة، ولوح لهم بالمال. وقد رفع المبلغ حتى أضحى يغري المرء على مخالفة ضميره والإخلال بواجبه، فنظر إليه العامل نظرة شزراء مليئة بالتهكم والازدراء. ثم أدار عنه وجهه واستغرق في عمله.

فخرج فورلاند يلتمس الهواء البارد الرطب عساه يلطف من هاته النار التي تضطرم بين أضلعه اضطراماً ولعله يخمد ذلك السعير الذي يحتدم في أحشائه احتداماً.

وتراقصت على صفحات ذهنه كلمات الكولونيل التي طالما صوبها إليه معرضا به قادحاً فيه (إنك أيها الرجل تعيش على الأخطاء وسوف تموت من جرائها).

وفي مأواه غرق في مقعده وراح يشحذ ذهنه ويكد قريحته لعل يصل إلى حل لتلك المعضلة الجديدة أو عساه يجد طريقا للخلاص مما وقع فيه من الخطأ مرة أخرى.

وهبط الليل وانتشرت معالمه الطاغية على الكون. بل مضى كل الليلة إلا قليلا واقترب الفجر وكاد يبزغ. وورلاند لما يجد بعد حلا لذلك الإشكال الجديد، وظل جالساً بأعين جاحظة وجفون مقرحة، وشعر مشعث وخدين أصفرين غائرين.

ستصل الرسالة إلى الكولونيل بعد بعض ساعات فيقرأها ويدرك كل شيء.

ليس هناك سبيلا لمنع ذلك، على الرغم من أن الخطاب لا يزال في مكتب البريد. يا لله! كيف يمنع وصوله؟ لقد أصبح ذلك مستحيلا، لأن الكولونيل يتسلم رسائله يدً بيد من موزع البريد. وزأر فورلاند يقول:

- لماذا لم أتريث قليلا؟

واختفى فورلاند المرح الطروب، واحتل مكانه فورلاند آخر وحشى النظرات. كساه اليأس ثوب الجنون، وأورثه الهم والقلق حالة التوحش.

ها هو ذا الخراب يتراءى له كوحش هائل يريد ابتلاعه، والدمار يهاجمه كجارح جبار يبغي اختطافه، ومع ذلك كان في وسعه أن يتفادى ذلك لو أنه لم يخطئ ويرسل ذلك الخطاب. وملأ كأسه من الكونياك ورفعها إلى فمه بيد ترتعد في شدة وعنف، حتى لقد تساقطت قطرات من الشراب على أرض الغرفة.

وانتبه أخيراً من ذهوله فرأى أن الصبح قد تنفس وبزغ النهار وأضاء. فأخذ يضحك بينا

ص: 57

كانت أصابعه تعبث بالأوراق المالية عبثها بشيء تافه لا خير فيه.

إن الكولونيل ليرفض رفضاً باتا أن يأخذ منه المال ويودعه الخزانة دون أن يفطن إلى الأمر أحد.

يا للخراب! يا للدمار! لقد خرب ودمر. . . كل ذلك من جراء غلطة واحدة. ألا ليته تريث إلى الصباح، أو إلى أن أتاه المال من عمه.

ونظر إلى الساعة فألفاها تشير إلى التاسعة.

سيستلم الكولونيل باكستر الرسالة حالا. . . إنه يقرأها الآن، وربما يكون قد أخطر البوليس. . وغرق في مقعده ثم تمتم.

- السجن!!!. . .

واعتدل في جلسته بغتة ثم أردف.

- سيأتي البوليس بين لحظة وأخرى. . . أجل، سيأتي فوراً. ألم ينبئ الكولونيل بالسبب الذي حدا به إلى الانسلاخ من هذا العالم والتخلص من الحياة؟

وعادت وتراءت له أشباح السجن والعار والدمار.

وضحك مرة أخرى ثم جلس على حافة المكتب وأفرغ في جوفه كأسين مترعتين من الشراب

ثم امتدت يده تبحث عن المسدس.

- كل ذلك من أجل غلطة. . . غلطة واحدة ألا ليتني تريثت قليلا قبل أن ابعث بهذه الرسالة اللعينة.

ثم رفع السلاح إلى رأسه المندى بالعرق البارد في عزم وإصرار.

وعلى عتبة الباب الخارجي راح الخادم يتفرس ويديم النظر في رسالة سلمها إياه موزع البريد، وكانت تحمل - فضلا عن عنوان الكولونيل باكستر - ثلاثة أحرف تومئ إلى أن اسم الرسالة مكتوب على الوجه الآخر من الظرف.

وزمجر موزع البريد يقول

إنه لا يحمل أسم البلد المرسل إليه، وقد أعدناه لنفس العنوان. كثير من الناس يقع في مثل هذه الغلطة. . . يا إلهي! ما هذا؟!

ص: 58

(وهذا) هذه كانت طلقة نارية دوت في سكون المنزل العميق أعقبها سقوط جسم على الأرض.

م ع م

ص: 59