المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم تفسير القرطبي تفسير الثلاث الآيات الأُول من سورة - التعليق على تفسير القرطبي - عبد الكريم الخضير - جـ ٣

[عبد الكريم الخضير]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير القرطبي

تفسير الثلاث الآيات الأُول من سورة النور

الشيخ / عبد الكريم الخضير

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

سورة النور مدنية بالإجماع، وقوله تعالى:{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [(1) سورة النور] مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر، وكتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة:"علموا نساءكم سورة النور".

لأنها مشتملة على أحكامٍ كثيرة مما يهم النساء، لا سيما في مسائل العفاف والستر والحجاب والاحتياط والقرار في البيوت.

وقالت عائشة رضي الله عنها: "لا تنزلوا النساء الغرف، ولا تعلمونهن الكتابة، وعلموهن سورة النور والغزل"{وَفَرَضْنَاهَا} قرئ بتخفيف الراء ..

وعلى كل حال هذه الأخبار، ويروى مرفوع:((لا تعلموا نساءكم الكتابة)) لكنه ضعيف جداً، فالمرأة فيما يتعلق بالعلم الشرعي، وبما يتعلق بمعرفة الله ومعرفة حقوقه هي كالرجل مطالبة بذلك، وأما ما زاد على ذلك مما يختص بالرجال فلا.

تعلم هذه السورة بالنسبة للنساء أمر مهم جداً، لكن كما ذكر شيخ الإسلام وبعض العلماء أن النساء ميلهن إلى سورة يوسف أكثر من ميلهن إلى سورة النور؛ لأن سورة يوسف قصص متعلقة بهن، وأما بالنسبة لسورة النور فهي أحكام ملزمة لهن، وفي بعضها مشقة عليهن.

{وَفَرَضْنَاهَا} قرئ بتخفيف الراء، أي فرضنا عليكم وعلى من بعدكم ما فيها من الأحكام، وبالتشديد، أي أنزلنا فيها فرائض مختلفة ..

يعني فرّضناها.

وقرأ أبو عمرو: {وفرضناها} بالتشديد: أي قطعناها في الإنزال نجماً نجماً، والفرض: القطع، ومنه فرضة القوس، وفرائض الميراث، وفرض النفقة، وعنه أيضاً:{فرضناها} فصلناها وبيناها، وقيل: هو على التكثير، لكثرة ما فيها من الفرائض ..

فيعود إلى الأول، فيكون فرّضناها هو معنى فرضناها إلا أن هذا البناء خاص بالتكثير، فرضناها: أنزلها في فرائض، لكن: فرّضناها: أنزلنا فيها فرائض كثيرة، فالفرق بينهما حينئذٍ التكثير فقط.

ص: 1

والسورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة، ولذلك سميت السورة من القرآن سورة، قال زهير:

ألم تر أن الله أعطاك سورة

ترى كل ملك دونها يتذبذبُ

وقد مضى في مقدمة الكتاب القول فيها، وقرئ {سورة} بالرفع على ..

نسب البيت إلى زهير، والمعروف أنه للنابغة الذبياني.

وقرئ {سورة} بالرفع على أنها مبتدأ وخبرها {أَنزَلْنَاهَا}

في مقدمة الكتاب تطرق المؤلف -رحمه الله تعالى- إلى تعريف السورة والآية بعد تعريف القرآن.

وخبرها {أَنزَلْنَاهَا} قاله أبو عبيدة والأخفش، وقال الزجاج والفراء والمبرد:{سُورَةٌ} بالرفع؛ لأنها خبر الابتداء، لأنها نكرة لا يبتدئ بالنكرة في كل موضع، أي هذه سورة، ويحتمل أن يكون قوله:{سُورَةٌ} ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة، فحسن الابتداء لذلك ..

لأنها نكرة موصوفة، نكرة موصوفة فهي مفيدة، والممنوع من الابتداء بالنكرة إذا لم تفد، أما إذا أفادت فإنه يجوز الابتداء بها.

ولا يجوز الابتداء بالنكرة

ما لم تفد، كعند زيدٍ نمرة

ويكون الخبر في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [(2) سورة النور]، وقرئ {سورةً} بالنصب على تقدير: أنزلنا سورة أنزلناها، وقال الشاعر:

والذئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرياح والمطرا

أو تكون منصوبة بإضمار فعل أي: اتل سورة، وقال الفراء: هي حال من الهاء والألف، والحال من المكني يجوز أن يتقدم عليه ..

يعني سورةً على النصب حال، أنزلناها سورةً، فالفعل استوفى الفاعل والمفعول، وتكون (سورة) حال من الضمير، صاحبه الضمير، الذي هو الكناية، يسميه كناية هو، والحال من المكني -يعني من الضمير- يجوز أن يتقدم عليه، بخلاف الحال من الاسم الظاهر فإنه لا يجوز أن يتقدم عليه، وعلى كل حال المرجح عند سيبويه النصب من حيث العربية، وعند غيره الرفع، وهو الذي تسنده القراءة.

قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [(2) سورة النور] فيه اثنان وعشرون مسألة ..

ص: 2

يعني هذا في الأصل وإلا فالصواب أن يقال: فيه اثنتان وعشرون مسألة.

الأولى: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} .

طالب: عندي إحدى وعشرون

الشيخ: إحدى وعشرون؟ والواقع؟

طالب: اثنان وعشرون.

الشيخ: اثنتان وعشرون نعم، نلاحظ أن الأصول إحدى وعشرون مسألة عدا. . . . . . . . . اثنتان وعشرون كما هو مثبت، والواقع يشهد بأنها: اثنتان وعشرون.

الأولى: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} كان الزنا في اللغة معروفاً قبل الشرع مثل اسم السرقة والقتل، وهو اسم لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح، بمطاوعتها ..

ما الفائدة من هذا القيد؟ بمطاوعتها؟ يعني لو لم تكن مطاوعة ألا يسمى زنا؟ إذا لم تكن مطاوعة بالنسبة للرجل زنا، وبالنسبة للمرأة؟

طالب: اغتصاب.

الشيخ: نعم اغتصاب، فلا يقام عليها الحد.

طالب: ولا شبهة نكاح؟

الشيخ: شبهة النكاح أن يتزوج امرأة هي أخته من الرضاعة، وهو لا يدري، ولا يعلم، ثم يتبيّن بعد ذلك، هذه شبهة.

وإن شئت قلت: هو إدخال فرجٍ في فرج، مشتهى طبعاً، محرم شرعاً، فإذا كان ذلك وجب الحد، وقد مضى الكلام في حد الزنا وحقيقته، وما للعلماء في ذلك، وهذه الآية ناسخةٌ لآية الحبس وآيةِ الأذى اللتين في سورة النساء باتفاق ..

وبيان ذلك حديث عبادة بن الصامت: ((خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائةٍ والرجم)) هذا بيان، لئلا يقال: كيف تنسخ السنة القرآن؟ والناسخ هو هذه الآية عند أهل العلم، ومنهم من يرى أنه لا مانع من أن تنسخ السنة القرآن، فتكون آية النساء منسوخة بحديث عبادة.

الثانية: قوله تعالى: {مِئَةَ جَلْدَةٍ} [(2) سورة النور] هذا حد الزاني الحر البالغ البكر، وكذلك الزانية البالغة البكر الحرة، وثبت بالسنة تغريب عام على الخلاف في ذلك ..

ص: 3

يمنع بعض العلماء التغريب ويقول: إن فيه ضياع للمرأة والرجل الذي يزني، فإذا أفسد في بلده وهو معروف فيه، ويستحي من أهله وأقاربه، فكيف يصنع إذا غرّب؟ وأيضاً التغريب جاء بالسنة ولم يثبت بالقرآن، وعندهم الزيادة على النص نسخ، والسنة لا تنسخ القرآن، وهذا قول الحنفية، لكن ما دام ثبت الخبر الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام فلا كلام لأحد، وأما ما أبدوه من فساد الزاني أو إفساده بعد تغريبه فعلى الإمام أن يحتاط لأمره، وينظر في أمره، ويحيل بينه وبين ما يريد.

وأما المملوكات فالواجب خمسون جلدة، لقوله تعالى:{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [(25) سورة النساء] وهذا في الأمة، ثم العبد في معناها ..

العبد مقيس على الأمة، الأمة عليها نصف ما على المحصنات من العذاب، والعبد أيضاً عليه نصف ما على الأحرار من الرجال من العذاب، وأبو ثور يقول: لو قيل برجم العبد لقلت به؛ لأن النص ورد في الإماء ولا يرد في الذكور، لأن النص ورد في الإماء فقط ما ورد في الذكور {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وأما الذكور من العبيد ما ورد فيهم شيء، إلا القياس على الأمة، لكن عامة على أهل العلم على التنصيف في الجنسين في الرجال والنساء.

وأما المحصن من الأحرار فعليه الرجم دون الجلد، ومن العلماء من يقول: يجلد مائة، ثم يرجم، وقد مضى هذا كله ممهداً في النساء، فأغنى عن إعادته، والحمد لله ..

في حديث عبادة بن الصامت: ((والثيب بالثيب جلد مائةٍ والرجم)) وهو حجة لمن يقول بالجلد والمعروف عند الحنابلة وجمع من أهل العلم؛ لكن كأن الجمهور على عدم الجلد، لأن الوقائع الخمس التي حصلت في عصره عليه الصلاة والسلام لم يتطرق فيها للجلد، في حديث ماعز:((اذهبوا به فارجموه)) في حديث: ((واغدوا يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)) ولم يذكر فيه الجلد، والجلد ثابت بالنص الصحيح الصريح وثبوته في خبر يغني عن إعادته في كل خبر، ثبت في خبر ملزم وحديث عبادة لا غبار عليه، وهو في الصحيح، وفيه النص على أنه يجلد مائة، وما المانع من أن يجلد مائة ثم يرجم؟.

ص: 4

الثالثة: قرأ الجمهور {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} بالرفع، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي {الزانيةَ} بالنصب، وهو أوجه عند سيبويه، لأنه عنده كقولك: زيداً اضرب، ووجه الرفع عنده: خبر ابتداء، وتقديره: فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني، وأجمع الناس على الرفع ..

في التقدير الذي ذكره: فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني، فيما يتلى عليكم هو قال: خبر ابتداء، صوابه: ابتداء، لأن الخبر الجار والمجرور المتقدم، متعلق الجار والمجرور هو الخبر، حكم الزانية والزاني فيما يتلى عليكم.

وأجمع الناس على الرفع، وإن كان القياس عند سيبويه النصب، وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه، والخبر في قوله:{فَاجْلِدُوا} لأن المعنى: الزانية والزاني مجلودان بحكم الله، وهو قول جيد، وهو قول أكثر النحاة، وإن شئت قدرت الخبر: ينبغي أن يجلدا، وقرأ ابن مسعود: والزانِ بغير ياء ..

ولو قال: يجب أن يجلدا.

الرابعة: ذكر الله سبحانه وتعالى الذكر والأنثى والزاني كان يكفي منهما فقيل: ذكرهما للتأكيد ..

لأن النساء يدخلن في أحكام الرجال، يعني (الزانية والزاني) لو قال: الزاني يكفي، لكنه نص على المرأة كما نص على الرجل في {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [(38) سورة المائدة] للأهمية.

كما قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} ويحتمل أن يكون ذكرهما هنا لئلا يظن ظان أن الرجل لما كان هو الواطئ، والمرأة محلٌ ليست بواطئة فلا يجب عليها حد، فذكرها رفعاً لهذا الإشكال الذي أوقع جماعةً من العلماء منهم الشافعي فقالوا: لا كفارة على المرأة في الوطء في رمضان؛ لأنه قال: جامعت أهلي في نهار رمضان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:((كفر)) فأمره بالكفارة والمرأة ليست بمجامعة ولا واطئة ..

ص: 5

هذا رأيه، عدم ذكر الكفارة بالنسبة للمرأة، أولاً: هذه قضية عين، يعتريها ما يعتريها، يحتمل أن تكون غير مطاوعة فلا كفارة عليها، ويحتمل أنها ألزمت بالكفارة ولم ينقل، لأنه لا يلزم النقل في كل قضية، إذا ثبت الحكم في قضية واحدة يكفي، فإذا ثبت الحكم بالنسبة للرجل، وهو أصل في الباب، والمرأة كذلك أصل إن لم تكن أدخل في الباب منه، ولذا قدمت في الآية:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} لا شك أن إلزام المرأة بما يلزم به الرجل هو الأصل، لأنها مكلفة كتكليفه، ويقع منها الفعل كفعله، فلا فرق بينهما.

لكن إذا نظرنا في الإحصان، ما الذي للمرأة من هذه المادة؟ وما الذي للرجل منها؟ للرجل منها اسم الفاعل (محصنين) وللمرأة منها اسم المفعول:(محصنات) فهل يعني هذا أن الأصل في الباب الرجل وأن المرأة تبع له؟ هو يحصنها فهو الفاعل وهي المفعول، فهو محصن، وهي محصنة، هل يعني هذا أنها لا مدخل لها في هذا الباب؟ يعني إذا قلنا: ضرب زيد عمراً، عمرو ما له علاقة بالباب، مضروب مسكين، ما دخل له في المادة التي هي: الضرب، إنما الضرب وقع من زيد، فإذا قلنا: الرجل محصن، والمرأة محصنة، فهل معنى هذا أن الإحصان جاء من طرفٍ واحد دون الثاني كما في الضرب؟ وهل نقول: الرجل يحصن المرأة والمرأة لا تحصن الرجل أو الإحصان من الطرفين؟ تروا المسألة فيها شيء من الدقة، يعني كأن الإمام الشافعي في عدم إلزام المرأة بالكفارة أن الفعل وقع من طرف واحد، من الزاني فقط، وأما المرأة فلا دخل لها، ولذا يتصور إكراهها، بخلاف الرجل الذي لا يتصور إكراهه على الزنا، يعني مسألة الإحصان هل نستطيع أن نقول أن الرجل محصَن؟ والمرأة محصِنة؟ أو نتبع اللفظ ونقول: الرجل محصِن، والمرأة محصَنة؟

طالب: الآية: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [(187) سورة البقرة]؟

الشيخ: مسألة اللباس باعتبار أن كل واحد منهما ينثني على الآخر كاللباس، هذا ما فيه إشكال، هذا لا علاقة له بالوطء.

ص: 6

يعني هل كون الفعل يقع من زيد على فلانة، على زوجته فلانة، يعني أن المرأة لا علاقة لها بالموضوع، أو أنها هي شقيقته ولها مما يتعلق به مثل ما له؟ يعني استمتاع الرجل أكثر من استمتاع المرأة أو العكس، أو هما سواء؟ هما سواء، لكن الذي يشكل في كون الرجل محصن، والمرأة محصنة؟ قد يقال مثلاً: أن الرجل كونه محصن بما بذله من ماله، وبما سعى به وبجهده من تحصيل هذه المرأة، والمرأة جالسة في بيتها تنتظر من يخطبها فهي محصنة، جاء زيد وبذل لها المال فأحصنها، ولا يعني هذا أنها ليست شريكةً له في الاستمتاع، بل المرأة تستمتع كالرجل، وهذا محسوس، فيلزمها كل ما يلزم الرجل.

طالب: لكن لم يوجبوا الكفارة على المرأة فيمن وطأ زوجته في الحيض، بخلاف فيمن وطأ زوجته في رمضان أوجبوا الكفارة على الاثنين، والعلة واحدة؟.

الشيخ: إيه، لكن في الغالب أن المرأة إذا كانت في الحيض لا تريده، فهمت؟ والذي يريده الرجل فقط.

الخامسة: قدمت {الزَّانِيَةُ} في هذه الآية من حيث كان في ذلك الزمان زنا النساء فاشٍ، وكان لإماء العرب وبغايا الوقت رايات، وكن مجاهرات بذلك، وقيل: لأن الزنا في النساء أعرّ ..

(أعرّ) يعني معرّته أشد، وعاره أعظم، وتبعاته أكثر.

وهو لأجل الحبل أضرّ، وقيل: لأن الشهوة في المرأة أكثر، وعليها أغلب، فصدرها تغليظاً لتردع شهوتها، وإن كان قد ركّب فيها حياء، لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله، وأيضاً فإن العار بالنساء ألحق، إذ موضوعهن الحجب والصيانة، فقدم ذكرهن تغليظاً واهتماماً ..

لا شك أن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وصارت سبباً في فتنة الرجال، فهي السبب الأول في هذا الباب، ولو قرت في بيتها والتزمت ما أمرت به حجاب ما افتتن كثير من الرجال بهن، وفتنة هذه الأمة كفتنة بني إسرائيل في النساء.

السادسة: الألف واللام في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} للجنس وذلك يعطي أنها عامة في جميع الزناة، ومن قال بالجلد مع الرجم قال: السنة جاءت بزيادة حكمٍ فيقام مع الجلد، وهو قول إسحاق بن راهويه والحسن بن أبي الحسن، وفعله علي بن أبي طالب رضي الله عنه بشراحة ..

ص: 7

نعم جلده ايوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، قال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وقد مضى في النساء بيانه، وقال الجمهور: هي خاصة في البكرين، واستدلوا على أنها غير عامةٍ بخروج العبيد والإماء منها ..

يعني عمومها مخصوص {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} مخصوص بالعبيد والإماء، وما دام عمومه دخله التخصيص ضعف، فلا يتناول الثيّب، وإنما هو خاص بالأبكار، لكن النص في هذه المسألة حديث عبادة ((الثيب بالثيب جلدة مائة والرجم)).

السابعة: نص الله سبحانه وتعالى على ما يجب على الزانيين إذا شُهد بذلك عليهما على ما يأتي، وأجمع العلماء على القول به، واختلفوا فيما يجب على الرجل يوجد مع المرأة في ثوبٍ واحد، فقال إسحاق بن راهويه: يضرب كل واحد منهما مائة جلدة، وروي ذلك عن عمر وعلي، وليس يثبت ذلك عنهما، وقال عطاء وسفيان الثوري: يؤدبان ..

نعم، عليهما التعزير، وأما الحد فلا يثبت إلا بالفعل.

وقال مالك وأحمد على قدر مذاهبهم في الأدب، وقال ابن المنذر: والأكثر ممن رأيناه يرى على من وجد على هذه الحال الأدب، وقد مضى في (هود) اختيار ما في هذه المسألة، والحمد لله وحده.

الثامنة: قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} دخلت الفاء؛ لأنه موضع أمر، والأمر مضارع للشرط، وقال المبرد: فيه معنى الجزاء أي: إن زنى زانٍ فافعلوا به كذا، ولهذا دخلت الفاء، وهكذا {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} (38) سورة المائدة.

(أل) هذه التي هي للجنس تقوم مقام (من) فكأنه قال في الآية: من زنا أو زنت فاجلدوا، ومن سرق أو سرقت فاقطعوا.

التاسعة: لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر الإمام ومن ناب منابه ..

ص: 8

وليس ذلك لأحدٍ إلا للإمام، ليس إقامة الحدود إلا للإمام أو من يقوم مقامه من نوابه، والخلاف في العبيد هل يقيد الأسياد عليهم الحدود، كما في حديث:((إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها))؟ فوكل الجلد إلى سيدها، وهل للأب أن يؤدب ولده إذا وقع في هفوةٍ أو زلة من هذه الأمور؟ هل يقيم عليه الحد أو ليس له ذلك؟ الصواب أنه ليس له ذلك، نعم له أن يعزره أما أن يقيم عليه الحد فلا.

وزاد مالك والشافعي: السادة في العبيد، قال الشافعي: في كل جلد وقطع، وقال مالك: في الجلد دون القطع ..

يعني إذا سرق العبد فللسيد أن يقطع يده، وإذا زنا له أن يجلده، هذا عند الشافعي وأما عند مالك ففي الجلد دون القطع.

وقيل: الخطاب للمسلمين، لأن إقامة مراسم الدين واجبة على المسلمين، ثم الإمام ينوب عنهم إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود ..

من أعظم الحِكَم من وجوب تنصيب الإمام والخليفة إقامة الحدود، وإشاعة العدل والمحافظة على الأمن، فلا يتم ذلك إلا بإقامة الحدود، ولذا جاء الوعيد الشديد في ما إذا بلغت الحدود الإمام حينئذٍ فليس له أن يعفو، وليس لغيره أن يشفع، لأنه أمر لا بد منه، وأما تعافي الحدود قبل بلوغ الإمام، والستر فهذا محله عند أهل العلم فيما إذا لم تكثر المنكرات وتشيع، وفيمن لم يعرف بالفواحش وكثرة السوابق، أما من عرف بذلك فلا بد من أن يوقف عند حده، ولذلك شرعت الحدود، وأما بالستر المطلق فلا شك أن هذا صورة من صور الإباحية وتعطيل للحدود، والله المستعان.

طالب:. . . . . . . . .

الشيخ: ما يملك، ما يملكه.

طالب:. . . . . . . . .

ص: 9

الشيخ: يشترط أهل العلم في إقامة الحد: النية، والنية منهم لا تتجه لأنهم غير مطالبين بهذا، الحدود منوطة بالإمام، يشترطون النية في إقامة الحد، فمثلاً: لو أن شخصاً شرب الخمر، وجب عليه الحد وثبت عليه، ثم سجن حتى يقام عليه الحد، فقيل للإمام أنه حاول الهرب من السجن، فقال الإمام: اجلدوه ثمانين جلدة أو مائة جلدة عن محاولة الهرب، ثم شهد آخرون أنه لم يحاول، وتبيّنت براءته، هل يكفي هذا عن الحد أو لا يكفي؟ مقتضى قولهم: وجوب النية أن هذا لا يكفي، هذا لا يكفي لا بد من إقامة الحد عليه، لأن الحد مقصود للشرع، ومع ذلك من شهد عليه يؤدب، ويكون حينئذٍ مظلوم كسائر المظلومين.

العاشرة: أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط يجب، والسوط الذي يجب أن يجلد به يكون سوطاً بين سوطين لا شديداً ولا ليناً، وروى مالك عن زيد بن أسلم: أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط فأوتي بسوط مكسور، فقال:((فوق هذا)) فأتي بسوطٍ جديد لم تقطع ثمرته، فقال:((دون هذا)) فأتي بسوط قد ركب به ولان، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد، الحديث .. ، قال أبو عمر: هكذا روى هذا الحديث مرسلاً جميع رواة الموطأ، ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ بوجه من الوجوه ..

يعني يسند، يعني يتصل.

وقد روى معمر عن يحيى بن أبي كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء، وقد تقدم في (المائدة) ضرب عمر قدامة في الخمر بسوط تام يريد وسطاً ..

يعني قدامة بن مظعون لما شرب الخمر متأولاً، يقول: ما دام ممن آمن واتقى وأحسن فأنه لا يضره شرب الخمر، متأول، وضربه عمر الحد؛ لأنه لو اتقى الله -جل وعلا- ما شرب الخمر، والله المستعان.

الحادية عشرة: اختلف العلماء في تجريد المجلود في الزنا، فقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: يجرد ويترك على المرأة ما يسترها دون ما يقيها الضرب، وقال الأوزاعي: الإمام مخير إن شاء جرد وإن شاء ترك، وقال الشعبي والنخعي: لا يجرد، ولكن يترك عليه قميص، قال ابن مسعود: لا يحل في هذه الأمة تجريد، ولا مد، وبه قال الثوري ..

ص: 10

المقصود أنه يترك عليه ما يستره من ثيابه الذي اعتاد لباسها مما لا يقي دون الضرب، وأما ما زاد على ذلك مما يستعمله بعض ممن يحكم عليه من الجلد فينزع، بعضهم يضعون أشياء على ظهورهم، يلبسون أشياء تقيهم الضرب، مثل هذا تنزع عنهم.

لكن لو جرد، مثلاً شخص عليه كوت يقيه عن البرد، والبرد شديد، وأريد جلده فلو جرد من هذا الكوت أو من هذا البالطو الذي يقيه أو الفنايل الكثيرة الذي بعضها فوق بعض، هو في الأصل إنما لبسها لتقيه من البرد ثم جرد فمرض بسبب هذا التجريد، أو غلب على الظن أنه يتضرر من البرد، يجرد أو لا يجرد؟

طالب:. . . . . . . . .

الشيخ:. . . . . . . . . قد يتعرض للبرد، ما الحكم؟ هو ما لبسها من أجل أن تقيه الجلد، إنما لبسها لتقيه البرد.

طالب:. . . . . . . . .

الشيخ: ما تعود، تعود أنه يلبس خمس فنايل ست فنايل وكوت، وإلا الناس يتفاوتون في هذا، بعض الناس لو خفف قليل مرض، أو يجلد في مكانٍ دافئ؟ يبحث له عن مكان ليس في العراء، محافظةً على الحد، وما يتم به الحد، أما محافظة على مسألة الإعلان هذا أمر مطلوب {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [(2) سورة النور] لكن لا يمنع أن يجلد في مكان يقيه من البرد، ويشهده طائفة.

الثانية عشرة: اختلف العلماء في كيفية ضرب الرجال والنساء، فقال مالك: الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء لا يقام واحد منهما ولا يجزي عنده إلا في الظهر وأصحاب الرأي والشافعي يرون أن يجلد الرجل وهو واقف، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال الليث بن سعد وأبو حنيفة والشافعي: الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجرداً قائماً غير ممدود، إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه، وحكاه المهدوي في التحصيل عن مالك وينزع عنه الحشو والفرو، وقال الشافعي: إن كان مده صلاحاً مدّ ..

على كل حال مسألة كيفية حال المضروب من قيامٍ أو قعودٍ أو مدّ؛ هذه مسألة اجتهادية يختلف فيها أهل العلم، ومع ذلك مرجعها إلى الإمام، وليس المراد بالتجريد أنه يجلد عارياً، لا، يجرد من الثياب الزائدة على قدر ما يستر عورته.

ص: 11

الثالثة عشرة: واختلفوا في المواضع التي تضرب من الإنسان في الحدود، فقال مالك: الحدود كلها لا تضرب إلا في الظهر، وكذلك التعزير، وقال الشافعي وأصحابه: يُتقى الوجه والفرج وتضرب سائر الأعضاء، وروي عن علي وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمةٍ جلدها في الزنا، قال ابن عطية: والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل، واختلفوا في ضرب الرأس، فقال الجمهور: يتقى الرأس، وقال أبو يوسف: يضرب الرأس، وروي عن عمر وابنه فقالا: يضرب الرأس، وضرب عمر رضي الله عنه صبيغاً في رأسه وكان تغزيراً لا حداً، ومن حجة مالك ما أدرك عليه الناس، وقوله عليه السلام:((البينة وإلا حد في ظهرك)) وسيأتي ..

أما صبيغ وضربه في الرأس، فلأنه كان يؤذي الناس بالمسائل الغامضة ويعنتهم في هذا، ومحل مثل هذا الرأس، هذه المسائل والإشكالات إنما محلها الرأس، كما قال بعض العلماء.

الرابعة عشرة: الضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلماً، لا يجرح ولا يبضع، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه، وبه قال الجمهور، وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وأتي عمر رضي الله عنه برجلٍ في حد فأتى بسوطٍ بين سوطين، وقال للضارب: اضرب ولا يرى إبطك وأعط كل عضو حقه، وأتى رضي الله عنه بشارب فقال: لأبعثنك إلى رجلٍ لا تأخده فيك هوادة، فبعثه إلى مطيع بن الأسود العدوي، فقال: إذا أصبحت الغد فاضربه الحد، فجاء عمر رضي الله عنه وهو يضربه ضرباً شديداً، فقال: قتلت الرجل، كم ضربته؟ فقال ستين، فقال: أقِصَّ عنه بعشرين، قال أبو عبيدة: قوله: أقِصَّ عنه بعشرين، يقول: اجعل شدة هذا الضرب الذي ضربته قصاصاً بالعشرين التي بقيت، ولا تضربه العشرين ..

هذه الستين تعادل ثمانين بالنسبة لضرب غيره.

وفي هذا الحديث من الفقه أن ضرب الشارب ضرب خفيف، وقد اختلف العلماء في أشد الحدود ضرباً وهي:

ص: 12

الشارب لما جيء به إلى النبي عليه الصلاة والسلام ضربوه بالجريد والنعال وأطراف الثياب، ومثل هذا يستعمل إذا كانت المعصية غير منتشرة، أو ممن حصلت منه هفوة أو زلة وليس بأهلٍ لذلك، يخفف في أمرها، أما إذا زاد الأمر ولم يكتفِ الناس بالحد، فإنه في مثل هذه الحالة يزاد في العقوبة، في كيفيتها لا في كميتها، يزاد في كيفيتها، فيضرب الشارب في المرة الأولى، ثم يشدد عليه في الثانية، ثم يشدد عليه في الثالثة، ولو قتل تعزيراً في الرابعة كما جاء في حديث معاوية، الحديث كما يقرر أهل الحكم أنه محكم، ومنهم من يرى أنه منسوخ، لكن شيخ الإسلام يرى أنه تعزيز، وأنه إذا لم يرتدع الناس في الحد فللإمام أن يقتل.

الخامسة عشرة: فقال مالك وأصحابه والليث بن سعد: الضرب في الحدود كلها سواء، ضرب غير مبرح ضرب بين ضربين، وهو قول الشافعي رضي الله عنه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: التعزير أشد الضرب، وضرب الزنا أشد من الضرب في الخمر، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف، وقال الثوري: ضرب الزنا أشد من ضرب القذف، وضرب القذف أشد من ضرب الخمر، احتج مالك بورود التوقيف على عدد الجلدات، ولم يرد في شيء منها تخفيف ولا تثقيل عمن يجب التسليم له.

واحتج أبو حنيفة بفعل عمر فإنه ضرب في التعزير ضرباً أشد منه في الزنا، واحتج الثوري بأن الزنا لما كان أكثر عدداً في الجلدات استحال أن يكون القذف أبلغ في النكاية، كذلك الخمر لأنه لم يثبت فيه الحد إلا بالاجتهاد وسبيل مسائل الاجتهاد لا يقوى قوة مسائل التوقيف ..

أما بالنسبة للأربعين فهي الحد، وما زاد على ذلك إلى الثمانين فهي بالاجتهاد، وجمهور أهل العلم على أن الحد ثمانين.

طالب: جلد شخص 480 جلدة

الشيخ: كم؟

طالب: 480 في ست أشهر

الشيخ: هذا حسب عظم الجرم، هذا في التعزير.

طالب: كل شهر ثمانين.

الشيخ: لا لا معه شيء في القضية، الحد معه شيء في القضية.

السادسة عشرة: الحد الذي أوجب الله في الزنا والخمر والقذف وغير ذلك، ينبغي أن يقام بين أيدي الحكام ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم، يختارهم الإمام لذلك ..

ص: 13

لأن غير فضلاء الناس وغير الخيار قد يتواطئون مع هذا المجلود ولا يقومون بالحد كما أمر الله، وأيضاً النكاية بالمحدود أشد إذا حضره خيار الناس ممن إذا حضره السفهاء وغير الأخيار.

وكذلك كانت الصحابة تفعل كلما وقع لهم شيء من ذلك رضي الله عنهم، وسبب ذلك أنه قيام بقاعدةٍ شرعية وقربة تعبدية تجب المحافظة على فعلها وقدرها ومحلها وحالها بحيث لا يتعدى شيء من شروطها ولا أحكامها، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة، فتجب مراعاته بكل ما أمكن.

روى الصحيح عن حضين بن المنذر أبي ساسان قال: شهدت عثمان بن عفان وأتي بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أحدهما حمران: أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ولِّ حارها من تولى قارها (فكأنه وجد عليه) فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده وعلي يعدّ

الحديث، وقد تقدم في المائدة، فانظر قول عثمان للإمام علي: قم فاجلده ..

فقال: يا علي قم فاجلده، وكل الجلد إلى علي، وهو من خيار الناس في ذلك الوقت، فأناب عليّ ابنه الحسن، فقال: الحسن ولِّ حارّها من تولّى قارّها، ما معنى هذا؟ يعني الذي استفاد من الولايات هو الذي يقوم بمثل هذه الأعمال، أما شخص لا علاقة له بالولايات، ولا استفاد منها، ولا أعطي من خيرها ما له علاقة بهذه الأمور، ولّ حارّها من تولّى قارّها، يعني: إذا جاء الضرب دعيتونا، وإذا جاء الهبات والأعطيات للآخرين يتولى هذا من يتولى هذا، والله المستعان.

السابعة عشرة: نص الله تعالى على عدد الجلد في الزنا والقذف، وثبت التوقيف في الخمر على ثمانين من فعل عمر في جميع الصحابة على ما تقدم في المائدة فلا يجوز أن يُتعدى الحد في ذلك كله، قال ابن العربي: وهذا ما لم يتتابع الناس في الشر، ولا احلولت لهم المعاصي حتى يتخذوها ضراوة، ويعطفون عليها بالهوادة ..

يعني: يتساهلون في أمرها، لعل المقصود يتساهلون في أمرها، الهوادة التساهل.

ص: 14

فلا يتناهوا عن منكر فعلوه، فحينئذٍ تتعين الشدة، ويزاد الحد لأجل زيادة الذنب، وقد أتي عمر بسكران في رمضان فضربه مائة، ثمانين حد الخمر، وعشرين لهتك حرمة الشهر، فهكذا يجب أن تركب العقوبات على تغليظ الجنايات، وهتك الحرمات، وقد لعب رجل بصبي فضربه الوالي ثلاثمائة سوط، فلم يغير ذلك مالك حين بلغه، فكيف لو رأى زماننا هذا بهتك الحرمات والاستهتار بالمعاصي والتظاهر بالمناكر، وبيع الحدود، واستيفاء العبيد لها في منصب القضاة؟! لمات كمداً، ولم يجالس أحداً، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ص: 15

قلت: ولهذا المعنى -والله أعلم- زِيد في حد الخمر حتى انتهى إلى ثمانين، وروى الدارقطني: حدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أزهر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وهو يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتي بسكران، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن عنده فضربوه بما في أيديهم، وقال: وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب، قال: ثم أتي أبو بكر رضي الله عنه بسكران، قال: فتوخَّى الذي كان من ضربهم يومئذٍ فضرب أربعين، قال الزهري ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن ابن وبرة الكلبي، قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر قال: فأتيته ومعه عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير وهم معه متكئون في المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك، وهو يقرأ عليك السلام، ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر، وتحاقروا العقوبة فيه، فقال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم، فقال علي: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، قال: فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، قال: فجلد خالد ثمانين، وعمر ثمانين، قال: وكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة ضربه أربعين، قال: وجلد عثمان أيضاً ثمانين وأربعين، ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم:((لو تأخر الهلال لزدتكم)) كالمنكل لهم، حين أبوا أن ينتهوا، وفي رواية:((لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم)) وروى حامد بن يحيى عن سفيان عن مسعر عن عطاء بن أبي مروان أن علياً ضرب النجاشي في الخمر مائة جلدة، ذكره أبو عمر، ولم يذكر سببه.

ص: 16

الثامنة عشرة: قوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [(2) سورة النور] أي لا تمتنعوا عن إقامة الحدود شفقةً على المحدود، ولا تخففوا الضرب من غير إيجاع، هذا قول جماعة أهل التفسير، وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير {وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ} قالوا: في الضرب والجلد، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إقامة حدٍ بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة، ثم قرأ هذه الآية.

والرأفة أرقّ من الرحمة، وقرئ رأفة بفتح الألف على وزن فعلة وقرئ رآفة على وزن فعالى، ثلاث لغات، وهي كلها مصادر أشهرها الأولى من رأف إذا رقَّ ورحم، ويقال: رأفة ورآفة مثل كأبة وكآبة، وقد رأفت به، والرءوف من صفات الله تعالى العطوف الرحيم.

الطالب: هذا أثر أبي هريرة (إقامة حدٍ بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة) ما هو حديث أظن في حديث يا شيخ.

الشيخ: يروى مرفوع وإلا فالأصل أنه موقوف.

التاسعة عشرة: قوله تعالى: {فِي دِينِ اللَّهِ} أي: في حكم الله، كما قال تعالى:{مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [(76) سورة يوسف] أي: في حكمه، وقيل:{فِي دِينِ اللَّهِ} أي: في طاعة الله وشرعه فيما أمركم به من إقامة الحدود، ثم قررهم على معنى التثبيت والحض بقوله تعالى:{إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وهذا كما تقول للرجل تحضه: إن كنت رجلاً فافعل كذا، أي هذه أفعال الرجال.

ص: 17

الموفية عشرين: قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [(2) سورة النور] قيل: لا يشهد التعذيب إلا من لا يستحق التأديب، قال مجاهد: رجل فما فوقه إلى ألف، وقال ابن زيد: لا بد من حضور أربعة قياساً على الشهادة في الزنا، وأن هذا باب منه، وهو قول مالك والليث والشافعي، وقال عكرمة وعطاء: لا بد من اثنين، وهذا مشهور قول مالك، فرآها موضع شهادة، وقال الزهري: ثلاثة؛ لأنه أقل الجمع، وقال الحسن: واحد فصاعداً، وعنه عشرة، وقال الربيع: ما زاد على الثلاثة، وحجة مجاهد قوله تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} [(122) سورة التوبة] وقوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ} [(9) سورة الحجرات] ونزلت في تقاتل رجلين، فكذلك قوله تعالى:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} ..

ويقرر أهل العلم في صلاة الخوف أنها تقوم بثلاثة، بثلاثة إمام وطائفة مع الإمام الذي هو واحد، وطائفة تحرس، ثم إذا صلى بالطائفة التي معه وهو الواحد ركعة ذهب أو أتم على ما جاء في الصور في صلاة الخوف ثم تأتي الطائفة الأخرى التي كانت تحرس وهي واحد، لذا يقرر أهل العلم أن أقل من تقوم به صلاة الخوف الثلاثة.

والواحد يسمى طائفةً إلى الألف، وقاله ابن عباس وإبراهيم، وأمر أبو برزة الأسلمي بجارية له قد زنت، وولدت فألقى عليها ثوباً وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضربة غير مبرحٍ ولا خفيف؛ لكن مؤلم، ودعا جماعةً، ثم تلا:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} .

الحادية والعشرون: اختلف في المراد بحضور الجماعة، هل المقصود بها الإغلاظ على الزناة، والتوبيخ بحضرة الناس، وأن ذلك يردع المحدود، ومن شهده وحضره يتعظ به، ويزدجر لأجله، ويشيع حديثه، فيعتبر به من بعده، أو الدعاء لهما بالتوبة والرحمة؟ قولان للعلماء ..

ص: 18

لو كان القصد أن يرتدع من يراه، وهذه لا شك أنها من الحِكَم أن يُحضر فيشيع الأمر فينتشر بين الناس، ويتناقل الناس خبره، فيعرف أن هذا مصيره وهذا مآله فلا يقدم أحد على مثل ما أقدم عليه، وفرق بين إشاعةٍ وإشاعة، لأن بعض الناس يرى في قوله -جل وعلا-:{يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [(19) سورة النور] إشاعة الفاحشة تختلف تماماً عن إشاعة خبر الفاحشة، إشاعة الفاحشة إكثار الفاحشة، تشيع الفاحشة نفسها وتنتشر بين الناس، الذي يحب هذا، هذا محل النص، لكن إذا وقعت الفاحشة، وأريد إقامة الحد على من وقعت منه، وانتشر خبره في الناس ليرتدعوا هذا ليس من إشاعة الفاحشة، هذا من باب إشاعة الخبر، لكي يرتدع الناس لأنهم يعرفون أن هذا مصيرهم، وهذا مآلهم، أما إشاعة الفاحشة فهي إشاعة الفعل نفسه، والسعي في إكثاره وانتشاره بين الناس، ويختلف إشاعة الفعل عن إشاعة خبر الفعل، وما يترتب عليه.

الثانية والعشرون: روي عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا معاشر الناس اتقوا الزنا، فإن فيه ست خصال: ثلاثاً في الدنيا وثلاثاً في الآخرة، فأما اللواتي في الدنيا: فيذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما اللواتي في الآخرة: فيوجب السخط، وسوء الحساب، والخلود في النار)) وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أعمال أمتي تعرض علي في كل جمعة مرتين، فاشتد غضب الله على الزناة)).

وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله على أمتي فغفر لكل مؤمن لا يشرك بالله شيئاً إلا خمسة: ساحراً وكاهناً وعاقاً لوالديه ومدمن خمر ومصراً على الزنا)).

الشيخ: تخريجه هو والذي قبله؟!

الطالب:. . . . . . . . . الحديث الآخر أخرجه البيهقي في الشعب من حديث عائشة وإسناده ضعيف، وكرره من حديث عثمان بن أبي العاص وهو منقطع في هذا الإسناد. . . . . . . . .

الشيخ: والذي قبلهما حديث حذيفة.

الطالب: ضعيف جداً أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات حديث حذيفة،. . . . . . . . . وأنه ضعيف، وأنه متروك. . . . . . . . .

الشيخ: كلها ضعاف.

ص: 19

قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [(3) سورة النور] فيه سبع مسائل:

الأولى: اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أوجه من التأويل:

الأول: أن يكون مقصد الآية تشنيع الزنا، وتبشيع أمره، وأنه محرم على المؤمنين، واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ، ويريد بقوله:{لَا يَنكِحُ} أي لا يطأ، فيكون النكاح بمعنى الجماع، وردد القصة مبالغة، وأخذاً من كلا الطرفين، ثم زاد تقسيم المشركة والمشرك من حيث الشرك أعم في المعاصي من الزنا، فالمعنى: الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانيةً من المسلمين أو من هي أحسن منها من المشركات، وقد روي عن ابن عباس وأصحابه: أن النكاح في هذه الآية الوطء، وأنكر ذلك الزجاج، وقال: لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج، وليس كما قال، وفي القرآن:{حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [(230) سورة البقرة] وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمعنى الوطء، وقد تقدم في البقرة.

هذه الآية مجرد إخبار عن واقع الزاني والزانية، لا ينكح إلا زانية، لأن العفيفة لا توافقه، وقد ينكح مشركة؛ لأن أمر الزنا عند هذه المشركة لا شيء فيه، لأنه لا أعظم من الشرك، وليس معنى هذا تقرير حكم شرعي، أن الزاني ينكح الزانية، يجوز له أن ينكح الزانية، ويجوز له أن ينكح المشركة، لا، وإنما هو بيان للواقع، وأن الزاني لا يوافقه على زناه إلا زانية، فلا يطأ إلا زانية، ولا يطأ إلا مشركة، وكذلك الزانية.

وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمعنى الوطء، وقد تقدم في البقرة، وذكر الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل عن سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة ولكن غير مخلص ولا مكمل، وحكاه الخطابي عن ابن عباس، وأن معناه الوطء أي لا يكون زنىً إلا بزانية، ويفيد أنه زنىً في الجهتين، فهذا قول.

زانية، يعني من عادتها الزنا، وإلا لو وقع من الزاني زنىً بعفيفة صارت زانية، فلا يفيد القيد، إلا إذا قلنا أنها زانية يعني من عادتها الزنا، وأما العفيفة فلا تقع في حبائل أمثال هؤلاء إلا نادراً.

ص: 20

الثاني: ما رواه أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغي يقال لها: عناق، وكانت صديقته، قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أنكح عناق؟ قال: فسكت عني، فنزلت {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [(3) سورة النور] فدعاني فقرأها علي، وقال:((لا تنكحها)) لفظ أبي داود، وحديث الترمذي أكمل.

قال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.

العقد عليها صحيح شريطة أن تتوب من زناها.

الثالث: أنها مخصوصة في رجل من المسلمين أيضاً، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها: أم مهزول، وكانت من بغايا الزانيات وشرطت أن تنفق عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية قاله: عمرو بن العاص ومجاهد.

الرابع: أنها نزلت في أهل الصفة، وكانوا قوماً من المهاجرين، ولم يكن لهم في المدينة مساكن ولا عشائر فنزلوا صفة المسجد، وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار، ويأوون إلى الصفة بالليل، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور مخاصيب بالكسوة والطعام ..

لأنهم فقراء وهنّ موسرات؛ بسبب ما يكتسبن، نسأل الله العافية.

فَهَمَّ أهل الصفة أن يتزوجوهن، فيأووا إلى مساكنهن، ويأكلوا من طعامهن وكسوتهن، فنزلت هذه الآية، صيانةً لهم عن ذلك، قاله ابن أبي صالح.

الخامس: ذكره الزجاج وغيره عن الحسن، وذلك أنه قال: المراد الزاني المحدود والزانية المحدودة، قال: وهذا حكم من الله، فلا يجوز لزانٍ محدود أن يتزوج إلا محدودة، وقال إبراهيم النخعي نحوه، وفي مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله)) وروي أن محدوداً تزوج غير محدودة، ففرَّق علي رضي الله عنه بينهما.

قال ابن العربي، وهذا معنىً لا يصح، نظراً كما لم يثبت نقلاً.

لأن الحد كفارة، الحد كفارة لما وقع، فهو بمثابة التوبة.

ص: 21

وهل يصح أن يوقف نكاح من حدَّ من الرجال على نكاح من حدَّ من النساء؟ فبأي أثر يكون ذلك؟ وعلى أي أصل يقاس من الشريعة؟ قلت: وحكى هذا القول ألكيا عن بعض أصحاب الشافعي المتأخرين، وأن الزاني إذا تزوج غير زانية فرق بينهما لظاهر الآية قال ألكيا: وإن هو عمل بالظاهر فيلزمه عليه أن يجوز للزاني التزوج بالمشركة، ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك، وهذا في غاية البعد، وهو خروج عن الإسلام بالكلية، وربما قال هؤلاء: إن الآية منسوخة في المشرك خاصة دون الزانية.

السادس: أنها منسوخة، روى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، قال: نسخت هذه الآية التي بعدها: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ} [(32) سورة النور] وقاله ابن عمرو قال: دخلت الزانية في أيامى المسلمين، قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول عليه أكثر العلماء، وأهل الفتيا يقولون: إن من زنى بامرأةٍ فله أن يتزوجها، ولغيره أن يتزوجها، وهو قول ابن عمر وسالم وجابر بن زيد وعطاء وطاوس ومالك بن أنس، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي: القول فيها كما قال سعيد بن المسيب -إن شاء الله- هي منسوخة، قال ابن عطية: وذكر الإشراك في هذه الآية يضعف هذه المناحي، قال ابن العربي: والذي عندي أن النكاح لا يخلو أن يراد به الوطء، كما قال ابن عباس أو العقد، فإن أريد به الوطء فإن معناه لا يكون زنىً إلا بزانية، وذلك عبارة عن أن الوطأين من الرجل والمرأة من الجهتين، ويكون تقدير الآية: وطء الزانية لا يقع إلا من زانٍ أو مشرك، وهذا يؤثر عن ابن عباس، وهو معنىً صحيح.

وعلى هذا تكون الآية خبراً محضاً، لا يتضمن حكماً.

فإن قيل: فإن زنى بالغ بصبية، أو عاقل بمجنونة، أو مستيقظ بنائمة، فإن ذلك من جهة الرجل زنى، فهذا زانٍ نكح غير زانية، فيخرج المراد عن بابه الذي تقدم، قلنا: هو زنىً من كل جهة إلا أن أحدهما سقط فيه الحد، والآخر ثبت فيه، وإن أريد به العقد كان معناه: أن متزوج الزانية التي قد زنت ودخل بها ولم يستبرئها يكون بمنزلة الزاني إلا أنه لا حد عليه لاختلاف العلماء في ذلك.

ص: 22

وهذا يحصل كثير –نسأل الله السلامة والعافية– قد يوجد رجل مع امرأة، ثم يأتي ولي المرأة ويلزم هذا الزاني بالعقد عليها، يلزمه وأحياناً يكون الإلزام بالسلاح، إما أن تعقد وإما أن كذا، من أجل الستر عليها وعليه، ولكن هذا لا يحل الإشكال، لا بد من الاستبراء ولا بد من التوبة –نسأل الله السلامة والعافية-.

وأما إذا عقد عليها ولم يدخل بها حتى يستبرئها فذلك جائز إجماعاً، وقيل: ليس المراد في الآية أن الزاني لا ينكح قطُّ إلا زانية، إذ قد يتصور أن يتزوج غير زانية، ولكن المعنى أن من تزوج بزانية فهو زان فكأنه قال: لا ينكح الزانية إلا زان، فقلب الكلام، وذلك أنه لا ينكح الزانية إلا وهو راضٍ بزناها، وإنما يرضى بذلك إذا كان هو أيضاً يزني.

على كل حال هذه المسألة كثرت في بلاد المسلمين، وصارت من المشاكل والعضل، وهل يلزم إخبار الخاطب أو إخبار المخطوبة بالنسبة للرجل؟ مسألة تتباين فيها أقوال، وينتابها غش الطرف الآخر بأن يزوج العفيف زانية أو العكس، وينتابها أيضاً من جهةٍ أخرى أن التوبة تجبّ ما قبلها، وتهدم ما كان قبلها، وإذا دخل بها ورضي بها بعد ذلك فالأمر. . . . . . . . . والمسألة طويلة الذيول وتحتاج إلى مزيدٍ من البسط.

الثانية: في هذه الآية دليل على أن التزوج بالزانية صحيح، وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح، وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته، وهذا على أن الآية منسوخة، وقيل: إنها محكمة وسيأتي ..

يستدل أهل العلم على أن الاستمرار مع الزانية لا يفسد العقد، وأنه لا يلزمه طلاقها إذا زنت، لحديث:((إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ، ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الثالثة فليبعها ولو بظفير)) فله إمساكها، وهو يطؤها وملك يمينه مثل زوجته، فيمسكها مع أنها زنت المرة الأولى والثانية ثم الثالثة عليه أن يبيعها، فإمساك الزانية عند أهل العلم أمر معروف؛ لكن هذا يرجع أيضاً إلى الإنسان نفسه، وتقديم مصلحته وغيرته ورضاه بها أماً لأولاده ومربيةً، وراعيةً لبيته وشؤونه، هذا الأمر لا يعدوه –نسأل الله السلامة والعافية-.

ص: 23

الثالثة: روي أن رجلاً زنى بامرأة في زمن أبي بكر رضي الله عنه فجلدهما مائة جلدة ثم زوج أحدهما من الآخر مكانه ونفاهما سنة، وروي مثل ذلك عن عمر وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم، وقال ابن عباس: أوله سفاح وآخره نكاح، ومثل ذلك مثل رجل سرق من حائطٍ ثمره ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمره فما سرق حرام، وما اشترى حلال، وبهذا أخذ الشافعي وأبو حنيفة، ورأوا أن الماء لا حرمة له، وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبداً ..

لا شك أن الاستبراء أمر لا بد منه، لأن الولد لو ثبت ليس له، من الزنا، الولد ليس له، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، ليس له، هذا هو الحكم الشرعي، وعليه فلا بد أن يستبرئها.

وبهذا أخذ مالك رضي الله عنه فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد، لأن النكاح له حرمة، ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح فيختلط الحرام بالحلال، ويمتزج ماء المهانة بماء العزة.

الرابعة: قال ابن خويز منداد: من كان معروفاً بالزنا أو بغيره من الفسوق معلناً به فتزوج إلى أهل بيت سترٍ وغرهم من نفسه، فلهم الخيار في البقاء معه أو فراقه، وذلك كعيب من العيوب، واحتج بقوله عليه السلام:((لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله)) قال ابن خويز منداد: وإنما ذكر المجلود لاشتهاره بالفسق وهو الذي يجب أن يفرق بينه وبين غيره، فأما من لم يشتهر بالفسق فلا ..

وعلى هذا لو تزوج الرجل امرأةً قارفت الفاحشة ثم تبيّن له ذلك بعد الدخول فهو بالخيار.

الخامسة: قال قوم من المتقدمين: الآية محكمة غير منسوخة وعند هؤلاء: من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها، وقال قوم من هؤلاء: لا ينفسخ النكاح بذلك ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت ولو أمسكها، أثم ولا يجوز التزوج بالزانية ولا من الزاني، بل لو ظهرت التوبة فحينئذٍ يجوز النكاح.

السادسة: وحرم ذلك على المؤمنين، أي نكاح أولئك البغايا فيزعم بعض أهل التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرمه الله تعالى على أمة محمد عليه السلام ومن أشهرهن: عناق.

التي تقدم ذكرها في سبب النزول.

ص: 24

السابعة: حرم الله تعالى الزنا في كتابه، فحيثما زنى الرجل فعليه الحدّ، وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور، وقال أصحاب الرأي في الرجل المسلم إذا كان في دار الحرب بأمان وزنى هنالك ثم خرج لم يحدّ، قال ابن المنذر: دار الحرب ودار الإسلام سواء.

لأن التكليف واحد، هو مكلف هنا وهناك وفي كل مكان، ما دام يتدين بالإسلام فهو مكلف، ويلزمه ما يلزم المكلفين.

ومن زنى فعليه الحد على ظاهر، قوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [(2) سورة النور].

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك.

ص: 25