الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 999
- بتاريخ: 25 - 08 - 1952
أدب الانحلال
الأستاذ سيد قطب
(كان من المقرر أن يذاع هذا الحديث من محطة الإذاعة المصرية في الساعة الثامنة من مساء اليوم 10 من شهر أغسطس، ولكن جو المحطة لم يتطهر بعد إلى الحد الذي يسمح بإذاعة مثل هذا الحديث! أن الكثيرين هناك يحسبون أنفسهم مقصودين يوصف العبيد. كما أن الحماية ما تزال مفروضة على الأصوات الدنسة التي تذيع على الناس: (الدنيا سيجارة وكأس)!
أدب الانحلال هو في الغالب أدب العبيد. عبيد الطغيان، أو عبيد الشهوات. وحين تستذل النفس البشرية لطاغية من طغاة الأرض، أو لشهوة من شهوات الجسد؛ فإنها تعجز عن التحليق في جو الحرية الطليق، وتلصق بتراب الأرض، وترتكس في وحل المستنقع: مستنقع الشهوة، أو مستنقع العبودية سواء.
فأدب الانحلال على هذا هو أدب العبودية، وهو لا يروج إلا حين تفرغ الشعوب من الرغبة أو من القدرة على الكفاح في سبيل مثل أعلى. مثل أرفع من شهوة الجسد، وأعلى من تمليق الطغيان، لتحقيق مطمع صغير، أو مطمح حقير. . أي عندما تصبح (الدنيا سيجارة وكاس) أو تصبح الحظوة عند الطغاة أمنية المتمني في دنيا الناس!
عندئذ يظهر في الأمة كتاب، ويظهر في الأمة شعراء، ويظهر في الأمة فنانون. . يلبون هذا الفراغ من المثل العليا، ويمثلون هذا الارتكاس في حمأة الشهوة أو حمأة العبودية، وعندئذ يستمع الناس إلى هؤلاء الكتاب والشعراء والفنانين، لأنهم يصورون مشاعرهم، ويصورون أحلامهم، ويزينون لهم الراحة من الكفاح، والاطمئنان إلى الدعة، والإخلاد إلى حياة الفراغ والترهل والانحلال.
إن هؤلاء الكتاب والشعراء والفنانين ليقومون حينئذ بمهمة تخدير الشعوب وتنويها. سواء سبحوا بحمد الطغاة، أو سبحوا بحمد الشهوات. فأما حين يسبحون بحمد الطغاة فهم يزيفون الواقع على الشعوب، ويخفون عنها شناعة الطغيان وقبحه، ويصدونا عن الثورة عليه أو الوقوف في وجهه. . وأما حين يسبحون بحمد الشهوات، فهم يخدرون مشاعر الشعوب، ويستنفدون طاقتها في الرجس والدنس، ويدغدغون غرائزها فتظل مشغولة بهذه الدغدغة،
لا تفكر في شأن عام، ولا تحس بظلم واقع، ولا تنتفض في وجه طاغية لتناديه: مكانك. فنحن هنا! فالشعب المستغرق في ذلك الخدر اللذيذ ليس هنا، وليس كذلك هناك!
والتاريخ يشهد أن الطغيان يملئ دائما لهذا الصنف من الكتاب والشعراء والفنانين؛ ويهيئ لهم الوسائل، ويخلق لهم الجو الذي يسمح لهم بالعمل. جو الفراغ والترف والانحلال.
عندما أراد الأمويون أن يأمنوا أهل الحجاز، وإن يستبدوا دونهم بالملك، وإن ينحوهم عن الحياة العامة، غمروا سادتهم وأشرافهم بالمال والإقطاعيات والهبات؛ وجلبوا إليهم المغنين، والملهين والجواري، وزينوا لهم حياة الدعة والترف. وأطلقوا عليهم الشعراء المجان يدغدغون غرائزهم في القصور بأناشيد الشهوة. . وفي الوقت ذاته انطلق الشعراء يمدحون الملوك الطغاة ويسبحون بحمدهم، ويصوغون حولهم الهالات.
والتاريخ يعيد نفسه. وهكذا كان في حاضر الأوان. . كان في مصر طاغية صغير؛ كان يعبد ذاته، ويقدس شهواته. وكان يريد أن يحول هذا الشعب إلى عشرين مليونا من العبيد.
عندئذ انطلق كتاب وشعراء وفنانون يسبحون بحمد الطاغية الصغير، ويسجدون له من دون الله. ويخلعون عليه من صفات الله. سبحانه! مالا يجرؤ مسلم أو مسيحي على النطق به. حياء من الله.
وحينئذ انطلق كذلك كتاب وشعراء وفنانون يسبحون بحمد الشهوة، ويعبدون اللذة. وعندئذ استمع الناس إلى أغنيات تقول:(الدنيا سيجارة وكاس) و (أنسى الدنيا) وما إلى ذلك من أدناس وأرجاس.
إن التسبيح بحمد الطاغية، والتسبيح بحمد الشهوة؛ لم يكونا منفصلين، ولا غريبا أحدهما عن الآخر. . لقد كانت فترة انحلال. وأدب انحلال. إنها العبودية ذات طبيعة واحدة. عبودية الشهوة أو عبودية الطغيان.
فإذا نحن أردنا أن نكافح أدب الانحلال، فيجب أن نكافح أولا أسبابه في حياة الأفراد أو حياة الشعوب. يجب أن نكافح روح العبودية في الضمير الإنساني. نكافح عبودية الشهوة فنحرر الضمير البشري من الخضوع لها. فالإنسان إنما صار إنسانا بتعاليه على ضرورات الحيوان. والتربية الدينية هي الطريق الأنجع والأقرب إلى تقوية روح الإنسان، وتساميه على ضرورات الحيوان.
ونكافح عبودية الطغيان. فالطغيان يحمل معه دائما تشجيع الانحلال والدعة والترهل، كي يبقى هو في أمان من انتفاض الكرامة، وانبثاق الحرية، والانتقاض على العسف والطغيان
وشيء آخر نملكه اللحظة:
لقد عاد الذين كانوا يسبحون بحمد الطاغية الصغير، ويملون له في البغي والعدوان، ويمجدون أسمه ويخلعون عليه من صفات الله الواحد القهار. . . عاد هؤلاء هم بأنفسهم يلعنون الطاغية ويطلقون ألسنتهم فيه، ويمزقون عنه أردية المجد الزائفة التي ألبسوها إياه.
هذا نفسه لون من ألوان الانحلال. وصورة أخرى لأدب الانحلال. هؤلاء لم يخرجوا في الأولى أو الثانية عن أن يكونوا عبيدا منحلين. عبيدا يحنون ظهورهم لسوط السيد يلهب به جلودهم. فلما أن سقط السوط من يده - رغم أنفه - التقطه العبيد وادروا به يبحثون لهم عن سيد جديد!. . سيد جديد يلهب جلودهم بالسوط، ليحرقوا له البخور، وينثروا من حوله الزهور.
هؤلاء هم ممثلو أدب الانحلال. وهؤلاء هم الذين يجب أن يقصيهم الشعب عن الإنشاد له في العهد الجديد. عهد العز والقوة والاستعلاء، عهد التحرر من عبودية الطغيان، والتحرر من عبودية الشهوة اللتين قد تجتمعان أو تفترقان، فتمهد إحداهما للأخرى، وتهيئ لها النفوس والأذهان.
أجل ينبغي ألا نسمح لهؤلاء العبيد بالإنشاد للشعب في العهد الجديد، ولا أن نغفر لهم تمريغ جبهة الأدب والشعر والفن في المستنقع الآسن. فكل غفران لهؤلاء هو تنازل عن مبادئ الثورة الجديدة، وكل استماع لهم هو خيانة للمثل الجديدة.
ولا يقل أحد: إنهم كانوا معذورين في تمريغ الأدب والفن والشعر والإنسانية في ذلك الوحل. فلقد كان باستطاعتهم أن يسكتوا، إن لم تبلغ بهم الرجولة أن يكافحوا.
إن الاعتذار لهم على هذا النحو تبرير للجريمة، التي يمكن اغتفارها للتجار لا لقادة الفكر وزعماء الأدب والكتاب والشعراء والفنانين.
إن من حق الثورة علينا أن نتذكر ولا ننسى. نتذكر شناعة الجريمة. شناعة الانحلال الدنس.
إن الديدان والحشرات التي عاشت طويلا في المستنقع كفيلة بتدنيس كل مقدس، إذا نحن
سمحنا لها بالحياة مرة أخرى في الأرض الطيبة، التي يجب أن تخلو من الديدان والحشرات.
سيد قطب
قد مضى عهد ألف ليلة وليلة
للأستاذ أبو الحسن على الحسني الندوي
كتاب ألف ليلة وليلة يمثل ذلك العهد الذي كانت الحياة فيه تدور حول فرد واحد - وهو شخص الخليفة أو الملك أو حول حفنة من الرجال - هم الوزراء وأبناء الملوك - وكانت البلاد تعتبر ملكا شخصيا لذلك الفرد السعيد. والأمة كلها فوجا من المماليك والعبيد، يتحكم في أموالهم وأملاكهم ونفوسهم وأعراضهم، ولم تكن الأمة التي كان يحكم عليها إلا ظلا لشخصه، ولم تكن حياتها إلا امتدادا لحياته.
لقد كانت الحياة تدور حول هذا الفرد بتاريخها وعلومها وآدابها وشعرها وإنتاجها، فإذا استعرض أحد تاريخ هذا العهد أو أدب تلك الفترة من الزمان وجد هذه الشخصية تسيطر على الأمة أو المجتمع كما تسيطر شجرة باسقة على الحشائش والشجيرات التي تنبت في ظلها وتمنعها من الشمس والهواء، كذلك تضمحل هذه الأمة في شخص هذا الفرد وتذوب فيه وتصبح أمة هزيلة لا شخصية لها ولا إرادة، ولا حرية لها ولا كرامة.
وكان هذا الفرد هو الذي تدور لأجله عجلة الحياة، فلأجله يتعب الفلاح، ويشتغل التاجر، ويجتهد الصانع، ويؤلف المؤلف، وينظم الشاعر، ولأجله تلد الأمهات وفي سبيله يموت الرجال وتقاتل الجيوش، بل ولأجله تلفظ الأرض خزائنها، ويقذف البحر نعائمه، وتستخرج كنوز الأرض وخيراتها.
وكانت الأمة - وهي صاحبة الإنتاج وصاحبة الفضل في هذه الرفاهية كلها - تعيش عيش الصعاليك أو الأرقاء المماليك، قد تسعد بفتات مائدة الملك وبما يفضل عن حاشيته فتشكر، وقد تحرم ذلك أيضاً فتصبر، وقد تموت فيها الإنسانية فلا تنكر شيئا بل تتسابق في التزلف وانتهاز الفرص.
هذا هو العهد الذي ازدهر في الشرق طويلا وترك رواسب في حياة هذه الأمة ونفوسها، وفي أدبها وشعرها، وأخلاقها واجتماعها، وخلف آثارا باقية في المكتبة العربية، ومن هذه الآثار الناطقة كتاب (ألف ليلة وليلة) الذي يصور ذلك العهد تصويرا بارعا يوم كان الخليفة في بغداد أو الملك في دمشق أو القاهرة، هو كل شيء وبطل رواية الحياة ومركز الدائرة.
إن هذا العهد الذي يمثله كتاب (ألف ليلة وليلة) بأسا طيره وقصصه، وكتاب الأغاني
بتاريخه وأدبه، لم يكن عهدا إسلاميا ولا عهدا طبيعيا معقولا؛ فلا يرضاه الإسلام، ولا يقره العقل، بل إنما جاء الإسلام بهدمه والقضاء عليه، فقد كان هذا هو العهد الذي بعض فيه محمد صلى الله عليه وسلم فسماه الجاهلية ونعى عليه وأنكر على ملوكه - ككسرى وقيصر - وعلى أثرتهم وترفهم أشد الإنكار.
إن هذا العهد غير قابل للبقاء والاستمرار في أي مكان وفي أي زمان، ولا سبيل إليه إذا كانت الأمة مغلوبة على أمرها أو مصابة في عقلها أو فاقدة الوعي والشعور أو ميتة النفس والروح.
إن هذا الوضع لا يقره عقل. ومن الذي يسوغ أن يتخم فرد أو بضعة أفراد بأنواع الطعام والشراب ويموت آلاف جوعا ومسغبة؟ ومن الذي يسوغ أن يعبث ملك أو أبناء ملك بالمال عبث المجانين، والناس لا يجدون من القوت ما يقيم صلبهم ومن الكسوة ما يستر جسمهم؟ ومن الذي يسوغ أن يكون حظ طبقة - وهي الكثيرة - الإنتاج وحده والكدح في الحياة والعمل المضني الذي لا نهاية له، وحظ طبقة - وهي لا تجاوز عدد الأصابع - إلا التلهي بثمرات تعب الطبقة الأولى من غير شكر وتقدير وفي غير عقل ووعي؟ ومن الذي يسوغ أن يشقى أهل الصناعة، وأهل الذكاء، وأخل الاجتهاد، وأهل المواهب، وأهل الصلاح، وينعم رجال لا يحسنون غير التبذير، ولا يعرون صناعة غير صناعة الفجور وشرب الخمور؟ ومن الذي أن يجفى أهل الكفاية وأهل النبوغ وأهل الأمانة ويقصوا كالمنبوذين، ويجتمع حول ملك أو أمير فوج من خساس النفوس وسخاف العقول وفاقدي الضمائر ممن لا هم لهم إلا ابتزاز الأموال وإرضاء الشهوات ولا يحسنون فنا من فنون الدنيا غير التملق والإطراء، المؤامرة على الأبرياء، ولا ينصفون بشيء غير فقدان الشعور وقلة الحياء؟
إنه وضع شاذ لا ينبغي أن يبقى يوما فضلا عن أن يبقى أعواما.
إنه إن سبق في عهد من عهود التاريخ وبقي مدة طويلة فقد كان ذلك على غفلة من الأمة أو على الرغم منها، ولسبب ضعف الإسلام وقوة الجاهلية، ولكنه خليق بأن ينهار ويتداعى كلما أشرقت شمس الإسلام واستيقظ الوعي وهبت الأمة تحاسب نفسها وأفرادها.
فالذين لا يزالون يعيشون في عالم (ألف ليلة وليلة) إنما يعيشون في عالم الأحلام، إنما يعيشون في بيت أوهن من بيت العنكبوت، إنما يعيشون في بيت مهدد بالأخطار لا يدرون
متى يكبس ولا يدرون متى تعمل فيه معاول الهدم، وإن سلموا من كل هذا فلا يدرون متى يخر عليهم السقف من فوقهم فإنه قائم على غير أساس متين وعلى غير دعائم قوية.
ألا إن عهد ألف ليلة وليلة قد مضى فلا يخدعن أقوام أنفسهم ولا يربطوا نفوسهم بعجلة قد تكسرت وتحطمت. إن الفردية مصباح - إن جاز هذا التعبير - قد نفد زيته واحترقت فتيلته فهو إلى انطفاء عاجل ولو لم تهب عاصفة.
إنه لا محل في الإسلام لأي نوع من أنواع الأثرة. إنه لا محل فيه للأثرة الفردية أو العائلية التي نراها في بعض الأمم الشرقية والأقطار الإسلامية، ولا محل فيه للأثرة المنظمة التي نراها في أوربا وأمريكا وفي روسيا، فهي في أوربا أثره حزب من الأحزاب وفي أمريكا أثره الرأسماليين وفي روسيا أثره قلة آمنت بالشيوعية المتطرفة وفرضت نفسها على الكثرة وهي تعامل العمال والمعتقلين بقسوة نادرة ووحشية ربما لا يوجد لها نظير في تاريخ السخرة الظالمة.
أن الأثرة بجميع أنواعها ستنتهي؛ وإن الإنسانية ستثور عليها وتنتقم منها انتقاما شديدا. إنه لا مستقبل في العالم إلا للإسلام السمح العادل الوسط، وإن طال أجل هذه (الأثرات) وأرخى لها العنان وتمادت في غيها وطغيانها مدة من الزمن.
إن الأثرة - فردية كانت أو عائلية أو حزبية أو طبقية - غير طبيعية في حياة الأمة، وإنها تتخلص منها في أول فرصة. إنه لا محل لها في الإسلام ولا محل لها في مجتمع واع بلغ سن الرشد ولا أمل في استمرارها، فخير للمسلمين وخير للعرب وخير لقادتهم وولادة أمورهم أن يخلصوا أنفسهم منها ويقطعوا صلتهم بها قبل أن تغرق فيغرقوا معها.
ألا إن الفردية آذنت في الشرق أيضاً بالرحيل وبدأت نجومها تهوى، وما هي مسألة زيد وعمرو وإنما هي مسألة عهد ينقضي وفكرة تختفي ومؤسسة تلغى، فليحذر الذين يعيشون عليها أن يواجهوا مصيرا واحدا
أبو الحسن علي الحسني الندوي
شاعر من يوغندا.
. .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
توطئة:
الشيء الذي كنت أنتظره، يوم وجهت ندائي على صفحات المجلات العربية في الجزيرة والمهاجر طالباً من إخواني الشعراء تلك الأصقاع النائية موافاتي بقسم من نتاج قرائحهم وترجمة حياتهم لعرضها على القراء الذي يجهلون كل شيء عنهم في سلسلة مقالات تكشف المستور من نزاعاتهم الحسية، وعواطفهم الجياشة، وأحاسيسهم الملتهبة، لتقدمها (الرسالة) الزاهرة، مجلة الأدب الحي، والشعر الخالد، إلى عشاق الأدب، وجمهرة المثقفين، ولكن بالرغم من مرور ستة اشهر على توجيه دعوتي تلك لم يصلني من شعراء الجزيرة إلا النزر القليل، كأنما تلك الأم الولود عقمت فلم تعد تنجي شاعراً بعد، وكأنما الأرض التي أطلعت نجوم البيان وأعلام الشعر - منذ الجاهلية حتى الآن - استحالت إلى صخور جرداء لا نبت فيها ولا زرع. فإلى جميع من وجهت إليهم ندائي بالأمس، سواء على صفحات (الرسالة أو الأديب أو صوت البحرين أو الصراحة السودانية أو الإصلاح النيويوركية أو العصبة البرازيلية) أكرر عليهم الطلب ثانية. . . وحسبي أن أقدم إليهم اليوم. . أخاً من إخوانهم في هذه الدراسة على أن أتبعها في القريب بدراسة جديدة عن (شعراء القطيف. .)
الشاعر:
هو الزميل الفاضل الأستاذ لطفي جعفر أمان. . ولد في (عدن) في منتصف عام (1928) للميلاد فيكون بذلك قد سلخ من حياته 23 سنة و6 أشهر تقريباً. تلقى دروسه الأولية في مدرسة حكومتها الابتدائية لمدة سبع سنوات. . وفي ذلك العهد الطري المشبع برائحة الطفولة كانت ميوله تتجه اتجاها بدائيا إلى الفنون والأدب؛ كما كان أخوه الأكبر ينصب انصبابا وينكب انكبابا على مطالعة الكتب مع إيثار العزلة وخلق جو شاذ من الانطواء على النفس متخذا من حكمة شاعر الأجيال (وخير جليس في الزمان كتاب) رائداً. . ودليلا. . أما أخوه الثالث فكان يجيد الرسم ويبعثر لوحاته على الجدران وفي الأدراج وبين جوانح
المجلات المصورة. أما أخوهم الرابع فكان يقرض الشعر. . فخلقت هذه الأسرة التي كرست حياتها للفن جوا خاصا للأخ الصغير. . وهيأت له كل شيء لتعده إعداداً أدبياً خاصاً. . ولنستمع إليه وهو يقص علينا أحاسيسه في تلك الفترة. . .
(. . ولن أنسى انزوائي معه - يقصد أخاه الشاعر - فترات طويلة من الصمت أحدق في وجهه التائه أو أغرق معه في موجات السطور التي كانت تتلاطم على الورق وهي تشهد ميلاد شيء اسمه قصيدة. . في ذلك الجو القاتم المضيء بإيحاءات الأدب والفن أولعت بقراءة الروايات بإدمان. . ورسم الصورة بشغف. . وحفظ الشعر بسرعة عجيبة. . وأخذت أنزوي حتى عن ملاعب الصبيان الطبيعية)
ومن هذه الكلمات القصيرة التي اقتطفتها من مذكراته يتبين لنا كيف أن الأسرة نفسها دفعت بالصبي الصغير إلى الأدب بعد أن هيأت له الأجواء. . .
وفي نهاية عام 1941 أتم دراسته الابتدائية وكان من الأوائل فاختارته حكومة عدن مع زميل له لإتمام دراستهما الثانوية والعالية في السودان. وهكذا أشرف عليه عام 1942 بحياة جديدة في أرض غريبة. حيث التحمت الأشواق بالكفاح، وامتزجت الدموع بالعرق. . وترنح العمر اللدن بين التيه والرشاد. . تيه الغربة. . ورشاد العلم.
وأخذت موجة الانتقال من بيئة إلى أخرى تعكس انطباعاتها على الخاطر وتسجل آثارها في الوعي والخيال.
وفي تلك البيئة تعرف بصديق كان له الأثر الفعال في تكوينه الأدبي إذ كانت مدرسة أم درمان الثانوية تنظر إلى هذا الصديق الساخر الكئيب على أنه شاعرها الفيلسوف. . وهذا الصديق هو محمد عثمان جرتلي الذي كان ينشر قصائد في الصحف الأدبية السودانية ويقتني كل ديوان حديث.
وعلى يدي ذلك الصديق الشاعر أخذ مترجمنا الشعر وحفظه وخصوصاً دواوين وقصائد المرحوم علي محمود طه والتيجاني يوسف بشير وفؤاد بليبل، ومحمود حسن إسماعيل. . حيث كان الظلام الملتهب على خلجات أولئك الشعراء يثير في أعماقه أصداء مماثلة ويحمله معهم بعيداً عن فجاج الأرض إلى إشراقات روحية ضافية يحس فيها بأن للحياة. . معنى غير التراب.
وفي عام 1943 أخذ شاعرنا يقول الشعر. وكانت مجلة (فتاة الجزيرة) التي تصدر بعدن. . تحمل بواكيره للقراء. . ثم وسعت له الصحف السودانية صدرها فنشرت له قصائد ومقالات وأقاصيص كما نشرت له الصباح المصرية بعض ألحانه.
وفي أوائل عام 1946 التحق بقسم الآداب بكلية (غردون) الجامعية بالخرطوم بع
حصوله على شهادة (السينير كمبردج) بدرجة ممتازة في اللغة العربية.
وراح شاعرنا الشاب يدرج في محيط الكلية على نمط جديد من الحياة ولم يكن له أي صديق. . . فقد سافر محمد عثمان جرتلي إلى مصر والتحق بكلية الطب بجامعة فاروق الأول بالإسكندرية.
كان كل شيء حوله يبعث على الاكتئاب رغم ضحكات الطبيعة المتألقة على النيل. . وعلى الانزواء رغم صخب المحيط الجامعي ووحدته الاجتماعية. . وهذه الوحدة وهذا الألم النفسي وبعده عن دياره وأسرته زينت له الهروب من الحياة. . من واقعها المؤلم. . فلجأ إلى المطالعة وسماره دواوين شعراء الإمبراطورية الإنجليزية. شيلي. . وبيرون. . وكيتنس. . . ودالامير. . وأوبرت برولا. . ومعظم ما تخرجه المطابع العربية من دواوين.
فقد كان كل مساء يحمل بعض الكتب والأوراق إلى ركن قصي هادئ في (الألبيون هوتيل) بالخرطوم أو إلى (بي كباريه) أو إلى (حديقة المقرن) المشرفة على النيل والغارقة بالحسان والزهور والأقداح. حيث يستلهم الطبيعة الفاتنة أغانيه وألحانه. وهكذا مرت عليه ثلاث سنوات في كلية (غردون) وقبل أن ينال شهادة (الدبلوم) في الآداب بعشرين يوما كانت مطبعة (فتاة الجزيرة) بعدن قد فرغت من طبع ديوانه الأول (بقايا نغم) الذي صدره بهذا الإهداء.
أنت يا من يفيض من صدرك الغض جلال الصليب نوراً عليا
لك مني هذا الذي بين كفيك خفوق بحبك المفقود
نغم ضاع في مجاهل دنياك هياما، وجف إلا بقايا
فاذكريني بها. . فيا، رب ذكراك تعيد المفقود من دنيايا
من أمان، أضعت فيها شبابي
ولهذا الديوان قصة، وها هو ذا الشاعر ذاته يقصها علينا.
(كان ذلك في كلى الآداب حين أحسسن لأول مرة بظمأ الروح للروح، وكانت ذات الصليب تبعث في نفسي ذلك الإحساس الجارف فأصوره لها. . ثلاث سنوات. . ناراً من الحب في روض من الشعر. .)
وقد أنزلت الدموع من أعماقه، وفجرت في آفاقه الظلمة والضياء. . وسحقت أمامه كل أمل لتهيب له أملا خليا لم يكن سوى اليأس، اليأس القاتل الذي يسحق كل شي:
يا خضما جهم الجوانب يجري
…
في مدى مبهم وافق قصي
أي لغز مطلسم في دياجيك. . وسر في لغزك المطوي؟!
كلما لاح لي شراع على الأفق تهادى مثل الشعاع السني
هاج في ناظري تطفل تفسي
…
فتلفت سائلا كالصبي
ما ترى ذلك الذي يقحم الغيب ويمضي إلى مداه الخفي!
وركبت العباب يدفعني منه قوى يردني لقوي
لاحقا بالشراع أستنفذ الهمة في لجة الخضم العصي
وهو ينأي. . وأن يكن حيثما كان. . كوهم في لمحة العبقري
وكان في منتصف كل ليلة ينهض بقوة من بين الكتب والدروس تجتاحه مشاعر عارمة ذات غموض. . فيرتعد وهو يحس بالربد والجوع. . لا يدري ماذا يعمل. وحشة وسكون. . فيمرق من الباب كالشبح عليه وثار من الصوف. . النيل على مقربة عشرين خطوة. . الطريق مقفر إلا من رجال الشرطة. والعسس قابعون تحت الشجر أو سائرين تحت الظلام. . صمت أمامه. . وضجيج في أغواره. . يقطع الجسر الطويل. . إلى أين؟. إلى ما وراء ذلك الجسر. هناك حيث يسند ظهره على عمود الكهرباء وأمامه ي لله. . مسكنها الغارق في الظلام والشجر.
الوقت. سحر. . الفجر قريب.
وتقطع السكون عجلات أول ترام في الفجر فيعود: -
خفقات الزهر في الأسحار للفجر القريب
وانبثاق الأمل المشرق في ليل الغريب
واختلاج النور في المصباح. . عربيد اللهيب
وجراح الشفق الدامي على الأفق الكئيب
كلها معنى بقلبي. من حبيب. لحبيب
يا شموساً روعت بالأمس قلبي بمغيب
أين أنت!!
وتتوالى الليالي. . لا شيء. . كل شيء. . يمضي إلى النيل. . النيل القريب. هناك تحت الشجر ألفته وألفها لا يرضى بغيرها من الأتراب العالقات أوراقها بها فهتف:
من رآني هنا. . شريد خيالات. وهم مجنح الخطرات
أتملى السكون في ظل زهراء
…
حنون مخضلة النغمات
سكبت من دمي. . تسلسل في الليل. فأصغت نوابت الربوات
وجرى النيل. . واقفاً في حنايا الليل ينساب كالشجى في اللهاة
والمصابيح قائمات على الشط. . نجوما مجنونة الومضات
وظلال النخيل أطياف أشباح. . تربصن ي الدجى جاثيات
غبت عن ضجة الحياة، وأطلقت لفكري أعنة السبحات
في دجى مطبق. . وأفق سحيق. . وفضاء محلولك الظلمات
وتصاوير أبدعتها يد الجن. . خفاف. . عربيدة الحركات
في غمار الذهول تبعث في نفسي تهاويل من جنون الحياة
ذكريات تدب في ظلمة اليأس وتنساب في دمي صاخبات
أزهق العمر في يديها نضيرا. . وتهاوى في كهفها أمنيات
من رآني أشيع الحب وحدي. . وهشيم الآمال فوق الرفات
وبعد يا قارئي الكريم أظن أن اليأس بلغ بك منتهاه حينما قرأت هذه اللوعة الدامية التي وصرها لنا شاعر الشاب. . فماذا تريد؟ سأتركك تجتر أنفاسك ببطء. . أو بعمق إن شئت. . ثم هلم معي لنخرج من هذه الكوة المعتمة بالحب واليأس والألم المرير. . وهيا بنا نغلق على الروح الأبواب وننسرب في سراديب الجسد. . حيث نسمع صراخ الدم في العروق:
ههنا في غرفة حمراء. . عابثة الظلام
وفراش رقصت في عطره أحلى الليالي
ههنا أحلام مسحورين: قلب. . وجمال
حلم. . أم سكرة؟ أم نهزة دامت لنا
نحن من نحن. غريبان عن الدنيا هنا
وفي عام 1949 عاد الشاعر إلى مسقط رأسه إلى عدن بعد غياب سبع سنوات لاستقبال حياة جديدة أخرى من العمل والكفاح الوطني. فقد عين مدرسا بمدرسة الحكومة الثانوية كما اشترك محرراً في مجلة المستقبل. . ومحرراً أديباً في (فتاة الجزيرة) وكان ينشر في الأخيرة - وهي أكبر صحيفة في الجنوب قصائد ومقالات بعضها صريحة التوقيع وبعضها مستعارة الاسم تحت رمز (النسر) وقل أن يمضي أسبوع دون أن يتحف قراءه بشيء من الشعر أو النشر. . ثم أخذت مجلة (الأديب) اللبنانية تحمل آثاره للبلاد العربية. .
وفي سنة 1950 كانت الحياة الجافة في عدن قد سودت العيش في عينه فلم يعد يطيق البقاء والصبر. فأحس بشعور الثورة على الأوضاع والنظم القائمة والكهانة وعباد المال. فالتفت كالمجنون: سلسلة جبال بركانية عارية تضج بالجحيم. . وسلالة آدمية كالقبور تتحرك ببله. . ومظالم استبدادية جائرة تنتقل بقفازات من حرير. . وفن موتور مغمور يحترق في قماقم. . وصنف من الرق عجيب. . يبيحه قانون القرن العشرين. . وكل هذا الأوضاع والصور كانت مادة لديوان جديد هو (أغاني البركان). . ومن هذه الأغاني صرخته المؤلمة هذه.
تلفت فلا لمحة من جمال
…
تلفت. فإن الحياة محال
فأني تلفت تلق الجبال
…
جبالا تضج بنار الجحيم
وسكان مقبرة في زوال
حياة. . كحلم الصدا في سراب
…
حياة. . كلفح اللظى في عذاب
حياة. . كثورة جن غضاب
…
لقد أزهق الحق. . يا ويحهم
وديس على الفن فوق التراب
إذا الريح طوعى لسخرتها
…
إذا النار ملكي لأضرمتها
وهذى الجبال لفجرتها
…
براكين تسحق هذى القبور
فأزهو بأني حطمتها
كل شيء لم يكن غير الثورة واليأس: -
فقامت تلم بقايا القوى
…
على هيكل مضمحل الأهاب
وتسحب أنغامها النازفات
…
وتقلع خطوتها باغتصاب
إلى أن محاها شفيف الفضاء
…
وأغوت هداها الفيافي الرحاب
تساقط ثورتها في الرماد
…
وتعشو بصيرتها في الضباب
وقد جمد الكون في نبضها
…
وغاض الجمال بقفر يباب
وأين مضت في غيوم الظلام؟ إلى الخلد؟ لا بل سحيق التباب
مصير الذي فج في نفسها
…
مغاور يأس عتي الرغاب
تسائل عن ذاتها في القبور
…
فتهتف ديدانها بالجواب
ومن حولها. . . كل ما حولها
…
ضجيج ضياع. . وصمت غياب
ثم مضت سنتات. . وفي سنة 1951 حدثت للشاعر حركة انتقال كبرى. . فبعد صراع نفسي واجتماعي عنيف تزوج حيث احتضن إلى حياته العاصفة إشراقة من السماء وجذوة من النفس. فانتقل من بين الأغلال الجبلية في عدن إلى مسكن أنيق في ضاحية (الشيخ عثمان) في فيحاء من الرمال حيث مسير القوافل. . الرعاة في المساء. . وحداء البدو. . فاعتزل المجتمع فترة طويلة إلا ما يعنى بها في مدرسته وبين طلابه.
وآنذاك بغضا الحياة في عدن. . بغضاها معاً. وأحسا أنهما يفقدان شيئا جسيما. . هي (الحرية). . هما يعيشان ولكن في محيط من البارود والأغلال. . فحملا أمتعتهما وحطما أطواق الجبال فجاءة إلى غابات أفريقيا. . إلى يوغنده. . حيث يدير اليوم الشاعر مدرسة إسلامية في (كلمولي) وكان ذلك في نوفمبر من عام 1951.
وهما الآن وحيدان هناك. ليس معهما من جني الدنيا سوى الحب. . غريبان يعيشان على زاد ضئيل جاف من أباديد الذكريات.
وفي مساء بارد ممطر موحش. . حينما وضعت راحتها على كتف شاعرها الغريب بحنان وأجهشت تبكي فراق الأهل فهتف من أعماقه:
نفض المساء ستار نافذتي
…
فترنحت في رعده الهطل
وتعلقت والستر يجذبها
…
بذراع منحل القوى كهل
فنهضت أحميها وقد حضنت
…
أعشى الزجاج بصدر مبتل
وأزحتها عن لوحة خفقت
…
بالأفق خلف الماء والظل
والريح تخبط في مساربها
…
مجنونة بسنابل الحقل
وتجهمت ديم مقرحة
…
سالت مآقيها على السهل
حلك يقطعها الغمير على
…
أرض كأن أديمها يغلي
حتى الطبيعة هاج سادرها
…
وتقلب محزونة. . مثلى
ونبهت إذ لطفت على كتفي
…
كف تمر به على مهل
لما التفت وراعني منها
…
نضو الخال وشاحب الشكل
ألقت على صدري جدائلها
…
ورنت بصمت الدمع كالطفل
وعلى الشفاه تدب رعشتها
…
وتسير في جفنين من ذل
حتى إذا ساءلتها هتفت!
…
نحن الغريبان بلا أهل
وهي كما يقول (من أعز الأبيات إلى نفسه. .)
وبعد أيها القراء فهذه لمحة سريعة لفترة من سباب أبلى وجاهد. . ثم انهار. . وحملته المظالم إلى الهروب. . . والتغرب. وليس هذا بجديد في عصر تتشعوذ فيه القوة بالنسف والتخريب. . . نسف المثل وتخريب مزايا الإنسان. .
هذا ولا أريد أن أودع الشاعر لطفي جعفر أمام دون أن أقدم
لقرائي الأعزاء قصيدته التي نظمها يوم 24111951 في
الباخرة (دتوتر ماسل) وهو في طريق هجرته من عدن إلى
ممباسا ومنها إلى يوغنده وهي بعنوان (شريد)
سوف أمضي. لكن إلى أين. . لا أدري؛ خطا في الظلام تسري جريئه
لي إشراقة من الذات. . من ذاتي أنا. . هذه القتام الوضيئه
عبرت والحياة. . إثم وذنب. . وهي منها. . ولكن ومنها بريئه
كلما أفرغت جمالا وطهرا
…
طفحت بالأثام كاساً مليئه
ويح نفسي ضحية تتردى
…
في خناق التلال. . أية بيئه
أنا في الناس سبحة من طهور
…
فجفتها أنامل من خطيئه
وحدتي. . يا غيوم ظللها الدمع وأخرى في جانبيها أواره
تحتمي بالعذاب في كل قبر نبذ الليل في الدجى أحجاره
وهي في لينها وفي عطرها النامي شباب ونفحة من طهاره
أي شيء تنهد في إثر بلهاء
…
مخلوعة الخطا. . مختاره؟!
أخطايا تنهدت في دماها؟
…
فمضت تنحر الهوى كفاره
أم غرام تلقفته الأماني
…
فسلته. مليحة غداره
شق بي في مجاهل الكون صوت مستفيض الصدى جهلت قراره
أنا في يمة الدجوري ريح. . ودوى. . وومضه وحراره
ولأي الدروب يزجي بي الصوت محثا. مطلسما أسراره
شقوتي أنني على شفة الحسن وفي نبضه الهوى قيثاره
يا غريباً موزعاً كأمانيه. . شريداً كالنجمة المحتاره
غم أشجانه على من الغرب ووارى عن ناظريه بحاره
فمضى والحياة زاد كفاف من نشيد يقتات منه، استعاره
تربأ النفس أن يحط بها الرق. . ويلقي لها النفاق نضاره
فلله هذه النفس الكريمة التي تحمل ما تحمل في سبيل الفن. . والفن الخالص. . وسلا عليك أيها الشباب الذي تناضل وليس وراءك إلا الثقة بالروح الخالدة والأمل بالمستقبل. وفي الأعداد القادمة نماذج جديدة من شعر السودان الحديث. . وإلى اللقاء القريب أيها القراء الناطقون بالضاد.
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
الولاة والعمال في عصر الرسول
للأستاذ عواد مجيد الأعظمي
لقد بحثت في موضوع سابق معنى الولاية، وتطور مفهومها، وصيغتها الفقهية والنظرية، وقد ذكرت في نهاية الموضوع، أني سأتناول الناحية العملية والواقعية في سياسة الولاة والعمال في مختلف عصور التاريخ الإسلامي مبتدأ في عصر الرسول (ص).
لم تكن حكومة النبي (ص) حكومة دينية حسب، بل حكومة سياسية أيضاً (فقد كان (ص) يقود الجيوش، ويفصل في الخصومات ويجبي الأموال) (وأن النبي (ص) كان صاحب دولة سياسية، ورئيس حكومة كما كان رسول دعوة دينية وزعيم وحدة دنيوية) وبهذا كان رسول الله (ص) يجمع في يده بين السلطتين الدينية والدنيوية، (ولا شيء أصوب من جمع محمد (ص) لجميع السلطات المدنية والحربية والدينية في يد واحدة أيام كانت بلاد العرب مجزأة) وقد أكد الرسول (ص) على نظام الشورى في إدارة الأمة الإسلامية الذي جعله يعتمد على اختيار عمال وولاة صالحين يساعدونه في الإدارة (حيث كان يتخير عماله من صالحي أهله، وأولي دينه، وأولي عمله، ويختارهم على الأغلب من المنظور إليهم في العرب، ليوقروا في الصدور، ويكون لهم سلطان على المؤمنين وغيرهم، ويحسنون العمل فيها يتولون، وكان يستوفي الحساب على العمال ويحاسبهم على المستخرج والمصروف)
وقد كان لانتشار الإسلام وتوسعه أثره البين في اختيار الرسول (ص) عمالا وولاة ينوبون عنه، لإرسالهم إلى مختلف أنحاء الجزيرة العربية، وإناطة بعض الأعمال الدينية والمالية بهم. . فيروي المسعودي:(لقد تتابعت اليمن على الإسلام وقدمت على رسول الله (ص) فكتب لهم كتباً بإقرارهم على ما اسلموا عليه من أموالهم وأرضهم، ووجه إليهم عماله لتعريفهم شرائع الإسلام وقبض صدقاتهم وجزية من أقام على دين النصرانية والمجوسية واليهودية).
وإن حاجة حكومة الرسول (ص) إلى المال لإدارة شؤون الدولة الإسلامية اقتضى تعيين عمال يقومون بجبايتها: (وكان رسول الله (ص) قد ولى عمرو بن العاص على صدقات سعد، وعذرة، وجذام وجديس). . كما (وجه عامل البحرين العلاء الحضرمي ألف درهم إلى رسول الله (ص) وهو أول مال حمل إلى المدينة فصرف على الناس). (وكان (ص)
يولي حمل كل مدينة كبيرة بالحجاز واليمن، وكذلك على كل قبيلة كبيرة عاملا من قبله. . وكانت وظيفة هؤلاء العمال هي الإمامة في الصلاة وجمع الصدقات).
هذا إلى أن الرسول (ص) كان يعير انتباها خاصا للشؤون العسكرية، والقضائية، وكان يعتبرها جزءاً أساسيا من واجبات العمال. . (فقد كان للرسول (ص) نقباء كما كان له عرفاء أو رؤساء الجند). . (وجعل الرسول (ص) القضاء جزءاً من الولاية يقوم به الوالي) وإن استقل القضاء فيما بعد كما سترى في الفصول القادمة.
ومما مر - نرى أن اختيار الرسول (ص) للعمال والولاة؛ كان نتيجة حاجة الأمة الإسلامية في إدارة شؤون حياتها المتعددة - دينيا، واقتصاديا، وعسكريا، وقضائيا - ولكن الواضح أن الرسول (ص) لم يعط لهؤلاء العمال صفة سياسية في الأوقات التي كانت ينيبهم عنه في المدينة (فإن الرسول كان ينيب عنه قائدا يقود سرية من السرايا، أو ينيب عنه بالمدينة أحد أصحابه لإمامة الناس والصلاة). . (ولكن لم يكن لهؤلاء العمال صفة سياسية).
وقد فرض الرسول (ص) الرواتب لعماله. . (فقد فرض لعتاب بن أسيد الذي ولاه مكة درهما كل يوم. . فكان هذا الراتب أو لما وضع من الرواتب للعمال) وقد استمر ذلك إلى زمن عمر بن الخطاب حيث قدر الرواتب للعمال بعد تدوين الدواوين وتعيين أرزاق الجند، وأو ما فعل ذلك ما وجه عمار بن ياسر إلى الكوفة وولاه صلاتها وجيوشها فجعل له 600 درهم في الشهر) (كما أجرى على عثمان خمسة دراهم كل يوم).
وكان الرسول (ص) يوصي عماله خيرا، بأتباع سياسة الحق والعدالة، فمما يروى عنه أن قال لمعاذ بن جبل:(إني أحب لك ما أحبه لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تتولين مال يتيم) وهناك أحاديث كثيرة تروى عن الرسول (ص) وجميعها توضح ما يجب على الولاة أتباعه من سياسة العدل والمساواة بين الرعية؛ فمن قوله (ص): (ما من يؤمر على عشرة إلا وهو يأتي يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يكون عمله هو الذي يطلقه ويوثقه).
وقد ورد في الحديث أن النبي (ص) قال: (يؤتى بالولاة يوم القيامة فيقول الله عز وجل أنتم كنتم دعاة خليقتي وخزنة ملكي في أرضي، ثم يقول لأحدهم لم ضربت عبادي فوق الحد الذي أمرت به، فيقول يا رب لأنهم عصوك وخالفوك؛ فيقول لا ينبغي أن يسبق غضبك غضبي، ثم يقول لأحدهم لم عاقب عبادي أقل من الحد الذي أمرت به، فيقول يا رب إني
رحمتهم، فيقول تعالى: كيف تكون أرحم مني، خذوا الذي زاد والذي نقص واحشوا بها زوايا جهنم) وفي الحديث أيضاً قال (ص)(لا يقف أحدكم موقف يضرب فيه رجل مظلوم، فإن اللعنة تنزل على من حضر حيث لم يدفع عنه).
فكهذا كان الرسول (ص) قويا حازما، حريصا على توجيه النصائح والإرشادات لولاته وعماله، حاثا لهم على تطبيق الحق والعدل والمساواة بين الرعية.
بغداد - العراق
عواد مجيد الأعظمي
ميلاد أمة
للأستاذ حامد بدر
كنا نريد الكلام ولا نتكلم. ولنا ألسن؛ لأن على الأفواه أقفالا. وكنا نظلم ويبطش بنا، فلا نستطيع أن نرد الظلم، أو ندفع البطش. ولنا أيد؛ لأن في الأيدي أغلالا؟ وكنا نؤخذ في كل شيء قسرا. فلا نجد مفرا. لأن الحرية ضائعة. والطغيان بالغ منتهاه!
فإذا فاض الإناء. ونفد الصبر. لم يجد الكاتب ما يخفف به من بلائه سوى زفرة حارة يرسلها على القرطاس. في عبارة مقنعة لا يفهمها إلا من يعرف أسرار الرموز. ويفك عقد التعابير. ولا يعرف أسرار الرموز. ويفك عقد التعابير إلا من نزل به هم كهم هذا الكتاب المحزون، أو أصابه جرح كجرح ذلك الفصيح الأبكم!
ولا شك في أن للمظلوم الذي لاذ بالصمت كارها شكاة تسمع ولو لم نطق بها. فليس بين الإله وبين قلوب عباده حجاب. وهو بالمظلومين والظالمين خبير بصير. كما لا شك في أن للظالم جزاء يلاحقه أينما كان. فإن لم يلحقه عاجلا. فلابد أن يلتقي به يوم ما. وإن يوم الفصل الذي أعد له لأبشع وأشنع وأفظع من كل انتقام عاجل يصيبه في الدنيا!
كنت بالأمس لا أستطيع الكلام الصريح. ولي لسان عليه غل. وفي يدي قلم عليه. غل أيضا. فإن حاولت الكتابة لأنفس عن نفسي. وأخفف عن آلامها. أخذت أدور حول الغرض ولا أقربه. ولأني أمقت الدوران. كنت كثيراً ما أطوي الكتاب قبل إتمامه. وأعرض عن الموضوع قبل استيعابه.
كنت أقول في نفسي: إن كل شيء في الصدر مخطوط. وفي الإفضاء بما في الصدر راحة. ولكن كف أسجل شكاتي التي أريدها صريحة ناصعة ولا سبيل إلى ما أردت؟ لن أكتبها مشوهة مبتورة! فالسكوت السكوت!
هكذا كنت أوثر السكوت وأنا مكره. والآن وقد انطلقت الألسن والأقلام. . فما عذري إن لم أتكلم؟
بالأمس كنت مكرها على السكوت. واليوم زالت الأسباب التي من أجلها أردت الكلام. فلا كلام بالأمس. ولا كلام اليوم! والفرق واضح بين سكوت الأسير العاجز، وسكوت الحر القادر، وليس أدل على الرضا من سمت المرء وهو قادر على الإفصاح.
كنت بالأمس أريد التحدث عن الحرية المسلوبة. والحق الضائع. والظلم القائم. واليوم وقد ردت الحرية. وجاء الحق. وذهب الظلم. لا أجد ما يدعوني إلى الكلام.
إن العبرة تذهل من يفكر تفكيراً عميقاً في هذا الحلم الذي حققه بمشيئة الله وقدرته - جيشنا الأمين. وقائده النجيب. وإن نشوة الانتصار تغمر قلب كل مصري، يفيض من الحمد والشكران.
لا أريد اليوم أن أقول شيئاً. فإن الرضا بالحاضر أسكتني. والثقة بأن الزمام في أيدي الأمناء المخلصين الذين خرجوا بنا من الهوة. إنما هي ثقة من يتطلع إلى القمة، فلا شك في أن الخروج من الهوة صعود. والوصول إلى القمة منتظر (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم).
إن كل دقيقة ينفقها الرجل في كلام ضائع. وهو قادر على إنفاقها في عمل نافع. لهي فرصة ضائعة. وإضاعة الفرص المتاحة خيانة وسرقة ومماطلة في حقوق البلاد.
وإنه ليغمرني شعور بالرضا. وراحة الضمير. والشكر لله سبحانه. عندما ينهض الرئيس علي ماهر ليتكلم فيقول: عملنا وفعلنا وقررنا. . وكان غيره يقول: سنعمل وسنفعل. . والفرق كبير جدا بين الوقت الذي أنفقه الرئيس علي ماهر في العمل. والوقت الذي أضاعه غيره في إنشاء الخطب وإذاعتها ونشرها. هذا وقت قليل جدا في حساب الساعات والدقائق. لكنه كثير مبارك. في نتائجه السريعة الناجحة. وذاك وقت كبير جدا في حساب الأيام والسنين. لكنه صغير وتافه. في نتائجه البطيئة الفاشلة.
لو قيل لي: ماذا تتمنى؟ لتمنيت للبلاد رئيسا حكيما مخلصا. وجيشا قويا أمينا يقوده قوي أمين
لو قيل لي: ماذا تتمنى؟ لتمنيت ما كان. فحمداً لله على أن حقق ما تمنيت. فأعطى البلاد خيرا كثيرا يعقد الألسن من العجز عن تصوير معاني الرضا والشكران.
وهب الله البرد الرئيس والقائد اللذين أعدهم لحماية المظلومين من الظالمين. وإقامة الحكم الصحيح المنقذ للبلاد.
فاليوم لا كلام إن لم يكن مسبوقا بالعمل أو مقرونا به. لا كلام إن لم يكن توجيها صالحا أو تشريعا طيبا نافذا.
إن الوقت أصبح غاليا جدا. وكم بذلناه وأفنيناه رخيصا. بل من غير ثمن!
وإذا حق لنشوة النصر أن تدفع القلم ليكتب. فإني أسجل هذه العبارة الموجزة:
ليمض كل مصري في واجبه أمينا مخلصا، فقد أتيح لكل مصري أن يؤدي واجبه من غير التواء ولا انحراف.
حامد بدر
2 - أبو هلال العسكري
بين البلاغة والنقد
للأستاذ عبده عبد العزيز قلقيلة
نشأة النقد ونطوره إلى عهد أبي هلال
لابد للأثر الأدبي في نفوس الناس من صدى يتمثل في استجابة عواطفهم له وتجاوب أفكارهم معه؛ وقد يأخذ مظهر النفور منه والازورار عنه. ونتيجة هذا أو ذاك تلك الآراء والأحكام العامة بالحسن أو القبح، والجودة أو الرداءة. وقد وجد عند العرب منذ الجاهلية نقد أدبي بهذا المعنى لم تكن له أسس أو أصول مقررة، وإنما هو أحكام تقوم أكثر ما تقوم على التأثر والانفعال. حتى إذا كان القرن الأول الهجري اتسع أفق النقد وجنح إلى شيء من الدقة وحاول أن يحدد بعض خصائص الصياغة والمعاني؛ وما كاد هذا القرن ينتهي حتى ارتقى النقد ارتقاء محمودا، وكثرت مواطنه في البادية والحضر.
ثم يكون القرن الثاني فترى طائفتين لهما شأنهما في النقد هما: اللغويون والنحاة. من أمثال أبي عمرو بن العلاء، ويونس بن حبيب، والأصمعي، وأبي عبيدة، والمفضل الضبي. وقد سلك هؤلاء لونا جديداً من النقد تشعبت بحوثه وتنوعت، وعرفت له مقاييس أصول، وابتدأت محاولات النقد المنهجي تظهر.
فهذا (محمد بن سلام الجمحي) الذي عاش في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث يؤلف كتابه (طبقات الشعراء) يتكلم فيه عن الشعر الموضوع، ويبرهن على وجود الوضع بأدلة عقلية ونقلية، ثم يخص إلى فكرته الرئيسية في الكتاب وهي الحديث عن الشعراء وتقسيمهم إلى طبقات، صادرا في تقسيمه هذا عن مبادئ عامة اتخذها أساسا للحكم عليهم هي: كصرة شعر الشاعر وتعدد أغراضه وجودته، متناولا في ثنايا ذلك بعض الظواهر الأدبية وتعليلها من مثل: أثر البيئة في لين اللسان أو غلظه، وفي رقة الشعر أو خشونته، ومن مثل: قلة الإنتاج الأدبي في بعض البيئات وكثرته في البعض الآخر.
أما القرن الثالث فقد كان خصبا حافلا بالرجال والأفكار، إذا انضمت فيه إلى الجداول العربية الأصيلة من التفكير جداول أخرى من المعارف الأجنبية، كان لها أثرها في تشعب
النقد واختلاف مشارب النقاد. فمن لغويين كالمبرد، إلى أدباء مثل عبد الله ابن المعتز، إلى علماء أخذوا نصيبا يسيرا من المعارف الأجنبية يمثلهم الجاحظ وأبن قتيبة؛ إلى آخرين تأثروا كل التأثر بما نقل عن اليونان كقدامة، ومن أهم الكتب التي تصور هذه الاتجاهات كتاب الكامل للمبرد، وكتاب البديع لابن المعتز، والشعر والشعراء لابن قتيبة، والبيان والتبيين للجاحظ، ونقد الشعر ونقد النثر لقدامة
أما كتاب الكامل فيفيض بطاقة كبيرة من النصوص الأدبية المأثورة حتى كانت تعجب الذوق العرب الخالص في ذلك الوقت. ونرى مؤلفه - وهو أديب لغوي نحوي - يعالج هذه النصوص على طريقته العربية الخالصة فيشير إلى ما فيها من (اختصار مفهم أو إطناب مفخم أو لمحة دالة) ويأتي بالأمثلة الكثيرة على (ألفاظ العرب البينة القريبة المفهمة الحسنة الوصف الجميلة الرصف) وعلى (ما يفضل لتخلصه من التكلف وسلامته من التزيد) ثم على (ما يستحسن لفظه ويستغرب معناه ويحمد اختصاره) وهكذا. ويعجب المبرد بالتشبيه، ولذا نراه في الباب 47 ج 2 يطيل في ذكر بعض ما مر للعرب والمحدثين بعدهم منه، ويعلق على الأمثلة بطريقته الخاصة محاولا في ثنايا ذلك أن يلم ببعض النواحي النظرية فيه.
أما كتاب عبد الله بن المعتز فهو الذي حدد خصائص مذهب البديع، وفصلها عما عداها ورد هذه الخصائص إلى التراث العربي القديم. وقد كان لهذا أعظم الأثر في توجيه النقد وجهة تاريخية وحمل النقاد على اتخاذ التقاليد في الشعر مقاييس لهم؛ وكان هذا سببا في أن عظمت العناية بمسألة السرقات الأدبية.
وحين نصحب أبن قتيبة في كتابه (الشعر والشعراء) نرى أنه رفض الأخذ بتقسيمات ابن سلام لأنه لم يؤمن بها؛ بل بحث الموضوع من وجهة نظر عقلية بحتة، ونجح في هذا حتى إذا كان دور التطبيق وعمل الذوق الفني أخفق. وقد تدبر الشعر فوجده أربعة أضرب حسب الحسن والجودة في لفظه ومعناه، ومثل لكل ضرب، وقسم الشعراء حسب ما فيهم من تكلف أو طبع، وبين أن للشعر دواعي تحث البطيء وتعبث المتكلف، وله أوقات يبعد فيها قريبه ويستعصب ريضه ولا يعرف لذلك عله إلا من عارض يعرض على الغريزة، كما أن له أوقات يسرع فيها أتيه ويسمح أبيه. ثم يأخذ أبن قتيبة في الكلام على الشعراء
وترجمة حياتهم.
أما الجاحظ فقد يكون أهم شخصية من شخصيات القرن الثالث، وذلك لأن عمله مزدوج، وقد برز تبريرا ظاهرا سواء في البلاغة أو في النقد. ففي البيان والتبيين يتحدث عن المعاني وتصورها واختلافها في النفوس، وأنها ما لم يعبر عنها موجودة في قوة المعدومة، وإنما تحيا بالتعبير عنها. وكيفية التعبير عن المعاني تجذبه إلى التحدث عن الألفاظ، وإلى المقارنة بينها وبين المعاني، وهذه البحوث من صميم البلاغة. لكنه مع ذلك يلاحظ ملاحظات ويبدى آراء على جانب عظيم من الأهمية في الإنتاج الأدبي ونقده - منها:
(1)
البعد عن الهوى والمحاباة. أي يدعو إلى أن يكون النقد موضوعيا معللا قائما على أسس تبعده عن التحيز والتعصب.
(2)
الطبع والاستعداد. فهو يدعو من يأنس في نفسه ميلا إلى الأدب أن ينمي هذا الميل ويلتمس له النماذج الرفيعة غير متهيب من إساءة، ولا متخوف من نقد.
(3)
رسالة الأدب ويرى أنها خلقية.
(4)
عدم إذاعة الآثار الأدبية قبل التأكد من جودتها.
وسنرى بعد أن هذا العمل المزدوج الذي اضطلع به الجاحظ كان شيئاً طبيعياً اقتضته روح العصر وتلك الحركة العلمية التي كانت في عنفوان نشاطها لكنها كذلك كانت في مراحلها الأولى.
إلى الآن والنقد الأدبي إما عربي صرف؛ أو عربي فيه لمحات خافتة من ثقافة اليونان لكنه عربي القواعد والتطبيق على كل حال. لكن مع هذا النقد أو بعده بقليل (في الربع الأخير من القرن الثالث والثلث الأول من القرن الرابع 275 - 337) ألف قدامة بن جعفر كتابين: أحدهما في نقد الشعر والآخر في نقد النثر على اختلاق في نسبة الثاني إليه.
ذكر في نقد الشعر أنه لم يجد أحداً وضع في نقد الشعر وتخليص جيده من رديئه كتابا مع أن الناس يخبطون فيه وقلما يصيبون. وكأنما ساءه هذا الإهمال وعز عليه أن يضل الناس في نقد الشعر. فوضع في ذلك كتابه، وقد عالج الموضوع على طريقة ظاهرة التأثر بتفكير أرسطو. وأظهر أثر لكتاب الخطابة عند قدامة هو الكلام في الفضائل النفسية التي جعلها أرسطو أمهات الفضائل. فقد نقلها قدامة إلى الشعر وربط معانيه بها وأدعم بينه وبينها
الصلات.
أما نقد النثر فإنه يستدرك به على الجاحظ (الذي لم يوف وصف البيان ولا أتى على أقسامه ولا أتى على أقسامه في هذا اللسان) ولهذا راح قدامة يتكلم عن البيان والقياس والعبارة وما يندرج تحتها من الاستعارة والأمثال وغيرها. بهذا ننتهي من القرن الثالث حتى إذا كان القرن الرابع رأينا حركة النقد تبلغ ذروتها على أيدي الآمدى والجرجاني وأبي هلال حيث تتسع دائرة التاريخ الأدبي وتقسيم الشعراء إلى طبقات.
ويزداد الاهتمام ببحث موضوع التعبير الشعري ومناقشة خصائص الأسلوب القرآني وتظهر الكتب القيمة في جميع هذه النواحي مثل: كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وديوان المعاني لأبي هلال في تحليل البواعث الشعرية وتبويبها، وتتجلى الموازنة بين الشعراء وتحديد منزلتهم الأدبية في كتاب (الموازنة) للآمدى و (الوساطة) للجرجاني. كما يتمثل اقتراح البحوث.
التي بدأها قدامة وأبن المعتز، والبحوث القائمة على سوق الأدبي في كتاب (الصناعتين) موضوع البحث.
تداخل البلاغة والنقد أمر طبيعي: -
سبق القول بأن كلا من البلاغة والنقد يدور حول تحقيق الصدق والقوة والجمال في التعبير الأدبي. وهذا العرض السريع لنشأة كل منها وتطوره يوقفنا على تشابه هذه النشأة بل على وحدة الظروف التي خلقتها.
وإذا فلم يكن من الغريب أن يلتقيا في تطورهما أكثر من مرة على أيدي رجال موزعين بينهما أو قد أحاطوا بهما فتكلموا فيهما على اختلاف في الميل إلى أحدهما أو زيادة في الاهتمام به. وأرى أن طبيعة الثقافة، وحاجة العصر، وتقدم الزمن أو تأخره بالمؤلف؛ كل ذلك شارك في توجيهه ودفعه إلى هذا البحث الخاص من بحوث البلاغة أو من بحوث النقد أكثر مما كان عند هذا المؤلف من دوافع الرغبة والإرادة.
فالمبرد: أديب لغوي ثم هو من صميم العرب ولم تطعم ثقافته بهذا اللون من ألوان الثقافة الأجنبية. ولذا نراه يتكلم في البلاغة والنقد بروح اللغويين، فما جارى اللغة وساير قواعدها فهو الجيد، ولا يحتاج بعد هذا إلا إلى جزالة أو فخامة أو متانة حتى يكون بليغا. والبلاغة
عنده تتراءى من بعيد في الاختصار المفهم والإطناب المفخم واللمحة الدالة وفي التشبيه (الذي لو قال قائل إنه أكثر كلام العرب لم يخطئ).
وأبن المعتز: ذلك الشاعر المطبوع ذو الذوق الخصب والملكة الموسيقية كان أديبا أنيق الصياغة والتصوير، وإلى جانبأيأأألباب هذا كان ذا قدم راسخة في رواية الأدب ونقده. ولقد ألف في ذلك كتاب منها (طبقات الشعراء) و (السرقات). وله في البلاغة والنقد كتاب البديع.
والجاحظ الفحل: بسط جناحيه على معظم مسائل البلاغة والنقد ثم انتفض العبقرية الفن فكان كتابه الخالد (البيان والتبيين).
وقدامة بنقد فيرده النقاد إلى البلاغة، ويتكلم في البلاغة فيرده البلغاء إلى النقاد، وبوسعنا أن نقول. إنه كان ناقدا وكان عالما بالبلاغة ولو أن نقده وبلاغته كانتا بحيث تغلب عليهما روح الفلسفة والمنطق.
وهذا التداخل بين البلاغة والنقد أمر طبيعي بعد ذلك علمنا من تقارب عمليهما وبعد ما كان من توحد بعض المؤلفين فيهما. دعا إلى ذلك وساعد عليه تكتل العلوم وجعلها مجاميع لذلك العهد. فقد كانت هناك علوم الدين من فقه وأصول وتفسير وحديث ووعظ. وعلوم اللسان من متن اللغة وتعريفها واشتقاقها وروايتها وبلاغتها ونقدها. وعلوم التاريخ العام والخاص. وعلوم أجنبية من فلسفة ومنطق ورياضيات. فكان الرجل يشتغل بمجموعة من تلك المجاميع فيشتهر بها ويؤلف فيها؛ بل قد ساعد النشاط العلمي والتنافس بين البيئات المختلفة على إحاطة العالم بعلوم مجموعتين أو ثلاث.
والآن لنتقدم إلى أبي هلال ولنصحبه في كتابه (الصناعتين) لنرى حظ البلاغة منه وحظ النقد.
(يتبع)
عبده عبد العزيز قلقيلة
حول مقال
يقظة الوعي الإسلامي
(إلى الأستاذ محمد عبد الله عنان)
للأستاذ محمد رجب البيومي
أخذ الروح الإسلامي في مدى عشرين عاما يرسل أضواءه المتلاحقة في المجتمع المصري الحديث، حتى أصبح لدينا وعي ديني يحسب حسابه، ويلمس أثره الواضح في كل اتجاه، غير أن طائفة من الكتاب يطبقون عيونهم عما حولهم، فلا يقدرون لهذا التيار العنيف أثره البعيد في اختلاف النظرة، وتحول الرأي، بل يتكلمون عن الدين كما كانوا يتكلمون عنه في مطلع هذا القرن، قبل أن تتبدل الحال غير الحال، حيث أفلح الاستعمار في أداء رسالته التبشيرية ردحاً من الزمن، فرسم للشريعة الإسلامية صورة مخيفة مفزعة تتقوض معها دعائم الحضارة والعمران، وقد أذن الله أن ينجاب ليل الباطل عن النفوس، فأخفق أعداء الإسلام في محاربته، وأسفر صبحه الوضئ بهيجاً ساطعاً، فسار الناس على ضوئه وطالبوا بتحقيق رسالته، وهم لابد واصلون إلى ما يبتغون على يديه من خير وإصلاح.
ولقد كانت القوانين الوضعية تسن في مصر مخالفة روح الشريعة الإسلامية قانونا آثر قانون، ويقابلها الرأي العام في الصحف والأندية مرحبا هاتفا، فإذا اعترض عليهم مسلم مخلص لدينه وعقيدته، رمي بالجمود المتأخر، والرجعية البالية، وقوبل حديثه باستخفاف هازئ وسخرية مريرة، أما الآن فقد تيقظ الوعي الديني في الأمة المصرية تيقظاً يبشر بالخير والسداد، والتف الجمهور الناضج حول الشريعة الإسلامية التفافا متماسكا، وسمع الناس كلمة الدين في حقوق المرأة تدوي عالية قوية، فيذعن لها أصحاب التشريع، ويقف لديها القانون سامعاً مطيعاً، ولكن الرجوع إلى الحق لم يرض فريقاً من الناس فاندفعوا يهاجمون القوانين الدينية هجوماً فاشلا، ويرددون النغمة البالية التي لحنها الاستعمار قديماً لتحول بين الشعب وكرامته، فهم ينذرون الوطن بالتأخر والفشل إذا احتكم لقرآنه في تشريع، أو تبع دينه في مذهب، وقد أدهشني أن أجد الأستاذ محمد عبد الله عنان - مع ما عرف عنه من التعقل والاتزان - يصيح مع هؤلاء الناقمين، فيهجم على قوانين الشريعة
هجوماً ظالما، ويرى في نظمها العريقة تقهقرا لا يليق بمجتمع متحضر مستنير، وسأنقل هنا بعض ما كتبه الأستاذ بالعدد (706) من مجلة الثقافة الغراء دون أن اشوه حديثه بالتلخيص الموجز ليقف القراء على رأيه من أقرب طريق.
يقول الأستاذ:
(والحقيقة أن هذا الاتجاه (نحو الشريعة الإسلامية) خاطئ من أساسه ولا محل على الإطلاق أن يتخذ الدين أساسا لمثل هذا الموضوع، سواء لتوكيد التحريم والإباحة، وإذا كانت مصر دولة إسلامية فليس معنى هذا أنها دولة دينية، أو بعبارة أخرى أنها دولة تطبق أحكام الدين في سائر نواحي الحياة العامة؛ فالنظم الأساسية والقوانين المدنية والجنائية المصرية كلها نظم وقوانين تطبعها الصفة اللادينية).
إلى أن يقول: (فإذا ما تقرر ذلك وهو أن لنظم والقوانين المصرية هي نظم مدنية لا دينية، لأنها هي النظم والقوانين التي توافق روح العصر ومقتضيات الحياة الاجتماعية، فلا محل لأن نجعل الدين حكما في مسائل لا علاقة لها بالدين، ولا تمس العقيدة الدينية ذاتها، ولا محل إذن لنرجع بمطالب المرأة السياسية الاجتماعية إلى أحكام الدين ما دامت هذه مطالب لا شأن بها بالعقيدة).
ثم يقول في النهاية: (فمحاولة النيل من هذه النهضة المباركة (نهضة المطالبة بحقوق المرأة) والرجوع بها إلى الوراء باسم الدين أمر لا يقبله عقل مستنير أو منطق سليم).
ونحن حين ننقل هذا الكلام الجريء لا نرغب أن نعقب عليه بنقد يكشف خطأه للناس، فالناقد المخلص يشرع قلمه حين يخشى استجابة المجتمع لرأي خطير يلتبس فيه الحق بالباطل، ولكن الوعي السائد ينكر بداهة، أن يوجد فرق بين الحكومة الإسلامية، والحكومة الدينية، كما يعتقد الأستاذ، فكل حكومة لا تلتزم شريعة الإسلام فليست إسلامية ولا دينية معاً، ومن الخطأ الواضح أن يعتقد مسلم أن الدين شيء والإسلام شيء آخر، فإذا وجد من يجرؤ على هذا القول في مجتمع رفع الغشاوة عن عينه، فلن يجد من يستمع إليه، ولا حاجة لمن يتعقب كلامه بنقد صريح، إنما لحاجة ماسة إلى من يوقف الكاتب وأمثاله على مدى النشاط الديني الذي أخذ يسيطر على الحياة المصرية سيطرة مباركة ليزن كل كاتب كلامه عن الإسلام بميزان دقيق.
والمدهش الذي لا يتوقعه القارئ من الأستاذ عنان بعد أن كتب هذا الكلام، أنه يتفق مع رجال الدين في هدف واحد، فينادي بحرمان المرأة مما تزعمه لها من الحقوق، ولكنه يرفض أن يكون هذا الحرمان وفق تعاليم الشريعة الإسلامية كما يقول رجال الدين! بل احتذاء وتقليداً لفرنسا وإنجلترا وبلجيكا! إذ أن هذه الدول الغربية قد لزمت الحيطة والأناة حين منحت للمرأة حقوقها السياسية في فترات متباعدة، ولم نفتح لها الباب على مصراعيه مرة واحدة، فالثورة على القوانين الإسلامية وحدها هي التي تشغل بال الأستاذ، وتدفع بع إلى محاربتها دون تردد واكتراث.
ولقد كان اللائق بالكاتب بعد أن تشبث بالقوانين الوضعية واعترف بأنها - وحدها - التي توافق روح العصر، ومقتضيات الحياة الاجتماعية، أن يدافع عنها دفاعا يحببها إلى الذهن المصري الحديث، بعد أن كفر بها كفراً لا مزيد عليه، إذ أنها سيطرت على التشريع المصري حقبة طويلة، ففتحت الطريق للرشوة والظلم والاستبداد، ومحت معاني العزة والحرية والكرامة من النفس، وهذه القضايا السياسية الفاضحة التي تمتلئ بها صفحات الجرائد كل يوم لم تكن غير نتيجة حاسمة لهذه القوانين الآثمة التي تتستر على الخيانة والرشوة والاختلاس والتبذير، حتى فطن المصريون إلى ما تجره الشرائع الغربية من نكبات أليمة على الشرق والإسلام، فأعلنوا الحرب عليها في غير هوادة، وسيأتي اليوم التي تلفظ فيه أنفاسها في الشرق الإسلامي إلى غير رجعة مادام في الشر قرآن يعلن كلمة الله، وجمهور يعتقد أن الحكم بغير شريعة الإسلام ضلال وكفران.
وإذا كانت الدستاير الحديثة التي يؤمن بها الأستاذ عنان تنادي بأن الأمة مصدر السلطات، فلماذا يخالفها الأستاذ مخالفة سافرة فيتحدى الشعور السائد في الجمهور، ويتجاهل ما طرأ على المجتمع من تطور سريع في الرأي والاتجاه؟ ويغمض عينه عن الآلاف المحتشدة التي تنادي بالاحتكام إلى الإسلام؟
إن كان الكاتب في شك مما نقول، فلينظر إلى من يطالبون بشريعة القرآن الآن؟ أهم الأزهريون وحدهم كما كان الحال منذ أعوام؟ أم أن الصفوة المختارة من الشباب الجامعي طلابا وأساتذة يجاهدون في هذا السبيل جهاداً يوشك أن يكلل بالنجاح!
من المسيطرون اليوم على دعوة الإخوان المسلمين؟ أليسوا أعلام القانون وأساتذة التشريع
في مصر! أفينقصهم العقل المستنير الذي يتشبث به الأستاذ عنان، أم أنهم يشاركونه الفقه والتعمق والإنتاج!
لقد كان على الأستاذ الفاضل - وهو كاتب لامع ينشر مقالاته في الصحف اليومية - أن يلحظ ما طرأ عليها من اتجاه ملحوظ نحو الدين، فقد أفردت صفحاتها الواسعة المناقشة المسائل الدينية نقاشاً مسهباً، وتسابقت كل جريدة في تصيد الأبحاث الإسلامية بحثا وراء بحث، ومن أصحاب هذه الصحف من لا يرحبون بتعاليم الإسلام، ولكنهم يملقون الوعي الديني في الأمة، ويودون التحبب إلى القارئ بشتى الوسائل، وفي الكتابة الإسلامية ما يغذي العقول ويشبع الرغبات.
لماذا أصدرت أخبار اليوم كتابا عن محمد، ولماذا أصدرت دار الهلال كتابا يفسر آيات القرآن؟ أكان المهيمنون على الصحيفتين من عشاق الفكرة الإسلامية في يوم من الأيام؟ أم أن الوعي الديني قد أجبرهم على الإذعان لمشيئته، فألقوا إليه السلم طائعين، والتاجر الناجح هو الذي يقدم الثمرة المشتهاة، لتدفق عليه الثراء وتتضخم لديه الأرباح!
هذه هي المحاضرات اليومية المتنوعة، بعلن عنها في الصحف مساء فلماذا يختار الشباب منها ما يمت إلى الإسلام بأقرب الصلات؟ وهذه هي المجلات الإسلامية تتزايد يوماً بعد يوم فلماذا يتكالب عليها القراء رغم ما يحمله غيرها من مغريات اليانصيب والسباق، ورغم ما تتعلق بع الغرائز من صور وأقاصيص!
أليس من المضحك أن يعيش كتابنا الأفاضل في عزلة تامة عن مجتمعهم المتوثب، فهم لا يحسون بما يسوده من تطور وانتقال! فإذا كتبوا إليه أخذوا يرددون ما تعافه الأسماع!
لقد ازدحمت المكتبة العربية بسيل جارف من الكتب الإسلامية التي تناقش الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية على ضوء القرآن؛ فلماذا التهمها القراء في نهم واشتياق، فتعددت طبعات الكتاب الواحد عدة مرات؟ ولماذا خرس دعاة الإثم من الكتاب فلم نعد نسمع بمن يكتبون عن (كبرياء الحب)(ومأساة قلب)(والموجة العذراء)!
إن المستقبل للإسلام دون نزاع، فمن شاء أن يلحق بالركب المجاهد فليحمل قلمه في سبيل العزة والحرية والإيمان، فعما قريب تبدد الغيوم، ويشرق النور المتألق، (يومئذ يفرح المؤمنون، بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم).
محمد رجب البيومي
الأدب واللغة من الكائنات الحية
للأديب محمد عثمان الصمدي
- 3 -
كان هذا كله لأن الذوق الأدبي كان قد تعقد وأصبح موضوعيا إلى أبعد حد، فلا يرضى إلا عن الخصب والغزارة. وهو لهذا يضغط المعاني حين يتذوقها أو يتفهمها ضغطا شديدا. ويختصرها نافيا منها ملم يكن في الجوهر ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وقد يكون من الملائم هنا أن نلم بقول للجاحظ إزاء بيت من شعر أبي نواس وهو وصف كأس.
قرارتها كسرى وفي جنباتها
…
مهاً تدريها بالقسى الفوارس
قال: (نظرنا في شعر القدماء والمحدثين فوجدنا المعاني نقلت. ورأينا بعضنا يسرق من بعض إلا قول عنترة (وخلا الذباب بها فليس ببارح) وقول أبي نواس (قرارتها كسرى) الخ البيت).
وليس يعنينا من قول الجاحظ أسرق المحدثون من القدماء أم لم يسرقوا. . بقدر ما يعنينا نظره إلى المعاني. فهي مهما تلونت وتشكلت وظهرت في أثواب وصور مختلفة متباينة فلن يحول ذلك كله بينها وبين رجوعها إلى مصادرها. أو بينها وبين ذوي قرباها وكل ما تمت إليه بسبب قريب أو بعيد. وما من شك في أن ليس للجاحظ وأمثاله من المثقفين مصدر يحملهم على هذا النظر إلى المعاني إلا ما أشرنا إليه من قبل من الفهم الإجمالي. هذا مع اعتقادنا أن الجاحظ قد أسرف إسرافا شديدا حين عزاها كلها إلى النقل والسرقات.
وكذلك روى أن وراية مسلم بن الوليد وفد على يزيد ين مزيد بقصيدة مسلم المشهورة التي مطلعها.
لا تدع بي الشوق إني غير معمود
…
نهى النهى عن هوى الهيف الرعاديد
فلم يسمح له حاجب يزيد بالدخول. ولكنه عاد فاشرط قبل أن يسمح له بالدخول على يزيد أن ينشده القصيدة. وكان كما قيل للحاجب أدب وفهم. فأنشده القصيدة أو شيئا منها ثم أذن له.
ويهمنا في هذا الخبر أن نتبين إلى أي مدى قد مجت الأذواق والأسماع الكلام المكرور. أو بعبارة أدق قد مجت المعاني المكرورة في أثواب غير الأثواب، وفي صور غير الصور.
فهي لا تخدع بما تعرض فيه المعاني من تغيير للوزن والقافية. ومن تلوين وتصوير. ولكنها كما قلنا تفهم ما يلقى إليها على وجه الإجمال، فإن ظفرت بالطريق المبتكر على هذا النحو في الفهم كما ظفر حاجب يزيد فذاك، وإلا فلا.
وقد كان بودي أن أنقل طرفا من النثر الفني لذلك العصر. ولكني أجتزئ بالتنويه إلى أنه موجز شديد الإيجاز، قد اصطنعت كل الوسائل الفنية لضغطه وتركيزه ووجازته، حتى ليبدو غامضا أو كالغامض في كثير من الآثار. وهو لهذا منطفئ الأديم باهته لا يترقرق عليه بماء. وليس من شك في أن ما آل إليه النثر الفني هو طور طبيعي، وأثر من آثار استجابته للحياة ككل كائن حتى يتأثر بها ويؤثر فيها. ونحو هذا تحديد بعض المعاني على ضوء المعرفة النحوية، كما تقول حين تريد التعظيم:(إنا أرسلنا إليك الكتاب) وقد كان حسب المرسل إليه أن يفهم أن الكتاب قد صار إليه والسلام. ثم لا يعينه التعظيم في كثير ولا قليل، بل لم يكن يخطر على بال. ولقد رأينا من اجل ذلك عالما كبيرا كابن قتيبة يشكو أحر الشكوى مما انتهت إليه اللغة في ذلك العصر. ثم يؤلف للناس ما ينفعهم في هذا السبيل، وما يقوم من أيديهم وألسنتهم، وما يبصرهم بدقائق اللغة، ويحدد لهم ما في مفرداتها من فروق. وحسبنا أن نشير إلى هذه العبارة له حيث يقول:
فإني رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين، ومن اسمه متطيرين. ولأهله كارهين. أما الناشئ منهم فراغب عن التعليم. والشادي تارك للازدياد. والمتأدب في عنفوان الشباب ناس أو متناس ليدخل في جملة المجدودين، ويخرج عن جملة المحدودين.
ولفظة الأدب في عبارة أبن قتيبة تعني اللغة وعلومها. فلم يكن لفظ الأدب قد تطور إلى ما نفهمه منه في عصرنا الآن. وكذلك لم يكتف أبن قتيبة بما عاب به آهل زمانه من جهل باللغة وعلومها، بل عاب به أيضا: الأدباء وكتاب الدواوين. وأولئك كما يقول الجاحظ خير ممن سواهم علما وبصرا وكتابة. . قال أبن قتيبة:
(فأبعد غايات كاتبنا في كتابته أن يكون حسن الخط قويم الحروف. وأعلى منازل أديبنا أن يقول من الشعر أبياتا في مدح قينة أو وصف كأس).
وكذلك يقول في كتاب الدواوين أيضا:
(وأي موقف أخزى لصاحبه من موقف رجل من الكتاب اصطفاه بعض الخلفاء لنفسه.
وارتضاه لسره. فقرأ عليه يوما كتابا وفي الكتاب (ومطرنا مطراً كثر عنه الكلأ) فقال له الخليفة ممتحنا له: وما الكلأ. فتردد في الجواب وتعثر لسانه ثم قال: لا أدري) نعم ضعف العلم العام بمدلولات اللغة، وأصبح الناس يفهمون ما يلقى إليهم على وجه الإجمال، ذلك لأن العقل كان قد سيطر على مصير النثر والنظم. فهو قد هضم كثيرا من ألوان الثقافات، بل لقد أصبح خالقا لها بالقدر الذي أهله له تطوره ونموه بالقياس إلى ما أتاحته له الأنظمة الدينية والسياسية والاجتماعية من حرية وانطلاق. ولقد بلغ من سيطرة العقليان على النفوس أن صار التشدق مصطلحات الفلسفة والمنطق في الأندية والمجتمعات ظرفا وكياسة. وليس ذلك فحسب؛ بل لقد أراد أصحاب المنطق إلى الشعراء أن يشعروا على نحو من حدود الفلسفة والمنطق. هذا وليس رد البحتري على أولئك النفر بمجهول لدى أحد من الباحثين والأدباء. ومن قوله:
كلفتمونا حدود منطقكم
…
والشعر يغنى عن جده كذبه
وبالرغم من البحتري، وبالرغم من كل شيء سرت العقليات إلى الشعر سريانا قويا. حتى ليبدو شعرا بن الرومي في عمومه رواسب عقلية تارة. وجدلا كلاميا تارة أخرى. والبحتري نفسه هو أعظم (موسيقار) في الشعر خلص العقل إلى أدبه في أماديحه الضعيفة التي كان يلفقها لأولئك الذين ليست لهم مآثر خليقة بالذكر والتسجيل. فقد كان يستمدها من العقل حينا، ومن التراث الأدبي حينا آخر. وهو مالا نجد له مثيلا في نضوب الروح فيما سلف من شعر أموي على نحو عام. ورأيي - ولعله أن يكون من الغرابة بمكان في أنفس بعض الناس - أن أماديحه في الخلفاء بوجه عام أضعف من مثيلاتها في القواد والحكام وملوك الأطراف.
وعدا هذا فقد كانت له تأملات شعرية يغلب عليها العقل الخالص دون سواه، ومنذ أن استأثرت العقليات بالسيطرة على الأفئدة والنفوس، تطلع الناس إلى آفاق من المعرفة لم تكن معروفة من قبل. وهذا طور تتحجر معه اللغة، وينظر إليها على أنها وسيلة وليست غاية من الغايات. ولا تبقى لها منزلة الغاية إلا في أنفس المختصين أمثال أبن قتيبة ومن لف لفه من اللغويين والنحاة. وأحب ألا يفهم أحد أن اللغة قد اندثرت وأصبحت أثراً من الآثار في ذلك العهد. كلا. فما إلى هذا أردت، وإنما أقصد إلى سنة التطور، وإلى أن
تيارين من المعرفة قد تعارضاها فأيهما كانت روافده أقوى، ودوافعه أشد، كتب له الظفر، وأصبح سمة من سمات العصر يتميز بها من سائر العهود والعصور. وقد كان إلى جانب اللغويين والنحاة تلك البيئات الأرستقراطية التي انحدرت من أصول عربية خالصة. فهي تعمل على المحافظة على تراث العرب وإنمائه لأنه من مقومات الشخصية العربية في ذلك الحين. وإن يحل بينها وبين الأخذ بأسباب الحياة الجديدة في ذلك الحين أيضاً ولكن هذا شيء وروح العصر شيء آخر.
ومازال العقل يقوى سلطانه ويشتد، حتى ينتهي الأدب إلى شيخوخته في العهد العباسي الثاني. وهنا يتغلغل العقل والفلسفة في الأدب تغلغلا تاما، إذ إنه كان قد تمثل ما هضم من الثقافات، وأحالها إلى أثر من آثاره. ويكفي أن ننظر إلى أبي الطيب المتنبي وإلى أبي العلاء المعري فهما مظهران صحيحان لذلك العصر. وإنما كانا كذلك لأنهما الشاعران اللذان تثقفا بثقافة العصر تثقفا تاما. نعم يكفي أن ننظر إلى هذين الشاعرين لنرى إلى أي مدى تأثر الإنتاج الأدبي بالعقل والفلسفة. وهنا نقطة التحول كما يقولون. وأقف لأسأل القارئ هذا السؤال: إلى أي طور كان يمكن أن يتطور إليه الأدب بعد أن بلغ هذه المرحلة؛ مرحلة العقل؟ أما أنا فأرى أنه أدركته الشيخوخة، وما بعدها غير الموت. فالشعر وهو أعظم مظهر له لا يحتمل من المعاظلات العقلية أكثر مما أحتمل على يدي أبي الطيب المتنبي وأبي العلاء. ولولا ما كان للدين من سلطان لكان من المحتمل أن يتطور الشعر فيه إلى الملحمة. وكنه لم يقع، لأن الملحمة أرقع ما تكون حين تستمد موضوعاتها من الأساطير الوثنية تعالج عليها كثيراً من مشكلات النفوس والعقول والاجتماع في مختلف البيئات والطبقات. وقد قال باحث أن رسالة الغفران للمعري ضرب من الملحمة على نحو من الأنحاء. . ولكن مع هذا هل استطاعت رسالة الغفران التخلص من أغلال الدين؟ من الحق أنها لم تستطع. وما كان لها أن تستطيع.
وإلى هنا نرى من الخير أن نشير إلى ما قاله الباحث الذي ألممنا به في أول البحث. وهو أن اللغة لم تبال بما رزئت به الدولة من تدهور سياسي في القرن الرابع الهجري. وأنا أيضاً أقرر أنها لم تبال. ذلك شعلة الأدب لم تكن قد انطفأت بعد. ولأنها كما قلنا كائن حي لم يكن قد استنفد حياته. ولم تكن شعلة هذه الحياة قد أتت على كل ما قدر لها من وقود. بل
ربما كانت أشد توهجا مما كانت عليه في العهد السابق. شأنها في ذلك شأن الخفقة الأخيرة في السراج.
ولقد يبدو لقصيري النظر أن تعليلنا هذا بسيط بل ساذج. ولكنهم لو ذكروا أن الأدب كائن حي كما بينا آنفا لبدا لهم غير ما يظنون. ونحن ما سقنا هذا البحث من أوله إلى هذه المرحلة؛ وما طرأ على الأدب في أثناء ذلك من تحول وتطور، إلا ليكون كله تعليلا لها. ولننتهي آخر الأمر إلى ما انتهينا إليه من نتائج طبيعية محتومة ليست في حاجة إلى تعليل ولا تحليل. وغلى هذا فقد كان أمام اللغة طور لم يفض بعد إلى غايته، وهو طور الفقه فيها وفلسفتها وتدوينها على نحو أوسع شمولا وإحاطة؟
ومما يزيدنا يقينا بأن الأدب لذلك العهد في الخفقة الأخيرة ما نراه عند شعراء البيئات العربية الموسومة بالمحافظة وعند أشياعها من مغازلة لبعض الألفاظ اللغوية. وإحساسها بها إحساساً شعريا خاصا. وهو طور الشادي المبتدئ الذي يرى في بعض ألفاظ اللغة رنينا وسحراً أخاذاً قويا. أما الفحل فيرى اللفظ مهما عذب وحسن موقعه في السمع فإنه يستمد قوته وجماله من السياق. وأجدر هؤلاء المغازلين للألفاظ بالذكر في نظرنا الشريف الرضى. ولننظر إلى بيته التالي.
يا قلب ما أنت من نجد وساكنه
…
خلفت نجداً وراء المدلج الساري
فإن نجدا وساكنه والمدلج والساري كلها ألفاظ لها إيحاءات خاصة بالشريف الرضى وبأمثاله من الشعراء. ولكن البيت برغم هذا كله قوي رائع. ومصدر روعته فيما أرى أنه حقق المزاج العربي، وما يهدف إليه من شجو وشجن. وإلى هذا فقد حقق غنائية النظم أيضا. وليست هي غنائية الفطرة والسليقة التي ألمعنا إليها في العصر الأموي. وقد يقال إن الشريف الرضى يرمي من وراء الألفاظ إلى مدى أعبد مما نقول. وق يقال إنها عناصر التقليد المنحدرة من التراث الأدبي القديم. وقد يقال غير هذا وذاك. ولكن بشيء من التدقيق لا يسعنا آخر الأمر إلا أن نسلم بما نوهنا به. وقد قلنا من قبل إن الشعر في العصر العباسي الأول كان في عمومه مجرد فن فقط. وفي العصر الذي نحن بصدده قد تطور هذا الفن. وما ظنك بشاعر يقول مقطوعة من الشعر في الغزل ليست بالقصيرة، ثم لا تخرج منها بشيء إلا أن الشاعر يريد أن يقول لمن يغازله (أنت قمر). وأنا أفهم أن هذا من
أغراض الفن. ولكنه تطور على كل حال. وما بعد ذلك غير التفكك والانحلال. وانتقال الشعلة من أيدي الأدباء والشعراء إلى أيدي المفكرين والفلاسفة.
أما بعد. فهذا رأيي أسوقه لوجه الحقيقة كما أعتقد. غير مبال سخط الناس أو رضوان.
تمت
محمد عثمان الصمدي
رسالة الشعر
نهاية ملك
للأستاذ محمود عماد
ومن بعد، لاح بمصر البطل
…
وكان لها راصدا في الأزل
ومصر تجس بطون الليالي
…
ترى أي بطن به قد حمل؟
ويأخذها الحزن من عقمهن
…
وتسشعر اليأس بعد الأمل
ولكن كذاك يطول اصطبار الز
…
مان إذا رام صنع البطل
وأحسبه يقتضيه كثيرا
…
من الجهد حتى يراه اكتمل
لمن هذه الفلك، قد ودعت
…
بغير الدموع وغير القبل؟
وما من دعاء لها يالسلا
…
مة. شأن العزيز إذا ما رحل
تقول لي الشمس: هذا مليك
…
عن النخل في الشط مثلي أفل
نغيب معاً، غير أن مغيبي
…
إلى أجل، وهو غفل الأجل
أجل كان هذا المليك من الش
…
عب ملء القلوب وملء المقل
هنيهة كان على العرش طفلا
…
قصير الذارع، قصير الحيل
فلما استوى الهيثم الغض نسرا
…
قوى الجناح، شديد العضل
تكشف عن عنصر عبقري
…
غلى الشر في كل وكر وصل
مضى ملك الغابة المستبد
…
يحل بها كل مالا يحل
يدان برئ، ويعفى مسيء
…
ويغضب مال، ويخلى محل
ومن قاد جيش رجال يذل
…
ومن قاد سرب نساء يجل
ويعطي الجنود سلاحا يصي
…
بهو ويقي من عليهم يسل
ويلقي بهم للعدو طعاما
…
وبالنصر بعدهم يحتفل
ويقصى البعول لأمر صغير
…
وتغشى البيوت لأمر جلل
ولو عاد بعل إلى البيت يق
…
تل ثم يثاب الذي قد قتل
وهل يعرف الوحوش إلا الفسا
…
د وإلا السفاد إذا ما انتقل؟
لقد غضب الشعب من بعد حلم
…
وثاب إلى رشده واعتدل
وحق على الدهر أن يخلق ال
…
بطولة إن لم يكن قد فعل
فكانت لدى الجيش تزجي الجنو
…
د وتزجي مدافعهم والأسل
وهاجمت الظلم في أوجه
…
وقد ريع من أمرها وأنذهل
وقالت له: انزل عن العرش وارحل
…
فقال: نزلت. وعنه ارتحل
وراحت تسلل من جانب العر
…
ش كل الأفاعي التي قد أظل
وتلدغ صاحبه من بعيد
…
وكم ضربت بهداه المثل
فيا ملكا كان يأخذ كل ال
…
سفائن غضباً، وقالوا عدل
لقد أخذتك السفينة غصبا
…
وجنس الجزاء كجنس العمل
فسر عن بلاد أسأت إليها
…
أما كنت عنها تجب النقل
وعم فوق بحرين، بحر الورى
…
وآخر من مقلتيك أنهمل
عسى تغسل الرجس أن كان من في
…
قرارته الرجس منه اغتسل
وإما حللت غدا أرض قوم
…
سواك عليها الأعز الأجل
وناديت مصر فلم تستجب
…
وألقيت أمراً فلم يمتثل
ولم تبصر الشمس رأد الضحى
…
كما قيل، كالشمس رأد الطفل
فظلمك بدل أبراجها
…
وما كان يرجى لها من بدل
ويا نيل إن كنت من بعد هذا
…
ستترع كل فم قد نهل
سواء لديك طهور اللعا
…
ب، ونجس وبئ يريق العلل
فلا وسعتك صدور الصحاري
…
ولا الغيث في رافديك انهطل
محمد عماد
عرش هوى
للأستاذ محمود غنيم
تكلم أيها القدر المتاح
…
وللأقدار ألسنة فصاح
وحدت عن نهاية كل باغ
…
فإن حديثك الحق الصراح
بربك عظ جبابرة إذا ما
…
تراءى الواعظون لهم أشاحوا
ففي أحداثك الجلي عظات
…
لو اعتبر الطغاة بها استراحوا
أحقابات (رأس التين) حلا
…
تطوقه الكتائب والسلاح
ومن دون الوصول إليه كانت
…
رءوس في الهواء بها يطاح
أحقا أنكر (الفاروق) شعب
…
عراه من الهتاف له بحاح؟
مغاني الملك بات على ذراها
…
يرف لكل ناعبة جناح
وهام المالكون بكل أرض
…
وتلك قصورهم بقيت وراحوا
قصور أوحشت من بعد أنس
…
فما لسنا بساحتها لياح
وقد كانت يباري النجم منها
…
إذا جن الدجى غرف وساح
وكانت كعبة يغدي إليها
…
بأفواج الرعية أو يراح
وكان حجيجها وفدا فوفدا
…
تضيق بهم على سعة (صلاح)
على عتباتها الهامات تحني
…
كما تحني من الطعن الرماح
كأن ترابها مسك ذكي
…
له في أنف لاثمه نفاح
سلوا طير الغصون (بعابدين)
…
أطال به على القصر النواح؟
أم الأعراس في الوادي شجته
…
فكان له مع الوادي صداح
سرير الملك قد أمسى خلاء
…
وقد ذهبت بعاهله الرياح
لئن جزع السرير فرب شعب
…
بمصر قد استخف به المراح
سياج الملك تدبير وعدل
…
- لعمرك - لا مقامرة وراح
وحاشية تحف به ثقات
…
لهم بالعلم والخلق اتشاح
لهم حزم وتجربة ونصح
…
وأعراض نقيات صحاح
وليس العرش للحشرات ظلا
…
ولا من جنده الغيد الملاح
ولن يبقى على الأيام ملك
…
دم الأحرار فيه يستباح
ولا ملك تعبده هواه
…
ولم يكبح لشهوته جماح
تظاهر بالصلاح لناظريه
…
ومن أخلاقه برئ الصلاح
تساق إليه أموال الرعايا
…
وتسلب باسمه الأرض البراح
أيخشى الفقر ذو عرش وتاج
…
تدين له الروابي والبطاح؟
وأقبح ما ترى عرش حريص
…
وتاج لا يزينه السماح
ولن يرجى لشعب بات فيه
…
ولاة الأمر تجاراً فلاح
إذا ما فإن بالدستور شعب
…
فسل عنه أجد أم مزاح؟
فما الدستور إلا عند قوم
…
إذا جار الملوك عليه صاحوا
مضى الزمن الذي ما كان فيه
…
على الأملاك إن ظلموا جناح
فلا ملك تناسل من (أمون)
…
ولا عرش يباركه (فتاح)
حماة النيل أحرزتم لمصر
…
نجاحا لا يضارعه نجاح
قد اجتحتم بثورتكم شرورا
…
وما للشر إلا الاجتياح
تهللت العروبة يوم ثرتم
…
كأن العرب أدركهم (صلاح)
وما كالظلم للثورات زاد
…
ولا مثل الفساد لها لقاح
وكيف يكافح الأعداء شعب
…
وبين الشعب والعرش الكفاح؟
معارك بالثبات كسبتموها
…
ولم تطلق بساحتها قداح
ولا سالت على أرض دماء
…
ولا احمرت من القلق الصفاح
بدأتم أمرها خمسا فأمست
…
على شفة الزمان بها يباح
شفيتم مصر من قرح قديم
…
يعاف لأجله الماء القراح
ألا فاليوم كل عسير أمر
…
يهون وكل إصلاح يتاح
إذا السرطان فارق قلب شاك
…
فليس يضير ناجذه القلاح
حماة النيل من لعثار شعب
…
إذا هو قام أقعده الكساح؟
به مستوزرون إذا ولوه
…
فما للشعب بل لهم الرباح
تجار سياسة وهواة حكم
…
بأحشاء الحمى منهم جراح
تولوا أمره حزبا فحزبا
…
فأطلق للفساد به السراح
إذا استلموا زمام الأمر عاثوا
…
وإن حرموا زمام الأمر ناحوا
يفرقهم على الحكم اختصام
…
ويجمعهم على الحكم اصطلاح
دعوا أمر البلاد يليه قوم
…
لهم ذمم مطهرة وراح
جياد إن دعوا للبذل لكن
…
بأموال البلاد همو شحاح
إذا فاض الثراء بمصر غابوا
…
وإن نزل البلاء بمصر لاحوا
خطونا الخطوة الأولى بمصر
…
وتتلوها بمصر خطى فساح
وألغيت الفروق فلا وسام
…
تزان به الصدور ولا وشاح
تعالى الله. صار لمصر وعي
…
وآذن ليلها وبدا الصباح
محمود غنيم
حفنة رماد.
. .
للأستاذ عبد اللطيف الشهابي
(. . إلى الجذوة الخالدة، الغافية تحت الرماد!.)
لملمت أشلائي وأحرقتها
في مجمر الأيام
وفي لهيب الروح طهرتها
من وصمة الآثام
تحت رماد الشوق أخفيتها
في معبد الأحلام
وهذه الأطياف هدهدتها
على صدى الأوهام
في اللذة الهوجاء لعنة شيطاني
في الجذوة الحمراء! ثورة نيراني
جبلت كأسي في رماد السنين
في خمراً أتراحى
وفي دروبي، في كهوف الحنين
أطفأت مصباحي
وفي عذاب الضارع المستكين
نادمت أشباح
لكنني. . على صخور اليقين
حطمت أقداحي
في اللهب المجنون نثار أحلامي
في الحمأ المسنون أغرقت آثامي
عبد اللطيف الشهابي
رسالة النقد
كتاب معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع
تأليف: أبي عبيد البكري الأندلسي
المتوفى سنة 487 هـ
تحقيق الأستاذ مصطفى السقا المدرس في الجامعة المصرية
للأستاذ حمد الجاسر
تم طبع هذا الكتاب القيم، بصدور جزئه الرابع، حاوياً لحرف (الكاف) وما بعدها من الحروف، وفيه فهارس لأسماء البلدان والمواضع، والمياه والجبال، وللأعلام عامة، وللقوافي تقع في اكثر من مأتي صفحة. وضعها ورتبها الأستاذ السقا فزان الكتاب قيمة علمية.
وقد ألمعنا - في كلمة نشرتها هذه المجلة الكريمة عند صدور الجزء الثالث - إلماعة موجزة عن صعوبة نشر المؤلفات القديمة وخاصة ما يتعلق بتحديد المواضع، وأشرنا إلى ما بذله الأستاذ السقا من جهد في سبيل تحقيق هذا الكتاب، وصححنا بعض أغلاط وقعت فيه، ويسرنا أن نرى الأستاذ قد أخذ بكثير من تصحيحنا حينما وضع فهرس الخطأ والصواب، في آخر الكتاب وإن نسب تصحيح تلك الأخطاء إلى المجلة التي نشرت التصحيح ولم ينسبه إلى كاتبه.
وتقديرنا لما بذله الأستاذ من عناية في التحقيق، واعترافا بفضله، لا يحولان بيننا وبين الإشارة إلى شيء من ملاحظاتنا على هذا الجزء، إشارة نقصد من ورائها الخير. من إفادة القراء في تصحيح بعض ما جاء في هذا الجزء، مما هو بحاجة إلى تصحيح.
الملاحظة الأولى:
يعني بتحقيق النصوص؛ الرجوع إلى مصادرها الأولى للتثبت من صحتها، ولوثوق من مطابقتها لما في تلك المصادر والأستاذ السقا - وإن رجع إلى كثير من الكتب التي ألفت في تحديد المواضع وبيانها، وغلى غيرها من الكتب اللغوية والأدبية، إلا أنه قد فاته
الرجوع إلى كثير من الكتب التي استقى البكري مواد كتابه منها. وهذا أمر غريب جدا من أستاذ جامعي، يدرس مناهج التحقيق العلمي، ويؤلف فيه وينقد ويناقش البحوث والمؤلفات وفق قواعده. وها هي الأمثلة.
(1)
في صفحة 1274: (المهجم. . . هو خزار الجبل المتقدم ذكره، قاله الهمداني) كذا. فلنرجع إلى المصدر الأول - وهو الهمداني - لننظر هل قال هذا القول للهمداني - وهو أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب المعروف بابن الحائك المتوفي في سنة 334 تقريبا - مؤلفات، طبع منهم (صفة جزيرة العرب) والجزء الثامن والعاشر من (الإكليل وقد عول البكري على هذين الكتابين ونقل عنهما، وأثر النقل. ومما نقل عن (صفة جزيرة العرب) كلامه هذا في تعريف المهجم، ولكن النقل هنا مبتور ناقص، كقراءة من يقرأ:(فويل للمصلين) ثم يقف. وهاهو نص كلام الهمداني: (ص 171 طبعة ملر، في ليدن وهي الطبعة الوحيدة): (ديار ربيعة، من العروض ونجد: الذنائب، وواردات، وخزاز - ويقال فيه خزازي. وقد يرى قوم من الجهال أن ديار ربيعة بن نزار كانت من تهامة، من سردد، وبلد لعسان من عك، وإن تبعاً أقطعهم هذه البلاد، لما حالفوه، وهذا من الأخبار المصنوعة لأن الملوك أجل من أن تحالف ألعابا، وإنما بنوا هذا الخبر على وهم وهوى، فقالوا في المهجم وهي خزة: خزازي، وفي الأنعوم الأنعمين، وفي الذنبات: الذنائب، وفي العارضة: عويرض). اهـ ملخصا. وتتضح المسألة حينما نعلم أن المهجم واد في تهامة، يصب في البحر، قرب مدينة زييد، وأنه كان يطلق عليه اسم (خزه) ويقارب هذا الاسم (خزاز) وهو اسم لجبل في نجد، بينه وبين المهجم، مفاوز وفيافي، ولهذا الجبل ذكر كثير في أشعار العرب، وله يوم من أيامهم المعروفة، بين القحطانيين، والعدنانين، وقد أورد البكري شيئاً مما ورد فيه، عند ذكر اسمه، فلما عرف المهجم قال بأنه هو خزاز المتقدم، ناقلا عن الهمداني، بل ناسبا القول إليه. اعتمادا على الكلام الذي نقلناه آنفا، والذي قال عنه الهمداني إنه مبني على وهم وهوى، وبهذا النقل المبتور الناقص اختل المعنى، وانعكس القصد.
(2)
وفي صفحة 1171 - نقل عن الهمداني أيضا - يتعلق بمأرب، جله مأخوذ من الجزء الثامن من كتاب (الإكليل) وهذا الجزء مطبوع مرتين؛ مرة في العراق، والأخرى في أمريكا، ولكن الأستاذ السقا لم يرجع إلى هذا الجزء لكي يحقق النص
(3)
لعرام بن الأصبغ السلمي الأعرابي رسالة عن (تهامة وسكانها، وما فيها من القرى والمياه) وقد نقل البكري جل هذه الرسالة، في مواضع متفرقة من كتابه هذا، وصرح بالنقل منها في مقدمة الكتاب، وفي الكلام على (رضوى) وقد نشر هذه الرسالة العلامة المحقق الشيخ عبد العزيز الميمني الهندي، عضو (المجمع العلمي العربي) في (أورتتيل كوليج مجازين التي تصدر في (لاهور، الباكستان) منذ بضع سنوات، وكان خليقاً بالأستاذ السقا الرجوع إلى هذه الرسالة، لتحقيق النقول الكثيرة التي نقلها البكري منها، وقد يكون للأستاذ العذر في عدم إطلاعه عليها، ولكن ياقوت الحموي، نقل جلها في (معجم البلدان) والسيد السمهودي مؤرخ المدينة نقل كثيرا منها في (وفاء الوفا، بأخبار دار المصطفى) و (المعجم) و (وفاء الوفا) مطبوعان ولا غنية لمن يقوم بتحقيق مؤلف في تحديد مواضع بلاد العرب وأمكنتها عن الرجوع إليهما، وإلى أمثالهما. وعدم تحقيق ما نقل البكري من هذه الرسالة سبب كثيرا من الخلط في تحديد المواضع، ومن الغلط في تلك النقول، ومن أمثلة ذلك ما جاء في صفحة 1377:(ورقان بفتح أوله وكسر ثانيه، بعده قاف، على وزن فعلان؛ وهو من جبال تهامة، ومن صدر مصعدا من مكة فأول جبل يلقاه ورقان). وهذا غلط شنيع، فورقان جبل لا يزال معروفا باسمه هذا وهو بعيد عن مكة، وليس أوب الجبال التي يلقاها المصعد منها، بل كل الجبال الواقعة بين مكة والمدينة هي إلى مكة أقرب منه إليها. والبكري نقل الكلام هذا من رسالة عرام، إلا أنه أبدل كلمة (المدينة) بكلمة (مكة) فورقان بقرب المدينة. وجاء في هذه الصفحة:(وأهل الحجاز يسمون السماق الضمخ، وأهل الجند يسمونه (العرتن). والأستاذ السقا يعلم أنه ليس لأهل الجند لغة تقارن بلغة أهل الحجاز، وإن الصواب:(وأهل نجد) كما في رسالة عرام، طبعة الميمنى ص 275 من المجلة، وعلى ذكر اللغة نرى الإشارة إلى أن قول الأستاذ السقا (ص 1271) أنطى؛ بمعنى أعطى، في لغة اليمن. فيه تساهل؛ إذ من المعروف أن هذه اللهجة لا يختص بها اليمنيون، بل يشاركهم فيها بعض العدنانيين، من قيس عيلان وغيرهم، ورياح بن الأشل الذي فسر الأستاذ كلامه غنوي من قيس عيلان، فما معنى حصر تلك اللهجة بآهل اليمن؟
(4)
وفي ص 1352: (تأتي من شمنصير وذروة. . . وبأعلى كلية ثلاثة أجيال صغار، منفردات من الجبال، يقال لها سنابك). ولو رجع الأستاذ إلى رسالة عرام، أو إلى الناقلين
منها غير البكري. لوجد أن كلمتي (ذروة) و (سنابك) مما تصحف على البكري، وإن وصوابهما (ذرة) و (شنائك).
الملاحظة الثانية
يرى القارئ في مقدمتي الجزء الأول، والرابع في هذا الكتاب، تقليلا من قيمة مطبوعة المستشرق وستنفيلد، وثناء على هذه المطبوعة مطبوعة الأستاذ السقا، ومن ذلك، من مقدمة الجزء الرابع:(أرجو أن يكون من ورائها تصحيح لكثير من الأخطاء التي وقعت في تلك الطبعة. . فهرس هذه الطبعة يمتاز بالتقصي الدقيق، الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. . . فهرس الأعلام يمتاز بالاستيعاب والاستقصاء كسابقه، وبأنه لا نظير له في طبعة جونتجن. . . فهرس القوافي ليس له نظير في طبعة جونتجن كذلك، ويمتاز بشموله في دقة كاملة. . . أما ما وقع من المؤلف من خطأ، وكذلك ما وقع في مطبوعة جونتجن فقد أصلحته، ونبهت عليه). للأستاذ السقا أن يصف عمله بالإتقان والجودة، والشمول والإحاطة، فهو جدير بذلك، ولكن الاستنقاص ليس من صفات المنصفين، ومطبوعة جونتجن هي أول مطبوعة من هذا الكتاب انتفع بها الباحثون، وهي على ما فيها من أخطاء - قل أن يسلم من مثلها مطبوع عربي - على درجة عظيمة من الصحة، وطابعها معروف بسعة اطلاعه، وتحريه للصواب، ولو لم يكن من فضله إلا تمهيد السبيل للأستاذ السقا، لكفى سببا لعدم النيل من عمله، إن لم يوجب الثناء عليه، ولعلنا لا نعود الحقيقة إذا قلنا إن كثيرا مما ظنه الأستاذ السقا خطأ في طبعة جونتجن هو الصواب بعينه، وقد ذكرنا شيئا من ذلك في نقدنا للجزئين الأولين، الذي نشرناه، واعتمد عليه الأستاذ في تصحيح الأخطاء، ومن الأمثلة، مما في هذا الجزء:
(1)
ص 1333: (وتجتمع سيول العقيق وبطحان وقناة بالرعابة) وقال الأستاذ في الحاشية: في طبعة جونتجن (الزغابة) وقال: إنه تصحيف. والتصحيف هو ما اختاره الأستاذ، إذ مجتمع سيول تلك الأودية:(الزغابة) بالزاي المضمومة، فغين معجمة، فألف، فباء موحدة فهاء (انظر هذه المادة من (وفا الوفاء ج2)(معاجم اللغة والمواضع).
(2)
ص 1150: (ضم القنان لفقعس سوءاتها) والصواب ما في طبعة جونتجن: (ضمن) - راجع مادة (القنان) من (معجم البلدان).
(3)
وفي ص 1144: (ديار سعد بن هذيم). وقال السقا ابن
ساقطة من طبعة جونتجن والصواب سقوطها، لأن سعد هذا
حضنه عبد حبشي يقال له هذيم، فغلب عليه فقيل: سعد هذيم،
وليس هذيم أباً لسعد. (انظر المقتضب من جمهرة نسب (ورقة
1051 مخطوطة دار الكتب المصرية).
(4)
وفي ص 1227: (المسلح: بكسر أوله. . . منزل على أربعة أميال من مكة). وفي طبعة جونتجن: (أيام) مكان: (أميال) وهي الصواب؛ قال الهمداني - في (صفة جزيرة العرب) ص 185 - : ومن أخذ الجادة من مكة إلى معدن النقرة، فمن مكة إلى البستان 25 ميلا، ومنه إلى ذات عرق 24 ميلا، ومنها إلى الغمرة 20 ميلا، ومنه إلى المسلح 17 ميلا). ا. هـ ملخصا. وهذا من أدق التحديد، في بعد هذا الموضع عن مكة، ومن أوضح الأدلة على أن المسافة بينها وبينه أربع (ليال) لا (أميال)
(5)
وفي ص 1271: (منعج: بفتح أوله، وإسكان ثانيه، بعده عين مهملة مكسورة، وجيم معجمة) وكلمة (معجمة) لا محل لها. إذ كلمة (الجيم) لا مشابه لها من الحروف في صورتها. لكي تميز بالإعجام، وهي ساقطة من طبعة جونتجن.
(6)
وفي ص 1285: (الحضرمي: هو عبد الله بن عماد ابن سليمان) وفي مطبوعة جونتجن (سلمى) ولعلها أصوب. إذ هذا الاسم هو المعروف بين العرب الجاهليين. بخلاف سليمان. فهو وإن اشتهر بين أهل المدن في العهد الجاهلي، قليل بين البدو (وانظر ترجمة (العلاء بن الحضرمي) في الأعلام للزركلي) ولعل في هذا القدر كفاية.
البقية في العدد القادم
حمد الجاسر
البريد الأدبي
حول (علم النبي بالغيب)
نشرت الرسالة الغراء في العدد (998) مقالاً للأستاذ ناصر سعد عن علم النبي بالغيب، ونحن نحمد له جهده الموفق في إيراد تلك الحوادث التي جعل منها شواهد على رأيه، ولكننا لسنا معه في أن النبي ولا غيره يعلم شيئا من الغيب عن طريق العقل أو الروح كسبا نفسيا تتجلى فيه شخصيته، وتبرز عنه إنسانيته، فالقرآن الكريم أثبته لله ونفاه عن غيره في قوله (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً) وعلى لسان النبي في القرآن أيضاً (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) و (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) وغيرها وغيرها، وأخبار الرسول بهذه المغيبات، إنما بوحي يوحى إليه، وليس لنا أن نقول كما قال الأستاذ (إنها بقوة إلهية) حتى نحصر مسائل الغيب على التوفيق من الله، والرسول بشر يوحى إليه، فما ينطق عن الهوى، والقوة البشرية كائنة ما كانت، لا تطول أن تخلص إلى الغيب إلا بإظهار الله، وهذا هو الذي يتساوق مع منطق العقل، مضافا إلى ذلك ضآلة كل ما سوى الله بجانب العلم الإلهي، أما قراءة الأفكار فهي من باب الحدس الذي يعتمد على قوة النفس، وشدة الفراسة، وحدة الذكاء، وحسن الاستدلال ببعض المظاهر الانفعالية على أشياء قد يخطئ الحدس فيها ويصيب، فلا ترقى بحال من الأحوال أن تكون علما مباشراً للحقائق الخفية عن حواسنا الظاهرة والباطنه، ويقال عن عالم الأرواح هذا أو قريب منه، ولتقريب ما أذهب إليه إلى الذهن أو رد فقرات من حديث العلامة المرحوم السيد رشيد رضا في كتابه (الوحي المحمدي) قال:(الغيب ما غاب علمه عن الناس، وهو قسمان (غيب حقيقي) لا يعلمه إلا الله، و (غيب إضافي) يعلمه بعض الخلق دون بعض لأسباب تختلف باختلاف الاستعداد الفطري والعمل الكسبي، ومن أظهره الله على بعض الغيب الحقيقي من رسله، فليس لهم في ذلك كسب، لأنه من خصائص النبوة عير المكتسبة) من هذا يتضح أن الرسول لا يعلم الغيب، وإنما يظهره الله عليه في بعض المسائل تصديقا له، وعونا على أداء رسالته وذلك يلتقي مع المعجزة في غرض واحد، هو ما رأيت، فلو كان يستشف ما وراء الغيب من نفسه لأمكنه أن يتوقى ما حدث له من إيذاء، وما خطر في سبيله من أهوال، ولجانب المصاعب في سبيل رسالته،
ولكنه ككل بشر تعرض لما يتعرض له كل كائن حي، فلم يدن بنبوته إلى مقام الألوهية، ولطالما حدث عن نفسه بهذا وأشباهه، حتى لا يفتن الناس عن دينهم، وما يرمي إليه من إصلاح واعتدال، وقد يقول قائل: أي خطر على الأمة مما تخوض فيه اليوم حتى ولو وصل إلى درجة المعتقدات؟ للناس أن يعتقدوا ما يشاءون فلا ضير على العامة من أي اعتقاد شخصي في مسألة كهذه، وأنا أقول: إن الذي دفعني إلى هذا الاعتراض خوفي الشديد من أناس يحترفون علم الغيب، ويصطنعونه أداة من أدوات العيش، يثرون من طريقه، ويتمتعون من أجله بقدسية وكرامة، في محيط العوام الذين يرتمون على أقدامهم، يستجلونهم المستقبل الغامض، ويستمطرون سحائبهم الجهام، وإن هؤلاء ليتمثلون في (أرباب الطرق) أو بعضهم، و (أهل الكشف) و (ضربات الرمل) ومن لا صلة لهم بدين ولا دنيا، وهم كثير، نعاني منهم الولايات، وهم شر مستطير بما يدعون إليه من تبطل، وما ينشرونه من فساد، فأحر بنا أن نأخذ على أيديهم ونشنها عليهم حربا عوانا، ونبين لهم في وضوح وجلاء أن الغيب محجوب عن النبيين، فكيف بهؤلاء الصعاليك المفاليك الذين لا يدفعون عن أنفسهم ضرا، ولا يرجون لها وقاراً، والدين الإسلامي دين بساطة ووضوح، لا تعقيد فيه، وهو يهدف إلى استقامة أمور الناس، وليس من المصلحة في دين ولا دينا أن يعلم أحد الغيب من دون الله، لئلا ينقلب العالم إلى مهزلة، تخضع للمؤثرات البشرية المتباينة، والتيارات العاطفية المتخالفة، ولئلا يتحكم الناس بعضهم في مصائر بعض، وليترك الأمر لله، يستأثر بعلمه، لتنظيم ملكه على أسس صالحة، من العلم والحكمة والتدبير؛ فهو وحده الذي يمسك السماوات والأرض، والكل بجانب عدله الإلهي سواء فإن أظهر على غيبه أحداً من خلقه، فإنما لتتم حكمته، ويكمل نظامه، ويتسق أمره (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً). . . في مقال الأستاذ ناصر متعة شائقة، ولكن عظمة النبي في أغنى الغنى عن ادعاء علم الغيب له، وبحسب المباحث ليلمس عظمته ويدل عليها، وإن ينهل من معين آيات الله، ويرشف كؤوس السنة النبوية المظهرة فهما حافلان بآيات الآيات في الدلالة على الفضائل والهداية إلى مكارم الأخلاق، التراث الخالد الذي ورثناه عن صفي الله وخاتم أنبيائه الذي أوحى إليه
فيما أوحى: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
محمد محمد الأبشبهي
مدرس ببروة الثانوية
علم النبي بالغيب أيضا
طالعت في (الرسالة) الغراء المقال الذي كتبه تحت هذا العنوان حضرة الأستاذ ناصر سعد، من أدباء العراق، وتعقيبا على ما ذكره الكاتب الفاضل أروي القصة التي أشار إليها القرآن الكريم، في الآية الشريفة:(وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض، فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير) - سورة التحريم - فقد روى عن النبي - صلوات الله عليه وسلامه - أن زوجته (حفصة) قدمت له شرابا من العسل، فاتفقت زوجتاه (صفية) و (وسودة) على أن تقولا له إننا نشم منه رائحة (المغافير) وهي لون من ألوان الصموغ المحلاة. فحرم النبي على نفسه العسل، وأسر إلى زوجه (حفصة) بذلك فلم تكتم (حفصة) حديث النبي الكريم، ونزلت الآية تعتب على الزوجتين فعلتهما. . .
ومن هذا يتضح أن النبي صل الله عليه وسلم كان يلم بعض الإلمام بالغيب. . .
وفي موضع آخر من القرآن الكريم، تنطق الآيات بلسان النبي الأمين فتقول:(ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء). . . وهذه الآية تنفي علم النبي بالغيب، وليس بغريب أن يطلع الله سبحانه وتعالى نبيه على الغيب، وهو الذي أعذق عليه نعمه وفضله، واصطفاه لرسالته العليا، واختاره ليحمل مشاعل النور والإيمان. . . فكان فضل الله عليه كبيراً. . .
سلام عليك أيها النبي الكريم ورجمة الله وبركاته. . .
عيسى متولي
تصحيح ودفع شبهة:
جاه في مقال لي نشر في العدد الماضي من مجلة الثقافة الغراء رداً على مقال نقدي تناول مجموعتي الشعرية (رياح وشموع) جملة (وأنا كشاعر كبير لا أرضى أن أعيش على فتات الماضي) والجملة في الأصل (وأنا كشاعر مجدد لا أرضى أن. . . الخ).
ولست أدري كيف غيرت هذه الجملة بحيث خرجت إلى معنى كله غرور وادعاء أنا بعيد عنهما كل البعد فلعلها إحدى غلطات المطبعة. . .
إن طريق الشعر وعر طويل. . . والمجد الأدبي وليد دراسة. . . وكفاح وصبر، وأنا مازلت في أول الطريق.
كمال نشأت
في روضات الجنات
في ويوم الأحد 19 من ذي القعدة سنة 1371 توفي العالم الجليل الشيخ محمد زاهد الكوثري. ولد بتركيا سنة 1296 ودرس في المدارس الرشدية ثم في أكبر المعاهد الدينية هناك، إلى أن حذق علوم الشريعة فاختير أستاذاً في جامع الفاتح وجامعة استنبول ومعهد التخصص ثم انتقل لمصر وأقام بها وألف كتبا كثيرة وحقق كثيراً من المخطوطات وعلق عليها، ونشر مائة مقالة ونيفا في مختلف البحوث. وكان جزءاً ضخما من الثورة الإسلامية، جمع إلى العلم سمو العالم، وكان نسيج وحده في الوفاء والمروءة والصراحة والإباء، لا يلاين في الحق ولا يضعف في دفع الباطل.
وقد دفن في مدفن الشيخ إبراهيم سليم في شارع رضوان بقرافة الإمام. تغمده الله برحمته وجزاه عن الإسلام خيراً.
محمد شفيق
القصص
وتفضلوا بقبول احترامي
القصصي الروسي سالتيكوف
كانا في قوت ما يشغلان منصبين من مناصب الحومة
وكان كلاهما فارغ الرأس. ومن أجل ذلك وعلى غرة منهما وجدا نفسيهما (يشحنان) إلى جزيرة غير مأهولة كأنما ينقلهما إليها بساط سليمان.
وكانا قد قضيا عمريهما في ديوان حكومي نشأ فيه وتربيا وشابا؛ وكأنما قد ولدا به أيضا. وهما من أجل ذلك لا يعرفان أي شيء لا يتصل بأعمالهما، وكل الذي يعرفانه ينحصر في الصيغ الديوانية المألوفة التي تنتهي بهذه الجملة (وتفضلوا بقبول احترامي).
لكن هذا الديوان ألغي وأقالتهما الحكومة فهاجرا، بعد أن أطلق سراحيهما، إلى شارع بوديشسكايا في بطرسبورج، وكان لكل منهما فيه منزل وطاهية ومعاشه.
ولما استيقظا من النوم في الجزيرة التي (شحنا) إليها، وجدا نفسيهما نائمين تحت لحاف واحد. ولم يفهما بالطبع في البداية ماذا أصابهما؛ فأخذا يتكلمان كمل لو كان الأمر بينهما يجري على عادته.
قال أحدهما: (ما أغرب الحلم الذي رأيته ليلة الأمس يا صاحب السعادة! لقد رأيت في الحلم أني نقلت إلى جزيرة غير مأهولة).
لكنه ما كاد ينطق بهذه الكلمات حتى وثب من مكانه ووثب الموظف الآخر أيضا، وقال في دهشة شديدة:(ولكن أين نحن الآن؟ وهل كان ما رأيناه حلما؟).
ولمس كل منهما الآخر ليستوثق هل هو في حلم أم يقظة. وكان أمامهما المحيط، ووراءهما متسع قليل من الأرض خلفه المحيط أيضا، فبكيا لأول مرة بعد أن ألغى ديوانهما.
ونظر كلاهما إلى الآخر فرآه لا يرتدي إلا قميص النوم وقد علقت في جيده صفيحة عليها رقم. وقال أحدهما: (الآن موعد تناول القهوة، ولكن من لنا بها الآن؟) ثم عاد إلى البكاء وقال: (ما الذي نفعله يا صاحب السعادة؟ إننا لو كتبنا تقريرا فكيف نبعث به؟).
فأجابه الموظف الآخر: (سأخبرك بالذي يجب أن نفعله يا صاحب السعادة: أنا أذهب شرقا وأنت تذهب غربا، ثم نعود إلى الاجتماع هنا، وإذا اهتدى أحدنا إلى رأي تشاورنا فيه)
وهنا اختلفا في تعرف الشرق والغرب وتذكرا قول رئيس الديوان:
(إذا أرت أن تعرف الشرق فاجعل الشمال أمامك، فالذي على يمينك عند ذلك هو الشرق)، ولكنهما لما أرادا أن يعرفا أين هو الشمال اتجها نحو كل الجهات دون أن يهتديا إليه. ولأنهما قضيا كل حياتهما في دار المحفوظات؛ فقد ذهب مجهودهما هذا عبثا
وقال أحدهما: (أرى يا صحاب السعادة أن يذهب أحدنا إلى اليسار والآخر إلى اليمين)
وكان هذا الموظف قد اشتغل فضلا عن عمله في دار المحفوظات بتدريس علم الخط وقتا ما، فهو لذلك أذكى قليلا من صاحبه.
وكان كما اقترح. أما الموظف الذي إلى أليمين فوجد أشجار تحمل كل أنواع الفاكهة؛ وكان بوده لو يستطيع تناول تفاحة، ولكن الثمر كان شديد العلو فلا يستطيع الحصول عليه إلا إذا تسلق الشجر. وقد حاول أن يتسلق إحداها، ولكن ذهبت محاولته سدى. وكل الذي نجح فيه أن مزق قميص نومه.
وألقى نظرة على الماء فرآه ممتلئا بالسمك، فتمنى لو أن كل ما فيه من سمك معروض للبيع بشارع بودشسكايا. ولما مر هذا الخاطر بذهنه جرى لعابه، ومشى في الغابة، فرأى كل أنواع الطيور والأرانب والغزلان فقال:
(يا رب ما أكثر رزقك وما أقل قدرتنا على الحصول عليه!)
واشتدت عليه وطأة الجوع. وعاد إلى المكان الذي اتفق مع صاحبه على لقائه فيه فوجده في انتظاره.
قال: (ماذا وجدت يا صاحب السعادة؟) فأجابه صاحبه: (لم أجد غير عدد قديم من جريدة الوقائع الرسمية): فأخذ يحدثه عما وجده هو. وجلس الموظفان، ثم حاول كل منها أن ينام ولكن خلو معدتيهما من الطعام سبب لهما أرقا شديداً. وكان من أسباب الأرق أيضاً تفكيرهما في المعاش المرتب لكل منهما، وفيما يتقاضاه عنها الآن فيتمتع به دونهما. وكان من أسباب الأرق فضلا عن ذلك تفكيرهما فيما بالجزيرة من سمك وسماني وأرانب وفاكهة وإن ليس في مقدورهما الحصول على شيء منها. قال أحد الموظفين: لا أعرف كيف نعيش هنا؟ إننا حتى لو استطعنا الحصول على طائر فكيف نذبحه وننظفه ونطبخه؟ كيف يحدث كل ذلك؟
فأجابه الآخر: (إنني في الحق لا أفهم كيف يحدث كل ذلك)
ثم عادا إلى الصمت وحاولا أن يناما، ولكن قبل أن تغتمض عيونهما مر سرب من السماني فتخيلاه وهو مقلي على الأطباق. وقال أحد الموظفين:(لقد هممت من شدة الجوع أن آكل حذائي) فأجابه الآخر: إنني سأمتص جوربي).
ونظر كل منهما إلى الآخر نظرة شر كأن نفسه تحدثه بأن يأكل صاحبه؛ ثم صرخ كل منهما صرخة جنونية كأنها عواء الذئب. وقال الموظف الذي اشتغل بالتدريس: أضننا لن ننتظر حتى يحاول أحدنا أن يأكل الآخر) فأجابه: (وكيف نفعل؟ إننا بلا ريب سنلاقي الموت؛ فما رأيك يا صاحب السعادة؟).
قال يجب أن نقطع الوقت بالمحادثة، وإلا فإن واحداً منا سيأكل الآخر لا محالة) فأجابه الموظف الآخر:(ولكن ماذا نقول؟ أبتدئ أنت).
قال الموظف الذي كان مدرسا: (قل لي لماذا تشرق الشمس أولا ثم تغرب)؟ ولماذا لا يكون العكس؟) فأجابه الآخر: (هذا سؤال مضحك يا صاحب بسعاد. إن الشمس تشرق لكي نستيقظ ويذهب كل منا إلى الديوان، ثم تغرب لكي ننام)
قال: (ولكن لماذا لا تفترض العكس فنذهب عند شروق الشمس إلى الفراش فننام ونحلم، وعندما تغرب الشمس. . .) فقاطعه الآخر قائلا: (إن هذا القول لا يستقيم مع التفكير لأن شروق الشمس يحمل الإنسان على الاستعداد للذهاب، كما أن غروبها يحمل الإنسان على طلب العشاء).
وقد أفسدت كلمة العشاء المحادثة لأنها هاجت جنون الموظفين الجائعين، فقال أحدهما:(إن أحد الأطباء قال لي إن الإنسان يستطيع أن يعيش مدة ما بما في جسمه من سوائل. فقال الآخر: (لا أفهم ماذا تعنيه).
قال: (هذا يعني أن في الجسم أنواعا مختلفة من السوائل، وإن بعضها يتحول إلى بعض حتى تصير إلى الخلاصة الغذائية) فقال الآخر: (وماذا يحدث بعد هذا).
قال: (يحتاج الإنسان في النهاية إلى طعام جديد ليتحول إلى الأنواع المختلفة من تلك السوائل) فقال: (إذن فالعبرة كلها بالطعام! لعنة الله على الطعام!).
وأدرك الموظفان أن هذا النوع من الحديث لا يؤدي إلى الغرض الذي يقصدان إليه، بل هو
يزيد من شهوتيهما فقرر أن يتركا الحديث؛ فلما طال بهما الصمت تذكر أحدهما الوقائع الرسمية فتناولها ليقرأ فيها لصاحبه. ولكن انتهت الفقرة الأولى - وهي خبر وليمة رسمية - إلى ذكر أنواع الطعام، فأخذ الآخر منه الجريدة ليقرأ خبراً آخر. وأخذ يقرأ، ولكن الخبر - وهو استكشاف جديد - قد انتهى بإقامة حفلة تكريم، وتناول أيضاً ذكر الطعام.
ودفع بالجريدة إلى صاحبه فقرأ فيها فقرة لا تتعلق بدايتها بالطعام، ولكنها انتهت إلى ذكره أيضا. فأطرق كلا الرجلين وتثاءبا تثاؤبا مؤلما.
ثم برقت عينا صاحب السعادة إذ خطر بباله خاطر سعيد ووقف فجأة ليعلن استكشافه وصاح: (ماذا تقول؟ لقد عرفت السبيل إلى النجاة، فماذا تقول إذا أتينا بخادم؟).
فصاح الآخر: (وكيف نأتي بخادم يا صحاب السعادة وأي صنف من الخدم تجده هنا؟)
فقال: (خادم بسيط كسائر الخدم يستطيع أن يعد لنا الطعام وإن يصيد أسماني والسمك ويطبخهما)
قال: (هذا حسن ولكن كيف نجده؟) فقال: (لماذا إن الخدم موجودون في كل مكان. إننا نقوم فنبحث حتى نجد واحداً منهم. ولابد أن يكون هنا خادم على الأقل)
اطمأن الموظفان إلى هذه الفكر. وقام كل منهما ليبحث عن خادم، وطالت مدة بحثهما، ولكنها لم تذهب سدى، فقد وجدا في النهاية رجلا أسود اللحية على جسمه ثوب من جلد الماعز وهو نائم تحت شجرة كبيرة، فلكزه صاحب السعادة وصاح:(كيف تنام هنا ونحن موظفان نكاد نموت من الجوع قم!)
فنهض الخادم ونظر إلى الموظفين وكان أول ما هم به أن يفر ولكنهما أمسكا بتلابيبه فاستسلم المسكين للقدر المقدر عليه، وصدع بالأمر وتسلق شجرة تفاح فجمع للسيدين الجديدين خير ما فيها، وقطف تفاحة نشوك على الفساد فجلعها لنفسه. ثم نزل عن الشجرة، فجمع مقدارا من البطاطس وأوقد النار بضربة حجرين في وسط هشيم وطبخ البطاطس؛ وفي أثناء ذلك صاد أرنبا فأضافها إلى الطعام، وصاد كذلك زوجا من السماني؛ فأدرك الموظفان مقدار ما لقياه منت السعادة بقرب هذا الخادم. ونسيا أنهما كادا يموتان من الجوع منذ قليل. وقال كل منهما للآخر (ما أسعد حياة الموظف!).
وقال لهما الخادم: (هل أنتما مسروران؟) فقالا: (نعم ونحن نقدر خدماتك).
قال: (فهل تسمحان لي الآن بأن أستريح؟ فقالا: (نعم على شرط أن تأتي لنا بحبل أولا) فذهب وجمع أليافا طويلة لوم يزل يفتلها حتى صنع منها حبلا طويلا متينا فلسمه أليهما وأستأذن في السماح له بالراحة فقيداه بالحبل وأذنا له بأن ينام في ظل الشجرة المجاورة.
وزاد حذق الخادم في تهيئة الطعام فزاد الموظفان بدانة وصحة. وقال أحدهما للآخر وهما يتناولان طعام الإفطار: (ما رأيك يا صحاب السعادة؟ هل تعتقد أن قصة برج بابل قصة رمزية أم قصة واقعية؟).
فقال: (إنها بلا شك قصة واقعية، والدليل على ذلك كثرة ما في العالم من اللغات. وإلا فكيف تنشأ اللغات لولا تبلبل الألسن؟).
قال الآخر: (وهل تعتقد أن قصة الطوفان صحيحة؟) فقال صاحب السعادة: (نعم بغير شك. ودليلها وجود أنواع كثيرة من الحيوان) وتناول عدد الوقائع الرسمية فأخذ يقرؤه للمرة العاشرة من أوله إلى النهاية.
لكن السأم دب إلى نفسيهما، فقد كانا يذكران ثيابهما الرسمية ومعاشهما وطاهييهما في طبرسبورج فتذرف عيونهما الدمع.
وقال أحدهما: لا أعرف كيف شارع بودشسكايا الآن يا صاحب السعادة. فقال: لا تذكرني به فقد كاد يقتلني الحنين إلى الوطن.
قال الآخر: (إن الحياة هنا لذيذة لا عيب فيها، ولكن الحمل يتوق إلى ثدي أمه، ونحن نتوق إلى رؤية بلدنا وإلى ارتداء ثيابنا الرسمية في يوم قبض المعاشات على الأقل.
قال صاحب السعادة: (إن الملابس الرسمية حتى ولو كانت من الدرجة الرابعة تسر الإنسان وتنسيه متاعبه.
واستدعى الموظفان الخادم ليشير عليهما برأي لكي يعودا إلى شارع بوتشسكايا.
فصنع لهما من أشجار الغابة سفينة لن تكن كسائر السفن، ولكنها مجرد أخشاب مربوطة بعضها إلى بعض، وصنع لنفسه مجدافين ليتولى بمفرده تسيير السفينة.
وبدأت الرحلة، فكانا يلعنانه ويلقبانه بأقبح الألقاب كلما ظنا أن حياة اثنين من الموظفين ستتعرض للخطر في سفينة هذا الخادم.
وكان البليدان لا يعملان شيئا في السفينة، فنهض الخادم مع انفراده بالتجديف يهيئ لهما
الطعام مما يصيده من السمك ويشويه حتى بلغت السفينة النهر.
وما كان أسعدهما عندما انتقلت السفينة من بحر البلطيق إلى نهر النيفا، ودخلت السفينة قناة كترينا وهما لا يزالان بها، ولم يخطر ببالهما أن يقطعا بقية المسافة مشيا على الأقدام. وفي النهاية وصلا إلى العاصمة.
كانت سعادتهما سعادة بالغة عندما نزلا من السفينة فجلسا على أقرب مقهى من الشاطئ يشربان القهوة. وفي اليوم التالي لبسا الثوب الرسمي وذهبا لقبض المتجمد من المعاش. ولست أستطيع الإخبار عن مقدر هذا المعاش ولكنهما لم ينسيا الخادم، فقد أهديا إليه زجاجة من الويسكي وخمسة قروش صحيحة. . . تمتع يا خادم.
ع. ن