المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الْجُزْءُ الْثَّانِي عَشَرَ كِتَابُ الْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - مجموع الفتاوى - جـ ١٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

الْجُزْءُ الْثَّانِي عَشَرَ

كِتَابُ الْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة رضي الله عنه:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا صلى الله عليه وسلم تَسْلِيمًا.

ص: 5

قَاعِدَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ اللَّهِ

فَإِنَّ الْأُمَّةَ اضْطَرَبَتْ فِي هَذَا اضْطِرَابًا عَظِيمًا وَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا بِالظُّنُونِ وَالْأَهْوَاءِ بَعْدَ مُضِيِّ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ لَمَّا حَدَثَتْ فِيهِمْ الْجَهْمِيَّة الْمُشْتَقَّةُ مِنْ الصَّابِئَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} وَالِاخْتِلَافُ " نَوْعَانِ ": اخْتِلَافٌ فِي تَنْزِيلِهِ وَاخْتِلَافٌ فِي تَأْوِيلِهِ. وَالْمُخْتَلِفُونَ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ هُمْ الْمُخْتَلِفُونَ فِي الْحَقِّ بِأَنْ يُنْكِرَ هَؤُلَاءِ الْحَقَّ الَّذِي مَعَ هَؤُلَاءِ أَوْ بِالْعَكْسِ. فَإِنَّ الْوَاجِبَ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الْحَقِّ الْمُنَزَّلِ. فَأَمَّا مَنْ آمَنَ بِذَلِكَ وَكَفَرَ بِهِ غَيْرُهُ فَهَذَا اخْتِلَافٌ يُذَمُّ فِيهِ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} إلَى قَوْلِهِ:

ص: 6

{وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} وَالِاخْتِلَافُ فِي تَنْزِيلِهِ أَعْظَمُ وَهُوَ الَّذِي قَصَدْنَا هُنَا فَنَقُولُ: " الِاخْتِلَافُ فِي تَنْزِيلِهِ " هُوَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ وَالْكَافِرُونَ كَفَرُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فَالْمُؤْمِنُونَ بِجِنْسِ الْكِتَابِ وَالرُّسُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ وَالْكَافِرُونَ بِجِنْسِ الْكِتَابِ وَالرُّسُلِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ يَكْفُرُونَ بِذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إلَى النَّاسِ لِتُبَلِّغَهُمْ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إلَيْهِمْ فَمَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ آمَنَ بِمَا بَلَّغُوهُ عَنْ اللَّهِ وَمَنْ كَذَّبَ بِالرُّسُلِ كَذَّبَ بِذَلِكَ. فَالْإِيمَانُ بِكَلَامِ اللَّهِ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ بِرِسَالَةِ اللَّهِ إلَى عِبَادِهِ وَالْكُفْرُ بِذَلِكَ هُوَ الْكُفْرُ بِهَذَا فَتَدَبَّرْ هَذَا الْأَصْلَ فَإِنَّهُ فُرْقَانُ هَذَا الِاشْتِبَاهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ يَكْفُرُ بِالرُّسُلِ: تَارَةً يَكْفُرُ بِأَنَّ اللَّهَ لَهُ كَلَامٌ أَنْزَلَهُ عَلَى بَشَرٍ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَكْفُرُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ: مِثْلُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ وَهُودٍ: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} وَقَالَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} إلَى آخِرِ الْكَلَامِ،

ص: 7

فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَقْرِيرَ قَوَاعِدَ وَقَالَ عَنْ الْوَحِيدِ: {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} . وَلِهَذَا كَانَ أَصْلُ " الْإِيمَانِ " الْإِيمَانَ بِمَا أَنْزَلَهُ. قَالَ تَعَالَى: {الم} {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} وَفِي وَسَطِ السُّورَةِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ} الْآيَةَ. وَفِي آخِرِهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} الْآيَتَيْنِ. وَفِي السُّورَةِ الَّتِي تَلِيهَا: {الم} {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} . وَذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ وَكَذَلِكَ فِي آخِرِهَا: {رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ} الْآيَةَ. وَلِهَذَا عَظُمَ تَقْرِيرُ هَذَا الْأَصْلِ فِي الْقُرْآنِ. فَتَارَةً يَفْتَتِحُ بِهِ السُّورَةَ إمَّا إخْبَارًا كَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} وَقَوْلِهِ. {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} وَقَوْلِهِ: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ الْ " طس " وَاَلْ " حم ". فَعَامَّةُ الْ " الم " وَاَلْ " الر " وَاَلْ " طس " وَاَلْ " حم " كَذَلِكَ.

ص: 8

وَإِمَّا ثَنَاءً بِإِنْزَالِهِ كَقَوْلِهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} الْآيَةَ. وَأَمَّا فِي أَثْنَاءِ السُّورِ فَكَثِيرٌ جِدًّا وَثَنَّى قِصَّةَ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ؛ لِأَنَّهُمَا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ فِي غَايَةِ الْكُفْرِ وَالْبَاطِلِ حَيْثُ كَفَرَ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَبِالرِّسَالَةِ وَمُوسَى فِي غَايَةِ الْحَقِّ وَالْإِيمَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَاسِطَةً مِنْ خَلْقِهِ فَهُوَ مُثْبِتٌ لِكَمَالِ الرِّسَالَةِ وَكَمَالِ التَّكَلُّمِ وَمُثْبِتٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ بِمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ النُّعُوتِ وَهَذَا بِخِلَافِ أَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ الْكُفَّارِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ أَكْثَرُهُمْ لَا يَجْحَدُونَ وُجُودَ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا لِلرُّسُلِ مِنْ التَّكْلِيمِ مَا لِمُوسَى؛ فَصَارَتْ قِصَّةُ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ أَعْظَمَ الْقِصَصِ وَأَعْظَمُهَا اعْتِبَارًا لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَلِأَهْلِ الْكُفْرِ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُصُّ عَلَى أُمَّتِهِ عَامَّةَ لَيْلِهِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَانَ يَتَأَسَّى بِمُوسَى فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَلَمَّا بُشِّرَ بِقَتْلِ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَكَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنْ الصَّابِئَةِ الْمُشْرِكِينَ الْكُفَّارِ؛ وَلِهَذَا كَانَ يَعْبُدُ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مُسْتَيْقِنًا لَهُ لَكِنَّهُ كَانَ جَاحِدًا مَثْبُورًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى:

ص: 9

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} إلَى قَوْلِهِ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} الْآيَةَ. وَالْكُفَّارُ بِالرُّسُلِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَقَوْمِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْهِنْدِ وَالرُّومِ وَالْبَرْبَرِ وَالتُّرْكِ وَالْيُونَانِ والكشدانيين وَسَائِرِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُسْتَأْخِرِين يَتَّبِعُونَ ظُنُونَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ وَيُعْرِضُونَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الَّذِي آتَاهُمْ مِنْ عِنْدِهِ كَمَا قَالَ لَهُمْ لَمَّا أُهْبِطَ آدَمَ مِنْ الْجَنَّةِ {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} الْآيَةَ. وَفِي أُخْرَى {إمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} . ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ سُلْطَانٍ {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُمْ الْعَقْلَ وَالرَّأْيَ وَالْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ وَالْأَمْثَالَ الْمَضْرُوبَةَ وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ الْحُكَمَاءَ وَالْفَلَاسِفَةَ وَيَدَّعُونَ الْجَدَلَ وَالْكَلَامَ وَالْقُوَّةَ وَالسُّلْطَانَ وَالْمَالَ وَيَصِفُونَ أَتْبَاعَ الْمُرْسَلِينَ بِأَنَّهُمْ سُفَهَاءُ وَأَرَاذِلُ وَضُلَّالٌ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

ص: 10

{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وَقَالَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} إلَى قَوْلِهِ {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} وَقَالُوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} وَقَالَ: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} وَقَالَ: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} بَلْ هُمْ يَصِفُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِالْجُنُونِ وَالسَّفَهِ وَالضَّلَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا عَنْ نُوحٍ: {مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} وَقَالُوا: {إنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وَلِهُودِ: {إنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} .

فَصْلٌ:

وَ " الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ " يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا عَامًّا مُؤْتَلِفًا لَا تَفْرِيقَ فِيهِ وَلَا تَبْعِيضَ وَلَا اخْتِلَافَ؛ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَبِجَمِيعِ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ. فَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ أَوْ آمَنَ بِبَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ فَهُوَ كَافِرٌ وَهَذَا حَالُ مَنْ بَدَّلَ وَكَفَرَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ؛ فَإِنَّ

ص: 11

هَؤُلَاءِ فِي أَصْلِهِمْ قَدْ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَعْمَلُونَ صَالِحًا؛ فَأُولَئِكَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَنَحْوُهُ فِي الْمَائِدَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فَآمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْيَهُودِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} الْآيَاتِ وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} الْآيَتَيْنِ وَقَالَ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} وَقَالَ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . وَذَمَّ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِي الْكُتُبِ وَهُمْ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ دُونِ بَعْضٍ فَيَكُونُ مَعَ هَؤُلَاءِ بَعْضٌ وَمَعَ هَؤُلَاءِ بَعْضٌ كَقَوْلِهِ:

ص: 12

{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} وَقَوْلِهِ: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} وَقَوْلِهِ: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}

فَصْلٌ:

التَّفْرِيقُ وَالتَّبْعِيضُ قَدْ يَكُونُ فِي الْقَدْرِ تَارَةً وَقَدْ يَكُونُ فِي الْوَصْفِ: إمَّا فِي الْكَمِّ وَإِمَّا فِي الْكَيْفِ كَمَا قَدْ يَكُونُ فِي التَّنْزِيلِ تَارَةً وَفِي التَّأْوِيلِ أُخْرَى؛ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ لَهُ حَقِيقَةٌ مَوْصُوفَةٌ وَلَهُ مِقْدَارٌ مَحْدُودٌ فَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ قَدْ يَقَعُ التَّفْرِيقُ وَالتَّبْعِيضُ فِي قَدْرِهِ وَقَدْ يَقَعُ فِي وَصْفِهِ. فَالْأَوَّلُ مِثْلُ قَوْلِ الْيَهُودِ: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى دُونَ مَا أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى وَمُحَمَّدٍ. وَهَكَذَا النَّصَارَى فِي إيمَانِهِمْ بِالْمَسِيحِ دُونَ مُحَمَّدٍ. فَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ دُونَ بَعْضٍ فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِجَمِيعِ الْمُنَزَّلِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ يُؤْمِنُ

ص: 13

بِبَعْضِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ بَعْضٍ؛ فَإِنَّ الْبِدَعَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْكُفْرِ. وَأَمَّا " الْوَصْفُ " فَمِثْلُ اخْتِلَافِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ: هَؤُلَاءِ قَالُوا إنَّهُ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ؛ لَكِنْ جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَقَدَحُوا فِي نَسَبِهِ وَهَؤُلَاءِ أَقَرُّوا بِنُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ؛ وَلَكِنْ قَالُوا هُوَ اللَّهُ فَاخْتَلَفَ الطَّائِفَتَانِ فِي وَصْفِهِ وَصَفَتْهُ كُلُّ طَائِفَةٍ بِحَقِّ وَبَاطِلٍ. وَمِثْلُ " الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ " الَّذِينَ يَصِفُونَ إنْزَالَ اللَّهِ عَلَى رُسُلِهِ بِوَصْفِ بَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ؛ مِثْلُ أَنْ يَقُولُوا: إنَّ الرُّسُلَ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مَا أَتَوْا بِهِ كَلَامَ اللَّهِ؛ لَكِنَّهُ إنَّمَا أُنْزِلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ الْفَعَّالُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهَكَذَا مَا يَنْزِلُ عَلَى قُلُوبِ غَيْرِهِمْ هُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ وَلَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّهُ سُمِّيَ كَلَامَ اللَّهِ مَجَازًا. فَهَؤُلَاءِ أَيْضًا مُبَعِّضِينَ مُفَرِّقِينَ؛ حَيْثُ صَدَّقُوا بِبَعْضِ صِفَاتِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَبَعْضِ صِفَاتِ رُسُلِهِ دُونَ بَعْضٍ وَرُبَّمَا كَانَ مَا كَفَرُوا بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ أَكْثَرَ مِمَّا آمَنُوا بِهِ كَمَا أَنَّ مَا كَفَرَ بِهِ الْيَهُودُ مِنْ الْكِتَابِ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِمَّا آمَنُوا بِهِ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ كَانَ الْيَهُود أَكْفَرَ مِنْهُمْ مَنْ وَجْهٍ آخَرَ.

ص: 14

فَإِنَّ مَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَهُوَ كَافِرٌ مِنْ الْجِهَتَيْنِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَا يُوجِبُ اتِّبَاعَ خَاتَمِ الرُّسُلِ بَلْ يُجَوِّزُ التَّدَيُّنَ بِالْيَهُودِيَّةِ والنصرانية فَهُوَ أَيْضًا كَافِرٌ مِنْ الْجِهَتَيْنِ فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمْ أَكْفَرَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْكَافِرِينَ بِمُحَمَّدِ وَالْقُرْآنِ وَقَدْ يَكُونُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَكْفَرَ مِمَّنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِأَكْثَرِ صِفَاتِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَكِنَّهُمْ فِي الْأَصْلِ أَكْفَرُ مِنْ جِنْس الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّ أُولَئِكَ مُقِرُّونَ فِي الْأَصْلِ بِكَمَالِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مُقِرِّينَ بِكَمَالِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ. كَمَا أَنَّ مَنْ كَانَ قَدِيمًا مُؤْمِنًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى صَالِحًا فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا صَالِحًا وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مُؤْمِنًا بِبَعْضِ صِفَاتِ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ اللَّهِ وَتَنْزِيلِهِ عَلَى رُسُلِهِ وَصِفَاتِ رُسُلِهِ دُونَ بَعْضٍ فَنِسْبَتُهُ إلَى هَؤُلَاءِ كَنِسْبَةِ مَنْ آمَنَ بِبَعْضِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ بَعْضٍ إلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَمِنْ هُنَا تَتَبَيَّنُ الضَّلَالَاتُ الْمُبْتَدَعَةُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولَ دُونَ بَعْضٍ وَإِمَّا بِبَعْضِ صِفَاتِ التَّكْلِيم وَالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ دُونَ بَعْضٍ وَكِلَاهُمَا إمَّا فِي التَّنْزِيلِ وَإِمَّا فِي التَّأْوِيلِ.

ص: 15

فَصْلٌ:

وَالسَّبَبُ الَّذِي أَوْقَعَ هَؤُلَاءِ فِي الْكُفْرِ بِبَعْضِ مَا أَنْزَلَهُ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا أَوْقَعَ الْأَوَّلِينَ فِي الْكُفْرِ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ وَجَدَ شُبَهَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الصَّابِئِينَ فِي الْكُفْرِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هِيَ مِنْ جِنْسِ شُبَهِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ الصَّابِئِينَ فِي الْكُفْرِ بِجِنْسِ الْكِتَابِ وَبِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ؛ فَإِنَّهُمْ يَعْتَرِضُونَ عَلَى آيَاتِهِ وَعَلَى الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ وَعَلَى الشَّرِيعَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا وَعَلَى سِيرَتِهِ بِنَحْوِ مِمَّا اُعْتُرِضَ بِهِ عَلَى سَائِرِ الرُّسُلِ: مِثْلِ مُوسَى وَعِيسَى كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَمِيعِهِمْ: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} إلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .

ص: 16

هَذَا مَعَ أَنَّ السُّلْطَانَ الَّذِي أَيَّدَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُجَجِ الْمُعْجِزَاتِ وَأَنْوَاعِ القدر الْبَاهِرَاتِ أَعْظَمُ مِمَّا أَيَّدَ بِهِ غَيْرَهُ وَنُبُوَّتُهُ هِيَ الَّتِي طَبَّقَ نُورُهَا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَبِهِ ثَبَتَتْ نُبُوَّاتُ مَنْ تَقَدَّمَهُ وَتَبَيَّنَ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ وَإِلَّا فَلَوْلَا رِسَالَتُهُ لَكَانَ النَّاسُ فِي ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَأَمْرٍ مَرِيجٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ: الْكِتَابِيُّونَ مِنْهُمْ وَالْأُمِّيُّونَ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ مَا يُقَالُ لَهُ إلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ: أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِاسْتِشْهَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى مَثَلِ مَا جَاءَ بِهِ. وَهَذَا مِنْ بَعْضِ حِكْمَةِ إقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} وَقَوْلِهِ: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} الْآيَةَ. وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} . وَجِمَاعُ شُبَهِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ: أَنَّهُمْ قَاسُوا الرَّسُولَ عَلَى مَنْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَكَفَرُوا بِفَضْلِ اللَّهِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ رُسُلَهُ فَأُتُوا

ص: 17

مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ. وَلَا بُدَّ فِي الْقِيَاسِ مِنْ قَدْرٍ مُشْتَرِكٍ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ: مِثْلُ جِنْسِ الْوَحْي وَالتَّنْزِيلِ؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ يَنْزِلُونَ عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَيُوحُونَ إلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: فِي الْ " طس " وَقَدْ افْتَتَحَ كُلًّا مِنْهُنَّ بِقِصَّةِ مُوسَى وَتَكْلِيمِ اللَّهِ إيَّاهُ وَإِرْسَالِهِ إلَى فِرْعَوْنَ فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْقِصَصِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى قِصَصِ الْمُرْسَلِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَهِيَ " سَبْعٌ ": قِصَّةُ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ ثُمَّ قَالَ عَنْ الْقُرْآنِ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} إلَى قَوْلِهِ: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} فَذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ تَنَزَّلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ مِنْ الْكُهَّانِ والمتنبئين وَنَحْوِهِمْ وَبَيْنَ الشُّعَرَاءِ؛ لِأَنَّ الْكَاهِنَ قَدْ يُخْبِرُ بِغَيْبِ بِكَلَامِ مَسْجُوعٍ وَالشَّاعِرُ أَيْضًا يَأْتِي بِكَلَامِ مَنْظُومٍ يُحَرِّكُ بِهِ النُّفُوسَ فَإِنَّ قَرِينَ الشَّيْطَانِ مَادَّتُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَيُعِينُ الشَّيْطَانُ بِكَذِبِهِ وَفُجُورِهِ. وَالشَّاعِرُ مَادَّتُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَرُبَّمَا أَعَانَهُ الشَّيْطَانُ. فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ إنَّمَا تَنَزَّلُ عَلَى مَنْ يُنَاسِبُهَا وَهُوَ: الْكَاذِبُ فِي قَوْلِهِ الْفَاجِرُ فِي عَمَلِهِ؛ بِخِلَافِ الصَّادِقِ الْبَرِّ وَأَنَّ الشُّعَرَاءَ إنَّمَا يُحَرِّكُونَ

ص: 18

النُّفُوسَ إلَى أَهْوَائِهَا فَيَتْبَعُهُمْ الْغَاوُونَ وَهُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْأَهْوَاءَ وَشَهَوَاتِ الْغَيِّ فَنَفَى كُلًّا مِنْهُمَا بِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ وَبَيَّنَ مَا يَجْتَمِعُ فِيهِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.

فَصْلٌ:

إذَا تَبَيَّنَ هَذَا الْأَصْلُ ظَهَرَ بِهِ اشْتِقَاقُ الْبِدَعِ مِنْ الْكُفْرِ فَنَقُولُ: كَمَا أَنَّ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى كَانُوا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ لَمْ يُبَدِّلُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا كَفَرُوا بِشَيْءِ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَكَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى صَارُوا كُفَّارًا مِنْ جِهَةِ تَبْدِيلِهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّه وَمِنْ جِهَةِ كُفْرِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ فَكَذَلِكَ الصَّابِئَةُ صَارُوا كُفَّارًا مِنْ جِهَةِ تَبْدِيلِهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَمِنْ جِهَةِ كُفْرِهِمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانُوا مُنَافِقِينَ كَمَا قَدْ يُنَافِقُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُسْتَأْخِرُونَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ. وَذَلِكَ أَنَّ مُتَأَخِّرِي الصَّابِئِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا أَنَّ لِلَّهِ كَلَامًا أَوْ يَتَكَلَّمُ وَيَقُولُ أَوْ أَنَّهُ يُنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ كَلَامًا وَذِكْرًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ أَوْ أَنَّهُ يُكَلِّمُ أَحَدًا مِنْ الْبَشَرِ؛ بَلْ عِنْدَهُمْ لَا يُوصَفُ اللَّهُ بِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ لَا يَقُولُونَ: إنَّ لَهُ عِلْمًا وَلَا مَحَبَّةً وَلَا رَحْمَةً وَيُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ

ص: 19

اللَّهُ اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا أَوْ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَإِنَّمَا يُوصَفُ عِنْدَهُمْ بِالسَّلْبِ وَالنَّفْيِ مِثْلِ قَوْلِهِمْ لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ وَلَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ أَوْ بِإِضَافَةِ مِثْلِ كَوْنِهِ مَبْدَأً لِلْعَالَمِ أَوْ الْعِلَّةَ الْأُولَى، أَوْ بِصِفَةِ مُرَكَّبَةٍ مِنْ السَّلْبِ وَالْإِضَافَةِ؛ مِثْل كَوْنِهِ عَاقِلًا وَمَعْقُولًا وَعَقْلًا. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخُصُّ مُوسَى بِالتَّكْلِيمِ دُونَ غَيْرِهِ وَلَا يَخُصُّ مُحَمَّدًا بِإِرْسَالِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ لَهُ عِلْمًا مُفَصَّلًا لِلْمَعْلُومَاتِ فَضْلًا عَنْ إرَادَةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ؛ بَلْ يُثْبِتُونَ - إذَا أَثْبَتُوا - لَهُ عِلْمًا جُمَلِيًّا كُلِّيًّا وَغَايَةً جُمَلِيَّةً كُلِّيَّةً وَمَنْ أَثْبَتَ النُّبُوَّةَ مِنْهُمْ قَالَ: إنَّهَا فَيْضٌ تَفِيضُ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ مِنْ جِنْسِ مَا يَفِيضُ عَلَى سَائِرِ النُّفُوسِ؛ لَكِنَّ اسْتِعْدَادَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكْمَلُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ وَيَسْمَعُ مَا لَا يَسْمَعُ غَيْرُهُ وَيُبْصِرُ مَا لَا يُبْصِرُ غَيْرُهُ وَتَقْدِرُ نَفْسُهُ عَلَى مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ نَفْسُ غَيْرِهِ. وَالْكَلَامُ الَّذِي تَقُولُهُ الْأَنْبِيَاءُ هُوَ كَلَامُهُمْ وَقَوْلُهُمْ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَنْ الْقُرْآنِ {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} فَإِنَّ " الْوَحِيدَ " الَّذِي هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ كَانَ مِنْ جِنْسِهِمْ؛ كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ صَابِئُونَ أَيْضًا فَإِنَّ الصَّابِئِينَ كَأَهْلِ الْكِتَابِ تَارَةً يَجْعَلُهُمْ اللَّهُ قِسْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَتَارَةً يَجْعَلُهُمْ اللَّهُ قَسِيمًا لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ}

ص: 20

{إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} . وَكَذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ الْمِلَلَ السِّتَّ فِي الْحَجِّ فَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الْآيَةَ وَهَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . وَقَالَ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} فَإِذَا كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَدْ يَكُونُونَ مُشْرِكِينَ فَالصَّابِئُونَ أَوْلَى وَذَلِكَ بَعْدَ تَبْدِيلِهِمْ فَحَيْثُ وُصِفُوا بِالشِّرْكِ فَبَعْدَ التَّبْدِيلِ وَحَيْثُ جُعِلُوا غَيْرَ مُشْرِكِينَ فَلِأَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ الصَّحِيحِ لَيْسَ فِيهِ شِرْكٌ فَالشِّرْكُ مُبْتَدَعٌ عِنْدَهُمْ؛ فَيَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لِهَذِهِ الْمَعَانِي. وَكَانَ الْوَحِيدُ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ وَالتَّدْبِيرِ مِنْ الْعَرَبِ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ حُكَمَائِهِمْ وَفَلَاسِفَتِهِمْ. وَلِهَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِثْلِ حَالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ فِي قَوْلِهِ: {إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ نَظَرَ} {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} {فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} .

ص: 21

ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ فِيمَا تَقُولُهُ الْأَنْبِيَاءُ حَيَارَى مُتَهَوِّكُونَ؛ فَإِنَّهُ بَهَرَهُمْ نُورُ النُّبُوَّةِ وَلَمْ تَقَعْ عَلَى أُصُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ فَصَارُوا عَلَى " أَنْحَاءَ ": مِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِكَثِيرِ مِمَّا تَقُولُهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ؛ بَلْ يُعْرِضُ عَنْهُ أَوْ يَشُكُّ فِيهِ أَوْ يُكَذِّبُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ الْكَذِبُ لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ وَالْأَنْبِيَاءُ فَعَلُوا ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ هَذَا لِصَالِحِ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ وَأَمْثَلُهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هَذِهِ تَخَيُّلَاتٌ وَأَمْثِلَةٌ مَضْرُوبَةٌ لِتَقْرِيبِ الْحَقَائِقِ إلَى قُلُوبِ الْعَامَّةِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْفَارَابِيِّ وَابْنِ سِينَا؛ لَكِنْ ابْنُ سِينَا أَقْرَبُ إلَى الْإِيمَانِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا. فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَبَهَرَتْهُ بَرَاهِينُهَا وَأَنْوَارُهَا وَرَأَى مَا فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ - حَتَّى قَالَ ابْنُ سِينَا: اتَّفَقَ فَلَاسِفَةُ الْعَالَمِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَطْرُقْ الْعَالَمَ نَامُوسٌ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا النَّامُوسِ - فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَأَوَّلَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى عَادَةِ إخْوَانِهِ فِي تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَيُحَرِّفُونَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ؛ تَحْرِيفًا يَصِيرُونَ بِهِ كُفَّارًا بِبَعْضِ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ فِي بَعْضِ صِفَاتِ تَنْزِيلِهِ. فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الرُّسُلَ سَمَّتْ هَذَا الْكَلَامَ كَلَامَ اللَّهِ وَأَخْبَرَتْ أَنَّهُ نَزَلَتْ بِهِ مَلَائِكَةُ اللَّهِ مِثْلُ الرُّوحِ الْأَمِينِ جِبْرِيلُ أَطْلَقَتْ هَذِهِ

ص: 22

الْعِبَارَةَ فِي الظَّاهِرِ وَكَفَرَتْ بِمَعْنَاهَا فِي الْبَاطِنِ وَرَدُّوهَا إلَى أَصْلِهِمْ أَصْلِ الصَّابِئِينَ وَصَارُوا مُنَافِقِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَفِي غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ. فَيَقُولُونَ: هَذَا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَهَذَا الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ فَاضَ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَرُبَّمَا قَالُوا إنَّ الْعَقْلَ هُوَ جِبْرِيلُ الَّذِي لَيْسَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينِ أَيْ بَخِيلٍ؛ لِأَنَّهُ فَيَّاضٌ. وَيَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى مِنْ سَمَاءِ عَقْلِهِ وَإِنَّ أَهْلَ الرِّيَاضَةِ وَالصَّفَا يَصِلُونَ إلَى أَنْ يَسْمَعُوا مَا سَمِعَهُ مُوسَى كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى. وَقَدْ ضَلَّ بِكَلَامِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشْهُورِينَ مِثْلُ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَصَنَّفُوا " رَسَائِلَ إخْوَانِ الصَّفَا " وَغَيْرِهَا وَجَمَعُوا فِيهَا عَلَى زَعْمِهِمْ بَيْنَ مَقَالَاتِ الصَّابِئَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّتِي هِيَ الْفَلْسَفَةُ الْمُبْتَدَعَةُ وَبَيْنَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ فَأَتَوْا بِمَا زَعَمُوا أَنَّهُ مَعْقُولٌ وَلَا دَلِيلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُ وَرُبَّمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ مَنْقُولٌ. وَفِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَإِنَّمَا يُضِلُّونَ بِهِ كَثِيرًا بِمَا فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالرِّيَاضِيَّةِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِأَمْرِ النُّبُوَّاتِ وَالرِّسَالَةِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا بِإِثْبَاتِ وَلَكِنْ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا: كَالصِّنَاعَاتِ مِنْ الْحِرَاثَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَالْبِنَايَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ص: 23

فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ المشركية الصَّابِئَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ الْبَشَرِ كَغَيْرِهِ لَكِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَأَنَّهُ فَاضَ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَحَلِّ الْأَعْلَى كَمَا تَفِيضُ سَائِرُ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ عَلَى نُفُوسِ أَهْلِهَا فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَثُرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ وَهُمْ مُنَافِقُونَ وَزَنَادِقَةٌ وَإِنْ ادَّعَوْا كَمَالَ الْمَعَارِفِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ والمتفقهين حَتَّى يَقُولَ أَحَدُهُمْ - كالتلمساني - كَلَامُنَا يُوصِلُ إلَى اللَّهِ وَالْقُرْآنُ يُوصِلُ إلَى الْجَنَّةِ. وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ - كَابْنِ عَرَبِيٍّ - إنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ مِنْ حَيْثُ مَا يَأْخُذُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَيَقُولُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ لِلْعَامَّةِ وَكَلَامُنَا لِلْخَاصَّةِ. فَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ وَضَرَبُوا لَهُ الْأَمْثَالَ؛ مِثْلُ مَا فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ قَبْلَهُمْ كَمَا فَعَلُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُفَضِّلُ الْوَلِيَّ الْكَامِلَ وَالْفَيْلَسُوفَ الْكَامِلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَضِّلُ بَعْضَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى زَعْمِهِ أَوْ بَعْضَ الْفَلَاسِفَةِ: - مِثْلَ نَفْسِهِ أَوْ شَيْخِهِ أَوْ مَتْبُوعِهِ - عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرُبَّمَا قَالُوا هُوَ أَفْضَلُ مَنْ وَجْهٍ وَالنَّبِيُّ أَفْضَلُ مِنْ وَجْهٍ فَلَهُمْ مِنْ الْإِلْحَادِ وَالِافْتِرَاءِ فِي رُسُلِ اللَّهِ نَظِيرُ مَا لَهُمْ مِنْ الْإِلْحَادِ وَالِافْتِرَاءِ فِي رِسَالَاتِ اللَّهِ فَيَقِيسُونَ الْكَلَامَ الَّذِي بَلَّغَتْهُ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ بِكَلَامِهِمْ وَيَقِيسُونَ رُسُلَ اللَّهِ بِأَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حَالَ هَؤُلَاءِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَمَا قَدَرُوا

ص: 24

اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} إلَى أَنْ قَالَ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فَذَكَرَ اللَّهُ إنْزَالَ الْكِتَابَيْنِ الذين لَمْ يَنْزِلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كِتَابٌ أَهْدَى مِنْهُمَا - التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ - كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَكَذَلِكَ الْجِنُّ لَمَّا اسْتَمَعَتْ الْقُرْآنَ {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ} وَلِهَذَا قَالَ النَّجَاشِيُّ لَمَّا سَمِعَ الْقُرْآنَ: إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْكَذَّابِ وَالْمُتَنَبِّئِ. فَقَالَ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فَجَمَعَ فِي هَذَا بَيْنَ مَنْ أَضَافَ مَا يَفْتَرِيهِ إلَى اللَّهِ وَبَيْنَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ وَلَا يُعَيِّنُ مَنْ أَوْحَاهُ فَإِنَّ الَّذِي يَدَّعِي الْوَحْيَ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ. وَيَدْخُلُ فِي " الْقِسْمِ الثَّانِي " مَنْ يُرِي عَيْنَيْهِ فِي الْمَنَامِ مَا لَا تَرَيَا

ص: 25

وَمَنْ يَقُولُ: أُلْقِيَ فِي قَلْبِي وَأُلْهِمْت وَنَحْوَ ذَلِكَ إذَا كَانَ كَاذِبًا. وَيَدْخُلُ فِي " الْقِسْمِ الْأَوَّلِ " مَنْ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ لِي أَوْ أَمَرَنِي اللَّهُ أَوْ وَافَقَنِي أَوْ قَالَ لِي وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ بِخَيَالَاتِ أَوْ إلْهَامَاتٍ يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بَلْ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ مِثْلُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَنَحْوِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فَهَذِهِ حَالُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبَشَرَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَلَامُ الْبَشَرِ بِفَضِيلَةِ وَقُوَّةٍ مِنْ صَاحِبِهِ فَإِذَا اجْتَهَدَ الْمَرْءُ أَمْكَنَ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ. وَهَذَا يَعُمُّ مَنْ قَالَ إنَّهُ يُمْكِنُ مُعَارَضَةُ الْقُرْآنِ كَابْنِ أَبِي سَرْحٍ فِي حَالِ رِدَّتِهِ وَطَائِفَةٍ مُتَفَرِّقِينَ مِنْ النَّاسِ وَيَعُمُّ الْمُتَفَلْسِفَةَ الصَّابِئَةَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ؛ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّ رِسَالَةَ الْأَنْبِيَاءِ كَلَامٌ فَاضَ عَلَيْهِمْ قَدْ يَفِيضُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِثْلُهُ فَيَكُونُ قَدْ أَنْزَلَ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي دَعْوَى الرُّسُلِ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ يَقُولُهُ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ شَيْئًا؛ وَقَدْ يَقُولُهُ مُعْتَقِدًا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ شَيْئًا.

فَصْلٌ:

وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إنْكَارَ التَّكْلِيمِ وَالْمُخَالَّةِ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ " فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ وَأَمَرَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ - كَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ -

ص: 26

بِقَتْلِهِ؛ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ أَمِيرُ الْعِرَاقِ بواسط. فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَأَخَذَ ذَلِكَ عَنْهُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ ثُمَّ نَافَقَ الْمُسْلِمِينَ فَأَقَرَّ بِلَفْظِ الْكَلَامِ وَقَالَ: كَلَامُهُ يُخْلَقُ فِي مَحَلٍّ كَالْهَوَاءِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ. وَدَخَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَدَلِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ إلَى بَعْضِ مَقَالَةِ الصَّائِبَةِ وَالْمُشْرِكِينَ مُتَابَعَةً لِلْجَعْدِ وَالْجَهْمِ. وَكَانَ مَبْدَأُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّابِئَةَ فِي " الْخَلْقِ " عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّ السَّمَوَاتِ مَخْلُوقَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ كَمَا أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ الرُّسُلُ وَكُتُبُ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ ابْتَدَعَ فَقَالَ: بَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ مَوْجُودَةً بِوُجُودِ الْأَوَّلِ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يُنْكِرُ الصَّانِعَ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَهُمْ مَقَالَاتٌ كَثِيرَةُ الِاضْطِرَابِ فِي الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ وَالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجْمَعُهُمْ وَالظُّنُونُ لَا تَجْمَعُ النَّاسَ فِي مِثْل هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي تَعْجِزُ الْآرَاءُ عَنْ إدْرَاكِ حَقَائِقِهَا إلَّا بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُمْ إنَّمَا يُنَاظِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْقِيَاسِ الْمَأْخُوذِ مُقَدِّمَاتُهُ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ السُّفْلِيَّةِ وَقُوَى الطَّبَائِعِ الْمَوْجُودَةِ فِي التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ

ص: 27

وَالْحَيَوَانِ وَالْمَعْدِنِ وَالنَّبَاتِ وَيُرِيدُونَ بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ السُّفْلِيَّةِ أَنْ يَنَالُوا مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَعِلْمَ مَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَأَوَّلَ الْأَمْرِ وَآخِرَهُ؛ وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ اعْتَرَفَ بِهِ أَسَاطِينُهُمْ بِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَأَنَّهُمْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَى إدْرَاكِ الْيَقِينِ وَأَنَّهُمْ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ. فَلَمَّا كَانَ هَذَا حَالَ هَذِهِ الصَّابِئَةِ الْمُبْتَدِعَةِ الضَّالَّةِ وَمَنْ أَضَلُّوهُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكَانَ قَدْ اتَّصَلَ كَلَامُهُمْ بِبَعْضِ مَنْ لَمْ يُهْدَ بِهُدَى اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَدَلِ صَارُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَأْخُذُوا مَأْخَذَهُمْ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: {لَتَأْخُذُنَّ مَأْخَذَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَارِسٌ وَالرُّومُ قَالَ: وَمَنْ النَّاسُ إلَّا فَارِسٌ وَالرُّومُ} فَاحْتَجُّوا عَلَى حُدُوثِ الْعَالِمِ بِنَحْوِ مِنْ مَسَالِكِ هَذِهِ الصَّابِئَةِ وَهُوَ الْكَلَامُ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ بِأَنْ تَثْبُتَ الْأَعْرَاضُ ثُمَّ يَثْبُتَ لُزُومُهَا لِلْأَجْسَامِ ثُمَّ حُدُوثُهَا ثُمَّ يُقَالُ: مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ وَاعْتَمَدَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْجَدَلِ عَلَى هَذَا فِي إثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْأَعْرَاضَ - الَّتِي هِيَ الصِّفَاتُ - تَدُلُّ عِنْدَهُمْ عَلَى حُدُوثِ الْمَوْصُوفِ الْحَامِلِ لِلْأَعْرَاضِ الْتَزَمُوا نَفْيَهَا عَنْ اللَّهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا مُسْتَلْزِمٌ حُدُوثَهُ. وَبُطْلَانَ دَلِيلِ حُدُوثِ الْعَالَمِ - الَّذِي اعْتَقَدُوا أَنْ لَا دَلِيلَ سِوَاهُ بَلْ رُبَّمَا اعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُ أَحَدٍ إلَّا بِهِ - مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ.

ص: 28

وَهَؤُلَاءِ يُخَالِفُونَ " الصَّابِئَةَ الْفَلَاسِفَةَ " الَّذِينَ يَقُولُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَبِأَنَّ النُّبُوَّةَ كَمَالٌ تَفِيضُ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَكْثَرُ حَقًّا وَأَتْبَعُ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ لِمَا تَنَوَّرَتْ بِهِ قُلُوبُهُمْ مِنْ نُورِ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ ضَلُّوا فِي كَثِيرٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ؛ لَكِنْ هُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكَ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى وَافَقُوا فِيهَا أَهْلَ السُّنَّةِ فَوَافَقُوا أُولَئِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ كَمَا وَافَقُوهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا صِفَةً مِنْ الصِّفَاتِ وَرَأَوْا أَنَّ إثْبَاتَهُ مُتَكَلِّمًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَالْجِسْمُ حَادِثٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الصِّفَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى حُدُوثِ الْمَوْصُوفِ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ أَدَلُّ عَلَى حُدُوثِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ غَيْرِهِ؛ بَلْ اللَّهُ يَفْتَقِرُ مِنْ الْخَارِجِ إلَى مَا لَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ غَيْرُهُ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ مِنْ التَّرْتِيبِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ وَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الرُّسُلَ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ صَارُوا تَارَةً يَقُولُونَ مُتَكَلِّمٌ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً وَهَذَا قَوْلُهُمْ الْأَوَّلُ لَمَّا كَانُوا فِي بِدْعَتِهِمْ عَلَى الْفِطْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْمُعَانَدَةِ وَالْجُحُودِ. ثُمَّ إنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ هَذَا شَنِيعًا فَقَالُوا بَلْ هُوَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً وَرُبَّمَا حَكَى بَعْضُ مُتَكَلِّمِيهِمْ الْإِجْمَاعَ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ بَلْ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ وَأَصْلُهُ عِنْدَ مَنْ عَرَفَهُ وَابْتَدَعَهُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِمُتَكَلِّمِ وَقَالُوا الْمُتَكَلِّمُ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ وَلَوْ فِي مَحَلٍّ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ فَفَسَّرُوا الْمُتَكَلِّمَ فِي اللُّغَةِ

ص: 29

بِمَعْنَى لَا يُعْرَفُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا غَيْرِهِمْ؛ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا؛ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الصَّابِئَةِ الَّذِينَ يُوَافِقُونَ الرُّسُلَ فِي حُدُوثِ الْعَالِمِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ كُفْرًا بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَلَيْسَ هُوَ فِي الْكُفْرِ مِثْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ رَسُولًا مُعَيَّنًا وَأَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي خَلَقَهُ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ. وَنَشَأَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ فُرُوعُ الصَّابِئَةِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ الْخِلَافُ فَكَفَرَ هَؤُلَاءِ بِبَعْضِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ بِالْكَلَامِ وَالتَّكْلِيمِ وَاخْتَلَفُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَآمَنُوا بِبَعْضِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ. وَاتَّبَعَ الْمُؤْمِنُونَ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ وَلَمْ يُحَرِّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ كَمَا فَعَلَ الْأَوَّلُونَ؛ بَلْ رَدُّوا تَحْرِيفَ أُولَئِكَ بِبَصَائِرِ الْإِيمَانِ الَّذِي عَلِمُوا بِهِ مُرَادَ الرُّسُلِ مِنْ إخْبَارِهِمْ بِرِسَالَةِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ وَاتَّبَعُوا هَذَا الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَلِمُوا أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ أَخْبَثُ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حَتَّى كَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ - إمَامُ الْمُسْلِمِينَ - يَقُولُ: إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة.

ص: 30

وَكَانَ قَدْ كَثُرَ ظُهُورُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ فُرُوعُ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ مُبَدِّلَةِ الصَّابِئِينَ ثُمَّ مُبَدِّلَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ وَأَوَائِلِ الثَّالِثَةِ فِي إمَارَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُلَقَّبِ " بِالْمَأْمُونِ " بِسَبَبِ تَعْرِيبِ كُتُبِ الرُّومِ الْمُشْرِكِينَ الصَّابِئِينَ؛ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ النَّصَارَى وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ فَارِسَ وَالْهِنْدِ وَظَهَرَتْ عُلُومُ الصَّابِئِينَ الْمُنَجِّمِينَ وَنَحْوِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ هُمْ مِنْ فُرُوعِ الصَّابِئِينَ كَمَا يُقَالُ: الْمُعْتَزِلَةُ مَخَانِيثُ الْفَلَاسِفَةِ. فَظَهَرَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَفِي أَهْلِ السَّيْفِ وَالْإِمَارَةِ وَصَارَ فِي أَهْلِهَا مِنْ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ مَا امْتَحَنُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَلَمْ يُبَدِّلُوا وَلَمْ يَبْتَدِعُوا وَذَلِكَ لِقُصُورِ وَتَفْرِيطٍ مِنْ أَكْثَرِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَاتِّبَاعِهِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِيهِمْ لَمْ يَتَمَكَّنْ أُولَئِكَ الْمُبْتَدِعَةُ لِمَا يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنْ التَّمَكُّنِ مِنْهُمْ.

فَصْلٌ:

فَجَاءَ قَوْمٌ مِنْ مُتَكَلِّمِي الصفاتية الَّذِينَ نَصَرُوا أَنَّ اللَّهَ لَهُ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَبَصَرٌ وَحَيَاةٌ بِالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُطَابِقَةِ لِلنُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْجَوَاهِرِ فَجَعَلُوهَا أَعْرَاضًا وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالرَّبِّ فَلَمْ يُسَمُّوهَا أَعْرَاضًا؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ مَا لَا يَدُومُ وَلَا يَبْقَى أَوْ مَا يَقُومُ بِمُتَحَيِّزِ أَوْ

ص: 31

جِسْمٍ فَصِفَاتُ الرَّبِّ لَازِمَةٌ دَائِمَةٌ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِالْأَجْسَامِ. وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكَلَامِ الْقِيَاسِيِّ مِنْ الصفاتية فَارَقُوا أُولَئِكَ الْمُبْتَدِعَةَ الْمُعَطِّلَةَ الصَّابِئَةَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ وَأَثْبَتُوا الصِّفَاتِ الَّتِي قَدْ يُسْتَدَلُّ بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ عَلَيْهَا كَالصِّفَاتِ السَّبْعِ وَهِيَ: الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ. وَلَهُمْ نِزَاعٌ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ هَلْ هُوَ مِنْ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ أَوْ الصِّفَاتِ النَّبَوِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَلَهُمْ اخْتِلَافٌ فِي الْبَقَاءِ وَالْقِدَمِ وَفِي الْإِدْرَاكِ الَّذِي هُوَ إدْرَاكُ الْمَشْمُومَاتِ وَالْمَذُوقَاتِ وَالْمَلْمُوسَاتِ وَلَهُمْ أَيْضًا اخْتِلَافٌ فِي الصِّفَاتِ السَّمْعِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ فَأَكْثَرُ مُتَقَدِّمِيهِمْ أَوْ كُلُّهُمْ يُثْبِتُهَا وَكَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ لَا يُثْبِتُهَا وَأَمَّا مَا لَا يَرِدُ إلَّا فِي الْحَدِيثِ فَأَكْثَرُهُمْ لَا يُثْبِتُهَا. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَصْرِفُ النُّصُوصَ عَنْ دَلَالَتِهَا لِأَجْلِ مَا عَارَضَهَا مِنْ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ عِنْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَوِّضُ مَعْنَاهَا - وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَفْصِيلَ مَقَالَاتِ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الصِّفَاتِ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْقَوْلُ فِي " رِسَالَةِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ " الَّذِي بَلَّغَتْهُ رُسُلُهُ فَكَانَ هَؤُلَاءِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْوِرَاثَةِ النَّبَوِيَّةِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بِمَا سَلَكُوهُ مِنْ الطُّرُقِ الصَّابِئَةِ فِي أَمْرِ الْخَالِقِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ فَصَارَ فِي مَذْهَبِهِمْ فِي الرِّسَالَةِ تَرْكِيبٌ مِنْ الْوِرَاثَتَيْنِ لَبَّسُوا حَقَّ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِبَاطِلِ وَرَثَةِ أَتْبَاعِ الصَّابِئَةِ كَمَا كَانَ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمَحْضِ الْمُبْتَدَعِ: كَالْمُعْتَزِلَةِ تَرْكِيبٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ وَبَيْنَ الْأَثَارَةِ الصَّابِئَةِ؛

ص: 32

لَكِنْ أُولَئِكَ أَشَدُّ اتِّبَاعًا لِلْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ وَأَقْرَبُ إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَة وَنَحْوِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَلِهَذَا وَافَقَهُمْ فِي بَعْضِ مَا ابْتَدَعُوهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ؛ لِوُجُوهِ: " أَحَدُهَا " كَثْرَةُ الْحَقِّ الَّذِي يَقُولُونَهُ وَظُهُورُ الْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَهُمْ. " الثَّانِي " لَبْسُهُمْ ذَلِكَ بِمَقَايِيسَ عَقْلِيَّةٍ بَعْضُهَا مَوْرُوثٌ عَنْ الصَّابِئَةِ وَبَعْضُهَا مِمَّا اُبْتُدِعَ فِي الْإِسْلَامِ وَاسْتِيلَاءُ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الشُّبُهَاتِ عَلَيْهِمْ وَظَنُّهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ التَّمَسُّكُ بِالْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. " الثَّالِثُ " ضَعْفُ الْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ الدَّافِعَةِ لِهَذِهِ الشُّبُهَاتِ وَالْمُوَضِّحَةِ لِسَبِيلِ الْهُدَى عِنْدَهُمْ. " الرَّابِعُ " الْعَجْزُ وَالتَّفْرِيطُ الْوَاقِعُ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: تَارَةً يَرْوُونَ مَا لَا يَعْلَمُونَ صِحَّتَهُ وَتَارَةً يَكُونُونَ كَالْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَيُعْرِضُونَ عَنْ بَيَانِ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ.

ص: 33

فَلَمَّا كَانَ هَذَا " مِنْهَاجَهُمْ " وَقَالُوا: إنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَلِمَا رَأَوْا أَنَّهُ مُسْتَقِيمٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَرَّرُوهُ فِي الصِّفَاتِ وَرَأَوْا أَنَّ التَّوْفِيقَ بَيْنَ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا أَنْ يَجْعَلُوا الْقُرْآنَ مَعْنًى قَائِمًا بِنَفْسِ اللَّهِ تَعَالَى - كَسَائِرِ الصِّفَاتِ كَمَا جَعَلَهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ بَابِ الْمَصْنُوعَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا قَدِيمًا كَسَائِرِ الصِّفَاتِ - وَرَأَوْا أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مَخْلُوقًا أَوْ قَدِيمًا فَإِنَّ إثْبَاتَ قَسَمٍ ثَالِثٍ قَائِمٍ بِاَللَّهِ يَقْتَضِي حُلُولَ الْحَوَادِثِ بِذَاتِهِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى حُدُوثِ الْمَوْصُوفِ وَمُبْطِلٌ لِدَلَالَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ. ثُمَّ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَانِيَ كَثِيرَةً؛ بَلْ إمَّا مَعْنًى وَاحِدًا عِنْدَ طَائِفَةٍ أَوْ مَعَانِيَ أَرْبَعَةً عِنْدَ طَائِفَةٍ وَالْتَزَمُوا عَلَى هَذَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ هِيَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ وَأَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ لَيْسَتْ مِنْ حَقِيقَةِ الْكَلَامِ؛ بَلْ دَالَّةٌ عَلَيْهِ فَتُسَمَّى بِاسْمِهِ؛ إمَّا مَجَازًا عِنْدَ طَائِفَةٍ أَوْ حَقِيقَةً بِطْرِيقِ الِاشْتِرَاكِ عِنْدَ طَائِفَةٍ وَإِمَّا مَجَازًا فِي كَلَامِ اللَّهِ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِ عِنْدَ طَائِفَةٍ. وَخَالَفَهُمْ الْأَوَّلُونَ وَبَعْضُ مَنْ يَتَسَنَّنُ أَيْضًا وَقَالُوا: لَا حَقِيقَةَ لِلْكَلَامِ إلَّا الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مَعْنًى إلَّا الْعِلْمُ وَنَوْعُهُ أَوْ الْإِرَادَةُ وَنَوْعُهَا فَصَارَ النِّزَاعُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ.

ص: 34

وَأُورِدَ عَلَى هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ صِفَاتٌ لِلْكَلَامِ إضَافِيَّةٌ لَيْسَتْ أَنْوَاعًا لَهُ وَأَقْسَامًا وَأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنَى وَاحِدٌ: إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ قُرْآنٌ وَبِالْعِبْرِيَّةِ فَهُوَ تَوْرَاةٌ وبالسريانية فَهُوَ إنْجِيلٌ. وَقَالَ لَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ هَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُونَ إنَّهُ خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الْهَوَاءِ فَصَارَ مُتَكَلِّمًا بِهِ وَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ أَحْدَثَ الْكَلَامَ وَلَوْ فِي ذَاتٍ غَيْرِ ذَاتِهِ؛ وَقَالَ لَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ: إنَّ هَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ: إنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُتَكَلِّمَ اسْمٌ لِلرُّوحِ وَالْجِسْمِ جَمِيعًا وَأَنَّهُ إذَا أُطْلِقَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَبِقَرِينَةِ وَأَنَّ مَعَانِيَ الْكَلَامِ مُتَنَوِّعَةٌ لَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ كَتَنَوُّعِ أَلْفَاظِهِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَعَانِي أَقْرَبَ إلَى الِاتِّحَادِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالْأَلْفَاظُ أَقْرَبُ إلَى التَّعَدُّدِ وَالتَّفَرُّقِ. وَالْتَزَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا وَفَرَّقُوا بَيْنَ كِتَابِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ. فَقَالُوا كِتَابُ اللَّهِ هُوَ الْحُرُوفُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ وَكَلَامُ اللَّهِ هُوَ مَعْنَاهَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَهَؤُلَاءِ وَالْأَوَّلُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ الَّذِي قَالَ الْأَوَّلُونَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ أَيْنَ خُلِقَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ؟ هَلْ خُلِقَتْ فِي الْهَوَاءِ؟ أَوْ فِي نَفْسِ جبرائيل؟ أَوْ أَنَّ جبرائيل هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهَا أَوْ مُحَمَّدٌ؟

ص: 35

وَأَمَّا جُمْهُورُ الْأُمَّةِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ فَعَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَمَا جَاءَ عَنْهُمْ مِنْ الْكُتُبِ وَالْأَثَارَةِ مِنْ الْعِلْمِ وَهُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِلرِّسَالَةِ اتِّبَاعًا مَحْضًا لَمْ يَشُوبُوهُ بِمَا يُخَالِفُهُ مِنْ مَقَالَةِ الصَّابِئِينَ وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ لَا يَجْعَلُونَ بَعْضَهُ كَلَامَ اللَّهِ وَبَعْضَهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ وَالْقُرْآنُ هُوَ الْقُرْآنُ - الَّذِي يَعْلَمُ الْمُسْلِمُونَ إنَّهُ الْقُرْآنُ - حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ هُوَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا. وَلِهَذَا كَانَ الْفُقَهَاءُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ - إذَا لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ وَالْفُقَهَاءِ - إذَا تَكَلَّمُوا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ذَكَرُوا ذَلِكَ وَخَالَفُوا مَنْ قَالَ إنَّ الْأَمْرَ هُوَ الْمَعْنَى الْمُجَرَّدُ وَيَعْلَمُ أَهْلُ الْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ - أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ - أَنَّ قَوْله تَعَالَى {الم} {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامَ غَيْرِهِ وَكَلَامُ اللَّهِ هُوَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ لَا مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ.

ص: 36

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

عَنْ رَجُلَيْنِ تَجَادَلَا فِي " الْأَحْرُفِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى آدَمَ " فَقَالَ أَحَدُهُمَا إنَّهَا قَدِيمَةٌ لَيْسَ لَهَا مُبْتَدَأٌ وَشَكْلُهَا وَنَقْطُهَا مُحْدَثٌ. فَقَالَ الْآخَرُ لَيْسَتْ بِكَلَامِ اللَّهِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ بِشَكْلِهَا وَنَقْطِهَا وَالْقَدِيمُ هُوَ اللَّهُ وَكَلَامُهُ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَتَبَ بِهَا. وَسَأَلَا أَيُّهُمَا أَصْوَبُ قَوْلًا وَأَصَحُّ اعْتِقَادًا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَعْرِفَةُ " كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ". وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ الَّذِي يُوَافِقُ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الصَّرِيحَةَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ فَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ لَيْسَ ذَلِكَ

ص: 37

مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَكَلَامُهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْهُ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ بَائِنٌ عَنْهُ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ أَوْ التَّوْرَاةَ أَوْ الْإِنْجِيلَ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا قَالُوا إنَّ نَفْسَ نِدَائِهِ لِمُوسَى أَوْ نَفْسَ الْكَلِمَةِ الْمُعَيَّنَةِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ بَلْ قَالُوا لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَكَلَامُهُ قَدِيمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ. وَكَلِمَاتُ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَبِالتَّوْرَاةِ الْعِبْرِيَّةِ. فَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} إلَى قَوْلِهِ: {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يُبَدِّلُ مِنْهُ آيَةً مَكَانَ آيَةٍ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ وَهُوَ جِبْرِيلُ - وَهُوَ الرُّوحُ الْأَمِينُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ - مِنْ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ قَالَ: {إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ يُعَلِّمُهُ رَجُلٌ بِمَكَّةَ أَعْجَمِيٌّ فَقَالَ تَعَالَى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} أَيْ الَّذِي يُضِيفُونَ إلَيْهِ هَذَا التَّعْلِيمَ أَعْجَمِيٌّ {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} .

ص: 38

فَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ نَزَّلَهَا رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ اللَّهِ بِالْحَقِّ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وَالْكِتَابُ الَّذِي أُنْزِلَ مُفَصَّلًا هُوَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ أَتَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَالْعِلْمُ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا فَقَالَ: يَعْلَمُونَ وَلَمْ يَقُلْ يَقُولُونَ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا بِخِلَافِ الْقَوْلِ. وَذِكْر عِلْمِهِمْ ذِكْرٌ مُسْتَشْهَدٌ بِهِ. وَقَدْ فَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ إيحَائِهِ إلَى غَيْرِ مُوسَى وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ} إلَى قَوْلِهِ: {حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} فَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى وَبَيْنَ إيحَائِهِ لِغَيْرِهِ وَوَكَّدَ تَكْلِيمَهُ لِمُوسَى بِالْمَصْدَرِ وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} إلَى قَوْلِهِ: {بِرُوحُ الْقُدُسِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا} إلَى آخِرِ السُّورَةِ. فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ: إمَّا وَحْيًا وَإِمَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَإِمَّا أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ؛ فَجَعَلَ الْوَحْيَ غَيْرَ التَّكْلِيمِ وَالتَّكْلِيمُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَانَ لِمُوسَى.

ص: 39

وَقَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ نَادَاهُ كَمَا قَالَ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ} الْآيَةَ. وَ " النِّدَاءُ " بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يَكُونُ إلَّا صَوْتًا مَسْمُوعًا فَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورُهُمْ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَقُولُونَ: إنَّ مُوسَى نَادَاهُ رَبُّهُ نِدَاءً سَمِعَهُ بِأُذُنِهِ وَنَادَاهُ بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى وَالصَّوْتُ لَا يَكُونُ إلَّا كَلَامًا وَالْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا حُرُوفًا مَنْظُومَةً وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَقَالَ: {حم} {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَقَالَ: {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} فَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: مِنْهُ بَدَأَ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رحمه الله مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ قَالُوا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ فَبَدَا مِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ فَقَالَ السَّلَفُ: مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَمْ يَخْلُقْهُ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ كَلَامًا لِذَلِكَ الْمَحَلِّ الَّذِي خَلَقَهُ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا خَلَقَ صِفَةً مِنْ الصِّفَاتِ فِي مَحَلٍّ كَانَتْ الصِّفَةُ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَحَلِّ وَلَمْ تَكُنْ صِفَةً لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَإِذَا خَلَقَ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا فِي مَحَلٍّ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمُتَحَرِّكَ الْمُتَلَوِّنَ بِهِ وَكَذَلِكَ إذَا خَلَقَ حَيَاةً أَوْ إرَادَةً أَوْ قُدْرَةً أَوْ عِلْمًا أَوْ كَلَامًا فِي مَحَلٍّ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمُرِيدَ

ص: 40

الْقَادِرَ الْعَالِمَ الْمُتَكَلِّمَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَخْلُوقُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ صِفَةً لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِنَّمَا يَتَّصِفُ الرَّبُّ تَعَالَى بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ لَا بِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَهُوَ الْحَيُّ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الرَّحِيمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ بِحَيَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامِهِ الْقَائِمِ بِهِ لَا بِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي. وَمَنْ جَعَلَ كَلَامَهُ مَخْلُوقًا لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْقَائِلُ لِمُوسَى: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وَهَذَا مُمْتَنِعٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا إلَّا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ بِمَعَانِيهَا وَأَلْفَاظِهَا الْمُنْتَظِمَةِ مِنْ حُرُوفِهَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَخْلُوقًا؛ بَلْ كَانَ ذَلِكَ كَلَامًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَدْ قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ: إنَّ فُلَانًا يَقُولُ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَحْرُفَ سَجَدَتْ لَهُ إلَّا الْأَلِفُ فَقَالَتْ: لَا أَسْجُدُ حَتَّى أُؤْمَرَ فَقَالَ: هَذَا كُفْرٌ. فَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ إنَّ الْحُرُوفَ مَخْلُوقَةٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ جِنْسُ الْحُرُوفِ مَخْلُوقًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ وَالتَّوْرَاةُ الْعِبْرِيَّةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مَخْلُوقًا وَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مُخَالِفٌ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

ص: 41

وَالنَّاسُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي كَلَامِ اللَّهِ نِزَاعًا كَثِيرًا. وَالطَّوَائِفُ الْكِبَارُ نَحْوُ سِتِّ فِرَقٍ فَأَبْعَدُهَا عَنْ الْإِسْلَامِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالصَّابِئَةِ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ إنَّمَا هُوَ مَا يَفِيضُ عَلَى النُّفُوسِ: إمَّا مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّمَا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى مِنْ سَمَاءِ عَقْلِهِ أَيْ بِكَلَامِ حَدَثَ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ خَارِجٍ. وَأَصْلُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأَفْلَاكَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْهَا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ بَلْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ فَلَمَّا جَاءَتْ الْأَنْبِيَاءُ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْبَاهِرَةِ جَعَلُوا يَتَأَوَّلُونَ ذَلِكَ تَأْوِيلَاتٍ يُحَرِّفُونَ فِيهَا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَقْوَالِ سَلَفِهِمْ الْمَلَاحِدَةِ فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُمْ كَثِيرُو التَّنَاقُضِ كَقَوْلِهِمْ إنَّ الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفُ وَهَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْأُخْرَى فَيَقُولُونَ: هُوَ عَقْلٌ وَعَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَلَذِيذٌ وَمُلْتَذٌّ وَلَذَّةٌ وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وَعِشْقٌ. وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَالِمٌ مَعْلُومٌ مُحِبٌّ مَحْبُوبٌ وَيَقُولُونَ نَفْسُ الْعِلْمِ هُوَ نَفْسُ الْمَحَبَّةِ وَهُوَ نَفْسُ الْقُدْرَةِ. وَنَفْسُ الْعِلْمِ هُوَ نَفْسُ الْعَالِمِ وَنَفْسُ الْمَحَبَّةِ هِيَ نَفْسُ الْمَحْبُوبِ. وَيَقُولُونَ إنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ فِي الْأَزَلِ؛ فَيَجِبُ أَنْ يُقَارِنَهَا مَعْلُولُهَا فِي

ص: 42

الْأَزَلِ فِي الزَّمَنِ وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهَا بِالْعِلَّةِ لَا بِالزَّمَانِ. وَيَقُولُونَ إنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ وَمَعْلُولَهَا يَقْتَرِنَانِ فِي الزَّمَانِ وَيَتَلَازَمَانِ فَلَا يُوجَدُ مَعْلُولٌ إلَّا بِعِلَّةِ تَامَّةٍ وَلَا تَكُونُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ إلَّا مَعَ مَعْلُولِهَا فِي الزَّمَانِ. ثُمَّ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ حَوَادِثَ الْعَالَمِ حَدَثَتْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَجَدَّدَ مِنْ الْمُبْدِعِ الْأَوَّلِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَصِيرَ عِلَّةً لِلْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ؛ بَلْ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْحَوَادِثَ حَدَثَتْ بِلَا مُحْدِثٍ وَكَذَلِكَ عُدِمَتْ بَعْدَ حُدُوثِهَا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ عَدَمَهَا عَلَى أَصْلِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ قَابَلَهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ ظَنُّوا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ يَتَرَاخَى عَنْهُ أَثَرُهُ وَأَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَالْحَوَادِثُ لَهَا ابْتِدَاءٌ وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ. وَلَمْ يَهْتَدِ الْفَرِيقَانِ لِلْقَوْلِ الْوَسَطِ وَهُوَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ مُسْتَلْزِمٌ أَنْ يَكُونَ أَثَرُهُ عَقِبَ تَأْثِيرِهِ التَّامِّ لَا مَعَ التَّأْثِيرِ وَلَا مُتَرَاخِيًا عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُكَوِّنُ كُلَّ شَيْءٍ فَيَكُونُ عَقِبَ تَكْوِينِهِ لَا مَعَ تَكْوِينِهِ فِي الزَّمَانِ وَلَا مُتَرَاخِيًا عَنْ تَكْوِينِهِ كَمَا يَكُونُ الِانْكِسَارُ عَقِبَ الْكَسْرِ وَالِانْقِطَاعُ عَقِبَ الْقَطْعِ وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ عَقِبَ التَّطْلِيقِ لَا مُتَرَاخِيًا عَنْهُ وَلَا مُقَارِنًا لَهُ فِي الزَّمَانِ. وَالْقَائِلُونَ بِالتَّرَاخِي ظَنُّوا امْتِنَاعَ حَوَادِثِ لَا تَتَنَاهَى فَلَزِمَهُمْ أَنَّ

ص: 43

الرَّبَّ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ ذَلِكَ فَالْتَزَمُوا أَنَّ الرَّبَّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ بِمَشِيئَتِهِ. فَافْتَرَقُوا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَلَامُهُ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مَقْدُورًا مُرَادًا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا وَمَا كَانَ حَادِثًا كَانَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ؛ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَتَسَلْسُلِهَا فِي ظَنِّهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ كَلَامُهُ لَا يَكُونُ إلَّا قَائِمًا بِهِ وَمَا كَانَ قَائِمًا بِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا قَدِيمَ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَقْدُورًا مُرَادًا لَكَانَ حَادِثًا فَكَانَتْ الْحَوَادِثُ تَقُومُ بِهِ وَلَوْ قَامَتْ بِهِ لَمْ يَسْبِقْهَا وَلَمْ يَخْلُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ؛ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَكِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا فِي الْأَزَلِ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. قَالَتْ " هَذِهِ الطَّوَائِفُ ": وَنَحْنُ بِهَذَا الطَّرِيقِ عَلِمْنَا حُدُوثَ الْعَالِمِ؛ فَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ بِأَنَّهَا لَا تَخْلُوَا مِنْ الْحَوَادِثِ وَلَا تَسْبِقُهَا وَمَا لَمْ يَسْبِقْ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذِهِ

ص: 44

قَضِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَلَمْ يَتَفَطَّنْ لِإِجْمَالِهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ تَفَطَّنَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا لَمْ يَسْبِقْ الْحَوَادِثَ الْمَحْصُورَةَ الْمَحْدُودَةَ وَمَا يَسْبِقُ جِنْسَ الْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ. شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ حَادِثٌ بِالضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَوَادِثَ لَهَا مَبْدَأٌ مُعَيَّنٌ فَمَا لَمْ يَسْبِقْهَا يَكُونُ مَعَهَا أَوْ بَعْدَهَا وَكِلَاهُمَا حَادِثٌ. وَأَمَّا جِنْسُ الْحَوَادِثِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَهَذَا شَيْءٌ تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ فَقِيلَ إنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِ الْجَهْم وَأَبِي الهذيل. فَقَالَ الْجَهْمُ: بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَالَ أَبُو الهذيل: بِفَنَاءِ حَرَكَاتِ أَهْلِهِمَا وَقِيلَ: بَلْ هُوَ جَائِزٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي؛ لِأَنَّ الْمَاضِيَ دَخَلَ فِي الْوُجُودِ دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ. وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ طَوَائِفِ النُّظَّارِ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ جَائِزٌ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ. وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَقُولُ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَأَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أَئِمَّةِ الْفَلَاسِفَةِ. لَكِنْ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ مُدَّعُونَ ذَلِكَ فِي حَرَكَاتِ الْفَلَكِ وَيَقُولُونَ إنَّهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ. وَخَالَفُوا فِي ذَلِكَ جُمْهُورَ الْفَلَاسِفَةِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَجَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ. فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؛ بَلْ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ حَادِثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَإِنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنْ صِفَاتِ

ص: 45

الْكَمَالِ وَلَيْسَتْ صِفَاتُهُ خَارِجَةً عَنْ مُسَمَّى اسْمِهِ؛ بَلْ مَنْ قَالَ عَبَدْت اللَّهَ وَدَعَوْت اللَّهَ فَإِنَّمَا عَبَدَ ذَاتَه الْمُتَّصِفَةَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي تَسْتَحِقُّهَا وَيَمْتَنِعُ وُجُودُ ذَاتِهِ بِدُونِ صِفَاتِهَا اللَّازِمَةِ لَهَا. ثُمَّ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي " النُّبُوَّاتِ " مَنْ اتَّبَعَ أَرِسْطُو - كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ - وَرَأَوْا مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ إخْبَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أَخَذُوا يُحَرِّفُونَ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَيَقُولُونَ: الْحُدُوثُ نَوْعَانِ ذَاتِيٌّ وَزَمَانِيٌّ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْفَلَكَ مُحْدَثٌ الْحُدُوثَ الزَّمَانِيَّ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَعْلُولٌ وَإِنْ كَانَ أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ مَعَ اللَّهِ وَقَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَالْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ أَخْبَرَتْ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَالْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ لَا يَكُونُ فِي أَيَّامٍ. وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ خَلَقَ كَذَا إنَّمَا أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ الْمَخْلُوقَ وَأَحْدَثَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَمَا قَالَ: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} وَالْعُقُولُ الصَّرِيحَةُ تُوَافِقُ ذَلِكَ وَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمَخْلُوقَ الْمَصْنُوعَ لَا يَكُونُ مُقَارِنًا لِلْفَاعِلِ فِي الزَّمَانِ وَلَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَهُ وَأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَكُونُ إلَّا بِإِحْدَاثِ الْمَفْعُولِ.

ص: 46

وَقَالُوا لِهَؤُلَاءِ قَوْلُكُمْ: " إنَّهُ مُؤَثِّرٌ تَامٌّ فِي الْأَزَلِ " لَفْظٌ مُجْمَلٌ يُرَادُ بِهِ التَّأْثِيرُ الْعَامُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَيُرَادُ بِهِ التَّأْثِيرُ الْمُطْلَقُ فِي شَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ وَيُرَادُ بِهِ التَّأْثِيرُ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ دُونَ غَيْرِهِ؛ فَإِنْ أَرَدْتُمْ " الْأَوَّلَ " لَزِمَ أَنْ لَا يَحْدُثَ فِي الْعَالَمِ حَادِثٌ وَهَذَا خِلَافُ الْمُشَاهَدَةِ وَإِنْ أَرَدْتُمْ " الثَّانِيَ " لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقًا حَادِثًا كَائِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَكَانَ الرَّبُّ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ فَعَّالًا لِمَا يَشَاءُ وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَكُمْ وَيَسْتَلْزِمُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ وَيُوَافِقُ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ الْعَقْلُ الصَّرِيحُ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ يُوَافِقُ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَإِنْ أَرَدْتُمْ " الثَّالِثَ " فَسَدَ قَوْلُكُمْ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ يَشَاءُ حُدُوثَهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لَهَا مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ سَبَبٍ يُوجِبُ الْإِحْدَاثَ وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَكُمْ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا جَازَ أَنْ يُحْدِثَ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا لِشَيْءِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ هَذَا بَطَلَ فَقَوْلُكُمْ بَاطِلٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَحَقِيقَةُ قَوْلِكُمْ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ أَثَرِهِ وَلَا يَكُونُ الْأَثَرُ إلَّا مَعَ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ فِي الزَّمَنِ؛ وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ لَا يَحْدُثَ شَيْءٌ وَيَلْزَمُكُمْ أَنَّ كُلَّ مَا حَدَثَ حَدَثَ بِدُونِ مُؤَثِّرٍ وَيَلْزَمُكُمْ بُطْلَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ أَثَرٍ وَأَثَرٍ وَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَقُولُوا بَعْضُ الْآثَارِ يُقَارِنُ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ وَبَعْضُهَا يَتَرَاخَى عَنْهُ.

ص: 47

وَأَيْضًا فَكَوْنُهُ فَاعِلًا لِمَفْعُولِ مُعَيَّنٍ مُقَارِنٍ لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا بَاطِلٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وَأَيْضًا فَأَنْتُمْ وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ مُوَافِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُمْكِنَ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا مُمْكِنًا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلْتُمُوهُ الْمُمْكِنَ الْخَاصَّ الَّذِي قَسِيمُهُ الضَّرُورِيُّ الْوَاجِبُ وَالضَّرُورِيُّ الْمُمْتَنِعُ لَا يَكُونُ إلَّا مَوْجُودًا تَارَةً وَمَعْدُومًا أُخْرَى وَأَنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ لَا يَكُونُ إلَّا ضَرُورِيًّا وَاجِبًا يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ. وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ حَتَّى ابْنُ سِينَا وَذَكَرَهُ فِي كُتُبِهِ الْمَشْهُورَةِ " كالشفا " وَغَيْرِهِ. ثُمَّ تَنَاقَضَ فَزَعَمَ أَنَّ الْفَلَكَ مُمْكِنٌ مَعَ كَوْنِهِ قَدِيمًا أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَزَعَمَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِغَيْرِهِ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ الَّذِي يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ يَكُونُ مُمْكِنًا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَزَعَمَ أَنَّ لَهُ مَاهِيَّةً غَيْرَ وُجُودِهِ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَتَنَاقُضِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَ " الْقَوْلُ الثَّانِي " لِلنَّاسِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُمْ بِهِ صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ لَا حَيَاةٌ وَلَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا كَلَامٌ وَلَا إرَادَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا غَضَبٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ بَلْ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ فَذَلِكَ الْمَخْلُوقُ هُوَ كَلَامُهُ وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِأَقْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَنُصُوصِهِمْ؛ وَلَيْسَ مَعَ هَؤُلَاءِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ قَوْلٌ يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ؛ بَلْ لَهُمْ شُبَهٌ عَقْلِيَّةٌ فَاسِدَةٌ قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهَا فِي غَيْرِ هَذَا

ص: 48

الْمَوْضِعِ، وَهَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الدَّلِيلَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بِتِلْكَ الْحُجَجِ وَهُمْ لَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِأَعْدَائِهِ كَسَرُوا. وَ " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِكَلَامِ قَائِمٍ بِذَاتِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَهَؤُلَاءِ مُوَافِقُونَ لِمَنْ قَبْلَهُمْ فِي أَصْلِ قَوْلِهِمْ لَكِنْ قَالُوا الرَّبُّ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ وَلَا يَقُومُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ. وَأَوَّلُ مَنْ اشْتَهَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فِي الْإِسْلَامِ " عَبْدُ اللَّهِ بْن سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ " ثُمَّ افْتَرَقَ مُوَافِقُوهُ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ الْكَلَامُ. مَعْنَى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَأْمُورٍ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ مَحْظُورٍ وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ مُخْبَرٍ عَنْهُ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً. وَقَالُوا مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَاحِدٌ وَمَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ. وَقَالُوا: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ صِفَاتٌ لِلْكَلَامِ لَا أَنْوَاعٌ لَهُ. وَمِنْ مُحَقِّقِيهِمْ مَنْ جَعَلَ الْمَعْنَى يَعُودُ إلَى الْخَبَرِ وَالْخَبَرَ يَعُودُ إلَى الْعِلْمِ. وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: قَوْلُ هَؤُلَاءِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى لَيْسَ إلَّا خَلْقُ إدْرَاكٍ يَفْهَمُ بِهِ مُوسَى ذَلِكَ الْمَعْنَى. فَقِيلَ لَهُمْ: أَفَهِمَ كُلَّ الْكَلَامِ أَمْ بَعْضَهُ؟ إنْ كَانَ فَهِمَهُ كُلَّهُ

ص: 49

فَقَدْ عَلِمَ عِلْمَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ فَهِمَ بَعْضَهُ فَقَدْ تَبَعَّضَ وَعِنْدَهُمْ كَلَامُ اللَّه لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَعَدَّدُ. وَقِيلَ لَهُمْ: قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى وَإِيحَائِهِ لِغَيْرِهِ. وَعَلَى أَصْلِكُمْ لَا فَرْقَ. وَقِيلَ لَهُمْ: قَدْ كَفَّرَ اللَّهُ مَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ قَوْلَ الْبَشَرِ وَقَدْ جَعَلَهُ تَارَةً قَوْلَ رَسُولٍ مِنْ الْبَشَرِ وَتَارَةً قَوْلَ رَسُولٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} فَهَذَا الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} فَهَذَا جِبْرِيلُ فَأَضَافَهُ تَارَةً إلَى الرَّسُولِ الْمَلَكِيِّ وَتَارَةً إلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ. وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ. وَكَانَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ ادَّعَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ أَحْدَثَهُ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ فَقِيلَ لَهُمْ: لَوْ أَحْدَثَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ إضَافَتُهُ إلَى الْآخَرِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَضَافَهُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمِ الرَّسُولِ الدَّالِّ عَلَى مُرْسِلِهِ لَا بِاسْمِ الْمَلَكِ وَالنَّبِيِّ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ رَسُولٍ بَلَّغَهُ عَنْ مُرْسِلِهِ لَا قَوْلُ مَلَكٍ أَوْ نَبِيٍّ أَحْدَثَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بَلْ قَدْ كَفَرَ مَنْ قَالَ إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ.

ص: 50

وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى الَّتِي وَافَقَتْ ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ قَالَتْ: بَلْ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ هُوَ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِ الرَّبِّ أَزَلًا وَأَبَدًا لَا يَتَكَلَّمُ بِهَا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَلَمْ يُفَرِّقْ هَؤُلَاءِ بَيْنَ جِنْسِ الْحُرُوفِ وَجِنْسِ الْكَلَامِ وَبَيْنَ عَيْنِ حُرُوفٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَقُولُ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ إنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ؛ فَإِنَّ الْحُرُوفَ الْمُتَعَاقِبَةَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَإِنْ كَانَ جِنْسُهَا قَدِيمًا؛ لِإِمْكَانِ وُجُودِ كَلِمَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَحُرُوفٍ مُتَعَاقِبَةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَامْتِنَاعِ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهَا قَدِيمًا أَزَلِيًّا فَإِنَّ الْمَسْبُوقَ بِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ أَزَلِيًّا. وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ وُجُودِهَا وَمَاهِيَّتِهَا فَقَالَ: التَّرْتِيبُ فِي مَاهِيَّتِهَا لَا فِي وُجُودِهَا وَبُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ فَإِنَّ مَاهِيَّةَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ حُرُوفٌ لَا يَكُونُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَالصَّوْتُ لَا يَكُونُ إلَّا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمَاهِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ أَزَلِيًّا مُتَقَدِّمًا عَلَيْهَا بِهِ مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بَيْنَهُ لَوْ قُدِّرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا أَيْضًا مُتَرَتِّبًا تَرْتِيبًا مُتَعَاقِبًا. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدِيمَ هُوَ مَا يُسْمَعُ مِنْ الْعِبَادِ مِنْ الْأَصْوَاتِ بِالْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَوْ بَعْضُ ذَلِكَ وَكَانَ أَظْهَرَ

ص: 51

فَسَادًا مِمَّا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ حُدُوثُ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ. وَ " طَائِفَةٌ خَامِسَةٌ " قَالَتْ: بَلْ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِ؛ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ فِي الْأَزَلِ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الرَّبَّ فِي الْأَزَلِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْكَلَامِ بِمَشِيئَتِهِ وَلَا عَلَى الْفِعْلِ كَمَا فَعَلَهُ أُولَئِكَ ثُمَّ جَعَلُوا الْفِعْلَ وَالْكَلَامَ مُمْكِنًا مَقْدُورًا مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ شَيْءٍ أَوْجَبَ الْقُدْرَةَ وَالْإِمْكَانَ كَمَا قَالَ أُولَئِكَ فِي الْمَفْعُولَاتِ الْمُنْفَصِلَة. وَأَمَّا السَّلَفُ فَقَالُوا: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَأَنَّ الْكَلَامَ صِفَةُ كَمَالٍ وَمَنْ يَتَكَلَّمُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ كَمَا أَنَّ مَنْ يَعْلَمُ وَيَقْدِرُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَقْدِرُ وَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَكُونُ الْكَلَامُ لَازِمًا لِذَاتِهِ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ وَلَا لَهُ فِيهِ مَشِيئَةٌ وَالْكَمَالُ إنَّمَا يَكُونُ بِالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمَوْصُوفِ لَا بِالْأُمُورِ الْمُبَايَنَةِ لَهُ وَلَا يَكُونُ الْمَوْصُوفُ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ أَكْمَلُ مِمَّنْ حَدَثَتْ لَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَا لَوْ كَانَ حُدُوثُهَا مُمْكِنًا فَكَيْفَ إذَا كَانَ مُمْتَنِعًا؟ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ؛ وَمِنْ أَجَلِّهَا الْكَلَامُ. فَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ بِالْعَرَبِيَّةِ كَمَا تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ

ص: 52

الْعَرَبِيِّ وَمَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ قَائِمٌ بِهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ فَلَا تَكُونُ الْحُرُوفُ الَّتِي هِيَ مَبَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَكُتُبُهُ الْمُنَزَّلَةُ مَخْلُوقَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهَا.

فَصْلٌ:

ثُمَّ تَنَازَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْحُرُوفِ الْمَوْجُودَةِ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ. وَسَبَبُ نِزَاعِهِمْ أَمْرَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْكَلَامِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ فَيُسْمَعُ مِنْهُ وَبَيْنَ مَا إذَا بَلَّغَهُ عَنْهُ مُبَلِّغٌ فَسُمِعَ مِنْ ذَلِكَ الْمُبَلِّغِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ بِهِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ؛ فَإِذَا قَرَأَهُ الْقُرَّاءُ قَرَءُوهُ بِأَصْوَاتِ أَنْفُسِهِمْ. فَإِذَا قَالَ الْقَارِئُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كَانَ هَذَا الْكَلَامُ الْمَسْمُوعُ مِنْهُ كَلَامَ اللَّهِ لَا كَلَامَ نَفْسِهِ وَكَانَ هُوَ قَرَأَهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ لَا بِصَوْتِ اللَّهِ فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} وَكَانَ يَقُولُ: {أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي} وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ ثَابِتٌ فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يُبَلِّغُهُ كَلَامُ رَبِّهِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْقَارِئَ

ص: 53

يَقْرَؤُهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم {لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ} قَالَ أَحْمَد وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا: هُوَ تَحْسِينُهُ بِالصَّوْتِ. قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: يُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ فَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ الْقَارِئَ يُحَسِّنُ الْقُرْآنَ بِصَوْتِ نَفْسِهِ. وَ " السَّبَبُ الثَّانِي " أَنَّ السَّلَفَ قَالُوا: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالُوا لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ. فَبَيَّنُوا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَدِيمٌ أَيْ جِنْسُهُ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ الْمُعَيَّنِ قَدِيمٌ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْقُرْآنُ قَدِيمٌ؛ بَلْ قَالُوا: إنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ بِمَشِيئَتِهِ كَانَ الْقُرْآنُ كَلَامَهُ وَكَانَ مُنَزَّلًا مِنْهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ ذَلِكَ أَزَلِيًّا قَدِيمًا بِقِدَمِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَجِنْسُ كَلَامِهِ قَدِيمٌ. فَمَنْ فَهِمَ قَوْلَ السَّلَفِ وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ زَالَتْ عَنْهُ الشُّبُهَاتُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُعْضِلَةِ الَّتِي اضْطَرَبَ فِيهَا أَهْلُ الْأَرْضِ. فَمَنْ قَالَ إنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى مَخْلُوقٌ فَقَدْ قَالَ قَوْلًا مُخَالِفًا لِلْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ وَالْمَنْقُولِ الصَّحِيحِ وَمَنْ قَالَ نَفْسُ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ أَوْ مِدَادُهُمْ أَوْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَدِيمٌ فَقَدْ خَالَفَ أَيْضًا أَقْوَالَ السَّلَفِ وَكَانَ فَسَادُ قَوْلِهِ ظَاهِرًا لِكُلِّ أَحَدٍ وَكَانَ مُبْتَدِعًا قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا قَالَتْهُ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ

ص: 54

طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِمْ بَرِيئُونَ مِنْ ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ إنَّ الْحَرْفَ الْمُعَيَّنَ أَوْ الْكَلِمَةَ الْمُعَيَّنَةَ قَدِيمَةُ الْعَيْنِ فَقَدْ ابْتَدَعَ قَوْلًا بَاطِلًا فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ جِنْسَ الْحُرُوفِ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً وَإِنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا وَالْحُرُوفَ الْمُنْتَظِمَةَ مِنْهُ جُزْءٌ مِنْهُ وَلَازِمَةٌ لَهُ وَقَدْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا فَلَا تَكُونُ مَخْلُوقَةً فَقَدْ أَصَابَ. وَإِذَا قَالَ إنَّ اللَّهَ هَدَى عِبَادَهُ وَعَلَّمَهُمْ الْبَيَانَ فَأَنْطَقَهُمْ بِهَا بِاللُّغَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَهُمْ يَنْطِقُونَ بِالْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ مَبَانِي كُتُبِهِ وَكَلَامِهِ وَأَسْمَائِهِ فَهَذَا قَدْ أَصَابَ فَالْإِنْسَانُ وَجَمِيعُ مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَالْحَرَكَاتِ وَغَيْرِهَا مَخْلُوقٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَالرَّبُّ تَعَالَى بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْعِبَادُ إذَا قَرَءُوا كَلَامَهُ فَإِنَّ كَلَامَهُ الَّذِي يَقْرَؤُونَهُ هُوَ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَكَلَامُهُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا وَكَانَ مَا يَقْرَؤُونَ بِهِ كَلَامَهُ مِنْ حَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ مَخْلُوقًا وَكَذَلِكَ مَا يُكْتَبُ فِي الْمَصَاحِفِ مِنْ كَلَامِهِ فَهُوَ كَلَامُهُ مَكْتُوبًا فِي الْمَصَاحِفِ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْمِدَادُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ كَلَامُهُ وَغَيْرُ كَلَامِهِ مَخْلُوقٌ.

ص: 55

وَقَدْ فَرَّقَ سبحانه وتعالى بَيْنَ كَلَامِهِ وَبَيْنَ مِدَادِ كَلِمَاتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} وَكَلِمَاتُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَالْمِدَادُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ كَلِمَاتُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَذَلِكَ الْمَكْتُوبُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَغَيْرِهِ قَالَ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وَقَالَ: {كَلَّا إنَّهَا تَذْكِرَةٌ} {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} وَقَالَ: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} .

فَصْلٌ:

فَهَذَانِ الْمُتَنَازِعَانِ اللَّذَانِ تَنَازَعَا فِي " الْأَحْرُفِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى آدَمَ " فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إنَّهَا قَدِيمَةٌ وَلَيْسَ لَهَا مُبْتَدَأٌ وَشَكْلُهَا وَنَقْطُهَا مُحْدَثٌ. وَقَالَ الْآخَرُ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِكَلَامِ اللَّهِ وَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ بِشَكْلِهَا وَنَقْطِهَا وَإِنَّ الْقَدِيمَ هُوَ اللَّهُ وَكَلَامُهُ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَتَبَ بِهَا. وَسُؤَالُهُمَا أَنْ نُبَيِّنَ لَهُمَا الصَّوَابَ وَأَيُّهُمَا أَصَحُّ اعْتِقَادًا يُقَالُ لَهُمَا: يَحْتَاجُ بَيَانُ الصَّوَابِ إلَى بَيَانِ مَا فِي السُّؤَالِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُجْمَلِ

ص: 56

فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ نِزَاعِ الْعُقَلَاءِ لِكَوْنِهِمْ لَا يَتَصَوَّرُونَ مَوْرِدَ النِّزَاعِ تَصَوُّرًا بَيِّنًا وَكَثِيرٌ مِنْ النِّزَاعِ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِيهِ فِي قَوْلٍ آخَرَ غَيْرِ الْقَوْلَيْنِ الَّلَذِينَ قَالَاهُمَا، وَكَثِيرٌ مِنْ النِّزَاعِ قَدْ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ ضَعِيفٍ إذَا بُيِّنَ فَسَادُهُ ارْتَفَعَ النِّزَاعُ. فَأَوَّلُ مَا فِي هَذَا السُّؤَالِ قَوْلُهُمَا: الْأَحْرُفُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى آدَمَ فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ مُفَرَّقَةً مَكْتُوبَةً وَهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ وَهُوَ وَمِثْلُهُ يُوجَدُ فِي التَّوَارِيخِ كَتَارِيخِ ابْنِ جَرِيرٍ الطبري وَنَحْوِهِ وَهَذَا وَنَحْوُهُ مَنْقُولٌ عَمَّنْ يَنْقُلُ الْأَحَادِيثَ الإسرائيلية وَنَحْوَهَا مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِثْلُ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ وَمَالِك بْنِ دِينَارٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا يَنْقُلُهُ هَؤُلَاءِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عُمْدَةً فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِنَقْلِ مُتَوَاتِرٍ أَوْ أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا عَنْ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ وَأَيْضًا فَهَذَا النَّقْلُ قَدْ عَارَضَهُ نَقْلٌ آخَرُ وَهُوَ: " {إنَّ أَوَّلَ مَنْ خَطَّ وَخَاطَ إدْرِيسُ} ". فَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ وَأَقْوَى فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ أَنَّ إدْرِيسَ أَوَّلُ مَنْ خَاطَ الثِّيَابَ وَخَطَّ بِالْقَلَمِ: وَعَلَى هَذَا فَبَنُو آدَمَ مِنْ قَبْلِ إدْرِيسَ لَمْ يَكُونُوا يَكْتُبُونَ بِالْقَلَمِ وَلَا يَقْرَؤُونَ كُتُبًا. وَاَلَّذِي فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنْ

ص: 57

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " {إنَّ آدَمَ كَانَ نَبِيًّا مُكَلَّمًا كَلَّمَهُ اللَّهُ قَبْلًا} " وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ شَيْئًا مَكْتُوبًا فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى آدَمَ صَحِيفَةً وَلَا كِتَابًا وَلَا هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا أَصْلَ لَهُ وَلَوْ كَانَ هَذَا مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَكَانَ هَذَا النَّقْلُ لَيْسَ هُوَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَحَادِيثِ الإسرائيلية الَّتِي لَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا؛ بَلْ وَلَا يَجُوزُ التَّصْدِيقُ بِصِحَّتِهَا إلَّا بِحُجَّةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " {إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ؛ فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقِّ فَتُكَذِّبُوهُ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلِ فَتُصَدِّقُوهُ} ". وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَأَنْطَقَهُ بِالْكَلَامِ الْمَنْظُومِ. وَأَمَّا تَعْلِيمُ حُرُوفٍ مُقَطَّعَةٍ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ مَكْتُوبَةً فَهُوَ تَعْلِيمٌ لَا يَنْفَعُ وَلَكِنْ لَمَّا أَرَادُوا تَعْلِيمَ الْمُبْتَدِئِ بِالْخَطِّ صَارُوا يُعَلِّمُونَهُ الْحُرُوفَ الْمُفْرَدَةَ حُرُوفَ الْهِجَاءَ ثُمَّ يُعَلِّمُونَهُ تَرْكِيبَ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ فَيُعَلَّمُ أَبْجَدَ هوز وَلَيْسَ هَذَا وَحْدَهُ كَلَامًا. فَهَذَا الْمَنْقُولُ عَنْ آدَمَ مِنْ نُزُولِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ عَلَيْهِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ نَقْلٌ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ عَقْلٌ؛ بَلْ الْأَظْهَرُ فِي كِلَيْهِمَا نَفْيُهُ وَهُوَ مَنْ جِنْسِ مَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَفْسِيرِ اب ت ث وَتَفْسِيرِ أَبْجَد

ص: 58

هوز حُطِّي وَيَرْوُونَهُ عَنْ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَهُ لِمُعَلِّمِهِ فِي الْكُتَّابِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ بَلْ الْمَكْذُوبَةِ. وَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ أَنْ يُحْتَجَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي هَذَا الْبَابِ كَالشَّرِيفِ المزيدي وَالشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ وَابْنِهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ يَذْكُرُ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ فَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذَا الْبَابِ بَاطِلٌ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَعَنْ النَّقَّاشِ وَنَحْوُهُ نَقَلَهُ الشَّرِيفُ المزيدي الْحَرَّانِي وَغَيْرُهُ فَأَجَلُّ مَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري وَقَدْ بَيَّنَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ كُلَّ مَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ بَاطِلٌ. فَذَكَرَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِهِ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي تَفْسِيرِ أَبْجَد هوز حُطِّي وَذَكَرَ حَدِيثًا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الجزري عَنْ فُرَاتِ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {تَعَلَّمُوا أباجاد وَتَفْسِيرُهَا وَيْلٌ لِعَالِمِ جَهِلَ تَفْسِيرَ أَبِي جَادّ قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا تَفْسِيرُهَا؟ قَالَ؟ أَمَّا الْأَلِفُ فَآلَاءُ اللَّهِ وَحَرْفٌ مِنْ أَسْمَائِهِ. وَأَمَّا الْبَاءُ فَبَهَاءُ اللَّهِ وَأَمَّا الْجِيمُ فَجَلَالُ اللَّهِ وَأَمَّا الدَّالُ فَدَيْنُ

ص: 59

اللَّهِ وَأَمَّا الْهَاءُ فَالْهَاوِيَةُ وَأَمَّا الْوَاوُ فَوَيْلٌ لِمَنْ سَهَا وَأَمَّا الزَّايُ فَالزَّاوِيَةُ وَأَمَّا الْحَاءُ فَحَطُوطُ الْخَطَايَا عَنْ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} " وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. وَذَكَرَ حَدِيثًا ثَانِيًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ وَاقِدٍ حَدَّثَنِي الْفُرَاتُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مهران عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " لَيْسَ شَيْءٌ إلَّا وَلَهُ سَبَبٌ وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَفْطَنُ لَهُ وَلَا بَلَغَهُ ذَلِكَ أَنَّ لِأَبِي جَادّ حَدِيثًا عَجِيبًا أَمَّا " أَبُو جَادّ " فَأَبَى آدَمَ الطَّاعَةَ وَجَدَّ فِي أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَأَمَّا " هوز " فَزَلَّ آدَمَ فَهَوَى مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ وَأَمَّا " حُطِّي " فَحُطَّتْ عَنْهُ خَطِيئَتُهُ وَأَمَّا " كلمن " فَأَكْلُهُ مِنْ الشَّجَرَةِ وَمُنَّ عَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ " وَسَاقَ تَمَامَ الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. وَذَكَرَ حَدِيثًا ثَالِثًا مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِسْعَرِ بْنِ كدام عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "{إنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ إلَى الْكُتَّابِ لِيُعَلِّمَهُ فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ: اُكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ عِيسَى وَمَا بِسْمِ اللَّهِ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ وَمَا أَدْرِي. فَقَالَ لَهُ عِيسَى الْبَاءُ بَهَاءُ اللَّهِ وَالسِّينُ سَنَاؤُهُ وَالْمِيمُ مُلْكُهُ وَاَللَّهُ إلَهُ الْآلِهَةِ وَالرَّحْمَنُ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالرَّحِيمُ رَحِيمُ الْآخِرَةِ. أَبُو جَاد: أَلِفٌ آلَاءُ اللَّهِ وَبَاءٌ بَهَاءُ اللَّهِ وَجِيمٌ جَمَالُ اللَّهِ وَدَالٌ اللَّهُ الدَّائِمُ وهوز هَاءُ الْهَاوِيَةِ} " وَذَكَرَ حَدِيثًا

ص: 60

مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَذَكَرَهُ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو الْفَرَجِ المقدسي عَنْ الشَّرِيفِ المزيدي حَدِيثًا عَنْ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تَفْسِيرِ: اب ت ث مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَوْ كَانَتْ الْأَخْبَارُ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ صِحَاحَ الْأَسَانِيدِ لَمْ يُعْدَلْ عَنْ الْقَوْلِ بِهَا إلَى غَيْرِهَا وَلَكِنَّهَا وَاهِيَةُ الْأَسَانِيدِ غَيْرُ جَائِزٍ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ زِيَادٍ الجزري الَّذِي حَدَّثَ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ بْنَ قُرَّةَ عَنْ فُرَاتٍ عَنْهُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِنَقْلِهِ وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحِيمِ بْنَ وَاقِدٍ الَّذِي خَالَفَهُ فِي رِوَايَةِ ذَلِكَ عَنْ الْفُرَاتِ مَجْهُولٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ وَأَنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ يَحْيَى الَّذِي حَدَّثَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِرِوَايَتِهِ وَلَا جَائِزٌ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ الِاحْتِجَاجُ بِأَخْبَارِهِ. قُلْت: إسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى هَذَا يُقَالُ لَهُ التيمي كُوفِيٌّ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ وَرِوَايَةُ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ فِي غَيْرِ الشَّامِيِّينَ لَا يُحْتَجُّ بِهَا بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ فِيمَا يَنْقُلُهُ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ بِخِلَافِ مَا يَنْقُلُهُ عَنْ شُيُوخِهِ الشَّامِيِّينَ؛ فَإِنَّهُ حَافِظٌ لِحَدِيثِ أَهْلِ بَلَدِهِ كَثِيرُ الْغَلَطِ فِي حَدِيثِ أُولَئِكَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالرِّجَالِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ وَاقِدٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفُرَاتُ بْنُ السَّائِبِ ضَعِيفٌ أَيْضًا

ص: 61

لَا يُحْتَجُّ بِهِ فَهُوَ فُرَاتُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ وَمُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الجزري ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي أَبْجَد هوز حُطِّي فَقَالَ طَائِفَةٌ هِيَ أَسْمَاءُ قَوْمٍ قِيلَ أَسْمَاءُ مُلُوكِ مَدْيَنَ أَوْ أَسْمَاءُ قَوْمٍ كَانُوا مُلُوكًا جَبَابِرَةً. وَقِيلَ: هِيَ أَسْمَاءُ السِّتَّةِ الْأَيَّامِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا الدُّنْيَا. وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الطبري. وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ أَصْلَهَا أَبُو جَاد مِثْلُ أَبِي عَاد وَهَوَازّ مِثْلُ رَوَادّ وَجَوَّاب. وَأَنَّهَا لَمْ تُعْرَبْ لِعَدَمِ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ أَسْمَاءً لِمُسَمَّيَاتِ وَإِنَّمَا أُلِّفَتْ لِيُعْرَفَ تَأْلِيفُ الْأَسْمَاءِ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ وَلَفْظُهَا: أَبْجَد هوز حُطِّي لَيْسَ لَفْظُهَا أَبُو جَاد هَوَازّ. ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحِسَابِ صَارُوا يَجْعَلُونَهَا عَلَامَاتٍ عَلَى مَرَاتِبِ الْعَدَدِ فَيَجْعَلُونَ الْأَلِفَ وَاحِدًا وَالْبَاءَ اثْنَيْنِ وَالْجِيمَ ثَلَاثَةً إلَى الْيَاءِ ثُمَّ يَقُولُونَ الْكَافُ عِشْرُونَ. . . (1) وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْهَنْدَسَةِ وَالْمَنْطِقِ يَجْعَلُونَهَا عَلَامَاتٍ عَلَى الْخُطُوطِ الْمَكْتُوبَةِ أَوْ عَلَى أَلْفَاظِ الْأَقْيِسَةِ الْمُؤَلَّفَةِ كَمَا يَقُولُونَ: كُلُّ أَلِفٍ ب وَكُلُّ ب ج فَكُلُّ أَلِفٍ ج. وَمَثَّلُوا بِهَذِهِ لِكَوْنِهَا أَلْفَاظًا تَدُلُّ عَلَى صُورَةِ الشَّكْلِ وَالْقِيَاسُ لَا يَخْتَصُّ بِمَادَّةِ دُونَ مَادَّةٍ. كَمَا جَعَلَ أَهْلُ التَّصْرِيفِ لَفْظَ " فَعَلَ " تُقَابِلُ الْحُرُوفَ الْأَصْلِيَّةَ،

(1)

بياض بالأصل

ص: 62

وَالزَّائِدَةَ يَنْطِقُونَ بِهَا. وَيَقُولُونَ: وَزْنُ اسْتَخْرَجَ " اسْتَفْعَلَ " وَأَهْلُ الْعَرُوضِ يَزِنُونَ بِأَلْفَاظِ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لَكِنْ يُرَاعُونَ الْوَزْن مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْأَصْلِ وَالزَّائِدِ: وَلِهَذَا سُئِلَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ عَنْ وَزْنِ نَكْتَلْ فَقَالَ نَفْعَلْ وَضَحِكَ مِنْهُ أَهْلُ التَّصْرِيفِ. وَوَزْنُهُ عِنْدَهُمْ نفتل فَإِنَّ أَصْلَهُ نَكْتَالُ وَأَصْل نَكْتَالُ: نكتيل. تَحَرَّكَتْ الْيَاءُ وَانْفَتَحَ مَا قَبِلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا ثُمَّ لَمَّا جُزِمَ الْفِعْلَ سَقَطَتْ كَمَا نَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي نَعْتَدِ وَنَفْتَدِ مَنْ اعْتَادَ يَعْتَادُ وَاقْتَادَ الْبَعِيرَ يَقْتَادُهُ. وَنَحْوَ ذَلِكَ فِي نقتيل فَلَمَّا حَذَفُوا الْأَلِفَ الَّتِي تُسَمَّى لَامَ الْكَلِمَةِ صَارَ وَزْنُهَا. . . (1) وَجَعَلَتْ " ثَمَانِيَةً " تَكُونُ مُتَحَرِّكَةً: وَهِيَ الْهَمْزَةُ وَتَكُونُ سَاكِنَةً وَهِيَ حَرْفَانِ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْأَوَّلِ وَحَرْفٌ وَاحِدٌ عَلَى الثَّانِي وَالْأَلِفُ تُقْرَنُ بِالْوَاوِ وَالْيَاءِ لِأَنَّهُنَّ حُرُوفُ الْعِلَّةِ وَلِهَذَا ذُكِرَتْ فِي آخِرِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ وَنَطَقُوا بِأَوَّلِ لَفْظِ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا إلَّا الْأَلِفَ فَلَمْ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَنْطِقُوا بِهَا ابْتِدَاءً فَجَعَلُوا اللَّامَ قَبْلَهَا فَقَالُوا: " لَا " وَاَلَّتِي فِي الْأَوَّلِ هِيَ الْهَمْزَةُ الْمُتَحَرِّكَةُ فَإِنَّ الْهَمْزَةَ فِي أَوَّلِهَا. وَبَعْضُ النَّاسِ يَنْطِقُ بِهَا " لَام أَلِف " وَالصَّوَابُ أَنَّ يُنْطَقَ بِهَا " لَا " وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْعِلْمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نَقْلٍ مُصَدَّقٍ وَنَظَرٍ مُحَقَّقٍ. وَأَمَّا النُّقُولُ الضَّعِيفَةُ لَا سِيَّمَا الْمَكْذُوبَةُ فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ النَّظَرِيَّاتُ الْفَاسِدَةُ وَالْعَقْلِيَّاتُ الجهلية الْبَاطِلَةُ لَا يُحْتَجُّ بِهَا.

(1)

بياض بالأصل

قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 102):

حصل سقط بعد قوله: (فلما حذفوا الألف التي تسمى لام الكلمة صار وزنها)، فإن خبر صار غير موجود، وهو (نفتل) - يعني وزن (نكتل) -، ثم إن الكلام بعد ذلك وهو قوله (وجعلت ثمانية تكون متحركة. . . الخ) فيه اضطراب ن إلا أنني أظن أنه حصل سقط آخر أيضا، وصحة العبارة:(وجعلت ثمانية وعشرين) يعني عدد الأحرف الهجائية، لأن الكلام كان على حروف الهجاء، وأما قوله (تكون متحركة،. . .، وتكون ساكنة) فالظاهر أن كلامه على الألف، فإن المتحركة منه تكون همزة في أول الأحرف، والساكنة تكون في أواخر الأحرف وهي (لا) وإنما أضيفت (اللام) قبلها من أجل النطق بها لأن العرب لا تبدأ بساكن في النطق، وكلامه التالي عليه، فيبدو والله أعلم أنه بعد أن ذكر عدد الأحرف الهجائية تكلم على (الألف) وأقسامه هذه، وعليه فتكون صحة العبارة بعد التصحيح:(فلما حذفوا الألف التي تسمى لام الكلمة صار وزنها [نفتل]، وجعلت (ثمانية [وعشرين]، [والألف] تكون متحركة. . .) أو نحو هذا، والله أعلم.

ص: 63

الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ قَدْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا بِأَسْمَاءِ حُرُوفٍ مِثْلِ قَوْلِهِ: {الم} وَقَوْلِهِ {المص} وَقَوْلِهِ {الم} - {طس} - {حم} - {كهيعص} - {حم} - {عسق} - {ن} - {ق} فَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.

الثَّالِثُ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ إذَا وُجِدَتْ فِي كَلَامِ الْعِبَادِ وَكَذَلِكَ الْأَسْمَاءُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْقُرْآنِ إذَا وُجِدَتْ فِي كَلَامِ الْعِبَادِ مِثْلِ آدَمَ وَنُوحٍ وَمُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُقَالُ: هَذِهِ الْأَسْمَاءُ وَهَذِهِ الْحُرُوفُ قَدْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا؛ لَكِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا مُفْرَدَةً. فَإِنَّ الِاسْمَ وَحْدَهُ لَيْسَ بِكَلَامِ؛ وَلَكِنْ تَكَلَّمَ بِهَا فِي كَلَامِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} إلَى قَوْلِهِ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} وَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ وَنَحْنُ إذَا تَكَلَّمْنَا بِكَلَامِ ذَكَرْنَا فِيهِ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ فَكَلَامُنَا مَخْلُوقٌ وَحُرُوفُ كَلَامِنَا مَخْلُوقَةٌ كَمَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ لِرَجُلِ: أَلَسْت مَخْلُوقًا؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: أَلَيْسَ كَلَامُك مِنْك؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: أَلَيْسَ كَلَامُك مَخْلُوقًا؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: فَاَللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَلَامُهُ مِنْهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ. فَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ‌

‌ كَلَامَ الْعِبَادِ مَخْلُوقٌ

وَهُمْ إنَّمَا

ص: 64

يَتَكَلَّمُونَ بِالْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ الَّتِي يُوجَدُ نَظِيرُهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهَا بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَحُرُوفِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُمَاثِلُ صِفَاتِ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا صِفَاتِهِ وَلَا أَفْعَالِهِ وَالصَّوْتُ الَّذِي يُنَادِي بِهِ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالصَّوْتُ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْهُ مُوسَى لَيْسَ كَأَصْوَاتِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَالصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ هُوَ حُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ وَتِلْكَ لَا يُمَاثِلُهَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ كَمَا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ الْقَائِمَ بِذَاتِهِ لَيْسَ مِثْلَ عِلْمِ عِبَادِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُمَاثِلُ الْمَخْلُوقِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلَّمَ الْعِبَادَ مَنْ عِلْمِهِ مَا شَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ} وَهْم إذَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ مَا عَلَّمَهُمْ مَنْ عِلْمِهِ فَنَفْسُ عِلْمِهِ الَّذِي اتَّصَفَ بِهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا وَنَفْسُ الْعِبَادِ وَصِفَاتُهُمْ مَخْلُوقَةٌ لَكِنْ قَدْ يَنْظُرُ النَّاظِرُ إلَى مُسَمَّى الْعِلْمِ مُطْلَقًا فَلَا يُقَالُ: إنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ مَخْلُوقٌ لِاتِّصَافِ الرَّبِّ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَا يَتَّصِفُ بِهِ الْعَبْدُ مَخْلُوقًا. وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ مَا يُوصَفُ اللَّهُ بِهِ وَيُوصَفُ بِهِ الْعِبَادُ يُوصَفُ اللَّهُ بِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ وَيُوصَفُ بِهِ الْعِبَادُ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنْ ذَلِكَ؛ مِثْلُ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَكَلَامٌ. فَكَلَامُهُ يَشْتَمِلُ عَلَى حُرُوفٍ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَالْعَبْدُ لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَكَلَامٌ،

ص: 65

وَكَلَامُ الْعَبْدِ يَشْتَمِلُ عَلَى حُرُوفٍ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ. فَهَذِهِ الصِّفَاتُ لَهَا ثَلَاثُ اعْتِبَارَاتٍ: تَارَةً تُعْتَبَرُ مُضَافَةً إلَى الرَّبِّ. وَتَارَةً تُعْتَبَرُ مُضَافَةً إلَى الْعَبْدِ وَتَارَةً تُعْتَبَرُ مُطْلَقَةً لَا تَخْتَصُّ بِالرَّبِّ وَلَا بِالْعَبْدِ. فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: حَيَاةُ اللَّهِ وَعِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَةُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا يُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَإِذَا قَالَ عِلْمُ الْعَبْدِ وَقُدْرَةُ الْعَبْدِ وَكَلَامُ الْعَبْدِ فَهَذَا كُلُّهُ مَخْلُوقٌ وَلَا يُمَاثِلُ صِفَاتِ الرَّبِّ. وَإِذَا قَالَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ فَهَذَا مُجْمَلٌ مُطْلَقٌ لَا يُقَالُ عَلَيْهِ كُلِّهِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَا إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوق بَلْ مَا اتَّصَفَ بِهِ الرَّبُّ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا اتَّصَفَ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مَخْلُوقٌ فَالصِّفَةُ تَتْبَعُ الْمَوْصُوفَ. فَإِنْ كَانَ الْمَوْصُوفُ هُوَ الْخَالِقَ فَصِفَاتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَإِنْ كَانَ الْمَوْصُوفُ هُوَ الْعَبْدَ الْمَخْلُوقَ. فَصِفَاتُهُ مَخْلُوقَةٌ. ثُمَّ إذَا قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَالْقُرْآنُ فِي نَفْسِهِ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنْ كَانَ حَرَكَاتُ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتُهُمْ مَخْلُوقَةً. وَلَوْ قَالَ الْجُنُبُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يَنْوِي بِهِ الْقُرْآنَ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ قُرْآنًا وَلَوْ قَالَهُ يَنْوِي بِهِ حَمْدَ اللَّهِ لَا يَقْصِدُ بِهِ الْقِرَاءَةَ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا وَجَاز لَهُ ذَلِكَ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " {أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ

ص: 66

الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. فَأَخْبَرَ أَنَّهَا أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَقَالَ هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ فَهِيَ مِنْ الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ وَلَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ وَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} وَمَقْصُودُهُ الْقُرْآنُ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ تَنْبِيهَ غَيْرِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَلَوْ قَالَ لِرَجُلِ اسْمُهُ يَحْيَى وَبِحَضْرَتِهِ كِتَابٌ: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ لَكَانَ هَذَا مَخْلُوقًا؛ لِأَنَّ لَفْظَ يَحْيَى هنا مُرَادٌ بِهِ ذَلِكَ الشَّخْصُ وَبِالْكِتَابِ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَيْسَ مُرَادًا بِهِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} وَالْكَلَامُ كَلَامُ الْمَخْلُوقِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مُسَمَّى " الْكَلَامِ " فِي الْأَصْلِ فَقِيلَ: هُوَ اسْمُ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى وَقِيلَ: الْمَعْنَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ وَقِيلَ: لِكُلِّ مِنْهُمَا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَقِيلَ: بَلْ هُوَ اسْمٌ عَامٌّ لَهُمَا جَمِيعًا يَتَنَاوَلُهُمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَإِنْ كَانَ مَعَ التَّقْيِيدِ يُرَادُ بِهِ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً. هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَا يُعْرَفُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ. وَهَذَا كَمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مُسَمَّى " الْإِنْسَانِ " هَلْ هُوَ الرُّوحُ فَقَطْ أَوْ الْجَسَدُ فَقَطْ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ اسْمٌ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ جَمِيعًا وَإِنْ

ص: 67

كَانَ مَعَ الْقَرِينَةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً فَتَنَازُعُهُمْ فِي مُسَمَّى النُّطْقِ كَتَنَازُعِهِمْ فِي مُسَمَّى النَّاطِقِ. فَمَنْ سَمَّى شَخْصًا مُحَمَّدًا وَإِبْرَاهِيمَ وَقَالَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ وَجَاءَ إبْرَاهِيمُ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُحَمَّدًا وَإِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْقُرْآنِ. وَلَوْ قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ. يَعْنِي بِهِ خَاتَمَ الرُّسُلِ وَخَلِيلَ الرَّحْمَنِ لَكَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بِمُحَمَّدِ وَإِبْرَاهِيمَ اللَّذَيْنِ فِي الْقُرْآنِ لَكِنْ قَدْ تَكَلَّمَ بِالِاسْمِ وَأَلَّفَهُ كَلَامًا فَهُوَ كَلَامُهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا فِي " آدَابِ الْخَلَاءِ " أَنَّهُ لَا يَسْتَصْحِبُ مَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ " {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ. وَكَانَ خَاتَمُهُ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} مُحَمَّدٌ سَطْرٌ رَسُولٌ سَطْرٌ اللَّهُ سَطْرٌ. وَلَمْ يَمْنَعْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَا يَكُونُ فِيهِ كَلَامُ الْعِبَادِ وَحُرُوفُ الْهِجَاءِ مِثْلُ وَرَقِ الْحِسَابِ الَّذِي يَكْتُبُ فِيهِ أَهْلُ الدِّيوَانِ الْحِسَابَ وَمِثْلُ الْأَوْرَاقِ الَّتِي يَكْتُبُ فِيهَا الْبَاعَةُ مَا يَبِيعُونَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَفِي السِّيرَةِ " {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا صَالَحَ غطفان عَلَى نِصْفِ تَمْرِ الْمَدِينَةِ أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ لَهُ: أَهَذَا شَيْءٌ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَسَمْعًا وَطَاعَةً أَمْ شَيْءٌ تَفْعَلُهُ لِمَصْلَحَتِنَا؟ فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِوَحْيٍ بَلْ فَعَلَهُ بِاجْتِهَادِهِ فَقَالَ: لَقَدْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ

ص: 68

وَمَا كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْهَا تَمْرَةً إلَّا بِقِرَى أَوْ بِشِرَاءِ فَلَمَّا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْكُلُوا تَمْرَنَا لَا يَأْكُلُونَ تَمْرَةً وَاحِدَةً وَبَصَقَ سَعْدٌ فِي الصَّحِيفَةِ وَقَطَّعَهَا} فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ هَذِهِ حُرُوفٌ فَلَا يَجُوزُ إهَانَتُهَا وَالْبُصَاقُ فِيهَا. وَأَيْضًا فَقَدْ كَرِهَ السَّلَفُ مَحْوَ الْقُرْآنِ بِالرِّجْلِ وَلَمْ يَكْرَهُوا مَحْوُ مَا فِيهِ كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْحُرُوفَ قَدِيمَةٌ أَوْ حُرُوفُ الْمُعْجَمِ قَدِيمَةٌ فَإِنْ أَرَادَ جِنْسَهَا فَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادَ الْحَرْفَ الْمُعَيَّنَ فَقَدْ أَخْطَأَ فَإِنَّ لَهُ مَبْدَأٌ وَمُنْتَهًى وَهُوَ مَسْبُوقٌ بِغَيْرِهِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُحْدَثًا. وَأَيْضًا فَلَفْظُ الْحُرُوفِ مُجْمَلٌ يُرَادُ بِالْحُرُوفِ الْحُرُوفُ الْمَنْطُوقَةُ الْمَسْمُوعَةُ الَّتِي هِيَ مَبَانِي الْكَلَامِ وَيُرَادُ بِهَا الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ وَيُرَادُ بِهَا الْحُرُوفُ الْمُتَخَيَّلَةُ فِي النَّفْسِ وَالصَّوْتِ لَا يَكُونُ كَلَامًا إلَّا بِالْحُرُوفِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. وَأَمَّا الْحُرُوفُ فَهَلْ تَكُونُ كَلَامًا بِدُونِ الصَّوْتِ؟ فِيهِ نِزَاعٌ. وَالْحَرْفُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الصَّوْتُ الْمُقَطَّعُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نِهَايَةُ الصَّوْتِ وَحْدَهُ وَقَدْ يُرَادُ بِالْحُرُوفِ الْمِدَادُ وَقَدْ يُرَادُ بِالْحُرُوفِ شَكْلُ الْمِدَادِ فَالْحُرُوفُ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَإِذَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ قِيلَ كَلَامُ اللَّهِ الْمَكْتُوبُ فِي الْمُصْحَفِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَمَّا نَفْسُ أَصْوَاتُ الْعِبَادِ فَمَخْلُوقَةٌ وَالْمِدَادُ مَخْلُوقٌ وَشَكْلُ الْمِدَادِ مَخْلُوقٌ فَالْمِدَادُ مَخْلُوقٌ بِمَادَّتِهِ وَصُورَتِهِ وَكَلَامُ اللَّهِ الْمَكْتُوبُ بِالْمِدَادِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَمِنْ كَلَامِ اللَّهِ

ص: 69

الْحُرُوفُ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا فَإِذَا كُتِبَتْ بِالْمِدَادِ لَمْ تَكُنْ مَخْلُوقَةً وَكَانَ الْمِدَادُ مَخْلُوقًا. وَأَشْكَالُ الْحُرُوفِ الْمَكْتُوبَةِ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهَا اصْطِلَاحُ الْأُمَمِ.

وَالْخَطُّ الْعَرَبِيُّ قَدْ قِيلَ إنَّ مَبْدَأَهُ كَانَ مِنْ الْأَنْبَارِ وَمِنْهَا انْتَقَلَ إلَى مَكَّةَ وَغَيْرِهَا وَالْخَطُّ الْعَرَبِيُّ تَخْتَلِفُ صُورَتُهُ: الْعَرَبِيُّ الْقَدِيمُ فِيهِ تَكَوُّفٌ وَقَدْ اصْطَلَحَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى تَغْيِيرِ بَعْضِ صُوَرِهِ وَأَهْلُ الْمَغْرِب لَهُمْ اصْطِلَاحٌ ثَالِثٌ حَتَّى فِي نَقْطِ الْحُرُوفِ وَتَرْتِيبِهَا وَكَلَامُ اللَّهِ الْمَكْتُوبُ بِهَذِهِ الْخُطُوطِ كَالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ هُوَ فِي نَفْسِهِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْخُطُوطِ الَّتِي يُكْتَبُ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَالْحَرْفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ فِي كَلَامِ الْخَالِقِ أَوْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ هُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فِي كَلَامِ الْعِبَادِ وَإِنْ قُلْتُمْ مَخْلُوقٌ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا فِي كَلَامِ اللَّهِ؟ قِيلَ: قَوْلُ الْقَائِلِ الْحَرْفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ كَقَوْلِهِ الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَالْعِلْمُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَالْقُدْرَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ وَالْوُجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ وَغَيْرَهَا إذَا أُخِذَتْ مُجَرَّدَةً مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ وَلَا مُشَخَّصَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقِيقَةٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ

ص: 70

إلَّا شَيْءٌ مُعَيَّنٌ فَلَيْسَ ثَمَّ وُجُودٌ إلَّا وُجُودُ الْخَالِقِ أَوْ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ وَوُجُودُ كُلِّ مَخْلُوقٍ مُخْتَصٌّ بِهِ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْوُجُودِ عَامًّا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ اسْمٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ أَفْرَادَ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا عِلْمُ الْخَالِقِ وَعِلْمُ الْمَخْلُوقِ وَعِلْمُ كُلِّ مَخْلُوقٍ مُخْتَصٌّ بِهِ قَائِمٌ بِهِ وَاسْمُ الْكَلَامِ وَالْحُرُوفِ يَعُمُّ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْكَلَامِ وَالْحُرُوفِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا كَلَامُ الْخَالِقِ وَكَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ. وَكَلَامُ كُلِّ مَخْلُوقٍ مُخْتَصٌّ بِهِ وَاسْمُ الْكَلَامِ يَعُمُّ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا اللَّفْظُ. وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا الْحُرُوفُ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا الْمَوْجُودَةُ فِي كَلَامِ الْخَالِقِ وَالْحُرُوفُ الْمَوْجُودَةُ فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّ عِلْمَ الرَّبِّ وَقُدْرَتَهُ بِكَلَامِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَحُرُوفَ كَلَامِهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ الْعَبْدِ وَقُدْرَتُهُ وَكَلَامُهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَحُرُوفُ كَلَامِهِ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ. وَأَيْضًا فَلَفْظُ الْحَرْفِ يَتَنَاوَلُ الْحَرْفَ الْمَنْطُوقَ وَالْحَرْفَ الْمَكْتُوبَ وَإِذَا قِيلَ إنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِالْحُرُوفِ الْمَنْطُوقَةِ كَمَا تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَبِقَوْلِهِ: الم - وَحُمَّ - وَطسم - وَطَسَ - وَيس - وَقِ - وَنِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا كَلَامُهُ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِذَا كُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ كَانَ مَا كُتِبَ مِنْ كَلَامِ الرَّبِّ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَإِنْ كَانَ الْمِدَادُ وَشَكْلُهُ مَخْلُوقًا. وَ " أَيْضًا " فَإِذَا قَرَأَ النَّاسُ كَلَامَ اللَّهِ فَالْكَلَامُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ إذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِهِ وَإِذَا قَرَأَهُ الْمُبَلِّغُ لَمْ يَخْرَجْ عَنْ أَنْ يَكُونَ

ص: 71

كَلَامَ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا أَمْرًا يَأْمُرُ بِهِ أَوْ خَبَرًا يُخْبِرُهُ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ الْمُبَلِّغِ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ؛ إذْ لَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ. وَإِذَا قَرَأَهُ الْمُبَلِّغُ فَقَدْ يُشَارُ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ فَيُقَالُ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا بَلَغَهُ بِهِ الْعِبَادُ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَقَدْ يُشَارُ إلَى نَفْسِ صِفَةِ الْعَبْدِ كَحَرَكَتِهِ وَحَيَاتِهِ وَقَدْ يُشَارُ إلَيْهِمَا فَالْمُشَارُ إلَيْهِ الْأَوَّلُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ الثَّانِي مَخْلُوقٌ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ الثَّالِثُ فَمِنْهُ مَخْلُوقٌ وَمِنْهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ نَظِيرِ هَذَا هُوَ نَظِيرُ صِفَةِ الْعَبْدِ لَا نَظِيرُ صِفَةِ الرَّبِّ أَبَدًا. وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ الْقَافُ فِي قَوْلِهِ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} كَالْقَافِ فِي قَوْلِهِ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ قِيلَ: مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَسُمِعَ مِنْهُ لَا يُمَاثِلُ صِفَةَ الْمَخْلُوقِينَ وَلَكِنْ إذَا بَلَّغْنَا كَلَامَ اللَّهِ فَإِنَّمَا بَلَّغْنَاهُ بِصِفَاتِنَا وَصِفَاتُنَا مَخْلُوقَةٌ وَالْمَخْلُوقُ يُمَاثِلُ الْمَخْلُوقَ. وَفِي هَذَا جَوَابٌ لِلطَّائِفَتَيْنِ لِمَنْ قَاسَ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ بِصِفَةِ الْخَالِقِ فَجَعَلَهَا غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةَ أَشْبَاهُ الْيَهُودِ وَالْحُلُولِيَّةُ الْمُمَثِّلَةُ

ص: 72

أَشْبَاهُ النَّصَارَى دَخَلُوا فِي هَذَا وَهَذَا أُولَئِكَ مَثَّلُوا الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ فَوَصَفُوهُ بِالنَّقَائِصِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ: كَالْفَقْرِ وَالْبُخْلِ وَهَؤُلَاءِ مَثَّلُوا الْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ فَوَصَفُوهُ بِخَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ وَالْمُسْلِمُونَ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ بَلْ يُثْبِتُونَ لَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَيُنَزِّهُونَهُ عَنْ الْأَكْفَاءِ وَالْأَمْثَالِ فَلَا يُعَطِّلُونَ الصِّفَاتِ وَلَا يُمَثِّلُونَهَا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ فَإِنَّ الْمُعَطِّلَ يَعْبُدُ عَدَمًا وَالْمُمَثِّلَ يَعْبُدُ صَنَمًا وَاَللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ كَلَامَ الْمُتَكَلِّمِ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ وَإِذَا بَلَّغَهُ الْمُبَلِّغُونَ تَخْتَلِفُ أَصْوَاتُهُمْ بِهِ فَإِذَا أَنْشَدَ الْمُنْشِدُ قَوْلَ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ كَلَامَ لَبِيَدِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ مَعَ أَنَّ أَصْوَاتَ الْمُنْشِدِينَ لَهُ تَخْتَلِفُ وَتِلْكَ الْأَصْوَاتُ لَيْسَتْ صَوْتَ لَبِيَدِ: وَكَذَلِكَ مَنْ رَوَى حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَفْظِهِ كَقَوْلِهِ: " {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى} كَانَ هَذَا الْكَلَامُ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَيُقَالُ لِمَنْ رَوَاهُ: أَدَّى الْحَدِيثَ بِلَفْظِهِ

ص: 73

وَإِنْ كَانَ صَوْتُ الْمُبَلِّغِ لَيْسَ هُوَ صَوْتَ الرَّسُولِ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَإِذَا قَرَأَهُ الْقُرَّاءُ فَإِنَّمَا يَقْرَءُونَهُ بِأَصْوَاتِهِمْ. وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: مَنْ قَالَ اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ أَوْ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ يَعْنِي بِهِ الْقُرْآنَ فَهُوَ جهمي؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا وَمُسَمَّى هَذَا فِعْلُ الْعَبْدِ وَفِعْلُ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ وَيُرَادُ بِاللَّفْظِ الْقَوْلُ الَّذِي يَلْفِظُ بِهِ اللَّافِظُ وَذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ الْقَارِئِ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ قَالَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَإِنَّ هَذَا الَّذِي يَقْرَءُوهُ الْمُسْلِمُونَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ.

وَأَمَّا صَوْتُ الْعَبْدِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَقَدْ صَرَّحَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ صَوْتُ الْعَبْدِ وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَد قَطُّ: مَنْ قَالَ إنَّ صَوْتِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَإِنَّمَا قَالَ مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ لَفْظِ الْكَلَامِ وَصَوْتِ الْمُبَلِّغِ لَهُ فَرْقٌ وَاضِحٌ فَكُلُّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ بِلَفْظِ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَإِنَّمَا بَلَّغَ لَفْظَ ذَلِكَ الْغَيْرِ لَا لَفْظَ نَفْسِهِ وَهُوَ إنَّمَا بَلَّغَهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ لَا بِصَوْتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَنَفْسُ اللَّفْظِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ حَرَكَاتُ

ص: 74

الْعِبَادِ وَمَا يَحْدُثُ عَنْهَا مِنْ أَصْوَاتِهِمْ وَشَكْلِ الْمِدَادِ وَيُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ التَّالِي وَيَتْلُوهُ وَيَلْفِظُ بِهِ وَيَكْتُبُهُ مَنَعَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ إطْلَاقِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الَّذِي يَقْتَضِي جَعْلَ صِفَاتِ اللَّهِ مَخْلُوقَةً أَوْ جَعْلَ صِفَاتِ الْعِبَادِ وَمِدَادَهُمْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ. وَقَالَ أَحْمَد: نَقُولُ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَيْثُ تَصَرَّفَ: أَيْ حَيْثُ تُلِيَ وَكُتِبَ وَقُرِئَ مِمَّا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَلَامُ اللَّهِ فَهُوَ كَلَامُهُ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْعِبَادِ وَأَفْعَالِهِمْ الَّتِي يَقْرَؤُونَ وَيَكْتُبُونَ بِهَا كَلَامَهُ كَأَصْوَاتِهِمْ وَمِدَادِهِمْ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَلِهَذَا مَنْ لَمْ يَهْتَدِ إلَى هَذَا الْفَرْقِ يَحَارُ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْقُرْآنَ وَاحِدٌ وَيَقْرَؤُهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَالْقُرْآنُ لَا يَكْثُرُ فِي نَفْسِهِ بِكَثْرَةِ قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ وَإِنَّمَا يَكْثُرُ مَا يَقْرَءُونَ بِهِ الْقُرْآنَ فَمَا يَكْثُرُ وَيَحْدُثُ فِي الْعِبَادِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَسَمِعَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّهِ وَسَمِعَهُ مُحَمَّدُ مِنْ جِبْرِيلَ وَبَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ إلَى النَّاسِ وَأَنْذَرَ بِهِ الْأُمَمَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} قُرْآنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ مَا هُوَ وَاحِدٌ بِالنَّوْعِ مُتَعَدِّدُ الْأَعْيَانِ كالإنسانية الْمَوْجُودَةِ فِي زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَلَا مِنْ بَابِ مَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ مِثْلَ قَوْلِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} فَإِنَّ

ص: 75

الْقُرْآنَ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} فَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ إذَا اجْتَمَعُوا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ مَعَ قُدْرَةِ كُلِّ قَارِئٍ عَلَى أَنْ يَقْرَأَهُ وَيُبَلِّغَهُ. فَعُلِمَ أَنَّ مَا قَرَأَهُ هُوَ الْقُرْآنُ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْقُرْآنِ وَأَمَّا الْحُرُوفُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْقُرْآنِ إذَا وُجِدَ نَظِيرُهَا فِي كَلَامِ غَيْرِهِ فَلَيْسَ هَذَا هُوَ ذَاكَ بِعَيْنِهِ بَلْ هُوَ نَظِيرُهُ وَإِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِاسْمِ مِنْ الْأَسْمَاءِ: كَآدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَتَكَلَّمَ بِتِلْكَ الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا فَإِذَا قُرِئَتْ فِي كَلَامِهِ فَقَدْ بُلِّغَ كَلَامُهُ فَإِذَا أَنْشَأَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ كَلَامًا لَمْ يَكُنْ عَيْنَ مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ هُوَ عَيْنُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْعَبْدُ حَتَّى يُقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَالْحُرُوفَ الْمَوْجُودَةَ فِي كَلَامِ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ؛ فَإِنَّ بَعْضَ مَنْ قَالَ إنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَسْمَاءَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فِي كَلَامِ الْعِبَادِ ادَّعَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ إنَّمَا هُوَ النَّظْمُ وَالتَّأْلِيفُ دُونَ الْمُفْرَدَاتِ وَقَائِلُ هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا النَّظْمُ وَالتَّأْلِيفُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ إذَا وُجِدَ نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ شَخْصًا اسْمُهُ يَحْيَى وَكِتَابًا بِحَضْرَتِهِ. (فَإِنْ قِيلَ يَحْيَى هَذَا وَالْكِتَابُ الْحَاضِرُ لَيْسَ هُوَ يَحْيَى وَالْكِتَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ نَظِيرَ اللَّفْظِ قِيلَ كَذَلِكَ

ص: 76

سَائِرُ الْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ إنَّمَا يُوجَدُ نَظِيرُهَا فِي كَلَامِ الْعِبَادِ لَا فِي كَلَامِ اللَّهِ. وَقَوْلُنَا يُوجَدُ نَظِيرُهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَقْرِيبٌ أَيْ يُوجَدُ فِيمَا نَقْرَؤُهُ وَنَتْلُوهُ فَإِنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ لَفْظِ مُحَمَّدٌ وَيَحْيَى وَإِبْرَاهِيمُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ مِثْلُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ وَكِلَا الصَّوْتَيْنِ مَخْلُوقٌ. وَأَمَّا الصَّوْتُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ فَلَا مِثْلَ لَهُ لَا يُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَكَلَامُ اللَّهِ هُوَ كَلَامُهُ بِنَظْمِهِ وَنَثْرِهِ وَمَعَانِيهِ. وَذَلِكَ الْكَلَامُ لَيْسَ مِثْلَ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ. فَإِذَا قُلْنَا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقُصِدَ بِذَلِكَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ فَذَلِكَ الْقُرْآنُ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ لَا يُمَاثِلُ لَفْظَ الْمَخْلُوقِينَ وَمَعْنَاهُمْ وَأَمَّا إذَا قَصَدْنَا بِهِ الذِّكْرَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقْصِدَ قِرَاءَةَ كَلَامِ اللَّهِ فَإِنَّمَا نَقْصِدُ ذِكْرًا نُنْشِئُهُ نَحْنُ يَقُومُ مَعْنَاهُ بِقُلُوبِنَا وَنَنْطِقُ بِلَفْظِهِ بِأَلْسِنَتِنَا وَمَا أَنْشَأْنَاهُ مِنْ الذِّكْرِ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ} فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْكَلِمَاتِ أَفْضَلَ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ فَجَعَلَ دَرَجَتَهَا دُونَ دَرَجَةِ الْقُرْآنِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ. ثُمَّ قَالَ: "{هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ} وَكِلَا قَوْلَيْهِ حَقٌّ وَصَوَابٌ؛ وَلِهَذَا مَنَعَ أَحْمَد أَنْ يُقَالَ: الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ.

ص: 77

وَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ. وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا يُقَالُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إنَّهُمَا مَخْلُوقَانِ وَلَا يُقَالُ فِي الْأَحَادِيثِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي يَرْوِيهَا عَنْ رَبِّهِ إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ كَقَوْلِهِ: " {يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا} فَكَلَامُ اللَّهِ قَدْ يَكُونُ قُرْآنًا وَقَدْ لَا يَكُونُ قُرْآنًا وَالصَّلَاةُ إنَّمَا تَجُوزُ وَتَصِحُّ بِالْقُرْآنِ. وَكَلَامُ اللَّهِ كُلُّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَإِذَا فُهِمَ هَذَا فِي مِثْلِ هَذَا فَلْيُفْهَمْ فِي نَظَائِرِهِ وَأَنَّ مَا يُوجَدُ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَيُوجَدُ فِي غَيْرِ كَلَامِ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ وَيُقَالُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ كَمَا أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ وَغَيْرِ الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ لَكِنَّ كَلَامَ اللَّهِ الْقُرْآنُ وَغَيْرُ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ كُلُّهُ مَخْلُوقٌ. فَمَا كَانَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا كَانَ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ عَلَى نَفْيِ الْخَلْقِ أَوْ إثْبَاتِ الْقِدَمِ بِشَيْءِ مِنْ صِفَاتِ الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ لِوُجُودِ نَظِيرِ ذَلِكَ فِيمَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ وَكَلَامُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ شَارَكَهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ مَنْ احْتَجَّ عَلَى خَلْقِ مَا هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُوجَدُ نَظِيرُهُ فِيمَا يُضَافُ إلَى الْعَبْدِ. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ قَرَءُوهُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ فَقَالَ الجهمي أَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَمِدَادُهُمْ مَخْلُوقَةٌ وَهَذَا

ص: 78

هُوَ الْمُسَمَّى بِكَلَامِ اللَّهِ أَوْ يُوجَدُ نَظِيرُهُ فِي الْمُسَمَّى بِكَلَامِ اللَّهِ فَيَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا. وَقَالَ الْحُلُولِيُّ الِاتِّحَادِيُّ الَّذِي يَجْعَلُ صِفَةَ الْخَالِقِ هِيَ عَيْنَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي: نَسْمَعُهُ مِنْ الْقُرَّاءِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّمَا نَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ فَأَصْوَاتُ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَأَصْوَاتُ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَالْحُرُوفُ الْمَسْمُوعَةُ مِنْهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ ثُمَّ قَالُوا: الْحُرُوفُ الْمَوْجُودَةُ فِي كَلَامِهِمْ هِيَ هَذِهِ أَوْ مِثْلُ هَذِهِ فَتَكُونُ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ. وَزَادَ بَعْضُ غُلَاتِهِمْ فَجَعَلَ أَصْوَاتَ كَلَامِهِمْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْأَعْمَالُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَعْمَالَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَقَالَ: هِيَ الْقَدَرُ وَالشَّرْعُ الْمَشْرُوعُ [وَقَالَ عُمَرُ: مَا مُرَادُنَا بِالْأَعْمَالِ الْحَرَكَاتُ بَلْ الثَّوَابُ الَّذِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {أَنَّهُ تَأْتِي الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ الطَّيْرِ صَوَافُّ} فَيُقَالُ لَهُ: وَهَذَا الثَّوَابُ مَخْلُوقٌ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ](*) وَبِذَلِكَ أَجَابُوا مَنْ احْتَجَّ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالُوا لَهُ: الَّذِي يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ ثَوَابُ الْقُرْآنِ لَا نَفْسُ الْقُرْآنِ وَثَوَابُ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا طَوَائِفُ وَالْبِدَعُ تَنْشَأُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.

(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 103):

هنا أمران:

الأول: قوله (وقال عمر: ما مرادنا بالأعمال. . .) يظهر لي أنه مصحف، ولعل صوابه (وقال آخر) أو نحو ذلك، فإنه ذكر هذا القول مراراً ولم ينسبه لأحد (1).

والثاني: قوله (وقد نص أحمد وغيره من الأئمة على أنه مخلوق)، والكلام عائد على الثواب، فتكون كلمة (غير) مقحمة سهوا من الناسخ.

وقد ذكر الشيخ هذا الأمر في موضع آخر فقال (8/ 408): (وهو مخالف لنصوص أئمة الإسلام كلهم، وأحدهم الإمام أحمد، فإنه نص هو وغيره من الأئمة على أن الثواب الذي يعطيه الله على قراءة القرآن مخلوق. فكيف بالثواب الذي يعطيه على سائر أعمال العباد).

(1)

انظر مثلا (الفتاوى) 7/ 661، 8/ 408.

ص: 79

وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَابَ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ وَافَقَ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَد وَقَوْلَ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلَكِنْ لَمَّا اُمْتُحِنَ النَّاسُ بِمِحْنَةِ الْجَهْمِيَّة وَطُلِبَ مِنْهُمْ تَعْطِيلُ الصِّفَاتِ وَأَنْ يَقُولُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ثَبَّتَ اللَّهُ الْإِمَامَ أَحْمَد فِي تِلْكَ الْمِحْنَةِ؛ فَدَفَعَ حُجَجَ الْمُعَارِضِينَ الْنُّفَاةِ وَأَظْهَرَ دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا عَلَى الْإِثْبَاتِ فَآتَاهُ اللَّهُ مِنْ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ مَا صَارَ بِهِ إمَامًا لِلْمُتَّقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} وَلِهَذَا قِيلَ فِيهِ رحمه الله عَنْ الدُّنْيَا مَا كَانَ أَصْبَرَهُ وَبِالْمَاضِينَ مَا كَانَ أَشْبَهَهُ. أَتَتْهُ الْبِدَعُ فَنَفَاهَا وَالدُّنْيَا فَأَبَاهَا فَلَمَّا ظَهَرَ بِهِ مِنْ السُّنَّةِ مَا ظَهَرَ كَانَ لَهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي بَيَانِهَا وَإِظْهَارِهَا أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِمَّا لِغَيْرِهِ فَصَارَ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ عَامَّةِ الطَّوَائِفِ يُعَظِّمُونَهُ وَيَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرْت كَلَامَهُ وَكَلَامَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَنُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّهُ مُوَافِقٍ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَأَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ لَا يُخَالِفُ

ص: 80

النَّقْلَ الصَّحِيحَ وَلَكِنْ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَغْلَطُونَ إمَّا فِي هَذَا وَإِمَّا فِي هَذَا فَمَنْ عَرَفَ قَوْلَ الرَّسُولِ وَمُرَادَهُ بِهِ كَانَ عَارِفًا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَ فِي الْمَعْقُولِ مَا يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ عَلَى مَا قَالَهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: مَعْرِفَةُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهُ فِيهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ حِفْظِهِ أَيْ " مَعْرِفَتُهُ " بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهِ وَسَقِيمِهِ. " وَالْفِقْهُ فِيهِ " مَعْرِفَةُ مُرَادِ الرَّسُولِ وَتَنْزِيلُهُ عَلَى الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ والفروعية أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يُحْفَظَ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَفِقْهٍ. وَهَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ مَنْ احْتَجَّ بِلَفْظِ لَيْسَ بِثَابِتِ عَنْ الرَّسُولِ أَوْ بِلَفْظِ ثَابِتٍ عَنْ الرَّسُولِ وَحَمَلَهُ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا أُتِيَ مِنْ نَفْسِهِ.

وَكَذَلِكَ " الْعَقْلِيَّاتُ الصَّرِيحَةُ " إذَا كَانَتْ مُقَدِّمَاتُهَا وَتَرْتِيبُهَا صَحِيحًا لَمْ تَكُنْ إلَّا حَقًّا لَا تُنَاقِضُ شَيْئًا مِمَّا قَالَهُ الرَّسُولُ وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ الصَّانِعُ وَتَوْحِيدُهُ وَصِفَاتُهُ وَصِدْقُ رُسُلِهِ وَبِهَا يُعْرَفُ إمْكَانُ الْمَعَادِ. فَفِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ أُصُولِ الدِّينِ الَّتِي تُعْلَمُ مُقَدَّمَاتُهَا بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ مَا لَا يُوجَدُ مَثَلُهُ فِي كَلَام أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ بَلْ عَامَّةُ مَا يَأْتِي بِهِ حُذَّاقُ النُّظَّارِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ يَأْتِي الْقُرْآنُ بِخُلَاصَتِهَا وَبِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} وَقَالَ: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} وَقَالَ: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .

ص: 81

وَأَمَّا الْحُجَجُ الدَّاحِضَةُ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْمَلَاحِدَةُ وَحُجَجُ الْجَهْمِيَّة مُعَطِّلَةِ الصِّفَاتِ وَحُجَجُ الدَّهْرِيَّةِ وَأَمْثَالُهَا كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ يُصَنِّفُونَ فِي الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ وَأَقْوَالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَيَدَّعُونَ أَنَّهَا عَقْلِيَّاتٌ فَفِيهَا مِنْ الْجَهْلِ وَالتَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ تَقْصِيرُ الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ قُصُورُهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَمَعْرِفَةِ الْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْكِتَابُ وَهَذَا هُوَ الْمِيزَانُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَسْطَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ؛ إذْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَنَازِعِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَصْلٍ فَاسِدٍ ثُمَّ تَفَرَّقُوا فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا عَيْنَ صِفَةِ الرَّبِّ الْخَالِقِ هِيَ عَيْنَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ. ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ: وَصِفَةُ الْمَخْلُوقِ مَخْلُوقَةٌ فَصِفَةُ الرَّبِّ مَخْلُوقَةٌ فَقَالَ هَؤُلَاءِ: صِفَةُ الرَّبِّ قَدِيمَةٌ فَصِفَةُ الْمَخْلُوقِ قَدِيمَةٌ ثُمَّ احْتَاجَ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى طَرْدِ أَصْلِهِ فَخَرَجُوا إلَى أَقْوَالٍ ظَاهِرَةِ الْفَسَادِ: خَرَجَ الْنُّفَاةِ إلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ وَلَا بِشَيْءِ مِنْ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ: لَا التَّوْرَاةِ وَلَا الْإِنْجِيلِ وَلَا غَيْرِهِمَا وَأَنَّهُ لَمْ

ص: 82

يُنَادِ مُوسَى بِنَفْسِهِ نِدَاءً يَسْمَعُهُ مِنْهُ مُوسَى وَلَا تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَلَا التَّوْرَاةِ الْعِبْرِيَّةِ وَخَرَجَ هَؤُلَاءِ إلَى أَنَّ مَا يَقُومُ بِالْعِبَادِ وَيَتَّصِفُونَ بِهِ يَكُونُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَأَنَّ مَا يَقُومُ بِهِمْ وَيَتَّصِفُونَ بِهِ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِهِمْ حَالًّا فِيهِمْ بَلْ يَكُونُ ظَاهِرًا عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ بِهِمْ.

وَلَمَّا تَكَلَّمُوا فِي " حُرُوفِ الْمُعْجَمِ " صَارُوا بَيْنَ قَوْلَيْنِ: طَائِفَةٌ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَقَالَتْ الْحَرْفُ حَرْفَانِ هَذَا قَدِيمٌ وَهَذَا مَخْلُوقٌ كَمَا قَالَ ابْنُ حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمْ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ الْأَكْثَرُونَ وَقَالُوا هَذَا مُخَالَفَةٌ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْحَرْفِ هِيَ حَقِيقَةُ هَذَا الْحَرْفِ وَقَالُوا الْحَرْفُ حَرْفٌ وَاحِدٌ. وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ الْقَاضِي يَعْقُوبُ البرزبيني مُصَنَّفًا خَالَفَ بِهِ شَيْخَهُ الْقَاضِيَ أَبَا يَعْلَى مَعَ قَوْلِهِ فِي مُصَنَّفِهِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَا سَطَّرْته فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَفَدْته وَتَفَرَّعَ عِنْدِي مِنْ شَيْخِنَا وَإِمَامِنَا الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ نَصَرَ خِلَافَ مَا ذَكَرْته فِي هَذَا الْبَابِ فَهُوَ الْعَالِمُ الْمُقْتَدَى بِهِ فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ فَإِنِّي مَا رَأَيْت أَحْسَنَ سَمْتًا مِنْهُ وَلَا أَكْثَرَ اجْتِهَادًا مِنْهُ وَلَا تَشَاغُلًا بِالْعِلْمِ مَعَ كَثْرَةِ الْعِلْمِ وَالصِّيَانَةِ وَالِانْقِطَاعِ عَنْ النَّاسِ وَالزَّهَادَةِ فِيمَا بِأَيْدِيهِمْ وَالْقَنَاعَةِ فِي الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ مَعَ حُسْنِ التَّجَمُّلِ وَعِظَمِ حِشْمَتِهِ عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَلَمْ يَعْدِلْ بِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ شَيْئًا مِنْ نَفَرِ مِنْ الدُّنْيَا.

ص: 83

وَذَكَرَ الْقَاضِي يَعْقُوبُ فِي مُصَنَّفِهِ أَنَّ مَا قَالَهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَد بْنِ الْمُسَيِّبِ الطبري وَحَكَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَفْضَلِ أَهْلِ طبرستان وَأَنَّهُ سَمِعَ الْفَقِيهَ عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ حَلَبَة قَاضِي حَرَّانَ يَقُولُ: هُوَ مَذْهَبُ الْعَلَوِيِّ الْحَرَّانِي وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ. وَذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ طبرستان مِمَّنْ يَنْتَمِي إلَى مَذْهَبِنَا: كَأَبِي مُحَمَّدٍ الكشفل وَإِسْمَاعِيلَ الكاوذري فِي خَلْقٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ يَقُولُونَ إنَّهَا قَدِيمَةٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَكَذَلِكَ حُكِيَ لِي عَنْ طَائِفَةٍ بِالشَّامِ أَنَّهَا تَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ النَّابْلُسِيّ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ أَنَّ أَبَاهُ رَجَعَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ إلَى هَذَا. وَذَكَرُوهُ عَنْ الشَّرِيفِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى وَتَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّيْخِ أَبُو الْفَرَجِ المقدسي وَابْنُهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَسَائِر أَتْبَاعِهِ وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزَّاغُونِي وَأَمْثَالُهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي يَعْقُوبُ أَنَّ كَلَامَ أَحْمَد يَحْتَمِلُ الْقَوْلَيْنِ. وَهَؤُلَاءِ تَعَلَّقُوا بِقَوْلِ أَحْمَد لَمَّا قِيلَ لَهُ إنَّ سَرِيًّا السقطي قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَحْرُفَ سَجَدَتْ لَهُ إلَّا الْأَلِفُ فَقَالَتْ لَا أَسْجُدُ حَتَّى أُؤْمَرَ. فَقَالَ أَحْمَد هَذَا كُفْرٌ. وَهَؤُلَاءِ تَعَلَّقُوا مِنْ قَوْلِ أَحْمَد بِقَوْلِهِ: كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى لِسَانِ الْمَخْلُوقِينَ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَبِقَوْلِهِ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا تَمَّتْ صَلَاتُهُ بِالْقُرْآنِ كَمَا لَا تَتِمُّ بِغَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ. وَبِقَوْلِ أَحْمَد

ص: 84

لَأَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ: أَلَسْت مَخْلُوقًا؟ قَالَ بَلَى قَالَ أَلَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْك مَخْلُوقًا؟ قَالَ بَلَى قَالَ فَكَلَامُك مِنْك وَهُوَ مَخْلُوقٌ.

قُلْت الَّذِي قَالَهُ أَحْمَد فِي هَذَا الْبَابِ صَوَابٌ يُصَدِّقُ بَعْضَهُ بَعْضًا وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ تَنَاقُضٌ وَهُوَ أَنْكَرَهُ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْحُرُوفَ؛ فَإِنَّ مَنْ قَالَ إنَّ الْحُرُوفَ مَخْلُوقَةٌ كَانَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِقُرْآنِ عَرَبِيٍّ وَأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ مَخْلُوقٌ وَنَصَّ أَحْمَد أَيْضًا عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَخْلُوقٌ وَلَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا مِنْهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ وَالسَّرِيُّ رحمه الله إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ بَكْرِ بْنِ خنيس الْعَابِدِ فَكَانَ مَقْصُودُهُمَا بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي لَا يَعْبُدُ اللَّهَ إلَّا بِأَمْرِهِ هُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَعْبُدُهُ بِرَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ مِنْ اللَّهِ وَاسْتَشْهَدَا عَلَى ذَلِكَ بِمَا بَلَغَهُمَا " {أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْحُرُوفَ سَجَدَتْ لَهُ إلَّا الْأَلِفُ فَقَالَتْ لَا أَسْجُدُ حَتَّى أُؤْمَرَ} وَهَذَا الْأَثَرُ لَا يَقُومُ بِمِثْلِهِ حُجَّةٌ فِي شَيْءٍ وَلَكِنَّ مَقْصُودَهُمَا ضَرْبُ الْمَثَلِ أَنَّ الْأَلِفَ مُنْتَصِبَةٌ فِي الْخَطِّ لَيْسَتْ هِيَ مُضْطَجِعَةً كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى يُؤْمَرَ أَكْمَلُ مِمَّنْ فَعَلَ بِغَيْرِ أَمْرٍ. وَأَحْمَد أَنْكَرَ قَوْلَ الْقَائِلِ إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الْحُرُوفَ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ إنَّ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي لِأَنَّهُ سَلَكَ طَرِيقًا إلَى الْبِدْعَةِ وَمَنْ قَالَ إنْ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ قَالَ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ. وَأَحْمَد قَدْ صَرَّحَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا

ص: 85

شَاءَ وَصَرَّحَ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَلَكِنْ أَتْبَاعُ ابْنِ كُلَّابٍ كَالْقَاضِي وَغَيْرِهِ تَأَوَّلُوا كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ إذَا شَاءَ الْإِسْمَاعَ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَصَرَّحَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ الْمُعَيَّنِ كَالْقُرْآنِ أَوْ نِدَائِهِ لِمُوسَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ الْمُعَيَّنِ أَنَّهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَإِنَّ اللَّهَ قَامَتْ بِهِ حُرُوفٌ مُعَيَّنَةٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُعَيَّنَةٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَحْمَد وَلَا غَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ كَلَامُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ صَرِيحٌ فِي نَقِيضِ هَذَا وَأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنَّهُ مِنْهُ بَدَأَ؛ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ ابْتَدَأَ مِنْ غَيْرِهِ وَنُصُوصُهُمْ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْكُتُبِ الثَّابِتَةِ عَنْهُمْ مِثْلِ مَا صَنَّفَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَغَيْرِهِ وَمَا صَنَّفَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ كَلَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَمَا صَنَّفَهُ أَصْحَابُهُ وَأَصْحَابُ أَصْحَابِهِ: كَابْنَيْهِ صَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ وَحَنْبَلٍ وَأَبِي دَاوُد السجستاني صَاحِبِ " السُّنَنِ " وَالْأَثْرَمِ والمروذي وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقِ

ص: 86

وَعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيِّ وَحَرْبِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الكرماني وَمَنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَأَصْحَابِ أَصْحَابِهِ مِمَّنْ جَمَعَ كَلَامَهُ وَأَخْبَارَهُ: كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَأَبِي الْحَسَنِ البناني الأصبهاني وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَمَنْ كَانَ أَيْضًا يَأْتَمُّ بِهِ وَبِأَمْثَالِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ: كَأَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ صَاحِبِ الْجَامِعِ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِي وَأَمْثَالِهِمَا وَمَثَلُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ وَأَمْثَالِهِ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " الْمَسَائِلِ الطبرستانية " وَ " الكيلانية " بَسْطَ مَذَاهِبِ النَّاسِ وَكَيْفَ تَشَعَّبَتْ وَتَفَرَّعَتْ فِي هَذَا الْأَصْلِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ كَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ وَيَقُولُ إنَّهُ مُتَّبِعٌ لَهُمْ مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ أُصُولَ الدِّينِ وَلَا تَقْرِيرَهَا بِالدَّلَائِلِ الْبُرْهَانِيَّةِ وَذَلِكَ لِجَهْلِهِ بِعِلْمِهِمْ؛ بَلْ لِجَهْلِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ مَعَ السَّمْعِيَّةِ؛ فَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَشْتَرِكُونَ فِي أَصْلٍ فَاسِدٍ ثُمَّ يُفَرِّعُ كُلُّ قَوْمٍ عَلَيْهِ فُرُوعًا فَاسِدَةً يَلْتَزِمُونَهَا كَمَا صَرَّحُوا فِي تَكَلُّمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَبِالتَّوْرَاةِ الْعِبْرِيَّةِ وَمَا فِيهِمَا مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ مُؤَلَّفًا أَوْ مُفْرَدًا لَمَّا رَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ بَلَغَ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ اشْتَبَهَ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَلَمْ يَهْتَدُوا لِمَوْضِعِ

ص: 87

الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ فَقَالَ هَؤُلَاءِ: هَذَا الَّذِي يُقْرَأُ وَيُسْمَعُ مِثْلَ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ فَهُوَ مَخْلُوقٌ. وَقَالَ هَؤُلَاءِ: هَذَا الَّذِي مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ هُوَ مِثْلُ كَلَامِ اللَّهُ فَيَكُونُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي " كِتَابِ الْإِرْشَادِ " عَنْ بَعْضِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَالَ: شُبْهَةٌ اُعْتُرِضَ بِهَا عَلَى بَعْضِ أَئِمَّتِهِمْ فَقَالَ: أَقَلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَمَارَاتِ الْحَدَثِ كَوْنُهُ مُشْبِهًا لِكَلَامِنَا وَالْقَدِيمُ لَا يُشْبِهُ الْمُحْدَثِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَفْعُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغُلَامِهِ يَحْيَى: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ يُضَاهِي قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ حَتَّى لَا يُمَيِّزُ السَّامِعُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ حِسُّهُ إلَّا أَنْ يُخْبِرَهُ أَحَدُهُمَا بِقَصْدِهِ وَالْآخِرُ بِقَصْدِهِ فَيُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا بِخَبَرِ الْقَائِلِ لَا بِحِسِّهِ وَإِذَا اشْتَبَهَا إلَى هَذَا الْحَدِّ فَكَيْفَ يَجُوزُ دَعْوَى قِدَمِ مَا يُشَابِهُ الْمُحْدَثَ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ مَعَ أَنَّهُ إنْ جَازَ دَعْوَى قِدَمِ الْكَلَامِ مَعَ كَوْنِهِ مُشَاهِدًا لِلْمُحْدَثِ جَازَ دَعْوَى التَّشْبِيهِ بِظَوَاهِرِ الْآيِ وَالْأَخْبَارِ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمَّا فَزِعْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ إلَى نَفْيِ التَّشْبِيهِ خَوْفًا مِنْ جَوَابِ دُخُولِ الْقُرْآنِ بِالْحَدَثِ عَلَيْنَا كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَفْزَعُوا مِنْ الْقَوْلِ بِالْقِدَمِ مَعَ وُجُودِ الشَّبَهِ حَتَّى إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِكُمْ يَقُولُ لِقُوَّةِ مَا رَأَى مِنْ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا إنَّ الْكَلَامَ وَاحِدٌ وَالْحُرُوفُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ إنَّهُ قَدِيمٌ مُحْدَثٌ.

ص: 88

قُلْت: وَهَذَا الَّذِي حَكَى عَنْهُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ الْمَذْكُورِينَ مِنْهُمْ الْقَاضِي يَعْقُوبُ البرزبيني ذَكَرَهُ فِي مُصَنَّفِهِ فَقَالَ: دَلِيلٌ عَاشِرٌ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ بِعَيْنِهَا وَصِفَتِهَا وَمَعْنَاهَا وَفَائِدَتِهَا هِيَ الَّتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَالْكِتَابُ بِحُرُوفِهِ قَدِيمٌ؛ وَكَذَلِكَ هَاهُنَا. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تِلْكَ لَهَا حُرْمَةٌ وَهَذِهِ لَا حُرْمَةَ لَهَا قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ بَلْ لَهَا حُرْمَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ لَهَا حُرْمَةٌ لَوَجَبَ أَنْ تُمْنَعَ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ مِنْ مَسِّهَا وَقِرَاءَتِهَا قِيلَ: قَدْ لَا تُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَتِهَا وَمَسِّهَا وَيَكُونُ لَهَا حُرْمَةٌ كَبَعْضِ آيَةٍ لَا تُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَتِهَا وَلَهَا حُرْمَةٌ وَهِيَ قَدِيمَةٌ وَإِنَّمَا لَمْ تُمْنَعْ مِنْ قِرَاءَتِهَا وَمَسِّهَا لِلْحَاجَةِ إلَى تَعْلِيمِهَا كَمَا يُقَالُ فِي الصَّبِيِّ يَجُوزُ لَهُ مَسُّ الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ طِهَارَةٍ لِلْحَاجَةِ إلَى تَعْلِيمِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ إذَا حَلَفَ بِهَا حَالِفٌ أَنْ تَنْعَقِدَ يَمِينُهُ وَإِذَا خَالَفَ يَمِينَهُ أَنْ يَحْنَثَ قِيلَ لَهُ: كَمَا فِي حُرُوفِ الْقُرْآنِ مِثْلَهُ نَقُولُ هُنَا. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ إذَا وَافَقَهَا فِي هَذِهِ الْمَعَانِي دَلَّ عَلَى أَنَّهَا هِيَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلِمَةِ يَقْصِدُ بِهَا خِطَابَ آدَمِيٍّ فَوَافَقَ صِفَتُهَا صِفَةَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُ قَوْلِهِ يَا دَاوُد يَا نُوحُ يَا يَحْيَى وَغَيْرُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ وَإِنْ

ص: 89

كَانَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَدِيمَةً وَفِي خِطَابِ الْآدَمِيِّ مُحْدَثَةً؟ . قِيلَ: كُلُّ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْكَلَامِ فِي لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَحُرُوفِهِ فَهُوَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَإِنْ قَصَدَ بِهِ خِطَابَ آدَمِيٍّ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ إذَا أَرَادَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ آدَمِيًّا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ. قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ نَقُولُ وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ؛ إذْ نَادَاهُ رَجُلٌ مَنَّ الْخَوَارِجِ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} قَالَ: فَأَجَابَهُ عَلِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: {ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} . قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ إذَا قَالَ: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} وَنَوَى بِهِ خِطَابَ غُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى يَكُونُ الْخِطَابُ مَخْلُوقًا؟ وَإِنْ نَوَى بِهِ الْقُرْآنَ يَكُونُ قَدِيمًا قِيلَ لَهُ: فِي كِلَا الْحَالَيْنِ يَكُونُ قَدِيمًا؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ عِبَارَةٌ عَمَّا كَانَ مَوْجُودًا فِيمَا لَمْ يَزَلْ وَالْمُحْدَثُ عِبَارَةٌ عَمَّا حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَالنِّيَّةُ لَا تَجْعَلُ الْمُحْدَثَ قَدِيمًا وَلَا الْقَدِيمَ مُحْدَثًا قَالَ: وَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ بَالَغَ فِي الْجَهْلِ وَالْخَطَأِ.

ص: 90

وَقَالَ أَيْضًا: كُلُّ شَيْءٍ يُشَبَّهُ بِشَيْءِ مَا فَإِنَّمَا يُشْبِهُهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ وَلَا يُشْبِهُهُ مِنْ جَمِيعِ أَحْوَالِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ كَانَ هُوَ لَا غَيْرُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تُشْبِهُ حُرُوفَ الْقُرْآنِ فَهِيَ غَيْرُهَا. اهـ.

قُلْت: هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي يَعْقُوبَ وَأَمْثَالِهِ مَعَ أَنَّهُ أَجَلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمَّا كَانَ جَوَابُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا يُخَالِفُ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ وَالْعَقْلَ خَالَفَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ بِهِ.

وَأَجَابَ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ سُؤَالِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا مِثْلُ هَذَا بِأَنْ قَالَ: الِاشْتِرَاكُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُدُوثِ كَمَا أَنَّ كَوْنَهُ عَالِمًا هُوَ تَبَيُّنُهُ لِلشَّيْءِ عَلَى أَصْلِكُمْ وَمَعْرِفَتُهُ بِهِ عَلَى قَوْلِنَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَبَيَّنُهُ الْوَاحِدُ مِنَّا وَلَيْسَ مُمَاثِلًا لَنَا فِي كَوْنِنَا عَالِمِينَ. وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ قَادِرًا هُوَ صِحَّةُ الْفِعْلِ مِنْهُ سبحانه وتعالى وَلَيْسَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَرْنَا عَلَيْهَا فَلَيْسَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْحَقِيقَةِ حَاصِلًا وَالِافْتِرَاقُ فِي الْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ حَاصِلٌ. قَالَ: " وَجَوَابٌ آخَرُ " لَا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِهِ عَلَى

ص: 91

الْوَجْهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ زَيْدٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقُولُ: يَا يَحْيَى فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ انْتَقَلَ إلَى قَوْلِهِ خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةِ وَتَرَتَّبَ فِي الْوُجُودِ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ سبحانه وتعالى يَتَكَلَّمُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ تَعْجِزُ عَنْ مَثَلِهِ أَدَوَاتُنَا. فَمَا ذَكَرْته مِنْ الِاشْتِبَاهِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ يَعُودُ إلَى اشْتِبَاهِ التِّلَاوَةِ بِالْكَلَامِ الْمُحْدَثِ فَأَمَّا أَنَّهُ يُشَابِهُ الْكَلَامَ الْقَائِمَ بِذَاتِهِ فَلَا. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: قَالُوا فَهَذَا لَا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِكُمْ؛ فَإِنَّ عِنْدَكُمْ التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَالْقِرَاءَةُ هِيَ الْمَقْرُوءُ. قِيلَ: لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِنَا هِيَ الْمَتْلُوُّ أَنَّهَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ وَإِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْحُرُوفِ الْقَدِيمَةِ فِي الْأَصْوَاتِ الْمُحْدَثَةِ وَظُهُورُهَا فِي الْمُحْدَثِ لَا بُدَّ أَنْ يُكْسِبَهَا صِفَةَ التَّقْطِيعِ لِاخْتِلَافِ الْأَنْفَاسِ وَإِدَارَةِ اللَّهُوَّاتِ؛ لِأَنَّ الْآلَةَ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَيْهَا لَا تَحْمِلُ الْكَلَامَ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّقْطِيعِ وَكَلَامُ الْبَارِي قَائِمٌ بِذَاتِهِ عَلَى خِلَافِ هَذَا التَّقْطِيعِ وَالِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ وَالتَّكْرَارِ والبعدية والقبلية. وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَعْرِفْ حَدَّ الْقَدِيمِ وَادَّعَى قِدَمَ الْأَعْرَاضِ وَتَقَطُّعَ الْقَدِيمِ وَتَقَطُّعُ الْقَدِيمِ عَرَضٌ لَا يَقُومُ بِقَدِيمِ وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ الْقَائِمَ بِذَاتِهِ عَلَى حَدِّ تِلَاوَةِ التَّالِي مِنْ الْقَطْعِ وَالْوَصْلِ وَالتَّقْرِيبِ وَالتَّبْعِيدِ والبعدية والقبلية فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ. وَلِهَذَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ " {أَنَّ مُوسَى سَأَلَهُ بَنُو إسْرَائِيلَ كَيْفَ سَمِعْت كَلَامَ رَبِّك؟ قَالَ كَالرَّعْدِ الَّذِي لَا يَتَرَجَّعُ} يَعْنِي يَنْقَطِعُ لِعَدَمِ قَطْعِ الْأَنْفَاسِ وَعَدَمِ الْأَنْفَاسِ وَالْآلَاتِ وَالشِّفَاهِ

ص: 92

وَاللُّهُوَاتِ وَمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ وَتَوَهَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِ التَّالِي أَوْ الْكَلَامُ الَّذِي قَامَ بِذَاتِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ التَّقْطِيعِ وَالْوَصْلِ وَالتَّقْرِيبِ وَالتَّبْعِيدِ: فَقَدْ حَكَمَ بِهِ مُحْدَثًا؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ هُوَ الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ مِنْ صِفَافِ الْأَدَوَاتِ اهـ.

قُلْت فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ أَقَلُّ خَطَأً مِمَّا قَالَهُ البرزبيني فَإِنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْعَقْلِ مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ بِكَلَامِ الْآدَمِيِّينَ عَامِدًا لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهَا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ خِلَافَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي يَعْقُوبُ وَمَتَى قَصَدَ بِهِ التِّلَاوَةَ لَمْ تَبْطُلْ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التِّلَاوَةَ وَالْخِطَابَ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد لَا تَبْطُلُ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ تَبْطُلُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ. وَمَا ذَكَرُوهُ عَنْ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ قَوْلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَمْ يَقْصِدْ عَلِيٌّ أَنْ يَقُولَ لِلْخَارِجِيِّ: وَلَا يَسْتَخِفَّنك الْخَوَارِجُ؛ وَإِنَّمَا قَصَدَ أَنْ يُسْمِعَهُ الْآيَةَ وَأَنَّهُ عَامِلٌ بِهَا صَابِرٌ لَا يَسْتَخِفُّهُ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ وَابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ لَهُمْ وَهُوَ بِالْكُوفَةِ: {ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِصْرَ بِلَا تَنْوِينٍ هِيَ مِصْرُ الْمَدِينَةُ وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ بِالْكُوفَةِ. وَابْنُ مَسْعُودٍ إنَّمَا كَانَ بِالْكُوفَةِ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ تِلَاوَةَ الْآيَةِ وَقَصَدَ مَعَ

ص: 93

ذَلِكَ تَنْبِيهَ الْحَاضِرِينَ عَلَى الدُّخُولِ؛ فَإِنَّهُمْ سَمِعُوا قَوْلَهُ اُدْخُلُوا فَعَلِمُوا أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَ هُوَ تَلَا الْآيَةَ فَهَذَا هَذَا. وَأَمَّا جَوَابُ ابْنِ عَقِيلٍ فَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِ ابْنِ كُلَّابٍ الَّذِي يَعْتَقِدُهُ هُوَ وَشَيْخُهُ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي وَافَقُوا فِيهِ ابْنَ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا يَقُومُ بِهِ شَيْءٌ يَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِهِ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهَا حَادِثَةٌ وَاَللَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ حَادِثٌ عِنْدَهُمْ؛ وَلِهَذَا تَأَوَّلُوا النُّصُوصَ الْمُنَاقِضَةَ لِهَذَا الْأَصْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ سَيَرَى الْأَعْمَالَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} وَقَوْلِهِ: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ بَعْدَ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ} يَقْتَضِي أَنَّهُ نُودِيَ لَمَّا أَتَاهَا لَمْ يُنَادِ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.

ص: 94

وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ مِمَّا أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى ابْنِ كُلَّابٍ وَأَصْحَابِهِ حَتَّى عَلَى الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيَّ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِ الْحَارِثِ وَأَمَرَ أَحْمَد بِهَجْرِهِ وَهَجْرِ الْكُلَّابِيَة وَقَالَ: احْذَرُوا مِنْ حَارِثٍ الْآفَةُ كُلُّهَا مِنْ حَارِثٍ فَمَاتَ الْحَارِثُ وَمَا صَلَّى عَلَيْهِ إلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ بِسَبَبِ تَحْذِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَد عَنْهُ مَعَ أَنَّ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ مَنْ وَافَقَ ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْحَارِثَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَأَقَرَّ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ كَمَا حَكَى عَنْهُ ذَلِكَ صَاحِبُ " التَّعَرُّفُ لِمَذْهَبِ التَّصَوُّفِ " أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الكلاباذي. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَافَقُوا ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَاخْتَلَفَ كَلَامُ ابْنِ عَقِيلٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ فَتَارَةً يَقُولُ بِقَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ وَتَارَةً يَقُولُ بِمَذْهَبِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ وَيَقُولُ إنَّهُ قَامَ بِهِ أَبْصَارُ مُتَجَدِّدَةٌ حِينَ تَجَدُّدِ الْمَرْئِيَّاتِ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَامَ بِهِ عِلْمٌ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ وُجِدَ غَيْرُ الْعِلْمِ الَّذِي كَانَ أَوَّلًا أَنَّهُ سَيُوجَدُ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ عِدَّةُ آيَاتٍ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَلَامُهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَغَيْرِهِ يَخْتَلِفُ تَارَةً يَقُولُ بِهَذَا وَتَارَةً يَقُولُ بِهَذَا فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ مَوَاضِعُ

ص: 95

مُشْكِلَةٌ كَثُرَ فِيهَا غَلَطُ النَّاسِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالِالْتِبَاسِ.

وَالْجَوَابُ الْحَقُّ: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يُمَاثِلُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ كَمَا لَا يُمَاثِلُ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُدُوثِ لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَإِنَّا إذَا قُلْنَا: لِلَّهِ عِلْمٌ وَلَنَا عِلْمٌ أَوْ لَهُ قُدْرَةٌ وَلَنَا قُدْرَةٌ أَوْ لَهُ كَلَامٌ وَلَنَا كَلَامٌ أَوْ تَكَلَّمَ بِصَوْتِ وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَقُلْنَا صِفَةُ الْخَالِقِ وَصِفَةُ الْمَخْلُوقِ اشْتَرَكَتَا فِي الْحَقِيقَةِ - فَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَتَهُمَا وَاحِدَةٌ بِالْعَيْنِ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ مُمَاثِلَةٌ لِهَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتَا فِي الصِّفَاتِ الْعَرَضِيَّةِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ - وَقَدْ بَيَّنَ فَسَادَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى " الْأَرْبَعِينَ " للرازي وَغَيْرِ ذَلِكَ - فَهَذَا أَيْضًا مَنْ أَبْطَلَ الْبَاطِلِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةُ ذَاتِ الْبَارِي عز وجل مُمَاثِلَةً لِحَقِيقَةِ ذَوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ. وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي مُسَمَّى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ فَهَذَا صَحِيحٌ كَمَا أَنَّهُ إذَا قِيلَ: إنَّهُ مَوْجُودٌ أَوْ إنَّ لَهُ ذَاتًا فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَالذَّاتِ لَكِنَّ هَذَا الْمُشْتَرِكَ أَمْرٌ كُلِّيٌّ لَا يُوجَدُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ اشْتَرَكَ فِيهِ مَخْلُوقَانِ كَاشْتِرَاكِ الْجُزْئِيَّاتِ فِي كُلِّيَّاتِهَا بِخِلَافِ اشْتِرَاكِ الْأَجْزَاءِ فِي الْكُلِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ قِسْمَةِ الْكُلِّيِّ إلَى جُزْئِيَّاتِهِ كَقِسْمَةِ الْحَيَوَانِ إلَى

ص: 96

نَاطِقٍ وَغَيْرِ نَاطِقٍ وَقِسْمَةِ الْإِنْسَانِ إلَى مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وَقِسْمَةِ الِاسْمِ إلَى مُعْرَبٍ وَمَبْنِيٍّ وَقِسْمَةِ الْكُلِّ إلَى أَجْزَائِهِ كَقِسْمَةِ الْعَقَارِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وَقِسْمَةِ الْكَلَامِ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ فَفِي الْأَوَّلِ إنَّمَا اشْتَرَكَتْ الْأَقْسَامُ فِي أَمْرٍ كُلِّيٍّ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُونَ مُشْتَرِكِينَ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ صِفَةٌ لِلَّهِ يُمَاثِلُ بِهَا صِفَةَ الْمَخْلُوقِ بَلْ كُلُّ مَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى فَهُوَ مُخَالِفٌ بِالْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ؛ لِمَا يُوصَفُ بِهِ الْمَخْلُوقُ أَعْظَمَ مِمَّا يُخَالِفُ الْمَخْلُوقُ الْمَخْلُوقَ وَإِذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ مُخَالِفًا بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ فَمُخَالَفَةُ الْخَالِقِ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ فِي الْحَقِيقَةِ أَعْظَمُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَيِّ مَخْلُوقٍ فُرِضَ لِأَيِّ مَخْلُوقٍ فُرِضَ وَلَكِنَّ عِلْمَهُ ثَبَتَ لَهُ حَقِيقَةُ الْعِلْمِ وَلِقُدْرَتِهِ حَقِيقَةُ الْقُدْرَةِ وَلِكَلَامِهِ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ كَمَا ثَبَتَ لِذَاتِهِ حَقِيقَةُ الذَّاتِيَّةِ وَلِوُجُودِهِ حَقِيقَةُ الْوُجُودِ وَهُوَ أَحَقُّ بِأَنَّ تَثْبُتَ لَهُ صِفَاتُ الْكَمَالِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا: عِلْمُهُ يُشَارِكُ عِلْمَ الْمَخْلُوقِ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَيْسَ مَا يُسْمَعُ مِنْ الْعِبَادِ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ مُشَابِهًا وَلَا مُمَاثِلًا لِمَا سَمِعَهُ مُوسَى مِنْ صَوْتِهِ إلَّا كَمَا يُشْبِهُ وَيُمَاثِلُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَهَذَا فِي نَفْسِ تَكَلُّمِهِ سبحانه وتعالى بِالْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَد وَسَائِر أَئِمَّةِ السُّنَّةِ كَلَامُهُ تَكَلَّمَ بِهِ وَتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَكَلَّمَ مُوسَى بِصَوْتِ نَفْسِهِ الَّذِي لَا يُمَاثِلُ شَيْئًا مِنْ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ.

ص: 97

ثُمَّ إذَا قَرَأْنَا الْقُرْآنَ فَإِنَّمَا نَقْرَؤُهُ بِأَصْوَاتِنَا الْمَخْلُوقَةِ الَّتِي لَا تُمَاثِلُ صَوْتَ الرَّبِّ فَالْقُرْآنُ الَّذِي نَقْرَؤُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ مُبَلَّغًا عَنْهُ لَا مَسْمُوعًا مِنْهُ وَإِنَّمَا نَقْرَؤُهُ بِحَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا الْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَعَ الْعَقْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "{لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ} قَالَ يُزَيِّنُهُ وَيُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ كَمَا قَالَ: " {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} فَنَصَّ أَحْمَد عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إنَّا نَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِنَا وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ كُلُّهُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ سَمِعَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّهِ وَبَلَّغَهُ إلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَسَمِعَهُ مُحَمَّدٌ مِنْهُ وَبَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ إلَى الْخَلْقِ وَالْخَلْقُ يُبَلِّغُهُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ وَيَسْمَعُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ إذَا سَمِعُوا كَلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِ فَبَلَّغُوهُ عَنْهُ كَمَا قَالَ: "{نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ} فَهُمْ سَمِعُوا اللَّفْظَ مِنْ الرَّسُولِ بِصَوْتِ نَفْسِهِ بِالْحُرُوفِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا وَبَلَّغُوا لَفْظَهُ بِأَصْوَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَقَدْ عُلِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ يَرْوِي الْحَدِيثَ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ وَاللَّفْظُ الْمُبَلَّغُ هُوَ لَفْظُ الرَّسُولِ وَهُوَ كَلَامُ الرَّسُولِ؛ فَإِنْ كَانَ صَوْتُ

ص: 98

الْمُبَلِّغِ لَيْسَ صَوْتَ الرَّسُولِ وَلَيْسَ مَا قَامَ بِالرَّسُولِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْإِعْرَاضِ فَارَقَتْهُ وَمَا قَامَتْ بِغَيْرِهِ؛ بَلْ وَلَا تَقُومُ الصِّفَةُ وَالْعَرَضُ بِغَيْرِ مَحَلِّهِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْقُولًا فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَصِفَاتُ الْخَالِقِ أَوْلَى بِكُلِّ صِفَةِ كَمَالٍ وَأَبْعَدُ عَنْ كُلِّ صِفَةِ نَقْصٍ وَالتَّبَايُنُ الَّذِي بَيْنَ صِفَةِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ أَعْظَمُ مِنْ التَّبَايُنِ الَّذِي بَيْنَ صِفَةِ مَخْلُوقٍ وَمَخْلُوقٍ وَامْتِنَاعُ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ بِالذَّاتِ لِلْخَالِقِ وَصِفَاتِهِ فِي الْمَخْلُوقِ أَعْظَمُ مِنْ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ بِالذَّاتِ لِلْمَخْلُوقِ وَصِفَاتِهِ فِي الْمَخْلُوقِ وَهَذِهِ جُمَلٌ قَدْ بُسِطَتْ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. هَذَا مَعَ أَنَّ احْتِجَاجَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ بِقَوْلِهِ: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} مِثْلُ كَلَامِ الْخَالِقِ غَلَطٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ حَتَّى عِنْدَهُمْ فَإِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ هُوَ مَخْلُوقٌ يَقُولُونَ إنَّهُ خَلَقَهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ إمَّا الْهَوَاءُ أَوْ غَيْرُهُ كَمَا يَقُولُونَ: إنَّهُ خَلَقَ الْكَلَامُ فِي نَفْسِ الشَّجَرَةِ فَسَمِعَهُ مُوسَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِمَا يُسْمَعُ مِنْ الْعَبْدِ وَتِلْكَ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ الْمَسْمُوعُ مِنْهُ عِنْدَهُمْ؛ كَمَا أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ الَّذِي تَكَلَّمَ هُوَ اللَّهُ بِمَشِيئَتِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُمَاثِلًا لِصَوْتِ الْعَبْدِ.

ص: 99

وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْكَلَامِ الْمُعَيَّنِ سَوَاءٌ كَانَ مَعْنًى أَوْ حُرُوفًا أَوْ أَصْوَاتًا فَيَقُولُونَ: خَلَقَ لِمُوسَى إدْرَاكًا أَدْرَكَ بِهِ ذَلِكَ الْقَدِيمَ وَبِكُلِّ حَالٍ فَكَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ إذَا سُمِّعَ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ غَيْرُ مَا قَامَ بِنَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُنْشِئِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى؟ . فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي " مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ " أَنْ يَتَحَرَّى أَصْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا تَكَلُّمُ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ هَلْ تَكَلَّمَ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ قَائِمٍ بِذَاتِهِ أَمْ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ؟ وَالثَّانِي تَبْلِيغُ ذَلِكَ الْكَلَامِ عَنْ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَتَّصِفُ بِهِ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالتَّبْلِيغِ الْكَلَامَ الْمُبَلَّغَ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَأَيْضًا فَهَذَانِ الْمُتَنَازِعَانِ إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا: إنَّهَا قَدِيمَةٌ وَلَيْسَ لَهَا مُبْتَدَأٌ وَشَكْلُهَا وَنَقْطُهَا مُحْدَثٌ وَقَالَ الْآخَرُ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِكَلَامِ اللَّهِ وَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ بِشَكْلِهَا وَنَقْطِهَا قَدْ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمَا أَرَادَا بِالْحُرُوفِ الْحُرُوفَ الْمَكْتُوبَةَ دُونَ الْمَنْطُوقَةِ وَالْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي شَكْلِهَا وَنَقْطِهَا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ كَتَبُوهَا غَيْرَ مَشْكُولَةٍ وَلَا مَنْقُوطَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِهِ فِي صُدُورِهِمْ لَا عَلَى الْمَصَاحِفِ وَهُوَ مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ وَلَوْ عُدِمَتْ الْمَصَاحِفُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهَا حَاجَةٌ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسُوا كَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّغَيُّرَ وَاَللَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ فَتَلَقَّاهُ تَلَقِّيًا وَحَفِظَهُ فِي قَلْبِهِ لَمْ يُنَزِّلْهُ مَكْتُوبًا كَالتَّوْرَاةِ

ص: 100

وَأَنْزَلَهُ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا لِيُحْفَظَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى كِتَابٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} الْآيَةَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَك كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُمَا فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} } قَالَ جَمْعُهُ فِي صَدْرِك ثُمَّ تَقْرَؤُهُ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قَالَ: فَاسْتَمَعَ لَهُ وَأَنْصَتَ {ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أَيْ نُبَيِّنُهُ بِلِسَانِك. فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَقْرَأَهُ؛ فَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ الصَّحَابَةُ يُنَقِّطُونَ الْمَصَاحِفَ وَيُشَكِّلُونَهَا وَأَيْضًا كَانُوا عَرَبًا لَا يَلْحَنُونَ؛ فَلَمْ يَحْتَاجُوا إلَى تَقْيِيدِهَا بِالنَّقْطِ وَكَانَ فِي اللَّفْظِ الْوَاحِدِ قِرَاءَتَانِ يُقْرَأُ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ مِثْلُ: يَعْمَلُونَ وَتَعْمَلُونَ. فَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِأَحَدِهِمَا لِيَمْنَعُوهُ مِنْ الْأُخْرَى. ثُمَّ إنَّهُ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ لَمَّا حَدَثَ اللَّحْنُ صَارَ بَعْضُ التَّابِعِينَ يُشَكِّلُ الْمَصَاحِفَ وَيُنَقِّطُهَا وَكَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِالْحُمْرَةِ وَيَعْمَلُونَ الْفَتْحَ بِنُقْطَةِ حَمْرَاءَ فَوْقَ الْحَرْفِ وَالْكَسْرَةَ بِنُقْطَةِ حَمْرَاءَ تَحْتَهُ وَالضَّمَّةَ بِنُقْطَةِ حَمْرَاءَ

ص: 101

أَمَامَهُ. ثُمَّ مَدُّوا النُّقْطَةَ وَصَارُوا يَعْمَلُونَ الشَّدَّة بِقَوْلِك " شَدَّ "؛ وَيَعْمَلُونَ الْمَدَّةَ بِقَوْلِك " مَدَّ " وَجَعَلُوا عَلَامَةَ الْهَمْزَةِ تُشْبِهُ الْعَيْنَ؛ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ أُخْتُ الْعَيْنِ ثُمَّ خَفَّفُوا ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ عَلَامَةُ الشَّدَّةِ مِثْلَ رَأْسِ السِّينِ وَعَلَامَةُ الْمَدَّةِ مُخْتَصَرَةً كَمَا يَخْتَصِرُ أَهْلُ الدِّيوَانِ أَلْفَاظَ الْعَدَدِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَكَمَا يَخْتَصِرُ الْمُحَدِّثُونَ أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا فَيَكْتُبُونَ أَوَّلَ اللَّفْظِ وَآخِرَهُ عَلَى شَكْلٍ " أَنَا " وَعَلَى شَكْلِ " ثنا ". وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُكْرَهُ تَشْكِيلُ الْمَصَاحِفِ وَتَنْقِيطُهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد لَكِنْ لَا نِزَاعَ بَيْنِهِمْ أَنَّ الْمُصْحَفَ إذَا شُكِّلَ وَنُقِّطَ وَجَبَ احْتِرَامُ الشَّكْلِ وَالنَّقْطِ كَمَا يَجِبُ احْتِرَامُ الْحَرْفِ وَلَا تَنَازُعَ بَيْنَهُمْ أَنَّ مِدَادَ النُّقْطَةِ وَالشَّكْلِ مَخْلُوقٌ كَمَا أَنَّ مِدَادَ الْحَرْفِ مَخْلُوقٌ وَلَا نِزَاعَ بَيْنِهِمْ أَنَّ الشَّكْلَ يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَابِ وَالنَّقْطَ يَدُلُّ عَلَى الْحُرُوفِ وَأَنَّ الْإِعْرَابَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَيُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا: حِفْظُ إعْرَابِ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ حِفْظِ بَعْضِ حُرُوفِهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ النُّقْطَةَ وَالشَّكْلَةَ بِمَجْرَدِهِمَا لَا حُكْمَ لَهُمَا وَلَا حُرْمَةَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجَرَّدَ الْكَلَامُ فِيهِمَا وَلَا رَيْبَ أَنَّ إعْرَابَ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ تَمَامِهِ وَيَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِإِعْرَابِهِ وَالشَّكْلُ يُبَيِّنُ إعْرَابَهُ كَمَا تُبَيِّنُ الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ لِلْحَرْفِ الْمَنْطُوقِ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الشَّكْلُ الْمَكْتُوبُ لِلْإِعْرَابِ الْمَنْطُوقِ.

ص: 102

فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ إذَا تَصَوَّرَهَا النَّاسُ عَلَى وَجْهِهَا تَصَوُّرًا تَامًّا ظَهَرَ لَهُمْ الصَّوَابُ وَقَلَّتْ الْأَهْوَاءُ وَالْعَصَبِيَّاتُ وَعَرَفُوا مَوَارِدَ النِّزَاعِ فَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اتَّبَعَهُ وَمَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ تَوَقَّفَ حَتَّى يُبَيِّنَهُ اللَّهُ لَهُ وَيَنْبَغِيَ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى ذَلِكَ بِدُعَاءِ اللَّهِ وَمِنْ أَحْسَنِ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يُصَلِّي يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَقَوْلُ الْقَائِلِ الْآخَرِ كَلَامُهُ كُتِبَ بِهَا: يَقْتَضِي أَنَّهُ أَرَادَ بِالْحُرُوفِ مَا يَتَنَاوَلُ الْمَنْطُوقَ وَالْمَكْتُوبَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمَّا إنِّي لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. فَهُنَا لَمْ يُرِدْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْحَرْفِ نَفْسَ الْمِدَادِ وَشَكْلَ الْمِدَادِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحَرْفَ الْمَنْطُوقَ. وَفِي مُرَادِهِ بِالْحَرْفِ قَوْلَانِ: قِيلَ هَذَا اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ. وَقِيلَ أَرَادَ صلى الله عليه وسلم بِالْحَرْفِ الِاسْمَ كَمَا قَالَ: أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ.

وَلَفْظُ " الْحَرْفِ وَالْكَلِمَةِ " لَهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ

ص: 103

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّمُ بِهَا مَعْنًى وَلَهُ فِي اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ مَعْنًى. فَالْكَلِمَةُ فِي لُغَتِهِمْ هِيَ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ أَوْ الْفِعْلِيَّةُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: " {كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم "{إنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدِ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ} وَقَالَ: " {إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يُكْتَبُ لَهُ بِهَا رِضْوَانُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يُكْتَبُ لَهُ بِهَا سَخَطُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَقَالَ لِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ "{لَقَدْ قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْت مُنْذُ الْيَوْمَ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ} وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا} وَقَوْلُهُ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} وقَوْله تَعَالَى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ} وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " {مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ لَفْظُ الْكَلِمَةِ إلَّا

ص: 104

وَالْمُرَادُ بِهِ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ. فَكَثِيرٌ مِنْ النُّحَاةِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ؛ بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّ اصْطِلَاحَهُمْ فِي مُسَمَّى الْكَلِمَةِ يَنْقَسِمُ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ هُوَ لُغَةُ الْعَرَبِ وَالْفَاضِلُ مِنْهُمْ يَقُولُ: وَكِلْمَةُ بِهَا كَلَامٌ قَدْ يُؤَمُّ وَيَقُولُونَ: الْعَرَبُ قَدْ تَسْتَعْمِلُ الْكَلِمَةَ فِي الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ وَتَسْتَعْمِلُهَا فِي الْمُفْرَدِ وَهَذَا غَلَطٌ لَا يُوجَدُ قَطُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَفْظُ الْكَلِمَةِ إلَّا لِلْجُمْلَةِ التَّامَّةِ. وَمِثْلُ هَذَا اصْطِلَاحُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ الْقَدِيمَ هُوَ مَا لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ أَوْ مَا لَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ ثُمَّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الْقَدِيمُ فِي الْمُتَقَدِّمِ عَلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ أَزَلِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} وَقَالَ: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إفْكٌ قَدِيمٌ} وقَوْله تَعَالَى {قَالُوا تَاللَّهِ إنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} وَتَخْصِيصُ الْقَدِيمِ بِالْأَوَّلِ عُرْفٌ اصْطِلَاحِيٌّ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْقِدَمِ فِي لُغَةِ الرَّبِّ؛ وَلِهَذَا كَانَ لَفْظُ الْمُحْدَثِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِإِزَاءِ الْقَدِيمِ قَالَ تَعَالَى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِي نَزَلَ قَبْلَهُ لَيْسَ بِمُحْدَثِ بَلْ مُتَقَدِّمٌ. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ

ص: 105

وَنَظِيرَ هَذَا لَفْظُ " الْقَضَاء " فَإِنَّهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ الْمُرَادُ بِهِ إتْمَامُ الْعِبَادَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} ثُمَّ اصْطَلَحَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَجَعَلُوا لَفْظَ " الْقَضَاءِ " مُخْتَصًّا بِفِعْلِهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا وَلَفْظَ " الْأَدَاءِ " مُخْتَصًّا بِمَا يُفْعَلُ فِي الْوَقْتِ وَهَذَا التَّفْرِيقُ لَا يُعْرَفُ قَطُّ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ ثُمَّ يَقُولُونَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْقَضَاءِ فِي الْأَدَاءِ فَيَجْعَلُونَ اللُّغَةَ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا مِنْ النَّادِرِ. وَلِهَذَا يَتَنَازَعُونَ فِي مُرَادِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " {فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا} " وَفِي لَفْظٍ: " {فَأَتِمُّوا} " فَيَظُنُّونَ أَنَّ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ خِلَافًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ قَوْلُهُ: " فَاقْضُوا " كَقَوْلِهِ: " فَأَتِمُّوا " لَمْ يُرِدْ بِأَحَدِهِمَا الْفِعْلَ بَعْدَ الْوَقْتِ؛ بَلْ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ أَمْرٌ بِالْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا لَكِنَّ الْوَقْتَ وَقْتَانِ: وَقْتٌ عَامٌّ وَوَقْتٌ خَاصٌّ لِأَهْلِ الْأَعْذَارِ: كَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي إذَا صَلَّيَا بَعْدَ الِاسْتِيقَاظِ وَالذِّكْرِ فَإِنَّمَا صَلَّيَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ وَقْتًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا.

ص: 106

وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْغَلَطِ فِي فَهْمِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ يَنْشَأَ الرَّجُلُ عَلَى اصْطِلَاحٍ حَادِثٍ فَيُرِيدُ أَنْ يُفَسِّرَ كَلَامَ اللَّهِ بِذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ وَيَحْمِلَهُ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا. وَمَا ذُكِرَ فِي مُسَمَّى " الْكَلَامِ " مَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ عَنْ الْعَرَبِ فَقَالَ: وَاعْلَمْ " أَنَّ " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إنَّمَا وَقَعَتْ عَلَى أَنْ تُحْكَى وَإِنَّمَا يُحْكَى بَعْدَ الْقَوْلِ مَا كَانَ كَلَامًا قَوْلًا؛ وَإِلَّا فَلَا يُوجَدُ قَطُّ لَفْظُ الْكَلَامِ وَالْكَلِمَةِ إلَّا لِلْجُمْلَةِ التَّامَّةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَفْظُ الْحَرْفِ يُرَادُ بِهِ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ وَحُرُوفُ الْمَعَانِي وَاسْمُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ؛ وَلِهَذَا سَأَلَ الْخَلِيلُ أَصْحَابَهُ: كَيْفَ تَنْطِقُونَ بِالزَّايِ مَنْ زَيْدٌ؟ فَقَالُوا: زَاي فَقَالَ نَطَقْتُمْ بِالِاسْمِ وَإِنَّمَا الْحَرْفُ زه؛ فَبَيَّنَ الْخَلِيلُ أَنَّ هَذِهِ الَّتِي تُسَمَّى حُرُوفَ الْهِجَاءِ هِيَ أَسْمَاءٌ. وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ هَذَا " حَرْفٌ مِنْ الْغَرِيبِ " يُعَبِّرُونَ بِذَلِكَ عَنْ الِاسْمِ التَّامِّ فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " {فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ} " مَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ: " وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ ". وَعَلَى نَهْجِ ذَلِكَ: وَذَلِكَ حَرْفٌ وَالْكِتَابُ حَرْفٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ أَحْرُفٌ وَالْكِتَابَ أَحْرُفٌ وَرُوِيَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ. وَالنُّحَاةُ اصْطَلَحُوا اصْطِلَاحًا خَاصًّا فَجَعَلُوا لَفْظَ " الْكَلِمَةِ " يُرَادُ

ص: 107

بِهِ الِاسْمُ أَوْ الْفِعْلُ أَوْ الْحَرْفُ الَّذِي هُوَ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي؛ لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ: الْكَلَامُ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنَى لَيْسَ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ. فَجَعَلَ هَذَا حَرْفًا خَاصًّا وَهُوَ الْحَرْفُ الَّذِي جَاءَ لِمَعْنَى لَيْسَ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ؛ لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ كَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَقَدْ عَرَفَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الِاسْمَ أَوْ الْفِعْل حَرْفًا فَقَيَّدَ كَلَامَهُ بِأَنْ قَالَ: وَقَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ جَاءَ لِمَعْنَى لَيْسَ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ وَأَرَادَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْكَلَامَ يَنْقَسِمُ إلَى ذَلِكَ قِسْمَةَ الْكُلِّ إلَى أَجْزَائِهِ لَا قِسْمَةَ الْكُلِّيِّ إلَى جُزْئِيَّاتِهِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ كَمَا يُقَسَّمُ الْعَقَارُ وَالْمَنْقُولُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ فَيُعْطَى هَؤُلَاءِ قِسْمٌ غَيْرُ قِسْمِ هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ الْكَلَامُ هُوَ مُؤَلَّفٌ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ وَحُرُوفِ الْمَعَانِي فَهُوَ مَقْسُومٌ إلَيْهَا وَهَذَا التَّقْسِيمُ غَيْرُ تَقْسِيمِ الْجِنْسِ إلَى أَنْوَاعِهِ كَمَا يُقَالُ: الِاسْمُ يَنْقَسِمُ إلَى مُعْرَبٍ وَمَبْنِيٍّ. وَجَاءَ الجزولي وَغَيْرُهُ فَاعْتَرَضُوا عَلَى النُّحَاةِ فِي هَذَا وَلَمْ يَفْهَمُوا كَلَامَهُمْ فَقَالُوا: كُلُّ جِنْسٍ قُسِّمَ إلَى أَنْوَاعِهِ أَوْ أَشْخَاصِ أَنْوَاعِهِ فَاسْمُ الْمَقْسُومِ صَادِقٌ عَلَى الْأَنْوَاعِ وَالْأَشْخَاصِ وَإِلَّا فَلَيْسَتْ أَقْسَامًا لَهُ وَأَرَادُوا بِذَلِكَ الِاعْتِرَاضَ عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ: الْكَلَامُ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ وَسَائِر أَئِمَّةِ النُّحَاةِ وَأَرَادُوا بِذَلِكَ الْقِسْمَةَ الْأُولَى الْمَعْرُوفَةَ وَهِيَ قِسْمَةُ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ إلَى أَجْزَائِهَا كَمَا يُقْسَمُ الْعَقَارُ وَالْمَالُ وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ قِسْمَةَ الْكُلِّيَّاتِ - الَّتِي لَا تُوجَدُ كُلِّيَّاتٍ

ص: 108

إلَّا فِي الذِّهْنِ - كَقِسْمَةِ الْحَيَوَانِ إلَى نَاطِقٍ وَبَهِيمٍ وَقِسْمَةِ الِاسْمِ إلَى الْمُعْرَبِ وَالْمَبْنِيِّ. فَإِنَّ الْمُقَسَّمَ هُنَا هُوَ مَعْنًى عَقْلِيٌّ كُلِّيٌّ لَا يَكُونُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ.

فَصْلٌ:

وَلَفْظُ " الْحَرْفِ " يُرَادُ بِهِ حُرُوفُ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ قَسِيمَةُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ: مِثْلُ حُرُوفِ الْجَرِّ وَالْجَزْمِ وَحَرْفَيْ التَّنْفِيسِ وَالْحُرُوفِ الْمُشْبِهَةِ لِلْأَفْعَالِ مِثْلُ " إنَّ وَأَخَوَاتِهَا " وَهَذِهِ الْحُرُوفُ لَهَا أَقْسَامٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا يُقَسِّمُونَهَا بِحَسَبِ الْإِعْرَابِ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِالْأَسْمَاءِ وَإِلَى مَا يَخْتَصُّ بِالْأَفْعَالِ وَيَقُولُونَ: مَا اخْتَصَّ بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ كَالْجُزْءِ مِنْهُ كَانَ عَامِلًا كَمَا تَعْمَلُ حُرُوفُ الْجَرِّ وَإِنَّ وَأَخَوَاتُهَا فِي الْأَسْمَاءِ وَكَمَا تَعْمَلُ النَّوَاصِبُ وَالْجَوَازِمُ فِي الْأَفْعَالِ؛ بِخِلَافِ حَرْفِ التَّعْرِيفِ وَحَرْفَيْ التَّنْفِيسِ: كَالسِّينِ وَسَوْفَ فَإِنَّهُمَا لَا يَعْمَلَانِ لِأَنَّهُمَا كَالْجُزْءِ مِنْ الْكَلِمَةِ وَيَقُولُونَ: كَانَ الْقِيَاسُ فِي " مَا " أَنَّهَا لَا تَعْمَلُ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَلَكِنْ أَهْلُ الْحِجَازِ أَعْمَلُوهَا لِمُشَابَهَتِهَا لليس وَبِلُغَتِهِمْ جَاءَ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ: {مَا هَذَا بَشَرًا} {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} .

ص: 109

وَيُقَسِّمُونَ " الْحُرُوفَ " بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهَا إلَى حُرُوفِ اسْتِفْهَامٍ وَحُرُوفِ نَفْيٍ وَحُرُوفِ تَخْصِيصٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُقَسِّمُونَهَا بِاعْتِبَارِ بِنْيَتِهَا كَمَا تُقَسَّمُ الْأَفْعَالُ وَالْأَسْمَاءُ إلَى مُفْرَدٍ وَثُنَائِيٍّ وَثُلَاثِيٍّ وَرُبَاعِيٍّ وَخُمَاسِيٍّ. فَاسْمُ الْحَرْفِ هُنَا مَنْقُولٌ عَنْ اللُّغَةِ إلَى عُرْفِ النُّحَاةِ بِالتَّخْصِيصِ وَإِلَّا فَلَفْظُ الْحَرْفِ فِي اللُّغَةِ يَتَنَاوَلُ الْأَسْمَاءَ وَالْحُرُوفَ وَالْأَفْعَالَ وَحُرُوفَ الْهِجَاءِ تُسَمَّى حُرُوفًا وَهِيَ أَسْمَاءٌ كَالْحُرُوفِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَائِل السُّوَرِ لِأَنَّ مُسَمَّاهَا هُوَ الْحَرْفُ الَّذِي هُوَ حَرْفُ الْكَلِمَةِ. وَتُقَسَّمُ تَقْسِيمًا آخَرَ إلَى حُرُوفٍ حَلْقِيَّةٍ وَشَفَهِيَّةٍ وَالْمَذْكُورَةُ فِي أَوَائِلِ السُّورِ فِي الْقُرْآنِ هِيَ نِصْفُ الْحُرُوفِ وَاشْتَمَلَتْ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى أَشْرَفِ نِصْفَيْهِ: عَلَى نِصْفِ الْحَلْقِيَّةِ وَالشَّفَهِيَّةِ وَالْمُطْبَقَةِ؛ وَالْمُصْمَتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَجْنَاسِ الْحُرُوفِ. فَإِنَّ لَفْظَ " الْحَرْفِ " أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْحَدُّ وَالطَّرَفُ كَمَا يُقَالُ: حُرُوفُ الرَّغِيفِ وَحَرْفُ الْجَبَلِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: حَرْفُ كُلِّ شَيْءٍ طَرَفُهُ وَشَفِيرُهُ وَحَدُّهُ وَمِنْهُ حَرْفُ الْجَبَلِ وَهُوَ أَعْلَاهُ الْمُحَدَّدُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} إلَى قَوْلِهِ: {وَالْآخِرَةِ} فَإِنَّ طَرَفَ الشَّيْءِ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا؛ فَلِهَذَا كَانَ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى السَّرَّاءِ دُونَ الضَّرَّاءِ عَابِدًا لَهُ عَلَى حَرْفٍ: تَارَةً يُظْهِرُهُ وَتَارَةً يَنْقَلِبُ

ص: 110

عَلَى وَجْهِهِ كَالْوَاقِفِ عَلَى حَرْفِ الْجَبَلِ فَسُمِّيَتْ حُرُوفُ الْكَلَامِ حُرُوفًا لِأَنَّهَا طَرَفُ الْكَلَامِ وَحَدُّهُ وَمُنْتَهَاهُ إذْ كَانَ مَبْدَأُ الْكَلَامِ مِنْ نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ وَمُنْتَهَاهُ حَدُّهُ وَحَرْفُهُ الْقَائِمُ بِشَفَتَيْهِ وَلِسَانِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} فَلَفْظُ الْحَرْفِ يُرَادُ بِهِ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا. ثُمَّ إذَا كُتِبَ الْكَلَامُ فِي الْمُصْحَفِ سَمَّوْا ذَلِكَ حُرُوفًا فَيُرَادُ بِالْحَرْفِ الشَّكْلُ الْمَخْصُوصُ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ شَكْلٌ مَخْصُوصٌ هِيَ خُطُوطُهُمْ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا كَلَامَهُمْ وَيُرَادُ بِهِ الْمَادَّةُ وَيُرَادُ بِهِ مَجْمُوعُهَا وَهَذِهِ الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ تُطَابِقُ الْحُرُوفَ الْمَنْطُوقَةَ وَتُبَيِّنُهَا وَتَدُلُّ عَلَيْهَا فَسُمِّيَتْ بِأَسْمَائِهَا؛ إذْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَكْتُبُ اللَّفْظَ بِقَلَمِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلَى قَوْلِهِ: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي أَوَّلِ مَا أَنْزَلَهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ الْهَادِي الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَاَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى كَمَا قَالَ مُوسَى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} فَالْخَلْقُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا سِوَاهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ ثُمَّ خَصَّ الْإِنْسَانَ فَقَالَ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عَلَّمَ؛ فَإِنَّ الْهُدَى وَالتَّعْلِيمَ هُوَ كَمَالُ الْمَخْلُوقَاتِ. وَالْعِلْمُ لَهُ " ثَلَاثُ مَرَاتِبَ " عِلْمٌ بِالْجَنَانِ وَعِبَارَةٌ بِاللِّسَانِ وَخَطٌّ

ص: 111

بِالْبَنَانِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ أَرْبَعُ وجودات: وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَعِلْمِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ. وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَاللِّسَانِ وَالْبَنَانِ؛ لَكِنَّ الْوُجُودَ الْعَيْنِيَّ هُوَ وُجُودُ الْمَوْجُودَاتِ فِي أَنْفُسِهَا وَاَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَمَّا الذِّهْنِيُّ الجناني فَهُوَ الْعِلْمُ بِهَا الَّذِي فِي الْقُلُوبِ وَالْعِبَارَةُ عَنْ ذَلِكَ هُوَ اللِّسَانِيُّ وَكِتَابَةُ ذَلِكَ هُوَ الرَّسْمِيُّ الْبَنَانِيُّ وَتَعْلِيمُ الْخَطِّ يَسْتَلْزِمُ تَعْلِيمَ الْعَبَّارَةِ وَاللَّفْظِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَعْلِيمَ الْعِلْمِ فَقَالَ: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} لِأَنَّ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ يَسْتَلْزِمُ الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَ وَأَطْلَقَ التَّعْلِيمَ ثُمَّ خَصَّ فَقَالَ: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي وُجُودِ كُلِّ شَيْءٍ هَلْ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِه أَمْ لَا؟ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّ الصَّوَابَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِالْوُجُودِ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْأَعْيَانِ وَبِالْمَاهِيَّةِ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَذْهَانِ فَعَلَى هَذَا فَوُجُودُ الْمَوْجُودَاتِ الثَّابِتُ فِي الْأَعْيَانِ لَيْسَ هُوَ مَاهِيَّتَهَا الْمُتَصَوَّرَةَ فِي الْأَذْهَانِ؛ لَكِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْمَوْجُودَ الثَّابِتَ فِي الْأَعْيَانِ وَعَلِمَ الْمَاهِيَّاتِ الْمُتَصَوِّرَةَ فِي الْأَذْهَانِ كَمَا أَنْزَلَ بَيَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةٍ أَنْزَلَهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَقَدْ يُرَادُ بِالْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ كِلَاهُمَا: مَا هُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْأَعْيَانِ وَمَا هُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْأَذْهَانِ فَإِذَا أُرِيدَ بِهَذَا وَهَذَا مَا هُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْأَعْيَانِ أَوْ مَا هُوَ مُتَصَوَّرٌ فِي الْأَذْهَانِ فَلَيْسَ هُمَا فِي الْأَعْيَانِ اثْنَانِ؛ بَلْ هَذَا هُوَ هَذَا. وَكَذَلِكَ الذِّهْنُ إذَا تَصَوَّرَ شَيْئًا فَتِلْكَ الصُّورَةُ

ص: 112

هِيَ الْمِثَالُ الَّذِي تَصَوَّرَهَا وَذَلِكَ هُوَ وُجُودُهَا الذِّهْنِيُّ الَّذِي تَتَصَوَّرُهُ الْأَذْهَانُ؛ فَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَأَمْثَالَهَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ أَكْثَرَ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى أُصُولِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَتَفَاصِيلِهَا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى؛ فَإِنَّ النَّاسَ كَثُرَ نِزَاعُهُمْ فِيهَا حَتَّى قِيلَ: " مَسْأَلَةُ الْكَلَامِ " حَيَّرَتْ عُقُولَ الْأَنَامِ. وَلَكِنَّ سُؤَالَ هَذَيْنِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَسْطَ الْكَثِيرَ فَإِنَّهُمَا سَأَلَا بِحَسَبِ مَا سَمِعَاهُ وَاعْتَقَدَاهُ وَتَصَوَّرَاهُ فَإِذَا عَرَفَ السَّائِلُ أَصْلَ مَسْأَلَتِهِ وَلَوَازِمَهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ وَالْمَعَانِي الْمُشْتَبِهَةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مِنْ الْخَلْقِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُقَابِلَهُ آخَرُ بِمِثْلِ إطْلَاقِهِ. وَمِنْ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ " نَوْعَانِ ": نَوْعٌ جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُقِرَّ بِمُوجَبِ ذَلِكَ فَيُثْبِتُ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَنْفِي مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَاللَّفْظُ الَّذِي أَثْبَتَهُ اللَّهُ أَوْ نَفَاهُ حَقٌّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وَالْأَلْفَاظُ

ص: 113

الشَّرْعِيَّةُ لَهَا حُرْمَةٌ. وَمِنْ تَمَامِ الْعِلْمِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ مُرَادِ رَسُولِهِ بِهَا لِيُثْبِتَ مَا أَثْبَتَهُ وَيَنْفِيَ مَا نَفَاهُ مِنْ الْمَعَانِي فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَهُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ وَنُطِيعَهُ فِي كُلِّ مَا أَوْجَبَ وَأَمَرَ ثُمَّ إذَا عَرَفْنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} . وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي لَيْسَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى نَفْيِهَا أَوْ إثْبَاتِهَا فَهَذِهِ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُوَافِقَ مَنْ نَفَاهَا أَوْ أَثْبَتَهَا حَتَّى يَسْتَفْسِرَ عَنْ مُرَادِهِ فَإِنْ أَرَادَ بِهَا مَعْنًى يُوَافِقُ خَبَرَ الرَّسُولِ أَقَرَّ بِهِ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا مَعْنًى يُخَالِفُ خَبَرَ الرَّسُولِ أَنْكَرَهُ. ثُمَّ التَّعْبِيرُ عَنْ تِلْكَ الْمَعَانِي إنْ كَانَ فِي أَلْفَاظِهِ اشْتِبَاهٌ أَوْ إجْمَالٌ عُبِّرَ بِغَيْرِهَا أَوْ بَيَّنَ مُرَادَهُ بِهَا بِحَيْثُ يَحْصُلُ تَعْرِيفُ الْحَقِّ بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ نِزَاعِ النَّاسِ سَبَبُهُ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ مُبْتَدَعَةٌ وَمَعَانٍ مُشْتَبِهَةٌ حَتَّى تَجِدَ الرَّجُلَيْنِ يَتَخَاصَمَانِ وَيَتَعَادَيَانِ عَلَى إطْلَاقِ أَلْفَاظٍ وَنَفْيِهَا وَلَوْ سُئِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ مَعْنَى مَا قَالَهُ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْرِفَ دَلِيلَهُ وَلَوْ عَرَفَ دَلِيلَهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنَّ مَنْ خَالَفَهُ يَكُونُ مُخْطِئًا بَلْ يَكُونُ فِي قَوْلِهِ نَوْعٌ مِنْ الصَّوَابِ وَقَدْ يَكُونُ هَذَا مُصِيبًا مَنْ وَجْهٍ وَهَذَا مُصِيبًا مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ.

ص: 114

وَكَثِيرٌ مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي " أُصُولِ عُلُومِ الدِّينِ " وَغَيْرِهَا تَجِدُ الرَّجُلَ الْمُصَنِّفَ فِيهَا فِي " الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ " كَمَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَالرُّؤْيَةِ وَالصِّفَاتِ وَالْمَعَادِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَذْكُرُ أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً. وَالْقَوْلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَكَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ لَيْسَ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ؛ بَلْ وَلَا عَرَفَهُ مُصَنِّفُوهَا وَلَا شَعَرُوا بِهِ وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ تَوْكِيدِ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَهُوَ مِمَّا نُهِيَتْ الْأُمَّةُ عَنْهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إنَّمَا أَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} . وَقَدْ {خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقَدَرِ وَهَذَا يَقُولُ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا؟ وَهَذَا يَقُولُ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا؟ فَقَالَ: أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ أَمْ إلَى هَذَا دُعِيتُمْ؟ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا: أَنْ ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ اُنْظُرُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَافْعَلُوهُ وَمَا نُهِيتُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ} . وَمِمَّا أُمِرَ النَّاسُ بِهِ أَنْ يَعْمَلُوا بِمُحْكَمِ الْقُرْآنِ وَيُؤْمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ.

ص: 115

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة: وَقَدْ كَتَبْت فِي أُصُولِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَوَاعِدَ مُتَعَدِّدَةً وَأُصُولًا كَثِيرَةً وَلَكِنْ هَذَا الْجَوَابُ كُتِبَ وَصَاحِبُهُ مُسْتَوْفِزٌ فِي قَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَهْدِينَا وَسَائِر إخْوَانِنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

ص: 116

وَقَالَ رحمه الله:

فَصْلٌ: (*)

فِي بَيَانِ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ كَلَامُ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ كَلَامًا لِغَيْرِهِ لَا جِبْرِيلَ وَلَا مُحَمَّدٍ وَلَا غَيْرِهِمَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ {قُلْ نَزَّلَهُ} عَائِدٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: {بِمَا يُنَزِّلُ} وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 104):

قد اختصر الفصل الأول من هذه الرسالة (12/ 117 - 129) في: (15/ 221 - 225)، وفي بعض المواضع كان الاختصار مخلا كما سيأتي إن شاء الله أثناء الكلام على المجلد الخامس عشر.

ص: 117

بِمَا يُنَزِّلُ} فِيهِ إخْبَارُ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ بَيَانُ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَزَلَ بِهِ وَلَا أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْهُ. وَلَفْظُ " الْإِنْزَالِ " فِي الْقُرْآنِ قَدْ يَرِدُ مُقَيَّدًا بِالْإِنْزَالِ مِنْهُ: كَنُزُولِ الْقُرْآنِ وَقَدْ يَرِدُ مُقَيَّدًا بِالْإِنْزَالِ مِنْ السَّمَاءِ وَيُرَادُ بِهِ الْعُلُوُّ؛ فَيَتَنَاوَلُ نُزُولَ الْمَطَرِ مِنْ السَّحَابِ وَنُزُولَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَقَدْ يَرِدُ مُطْلَقًا فَلَا يَخْتَصُّ بِنَوْعِ مِنْ الْإِنْزَالِ؛ بَلْ رُبَّمَا يَتَنَاوَلُ الْإِنْزَالَ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ كَقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} وَالْإِنْزَالُ مِنْ ظُهُورِ الْحَيَوَانِ كَإِنْزَالِ الْفَحْلِ الْمَاءَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَقَوْلُهُ: {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} بَيَانٌ لِنُزُولِ جِبْرِيلَ بِهِ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ هُنَا هُوَ جِبْرِيلُ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَهُوَ الرُّوحُ الْأَمِينُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} وَفِي قَوْلِهِ {الْأَمِينُ} دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا أُرْسِلَ بِهِ لَا يَزِيدُ فِيهِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ فَإِنَّ الرَّسُولَ الْخَائِنَ قَدْ يُغَيِّرُ الرِّسَالَةَ كَمَا قَالَ فِي صِفَتِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} . وَفِي قَوْلِهِ: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} دَلَالَةٌ عَلَى أُمُورٍ: " مِنْهَا " بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ كَلَامٌ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي جِسْمٍ

ص: 118

مِنْ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَقُولُونَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ والنجارية والضرارية وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُسَمُّونَ كُلَّ مَنْ نَفَى الصِّفَاتِ وَقَالَ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ جهميا؛ فَإِنَّ " جَهْمًا " أَوَّلُ مَنْ ظَهَرَتْ عَنْهُ بِدْعَةُ نَفْيِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَبَالَغَ فِي نَفْيِ ذَلِكَ فَلَهُ فِي هَذِهِ الْبِدْعَةِ مَزِيَّةُ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ وَالِابْتِدَاءِ بِكَثْرَةِ إظْهَارِ ذَلِكَ وَالدَّعْوَةِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ قَدْ سَبَقَهُ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ. فَإِنَّ الْجَعْدَ بْنَ دِرْهَمٍ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بواسط يَوْمَ النَّحْرِ. وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ؛ وَلَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَإِنْ وَافَقُوا جَهْمًا فِي بَعْضِ ذَلِكَ فَهُمْ يُخَالِفُونَهُ فِي مَسَائِلَ غَيْرِ ذَلِكَ: كَمَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ وَبَعْضِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ أَيْضًا وَلَا يُبَالِغُونَ فِي النَّفْيِ مُبَالَغَتَهُ. وَجَهْمٌ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُ. أَوْ يَقُولُ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَيَقُولُونَ إنَّهُ يَتَكَلَّمُ حَقِيقَةً؛ لَكِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الْمَعْنَى هُوَ قَوْلُ جَهْمٍ وَجَهْمٌ يَنْفِي الْأَسْمَاءَ أَيْضًا كَمَا نَفَتْهَا الْبَاطِنِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَا يَنْفُونَ الْأَسْمَاءَ.

ص: 119

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ مَخْلُوقٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ: مِنْهُ بَدَأَ أَيْ: هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لَمْ يُبْتَدَأْ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَتْ الخلقية. وَ " مِنْهَا " أَنَّ قَوْلَهُ: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} فِيهِ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهُ فَاضَ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالصَّابِئَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْظَمُ كُفْرًا وَضَلَالًا مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ. وَ " مِنْهَا " أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ - أَيْضًا - تُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ مُنَزَّلًا مِنْ اللَّهِ بَلْ مَخْلُوقٌ: إمَّا فِي جِبْرِيلَ أَوْ مُحَمَّدٍ أَوْ جِسْمٍ آخَرَ غَيْرِهِمَا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَلَامُهُ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِذَاتِهِ وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ خُلِقَ لِيَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى ثُمَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ خُلِقَ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ: الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ أُلْهِمَهُ جِبْرِيلُ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ أَوْ أُلْهِمَهُ مُحَمَّدٌ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ أَوْ يَكُونُ أَخَذَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ غَيْرِهِ: فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ هِيَ تَفْرِيعٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْنَا.

ص: 120

وَهَذَا الْقَوْلُ يُوَافِقُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ فِي إثْبَاتِ خَلْقِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ الْعِبْرِيَّةُ وَيُفَارِقُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. " أَحَدُهُمَا " أَنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ إنَّ الْمَخْلُوقَ كَلَامُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ؛ لَكِنْ يُسَمَّى كَلَامَ اللَّهِ مَجَازًا وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّتِهِمْ وَجُمْهُورِهِمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخَّرِيهِمْ؛ بَلْ لَفْظُ الْكَلَامِ يُقَالُ عَلَى هَذَا وَهَذَا بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ لَكِنَّ هَذَا يَنْقُضُ أَصْلَهُمْ فِي إبْطَالِ قِيَامِ الْكَلَامِ بِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَهُمْ مَعَ هَذَا لَا يَقُولُونَ إنَّ الْمَخْلُوقَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً كَمَا تَقُولهُ الْمُعْتَزِلَةُ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّهُ كَلَامُهُ حَقِيقَةً بَلْ يَجْعَلُونَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامًا لِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ كَلَامٌ حَقِيقَةً وَهَذَا شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَقْرَبُ وَقَوْلُ الْآخَرِينَ هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ لَكِنْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي الْمَعْنَى مُوَافِقُونَ لِهَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا يُنَازِعُونَهُمْ فِي اللَّفْظِ. " الثَّانِي " أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لِلَّهِ كَلَامٌ هُوَ مَعْنًى قَدِيمٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ والخلقية يَقُولُونَ: لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ كَلَامٌ. وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ فالْكُلَّابِيَة خَيْرٌ مِنْ الخلقية فِي الظَّاهِرِ؛ لَكِنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ يَقُولُونَ: إنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَمْ يُثْبِتُوا لَهُ كَلَامًا حَقِيقَةً غَيْرَ الْمَخْلُوقِ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ: فَإِنَّ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ

ص: 121

كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ خَمْسُ مَعَانٍ. وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ بَعْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ وَالْعُقَلَاءُ الْكَثِيرُونَ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَجَحْدِ الضَّرُورَاتِ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ وَاتِّفَاقٍ؛ كَمَا فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ. وَأَمَّا مَعَ التَّوَاطُؤِ فَقَدْ يَتَّفِقُونَ عَلَى الْكَذِبِ عَمْدًا وَقَدْ يَتَّفِقُونَ عَلَى جَحْدِ الضَّرُورَاتِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ جَاحِدٌ لِلضَّرُورَةِ وَلَوْ لَمْ يَفْهَمْ حَقِيقَةَ الْقَوْلِ الَّذِي يَعْتَقِدُهُ لِحُسْنِ ظَنِّهِ فِيمَنْ يُقَلِّدُ قَوْلَهُ وَلِمَحَبَّتِهِ لِنَصْرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ كَمَا اتَّفَقَتْ النَّصَارَى وَالرَّافِضَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الطَّوَائِفِ عَلَى مَقَالَاتٍ يُعْلَمُ فَسَادُهَا بِالضَّرُورَةِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ: نَحْنُ إذَا عَرَّبْنَا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَمْ يَكُنْ مَعْنَى ذَلِكَ مَعْنَى الْقُرْآنِ؛ بَلْ مَعَانِي هَذَا لَيْسَتْ مَعَانِي هَذَا وَمَعَانِي هَذَا لَيْسَتْ مَعَانِي هَذَا. وَكَذَلِكَ مَعْنَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لَيْسَ هُوَ مَعْنَى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وَلَا مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ. وَقَالُوا: إذَا جَوَّزْتُمْ أَنْ تَكُونَ الْحَقَائِقُ الْمُتَنَوِّعَةُ شَيْئًا وَاحِدًا فَجَوِّزُوا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ صِفَةً وَاحِدَةً فَاعْتَرَفَ أَئِمَّةُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا الْإِلْزَامَ لَيْسَ لَهُمْ عَنْهُ جَوَابٌ عَقْلِيٌّ.

ص: 122

ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: النَّاسُ فِي الصِّفَاتِ إمَّا مُثْبِتٌ لَهَا وَقَائِلٌ بِالتَّعَدُّدِ وَإِمَّا نَافٍ لَهَا؛ وَأَمَّا إثْبَاتُهَا وَاتِّحَادُهَا فَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْمَعَالِي وَغَيْرِهِمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَنْهُ جَوَابٌ كَأَبِي الْحَسَنِ الْآمِدِي وَغَيْرِهِ. " وَالْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُبَيِّنُ بُطْلَانَ هَذَا الْقَوْلِ كَمَا تُبَيِّنُ بُطْلَانَ غَيْرِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} يَقْتَضِي نُزُولَ الْقُرْآنِ مِنْ رَبِّهِ وَالْقُرْآنُ اسْمٌ لِلْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} وَإِنَّمَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَا يَقْرَأُ مَعَانِيَهُ الْمُجَرَّدَةَ. وَأَيْضًا فَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ نَزَّلَهُ عَائِدٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} فَاَلَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ فَإِذَا كَانَ رُوحُ الْقُدُسِ نَزَلَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ نَزَّلَهُ مِنْ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهُ نَزَّلَهُ مَنْ عَيْنٍ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمَخْلُوقَةِ وَلَا نَزَّلَهُ مِنْ نَفْسِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} وَهْم كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّمَا يُعَلِّمُهُ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ بَشَرٌ لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ مَعَانِيهِ فَقَطْ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فَإِنَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ قَوْلَ الْكُفَّارِ بِأَنَّ

ص: 123

لِسَانَ الَّذِي أَلْحَدُوا إلَيْهِ بِأَنْ أَضَافُوا إلَيْهِ هَذَا الْقُرْآنَ فَجَعَلُوهُ هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا الْقُرْآنَ لِسَانٌ أَعْجَمِيٌّ وَالْقُرْآنُ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِلَفْظِ {يُلْحِدُونَ} لَمَّا تَضَمَّنَ مِنْ مَعْنَى مَيْلِهِمْ عَنْ الْحَقِّ وَمَيْلُهُمْ إلَى هَذَا الَّذِي أَضَافُوا إلَيْهِ هَذَا الْقُرْآنَ فَإِنَّ لَفْظَ " الْإِلْحَادِ " يَقْتَضِي مَيْلًا عَنْ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ بِبَاطِلِ فَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ قَالُوا يُعَلِّمُهُ مَعَانِيَهُ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ هَذَا رَدًّا لِقَوْلِهِمْ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَعَلَّمُ مِنْ الْأَعْجَمِيِّ شَيْئًا بِلُغَةِ ذَلِكَ الْأَعْجَمِيِّ وَيُعَبِّرُ عَنْهُ هُوَ بِعِبَارَتِهِ. وَقَدْ اُشْتُهِرَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ كَانُوا يَقُولُونَ: هُوَ تَعَلَّمَهُ مَنْ شَخْصٍ كَانَ بِمَكَّةَ أَعْجَمِيٌّ. قِيلَ: إنَّهُ كَانَ مَوْلًى لِابْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَإِذَا كَانَ الْكُفَّارُ جَعَلُوا الَّذِي يُعَلِّمُهُ مَا نَزَلَ بِهِ رُوحُ الْقُدُسِ بَشَرًا وَاَللَّهُ أَبْطَلَ ذَلِكَ بِأَنَّ لِسَانَ ذَلِكَ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ: عُلِمَ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَزَلَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُؤَلِّفْ نَظْمَ الْقُرْآنِ بَلْ سَمِعَهُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ وَإِذَا كَانَ رُوحُ الْقُدُسِ نَزَلَ بِهِ مِنْ اللَّهِ عُلِمَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ وَلَمْ يُؤَلِّفْهُ هُوَ وَهَذَا بَيَانٌ مِنْ اللَّهِ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ سَمِعَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ اللَّهِ وَنَزَلَ بِهِ مِنْهُ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} إلَى قَوْلِهِ: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ

ص: 124

الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وَ " الْكِتَابُ " اسْمٌ لِلْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ بِالضَّرُورَةِ وَالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ الْكُلَّابِيَة أَوْ بَعْضَهُمْ يُفَرِّق بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ وَكِتَابِ اللَّهِ فَيَقُولُ: كَلَامُهُ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكِتَابُهُ هُوَ الْمَنْظُومُ الْمُؤَلَّفُ الْعَرَبِيُّ وَهُوَ مَخْلُوقٌ. وَ " الْقُرْآنُ " يُرَادُ بِهِ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّى نَفْسَ مَجْمُوعِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى قُرْآنًا وَكِتَابًا وَكَلَامًا فَقَالَ تَعَالَى {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} وَقَالَ: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} وَقَالَ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} إلَى قَوْله تَعَالَى {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي سَمِعُوهُ هُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ الْكِتَابُ. وَقَالَ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وَقَالَ: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} وَقَالَ: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} وَقَالَ: {وَالطُّورِ} {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} وَقَالَ: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} . وَلَكِنَّ لَفْظَ الْكِتَابِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَكْتُوبُ فَيَكُونُ هُوَ الْكَلَامَ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يُكْتَبُ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} وَقَالَ: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} .

ص: 125

وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ قَوْلَهُ {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} يَتَنَاوَلُ نُزُولَ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ. وَقَدْ أَخْبَرَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} إخْبَارً مُسْتَشْهِدٍ بِهِمْ لَا مُكَذِّبٍ لَهُمْ. وَقَالَ إنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُمْ يَظُنُّونَهُ أَوْ يَقُولُونَهُ وَالْعِلْمُ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا مُطَابِقًا لِلْمَعْلُومِ بِخِلَافِ الْقَوْلِ وَالظَّنِّ الَّذِي يَنْقَسِمُ إلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ؛ فَعَلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ الْهَوَاءِ وَلَا مِنْ اللَّوْحِ وَلَا مِنْ جِسْمٍ آخَرَ وَلَا مِنْ جِبْرِيلَ وَلَا مِنْ مُحَمَّدٍ وَلَا غَيْرِهِمَا وَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ الْمُقِرُّونَ بِذَلِكَ خَيْرًا مِنْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أَنَّهُ أَنْزَلَهُ إلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ أَنْزَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا بِحَسَبِ الْحَوَادِثِ وَلَا يُنَافِي أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَبْلَ نُزُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إنَّهَا تَذْكِرَةٌ} {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}

ص: 126

فَإِنَّ كَوْنَهُ مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَفِي صُحُفٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ نَزَلَ بِهِ مِنْ اللَّهِ سَوَاءً كَتَبَهُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَ بِهِ جِبْرِيلَ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ قَدْ أَنْزَلَهُ مَكْتُوبًا إلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَدْ كَتَبَهُ كُلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُنَزِّلَهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ وَكَتَبَ أَعْمَالَ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهَا كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَرِيحِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ ثُمَّ إنَّهُ يَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ بِكِتَابَتِهَا بَعْدَ مَا يَعْمَلُونَهَا؛ فَيُقَابِلُ بِهِ الْكِتَابَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْوُجُودِ وَالْكِتَابَةَ الْمُتَأَخِّرَةَ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ - وَهُوَ حَقٌّ - فَإِذَا كَانَ مَا يَخْلُقُهُ بَائِنًا مِنْهُ قَدْ كَتَبَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكْتُبَ كَلَامَهُ الَّذِي يُرْسِلُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَهُمْ بِهِ. وَمَنْ قَالَ إنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَ الْقُرْآنَ مِنْ الْكِتَابِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ اللَّهِ كَانَ هَذَا بَاطِلًا مِنْ وُجُوهٍ: " مِنْهَا " أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قَدْ كَتَبَ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى بِيَدِهِ فَبَنُو إسْرَائِيلَ أَخَذُوا كَلَامَ اللَّهِ مِنْ الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ هُوَ سبحانه وتعالى فِيهِ فَإِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَخَذَهُ عَنْ جِبْرِيلَ وَجِبْرِيلُ عَنْ الْكِتَابِ

ص: 127

كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ أَعْلَى مِنْ مُحَمَّدٍ بِدَرَجَةِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّهُ أَلْقَى إلَى جِبْرِيلَ الْمَعَانِيَ وَأَنَّ جِبْرِيلَ عُبِّرَ عَنْهَا بِالْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ فَقَوْلُهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ أُلْهِمَهُ إلْهَامًا وَهَذَا الْإِلْهَامُ يَكُونُ لِآحَادِ الْمُؤْمِنِينَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} وَقَالَ: {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} وَقَدْ أَوْحَى إلَى سَائِر النَّبِيِّينَ فَيَكُونُ هَذَا الْوَحْيُ الَّذِي يَكُونُ لِآحَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَعْلَى مِنْ أَخْذِ مُحَمَّدٍ الْقُرْآنَ عَنْ جِبْرِيلَ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ الَّذِي عَلَّمَهُ لِمُحَمَّدِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ وَلِهَذَا زَعَمَ ابْنُ عَرَبِيٍّ أَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ: لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى الرَّسُولِ. فَجَعَلَ أَخْذَهُ وَأَخْذَ الْمَلَكِ الَّذِي جَاءَ إلَى الرَّسُولِ مِنْ مَعْدِنٍ وَاحِدٍ وَادَّعَى أَنَّ أَخْذَهُ عَنْ اللَّهِ أَعْلَى مِنْ أَخْذِ الرَّسُولِ لِلْقُرْآنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ جَنْسِهِ. وَأَيْضًا فَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} فَفَضَّلَ مُوسَى بِالتَّكْلِيمِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ أَوْحَى إلَيْهِمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ: عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّمُ عَبْدَهُ تَكْلِيمًا زَائِدًا عَنْ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ التَّكْلِيمِ الْخَاصِّ فَإِنَّ

ص: 128

لَفْظَ التَّكْلِيمِ وَالْوَحْيِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَنْقَسِمُ إلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ فَالتَّكْلِيمُ هُوَ الْمَقْسُومُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} وَالتَّكْلِيمُ الْمُطْلَقُ هُوَ قَسِيمُ الْوَحْيِ الْخَاصِّ لَيْسَ هُوَ قِسْمًا مِنْهُ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْوَحْيِ قَدْ يَكُونُ عَامًّا فَيَدْخُلُ فِيهِ التَّكْلِيمُ الْخَاصُّ كَمَا فِي قَوْلِهِ لِمُوسَى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} وَقَدْ يَكُونُ قَسِيمَ التَّكْلِيمِ الْخَاصِّ كَمَا فِي سُورَةِ الشُّورَى وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّكْلِيمِ الَّذِي خُصَّ بِهِ مُوسَى وَالْوَحْيِ الْعَامِّ الَّذِي يَكُونُ لِآحَادِ الْعِبَادِ. وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ وَبَيْنَ إرْسَالِ رَسُولٍ يُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيمَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ - كَمَا كَلَّمَ مُوسَى - أَمْرٌ غَيْرُ الْإِيحَاءِ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَقَوْلُهُ: {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وَقَوْلُهُ: {حم} {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ أَنَّ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَأَنَّهُ مُبَلِّغٌ مَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِ ذَلِكَ.

ص: 129

وَأَيْضًا فَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ فَإِنْ كَانَ مُوسَى سَمِعَ جَمِيعَ الْمَعْنَى فَقَدْ سَمِعَ جَمِيعَ كَلَامِ اللَّهِ وَإِنْ سَمِعَ بَعْضَهُ فَقَدْ تَبَعَّضَ وَكِلَاهُمَا يَنْقُضُ قَوْلَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ فَإِنْ كَانَ مَا يَسْمَعُهُ مُوسَى وَالْمَلَائِكَةُ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى كُلَّهُ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلِمَ جَمِيعَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامُهُ مُتَضَمِّنٌ لِجَمِيعِ خَبَرِهِ وَجَمِيعِ أَمْرِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ أَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ كَلَامِهِ عَالِمًا بِجَمِيعِ أَخْبَارِ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ وَهَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ. وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ إنَّمَا يَسْمَعُ بَعْضَهُ فَقَدْ تَبَعَّضَ كَلَامُهُ وَذَلِكَ يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَقَوْلُهُ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} وَقَوْلُهُ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} {إنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} الْآيَاتِ. دَلِيلٌ عَلَى تَكْلِيمٍ سَمِعَهُ مُوسَى. وَالْمَعْنَى الْمُجَرَّدُ لَا يُسْمَعُ بِالضَّرُورَةِ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ يُسْمَعُ فَهُوَ مُكَابِرٌ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ نَادَاهُ وَالنِّدَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا صَوْتًا مَسْمُوعًا وَلَا يُعْقَلُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَفْظُ النِّدَاءِ بِغَيْرِ صَوْتٍ مَسْمُوعٍ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا. وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ

ص: 130

شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} {إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} وَقَالَ: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} {إنِّي أَنَا رَبُّكَ} وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ نُودِيَ وَلَمْ يُنَادَ قَبْلَ ذَلِكَ؛ وَلَمَّا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الظَّرْفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} وَمَثَلُ هَذَا قَوْلُهُ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} فَإِنَّهُ وَقَّتَ النِّدَاءَ بِظَرْفِ مَحْدُودٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْحِينِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الظُّرُوفِ وَجَعَلَ الظَّرْفَ لِلنِّدَاءِ لَا يُسْمَعُ النِّدَاءُ إلَّا فِيهِ. وَمِثْلُ هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَوْقِيتُ بَعْضِ أَقْوَالِ الرَّبِّ بِوَقْتِ مُعَيَّنٍ فَإِنَّ الْكُلَّابِيَة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ بَلْ الْكَلَامُ الْمُعَيَّنُ لَازِمٌ لِذَاتِهِ كَلُزُومِ الْحَيَاةِ لِذَاتِهِ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ مُتَعَاقِبَةٌ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ وَأَنَّهَا مُتَرَتِّبَةٌ فِي ذَاتِهَا مُتَقَارِبَةٌ فِي وُجُودِهَا لَمْ تَزَلْ وَلَا

ص: 131

تَزَالُ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَالنِّدَاءُ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ الْحُرُوفُ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ بِخِلَافِ الْأَصْوَاتِ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ التَّكْلِيمَ وَالنِّدَاءَ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ خَلْقِ إدْرَاكِ الْمَخْلُوقِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ مَا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ لَا أَنَّهُ يَكُونُ هُنَاكَ كَلَامٌ يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا تَكْلِيمَ؛ بَلْ تَكْلِيمُهُ عِنْدَهُمْ جَعْلُ الْعَبْدِ سَامِعًا لِمَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ سَمْعِهِ بِمَنْزِلَةِ جَعْلِ الْأَعْمَى بَصِيرًا لِمَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ رُؤْيَتِهِ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ شَيْءٍ مُنْفَصِلٍ عَنْ الْأَعْمَى. فَعِنْدَهُمْ لَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِ رَبِّهِ سَمِعَ النِّدَاءَ الْقَدِيمَ لَا أَنَّهُ حِينَئِذٍ نُودِيَ. وَلِهَذَا يَقُولُونَ: إنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ لِخَلْقِهِ يَدُلُّ عَنْ قَوْلِ النَّاسِ إنَّهُ يُكَلِّمُ خَلْقَهُ وَهَؤُلَاءِ يَرُدُّونَ عَلَى الخلقية الَّذِينَ يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَيَقُولُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ إنَّهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ الْمُوَافِقُونَ لِلسَّلَفِ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ قَوْلَ السَّلَفِ؛ لَكِنَّ قَوْلَهُمْ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ وَجْهٍ وَقَوْلُ الخلقية أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ وَجْهٍ. أَمَّا كَوْنُ قَوْلِهِمْ أَقْرَبَ فَلِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ كَلَامًا قَائِمًا بِنَفْسِ اللَّهِ وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ؛ بِخِلَافِ الخلقية الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ كَلَامُهُ إلَّا مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ السَّلَفِ. وَأَمَّا كَوْنُ قَوْلِ

ص: 132

الخلقية أَقْرَبَ فَلِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ لَا يُقَدِّرُ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِ وَلَيْسَ كَلَامُهُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ بَلْ كَلَامُهُ عِنْدَهُمْ كَحَيَاتِهِ وَهُمْ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ عِنْدَنَا صِفَةُ ذَاتٍ لَا صِفَةُ فِعْلٍ. والخلقية يَقُولُونَ صِفَةُ فِعْلٍ لَا صِفَةُ ذَاتٍ وَمَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّهُ صِفَةُ ذَاتٍ وَصْفَةُ فِعْلٍ مَعًا فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُوَافِقٌ لِلسَّلَفِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. وَاخْتِلَافُهُمْ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى شَبِيهُ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَإِرَادَتِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَحُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَفَرَحِهِ وَسُخْطِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ مَخْلُوقَةٌ بَائِنَةٌ عَنْهُ تَرْجِعُ إلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ بَلْ هَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهَا كُلَّهَا تَعُودُ إلَى إرَادَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْعَيْنِ مُتَعَلِّقَةً بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هِيَ صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةُ الْأَعْيَانِ لَكِنْ يَقُولُ: كُلُّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةُ الْعَيْنِ قَدِيمَةٌ قَبْلَ وُجُودِ مُقْتَضَيَاتِهَا كَمَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} فَأَخْبَرَ أَنَّ أَفْعَالَهُمْ أَسْخَطَتْهُ قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أَيْ أَغْضَبُونَا. وَقَالَ تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ سَخِطَ عَلَى الْكُفَّارِ لَمَّا كَفَرُوا وَرَضِيَ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا آمَنُوا.

ص: 133

وَنَظِيرُ هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى وَمَسَائِلِ الْقَدَرِ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ: إنَّهُ يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ مَقْصُودَةٍ وَإِرَادَةِ الْإِحْسَانِ إلَى الْعِبَادِ؛ لَكِنْ لَا يُثْبِتُونَ لِفِعْلِهِ حِكْمَةً تَعُودُ إلَيْهِ. وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ لَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ وَلَا لِمَقْصُودِ أَصْلًا. فَأُولَئِكَ أَثْبَتُوا حِكْمَةً لَكِنْ لَا تَقُومُ بِهِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُثْبِتُونَ لَهُ حِكْمَةً وَلَا قَصْدًا يَتَّصِفُ بِهِ وَالْفَرِيقَانِ لَا يُثْبِتُونَ لَهُ حِكْمَةً وَلَا مَقْصُودًا يَعُودُ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ فِي " الْكَلَامِ ": أُولَئِكَ أَثْبَتُوا كَلَامًا هُوَ فِعْلُهُ لَا يَقُومُ بِهِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ مَا لَا يَقُومُ بِهِ لَا يَعُودُ حُكْمُهُ إلَيْهِ. وَالْفَرِيقَانِ يَمْنَعُونَ أَنْ يَقُومَ بِهِ حِكْمَةٌ مُرَادَةٌ لَهُ كَمَا يَمْنَعُ الْفَرِيقَانِ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَلَامٌ وَفِعْلٌ يُرِيدُهُ وَقَوْلُ أُولَئِكَ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ إذْ أَثْبَتُوا الْحِكْمَةَ وَالْمَصْلَحَةَ فِي أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَثْبَتُوا كَلَامًا يَتَكَلَّمُ بِهِ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ إذْ أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ وَقَالُوا: لَا يُوصَفُ بِمُجَرَّدِ الْمَخْلُوقِ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ الَّذِي لَمْ يَقُمْ بِهِ أَصْلًا وَلَا يَعُودُ إلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ شَيْءٍ لَمْ يَقُمْ بِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ لَمْ يَقُمْ بِهِ وَلَا يَكُونُ حَكِيمًا كَرِيمًا وَرَحِيمًا بِحِكْمَةِ وَرَحْمَةٍ لَمْ تَقُمْ بِهِ كَمَا لَا يَكُونُ عَلِيمًا بِعِلْمِ لَمْ يَقُمْ بِهِ وَقَدِيرًا بِقُدْرَةِ لَمْ تَقُمْ بِهِ وَلَا يَكُونُ مُحِبًّا رَاضِيًا غَضْبَانَ بِحُبِّ وَرِضًى وَغَضَبٍ لَمْ يَقُمْ بِهِ. فَكُلٌّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ فِي مَسَائِلِ كَلَامِ اللَّهِ وَأَفْعَالِ اللَّهِ؛ بَلْ

ص: 134

وَسَائِر صِفَاتِهِ وَافَقُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ مِنْ وَجْهٍ وَخَالَفُوهُمْ مِنْ وَجْهٍ وَلَيْسَ قَوْلُ أَحَدِهِمَا هُوَ قَوْلَ السَّلَفِ دُونَ الْآخَرِ؛ لَكِنْ الْأَشْعَرِيَّةُ فِي جِنْسِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ بَلْ وَسَائِر الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَة. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ أَحْدَثَ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ. قِيلَ: هَذَا بَاطِلٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوْضِعَيْنِ؛ وَالرَّسُولِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ مُحَمَّدٌ وَالرَّسُولُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى جِبْرِيلُ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَالرَّسُولُ هُنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} فَالرَّسُولُ هُنَا جِبْرِيلُ. فَلَوْ كَانَ أَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ لِكَوْنِهِ أَحْدَثَ حُرُوفَهُ أَوْ أَحْدَثَ مِنْهُ شَيْئًا لَكَانَ الْخَبَرَانِ مُتَنَاقِضَيْنِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وَلَمْ يَقُلْ: لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَفْظُ " الرَّسُولُ " يَسْتَلْزِمُ مُرْسَلًا لَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ

ص: 135

الرَّسُولَ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنْ مُرْسِلِهِ؛ لَا أَنَّهُ أَنْشَأَ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ. لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ لَا لِأَنَّهُ أَنْشَأَ مِنْهُ شَيْئًا وَابْتَدَأَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَّرَ مَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ الْبَشَرِ بِقَوْلِهِ: {إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ نَظَرَ} {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} {فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} وَمُحَمَّدٌ بَشَرٌ فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فَقَدْ كَفَرَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: هُوَ قَوْلُ بَشَرٍ أَوْ جِنِّيٍّ أَوْ مَلَكٍ فَمَنْ جَعَلَهُ قَوْلًا لِأَحَدِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَقَدْ كَفَرَ؛ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} فَجَعَلَهُ قَوْلَ الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ مَعَ تَكْفِيرِهِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَهُ عَنْ مُرْسِلِهِ لَا أَنَّهُ قَوْلٌ لَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} فَاَلَّذِي بَلَّغَهُ الرَّسُولُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ الرَّسُولِ. وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوَاسِمِ وَيَقُولُ: {أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَالْكَلَامُ كَلَامُ مَنْ

ص: 136

قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا وَمُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَالْمُؤْمِنُونَ يَسْمَعُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَسَمَاعُ مُوسَى سَمَاعٌ مُطْلَقٌ بِلَا وَاسِطَةٍ وَسَمَاعُ النَّاسِ سَمَاعٌ مُقَيَّدٌ بِوَاسِطَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} . فَفَرَّقَ بَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ - كَمَا كَلَّمَ مُوسَى - وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ - كَمَا كَلَّمَ الْأَنْبِيَاءَ بِإِرْسَالِ رَسُولٍ إلَيْهِمْ - وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامِ تَكَلَّمَ بِهِ بِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ بِصَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الْمُبَلِّغُونَ عَنْهُ يُبَلِّغُونَ كَلَامَهُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم {نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ} فَالْمُسْتَمِعُ مِنْهُ يُبَلِّغُ حَدِيثَهُ كَمَا سَمِعَهُ: لَكِنْ بِصَوْتِ نَفْسِهِ لَا بِصَوْتِ الرَّسُولِ فَالْكَلَامُ هُوَ كَلَامُ الرَّسُولِ تَكَلَّمَ بِهِ بِصَوْتِهِ وَالْمُبَلِّغُ بَلَّغَ كَلَامَ الرَّسُولِ لَكِنْ بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومًا فِيمَنْ يُبَلِّغُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ فَكَلَامُ الْخَالِقِ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} فَجَعَلَ الْكَلَامَ كَلَامَ الْبَارِي وَجَعَلَ الصَّوْتَ الَّذِي يَقْرَأُ بِهِ الْعَبْدُ صَوْتَ الْقَارِئِ وَأَصْوَاتُ الْعِبَادِ لَيْسَتْ هِيَ عَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي يُنَادِي

ص: 137

اللَّهُ بِهِ وَيَتَكَلَّمُ بِهِ كَمَا نَطَقَتْ النُّصُوصُ بِذَلِكَ بَلْ وَلَا مِثْلَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَلَيْسَ عِلْمُهُ مِثْلَ عِلْمِ الْمَخْلُوقِينَ وَلَا قُدْرَتُهُ مِثْلَ قُدْرَتِهِمْ وَلَا كَلَامُهُ مِثْلَ كَلَامِهِمْ وَلَا نِدَاؤُهُ مِثْلَ نِدَائِهِمْ وَلَا صَوْتُهُ مِثْلَ أَصْوَاتِهِمْ. فَمَنْ قَالَ عَنْ الْقُرْآنِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ: لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ هُوَ كَلَامُ غَيْرِهِ فَهُوَ مُلْحِدٌ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ أَوْ الْمِدَادَ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْقُرْآنُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ فَهُوَ مُلْحِدٌ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ؛ بَلْ هَذَا الْقُرْآنُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ مُثْبَتٌ فِي الْمَصَاحِفِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ مُبَلَّغًا عَنْهُ مَسْمُوعًا مِنْ الْقُرَّاءِ لَيْسَ هُوَ مَسْمُوعًا مِنْهُ وَالْإِنْسَانُ يَرَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَيَرَاهَا فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ فَهَذِهِ رُؤْيَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِالْوَاسِطَةِ وَتِلْكَ رُؤْيَةٌ مُطْلَقَةٌ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ يُسْمَعُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَيُسْمَعُ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ وَالْمَقْصُودُ بِالسَّمَاعِ هُوَ كَلَامُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرُّؤْيَةِ هُوَ الْمَرْئِيُّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. فَمَنْ عَرَفَ مَا بَيْنَ الْحَالَيْنِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ وَالِاتِّفَاقِ زَالَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ الَّتِي تُصِيبُ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ طَائِفَةً قَالَتْ: هَذَا الْمَسْمُوعُ كَلَامُ اللَّهِ وَالْمَسْمُوعُ صَوْتُ الْعَبْدِ وَصَوْتُهُ مَخْلُوقٌ؛ فَكَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ. وَهَذَا جَهْلٌ فَإِنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْ

ص: 138

الْمُبَلِّغ وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ صَوْتُ الْمُبَلِّغِ مَخْلُوقًا أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْكَلَامِ مَخْلُوقًا. وَقَالَتْ " طَائِفَةٌ ": هَذَا الْمَسْمُوعُ صَوْتُ الْعَبْدِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَلَا يَكُونُ هَذَا الْمَسْمُوعُ كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا جَهْلٌ؛ فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ هُوَ الصَّوْتُ لَا نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي يُسْمَعُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَمِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ. وَ " طَائِفَةٌ " قَالَتْ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَيَكُونُ هَذَا الصَّوْتُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَهَذَا جَهْلٌ. فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُوَ الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَهُوَ الثَّابِتُ إذَا سُمِعَ مِنْ اللَّهِ وَإِذَا سُمِعَ مِنْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ وَإِذَا قِيلَ لِلْمَسْمُوعِ إنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ مَسْمُوعًا مِنْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ لَا مَسْمُوعًا مِنْهُ فَهُوَ مَسْمُوعٌ بِوَاسِطَةِ صَوْتِ الْعَبْدِ وَصَوْتُ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ. وَأَمَّا كَلَامُ اللَّهِ نَفْسُهُ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَيْثُ مَا تَصَرَّفَ. وَهَذِهِ نُكَتٌ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

ص: 139

فَصْلٌ:

فَإِنْ قِيلَ: مَا مَنْشَأُ هَذَا النِّزَاعِ وَالِاشْتِبَاهِ وَالتَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ؟ قِيلَ: مُنْشَؤُهُ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَعَابُوهُ وَهُوَ الْكَلَامُ الْمُشْتَبَهُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ: فِيهِ مَا يُوَافِقُ الْعَقْلَ وَالسَّمْعَ وَفِيهِ مَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ وَالسَّمْعَ فَيَأْخُذُ هَؤُلَاءِ جَانِبَ النَّفْيِ الْمُشْتَمِلَ عَلَى نَفْيِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهَؤُلَاءِ جَانِبَ الْإِثْبَاتِ الْمُشْتَمِلَ عَلَى إثْبَاتِ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَجِمَاعُهُ هُوَ الْكَلَامُ الْمُخَالِفُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ؛ فَكُلُّ كَلَامٍ خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَا يُخَالِفُ ذَلِكَ إلَّا كَلَامٌ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَنَاظَرُوا فِي مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ اسْتَدَلَّتْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ. ثُمَّ إنَّ الْمُسْتَدِلِّينَ بِذَلِكَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ قَالُوا: إنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ ثُمَّ تَنَوَّعَتْ طُرُقُهُمْ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى. فَتَارَةً يُثْبِتُونَهَا بِأَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنْ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَهُمَا حَادِثَانِ وَتَارَةً يُثْبِتُونَهَا بِأَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنْ

ص: 140

الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَهُمَا حَادِثَانِ وَتَارَةً يُثْبِتُونَهَا بِأَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنْ الْأَكْوَانِ الْأَرْبَعَةِ: الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَهِيَ حَادِثَةٌ. وَهَذِهِ طُرُقُ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْأَعْرَاضِ. وَتَارَةً يُثْبِتُونَهَا بِأَنَّ الْجِسْمَ لَا يَخْلُو مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ عَنْ عَرَضٍ مِنْهُ. وَيَقُولُونَ: الْقَابِلُ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ وَيَقُولُونَ: إنَّ الْأَعْرَاضَ يَمْتَنِعُ بَقَاؤُهَا لِأَنَّ الْعَرْضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا الْآمِدِيَّ وَزَيَّفَ مَا سِوَاهَا وَذَكَرَ أَنَّ جُمْهُورَ أَصْحَابِهِ اعْتَمَدُوا عَلَيْهَا وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: كَالْقَاضِي أَبَى يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَمْثَالِهِمْ. وَأَمَّا الهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرُهُمْ مِنْ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِحُدُوثِ كُلِّ جِسْمٍ وَيَقُولُونَ: إنَّ الْقَدِيمَ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ فَهَؤُلَاءِ إذَا قَالُوا بِأَنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ مُوَافَقَةً لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْجِسْمَ الْقَدِيمَ يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ بِخِلَافِ الْأَجْسَامِ الْمُحْدَثَةِ فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ. وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِي " السُّكُونِ " هَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَوْ عَدَمِيٌّ؟

ص: 141

فَمَنْ قَالَ إنَّهُ وُجُودِيٌّ قَالَ إنَّ الْجِسْمَ الَّذِي لَا يَخْلُو عَنْ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ إذَا انْتَفَتْ عَنْهُ الْحَرَكَةُ قَامَ بِهِ السُّكُونُ الْوُجُودِيُّ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَحْتَجُّ بِتَعَاقُبِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ عَلَى حُدُوثِ الْمُتَّصِفِ بِذَلِكَ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ عَدَمِيٌّ: لَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ الْحَرَكَةِ عَنْ الْمَحَلِّ ثُبُوتُ سُكُونٍ وُجُودِيٍّ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْحَرَكَةُ أَوْ الْحَوَادِثُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ مَعَ قَوْلِهِ بِامْتِنَاعِ تَعَاقُبِ الْحَوَادِثِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ - يَقُولُونَ: إذَا قَامَتْ بِهِ الْحَرَكَةُ لَمْ يُعْدَمْ بِقِيَامِهَا سُكُونٌ وُجُودِيٌّ؛ بَلْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إنَّهُ يَفْعَلُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا وَلَا يَقُولُونَ: إنَّ عَدَمَ الْفِعْلِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ - كَذَلِكَ الْحَرَكَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَقُولُونَ: مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ أَوْ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ مُقَدِّمَةٌ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَادِثَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُقَارِنَهُ أَوْ يَكُونَ بَعْدَهُ وَمَا قَارَنَ الْحَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ وَمَا كَانَ بَعْدَهُ فَهُوَ حَادِثٌ. وَهَذَا الْكَلَامُ مُجْمَلٌ فَإِنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ أَوْ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَادِثَ الْمُعَيَّنَ فَهُوَ حَقٌّ بِلَا رَيْبٍ وَلَا نِزَاعٍ فِيهِ وَكَذَلِكَ إذَا أُرِيدَ بِالْحَادِثِ جُمْلَةُ مَا لَهُ أَوَّلُ أَوْ مَا كَانَ بَعْدَ الْعَدَمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالْحَوَادِثِ الْأُمُورُ الَّتِي تَكُونُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَا إلَى أَوَّلَ. وَقِيلَ: إنَّهُ مَا لَا يَخْلُو عَنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ عَنْهَا فَهُوَ حَادِثٌ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظَاهِرًا وَلَا بَيِّنًا

ص: 142

بَلْ هَذَا الْمَقَامُ حَارَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَفْهَامِ وَكَثِيرٌ فِيهِ النِّزَاعُ وَالْخِصَامُ؛ وَلِهَذَا صَارَ الْمُسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِمْ: مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا أَثْبَتُوا امْتِنَاعَ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا فَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ طُرُقًا قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهَذَا الْأَصْلُ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ". فَقِيلَ: مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ وَبِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا مُطْلَقًا وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: بَلْ يَجُوزُ دَوَامُ الْحَوَادِثِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كُلُّ مَا قَارَنَ حَادِثًا بَعْدَ حَادِثٍ لَا إلَى أَوَّلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَرُبَّمَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَالْأَفْلَاكِ كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ مِثْلِ ثامسطيوس وَالْإِسْكَنْدَرِ الأفريدوسي وبرقلس وَالْفَارَابِيّ وَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِمْ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى أَرِسْطُو فَلَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ

ص: 143

بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ. ثُمَّ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُتَنَازِعُونَ فِي قِيَامِ الصِّفَاتِ وَالْحَوَادِثِ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ لَهُمْ وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَسَاطِينِ الْقُدَمَاءِ وَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ كَأَبِي الْبَرَكَاتِ صَاحِبِ الْمُعْتَبَرِ وَغَيْرِهِ كَمَا بَسَطْت أَقْوَالَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقِيلَ: بَلْ إنْ كَانَ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْحَوَادِثِ مُمْكِنًا بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى مَفْعُولًا وَمَعْلُولًا وَمَرْبُوبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا. وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَأَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ وَهُوَ مُمْكِنٌ بِنَفْسِهِ فَهُوَ حَادِثٌ أَوْ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ وَهُوَ مَعْلُولٌ أَوْ مَفْعُول أَوْ مُبْتَدَعٌ أَوْ مَصْنُوعٌ فَهُوَ حَادِثٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَفْعُولًا مُسْتَلْزِمًا لِلْحَوَادِثِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا؛ فَإِنَّ الْقَدِيمَ الْمَعْلُولَ لَا يَكُونُ قَدِيمًا إلَّا إذَا كَانَ لَهُ مُوجِبٌ قَدِيمٌ بِذَاتِهِ يَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ مَعَهُ أَزَلِيًّا لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ. فَإِنَّ كَوْنَهُ مَفْعُولًا يُنَافِي كَوْنَهُ قَدِيمًا بَلْ قِدَمُهُ يُنَافِي كَوْنَهُ مُمْكِنًا فَلَا يَكُونُ مُمْكِنًا إلَّا مَا كَانَ مُحْدَثًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَهَذَا قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ الْقُدَمَاءِ قَاطِبَةً كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ وَإِنَّمَا أَثْبَتَ مُمْكِنًا قَدِيمًا بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ كَابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ خَالَفُوا فِي

ص: 144

ذَلِكَ الْفَلَاسِفَةَ الْقُدَمَاءَ قَاطِبَةً كَمَا خَالَفُوا فِي ذَلِكَ جَمَاهِيرَ الْعُقَلَاءِ مِنْ سَائِر الطَّوَائِفِ؛ وَلِهَذَا تَنَاقَضُوا فِي أَحْكَامِ الْمُمْكِنِ وَوَرَدَ عَلَيْهِمْ فِيهِ مِنْ الْأَسْئِلَةِ مَا لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ كَمَا ذَكَرْت ذَلِكَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْأَرْبَعِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ. وَمَا يُدَعَّى مِنْ أَنَّ الْمَعْلُولَ قَدْ يُقَارِنُ عِلَّتَهُ إنَّمَا يُعْقَلُ فِيمَا كَانَ شَرْطًا لَا فَاعِلًا كَقَوْلِهِمْ: حَرَّكْت يَدِي فَتَحَرَّكَ الْخَاتَمُ؛ فَإِنَّ حَرَكَةَ الْيَدِ شَرْطٌ فِي تَحْرِيكِ الْخَاتَمِ وَالشَّرْطُ وَالْمَشْرُوطُ قَدْ يَتَلَازَمَانِ وَلَيْسَتْ فَاعِلَةً مُبْدِعَةً لَهَا وَكَذَلِكَ الشُّعَاعُ مَعَ النَّارِ وَالشَّمْسُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَأَمَّا مَا يَكُونُ فَاعِلًا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَارِنَهُ مَفْعُولُهُ فِي الزَّمَانِ سَوَاءٌ كَانَ فَاعِلًا بِالْإِرَادَةِ أَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِغَيْرِ إرَادَةٍ وَسَوَاءً سُمِّيَ فَاعِلًا بِالذَّاتِ أَوْ بِالطَّبْعِ أَوْ مَا قُدِّرَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مُقَارِنًا لِفَاعِلِهِ فِي الزَّمَانِ كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين. وَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ لَمْ يَقُولُوا إنَّ الْفَلَكَ مَفْعُولٌ لِلرَّبِّ وَلَا إنَّهُ مَعْلُولٌ لِعِلَّةِ فَاعِلِيَّةٍ أَبْدَعَتْ ذَاتَه؛ بَلْ زَعَمُوا أَنَّهُ قَدِيمٌ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ وَأَنَّ لَهُ عِلَّةً غائية يَتَشَبَّهُ بِهَا نَحْوُ حَرَكَةِ الْمَعْشُوقِ يَجِبُ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ وَالْفَلَكُ عِنْدَهُمْ يَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَلِهَذَا قَالُوا: " الْفَلْسَفَةُ " هِيَ التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ وَقَوْلُهُمْ - وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ بِاَللَّهِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي قَوْلِ ابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ وَفِيهِمْ مِنْ التَّنَاقُضِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ

ص: 145

مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ - فَلَمْ يَتَنَاقَضُوا فِي إثْبَاتِ مُمْكِنٍ قَدِيمٍ كَتَنَاقُضِ مُتَأَخِّرِيهِمْ. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ مُسْتَقِرَّةً فِي فِطَرِ الْعُقَلَاءِ وَكَانَ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ بِأَنَّ السَّمَوَاتِ مَخْلُوقَةٌ أَوْ مَصْنُوعَةٌ أَوْ مُفَعْوِلَةٌ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِأَنَّهَا حَادِثَةٌ، لَا يَخْطُرُ بِالْفِطَرِ السَّلِيمَةِ إمْكَانُ كَوْنِهَا مُفَعْوِلَةً لِفَاعِلِ فَعَلَهَا مَعَ كَوْنِهَا قَدِيمَةً لَمْ تَزَلْ مَعَهُ وَلِهَذَا لَمْ يَدَّعِ هَذَا إلَّا هَذِهِ الشِّرْذِمَةُ الْقَلِيلَةُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ. وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ مَا اسْتَلْزَمَ الْحَوَادِثَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ يَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهُ فِي الْأَزَلِ؛ فَإِنَّ الْحَوَادِثَ الْمُتَعَاقِبَةَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَا يَكُونُ مَجْمُوعُهَا فِي الْأَزَلِ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا أَزَلِيًّا بَلْ الْأَزَلِيُّ هُوَ دَوَامُهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَالْمُوجِبُ بِذَاتِهِ الْمُسْتَلْزِمُ لِمَعْلُولِهِ فِي الْأَزَلِ لَا يَكُونُ مَعْلُولُهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ سَوَاءً كَانَ صَادِرًا عَنْهُ بِوَاسِطَةِ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَإِنَّ مَا كَانَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ يَكُونُ مُتَعَاقِبًا حَادِثًا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا مُقَارِنًا لِعِلَّتِهِ فِي الْأَزَلِ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ إنَّ الْمُقَارِنَ لِذَلِكَ هُوَ الْمُوجِبُ بِذَاتِهِ الَّذِي يَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ فِي الْأَزَلِ مُوجِبًا بِذَاتِهِ وَلَا عِلَّةً سَابِقَةً تَامَّةً لِشَيْءِ مِنْ الْعَالَمِ فَلَا يَكُونُ مَعَهُ فِي الْأَزَلِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ شَيْءٌ لَكِنْ فَاعِلِيَّتُهُ لِلْمَفْعُولَاتِ تَكُونُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَكُلُّ مَفْعُولٍ يُوجَدُ عِنْدَهُ وُجُودُ كَمَالِ فَاعِلِيَّتِهِ

ص: 146

إذْ الْمُؤَثِّرُ التَّامُّ الْمُسْتَلْزِمُ لِجَمِيعِ شُرُوطِ التَّأْثِيرِ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ أَثَرُهُ؛ إذْ لَوْ تَخَلَّفَ لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا تَامًّا فَوُجُودُ الْأَثَرِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ وَوُجُودُ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْأَثَرِ فَلَيْسَ فِي الْأَزَلِ مُؤَثِّرٌ تَامٌّ فَلَيْسَ مَعَ اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ وَالْأَزَلُ لَيْسَ هُوَ حَدًّا مَحْدُودًا وَلَا وَقْتًا مُعَيَّنًا. بَلْ كُلُّ مَا يُقَدِّرُهُ الْعَقْلُ مِنْ الْغَايَةِ الَّتِي يَنْتَهِي إلَيْهَا فَالْأَزَلُ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ قَبْلَ مَا قَدَّرَهُ فَالْأَزَلُ لَا أَوَّلَ لَهُ كَمَا أَنَّ الْأَبَدَ لَا آخِرَ لَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: {أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ} فَلَوْ قِيلَ إنَّهُ مُؤَثِّرٌ تَامٌّ فِي الْأَزَلِ لِشَيْءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لَهُ دَائِمًا وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ مَفْعُولًا لَهُ وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِثْلُ هَذَا فِي الصِّفَةِ اللَّازِمَةِ لِلْمَوْصُوفِ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ: الذَّاتُ مُقْتَضٍ تَامٌّ لِلصِّفَةِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الذَّاتَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلصِّفَةِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ الذَّاتَ مُبْدِعَةٌ لِلصِّفَةِ فَإِنَّهُ إذَا تُصُوِّرَ مَعْنَى الْمُبْدِعِ امْتَنَعَ فِي الْمُقَارِنِ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ سَوَاءً سُمِّيَ عِلَّةً فَاعِلَةً أَوْ خَالِقًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَامْتَنَعَ أَنْ يَقُومَ بِالْأَثَرِ شَيْءٌ مِنْ الْحَوَادِثِ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَادِثٍ يَحْدُثُ لَا يَحْدُثُ إلَّا إذَا وُجِدَ مُؤَثِّرُهُ التَّامُّ عِنْدَ حُدُوثِهِ وَإِنْ كَانَتْ ذَاتُ الْمُؤَثِّرِ مَوْجُودَةً قَبْلَ ذَلِكَ؛ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ كَمَالِ وُجُودِ شُرُوطِ التَّأْثِيرِ عِنْدَ وُجُودِ الْأَثَرِ

ص: 147

وَإِلَّا لَزِمَ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ وَتَخَلُّفُ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ بِدُونِ الْمُرَجِّحِ التَّامِّ. وَكُلُّ هَذَا مُمْتَنِعٌ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا لِشَيْءِ مِنْ الْحَوَادِثِ فِي الْأَزَلِ وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي الْأَزَلِ فِيمَا يَسْتَلْزِمُ الْحَوَادِثَ لِأَنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ مُحَالٌ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْحَوَادِثِ قَدِيمًا. وَإِذَا قِيلَ ذَاتُهُ مُقْتَضِيَةٌ لِلْحَادِثِ الثَّانِي بِشَرْطِ انْقِضَاءِ الْأَوَّلِ. قِيلَ: فَلَيْسَ هُوَ مُقْتَضِيًا لِشَيْءِ وَاحِدٍ دَائِمًا فَلَا يَكُونُ مَعَهُ قَدِيمٌ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ. وَقِيلَ أَيْضًا: هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَتْ لِذَاتِهِ أَحْوَالٌ مُتَعَاقِبَةٌ تَخْتَلِفُ الْمَفْعُولَاتُ لِأَجْلِهَا فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنْ لَا يَقُومَ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمُتَعَاقِبَةِ؛ بَلْ حَالُهَا عِنْدَ وُجُودِ الْحَادِثِ كَحَالِهَا قَبْلَهُ كَانَ امْتِنَاعُ فِعْلِهِ لِلْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ الْبَائِنَةِ أَعْظَمَ مِنْ امْتِنَاعِ فِعْلِهِ لِحَادِثِ مُعَيَّنٍ فَإِذَا كَانَ الثَّانِي مُمْتَنِعًا عِنْدَهُمْ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ وَمَتَى كَانَ لِلذَّاتِ أَحْوَالٌ مُتَعَاقِبَةٌ تَقُومُ بِهَا بَطَلَتْ كُلُّ حُجَّةٍ لَهُمْ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ وَامْتَنَعَ أَيْضًا قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ إذَا كَانَ الْمَفْعُولُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ وَالْفِعْلُ الْحَادِثُ لَا يَكُونُ مَفْعُولُهُ إلَّا حَادِثًا. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

ص: 148

فَصْلٌ:

وَإِذَا عُرِفَ الْأَصْلُ الَّذِي مِنْهُ تَفَرَّعَ نِزَاعُ النَّاسِ فِي " مَسْأَلَةِ كَلَامِ اللَّهِ " فَاَلَّذِينَ قَالُوا مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ مُطْلَقًا تَنَازَعُوا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ: الْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَشِيئَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَقُدْرَتِهِ فَيَكُونُ حَادِثًا كَغَيْرِهِ مِنْ الْحَوَادِثِ ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ: وَالرَّبُّ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ فَيَكُونُ الْكَلَامُ مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ فَجَعَلُوا كَلَامَهُ مَخْلُوقًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ قَالَ وَفَعَلَ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَتَّصِفُ بِهَا الْخَالِقُ فَلَا يَتَّصِفُ بِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَلْوَانِ وَالْأَصْوَاتِ وَالرَّوَائِحِ وَالْحَرَكَةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَكَيْفَ يَتَّصِفُ بِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَلَوْ جَاز ذَلِكَ لَكَانَ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ إنْطَاقِ الْجَمَادَاتِ كَلَامَهُ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ خَالِقُ كَلَامِ الْعِبَادِ وَأَفْعَالِهِمْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ كَلَامُهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الِاتِّحَادِيَّةِ: وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامه سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّة والنجارية والضرارية وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ

ص: 149

يَقُولُونَ: إنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَكَلَامِهِمْ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَيَلْزَمُهُمْ هَذَا. وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَلَا يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَكِنَّ الْحُجَّةَ تُوجِبُ الْقَوْلَ بِذَلِكَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ الْكَلَامُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْمُتَكَلِّمِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَيَكُونُ كَلَامُهُ حَادِثًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَهَذَا قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: كَلَامُهُ كُلُّهُ حَادِثٌ لَا مُحْدَثٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ حَادِثٌ وَمُحْدَثٌ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا مُطْلَقًا: الْكَلَامُ لَازِمٌ لِذَاتِ الرَّبِّ كَلُزُومِ الْحَيَاةِ لَيْسَ هُوَ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بَلْ هُوَ قَدِيمٌ كَقِدَمِ الْحَيَاةِ؛ إذْ لَوْ قُلْنَا إنَّهُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا أَوْ قَائِمًا بِذَاتِ الرَّبِّ فَيَلْزَمُ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَسَلْسُلَ الْحَوَادِثِ. لِأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ أَوْ عَنْ ضِدِّهِ. قَالُوا: وَتَسَلْسُلُ الْحَوَادِثِ مُمْتَنِعٌ؛ إذْ التَّفْرِيعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا قَالُوا بِقِدَمِ عَيْنِ الْكَلَامِ تَنَازَعُوا فِيهِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ:

ص: 150

الْقَدِيمُ لَا يَكُونُ حُرُوفًا وَلَا أَصْوَاتًا؛ لِأَنَّ الصَّوْتَ يَسْتَحِيلُ بَقَاؤُهُ كَمَا يَسْتَحِيلُ بَقَاءُ الْحَرَكَةِ وَمَا امْتَنَعَ بَقَاؤُهُ امْتَنَعَ قِدَمُ عَيْنِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى فَيَمْتَنِعُ قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ الْأَصْوَاتِ الْمُعَيَّنَةِ كَمَا يَمْتَنِعُ قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ الْحَرَكَاتِ الْمُعَيَّنَةِ. لِأَنَّ تِلْكَ لَا تَكُونُ كَلَامًا إلَّا إذَا كَانَتْ مُتَعَاقِبَةً وَالْقَدِيمُ لَا يَكُونُ مَسْبُوقًا بِغَيْرِهِ فَلَوْ كَانَتْ الْمِيمُ مِنْ (بِسْمِ اللَّهِ قَدِيمَةً مَعَ كَوْنِهَا مَسْبُوقَةً بِالسِّينِ وَالْبَاءِ لَكَانَ الْقَدِيمُ مَسْبُوقًا بِغَيْرِهِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ هُوَ الْمَعْنَى فَقَطْ وَلَا يَجُوزُ تَعَدُّدُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَدَّدَ لَكَانَ اخْتِصَاصُهُ بِقَدْرِ دُونَ قَدْرٍ تَرْجِيحًا بِلَا مُرَجِّحٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَنَاهَى لَزِمَ وُجُودُ أَعْدَادٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ. قَالُوا: وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى وَاحِدًا هُوَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ وَهُوَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْقُرْآنِ وَهَذَا أَصْلُ قَوْلِ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ: بَلْ هُوَ حُرُوفٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ وَهِيَ مُتَرَتِّبَةٌ فِي ذَاتِهَا لَا فِي وُجُودِهَا كَالْحُرُوفِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْمُصْحَفِ وَلَيْسَ بِأَصْوَاتِ قَدِيمَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُوَ أَيْضًا أَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ هَؤُلَاءِ بَيْنَ الْحُرُوفِ الْمَنْطُوقَةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ إلَّا مُتَعَاقِبَةً وَبَيْنَ الْحُرُوفِ الْمَكْتُوبَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي آنٍ وَاحِدٍ كَمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَصْوَاتِ وَالْمِدَادِ. فَإِنَّ الْأَصْوَاتَ لَا تَبْقَى بِخِلَافِ الْمِدَادِ فَإِنَّهُ جِسْمٌ يَبْقَى وَإِذَا كَانَ الصَّوْتُ لَا يَبْقَى امْتَنَعَ

ص: 151

أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ الْمُعَيَّنُ قَدِيمًا؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ قِدَمُهُ لَزِمَ بَقَاؤُهُ وَامْتَنَعَ عَدَمُهُ وَالْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ قَدْ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الشَّكْلِ الْقَائِمِ بِالْمِدَادِ أَوْ مَا يُقَدَّرُ بِقَدَرِ الْمِدَادِ: كَالشَّكْلِ الْمَصْنُوعِ فِي حَجَرٍ وَوَرَقٍ فَإِزَالَةُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ وَقَدْ يُرَادُ بِالْحُرُوفِ نَفْسُ الْمِدَادِ. وَأَمَّا الْحُرُوفُ الْمَنْطُوقَةُ فَقَدْ يُرَادُ بِهَا أَيْضًا الْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ الْمُؤَلَّفَةُ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا حُدُودُ الْأَصْوَاتِ وَأَطْرَافُهَا كَمَا يُرَادُ بِالْحَرْفِ فِي الْجِسْمِ حَدُّهُ وَمُنْتَهَاهُ. فَيُقَالُ: حَرْفُ الرَّغِيفِ وَحَرْفُ الْجَبَلِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} وَقَدْ يُرَادُ بِالْحُرُوفِ الْحُرُوفُ الْخَيَالِيَّةُ الْبَاطِنَةُ وَهِيَ مَا يَتَشَكَّلُ فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ الْمَنْظُومِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ هَلْ يُمْكِنُ وُجُودُ حُرُوفٍ بِدُونِ أَصْوَاتٍ فِي الْحَيِّ النَّاطِقِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لَهُمْ وَعَلَى هَذَا تَنَازَعْت هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْقَائِلَةُ بِقِدَمِ أَعْيَانِ الْحُرُوفِ هَلْ تَكُونُ قَدِيمَةً بِدُونِ أَصْوَاتٍ قَدِيمَةٍ أَمْ لَا بُدّ مِنْ أَصْوَاتٍ قَدِيمَةٍ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ؟ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِقَدَمِ الْأَصْوَاتِ الْمُعَيَّنَةِ تَنَازَعُوا فِي الْمَسْمُوعِ مِنْ الْقَارِئِ. هَلْ يُسْمَعُ مِنْهُ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ؟ فَقِيلَ: الْمَسْمُوعُ هُوَ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ وَقِيلَ بَلْ الْمَسْمُوعُ هُوَ صَوْتَانِ أَحَدُهُمَا الْقَدِيمُ وَالْآخَرُ الْمُحْدَثُ فَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي وُجُودِ الْقُرْآنِ فَهُوَ الْقَدِيمُ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ الْمُحْدَثُ.

ص: 152

وَقِيلَ: بَلْ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ غَيْرُ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْعَبْدِ.

وَتَنَازَعُوا فِي " الْقُرْآنِ " هَلْ يُقَالُ إنَّهُ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ وَالصُّدُورِ أَمْ لَا يُقَالُ ذَلِكَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَقِيلَ: هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْمُحْدَثِ لَيْسَ بِحَالِّ فِيهِ. وَقِيلَ: بَلْ الْقُرْآنُ حَالٌّ فِي الصُّدُورِ وَالْمَصَاحِفِ فَهَؤُلَاءِ الخلقية والحادثية والاتحادية والاقترانية أَصْلُ قَوْلِهِمْ أَنَّ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ مُطْلَقًا. وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُ حَادِثًا يُرِيدُ أَنَّهُ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَجْعَلُ الْحَادِثَاتِ إرَادَاتٍ وَتَصَوُّرَاتٍ لَا حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا. وَالدَّارِبِيَّ وَغَيْرُهُ يَمِيلُونَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَجْعَلَ كَلَامَ اللَّهِ حَادِثًا أَوْ قَدِيمًا وَإِذَا كَانَ حَادِثًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَادِثًا فِي غَيْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَادِثًا فِي ذَاتِهِ وَإِذَا كَانَ قَدِيمًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ الْمَعْنَى فَقَطْ أَوْ اللَّفْظَ فَقَطْ أَوْ كِلَاهُمَا فَإِذَا كَانَ الْقَدِيمُ هُوَ الْمَعْنَى فَقَطْ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى قَدْ عُرِفَ. وَأَمَّا قِدَمُ اللَّفْظِ فَقَطْ فَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ؛ لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ هُوَ اللَّفْظُ. وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَلَيْسَ هُوَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ بَلْ هُوَ الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَهُمَا قَدِيمَانِ لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ فَهَذَا يَقُولُ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ هُوَ اللَّفْظُ

ص: 153

فَقَطْ إمَّا الْحُرُوفُ الْمُؤَلَّفَةُ وَإِمَّا الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ؛ لَكِنَّهُ يَقُولُ إنَّ مَعْنَاهُ قَدِيمٌ. وَأَمَّا " الْفَرِيقُ الثَّانِي " الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا مُطْلَقًا وَأَنَّ الْقَدِيمَ الْوَاجِبَ بِنَفْسِهِ يَجُوزُ أَنْ تَتَعَقَّبَ عَلَيْهِ الْحَوَادِثُ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لَا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ فَهَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ كَمَا يَقُولُونَ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ وَأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ مَعْلُولَةً لِعِلَّةِ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ لَكِنْ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْمِلَلِ كَابْنِ سِينَا وَنَحْوِهِ مِنْهُمْ قَالُوا إنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ الْمُوجِبِ لَهَا بِذَاتِهِ وَأَمَّا أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ لَهَا عِلَّةً غائية تَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهَا فِي تَحَرُّكِهَا كَمَا يُحَرِّكُ الْمَعْشُوقُ عَاشِقَهُ وَلَمْ يُثْبِتُوا لَهَا مُبْدِعًا مُوجِبًا وَلَا مُوجِبًا قَائِمًا بِذَاتِهِ وَلَا قَالُوا إنَّ الْفَلَكَ مُمْكِنٌ بِنَفْسِهِ وَاجِبٌ بِغَيْرِهِ بَلْ الْفَلَكُ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ لَكِنْ قَالُوا مَعَ ذَلِكَ: إنَّ لَهُ عِلَّةً غائية يَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهَا لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا بِهَا فَجَعَلُوا الْوَاجِبَ بِنَفَسِهِ الَّذِي لَا فَاعِلَ لَهُ مُفْتَقِرًا إلَى عِلَّةٍ غائية مُنْفَصِلَةٍ عَنْهُ هَذِهِ حَقِيقَةُ قَوْلِ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُثْبِتُوا الْأَوَّلَ عَالِمًا بِغَيْرِهِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ عِنْدَهُمْ مُبْدِعًا لِلْفَلَكِ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُبْدِعًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَفْعُولِهِ كَمَا قَالَ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وَلِهَذَا كَانَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي الْإِلَهِيَّاتِ مَنْ أَعْظَمِ الْأَقْوَالِ فَسَادًا بِخِلَافِ أَقْوَالِهِمْ فِي الطَّبِيعِيَّاتِ؛ وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُمْ أَشَدَّ فَسَادًا فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ

ص: 154

مِنْ قَوْلِ ابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ وَلَمْ يُثْبِتْ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ " الْعِلَّةَ الْأُولَى " بِطَرِيقَةِ الْوُجُودِ وَلَا قَسَّمُوا الْوُجُودَ الْقَدِيمَ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ بَلْ الْمُمْكِنُ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا وَلَا أَثْبَتُوا لِلْمَوْجُودِ الْوَاجِبِ الْخَصَائِصَ الْمُمَيِّزَةَ لِلرَّبِّ عَنْ الْأَفْلَاكِ بَلْ هَذَا مِنْ تَصَرُّفِ مُتَأَخِّرِيهِمْ الَّذِينَ خَلَطُوا فَلْسَفَتَهُمْ بِكَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ وَإِنَّمَا أَثْبَتَ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِطَرِيقَةِ الْوُجُودِ ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ. وَحَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وُجُودُ الْحَوَادِثِ بِلَا مُحْدِثٍ أَصْلًا أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْأَوَّلَ عِلَّةً غائية لِلْحَرَكَةِ فَظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ فَاعِلًا لَهَا. فَقَوْلُهُمْ فِي حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ نَظِيرُ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ فِي حَرَكَةِ الْحَيَوَانِ وَكُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ تَنَاقَضَ قَوْلُهُمْ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِأَنَّ فِعْلَ الْحَيَوَانِ صَادِرٌ عَنْ غَيْرِهِ. لِكَوْنِ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِي مُسْتَلْزِمَيْنِ وُجُودَ الْفِعْلِ وَالْقُدْرَةُ وَالدَّاعِي كِلَاهُمَا مِنْ غَيْرِ الْعَبْدِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: فَقُولُوا هَكَذَا فِي حَرَكَةِ الْفَلَكِ بِقُدْرَتِهِ وَدَاعِيهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَا صَادِرَيْنِ عَنْ غَيْرِهِ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ بِنَفْسِهِ هُوَ الْمُحْدَثَ لِتِلْكَ الْحَوَادِثِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْعَقْلِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ بِذَاتِهِ الْقَدِيمَ الَّذِي يُقَارِنُهُ مُوجَبُهُ وَمُقْتَضَاهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ

ص: 155

حَادِثٌ بِوَاسِطَةِ أَوْ بِلَا وَاسِطَةٍ فَإِنَّ صُدُورَ الْحَوَادِثِ عَنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْأَزَلِيَّةِ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ. وَإِذَا قَالُوا الْحَرَكَةُ بِتَوَسُّطِهِ أَيْ بِتَوَسُّطِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ قِيلَ لَهُمْ: فَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي حُدُوثِ الْحَرَكَةِ الْفَلَكِيَّةِ فَإِنَّ الْحَرَكَةَ الْحَادِثَةَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي لَهَا عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً مُسْتَلْزِمَةً لِمَعْلُولِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ؛ إذْ الْقَوْلُ بِمُقَارَنَةِ الْمَعْلُولِ لِعِلَّتِهِ فِي الْأَزَلِ وَوُجُودِهِ مَعَهَا يُنَاقِضُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْمَعْلُولُ أَوْ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْلُولِ عَنْ الْأَزَلِ بَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي لَهَا ذَاتًا بَسِيطَةً لَا يَقُومُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ بَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي لَهَا ذَاتًا مَوْصُوفَةً لَا يَقُومُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ الْمَذْكُورَةِ؛ فَإِنَّ التَّجَدُّدَ وَالتَّعَدُّدَ الْمَوْجُودَ فِي الْمَعْلُولَاتِ يَمْتَنِعُ صُدُورُهُ عَنْ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ بَسِيطَةٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَصَارَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْحَوَادِثَ الْعُلْوِيَّةَ وَالسُّفْلِيَّةَ لَا مُحْدِثَ لَهَا. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ كَلَامُ اللَّهِ مَا يَفِيضُ عَلَى النُّفُوسِ الصَّافِيَةِ كَمَا أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ مَا يَتَشَكَّلُ فِيهَا مِنْ الصُّوَرِ النُّورَانِيَّةِ فَلَا يُثْبِتُونَ لَهُ كَلَامًا خَارِجًا عَمَّا فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ وَلَا مَلَائِكَةَ خَارِجَةً عَمَّا فِي نُفُوسِهِمْ غَيْرَ " الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ " وَ " النُّفُوسِ الْفَلَكِيَّةِ التِّسْعَةِ " مَعَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَقُولُونَ إنَّهَا أَعْرَاضٌ وَقَدْ بُيِّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْمُجَرَّدَاتِ

ص: 156

الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ وَالْمَوَادُّ وَالصُّوَرُ إنَّمَا وُجُودُهَا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. وَأَمَّا " الصِّنْفُ الثَّالِثُ ‌

‌" الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ

وَالْغَنِيِّ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إلَى غَيْرِهِ وَالْفَقِيرِ الَّذِي لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا بِالْغَنِيِّ فَقَالُوا: كُلُّ مَا قَارَنَ الْحَوَادِثَ مِنْ الْمُمْكِنَات فَهُوَ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ مَرْبُوبٌ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا هُوَ فَقِيرٌ مُمْكِنٌ مَرْبُوبٌ شَيْءٌ قَدِيمٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ تُقَارِنَهُ حَوَادِثُ لَا أَوَّلَ لَهَا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ حَرَكَاتُ الْفَلَكِ دَلِيلًا عَلَى حُدُوثِهِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا " الرَّبُّ تَعَالَى " إذَا قِيلَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ أَوْ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا لِمَا يَشَاءُ لَمْ يَكُنْ دَوَامُ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَدَوَامُ كَوْنِهِ فَاعِلًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مُمْتَنِعًا؛ بَلْ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ صِفَةُ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ فَالرَّبُّ أَحَقُّ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْكَلَامِ مِنْ كُلِّ مَوْصُوفٍ بِالْكَلَامِ؛ إذْ كَلُّ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ الْوَاجِبَ الْخَالِقَ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ مِنْ الْمُحْدَثِ الْمُمْكِنِ الْمَخْلُوقِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْخَالِقِ وَمَا جَازَ اتِّصَافُهُ بِهِ مِنْ الْكَمَالِ وَجَبَ لَهُ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ لَهُ لَكَانَ إمَّا مُمْتَنِعًا وَهُوَ مُحَالٌ بِخِلَافِ الْفَرْضِ وَإِمَّا مُمْكِنًا فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَالرَّبُّ

ص: 157

لَا يَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِ كَمَالِهِ إلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ مُعْطِي الْكَمَالِ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أَكْمَلَ مِنْهُ لَوْ كَانَ غَيْرُهُ مُعْطِيًا لَهُ الْكَمَالَ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ؛ بَلْ هُوَ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ مُسْتَحِقٌّ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ فَلَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا عَلَى غَيْرِهِ فَيَجِبُ ثُبُوتُ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَالْمُتَكَلِّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَكُونُ الْكَلَامُ لَازِمًا لَهُ بِدُونِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَاَلَّذِي لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ أَكْمَلُ مِمَّنْ صَارَ الْكَلَامُ يُمْكِنُهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ. وَحِينَئِذٍ فَكَلَامُهُ قَدِيمٌ مَعَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ يُنَادِي وَيَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ قِدَمُ صَوْتٍ مُعَيَّنٍ وَإِذَا كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ وَالْإِنْجِيلِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْبَاءِ قَبْلَ السِّينِ وَإِنْ كَانَ نَوْعُ الْبَاءِ وَالسِّينِ قَدِيمًا لَمْ يَسْتَلْزِمْ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ الْمُعَيَّنَةُ وَالسِّينُ الْمُعَيَّنَةُ قَدِيمَةً؛ لِمَا عُلِمَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّوْعِ وَالْعَيْنِ وَهَذَا الْفَرْقُ ثَابِتٌ فِي الْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ وَبِهِ تَنْحَلُّ الْإِشْكَالَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى وَحْدَةِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَتَعَدُّدِهَا وَقِدَمِهَا وَحُدُوثِهَا وَكَذَلِكَ تَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالَاتُ الْوَارِدَةُ فِي أَفْعَالِ الرَّبِّ وَقِدَمِهَا وَحُدُوثِهَا وَحُدُوثِ الْعَالَمِ. وَإِذَا قِيلَ: إنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ قَدِيمَةٌ بِمَعْنَى النَّوْعِ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ إنَّ عَيْنَ اللَّفْظِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو قَدِيمٌ

ص: 158

فَإِنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْحِسِّ. وَالْمُتَكَلِّمُ يَعْلَمُ أَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِهِ بِنَوْعِهَا. وَأَمَّا نَفْسُ الصَّوْتِ الْمُعَيَّنُ الَّذِي قَامَ بِهِ التَّقْطِيعُ أَوْ التَّأْلِيفُ الْمُعَيَّنُ لِذَلِكَ الصَّوْتِ؛ فَيُعْلَمُ أَنَّ عَيْنَهُ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ وَالْمَنْقُولُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مُطَابِقٌ لِهَذَا الْقَوْلِ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ مَخْلُوقٌ وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْحُرُوفَ سَجَدَتْ لَهُ إلَّا الْأَلِفُ فَقَالَتْ لَا أَسْجُدُ حَتَّى أُؤْمَرَ " مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ نُقِلَتْ لَأَحْمَدَ عَنْ سَرِيٍّ السقطي. وَهُوَ نَقَلَهَا عَنْ بَكْرِ بْنِ خنيس الْعَابِدِ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُ أُولَئِكَ الشُّيُوخِ بِهَا إلَّا بَيَانَ أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي يَتَوَقَّفُ فِعْلُهُ عَلَى الْأَمْرِ وَالشَّرْعِ هُوَ أَكْمَلُ مِنْ الْعَبْدِ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ بِغَيْرِ شَرْعٍ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعِبَادِ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِمَا تُحِبُّهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِهِ فَقَصْدُ أُولَئِكَ الشُّيُوخِ أَنَّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْأَمْرِ وَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا حَتَّى يُؤْمَرَ بِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ عَبَدَهُ بِمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَذَكَرُوا هَذِهِ الْحِكَايَةَ الإسرائيلية شَاهِدًا لِذَلِكَ مَعَ أَنَّ هَذِهِ لَا إسْنَادَ لَهَا وَلَا يَثْبُتُ بِهَا حُكْمٌ وَلَكِنَّ الإسرائيليات إذَا ذُكِرَتْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِشْهَادِ بِهَا لِمَا عُرِفَ صِحَّتُهُ لَمْ يَكُنْ بِذِكْرِهَا بَأْسٌ وَقَصَدُوا بِذَلِكَ الْحُرُوفَ الْمَكْتُوبَةَ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ مُنْتَصِبَةٌ وَغَيْرُهَا لَيْسَ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ وَخَطُّ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ لَا يُمَاثِلُ خَطَّ الْعَرَبِيِّ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُ أُولَئِكَ الْأَشْيَاخِ أَنَّ نَفْسَ الْحُرُوفِ الْمَنْطُوقَةِ الَّتِي هِيَ مَبَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَكُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ مَخْلُوقَةٌ بَائِنَةٌ عَنْ اللَّهِ؛

ص: 159

بَلْ هَذَا شَيْءٌ لَعَلَّهُ لَمْ يَخْطُرْ بِقُلُوبِهِمْ وَالْحُرُوفُ الْمَنْطُوقَةُ لَا يُقَالُ فِيهَا إنَّهَا مُنْتَصِبَةٌ وَلَا سَاجِدَةٌ فَمَنْ احْتَجَّ بِهَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَلَا بِالتَّوْرَاةِ الْعِبْرِيَّةِ فَقَدْ قَالَ عَنْهُمْ مَا لَمْ يَقُولُوهُ. وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَد: فَإِنَّهُ أَنْكَرَ إطْلَاقَ هَذَا الْقَوْلِ وَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ أَنَّ نَفْسَ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ مَخْلُوقَةٌ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ مَخْلُوقٌ فَهَذَا جهمي يَسْلُكُ طَرِيقًا إلَى الْبِدْعَةِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ إنَّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ. فَقَدْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ - أَوْ كَمَا قَالَ - وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ جَعَلَ نَوْعَ الْحُرُوفِ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْ اللَّهِ كَائِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَزِمَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ الْعَرَبِيُّ وَالْعِبْرِيُّ وَنَحْوُهُمَا مَخْلُوقًا وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَلَامَهُ فَطَرِيقَةُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ مُطَابِقَةٌ لِلْقَوْلِ الثَّالِثِ الْمُوَافِقِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الكرجي الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْفُصُولُ فِي الْأُصُولِ " سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَد يَقُولُ: سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَد يَقُولُ: سَمِعْت الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ الإسفراييني يَقُولُ: مَذْهَبِي وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ

ص: 160

وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَالْقُرْآنُ حَمَلَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام مَسْمُوعًا مِنْ اللَّهِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالصَّحَابَةُ سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الَّذِي نَتْلُوهُ نَحْنُ مَقْرُوءٌ بِأَلْسِنَتِنَا وَفِيمَا بَيْنُ الدَّفَّتَيْنِ وَمَا فِي صُدُورِنَا مَسْمُوعًا وَمَكْتُوبًا. وَمَحْفُوظًا وَمَقْرُوءًا وَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهُ كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذِكْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ مِنْ الْكَلَامِ فِي سَائِر الصِّفَاتِ: كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ فِي تَعَدُّدِ الصِّفَةِ وَاتِّحَادِهَا وَقِدَمِهَا وَحُدُوثِهَا أَوْ قِدَمِ النَّوْعِ دُونَ الْأَعْيَانِ أَوْ إثْبَاتِ صِفَةٍ كُلِّيَّةٍ عُمُومِيَّةٍ مُتَنَاوِلَةِ الْأَعْيَانِ مَعَ تَجَدُّدِ كُلِّ مُعَيَّنٍ مِنْ الْأَعْيَانِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ هَذِهِ مَوَاضِعُ مُشْكِلَةٌ وَهِيَ مِنْ مَحَارَاتِ الْعُقُولِ. وَلِهَذَا اضْطَرَبَ فِيهَا طَوَائِفُ مِنْ أَذْكِيَاءِ النَّاسِ وَنُظَّارِهِمْ وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

ص: 161

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

عَمَّنْ قَالَ: اخْتِلَافُ الْمُسْلِمِينَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى " ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ " فَقَوْمٌ إلَى أَنَّهُ قَدِيمُ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ وَهُمْ الْحَشْوِيَّةُ وَقَوْمٌ إلَى أَنَّهُ حَادِثٌ بِالصَّوْتِ وَالْحَرْفِ وَهُمْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ تَابَعَهُمْ وَقَوْمٌ إلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ لَا بِصَوْتِ وَلَا حَرْفٍ إلَّا مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ وَهُمْ الْأَشْعَرِيَّةُ؟

فَأَجَابَ رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ -:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ اخْتِلَافَ الْمُسْلِمِينَ فِي كَلَامِ اللَّهِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ " إلَخْ هُوَ كَلَامٌ بِحَسَبِ مَا بَلَغَهُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّمَا يَذْكُرُ فِيهَا بَعْضَ اخْتِلَافِ النَّاسِ. فَقَوْمٌ يَحْكُونَ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ كَأَبِي الْمَعَالِي وَنَحْوِهِ. وَقَوْمٌ يَحْكُونَ خَمْسَةً أَوْ سِتَّةً كالشَّهْرَستَانِي وَنَحْوِهِ.

ص: 162

وَالْأَقْوَالُ الَّتِي قَالَهَا الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْقِبْلَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَبْلُغُ سَبْعَةً أَوْ أَكْثَرَ.

الْأَوَّلُ: " قَوْلُ الْمُتَفَلْسِفَةِ " وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ مُتَصَوِّفٍ وَمُتَكَلِّمٍ كَابْنِ سِينَا وَابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُ بِقَوْلِ الصَّابِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ خَارِجٌ عَنْ نُفُوسِ الْعِبَادِ؛ بَلْ هُوَ مَا يَفِيضُ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ الْمَعَانِي: إعْلَامًا وَطَلَبًا: إمَّا مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَإِمَّا مُطْلَقًا كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ مُتَصَوِّفَةِ الْفَلَاسِفَةِ. وَهَذَا قَوْلُ الصَّابِئَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا إلَّا فِي نَفْسِهِ وَصَاحِبُ " مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ " وَأَمْثَالُهُ فِي كَلَامِهِ مَا يُضَاهِي كَلَامَ هَؤُلَاءِ أَحْيَانًا وَإِنْ كَانَ أَحْيَانًا يُكَفِّرُهُمْ وَهَذَا الْقَوْلُ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ مِمَّنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَوْلُ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَة وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ يَخْلُقُهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ فَمِنْ ذَلِكَ الْجِسْمِ ابْتَدَأَ لَا مِنْ اللَّهِ وَلَا يَقُومُ - عِنْدَهُمْ - بِاَللَّهِ كَلَامٌ وَلَا إرَادَةٌ وَأَوَّلُ هَؤُلَاءِ " الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ " الَّذِي ضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ - لَمَّا خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ - وَقَالَ: ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ

ص: 163

يُكَلِّمُ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ دَعَوْا مَنْ دَعَوْهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ إلَى مَقَالَتِهِمْ حَتَّى اُمْتُحِنَ النَّاسُ فِي الْقُرْآنِ بِالْمِحْنَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي إمَارَةِ الْمَأْمُونِ وَالْمُعْتَصِمِ وَالْوَاثِقِ حَتَّى رَفَعَ اللَّهُ شَأْنَ مَنْ ثَبَتَ فِيهَا مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ: كَالْإِمَامِ أَحْمَد رحمه الله وَمُوَافَقِيهِ وَكَشَفَهَا اللَّهُ عَنْ النَّاسِ فِي إمَارَةِ الْمُتَوَكِّلِ وَظَهَرَ فِي الْأُمَّةِ " مَقَالَةُ السَّلَفِ ": إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَمْ يُبْتَدَأْ مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ - كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة - بَلْ هُوَ مِنْهُ نَزَلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ: {حم} {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَقَوْلُهُ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} . ثُمَّ لَمَّا شَاعَتْ الْمِحْنَةُ كَثُرَ اضْطِرَابُ النَّاسِ وَتَنَازُعُهُمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى صَارَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - الْمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ - يَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمْ قَوْلًا يُخَالِفُ بِهِ صَاحِبَهُ وَقَدْ لَا يَشْعُرُ أَحَدُهُمْ بِخِلَافِ الْأَدِلَّةِ وَصَارَ أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد مَعَ كَوْنِ الظَّاهِرِ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ - بَيْنَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَنَازُعٌ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَى ذَلِكَ.

ص: 164

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ الْبَصْرِيِّ وَمَنْ اتَّبَعَهُ: كالقلانسي وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَأْمُورٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ مُخْبَرٍ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا. وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ لَيْسَتْ أَنْوَاعًا لَهُ يَنْقَسِمُ الْكَلَامُ إلَيْهَا وَإِنَّمَا كُلُّهَا صِفَاتٌ لَهُ إضَافِيَّةٌ كَمَا يُوصَفُ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ بِأَنَّهُ ابْنٌ لِزَيْدِ وَعَمٌّ لِعَمْرِو وَخَالٌ لِبَكْرِ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ فِي الْأَزَلِ وَإِنَّهُ فِي الْأَزَلِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ كَمَا يَقُولُهُ الْأَشْعَرِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ يَصِيرُ أَمْرًا وَنَهْيًا عِنْدَ وُجُودِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ عِدَّةُ مَعَانٍ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ. وَقَدْ أَلْزَمَ النَّاسُ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَجْعَلُوا الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْحَيَاةَ شَيْئًا وَاحِدًا فَاعْتَرَفَ مُحَقِّقُوهُمْ بِصِحَّةِ الْإِلْزَامِ.

ص: 165

وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ - مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدْعَةِ - يَقُولُونَ إنَّ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ كَمَا يَقُولُونَ: إنَّ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ كَمَا يَقُولُونَ: إنَّ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ يَقُومُ بِغَيْرِهِ وَإِنَّ الْعَالِمَ يَكُونُ عَالِمًا بِعِلْمِ يَقُومُ بِغَيْرِهِ وَالْقَادِرَ يَكُونُ قَادِرًا بِقُدْرَةِ تَقُومُ بِغَيْرِهِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَكَمَا يَقُولُ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ: إنَّ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقُدْرَةُ هِيَ الْإِرَادَةُ وَإِنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْعَالِمُ وَالْقُدْرَةَ هِيَ الْقَادِرُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ.

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ مِنْ السالمية وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَلَهَا مَعَ ذَلِكَ مَعَانٍ تَقُومُ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ وَهَؤُلَاءِ يُوَافِقُونَ الْأَشْعَرِيَّةَ والْكُلَّابِيَة فِي أَنَّ تَكْلِيمَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ خَلْقِ إدْرَاكٍ لِلْمُتَكَلِّمِ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا مُنْفَصِلًا عَنْ الْمُسْتَمِعِ. ثُمَّ إنَّ جُمْهُورَ هَؤُلَاءِ لَا يَقُولُونَ إنَّ تِلْكَ الْأَصْوَاتَ هِيَ الْمَسْمُوعَةُ مِنْ الْقَارِئِينَ بَلْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَهُمْ أَهْلُ. . . (1)

(1)

بياض بالأصل

قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 104):

وقد ذكر الشيخ هذه المسألة في مواضع من كتبه، ونسب هذا القول في (6/ 309، 310) إلى (طائفة من أهل الحديث والفقه والتصوف، من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل)، فلعل هذا النص أو نحوه هو موضع البياض، والله أعلم

ص: 166

يَقُولُونَ: إنَّ الصَّوْتَ الْقَدِيمَ يُسْمَع مِنْ الْقَارِئِ. ثُمَّ قَدْ يَقُولُونَ تَارَةً: إنَّ الْقَدِيمَ نَفْسُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْقَارِئِ وَتَارَةً يَقُولُونَ: إنَّهُ يُسْمَعُ مِنْ الْقَارِئِ صَوْتَانِ قَدِيمًا وَمُحْدَثًا. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَقُولُونَ بِحُلُولِ الْقَدِيمِ فِي الْمُحْدَثِ؛ بَلْ يَقُولُونَ ظَهَرَ فِيهِ كَمَا يَظْهَرُ الْوَجْهُ فِي الْمِرْآةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِحُلُولِ الْقَدِيمِ فِي الْمُحْدَثِ وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ وَلَا الْأَقْوَالُ قَبْلَهُ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَا الْإِمَامُ أَحْمَد وَلَا أَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ بَلْ هُمْ متفقون عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ إنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فكيف بِمَنْ قَالَ صَوْتِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ فَكَيْفَ بِمَنْ قَالَ صَوْتِي قَدِيمٌ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ: فَهَذَا مَا رَأَيْنَاهُ فِي كِتَابِ أَحَدٍ مِنْ طَوَائِفِ الْإِسْلَامِ وَلَا نَقَلَهُ أَحَدٌ عَنْ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ؛ وَلَكِنَّ طَائِفَةً يَسْكُتُونَ عَنْ التَّكَلُّمِ فِي الْمِدَادِ بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ وَيَقُولُونَ: لَا نَقُولُ إنَّهُ قَدِيمٌ؛ وَلَكِنْ نَسْكُتُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. وَقَدْ حَكَاهُ طَائِفَةٌ عَمَّنْ سَمَّوْهُمْ الْحَشْوِيَّةَ الْقَوْلُ بِقِدَمِ الْمِدَادِ وَقَالُوا: إنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ وَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْمِحْبَرَةِ كَانَ مُحْدَثًا فَلَمَّا صَارَ فِي الْوَرَقِ صَارَ قَدِيمًا.

ص: 167

وَرَأَيْنَا طَوَائِفَ يُكَذِّبُونَ هَؤُلَاءِ فِي النَّقْلِ وَكَأَنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ أَنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ قَوْلَ غَيْرِهِمْ بِمُجَرَّدِ مَا بَلَغَهُمْ مِنْ إطْلَاقِ قَوْلِهِمْ أَوْ لَمَّا ظَنُّوهُ لَازِمًا لَهُمْ أَوْ لَمَّا سَمِعُوهُ مِمَّنْ يُجَازِفُ فِي النَّقْلِ وَلَا يُحَرِّرُهُ وَرُبَّمَا سَمِعُوهُ مِنْ بَعْضِ عَوَامِّهِمْ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ. وَهَذَا الْبَابُ وَقَعَ فِيهِ غَلَطٌ بِهَذَا السَّبَبِ حَتَّى غَلِطَ النَّاسُ عَلَى مَنْ يُعَظِّمُونَهُ؛ وَبِهَذَا السَّبَبِ غَلَّطَ أَبَا طَالِبٍ " الْإِمَامُ أَحْمَد " فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَسَأَلَهُ هَذَا مَخْلُوقٌ؟ فَقَالَ لَهُ أَحْمَد هَذَا لَيْسَ بِمَخْلُوقِ. فَبَلَغَهُ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَغَضِبَ عَلَيْهِ أَحْمَد وَقَالَ. أَنَا قُلْت لَك لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ فَقَالَ: لَا. وَلَكِنْ قَرَأْت عَلَيْك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَقُلْت لَك: هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقُلْت نَعَمْ. فَقَالَ: فَلِمَ حَكَيْت عَنِّي أَنِّي قُلْت لَك لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ فَقَالَ: لَمْ أَحْكِهِ عَنْك وَإِنَّمَا حَكَيْته عَنْ نَفْسِي قَالَ: فَلَا تَقُلْ هَذَا فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ عَالِمًا يَقُولُ هَذَا؛ وَلَكِنْ قُلْ: الْقُرْآنُ حَيْثُ تَصَرَّفَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَلِهَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ " إنَّ " اللَّفْظِيَّةَ " هَؤُلَاءِ يَذْكُرُونَ قَوْلَهُمْ عَنْ أَحْمَد وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ دِقَّةَ قَوْلِهِ وَمَوْضِعُ الشُّبْهَةِ أَنَّهُ إذَا قَالَ هَذَا فَالْإِشَارَةُ تَكُونُ إلَى الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا بَلَغَ بِهِ مِنْ حَرَكَاتِ الْعَبْدِ وَصَوْتِهِ كَمَا أَنَّ

ص: 168

الرَّجُلَ إذَا كَتَبَ اسْمَ اللَّهِ تبارك وتعالى وَسَمِعَ قَائِلًا يَذْكُرُ اللَّهَ فَقَالَ هَذَا رَبِّي كَانَ صَادِقًا وَلَوْ قِيلَ لَهُ: أَتَعْبُدُ هَذَا؟ لَقَالَ نَعَمْ. - لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ - أَلَا تَعْلَمُ الْمَكْتُوبَ؟ وَالِاسْمُ يُرَادُ بِهِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ الْمُسَمَّى فَإِذَا قَالَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} فَالْمُرَادُ أَنَّ الْمُسَمَّى الَّذِي اسْمُهُ مُحَمَّدٌ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ وَالْخَطِّ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ. وَمِنْ هُنَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الِاسْمِ " هَلْ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرُهُ وَكَانَ الصَّوَابُ أَنْ يُمْنَعَ مَنْ كِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ وَيُقَالَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وَكَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم {إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ} . وَاَلَّذِينَ أَطْلَقُوا أَنَّهُ الْمُسَمَّى كَانَ أَصْلُ مَقْصُودِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ الْمُسَمَّى وَأَنَّهُ إذَا ذُكِرَ الِاسْمُ فَالْإِشَارَةُ بِهِ إلَى مُسَمَّاهُ وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ حَمِدْت اللَّهَ وَدَعَوْت اللَّهَ وَعَبَدْت اللَّهَ فَهُوَ لَا يُرِيدُ إلَّا أَنَّهُ عَبَدَ الْمُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ. وَاَلَّذِينَ نَفَوْا ذَلِكَ رَأَوْا أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ أَوْ الْخَطِّ لَيْسَ هُوَ الْأَعْيَانَ الْمُسَمَّاةَ بِذَلِكَ وَآخَرُونَ فَرَّقُوا بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَالِاسْمِ فَجَعَلُوا الْأَلْفَاظَ هِيَ التَّسْمِيَةَ وَجَعَلُوا الِاسْمَ هُوَ الْأَعْيَانَ الْمُسَمَّاةَ بِالْأَلْفَاظِ فَخَرَجُوا عَنْ مُوجَبِ اللُّغَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

ص: 169

وَأَصْلُ مَقْصُودِ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا صَحِيحٌ؛ إلَّا مَنْ تَوَسَّلَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ إلَى قَوْلٍ بَاطِلٍ: مِثْلِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة إنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى؛ فَإِنَّهُمْ تَوَسَّلُوا بِذَلِكَ إلَى أَنْ يَقُولُوا: أَسْمَاءُ اللَّهِ غَيْرُهُ. ثُمَّ قَالُوا: وَمَا كَانَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ بَائِنٌ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ بِاسْمِ وَلَا تَكَلَّمَ بِاسْمِ مِنْ أَسْمَائِهِ وَلَا يَكُونُ لَهُ كَلَامٌ تَكَلَّمَ بِهِ؛ بَلْ لَا يَكُونُ كَلَامُهُ إلَّا مَا كَانَ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْهُ. فَهَؤُلَاءِ لَمَّا عَلِمَ السَّلَفُ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ بَاطِلٌ أَنْكَرُوا إطْلَاقَهُمْ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ وَأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَفْظَ " الْغَيْرِ " مُجْمَلٌ يَحْتَمِلُ الشَّيْءَ الْبَائِنَ عَنْ غَيْرِهِ وَيَحْتَمِلُ الشَّيْءَ الَّذِي لَيْسَ هُوَ إيَّاهُ وَلَا هُوَ بَائِنٌ عَنْهُ. فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ غَيْرُهُ لِيَجْعَلَهُ بَائِنًا عَنْهُ كَانَ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ فِي الْعِبَارَةِ تَقْصِيرٌ. وَهَكَذَا أَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَقَالُوا: مَنْ قَالَ هُوَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي " التِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ " لِأَنَّ اللَّفْظَ وَالتِّلَاوَةَ وَالْقِرَاءَةَ يُرَادُ بِهِمَا الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ فَمَنْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ وَيُرَادُ بِ " اللَّفْظِ " نَفْسُ الْمَلْفُوظِ كَمَا يُرَادُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ نَفْسُ الْكَلَامِ وَهُوَ الْقُرْآنُ نَفْسُهُ. وَمَنْ قَالَ كَلَامُ

ص: 170

اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَرَأَهُ الْمُسْلِمُونَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ النَّاسُ كَلَامَ مُحَدِّثٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى} قَالُوا: هَذَا كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ هَذَا كَلَامُهُ بِعَيْنِهِ. لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَكَلَّمَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ وَتَكَلَّمَ بِصَوْتِهِ ثُمَّ الْمُبَلِّغُ لَهُ عَنْهُ بَلَّغَهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ فَالْكَلَامُ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِمَعَانِيهِ وَأَلَّفَ حُرُوفَهُ بِصَوْتِهِ وَالْمُبَلِّغُ لَهُ بَلَّغَهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَصَوْتِ نَفْسِهِ. فَإِذَا قَالُوا: هَذَا كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ إشَارَتُهُمْ إلَى نَفْسِ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ حُرُوفُهُ وَنَظْمُهُ وَمَعَانِيهِ لَا إلَى مَا اخْتَصَّ بِهِ الْمُبَلِّغُ مِنْ حَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ؛ بَلْ يُضِيفُونَ الصَّوْتَ إلَى الْمُبَلِّغِ فَيَقُولُونَ صَوْتٌ حَسَنٌ وَمَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مِنْ فَصَاحَةِ حُرُوفِهِ وَنَظْمِهِ وَبَلَاغَةِ مَعَانِيهِ فَإِنَّمَا يُضَافُ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِهِ ابْتِدَاءً لَا إلَى الْمُبَلِّغِ لَهُ؛ وَلَكِنْ يُضَافُ إلَى الْمُبَلِّغِ حُسْنُ الْأَدَاءِ: كَتَجْوِيدِ الْحُرُوفِ وَتَحْسِينِ الصَّوْتِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} .

ص: 171

{وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فَيَقُولُ: أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لَأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؟} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} وَقَالَ: {اللَّهُ أَشَدُّ أَذْنًا إلَى الرَّجُلِ يُحَسِّنُ الصَّوْتَ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَة إلَى قَيْنَتِهِ} . فَبَيَّنَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ الْمَسْمُوعَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ أَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَالنَّاسُ يَقْرَءُونَهُ بِأَصْوَاتِهِمْ فَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمَسْمُوعَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ هُوَ كَلَامُ الْقَارِئِينَ كَانَ فَسَادُ قَوْلِهِ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ لَيْسَ هُوَ صَوْتَ الْعَبْدِ أَوْ هُوَ صَوْتُ اللَّهِ كَانَ فَسَادُ قَوْلِهِ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا؛ بَلْ هَذَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ سَمِعَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّهِ وَسَمِعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ جِبْرِيلَ وَسَمِعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ نَبِيِّهِمْ. ثُمَّ بَلَّغَهُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْوَسَائِطِ فِيهِ إلَّا التَّبْلِيغُ بِأَفْعَالِهِ وَصَوْتِهِ لَمْ يُحْدِثْ مِنْهُمْ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ حُرُوفِهِ وَلَا نَظْمِهِ وَلَا مَعَانِيهِ؛ بَلْ جَمِيعُ ذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى.

الْقَوْلُ الْخَامِسُ: قَوْلُ‌

‌ الهشامية والكَرَّامِيَة

وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَادِثٌ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ؛ بَلْ مَا زَالَ عِنْدَهُمْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَإِلَّا فَوُجُودُ الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ فِي الْأَزَلِ مُمْتَنِعٌ؛ كَوُجُودِ

ص: 172

الْأَفْعَالِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ مَنْ وَافَقَهُمْ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ. وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ حَادِثَةٌ بِذَاتِ الرَّبِّ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَلَا يَقُولُونَ: إنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ وَالْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ؛ بَلْ يَقُولُونَ: إنَّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ.

الْقَوْلُ السَّادِسُ: قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَئِمَّتِهِمْ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ وَالْقُرْآنُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَيْسَ بِبَائِنِ عَنْهُ مَخْلُوقًا. وَلَا يَقُولُونَ إنَّهُ صَارَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا وَلَا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ حَادِثٌ؛ بَلْ مَا زَالَ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَإِنْ كَانَ كَلَّمَ مُوسَى وَنَادَاهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَكَلَامُهُ لَا يَنْفَدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} . وَيَقُولُونَ: مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ الصَّحِيحَةُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الْعُقُولُ الزَّكِيَّةُ الصَّرِيحَةُ فَلَا يَنْفُونَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى صِفَاتِ الْكَمَالِ سبحانه وتعالى. فَيَجْعَلُونَهُ كَالْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ. فَلَا تُكَلِّمُ عَابِدِيهَا وَلَا تَهْدِيهِمْ سَبِيلًا وَلَا تَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا تَمْلِكْ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا.

ص: 173

وَمَنْ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِ اللَّهِ كَانَ الْمُتَّصِفُ بِهِ هُوَ ذَلِكَ الْغَيْرُ فَتَكُونُ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةَ لِمُوسَى {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ} وَلِهَذَا اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ. وَقَالُوا هَذَا نَظِيرُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} أَيْ هَذَا كَلَامٌ قَائِمٌ بِغَيْرِ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا صَرَّحَ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ الِاتِّحَادِيَّةُ: كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَنَحْوِهِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ. وَأَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ - الْمُوَافِقُونَ لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ - لَا يَقُولُونَ إنَّ الرَّبَّ كَانَ مَسْلُوبًا صِفَاتِ الْكَمَالِ فِي الْأَزَلِ وَإِنَّهُ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَلَامِ حَتَّى حَدَثَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ كَالطِّفْلِ. وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ يَجْعَلُونَ الْكَلَامَ لِغَيْرِهِ فَيَسْلُبُونَهُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ فِي الْأَزَلِ لَا عَلَى كَلَامٍ مَخْلُوقٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَهُمْ إنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْعَجْزِ عَنْ الْكَلَامِ فِي الْأَزَلِ فَهُوَ لَازِمٌ لِقَوْلِهِمْ. والكَرَّامِيَة فَرُّوا مِنْ الْأَوَّلِ؛ وَجَعَلُوهُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ يَقُومُ بِهِ؛ لَكِنْ لَمْ يَجْعَلُوهُ مُتَكَلِّمًا فِي الْأَزَلِ؛ بَلْ وَلَا قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ فِي الْحَقِيقَةِ فِي الْأَزَلِ. والْكُلَّابِيَة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ السالمية وَنَحْوِهِمْ وَصَفُوهُ بِالْكَلَامِ فِي الْأَزَلِ وَقَالُوا: إنَّهُ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا لَكِنْ لَمْ يَجْعَلُوهُ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَلَا مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُحْدِثَ شَيْئًا

ص: 174

يَكُونُ بِهِ مُكَلِّمًا لِغَيْرِهِ؛ لَكِنْ يَخْلُقُ لِغَيْرِهِ إدْرَاكًا بِمَا لَمْ يَزَلْ كَمَا يُزِيلُ الْعَمَى عَنْ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يَرَى الشَّمْسَ الَّتِي كَانَتْ ظَاهِرَةً مُتَجَلِّيَةً لَا أَنَّ الشَّمْسَ فِي نَفْسِهَا تَجَلَّتْ وَظَهَرَتْ وَهَذَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي رُؤْيَتِهِ إنَّهَا لَيْسَتْ إلَّا مُجَرَّدُ خَلْقِ الْإِدْرَاكِ لَيْسَ هُنَاكَ حُجُبٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الرَّائِي فَلَا يَكْشِفُ حِجَابًا وَلَا يَرْفَعُ حِجَابًا. وَالْقُرْآنُ مَعَ الْحَدِيثِ وَمَعَ الْعَقْلِ يَرُدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} وَلَوْ كَانَ الْحِجَابُ هُوَ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ: لَكَانَ الْوَحْيُ وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} وَفِي الصَّحِيحِ: {إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ؛ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُنْجِيَنَا مِنْ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ} وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَ " أَيْضًا " فَقَوْلُ الْكُلَّابِيَة: إنَّ الْحَقَائِقَ الْمُتَنَوِّعَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَقَوْلُ الْآخَرِينَ إنَّ الْأَصْوَاتَ الْمُتَضَادَّةَ تَجْتَمِعُ فِي آنٍ وَاحِدٍ مِمَّا يَقُولُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْعُقَلَاءِ إنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

ص: 175

وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ: فَقَوْمٌ إلَى أَنَّهُ قَدِيمُ الصَّوْتِ وَالْحَرْفِ وَهُمْ الْحَشْوِيَّةُ. إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ نَفْسَ الْأَصْوَاتِ مُجْتَمِعَةٌ فِي الْأَزَلِ: فَهَذَا قَوْلُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ السالمية وَغَيْرِهِمْ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: " حَشْوِيَّةٌ " فَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ لَهُ مُسَمًّى مَعْرُوفٌ لَا فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ؛ وَلَكِنْ يُذْكَرُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا اللَّفْظِ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ. وَقَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حَشْوِيًّا. وَأَصْلُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ قَالَتْ قَوْلًا تُخَالِفُ بِهِ الْجُمْهُورَ وَالْعَامَّةَ يُنْسَبُ إلَى أَنَّهُ قَوْلُ الْحَشْوِيَّةِ أَيْ الَّذِينَ هُمْ حَشْوٌ فِي النَّاسِ لَيْسُوا مِنْ الْمُتَأَهِّلِينَ عِنْدَهُمْ؛ فَالْمُعْتَزِلَةُ تُسَمِّي مَنْ أَثْبَتَ الْقَدَرَ حَشْوِيًّا وَالْجَهْمِيَّة يُسَمُّونَ مُثْبِتَةَ الصِّفَاتِ حَشْوِيَّةً وَالْقَرَامِطَةُ - كَأَتْبَاعِ الْحَاكِمِ - يُسَمُّونَ مَنْ أَوْجَبَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ حَشْوِيًّا. وَهَذَا كَمَا أَنَّ الرَّافِضَةَ يُسَمُّونَ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قَوْلَ الْجُمْهُورِ وَكَذَلِكَ الْفَلَاسِفَةُ تُسَمِّي ذَلِكَ قَوْلَ الْجُمْهُورِ فَقَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَوْلُ الْعَامَّةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ كَانَ قَائِلُ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْخَاصَّةَ لَا تَقُولُهُ؛ وَإِنَّمَا تَقُولُهُ الْعَامَّةُ وَالْجُمْهُورُ فَأَضَافَهُ إلَيْهِمْ وَسَمَّاهُمْ حَشْوِيَّةً. وَالطَّائِفَةُ تُضَافُ تَارَةً إلَى الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ مَقَالَتِهَا كَمَا يُقَالُ: الْجَهْمِيَّة والإباضية والأزارقة والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ والكَرَّامِيَة

ص: 176

وَيُقَالُ فِي أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ: مَالِكِيَّةٌ وَحَنَفِيَّةٌ وَشَافِعِيَّةٌ وَحَنْبَلِيَّةٌ. وَتَارَةً تُضَافُ إلَى قَوْلِهَا وَعَمَلِهَا كَمَا يُقَالُ: الرَّوَافِضُ وَالْخَوَارِجُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلَفْظَةُ الْحَشْوِيَّةِ لَا يَنْبَنِي لَا عَنْ هَذَا وَلَا عَنْ هَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَوْمٌ ذَهَبُوا إلَى أَنَّهُ حَادِثٌ بِالصَّوْتِ وَالْحَرْفِ - وَهُمْ الْجَهْمِيَّة - فَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَقَالَاتِ النَّاسِ. فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَيْسَ لَهُ كَلَامٌ وَإِنَّمَا خَلَقَ شَيْئًا فَعُبِّرَ عَنْهُ وَمِنْهُمْ قَالَ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَأَمَّا الكَرَّامِيَة فَتَقُولُ: إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهِ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ. وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: إنَّهُ حَادِثٌ قَائِمٌ بِهِ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْجَهْمِيَّة؛ بَلْ يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ الرَّدِّ وَهُمْ أَعْظَمُ مُبَايَنَةً لَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ. وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: إنَّ الْقُرْآنَ حَادِثٌ فِي ذَاتِ اللَّهِ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ كُلَّهُ حَادِثٌ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْرُوفٌ عَنْ أَبِي مُعَاذٍ التومني وَزُهَيْرٍ الْبَابِيِّ ودَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الأصبهاني بَلْ وَالْبُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ وَغَيْرُهُ وَطَوَائِفُ كَثِيرَةٌ يُذْكَرُ عَنْهُمْ هَذَا فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ حَادِثٌ كَانَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَلَا يَقُولُ إنَّهُ مَخْلُوقٌ.

ص: 177

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَوْمٌ نَحَوْا إلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ لَا بِصَوْتِ وَلَا حَرْفٍ إلَّا مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ - وَهُمْ الْأَشْعَرِيَّةُ - فَهَذَا صَحِيحٌ؛ وَلَكِنْ هَذَا الْقَوْلُ أَوَّلُ مَنْ قَالَهُ فِي الْإِسْلَامِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كُلَّابٍ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ كَانُوا يُثْبِتُونَ لِلَّهِ تَعَالَى مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَالْجَهْمِيَّة تُنْكِرُ هَذَا وَهَذَا فَوَافَقَ ابْنُ كُلَّابٍ السَّلَفَ عَلَى الْقَوْلِ بِقِيَامِ الصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ وَأَنْكَرَ أَنْ يَقُومَ بِهِ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَجَاءَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ بَعْدَهُ - وَكَانَ تِلْمِيذًا لِأَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِي الْمُعْتَزِلِيِّ ثُمَّ إنَّهُ رَجَعَ عَنْ مَقَالَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَيَّنَ تَنَاقُضَهُمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَبَالَغَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ حَتَّى نَسَبُوهُ بِذَلِكَ إلَى قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْوَاقِفَةِ - وَسَلَكَ فِي الصِّفَاتِ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ اتَّبَعَهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ قَالَ إنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ الْمَلْفُوظَ بِهِمَا عَيْنُ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ فَلِأَهْلِ الْحَقِّ فِيهِ رَأْيَانِ: رَأْيٌ بِتَكْفِيرِهِ وَرَأْيٌ بِتَبْدِيعِهِ إلَى قَوْلِهِ: وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الْحَرْفَ اللِّسَانِيَّ وَالْحَرْفَ الْبَنَانِيَّ كِلَاهُمَا مُقَيَّدٌ بِزِمَامِ تَصَرُّفِهِ.

ص: 178

فَيُقَالُ: أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمِدَادَ الْمَكْتُوبَ قَدِيمٌ فَمَا عَلِمْنَا قَائِلًا مَعْرُوفًا قَالَ بِهِ وَمَا رَأَيْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ أَحَدٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ لَا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا مَالِكٍ وَلَا الشَّافِعِيِّ وَلَا أَحْمَد؛ بَلْ رَأَيْنَا فِي كُتُبِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إنْكَارَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ وَتَكْذِيبَ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الْمُصْحَفِ حَرْفًا قَدِيمًا لَيْسَ هُوَ الْمِدَادَ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ لَيْسَ بِحَالِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ حَالٌّ. وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ الشَّكْلَ: شَكْلَ الْحَرْفِ وَصُورَتَهُ؛ لَا مَادَّتَهُ الَّتِي هِيَ مِدَادُهُ وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا بَاطِلٌ كَمَا أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ شَيْئًا مِنْ أَصْوَاتِ الْآدَمِيِّينَ قَدِيمٌ هُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلٌ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَجُمْهُورُ هَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ هَذَا الْقَوْلَ. وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ فِي إنْكَارِ هَذَا الْقَوْلِ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ فَهُوَ مُفْتَرٍ مُبْتَدِعٌ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ فَهُوَ مُفْتَرٍ مُبْتَدِعٌ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ بَعْضُهُ كَلَامُ

ص: 179

اللَّهِ وَبَعْضُهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ فَهُوَ مُفْتَرٍ مُبْتَدِعٌ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} مَعْنًى وَاحِدٌ فَهُوَ مُفْتَرٍ مُبْتَدِعٌ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ. وَأَمَّا " التَّكْفِيرُ ": فَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَنْ اجْتَهَدَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقَصَدَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَ: لَمْ يُكَفَّرْ؛ بَلْ يُغْفَرُ لَهُ خَطَؤُهُ. وَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَشَاقَّ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ: فَهُوَ كَافِرٌ. وَمَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَقَصَّرَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَتَكَلَّمَ بِلَا عَلَمٍ: فَهُوَ عَاصٍ مُذْنِبٌ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ فَاسِقًا وَقَدْ تَكُونُ لَهُ حَسَنَاتٌ تَرْجَحُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ. فَ " التَّكْفِيرُ " يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الشَّخْصِ فَلَيْسَ كُلُّ مُخْطِئٍ وَلَا مُبْتَدَعٍ وَلَا جَاهِلٍ وَلَا ضَالٍّ يَكُونُ كَافِرًا؛ بَلْ وَلَا فَاسِقًا بَلْ وَلَا عَاصِيًا لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " وَقَدْ غَلِطَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ أَئِمَّةِ الطَّوَائِفِ الْمَعْرُوفِينَ عِنْدَ النَّاسِ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ. وَغَالِبُهُمْ يَقْصِدُ وَجْهًا مِنْ الْحَقِّ فَيَتَّبِعُهُ وَيَعْزُبُ عَنْهُ وَجْهٌ آخَرُ لَا يُحَقِّقُهُ فَيَبْقَى عَارِفًا بِبَعْضِ الْحَقِّ جَاهِلًا بِبَعْضِهِ؛ بَلْ مُنْكِرًا لَهُ. وَمِنْ هَهُنَا نَشَأَ نِزَاعُهُمْ فَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ: رَأَوْا أَنَّ

ص: 180

الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِقُدْرَةِ الْمُتَكَلِّمِ. وَمَشِيئَتِهِ وَإِنْ كَلَامًا لَازِمًا لِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ لَا يُعْقَلُ؛ فَإِنَّهُ إنْ جُعِلَ مَعْنًى وَاحِدًا كَانَ مُكَابَرَةً لِلْعَقْلِ وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ أَصْوَاتًا أَزَلِيَّةً ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّ مَا كَانَ بِقُدْرَةِ الرَّبِّ وَمَشِيئَتِهِ لَا يَكُونُ إلَّا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَمَا انْفَصَلَ عَنْهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ. وَلِهَذَا أَنْكَرُوا أَنْ يَجِيءَ أَوْ يَأْتِيَ أَوْ يَنْزِلَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَآخَرُونَ وَافَقُوهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي أَحْدَثَهُ أُولَئِكَ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ لَكِنْ رَأَوْا أَنَّ كَلَامًا لَا يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ لَا يَكُونُ كَلَامًا لَهُ. فَقَالُوا: إنَّ كَلَامَهُ قَائِمٌ بِهِ. ثُمَّ رَأَى " فَرِيقٌ " أَنَّ قِدَمَ الْأَصْوَاتِ مُمْتَنِعٌ فَجَعَلُوا الْقَدِيمَ هُوَ الْمَعْنَى ثُمَّ رَأَوْا أَنَّ تَعَدُّدَ الْمَعَانِي الْقَدِيمَةِ مُمْتَنِعٌ وَأَنَّهُ يُفْضِي إلَى وُجُودِ مَعَانِي لَا نِهَايَةَ لَهَا فَقَالُوا هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ. وَرَأَى " فَرِيقٌ آخَرُ " أَنَّ كَوْنَ الْمَعَانِي الْمُتَنَوِّعَةِ مَعْنًى وَاحِدًا مُمْتَنِعٌ وَكَوْنَ الرَّبِّ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِحُرُوفِ الْقُرْآنِ بَلْ خَلَقَهَا فِي غَيْرِهِ مُوَافَقَةً لِمَنْ جَعَلَ الْكَلَامَ لَا يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الْحُرُوفَ الْمَنْظُومَةَ - كَالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ - إنْ قَالُوا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ كَلَامُهُ قَائِمًا بِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ؛ وَإِنْ قَالُوا لَيْسَ كَلَامًا لِلَّهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا لِمَنْ خُلِقَتْ فِيهِ فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ كَلَامًا لِلَّهِ؛ بَلْ كَلَامًا لِمَنْ خُلِقَ فِيهِ. وَهَذَا

ص: 181

هُوَ الَّذِي أَنْكَرُوهُ عَلَى مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَاَلَّذِي قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ لَمْ يَقُلْ إلَّا هَذَا؛ فَلَزِمَهُمْ أَنْ يُوَافِقُوا فِي الْحَقِيقَةِ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَإِنْ ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ قَوْلًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ يُخَالِفُ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ: وَهُوَ إثْبَاتُ مَعْنًى وَاحِدٍ يَكُونُ هُوَ جَمِيعَ مَعَانِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ؛ لَكِنَّهُمْ إنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ أَقْوَالٍ ظَنُّوهَا بَاطِلَةً فَلَمْ يَقْصِدُوا إلَّا الْفِرَارَ عَمَّا رَأَوْهُ بَاطِلًا فَوَقَعُوا فِي أَقْوَالٍ لَهَا لَوَازِمُ تَقْتَضِي بُطْلَانَهَا أَيْضًا. فَلَمَّا رَأَى هَذَا " الْفَرِيقُ الثَّانِي " مَا أَجَابَ بِهِ هَؤُلَاءِ قَالُوا: إنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ. فَرَدَّ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ. وَقَالُوا: إنَّ الْأَصْوَاتَ مُتَضَادَّةٌ فِي نَفْسِهَا وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَأَقَلُّ مَا فِي الْأُمُورِ الْقَدِيمَةِ أَنْ تَكُونَ مُجْتَمِعَةً وَقَالُوا لَهُمْ: الْأَصْوَاتُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْحَرَكَاتِ الْمُسْتَلْزَمَةِ لِلْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فَلَا تَكُونُ الْأَصْوَاتُ إلَّا بِقُدْرَةِ وَإِرَادَةٍ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَدِيمَ الْعَيْنِ؛ لَكِنَّ النِّزَاعَ فِي كَوْنِهِ قَدِيمَ النَّوْعِ. وَقَالُوا: الْأَصْوَاتُ هِيَ فِي نَفْسِهَا يَمْتَنِعُ بَقَاؤُهَا وَمَا امْتَنَعَ بَقَاؤُهُ امْتَنَعَ قِدَمُهُ فَامْتَنَعَ قِدَمُ الْأَصْوَاتِ. وَقَالَ " آخَرُونَ ": إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِحُرُوفِ وَأَصْوَاتٍ حَادِثَةٍ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ لَكِنْ يَمْتَنِعُ قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ لَا تَكُونُ أَزَلِيَّةً وَرَأَوْا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُنْجِيهِمْ مِنْ

ص: 182

سَائِر مَا وَقَعَ فِيهِ غَيْرُهُمْ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنْكِرُ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يَقُومَ بِذَاتِ الرَّبِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ نَفَتْ أَنْ يَقُومَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَعَانِي وَعَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَالْحَوَادِثِ فَسَمَّوْا مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ أَعْرَاضًا. وَمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَالنُّزُولِ حَوَادِثَ. وَقَالُوا - لِسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَجُمْهُورِهَا: - إنْ قُلْتُمْ الْكَلَامُ الْمُعَيَّنُ لَازِمٌ لَهُ فَقَدْ قُلْتُمْ إنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ وَإِنْ قُلْتُمْ يَتَكَلَّمُ بِاخْتِيَارِهِ وَقُدْرَتِهِ فَقَدْ قُلْتُمْ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ. فَقَالَ هَؤُلَاءِ: كَلَامُ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَوْلُهُمْ لَا تَقُومُ بِهِ هَذِهِ الْأُمُورُ: كَلَامٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ. وَهُوَ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ؛ فَإِنَّ إثْبَاتَ عَالِمٍ بِلَا عِلْمٍ وَقَادِرٍ بِلَا قُدْرَةٍ وَحَيٍّ بِلَا حَيَاةٍ مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ. وَكَذَلِكَ إثْبَاتُ خَالِقٍ وَعَادِلٍ بِلَا خَلْقٍ وَلَا عَدْلٍ وَإِثْبَاتُ فَاعِلٍ لَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ وَإِثْبَاتُ رَبٍّ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ؛ بَلْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْجَمَادِ سَلْبٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ عَنْهُ كَمَا أَنَّ إثْبَاتَ رَبٍّ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَقْدِرُ سَلْبٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ عَنْهُ.

ص: 183

قَالَ هَؤُلَاءِ: فَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْكَلَامِ حُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ. بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ سَلِمْنَا مِنْ هَذِهِ الْمَحَاذِيرِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَّا مَحْذُورٌ شَرْعِيٌّ وَلَا عَقْلِيٌّ. فَقَالَ لَهُمْ " الْفَرِيقُ السَّابِعُ ": وَلَكِنْ جَعَلْتُمُوهُ عَاجِزًا عَنْ الْكَلَامِ فِي الْأَزَلِ مَسْلُوبًا لِلْكَمَالِ وَلَزِمَكُمْ أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ مِنْ الْأَزَلِ إلَى الْأَبَدِ لَمْ يَتَكَلَّمْ ثُمَّ تَكَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا حَادِثًا فَيَحْتَاجُ إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ الْحَادِثِ كَالْقَوْلِ فِي الْأَوَّلِ؛ فَيَلْزَمُ تَسَلْسُلُ الْحَوَادِثِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا بَطَلَ قَوْلُكُمْ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَقُولُوا لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ كَمَا قَالَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَإِنَّكُمْ حِينَئِذٍ تَكُونُونَ قَدْ وَصَفْتُمْ رَبَّكُمْ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ أَزَلًا وَأَبَدًا. قَالُوا: وَهَذَا الْقَوْلُ خَيْرٌ مِنْ سَائِر الْأَقْوَالِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ الْمَعْقُولَ وَصَحِيحَ الْمَنْقُولِ. فَقَالَ لَهُمْ أُولَئِكَ: هَذَا يَسْتَلْزِمُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَقَالَ لَهُمْ هَؤُلَاءِ: هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَعٌ وَإِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ لَمْ يَأْتِ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ: بَلْ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلُ مِنْ الْمُعْتَزِلَة وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ: ظَنُّوا أَنَّهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ يُثْبِتُونَ حُدُوثَ الْعَالَمِ. بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمُحْدَثَةِ وَمَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ

ص: 184

مُحْدَثٌ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَ عَلَيْهِمْ " الْفَلَاسِفَةَ الدَّهْرِيَّةَ " الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ وَجَعَلُوهُ مُسْتَلْزِمًا لِحُدُوثِ الْعَالَمِ هُوَ مُنَاقِضٌ لِحُدُوثِ الْعَالَمِ بَلْ هُوَ مُنَاقِضٌ لِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ. فَهُمْ قَصَدُوا نَصْرَ الْإِسْلَامِ بِمَا يُنَافِي دِينَ الْإِسْلَامِ. وَلِهَذَا كَثُرَ ذَمُّ السَّلَفِ لِمَثَلِ هَذَا الْكَلَامِ وَهَذَا هُوَ أَصْلُ " الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ " عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَيُمْكِنُ عَدَمُهُ فَلَا يُوجَدُ إلَّا بِمُقْتَضٍ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ وَإِنْ جَازَ وُجُودُهُ بِدُونِ ذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الْمَخْلُوقَاتُ - الَّتِي يُمْكِنُ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا - وُجِدَتْ بِلَا فَاعِلٍ فَلَا بُدَّ لِلْمُمْكِنَاتِ مِنْ وُجُودِ وَاجِبٍ يَحْصُلُ بِهِ وُجُودُهَا وَلَا تَكُونُ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي التَّامِّ مُحْتَمِلَةً لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ؛ بَلْ يَكُونُ وُجُودُهَا لَازِمًا حَتْمًا. فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَإِذَا شَاءَ الرَّبُّ شَيْئًا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ لَا يَكُونَ؛ بَلْ يَجِبُ كَوْنُهُ بِمَشِيئَةِ الرَّبِّ تَعَالَى الْمُسْتَلْزَمَةِ لِقُدْرَتِهِ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالْحَادِثُ الَّذِي يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَيُمْكِنُ عَدَمُهُ إذَا حَدَثَ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ مَعَ اسْتِوَاءِ نِسْبَتِهِ إلَى جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَاسْتِوَاءِ نِسْبَةِ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ وَالْأَوْقَاتِ إلَى مَشِيئَةِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَدْ تُخَصَّصُ بَعْضُ الْحَوَادِثِ بِالْحُدُوثِ وَبَعْضُ

ص: 185

الْأَزْمِنَةِ بِالْحُدُوثِ مِنْ غَيْرِ مُخَصِّصٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ يَقْتَضِي الْحُدُوثَ. وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ فَاسِدٌ فِي صَرِيحِ الْعُقُولِ: فَهُوَ يُبْطِلُ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ سَبَبٌ حَادِثٌ؛ وَحِينَئِذٍ فَمَا مِنْ حَادِثٍ إلَّا وَهُوَ مَسْبُوقٌ بِحَادِثِ. وَحِينَئِذٍ: فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ إذَا كَانَ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَمْكَنَ أَنَّهُ لَا يَزَالُ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بِحَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي حُدُوثَ الْحَادِثِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَيَقْتَضِي أَنَّهُ تَجَدَّدَ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَا أَمْكَنَ ثُبُوتُهُ فِي الْأَزَلِ؛ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يُمْكِنُ اتِّصَافُ الرَّبِّ بِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ ثُبُوتُهَا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُعْطِيَ لَهُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَمُعْطِيَ غَيْرِهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الرَّبَّ تَعَالَى وَرَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَالِقُ مَا سِوَاهُ الَّذِي يُعْطِيهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَا يَكُونُ غَيْرَهُ رَبًّا لَهُ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ. وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ اتِّصَافُهُ بِالْكَلَامِ إذَا شَاءَ أَزَلًا وَأَبَدًا. قَالَ هَؤُلَاءِ: وَهَذَا الْأَصْلُ يُبْطِلُ حُجَّةَ الْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةَ الَّتِي

ص: 186

احْتَجُّوا بِهَا عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ وَعَجَزْتُمْ أَنْتُمْ مُعَاشِرَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَتْبَاعُكُمْ - مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْقَائِلِينَ بِامْتِنَاعِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ - عَنْهَا فَإِنَّهُمْ أَلْزَمُوكُمْ عَلَى أُصُولِكُمْ؛ إذْ قَدَّرْتُمْ ثُبُوتَ مَوْجُودٍ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا بَلْ يَمْتَنِعُ مِنْهُ فِي الْأَزَلِ كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ مِنْهُ: مِنْ كَلَامٍ أَوْ فِعْلٍ. فَقَالُوا: إذَا قَدَّرْنَا وُجُودَ هَذَا وَأَنَّهُ يَبْقَى دَائِمًا أَبَدًا لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا ثُمَّ تَكَلَّمَ وَفَعَلَ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ أَوْجَبَ حُدُوثَ هَذَا الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ إمَّا حُدُوثُ قُدْرَةٍ أَوْ إرَادَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ. فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ حَالُهُ فِيمَا لَا يَزَالُ كَحَالِهِ فِيمَا لَمْ يَزَلْ: امْتَنَعَ أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ كَلَامٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ غَيْرُ فِعْلٍ. فَهَذِهِ حُجَّةُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَيْكُمْ؛ وَأَنْتُمْ لَمْ تُجِيبُوهُمْ إلَّا بِالْمُكَابَرَةِ أَوْ بِالْإِلْزَامِ " فَالْمُكَابَرَةُ " دَعْوَاكُمْ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ بِلَا حُدُوثِ سَبَبٍ؛ بَلْ جَعَلْتُمْ نَفْسَ الْقُدْرَةِ أَوْ الْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ: تُخَصِّصُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَنْ الْمِثْلِ الْآخَرِ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا مَعَ أَنَّ نِسْبَتَهَا إلَى جَمِيعِ الْمُتَمَاثِلَاتِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِالضَّرُورَةِ: فَهُوَ يَسُدُّ عَلَيْكُمْ طَرِيقَ " إثْبَاتِ الصَّانِعِ " فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْحَوَادِثَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحْدِثٍ وَالْمُخَصَّصُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ وَالتَّرْجِيحُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ؛ إذَا كَانَ الْمُخَصِّصُ أَوْ الْمُرَجِّحُ مِنْ الْمُمَكَّنَاتِ أَوْ الْمُحْدَثَاتِ. وَأَمَّا " الْإِلْزَامُ " فَقَوْلُكُمْ إنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ لَازِمٌ لِلْفَلَاسِفَةِ كَمَا هُوَ

ص: 187

لَازِمٌ لَنَا. فَإِنَّ الْحَوَادِثَ إذَا امْتَنَعَ حُدُوثُهَا عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ - وَلَيْسَ عِنْدَكُمْ إلَّا الْعِلَّةُ التَّامَّةُ الْأَزَلِيَّةُ - لَزِمَ أَلَّا يَكُونَ لِلْحَوَادِثِ مُحْدِثٌ. وَأَمَّا نَحْنُ إذَا سَلَكْنَا طَرِيقَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا فَنَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ: بَلْ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَحَدَثَتْ بِأَسْبَابِ حَدَثَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ - و {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} - كَانَ مَا يَحْدُثُ حَادِثًا بِمَا شَاءَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ مِنْ كَلَامِهِ؛ لَا سِيَّمَا إذَا قِيلَ بِنَظِيرِ ذَلِكَ فِي إرَادَتِهِ سبحانه وتعالى وَأَمْكَنَنَا أَنْ نُجِيبَ الْفَلَاسِفَةَ بِجَوَابِ آخَرَ مُرَكَّبٍ عَنَّا وَعَنْكُمْ. فَنَقُولُ لَهُمْ. وُجُودُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا مُمْكِنٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ؟ . فَإِنْ قُلْتُمْ مُمْتَنِعٌ: لَزِمَكُمْ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَأَمْكَنَ حِينَئِذٍ صِحَّةُ قَوْلِ الكَرَّامِيَة وَنَحْوِهِمْ. وَإِنْ قُلْتُمْ: هُوَ مُمْكِنٌ. قِيلَ: فَمُمْكِنٌ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَالَمُ حَدَثَ بِسَبَبِ حَادِثٍ قَبْلَهُ. وَكَذَلِكَ السَّبَبُ الْآخَرُ لَا إلَى غَايَةٍ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ مَقَامَاتٌ دَقِيقَةٌ مُشْكِلَةٌ

ص: 188

بِسَبَبِهَا افْتَرَقَتْ الْأُمَّةُ وَاخْتَلَفَتْ. فَإِذَا اجْتَهَدَ الرَّجُلُ فِي مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ وَأَخْطَأَ فِي الْمَوَاضِعِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي تَشْتَبِهُ عَلَى أَذْكِيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ خَطَايَاهُ؛ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: " قَدْ فَعَلْت ".

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: وَمَنْ قَالَ: كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ إذْ الصَّوْتُ وَالْحَرْفُ لَازِمُهُمَا الْحُدُوثُ فَكَمَا لِذَاتِهِ التَّنْزِيهُ عَنْ سِمَاتِ الْخَلْقِ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ الْحَقُّ. فَيُقَالُ لَهُ: لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ وَسَائِر أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْخَالِقَ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ فَإِنَّ قِدَمَهُ ضَرُورِيٌّ؛ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى حُدُوثِهِ وَ " السِّمَةُ " هِيَ الْعَلَامَةُ وَالدَّلِيلُ. وَلَكِنْ مُنَازَعُوك فِي الصَّوْتِ وَالْحَرْفِ: جُمْهُورُ الْخَلَائِقِ؛ إذْ لَمْ يُوَافِقْ الْكُلَّابِيَة عَلَى قَوْلِهِمْ أَحَدٌ مِنْ الطَّوَائِفِ لَا الْجَهْمِيَّة وَلَا الْمُعْتَزِلَةُ وَلَا الضرارية وَلَا النجارية وَلَا الكَرَّامِيَة وَلَا السالمية وَلَا جُمْهُورُ الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ وَلَا جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَلَا الْفَلَاسِفَةُ: لَا الإلهيون وَلَا الطبائعيون عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ. وَخُصُومُهُمْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْحُرُوفُ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ فِي مَحَلٍّ مُنْفَصِلٍ عَنْ اللَّهِ كَمَا يَقُولُونَ هُمْ ذَلِكَ؛ لَكِنْ يَقُولُونَ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ لِلَّهِ

ص: 189

كَلَامٌ غَيْرُهُ كَمَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ بَلْ أَجْمَعَتْ الْأُمَمُ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَا يُعْقَلُ إلَّا كَذَلِكَ. فَإِنْ قُلْتُمْ: هَذَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. لَزِمَكُمْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ مَخْلُوقًا وَإِنْ قُلْتُمْ: لَيْسَ ذَلِكَ كَلَامَ اللَّهِ خَالَفْتُمْ الْمَعْلُومَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ وَإِنْ قُلْتُمْ نُسَمِّي هَذَا كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا كَلَامَ اللَّهِ كِلَاهُمَا حَقِيقَةً بِطْرِيق الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ. قِيلَ لَكُمْ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَخْلُوقَ فِي غَيْرِهِ هُوَ كَلَامٌ لَهُ حَقِيقَةً بَطَلَ أَصْلُ حُجَّتِكُمْ الَّتِي احْتَجَجْتُمْ بِهَا حَيْثُ قُلْتُمْ الْكَلَامُ لَا يَكُونُ كَلَامًا إلَّا لِمَنْ قَامَ بِهِ وَلَا يَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ يَحِلُّ فِي غَيْرِهِ. وَقَالُوا لَكُمْ أَيْضًا: إثْبَاتُ الْمَعْنَى الَّذِي أَثْبَتُّمُوهُ غَيْرُ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ وُجُودِهِ ثُمَّ إثْبَاتِ قِدَمِهِ ثُمَّ إثْبَاتِ حُدُوثِهِ وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ أَنْتُمْ فِيهَا مُنْقَطِعُونَ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ وَكَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ فُضَلَاءُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَ " الْفَرِيقُ الثَّانِي " يَقُولُ لَكُمْ: إنَّا نُسَلِّمُ لَكُمْ أَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ مُحْدَثَةٌ؛ لَكِنْ نَقُولُ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ فَإِنْ قُلْتُمْ هَذَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ قَالُوا لَكُمْ: وَنَفْسُ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِي تَلَقَّيْتُمُوهُ عَنْهُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ حُجَّةٌ لَا عَقْلِيَّةٌ وَلَا شَرْعِيَّةٌ

ص: 190

وَقَدْ اعْتَرَفَ فُضَلَاؤُكُمْ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَلْزَمُ جُمْهُورَ الطَّوَائِفِ. وَقَالَ لَكُمْ مُنَازِعُوكُمْ: قَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ. وَ " الْفَرِيقُ الثَّالِثُ " يَقُولُ لَكُمْ: هَبْ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ أَهِيَ مُحْدَثَةُ الْأَعْيَانِ أَمْ نَوْعُهَا مُحْدَثٌ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا مُحْدَثٌ لَمْ يَنْفَعْكُمْ. وَإِنْ قُلْتُمْ بَلْ النَّوْعُ مُحْدَثٌ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى. قِيلَ لَكُمْ: هَذَا مِمَّا يُنَازِعُكُمْ فِيهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَعَ جُمْهُورِ الْفَلَاسِفَةِ وَيُنَازِعُكُمْ فِيهِ أَئِمَّةُ الْمِلَلِ وَأَئِمَّةُ النِّحَلِ وَيُنَازِعُكُمْ فِيهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَالْأَئِمَّةُ؛ مِنْ الصَّابِئَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا ابْتَدَعَ هَذَا الْقَوْلَ فِي الْإِسْلَامِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَأَعْلَامُ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ مَعْلُومًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ وَمُبْتَدِعُهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَيْهِ. وَيَثْبُتُ بِهِ حُدُوثُ الْعَالَمِ وَالْعِلْمُ بِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَهُ: الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ وَأَنَّهُ مُنَافٍ مُضَادٌّ لِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَلِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ.

ص: 191

وَقَوْلُ الْقَائِلِ: كَمَا لِذَاتِهِ التَّنْزِيهُ عَنْ سِمَاتِ الْخَلْقِ فَكَذَلِكَ لِقَوْلِهِ الْحَقَّ. فَهَذَا مِنْ جِنْسِ سَجْعِ الْكُهَّانِ الَّذِي لَا يُقِيمُ حَقًّا وَلَا يُبْطِلُ بَاطِلًا فَهَلْ تَقُولُ إنَّ كُلَّ مَا وُصِفَ بِهِ الرَّبُّ مِنْ الصِّفَاتِ يَتَّصِفُ بِهِ كُلُّ مَا لَهُ مِنْ الْكَلِمَاتِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الصِّفَاتِ؟ وَإِذَا قِيلَ: إنَّ الرَّبَّ تَعَالَى إلَهٌ قَادِرٌ خَالِقٌ مَعْبُودٌ فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ كَلِمَاتِهِ وَصِفَاتِهِ إلَهًا قَادِرًا خَالِقًا مَعْبُودًا؟ وَهَذَا الْقَوْلُ يُضَاهِي قَوْلَ النَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا: كَمَا أَنَّ أُقْنُومَ الْوُجُودِ إلَهٌ فَكَذَلِكَ أُقْنُومُ الْكَلِمَةِ وَالرُّوحِ فَيُثْبِتُونَ لِلصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي أَثْبَتُوهَا لِلذَّاتِ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَهُ كَلَامٌ قَائِمٌ بِمَحَلِّ لَا يُوجَدُ بِغَيْرِهِ إذْ لَا بُدَّ لِلْكَلَامِ مِنْ مَحَلٍّ لَا يُوجَدُ الْكَلَامُ بِدُونِهِ فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَفْتَقِرَ الرَّبُّ إلَى مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ كَمَا يَفْتَقِرُ الْكَلَامُ إلَى ذَلِكَ؟ وَلَكِنْ يَجِبُ تَنْزِيهُ كَلَامِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ؛ إذْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْكَمَالِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَخْلُوَ عَنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مِنْ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَعَ أَنَّهُ يَتَّصِفُ بِهَا بَعْضُ مَخْلُوقَاتِهِ فَالْمَوْصُوفُ الْوَاجِبُ الْوُجُودُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ أَحَقُّ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَكُلُّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِمَخْلُوقِ فَمِنْ الْخَالِقِ اسْتَفَادَهُ وَالْخَالِقُ أَوْهَبَهُ إيَّاهُ وَأَعْطَاهُ فَوَاهِبُ الْكَمَالِ وَمُعْطِيهِ أَحَقُّ بِهِ وَأَوْلَى.

ص: 192

وَهَذَا مِمَّا يُعَبِّرُ عَنْهُ كُلُّ قَوْمٍ بِاصْطِلَاحِهِمْ حَتَّى تَقُولَ الْمُتَفَلْسِفَةُ: كُلُّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِلْمَعْلُولِ فَهُوَ مِنْ كَمَالِ الْعِلَّةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَخْلُوقَ الَّذِي خُلِقَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ أَصْلًا؛ بَلْ كَلُّ مَا لَهُ فَمِنْ خَالِقِهِ سبحانه وتعالى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلْتَعْلَمْ أَنَّ الْحَرْفَ اللِّسَانِيَّ وَالْحَرْفَ الْبَنَانِيَّ: كِلَاهُمَا مُقَيَّدٌ بِزَمَانِ يَصْرِفُهُ الْمَوْلَى مُتَكَلِّمٌ قَبْلَ الزَّمَانِ فَتَعَالَى كَلَامُهُ عَنْ أَنَّ تَكْتَنِفَهُ الحدثان فَقَدْ عَرَفَ مُنَازَعَةَ الْمُنَازِعِينَ لَهُ فِي هَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا مُجَرَّدَ الدَّعْوَى وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ تَصَوُّرَ الدَّعْوَى مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ وَأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَيْهَا مُقَدِّمَاتٌ يُنَازِعُهُ فِيهَا جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ وَآخِرُهَا يَنْتَهِي إلَى مُقَدِّمَاتٍ تَلَقَّوْهَا عَنْ شُيُوخِهِمْ الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَإِنَّ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةَ إنَّمَا أَخَذُوا مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْكَلَامِ وَمَادَّتَهُ مِنْهُمْ. وَقَدْ عُرِفَ حَالُهُمْ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ الْمَوْلَى مُتَكَلِّمٌ قَبْلَ الزَّمَانِ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ سبحانه وتعالى قَبْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَقَبْلَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فَهَذَا حَقٌّ؛ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ كُلَّ مَا كَلَّمَ بِهِ عِبَادَهُ وَيُكَلِّمُهُمْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ؟ وَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّهُ قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ كَانَ مُنَادِيًا لِمُوسَى قَائِلًا لَهُ: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ؟

ص: 193

وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ سبحانه وتعالى قَبْلَ مَا يُوصَفُ بِالْقَبْلِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الزَّمَانَ مِقْدَارُ الْفِعْلِ وَالْحَرَكَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الْأَزَلِ فَقَدْ عَرَفَ أَنَّ أَئِمَّةَ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ يُنَازِعُونَهُ فِي هَذَا مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْمِلَلِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَقَوْلُهُ: إنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ أَدَاتَانِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ كَمَا يُعَبِّرُ الْإِنْسَانُ عَمَّا قَامَ بِهِ مِنْ الطَّلَبِ. تَارَةً بِالْبَنَانِ وَتَارَةً بِاللِّسَانِ وَتَارَةً بِالرَّأْسِ عِنْدَ طَلَبِ الرَّوَاحِ وَعِنْدَ طَلَبِ الْإِتْيَانِ فَهَذَا مَذْهَبُ الْحَقِّ وَمَرْكَبُ الصِّدْقِ. فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا عَلَيْهِ اعْتِرَاضَاتٌ: " أَحَدُهَا " أَنْ يُقَالَ: مَا ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ؟ أَهُوَ وَاحِدٌ كَمَا يَقُولُهُ الْأَشْعَرِيُّ وَهُوَ عِنْدَهُ مَدْلُولُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَدْلُولُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَالدِّينِ وَمَدْلُولِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَسُورَةِ الْكَوْثَرِ؟ أَمْ هُوَ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ؟ فَإِنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ: كَانَ فَسَادُهُ مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ ثُمَّ يُقَالُ: التَّصْدِيقُ فَرْعُ التَّصَوُّرِ وَنَحْنُ لَا نَتَصَوَّرُ هَذَا فَبَيِّنْ لَنَا مَعْنَاهُ. ثُمَّ تَكَلَّمْ عَلَى إثْبَاتِهِ فَإِنْ قَالَ: هُوَ نَظِيرُ الْمَعَانِي الْمَوْجُودَةِ فِينَا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ بَعْدَ النُّزُولِ عَمَّا يَحْتَمِلُهُ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الَّذِي فِينَا مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ وَإِمَّا مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ أَمْرٌ بِكُلِّ مَأْمُورٍ بِهِ وَخَبَرٌ عَنْ كُلِّ مَخْبَرٍ عَنْهُ فَهَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ.

ص: 194

" الثَّانِي " أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ مُتَصَوَّرٌ. فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِهِ؟ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى قِدَمِهِ؟ . " الثَّالِثُ " أَنْ يُقَالَ: قَوْلُك الصَّوْتُ وَالْحَرْفُ عِبَارَةٌ عَنْهُ. أَتَعْنِي بِهِ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ أَوْ الْحُرُوفَ الْمَوْجُودَةَ فِي التِّلَاوَةِ وَالْمَصَاحِفِ وَإِمَّا حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا غَيْرَ هَذِهِ. فَإِنْ قُلْت بِالْأَوَّلِ كَانَ بَاطِلًا مِنْ وُجُوهٍ: " أَحَدُهَا ": أَنَّهُ كُلُّ مَنْ أَجَادَ الْقِرَاءَةَ عُبِّرَ عَمَّا فِي نَفْسِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عُبِّرَ عَمَّا فِي نَفْسِهِ فَيَكُونُ الْمَخْلُوقُ أَقْدَرَ مِنْ الْخَالِقِ. " الثَّانِي " أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْقُرَّاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَفْقَهُونَ أَكْثَرَ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَالتَّعْبِيرُ عَمَّا فِي نَفْسِ الْمُعَبِّرِ فَرْعٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ جَمِيعَ مَعَانِي الْقُرْآنِ - كَلَامِ اللَّهِ - فَكَيْفَ يُعَبِّرُ عَنْ تِلْكَ الْمَعَانِي " الثَّالِثُ " أَنَّ النَّاسَ لَا يَفْهَمُونَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ إلَّا بِدَلَالَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى مَعَانِيهِ؛ فَإِذَا سَمِعُوا أَلْفَاظَهُ وَتَدَبَّرُوهُ كَانَ اللَّفْظُ لَهُمْ دَلِيلًا عَلَى الْمَعَانِي وَالْمُسْتَدِلُّ بِاللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ الْمُتَكَلِّمُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُعَبِّرَ بِاللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْمُعَبِّرَ بِاللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى يَعْرِفُ الْمَعْنَى أَوَّلًا

ص: 195

ثُمَّ يَدُلُّ غَيْرَهُ عَلَيْهِ بِالْعِبَارَةِ وَالنَّاسُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ضِدِّ هَذِهِ الْحَالِ؛ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْمُعَبِّرِينَ بِهِ.

" الرَّابِعُ " أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ مِنْ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ إلَّا الْحِفْظُ وَالتَّبْلِيغُ وَالْأَدَاءُ؛ بَلْ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا حَفِظَ خُطَبَ الْخُطَبَاءِ وَشِعْرَ الشُّعَرَاءِ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُعَبِّرَ عَمَّا فِي أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ الْكَلَامِ؛ بَلْ يَكُونُ الْكَلَامُ كَلَامَهُمْ وَهُوَ قَدْ حَفِظَهُ وَأَدَّاهُ وَبَلَّغَهُ. فَكَيْفَ بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " الْخَامِسُ " إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ نَفْسَ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ وُجُودِ كُلِّ الْقُرَّاءِ وَأَنَّ النَّاسَ إنَّمَا تَلَقَّوْهُ عَنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ. وَإِنْ قُلْت: بَلْ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ الْمُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْمَعَانِي الَّتِي أَرَادَهَا اللَّهُ مِنْ حُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِ الْقُرَّاءِ: وَلَكِنْ كُلٌّ مِنْ الْقُرَّاءِ حَفِظَ ذَلِكَ النَّظْمَ الْعَرَبِيَّ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَهُ قِيلَ لَك. فَحِينَئِذٍ قَدْ كَانَ ثَمَّ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ غَيْرُ هَذِهِ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مِنْ الْقُرَّاءِ وَغَيْرُ الْمِدَادِ الْمَكْتُوبِ فِي الْمَصَاحِفِ وَهَذَا هُوَ

ص: 196

الْحَقُّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهُ مَا ثَمَّ إلَّا الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ أَوْ هَذِهِ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ لَيْسَ بِحَقِّ. وَيُقَالُ لَهُ حِينَئِذٍ: فَتِلْكَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ أَهِيَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ؟ أَمْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ خَلَقَهَا فِي غَيْرِهِ؟ فَإِنْ قُلْت: هِيَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَزِمَك مَا فَرَرْت مِنْهُ حَيْثُ أَقْرَرْت أَنَّ لِلَّهِ كَلَامًا هُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ كَمَا يَقُولُهُ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ قُلْت: لَيْسَتْ كَلَامًا لِلَّهِ فَهَذِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا لِلَّهِ. وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ هَذَا الْقُرْآنُ كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَنْ قَالَ لَفْظِي عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ: فَقَدْ انْسَلَخَ عَنْ رِبْقَةِ الْعَقْلِ وَغَرِقَ فِي بَحْرِ العماية وَالْجَهْلِ. فَيُقَالُ: قَوْلُ الْقَائِلِ: لَفْظِي " عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ " كَلَامٌ مُجْمَلٌ. فَإِنَّ " اللَّفْظَ " فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا كَمَا أَنَّ " التِّلَاوَةَ وَالْقِرَاءَةَ " فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ تَلَا يَتْلُو وَقَرَأَ يَقْرَأُ وَيُعَبِّرُ بِاللَّفْظِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ عَنْ نَفْسِ الْكَلَامِ الْمَلْفُوظِ بِهِ الْمَتْلُوِّ الْمَقْرُوءِ. فَإِنَّ النَّاسَ إذَا قَالُوا: اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى. لَمْ يُرِيدُوا بِاللَّفْظِ الْمَصْدَرَ؛ بَلْ يُرِيدُونَ بِهِ الْمَلْفُوظَ بِهِ. وَإِذَا قَالُوا لِمَنْ سَمِعُوهُ يَتَكَلَّمُ: هَذِهِ أَلْفَاظٌ حَسَنَةٌ أَرَادُوا بِهِ مَا يَلْفِظُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ

ص: 197

قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} يُرَادُ بِاللَّفْظِ نَفْسُ الْفِعْلِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْقَوْلِ الَّذِي لَفَظَهُ اللَّافِظُ. وَهَذَا كَ " الْقُرْآنِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} وَالْقُرْآنُ هُنَا مَصْدَرٌ كَمَا فِي الْآيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِك ثُمَّ أَنْ تَقْرَأَهُ بِلِسَانِك فَإِذَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ فَاسْتَمِعْ لِقِرَاءَتِهِ. ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ. وَقَدْ يُرَادُ بِ " الْقُرْآنِ " نَفْسُ الْكَلَامِ الْمَقْرُوءِ كَمَا قَالَ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وَقَوْلُهُ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَقَوْلُ الْقَائِلِ لَفْظِي: هُوَ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ. إنْ أَرَادَ بِهِ الْمَصْدَرَ فَقَدْ أَخْطَأَ فَإِنَّ نَفْسَ حَرَكَاتِهِ لَيْسَتْ هِيَ كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ يَفْهَمُ مَا يَقُولُ. وَإِنْ أَرَادَ " الثَّانِيَ ": كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَتْلُوهُ هُوَ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ النَّاسُ إذَا قَالُوا: الَّذِي يَقْرَأُ

ص: 198

الْقُرَّاءُ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ وَهَذَا الَّذِي نَسْمَعُهُ مِنْ الْقُرَّاءِ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ وَهَذَا الَّذِي يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ لَا يَقْصِدُ أَحَدٌ أَنْ يَجْعَلَ حَرَكَاتِ الْعِبَادِ نَفْسَ كَلَامِهِ. ثُمَّ إذَا قَالَ الْقَائِلُ هَذَا فَقَدْ وَافَقَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} بَلْ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ: أَنَّ هَذَا الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَكْتُبُونَهُ فِي مَصَاحِفِهِمْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ. تَارَةً يُسْمَعُ مِنْهُ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَتَارَةً يُسْمَعُ مِنْ الْمُتَلَقِّينَ عَنْهُ كَمَا سَمِعَهُ الصَّحَابَةُ مِنْ الرَّسُولِ فَهَذَا الَّذِي نَسْمَعُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ مُتَلَقًّى عَنْهُ مَسْمُوعًا مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} . وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ مَنْ قَالَهُ آمِرًا بِأَمْرِهِ مُخْبِرًا بِخَبَرِهِ مُبْتَدِئًا بِهِ لَا كَلَامُ مَنْ بَلَّغَهُ عَنْ غَيْرِهِ وَأَدَّاهُ. فَالنَّاسُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَلَيْسَ هُوَ كَلَامَهُمْ؛ وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ يَقْرَءُونَهُ بِأَفْعَالِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ. وَإِذَا كَانَ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَلَامُ غَيْرِهِ إذَا رَوَاهُ النَّاسُ عَنْهُ وَبَلَّغُوهُ وَقَرَءُوهُ فَهُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ وَالنَّبِيُّ

ص: 199

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِلَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعْنَاهُ وَتَكَلَّمَ بِهِ بِحُرُوفِ وَأَصْوَاتٍ مَعَ أَنَّ أَصْوَاتَ الرُّوَاةِ لَيْسَتْ صَوْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَالْقُرْآنُ إذَا قَرَأَهُ النَّاسُ وَبَلَّغُوهُ بِأَصْوَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ: كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَسْمَعُوهُ مِنْ اللَّهِ؛ بَلْ مِنْ الْخَلْقِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ: أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ إنَّ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ؛ بَلْ قَوْلُ النَّاسِ لِمَا بُلِّغَ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ إنَّ هَذَا كَلَامُ فُلَانٍ حَقٌّ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ النَّاسِ؛ لَكِنْ عَرَضَتْ شُبْهَةٌ لِكَثِيرِ مِنْ الْمُتَنَطِّعِينَ فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا إذَا سَمِعَ كَلَامَ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ فَظَنُّوا أَنَّهُ إذَا قَالَ: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} كَانَ بِمَنْزِلَةِ سَمَاعِ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ. فَقَالَتْ " طَائِفَةٌ " الْمَسْمُوعُ أَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ هُوَ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ فَلَا يَكُونُ الْمَسْمُوعُ كَلَامَ اللَّهِ. وَقَالَتْ " طَائِفَةٌ " بَلْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَهَذَا مَخْلُوقٌ؛ فَكَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ. وَقَالَتْ " طَائِفَةٌ ": بَلْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ.

ص: 200

وَهَذَا إذَا أَطْلَقُوهُ " مُجْمَلًا " فَهُوَ حَقٌّ؛ لَكِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا لَفْظِي أَوْ تِلَاوَتِي أَوْ صَوْتِي؛ فَلَفْظِي أَوْ تِلَاوَتِي أَوْ صَوْتِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ فَضَلُّوا كَمَا ضَلَّ غَيْرُهُمْ؛ وَلَوْ اهْتَدَوْا لَعَلِمُوا أَنَّا إذَا قُلْنَا: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ فَلَمْ نُشِرْ إلَيْهِ بِمَا امْتَازَ قَارِئٌ عَنْ قَارِئٍ إذَا كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ مَا يُسْمَعُ مِنْ كُلِّ قَارِئٍ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ صَوْتَ هَذَا الْقَارِئِ لَيْسَ هُوَ صَوْتَ هَذَا الْقَارِئِ فَقَدْ اتَّحَدَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ. وَاخْتَلَفَ مِنْ جِهَةِ أَصْوَاتِ الْقُرَّاءِ. وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ الْمُتَّحِدَةِ لَا بِاعْتِبَارِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَحْوَالُ الْقُرَّاءِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَلَفْظُهُ هُوَ الْحُرُوفُ الْمَقْرُوءَةُ الْمَنْظُومَةُ. وَإِنْ كَانَتْ الْحُرُوفُ أَصْوَاتًا مُقَطَّعَةً أَوْ هِيَ أَطْرَافُ الْأَصْوَاتِ الْمُقَطَّعَةِ فَهِيَ مِنْ الْكَلَامِ بِاعْتِبَارِ صُورَتِهَا الْخَاصَّةِ مِنْ التَّقْطِيعِ وَالتَّأْلِيفِ لَا بِاعْتِبَارِ الْمَادَّةِ الصَّوْتِيَّةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الصَّائِتِينَ؛ وَلِهَذَا مَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مِنْ بَلَاغَةٍ وَبَيَانٍ وَحُسْنِ تَأْلِيفٍ وَنَظْمٍ وَكَمَالِ مَعَانٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ لِلْمُتَكَلِّمِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ هُوَ لِمُجَرَّدِ صِفَاتِ الَّذِي بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: مَنْ قَالَ إنَّ مَذْهَبَ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ أَوْ قَرِيبٌ أَوْ سَوَاءٌ مَعَهُ فَهُوَ جَاهِلٌ بِمَذْهَبِ الْفَرِيقَيْنِ؛ إذْ الْجَهْمِيَّة

ص: 201

قَائِلُونَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَبِخَلْقِ جَمِيع. . . (1)

وَالْأَشْعَرِيُّ يَقُولُ بِقِدَمِ الْقُرْآنِ وَإِنَّ كَلَامَ الْإِنْسَانِ مَخْلُوقٌ لِلرَّحْمَنِ فَوَضَحَ لِلَّبِيبِ كُلٌّ مِنْ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ. فَيُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمُثْبِتَةِ لِلصِّفَاتِ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة بَلْ وَلَا الْمُعْتَزِلَةِ بَلْ هَؤُلَاءِ لَهُمْ مُصَنَّفَاتٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَبَيَانِ تَضْلِيلِ مَنْ نَفَاهَا بَلْ هُمْ تَارَةً يُكَفِّرُونَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ وَتَارَةً يُضَلِّلُونَهُمْ. لَا سِيَّمَا وَالْجَهْمُ هُوَ أَعْظَمُ النَّاسِ نَفْيًا لِلصِّفَاتِ بَلْ وَلِلْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى. قَوْلُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْبَاطِنِيَّةِ الْقَرَامِطَةِ حَتَّى ذَكَرُوا عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى اللَّهُ شَيْئًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا الْمَخْلُوقُ. لِأَنَّ ذَلِكَ بِزَعْمِهِ مِنْ التَّشْبِيهِ الْمُمْتَنِعِ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُسَمِّيهِ إلَّا " قَادِرًا فَاعِلًا "؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِقَادِرِ وَلَا فَاعِلٍ إذْ كَانَ هُوَ رَأْسَ الْمُجْبِرَةِ. وَقَوْلُهُ فِي الْإِيمَانِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُ الْإِيمَانَ إلَّا مُجَرَّدَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ. وَابْنُ كُلَّابٍ " إمَامُ الْأَشْعَرِيَّةِ أَكْثَرُ مُخَالَفَةً لِجَهْمِ وَأَقْرَبُ إلَى السَّلَفِ

(1)

بياض بالأصل

ص: 202

مِنْ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ وَالْأَشْعَرِيُّ أَقْرَبُ إلَى السَّلَفِ مِنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَانِي. وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَأَمْثَالُهُ أَقْرَبُ إلَى السَّلَفِ مِنْ أَبِي الْمَعَالِي وَأَتْبَاعِهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ نَفَوْا الصِّفَاتِ: كَالِاسْتِوَاءِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ تَتَأَوَّلُ أَوْ تُفَوَّضُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْ طَرِيقَيْنِ فَأَوَّلُ قَوْلَيْ أَبِي الْمَعَالِي هُوَ تَأْوِيلُهَا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي " الْإِرْشَادِ " وَآخِرُ قَوْلَيْهِ تَحْرِيمُ التَّأْوِيلِ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي " الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ " وَاسْتَدَلَّ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ التَّأْوِيلَ لَيْسَ بِسَائِغِ وَلَا وَاجِبٍ. وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ نَفْسُهُ وَأَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُمْ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَفِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَتَأَوَّلُهَا كَمَنْ يَقُولُ: اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى. وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِهِ كُلِّهَا كَ " الْمُوجَزِ الْكَبِيرِ " وَ " الْمَقَالَاتِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ " وَ " الْإِبَانَةِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَكَذَا نَقَلَ سَائِر النَّاسِ عَنْهُ حَتَّى الْمُتَأَخِّرُونَ كَالرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ يَنْقُلُونَ عَنْهُ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَلَا يَحْكُونَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْأَشْعَرِيَّ كَانَ يَنْفِيهَا وَأَنَّ لَهُ فِي تَأْوِيلِهَا قَوْلَيْنِ: فَقَدْ افْتَرَى عَلَيْهِ؛ وَلَكِنْ هَذَا فِعْلُ طَائِفَةٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَنَحْوِهِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَدْخَلُوا فِي مَذْهَبِهِ أَشْيَاءَ مِنْ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ.

ص: 203

وَ " الْأَشْعَرِيُّ " اُبْتُلِيَ بِطَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةٌ تُبْغِضُهُ وَطَائِفَةٌ تُحِبُّهُ كُلٌّ مِنْهُمَا يَكْذِبُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: إنَّمَا صَنَّفَ هَذِهِ الْكُتُبَ تَقِيَّةً وَإِظْهَارًا لِمُوَافَقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى الرَّجُلِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَهُ قَوْلٌ بَاطِنٌ يُخَالِفُ الْأَقْوَالَ الَّتِي أَظْهَرَهَا وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ مِنْ خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ وَلَا غَيْرُهُمْ عَنْهُ مَا يُنَاقِضُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْمَوْجُودَةَ فِي مُصَنَّفَاتِهِ. فَدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ كَانَ يُبْطِنُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ دَعْوَى مَرْدُودَةٌ شَرْعًا وَعَقْلًا؛ بَلْ مَنْ تَدَبَّرَ كَلَامَهُ فِي هَذَا الْبَابِ - فِي مَوَاضِعَ - تَبَيَّنَ لَهُ قَطْعًا أَنَّهُ كَانَ يَنْصُرُ مَا أَظْهَرَهُ؛ وَلَكِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيُخَالِفُونَهُ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ يَقْصِدُونَ نَفْيَ ذَلِكَ عَنْهُ لِئَلَّا يُقَالُ: إنَّهُمْ خَالَفُوهُ مَعَ كَوْنِ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ السُّنَّةِ قَدْ اقْتَدَوْا فِيهِ بِحُجَّتِهِ الَّتِي عَلَى ذِكْرِهَا يُعَوِّلُونَ وَعَلَيْهَا يَعْتَمِدُونَ. وَ " الْفَرِيقُ الْآخَرُ ": دَفَعُوا عَنْهُ لِكَوْنِهِمْ رَأَوْا الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ لَا يُظْهِرُونَ إلَّا خِلَافَ هَذَا الْقَوْلِ وَلِكَوْنِهِمْ اتَّهَمُوهُ بِالتَّقِيَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ انْتَصَرَ لِلْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّتِي خَالَفَهُمْ فِيهَا الْمُعْتَزِلَةُ؛ كَمَسْأَلَةِ " الرُّؤْيَةِ " وَ " الْكَلَامِ " وَإِثْبَاتِ " الصِّفَاتِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لَكِنْ كَانَتْ خِبْرَتُهُ بِالْكَلَامِ خِبْرَةٌ مُفَصَّلَةٌ وَخِبْرَتُهُ بِالسُّنَّةِ خِبْرَةٌ مُجْمَلَةٌ؛ فَلِذَلِكَ وَافَقَ الْمُعْتَزِلَةَ فِي بَعْضِ أُصُولِهِمْ الَّتِي الْتَزَمُوا لِأَجْلِهَا خِلَافَ السُّنَّةِ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ تِلْكَ الْأُصُولِ وَبَيْنَ الِانْتِصَارِ

ص: 204

لِلسُّنَّةِ كَمَا فَعَلَ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ وَالصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمُخَالِفُونَ لَهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ يَقُولُونَ: إنَّهُ مُتَنَاقِضٌ وَإِنَّ مَا وَافَقَ فِيهِ الْمُعْتَزِلَةَ يُنَاقِضُ مَا وَافَقَ فِيهِ أَهْلَ السُّنَّةِ كَمَا أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَتَنَاقَضُونَ فِيمَا نَصَرُوا فِيهِ دِينَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُمْ بَنَوْا كَثِيرًا مِنْ الْحُجَجِ عَلَى أُصُولٍ تُنَاقِضُ كَثِيرًا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ؛ بَلْ جُمْهُورُ الْمُخَالِفِينَ لِلْأَشْعَرِيِّ مِنْ الْمُثْبِتَةِ والْنُّفَاةِ يَقُولُونَ: إنَّمَا قَالَهُ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ: مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ. وَلِهَذَا يَقُولُ أَتْبَاعُهُ: إنَّهُ لَمْ يُوَافِقْنَا أَحَدٌ مِنْ الطَّوَائِفِ عَلَى قَوْلِنَا فِي " مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ "؛ فَلَمَّا كَانَ فِي كَلَامِهِ شَوْبٌ مِنْ هَذَا وَشَوْبٌ مِنْ هَذَا: صَارَ يَقُولُ مَنْ يَقُولُ إنَّ فِيهِ نَوْعًا مِنْ التَّجَهُّمِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ قَوْلُ جَهْمٍ فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ قَوْلِ جَهْمٍ فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْكَلَامَ بِعِلْمِ وَعَدْلٍ وَإِعْطَاءَ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَتَنْزِيلَ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ. وَقَوْلُ جَهْمٍ هُوَ النَّفْيُ الْمَحْضُ لِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَمُنْحَرِفِي الْمُتَفَلْسِفَةِ: كالفارابي وَابْنِ سِينَا. وَأَمَّا مُقْتَصِدَةُ الْفَلَاسِفَةِ كَأَبِي الْبَرَكَاتِ صَاحِبِ الْمُعْتَبَرِ وَابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ - فَفِي قَوْلِهِمْ مِنْ الْإِثْبَاتِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ جَهْمٍ؛ فَإِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُمْ إثْبَاتُ الْأَسْمَاءِ

ص: 205

الْحُسْنَى وَإِثْبَاتُ أَحْكَامِ الصِّفَاتِ فَفِي الْجُمْلَةِ قَوْلُهُمْ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ جَهْمٍ وَقَوْلُ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو الْكُوفِيِّ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ. وَأَمَّا ابْنُ كُلَّابٍ والقلانسي وَالْأَشْعَرِيُّ فَلَيْسُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ بَلْ هَؤُلَاءِ مَعْرُوفُونَ بالصفاتية مَشْهُورُونَ بِمَذْهَبِ الْإِثْبَاتِ؛ لَكِنْ فِي أَقْوَالِهِمْ شَيْءٌ مِنْ أُصُولِ الْجَهْمِيَّة وَمَا يَقُولُ النَّاسُ إنَّهُ يُلْزِمُهُمْ بِسَبَبِهِ التَّنَاقُضُ وَإِنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَإِنَّهُمْ قَالُوا مَا لَا يُعْقَلُ وَيَجْعَلُونَهُمْ مُذَبْذَبِينَ لَا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ فَهَذَا وَجْهُ مَنْ يَجْعَلُ فِي قَوْلِهِمْ شَيْئًا مِنْ أَقْوَالِ الْجَهْمِيَّة كَمَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ - كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - كَانُوا يَقُولُونَ: افْتَرَقَتْ الْجَهْمِيَّة عَلَى " ثَلَاثِ فِرَقٍ ": فِرْقَةٌ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَفِرْقَةٌ تَقِفُ وَلَا تَقُولُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَفِرْقَةٌ تَقُولُ: أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ إنَّمَا أَرَادُوا بِذَلِكَ افْتِرَاقَهُمْ فِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " خَاصَّةً وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ وَالرُّؤْيَةَ وَالِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ وَجَعَلُوهُ مِنْ الْجَهْمِيَّة فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ: أَيْ أَنَّهُ وَافَقَ الْجَهْمِيَّة فِيهَا؛ لِيَتَبَيَّنَ ضَعْفُ قَوْلِهِ لَا أَنَّهُ مِثْلُ الْجَهْمِيَّة وَلَا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُهُمْ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مَنْ يَعْرِفُ مَا يَقُولُ. وَلِهَذَا عَامَّةُ كَلَامِ أَحْمَد إنَّمَا هُوَ يُجَهِّمُ اللَّفْظِيَّةَ لَا يَكَادُ يُطْلِقُ الْقَوْلَ بِتَكْفِيرِهِمْ كَمَا يُطْلِقُهُ بِتَكْفِيرِ المخلوقية وَقَدْ نُسِبَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: كَالْحُسَيْنِ الكرابيسي وَنُعَيْمِ

ص: 206

ابْنِ حَمَّادٍ الخزاعي والبويطي وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيَّ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ الْبُخَارِيَّ.

وَالْقَوْلُ بِأَنَّ " اللَّفْظَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ " نُسِبَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذهلي وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِي؛ بَلْ وَبَعْضُ النَّاسِ يَنْسُبُهُ إلَى أَبِي زُرْعَةَ أَيْضًا وَيَقُولُ إنَّهُ هُوَ وَأَبُو حَاتِمٍ هَجَرَا الْبُخَارِيَّ لَمَّا هَجَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذهلي وَالْقِصَّةُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ. وَبَعْدَ مَوْتِ أَحْمَد " وَقَعَ بَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَبَعْضِهِمْ وَبَيْنَ طَوَائِفَ مِنْ غَيْرِهِمْ بِهَذَا السَّبَبِ وَكَانَ أَهْلُ الثَّغْرِ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُد المصيصي شَيْخِ أَبِي دَاوُد يَقُولُونَ بِهَذَا. فَلَمَّا وَلِيَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَد قَضَاءَ الثَّغْرِ: طَلَبَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ المروذي أَنْ يُظْهِرَ لِأَهْلِ الثَّغْرِ " مَسْأَلَةَ أَبِي طَالِبٍ " فَإِنَّهُ قَدْ شَهِدَهَا صَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا أَحْمَد والمروذي وفوران وَغَيْرُهُمْ. وَصَنَّفَ المروذي كِتَابًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَرْسَلَ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُلَمَاءِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمْ؛ فَوَافَقُوهُ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَبَسَطَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ. وَمَعَ هَذَا فَطَوَائِفُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَإِلَى اتِّبَاعِ أَحْمَد كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده وَأَبِي نَصْرٍ السجزي وَأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ

ص: 207

وَأَبِي الْعَلَاءِ الهمداني وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَيَقُولُونَ: إنَّ هَذَا قَوْلُ أَحْمَد. وَيُكَذِّبُونَ - أَوْ مِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ - بِرِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَيَقُولُونَ: إنَّهَا مُفْتَعَلَةٌ عَلَيْهِ أَوْ يَقُولُونَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو نَصْرٍ السجزي فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةِ " الْمَشْهُورِ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَحْمَدَ وَأَخَصَّ النَّاسِ وَأَصْدَقَ النَّاسِ فِي النَّقْلِ عَنْهُ هُمْ الَّذِينَ رَوَوْا ذَلِكَ عَنْهُ؛ وَلَكِنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِأَقْوَالِ أَحْمَد مَا لِأَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ هُمْ أَخَصُّ بِهِ. وَأَعْظَمُ مَا وَقَعَتْ فِتْنَةُ " اللَّفْظِ " بِخُرَاسَانَ وَتَعَصَّبَ فِيهَا عَلَى الْبُخَارِيِّ - مَعَ جَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ - وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ قَامُوا عَلَيْهِ أَيْضًا أَئِمَّةٌ أَجِلَّاءٌ فَالْبُخَارِيُّ رضي الله عنه مِنْ أَجَلِّ النَّاسِ. وَإِذَا حَسُنَ قَصْدُهُمْ وَاجْتَهَدَ هُوَ وَهْم أَثَابَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ عَلَى حُسْنِ الْقَصْدِ وَالِاجْتِهَادِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ أَوْ مِنْهُمْ بَعْضُ الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ فَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ كُلِّهِمْ؛ لَكِنَّ مِنْ الْجُهَّالِ مَنْ لَا يَدْرِي كَيْفَ وَقَعَتْ الْأُمُورُ حَتَّى رَأَيْت بِخَطِّ بَعْضَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ لَهُمْ عِلْمٌ وَدِينٌ يَقُولُ: مَاتَ الْبُخَارِيُّ بِقَرْيَةِ خرتنك فَأَرْسَلَ أَحْمَد إلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ يَأْمُرُهُمْ أَنْ لَا يُصَلُّوا عَلَيْهِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ فِي " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ " وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْكَذِبِ عَلَى أَحْمَد وَالْبُخَارِيِّ وَكَاذِبُهُ جَاهِلٌ بِحَالِهِمَا. فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ رضي الله عنه تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ بَعْدَ مَوْتِ أَحْمَد بخمسة عَشَرَ

ص: 208

سَنَةً فَإِنَّ أَحْمَد تُوَفِّي سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَكَانَ أَحْمَد مُكْرِمًا لِلْبُخَارِيِّ مُعَظِّمًا. وَأَمَّا تَعْظِيمُ الْبُخَارِيِّ وَأَمْثَالِهِ لَأَحْمَدَ فَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ. وَالْبُخَارِيُّ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ فِي " خَلْقِ الْأَفْعَالِ " أَنَّ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ لَا تَفْهَمُ كَلَامَ أَحْمَد. وَمِنْ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى الْمُنْتَسِبَةِ إلَى السُّنَّةِ وَأَتْبَاعِ أَحْمَد: أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني وَأَبُو بَكْرٍ البيهقي وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لَأَحْمَدَ وَإِنَّ قَوْلَهُمْ فِي " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ " مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَحْمَد. وَوَقَعَ بَيْنَ ابْنِ منده وَأَبِي نُعَيْمٍ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُشَاجَرَةٌ حَتَّى صَنَّفَ أَبُو نُعَيْمٍ كِتَابَهُ فِي " الرَّدِّ عَلَى الحروفية الْحُلُولِيَّةِ " وَصَنَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ كِتَابَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى " اللَّفْظِيَّةِ ". وَالْمُنْتَصِرُونَ لِلسُّنَّةِ - مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ: كَالْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمْ - يُوَافِقُونَ أَحْمَد عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَعَلَى مَنْ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَكِنْ يَجْعَلُونَ سَبَبَ الْكَرَاهَةِ كَوْنَ الْقُرْآنِ لَا يُلْفَظُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الطَّرْحُ وَالرَّمْيُ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ تَكَلُّمَ اللَّهِ بِالصَّوْتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِذَلِكَ؛ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ هُوَ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ وَيُنْكِرُونَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْكَرَاهَةَ

ص: 209

فِي ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الطَّرْحِ وَالرَّمْيِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ظَنُّوهُ. فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُنْكِرُوا قَوْلَ الْقَائِلِ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِكَوْنِ اللَّفْظِ الطَّرْحَ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَنْكَرُوا إلَّا مُجَرَّدَ مَا يَتَصَرَّفُ مِنْ حُرُوفِ لَفَظَ يُلْفَظُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ التِّلَاوَةُ وَالْقِرَاءَةُ مَخْلُوقَةٌ وَعَلَى مَنْ قَالَ: تِلَاوَتِي وَقِرَاءَتِي غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ مَعَ جَوَازِ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: قَرَأْت الْقُرْآنَ وَتَلَوْته. وَ " أَيْضًا " فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَفَظْت الْكَلَامَ وَتَلَفَّظْت بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَلَكِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ قَالُوا: مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِي أَوْ قِرَاءَتِي مَخْلُوقَةٌ فَهُوَ جهمي. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ لِأَنَّ " اللَّفْظَ " وَ " التِّلَاوَةَ " وَ " الْقِرَاءَةَ " يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا وَمَصْدَرُ قَرَأَ يَقْرَأُ قِرَاءَةً وَتَلَا يَتْلُو تِلَاوَةً وَمُسَمَّى الْمَصْدَرِ هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَحَرَكَاتُهُ لَيْسَ هُوَ بِقَدِيمِ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا حَتَّى الْقَدَرِيَّةِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. يَقُولُونَ: إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقَدِيمِ. وَيَقُولُونَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ. وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ - كَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَالْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ - أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ

ص: 210

أَقْوَالَ الْعِبَادِ وَأَفْعَالَهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: مَنْ قَالَ إنَّ هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: إنَّ سَمَاءَ اللَّهِ وَأَرْضَهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. وَقَدْ يُرَادُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَاللَّفْظِ نَفْسُ الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ.

وَمَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي؛ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تَصَرَّفَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ قَدِيمَةٌ وَلَا قَالَ أَيْضًا أَحَدٌ مِنْهُمْ: إنَّ الْمِدَادَ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْقُرْآنُ قَدِيمٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَمَنْ قَالَ إنَّ شَيْئًا مِنْ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ أَوْ أَفْعَالِهِمْ أَوْ حَرَكَاتِهِمْ أَوْ مِدَادِهِمْ: قَدِيمٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. وَقَدْ بَدَّعَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ مَنْ هُوَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَمَرَ بِهَجْرِهِمْ إنْ لَمْ يَرْجِعُوا عَنْ بِدْعَتِهِمْ. وَ " مَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ " قَدْ كَثُرَ فِيهَا اضْطِرَابُ النَّاسِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: مَسْأَلَةُ الْكَلَامِ حَيَّرَتْ عُقُولَ الْأَنَامِ. وَغَالِبُهُمْ يَقْصِدُونَ وَجْهًا مِنْ

ص: 211

الْحَقِّ وَيَعْزُبُ عَنْهُمْ وَجْهٌ آخَرُ وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ مَنْ أَشَدِّ الْكَلَامِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِر الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ: مِثْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَعَلْقَمَةَ وَالْأُسُودِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ سِيرِين وَغَيْرِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ. وَمِثْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَشَرِيكٍ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ تَابِعِي التَّابِعِينَ وَمِثْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ تَابِعِي التَّابِعِينَ. وَهُمْ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي ثَنَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ: {خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} . وَمَنْ تَدَبَّرَ كَلَامَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِمْ وَجَدَهُ أَشَدَّ الْكَلَامِ الْمُطَابِقِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَسْطَ هُنَا فَقَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّ " الْكَلَامَ الْمَذْمُومَ " الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ هُوَ الْكَلَامُ الْبَاطِلُ الْمُخَالِفُ لِصَحِيحِ الْمَنْقُول وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ؛ وَأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ لَا يَتَعَارَضُ وَلَا يَتَنَاقَضُ أَصْلًا فَلَا يَتَعَارَضُ دَلِيلَانِ يَقِينِيَّانِ أَصْلًا سَوَاءً كَانَا عَقْلِيَّيْنِ

ص: 212

أَوْ سَمْعِيَّيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَقْلِيًّا وَالْآخَرُ سَمْعِيًّا وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً مِنْهُ؛ لِاعْتِقَادِهِ فِي أَحَدِهِمَا أَنَّهُ يَقِينِيٌّ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَا جَمِيعًا غَيْرَ يَقِينِيَّيْنِ. وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ كَثِيرٌ مِنْهُ يَكُونُ " اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ " مِثْلُ أَنْ يَقْصِدَ هَذَا حَقًّا فِيمَا يُثْبِتُهُ وَالْآخَرُ يَقْصِدُ حَقًّا فِيمَا نَقَضَهُ وَكِلَاهُمَا صَادِقٌ. لَكِنْ يَظُنَّانِ أَنَّ بَيْنَهُمَا نِزَاعًا مَعْنَوِيًّا وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْ النِّزَاعِ يَعُودُ إلَى إطْلَاقَاتٍ لَفْظِيَّةٍ لَا إلَى مَعَانٍ عَقْلِيَّةٍ وَأَحْسَنُ النَّاسِ طَرِيقَةً مَنْ كَانَ إطْلَاقُهُ مُوَافِقًا لِلْإِطْلَاقَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَعَانِي الَّتِي يَقْصِدُهَا مَعَانٍ صَحِيحَةٌ تُطَابِقُ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ. . . (1).

وَأَصْلُ مَنْشَأِ نِزَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ - مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ - سَلَكُوا فِي إثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ طَرِيقًا مُبْتَدَعَةً فِي الشَّرْعِ مُضْطَرِبَةً فِي الْعَقْلِ وَأَوْجَبُوهَا وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ إلَّا بِهَا وَتِلْكَ الطَّرِيقُ فِيهَا مُقَدِّمَاتٌ مُجْمَلَةٌ لَهَا نَتَائِجُ مُجْمَلَةٌ فَغَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ سَالِكِيهَا فِي مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَمُقْتَضَى الْعَقْلِ فَلَمْ يَفْهَمُوا مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ وَلَمْ يُحَرِّرُوا مَا اقْتَضَتْهُ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ

(1)

بياض بالأصل

ص: 213

الصَّانِعِ إلَّا بِإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ حُدُوثِ الْعَالَمِ إلَّا بِإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْأَجْسَامِ. قَالُوا: وَالطَّرِيقُ إلَى ذَلِكَ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ عَلَى حُدُوثِ مَا قَامَتْ بِهِ الْأَعْرَاضُ فَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَدَلَّ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فَقَطْ وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَجَّ بِالْأَكْوَانِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمْ الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ. وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَجَّ بِالْأَعْرَاضِ مُطْلَقًا. وَمَبْنَى الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ؛ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. فَيَقُولُ لَهُمْ الْمُعَارِضُونَ - مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مُحْدَثَةٌ عَنْ عَدَمٍ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَفْلَاكَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ - حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ أَمْرٌ حَادِثٌ. فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ حَادِثٍ وَإِلَّا لَزِمَ تَرْجِيحُ أَحَدِ طَرَفَيْ الْمُمْكِنِ بِلَا مُرَجِّحٍ. وَقَالَ لَهُمْ الْقَائِلُونَ بِحُدُوثِ الْأَفْلَاكِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ: أَنْتُمْ أَثْبَتُّمْ حُدُوثَ الْعَالَمِ بِطَرِيقِ وَحُدُوثُ الْعَالَمِ لَا يَتِمُّ إلَّا مَعَ نَقِيضِ مَا أَثْبَتُّمُوهُ. فَمَا جَعَلْتُمُوهُ دَلِيلًا عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ لَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ؛ بَلْ وَلَا يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَهُ. وَالدَّلِيلُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمًا الْمَدْلُولَ؛ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ تَحَقُّقِ الدَّلِيلِ تَحَقُّقُ الْمَدْلُولِ؛ بَلْ هُوَ مُنَافٍ لِحُدُوثِ الْعَالَمِ مُنَاقِضٌ لَهُ وَهُوَ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ حُدُوثِ الْعَالَمِ بَلْ امْتِنَاعِ حُدُوثِ

ص: 214

شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ. وَهَذَا يَقْتَضِي بُطْلَانَهُ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَدُلَّ إلَّا عَلَى نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ وَنَقِيضِ مَا يَقُولُهُ كُلُّ عَاقِلٍ. فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ فِي الْجُمْلَةِ سَوَاءٌ قِيلَ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ أَمْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَبْنَى دَلِيلِكُمْ عَلَى أَنَّ الْقَادِرَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ الْأَزَلِيَّةَ - الَّتِي نِسْبَتُهَا إلَى جَمِيعِ الْمُرَادَاتِ عَلَى السَّوَاءِ - رَجَّحَتْ مُرَادًا عَلَى مُرَادٍ بِلَا مُرَجِّحٍ غَيْرِ الْمُرَجِّحِ الَّذِي نِسْبَتُهُ إلَى جَمِيعِ الْمُرَجِّحَاتِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يَتَفَاضَلُ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَرْجِيحِ وُجُودِ الْمُمْكِنِ عَلَى عَدَمِهِ بِلَا مُرَجِّحٍ أَوْ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا سَبَبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ بَاطِلٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَلَوْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ لَبَطَلَ الدَّلِيلُ الَّذِي يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى ثُبُوتِ الصَّانِعِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ فَإِنَّ مَبْنَى الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ تَرْجِيحَ الْحُدُوثِ عَلَى الْعَدَمِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُحْدِثُ الْمُرَجِّحُ قَدْ حَدَثَ مِنْهُ مَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُحْدَثِ الَّذِي جَعَلَهُ مَوْجُودًا وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ وُجُودُهُ كَانَ وُجُودُهُ جَائِزًا مُمْكِنًا: فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ. فَتَرْجِيحُ الْوُجُودِ عَلَى الْعَدَمِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ مُحْدِثٍ لَهُ فَكَلُّ

ص: 215

مَا أَمْكَنَ حُدُوثُهُ إنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَهُ لَمْ يَحْصُلْ فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ لَا مَحَالَةَ وَوَجَبَ وُجُودُهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ بَلْ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ مَعَ عَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ فَمَا شَاءَ اللَّهُ حُدُوثَهُ كَانَ لَازِمَ الْحُدُوثِ وَاجِبَ الْحُدُوثِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ لَا بِنَفْسِهِ وَمَا لَمْ يَشَأْ حُدُوثَهُ كَانَ مُمْتَنِعَ الْحُدُوثِ لَازَمَ الْعَدَمِ وَاجِبَ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ مَشِيئَةُ اللَّهِ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِحُدُوثِهِ. ثُمَّ إنَّ الْفَلَاسِفَةَ الدَّهْرِيَّةَ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ قَالُوا: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الدَّلِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ؛ بَلْ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحُدُوثِ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ عَنْ ذَاتٍ لَمْ تَزَلْ مُعَطَّلَةً مِنْ الْفِعْلِ بَاطِلٌ فَيَكُونُ الْعَالَمُ قَدِيمًا وَعَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كَوْنِهِ فَاعِلًا إنْ وُجِدَتْ فِي الْأَزَلِ لَزِمَ وُجُودُ الْفِعْلِ فِي الْأَزَلِ وَإِلَّا لَزِمَ تَخَلُّفُ الْمُقْتَضَى عَنْ الْمُقْتَضِي التَّامِّ. وَحِينَئِذٍ فَإِذَا وُجِدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي الْأَزَلِ فَوُجُودُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرٌ حَادِثٌ؛ فَيَقْتَضِي أَمْرًا حَادِثًا وَإِلَّا لَزِمَ الْحُدُوثُ بِلَا مُحْدِثٍ وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُ تَسَلْسُلُ الْحَوَادِثِ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي هَذَا الْحَادِثِ كَالْقَوْلِ فِي غَيْرِهِ. وَهَذَا مِمَّا تُنْكِرُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَمُوَافِقُوهُمْ الْمُتَكَلِّمُونَ. قَالُوا: فَأَنْتُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إمَّا إثْبَاتِ التَّسَلْسُلِ فِي الْحَوَادِثِ وَإِمَّا إثْبَاتِ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ عِنْدَكُمْ.

ص: 216

ثُمَّ زَعَمَ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَثْبَتَ مَا أَثْبَتَتْهُ الرُّسُلُ مِنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ وَبَيَّنَ خَطَأَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ خَالَفُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ بِابْتِدَاعِ بِدْعَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَبَيَّنَ أَنَّ ضَلَالَ الْفَلَاسِفَةِ - الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَمُخَالَفَتَهُمْ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ - أَعْظَمُ مِنْ ضَلَالِ أُولَئِكَ وَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكَهَا أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمُونَ بَلْ يُمْكِنُ إثْبَاتُ حُدُوثِهِ بِطُرُقِ أُخْرَى عَقْلِيَّةٍ صَحِيحَةٍ لَا يُعَارِضُهَا عَقْلٌ صَرِيحٌ وَلَا نَقْلٌ صَحِيحٌ. وَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ سَوَاءٌ سُمِّيَ جِسْمًا أَوْ عَقْلًا أَوْ نَفْسًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. فَإِنَّ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنَّ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي حُجَّتِهِمْ إلَّا إثْبَاتُ حُدُوثِ أَجْسَامِ الْعَالَمِ قَالَتْ الْفَلَاسِفَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ - كالشَّهْرَستَانِي وَالرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرِهِمْ - إنَّكُمْ لَمْ تُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ مَا سِوَى الْأَجْسَامِ. وَحِينَئِذٍ فَإِثْبَاتُ حُدُوثِ أَجْسَامِ الْعَالَمِ لَا يَقْتَضِي حُدُوثَ مَا سِوَى اللَّهِ إنْ لَمْ تُثْبِتُوا أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ جِسْمٌ وَأَنْتُمْ لَمْ تُثْبِتُوا ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا صَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ - كالأرموي وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْل مِصْرَ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ القشيري - إلَى أَنَّ أَجْسَامَ الْعَالَمِ مُحْدَثَةٌ. وَأَمَّا الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ فَتَوَقَّفُوا عَنْ حُدُوثِهَا وَقَالُوا بِقِدَمِهَا

ص: 217

وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّهُ مُوجِبٌ بِالذَّاتِ لَهَا وَإِنَّهُ مُحْدِثٌ لِلْأَجْسَامِ بِسَبَبِ حُدُوثِ بَعْضِ التَّصَوُّرَاتِ وَالْإِرَادَاتِ الَّتِي تَحْدُثُ لِلنُّفُوسِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَهَذَا الْقَوْلُ كَمَا أَنَّهُ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ فِي الشَّرْعِ: فَهُوَ أَيْضًا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ فِي الْعَقْلِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَنَقُولُ: الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا. وَ " أَيْضًا " فَإِذَا كَانَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ كَانَ اخْتِصَاصُ حُدُوثِ أَجْسَامِ الْعَالَمِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ يَفْتَقِرُ إلَى مُخَصِّصٍ وَالْمُوجِبُ بِذَاتِهِ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ مَا يَخْتَصُّ بِوَقْتِ دُونَ وَقْتٍ؛ إذْ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا بِذَاتِهِ؛ وَلَجَازَ حُدُوثُ الْعَالَمِ عَنْهُ وَلِأَنَّ النُّفُوسَ الَّتِي تُثْبِتُهَا الْفَلَاسِفَةُ هِيَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ عَرَضٌ قَائِمٌ بِجِسْمِ الْفَلَكِ؛ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُهَا بِهِ بِدُونِ الْفَلَكِ وَعِنْدَ ابْنِ سِينَا وَطَائِفَةٍ أَنَّهَا جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِسْمِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ. وَحِينَئِذٍ فَلَوْ وُجِدَتْ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْجِسْمِ لَمْ تَكُنْ نَفْسًا؛ بَلْ كَانَتْ عَقْلًا فَعُلِمَ أَنَّ وُجُود النَّفْسِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الْجِسْمِ. فَإِذَا قَالَ هَؤُلَاءِ: إنَّ النَّفْسَ أَزَلِيَّةٌ دُونَ الْأَجْسَامِ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ

ص: 218

بَاطِلًا بِصَرِيحِ الْعَقْلِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ بِهِ قَائِلٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ قَبْلَ هَؤُلَاءِ. وَإِنَّمَا أَلْجَأَ هَؤُلَاءِ إلَى هَذَا ظَنُّهُمْ صِحَّةَ دَلِيلِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَصِحَّةَ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ بِوُجُودِ مَوْجُودٍ وَمُمْكِنٍ غَيْرِ الْأَجْسَامِ وَإِثْبَاتَ الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ؛ فَلَمَّا بَنَوْا قَوْلَهُمْ عَلَى الْأَصْلِ الْفَاسِدِ لِهَؤُلَاءِ وَلِهَؤُلَاءِ: لَزِمَ هَذَا مَعَ أَنَّهُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ؛ فَإِنَّ عُمْدَةَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى إبْطَالِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَعُمْدَةُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى أَنْ المؤثرية مِنْ لَوَازِمَ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ فَإِذَا قَالُوا بِقِدَمِ نَفْسٍ لَهَا تَصَوُّرَاتٌ وَإِرَادَاتُ لَا تَتَنَاهَى: لَزِمَ جَوَازُ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى؛ فَبَطَلَ أَصْلُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ حُدُوثَ الْأَجْسَامِ؛ فَكَانَ حِينَئِذٍ مُوَافَقَتُهُمْ الْمُتَكَلِّمِينَ بِلَا حُجَّةٍ عَقْلِيَّةٍ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْمُتَنَاقَضَيْنِ. وَأَبُو عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْخَطِيبِ وَأَمْثَالُهُ كَانُوا أَفْضَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَلَمْ يَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ الْمُتَنَاقِضَ وَلَمْ يَهْتَدُوا إلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَإِنْ كَانُوا يَذْكُرُونَ أُصُولَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَيُثْبِتُونَ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُقَلَاءِ يَلْتَزِمُونَهَا فَلَوْ تَفَطَّنُوا لِمَا يَقُومُ بِذَاتِ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ وَأَفْعَالِهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَدَوَامِ اتِّصَافِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ خَلَصُوا مِنْ هَذِهِ الْمَحَارَاتِ.

ص: 219

وَنَحْنُ نُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِ الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا حُدُوثُ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. فَنَقُولُ: مِنْ " الطُّرُقِ " الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا حُدُوثُ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ هِيَ أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ فِيمَا سِوَى اللَّهِ شَيْءٌ قَدِيمٌ لَكَانَ صَادِرًا عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ مُوجِبَةٍ بِذَاتِهَا مُسْتَلْزِمَةٍ لِمَعْلُولِهَا سَوَاءً ثَبَتَ لَهُ مَشِيئَةٌ أَوْ اخْتِيَارٌ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ؛ فَإِنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ الْمُمْكِنَ الَّذِي لَا يُوجَدُ بِنَفْسِهِ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْأَزَلِ مُقْتَضٍ تَامٌّ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَهُ. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: إنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ صَادِرٌ عَنْ مُؤَثِّرٍ لَا يَلْزَمُهُ أَثَرُهُ فَلَا يَقُولُ: إنَّهُ صَادِرٌ عَنْ عِلَّةٍ غَيْرِ تَامَّةٍ مُسْتَلْزِمَةٍ لِغَيْرِ مَعْلُولِهَا وَلَا يَقُولُ: إنَّهُ صَادِرٌ عَنْ مُوجِبٍ بِذَاتِهِ لَا يُقَارِنُهُ مُوجَبُهُ وَمُقْتَضَاهُ وَلَا يَقُولُ: إنَّهُ صَادِرٌ عَنْ فَاعِلٍ بِالِاخْتِيَارِ يُمْكِنُ أَنْ يَتَأَخَّرَ مَفْعُولُهُ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَمْكَنَ تَأَخُّرُ مَفْعُولِهِ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ قَدِيمًا أَزَلِيًّا فَيَكُونُ ثُبُوتُهُ فِي الْأَزَلِ مُمْكِنًا وَلَيْسَ فِي الْأَزَلِ مَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَهُ فِي الْأَزَلِ فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ فِي الْأَزَلِ. فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمُمْكِنِ الْأَزَلِيِّ بِدُونِ مُقْتَضٍ تَامٍّ مُسْتَلْزِمٍ لَهُ مُمْتَنِعٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ. إذْ قَدْ عُلِمَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْمُمْكِنَاتِ لَا يَكُونُ حَتَّى يَحْصُلَ الْمُقْتَضِي التَّامُّ الْمُسْتَلْزِمُ لِثُبُوتِهِ.

ص: 220

وَمَنْ نَازَعَ فِي هَذَا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ إنَّهُ لَا يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْوُجُوبِ؛ بَلْ يَكُونُ الْعَقْلُ بِالْوُجُودِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْعَدَمِ فَإِنَّهُ لَمْ يُنَازِعْ فِي أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورُهُ الْمُعَيَّنُ أَزَلِيًّا مُقَارِنًا لَهُ؛ بَلْ هَذَا مِمَّا لَمْ يُنَازِعْ فِيهِ لَا هَؤُلَاءِ وَلَا غَيْرُهُمْ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِمَّا سِوَى اللَّهِ أَزَلِيًّا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُؤَثِّرٌ تَامٌّ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ فِي الْأَزَلِ؛ سَوَاءٌ سُمِّيَ عِلَّةً تَامَّةً أَوْ مُوجِبًا بِالذَّاتِ أَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِالْإِرَادَةِ وَأَنَّ مُرَادَهُ الْمُعَيَّنَ يَكُونُ أَزَلِيًّا مُقَارِنًا لَهُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ: ثُبُوتُ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ مُمْتَنِعٌ فَإِنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ الْأَزَلِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهَا لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا؛ فَإِنَّهُ إنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا لَمْ تَكُنْ عِلَّةً تَامَّةً لِمَعْلُولِهَا؛ فَيَمْتَنِعُ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِذَاتِهِ وَأَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ مُوجَبَهُ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مُوجَبِهِ؛ فَإِنَّ الْمُوجِبَ بِالذَّاتِ لِشَيْءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُوجَبُ جَمِيعُهُ مُقَارِنًا لِذَاتِهِ وَالْعِلَّةُ التَّامَّةُ هِيَ الَّتِي يُقَارِنُهَا مَعْلُولُهَا. وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا فَلَوْ تَأَخَّرَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا لَمْ تَكُنْ عِلَّةً تَامَّةً لِذَلِكَ الْمُسْتَأْخَرِ. وَالْفَلَاسِفَةُ يُسَلِّمُونَ أَنْ لَيْسَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ فِي الْأَزَلِ لِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَإِنَّ ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ لِأَمْرِ حَادِثٍ عَنْهُ غَيْرِ أَزَلِيٍّ.

ص: 221

وَإِنْ شِئْت قُلْت: يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِذَاتِهِ فِي الْأَزَلِ لِأَمْرِ حَادِثٍ لَيْسَ بِأَزَلِيِّ؛ سَوَاءٌ كَانَ إيجَابُهُ بِوَاسِطَةِ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَإِنَّ تِلْكَ الْوَاسِطَةَ إنْ كَانَتْ أَزَلِيَّةً كَانَ اللَّازِمُ لَهَا أَزَلِيًّا وَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةً كَانَ الْقَوْلُ فِيهَا كَالْقَوْلِ فِي الْحَادِثِ بِتَوَسُّطِهَا وَهَذَا الَّذِي سَلَّمُوهُ مَعْلُومٌ أَيْضًا بِصَرِيحِ الْعَقْلِ فَالْمُقَدِّمَةُ بُرْهَانِيَّةٌ مُسَلَّمَةٌ؛ لَكِنْ يَقُولُونَ: إنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ؛ لِمَا هُوَ قَدِيمٌ كَالْأَفْلَاكِ عِنْدَهُمْ. وَلَيْسَ عِلَّةً تَامَّةً لِلْحَوَادِثِ وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ. وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا يُقَالُ: إنَّهُ قَدِيمٌ كَالْأَفْلَاكِ إمَّا أَنْ يَجِبَ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِلْحَوَادِثِ كَمَا يَقُولُونَ فِي الْفَلَكِ: إنَّهُ يَجِبُ لَهُ لُزُومُ الْحَرَكَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَحَرِّكًا وَإِمَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِشَيْءِ مِنْ الْحَوَادِثِ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً لِلْحَوَادِثِ وَكَوْنُهُ عِلَّةً تَامَّةً لِلْحَوَادِثِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ مَا قَارَنَتْهُ الْحَوَادِثُ وَلَمْ يَخْلُ مِنْهَا بَلْ هِيَ لَازِمَةٌ لَهُ امْتَنَعَ صُدُورُهُ عَنْ الْمُوجِبِ بِدُونِهَا وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ مُحَالٌ وَإِذَا كَانَتْ الْحَرَكَةُ لَازِمَةً لِلْفَلَكِ كَمَا يَقُولُونَ: فَوُجُودُ الْفَلَكِ بِدُونِ الْحَرَكَةِ مُحَالٌ فَالْمُوجِبُ بِذَاتِهِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِلْفَلَكِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً مُوجِبَةً لِلَوَازِمِهِ وَعِلَّةً تَامَّةً فِي الْأَزَلِ بِحَرَكَتِهِ لَكِنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ الْأَزَلِيَّةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً لِلْحَوَادِثِ لَا الْحَرَكَةِ وَلَا غَيْرِهَا لِأَنَّهُ يَجِبُ وُجُودُ مَعْلُولِهَا الَّذِي هُوَ مُوجَبُهَا وَمُقْتَضَاهَا

ص: 222

فِي الْأَزَلِ وَأَلَّا يَتَأَخَّرَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مُوجَبِهَا وَمُقْتَضَاهَا وَمَعْلُولِهَا. وَالْحَرَكَةُ الَّتِي تُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا هِيَ وَغَيْرُهَا مِنْ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا قَدِيمًا؛ بَلْ كُلٌّ مِنْهَا حَادِثٌ مَسْبُوقٌ بِآخَرَ؛ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهَا مَعْلُولًا لِلْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْأَزَلِيَّةِ؛ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ حَادِثٌ مِنْ الْحَوَادِثِ قَدِيمًا وَيَمْتَنِعُ وُجُودُ مَجْمُوعِ الْحَوَادِثِ فِي الْأَزَلِ وَيَمْتَنِعُ وُجُودُ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْحَوَادِثِ إلَّا مَعَ حَادِثٍ مِنْ الْحَوَادِثِ أَوْ مَعَ مَجْمُوعِ الْحَوَادِثِ وَإِذَا كَانَ كِلَاهُمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ الْحَوَادِثَ قَدِيمًا فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءِ مِنْ الْحَوَادِثِ أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُ الْحَوَادِثَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ قَدِيمَةٌ؛ فَامْتَنَعَ صُدُورُ الْحَوَادِثِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ مَلْزُومَاتِهَا عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ قَدِيمَةٍ؛ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ صَادِرًا عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ؛ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْفَلَكُ الْمُقَارِنُ لِلْحَوَادِثِ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً قَدِيمَةً. وَلَوْ كَانَ قَدِيمًا لَصَدَرَ عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ قَدِيمَةٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدِيمًا إلَّا إذَا كَانَ الْمُقْتَضِي التَّامُّ ثَابِتًا فِي الْأَزَلِ وَثُبُوتُ الْمُقْتَضِي التَّامِّ لَهُ مُمْتَنِعٌ كَمَا أَنَّ قِدَمَهُ مُمْتَنِعٌ. وَأَمَّا إنْ قِيلَ: أَنَّ الْقَدِيمَ شَيْءٌ غَيْرُ مُقَارِنٍ لِلْحَوَادِثِ وَلَا مُسْتَلْزِمٍ لَهَا مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: الْقَدِيمُ أَعْيَانٌ سَاكِنَةٌ هِيَ الْمَعْلُولُ الْأَوَّلُ فَيُقَالُ ذَلِكَ الْمَعْلُولُ إمَّا أَنْ يَجُوزَ حُدُوثُ حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ إمَّا فِيهِ أَوْ عَنْهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَإِمَّا أَلَّا يَجُوزَ.

ص: 223

فَإِنْ جَازَ حُدُوثُ حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ لَهُ امْتَنَعَ حُدُوثُ ذَلِكَ الْحَادِثِ عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ - وَهُوَ الْمُوجِبُ بِالذَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ - وَلَا بُدَّ مِنْ مُحْدِثٍ وَالْمُحْدِثُ إنْ كَانَ سِوَى اللَّهِ فَالْقَوْلُ فِي حُدُوثِهِ إنْ كَانَ مُحْدَثًا أَوْ فِي حُدُوثِ ذَلِكَ الْإِحْدَاثِ لَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَالْقَوْلِ فِي حُدُوثِ ذَلِكَ الْحَادِثِ وَإِنْ كَانَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ لَهُ؛ إذْ الْقَدِيمُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا بِالذَّاتِ لِحَادِثِ - كَمَا بُيِّنَ - فَامْتَنَعَ ثُبُوتُ الْعِلَّةِ الْقَدِيمَةِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الصَّانِعُ مُوجِبًا بِالذَّاتِ - فَلَا يَكُونُ عِلَّةً تَامَّةً - امْتَنَعَ قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ قَدِيمٌ إلَّا عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ لَا يَجُوزُ حُدُوثٌ لِمَا فُرِضَ قَدِيمًا مَعْلُولًا لِلْأَوَّلِ؛ فَهَذَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِوُجُوهِ: " أَحَدُهَا " أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ تَحْدُثُ لَهُ النِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. فَحُدُوثُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ أَوْلَى. " الثَّانِي " أَنَّ الْحَوَادِثَ مَشْهُودَةٌ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَهَذِهِ الْحَوَادِثُ صَادِرَةٌ عَنْ اللَّهِ: إمَّا بِوَسَطِ أَوْ بِغَيْرِ وَسَطٍ فَإِذَا كَانَتْ بِوَسَطِ فَتِلْكَ الْوَسَائِطُ حَدَثَتْ عَنْهَا أُمُورٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ. فَلَزِمَ حُدُوثُ الْأَحْوَالِ لِلْقَدِيمِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الصَّانِعَ أَوْ كَانَ هُوَ الْوَسَائِطَ لِلصَّانِعِ.

ص: 224

وَإِنْ قِيلَ: الْقَدِيمُ هُوَ شَيْءٌ لَيْسَ بِوَاسِطَةِ فِي شَيْءٍ آخَرَ. قِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَابِلًا لِحُدُوثِ الْأَحْوَالِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ حُدُوثُ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ لِلَّهِ عز وجل بِالضَّرُورَةِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ فَإِمْكَانُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ أَوْلَى وَإِذَا كَانَ قَابِلًا لَهَا أَمْكَنَ أَنْ تَحْدُثَ لَهُ الْأَحْوَالُ كَمَا تَحْدُثُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمْتَنِعُ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ عَنْهُ: إمَّا بِوَسَطِ وَإِمَّا بِغَيْرِ وَسَطٍ؛ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ قَابِلًا وَصُدُورُ مِثْلِ ذَلِكَ عَنْ الصَّانِعِ مُمْكِنٌ أَمْكَنَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ عَنْهُ أَوْ فِيهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَحِينَئِذٍ فَالْقَوْلُ فِي حُدُوثِهَا كَالْقَوْلِ فِي حُدُوثِ سَائِر مَا يَحْدُثُ عَنْهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ مِنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِمَعْلُومِهَا فَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْبُرْهَانُ الْبَاهِرُ أَنَّ كَوْنَ الْأَوَّلِ عِلَّةً تَامَّةً لِشَيْءِ مِنْ الْعَالَمِ - مُحَالٌ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفَلَكِ وَغَيْرِهِ؛ سَوَاءٌ قُدِّرَ ذَلِكَ الْغَيْرُ جِسْمًا أَوْ غَيْرَ جِسْمٍ وَسَوَاءٌ قُدِّرَ مُسْتَلْزِمًا لِلْحَوَادِثِ فِيهِ أَوْ عَنْهُ - كَمَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ: كالفارابي وَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالُهُمَا وَسَلَفُهُمَا مِنْ الْيُونَانِ. فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْفَلَكُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَوَادِثِ الْقَدِيمَةِ وَالْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ عَنْهَا فَكُلٌّ مِنْهَا مُقَارِنٌ لِلْحَوَادِثِ لَا يَجُوزُ تَقَدُّمُهُ عَلَيْهَا مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ جَمِيعِهِ مَعْلُولًا لِلْمُوجِبِ بِذَاتِهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُوجِبَ بِذَاتِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ فِي الْأَزَلِ حَادِثٌ أَوْ مُسْتَلْزِمٌ لِحَادِثِ بَطَلَ كَوْنُ صَانِعِ الْعَالَمِ عِلَّةً تَامَّةً فِي الْأَزَلِ وَمَتَى بَطَلَ كَوْنُهُ عِلَّةً تَامَّةً فِي الْأَزَلِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا سِوَاهُ شَيْءٌ قَدِيمٌ بِعَيْنِهِ فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ سَوَاءً قِيلَ

ص: 225

بِجَوَازِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ أَوْ قِيلَ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ إنْ قِيلَ بِامْتِنَاعِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ لَزِمَ حُدُوثُ كُلِّ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ فَكُلٌّ مِنْهَا حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَكُلٌّ مِنْ الْعَالَمِ مُسْتَلْزِمٌ لِحَادِثِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَكُلٌّ مِنْ الْعَالَمِ وَكُلُّ مَا كَانَ مَصْنُوعًا وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَوَادِثِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ صَانِعُهُ عِلَّةً تَامَّةً قَدِيمَةً مُوجِبَةً لَهُ؛ فَإِذَا امْتَنَعَ ذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَالَمِ مَا هُوَ قَدِيمٌ بِعَيْنِهِ. وَأَمَّا كَوْنُ الرَّبِّ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ أَوْ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ بِمَشِيئَتِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ هُوَ الْحَقُّ الْمُطَابِقُ لِلْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ. وَأَمَّا كَوْنُ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ أَبْطَلَ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: أُولَئِكَ جَوَّزُوا حُدُوثَ الْحَوَادِثِ عَنْ ذَاتٍ لَمْ تَزَلْ غَيْرَ فَاعِلَةٍ وَلَا يَقُومُ بِهَا حَادِثٌ وَلَا يَصْدُرُ عَنْهَا حَادِثٌ وَأَنْتُمْ قُلْتُمْ الْحَوَادِثُ الدَّائِمَةُ الْمُخْتَلِفَةُ تَصْدُرُ عَنْ هَذِهِ الذَّاتِ وَزِدْتُمْ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ عَنْهَا فَجَعَلْتُمُوهَا وُجُودًا مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فَقَوْلُكُمْ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ عَنْهَا أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَة.

ص: 226

وَقُلْتُمْ: هُوَ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ يُقَارِنُهَا الْمَعْلُولُ الْأَزَلِيُّ فَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ صُدُورَ الْحَوَادِثِ الْمُخْتَلِفَةِ عَنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْبَسِيطَةِ الْأَزَلِيَّةِ الَّتِي لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا مُقْتَضَاهَا وَمَعْلُولُهَا أَشَدُّ امْتِنَاعًا مِنْ صُدُورِ الْحَوَادِثِ عَنْ قَادِرٍ مُخْتَارٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ صَادِرَةً عَنْهُ فَإِنْ كَانَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ عَنْ الْقَدِيمِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ بِهِ حَادِثٌ مُمْتَنِعًا فَقَوْلُكُمْ أَشَدُّ امْتِنَاعًا وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَقْرَبُ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: إنْ اقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونُ لِلْحَوَادِثِ سَبَبٌ حَادِثٌ فَقَوْلُكُمْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ لِلْحَوَادِثِ مُحْدَثٌ أَصْلًا وَالْحَوَادِثُ مَشْهُودَةٌ وَالْمُحْدِثُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ وُجُودِهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْأَحْدَاثِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْإِحْدَاثِ وَذَلِكَ يَمْتَنِعُ صُدُورُهُ عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُقَدَّمَاتِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْفَلَاسِفَةُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ يُحْتَجُّ بِهَا بِعَيْنِهَا عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ؛ فَإِنَّ مَبْنَى دَلِيلِهِمْ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ الْأَزَلِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهَا وَأَنَّ الْبَارِي إنْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً لَزِمَ الْحُدُوثُ بِلَا سَبَبٍ وَإِنْ كَانَ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً لَزِمَ مُقَارَنَةُ مَعْلُولِهِ؛ فَيَلْزَمُ قِدَمُ الْعَالَمِ. أَمَّا كَوْنُهُ عِلَّةً تَامَّةً فَمُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ الْأَزَلِيَّةَ يُقَارِنُهَا مَعْلُولُهَا كُلُّهُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا وَالْعَالَمُ لَا يَنْفَكُّ مِنْ حَوَادِثَ مُقَارَنَةٍ لَهُ بِالضَّرُورَةِ وَاتِّفَاقُ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ وَمَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِلْحَوَادِثِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ مَعْلُولَ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْأَزَلِيَّةِ؛ لِامْتِنَاعِ كَوْنِ الْحَوَادِثِ حَادِثَةً

ص: 227

عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ فَإِنَّهُ مَا مِنْ حَادِثٍ إلَّا وَهُوَ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ فَلَيْسَ هُوَ عِلَّةً تَامَّةً لِشَيْءِ مِنْهَا وَمَا مِنْ زَمَنٍ يُقَدَّرُ إلَّا وَفِيهِ حَادِثٌ فَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ عِلَّةً تَامَّةً لَا فِي الْمَاضِي وَلَا الْمُسْتَقْبَلَ؛ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً وَهُوَ الْمَطْلُوبُ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ كُلِّ مَا سِوَاهُ مُحْدَثًا سَوَاءً قِيلَ بِتَسَلْسُلِ الْحَادِثَةِ أَوْ لَمْ يُقَلْ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً لَزِمَ الْحُدُوثُ بِلَا سَبَبٍ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ - تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى - وَإِلَّا فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَحِينَئِذٍ فَمَا حَصَلَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ يَكُونُ هُوَ السَّبَبَ لِمَا بَعْدَهُ. وَإِنْ قَالُوا: هَذَا يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهِ قِيلَ لَهُمْ أَوَّلًا: قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِالْقَدِيمِ جَائِزٌ عِنْدَكُمْ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَإِنَّمَا أَنْكَرَهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ مَا قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ فَهُوَ حَادِثٌ فَإِنْ كَانَ هَذَا الِاعْتِقَادُ صَحِيحًا بَطَلَ قَوْلُكُمْ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا بَطَلَتْ حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقَدِيمَ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ؛ فَلَا يُمْكِنُكُمْ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَنْ تَقُولُوا إنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ؛ لَكِنْ أَنْتُمْ نَفَيْتُمْ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ وَقَوْلُكُمْ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَدَلِيلُكُمْ عَلَيْهِ قَدْ بُيِّنَ فَسَادُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ بُطْلَانُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ.

ص: 228

وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ مُسْتَلْزِمًا لِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَقِيَامِ الْأَفْعَالِ بِاَللَّهِ كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلِيلِ حُدُوثِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ وَأَنَّ مُحْدِثَهُ مَوْصُوفٌ بِالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهِ فَاعِلُ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَذَلِكَ مَا بَيْنَ مُوَافَقَةِ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ لِلنَّقْلِ الصَّحِيحِ وَالْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ فِطَرِ الْعُقَلَاءِ وَمُنْتَهَى عَقْلِهِمْ تُوَافِقُ ذَلِكَ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْخَطِيبِ الرَّازِي فِي كِتَابِهِ " الْأَرْبَعِينَ " فِي ضَبْطِ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا فِي إثْبَاتِ الْمَطَالِبِ الْعَقْلِيَّةِ. قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ هَهُنَا " مُقَدِّمَتَيْنِ " يُفَرِّعُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْفَلَاسِفَةُ أَكْثَرَ مَبَاحِثِهِمْ عَلَيْهِمَا. " الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى " مُقَدِّمَةُ الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ كَقَوْلِهِمْ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَيَجِبُ إثْبَاتُهَا لِلَّهِ وَهَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ صِفَاتِ النُّقْصَانِ فَيَجِبُ نَفْيُهَا عَنْ اللَّهِ وَأَكْثَرُ مَذَاهِبِ الْمُتَكَلِّمِينَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ. إلَى أَنْ قَالَ: " أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ " وَهِيَ مُقَدِّمَةُ الْوُجُوبِ؛ وَالْإِمْكَانِ وَهَذِهِ

ص: 229

الْمُقَدِّمَةُ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْعُلُوِّ وَهِيَ غَايَةُ عُقُولِ الْعُقَلَاءِ. قَالُوا: الْوُجُودُ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ: إذْ لَوْ كَانَ مُمْكِنًا لَافْتَقَرَ إلَى مُؤَثِّرٍ آخَرَ.

[" أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى " وَهِيَ أَنَّهُ وَاجِبٌ لِذَاتِهِ: فَهَذَا لَهُ لَازِمَانِ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنْ الْكَثْرَةِ فِي حَقِيقَتِهِ ثُمَّ يَلْزَمُ فِي ذَاتِهِ أُمُورٌ: " أَحَدُهَا " أَنْ لَا يَكُونَ مُتَحَيِّزًا؛ لِأَنَّ كُلَّ مُتَحَيِّزٍ مُنْقَسِمٌ وَالْمُنْقَسِمُ لَا يَكُونُ فَرْدًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَحَيِّزًا لَمْ يَكُنْ فِي جِهَةٍ. وَ " ثَانِيهَا " أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبُ الْوُجُودِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ لَاشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ وَتَبَايَنَا فِي التَّعْيِينِ وَمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ غَيْرُ مَا بِهِ الِامْتِيَازُ؛ فَيَلْزَمُ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا فِي نَفْسِهِ وَقَدْ فَرَضْنَاهُ فَرْدًا هَذَا خَالَفَ اللَّازِمَ الثَّانِيَ؛ لِكَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ أَنْ لَا يَكُونُ حَالًّا وَلَا مَحَلًّا وَالْأَفْعَالُ الِافْتِقَارُ هِيَ. . . (1)

قُلْت: وَلِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا هُوَ أَصْلُ الْفَلَاسِفَةِ فِي التَّوْحِيدِ الَّذِي نَفَوْا بِهِ صِفَاتِهِ تَعَالَى وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا] (*).

(1)

هكذا بالأصل

(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 105):

وقد وقع اضطراب وتصحيف في آخر النقل عن الرازي، وصحة هذا النقل كما في (الأربعين) 2/ 326:

(أما المقدمة الأولى) وهي أنه واجب لذاته:

فهذا له لازمان:

الأول: أن يكون منزها عن الكثرة في حقيقته ثم يلزم من فردانيته في ذاته أمران:

أحدهما: أن لا يكون متحيزا؛ لأن كل متحيز منقسم، والمنقسم لا يكون فردا، ولما لم يكن متحيزا لم يكن في جهة.

وثانيهما: أن لا يكون واجب الوجود أكثر من واحد، إذ لو كان أكثر من واحد لاشتركا في الوجوب وتباينا في التعين، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز؛ فيلزم كون كل واحد منهما مركبه في نفسه، وقد قرضناه فردا، هذا خلف.

اللازم الثاني: كون واجب الوجود لذاته لا يكون حالا ولا محلا، وإلا لعاد الافتقار. اه (1).

(1)

لا يخفى وقوع التصحيف في بعض العبارات المنقولة، وآخرها تصحيف علامة انتهاء النقل (اه) إلى (هي) كما يظهر.

ص: 230

وَالْأَصْلُ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ ضَعِيفٌ جِدًّا وَإِنْ كَانَ اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْوَاجِبَ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدًا. قَصَدُوا بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا كَلَامٌ يَقُومُ بِهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ صِفَاتٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْقَدِيمُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. وَلَفْظُ " الْوَاجِبُ وَالْقَدِيمُ " يُرَادُ بِهِ الْإِلَهُ الْخَالِقُ سُبْحَانَهُ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ الْقَدِيمُ فَهَذَا لَيْسَ إلَّا وَاحِدًا وَيُرَادُ بِهِ صِفَاتُهُ الْأَزَلِيَّةُ وَهِيَ قَدِيمَةٌ وَاجِبَةٌ بِتَقَدُّمِ الْمَوْصُوفِ وَوُجُوبِهِ لَمْ يَجِبْ أَنْ تَكُونَ مُمَاثِلَةً لَهُ وَلَا تَكُونُ إلَهًا كَمَا أَنَّ صِفَةَ النَّبِيِّ لَيْسَتْ بِنَبِيِّ وَصِفَةَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ لَيْسَتْ بِإِنْسَانِ وَلَا حَيَوَانٍ وَكَمَا أَنَّ صِفَةَ الْمُحْدَثِ إنْ كَانَتْ مُحْدَثَةً فَمُوَافَقَتُهَا لَهُ فِي الْحُدُوثِ لَا يَقْتَضِي مُمَاثَلَتَهَا لَهُ وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الْحُجَّةِ عَلَى ذَلِكَ ضَعِيفَةٌ. فَإِذَا قَالُوا: لَوْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ وَاجِبٌ بِوُجُوبِ الْعَالِمِ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. قِيلَ لَهُ: وَلِمَ قُلْتُمْ بِامْتِنَاعِ كَوْنِ الْوَاجِبِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ؛ إذْ كَانَتْ الذَّاتُ الْوَاجِبَةُ إلَهًا وَاحِدًا مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ.

ص: 231

قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ لَاشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ وَتَبَايَنَا فِي التَّعْيِينِ وَمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ غَيْرُ مَا بِهِ الِامْتِيَازُ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا فِي نَفْسِهِ؛ وَقَدْ فَرَضْنَاهُ؛ فَرَدَّ هَذَا خَلْقٌ. يُقَالُ لَهُ فِي جَوَابِهِ قَوْلُ الْقَائِلِ اشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ وَتَبَايَنَا فِي التَّعْيِينِ تُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْوُجُوبَ الَّذِي يَخْتَصُّ كُلًّا مِنْهُمَا شَارَكَهُ الْآخَرُ فِيهِ أَمْ تُرِيدُ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ الْمُطْلَقِ الْكُلِّيِّ. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لَا يُرِيدُهُ عَاقِلٌ. وَأَمَّا الثَّانِي فَيُقَالُ: اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْمُطْلَقِ الْكُلِّيِّ كَاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّعْيِينِ الْمُطْلَقِ الْكُلِّيِّ. فَإِنَّ هَذَا لَهُ تَعْيِينٌ يَخُصُّهُ وَالتَّعْيِينَانِ يَشْتَرِكَانِ فِي مُطْلَقِ التَّعْيِينِ. وَكَذَلِكَ هَذَا لَهُ حَقِيقَةٌ تَخُصُّهُ وَهَذَا لَهُ حَقِيقَةٌ تَخُصُّهُ وَهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي مُطْلَقِ الْحَقِيقَةِ وَكَذَلِكَ لِهَذَا ذَاتٌ تَخُصُّهُ وَلِهَذَا ذَاتٌ تَخُصُّهُ وَهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي مُطْلَقِ الذَّاتِ. وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَسْمَاءِ الَّتِي تَعُمُّ بِالْإِطْلَاقِ وَتَخُصُّ بِالتَّقْيِيدِ كَاسْمِ الْمَوْجُودِ وَالنَّفْسِ وَالْمَاهِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ الْمُطْلَقِ وَامْتَازَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِوُجُوبِهِ بِتَعْيِينِ يَخُصُّهُ. وَحِينَئِذٍ: فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالتَّعْيِينِ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: اشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ الْمُطْلَقِ وَتَبَايَنَا بِالتَّعْيِينِ الْخَاصِّ.

ص: 232

كَقَوْلِ الْقَائِلِ اشْتَرَكَا فِي التَّعْيِينِ الْمُطْلَقِ وَتَبَايَنَا بِالْوُجُوبِ الْخَاصِّ. وَمَعْلُومُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ سَوَاءٌ سُمِّيَ تَرْكِيبًا أَوْ لَمْ يُسَمَّ فَلَا يُمْكِنُ مَوْجُودٌ يَخْلُو عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُبَايَنَةِ لَا وَاجِبٌ وَلَا غَيْرُهُ وَمَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ كَانَ نَفْيُهُ عَنْ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ مُمْتَنِعًا. وَ " أَيْضًا " فَالْمُشْتَرَكُ الْمُطْلَقُ الْكُلِّيُّ لَا يَكُونُ كُلِّيًّا مُشْتَرَكًا إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا شَيْءٌ يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيهِ فِي الْخَارِجِ؛ بَلْ كُلُّ مَا اتَّصَفَ بِهِ أَحَدُهُمَا لَمْ يَتَّصِفْ الْآخَرُ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ؛ بَلْ لَا يُشَابِهُهُ فِيهِ أَوْ يُمَاثِلُهُ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ الِاشْتِرَاكُ لَيْسَ إلَّا فِي مَا فِي الْأَذْهَانِ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُرَكَّبًا فِي مُشْتَرَكٍ وَمُمَيَّزٍ؛ بَلْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ تَخُصُّهُ لَا يُشَابِهُهُ الْآخَرُ فِيهَا وَبِصِفَةِ يُشَابِهُهُ الْآخَرُ فِيهَا وَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِيهِ. وَأَيْضًا فَيُقَالُ: هَذَا مَنْقُوضٌ بِالْوُجُودِ فَإِنَّ الْوُجُودَ الْوَاجِبَ وَالْمُمْكِنَ يَشْتَرِكَانِ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَيُبَايِنُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِخُصُوصِهِ؛ فَيَلْزَمُ تَرْكِيبُ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ مِمَّا بِهِ الِاشْتِرَاكُ وَمِمَّا بِهِ الِامْتِيَازُ؛ فَمَا كَانَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا كَانَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ. وَ " أَيْضًا " فَيُقَالُ: هَبْ أَنَّكُمْ سَمَّيْتُمْ هَذَا تَرْكِيبًا. فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ

ص: 233

هَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَى مَوْجُودٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مُمْكِنًا؟ مَعَ أَنَّ الْمُنَازِعَ يَقُولُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي نَفَيْتُمُوهُ وَسَمَّيْتُمُوهُ تَرْكِيبًا هُوَ لَازِمٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ. قَوْلُهُمْ: وَقَدْ فَرَضْنَاهُ فَرْدًا. قِيلَ: هَبْ أَنَّكُمْ فَرَضْتُمُوهُ كَذَلِكَ؛ لَكِنَّ مُجَرَّدَ فَرْضِكُمْ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فَرْدًا بِالْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَيْتُمُوهُ إنْ لَمْ يَقُمْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ.

ص: 234

وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: (*)

عَنْ بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتَقِدَهُ وَيَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا؛ بِأَوْضَحِ عِبَارَةٍ وَأَبْيَنِهَا مِنْ أَنَّ مَا فِي الْمَصَاحِفِ هَلْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الْقَدِيمُ؟ أَمْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ لَا نَفْسُهُ وَأَنَّهُ حَادِثٌ أَوْ قَدِيمٌ وَأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ؟ أَمْ كَلَامُهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ لَا تُفَارِقُهُ؟ وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} حَقِيقَةٌ أَمْ لَا؟ وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَجْرَى الْقُرْآنَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْهُ وَيَقُولُ أُؤمِنُ (1) بِهِ كَمَا أُنْزِلَ هَلْ يَكْفِيهِ ذَلِكَ فِي الِاعْتِقَادِ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّأْوِيلُ؟

فَأَجَابَ:

الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ اعْتِقَادُهُ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ وَذَمَّ مَنْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَأَنَّهُ قُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَأَنَّهُ

(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 107):

هذه الفتيا سماها الشيخ رحمه الله: (جواب الفتيا المصرية)، وهي مذكورة في (التسعينية)(12/ 529 - 544).

وقد بقي جزاءان من إجابة السؤال لم تذكر في المجموع وأعني الكلام على (الاستواء وهل هو حقيقة، وإجراء القرآن على ظاهره بلا تأويل)، وهي مذكورة في (التسعينية) 2/ 544 - 547.

ويظهر أن نص الفتيا المصرية الكامل هو الموجود في (الفتاوى)؛ لأن الشيخ رحمه الله ذكرها في (التسعينية) بهذا اللفظ، ثم قال في نهايتها (هذا لفظ الجواب في الفتيا المصرية)، ثم قال بعد ذلك: قلت: وأما سؤال السائل عن قوله عز وجل: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى). . . الخ

فيبدو أنه استدرك باقي الاجابة فيما بعد، والله تعالى أعلم.

(1)

في الأصل (أو من). (صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف - ص 106: هامش 2)

ص: 235

{قُرْآنٌ مَجِيدٌ} {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} . وَأَنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} وَأَنَّهُ فِي الصُّدُورِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ فِي عُقُلِهَا} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {الْجَوْفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ} وَأَنَّ مَا بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ الَّذِي كَتَبَتْهُ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم كَلَامُ اللَّهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ} . فَهَذِهِ " الْجُمْلَةُ " تَكْفِي الْمُسْلِمَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا تَفْصِيلُ مَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ النِّزَاعِ فَكَثِيرٌ مِنْهُ يَكُونُ كِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ خَطَأً وَيَكُونُ الْحَقُّ فِي التَّفْصِيلِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مَعَ كُلٍّ مِنْ الْمُتَنَازِعَيْنِ نَوْعٌ مِنْ الْحَقِّ وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا يُنْكِرُ حَقَّ صَاحِبِهِ. وَهَذَا مِنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَنَهَى عَنْهُ فَقَالَ: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} وَقَالَ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وَقَالَ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وَقَالَ: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} .

ص: 236

فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَلْزَمَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةَ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مَنَّ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ. وَمَا تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ وَتَفَرَّقَتْ فِيهِ إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَفْصِلَ النِّزَاعَ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَإِلَّا اسْتَمْسَكَ بِالْجُمَلِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَأَعْرَضَ عَنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا فَإِنَّ مَوَاضِعَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ عَامَّتُهَا تَصْدُرُ عَنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى. وَقَدْ بَسَطْت الْقَوْلَ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِبَيَانِ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ. وَبَيَانُ مَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَالِاشْتِبَاهِ وَالْغَلَطِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ وَلَكِنْ نَذْكُرُ مِنْهَا جُمْلَةً مُخْتَصَرَةً بِحَسَبِ حَالِ السَّائِلِ. وَالْوَاجِبُ أَمْرُ الْعَامَّةِ بِالْجُمَلِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَمَنْعُهُمْ مِنْ الْخَوْضِ فِي التَّفْصِيلِ الَّذِي يُوقِعُ بَيْنَهُمْ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ مِنْ أَعْظَمِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ. وَالتَّفْصِيلُ الْمُخْتَصَرُ أَنْ نَقُولَ: مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ وَأَصْوَاتَ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ فَهُوَ ضَالٌّ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَسَائِر عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ

ص: 237

عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إنَّ ذَلِكَ قَدِيمٌ لَا مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَلَا مَنْ غَيْرِهِمْ وَمَنْ نَقَلَ قِدَمَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَنَحْوِهِمْ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي هَذَا النَّقْلِ أَوْ مُتَعَمِّدٌ لِلْكَذِبِ؛ بَلْ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ تَبْدِيعُ مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَمَا جَهَّمُوا مَنْ قَالَ: اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ. وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو بَكْرٍ المروذي - أَخَصُّ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد بِهِ - فِي ذَلِكَ رِسَالَةً كَبِيرَةً مَبْسُوطَةً وَنَقَلَهَا عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " الَّذِي جَمَعَ فِيهِ كَلَامَ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي أَبْوَابِ الِاعْتِقَادِ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ إذْ ذَاكَ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مُعَارَضَةً لِمَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْإِمَامَ أَحْمَد فَأَنْكَرَ ذَلِكَ إنْكَارًا شَدِيدًا وَبَدَّعَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فَكَيْفَ بِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ صَوْتَ الْعَبْدِ قَدِيمٌ وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ يَحْكِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ وَجَمِيعُ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَمَا عَلِمْت أَنَّ عَالِمًا يَقُولُ ذَلِكَ إلَّا مَا يَبْلُغُنَا عَنْ بَعْضِ الْجُهَّالِ: مِنْ الْأَكْرَادِ وَنَحْوِهِمْ ". وَقَدْ مَيَّزَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْكَلَامِ وَالْمِدَادِ فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ

ص: 238

جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} فَهَذَا خَطَأٌ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَعْلُومٌ بِالْقُلُوبِ وَأَنَّهُ مَتْلُوٌّ بِالْأَلْسُنِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسُنِ وَأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْمُصْحَفِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَكْتُوبٌ. وَجَعْلُ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ فِي الصُّدُورِ وَالْأَلْسِنَةِ وَالْمَصَاحِفِ مِثْلَ ثُبُوتِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ فَهَذَا - أَيْضًا - مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ ثُبُوتِ الْأَعْيَانِ فِي الْمُصْحَفِ وَبَيْنَ ثُبُوتِ الْكَلَامِ فِيهَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ؛ فَإِنَّ الْمَوْجُودَاتِ لَهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: مَرْتَبَةٌ فِي الْأَعْيَانِ وَمَرْتَبَةٌ فِي الْأَذْهَانِ وَمَرْتَبَةٌ فِي اللِّسَانِ وَمَرْتَبَةٌ فِي الْبَنَانِ. فَالْعِلْمُ يُطَابِقُ الْعَيْنَ وَاللَّفْظُ يُطَابِقُ الْعِلْمَ وَالْخَطُّ يُطَابِقُ اللَّفْظَ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّ الْعَيْنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِي فِي الزُّبُرِ إنَّمَا هُوَ الْخَطُّ الْمُطَابِقُ لِلَّفْظِ الْمُطَابِقِ لِلْعِلْمِ فَبَيْنَ الْأَعْيَانِ وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ مَرْتَبَتَانِ وَهِيَ اللَّفْظُ وَالْخَطُّ وَأَمَّا الْكَلَامُ نَفْسُهُ فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ مَرْتَبَةٌ بَلْ نَفْسُ الْكَلَامِ يُجْعَلُ فِي الْكِتَابِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْحَرْفِ الْمَلْفُوظِ وَالْحَرْفِ الْمَكْتُوبِ فَرْقٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إلَّا إذَا أُرِيدَ أَنَّ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ هُوَ ذِكْرُهُ وَالْخَبَرُ عَنْهُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}

ص: 239

{عَلَى قَلْبِكَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} . {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ} . فَاَلَّذِي فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ وَخَبَرُهُ كَمَا فِيهَا ذِكْرُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَخَبَرُهُ كَمَا أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ فِي الزُّبُرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الزُّبُرِ وَبَيْنَ كَوْنِ الْكَلَامِ نَفْسِهِ فِي الزُّبُرِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} . فَمَنْ قَالَ إنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ فَقَدْ أَخْطَأَ وَمَنْ قَالَ لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّمَا فِيهِ الْمِدَادُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ أَخْطَأَ؛ بَلْ الْقُرْآنُ فِي الْمُصْحَفِ كَمَا أَنَّ سَائِر الْكَلَامِ فِي الْوَرَقِ كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَيْهِ وَكَمَا هُوَ فِي فِطَرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ كُلَّ مَرْتَبَةٍ لَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا وَلَيْسَ وُجُودُ الْكَلَامِ فِي الْكِتَابِ كَوُجُودِ الصِّفَةِ فِي الْمَوْصُوفِ مِثْلُ وُجُودِ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ فِي مَحَلِّهِمَا حَتَّى يُقَالَ: إنَّ صِفَةَ اللَّهِ حَلَّتْ بِغَيْرِهِ أَوْ فَارَقَتْهُ وَلَا الْوُجُودُ فِيهِ كَالدَّلِيلِ الْمَحْضِ مِثْلُ وُجُودِ الْعَالَمِ الدَّالِّ عَلَى الْبَارِي تَعَالَى حَتَّى يُقَالَ: لَيْسَ فِيهِ إلَّا مَا هُوَ عَلَامَةٌ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ عز وجل؛

ص: 240

بَلْ هُوَ قِسْمٌ آخَرُ وَمَنْ لَمْ يُعْطِ كُلَّ مَرْتَبَةٍ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِيهَا أَدَاةُ الظَّرْفِ حَقَّهَا فَيُفَرِّقُ بَيْنَ وُجُودِ الْجِسْمِ فِي الْحَيِّزِ وَفِي الْمَكَانِ وَوُجُودِ الْعَرَضِ بِالْجِسْمِ وَوُجُودِ الصُّورَةِ بِالْمِرْآةِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ بِالْعَيْنِ يَقَظَةً وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ بِالْقَلْبِ يَقِظَةً وَمَنَامًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَإِلَّا اضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ. وَكَذَلِكَ سُؤَالُ السَّائِلِ عَمَّا فِي الْمُصْحَفِ هَلْ هُوَ حَادِثٌ أَوْ قَدِيمٌ؟ سُؤَالٌ مُجْمَلٌ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْقَدِيمِ أَوَّلًا لَيْسَ مَأْثُورًا عَنْ السَّلَفِ وَإِنَّمَا الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تُلِيَ وَحَيْثُ كُتِبَ وَهُوَ قُرْآنٌ وَاحِدٌ وَكَلَامٌ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ الصُّوَرُ الَّتِي يُتْلَى فِيهَا وَيُكْتَبُ مِنْ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ وَمِدَادِهِمْ. فَإِنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا كَلَامُ مَنْ بَلَّغَهُ مُؤَدِّيًا فَإِذَا سَمِعْنَا مُحَدِّثًا يُحَدِّثُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} قُلْنَا: هَذَا كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُ الْمُبَلِّغِ لَا صَوْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ مَنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ. وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ لِمَا نَسْمَعُهُ مِنْ الْقَارِئِ وَنَرَى فِي الْمُصْحَفِ فَالْإِشَارَةُ إلَى الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ الْبَلَاغُ مِنْ صَوْتِ الْمُبَلِّغِ وَمِدَادِ الْكَاتِبِ.

ص: 241

فَمَنْ قَالَ: صَوْتُ الْقَارِئِ وَمِدَادُ الْكَاتِبِ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَقَدْ أَخْطَأَ وَهَذَا الْفَرْقُ الَّذِي بَيَّنَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد لِمَنْ سَأَلَهُ وَقَدْ قَرَأَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَقَالَ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَالَ: نَعَمْ. فَنَقَلَ السَّائِلُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَدَعَا بِهِ وَزَبَرَهُ زَبْرًا شَدِيدًا وَطَلَبَ عُقُوبَتَهُ وَتَعْزِيرَهُ وَقَالَ: أَنَا قُلْت لَك لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَالَ: لَا وَلَكِنْ قُلْت لِي لَمَّا قَرَأْت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} هَذَا كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. قَالَ: فَلِمَ تَنْقُلُ عَنِّي مَا لَمْ أَقُلْهُ. فَبَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَد أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ لِمَا سَمِعَهُ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ الْمُؤَدِّينَ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ. فَالْإِشَارَةُ إلَى حَقِيقَتِهِ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا وَإِنْ كُنَّا إنَّمَا سَمِعْنَاهَا بِبَلَاغِ الْمُبَلِّغِ وَحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ؛ فَإِذَا أَشَارَ إلَى شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ لَفْظِهِ أَوْ صَوْتِهِ أَوْ فِعْلِهِ وَقَالَ: هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَدْ ضَلَّ وَأَخْطَأَ. فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَالْقُرْآنُ فِي الْمَصَاحِفِ كَمَا أَنَّ سَائِر الْكَلَامِ فِي الصُّحُفِ وَلَا يُقَالُ: إنَّ شَيْئًا مِنْ الْمِدَادِ وَالْوَرَقِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ بَلْ كُلُّ وَرَقٍ وَمِدَادٍ فِي الْعَالَمِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَيُقَالُ أَيْضًا: الْقُرْآنُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَيَتَبَيَّنُ هَذَا الْجَوَابُ بِالْكَلَامِ عَلَى " الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ " وَهِيَ قَوْلُهُ:

ص: 242

إنَّ كَلَامَ اللَّهِ هَلْ هُوَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ إطْلَاقَ الْجَوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا خَطَأٌ وَهِيَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُوَلَّدَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ لَمَّا قَالَ قَوْمٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الصفاتية: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ - كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاَلَّذِي لَمْ يُنَزِّلْهُ وَالْكَلِمَاتِ الَّتِي كَوَّنَ بِهَا الْكَائِنَاتِ وَالْكَلِمَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَخَبَرِهِ لَيْسَتْ إلَّا مُجَرَّدَ مَعْنًى وَاحِدٍ هُوَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ قَامَتْ بِاَللَّهِ إنْ عُبِّرَ عَنْهَا بالعبرانية كَانَتْ التَّوْرَاةَ وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَتْ الْقُرْآنَ وَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ صِفَاتٌ لَهَا لَا أَقْسَامٌ لَهَا وَإِنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا وَلَيْسَتْ مِنْ كَلَامِهِ؛ إذْ كَلَامُهُ لَا يَكُونُ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ. عَارَضَهُمْ آخَرُونَ مِنْ الْمُثْبِتَةِ فَقَالُوا: بَلْ الْقُرْآنُ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ وَتَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ بِالْحُرُوفِ الْمِدَادَ وَبِالْأَصْوَاتِ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ. وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ - كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ فِي " كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " وَغَيْرِهِ وَسَائِر الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُمْ وَبَعْدَهُمْ - أَتْبَاعُ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَهُوَ

ص: 243

أَنَّ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَلَامًا لِغَيْرِهِ؛ وَلَكِنْ أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَلَيْسَ الْقُرْآنُ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْمَعْنَى وَلَا لِمُجَرَّدِ الْحَرْفِ؛ بَلْ لِمَجْمُوعِهِمَا وَكَذَلِكَ سَائِر الْكَلَامِ لَيْسَ هُوَ الْحُرُوفَ فَقَطْ؛ وَلَا الْمَعَانِي فَقَطْ. كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُتَكَلِّمَ النَّاطِقَ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ الرُّوحِ وَلَا مُجَرَّدَ الْجَسَدِ؛ بَلْ مَجْمُوعُهُمَا. وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَأَصْوَاتِ الْعِبَادِ لَا صَوْتِ الْقَارِئِ وَلَا غَيْرِهِ. وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ. فَكَمَا لَا يُشْبِهُ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَحَيَاتُهُ عِلْمَ الْمَخْلُوقِ وَقُدْرَتَهُ وَحَيَاتَهُ: فَكَذَلِكَ لَا يُشْبِهُ كَلَامُهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ وَلَا مَعَانِيهِ تُشْبِهُ مَعَانِيَهُ وَلَا حُرُوفُهُ تُشْبِهُ حُرُوفَهُ وَلَا صَوْتُ الرَّبِّ يُشْبِهُ صَوْتَ الْعَبْدِ فَمَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ. وَقَدْ كَتَبْت فِي الْجَوَابِ الْمَبْسُوطِ الْمُسْتَوْفِي: مَرَاتِبَ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ تَزْعُمُ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ إلَّا فِي نُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ تُفِيضُ عَلَيْهِمْ الْمَعَانِيَ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ فَيَصِيرُ فِي نُفُوسِهِمْ حُرُوفًا كَمَا أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ مَا يَحْدُثُ فِي نُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الصُّوَرِ النُّورَانِيَّةِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ فَيْلَسُوفِ قُرَيْشٍ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْقُرْآنَ تَصْنِيفُ

ص: 244

الرَّسُولِ الْكَرِيمِ؛ لَكِنَّهُ كَلَامٌ شَرِيفٌ صَادِرٌ عَنْ نَفْسٍ صَافِيَةٍ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الصَّابِئَةُ؛ فَتَقَرَّبَتْ مِنْهُمْ الْجَهْمِيَّة. فَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا قَامَ بِهِ كَلَامٌ وَإِنَّمَا كَلَامُهُ مَا يَخْلُقُهُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ فَأَخَذَ بِبَعْضِ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الصفاتية. فَقَالُوا: بَلْ نِصْفُهُ وَهُوَ الْمَعْنَى كَلَامُ اللَّهِ وَنِصْفُهُ وَهُوَ الْحُرُوفُ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ هُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَقَدْ تَنَازَعَ الصفاتية الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. هَلْ يُقَالُ: إنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ؟ أَمْ يُقَالُ: يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ؟ . عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فِي ذَلِكَ وَفِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَنَحْوِهِمَا ذَكَرَهُمَا الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيَّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ النِّزَاعُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَفِرَقِ الْفُقَهَاءِ: مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ؛ بَلْ وَبَيْنَ فِرَقِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ فِي جِنْسِ هَذَا الْبَابِ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعًا لِبَسْطِ ذَلِكَ. هَذَا لَفْظُ الْجَوَابِ فِي الْفُتْيَا الْمِصْرِيَّةِ.

ص: 245

وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ -

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ فَهَذَا ‌

" فَصْلٌ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ " وَلَفْظُ " النُّزُولِ "

حَيْثُ ذُكِرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَسَّرُوا النُّزُولَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ مَا هُوَ مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفُ لِاشْتِبَاهِ الْمَعْنَى فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ وَصَارَ ذَلِكَ حُجَّةً لِمَنْ فَسَّرَ نُزُولَ الْقُرْآنِ بِتَفْسِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ. فَمِنْ الْجَهْمِيَّة مَنْ يَقُولُ: أَنْزَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أَوْ يَقُولُ: خَلَقَهُ فِي مَكَانٍ عَالٍ ثُمَّ أَنْزَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ.

ص: 246

وَمِنْ الْكُلَّابِيَة مَنْ يَقُولُ نُزُولُهُ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ بِهِ وَإِفْهَامِهِ لِلْمَلَكِ أَوْ نُزُولِ الْمَلَكِ بِمَا فَهِمَهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ بَاطِلٌ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " ذِكْرُ النُّزُولِ. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: النُّزُولُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ": نُزُولٌ مُقَيَّدٌ بِأَنَّهُ مِنْهُ وَنُزُولٌ مُقَيَّدٌ بِأَنَّهُ مِنْ السَّمَاءِ وَنُزُولٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا. فَالْأَوَّلُ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَفِيهَا قَوْلَانِ: " أَحَدُهُمَا " لَا حَذْفَ فِي الْكَلَامِ بَلْ قَوْلُهُ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَ " الثَّانِي " أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هَذَا {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:

ص: 247

{حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَكَذَلِكَ {حم} {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وَالتَّنْزِيلُ بِمَعْنَى الْمُنَزَّلِ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ كَثِيرٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ مِنْهُ بَدَأَ. قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ: وَإِلَيْهِ يَعُودُ أَيْ: هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ. وَقَالَ كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنِ مِنْهُ أَيْ لَمْ يَخْلُقْهُ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ مُبْتَدَأً مُنَزَّلًا مِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ؛ بَلْ هُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ وَمِنْ اللَّهِ بَدَأَ لَا مِنْ مَخْلُوقٍ فَهُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لِخَلْقِهِ. وَأَمَّا النُّزُولُ " الْمُقَيَّدُ " بِالسَّمَاءِ فَقَوْلُهُ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ} وَالسَّمَاءُ اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ مَا عَلَا فَإِذَا قُيِّدَ بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ تَقَيَّدَ بِهِ، فَقَوْلُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ السَّمَاءِ مُطْلَقٌ أَيْ فِي الْعُلُوِّ؛ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} وَقَوْلُهُ {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} أَيْ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ السَّحَابِ وَمِمَّا يُشْبِهُ نُزُولَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ:{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فَنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ هُوَ نُزُولُهُمْ بِالْوَحْيِ مَنْ أَمْرِهِ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} فَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ}

ص: 248

وَأَمَّا " الْمُطْلَقُ " فَفِي مَوَاضِعَ. مِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ مِنْ إنْزَالِ السَّكِينَةِ؛ بِقَوْلِهِ: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْ ذَلِكَ " إنْزَالُ الْمِيزَانِ " ذَكَرَهُ مَعَ الْكِتَابِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَدْلُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ رحمه الله هُوَ مَا يُوزَنُ بِهِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. وَكَذَلِكَ الْعَدْلُ وَمَا يُعْرَفُ بِهِ الْعَدْلُ مُنَزَّل فِي الْقُلُوبِ وَالْمَلَائِكَةُ قَدْ تَنْزِلُ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ؛ كَقَوْلِهِ: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} فَذَلِكَ الثَّبَاتُ نَزَلَ فِي الْقُلُوبِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ السِّكِّينَةُ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِّلَ إلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الْقَضَاءَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ} فَاَللَّهُ يُنَزِّلُ عَلَيْهِ مَلَكًا وَذَلِكَ الْمَلَكُ يُلْهِمُهُ السَّدَادَ وَهُوَ يَنْزِلُ فِي قَلْبِهِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْأَمَانَةَ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ فَعَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ} وَالْأَمَانَةُ هِيَ الْإِيمَانُ أَنْزَلَهَا فِي أَصْلِ قُلُوبِ الرِّجَالِ وَهُوَ كَإِنْزَالِ الْمِيزَانِ وَالسِّكِّينَةِ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ فَذَكَرَ أَرْبَعَةً غِشْيَانَ

ص: 249

الرَّحْمَةِ وَهِيَ أَنْ تَغْشَاهُمْ كَمَا يَغْشَى اللِّبَاسُ لَابِسَهُ وَكَمَا يَغْشَى الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَاللَّيْلُ النَّهَارَ. ثُمَّ قَالَ: {وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السِّكِّينَةُ} وَهُوَ إنْزَالُهَا فِي قُلُوبِهِمْ {وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ} أَيْ جَلَسَتْ حَوْلَهُمْ {وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ} مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَذَكَرَ اللَّهُ الْغِشْيَانَ فِي مَوَاضِعَ مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} وَقَوْلِهِ: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} وَقَوْلِهِ: {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} هَذَا كُلُّهُ فِيهِ إحَاطَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَذَكَرَ تَعَالَى إنْزَالَ النُّعَاسِ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} هَذَا يَوْمَ أُحُدٍ. وَقَالَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ: {إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} وَالنُّعَاسُ يَنْزِلُ فِي الرَّأْسِ بِسَبَبِ نُزُولِ الْأَبْخِرَةِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الدِّمَاغِ فَتَنْعَقِدُ فَيَحْصُلُ مِنْهَا النُّعَاسُ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ - مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - جَعَلُوا النُّزُولَ وَالْإِتْيَانَ وَالْمَجِيءَ حَدَثًا يُحْدِثُهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ فَذَاكَ هُوَ إتْيَانُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ فَقَالُوا اسْتِوَاؤُهُ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ فِي الْعَرْشِ يَصِيرُ بِهِ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ

ص: 250

يَقُومُ بِالرَّبِّ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ خَالَفُوهُمْ. وَقَالُوا: الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ لَا يَجِيءُ شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ إلَّا بِمَجِيءِ شَيْءٍ فَإِذَا قَالُوا: جَاءَ الْبَرْدُ أَوْ جَاءَ الْحَرُّ فَقَدْ جَاءَ الْهَوَاءُ الَّذِي يَحْمِلُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَهُوَ عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا. وَإِذَا قَالُوا: جَاءَتْ الْحُمَّى فَالْحُمَّى حَرٌّ أَوْ بَرْدٌ تَقُومُ بِعَيْنِ قَائِمَةٍ بِسَبَبِ أَخْلَاطٍ تَتَحَرَّكُ وَتَتَحَوَّلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ فَيَحْدُثُ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ بِذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَرَضِ الَّذِي يَحْدُثُ بِلَا تَحَوُّلٍ مِنْ حَامِلٍ مِثْلُ لَوْنِ الْفَاكِهَةِ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي هَذَا: جَاءَتْ الْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ وَالْخُضْرَةُ بَلْ يُقَالُ: أَحْمَرُ وَأَصْفَرُ وَأَخْضَرُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْزَالُهُ تَعَالَى الْعَدْلَ وَالسَّكِينَةَ وَالنُّعَاسَ وَالْأَمَانَةَ - وَهَذِهِ صِفَاتٌ تَقُومُ بِالْعِبَادِ - إنَّمَا تَكُونُ إذَا أَفْضَى بِهَا إلَيْهِمْ فَالْأَعْيَانُ الْقَائِمَةُ تُوصَفُ بِالنُّزُولِ كَمَا تُوصَفُ الْمَلَائِكَةُ بِالنُّزُولِ بِالْوَحْيِ وَالْقُرْآنِ فَإِذَا نَزَلَ بِهَا الْمَلَائِكَةُ قِيلَ إنَّهَا نَزَلَتْ. وَكَذَلِكَ لَوْ نَزَلَ غَيْرُ الْمَلَائِكَةِ كَالْهَوَاءِ الَّذِي نَزَلَ بِالْأَسْبَابِ فَيُحْدِثُ اللَّهُ مِنْهُ الْبُخَارَ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ النُّعَاسُ فَكَانَ قَدْ أَنْزَلَ النُّعَاسَ سُبْحَانَهُ بِإِنْزَالِ مَا يَحْمِلُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ إنْزَالَ الْحَدِيدِ وَالْحَدِيدُ يُخْلَقُ فِي الْمَعَادِنِ. وَمَا يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ

ص: 251

نَزَلَ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ مِنْ حَدِيدٍ السِّنْدَانُ وَالْكَلْبَتَانِ وَالْمِنْقَعَةُ وَالْمِطْرَقَةُ وَالْإِبْرَةُ فَهُوَ كَذِبٌ لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ. وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ أَرْبَعَ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ فَأَنْزَلَ الْحَدِيدَ وَالْمَاءَ وَالنَّارَ وَالْمِلْحَ} حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ مَكْذُوبٌ فِي إسْنَادِهِ سَيْفُ بْنُ مُحَمَّدٍ ابْنُ أُخْتِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رحمه الله وَهُوَ مِنْ الْكَذَّابِينَ الْمَعْرُوفِينَ بِالْكَذِبِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هُوَ سَيْفُ بْنُ مُحَمَّدٍ ابْنُ أُخْتِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ يَرْوِي عَنْ الثَّوْرِيِّ وَعَاصِمٍ الْأَحْوَلِ وَالْأَعْمَشِ قَالَ أَحْمَد رحمه الله هُوَ كَذَّابٌ يَضَعُ الْحَدِيثَ وَقَالَ مَرَّةً: لَيْسَ بِشَيْءِ وَقَالَ يَحْيَى: كَانَ كَذَّابًا خَبِيثًا وَقَالَ مَرَّةً لَيْسَ بِثِقَةِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد كَذَّابٌ وَقَالَ زَكَرِيَّا السَّاجِي يَضَعُ الْحَدِيثَ وَقَالَ النِّسَائِيُّ: لَيْسَ بِثِقَةِ وَلَا مَأْمُونٍ وَقَالَ الدارقطني ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ. وَالنَّاسُ يَشْهَدُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآلَاتِ تُصْنَعُ مِنْ حَدِيدِ الْمَعَادِنِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ آدَمَ عليه السلام نَزَلَ مَعَهُ جَمِيعُ الْآلَاتِ فَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ لِلْعِيَانِ. وَإِنْ قِيلَ بَلْ نَزَلَ مَعَهُ آلَةٌ وَاحِدَةٌ وَتِلْكَ لَا تُعْرَفُ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا لِسَائِرِ النَّاسِ ثُمَّ مَا يَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآلَاتِ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ حَدِيدٌ مَوْجُودٌ يُطْرَقُ بِهَذِهِ الْآلَاتِ وَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْحَدِيدَ صُنِعَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْآلَاتُ مَعَ أَنَّ

ص: 252

الْمَأْثُورَ: {أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَطَّ وَخَاطَ إدْرِيسُ عليه السلام} وَآدَمُ عليه السلام لَمْ يَخِطْ ثَوْبًا فَمَا يَصْنَعُ بِالْإِبْرَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ فَكَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ بِذِكْرِ الْحَدِيدِ هُوَ اتِّخَاذُ آلَاتِ الْجِهَادِ مِنْهُ كَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ وَالنَّصْلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ الَّذِي بِهِ يُنْصَرُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَهَذِهِ لَمْ تَنْزِلْ مِنْ السَّمَاءِ. فَإِنْ قِيلَ نَزَلَتْ الْآلَةُ الَّتِي يُطْبَعُ بِهَا قِيلَ فَاَللَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْآلَةُ وَحْدَهَا لَا تَكْفِي بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَادَّةٍ يُصْنَعُ بِهَا آلَاتُ الْجِهَادِ؛ لَكِنَّ لَفْظَ النُّزُولِ أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى قَالَ قُطْرُبُ رحمه الله مَعْنَاهُ جَعَلَهُ نُزُلًا كَمَا يُقَالُ أَنْزَلَ الْأَمْرَ عَلَى فُلَانٍ نُزُلًا حَسَنًا أَيْ جَعَلَهُ نُزُلًا. قَالَ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ النُّزُلَ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يُؤْكَلُ لَا عَلَى مَا يُقَاتَلُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} وَالضِّيَافَةُ سُمِّيَتْ نُزُلًا لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الضَّيْفَ يَكُونُ رَاكِبًا فَيَنْزِلُ فِي مَكَانٍ يُؤْتَى إلَيْهِ بِضِيَافَتِهِ فِيهِ فَسُمِّيَتْ نُزُلًا لِأَجْلِ نُزُولِهِ وَنَزَلَ بِبَنِي فُلَانٍ ضَيْفٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ نُوحٌ عليه السلام {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} لِأَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا فِي السَّفِينَةِ وَسُمِّيَتْ الْمَوَاضِعُ الَّتِي يَنْزِلُ بِهَا الْمُسَافِرُونَ مَنَازِلَ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ رُكْبَانًا فَيَنْزِلُونَ وَالْمُشَاةُ تَبَعٌ لِلرُّكْبَانِ وَتُسَمَّى الْمَسَاكِنُ مَنَازِلَ.

ص: 253

وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ نُزُولَ الْحَدِيدِ بِمَعْنَى الْخَلْقِ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَعَادِنِ وَعَلَّمَهُمْ صَنْعَتَهُ فَإِنَّ الْحَدِيدَ إنَّمَا يُخْلَقُ فِي الْمَعَادِنِ وَالْمَعَادِنُ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْجِبَالِ فَالْحَدِيدُ يُنَزِّلُهُ اللَّهُ مِنْ مَعَادِنِهِ الَّتِي فِي الْجِبَالِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ بَنُو آدَمَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} . وَهَذَا مِمَّا أَشْكَلَ أَيْضًا. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَعَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: خَلَقَ لِكَوْنِهَا تُخْلَقُ مِنْ الْمَاءِ فَإِنَّ بِهِ يَكُونُ النَّبَاتُ الَّذِي يَنْزَلُ أَصْلُهُ مِنْ السَّمَاءِ وَهُوَ الْمَاءُ وَقَالَ قُطْرُبُ: جَعَلْنَاهُ نُزُلًا. وَلَا حَاجَةَ إلَى إخْرَاجِ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ لُغَةً؛ فَإِنَّ الْأَنْعَامَ تَنْزِلُ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا وَمِنْ أَصْلَابِ آبَائِهَا تَأْتِي بُطُونَ أُمَّهَاتِهَا وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: قَدْ أَنْزَلَ الْمَاءَ وَإِذَا أَنْزَلَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ مَعَ أَنَّ الرَّجُلَ غَالِبُ إنْزَالِهِ وَهُوَ عَلَى جَنْبٍ إمَّا وَقْتَ الْجِمَاعِ وَإِمَّا بِالِاحْتِلَامِ فَكَيْفَ بِالْأَنْعَامِ الَّتِي غَالِبُ إنْزَالِهَا مَعَ قِيَامِهَا عَلَى رِجْلَيْهَا وَارْتِفَاعِهَا عَلَى ظُهُورِ الْإِنَاثِ وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْ النُّزُولَ فِيمَا خَلَقَ مِنْ السُّفْلَيَاتِ فَلَمْ يَقُلْ أَنَزَلَ النَّبَاتَ وَلَا أَنْزَلَ الْمَرْعَى وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَ فِيمَا يُخْلَقُ فِي مَحَلٍّ عَالٍ وَأَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ كَالْحَدِيدِ وَالْأَنْعَامِ. وَقَالَ تَعَالَى {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} الْآيَةَ وَفِيهَا قِرَاءَتَانِ إحْدَاهُمَا بِالنَّصْبِ فَيَكُونُ لِبَاسُ التَّقْوَى أَيْضًا

ص: 254

مُنَزَّلًا. وَإِمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ فَلَا وَكِلَاهُمَا حَقٌّ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ خَلَقْنَاهُ وَقِيلَ أَنْزَلْنَا أَسْبَابَهُ وَقِيلَ أَلْهَمْنَاهُمْ كَيْفِيَّةَ صَنْعَتِهِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ ضَعِيفَةٌ؛ فَإِنَّ النَّبَاتَ الَّذِي ذَكَرُوا لَمْ يَجِئْ فِيهِ لَفْظُ أَنْزَلْنَا وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي كُلِّ مَا يُصْنَعُ أَنْزَلْنَا فَلَمْ يَقُلْ: أَنْزَلْنَا الدُّورَ وَأَنْزَلْنَا الطَّبْخَ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهُوَ لَمْ يَقُلْ إنَّا أَنْزَلْنَا كُلَّ لِبَاسٍ وَرِيَاشٍ وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الرِّيشَ وَالرِّيَاشَ الْمُرَادُ بِهِ اللِّبَاسُ الْفَاخِرُ كِلَاهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ مِثْلُ اللُّبْسِ وَاللِّبَاسِ وَقَدْ قِيلَ: هُمَا الْمَالُ وَالْخِصْبُ وَالْمَعَاشُ وَارْتَاشَ فُلَانٌ حَسُنَتْ حَالَتُهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ " الرِّيشَ " هُوَ الْأَثَاثُ وَالْمَتَاعُ قَالَ أَبُو عُمَرَ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَعْطَانِي فُلَانٌ رِيشَهُ أَيْ كُسْوَتَهُ وَجِهَازَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الرِّيَاشُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأَثَاثُ وَمَا ظَهَرَ مِنْ الْمَتَاعِ وَالثِّيَابِ وَالْفُرُشِ وَنَحْوِهَا وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْمَالِ وَالْمُرَادُ بِهِ مَالٌ مَخْصُوصٌ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جَمَالًا؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ رِيشِ الطَّائِرِ وَهُوَ مَا يَرُوشُ بِهِ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَجَمَالُ الطَّائِرِ رِيشُهُ وَكَذَلِكَ مَا يَبِيتُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ الْفُرُشِ وَمَا يَبْسُطُهُ تَحْتَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَالْقُرْآنُ مَقْصُودُهُ جِنْسُ اللِّبَاسِ الَّذِي يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ وَفِي الْبُيُوتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} الْآيَةَ فَامْتَنَّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ الْأَنْعَامِ فِي اللِّبَاسِ وَالْأَثَاثِ وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَعْنَى إنْزَالِهِ؛ فَإِنَّهُ يُنَزِّلُهُ

ص: 255

مِنْ ظُهُورِ الْأَنْعَامِ وَهُوَ كُسْوَةُ الْأَنْعَامِ مِنْ الْأَصْوَافِ وَالْأَوْبَارِ وَالْأَشْعَارِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ بَنُو آدَمَ مِنْ اللِّبَاسِ وَالرِّيَاشِ. فَقَدْ أَنْزَلَهَا عَلَيْهِمْ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ كِسْوَتُهُمْ مِنْ جُلُودِ الدَّوَابِّ فَهِيَ لِدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَأَعْظَمُ مِمَّا يُصْنَعُ مِنْ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْعَامَهُ عَلَى عِبَادِهِ فَذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أُصُولَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يَعِيشُ بَنُو آدَمَ إلَّا بِهَا وَذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا تَمَامَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يَطِيبُ عَيْشُهُمْ إلَّا بِهَا فَذَكَرَ فِي أَوَّلِهَا الرِّزْقَ الَّذِي لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ وَذَكَرَ مَا يَدْفَعُ الْبَرْدَ مِنْ الْكُسْوَةِ بِقَوْلِهِ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} ثُمَّ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ ذَكَرَ لَهُمْ الْمَسَاكِنَ وَالْمَنَافِعَ الَّتِي يَسْكُنُونَهَا: مَسَاكِنُ الْحَاضِرَةِ وَالْبَادِيَةِ وَمَسَاكِنُ الْمُسَافِرِينَ فَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} الْآيَةَ ثُمَّ ذَكَرَ إنْعَامَهُ بِالظِّلَالِ الَّتِي تَقِيهِمْ الْحَرَّ وَالْبَأْسَ فَقَالَ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} إلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} . وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا مَا يَقِي مِنْ الْبَرْدِ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَذَلِكَ فِي أُصُولِ النِّعَمِ؛ لِأَنَّ الْبَرْدَ يَقْتُلُ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَعِيشَ فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ بِلَا دِفْءٍ بِخِلَافِ الْحَرِّ فَإِنَّهُ أَذًى لَكِنَّهُ لَا يَقْتُلُ كَمَا يَقْتُلُ الْبَرْدُ فَإِنَّ الْحَرَّ قَدْ يُتَّقَى بِالظِّلَالِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِهِمَا وَأَهْلُهُ أَيْضًا لَا يَحْتَاجُونَ إلَى وِقَايَةٍ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْبَرْدُ؛ بَلْ أَدْنَى وِقَايَةٍ تَكْفِيهِمْ وَهُمْ فِي اللَّيْلِ وَطَرَفَيْ النَّهَارِ

ص: 256

لَا يَتَأَذَّوْنَ بِهِ تَأَذِّيًا كَثِيرًا؛ بَلْ لَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ أَحْيَانًا حَاجَةً قَوِيَّةً فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} . وَلَا حَذْفٌ فِي اللَّفْظِ وَلَا قُصُورٌ فِي الْمَعْنَى كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ حَقَائِقَ مَعَانِي الْقُرْآنِ؛ بَلْ لَفْظُهُ أَتَمُّ لَفْظٍ وَمَعْنَاهُ أَكْمَلُ الْمَعَانِي؛ فَإِذَا كَانَ اللِّبَاسُ وَالرِّيَاشُ يَنْزِلُ مِنْ ظُهُورِ الْأَنْعَامِ وَكُسْوَةُ الْأَنْعَامِ مُنَزَّلَةً مِنْ الْأَصْلَابِ وَالْبُطُونِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ الْجِهَتَيْنِ فَإِنَّهُ عَلَى ظُهُورِ الْأَنْعَامِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ بَنُو آدَمَ حَتَّى يَنْزِلَ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ لَفْظُ نُزُولٍ إلَّا وَفِيهِ مَعْنَى النُّزُولِ الْمَعْرُوفِ وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا تَعْرِفُ الْعَرَبُ نُزُولًا إلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى وَلَوْ أُرِيدُ غَيْرُ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ خِطَابًا بِغَيْرِ لُغَتِهَا ثُمَّ هُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمَعْرُوفِ لَهُ مَعْنًى فِي مَعْنًى آخَرَ بِلَا بَيَانٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِمَا ذَكَرْنَا؛ وَبِهَذَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ بَيَّنَهُ وَجَعَلَهُ هُدًى لِلنَّاسِ وَلْيَكُنْ هَذَا آخِرَهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

ص: 257

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} فَسَمَّاهُ هُنَا كَلَامَ اللَّهِ وَقَالَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ؟ فَإِنَّ طَائِفَةً مِمَّنْ يَقُولُ بِالْعِبَارَةِ يَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا حُجَّةٌ لَهُمْ ثُمَّ يَقُولُونَ: أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُوسَى - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ عز وجل حَقِيقَةً مِنْ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَتَقُولُونَ: إنَّ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً وَتَسْمَعُونَهُ مِنْ وَسَائِطَ بِأَصْوَاتِ مُخْتَلِفَةٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا؟ وَتَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمَةٌ؛ فَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ وَأَنْتُمْ تُكَفِّرُونَ الْحُلُولِيَّةَ والاتحادية وَإِنْ قُلْتُمْ: غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُمْ بِمَقَالَتِنَا وَنَحْنُ نَطْلُبُ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ جَوَابًا نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذِهِ الْآيَةُ حَقٌّ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ وَلَيْسَتْ

ص: 258

إحْدَى الْآيَتَيْنِ مُعَارِضَةً لِلْأُخْرَى بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَلَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ لِقَوْلِ بَاطِلٍ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْآيَتَيْنِ قَدْ يَحْتَجُّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ عَلَى قَوْلٍ بَاطِلٍ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ التَّالِي الْمُبَلِّغِ وَأَنَّ مَا يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي السُّنَنِ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْقِفِ وَيَقُولُ: أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لَأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي} وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ: {الم} {غُلِبَتِ الرُّومُ} {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} قَالُوا لَهُ هَذَا كَلَامُك أَمْ كَلَامُ صَاحِبِك؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِكَلَامِي وَلَا بِكَلَامِ صَاحِبِي؛ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} {وَبَنِينَ شُهُودًا} {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} {كَلَّا إنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} {إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ نَظَرَ} {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} {فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} " فَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ قَوْلُ الْبَشَرِ كَانَ قَوْلُهُ مُضَاهِيًا لِقَوْلِ الْوَحِيدِ الَّذِي أَصْلَاهُ اللَّهُ سَقَرَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ لِعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ كَالْمُبَلِّغِ لِقَوْلِ

ص: 259

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى} إذَا سَمِعَهُ النَّاسُ مِنْ الْمُبَلِّغِ قَالُوا: هَذَا حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلَوْ قَالَ الْمُبَلِّغُ هَذَا كَلَامِي وَقَوْلِي لَكَذَّبَهُ النَّاسُ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْكَلَامَ كَلَامٌ لِمَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا مُنْشِئًا؛ لَا لِمَنْ أَدَّاهُ رَاوِيًا مُبَلِّغًا. فَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا مَعْلُومًا فِي تَبْلِيغِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِ فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ فِي تَبْلِيغِ كَلَامِ الْخَالِقِ الَّذِي هُوَ أَوْلَى أَنْ لَا يُجْعَلَ كَلَامًا لِغَيْرِ الْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا. وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْهُ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ: {حم} {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} . فَجِبْرِيلُ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ جَاءَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْبَشَرِ وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ وَكِلَاهُمَا مُبَلِّغٌ لَهُ كَمَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وَقَالَ: {إلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} وَهُوَ مَعَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ لِجِبْرِيلَ وَلَا لِمُحَمَّدِ فِيهِ إلَّا التَّبْلِيغُ وَالْأَدَاءُ كَمَا أَنَّ الْمُعَلِّمِينَ لَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَالتَّالِينَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ إلَّا ذَلِكَ لَمْ يُحْدِثُوا شَيْئًا مِنْ حُرُوفِهِ وَلَا مَعَانِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ

ص: 260

الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . كَانَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ يَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَعَلَّمَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ بِمَكَّةَ إمَّا عَبْدٌ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَإِمَّا غَيْرُهُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ تَعَالَى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ} أَيْ يُضِيفُونَ إلَيْهِ التَّعْلِيمَ لِسَانٌ {أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعَلِّمَهُ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا الْكَلَامُ عَرَبِيٌّ؟ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّك بِالْحَقِّ فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ الَّذِي تَعَلَّمَهُ مَنْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُحْدِثَ لِحُرُوفِهِ وَنَظْمِهِ؛ إذْ يُمْكِنُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَلَقَّى مِنْ الْأَعْجَمِيِّ مَعَانِيَهُ وَأَلَّفَ هُوَ حُرُوفَهُ وَبَيَانُ أَنَّ هَذَا الَّذِي تَعَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِهِ نَزَلَ بِهِ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّك بِالْحَقِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ مُنَزَّلٌ مِنْ الرَّبِّ سبحانه وتعالى لَمْ يُنَزِّلْ مَعْنَاهُ دُونَ حُرُوفِهِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ كَمَنْ بَلَّغَ كَلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ أَوْ أَنْشَدَ شِعْرَ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَنْشَدَ مُنْشِدٌ قَوْلَ لَبِيَدِ:

ص: 261

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ أَوْ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ حَيْثُ قَالَ: شَهِدْت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا أَوْ قَوْلَهُ: وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ إذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعٌ يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إذَا اُسْتُثْقِلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعٌ وَهَذَا الشِّعْرُ قَالَهُ مَنْشَئِهِ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ وَهُوَ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ وَمَعْنَاهُ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ ثُمَّ إذَا أَنْشَدَهُ الْمُنْشِدُ وَبَلَّغَهُ عَنْهُ عُلِمَ أَنَّهُ شَعْرُ ذَلِكَ الْمُنْشِئِ وَكَلَامُهُ وَنَظْمُهُ وَقَوْلُهُ مَعَ أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ أَنْشَدَهُ بِحَرَكَةِ نَفْسِهِ وَصَوْتِ نَفْسِهِ وَقَامَ بِقَلْبِهِ مِنْ الْمَعْنَى نَظِيرُ مَا قَامَ بِقَلْبِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ مِنْ الْمُنْشِدِ هُوَ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْمُنْشِئِ وَالشِّعْرُ شِعْرُ الْمُنْشِئِ لَا شِعْرُ الْمُنْشِدِ - وَالْمُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ

ص: 262

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَوَى قَوْلَهُ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} بَلَّغَهُ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَكَلَّمَ بِهِ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ وَلَيْسَ صَوْتُ الْمُبَلِّغِ صَوْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا حَرَكَتُهُ كَحَرَكَتِهِ وَالْكَلَامُ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا كَلَامُ الْمُبَلِّغِ لَهُ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومًا مَعْقُولًا فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مَا يَقْرَأُ الْقَارِئُ إذَا قَرَأَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أَنْ يُقَالَ هَذَا الْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِئِ وَإِنْ كَانَ الصَّوْتُ صَوْتَ الْقَارِئِ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ صَوْتُ اللَّهِ فَهُوَ ضَالٌّ مُفْتَرٍ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ قَائِلٌ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ قَدْ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَبَدَّعُوهُ كَمَا جَهَّمُوا مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ. وَقَالُوا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَيْفَ تَصَرَّفَ فَكَيْفَ مَنْ قَالَ لَفْظِي بِهِ قَدِيمٌ أَوْ صَوْتِي بِهِ قَدِيمٌ؟ فَابْتِدَاعُ هَذَا وَضَلَالُهُ أَوْضَحُ. فَمَنْ قَالَ إنَّ لَفْظَهُ بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ صَوْتَهُ أَوْ فِعْلَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ. وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وَيَقُولُونَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَنَحْنُ لَا نَسْمَعُ

ص: 263

إلَّا صَوْتَ الْقَارِئِ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ فَإِنَّ سَمَاعَ كَلَامِ اللَّهِ بَلْ وَسَمَاعَ كُلِّ كَلَامٍ يَكُونُ تَارَةً مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَيَكُونُ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ لَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} وَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ كَلَّمَنَا بِالْقُرْآنِ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ أَوْ إنَّا نَسْمَعُ كَلَامَهُ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ جَهْلًا وَضَلَالًا. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّا نَسْمَعُ كَلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَمِعَهُ الصَّحَابَةُ مِنْهُ لَكَانَ ضَلَالُهُ وَاضِحًا فَكَيْفَ مَنْ يَقُولُ أَنَا أَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى وَإِنْ كَانَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى فَلَيْسَ صَوْتُ الْمَخْلُوقِينَ صَوْتًا لِلْخَالِقِ. وَكَذَلِكَ مُنَادَاتُهُ لِعِبَادِهِ بِصَوْتِ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قُرِبَ وَتَكَلُّمُهُ بِالْوَحْيِ حَتَّى يَسْمَعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ صَوْتَهُ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ وَالْآثَارُ كُلُّهَا لَيْسَ فِيهَا أَنَّ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ هِيَ صِفَةُ الْخَالِقِ؛ بَلْ وَلَا مِثْلُهَا بَلْ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ صِفَةِ الْخَالِقِ وَبَيْنَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ فَلَيْسَ كَلَامُهُ مِثْلَ كَلَامِهِ وَلَا مَعْنَاهُ مِثْلُ مَعْنَاهُ وَلَا حَرْفُهُ مِثْلُ حَرْفِهِ وَلَا صَوْتُهُ مِثْلُ صَوْتِهِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عِلْمُهُ مِثْلَ عِلْمِهِ وَلَا قُدْرَتُهُ مِثْلَ قُدْرَتِهِ وَلَا سَمْعُهُ مِثْلَ سَمْعِهِ وَلَا بَصَرُهُ مِثْلَ بَصَرِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ.

ص: 264

وَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي فِطَرِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ الْفَرْقُ بَيْنَ سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ ابْتِدَاءً وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ كَانَ ظُهُورُ هَذَا الْفَرْقِ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ أَوْضَحَ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْإِطْنَابِ. وَقَدْ بَيَّنَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ - كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِهِ فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ - مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ صَوْتِ اللَّهِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ وَصَوْتِ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مَا لَا يُخَالِفُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ. فَقَالَ فِي الْحَاقَّةِ {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} فَالرَّسُولُ هُنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ فِي التَّكْوِيرِ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} فَالرَّسُولُ هُنَا جِبْرِيلُ فَأَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ مِنْ الْبَشَرِ تَارَةً وَإِلَى الرَّسُولِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ تَارَةً بِاسْمِ الرَّسُولِ وَلَمْ يَقُلْ: إنَّهُ لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ لِأَنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ

ص: 265

عَنْ غَيْرِهِ لَا مُنْشِئٌ لَهُ مِنْ عِنْدِهِ {مَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ} فَكَانَ قَوْلُهُ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَتَبْلِيغُ رَسُولٍ أَوْ مُبَلَّغٌ مِنْ رَسُولٍ كَرِيمٍ أَوْ جَاءَ بِهِ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَوْ مَسْمُوعٌ عَنْ رَسُولٍ كَرِيمٍ؛ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَنْشَأَهُ أَوْ أَحْدَثَهُ أَوْ أَنْشَأَ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ أَحْدَثَهُ رَسُولٌ كَرِيمٌ إذْ لَوْ كَانَ مُنْشِئًا لَمْ يَكُنْ رَسُولًا فِيمَا أَنْشَأَهُ وَابْتَدَأَهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ رَسُولًا فِيمَا بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى الْقُرْآنِ مُطْلَقًا. وَ (أَيْضًا فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الرَّسُولَيْنِ أَنْشَأَ حُرُوفَهُ وَنَظْمَهُ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ الْآخَرُ هُوَ الْمُنْشِئَ الْمُؤَلِّفَ لَهَا فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ إضَافَتُهُ إلَى الرَّسُولِ لِأَجْلِ إحْدَاثِ لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ. وَلَوْ جَازَ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ هُنَا لِأَجْلِ إحْدَاثِ الرَّسُولِ لَهُ أَوْ لِشَيْءِ مِنْهُ لَجَازَ أَنْ نَقُولَ إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ وَهَذَا قَوْلُ الْوَحِيدِ الَّذِي أَصْلَاهُ اللَّهُ سَقَرَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَالْوَحِيدُ جَعَلَ الْجَمِيعَ قَوْلَ الْبَشَرِ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ قَوْلُ الْبَشَرِ وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا نِصْفُ قَوْلِ الْوَحِيدِ ثُمَّ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى. وَهُوَ أَنَّ مَعَانِيَ هَذَا النَّظْمِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ وَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَ

ص: 266

ذَلِكَ الْمَعْنَى مَعْنًى وَاحِدًا هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ وَتَجْعَلُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى إذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بالعبرانية كَانَ تَوْرَاةً وَإِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؛ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عَرَّبْنَاهَا لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ إذَا تَرْجَمْنَاهُ بالعبرانية لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ مَعْنَى التَّوْرَاةِ. وَ (أَيْضًا فَإِنَّ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ وَإِنَّمَا يَشْتَرِكَانِ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَمُسَمَّى كَلَامِ اللَّهِ كَمَا تَشْتَرِكُ الْأَعْيَانُ فِي مُسَمَّى النَّوْعِ فَهَذَا الْكَلَامُ وَهَذَا الْكَلَامُ وَهَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ يَشْتَرِكُ فِي أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ اشْتِرَاكَ الْأَشْخَاصِ فِي أَنْوَاعِهَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ وَهَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا الْإِنْسَانُ يَشْتَرِكُونَ فِي مُسَمَّى الْإِنْسَانِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَخْصٌ بِعَيْنِهِ هُوَ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ كَلَامٌ وَاحِدٌ هُوَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَهُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ. وَمَنْ خَالَفَ هَذَا كَانَ فِي مُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ مِنْ جِنْس مَنْ قَالَ: إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَأَفْعَالَهُمْ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ. فَاضْرِبْ بِكَلَامِ الْبِدْعَتَيْنِ رَأْسَ قَائِلِهِمَا وَأَلْزِمْ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.

ص: 267

وَبِسَبَبِ هَاتَيْنِ الْبِدْعَتَيْنِ الْحَمْقَاوَيْنِ ثَارَتْ الْفِتَنُ وَعَظُمَتْ الْإِحَنُ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْقَوْلَيْنِ قَدْ يُفَسِّرُونَهُمَا بِمَا قَدْ يَلْتَبِسُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ كَمَا فَسَّرَ مَنْ قَالَ: إنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ بَعْضَهُ قَدِيمٌ: أَنَّ الْقَدِيمَ ظَهَرَ فِي الْمُحْدَثِ مِنْ غَيْرِ حُلُولٍ فِيهِ. وَأَمَّا " أَفْعَالُ الْعِبَادِ " فَرَأَيْت بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَزْعُمُ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ خَيْرُهَا وَشَرُّهَا وَفَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّرْعَ قَدِيمٌ وَالْقَدَرَ قَدِيمٌ وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَالْمَشْرُوعِ الَّذِي هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَدَرِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ وَبَيْنَ الْمَقْدُورِ الَّذِي هُوَ مَخْلُوقَاتُهُ. وَالْعُقَلَاءُ كُلُّهُمْ يَعْلَمُونَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالْخَبَرَ نَوْعَانِ لِلْكَلَامِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ صِفَاتٍ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ - فَمَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ صِفَاتٍ لِلْكَلَامِ لَا أَنْوَاعًا لَهُ فَقَدْ خَالَفَ ضَرُورَةَ الْعَقْلِ؛ وَهَؤُلَاءِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ؛ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ وَالْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ؛ فَإِنَّ انْقِسَامَ " الْمَوْجُودِ " إلَى الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ وَالْقَائِمِ بِغَيْرِهِ كَانْقِسَامِ " الْكَلَامِ " إلَى الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ أَوْ إلَى الْإِنْشَاءِ وَالْإِخْبَارِ أَوْ إلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ - فَمَنْ قَالَ الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ فَهُوَ كَمَنْ قَالَ الْوُجُودُ وَاحِدٌ هُوَ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ أَوْ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ. وَكَمَا أَنَّ حَقِيقَةً هَذَا تَؤُولُ إلَى تَعْطِيلِ الْخَالِقِ فَحَقِيقَةُ

ص: 268

هَذَا تَؤُولُ إلَى تَعْطِيلِ كَلَامِهِ وَتَكْلِيمِهِ. وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي أَنْكَرَ الْخَالِقَ وَتَكْلِيمَهُ لِمُوسَى؛ وَلِهَذَا آلَ الْأَمْرُ بِمُحَقِّقِ هَؤُلَاءِ إلَى تَعْظِيمِ فِرْعَوْنَ وَتَوَلِّيهِ وَتَصْدِيقِهِ فِي قَوْلِهِ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} بَلْ إلَى تَعْظِيمِهِ عَلَى مُوسَى وَإِلَى الِاسْتِحْقَارِ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. (وَأَيْضًا فَيُقَالُ: مَا تَقُولُ فِي كَلَامِ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ إذَا نَقَلَهُ عَنْهُ غَيْرُهُ - كَمَا قَدْ يُنْقَلُ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَيُسْمَعُ مِنْ الرُّوَاةِ أَوْ الْمُبَلِّغِينَ - إنَّ ذَلِكَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْمُبَلِّغِ بِصَوْتِ الْمُبَلِّغِ هُوَ كَلَامُ الْمُبَلِّغِ أَوْ كَلَامُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ؟ فَإِنْ قَالَ: كَلَامُ الْمُبَلِّغِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ كَلَامًا لِكُلِّ مَنْ سُمِعَ مِنْهُ فَيَكُونُ الْقُرْآنُ الْمَسْمُوعُ كَلَامَ أَلْفِ أَلْفِ قَارِئٍ لَا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} وَنَظَائِرُهُ كَلَامَ كُلِّ مَنْ رَوَاهُ لَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَحِينَئِذٍ فَلَا فَضِيلَةَ لِلْقُرْآنِ فِي {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ قَوْلُ كُلِّ مُنَافِقٍ قَرَأَهُ وَالْقُرْآنُ يَقْرَؤُهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا؛ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ

ص: 269

مَثَلُ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا} وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يَكُونُ الْقُرْآنُ قَوْلَ بَشَرٍ وَاحِدٍ بَلْ قَوْلَ أَلْفِ أَلْفِ بَشَرٍ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَفَسَادُ هَذَا فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَاضِحٌ. وَإِنْ قَالَ: كَلَامُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ الْمُبَلِّغَ لِلْقُرْآنِ لَيْسَ الْقُرْآنُ كَلَامَهُ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ؛ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الرَّسُولُ الْمَلَكُ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ شَيْطَانٌ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ تَبْلِيغُ مَلَكٍ كَرِيمٍ؛ لَا تَبْلِيغُ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} . وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الرَّسُولَ الْبَشَرِيَّ الَّذِي صَحِبْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ مِنْهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِمُتَّهَمِ. وَذَكَرَهُ بِاسْمِ " الصَّاحِبِ " لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النِّعْمَةِ بِهِ عَلَيْنَا إذْ كُنَّا لَا نُطِيقُ أَنْ نَتَلَقَّى إلَّا عَمَّنْ صَحِبْنَاهُ وَكَانَ مِنْ جِنْسِنَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وَقَالَ {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} وَبَيَّنَ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي مِنْ أَنْفُسِنَا وَالرَّسُولَ الْمَلَكِيَّ أَنَّهُمَا مُبَلِّغَانِ فَكَانَ فِي هَذَا تَحْقِيقُ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. فَلَمَّا كَانَ الرَّسُولُ الْبَشَرِيُّ يُقَالُ: إنَّهُ مَجْنُونٌ أَوْ مُفْتَرٍ نَزَّهَهُ عَنْ هَذَا وَهَذَا وَكَذَلِكَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى قَالَ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا

ص: 270

مَا تَذَكَّرُونَ} {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ لَا لِأَنَّهُ أَحْدَثَهُ وَأَنْشَأَهُ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} فَجَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَالضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ إلَى وَاحِدٍ فَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ أَحْدَثَهُ وَأَنْشَأَهُ لَمْ يَكُنْ تَنْزِيلًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ بَلْ كَانَ يَكُونُ تَنْزِيلًا مِنْ الرَّسُولِ. وَمَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي هَذَا عَائِدًا إلَى غَيْرِ مَا يَعُودُ إلَيْهِ الضَّمِيرُ الْآخَرُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الضَّمِيرَيْنِ وَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ - فَقُلْ لَهُ: هَذَا الَّذِي تَقْرَؤُهُ أَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِبَارَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الرَّسُولُ الْمَلَكُ أَوْ الْبَشَرُ عَلَى زَعْمِك؟ أَمْ هُوَ نَفْسُ تِلْكَ الْعِبَارَةِ؟ فَإِنْ جَعَلْت هَذَا عِبَارَةً عَنْ تِلْكَ الْعِبَارَةِ جَازَ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةُ جِبْرِيلَ أَوْ الرَّسُولِ عِبَارَةً عَنْ عِبَارَةِ اللَّهِ وَحِينَئِذٍ فَيَبْقَى النِّزَاعُ لَفْظِيًّا؛ فَإِنَّهُ مَتَى قَالَ إنَّ مُحَمَّدًا سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ جَمِيعَهُ وَجِبْرِيلَ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ جَمِيعَهُ وَالْمُسْلِمُونَ سَمِعُوهُ مِنْ الرَّسُولِ جَمِيعَهُ فَقَدْ قَالَ الْحَقَّ - وَبَعْدَ هَذَا فَقَوْلُهُ عِبَارَةٌ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ التَّبْلِيغِ وَالْمُبَلَّغِ عَنْهُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَإِنْ قُلْت: لَيْسَ هَذَا عِبَارَةً عَنْ تِلْكَ الْعِبَارَةِ بَلْ هُوَ نَفْسُ تِلْكَ الْعِبَارَةِ فَقَدْ جَعَلْت مَا يُسْمَعُ مِنْ الْمُبَلِّغِ هُوَ بِعَيْنِهِ مَا يُسْمَعُ مِنْ الْمُبَلَّغِ

ص: 271

عَنْهُ إذْ جَعَلْت هَذِهِ الْعِبَارَةَ هِيَ بِعَيْنِهَا عِبَارَةَ جِبْرِيلَ فَحِينَئِذٍ هَذَا يُبْطِلُ أَصْلَ قَوْلِك. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْقَوْلِ بِالْعِبَارَةِ " أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ " هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ فِي الْإِسْلَامِ: إنَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ. وَحُرُوفُهُ لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِنِصْفِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَة وَنِصْفِ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ إلَى إثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةَ فِي ذَلِكَ وَأَثْبَتَ الْعُلُوَّ لِلَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَمُبَايَنَتَهُ الْمَخْلُوقَاتِ وَقَرَّرَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا هُوَ أَكْمَلُ مِنْ تَقْرِيرِ أَتْبَاعِهِ بَعْدَهُ. وَكَانَ النَّاسُ قَدْ تَكَلَّمُوا فِيمَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ هَلْ يُقَالُ لَهُ حِكَايَةٌ عَنْهُ أَمْ لَا؟ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا: هُوَ حِكَايَةٌ عَنْهُ فَقَالَ ابْنُ كُلَّابٍ: الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ؛ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ. فَجَاءَ بَعْدَهُ " أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ " فَسَلَكَ مَسْلَكَهُ فِي إثْبَاتِ أَكْثَرِ الصِّفَاتِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ أَيْضًا وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ إنَّ هَذَا حِكَايَةٌ وَقَالَ: الْحِكَايَةُ إنَّمَا تَكُونُ مِثْلَ الْمَحْكِيِّ فَهَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ؛ وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ قَوْلَنَا أَنْ نَقُولَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعِبَارَةِ فَأَنْكَرَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَيْهِمْ عِدَّةَ أُمُورٍ.

ص: 272

أَحَدُهَا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَعْنَى كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ وَكَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ تَقُولُ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ هُوَ مَخْلُوقٌ وَلَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ عَادَ حُكْمُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَإِذَا قَامَ الْكَلَامُ بِمَحَلِّ كَانَ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ إذَا قَامَا بِمَحَلِّ كَانَ هُوَ الْعَالِمَ الْقَادِرَ وَكَذَلِكَ " الْحَرَكَةُ ". وَهَذَا مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ - قَالُوا لَهُمْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْكَلَامُ كَلَامَ ذَلِكَ الْجِسْمِ الَّذِي خَلَقَهُ فِيهِ فَكَانَتْ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةَ: {إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فَقَالَ أَئِمَّةُ الْكُلَّابِيَة إذَا كَانَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ مَخْلُوقًا لَمْ يَكُنْ كَلَامَ اللَّهِ فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ: بَلْ نَقُولُ الْكَلَامُ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْنَى الْمُجَرَّدِ وَبَيْنَ الْحُرُوفِ الْمَنْظُومَةِ فَقَالَ لَهُمْ الْمُحَقِّقُونَ: فَهَذَا يُبْطِلُ أَصْلَ حُجَّتِكُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَإِنَّكُمْ إذَا سَلَّمْتُمْ أَنَّ مَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا يُمْكِنُ قِيَامُهُ بِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ أَمْكَنَ الْمُعْتَزِلَةَ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ كَلَامُهُ إلَّا مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ. (الثَّانِي قَوْلُهُمْ: إنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَهُوَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ: هَذَا الَّذِي قَالُوهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ.

ص: 273

الثَّالِثُ أَنَّ مَا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ وَمَا بَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ لِأُمَّتِهِ مِنْ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ. وَ " مَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ " لَهَا طَرَفَانِ (أَحَدُهُمَا تَكَلُّمُ اللَّهِ بِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ الطَّرَفَيْنِ (وَالثَّانِي تَنْزِيلُهُ إلَى خَلْقِهِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا سَهْلٌ بَعْدَ تَحْقِيقِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ وَبَيَّنَّا مَقَالَاتِ أَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَمَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَمَأْخَذَ كُلِّ طَائِفَةٍ وَمَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهِ إبْطَالَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُمْ بِذَاتِهِ كَلَامٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنِ عَنْهُ وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ هَلْ يَتَعَلَّقُ الْكَلَامُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَمْ لَا؟ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَأَنَّ قَوْلَ السَّلَفِ مِنْهُ بَدَأَ لَمْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّهُ فَارَقَ ذَاتَه وَحَلَّ فِي غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ بَلْ وَسَائِر صِفَاتِهِ لَا تُفَارِقُهُ وَتَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَ ذَاتَ اللَّهِ كَلَامُهُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ صِفَاتِهِ بَلْ قَالُوا: مِنْهُ بَدَأَ أَيْ: هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ رَدًّا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ قَالُوا بَدَأَ مِنْ الْمَخْلُوقِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ. وَقَوْلُهُمْ: إلَيْهِ يَعُودُ. أَيْ: يُسْرَى عَلَيْهِ فَلَا يَبْقَى فِي الْمَصَاحِفِ مِنْهُ حَرْفٌ وَلَا فِي الصُّدُورِ مِنْهُ آيَةٌ.

ص: 274

وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْجَوَابُ عَنْ مَسَائِلِ السَّائِلِ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَتَقُولُونَ إنَّ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً وَتَسْمَعُونَهُ مِنْ وَسَائِطَ بِأَصْوَاتِ مُخْتَلِفَةٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ؟ فَيُقَالُ لَهُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الْقَدَمِ وَالْفَرْقِ. فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ سَمَاعِ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ - كَسَمَاعِ الصَّحَابَةِ مِنْهُ - وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَكُلٌّ مِنْ السَّامِعِينَ سَمِعَ كَلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَ شِعْرَ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الشُّعَرَاءِ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَمَنْ سَمِعَهُ مِنْ الرُّوَاةِ عَنْهُ يَعْلَمُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا وَهُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ شِعْرُ حَسَّانٍ لَا شِعْرُ غَيْرِهِ وَالْإِنْسَانُ إذَا تَعَلَّمَ شِعْرَ غَيْرِهِ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّاعِرَ أَنْشَأَ مَعَانِيَهُ وَنَظَمَ حُرُوفَهُ بِأَصْوَاتِهِ الْمُقَطَّعَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُبَلِّغُ يَرْوِيهِ بِحَرَكَةِ نَفْسِهِ وَأَصْوَاتِ نَفْسِهِ.

ص: 275

فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفَرْقُ مَعْقُولًا فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ بَيْنَ سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ ابْتِدَاءً وَسَمَاعِهِ بِوَاسِطَةِ الرَّاوِي عَنْهُ أَوْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ ذَلِكَ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقُرَّاءِ هُوَ صَوْتُ الرَّبِّ فَهُوَ إلَى تَأْدِيبِ الْمَجَانِينِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى خِطَابِ الْعُقَلَاءِ وَكَذَلِكَ مَنَّ تَوَهَّمَ أَنَّ الصَّوْتَ قَدِيمٌ أَوْ أَنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ ذُو حِسٍّ سَلِيمٍ؛ بَلْ مَا بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ ثَابِتٌ فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ فَمَنْ قَالَ: إنَّ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ كَلَامُ غَيْرِهِ فَهُوَ مُلْحِدٌ مَارِقٌ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ فَارَقَ ذَاتَه وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ كَمَا كُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ أَوْ أَنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ فَهُوَ أَيْضًا مُلْحِدٌ مَارِقٌ؛ بَلْ كَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ يُكْتَبُ فِي الْأَوْرَاقِ وَهُوَ لَمْ يُفَارِقْ ذَوَاتَهُمْ فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ مِثْل هَذَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَ " الشُّبْهَةُ " تَنْشَأَ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْمُقَيَّدِ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ رَأَيْت الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْهِلَالَ إذَا رَآهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ " وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ الْمُطْلَقَةُ " وَقَدْ يَرَاهُ فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ فَهَذِهِ " رُؤْيَةٌ مُقَيَّدَةٌ " فَإِذَا أَطْلَقَ قَوْلَهُ رَأَيْته أَوْ مَا رَأَيْته حُمِلَ عَلَى مَفْهُومِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ وَإِذَا قَالَ: لَقَدْ رَأَيْت الشَّمْسَ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ فَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ مَعَ التَّقْيِيدِ وَاللَّفْظُ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ

ص: 276

بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَإِذَا وَصَلَ بِالْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ التَّخْصِيصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ كَقَوْلِهِ: {أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا} كَانَ هَذَا الْمَجْمُوعُ دَالًّا عَلَى تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ النَّاسِ. وَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا مَجَازٌ فَقَدْ غَلِطَ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَمَا يَقْتَرِنُ بِاللَّفْظِ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الْمَوْضُوعَةِ هِيَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ؛ وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الْكَلَامُ مَعَهَا مَعْنَيَيْنِ وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ مَفْهُومِهِمَا بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْأَسَدِ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ مَعَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: هَذَا اللَّفْظُ حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَهُوَ مُسْتَنَدُ مَنْ أَنْكَرَ الْمَجَازَ فِي اللُّغَةِ أَوْ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَفْظُ الْمَجَازِ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَد فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا كَتَبَهُ مِنْ " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " هَذَا مِنْ مَجَازِ الْقُرْآنِ. وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُطْلَقًا أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي " مَجَازِ الْقُرْآنِ " ثُمَّ إنَّ هَذَا كَانَ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ مِمَّا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ وَيَسُوغُ فَهُوَ مُشْتَقٌّ عِنْدَهُمْ مِنْ الْجَوَازِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ عَقْدٌ لَازِمٌ وَجَائِزٌ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ جَعَلَهُ مِنْ الْجَوَازِ الَّذِي هُوَ الْعُبُورُ مِنْ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ إلَى مَعْنَى الْمَجَازِ ثُمَّ إنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ الْمَجَازَ قَدْ يَشِيعُ وَيَشْتَهِرُ حَتَّى يَصِيرَ حَقِيقَةً.

ص: 277

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: رَأَيْت الشَّمْسَ أَوْ الْقَمَرَ أَوْ الْهِلَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ فَالْعُقَلَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ وَبَيْنَ رُؤْيَةِ ذَلِكَ بِلَا وَاسِطَةٍ وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: مَا رَأَى ذَلِكَ؛ بَلْ رَأَى مِثَالَهُ أَوْ خَيَالَهُ أَوْ رَأَى الشُّعَاعَ الْمُنْعَكِسَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَانِعًا لِمَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ وَيَقُولُونَهُ مِنْ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْمَاءِ أَوْ الْمِرْآةِ وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ فِي الْمَاءِ أَوْ الْمِرْآةِ حَقِيقَةٌ مُقَيَّدَةٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي} هُوَ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم رَآهُ فِي الْمَنَامِ حَقًّا فَمَنْ قَالَ: مَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ حَقًّا فَقَدْ أَخْطَأَ وَمَنْ قَالَ: إنَّ رُؤْيَتَهُ فِي الْيَقَظَةِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالرُّؤْيَةِ بِالْوَاسِطَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالنَّوْمِ فَقَدْ أَخْطَأَ؛ وَلِهَذَا يَكُونُ لِهَذِهِ تَأْوِيلٌ وَتَعْبِيرٌ دُونَ تِلْكَ. وَكَذَلِكَ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَنَامِ هُوَ سَمَاعٌ مِنْهُ فِي الْمَنَامِ وَلَيْسَ هَذَا كَالسَّمَاعِ مِنْهُ فِي الْيَقَظَةِ وَقَدْ يَرَى الرَّائِي فِي الْمَنَامِ أَشْخَاصًا وَيُخَاطِبُونَهُ وَالْمَرْئِيُّونَ لَا شُعُورَ لَهُمْ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا رَأَى مِثَالَهُمْ وَلَكِنْ يُقَالُ: رَآهُمْ فِي الْمَنَامِ حَقِيقَةً فَيُحْتَرَزُ بِذَلِكَ عَنْ الرُّؤْيَا الَّتِي هِيَ حَدِيثُ النَّفْسِ. فَإِنَّ " الرُّؤْيَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ " رُؤْيَا بُشْرَى مِنْ اللَّهِ وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنْ الشَّيْطَانِ وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فِي الْيَقَظَةِ فَيَرَاهُ فِي الْمَنَامِ. وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا التَّقْسِيمُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،

ص: 278

وَلَكِنَّ الرُّؤْيَا يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْيَقَظَةِ مَا لَا يَظْهَرُ فِي غَيْرِهَا فَكَمَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ مُطْلَقَةً وَتَكُونُ مُقَيَّدَةً بِوَاسِطَةِ الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى إنَّ الْمَرْئِيَّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمِرْآةِ فَإِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً مُسْتَدِيرَةً رَأَى كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ مُسْتَطِيلَةً رَأَى كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ فِي " السَّمَاعِ " يُفَرَّقُ بَيْنَ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ غَيْرِهِ مِنْهُ وَمَنْ سَمِعَهُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ فَفِي الْمَوْضِعَيْنِ الْمَقْصُودُ سَمَاعُ كَلَامِهِ كَمَا أَنَّ هُنَاكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَقْصِدُ رُؤْيَةَ نَفْسِ النَّبِيِّ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ بِوَاسِطَةِ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْوَاسِطَةِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَصْوَاتِ الْمُبَلِّغِينَ كَمَا يَخْتَلِفُ الْمَرْئِيُّ بِاخْتِلَافِ الْمَرَايَا - قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} . فَجَعَلَ ‌

" التَّكْلِيمَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ "

الْوَحْيُ الْمُجَرَّدُ وَالتَّكْلِيمُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى عليه السلام وَالتَّكْلِيمُ بِوَاسِطَةِ إرْسَالِ الرَّسُولِ كَمَا كَلَّمَ الرُّسُلَ بِإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ وَكَمَا نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُنَافِقِينَ بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَنَهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ فِي الْقُرْآنِ فَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَإِخْبَارُهُ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ فَهَذَا فِي تَكْلِيمٍ مُقَيَّدٍ بِالْإِرْسَالِ وَسَمَاعُنَا لِكَلَامِهِ سَمَاعٌ مُقَيَّدٌ بِسَمَاعِهِ مِنْ الْمُبَلِّغِ لَا مِنْهُ وَهَذَا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُبَلَّغًا عَنْهُ مُؤَدًّى عَنْهُ وَمُوسَى سَمِعَ كَلَامَهُ مَسْمُوعًا مِنْهُ لَا مُبَلَّغًا

ص: 279

عَنْهُ وَلَا مُؤَدًّى عَنْهُ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْمَعْنَى زَاحَتْ الشُّبْهَةُ. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ وَيُخْبِرُ عَنْ رَبِّهِ وَيَحْكِي عَنْ رَبِّهِ فَهَذَا يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُهُ عَنْ رَبِّهِ مِنْ كَلَامِهِ الَّذِي قَالَهُ رَاوِيًا حَاكِيًا عَنْهُ. فَلَوْ قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ " حِكَايَةٌ ": إنَّ مُحَمَّدًا حَكَاهُ عَنْ اللَّهِ كَمَا يُقَالُ بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ وَأَدَّاهُ عَنْ اللَّهِ لَكَانَ قَدْ قَصَدَ مَعْنًى صَحِيحًا؛ لَكِنْ يَقْصِدُونَ - مَا يَقْصِدُهُ الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ فُلَانٌ يَحْكِي فُلَانًا أَيْ يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ وَهُوَ - أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمِثْلِ كَلَامِ اللَّهِ فَهَذَا بَاطِلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} . وَنُكْتَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَقْصُودَةِ لَا بِالْوَسَائِلِ الْمَطْلُوبَةِ لِغَيْرِهَا. فَلَمَّا كَانَ مَقْصُودُ الرَّائِي أَنْ يَرَى الْوَجْهَ مَثَلًا فَرَآهُ فِي الْمِرْآةِ حَصَلَ مَقْصُودُهُ وَقَالَ رَأَيْت الْوَجْهَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ انْعِكَاسِ الشُّعَاعِ فِي الْمِرْآةِ - وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَسْمَعَ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ غَيْرُهُ الَّذِي أَلَّفَ أَلْفَاظَهُ وَقَصَدَ مَعَانِيَهُ فَإِذَا سَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ وَإِنْ كَانَ سَمَاعُهُ مَنْ غَيْرِهِ هُوَ بِوَاسِطَةِ صَوْتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصَّائِتِينَ. وَالْقُلُوبُ إنَّمَا تُشِيرُ إلَى الْمَقْصُودِ لَا إلَى مَا ظَهَرَ بِهِ الْمَقْصُودُ كَمَا فِي " الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى " فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ جَاءَ زَيْدٌ وَذَهَبَ عَمْرٌو لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ إلَّا الْإِخْبَارَ بِالْمَجِيءِ عَنْ " الْمُسَمَّى "

ص: 280

وَلَكِنْ بِذِكْرِ الِاسْمِ أَظْهَرَ ذَلِكَ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ هُوَ لَفْظُ زَيْدٍ أَوْ لَفْظُ عَمْرٍو كَانَ مُبْطِلًا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْقَائِلُ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ نَفْسُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا ظَهَرَ وَسُمِعَ بِوَاسِطَةِ حَرَكَةِ التَّالِي وَصَوْتِهِ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ صَوْتُ الْقَارِئِ وَحَرَكَتُهُ كَانَ مُبْطِلًا؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَرَأَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَد رضي الله عنه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَسَأَلَهُ هَلْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَهَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ؟ فَأَجَابَهُ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ - خَطَأً مِنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَاسْتَدْعَاهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَنَا قُلْت لَك: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ قَرَأْت عَلَيْك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَقُلْت لَك: هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقُلْت: نَعَمْ قَالَ فَلِمَ تَحْكِي عَنِّي مَا لَمْ أَقُلْ؟ لَا تَقُلْ هَذَا؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ - وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ حَكَاهَا عَبْدُ اللَّهِ وَصَالِحٌ وَحَنْبَلٌ والْمَرْوَزِي وفوران وَبَسَطَهَا الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَصَنَّفَ الْمَرْوَزِي فِي " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ " مُصَنَّفًا ذَكَرَ فِيهِ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَد مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ وَأَدَقِّهِ؛ فَإِنَّ الْإِشَارَةَ إذَا أَطُلِقَتْ انْصَرَفَتْ إلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ؛ لَا إلَى

ص: 281

مَا وَصَلَ بِهِ إلَيْنَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ. فَإِذَا قِيلَ: لَفْظِي جَعَلَ نَفْسَ الْوَسَائِطِ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ وَهَذَا بَاطِلٌ كَمَا أَنَّ مَنْ رَأَى وَجْهًا فِي مِرْآةٍ فَقَالَ أَكْرَمَ اللَّهُ هَذَا الْوَجْهَ وَحَيَّاهُ أَوْ قَبَّحَهُ كَانَ دُعَاؤُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَوْجُودِ فِي الْحَقِيقَةِ الَّذِي رَأَى بِوَاسِطَةِ الْمِرْآةِ لَا عَلَى الشُّعَاعِ الْمُنْعَكِسِ فِيهَا وَكَذَلِكَ إذَا رَأَى الْقَمَرَ فِي الْمَاءِ فَقَالَ: قَدْ أَبْدَرَ أَوْ لَمْ يُبْدِرْ فَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الْقَمَرُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَا خَيَالُهُ وَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَهُ يَذْكُرُ رَجُلًا فَقَالَ هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ أَوْ رَجُلٌ فَاسِقٌ عُلِمَ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ الشَّخْصُ الْمُسَمَّى بِالِاسْمِ؛ لَا نَفْسُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ النَّاطِقِ - فَلَوْ قَالَ: هَذَا الصَّوْتُ أَوْ صَوْتِي بِفُلَانِ صَالِحٌ أَوْ فَاسِقٌ فَسَدَ الْمَعْنَى وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَرَأَى فِي مَنَامِهِ وَضَارِبٌ يَضْرِبُهُ وَعَلَيْهِ فَرْوَةٌ فَأَوْجَعَهُ بِالضَّرْبِ فَقَالَ لَهُ: لَا تَضْرِبْنِي فَقَالَ: أَنَا مَا أَضْرِبُك وَإِنَّمَا أَضْرِبُ الْفَرْوَةَ فَقَالَ: إنَّمَا يَقَعُ الضَّرْبُ عَلَيَّ فَقَالَ هَكَذَا إذَا قُلْت: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَالْخَلْقُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْقُرْآنِ. يَقُولُ: كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالضَّرْبِ بَدَنُك وَاللِّبَاسُ وَاسِطَةٌ فَهَكَذَا الْمَقْصُودُ بِالتِّلَاوَةِ كَلَامُ اللَّهِ وَصَوْتُك وَاسِطَةٌ فَإِذَا قُلْت: مَخْلُوقٌ وَقَعَ ذَلِكَ عَلَى الْمَقْصُودِ كَمَا إذَا سَمِعْت قَائِلًا يَذْكُرُ رَجُلًا فَقُلْت: أَنَا أُحِبُّ هَذَا وَأَنَا أُبْغِضُ هَذَا انْصَرَفَ الْكَلَامُ إلَى الْمُسَمَّى الْمَقْصُودِ بِالِاسْمِ لَا إلَى صَوْتِ الذَّاكِرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَيْفَمَا

ص: 282

تَصَرَّفَ؛ بِخِلَافِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ. فَإِنَّهُ مَنْ نَفَى عَنْهَا الْخَلْقَ كَانَ مُبْتَدِعًا ضَالًّا.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: تَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ صِفَةُ اللَّهِ وَإِنَّ صِفَاتِ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ وَأَنْتُمْ تُكَفِّرُونَ الْحُلُولِيَّةَ والاتحادية وَإِنْ قُلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُمْ بِمَقَالَتِنَا. فَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ سَهُلَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ فَإِنَّ مَنْشَأَ الشُّبْهَةِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ يَجْعَلُ أَحْكَامَهُ وَاحِدَةً سَوَاءٌ كَانَ كَلَامُهُ مَسْمُوعًا مِنْهُ أَوْ كَلَامُهُ مُبَلَّغًا عَنْهُ. وَمِنْ هُنَا تَخْتَلِفُ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ. " طَائِفَةٌ " قَالَتْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَهَذَا حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مَخْلُوقَةٌ فَكَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ. وَ " طَائِفَةٌ " قَالَتْ هَذَا مَخْلُوقٌ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَهَذَا لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ. وَ " طَائِفَةٌ " قَالَتْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَهَذَا أَلْفَاظُنَا وَتِلَاوَتُنَا؛ فَأَلْفَاظُنَا وَتِلَاوَتُنَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ.

ص: 283

وَمَنْشَأُ ضَلَالِ الْجَمِيعِ مِنْ عَدَمِ الْفَرْقِ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي هَذَا. فَأَنْتَ تَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي تَسْمَعُهُ مِنْ قَائِلِهِ صِدْقٌ وَحَقٌّ وَصَوَابٌ وَهُوَ كَلَامُ حَكِيمٍ وَكَذَلِكَ إذَا سَمِعْته مِنْ نَاقِلِهِ تَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ صِدْقٌ وَحَقٌّ وَصَوَابٌ وَهُوَ كَلَامُ حَكِيمٍ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ وَتَقُولُ أَيْضًا: إنَّ هَذَا صَوْتٌ حَسَنٌ وَهَذَا كَلَامٌ مِنْ وَسَطِ الْقَلْبِ ثُمَّ إذَا سَمِعْته مِنْ النَّاقِلِ تَقُولُ: هَذَا صَوْتٌ حَسَنٌ أَوْ كَلَامٌ مِنْ وَسَطِ الْقَلْبِ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُنَا لَيْسَ هُوَ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُنَاكَ بَلْ أَشَارَ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا مِنْ صَوْتِهِ وَقَلْبِهِ وَإِلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا مِنْ صَوْتِهِ وَقَلْبِهِ وَإِذَا كُتِبَ الْكَلَامُ فِي صَفْحَتَيْنِ كَالْمُصْحَفَيْنِ تَقُولُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا هَذَا قُرْآنٌ كَرِيمٌ وَهَذَا كِتَابٌ مَجِيدٌ وَهَذَا كَلَامُ اللَّهِ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ وَاحِدٌ ثُمَّ تَقُولُ هَذَا خَطٌّ حَسَنٌ وَهَذَا قَلَمُ النَّسْخِ أَوْ الثُّلُثِ وَهَذَا الْخَطُّ أَحْمَرُ أَوْ أَصْفَرُ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُنَا مَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلٌّ مِنْ الْمُصْحَفَيْنِ عَنْ الْآخَرِ. فَإِذَا مَيَّزَ الْإِنْسَانُ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ بِهَذَا وَهَذَا تَبَيَّنَ الْمُتَّفَقَ وَالْمُفْتَرِقَ وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا بِهِ وَصَلَ إلَيْنَا مِنْ حَرَكَاتِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ وَمَنْ قَالَ: هَذَا مَخْلُوقٌ وَأَشَارَ بِهِ إلَى مُجَرَّدِ صَوْتِ الْعَبْدِ وَحَرَكَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي هَذَا حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ الَّذِي تَعَلَّمَ هَذَا الْقَارِئُ مِنْ غَيْرِهِ وَبَلَّغَهُ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ مَخْلُوقٌ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ وَضَلَّ.

ص: 284

وَيُقَالُ لِهَذَا: هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي أَشَرْت إلَيْهِ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ هَذَا الْقَارِئُ فَهَبْ أَنَّ الْقَارِئَ لَمْ تُخْلَقْ نَفْسُهُ وَلَا وُجِدَتْ لَا أَفْعَالُهُ وَلَا أَصْوَاتُهُ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ نَفْسُهُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَهُ يَعْدَمُ بِعَدَمِهِ وَيَحْدُثُ بِحُدُوثِهِ؟ فَإِشَارَتُهُ بِالْخَلْقِ إنْ كَانَتْ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا الْقَارِئُ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَصْوَاتِهِ فَالْقُرْآنُ غَنِيٌّ عَنْ هَذَا الْقَارِئِ وَمَوْجُودٌ قَبْلَهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدِمِ هَذَا عَدَمُهُ وَإِنْ كَانَتْ إلَى الْكَلَامِ الَّذِي يَتَعَلَّمُهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ مِنْ اللَّهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ وَبَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ لِأُمَّتِهِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ فَذَاكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ كَلَامًا لِمَحَلِّهِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ كَلَامًا لِلَّهِ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سُبْحَانَهُ إذَا خَلَقَ كَلَامًا كَانَ كَلَامَهُ كَانَ مَا أَنَطَقَ بِهِ كُلَّ نَاطِقٍ كَلَامَهُ مِثْلُ تَسْبِيحِ الْجِبَالِ وَالْحَصَى وَشَهَادَةِ الْجُلُودِ بَلْ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ وَهَذَا قَوْلُ الْحُلُولِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَمِنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ - إمَّا أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهُ غَيْرَ مُتَكَلِّمٍ بِشَيْءِ أَصْلًا فَيَجْعَلُ الْعِبَادَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَكْمَلَ مِنْهُ وَشَبَّهَهُ بِالْأَصْنَامِ وَالْجَمَادَاتِ وَالْمَوَاتِ: كَالْعِجْلِ الَّذِي لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا فَيَكُونُ قَدْ فَرَّ عَنْ إثْبَاتِ

ص: 285

صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ حَذَرًا فِي زَعْمِهِ مِنْ التَّشْبِيهِ فَوَصَفَهُ بِالنَّقْصِ وَشَبَّهَهُ بِالْجَامِدِ وَالْمَوَاتِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ وَعَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ وَهَذَا الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ هُوَ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ وَنَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ. هَذِهِ مَفْهُومُهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي فِطَرِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ؛ فَإِنَّ مَنْ يَنْقُلُ كَلَامَ غَيْرِهِ وَيَكْتُبُهُ فِي كِتَابٍ قَدْ يَزِيدُ فِيهِ وَيَنْقُصُ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مُكَاتَبَاتِ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهَا - فَإِذَا جَاءَ كِتَابُ السُّلْطَانِ فَقِيلَ: هَذَا الَّذِي فِيهِ كَلَامُ السُّلْطَانِ بِعَيْنِهِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ: يَعْنِي لَمْ يَزِدْ فِيهِ الْكَاتِبُ وَلَا نَقَصَ. وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَلَ كَلَامَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ تَصْنِيفِهِ قِيلَ: هَذَا الْكَلَامُ كَلَامُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ: يَعْنِي لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {: نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ} . فَقَوْلُهُ فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ يُبَلِّغُهُ بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ الَّتِي سَمِعَهُ بِهَا وَلَكِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَأْتِي بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ لَا يَزِيدُ فِيهِ وَلَا يَنْقُصُ فَيَكُونُ قَدْ بَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ. فَالْمُسْتَمِعُ لَهُ مِنْ الْمُبَلِّغِ يَسْمَعُهُ كَمَا قَالَهُ صلى الله عليه وسلم وَيَكُونُ قَدْ سَمِعَ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَهُ. وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ هَذَا كَلَامُهُ بِعَيْنِهِ وَهَذَا نَفْسُ كَلَامِهِ

ص: 286

لَا يُرِيدُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ صَوْتُهُ وَحَرَكَاتُهُ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ عَاقِلٍ ابْتِدَاءً وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسِ يُلْجِئُ أَصْحَابَهُ إلَى " الْقَرْمَطَةِ " فِي السَّمْعِيَّاتِ وَ " السَّفْسَطَةِ " فِي الْعَقْلِيَّاتِ. وَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ عَلَى فِطْرَتِهِمْ لَكَانَتْ صَحِيحَةً سَلِيمَةً فَإِذَا رَأَى النَّاسُ كَلَامًا صَحِيحًا فَإِنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ وَسُمِعَ مِنْهُ وَنُقِلَ عَنْهُ أَوْ كَتَبَهُ فِي كِتَابٍ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ نَفْسَ مَا قَامَ بِالْمُتَكَلِّمِ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي فِي قَلْبِهِ وَالْأَلْفَاظِ الْقَائِمَةِ بِلِسَانِهِ فَارَقَتْهُ وَانْتَقَلَتْ عَنْهُ إلَى الْمُسْتَمِعِ وَالْمُبَلِّغِ عَنْهُ وَلَا فَارَقَتْهُ وَحَلَّتْ فِي الْوَرَقِ؛ بَلْ وَلَا يَقُولُ إنَّ نَفْسَ مَا قَامَ بِهِ مِنْ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ هُوَ نَفْسُ الْمِدَادِ الَّذِي فِي الْوَرَقِ؛ بَلْ وَلَا يَقُولُ إنَّ نَفْسَ أَلْفَاظِهِ الَّتِي هِيَ أَصْوَاتُهُ هِيَ أَصْوَاتُ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ فَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا ظَاهِرَةٌ لَا يَقُولُهَا عَاقِلٌ فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ إذَا سُمِعَ وَبُلِّغَ أَوْ كُتِبَ فِي كِتَابٍ فَكَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي سُمِعَ مِنْهُ وَبُلِّغَ عَنْهُ أَوْ كَتَبَهُ سُبْحَانَهُ كَمَا كَتَبَ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى وَكَمَا كَتَبَ الْقُرْآنَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَكَمَا كَتَبَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي مَصَاحِفِهِمْ. وَإِذَا كَانَ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ مَخْلُوقٍ فَبَلَّغَهُ عَنْهُ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ؛ بَلْ شِعْرُ مَخْلُوقٍ كَمَا يُبَلَّغُ شِعْرُ حَسَّانٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ وَلَبِيدٍ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الشُّعَرَاءِ وَيَقُولُ النَّاسُ: هَذَا شِعْرُ حَسَّانٍ بِعَيْنِهِ وَهَذَا هُوَ نَفْسُ شِعْرِ حَسَّانٍ. وَهَذَا شِعْرُ لَبِيَدِ بِعَيْنِهِ كَقَوْلِهِ:

ص: 287

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ

وَمَعَ هَذَا فَيَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ رُوَاةَ الشِّعْرِ وَمُنْشِدِيهِ لَمْ يَسْلُبُوا الشُّعَرَاءَ نَفْسَ صِفَاتِهِمْ حَتَّى حَلَّتْ بِهِمْ بَلْ وَلَا نَفْسُ مَا قَامَ بِأُولَئِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ كَأَصْوَاتِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ حَلَّتْ بِالرُّوَاةِ وَالْمُنْشِدِينَ فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ صِفَاتِ الْبَارِي كَلَامَهُ أَوْ غَيْرَ كَلَامِهِ فَارَقَ ذَاتَه وَحَلَّ فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَأَنَّ مَا قَامَ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ كَحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ هِيَ صِفَاتُ الْبَارِي حَلَّتْ فِيهِ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَخْلُوقِ بَلْ يُمَثِّلُونَ الْعِلْمَ بِنُورِ السَّرَّاجِ يَقْتَبِسُ مِنْهُ الْمُتَعَلِّمُ وَلَا يَنْقُصُ مَا عِنْدَ الْعَالِمِ كَمَا يَقْتَبِسُ الْمُقْتَبِسُ ضَوْءَ السِّرَاجِ فَيُحْدِثُ اللَّهُ لَهُ ضَوْءًا كَمَا يُقَالُ: إنَّ الْهَوَى يَنْقَلِبُ نَارًا بِمُجَاوَرَةِ الْفَتِيلَةِ لِلْمِصْبَاحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَغَيَّرَ تِلْكَ النَّارُ الَّتِي فِي الْمِصْبَاحِ وَالْمُقْرِئُ وَالْمُعَلِّمُ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُ الْعِلْمَ وَلَمْ يَنْقُصْ مِمَّا عِنْدَهُ شَيْءٌ؛ بَلْ يَصِيرُ عِنْدَ الْمُتَعَلِّمِ مِثْلَ مَا عِنْدَهُ. وَلِهَذَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْقُلُ عِلْمَ فُلَانٍ وَيَنْقُلُ كَلَامَهُ وَيُقَالُ: الْعِلْمُ الَّذِي كَانَ عِنْدَ فُلَانٍ صَارَ إلَى فُلَانٍ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: نَقَلْت مَا فِي الْكِتَابِ وَنَسَخْت مَا فِي الْكِتَابِ أَوْ نَقَلْت الْكِتَابَ أَوْ نَسَخْته وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ أَنَّ نَفْسَ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ عَدِمَتْ مِنْهُ وَحَلَّتْ فِي الثَّانِي؛ بَلْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ مِنْ الْكُتُبِ وَنَقْلِهَا مِنْ جِنْسِ نَقْلِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَنْ يُجْعَلَ فِي الثَّانِي

ص: 288

مِثْلُ مَا فِي الْأَوَّلِ فَيَبْقَى الْمَقْصُودُ بِالْأَوَّلِ مَنْقُولًا مَنْسُوخًا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْأَوَّلُ بِخِلَافِ نَقْلِ الْأَجْسَامِ وَتَوَابِعِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا نُقِلَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ زَالَ عَنْ الْأَوَّلِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ لَهَا وُجُودٌ فِي أَنْفُسِهَا وَهُوَ وُجُودُهَا الْعَيْنِيُّ وَلَهَا ثُبُوتُهَا فِي الْعِلْمِ ثُمَّ فِي اللَّفْظِ الْمُطَابِقِ لِلْعِلْمِ ثُمَّ فِي الْخَطِّ. وَهَذَا الَّذِي يُقَالُ: وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ وَوُجُودٌ فِي الْبَنَانِ: وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَوُجُودٌ عِلْمِيُّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ؛ وَلِهَذَا افْتَتَحَ اللَّهُ كِتَابَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فَذَكَرَ الْخَلْقَ عُمُومًا وَخُصُوصًا ثُمَّ ذَكَرَ التَّعْلِيمَ عُمُومًا وَخُصُوصًا فَالْخَطُّ يُطَابِقُ اللَّفْظَ وَاللَّفْظُ يُطَابِقُ الْعِلْمَ وَالْعِلْمُ هُوَ الْمُطَابِقُ لِلْمَعْلُومِ. وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ غَلِطَ فَظَنَّ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ كَالْأَعْيَانِ فِي الْوَرَقِ فَظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} كَقَوْلِهِ: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} فَجَعَلَ إثْبَاتَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ فِي الْمَصَاحِفِ كَإِثْبَاتِ الرَّسُولِ فِي الْمَصَاحِفِ وَهَذَا غَلَطٌ: إثْبَاتُ الْقُرْآنِ كَإِثْبَاتِ اسْمِ الرَّسُولِ هَذَا كَلَامٌ وَهَذَا كَلَامٌ وَأَمَّا إثْبَاتُ اسْمِ الرَّسُولِ فَهَذَا كَإِثْبَاتِ الْأَعْمَالِ أَوْ كَإِثْبَاتِ الْقُرْآنِ فِي

ص: 289

زُبُرِ الْأَوَّلِينَ قَالَ تَعَالَى {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} فَثُبُوتُ الْأَعْمَالِ فِي الزُّبُرِ وَثُبُوتُ الْقُرْآنِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ هُوَ مِثْلُ كَوْنِ الرَّسُولِ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؛ وَلِهَذَا قَيَّدَ سُبْحَانَهُ هَذَا بِلَفْظِ " الزُّبُرِ " وَ " الْكُتُبُ " زُبُرٌ. يُقَالُ زَبَرْت الْكِتَابَ إذَا كَتَبْته وَالزَّبُورُ بِمَعْنَى الْمَزْبُورِ أَيْ الْمَكْتُوبُ فَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ لَيْسَ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَكِنْ ذِكْرُهُ كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا نَفْسُهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ وَلَكِنْ ذِكْرُهُ فَثُبُوتُ الرَّسُولِ فِي كُتُبِهِمْ كَثُبُوتِ الْقُرْآنِ فِي كُتُبِهِمْ؛ بِخِلَافِ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَفِي الْمَصَاحِفِ؛ فَإِنَّ نَفْسَ الْقُرْآنِ أُثْبِتَ فِيهَا فَمَنْ جَعَلَ هَذَا مِثْلَ هَذَا كَانَ ضَلَالُهُ بَيِّنًا وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَ (الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ نَفْسَ الْمَوْجُودَاتِ وَصِفَاتِهَا إذَا انْتَقَلَتْ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ حَلَّتْ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ الثَّانِي وَأَمَّا الْعِلْمُ بِهَا وَالْخَبَرُ عَنْهَا فَيَأْخُذُهُ الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ مَعَ بَقَائِهِ فِي الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي عِنْدَ الثَّانِي هُوَ نَظِيرُ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْعِلْمَيْنِ وَاحِدًا فِي نَفْسِهِ صَارَتْ وَحْدَةُ الْمَقْصُودِ تُوجِبُ وَحْدَةَ التَّابِعِ لَهُ وَالدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ غَرَضٌ فِي تَعَدُّدِ التَّابِعِ كَمَا فِي الِاسْمِ مَعَ الْمُسَمَّى؛ فَإِنَّ اسْمَ الشَّخْصِ وَإِنْ ذَكَرَهُ أُنَاسٌ مُتَعَدِّدُونَ وَدَعَا بِهِ أُنَاسٌ مُتَعَدِّدُونَ فَالنَّاسُ يَقُولُونَ إنَّهُ اسْمٌ وَاحِدٌ لِمُسَمَّى وَاحِدٍ فَإِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ

ص: 290

أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ ذَلِكَ هَذَا الْمُؤَذِّنُ وَهَذَا الْمُؤَذِّنُ وَقَالَهُ غَيْرُ الْمُؤَذِّنِ فَالنَّاسُ يَقُولُونَ إنَّ هَذَا الْمَكْتُوبَ هُوَ اسْمُ اللَّهِ وَاسْمُ رَسُولِهِ كَمَا أَنَّ الْمُسَمَّى هُوَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَإِذَا قَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وَقَالَ: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} وَقَالَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وَقَالَ: {بِسْمِ اللَّهِ} فَفِي الْجَمِيعِ الْمَذْكُورِ هُوَ اسْمُ اللَّهِ وَإِنَّ تَعَدُّدَ الذِّكْرِ وَالذَّاكِرِ فَالْخَبَرُ الْوَاحِدُ مِنْ الْمُخْبِرِ الْوَاحِدِ مِنْ مُخْبِرِهِ وَالْأَمْرُ الْوَاحِدُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْآمِرِ الْوَاحِدِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ لِمُسَمَّاهُ هَذَا فِي الْمُرَكَّبِ نَظِيرُ هَذَا فِي الْمُفْرَدِ وَهَذَا هُوَ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَبِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وَإِنْ تَعَدَّدَ مَنْ يَذْكُرُ ذَلِكَ الِاسْمَ وَالْخَبَرَ وَتَعَدَّدَتْ حَرَكَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ وَسَائِر صِفَاتِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنْ قُلْتُمْ: إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ وَأَنْتُمْ تُكَفِّرُونَ الْحُلُولِيَّةَ والاتحادية فَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ. مِثَالُهُ مِثَالُ رَجُلٍ ادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُحِلُّ بِذَاتِهِ فِي بَدَنِ الَّذِي يَقْرَأُ حَدِيثَهُ فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَالُوا إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَحِلُّ فِي بَدَنِ غَيْرِهِ فَقَالَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّ الْمُحَدِّثَ يَقْرَأُ كَلَامَهُ وَإِنَّ مَا يَقْرَؤُهُ هُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ.

ص: 291

وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ كَلَامَ زَيْدٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَهَذَا الَّذِي سَمِعْنَاهُ كَلَامُ زَيْدٍ وَلَا يَسْتَجِيزُ الْعَاقِلُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ فِي هَذَا الْمُتَكَلِّمِ أَوْ فِي هَذَا الْوَرَقِ. وَقَدْ نَطَقَتْ النُّصُوصُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ فِي الصُّدُورِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ فِي عُقُلِهَا} وَقَوْلِهِ: {الْجَوْفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ عَاقِلٍ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ اللَّهُ فِي صُدُورِنَا وَأَجْوَافِنَا وَلِهَذَا لَمَّا ابْتَدَعَ شَخْصٌ يُقَالُ لَهُ الصُّورِيُّ بِأَنَّ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ فِي صُدُورِنَا فَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ النَّصَارَى فَقِيلَ لَأَحْمَدَ قَدْ جَاءَتْ جهمية رَابِعَةٌ أَيْ: جهمية الخلقية وَاللَّفْظِيَّةِ والواقفية وَهَذِهِ الرَّابِعَةُ - اشْتَدَّ نَكِيرُهُ لِذَلِكَ وَقَالَ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ الْجَهْمِيَّة. وَهُوَ كَمَا قَالَ. فَإِنَّ " الْجَهْمِيَّة " لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَنْكَرُ أَنْ يُقَالَ الْقُرْآنُ فِي الصُّدُورِ وَلَا يُشَبِّهُ هَذَا بِقَوْلِ النَّصَارَى بِالْحُلُولِ إلَّا مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ؛ فَإِنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ؛ الْأَبُ وَالِابْنُ وَرُوحُ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ اللَّاهُوتُ تَدَرَّعَتْ النَّاسُوتَ وَهُوَ عِنْدُهُمْ إلَهٌ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ؛ وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَيَقُولُونَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا كَانُوا مُتَنَاقِضِينَ فَإِنَّ الَّذِي تَدَرَّعَ الْمَسِيحَ إنْ كَانَ هُوَ الْإِلَهَ الْجَامِعَ لِلْأَقَالِيمِ فَهُوَ الْأَبُ نَفْسُهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ صِفَةً مِنْ

ص: 292

صِفَاتِهِ فَالصِّفَةُ لَا تَخْلُقُ وَلَا تَرْزُقُ وَلَيْسَتْ إلَهًا وَالْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ إلَهٌ وَلَوْ قَالَ النَّصَارَى إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي صَدْرِ الْمَسِيحِ كَمَا هُوَ فِي صُدُورِ سَائِر الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِمْ مَا يُنْكَرُ. فَالْحُلُولِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ بِهَذَا الِاسْمِ مَنْ يَقُولُ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ كَمَا قَالَتْ النَّصَارَى وَالْغَالِيَةُ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغُلَاةُ أَتْبَاعِ الْمَشَايِخِ أَوْ يَقُولُونَ بِحُلُولِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ بِاتِّحَادِهِ بِالْمَسِيحِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ قَالَ بِاتِّحَادِهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا أَوْ قَالَ: وُجُودُهُ وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. فَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي قُلُوبِ أَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْ كَلَامَ اللَّهِ وَاَلَّذِي بَلَّغَتْهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّحِيفَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا لَا يُسَمَّى حُلُولًا وَمَنْ سَمَّاهُ حُلُولًا لَمْ يَكُنْ بِتَسْمِيَتِهِ لِذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْحَقَائِقِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مُفَارَقَةَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ لَهُ وَانْتِقَالَهَا إلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ صِفَةُ الْخَالِقِ تبارك وتعالى وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهِ شُبْهَةُ الْحُلُولِ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي إثْبَاتِ لَفْظِ الْحُلُولِ وَنَفْيِهِ عَنْهُ هَلْ يُقَالُ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ أَوْ حَالٌّ فِي الصُّدُورِ؟ وَهَلْ يُقَالُ: كَلَامُ النَّاسِ الْمَكْتُوبُ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ أَوْ حَالٌّ فِي قُلُوبِ حَافِظِيهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ؟ فَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ نَفَتْ الْحُلُولَ كَالْقَاضِي

ص: 293

أَبِي يَعْلَى وَأَمْثَالِهِ وَقَالُوا: ظَهَرَ كَلَامُ اللَّهِ فِي ذَلِكَ وَلَا نَقُولُ: حَلَّ؛ لِأَنَّ حُلُولَ صِفَةِ الْخَالِقِ فِي الْمَخْلُوقِ أَوْ حُلُولَ الْقَدِيمِ فِي الْمُحْدَثِ مُمْتَنِعٌ. وَطَائِفَةٌ أَطْلَقَتْ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ كَأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ الهروي - الْمُلَقَّبِ بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ - وَغَيْرِهِ وَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا هُوَ الْحُلُولُ الْمَحْذُورُ الَّذِي نَفَيْنَاهُ. بَلْ نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّحِيفَةِ وَلَا يُقَالُ بِأَنَّ اللَّهَ فِي الصَّحِيفَةِ أَوْ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ كَذَلِكَ نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَهُ حَالٌّ فِي ذَلِكَ دُونَ حُلُولِ ذَاتِهِ وَطَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ كَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ قَالُوا: لَا نُطْلِقُ الْحُلُولَ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا لِأَنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ يُوهِمُ انْتِقَالَ صِفَةِ الرَّبِّ إلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَنَفْيُ ذَلِكَ يُوهِمُ نَفْيَ نُزُولِ الْقُرْآنِ إلَى الْخَلْقِ فَنُطْلِقُ مَا أَطْلَقَتْهُ النُّصُوصُ وَنُمْسِكُ عَمَّا فِي إطْلَاقِهِ مَحْذُورٌ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِجْمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ إنْ قُلْتُمْ إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ وَإِنْ قُلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُمْ بِمَقَالَتِنَا فَجَوَابُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقَالَةَ الْمُنْكَرَةَ هُنَا تَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ فَإِذَا زَالَتْ لَمْ يَبْقَ مُنْكَرٌ.

أَحَدُهَا: مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ وَإِنَّمَا أَحْدَثَهُ غَيْرُ اللَّهِ كَجِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ وَاَللَّهُ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ.

الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا هُوَ

ص: 294

الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَإِنَّ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ لَا بِاخْتِلَافِ الْمَعَانِي فَيُجْعَلُ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدًا وَكَذَلِكَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ كَمَنْ يَقُولُ إنَّ مَعَانِيَ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى بِمَعْنَى وَاحِدٍ فَمَعْنَى الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالرَّحِيمِ وَالْحَكِيمِ مَعْنًى وَاحِدٌ فَهَذَا إلْحَادٌ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَآيَاتِهِ. (الثَّالِثُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ مَا بَلَّغَتْهُ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ مِنْ الْمَعْنَى وَالْأَلْفَاظِ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ التَّالِينَ لَا كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ بِأَيِّ عِبَارَةٍ عُبِّرَ عَنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ بَلَّغَهُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ تَارَةً يُسْمَعُ مِنْ اللَّهِ وَتَارَةً مِنْ رُسُلِهِ مُبَلِّغِينَ عَنْهُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تَصَرَّفَ وَكَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ بِهِ لَمْ يَخْلُقْهُ فِي غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا وَلَوْ قَرَأَهُ النَّاسُ وَكَتَبُوهُ وَسَمِعُوهُ. وَقَالَ مَعَ ذَلِكَ: إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَهُمْ وَسَائِر صِفَاتِهِمْ مَخْلُوقَةٌ فَهَذَا لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَإِذَا نَفَى الْحُلُولَ وَأَرَادَ بِهِ أَنَّ صِفَةَ الْمَوْصُوفِ لَا تُفَارِقُهُ وَتَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ فَقَدْ أَصَابَ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ لَكِنْ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُؤْمِنَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ هُوَ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ كَلَامًا لِغَيْرِهِ وَلَكِنْ بَلَّغَتْهُ عَنْهُ رُسُلُهُ وَإِذَا كَانَ كَلَامُ الْمَخْلُوقِ يُبَلَّغُ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَلَامُهُ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ وَمَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ لَمْ تُفَارِقْ ذَاتَه فَالْعِلْمُ بِمِثْلِ هَذَا فِي كَلَامِ الْخَالِقِ أَوْلَى وَأَظْهَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 295

وَقَالَ أَيْضًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

فَصْلٌ:

قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وَهُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَالْعِلْمُ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا. وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} {حم} {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ

ص: 296

مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ وَلَمْ يُخْبِرْ عَنْ شَيْءٍ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ إلَّا كَلَامُهُ؛ بِخِلَافِ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَطَرِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عَنْ السَّلَفِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ؛ فَإِنَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ يَقُولُ إنَّهُ خُلِقَ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا فَمِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ نَزَلَ وَبَدَأَ لَمْ يَنْزِلْ مِنْ اللَّهِ فَإِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ يُنَاقِضُ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَلَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا فَسَّرَ الْإِمَامُ أَحْمَد قَوْلَهُ " مِنْهُ بَدَأَ " أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَقَالَ أَحْمَد: كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنِ عَنْهُ. وَ " أَيْضًا " فَلَوْ كَانَ مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ؛ بَلْ كَانَ يَكُونُ كَلَامًا لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ فِيهِ وَكَذَلِكَ سَائِر مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالرِّضَى وَالْغَضَبِ وَالْمَقْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ الرَّبُّ تَعَالَى مُتَّصِفًا بِهِ بَلْ كَانَ يَكُونُ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَحَلِّ؛ فَإِنَّ الْمَعْنَى إذَا قَامَ بِمَحَلِّ كَانَ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَحَلِّ وَلَمْ يَكُنْ صِفَةً لِغَيْرِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ أَوْ الْخَالِقُ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ مَوْجُودَةٍ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِطْرِيٌّ فَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ يَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ الْمَوْصُوفُ بِأَمْرِ لَمْ يَقُمْ بِهِ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.

ص: 297

وَلَمْ يَقُلْ السَّلَفُ: إنَّ النَّبِيَّ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ قُلْت: أَقْرَأُ عَلَيْك وَعَلَيْك أُنْزِلَ؟ قَالَ إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي فَقَرَأْت عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْت إلَى هَذِهِ الْآيَةِ {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قَالَ: حَسْبُك فَنَظَرْت فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ مِنْ الْبُكَاءِ} . وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ بِهِ وَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ - وَهُوَ الرُّوحُ الْأَمِينُ وَهُوَ جِبْرِيلُ - مِنْ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ.

ص: 298

وقَوْله تَعَالَى {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} {ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} وَقَوْلِهِ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ الرَّبُّ فَعَلَهُ بِمَلَائِكَتِهِ. فَإِنَّ لَفْظَ (نَحْنُ هُوَ لِلْوَاحِدِ الْمُطَاعِ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ يُطِيعُونَهُ فَالرَّبُّ تَعَالَى خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهَا تُطِيعُهُ الْمَلَائِكَةُ أَعْظَمَ مِمَّا يُطِيعُ الْمَخْلُوقُ أَعْوَانَهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ بِاسْمِ " نَحْنُ " وَ " فَعَلْنَا " وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يُسْتَعْمَلُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَك كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُمَا} . وَقَالَ سَعِيد بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ: جَمْعُهُ لَك فِي صَدْرِك وَتَقْرَؤُهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذَا قَرَأَهُ رَسُولُنَا وَفِي لَفْظٍ: فَإِذَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ {ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أَيْ نَقْرَؤُهُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَرَأَهُ ".

ص: 299

وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْوَاعَ تَكْلِيمِهِ لِعِبَادِهِ فِي قَوْلِهِ {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ التَّكْلِيمَ تَارَةً يَكُونُ وَحْيًا وَتَارَةً مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى وَتَارَةً يُرْسِلُ رَسُولًا فَيُوحِي الرَّسُولُ بِإِذْنِ اللَّهِ مَا يَشَاءُ وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} فَإِذَا أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولًا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُكَلِّمُ بِهِ عِبَادَهُ فَيَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ وَيُنَبِّئُهُمْ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} وَإِنَّمَا نَبَّأَهُمْ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ وَالرَّسُولُ مُبَلِّغٌ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} وَالرَّسُولُ أَمَرَ أُمَّتَهُ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ. فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَطَبَ الْمُسْلِمِينَ: {لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم {نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ فَرُبَّ حَامِلٍ غَيْرُ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ}

ص: 300

وَفِي السُّنَنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ {كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْسِمِ فَيَقُولُ أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي} وَكَمَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَقُلْ وَاحِدًا مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ " الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ " وَلَا غَيْرِهِمْ؛ بَلْ الْآثَارُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَمَّا ظَهَرَ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ قَالُوا رَدًّا لِكَلَامِهِ: إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ مُفْتَرًى كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ مُفْتَرًى بَلْ هَذَا كُفْرٌ ظَاهِرٌ يَعْلَمُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ وَإِنَّمَا قَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ فَرَدَّ السَّلَفُ هَذَا الْقَوْلَ كَمَا تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ وَصَنَّفُوا فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٍ مُتَعَدِّدَةً وَقَالُوا: مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَالَ مَخْلُوقٌ: الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَصَاحِبُهُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَوَّل مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَالَ هُوَ قَدِيمٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ ثُمَّ افْتَرَقَ الَّذِينَ شَارَكُوهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ وَمَعْنَى الْقُرْآنِ كُلِّهِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِر كُتُبِ اللَّهِ وَكَلَامُهُ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ الَّذِي لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ

ص: 301

بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ: هَذَا الْقَوْلُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ مَعْنَى " آيَةِ الْكُرْسِيِّ " لَيْسَ مَعْنَى " آيَةِ الدَّيْنِ " وَلَا مَعْنَى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مَعْنَى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} فَكَيْفَ بِمَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ كُلِّهِ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَخِطَابِهِ لِمَلَائِكَتِهِ وَحِسَابِهِ لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِهَا. وَكِلَا الْحِزْبَيْنِ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَقُولُ: يَا نُوحُ يَا إبْرَاهِيمُ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ كَمَا قَدْ بَسَطْت أَقْوَالَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ بِوَاحِدِ مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَلَا حِكَايَةٌ لَهُ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ قَدِيمٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ: إنَّ صَوْتِي بِهِ قَدِيمٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَالنَّاسُ يَقْرَءُونَهُ بِأَصْوَاتِهِمْ وَيَكْتُبُونَهُ بِمِدَادِهِمْ وَمَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَا تُسَافِرُوا

ص: 302

بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وَالْمِدَادُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَالصَّوْتُ الَّذِي يُقْرَأُ بِهِ هُوَ صَوْتُ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ وَصَوْتُهُ وَحَرَكَاتُهُ وَسَائِر صِفَاتِهِ مَخْلُوقَةٌ فَالْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتُ الَّذِي يَقْرَأُ بِهِ الْعَبْدُ صَوْتُ الْقَارِئِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ " فَبَيَّنَ أَنَّ الْأَصْوَاتَ الَّتِي يُقْرَأُ بِهَا الْقُرْآنُ أَصْوَاتُنَا وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ: يُحَسِّنُهُ الْإِنْسَانُ بِصَوْتِهِ كَمَا قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {لَوْ عَلِمْت إنَّك تَسْمَعُ لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا} . فَكَانَ مَا قَالَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُ الْعَبْدِ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} وَقَالَ تَعَالَى: " {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} فَفَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْمِدَادِ الَّذِي يُكْتَب بِهِ كَلِمَاتُهُ وَبَيْنَ كَلِمَاتِهِ فَالْبَحْرُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمِدَادِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْكَلِمَاتُ

ص: 303

مَخْلُوقٌ وَكَلِمَاتُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} فَالْأَبْحُرُ إذَا قُدِّرَتْ مِدَادًا تَنْفَدُ وَكَلِمَاتُ اللَّهِ لَا تَنْفَدُ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ وَبِمَا شَاءَ كَمَا ذَكَرَتْ الْآثَارُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا. هَذَا وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِالنِّدَاءِ فِي أَكْثَرِ مِنْ عَشَرَةِ مَوَاضِعَ فَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ نِدَاءَهُ لِمُوسَى عليه السلام فِي سُورَةِ " طَه " وَ " مَرْيَمَ " وَ " اُلْطُسْ الثَّلَاثِ " وَفِي سُورَةِ " وَالنَّازِعَاتِ " وَأَخْبَرَ أَنَّهُ نَادَاهُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ فَقَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} {إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إذْ نَادَيْنَا} وَاسْتَفَاضَتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنَادِي بِصَوْتِ: نَادَى مُوسَى

ص: 304

وَيُنَادِي عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَوْتِ وَيَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ بِصَوْتِ وَلَمْ يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِلَا صَوْتٍ أَوْ بِلَا حَرْفٍ وَلَا أَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِصَوْتِ أَوْ بِحَرْفِ كَمَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الصَّوْتَ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى قَدِيمٌ وَلَا إنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ قَدِيمٌ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إنَّ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ هِيَ الصَّوْتُ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ؛ بَلْ الْآثَارُ مُسْتَفِيضَةٌ عَنْهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ وَبَيْنَ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ. وَكَانَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ يَعُدُّونَ مَنْ أَنْكَرَ تَكَلُّمَهُ بِصَوْتِ مِنْ الْجَهْمِيَّة كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد لَمَّا سُئِلَ عَمَّنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ جهمية إنَّمَا يَدُورُونَ عَلَى التَّعْطِيلِ. وَذَكَرَ بَعْضَ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ. وَقَدْ ذَكَرَ مَنْ صَنَّفَ فِي السُّنَّةِ. . . (1) مِنْ ذَلِكَ قِطْعَةً وَعَلَى ذَلِكَ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ " مِمَّا يُبَيِّنُ بِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّوْتَيْنِ آثَارًا مُتَعَدِّدَةً. وَكَانَتْ مِحْنَةُ الْبُخَارِيِّ مَعَ أَصْحَابِهِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذهلي وَغَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِ أَحْمَد بِسِنِينَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحْمَد فِي الْبُخَارِيِّ إلَّا بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ. وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الْبُخَارِيِّ بِسُوءِ فَقَدْ افْتَرَى عَلَيْهِ.

(1)

بياض بالأصل

ص: 305

وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الكرجي فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ (الْفُصُولُ فِي الْأُصُولِ قَالَ سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَد يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا حَامِدٍ الإسفراييني يَقُولُ: مَذْهَبِي وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ قَالَ: مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَالْقُرْآنُ حَمَلَهُ جِبْرِيلُ مَسْمُوعًا مِنْ اللَّهِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالصَّحَابَةُ سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الَّذِي نَتْلُوهُ نَحْنُ بِأَلْسِنَتِنَا وَفِيمَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ وَمَا فِي صُدُورِنَا: مَسْمُوعًا وَمَكْتُوبًا وَمَحْفُوظًا وَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهُ كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ قَالَ: مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللَّهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَقَدْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ تَنَازَعُوا فِي اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ هَلْ يُقَالُ إنَّهُ مَخْلُوقٌ؟ وَلَمَّا حَدَثَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ أَنْكَرَتْ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ أَنْ يُقَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالُوا: مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. وَأَمَّا صَوْتُ الْعَبْدِ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَإِنَّ الْمُبَلِّغَ لِكَلَامِ غَيْرِهِ بِلَفْظِ صَاحِبِ الْكَلَامِ إنَّمَا بَلَّغَ غَيْرَهُ كَمَا يُقَالُ: رَوَى الْحَدِيثَ بِلَفْظِهِ وَإِنَّمَا يُبَلِّغُهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ لَا بِصَوْتِ صَاحِبِ الْكَلَامِ. وَ " اللَّفْظُ " فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا وَكَذَلِكَ " التِّلَاوَةُ "

ص: 306

وَالْقِرَاءَةُ " مَصْدَرَانِ؛ لَكِنْ شَاعَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْكَلَامِ الْمَلْفُوظِ الْمَقْرُوءِ الْمَتْلُوِّ وَهُوَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ فِي إطْلَاقِهِمْ فَإِذَا قِيلَ: لَفْظِي أَوْ اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَشْعَرَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ وَيَلْفِظُ بِهِ مَخْلُوقٌ وَإِذَا قِيلَ: لَفْظِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَشْعَرَ أَنَّ شَيْئًا مِمَّا يُضَافُ إلَيْهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَصَوْتُهُ وَحَرَكَتُهُ مَخْلُوقَانِ لَكِنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَ " التِّلَاوَةُ " قَدْ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي يُتْلَى وَقَدْ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ حَرَكَةِ الْعَبْدِ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَجْمُوعُهُمَا. فَإِذَا أُرِيدَ بِهَا الْكَلَامُ نَفْسُهُ الَّذِي يُتْلَى فَالتِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَإِذَا أُرِيدَ بِهَا حَرَكَةُ الْعَبْدِ فَالتِّلَاوَةُ لَيْسَتْ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَإِذَا أُرِيدَ بِهَا الْمَجْمُوعُ فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِلْفِعْلِ وَالْكَلَامِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا الْمَتْلُوُّ وَلَا أَنَّهَا غَيْرُهُ. وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ يُرِيدُ بِالتِّلَاوَةِ مُجَرَّدَ قِرَاءَةِ الْعِبَادِ وَبِالْمَتْلُوِّ مُجَرَّدَ مَعْنًى وَاحِدٍ يَقُومُ بِذَاتِ الْبَارِي تَعَالَى؛ بَلْ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ كَلَامًا لِغَيْرِهِ لَا لِجِبْرِيلَ وَلَا لِمُحَمَّدِ وَلَا لِغَيْرِهِمَا؛ بَلْ قَدْ كَفَّرَ اللَّهُ مَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ الْبَشَرِ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَضَافَهُ تَارَةً إلَى رَسُولٍ مِنْ الْبَشَرِ وَتَارَةً إلَى رَسُولٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَالرَّسُولُ هُنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ تَعَالَى:

ص: 307

{إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} {إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} فَالرَّسُولُ هُنَا جِبْرِيلُ. وَأَضَافَهُ سُبْحَانَهُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمِ رَسُولٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ رَسُولٌ فِيهِ لَمْ يُحْدِثْ هُوَ شَيْئًا مِنْهُ. إذْ لَوْ كَانَ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ رَسُولًا فِيمَا أَحْدَثَهُ بَلْ كَانَ مُنْشِئًا لَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُضِيفُهُ إلَى رَسُولٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ تَارَةً وَمِنْ الْبَشَرِ تَارَةً فَلَوْ كَانَتْ الْإِضَافَةُ لِكَوْنِهِ أَنْشَأَ حُرُوفَهُ لَتَنَاقَضَ الْخَبَرَانِ فَإِنَّ إنْشَاءَ أَحَدِهِمَا لَهُ يُنَاقِضُ إنْشَاءَ الْآخَرِ لَهُ. وَقَدْ كَفَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ قَالَ: إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ فَمَنْ قَالَ إنَّ الْقُرْآنَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ قَوْلُ بِشْرٍ أَوْ مَلَكٍ فَقَدْ كَذَبَ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ قَوْلُ رَسُولٍ مِنْ الْبَشَرِ وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ بَلَّغَهُ عَنْ مُرْسِلِهِ لَيْسَ قَوْلًا أَنْشَأَهُ فَقَدْ صَدَقَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ: إنَّ جِبْرِيلَ أَحْدَثَ أَلْفَاظَهُ وَلَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَلَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهَا فِي الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا إنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَهَا مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بَلْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ هِيَ مِنْ أَقْوَالِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى تَنَازُعِ الْمُبْتَدِعِينَ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ وَبُيِّنَ فَسَادُ أَقْوَالِهِمْ وَأَنَّ الْقَوْلَ السَّدِيدَ هُوَ قَوْلُ

ص: 308

السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّقْلُ الصَّحِيحُ وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ وَإِنْ كَانَ عَامَّةُ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ لَمْ يَعْرِفُوا الْقَوْلَ السَّدِيدَ قَوْلَ السَّلَفِ؛ بَلْ وَلَا سَمِعُوهُ وَلَا وَجَدُوهُ فِي كِتَابٍ مِنْ الْكُتُبِ الَّتِي يَتَدَاوَلُونَهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَدَاوَلُونَ الْآثَارَ السَّلَفِيَّةَ وَلَا مَعَانِيَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَّا بِتَحْرِيفِ بَعْضِ الْمُحَرِّفِينَ لَهَا وَلِهَذَا إنَّمَا يَذْكُرُ أَحَدُهُمْ أَقْوَالًا مُبْتَدَعَةً: إمَّا قَوْلَيْنِ وَإِمَّا ثَلَاثَةً وَإِمَّا أَرْبَعَةً وَإِمَّا خَمْسَةً وَالْقَوْلُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا يَذْكُرُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ الْفَاضِلَ مِنْ هَؤُلَاءِ حَائِرًا مُقِرًّا بِالْحَيْرَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ سَبَقَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيمَا قَالُوهُ قَوْلًا صَحِيحًا. وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَ الْأَقْوَالَ " الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةُ الْنُّفَاةِ " الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ فَكَانُوا يَقُولُونَ أَوَّلًا: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُ بَلْ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ وَجَعَلَ غَيْرَهُ يُعَبِّرُ عَنْهُ وَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} وَقَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ إذَا بَقِيَ ثُلْثُ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟} مَعْنَاهُ أَنَّ مَلَكًا يَقُولُ ذَلِكَ عَنْهُ كَمَا يُقَالُ: نَادَى السُّلْطَانُ أَيْ أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي عَنْهُ فَإِذَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ وَيَتَكَلَّمُ. قَالُوا هَذَا مَجَازٌ؛ كَقَوْلِ الْعَرَبِيِّ:

ص: 309

امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قطني.

وَقَالَتْ (1): اتِّسَاعُ بَطْنِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَلَمَّا عَرَفَ السَّلَفُ حَقِيقَتَهُ وَأَنَّهُ مُضَاهٍ لِقَوْلِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمُعَطِّلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتَكَلَّمْ وَإِنَّمَا أَضَافَتْ الرُّسُلُ إلَيْهِ الْكَلَامَ بِلِسَانِ الْحَالِ كَفَّرُوهُمْ وَبَيَّنُوا ضَلَالَهُمْ وَمِمَّا قَالُوا لَهُمْ: إنَّ الْمُنَادِيَ عَنْ غَيْرِهِ - كَمُنَادِي السُّلْطَانِ - يَقُولُ: أَمَرَ السُّلْطَانُ بِكَذَا خَرَجَ مَرْسُومُهُ بِكَذَا لَا يَقُولُ إنِّي آمُرُكُمْ بِكَذَا وَأَنْهَاكُمْ عَنْ كَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وَيَقُولُ تَعَالَى إذَا نَزَلَ ثُلْثَ اللَّيْلِ الْغَابِرُ {مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟} وَإِذَا كَانَ الْقَائِلُ مَلِكًا قَالَ - كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ - {إذَا أَحَبَّ اللَّهَ الْعَبْدَ نَادَى فِي السَّمَاءِ يَا جِبْرِيلُ إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ وَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ} فَقَالَ جِبْرِيلُ فِي نِدَائِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ} وَفِي نِدَاءِ الرَّبِّ يَقُولُ {مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟} .

(1)

هكذا بالأصل

قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 107):

وقد ذكر الجامع في الحاشية بعد (قالت): كذا بالأصل، ولا أدري ما الذي استنكره رحمه الله، هل هو لفظ (قالت)، أو لفظ (اتساع بطنه)، وأياً كان، فقد وردت هذه الجملة مرة أخرى في المجلد نفسه ص 405، كما وردت أيضاً في الدرء (10/ 201).

والذي يظهر أنه مثل، أو نحو ذلك، وقد ورد في الفتاوى في الموضعين المذكورين بلفظ (اتساع) بالتاء، وفي (الدرء) بلفظ (انساع) بالنون وهو الآظهر، فإن العرب تقول (انساع الماء إذا جرى على وجه الأرض، وانساع الجامد إذا ذاب)، فلعل المقصود بهذا استطلاق البطن، والله أعلم.

ص: 310

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ يَأْمُرُ مُنَادِيًا فَيُنَادِي قِيلَ هَذَا لَيْسَ فِي الصَّحِيحِ فَإِنْ صَحَّ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ بِأَنْ يُنَادِيَ هُوَ وَيَأْمُرَ مُنَادِيًا يُنَادِي. أَمَّا أَنْ يُعَارَضَ بِهَذَا النَّقْلِ النَّقْلُ الصَّحِيحُ الْمُسْتَفِيضُ الَّذِي اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ وَتَلَقِّيه بِالْقَبُولِ مَعَ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَقُولُ: {مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟} فَلَا يَجُوزُ. وَكَذَلِكَ جَهْمٌ كَانَ يُنْكِرُ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُسَمِّيهِ شَيْئًا وَلَا حَيًّا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. قَالَ: لِأَنَّهُ إذَا سُمِّيَ بِاسْمِ تَسَمَّى بِهِ الْمَخْلُوقُ كَانَ تَشْبِيهًا وَكَانَ جَهْمٌ " مُجْبِرًا " يَقُولُ: إنَّ الْعَبْدَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَلِهَذَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ سَمَّى اللَّهَ قَادِرًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِقَادِرِ. ثُمَّ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ دَخَلُوا فِي مَذْهَبِ جَهْمٍ فَأَثْبَتُوا أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُثْبِتُوا صِفَاتِهِ وَقَالُوا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً وَقَدْ يَذْكُرُونَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً لِئَلَّا يُضَافُ إلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ غَيْرُ مُتَكَلِّمٍ لَكِنْ مَعْنَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خَلَقَ الْكَلَامَ فِي غَيْرِهِ فَمَذْهَبُهُمْ وَمَذْهَبُ الْجَهْمِيَّة فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هُوَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً وَأُولَئِكَ يَنْفُونَ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا حَقِيقَةً. وَحَقِيقَةُ قَوْلِ الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهُ غَيْرُ

ص: 311

مُتَكَلِّمٍ فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ مُتَكَلِّمٌ إلَّا مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَلَا مُرِيدٌ إلَّا مَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ وَلَا مُحِبٌّ وَلَا رَاضٍ وَلَا مُبْغِضٌ وَلَا رَحِيمٌ إلَّا مَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَى وَالْبُغْضُ وَالرَّحْمَةُ وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ انْتَسَبَ فِي الْفِقْهِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ. وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ لَا فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ وَلَا فِي الْقَدْرِ وَلَا الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَلَا إنْفَاذِ الْوَعِيدِ. ثُمَّ تَنَازَعَ الْمُعْتَزِلَةُ والْكُلَّابِيَة فِي حَقِيقَةِ " الْمُتَكَلِّمِ " فَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُتَكَلِّمُ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ وَلَوْ أَنَّهُ أَحْدَثَهُ فِي غَيْرِهِ لِيَقُولُوا إنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْكَلَامَ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهِ. وَقَالَتْ الْكُلَّابِيَة: الْمُتَكَلِّمُ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا فَعَلَ فِعْلًا أَصْلًا بَلْ جَعَلُوا الْمُتَكَلِّمَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيِّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَيَاتُهُ بِمَشِيئَتِهِ وَلَا قُدْرَتِهِ وَلَا حَاصِلَةً بِفِعْلِ مِنْ أَفْعَالِهِ. وَأَمَّا السَّلَفُ وَأَتْبَاعُهُمْ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ فَالْمُتَكَلِّمُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. لَا يُعْقَلُ مُتَكَلِّمٌ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْكَلَامُ وَلَا يُعْقَلُ مُتَكَلِّمٌ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَكَانَ كُلٌّ مِنْ تينك الطَّائِفَتَيْنِ الْمُبْتَدِعَتَيْن أَخَذَتْ بَعْضَ وَصْفِ الْمُتَكَلِّمِ: الْمُعْتَزِلَةُ أَخَذُوا أَنَّهُ فَاعِلٌ والْكُلَّابِيَة أَخَذُوا أَنَّهُ مَحَلُّ الْكَلَامِ ثُمَّ زَعَمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّهُ يَكُونُ فَاعِلًا لِلْكَلَامِ فِي غَيْرِهِ وَزَعَمُوا هُمْ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْكُلَّابِيَة كَأَبِي الْحَسَنِ

ص: 312

وَغَيْرِهِ أَنَّ الْفَاعِلَ لَا يَقُومُ بِهِ الْفِعْلُ وَكَانَ هَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ وَقَالُوا لَا يَكُونُ الْفَاعِلُ إلَّا مَنْ قَامَ بِهِ الْفِعْلُ وَأَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْفَاعِلَ لَا يَقُومُ بِهِ الْفِعْلُ وَقَالُوا مَعَ ذَلِكَ إنَّ اللَّهَ فَاعِلُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَأَبِي الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا وَإِنَّ جَمِيعَ مَا يَخْلُقُهُ الْعَبْدُ فِعْلٌ لَهُ وَهُمْ يَصِفُونَهُ بِالصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ وَيُقَسِّمُونَ صِفَاتِهِ إلَى صِفَاتِ ذَاتٍ وَصَفَاتِ أَفْعَالٍ مَعَ أَنَّ الْأَفْعَالَ عِنْدَهُمْ هِيَ الْمَفْعُولَاتُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْهُ فَلَزِمَهُمْ أَنْ يُوصَفَ بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْقَبَائِحِ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ فَكَانَ هَذَا تَنَاقُضًا مِنْهُمْ تَسَلَّطَتْ بِهِ عَلَيْهِمْ الْمُعْتَزِلَةُ. وَلَمَّا قَرَّرُوا مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى إذَا قَامَ بِمَحَلِّ اُشْتُقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمٌ وَلَمْ يُشْتَقَّ لِغَيْرِهِ مِنْهُ اسْمٌ كَاسْمِ الْمُتَكَلِّمِ نَقَضَ عَلَيْهِمْ الْمُعْتَزِلَةُ ذَلِكَ بِاسْمِ الْخَالِقِ وَالْعَادِلِ فَلَمْ يُجِيبُوا عَنْ النَّقْضِ بِجَوَابِ سَدِيدٍ. وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فَأَصْلُهُمْ مُطَّرِدٌ. وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مَا احْتَجَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ} . قَالُوا وَالْمَخْلُوقُ لَا يُسْتَعَاذُ بِهِ فَعُورِضُوا بِقَوْلِهِ {أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَبِك

ص: 313

مِنْك} فَطَرَدَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَصْلَهُمْ وَقَالُوا مُعَافَاتُهُ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ وَأَمَّا الْعَافِيَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي النَّاسِ فَهِيَ مَفْعُولُهُ. وَكَذَلِكَ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ الْقَائِمَةُ بِهِمْ مُفَعْوِلَةٌ لَهُ لَا نَفْسُ فِعْلِهِ وَهِيَ نَفْسُ فِعْلِ الْعَبْدِ وَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِ أُولَئِكَ نَفْيَ فِعْلِ الرَّبِّ وَنَفْيَ فِعْلِ الْعَبْدِ. فَتَسَلَّطَتْ عَلَيْهِمْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي " مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالْقَدْرِ " تَسَلُّطًا بَيَّنُوا بِهِ تَنَاقُضَهُمْ كَمَا بَيَّنُوا هُمْ تَنَاقُضَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ أَقْوَالِ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ أَقْوَالُهُمْ بَاطِلَةٌ فَإِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِ كُلِّ طَائِفَةٍ بَيَانُ فَسَادِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى فَيَعْرِفُ الطَّالِبُ فَسَادَ تِلْكَ الْأَقْوَالِ وَيَكُونُ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَلَا تَجِدُ الْحَقَّ إلَّا مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَجِدُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إلَّا مُوَافِقًا لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ فَيَكُونُ مِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَمِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ يَعْقِلُ بِهِ وَأُذُنٌ يَسْمَعُ بِهَا بِخِلَافِ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} . وَقَدْ وَافَقَ الْكُلَّابِيَة عَلَى قَوْلِهِمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَمِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَيْسَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ

ص: 314

وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ. وَحَدَثَ مَعَ الْكُلَّابِيَة وَنَحْوِهِمْ طَوَائِفُ أُخْرَى مَنْ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِ الكَرَّامِيَة مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ فَقَالُوا: إنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِهِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِحُرُوفِ وَأَصْوَاتٍ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لِيَتَخَلَّصُوا بِذَلِكَ مِنْ بِدْعَتَيْ الْمُعْتَزِلَةِ والْكُلَّابِيَة؛ لَكِنْ قَالُوا إنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ فِي الْأَزَلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ؛ بَلْ صَارَ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ سَبَبٍ أَوْجَبَ إمْكَانَ الْكَلَامِ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِ وَهَذَا الْقَوْلُ مِمَّا وَافَقَ الكَرَّامِيَة عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ؛ لَكِنْ لَيْسَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِهِمْ. وَهَذَا مِمَّا شَارَكُوا فِيهِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ فِي الْأَزَلِ ثُمَّ صَارَ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ سَبَبٍ أَوْجَبَ إمْكَانَهُ؛ لَكِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ إنَّهُ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَامَ بِهِ كَلَامٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَقَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ قَالُوا: وَلَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ. قَالَتْ الْجَهْمِيَّة. وَالْمُعْتَزِلَةُ. لِأَنَّ الْحَوَادِثَ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ الصِّفَاتِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَعْرَاضَ. وَعِنْدَهُمْ لَا يَقُومُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ قَالُوا لِأَنَّ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَلَيْسَ هُوَ بِجِسْمِ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ.

ص: 315

وَقَالَتْ الْكُلَّابِيَة: بَلْ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ وَلَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ وَنَحْنُ لَا نُسَمِّي الصِّفَاتِ أَعْرَاضًا؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ عِنْدَنَا لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى بَاقِيَةٌ. وَقَالُوا: وَأَمَّا الْحَوَادِثُ فَلَوْ قَامَتْ بِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو مِنْهُ وَمِنْ ضِدِّهِ وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ الْمُنَازِعُونَ لِلطَّائِفَتَيْنِ: أَمَّا قَوْلُ أُولَئِكَ: إنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ؛ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَلَيْسَ بِجِسْمِ فَتَسْمِيَةُ مَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ عَرَضًا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ وَكَذَلِكَ تَسْمِيَةُ مَا يُشَارُ إلَيْهِ جِسْمًا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ أَيْضًا وَ " الْجِسْمُ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ الْبَدَنُ وَهُوَ الْجَسَدُ كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهُمْ الْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو فَلَفْظُ الْجِسْمِ يُشْبِهُ لَفْظَ الْجَسَدِ وَهُوَ الْغَلِيظُ الْكَثِيفُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ هَذَا جَسِيمٌ وَهَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا أَيْ أَغْلَظُ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} ثُمَّ قَدْ يُرَادُ بِالْجِسْمِ نَفْسُ الْغِلَظِ وَالْكَثَافَةِ وَيُرَادُ بِهِ الْغَلِيظُ الْكَثِيفُ. وَكَذَلِكَ النُّظَّارُ يُرِيدُونَ بِلَفْظِ " الْجِسْمِ " تَارَةً الْمِقْدَارَ وَقَدْ يُسَمُّونَهُ الْجِسْمَ التَّعْلِيمِيَّ وَتَارَةً يُرِيدُونَ بِهِ الشَّيْءَ الْمُقَدَّرَ وَهُوَ الْجِسْمِيُّ الطَّبِيعِيُّ وَالْمِقْدَارُ الْمُجَرَّدُ عَنْ الْمُقَدَّرِ كَالْعَدَدِ الْمُجَرَّدِ عَنْ الْمَعْدُودِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ إلَّا

ص: 316

فِي الْأَذْهَانِ دُونَ الْأَعْيَانِ. وَكَذَلِكَ السَّطْحُ وَالْخَطُّ وَالنُّقْطَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ الْمَحَلِّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الذِّهْنِ. قَالُوا وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْنَى الْجِسْمِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْمُشَارِ إلَيْهِ فَإِنَّ الرُّوحَ الْقَائِمَةَ بِنَفْسِهَا لَا يُسَمُّونَهَا جِسْمًا بَلْ يَقُولُونَ خَرَجَتْ رُوحه مِنْ جِسْمِهِ وَيَقُولُونَ إنَّهُ جِسْمٌ وَرُوحٌ وَلَا يُسَمُّونَ الرُّوحَ جِسْمًا وَلَا النَّفَسَ الْخَارِجَ مِنْ الْإِنْسَانِ جِسْمًا لَكِنْ أَهْلُ الْكَلَامِ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ يُسَمَّى جِسْمًا كَمَا اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ يُسَمَّى جَوْهَرًا ثُمَّ تَنَازَعُوا فِي أَنَّ كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ هَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ أَوْ لَيْسَ مُرَكَّبًا لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا عَلَى أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ الْجِسْمُ عِنْدَنَا هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ أَوْ هُوَ الْمَوْجُودُ لَا الْمُرَكَّبُ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ فَإِذَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة وَغَيْرُهُمْ مِنْ نفاة الصِّفَاتِ: إنَّ الصِّفَاتِ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمِ قِيلَ لَهُمْ: إنْ أَرَدْتُمْ بِالْجِسْمِ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ جَوَاهِرَ فَرْدَةٍ أَوْ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ لَمْ نُسَلِّمْ لَكُمْ " الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى " وَهِيَ قَوْلُكُمْ: إنَّ الصِّفَاتِ لَا تَقُومُ إلَّا بِمَا هُوَ كَذَلِكَ قِيلَ لَكُمْ إنَّ الرَّبَّ تَعَالَى قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَالْعِبَادُ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ وَيَقْصِدُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى سُبْحَانَهُ وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ بِأَبْصَارِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا كَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ

ص: 317

الْبَدْرِ فَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ جِسْمٌ وَهُوَ مُحْدَثٌ - كَانَ هَذَا بِدْعَةً مُخَالِفَةً لِلُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَإِنْ قُلْتُمْ: نَحْنُ نُسَمِّي مَا هُوَ كَذَلِكَ جِسْمًا وَنَقُولُ إنَّهُ مُرَكَّبٌ قِيلَ تَسْمِيَتُكُمْ الَّتِي ابْتَدَعْتُمُوهَا هِيَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَمَنْ عَمِدَ إلَى الْمَعَانِي الْمَعْلُومَةِ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَسَمَّاهَا بِأَسْمَاءِ مُنْكَرَةٍ لِيُنَفِّرَ النَّاسَ عَنْهَا قِيلَ لَهُ: النِّزَاعُ فِي الْمَعَانِي لَا فِي الْأَلْفَاظِ وَلَوْ كَانَتْ الْأَلْفَاظُ مُوَافَقَةً لِلُّغَةِ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ مِنْ ابْتِدَاعِهِمْ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي يُعْلَمُ ثُبُوتُهَا بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ لَا تُدْفَعُ بِمِثْلِ هَذَا النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ الْبَاطِلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ كُلَّ مَا كَانَ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ وَتُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَيْهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ بِأَبْصَارِهِمْ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ فَهَذَا مَمْنُوعٌ؛ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ: مِنْ النُّظَّارِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: وَأَمَّا تَفْرِيقُ الْكُلَّابِيَة بَيْنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَالْمَعَانِي الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ - الَّتِي تُسَمِّي الْحَوَادِثَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الصِّفَاتِ أَعْرَاضًا لِأَنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ - فَيُقَالُ: قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْعَرَضَ الَّذِي هُوَ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ وَالطُّولُ وَالْقِصَرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ جَمِيعِ

ص: 318

الطَّوَائِفِ؛ بَلْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْمُسَمِّي لِلصِّفَاتِ أَعْرَاضًا فَهَذَا أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ لِمَنْ قَالَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ لَيْسَ هُوَ عُرْفَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا عُرْفَ سَائِر أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَقَائِقُ الْمَعْلُومَةُ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا اخْتِلَافُ الِاصْطِلَاحَاتِ بَلْ يُعَدُّ هَذَا مِنْ النِّزَاعَاتِ اللَّفْظِيَّةِ وَالنِّزَاعَاتُ اللَّفْظِيَّةُ أَصْوَبُهَا مَا وَافَقَ لُغَةَ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ وَالسَّلَفِ فَمَا نَطَقَ بِهِ الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ جَازَ النُّطْقُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا لَمْ يَنْطِقُوا بِهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَأَمَّا قَوْلُ " الْكُلَّابِيَة " مَا يَقْبَلُ الْحَوَادِثَ لَا يَخْلُو مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ. فَقَدْ نَازَعَهُمْ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ فِي كِلَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ حَتَّى أَصْحَابُهُمْ الْمُتَأَخِّرُونَ نَازَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ وَاعْتَرَفُوا بِبُطْلَانِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا سَلَفُهُمْ عَلَى نَفْيِ حُلُولِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَحَدَثَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مَنْ السالمية وَغَيْرِهِمْ - مِمَّنْ هُوَ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَمِنْهُمْ كَثِيرٌ مِمَّنْ هُوَ يَنْتَسِبُ إلَى

ص: 319

مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَكَثُرَ هَذَا فِي بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ - فَقَالُوا بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَة وَبِقَوْلِ الْكُلَّابِيَة: وَافَقُوا هَؤُلَاءِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ قَدِيمٌ وَوَافَقُوا أُولَئِكَ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ وَأَحْدَثُوا قَوْلًا مُبْتَدَعًا - كَمَا أَحْدَثَ غَيْرُهُمْ - فَقَالُوا: الْقُرْآنُ قَدِيمٌ وَهُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِنَفْسِ اللَّهِ تَعَالَى أَزَلًا وَأَبَدًا. وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ بِحُجَجِ الْكُلَّابِيَة وَعَلَى أَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ بِحُجَجِ الْمُعْتَزِلَةِ. فَلَمَّا قِيلَ لَهُمْ: الْحُرُوفُ مَسْبُوقَةٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ فَالْبَاءُ قَبْلَ السِّينِ وَالسِّينُ قَبْلَ الْمِيمِ وَالْقَدِيمُ لَا يُسْبَقُ بِغَيْرِهِ وَالصَّوْتُ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ فَضْلًا عَنْ قِدَمِهِ قَالُوا: الْكَلَامُ لَهُ وُجُودٌ وَمَاهِيَّةٌ كَقَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ. قَالُوا: وَالْكَلَامُ لَهُ تَرْتِيبٌ فِي وُجُودِهِ وَتَرْتِيبٌ مَاهِيَّةٌ الْبَاءُ لِلسِّينِ بِالزَّمَانِ هِيَ فِي وُجُودِهِ وَهِيَ مُقَارِنَةٌ لَهَا فِي مَاهِيَّتِهَا لَمْ تَتَقَدَّمْ عَلَيْهَا بِالزَّمَانِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً بِالْمَرْتَبَةِ كَتَقَدُّمِ بَعْضِ الْحُرُوفِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى بَعْضٍ. فَإِنَّ الْكَاتِبَ قَدْ يُكْتَبُ آخِرُ الْمُصْحَفِ قَبْلَ أَوَّلِهِ وَمَعَ هَذَا فَإِذَا كَتَبَهُ كَانَ أَوَّلُهُ مُتَقَدِّمًا بِالْمَرْتَبَةِ عَلَى آخِرِهِ. فَقَالَ لَهُمْ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ؛ فَإِنَّ الصَّوْتَ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ وَدَعْوَى وُجُودِ مَاهِيَّةِ غَيْرِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ دَعْوَى

ص: 320

فَاسِدَةٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَالتَّرْتِيبُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ هُوَ تَرْتِيبٌ لِلْحُرُوفِ الْمِدَادِيَّةِ وَالْمِدَادُ أَجْسَامٌ فَهُوَ كَتَرْتِيبِ الدَّارِ وَالْإِنْسَانِ وَهَذَا أَمْرٌ يُوجَدُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْهُ مَعَ الثَّانِي بِخِلَافِ الصَّوْتِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ الْجُزْءُ الثَّانِيَ مِنْهُ حَتَّى يُعْدَمَ الْأَوَّلُ كَالْحَرَكَةِ فَقِيَاسُ هَذَا بِهَذَا قِيَاسٌ بَاطِلٌ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُطْلِقُ لَفْظَ الْقَدِيمِ وَلَا يَتَصَوَّرُ مَعْنَاهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَعْنِي بِالْقَدِيمِ إنَّهُ بَدَأَ مِنْ اللَّهِ وَإِنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ؛ لَكِنَّ الَّذِينَ نَازَعُوا هَلْ هُوَ قَدِيمٌ أَوْ لَيْسَ بِقَدِيمِ لَمْ يَعْنُوا هَذَا الْمَعْنَى فَمَنْ قَالَ لَهُمْ: إنَّهُ قَدِيمٌ وَأَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ أَرَادَ مَعْنًى صَحِيحًا لَكِنَّهُ جَاهِلٌ بِمَقَاصِدِ النَّاسِ مُضِلٌّ لِمَنْ خَاطَبَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ مُبْتَدِعٌ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ. ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ الْحُرُوفَ الْقَدِيمَةَ وَالْأَصْوَاتَ لَيْسَتْ هِيَ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ وَلَا الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ الْأَصْوَاتُ الْمَسْمُوعَةُ مِنْ الْقُرَّاءِ هُوَ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ يُسْمَعُ مِنْ الْقَارِئِ شَيْئَانِ: الصَّوْتُ الْقَدِيمُ وَهُوَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي وُجُودِ الْكَلَامِ. وَالصَّوْتُ الْمُحْدَثُ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْمِدَادُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ مَخْلُوقٌ؛ لَكِنَّ الْحُرُوفَ الْقَدِيمَةَ لَيْسَتْ هِيَ الْمِدَادَ؛ بَلْ الْأَشْكَالُ وَالْمَقَادِيرُ الَّتِي تَظْهَرُ بِالْمِدَادِ وَقَدْ تُنْقَشُ فِي حَجَرٍ وَقَدْ تُخْرَقُ فِي وَرَقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ أَنْ يُقَالَ فِي الْمِدَادِ إنَّهُ قَدِيمٌ أَوْ

ص: 321

مَخْلُوقٌ وَقَدْ يَقُولُ لَا أَمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ بَلْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ لَكِنْ أَسَدُّ بَابَ الْخَوْضِ فِي هَذَا وَهُوَ مَعَ هَذَا يَهْجُرُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْحَقِّ وَمَنْ يُبَيِّنُ الصَّوَابَ الْمُوَافِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَمَعَ دَفْعِهِ لِلشَّنَاعَاتِ الَّتِي يُشَنِّعُ بِهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَخَوْضُ النَّاسِ وَتَنَازُعُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ قَوْلٍ مُخْتَصَرٍ جَامِعٍ يُبَيِّنُ الْأَقْوَالَ السَّدِيدَةَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَانَ عَلَيْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الَّتِي حَيَّرَتْ عُقُولَ الْأَنَامِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 322

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْأَنَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة:

عَنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ: كَلَامُ النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ قَدِيمٌ - سَوَاءٌ كَانَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا فُحْشًا أَوْ غَيْرَ فُحْشٍ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا - وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِهِمْ فِي الْقِدَمِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الثَّوَابِ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ - بَلْ أَكْثَرُهُمْ -: أَصْوَاتُ الْحَمِيرِ وَالْكِلَابِ كَذَلِكَ وَلَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِمْ مَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: بِأَنَّ أَحْمَد إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ النَّاسِ فَهَلْ هَؤُلَاءِ مُصِيبُونَ أَوْ مُخْطِئُونَ؟ وَهَلْ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى زَجْرُهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَكْفُرُونَ بِالْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ الَّذِي نُقِلَ عَنْ أَحْمَد حُقٌّ كَمَا زَعَمُوا أَمْ لَا؟.

فَأَجَابَ رضي الله عنه:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ هَؤُلَاءِ مُخْطِئُونَ فِي ذَلِكَ خَطَأً مُحَرَّمًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالُوا مُنْكِرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا؛ بَلْ كُفْرًا وَمُحَالًا يَجِبُ نَهْيُهُمْ عَنْهُ وَيَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ عُقُوبَةُ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ جَزَاءً بِمَا

ص: 323

كَسَبُوا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ مُنَاقِضٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ " بِدْعَةٌ شَنِيعَةٌ " لَمْ يَقُلْهَا أَحَدٌ قَطُّ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: لَا عُلَمَاءُ السُّنَّةِ وَلَا عُلَمَاءُ الْبِدْعَةِ وَلَا يَقُولُهَا عَاقِلٌ يَفْهَمُ مَا يَقُولُ؛ وَلَكِنْ عَرَضَ لِمَنْ قَالَهَا شُبْهَةٌ وَنَحْنُ نُبَيِّنُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا يُحْتَاجُ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي فَسَادُهُ مَعْلُومٌ ببداءة الْعُقُولِ أَنْ يُحْتَجَّ لَهُ بِنَقْلِ عَنْ إمَامٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا مِنْ جِهَةِ بَيَانِ أَنَّ رَدَّهُ وَإِنْكَارَهُ مَنْقُولٌ عَنْ الْأَئِمَّةِ وَأَنَّ قَائِلَهُ مُخَالِفٌ لِلْأُمَّةِ مُبْتَدِعٌ فِي الدِّينِ؛ وَلِتَزُولَ بِذَلِكَ شُبْهَةُ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ قَوْلَهُمْ مِنْ لَوَازِمَ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ الْمُعَظَّمِينَ؛ وَلِيَتَبَيَّنَ أَنَّ نَقِيضَ قَوْلِهِمْ مَنْصُوصٌ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَّبَعِينَ فِي السُّنَّةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا سَكَتُوا عَنْهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. وَأَنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ وَمَنْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ نَصُّوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَخْلُوقٌ - نَصًّا مُطْلَقًا - بَلْ نَصَّ أَحْمَد وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى " أَفْعَالِ الْعِبَادِ " عُمُومًا وَعَلَى " كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ " خُصُوصًا وَلَمْ يَمْتَنِعُوا عَنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ الَّتِي عَرَضَتْ لِهَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعَةِ الْمُخَالِفِينَ حَتَّى لَا يَقُولَ قَائِلٌ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ: إنَّهُ لَا يُقَالُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِأَجْلِ شُبْهَتِهِمْ أَوْ لِكَوْنِ الْكَلَامِ فِي

ص: 324

ذَلِكَ بِدْعَةً بَلْ الْقَوْلُ بِأَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَخْلُوقٌ غَيْرُ قَدِيمٍ مَنْصُوصٌ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَى إمَامَتِهِمْ فِي الدِّينِ وَالسُّنَّةِ. فَمِنْهُمْ مَنْ نَصَّ عَلَيْهِ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي " مَسَائِلِ الْقَدَرِ " وَ " خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " وَمِنْهُمْ مَنْ نَصَّ عَلَيْهِ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي " مَسْأَلَةِ تِلَاوَةِ الْعِبَادِ لِلْقُرْآنِ وَاللَّفْظِ بِهِ " وَمِنْهُمْ مَنْ نَصَّ عَلَيْهِ مُحْتَجًّا بِهِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِ. فَرَوَى أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ هَارُونَ الْخَلَّالُ - وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ نُصُوصَ أَحْمَد فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَفِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ كُلِّهَا وَفِي الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ وَالزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ وَفِي عِلَلِ الْحَدِيثِ وَفِي التَّارِيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عُلُومِ الْإِسْلَامِ. رُوِيَ - فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى اللَّفْظِيَّةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ابْنِ زنجويه قَالَ: سَمِعْت أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ لَا يُكَلَّمُ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُد السجستاني قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَتَكَلَّمُ فِي " اللَّفْظِيَّةِ " وَيُنْكِرُ عَلَيْهِمْ كَلَامَهُمْ وَسَمِعْت إسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْه ذَكَرَ " اللَّفْظِيَّةَ " وَبِدَعَهُمْ وَقَالَ الْخَلَّالُ: سَمِعْت ابْنَ صَدَقَةَ قَالَ سَمِعْت يَحْيَى بْنَ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ قَالَ سَمِعْت رَجُلًا سَأَلَ مُعْتَمِرَ بْنَ سُلَيْمَانَ أَنَّ لَنَا

ص: 325

إمَامًا قَدَرِيًّا أُصَلِّي خَلْفَهُ قَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظَهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِمَنْزِلَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ سَمَاءَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ قَالَ الْخَلَّالُ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الأزدي حَدَّثَنِي مُسَدَّدُ قَالَ: كُنْت عِنْدَ يَحْيَى الْقَطَّانِ وَجَاءَ يَحْيَى بْنُ إسْحَاقَ بْنِ تَوْبَةَ الْعَنْبَرِيُّ فَقَالَ لَهُ يَحْيَى حَدِّثْ هَذَا يَعْنِي مُسَدَّدًا كَيْفَ قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فِيهَا؟ - أَيْ " مَسْأَلَتِنَا " - فَقَالَ سَأَلْت حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ عَمَّنْ قَالَ: كَلَامُ النَّاسِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَقَالَ هَذَا كَلَامُ أَهْلِ الْكُفْرِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ إسْحَاقَ سَأَلْت مُعْتَمِرَ بْنَ سُلَيْمَانَ عَمَّنْ قَالَ كَلَامُ النَّاسِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَقَالَ هَذَا كُفْرٌ. فَهَذِهِ الْآثَارُ وَنَحْوُهَا مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا الْمَشْهُورُونَ بِالسُّنَّةِ كالمروذي وَالْخَلَّالِ وَغَيْرِهِمَا وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ يَعْتَمِدُ فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةِ الْكَبِيرِ " عَلَى هَذِهِ الْآثَارِ وَنَحْوِهِمَا. قُلْت: حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ فِي السُّنَّةِ فِي طَبَقَةِ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فِي الزَّمَانِ وَالْإِمَامَةِ بَلْ هُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ أَقْعَدُ بِالسُّنَّةِ مِنْ الثَّوْرِيِّ وَإِنْ كَانَ الثَّوْرِيُّ أَكْثَرُ عِلْمًا مِنْهُ وَزُهْدًا وَعِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ أَحْفَظُ لِلْحَدِيثِ مِنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَإِنْ كَانَ حَمَّادُ أَشْهَرَ بِالزُّهْدِ وَأَكْثَرَ دُعَاءً إلَى السُّنَّةِ وَهُوَ إمَامُ الْبَصْرَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي كَانَتْ الْبَصْرَةُ فِيهِ مَجْمَعَ عِلْمِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَوَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَخُلَفَاءُ الرُّسُلِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ

ص: 326

الَّذِي هُوَ عَصْرُ تَابِعِي التَّابِعِينَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِهِمْ وَهُمْ مِنْ الْقَرْنِ الثَّالِثِ الْمَمْدُوحِ. وَالْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ " أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ أَيْضًا وَهُوَ دُونَ حَمَّادِ ابْنِ زَيْدٍ وَقَدْ أَدْرَكَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ أَحَدُ شُيُوخِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَأَمَّا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ " فَفَاتَ الْإِمَامَ أَحْمَد فَقَالَ: فَاتَنِي حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فَعَوَّضَنِي اللَّهُ بِإِسْمَاعِيلَ بْنَ عُلَيَّةَ وَفَاتَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَعَوَّضَنِي اللَّهُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَة. وَأَمَّا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ " فَهُوَ أَحَدُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَهُوَ إمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي مَعْرِفَةِ صِحَّتِهِ وَعِلَلِهِ وَرِجَالِهِ وَضَبْطِهِ حَتَّى قَالَ أَحْمَد: مَا رَأَيْت بِعَيْنِي مِثْلَهُ يَعْنِي فِي ذَلِكَ الْفَنِّ وَعَنْهُ أَخَذَ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَعَنْ عَلِيٍّ أَخَذَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ وَقَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ فِي مَعْرِفَةِ عِلَلِ الْحَدِيثِ مِثْلَ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ. وَهَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ الْأَئِمَّةُ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ وَلَفْظُهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لَمَّا نَبَغَتْ " الْقَدَرِيَّةُ " الْمُبْتَدِعَةُ وَزَعَمُوا أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ: لَا أَقْوَالُهُمْ وَلَا سَائِر أَعْمَالِهِمْ: لَا خَيْرُهَا وَلَا شَرُّهَا؛ بَلْ يَقُولُونَ: هِيَ مُحْدَثَةٌ أَحْدَثَهَا الْعَبْدُ وَلَيْسَتْ مَخْلُوقَةً لِأَحَدِ أَوْ يَقُولُونَ: الْعَبْدُ خَلَقَهَا كَمَا أَنَّهُ أَحْدَثَهَا؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي إثْبَاتِ

ص: 327

خَلْقٍ لِغَيْرِ اللَّهِ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْأُمَّةِ نِزَاعٌ فِي أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ كَائِنَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّهَا قَدِيمَةٌ؛ وَلَكِنَّ " الْقَدَرِيَّةَ " مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ وَمَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا مِنْ أَفْعَالِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ - الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي - لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ. قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهَا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَجْبُورًا وَأَنْ يَرْتَفِعَ التَّكْلِيفُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْدِثُ أَفْعَالَهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَدِلَّةِ نَظَرِيَّةٍ. فَلَمَّا ابْتَدَعُوا هَذِهِ " الْمَقَالَةَ " أَنْكَرَهَا أَئِمَّةُ السُّنَّةِ كَمَا أَنْكَرَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَوَّلَ هَذِهِ الْبِدْعَةِ لَمَّا نَبَغَتْ الْقَدَرِيَّةُ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَوَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَبَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ مَنْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُحْدَثَاتِ كَأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا لَيْسَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ فَهُوَ مِثْلُ مَنْ أَنْكَرَ خَلْقَ اللَّهِ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَمَالِكُ الْمُلْكِ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْعَالَمِينَ خَارِجًا عَنْ رُبُوبِيَّتِهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْمُلْكِ خَارِجًا عَنْ مُلْكِهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ خَارِجًا عَنْ خَلْقِهِ قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ

ص: 328

الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْحَدِيثِ هُمْ الْمُتَّبِعِينَ كِتَابَ اللَّهِ الْمُعْتَقِدِينَ لِمُوجَبِ هَذِهِ النُّصُوصِ حَيْثُ جَعَلُوا كُلَّ مُحْدَثٍ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمُبَاشِرَةِ وَالْمُتَوَلِّدَةِ وَكُلَّ حَرَكَةٍ طَبْعِيَّةٍ أَوْ إرَادِيَّةٍ أَوْ قَسْرِيَّةٍ فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ ذَلِكَ جَمِيعَهُ وَرَبُّهُ وَمَالِكُهُ وَمَلِيكُهُ وَوَكِيلٌ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَآمَنُوا بِعِلْمِهِ الْمُحِيطِ وَقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ وَمَشِيئَتِهِ الشَّامِلَةِ وَرُبُوبِيَّتِهِ التَّامَّةِ؛ وَلِهَذَا

ص: 329

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ نِظَامُ التَّوْحِيدِ فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ تَمَّ تَوْحِيدُهُ وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَكْذِيبَهُ تَوْحِيدَهُ.

وَأَمَّا صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى أَسْمَائِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُضْمَرَةِ فَإِذَا قُلْت: عَبَدْت اللَّهَ وَدَعَوْت اللَّهَ و {إيَّاكَ نَعْبُدُ} فَهَذَا الِاسْمُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ مِنْ عِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ وَكَلَامِهِ وَسَائِر صِفَاتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {: مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} وَقَالَ: {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ: " الْحَلِفُ بِعِزَّةِ اللَّهِ " وَالْحِلْفُ بِقَوْلِهِ: " لَعَمْرُ اللَّهِ " فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ فَأَعْطَوْا هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَنْصُوصَةَ حَقَّهَا فِي اتِّبَاعِ عُمُومِهَا الَّذِي قَدْ صَرَّحَتْ بِهِ فِي أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ؛ إذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ هُوَ دَاخِلًا فِي الْمَخْلُوقِ وَعُلِمَ أَنَّ صِفَاتِهِ لَيْسَتْ خَارِجَةً عَنْ مُسَمَّى اسْمِهِ. وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " الَّذِينَ جَمَعُوا التَّجَهُّمَ وَالْقَدَرَ فَأَخْرَجُوا عَنْهَا مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ يَقِينًا مِنْ أَفْعَالِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ: طَاعَاتُهَا وَغَيْرُ طَاعَاتِهَا وَذَلِكَ قِسْطٌ كَبِيرٌ مِنْ مُلْكِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ؛ بَلْ هِيَ مِنْ مَحَاسِنِ مُلْكِهِ وَأَعْظَمِ آيَاتِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ وَأَدْخَلُوا فِي ذَلِكَ كَلَامَهُ لِكَوْنِهِ يُسَمَّى " شَيْئًا " فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ مِثْلَ تَسْمِيَةِ عَلِمَهُ " شَيْئًا " فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يُحِيطُونَ

ص: 330

بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ} وَتَسْمِيَةِ نَفْسِهِ شَيْئًا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وَأَنَّ قَوْلَهُ: {كُلِّ شَيْءٍ} يَعُمُّ بِحَسَبِ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ الْكَلَامِ. فَإِنَّ الِاسْمَ تَتَنَوَّعُ دَلَالَتُهُ بِحَسَبِ قُيُودِهِ. فَفِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} دَخَلَ فِي ذَلِكَ نَفْسُهُ لِأَنَّهَا تَصْلُحُ أَنْ تُعْلَمَ وَفِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} دَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا كَانَتْ ذَاتُهُ مُمْكِنَةَ الْوُجُودِ وَقَدْ يُقَالُ: دَخَلَ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَا يُسَمَّى شَيْئًا بِمَعْنَى " مَشِيئًا " فَإِنَّ " الشَّيْءَ " فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَشِيءِ فَكُلُّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُشَاءَ فَهُوَ عَلَيْهِ قَدِيرٌ وَإِنْ شِئْت قُلْت: قَدِيرٌ عَلَى كُلِّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ وَالْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ لَيْسَ شَيْئًا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. وَفِي قَوْلِهِ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْخَالِقَ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَ وَأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ وَإِنَّمَا دَخَلَ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ مَخْلُوقٍ: وَهِيَ الْحَادِثَاتُ جَمِيعُهَا. هَذَا مَعَ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ إنَّ الْعَبْدَ لَهُ مَشِيئَةٌ وَقُدْرَةٌ وَإِرَادَةٌ وَهُوَ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً وَيَنْهَوْنَ عَنْ إطْلَاقِ " الْجَبْرِ " فَإِنَّ لَفْظَ " الْجَبْرِ " يُشْعِرُ أَنَّ اللَّهَ أَجْبَرَ الْعَبْدَ عَلَى خِلَافِ مُرَادِ الْعَبْد كَمَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى النِّكَاحِ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ الْعَبْدُ مُخْتَارٌ يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ لَيْسَ مَجْبُورًا عَدِيمَ الْإِرَادَةِ وَاَللَّهُ خَالِقُ هَذَا

ص: 331

كُلَّهُ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ الْمُمْكِنَاتِ فَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ خَالِقُ غَيْرِهَا مِنْ الْمُحْدَثَاتِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ رَدُّوا عَلَى مَنْ جَعَلَ أَقْوَالَ الْعِبَادِ وَأَفْعَالَهُمْ خَارِجَةً عَنْ خَلْقِ اللَّهِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لَيْسَ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ. هَذَا مَعَ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُبْتَدِعِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إنَّهَا مُحْدَثَةٌ لَيْسَتْ قَدِيمَةً فَكَيْفَ إذَا قِيلَ: إنَّهَا قَدِيمَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ ضلالين بَلْ ثَلَاثَ ضَلَالَاتٍ.

أَحَدُهَا: جَعْلُ الْمُحْدَثِ الْمَصْنُوعِ صِفَةً لِلَّهِ قَدِيمَةً مُضَاهَاةً لِلنَّصَارَى وَنَحْوِهِمْ.

وَالثَّانِي: إخْرَاجُ مَخْلُوقِ اللَّهِ وَمَقْدُورِهِ عَنْ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ كَمَا قَالَتْهُ الْقَدَرِيَّةُ مُضَاهَاةً لِلْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ.

وَالثَّالِثُ: إخْرَاجُ فِعْلِ الْعَبْدِ وَمَقْدُورِهِ وَكَسْبِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لَهُ وَكَسْبًا وَفِعْلًا مُضَاهَاةً لِلْجَبْرِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ المشركية فَهَذَا كَانَ وَجْهَ كَلَامِ أُولَئِكَ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا. ثُمَّ لَمَّا حَدَثَتْ بِدْعَةُ " اللَّفْظِيَّةِ " احْتَجَّ أَئِمَّةُ ذَلِكَ الْعَصْرِ فِي جُمْلَةِ

ص: 332

مَا احْتَجُّوا بِهِ بِكَلَامِ أُولَئِكَ السَّلَفِ مِثْلِ الْبُخَارِيِّ الْإِمَامِ صَاحِبِ " الصَّحِيحِ " وَمِثْلِ أَبِي بَكْرٍ الْمَرْوَزِي الْإِمَامِ صَاحِبِ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَخَلْقٍ كَثِيرٍ فِي زَمَنِهِ وَمَثَلِ أَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَنَحْوِهِ. فَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ أَوْ صِفَاتُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِصِفَاتِ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ بِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ مَخْلُوقَةٌ. فَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي قدامة عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ قَالَ مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ. وَرَوَى الْمَرْوَزِي صَاحِبُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَالْخَلَّالُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ مِنْ النَّصِّ عَلَى خَلْقِ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ وَأَفْعَالِهِمْ. وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ نُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَد فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْقَصْدَ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَشَعَّبَ مِنْهُ تَفَرُّقُ الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَهُوَ " مَسْأَلَةُ اللَّفْظِ ".

فَصْلٌ:

وَ " مَسْأَلَةُ اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ " قَدْ اضْطَرَبَ فِيهَا أَقْوَامٌ لَهُمْ عِلْمٌ وَفَضْلٌ وَدِينٌ وَعَقْلٌ وَجَرَتْ بِسَبَبِهَا مُخَاصَمَاتٌ وَمُهَاجَرَاتٌ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ كَلَامًا مَعْنَاهُ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي شَيْءٍ مِنْ

ص: 333

مَذَاهِبِهِمْ إلَّا فِي " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ ". وَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ الْغُمُوضِ وَالنِّزَاعِ بَيْنَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ لَفْظِيٌّ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ النَّاسِ نِزَاعٌ فِي أَنَّ كَلَامَ الْعِبَادِ الَّذِي لَمْ يُنَزِّلْهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي " حُرُوفِ الْهِجَاءِ " وَفِي " أَسْمَاءِ الْمُحْدَثَاتِ " فِيهِ نِزَاعٌ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالَ فِي مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ الْمُحَالِ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا يَتَّسِعُ هَذَا الْجَوَابُ لِشَرْحِ " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ " مَبْسُوطًا؛ وَلَكِنْ نُنَبِّهُ عَلَيْهِ مُخْتَصَرًا فَنَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُبَلِّغُوا إلَى النَّاسِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ وَحْيِهِ وَكَلَامِهِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ وَصَدَّقَهُمْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَطَاعَهُمْ فِيمَا أَمَرُوا بِهِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَزَمَانٍ وَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالسَّعَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ كَفَرَ بِهِمْ وَكَذَّبَ: مِثْلُ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا أَخْبَارَهُمْ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَفِرْعَوْنَ

ص: 334

وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِأَصْلِ الرِّسَالَةِ مِنْ الْهِنْدِ والبراهمة وَغَيْرِهِمْ وَالتُّرْكِ وَالسُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ - سَوَاءٌ كَانُوا مُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ أَوْ مُعْرِضِينَ عَنْ اتِّبَاعِهِمْ؛ فَإِنَّ الْكُفْرَ عَدَمُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ تَكْذِيبٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ تَكْذِيبٌ بَلْ شَكٌّ وَرَيْبٌ أَوْ إعْرَاضٌ عَنْ هَذَا كُلِّهِ حَسَدًا أَوْ كِبَرًا أَوْ اتِّبَاعًا لِبَعْضِ الْأَهْوَاءِ الصَّارِفَةِ عَنْ اتِّبَاعِ الرِّسَالَةِ وَإِنْ كَانَ الْكَافِرُ الْمُكَذِّبُ أَعْظَمَ كُفْرًا وَكَذَلِكَ الْجَاحِدُ الْمُكَذِّبُ حَسَدًا مَعَ اسْتِيقَانِ صِدْقِ الرُّسُلِ وَالسُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ كُلُّهَا خِطَابٌ مَعَ هَؤُلَاءِ. وَلِهَذَا يَقُولُ سُبْحَانَهُ: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا جَمِيعَ الرُّسُلِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِأَصْلِ الرِّسَالَةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَمَّا أَهْبَطَ أَبَاهُمْ آدَمَ: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إذَا أَتَاهُمْ هُدًى مِنْهُ وَهُوَ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ مِنْ الذِّكْرِ فَمَنْ اتَّبَعَهُ اهْتَدَى وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ شَقِيَ وَعَمِيَ

ص: 335

وَلِهَذَا قَالَ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ فِي نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} كَمَا قَالَ هُنَا: {فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} فَإِنَّ الْهُدَى ضِدُّ الضَّلَالِ وَالْفَلَاحَ ضِدُّ الشَّقَاءِ وَقَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ إمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ آمَنَ بِبَعْضِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ كَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الْمُرْسَلِينَ دُونَ بَعْضٍ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى حَيْثُ آمَنُوا بِمُوسَى أَوْ مُوسَى وَالْمَسِيحِ مَعَهُ دُونَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلِهَذَا يُخَاطِبُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوا رَسُولًا وَأَهْلَ الْكِتَابِ الْمُصَدِّقِينَ بِبَعْضِ الرُّسُلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} وَفِي قَوْلِهِ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} . وَكَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ صِفَاتِ الرِّسَالَةِ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ: مِنْ الصَّابِئِينَ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ: الَّذِينَ قَدْ يُقِرُّونَ بِأَصْلِ الرِّسَالَةِ؛ لَكِنْ يَجْعَلُونَ الرَّسُولَ بِمَنْزِلَةِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ: الَّذِي قَدْ وَضَعَ قَانُونًا لِقَوْمِهِ أَوْ يَقُولُونَ: إنَّ الرِّسَالَةَ لِلْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ أَوْ فِي الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ دُونَ الْعِلْمِيَّةِ أَوْ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا النَّاسُ دُونَ الْخَصَائِصِ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا الكمل

ص: 336

وَيُقِرُّونَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَيُعَظِّمُونَهُ وَيَقُولُونَ: اتَّفَقَ فَلَاسِفَةُ الْعَالَمِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ إلَى الْأَرْضِ نَامُوسٌ أَعْظَمُ مِنْ نَامُوسِهِ؛ لَكِنَّهُمْ مَعَ هَذَا يَكْفُرُونَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ: مِثْلَ أَنْ يُسَوِّغُوا اتِّبَاعَ غَيْرِ دِينِهِ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ والنصرانية وَقَدْ يُسَوِّغُونَ الشِّرْكَ أَيْضًا لِلْعَامَّةِ أَوْ لِلْخَاصَّةِ: مِثْلَ أَنْ يُسَوِّغُوا دَعْوَةَ الْكَوَاكِبِ وَعِبَادَتَهَا وَالسُّجُودَ لَهَا وَقَدْ يُكَذِّبُونَ فِي الْبَاطِنِ بِأَشْيَاءَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أُمُورِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إنَّمَا هِيَ أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ لِتَفْهِيمِ الْعَامَّةِ مَا لَا يَجُوزُ إظْهَارُهُ وَإِبَانَةُ حَقِيقَتِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ كَذِبَهُ لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ بِزَعْمِهِمْ. وَقَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ أَعْلَمَ بِاَللَّهِ مِنْهُ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَهَذَا الضَّرْبُ مَا زَالَ مَوْجُودًا لَا سِيَّمَا مَعَ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ: مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة وَالْمُلُوكِ العبيدية: الَّذِينَ كَانُوا يَدَّعُونَ الْخِلَافَةَ وَمَعَ الخرمية والمزدكية وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الطَّوَائِفِ وَهَؤُلَاءِ خَوَّاصُهُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمِنْ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِإِلَهِيَّةِ عَلِيٍّ وَنَحْوِهِ مِنْ الْبَشَرِ أَوْ نُبُوَّتِهِ وَهُمْ مُنَافِقُونَ زَنَادِقَةٌ؛ لَكِنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ

ص: 337

مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ لَمَّا لَبَّسُوا عَلَيْهِ أَصْلَ قَوْلِهِمْ أَوْ وَافَقَهُمْ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ يَمِيلُونَ إلَى الرَّافِضَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى التَّصَوُّفِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْكَلَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ مَعَ الْفُقَهَاءِ فِي مَذَاهِبِهِمْ. وَهَذَا الضَّرْبُ يَكْثُرُ فِي الدُّوَلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْبَعِيدِينَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْإِسْلَامِ وَالْتِزَامِهِ كَمَا كَانُوا كَثِيرِينَ فِي دَوْلَةِ الدَّيْلَمِ والعبيديين وَنَحْوِهِمْ وَكَمَا يَكْثُرُونَ فِي دَوْلَةِ الْجُهَّالِ مَنْ التُّرْكِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرِّسَالَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِتَفَاصِيلِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لِأَنَّ الْجُهَّالَ مِنْ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ بِهَذَا الضَّرْبِ أَشْبَهُ مِنْهُمْ بِغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُوجِبُونَ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ لَكِنَّهُمْ قَدْ يَرَوْنَ اتِّبَاعَهُ أَحْسَنَ مِنْ اتِّبَاعَ غَيْرِهِ فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ أَوْ يَتَّبِعُونَ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ أَوْ لَا يَتَّبِعُونَهُ بِحَالِ. وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُقِرُّونَ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ. وَالْمُؤْمِنُ بِبَعْضِ الرِّسَالَةِ دُونَ بَعْضٍ كَافِرٌ أَيْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى - يُخَاطِبُ أَهْلَ الْكِتَابِ -: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ

ص: 338

وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} . فَذَمَّ الَّذِينَ أُوتُوا قِسْطًا مِنْ الْكِتَابِ لَمَّا آمَنُوا بِمَا خَرَجَ عَنْ الرِّسَالَةِ وَفَضَّلُوا الْخَارِجِينَ عَنْ الرِّسَالَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَا كَمَا يُفَضِّلُ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يُفَضِّلُ الصَّابِئَةَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالدُّوَلِ الْجَاهِلِيَّةِ - جَاهِلِيَّةِ التُّرْكِ وَالدَّيْلَمِ وَالْعَرَبِ وَالْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ - عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَكَمَا ذَمَّ الْمُدَّعِينَ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ كُلِّهَا وَهُمْ يَتْرُكُونَ التَّحَاكُمَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَتَحَاكَمُونَ إلَى بَعْضِ الطَّوَاغِيتِ الْمُعَظَّمَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَا يُصِيبُ ذَلِكَ كَثِيرًا مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَيَنْتَحِلُهُ فِي تَحَاكُمِهِمْ إلَى مَقَالَاتِ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَوْ إلَى سِيَاسَةِ بَعْضِ الْمُلُوكِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ

ص: 339

الْإِسْلَامِ مِنْ مُلُوكِ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: تَعَالَوْا إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ إعْرَاضًا وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ فِي عُقُولِهِمْ وَدِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ بِالشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ أَوْ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عُقُوبَةً عَلَى نِفَاقِهِمْ قَالُوا إنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نُحْسِنَ بِتَحْقِيقِ الْعِلْمِ بِالذَّوْقِ وَنُوَفِّقَ بَيْنَ " الدَّلَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ " وَ " الْقَوَاطِعِ الْعَقْلِيَّةِ " الَّتِي هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ ظُنُونٌ وَشُبُهَاتٌ أَوْ " الذَّوْقِيَّةُ " الَّتِي هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْهَامُ وَخَيَالَاتُ {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} إلَى قَوْلِهِ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} {وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْكِتَابِ الَّذِينَ يُؤْمِنُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ

ص: 340

بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} {وَمَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ

ص: 341

وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} . فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُؤْمِنَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَأَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ فَيُعْطِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَيَمْنَعَ كُلَّ مُبْطِلٍ عَنْ بَاطِلِهِ؛ فَإِنَّ الْقِسْطَ وَالْعَدْلَ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِيمَا جَاءَ بِهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وَقَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} إلَخْ السُّورَةِ. وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُعْطِيهِمَا مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِشَيْءِ مِنْهُمَا إلَّا أُعْطِيَهُ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .

ص: 342

فَصْلٌ:

فَلَمَّا كَانَ فِي الْأُمَمِ كُفَّارٌ وَمُنَافِقُونَ يَكْفُرُونَ بِبَعْضِ الرِّسَالَةِ دُونَ بَعْضٍ إمَّا فِي الْقَدْرِ وَإِمَّا فِي الْوَصْفِ كَمَا أَنَّ فِيهِمْ كُفَّاراً وَمُنَافِقِينَ يَكْفُرُونَ بِأَصْلِ الرِّسَالَةِ وَكَانَ فِي الْكُفَّارِ بِأَصْلِ الرِّسَالَةِ مَنْ قَالَ: إنَّ الرَّسُولَ شَاعِرٌ وَسَاحِرٌ وَكَاهِنٌ وَمُعَلَّمٌ وَمَجْنُونٌ وَمُفْتِرٍ كَمَا كَانَ رَئِيسُ قُرَيْشٍ وَفَيْلَسُوفُهَا وَحَكِيمُهَا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْوَحِيدُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} {وَبَنِينَ شُهُودًا} {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} {كَلَّا إنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} {إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ نَظَرَ} {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} {فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} . فَإِنَّهُ صَنَعَ صُنْعَ الْفَيْلَسُوفِ الْمُخَالِفِ لِلرُّسُلِ فِي تَفْكِيرِهِ أَوَّلًا: الَّذِي هُوَ طَلَبُ الِانْتِقَالِ مِنْ تَصَوُّرِ طَرَفَيْ الْقَضِيَّةِ إلَى الْمَبَادِئِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّصْدِيقِ لِيَظْفَرَ بِالْحَدِّ الْأَوْسَطِ ثُمَّ قَدَّرَ ثَانِيًا وَالتَّقْدِيرُ هُوَ " الْقِيَاسُ " وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ الْمَبَادِئِ إلَى الْمَطْلُوبِ بِالْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ الشُّمُولِيِّ؛ وَلَعَمْرِي

ص: 343

إنَّهُ لَصَوَابٌ إذَا صَحَّتْ مُقَدِّمَاتُهُ وَإِنْ كَانَتْ النَّتِيجَةُ فِي الْأَغْلَبِ أُمُورًا كُلِّيَّةً ذِهْنِيَّةً ثُبُوتُهَا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ كَالْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ مِنْ الْأَعْدَادِ وَالْمَقَادِيرِ؛ فَإِنَّ الْعَدَدَ الْمُجَرَّدَ عَنْ الْمَعْدُودِ وَالْمِقْدَارَ الْمُجَرَّدَ عَنْ الْأَجْسَامِ إنَّمَا يُوجَدُ فِي الذِّهْنِ لَكِنْ أَنَّى وَأَكْثَرُ مُقَدِّمَاتِهِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ دَعَاوَى يُدَعَّى فِيهَا بِعُمُومِ؟ وَأَنَّ الْقَضِيَّةَ مِنْ الْمُسَلَّمَاتِ بِلَا حُجَّةٍ وَمَتَى لَمْ يَكُنْ فِي الْقِيَاسِ قَضِيَّةً كُلِّيَّةً مَعْلُومَةً لَمْ تُفِدْ الْمَطْلُوبَ وَهُمْ يَلْبِسُونِ الْمُهْمَلَاتِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْجُزْئِيَّاتِ بِالْكُلِّيَّاتِ الْعَامَّةِ الْمُسَلَّمَاتِ أَوْ يُدَعَّى فِيهَا الْعُمُومُ بِنَوْعِ مِنْ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ قِيَاسٍ مِنْ " قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ " وَعَامَّةُ " الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ " الَّتِي لَهُمْ فِيهَا الْمَطَالِبُ الْإِلَهِيَّةُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا كُلِّيَّةً عَامَّةً؛ إذْ عُمُومُهَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِمُجَرَّدِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ الَّذِي قَدْ يَكُونُ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ الْمُقْتَضِي لِتَشْبِيهِ اللَّهِ بِخَلْقِهِ كَمَا يَقُولُونَ: الْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ وَلَيْسَ مَعَهُمْ إلَّا تَشْبِيهُ خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ بِالطَّبَائِعِ كَطَبِيعَةِ الْمَاءِ وَالنَّارِ مَعَ أَنَّ الْوَاحِدَ الَّذِي يُثْبِتُونَهُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَفِي الْمَنْطِقِ أَيْضًا الَّذِينَ يَجْعَلُونَ قَضِيَّةَ الْأَنْوَاعِ مُرَكَّبَةً مِنْهُ وَهُوَ " الْجِنْسُ " وَ " الْفَصْلُ " لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَلَا تُوجَدُ إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ. وَبَيَّنَّا أَنَّ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ الَّتِي هِيَ " الْجَوَاهِرُ الْعَقْلِيَّةُ " الْمُجَرَّدَةُ

ص: 344

عَنْ الْمَادَّةِ وَهِيَ الْعَقْلُ وَالنَّفْسُ وَالْمَادَّةُ وَالصُّورَةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِجِسْمِ وَلَا عَرَضٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا تُقَدَّرُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَكَذَلِكَ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْوَاحِدِ الَّذِي يَصِفُونَ بِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَمِنْ الْوَاحِدِ الَّذِي يَجْعَلُونَ الْأَنْوَاعَ تَتَرَكَّبُ مِنْهُ إنَّمَا يُوجَدُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ " وَالْقِيَاسُ الْعَقْلِيُّ " الَّذِي يَحْتَجُّونَ بِهِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ. وَ‌

‌الْقِيَاسُ نَوْعَانِ "

قِيَاسُ الشُّمُولِ " وَ " قِيَاسُ التَّمْثِيلِ ". وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِي مُسَمَّى " الْقِيَاسِ " فَقِيلَ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي التَّمْثِيلِ مَجَازٌ فِي الشُّمُولِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي وَغَيْرُهُمَا وَقِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي عَكْسِ ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ مِنْ نفاة قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَقِيلَ: بَلْ اسْمُ الْقِيَاسِ يَتَنَاوَلُهُمَا وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ. وَاسْمُ " الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ " يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا وَهَذَا؛ لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ " قِيَاسَ التَّمْثِيلِ " لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو حَامِدٍ وَالرَّازِيَّ وَأَبُو مُحَمَّدٍ وَالْآمِدِيَّ وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَنْطِقِ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَعِنْدَهُمْ كِلَا الْقِيَاسَيْنِ سَوَاءٌ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّ مَآلَ الْقِيَاسَيْنِ إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِتَرْتِيبِ

ص: 345

الدَّلِيلِ. فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: النَّبِيذُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْكِرٌ فَكَانَ حَرَامًا قِيَاسًا عَلَى خَمْرِ الْعِنَبِ فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ السُّكْرَ هُوَ مَنَاطُ التَّحْرِيمِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ " مَنَاطًا " وَ " عِلَّةً ". وَ " أَمَارَةً " وَ " مُشْتَرَكًا " وَ " وَضْعًا " وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَلَا بُدَّ فِي الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ مِنْ أَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ السُّكْرَ مَنَاطُ التَّحْرِيمِ بِحَيْثُ إذَا وُجِدَ السُّكْرُ وُجِدَ التَّحْرِيمُ فَإِذَا صَاغَ الدَّلِيلُ بِقِيَاسِ الشُّمُولِ فَإِنَّ النَّبِيذَ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ فَالسُّكْرُ فِي هَذَا النَّظْمِ هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ الْمُكَرَّرُ وَهُوَ الْعِلَّةُ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَلَا بُدَّ لَهُ فِي هَذَا الْقِيَاسِ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ الْكُبْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ فَمَا بِهِ ثَبَتَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ فِي هَذَا النَّظْمِ يُثْبِتُ بِهِ أَنَّهُ مَنَاطُ التَّحْرِيمِ فِي ذَلِكَ النَّظْمِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: إثْبَاتُ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ وَكَوْنُهُ مَنَاطَ الْحُكْمِ هُوَ عُمْدَةُ الْقِيَاسِ وَهُوَ جَوَابُ " سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ " وَبَيَانُ كَوْنِ الْوَصْفِ بِالشُّمُولِ هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ وَهَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَدِلَّةِ ظَنِّيَّةٍ. قِيلَ لَهُ: وَإِثْبَاتُ عُمُومِ الْقَضِيَّةِ الْكُبْرَى فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ هُوَ عُمْدَةُ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ الصُّغْرَى فِي الْغَالِبِ تَكُونُ مَعْلُومَةً كَمَا يَكُونُ ثُبُوتُ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ مَعْلُومًا وَإِذَا كَانَ ثُبُوتُ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ كَمَا قِيلَ تَحْتَاجُ

ص: 346

الْمُقَدِّمَةُ الصُّغْرَى إلَى دَلِيلٍ وَإِثْبَاتُ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِأَدِلَّةِ ظَنِّيَّةٍ وَنَفْسُ مَا بِهِ يَثْبُتُ عُمُومُ الْقَضِيَّةِ يَثْبُتُ تَأْثِيرُ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا وَاسْتِعْمَالُ كِلَا الْقِيَاسَيْنِ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَبِهَذِهِ " الطَّرِيقَةِ " جَاءَ الْقُرْآنُ وَهِيَ طَرِيقَةُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ فِي " قِيَاسِ التَّمْثِيلِ " وَلَا أَنْ يَدْخُلَ فِي " قِيَاسِ شُمُولٍ " تَتَمَاثَلُ أَفْرَادُهُ بَلْ مَا ثَبَتَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَمَا نُزِّهَ عَنْهُ غَيْرُهُ مِنْ النَّقَائِصِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّنْزِيهِ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ مَا يُسْتَفَادُ بِ " الْقِيَاسُ الشُّمُولِيُّ " فِي عَامَّةِ الْأُمُورِ قَدْ يُسْتَفَادُ بِدُونِ ذَلِكَ فَتُعْلَمُ أَحْكَامُ الْجُزْئِيَّاتِ الدَّاخِلَةِ فِي الْقِيَاسِ بِدُونِ مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ كَمَا إذَا قِيلَ: الْكُلُّ أَعْظَمُ مِنْ الْجُزْءِ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَمَا مِنْ كُلٍّ مُعَيَّنٍ وَضِدَّيْنِ مُعَنَّيَيْنِ إلَّا وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ هَذَا جُزْءُ هَذَا وَأَنَّ هَذَا ضِدُّ هَذَا عُلِمَ أَنَّ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ هَذَا وَأَنَّ هَذَا لَا يُجَامِعُ هَذَا

ص: 347

بِدُونِ أَنْ يَخْطُرَ بِالْبَالِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ أَنَّ كُلَّ ضِدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَأَنَّ كُلَّ كُلٍّ فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ جُزْءٍ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ النَّقِيضَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ فَمَا مِنْ نَقِيضَيْنِ يُعْرَفُ أَنَّهُمَا نَقِيضَانِ إلَّا وَيُعْرَفُ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ بِدُونِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ أَنَّ كُلَّ نَقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ. فَعَامَّةُ الْمَطَالِبِ يُسْتَغْنَى فِيهَا عَنْ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ الْمُتَضَمِّنِ لِلْكُبْرَى الَّذِي لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ وَالْأُمُورُ الْمُعَيَّنَاتُ لَا تُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالْقِيَاسِ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا وَهُمْ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ وَبَيَّنَّا أَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى الصَّانِعِ هِيَ آيَاتٌ تَدُلُّ بِنَفْسِهَا عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ دَلَالَةِ الْآيَاتِ وَدَلَالَةِ الْقِيَاسِ وَأَنَّ الْأَدِلَّةَ أَكْمَلُ وَأَنْفَعُ وَطَرِيقَةُ الْقِيَاسِ تَابِعَةٌ لَهَا وَدُونَهَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْكَمَالِ وَالْقُرْآنُ جَاءَ بِهَذِهِ وَهَذِهِ وَمَعْرِفَةُ الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَغَيْرِهَا فَتِلْكَ الطَّرِيقَةُ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ. وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا يُنَالُ مَطْلُوبٌ فِطْرِيٌّ إلَّا بِطَرِيقَةِ الْقِيَاسِ الَّذِي لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ وَالْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ لَا تُفِيدُ إلَّا أَمْرًا كُلِّيًّا عَقْلِيًّا لَا تُفِيدُ مَعْرِفَةَ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَكُلُّ مَوْجُودٍ فَهُوَ مُعَيَّنٌ فَكَيْفَ يَقُولُ عَاقِلٌ مَعَ هَذَا أَنَّهُ لَا يُنَالُ عَلَمٌ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقِ ثُمَّ إنَّهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ يَظُنُّونَ أَنَّ عِلْمَ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ وَعِلْمَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَصَلَ

ص: 348

بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ وَأَنَّ النَّبِيَّ لَهُ قُوَّةٌ حَدْسِيَّةٌ يَظْفَرُ بِالْحَدِّ الْأَوْسَطِ فِي الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ بِدُونِ مُعَلِّمٍ فَيَكُونُ أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ فَيَجْعَلُونَ عِلْمَهُ بِالْغَيْبِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَلَمْ يُدْرَكْ بِمِثْلِ هَذَا الْقِيَاسِ عُلُومًا طَبِيعِيَّةً أَوْ حِسَابِيَّةً وَنَحْوُ ذَلِكَ فَمِنْ أَيْنَ أَنَّهُ لَا يُنَالُ عَلَمٌ إلَّا بِهِ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَنَّهُ لَا مَوَادَّ يَقِينِيَّةً إلَّا مَا يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ الْحَدْسِيَّاتِ الْمُعْتَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَالْبَدِيهِيَّاتِ الْمُعْتَادَةِ والمتواترات وَالْمُجَرَّبَاتِ الْمُعْتَادَةِ. وَالْحَدْسِيَّاتُ الْمُعْتَادَةُ وَالْحِسُّ الْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ وَالتَّجْرِبَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ بِمَجْرَدِهِ إلَّا أَمْرٌ مُعَيَّنٌ جُزْئِيٌّ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقَدِّمَةً فِي الْقِيَاسِ وَلَكِنْ يُعْلَمُ فِي الْعُمُومِ إمَّا بِوَاسِطَةِ قِيَاسِ تَمْثِيلٍ وَإِمَّا بِعِلْمِ ضَرُورِيٍّ يُحْدِثُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ ابْتِدَاءً وَإِذَا أَحْدَثَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا عَامًّا لِأَفْرَادِ فَإِحْدَاثُ الْعِلْمِ بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَفْرَادِ سَهْلٌ فَقَلَّ أَنْ يُسْتَفَادَ بِطَرِيقِهِمْ عِلْمٌ بِنَتِيجَةِ إلَّا وَالْعِلْمُ بِالنَّتِيجَةِ فِيهِ مُمْكِنٌ بِالطَّرِيقِ الَّذِي بِهِ عُرِفَتْ الْمُقْدِمَاتُ أَوْ أَسْهَلُ فَلَا يَكُونُ فِي قِيَاسِهِمْ إلَّا زِيَادَةَ تَطْوِيلٍ وَتَهْوِيلٍ وَتَضْلِيلٍ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى " الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ " بِمَا فِيهِ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَنَافِعٍ وَضَارٍّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَنَفْيُ الْعِلْمِ إلَّا بِهَذَا الْقِيَاسِ وَنَفْيُ كَوْنِ الْقِيَاسِ يَقِينِيًّا إلَّا بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ وَتَكْذِيبٌ بِمَا لَمْ يَحُطْ الْمُكَذِّبُ بِعِلْمِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الطَّرِيقَةُ النَّبَوِيَّةُ السَّلَفِيَّةُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ " قِيَاسُ الْأَوْلَى " كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ

ص: 349

الْمَثَلُ الْأَعْلَى} إذْ لَا يَدْخُلُ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ تَحْتَ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ تَسْتَوِي أَفْرَادُهَا وَلَا يَتَمَاثَلَانِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ بَلْ يُعْلَمُ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ - لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهِ - ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ وَكُلُّ نَقْصٍ وَجَبَ نَفْيُهُ عَنْ الْمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِنَفْيِهِ عَنْهُ وَأَمْثَالُ هَذِهِ " الْأَقْيِسَةِ الْعَقْلِيَّةِ " الَّتِي مِنْ نَوْعِ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الْقُرْآنِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَلَمَّا كَانَ الْكُفَّارُ بِالرِّسَالَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ جَاءَ فِي الْكُفَّارِ بِبَعْضِهَا مَنْ شَارَكَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ: فَأَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّة أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ أَوْ يَقُولُ أَوْ يُحِبُّ أَوْ يُبْغِضُ وَأَنْكَرُوا سَائِر صِفَاتِهِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ فَأَنْكَرُوا بَعْضَ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ الَّتِي هِيَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنْكَرُوا بَعْضَ مَا فِي الرِّسَالَةِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ. وَأَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ - وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي أُمَمٍ أُخْرَى - الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ شَيْخُ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَكَانَ عَلَى مَا قِيلَ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ وَكَانَ فِيهِمْ أَئِمَّةُ الْفَلَاسِفَةِ وَمِنْهُمْ تَعَلَّمَ أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ كَثِيرًا مِمَّا تَعَلَّمَ مِنْ الْفَلْسَفَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّطِيفِ بْنُ يُوسُفَ الْبَغْدَادِيُّ فَضَحَّى بِالْجَعْدِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِوَاسِطِ عَلَى عَهْدِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ بَقَايَا التَّابِعِينَ فِي وَقْتِهِ: مِثْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ الَّذِينَ حَمِدُوهُ عَلَى مَا فَعَلَ وَشَكَرُوا ذَلِكَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ؛ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ

ص: 350

ابْنِ دِرْهَمٍ؛ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا - تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا - ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى قَاعِدَةِ مُبْتَدِعَةِ الصَّابِئِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِبَعْضِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ الَّذِينَ لَا يَصِفُونَ الرَّبَّ إلَّا بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ أَوْ الْإِضَافِيَّةِ أَوْ الْمُرَكَّبَةِ مِنْهُمَا وَهُمْ فِي هَذَا التَّعْطِيلِ مُوَافِقُونَ فِي الْحَقِيقَةِ لِفِرْعَوْنَ رَئِيسِ الْكُفَّارِ الَّذِي جَحَدَ الصَّانِعُ بِالْكُلِّيَّةِ؛ فَإِنَّ جُحُودَ صِفَاتِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِجُحُودِ ذَاتِهِ؛ وَلِهَذَا وَافَقُوا فِرْعَوْنَ فِي تَكْذِيبِهِ لِمُوسَى بِأَنَّ رَبَّهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ حَيْثُ قَالَ: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} بِخِلَافِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِي صَدَّقَ مُوسَى لَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى رَبِّهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَجَدَ مُوسَى هُنَاكَ وَأَنَّهُ جَعَلَ يَخْتَلِفُ بَيْنَ رَبِّهِ وَبَيْنَ مُوسَى فَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم صَدَّقَ مُوسَى فِي أَنَّ رَبَّهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَفِرْعَوْنُ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ. وَالنَّاسُ إمَّا مُحَمَّدِيٌّ موسوي وَإِمَّا فِرْعَوْنِيٌّ؛ إذْ فِرْعَوْنُ كَذَّبَ مُوسَى فِي أَنَّ اللَّهَ فَوْقُ وَكَذَّبَهُ فِي أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ كَمَا أَنْكَرَ وُجُودَ الصَّانِعِ وَمُحَمَّدٌ صَدَّقَ مُوسَى فِي هَذَا كُلِّهِ. وَهَؤُلَاءِ الصَّابِئَةُ الْمَحْضَةُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ كَلَامٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لَكِنْ كَلَامُهُ - عِنْدَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِقْرَارَ بِالرُّسُلِ مِنْهُمْ - مَا يُفِيضُ عَلَى نُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ

ص: 351

يَكُونَ فِي الْخَارِجِ عَنْ نُفُوسِهِمْ لِلَّهِ عِنْدَهُمْ كَلَامٌ وَهَكَذَا كَانَ الْجَهْمُ يَقُولُ أَوَّلًا: إنَّ اللَّهَ لَا كَلَامَ لَهُ ثُمَّ احْتَاجَ أَنْ يُطْلِقَ أَنَّ لَهُ كَلَامًا لِأَجْلِ الْمُسْلِمِينَ فَيَقُولُ: هُوَ مَجَازٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ يَعْلَمُونَ مَقْصُودَهُمْ وَأَنَّ غَرَضَهُمْ التَّعْطِيلُ وَأَنَّهُمْ زَنَادِقَةٌ وَ " الزِّنْدِيقُ " الْمُنَافِقُ. وَلِهَذَا تَجِدُ مُصَنِّفَاتِ الْأَئِمَّةِ يَصِفُونَهُمْ فِيهَا بِالزَّنْدَقَةِ كَمَا صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَد " الرَّدُّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " وَكَمَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ آخَرَ كِتَابِ الصَّحِيحِ بِ " كِتَابُ التَّوْحِيدِ وَالرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة. وَتَقُولُ الصَّابِئَةُ الْمَحْضَةُ - الَّذِينَ آمَنُوا فِي الظَّاهِرِ وَآمَنُوا فِي الْبَاطِنِ بِبَعْضِ الْكِتَابِ - كَلَامُ اللَّهِ اسْمٌ لِمَا يَفِيضُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ مِنْ " الْعَقْلِ الْفَعَّالِ " أَوْ غَيْرِهِ وَ " مَلَائِكَةُ اللَّهِ " اسْمٌ لِمَا يَتَشَكَّلُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الصُّوَرِ النُّورَانِيَّةِ وَقَدْ يَقُولُونَ: إنَّ جِبْرِيلَ هُوَ " الْعَقْلُ الْفَعَّالُ " أَوْ هُوَ مَا يَتَمَثَّلُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الصُّوَرِ الْخَيَالِيَّةِ كَمَا يَرَاهُ النَّائِمُ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ: إنَّ خَاصَّةَ النَّبِيِّ التَّخْيِيلُ وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَظْهَرُوا خِلَافَ مَا أَبْطَنُوهُ لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَلَمْ يُفِيدُوا بِكَلَامِهِمْ عِلْمًا؛ لَكِنْ تَخْيِيلًا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَامَّةُ وَيَجْعَلُونَ هَذَا مِنْ أَفْضَلِ الْأُمُورِ وَيَمْدَحُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِذَلِكَ وَيُعَظِّمُونَهُمْ

ص: 352

وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَعِنْدَهُمْ لَيْسَ خَارِجًا عَنْ نَفْسِ النَّبِيِّ كَلَامٌ وَلَا مَلَكٌ كَمَا يَزْعُمُهُ مَنْ يَزْعُمُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالصَّابِئَةِ الْمُشْرِكِينَ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَقَالُوا إنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْفَلْسَفَةِ كَمَا يَفْعَلُ الْفَارَابِيُّ وَابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ أَخَذُوا مَعَانِيَ الْمُتَفَلْسِفَةِ الرُّومِ وَالْفُرْسِ فَأَخْرَجُوهَا فِي قَالَبِ التَّشَيُّعِ وَالرَّفْضِ. وَالْإِمَامِيَّةُ وَالزَّيْدِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الشِّيعَةِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ. وَمِثْلُ ابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ أَظْهَرَ التَّصَوُّفَ عَلَى طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ فَهُوَ يَأْخُذُ مَعَانِيَهُمْ يَكْسُوهَا عِبَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ وَالصُّوفِيَّةُ الْعَارِفُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَإِنَّ شُيُوخَ الصُّوفِيَّةِ الْكِبَارَ كالْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ الشِّبْلِيِّ والْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ خَفِيفٍ الشِّيرَازِيِّ وَنَحْوِهِمْ رضي الله عنهم كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ تَكْفِيرًا لِهَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةِ - وَإِنْ كَانَ فِيهِ إيمَانٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ - فَهَؤُلَاءِ مُوَافِقُونَ فِي الْحَقِيقَةِ لِمُقَدَّمِهِمْ الْوَحِيدِ الَّذِي قَالَ: {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} لَكِنْ ذَاكَ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَهَؤُلَاءِ قَدْ يُؤْمِنُونَ بِهِ ظَاهِرًا وَقَدْ يُؤْمِنُونَ بَاطِنًا بِبَعْضِ صِفَاتِهِ: مِنْ أَنَّهُ مُطَاعٌ عَظِيمٌ وَأَنَّهُ رَئِيسُ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ وَأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي

ص: 353

جَاءَ بِهِ كَلَامٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ صَادِرٌ عَنْ نَفْسٍ صَافِيَةٍ كَامِلَةِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لَهَا ثَلَاثُ خَصَائِصَ تَتَفَرَّدُ بِهَا عَنْ غَيْرِهَا. خِصِّيصَةُ قُوَّةِ الْحَدْسِ وَالْعِلْمِ وَخِصِّيصَةُ قُوَّةِ التَّأْثِيرِ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بِنَفْسِهِ وَخِصِّيصَةُ قُوَّةِ التَّخَيُّلِ الْمُطَابِقِ لِلْحَقَائِقِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ فِي نَفْسِهِ الْأَصْوَاتَ وَيَرَى مِنْ الصُّوَرِ مَا يَكُونُ خَيَالًا لِلْحَقَائِقِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ إضَافَةُ كَلَامِهِ إلَى اللَّهِ وَتَسْمِيَتُهُ كَلَامَ اللَّهِ حَيْثُ هُوَ أَمَرَ بِهِ أَمْرًا خَيَالِيًّا. وَفِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ مَا يَفِيضُ عَلَى سَائِر النُّفُوسِ الصَّافِيَةِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْكَلِمَاتِ هِيَ أَيْضًا كَلَامُ اللَّهِ مِثْلُ مَا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ؛ لَكِنْ هُوَ أَشْرَفُ وَخِطَابُهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ رَسُولُ الْخَلْقِ تَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ لَكِنْ يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: إنَّ " النُّبُوَّةَ " مُكْتَسَبَةٌ فَطَمِعَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَصِيرَ نَبِيًّا كَمَا طَمِعَ السهروردي وَابْنُ سَبْعِينَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُلْحِدِينَ. وَقَدْ بَيَّنَّا أُصُولَ أَقْوَالِهِمْ وَفَسَادَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِثْلُ كَلَامِنَا عَلَى إبْطَالِ قَوْلِهِمْ: إنَّ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ قُوًى نَفْسَانِيَّةٌ. وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " وَنَحْوَهُمْ فَيُوَافِقُونَهُمْ فِي أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ فِي الْحَقِيقَةِ الَّتِي يَعْلَمُ النَّاسُ أَنَّ صَاحِبَهَا يَتَكَلَّمُ بَلْ كَلَامُهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ وَلَيْسَ كَلَامُهُ عِنْدَهُمْ إلَّا أَنَّهُ خَلَقَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ

ص: 354

أَصْوَاتًا يَسْمَعُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِنَفْسِهِ كَلَامٌ لَا مَعْنًى وَلَا حُرُوفٌ وَهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ هَلْ هُوَ جِسْمٌ أَوْ عَرَضٌ أَوْ لَا يُوصَفُ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا. وَلَمَّا ظَهَرَ هَؤُلَاءِ تَكَلَّمَ السَّلَفُ مَنْ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ فِي تَكْفِيرِهِمْ وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِمَا هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ السَّلَفِ وَاطَّلَعَ الْأَئِمَّةُ الْحُذَّاقُ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ هُوَ التَّعْطِيلُ وَالزَّنْدَقَةُ وَإِنْ كَانَ عَوَامُّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ كَمَا اطَّلَعُوا عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ الْقَرَامِطَةِ والْإِسْمَاعِيلِيَّة هُوَ التَّعْطِيلُ وَالزَّنْدَقَةُ وَإِنْ كَانَ عَوَامُّهُمْ إنَّمَا يَدِينُونَ بِالرَّفْضِ وَجَرَتْ فِتْنَةُ الْجَهْمِيَّة كَمَا اُمْتُحِنَتْ الْأَئِمَّةُ وَأَقَامَ " الْإِمَامُ أَحْمَد " إمَامُ السُّنَّةِ وَصِدِّيقُ الْأُمَّةِ فِي وَقْتِهِ وَخَلِيفَةُ الْمُرْسَلِينَ وَوَارِثُ النَّبِيِّينَ فَثَبَّتَ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَالْقُرْآنَ وَحَفِظَ بِهِ عَلَى الْأُمَّةِ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَدَفَعَ بِهِ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالطُّغْيَانِ الَّذِينَ آمَنُوا بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ. فَاسْتَقَرَّ أَهْلُ السُّنَّةِ وَجَمَاهِيرُ الْأُمَّةِ وَأَهْلُ الْجَمَاعَةِ وَأَعْلَامُ الْمِلَّةِ فِي شَرْقِهَا وَغَرْبِهَا عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ وَجَاءَ بِهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ كَمَا لَا يَكُونُ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ مُنْفَصِلًا عَنْهُ؛ فَإِنَّ هَذَا جُحُودٌ لِكَلَامِهِ الَّذِي

ص: 355

هُوَ رِسَالَتُهُ وَدَفْعٌ لِحَقِيقَةِ مَا أَنْبَأَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَعَلِمَتْهُ أُمَمُهُمْ وَإِلْحَادٌ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَتَمْثِيلٌ لَهُ بِالْمَعْدُومِ وَالْمَوَاتِ؛ فَإِنَّ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالْكَلَامَ وَنَحْوَ ذَلِكَ صِفَاتُ كَمَالٍ وَالرَّبُّ تَعَالَى أَحَقُّ بِكُلِّ كَمَالٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْمَخْلُوقِ كَمَالٌ إلَّا وَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَنَزَّهَ الْمَخْلُوقُ عَنْ نَقْصٍ إلَّا وَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِتَنَزُّهِهِ مِنْهُ كَيْفَ وَهُوَ خَالِقُ الْكَمَالِ لِلْكَامِلِينَ. وَ " أَيْضًا " فَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مِنْ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلِاتِّصَافِ بِذَلِكَ وَلَمْ يَتَّصِفْ بِهِ أَوْ غَيْرَ قَابِلٍ لِلِاتِّصَافِ بِهِ. فَإِنْ قَبِلَهُ وَلَمْ يَتَّصِفْ بِهِ كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ النَّقْصِ: كَالْمَوْتِ وَالْجَهْلِ وَالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْعَجْزِ وَالْبُكْمِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقَابِلَ لِهَذَا وَلِهَذَا مَتَى لَمْ يَتَّصِفُ بِأَحَدِهِمَا اتَّصَفَ بِالْآخَرِ وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَ أَنْقَصَ مِنْ الْقَابِلِ الَّذِي لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا. فَالْحَيَوَانُ الَّذِي يَكُونُ تَارَةً سَمِيعًا وَتَارَةً أَصَمَّ وَتَارَةً بَصِيرًا وَتَارَةً أَعْمَى وَتَارَةً مُتَكَلِّمًا وَتَارَةً أَخْرَسَ أَكْمَلُ مِنْ الْجَمَادِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ أَنْ يَكُونَ لَا هَذَا وَلَا هَذَا. فَمَنْ لَمْ يَصِفْهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لَزِمَهُ إمَّا أَنْ يَصِفَهُ بِهَذِهِ النَّقَائِصِ أَوْ يَكُونُ أَنْقَصَ مِمَّنْ وُصِفَ بِهَذِهِ النَّقَائِصِ. وَذَلِكَ أَنْ " الْمُتَفَلْسِفَةَ "

ص: 356

اصْطَلَحُوا عَلَى تَقْسِيم " الْمُتَقَابِلَيْنِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ " إلَى النَّقِيضَيْنِ وَإِلَى مَا يُسَمُّونَهُ " الْعَدَمَ وَالْمَلَكَةَ " فَ " الْعَدَمُ " عِنْدَهُمْ سَلْبُ الشَّيْءِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِهِ كَالْعَمَى وَالْخَرَسِ؛ فَإِنَّهُ عَدَمُ الْبَصَرِ وَالْكَلَامِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا. فَأَمَّا الْجَمَادُ فَلَا يُسَمُّونَهُ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا. " وَشُبْهَتُهُمْ " لَبَّسَتْ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فَظَنُّوا أَنَّهُ إذَا لَمْ يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مِنْ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَتَّصِفَ بِصِفَاتِ النَّقْصِ لِأَنَّهُمَا مُتَقَابِلَانِ تَقَابُلَ " الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ " لَا تَقَابُلَ النَّقِيضَيْنِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا أَوَّلًا اصْطِلَاحٌ لَكُمْ وَإِلَّا فَغَيْرُكُمْ يُسَمِّي الْجَمَادَ مَيِّتًا وَمَوَاتًا وَنَحْوَ ذَلِكَ كَمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} . وَيُقَالُ لَهُمْ: " ثَانِيًا " النَّظَرُ فِي الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَدَمَ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَسْتَلْزِمُ النَّقْصَ الثَّابِتَ بِعَدَمِهَا. وَيُقَالُ لَهُمْ " ثَالِثًا ": إذَا قُلْتُمْ لَا يَتَّصِفُ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا لِكَوْنِهِ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ فَهَذَا النَّقْصُ أَعْظَمُ مِنْ نَقْصِ الْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْبَكَمِ؛ فَإِنَّمَا لَا يَقْبَلُ

ص: 357

الِاتِّصَافَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ أَنْقَصُ مِمَّنْ هُوَ قَابِلٌ لَهَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِهَا؛ فَإِنَّهُ مِنْهُ بَدَأَ؛ لَا كَمَا يَقُولُهُ الصَّابِئَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة: إنَّهُ ابْتَدَأَ مِنْ نَفْسِ النَّبِيِّ أَوْ مِنْ " الْعَقْلِ الْفَعَّالِ " أَوْ مِنْ " الْهَوَاءِ " بَلْ هُوَ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ وَإِنَّهُ إلَيْهِ يَعُودُ إذَا أُسْرِيَ بِهِ مِنْ الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ. وَصَارَ " الْإِمَامُ أَحْمَد " عَلَمًا لِأَهْلِ السُّنَّةِ الْجَائِينَ بَعْدَهُ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ: كُلُّهُمْ يُوَافِقُهُ فِي جُمَلِ أَقْوَالِهِ وَأُصُولِ مَذَاهِبِهِ؛ لِأَنَّهُ حَفِظَ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِيمَانَ الْمَوْرُوثَ وَالْأُصُولَ النَّبَوِيَّةَ - مِمَّنْ أَرَادَ أَنْ يُحَرِّفَهَا وَيُبَدِّلَهَا - وَلَمْ يَشْرَعْ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهِ وَاَلَّذِي قَالَهُ هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ سَائِر الْأَئِمَّةِ الْأَعْيَانِ حَتَّى إنَّ أَعْيَانَ أَقْوَالِهِ مَنْصُوصَةٌ عَنْ أَعْيَانِهِمْ؛ لَكِنْ جَمَعَ مُتَفَرِّقَهَا وَجَاهَدَ مُخَالِفَهَا وَأَظْهَرَ دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَيْهَا وَمَقَالَاتُهُ وَمَقَالَاتُ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ فِي الْجَهْمِيَّة كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ. " وَالْجَهْمِيَّة " هُمْ نفاة صِفَات اللَّهِ الْمُتَّبِعُونَ لِلصَّابِئَةِ الضَّالَّةِ. وَصَارَتْ فُرُوعُ التَّجَهُّمِ تَجُولُ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. فَقَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: وَلَا نَقُولُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ بَلْ نَقِفُ وَبَاطِنُ أَكْثَرِهِمْ مُوَافِقٌ للمخلوقية وَلَكِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ أَشَدَّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنْ اللَّهِ.

ص: 358

وَ " طَائِفَةٌ أُخْرَى " قَالَتْ: نَقُولُ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي لَمْ يُنَزِّلْهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَمَّا الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَتَلَاهُ جِبْرِيلُ وَمُحَمَّدٌ وَالْمُؤْمِنُونَ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَهَؤُلَاءِ هُمْ " اللَّفْظِيَّةُ ". فَصَارَتْ الْأُمَّةُ تَفْزَعُ إلَى إمَامِهَا إذْ ذَاكَ فَيَقُولُ لَهُمْ أَحْمَد: افْتَرَقَتْ الْجَهْمِيَّة عَلَى " ثَلَاثِ فِرَقٍ " فِرْقَةٌ تَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَفِرْقَةٌ تَقُولُ كَلَامُ اللَّهِ وَتَسْكُتُ وَفِرْقَةٌ تَقُولُ: أَلْفَاظُنَا وَتِلَاوَتُنَا لِلْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ. فَإِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ قُرْآنٌ مَخْلُوقٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ وَكَانَ لِهَؤُلَاءِ شُبْهَةٌ كَوْنِ أَفْعَالِنَا وَأَصْوَاتِنَا مَخْلُوقَةً وَنَحْنُ إنَّمَا نَقْرَؤُهُ بِحَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا. وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ مَا عِنْدَنَا إلَّا أَلْفَاظُنَا وَتِلَاوَتُنَا وَمَا فِي الْأَرْضِ قُرْآنٌ إلَّا هَذَا. وَهَذَا مَخْلُوقٌ. فَقَابَلَهُمْ قَوْمٌ أَرَادُوا تَقْوِيمَ السُّنَّةِ فَوَقَعُوا فِي الْبِدْعَةِ. وَرَدُّوا بَاطِلًا بِبَاطِلِ وَقَابَلُوا الْفَاسِدَ بِالْفَاسِدِ فَقَالُوا: تِلَاوَتُنَا لِلْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَأَلْفَاظُنَا بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْقُرْآنُ. وَالْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الِاسْمِ الْمُطْلَقِ وَالِاسْمِ الْمُقَيَّدِ فِي الدَّلَالَةِ وَبَيْنَ حَالِ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ مُجَرَّدًا وَحَالِهِ إذَا كَانَ مَقْرُونًا مُقَيَّدًا. فَأَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد أَيْضًا عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ تِلَاوَةَ الْعِبَادِ وَقِرَاءَتَهُمْ وَأَلْفَاظَهُمْ وَأَصْوَاتَهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَأَمَرَ بِهِجْرَانِ هَؤُلَاءِ كَمَا جَهَّمَ الْأَوَّلِينَ وَبَدَّعَهُمْ. وَالنَّقْلُ عَنْهُ

ص: 359

بِذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَصَالِحٍ والمروذي وفوران وَأَبِي طَالِبٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ صَدَقَةَ وَخُلُقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ. وَقَدْ قَامَ أَخَصُّ أَتْبَاعِهِ " أَبُو بَكْرٍ المروذي " بَعْدَ مَمَاتِهِ فِي ذَلِكَ وَجَمَعَ كَلَامَهُ وَكَلَامَ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ: مِثْلِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقِ وَالْأَثْرَمِ وَأَبِي دَاوُد السجستاني وَالْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ وَمُثَنَّى بْنِ جَامِعٍ الْأَنْبَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ الصَّنْعَانِي وَمُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ. وَبَيَّنَ بِدْعَةَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ تِلَاوَةَ الْعِبَادِ وَأَلْفَاظَهُمْ بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَبَسَطَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ. قَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ المروذي قَالَ: بَلَغَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَهْلِ نصيبين: أَنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَجَاءَنَا صَالِحُ بْنُ أَحْمَد فَقَالَ: قُومُوا إلَى أَبِي فَجِئْنَا فَدَخَلْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَإِذَا هُوَ غَضْبَانُ شَدِيدُ الْغَضَبِ قَدْ تَبَيَّنَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: اذْهَبْ فَجِئْنِي بِأَبِي طَالِبٍ فَجِئْت بِهِ فَقَعَدَ بَيْنَ يَدِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَرْعَدُ فَقَالَ: كَتَبْت إلَى أَهْلِ نصيبين تُخْبِرُهُمْ عَنِّي أَنِّي قُلْت: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَالَ: إنَّمَا حَكَيْت عَنْ نَفْسِي قَالَ: فَلَا يَحُلُّ هَذَا عَنْك وَلَا عَنْ نَفْسِي فَمَا سَمِعْت عَالِمًا قَالَ هَذَا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَيْفَ تَصَرَّفَ فَقِيلَ لِأَبِي طَالِبٍ: اُخْرُجْ وَأَخْبِرْ

ص: 360

أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ نَهَى أَنْ يُقَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَخَرَجَ أَبُو طَالِبٍ فَلَقِيَ جَمَاعَةً مِنْ الْمُحَدِّثِينَ فَأَخْبَرَهُمْ: أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ نَهَاهُ أَنْ يَقُولَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَمَعَ هَذَا فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ " الطَّائِفَتَيْنِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ لَفْظُنَا وَتِلَاوَتُنَا مَخْلُوقَةٌ يَنْتَحِلُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَتَحْكِي قَوْلَهَا عَنْهُ وَتَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى مَقَالَتِهَا لِأَنَّهُ إمَامٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ؛ وَلِأَنَّ الْحَقَّ الَّذِي مَعَ كُلِّ طَائِفَةٍ يَقُولُهُ أَحْمَد وَالْبَاطِلُ الَّذِي تُنْكِرُهُ كُلُّ طَائِفَةٍ عَلَى الْأُخْرَى يَرُدُّهُ أَحْمَد. فَمُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد المصيصي أَحَدُ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَأَحَدُ شُيُوخِ أَبِي دَاوُد وَجَمَاعَةٍ فِي زَمَانِهِ كَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيَّ وَغَيْرِهِ يَقُولُونَ: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَتَبِعَهُمْ طَائِفَةٌ عَلَى ذَلِكَ: كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَأَبِي نَصْرٍ السجزي وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي الْعَلَاءِ الهمداني وَأَبِي الْفَرَجِ المقدسي وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ أَلْفَاظَنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَيَرْوُونَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد وَأَنَّهُ رَجَعَ إلَى ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو نَصْرٍ فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةِ " وَهِيَ رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ بِأَسَانِيدَ مَجْهُولَةٍ لَا تُعَارِضُ مَا تَوَاتَرَ عَنْهُ عِنْدَ خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَالْعُلَمَاءِ الثِّقَات لَا سِيَّمَا وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ خَطَأً أَبَا طَالِبٍ فِي النَّقْلِ عَنْهُ حَتَّى رَدَّهُ أَحْمَد عَنْ ذَلِكَ وَغَضِبَ عَلَيْهِ غَضَبًا شَدِيدًا.

ص: 361

وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ هَؤُلَاءِ طَعَنَ فِي تِلْكَ النُّقُولِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَرَّفَهَا لَفْظًا وَأَمَّا تَحْرِيفُ مَعَانِيهَا فَذَهَبَ إلَيْهِ طَوَائِفُ فَأَمَّا الَّذِينَ ثَبَّتُوا النَّقْلَ عَنْهُ وَوَافَقُوهُ عَلَى إنْكَارِهِ الْأَمْرَيْنِ وَهُمْ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمَنْ انْتَسَبَ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَمْثَالِهِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي " مَقَالَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ " إنَّهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَمَنْ قَالَ: لَفْظِي بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُ يَقُولُ بِذَلِكَ. لَكِنْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَأَوَّلَ كَلَامَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ مَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ يُلْفَظُ بِهِ وَهَذَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ وَابْنُ الْبَاقِلَانِي وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَتْبَاعُهُ كَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَأَمْثَالِهِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَأَوَّلُوا كَلَامَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَعْنَى الَّذِي أَنْكَرَهُ أَحْمَد عَلَى مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ الْمَعْنَى الَّذِي أَنْكَرَهُ أَحْمَد عَلَى مَنْ قَالَ لَفْظِي بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الْقَاضِي وَابْنُ الزَّاغُونِي وَأَمْثَالُهُمَا؛ فَإِنَّ أَحْمَد وَسَائِر الْأَئِمَّةِ يُنْكِرُونِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ مَخْلُوقًا حُرُوفُهُ. أَوْ مَعَانِيهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ هُوَ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ إذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ يَكُونُ قُرْآنًا وَإِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بالعبرانية يَكُونُ هُوَ التَّوْرَاةَ وَيُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ أَنْ يُطْلَقَ

ص: 362

الْقَوْلُ عَلَى مَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَأَحْمَد وَالْأَئِمَّةُ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَوْ أَصْوَاتِهِمْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ. فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا وَكَلَامُ أَحْمَد فِي " مَسْأَلَةِ التِّلَاوَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ " مِنْ نَمَطٍ وَاحِدٍ مَنَعَ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ بِأَنَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ مَا هُوَ مَخْلُوقٌ وَلِمَا فِيهِ مِنْ الذَّرِيعَةِ وَمَنَعَ أَيْضًا إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ.

وَلَمَّا كَانَ أَحْمَد قَدْ صَارَ هُوَ إمَامَ السُّنَّةِ كَانَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ يَنْتَحِلُهُ إمَامًا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّ فِي " كِتَابِ الْإِبَانَةِ " وَغَيْرِهِ فَقَالَ إنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ " الْجَهْمِيَّة " وَ " الْمُعْتَزِلَةِ " وَ " الْخَوَارِجِ " وَ " الرَّوَافِضِ " وَ " الْمُرْجِئَةِ " فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمْ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ وَدِيَانَتَكُمْ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُنَا الَّذِي نَقُولُ بِهِ وَدِيَانَتُنَا الَّتِي نَدِينُ بِهَا التَّمَسُّك بِكِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَبِمَا كَانَ يَقُولُ بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ " قَائِلُونَ وَلَمَّا خَالَفَهُ مُجَانِبُونَ؛ فَإِنَّهُ الْإِمَامُ الْكَامِلُ وَالرَّئِيسُ الْفَاضِلُ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ وَأَوْضَحَ بِهِ الْمِنْهَاجَ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ وَذَكَرَ جُمَلًا مِنْ الْمَقَالَاتِ.

ص: 363

فَلِهَذَا صَارَ مَنْ بَعْدِهِ مُتَنَازِعِينَ فِي هَذَا الْبَابِ. " فَالطَّائِفَةُ " الَّذِينَ يَقُولُونَ لَفْظُنَا وَتِلَاوَتُنَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا آخَرُ قَوْلَيْهِ أَوْ يَطْعَنُونَ فِيمَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ عَنْهُ أَوْ يَتَأَوَّلُونَ كَلَامَهُ بِمَا لَمْ يَرُدَّهُ. وَ " الطَّائِفَةُ " الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ التِّلَاوَةَ مَخْلُوقَةٌ وَالْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِحُرُوفِ الْقُرْآنِ: يَقُولُونَ: إنَّ هَذَا قَوْلُ أَحْمَد وَأَنَّهُمْ مُوَافَقُوهُ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ. فِيمَا ذَكَرَهُ عَنْ أَحْمَد وَفَسَّرَ بِهِ كَلَامَهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ مُوَافِقُهُ وَكَمَا ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَانِي فِي تَنْزِيهِ أَصْحَابِهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَأَئِمَّتِهَا كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَكَمَا فَعَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ فِي ذَلِكَ وَكَمَا فَعَلَهُ أَبُو ذَرٍّ الهروي وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ (وَكَمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ البيهقي فِي الِاعْتِقَادِ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَد. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَتَأَوَّلَ مَا اسْتَفَاضَ عَنْهُ مِنْ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ [غَيْرُ] مَخْلُوقٍ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الجهمي الْمَحْضَ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي لَمْ يُنَزَّلْ مَخْلُوقٌ)(*). وَكَذَلِكَ أَيْضًا افْتَرَى بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الْبُخَارِيِّ الْإِمَامِ صَاحِبِ " الصَّحِيحِ " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَجَعَلُوهُ مِنْ " اللَّفْظِيَّةِ " حَتَّى وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ: مِثْلِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذهلي

(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 108):

وكلمة (غير) الموضوعة بين معقوفتين من عمل الجامع رحمه الله، وصواب العبارة بدونها، لأن الشيخ ذكر أن البيهقي روى عن أحمد أنه قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وقد تواتر عنه إنكار هذه العبارة نفسها ن فتأول البيهقي ذلك الإنكار ن فسياق الكلام الذي قبل هذا، والذي بعده، يدل على أن المقصود (لفظي بالقرآن مخلوق) والله أعلم.

ص: 364

وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَكَانَ فِي الْقَضِيَّةِ أَهْوَاءٌ وَظُنُونٌ حَتَّى صَنَّفَ " كِتَابَ خَلْقِ الْأَفْعَالِ " وَذَكَرَ فِيهِ مَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي قدامة عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ أَنَّهُ قَالَ: مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ. وَذَكَرَ فِيهِ مَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ كِتَابِهِ " الصَّحِيحِ " مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَيُنَادِي بِصَوْتِ. وَسَاقَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْآثَارِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي يُنَادِي اللَّهُ بِهِ وَبَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي يُسْمَعُ مِنْ الْعِبَادِ وَأَنَّ الصَّوْتَ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ لَيْسَ هُوَ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقَارِئِ وَبَيَّنَ دَلَائِلَ ذَلِكَ وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَهُمْ مَخْلُوقَةٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى بِفِعْلِهِ وَكَلَامِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} إنَّ حَدَثَهُ لَيْسَ كَحَدَثِ الْمَخْلُوقِينَ. وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مَنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ} وَذَكَرَ عَنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: أَنَّ خَلْقَ الرَّبِّ لِلْعَالَمِ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَ؛ بَلْ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَذُكِرَ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ الخزاعي: أَنَّ الْفِعْلَ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ وَأَنَّ الْحَيَّ لَا يَكُونُ إلَّا فَعَّالًا. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ وَعِلْمِ السَّلَفِ بِالْحَقِّ الْمُوَافِقِ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ.

ص: 365

وَذَكَرَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ طَائِفَتَيْ " اللَّفْظِيَّةِ الْمُثْبِتَةِ وَالنَّافِيَةِ " تَنْتَحِلُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَّ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ كَثِيرٌ مِمَّا يُنْقَلُ عَنْهُ كَذِبٌ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا بَعْضَ كَلَامِهِ لِدِقَّتِهِ وَغُمُوضِهِ وَأَنَّ الَّذِي قَالَهُ وَقَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد هُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَرَأَيْت بِخَطِّ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى رحمه الله عَلَى ظَهْرِ " كِتَابِ الْعُدَّةِ " بِخَطِّهِ قَالَ: نَقَلْت مِنْ آخِرِ " كِتَابِ الرِّسَالَةِ " لِلْبُخَارِيِّ فِي أَنَّ الْقِرَاءَةَ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ. وَقَالَ: وَقَعَ عِنْدِي عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ عَلَى اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ وَجْهًا كُلُّهَا يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ قَالَ مَا سَمِعْت عَالِمًا يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ وَافْتَرَقَ أَصْحَابُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ عَلَى نَحْوٍ مَنْ خَمْسِينَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ قَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ " اللَّفْظِيُّ " الَّذِي يَقُولُ: الْقُرْآنُ بِأَلْفَاظِنَا مَخْلُوقٌ. وَكَانَ " أَيْضًا " قَدْ نَبَغَ فِي أَوَاخِرَ عَصْرِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الْكُلَّابِيَة وَنَحْوِهِمْ - أَتْبَاعِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ الْبَصْرِيِّ: الَّذِي صَنَّفَ مُصَنِّفَاتٍ رَدَّ فِيهَا عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الصفاتية وَطَرِيقَتُهُ يَمِيلُ فِيهَا إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ؛ لَكِنْ فِيهَا نَوْعٌ مِنْ الْبِدْعَةِ؛ لِكَوْنِهِ أَثْبَتَ قِيَامَ الصِّفَاتِ بِذَاتِ اللَّهِ وَلَمْ يُثْبِتْ قِيَامَ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ؛ وَلَكِنْ لَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة - نفاة الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ - مِنْ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ وَبَسْطِ الْقَوْلِ مَا بَيَّنَ بِهِ فَضْلَهُ

ص: 366

فِي هَذَا الْبَابِ وَإِفْسَادَهُ لِمَذَاهِبِ نفاة الصِّفَات بِأَنْوَاعِ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْخِطَابِ وَصَارَ مَا ذَكَرَهُ مَعُونَةً وَنَصِيرًا وَتَخْلِيصًا مِنْ شُبَهِهِمْ لِكَثِيرِ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ حَتَّى صَارَ قُدْوَةً وَإِمَامًا لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ وَنَاقَضُوا نُفَاتهَا؛ وَإِنْ كَانُوا قَدْ شَرِكُوهُمْ فِي بَعْضِ أُصُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ: الَّتِي أَوْجَبَتْ فَسَادَ بَعْضِ مَا قَالُوهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ وَمُخَالَفَتِهِ لِسُنَّةِ الرَّسُولِ. وَكَانَ مِمَّنْ اتَّبَعَهُ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيَّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ القلانسي ثُمَّ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ الطبري وَأَبُو الْعَبَّاسِ الضبعي وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ البستي وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ: الْمُثْبِتِينَ لِلصِّفَاتِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَلَقِّبِينَ بِنُظَّارِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَسَلَكَ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ - فِي الْفَرْقِ بَيْنَ " الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ " كَالْحَيَاةِ وَ " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " وَأَنَّ الرَّبَّ يَقُومُ بِهِ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي - كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: كَالتَّمِيمِيِّينَ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَابْنِهِ أَبِي الْفَضْلِ التَّمِيمِيِّ وَابْنِ ابْنِهِ رِزْقِ اللَّهِ التَّمِيمِيِّ وَعَلَى عَقِيدَةِ الْفَضْلِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهَا عَقِيدَةَ أَحْمَد اعْتَمَدَ أَبُو بَكْرٍ البيهقي فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ مَنَاقِبِ أَحْمَد مِنْ الِاعْتِقَادِ. وَكَذَلِكَ سَلَكَ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ هَذِهِ أَبُو الْحَسَنُ بْنُ سَالِمٍ وَأَتْبَاعُهُ

ص: 367

" السالمية " وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَتْبَاعُهُ: كَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ؛ لَكِنَّهُمْ افْتَرَقُوا فِي الْقُرْآنِ وَفِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ عَلَى قَوْلَيْنِ - بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمْ فِي الْفَرْقِ الَّذِي قَرَّرَهُ ابْنُ كُلَّابٍ - كَمَا قَدْ بُسِطَ كَلَامُ هَؤُلَاءِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَالْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ كَانُوا يُحَذِّرُونِ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي أَحْدَثَهُ ابْنُ كُلَّابٍ وَيُحَذِّرُونَ عَنْ أَصْحَابِهِ وَهَذَا هُوَ سَبَبُ تَحْذِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَد عَنْ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيَّ وَنَحْوِهِ مِنْ الْكُلَّابِيَة. وَلَمَّا ظَهَرَ هَؤُلَاءِ ظَهَرَ حِينَئِذٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى إثْبَاتِ الصِّفَاتِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِصَوْتِ فَأَنْكَرَ أَحْمَد ذَلِكَ وَجَهَّمَ مَنْ يَقُولُهُ وَقَالَ: هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةُ إنَّمَا يَدُورُونَ عَلَى التَّعْطِيلِ وَرَوَى الْآثَارَ فِي أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَكَذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّ الْحُرُوفَ مَخْلُوقَةٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ ": قُلْت لِأَبِي: إنَّ هَهُنَا مَنْ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ هَؤُلَاءِ جهمية زَنَادِقَةٌ إنَّمَا يَدُورُونَ عَلَى التَّعْطِيلِ وَذَكَرَ الْآثَارَ فِي خِلَافِ قَوْلِهِمْ.

ص: 368

وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ " الصَّحِيحِ " وَسَائِر الْأَئِمَّةِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ أَيْضًا وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي آخِرِ " الصَّحِيحِ " وَفِي " كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ " مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ صَوْتِ اللَّهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ وَبَيْنَ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ مُوَافَقَةً مِنْهُ لِلْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ صَوْتَ الْعَبْدِ بِالْقِرَاءَةِ؛ بَلْ ذَلِكَ هُوَ صَوْتُ الْعَبْدِ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوَاضِعَ وَعَامَّةُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْإِثْبَاتِ وَالتَّفْرِيقِ: لَا يُوَافِقُونَ قَوْلَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِيهِ حَرْفٌ وَلَا صَوْتٌ وَلَا يُوَافِقُونَ قَوْلَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقُرَّاءِ وَأَلْفَاظَهُمْ قَدِيمَةٌ وَلَا يَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ إلَّا الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ. وَقَدْ كَتَبْت كَلَامَ " الْإِمَامِ أَحْمَد " وَنُصُوصَهُ وَكَلَامَ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَإِنَّ جَوَابَ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " لَا يَحْتَمِلُ الْبَسْطَ الْكَثِيرَ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَلَا الْأَئِمَّةِ أَنَّ الصَّوْتَ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ قَدِيمٌ؛ بَلْ يَقُولُونَ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَقَدْ يَقُولُونَ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ بِمَا شَاءَ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُمَا.

وَكَذَلِكَ قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي زَمَنِهِمْ وَبَعْدَهُ - مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَغَيْرِهِمْ - فِي مَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ هَلْ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ قَدِيمٌ

ص: 369

أَزَلِيٌّ كَالْعِلْمِ؟ أَوْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ إذَا شَاءَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. ذَكَرَهُمَا الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيَّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " كِتَابِ الشَّافِي " عَنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَذَكَرَهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ حَامِدٍ فِي كِتَابِهِ " أُصُولِ الدِّينِ ". وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ سَائِر طَوَائِفِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِ " الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " وَالنِّزَاعُ فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَبَيْنَ سَائِر الْفِرَقِ حَتَّى بَيْنَ الْفَلَاسِفَةِ أَيْضًا وَقَدْ حَقَّقْت ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهَذَا مَنْشَأُ نِزَاعِ الَّذِينَ وَافَقُوا السَّلَفَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَنَازَعُوا فِي أَنَّ الرَّبَّ هَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَاَلَّذِينَ وَافَقُوا ابْنَ كُلَّابٍ قَالُوا: إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ بَلْ كَلَامُهُ لَازِمٌ لِذَاتِهِ كَحَيَاتِهِ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ عَرَفَ أَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ لَا تَكُونُ قَدِيمَةَ الْعَيْنِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَقُولَ: الْقَدِيمُ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا مُتَعَاقِبَةً وَالصَّوْتُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا. فَقَالَ: الْقَدِيمُ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ لِامْتِنَاعِ مَعَانِي لَا نِهَايَةَ لَهَا وَامْتِنَاعِ التَّخْصِيصِ بِعَدَدِ دُونَ عَدَدٍ. فَقَالُوا: هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ وَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَالْعِبْرِيِّ وَقَالُوا: إنَّ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَسَائِر كَلَامِ اللَّهِ مَعْنًى وَاحِدٌ

ص: 370

وَمَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ مَعْنًى وَاحِدٌ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي يَقُولُ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ إنَّهَا مَعْلُومَةُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ عَرَفَ أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَالتَّوْرَاةِ الْعِبْرِيَّةِ وَأَنَّهُ نَادَى مُوسَى بِصَوْتِ وَيُنَادِي عِبَادَهُ بِصَوْتِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ؛ لَكِنْ اعْتَقَدُوا مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدِيمُ الْعَيْنِ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. فَالْتَزَمُوا أَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ وَقَالُوا: إنَّ الْبَاءَ لَمْ تَسْبِقْ السِّينَ وَالسِّينَ لَمْ تَسْبِقْ الْمِيمَ وَأَنَّ جَمِيعَ الْحُرُوفِ مُقْتَرِنَةٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ اقْتِرَانًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَقَالُوا: هِيَ مُتَرَتِّبَةٌ فِي حَقِيقَتِهَا وَمَاهِيَّتِهَا غَيْرُ مُتَرَتِّبَةٍ فِي وُجُودِهَا. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إنَّهَا مَعَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ " اللَّوَازِمِ " الَّتِي يَقُولُ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ إنَّهَا مَعْلُومَةُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: هُوَ قَدِيمٌ وَلَا يَفْهَمُ مَعْنَى الْقَدِيمِ. فَإِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: هِيَ قَدِيمَةٌ فِي الْعِلْمِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مَعَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَدِيمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يَعْرِفُ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّهُ مَخْلُوقٌ لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّهُ قَدِيمٌ بِهَذَا الْمَعْنَى وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ مُرَادَنَا بِأَنَّهُ قَدِيمٌ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا يَفْهَمُ أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ وَهَؤُلَاءِ سَمِعُوا

ص: 371

مِمَّنْ يُوَافِقُهُمْ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ: قَالُوا هُوَ قَدِيمٌ فَوَافَقُوا عَلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ وَلَمْ يَتَصَوَّرُوا مَا يَقُولُونَهُ. كَمَا أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مَكْذُوبٍ وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ النَّاسُ كَمَا لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّهُ قَدِيمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى غَيْرِهِ. وَ " الْقَوْلُ الثَّانِي " قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مَعَ أَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالنَّظَرِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ لَكِنْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الْأَزَلِ بِمَشِيئَتِهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَفْعَلَ فِي الْأَزَلِ شَيْئًا فَالْتَزَمُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا كَمَا أَنَّهُ فَعَلَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ قَدِيمَ النَّوْعِ - بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ صِفَةُ كَمَالٍ وَمَنْ يَتَكَلَّمُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَنْ لَا يَزَالُ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَكُونُ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا مِنْهُ أَوْ قَدِّرْ أَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فَكَيْفَ إذَا

ص: 372

كَانَ مُمْتَنِعًا؟ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَصِيرَ الرَّبُّ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَأَنْ يَكُونَ التَّكَلُّمُ وَالْفِعْلُ مُمْكِنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنٍ؟ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.

وَكَانَتْ " اللَّفْظِيَّةُ الخلقية " مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ: نَقُولُ: إنَّ أَلْفَاظَنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ وَإِنَّ التِّلَاوَةَ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ. وَالْقِرَاءَةُ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ. وَ " اللَّفْظِيَّةُ الْمُثْبِتَةُ " يَقُولُونَ: نَقُولُ: إنَّ أَلْفَاظَنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَالتِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَالْقِرَاءَةُ هِيَ الْمَقْرُوءُ. وَأَمَّا الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَأَعْيَانِ أَصْحَابِهِ وَسَائِر أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فَلَا يَقُولُونَ مَخْلُوقَةً وَلَا غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ وَلَا يَقُولُونَ التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ مُطْلَقًا وَلَا غَيْرُ الْمَتْلُوِّ مُطْلَقًا كَمَا لَا يَقُولُونَ: الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى وَلَا غَيْرُ الْمُسَمَّى. وَذَلِكَ أَنَّ " التِّلَاوَةَ وَالْقِرَاءَةَ " كَاللَّفْظِ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ تَلَا يَتْلُو تِلَاوَةً وَقَرَأَ يَقْرَأُ قِرَاءَةً وَلَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا وَمُسَمَّى الْمَصْدَرِ هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَحَرَكَاتُهُ وَهَذَا الْمُرَادُ بِاسْمِ التِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَاللَّفْظِ مَخْلُوقٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ الْقَوْلُ الْمَسْمُوعُ: الَّذِي هُوَ الْمَتْلُوُّ. وَقَدْ يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْمَلْفُوظُ وَبِالتِّلَاوَةِ الْمَتْلُوُّ وَبِالْقِرَاءَةِ الْمَقْرُوءُ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَسْمُوعُ وَذَلِكَ هُوَ الْمَتْلُوُّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقُرْآنَ الْمَتْلُوَّ: الَّذِي يَتْلُوهُ الْعَبْدُ وَيَلْفِظُ

ص: 373

بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَدْ يُرَادُ بِذَلِكَ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ. فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْخَلْقِ عَلَى الْجَمِيعِ وَلَا نَفْيُ الْخَلْقِ عَنْ الْجَمِيعِ. وَصَارَ " ابْنُ كُلَّابٍ " يُرِيدُ بِالتِّلَاوَةِ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ وَبِالْمَتْلُوِّ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ وَهَؤُلَاءِ إذَا قَالُوا: التِّلَاوَةُ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ: كَأَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ مَخْلُوقٌ. وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. وَيَظُنُّ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ الْبُخَارِيَّ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّنْ قَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَالْمَتْلُوِّ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَمِنْ الْآخَرِينَ مَنْ يَقُولُ: " التِّلَاوَةُ " هِيَ الْمَتْلُوُّ وَيُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ هُوَ الْأَصْوَاتُ الْمَسْمُوعَةُ مِنْ الْقُرَّاءِ حَتَّى يَجْعَلَ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْعَبْدِ هُوَ صَوْتَ الرَّبِّ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: نَفْسُ صَوْتِ الْمَخْلُوقِ وَصِفَتُهُ هِيَ عَيْنُ صِفَةِ الْخَالِقِ وَهَؤُلَاءِ " اتِّحَادِيَّةٌ حُلُولِيَّةٌ فِي الصِّفَاتِ " يُشْبِهُونَ النَّصَارَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ. وَيَظُنُّ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَغَيْرَهُمَا مِمَّنْ يُنْكِرُ عَلَى " اللَّفْظِيَّةِ " وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُقَالُ: أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ وَلَا غَيْرُ

ص: 374

مَخْلُوقَةٍ. وَلَا أَنَّ التِّلَاوَةَ هِيَ الْمَتْلُوُّ مُطْلَقًا وَلَا غَيْرُ الْمَتْلُوِّ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّ اسْمَ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ قَدْ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا؛ وَلِهَذَا يُجْعَلُ الْكَلَامُ قَسِيمًا لِلْعَمَلِ لَيْسَ قِسْمًا مِنْهُ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . وَقَدْ يُجْعَلُ قِسْمًا مِنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ عَنْ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَقَالَ رَجُلٌ لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانِ لَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ} وَلِهَذَا تَنَازَعَ أَصْحَابُ أَحْمَد فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَعْمَلُ الْيَوْمَ عَمَلًا هَلْ يَحْنَثُ بِالْكَلَامِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ. وَلَمْ تَكُنْ " اللَّفْظِيَّةُ الخلقية " يُنْكِرُونَ كَوْنَ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ وَأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ؛ بَلْ قَدْ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ وَكَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ؛ وَلَكِنْ يَقُولُونَ الْمُنَزَّلُ إلَى الْأَرْضِ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي لَيْسَ هُوَ نَفْسَ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ؛ بَلْ رُبَّمَا سَمَّوْهَا حِكَايَةً عَنْ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ كُلَّابٍ أَوْ عِبَارَةً عَنْ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُهُ الْأَشْعَرِيُّ وَرُبَّمَا سَمَّوْهَا كَلَامَ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ عِنْدِهِمْ.

ص: 375

وَلَكِنْ لَمَّا حَدَّثَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ كُلَّابٍ وَنَاظَرَ الْمُعْتَزِلَةَ بِطَرِيقِ قِيَاسِيَّةٍ سَلَّمَ لَهُمْ فِيهَا أُصُولًا - هُمْ وَاضِعُوهَا: مِنْ امْتِنَاعِ تَكَلُّمِهِ تَعَالَى بِالْحُرُوفِ وَامْتِنَاعِ قِيَامِ " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " بِذَاتِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ - اضْطَرَّهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ كَلَامُ اللَّهِ إلَّا مُجَرَّدُ الْمَعْنَى وَإِنَّ الْحُرُوفَ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ؛ وَإِنْ تَنَازَعَا فِي أَنَّ الرَّبَّ كَانَ فِي الْأَزَلِ آمِرًا نَاهِيًا أَوْ صَارَ آمِرًا نَاهِيًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَفِي أَنَّ " الْكَلَامَ " هَلْ هُوَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا يَقُولُهُ الْأَشْعَرِيُّ أَوْ خَمْسُ صِفَاتٍ كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ كُلَّابٍ. وَصَارَ هَؤُلَاءِ مُخَالِفِينَ لِأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فِي شَيْئَيْنِ. (أَحَدُهُمَا أَنَّ نِصْفَ الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَالنِّصْفُ الْآخَرِ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ؛ بَلْ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ أَحْدَثَهُ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وَهَؤُلَاءِ فِي كَوْنِهِمْ جَعَلُوا نِصْفَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا مُوَافِقِينَ لِمَنْ قَالَ بِخَلْقِهِ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ هَذَا النِّصْفَ الْمَخْلُوقَ كَلَامُ اللَّهِ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: هُوَ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ اللَّهِ وَهُوَ كَلَامُهُ؛ لَكِنَّ أُولَئِكَ لَا يَجْعَلُونَ لِلَّهِ كَلَامًا مُتَّصِلًا بِهِ قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَلَا مَعَانِيَ وَلَا حُرُوفًا. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لِلَّهِ كَلَامٌ قَائِمٌ بِهِ

ص: 376

مُتَّصِلٌ بِهِ هُوَ مَعْنًى. فَصَارَ أُولَئِكَ أَشَدَّ بِدْعَةً فِي نَفْيِهِمْ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ عَنْ اللَّهِ وَفِي جَعْلِهِمْ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقًا. وَهَؤُلَاءِ أَشَدُّ بِدْعَةً فِي إخْرَاجِهِمْ مَا هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَصَارُوا فِي هَذَا مُوَافِقِينَ الْوَحِيدَ فِي بَعْضِ قَوْلِهِ لَا فِي كُلِّهِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إنَّ نِصْفَ الْقُرْآنِ لَيْسَ قَوْلَ اللَّهِ: بَلْ قَوْلُ الْبَشَرِ. وَرُبَّمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَى الرَّسُولِ فَيَكُونُ هُوَ أَحْدَثَ حُرُوفَهُ وَلَمْ يَتَأَمَّلْ هَذَا الْقَائِلُ فَيَرَى أَنَّهُ أَضَافَهُ تَارَةً إلَى رَسُولٍ هُوَ جِبْرِيلُ وَتَارَةً إلَى رَسُولٍ هُوَ مُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} فَهَذَا جِبْرِيلُ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} وَهَذَا مُحَمَّدٌ فَلَوْ كَانَتْ إضَافَتُهُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ ابْتَدَأَ حُرُوفُهُ وَأَحْدَثَهَا لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُضَافَ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا؛ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا هُوَ أَحْدَثَ حُرُوفَهُ؛ وَلِأَنَّهُ قَالَ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ} وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ بِالْمَعْنَى أَحَقُّ عِنْدِهِمْ وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَيْضًا فَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ ابْتَدَأَهُ لَكَانَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِهِ لَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَضَافَهُ اللَّهُ إلَى الرَّسُولِ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ وَجَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: وَلِهَذَا قَالَ: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} وَلَمْ يَقُلْ لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ؛ بَلْ جَاءَ بِاسْمِ الرَّسُولِ لِيَتَبَيَّنَ

ص: 377

أَنَّهُ وَاسِطَةٌ فِيهِ وَسَفِيرٌ وَالْكَلَامُ كَلَامٌ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهِ مُبْتَدِئًا مُنْشِئًا؛ لَا لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا كَمَا يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ كَلَامِ النَّاسِ فَكَيْفَ بِكَلَامِ اللَّه؟ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ فِي التَّفْسِيرِ الْمُطَابِقِ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ: أَنَّ الرَّسُولَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَفِي الْآخَرِ جِبْرِيلُ عليه السلام. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ جَعَلَتْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جِبْرِيلَ فَيَكُونُ الْجَوَابُ هُوَ الثَّانِيَ وَالْإِثْبَاتُ فِي الْحَقِيقَةِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ اللَّهِ وَيَقُولُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الرَّسُولَ يَقُولُ قَوْلَ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ بِهِ وَالْمَعْنَى يُرَادُ مِنْ هَذَا قَطْعًا كَمَا أُرِيدُ مِنْهُ اللَّفْظُ أَيْضًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْكَلَامَ الَّذِي يَتَّصِفُ اللَّهُ بِهِ مَعْنًى وَاحِدًا وَهُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ وَأَنَّهُ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ هُوَ الْقُرْآنَ وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ هُوَ التَّوْرَاةَ وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ هُوَ الْإِنْجِيلَ وَهَذَا مما أَجْمَعَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّ فَسَادَهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَ " الْمَعْنَى الثَّانِي " الَّذِي خَالَفُوا فِيهِ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قَوْلُهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ إلَى الْأَرْضِ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ لَا حُرُوفُهُ وَلَا مَعَانِيهِ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ وَيَقُولُونَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ؛ لِأَنَّ

ص: 378

الْعِبَارَةَ لَا تُشْبِهُ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ؛ بِخِلَافِ الْحِكَايَةِ وَالْمَحْكِيِّ وَهَذَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْبِدَعِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِ " اللَّفْظِيَّةِ " مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَقَالُوا هُمْ " جهمية " إذْ جَعَلُوا الْحُرُوفَ مِنْ إحْدَاثِ الرَّسُولِ وَلَيْسَتْ مِمَّا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بِحَالِ وَقَالُوا: إنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ كَلَامٌ وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا فِي " اللَّفْظِيَّةِ " الْقُدَمَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مَنْ يَقُولُ إنَّ صَوْتَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ أَنَّ الصَّوْتَ الْقَدِيمَ يُسْمَع مِنْ الْعَبْدِ أَوْ أَنَّ هَذَا الصَّوْتَ صَوْتُ اللَّهِ أَوْ يُسْمَعُ مَعَهُ صَوْتُ اللَّهِ؛ وَإِنَّمَا أَحْدَثَ هَذَا أَيْضًا الْمُتَطَرِّفُونَ مِنْهُمْ كَمَا أَحْدَثَ الْمُتَطَرِّفُونَ مِنْ أُولَئِكَ أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ؛ فَإِنَّ هَاتَيْنِ " الْبِدْعَتَيْنِ " الشَّنِيعَتَيْنِ لَمْ تَكُونَا بَعْدُ ظَهَرَتَا فِي أُولَئِكَ الْمُنْحَرِفِينَ الَّذِينَ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ قَوْلَهُمْ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ مَعْنًى قَائِمٍ بِالنَّفْسِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى إلَيْهِ يَعُودُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ. وَ " الْأُخْرَى " قَدْ رَأَتْ حُرُوفَ الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ وَأَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ وَالِاسْتِخْبَارَ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدًا وَعَلِمُوا أَنَّا إذَا تَرْجَمْنَا التَّوْرَاةَ بِالْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَصِرْ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْقُرْآنِ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ مَعْلُومَةُ الْفَسَادِ

ص: 379

بِالضَّرُورَةِ عَارَضَهَا بَعْضُهَا؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْقُرْآنُ وَالْكَلَامُ إلَّا مُجَرَّدَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ لَيْسَ الْكَلَامُ إلَّا مُجَرَّدُ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ. وَكِلَا هَذَيْنَ السَّلَبَيْنِ الْجَحُودَيْنِ الْحَادِثَيْنِ خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَأَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ مِنْ سَائِر الطَّوَائِفِ. فَإِنَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ اسْمٌ لِلْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي جَمِيعًا كَمَا أَنَّ " الْإِنْسَانَ " النَّاطِقَ الْمُتَكَلِّمَ اسْمٌ لِلْجَسَدِ وَالرُّوحِ جَمِيعًا وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ إلَّا هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْمُشَاهَدَةَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ لَيْسَ الْكَلَامُ إلَّا الْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ إلَّا لَطِيفَةً وَرَاءَ هَذَا الْجَسَدِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى وَرَاءَ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَكِلَاهُمَا جَحْدٌ لِبَعْضِ حَقَائِقِ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ وَإِنْكَارٌ لِحُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ.

فَصْلٌ:

ثُمَّ إنَّ فُرُوخَ " اللَّفْظِيَّةِ النَّافِيَةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَرْوِي عَنْ مُنَازَعِيهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ لَيْسَ هُوَ إلَّا الْأَصْوَاتُ الْمَسْمُوعَةُ مِنْ الْعَبْدِ وَإِلَّا الْمِدَادُ الْمَكْتُوبُ فِي الْوَرَقِ،

ص: 380

وَإِنَّ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ وَهَذَا الْمِدَادَ قَدِيمَانِ وَهَذَا الْقَوْلُ مَا قَالَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ إلَّا الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ؛ بَلْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَرَدُّوهُ وَكَذَّبُوا مَنْ نَقَلَ عَنْهُمْ: أَنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَدْ يَقُولُهُ الْجُهَّالُ الْمُتَطَرِّفُونَ كَمَا يُحْكَى عَنْ أَعْيَانِهِمْ مِثْلِ سُكَّانِ بَعْضِ الْجِبَالِ: أَنَّ الْوَرَقَ وَالْجِلْدَ وَالْوَتَدَ وَمَا أَحَاطَ بِهِ مِنْ الْحَائِطِ كَلَامُ اللَّهِ أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذَا اللَّغْوَ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ. وَفُرُوخُ " اللَّفْظِيَّةِ الْمُثْبِتَةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ إلَّا الْحُرُوفُ وَالصَّوْتُ: تَحْكِي عَنْ مُنَازَعِيهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مَحْفُوظًا فِي الْقُلُوبِ وَلَا مَتْلُوًّا بِالْأَلْسُنِ وَلَا مَكْتُوبًا فِي الْمَصَاحِفِ وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ قَوْلًا لِأُولَئِكَ؛ بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ فِي الْقُلُوبِ مَتْلُوٌّ بِالْأَلْسِنَةِ مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ لَكِنَّ جُهَّالَهُمْ وَغَالِيَتَهُمْ إذَا تَدَبَّرُوا حَقِيقَةَ قَوْلِ مُقْتَصَدِيهِمْ - إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ وَإِنَّهُ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ وَأَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَمِدَادُ الْمُصْحَفِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ كَلَامٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَا هُوَ دَالٌّ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ إلَّا مَا هُوَ دَالٌّ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا وَهُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَكَلَّمُ الرَّبُّ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ إلَى

ص: 381

أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ حَقَائِقِ قَوْلِ الْمُقْتَصِدِينَ - أَسْقَطُوا حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ وَرُبَّمَا دَاسُوهُ وَوَطِئُوهُ وَرُبَّمَا كَتَبُوهُ بِالْعَذِرَةِ أَوْ غَيْرِهَا. وَهَؤُلَاءِ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا مِمَّنْ يَقُولُ الْجِلْدُ وَالْوَرَقُ كَلَامُ اللَّهِ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ آمَنُوا بِالْحَقِّ وَبِزِيَادَةِ مِنْ الْبَاطِلِ وَهَؤُلَاءِ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ؛ إذْ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يسجرون. وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْمَقَالَةِ وَأَهْلُ الْإِيمَانِ بِالشَّرِيعَةِ فَيُعَظِّمُونَ الْمُصْحَفَ وَيَعْرِفُونَ حُرْمَتَهُ وَيُوجِبُونَ لَهُ مَا أَوْجَبَتْهُ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي قَوْلِهِمْ نَوْعٌ مِنْ الْخَطَأِ وَالْبِدْعَةِ وَفِي مَذْهَبِهِمْ مِنْ التَّجَهُّمِ وَالضَّلَالِ مَا أَنْكَرُوا بِهِ بَعْضَ صِفَاتِ اللَّهِ وَبَعْضَ صِفَاتِ كَلَامِهِ وَرُسُلِهِ وَجَحَدُوا بَعْضَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ وَصَارُوا مَخَانِيثَ للجهمية الذُّكُورِ الْمُنْكِرِينَ لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ لَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلُونَ قَاصِدُونَ الْحَقَّ. وَهُمْ مَعَ تَجَهُّمِهِمْ هَذَا يَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ مَكْتُوبٌ فِي الْمُصْحَفِ مِثْلُ مَا أَنَّ اللَّهَ مَكْتُوبٌ فِي الْمُصْحَفِ وَإِنَّهُ مَتْلُوٌّ بِالْأَلْسُنِ مِثْلُ مَا أَنَّ اللَّهَ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسُنِ وَمَحْفُوظٌ فِي الْقُلُوبِ مِثْلُ مَا أَنَّ اللَّهَ مَعْلُومٌ بِالْقُلُوبِ وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ الضَّلَالِ وَالنِّفَاقِ وَالْجَهْلِ بِحُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَا فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ الْجُهَّالَ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِحُرْمَةِ

ص: 382

آيَاتِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ حَتَّى أَلْحَدُوا فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ. كَمَا أَنَّ إطْلَاقَ الْأَوَّلِينَ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقُرْآنِ حَقِيقَةٌ إلَّا الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ صَوْتِ اللَّهِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ وَصَوْتِ الْقَارِئِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ أَوْقَعَ الْجُهَّالَ مِنْهُمْ وَالْكَاذِبِينَ عَلَيْهِمْ فِي نَقْلِهِمْ عَنْهُمْ: أَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَالْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ وَأَنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي هِيَ كَلَامُ اللَّهِ هِيَ الْمِدَادُ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ؛ بَلْ أَنْكَرُوهُ؛ كَمَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ وَالْمِدَادِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} فَإِنَّ هَؤُلَاءِ غَلِطُوا " غَلَطَيْنِ " غَلِطَا فِي مَذْهَبِهِمْ وَغَلِطَا فِي الشَّرِيعَةِ. أَمَّا الْغَلَطُ فِي " تَصْوِيرِ مَذْهَبِهِمْ " فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولُوا: إنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ مِثْلُ مَا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْمَعَانِيَ فِي الْوَرَقِ فَكَمَا يُقَالُ: الْعِلْمُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يُقَالُ: الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ فَيُصَوِّرُ لَهُ الْمِثْلَ بِالْعِلْمِ الْقَائِمِ بِالذَّاتِ لَا بِالذَّاتِ نَفْسِهَا. وَأَمَّا الْغَلَطُ فِي " الشَّرِيعَةِ " فَيُقَالُ لَهُمْ: إنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمَصَاحِفِ مِثْلُ مَا أَنَّ اسْمَ اللَّهِ فِي الْمَصَاحِفِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ: فَهُوَ مَحْفُوظٌ بِالْقُلُوبِ كَمَا يُحْفَظُ الْكَلَامُ بِالْقُلُوبِ وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسِنَةِ كَمَا يُذْكَرُ

ص: 383

الْكَلَامُ بِالْأَلْسِنَةِ وَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْأَوْرَاقِ كَمَا أَنَّ الْكَلَامَ يُكْتَبُ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْأَوْرَاقِ وَالْكَلَامُ الَّذِي هُوَ اللَّفْظُ يُطَابِقُ الْمَعْنَى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى يُطَابِقُ الْحَقَائِقَ الْمَوْجُودَةَ.

فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَعْلُومٌ وَهُوَ مَتْلُوٌّ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَذْكُورٌ وَمَكْتُوبٌ كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ مَكْتُوبٌ فَقَدْ أَخْطَأَ الْقِيَاسَ وَالتَّمْثِيلَ بِدَرَجَتَيْنِ: فَإِنَّهُ جَعَلَ وُجُودَ الْمَوْجُودَاتِ الْقَائِمَةِ بِأَنْفُسِهَا بِمَنْزِلَةِ وُجُودِ الْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُطَابِقِ لَهَا وَالْمُسْلِمُونَ يَعْلَمُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} . فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَ مُحَمَّدٍ: لَا لَفْظُهُ وَلَا جَمِيعُ مَعَانِيهِ وَلَكِنْ أَنْزَلَ اللَّهَ ذِكْرَهُ وَالْخَبَرَ عَنْهُ كَمَا أَنْزَلَ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ وَالْخَبَرَ عَنْهُ فَذِكْرُ الْقُرْآنِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ كَمَا أَنَّ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ وَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. فَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مَعْلُومٌ بِالْقُلُوبِ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسُنِ مَكْتُوبٌ فِي الْمُصْحَفِ كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ مَعْلُومٌ لِمَنْ قَبْلَنَا مَذْكُورٌ لَهُمْ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ وَإِنَّمَا ذَاكَ ذِكْرُهُ وَالْخَبَرُ عَنْهُ وَأَمَّا نَحْنُ فَنَفْسُ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ إلَيْنَا وَنَفْسُ الْقُرْآنِ مَكْتُوبٌ فِي مَصَاحِفِنَا كَمَا أَنَّ نَفْسَ الْقُرْآنِ فِي الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ وَهُوَ فِي الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ. وَلِهَذَا يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ}

ص: 384

وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} فَإِنَّ الْأَعْمَالَ فِي الزُّبُرِ كَالرَّسُولِ وَكَالْقُرْآنِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ وَأَمَّا " الْكِتَابُ الْمَسْطُورُ فِي الرَّقِّ الْمَنْشُورِ " فَهُوَ كَمَا يُكْتَبُ الْكَلَامُ نَفْسُهُ وَالصَّحِيفَةُ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَلَهُ " أَرْبَعُ مَرَاتِبَ " فِي الْوُجُودِ: وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ: وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ وَوُجُودٌ فِي الْبَنَانِ: وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَعِلْمِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ. وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وَذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُعْطِي الْوُجُودَيْنِ فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} فَهَذَا الْوُجُودُ الْعَيْنِيُّ ثُمَّ قَالَ: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فَذَكَرَ أَنَّهُ أَعْطَى الْوُجُودَ الْعِلْمِيَّ الذِّهْنِيَّ وَذَكَرَ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعْلِيمِ اللَّفْظِ وَالْعِبَارَةِ وَتَعْلِيمُ اللَّفْظِ وَالْعِبَارَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعْلِيمِ الْمَعْنَى فَدَلَّ بِذِكْرِهِ آخِرَ الْمَرَاتِبِ عَلَى أَوَّلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ أَوَّلَهَا أَوْ أَطْلَقَ التَّعْلِيمَ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ وَالِاسْتِغْرَاقِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقُرْآنُ كَلَامٌ وَالْكَلَامُ لَهُ " الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ " لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَرَقِ مَرْتَبَةٌ أُخْرَى مُتَوَسِّطَةٌ؛ بَلْ نَفْسُ الْكَلَامِ يَثْبُتُ فِي الْكِتَابِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ

ص: 385

مَكْنُونٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وَقَالَ: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} وَقَالَ: {كَلَّا إنَّهَا تَذْكِرَةٌ} {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} وَقَالَ: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} . وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ مَكْتُوبٌ فِيهَا كَمَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ: إنَّهُ فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالطُّورِ} {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} وَأَمَّا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ أَوْ رَسُولُهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْيَانِ فَإِنَّمَا فِي الصُّحُفِ اسْمُهُ وَهُوَ مِنْ الْكَلَامِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} وَإِنَّمَا فِي التَّوْرَاةِ كِتَابَتُهُ وَذِكْرُهُ وَصِفَتُهُ وَاسْمُهُ وَهِيَ " الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ " مِنْهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ تَشْبِيهُ كَوْنِ الْقُرْآنِ أَوْ الْكَلَامِ فِي الصُّحُفِ أَوْ الْوَرَقِ بِكَوْنِ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ السَّمَاءِ أَوْ الْأَرْضِ فِي الصُّحُفِ أَوْ الْوَرَقِ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ فِي الصُّحُفِ أَوْ الْوَرَقِ لَأَنْكَرَ ذَلِكَ؛ إلَّا مَعَ قَرَائِنَ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} وَفِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ ذِكْرُهُ وَكِتَابَتُهُ. وَ " الزُّبُرُ " جَمْعُ زَبُورٍ وَالزَّبُورُ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مَزْبُورٍ أَيْ: مَكْتُوبٍ فَلَفْظُ الزَّبُورِ يَدُلُّ عَلَى الْكِتَابَةِ وَهَذَا مِثْلُ مَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ {عَنْ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ: قَالَ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ

ص: 386

مَتَى كُنْت نَبِيًّا - وَفِي رِوَايَةٍ مَتَى كُتِبْت نَبِيًّا -؟ قَالَ: وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ} رَوَاهُ أَحْمَد. فَهَذَا الْكَوْنُ هُوَ كِتَابَتُهُ وَتَقْدِيرُهُ وَهُوَ " الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ " كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ تَتَقَدَّمُ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ؛ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَتَأَخَّرُ أَيْضًا؛ فَ {إنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلِفَ سَنَةٍ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنْ تَنْسَخَ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا كَتَبَهُ مِنْ الْقَدَرِ وَيَأْمُرُ الْحَفَظَة أَنْ تَكْتُبَ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ فَتُقَابِلُ بَيْنَ النُّسْخَتَيْنِ فَتَكُونَانِ سَوَاءً ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَسْتُمْ قَوْمًا عَرَبًا؟ وَهَلْ تَكُونُ النُّسْخَةُ إلَّا مَنْ أَصْلٍ؟ . وَالتَّقْدِيرُ وَالْكِتَابَةُ تَكُونُ تَفْصِيلًا بَعْدَ جُمْلَةٍ. فَاَللَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلِفَ سَنَةٍ لَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ لِلْمَلَائِكَةِ وَلَمَّا خَلَقَ آدَمَ قَبْلَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ أَظْهَرَ لَهُمْ مَا قَدَّرَهُ كَمَا يَظْهَرُ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَوْلُودٍ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ

ص: 387

يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إلَيْهِ الْمَلَكَ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ} وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ وَفِي رِوَايَةٍ {ثُمَّ يَبْعَثُ إلَيْهِ الْمَلَكَ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ: اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ} . فَأَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ الْمَلَكَ يُؤْمَرُ بِكِتَابَةِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ بَعْدَ خَلْقِ جَسَدِ ابْنِ آدَمَ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. فَكَانَ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِي هُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ بَعْدَ خَلْقِ جَسَدِ آدَمَ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي الْمَسْنَدِ وَغَيْرِهِ عَنْ العرباض بْنِ سَارِيَةَ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إنِّي عِنْدَ اللَّهِ مَكْتُوبٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ} وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ وُجُودِ الْأَعْيَانِ فِي الصُّحُفِ.

وَأَمَّا وُجُودُ الْكَلَامِ فِي الصُّحُفِ فَنَوْعٌ آخَرُ؛ وَلِهَذَا حَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ: أَنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمَةِ وَإِحْدَى " الجهميات " الَّتِي أَنْكَرَهَا أَحْمَد وَأَعْظَمُهَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِي الصُّدُورِ وَلَا فِي الْمَصَاحِفِ وَأَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ النَّصَارَى كَمَا حُكِيَ لَهُ ذَلِكَ عَنْ مُوسَى

ص: 388

ابْنِ عُقْبَةَ الصُّورِيِّ - أَحَدِ كَتَبَةِ الْحَدِيثِ إذْ ذَاكَ؛ لَيْسَ هُوَ صَاحِبَ الْمُغَازِي؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدِيمٌ مِنْ أَصْحَابِ التَّابِعِينَ - فَأَعْظَمَ ذَلِكَ أَحْمَد وَذَكَرَ النُّصُوصَ وَالْآثَارَ الْوَارِدَةَ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِهَا} وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {الْجَوْفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ} وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا إلَّا التَّنْبِيهَ اللَّطِيفَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا شِبْهُ قَوْلِ النَّصَارَى فَلَمْ يَعْرِفْ قَوْلَ النَّصَارَى وَلَا قَوْلَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلِمَ وَجَحَدَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى تَقُولُ: إنَّ الْكَلِمَةَ وَهِيَ جَوْهَرُ إلَهٍ عِنْدَهُمْ وَرُبَّ مَعْبُودٍ تَدَرَّعَ النَّاسُوتَ وَاتَّحَدَ بِهِ كَاتِّحَادِ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ أَوْ حَلَّ فِيهِ حُلُولَ الْمَاءِ فِي الظَّرْفِ أَوْ اخْتَلَطَ بِهِ اخْتِلَاطَ النَّارِ وَالْحَدِيدِ وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مَعْبُودٌ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَلَا يَقُولُونَ اتَّحَدَ بِالْبَشَرِ. وَأَمَّا إطْلَاقُ حُلُولِهِ فِي الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ فَكَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ الْخُرَاسَانِيِّين وَغَيْرُهُمْ يُطْلِقُ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَنْفِي ذَلِكَ وَيَقُولُ: هُوَ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الظُّهُورِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحُلُولِ

ص: 389

وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُثْبِتُهُ وَلَا يَنْفِيهِ بَلْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ فِي الْقُلُوبِ وَالْمَصَاحِفِ لَا يُقَالُ هُوَ حَالٌّ وَلَا غَيْرُ حَالٍّ؛ لِمَا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ إيهَامِ مَعْنًى فَاسِدٍ وَكَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الشَّامِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَلَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يُفَارِقُ ذَاتَ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يُبَايِنُهُ كَلَامُهُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ؛ بَلْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ صِفَةِ مَوْصُوفٍ تُبَايِنُ مَوْصُوفَهَا وَتَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ عَاقِلٌ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ يُبَايِنُهُ وَيَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ؟ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنِ مِنْهُ وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ: " أَنَّهُ مِنْهُ بَدَأَ وَمِنْهُ خَرَجَ " وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَمْ يَخْرُج مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهُ بَايَنَهُ وَانْتَقَلَ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا} وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ لَا يُبَايِنُ مَحَلَّهُ وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ جَمِيعُهُمْ أَنَّ نَقْلَ الْكَلَامِ وَتَحْوِيلَهُ هُوَ مَعْنَى تَبْلِيغِهِ كَمَا قَالَ: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ} وَقَالَ {: بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً} . وَالْكَلَامُ فِي الْوَرَقِ لَيْسَ هُوَ فِيهِ كَمَا تَكُونُ الصِّفَةُ بِالْمَوْصُوفِ

ص: 390

وَالْعَرَضُ بِالْجَوْهَرِ. بِحَيْثُ تَصِيرُ صِفَةً لَهُ وَلَا هُوَ فِيهِ كَمَا يَكُونُ الْجِسْمُ فِي الْحَيِّزِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ حَيِّزٍ آخَرَ وَلَا هُوَ فِيهِ كَمُجَرَّدِ الدَّلِيلِ الْمَحْضِ بِمَنْزِلَةِ الْعَالَمِ الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ عَلَى الصَّانِعِ؛ بَلْ هُوَ قِسْمٌ آخَرُ مَعْقُولٌ بِنَفْسِهِ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ مَوْجُودٍ نَظِيرٌ يُطَابِقُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ بَلْ النَّاسُ بِفِطَرِهِمْ يَفْهَمُونَ مَعْنَى كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الصَّحِيفَةِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ كَلَامَهُ الَّذِي قَامَ بِهِ لَمْ يُفَارِقْ ذَاتَه وَيَحِلُّ فِي غَيْرِهِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا فِي الصَّحِيفَةِ لَيْسَ مُجَرَّدَ دَلِيلٍ عَلَى مَعْنًى فِي نَفْسِهِ ابْتِدَاءً بَلْ مَا فِي الصَّحِيفَةِ مُطَابِقٌ لِلَفْظِهِ وَلَفْظُهُ مُطَابِقٌ لِمَعْنَاهُ وَمَعْنَاهُ مُطَابِقٌ لِلْخَارِجِ وَقَدْ يُعْلَمُ مَا فِي نَفْسِهِ بِأَدِلَّةِ طَبْعِيَّةٍ وَبِحَرَكَاتِ إرَادِيَّةٍ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الدَّلَالَةَ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ لِلْمُتَكَلِّمِ مِثْلُ كَلَامِهِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ فَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ إنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ لَشَارَكَهُ كُلُّ دَلِيلٍ وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ مَا فِي الْمُصْحَفِ وَجَبَ احْتِرَامُهُ لِمُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ وَجَبَ احْتِرَامُ كُلِّ دَلِيلٍ؛ بَلْ الدَّالُّ عَلَى الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ أَعْظَمُ مِنْ الدَّالِّ عَلَى كَلَامِهِ وَلَيْسَتْ لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الْمُصْحَفِ وَالدَّالُّ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِنَفْسِ الْإِنْسَانِ قَدْ يُعْلَمُ تَارَةً بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَقَدْ يُعْلَمُ بِأَصْوَاتِ طَبْعِيَّةٍ كَالْبُكَاءِ وَقَدْ يُعْلَمُ بِحَرَكَاتِ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الدَّلَالَةَ وَقَدْ يُعْلَمُ بِحَرَكَاتِ يُقْصَدُ بِهَا الدَّلَالَةُ كَالْإِشَارَةِ وَقَدْ يُعْلَمُ بِاللَّفْظِ الَّذِي تُقْصَدُ بِهِ الدَّلَالَةُ.

ص: 391

فَصْلٌ:

وَصَارَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ غَلَّطُوا مَذْهَبَ " اللَّفْظِيَّةِ " وَزَادُوا فِيهِ شَرًّا كَثِيرًا إذْ قَالُوا: " الْقِرَاءَةُ " غَيْرُ الْمَقْرُوءِ وَ " التِّلَاوَةُ " غَيْرُ الْمَتْلُوِّ وَ " الْكِتَابَةُ " غَيْرُ الْمَكْتُوبِ إنَّمَا يَعْنُونَ بِالْقِرَاءَةِ أَصْوَاتَ الْقَارِئِينَ وب " الْكِتَابَةِ " مِدَادَ الْكَاتِبِينَ وَيَعْنُونَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ وَعِبَارَةٌ عَنْهُ؛ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ إلَّا قِرَاءَةٌ وَمَقْرُوءٌ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا صَوْتٌ وَمِدَادٌ وَمَعْنًى قَائِمٌ بِالذَّاتِ؛ لَيْسَ ثَمَّ قُرْآنٌ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَسْقَطُوا حُرُوفَ كَلَامِ اللَّهِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا وَحَقِيقَةُ مَعَانِي الْقُرْآنِ الَّتِي فِي نَفْسِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْقَطُوا أَيْضًا مَعَانِيَ الْقُرْآنِ الَّتِي فِي نُفُوسِ الْقَارِئِينَ وَالْمُسْتَمِعِينَ؛ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي نَقْرَؤُهُ فِيهِ حُرُوفٌ وَمَعَانِي حُرُوفٍ مَنْطُوقَةٍ وَمَسْطُورَةٍ؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إلَّا صَوْتُ الْعَبْدِ وَحِبْرُ الْمُصْحَفِ فَأَيْنَ الْمَعَانِي؟ وَأَيْنَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ؟ وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مَخْلُوقَةً. وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ لَا يَكُونَ لِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْكُتُبِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ يَكُونُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَوَعْدًا وَوَعِيدًا

ص: 392

وَتَكُونُ هَذِهِ أَوْصَافَهُ لَا أَقْسَامَهُ؟ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ مَعَانِيَ جَمِيعِ كَلَامِ اللَّهِ مَعْنًى وَاحِدٌ فَمَعْنَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} هُوَ مَعْنَى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَمَعْنَى التَّوْرَاةِ هُوَ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالْإِنْجِيلِ. ثُمَّ قَدْ يَجْعَلُونَ مَعَانِيَ الْكَلَامِ كُلِّهَا الْخَبَرَ وَقَدْ يَجْعَلُونَ مَعْنَى الْخَبَرِ الْعِلْمَ وَيَجْعَلُونَ الْعِلْمَ بِهَذَا غَيْرَ الْعِلْمِ بِهَذَا. وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: فَسَادُ هَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ وَيَقُولُونَ: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ صِفَاتٌ إضَافِيَّةٌ لِلْكَلَامِ وَلَيْسَتْ هِيَ أَنْوَاعٌ الْكَلَامِ وَأَقْسَامُهُ وَكَلَامُ اللَّهِ شَأْنُهُ أَعْظَمُ مِنْ شَأْنِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَالْكَلَامُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ هُوَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الْأَخِيرِ دُونَ الْأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ لِذَلِكَ اللَّفْظِ مِنْ الْخَصَائِصِ مَا قِيلَ فِيهِ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} . لَكِنْ مِنْ الْأَشْيَاءِ مَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِهِ بِقَصْدِ مِنْهُ وَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ لِلدَّلَالَةِ كَالْجَامِدَاتِ فَإِنَّ فِيهَا مَقَاصِدَ غَيْرَ دَلَالَتِهَا عَلَى الْخَالِقِ وَمِنْ الْأَشْيَاءِ مَا لَا يُقْصَدُ بِهِ إلَّا الدَّلَالَةُ. بِحَيْثُ إذَا ذُكِرَ مَا يُقْصَدُ بِذِكْرِهِ ذُكِرَ مَدْلُولُهُ كَالِاسْمِ مَعَ مُسَمَّاهُ فَالْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْمِ هُوَ الْمُسَمَّى؛ فَلِهَذَا إذَا ذُكِرَ الِاسْمُ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْمُسَمَّى وَكَذَلِكَ " اللَّفْظُ " مَعَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَدْلُولُهُ وَكَذَلِكَ " الْخَطُّ " مَعَ اللَّفْظِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْخَطِّ

ص: 393

إنَّمَا هُوَ اللَّفْظُ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحُرُوفِ الْمَرْسُومَةِ هُوَ الْحُرُوفُ الْمَنْطُوقَةُ؛ وَلِهَذَا كَانَ لَفْظُ الْحَرْفِ مَقُولًا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا. فَإِذَا قِيلَ: الْكَلَامُ مِنْ الْكِتَاب عُرِفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِمَّا فِي الْكِتَابِ هُوَ الْكَلَامُ دُونَ غَيْرِهِ وَلِهَذَا كَانَ لِهَذَا مِنْ الِاخْتِصَاصِ بِالْحُرْمَةِ مَا لَيْسَ لِمَا يُقْصَدُ مِنْهُ الدَّلَالَةُ وَغَيْرُ الدَّلَالَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:

وَصَارَ أُولَئِكَ الَّذِينَ غَلَّطُوا مَذْهَبَ " اللَّفْظِيَّةِ الْمُثْبَتَةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَيَقُولُونَ: " التِّلَاوَةُ " هِيَ الْمَتْلُوُّ وَ " الْكِتَابَةُ " هِيَ الْمَكْتُوبُ وَمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا مَا تَوَهَّمُوا مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ يَلْتَزِمُ أَحَدُهُمْ: أَنَّ الصَّوْتَ الْقَدِيمَ يُسْمَعُ مِنْ الْقَارِئِ وَيُوهِمُونَ الْمُخَالِفَ لَهُمْ أَنَّ عَيْنَ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْعَبْدِ هُوَ عَيْنُ الصَّوْتِ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَيُنْكِرُونَ مَعَانِيَ حَقَائِقِ الْقُرْآنِ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَلَا يَجْعَلُونَ الْمَعْنَى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْقُرْآنُ حَيْثُ تَصَرَّفَ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَ " اللَّفْظِيَّةُ الْمُبْتَدِعَةُ الْمُثْبِتَةُ " الَّذِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ

ص: 394

إنَّمَا قَالُوا لَفْظُنَا بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَلَمْ يَقُولُوا قَدِيمٌ. فَجَاءَتْ الْمُغَلِّطَةُ لِمَذْهَبِهِمْ فَقَالُوا: لَفْظُنَا بِهِ قَدِيمٌ وَلَفْظُنَا بِهِ أَصْوَاتُنَا فَأَصْوَاتُنَا بِهِ قَدِيمَةٌ. وَالْإِمَامُ أَحْمَد وَسَائِر الْأَئِمَّةِ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ صَحِبُوهُ وَغَيْرُهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ يُنْكِرُونَ هَذِهِ " الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ " فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يُقَالَ: لَفْظِي بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَكَيْفَ لَفْظِي بِهِ قَدِيمٌ؟ فَكَيْفَ صَوْتِي بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ فَكَيْفَ صَوْتِي بِهِ قَدِيمٌ؟ أَوْ بَعْضُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ قَدِيمٌ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

فَصْلٌ:

وَمَنْ تَأَمَّلَ نُصُوصَ " الْإِمَامِ أَحْمَد " فِي هَذَا الْبَابِ وَجَدَهَا مِنْ أَسَدِّ الْكَلَامِ وَأَتَمِّ الْبَيَانِ وَوَجَدَ كُلَّ طَائِفَةٍ مُنْتَسِبَةٍ إلَى السُّنَّةِ قَدْ تَمَسَّكَتْ مِنْهَا بِمَا تَمَسَّكَتْ ثُمَّ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهَا مِنْ السُّنَّةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَا ظَهَرَ لِبَعْضِهَا فَتُنْكِرُهُ. وَمَنْشَأُ النِّزَاعِ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالِاضْطِرَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ فِي هَذَا الْبَابِ يَعُودُ إلَى " أَصْلَيْنِ ". " مَسْأَلَةِ " تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَسَائِر كَلَامِهِ. وَ " مَسْأَلَةِ " تَكَلُّمِ الْعِبَادِ بِكَلَامِ اللَّهِ.

ص: 395

وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ التَّكَلُّمَ وَالتَّكْلِيمَ لَهُ مَرَاتِبُ وَدَرَجَاتٌ وَكَذَلِكَ تَبْلِيغُ الْمُبَلِّغِ لِكَلَامِ غَيْرِهِ لَهُ وُجُوهٌ وَصِفَاتٌ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُدْرِكُ مِنْ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ وَالصِّفَاتِ بَعْضَهَا وَرُبَّمَا لَمْ يُدْرِكْ إلَّا أَدْنَاهَا. ثُمَّ يُكَذِّبُ بِأَعْلَاهَا فَيَصِيرُونَ مُؤْمِنِينَ بِبَعْضِ الرِّسَالَةِ كَافِرِينَ بِبَعْضِهَا وَيَصِيرُ كُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مُصَدِّقَةً بِمَا أَدْرَكَتْهُ مُكَذِّبَةً بِمَا مَعَ الْآخَرِينَ مِنْ الْحَقِّ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَقَالَ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} . ففي هَذِهِ الْآيَةِ خَصَّ بِالتَّكْلِيمِ بَعْضَهُمْ وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَاسْتَفَاضَتْ الْآثَارُ بِتَخْصِيصِ مُوسَى بِالتَّكْلِيمِ فَهَذَا التَّكْلِيمُ الَّذِي خَصَّ بِهِ مُوسَى عَلَى نُوحٍ وَعِيسَى وَنَحْوِهِمَا لَيْسَ هُوَ

ص: 396

التَّكْلِيمَ الْعَامَّ الَّذِي قَالَ فِيهِ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ جَمَعَ فِيهَا جَمِيعَ دَرَجَاتِ التَّكْلِيمِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ السَّلَفُ. فَرَوَيْنَا فِي كِتَابِ " الْإِبَانَةِ " لِأَبِي نَصْرٍ السجزي وَكِتَابِ البيهقي وَغَيْرِهِمَا عَنْ عُقْبَةَ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ مَنْ أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ الْبَشَرِ. فَكَلَامُ اللَّهِ الَّذِي كَلَّمَ بِهِ مُوسَى مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَالْوَحْيُ مَا يُوحِي اللَّهُ إلَى النَّبِيِّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ عليهم السلام لِيُثَبِّتَ اللَّهُ عز وجل مَا أَرَادَ مِنْ وَحْيِهِ فِي قَلْبِ النَّبِيِّ وَيَكْتُبَهُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ رُسُلِهِ وَمِنْهُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَلَا يَكْتُبُونَهُ لِأَحَدِ وَلَا يَأْمُرُونَ بِكِتَابَتِهِ وَلَكِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِهِ النَّاسَ حَدِيثًا وَيُبَيِّنُونَهُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ أَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ وَيُبَلِّغُوهُمْ إيَّاهُ وَمِنْ الْوَحْيِ مَا يُرْسِلُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِمَّنْ اصْطَفَاهُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ فَيُكَلِّمُونَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ مِنْ النَّاسِ وَمِنْ الْوَحْيِ مَا يُرْسِلُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَيُوحِيهِ وَحْيًا فِي قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ رُسُلِهِ. قُلْت: فَالْأَوَّلُ الْوَحْيُ وَهُوَ الْإِعْلَامُ السَّرِيعُ الْخَفِيُّ: إمَّا فِي الْيَقَظَةِ

ص: 397

وَإِمَّا فِي الْمَنَامِ فَإِنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِينَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصِّحَاحِ وَقَالَ عبادة بْنُ الصَّامِتِ - وَيُرْوَى مَرْفُوعًا -: {رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الرَّبُّ عَبْدَهُ فِي الْمَنَامِ} وَكَذَلِكَ فِي " الْيَقَظَةِ " فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي فَعُمَرُ} وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ " مُكَلَّمُونَ " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} . بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ} فَهَذَا الْوَحْيُ يَكُونُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَيَكُونُ يَقَظَةً وَمَنَامًا. وَقَدْ يَكُونُ بِصَوْتِ هَاتِفٍ يَكُونُ الصَّوْتُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ لَيْسَ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ يَقِظَةً وَمَنَامًا كَمَا قَدْ يَكُونُ النُّورُ الَّذِي يَرَاهُ أَيْضًا فِي نَفْسِهِ. فَهَذِهِ " الدَّرَجَةُ " مِنْ الْوَحْيِ الَّتِي تَكُونُ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْمَعَ صَوْتَ مَلَكٍ فِي أَدْنَى الْمَرَاتِبِ وَآخِرِهَا وَهِيَ أَوَّلُهَا بِاعْتِبَارِ السَّالِكِ وَهِيَ الَّتِي أَدْرَكَتْهَا عُقُولُ الإلهيين مِنْ فَلَاسِفَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ فِيهِمْ إسْلَامٌ وَصُبُوءٌ فَآمَنُوا بِبَعْضِ صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ - وَهُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ - وَلَكِنْ كَفَرُوا بِالْبَعْضِ فَتَجِدُ بَعْضَ

ص: 398

هَؤُلَاءِ يَزْعُمُ أَنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ أَوْ أَنَّهُ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ الرَّسُولِ أَوْ أَنَّ غَيْرَ الرَّسُولِ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهُ وَقَدْ يَزْعُمُونَ: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لِمُوسَى كَانَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ وَأَنَّهُ إنَّمَا كَلَّمَهُ مِنْ سَمَاءِ عَقْلِهِ وَأَنَّ الصَّوْتَ الَّذِي سَمِعَهُ كَانَ فِي نَفْسِهِ أَوْ أَنَّهُ سَمِعَ الْمَعْنَى فَائِضًا مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ أَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ قَدْ يَصِلُ إلَى مَقَامِ مُوسَى. وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ فَوْقَ مُوسَى وَيَقُولُونَ: إنَّ مُوسَى سَمِعَ الْكَلَامَ بِوَاسِطَةِ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَنَحْنُ نَسْمَعُهُ مُجَرَّدًا عَنْ ذَلِكَ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ جِبْرِيلَ الَّذِي نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْخَيَالُ النُّورَانِيُّ: الَّذِي يَتَمَثَّلُ فِي نَفْسِهِ كَمَا يَتَمَثَّلُ فِي نَفْسِ النَّائِمِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَخَذَهُ مُحَمَّدٌ عَنْ هَذَا الْخَيَالِ الْمُسَمَّى بِجِبْرِيلَ عِنْدَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ صَاحِبُ " الْفُصُوصِ " وَ " الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ ": إنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ: الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى الرَّسُولِ. وَزَعَمَ أَنَّ مَقَامَ " النُّبُوَّةِ " دُونَ الْوِلَايَةِ وَفَوْقَ " الرِّسَالَةِ " فَإِنَّ مُحَمَّدًا - بِزَعْمِهِمْ الْكَاذِبِ - يَأْخُذُ عَنْ هَذَا الْخَيَالِ النَّفْسَانِيِّ - الَّذِي سَمَّاهُ مَلَكًا - وَهُوَ يَأْخُذُ عَنْ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ هَذَا الْخَيَالَ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ لَا يُثْبِتُونَ لِلَّهِ كَلَامًا اتَّصَفَ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا يُثْبِتُونَ أَنَّهُ قَصَدَ إفْهَامَ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ؛ بَلْ قَدْ يَقُولُونَ لَا يَعْلَمُ أَحَدًا بِعَيْنِهِ؛ إذْ عِلْمُهُ

ص: 399

وَقَصْدُهُ عِنْدَهُمْ إذَا أَثْبَتُوهُ لَمْ يُثْبِتُوهُ إلَّا كُلِّيًّا لَا يُعَيِّنُ أَحَدًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ وَلَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ إلَّا عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ. وَقَدْ يَقْرَبُ أَوْ يَقْرُبُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ مَنْ قَالَ بِاسْتِرْسَالِ عِلْمِهِ عَلَى أَعْيَانِ الْأَعْرَاضِ وَهَذَا الْكَلَامُ - مَعَ أَنَّهُ كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ - فَقَدْ وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ مَنْ لَهُ فَضْلٌ فِي الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَوْلَا أَنِّي أَكْرَهُ التَّعْيِينَ فِي هَذَا الْجَوَابِ لَعَيَّنْت أَكَابِرَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَقَدْ يَكُونُ الصَّوْتُ الَّذِي يَسْمَعُهُ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ الْحَقِّ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ أَوْ غَيْرِ مَلَكٍ وَهُوَ الَّذِي أَدْرَكَتْهُ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ تَكْلِيمٌ إلَّا ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَخْرُجُ عَنْ قِسْمِ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ التَّكْلِيمِ أَوْ قَسِيمُ التَّكْلِيمِ بِالرَّسُولِ. وَهُوَ " الْقِسْمُ الثَّانِي " حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَهَذَا إيحَاءُ الرَّسُولِ. وَهُوَ غَيْرُ الْوَحْيِ الْأَوَّلِ مِنْ اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ التَّكْلِيمِ الْعَامِّ. وَإِيحَاءُ الرَّسُولِ أَيْضًا " أَنْوَاعٌ " فَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ يَأْتِيك الْوَحْيُ؟ قَالَ: أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْت مَا قَالَ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها وَلَقَدْ رَأَيْته

ص: 400

يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا} . فَأَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ نُزُولَ الْمَلَكِ عَلَيْهِ تَارَةً يَكُونُ فِي الْبَاطِنِ بِصَوْتِ مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ. وَتَارَةً يَكُونُ مُتَمَثِّلًا بِصُورَةِ رَجُلٍ يُكَلِّمُهُ كَمَا كَانَ جِبْرِيلُ يَأْتِي فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَكَمَا تَمَثَّلَ لِمَرْيَمَ بَشَرًا سَوِيًّا وَكَمَا جَاءَتْ الْمَلَائِكَةُ لِإِبْرَاهِيمَ وَلِلُوطِ فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ كِلَا النَّوْعَيْنِ إلْقَاءَ الْمَلَكِ وَخِطَابَهُ وَحْيًا؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَفَاءِ؛ فَإِنَّهُ إذَا رَآهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَلَكٌ وَإِذَا جَاءَ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ يَحْتَاجُ إلَى فَهْمِ مَا فِي الصَّوْتِ. وَ " الْقِسْمُ الثَّالِثُ " التَّكْلِيمُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى عليه السلام وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ هَذَا " نِدَاءً " وَ " نِجَاءً " فَقَالَ تَعَالَى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} {إنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} وَهَذَا التَّكْلِيمُ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ إيحَائِهِ إلَى الْأَنْبِيَاءِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} فَمَنْ جَعَلَ هَذَا مِنْ جِنْسِ الْوَحْيِ الْأَوَّلِ - كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ

ص: 401

وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي التَّصَوُّفِ عَلَى طَرِيقِهِمْ كَمَا فِي " مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ " وَكَمَا فِي " كِتَابِ خَلْعِ النَّعْلَيْنِ " وَكَمَا فِي كَلَامِ الِاتِّحَادِيَّةِ كَصَاحِبِ " الْفُصُوصِ " وَأَمْثَالِهِ - فَضَلَالُهُ وَمُخَالَفَتُهُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ بَلْ وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ مَنْ أَبْيَنِ الْأُمُورِ. وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ: أَنَّ تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى إنَّمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِلْهَامِ وَالْوَحْيِ؛ وَأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا قَدْ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى - كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ فُرُوخِ الْجَهْمِيَّة الْكُلَّابِيَة وَنَحْوِهِمْ - فَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ ضَلَالًا. وَقَدْ دَلَّ كِتَابُ اللَّهِ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْوَحْيِ وَالْكَلَامِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِيهِمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ. فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَامًّا انْدَرَجَ فِيهِ الْآخَرُ كَمَا انْدَرَجَ الْوَحْيُ فِي التَّكْلِيمِ الْعَامِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَانْدَرَجَ التَّكْلِيمُ فِي الْوَحْيِ الْعَامِّ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} وَأَمَّا التَّكْلِيمُ الْخَاصُّ الْكَامِلُ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْوَحْيُ الْخَاصُّ الْخَفِيُّ: الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَنْبِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ كَمَا أَنَّ الْوَحْيَ الْمُشْتَرَكَ الْخَاصَّ لَا يَدْخُلُ فِيهِ التَّكْلِيمُ الْخَاصُّ الْكَامِلُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِزَكَرِيَّا: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إلَيْهِمْ} " فَالْإِيحَاءُ " لَيْسَ بِتَكْلِيمِ وَلَا يُنَاقِضُ الْكَلَامَ وقَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا} إنْ جُعِلَ

ص: 402

مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا اتَّفَقَ مَعْنَى التَّكْلِيمِ فِي الْآيَتَيْنِ وَإِنْ جُعِلَ مُتَّصِلًا كَانَ التَّكْلِيمُ مِثْلَ التَّكْلِيمِ فِي سُورَةِ الشُّورَى وَهُوَ التَّكْلِيمُ الْعَامُّ؛ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا خَاصًّا كَامِلًا بِقَوْلِهِ: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْجَمِيعَ أَوْحَى إلَيْهِمْ وَكَلَّمَهُمْ التَّكْلِيمَ الْعَامَّ وَبِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ وَبَيْنَ الْإِيحَاءِ إلَى النَّبِيِّينَ وَكَذَا التَّكْلِيمُ بِالْمَصْدَرِ وَبِأَنَّهُ جَعَلَ التَّكْلِيمَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ قِسْمًا غَيْرَ إيحَائِهِ وَبِمَا تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ مِنْ تَكْلِيمِهِ الْخَاصِّ لِمُوسَى مِنْهُ إلَيْهِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَلَّمَهُ بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى كَمَا جَاءَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مُوَافَقَةً لَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَغَلِطَتْ هُنَا " الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ " الْكُلَّابِيَة. فَاعْتَقَدَتْ أَنَّهُ إنَّمَا أَوْحَى إلَى مُوسَى عليه السلام مَعْنًى مُجَرَّدًا عَنْ صَوْتٍ. وَاخْتَلَفَتْ هَلْ يَسْمَعُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَسْمَعُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِلَطِيفَةِ خَلَقَهَا فِيهِ قَالُوا: إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالشَّمَّ وَالذَّوْقَ وَاللَّمْسَ مَعَانٍ تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّ وَطَائِفَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمْ يَسْمَعْ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ مَعْنًى وَالْمَعْنَى لَا يُسْمَعُ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَطَائِفَةٌ. وَهَذَا الَّذِي أَثْبَتُوهُ فِي جِنْسِ الْوَحْيِ الْعَامِّ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ

ص: 403

بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى عليه السلام حَيْثُ قَالَ: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَفَرَّقَ بَيْنَ إيحَائِهِ وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ حَيْثُ قَالَ: {إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وَحَيْثُ فَرَّقَ بَيْنَ الرَّسُولِ الْمُكَلَّمِ وَغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ أَنَّ لِلَّهِ كَلَامًا هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِنَفْسِهِ هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهِ وَبِهَذَا صَارُوا خَيْرًا مِمَّنْ لَا يُثْبِتُ لَهُ كَلَامًا إلَّا مَا أَوْحَى فِي نَفْسِ النَّبِيِّ مِنْ الْمَعْنَى؛ أَوْ مَا سَمِعَهُ مِنْ الصَّوْتِ الْمُحْدَثِ وَلَكِنْ لِفَرْطِ رَدِّهِمْ عَلَى هَؤُلَاءِ زَعَمُوا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَلَامًا لِلَّهِ بِحَالِ إلَّا مَا قَامَ بِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ إلَّا الْمَعْنَى. فَأَنْكَرُوا أَنْ تَكُونَ الْحُرُوفُ كَلَامَ اللَّهِ وَأَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ كَلَامَ اللَّهِ. وَجَاءَتْ " الطَّائِفَةُ الرَّابِعَةُ " فَرَدُّوا عَلَى هَؤُلَاءِ دَعْوَاهُمْ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُجَرَّدَ الْمَعْنَى فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ إلَّا الْحَرْفَ أَوْ الصَّوْتَ فَقَطْ وَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تُسَمَّى كَلَامًا أَصْلًا؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ الْكَلَامُ الْمُطْلَقُ اسْمٌ لِلْمَعَانِي وَالْحُرُوفِ جَمِيعًا وَقَدْ يُسَمَّى أَحَدُهُمَا كَلَامًا مَعَ التَّقْيِيدِ كَمَا يَقُولُ النُّحَاةُ: " الْكَلَامُ " اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ. فَالْمَقْسُومُ هُنَا اللَّفْظُ وَكَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا زَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَعُودُونَ بِالتَّكَلُّمِ عَلَى التَّفَكُّرِ وَبِالتَّفَكُّرِ عَلَى التَّدَبُّرِ ويناطقون الْقُلُوبَ حَتَّى نَطَقَتْ. وَكَمَا قَالَ

ص: 404

الْجُنَيْد: " التَّوْحِيدُ " قَوْلُ الْقَلْبِ " وَالتَّوَكُّلُ " عَمَلُ الْقَلْبِ. فَجَعَلُوا لِلْقَلْبِ نُطْقًا وَقُوَّةً كَمَا جَعَلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لِلنَّفْسِ حَدِيثًا فِي قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا} - ثُمَّ قَالَ -: {مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ} . فَعُلِمَ أَنَّ " الْكَلَامَ الْمُطْلَقَ " هُوَ مَا كَانَ بِالْحُرُوفِ الْمُطَابِقَةِ لِلْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مَعَ التَّقْيِيدِ قَدْ يَقَعُ بِغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى إنَّهُمْ قَدْ يُسَمُّونَ كُلَّ إفْهَامٍ وَدَلَالَةٍ يَقْصِدُهَا الدَّالُّ قَوْلًا سَوَاءٌ كَانَتْ بِاللَّفْظِ أَوْ الْإِشَارَةِ أَوْ الْعَقْدِ - عَقْدِ الْأَصَابِعِ - وَقَدْ يُسَمُّونَ أَيْضًا الدَّلَالَةَ قَوْلًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِقَصْدِ مِنْ الدَّالِّ مِثْلُ دَلَالَةِ الْجَامِدَاتِ كَمَا يَقُولُونَ: قَالَتْ: " اتِّسَاعُ بَطْنِهِ ". وَامْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قطني قطني رُوَيْدًا قَدْ مَلَأَتْ بَطْنِي وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً وَيُسَمَّى هَذَا لِسَانُ الْحَالِ وَدَلَالَةُ الْحَالِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَلْ الْأَرْضَ مَنْ فَجَّرَ أَنْهَارَك وَسَقَى ثِمَارَك وَغَرَسَ أَشْجَارَك؟ فَإِنْ لَمْ تُجِبْك حِوَارًا أَجَابَتْك اعْتِبَارًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تُخْبِرُنِي الْعَيْنَانِ مَا الْقَلْبُ كَاتِمٌ وَلَا خَيْرَ فِي الْحَيَاءِ وَالنَّظَرِ الشَّزْرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ:

ص: 405

سَأَلْت الدَّارَ تُخْبِرُنِي

عَنْ الْأَحْبَابِ مَا فَعَلُوا

فَقَالَتْ لِي أَنَاخَ الْقَوْمُ

أَيَّامًا وَقَدْ رَحَلُوا

وَقَدْ يُسَمَّى شَهَادَةً وَقَدْ زَعَمَ طَائِفَةٌ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَسْبِيحِ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَهُوَ دَلَالَتُهَا عَلَى الْخَالِقِ تَعَالَى؛ وَلَكِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ ثَمَّ تَسْبِيحًا آخَرَ زَائِدًا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ كَمَا قَدْ سَبَقَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ لَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَكُونُ مَعَ التَّقْيِيدِ وَالْقَرِينَةِ؛ وَلِهَذَا يَصِحُّ سَلْبُ الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} وَقَالَ الْخَلِيلُ عليه السلام {فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَالتَّوَاتُرِ وَهُوَ سَلْبُ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ عَنْ الْحَيِّ السَّاكِتِ وَالْعَاجِزِ فَكَيْفَ عَنْ الْمَوَاتِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِغَايَةِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَثْبَتُوا أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِالْكَلَامِ الْكَامِلِ التَّامِّ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ فَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ كَلَامَهُ إلَّا مُجَرَّدَ مَعْنًى أَوْ مُجَرَّدَ حُرُوفٍ أَوْ مُجَرَّدَ حُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ فَمَا قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ كَلَامَهُ إلَّا مَا يَقُومُ

ص: 406

بِغَيْرِهِ فَقَدْ سَلَبَهُ الْكَمَالَ وَشَبَّهَهُ بِالْمَوَاتِ وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ أَوْ جَعَلَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَكِنْ جَعَلَ الْكَلَامَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَجَعَلَهُ يُوصَفُ بِمَخْلُوقَاتِهِ أَوْ جَعَلَهُ يَتَكَلَّمُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا فَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إثْبَاتُ بَعْضِ الْحَقِّ فَفِيهِ رَدٌّ لِبَعْضِ الْحَقِّ وَنَقْصٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ مِنْ الْكَمَالِ.

فَصْلٌ:

وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ أَدْرَكَ مِنْ دَرَجَاتِ الْكَلَامِ وَأَنْوَاعِهِ بَعْضَ الْحَقِّ. وَكَذَلِكَ " الْأَصْلُ الثَّانِي " وَهُوَ تَكَلُّمُنَا بِكَلَامِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَلَوْ قَالَ أَحَدٌ: إنَّ حَرْفًا مِنْهُ أَوْ مَعْنًى لَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ أَنَّهُ كَلَامِ غَيْرِ اللَّهِ وَسَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ لَعَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَابِلُونَهُ بِمَا يُقَابِلُونَ أَهْلَ الْجَحُودِ وَالضَّلَالِ؛ بَلْ قَدْ أَجْمَعَ الْخَلَائِقُ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ فِي كُلِّ كَلَامٍ. فَجَمِيعُ الْخَلْقِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ

ص: 407

مِنْ شِعْرِ لَبِيَدِ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا كَلَامُ لَبِيَدِ وَأَنَّ قَوْلَهُ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ هُوَ مِنْ كَلَامِ امْرِئِ الْقَيْسِ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ إنَّمَا سَمِعُوهَا مِنْ غَيْرِهِ بِصَوْتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَجَاءَ الْمُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْحَقِّ دُونَ بَعْضٍ فَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا أَوْ لَا نَسْمَعُ إلَّا صَوْتَ الْعَبْدِ وَلَفْظَهُ؛ ثُمَّ قَالَ " الْنُّفَاةِ ": وَلَفْظُ الْعَبْدِ مُحْدَثٌ وَلَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ فَهَذَا الْمَسْمُوعُ مُحْدَثٌ وَلَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ. وَقَالَتْ " الْمُثْبِتَةُ ": بَلْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ إلَّا لَفْظُهُ أَوْ صَوْتُهُ فَيَكُونُ لَفْظُهُ أَوْ صَوْتُهُ كَلَامَ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ قَدِيمٌ فَيَكُونُ لَفْظُهُ أَوْ صَوْتُهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ أَوْ قَدِيمٌ. وَكُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ عَلِمَ النَّاسُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ؛ بَلْ وَبِالْعَقْلِ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي بَعْضِ مَا قَالَهُ مُبْتَدِعٌ فِيهِ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ ذَلِكَ وَإِذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ إلَى فِطْرَتِهِ وَجَدَ الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُشِيرَ إلَى الْكَلَامِ الْمَسْمُوعِ فَيُقَالُ: هَذَا كَلَامُ زَيْدٍ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ هَذَا صَوْتُ زَيْدٍ وَيَجِدُ فِطْرَتَهُ تُصَدِّقُ بِالْأَوَّلِ وَتُكَذِّبُ بِالثَّانِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} ". وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِفِطْرَتِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ

ص: 408

كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتَ صَوْتُ الْقَارِئِ؛ وَلِهَذَا قَالَ " الْإِمَامُ أَحْمَد " لِأَبِي طَالِبٍ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَقَالَ لَهُ: هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ لَهُ: أَنَا قُلْت لَك لَفْظِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ قَالَ: لَا. وَلَكِنْ قَرَأْت عَلَيْك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَقُلْت: هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَبَيَّنَ أَحْمَد الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْكَلَامُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ يَقُولُ: لَفْظُ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَفْظِي " مُجْمَلٌ " يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُهُ وَيَدْخُلُ فِيهِ صَوْتُهُ. فَإِذَا قِيلَ: لَفْظِي أَوْ تِلَاوَتِي أَوْ قِرَاءَتِي غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ هِيَ الْمَتْلُوُّ أَشْعَرَ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ وَصَوْتَهُ قَدِيمٌ وَأَنَّ مَا قَامَ بِهِ مِنْ الْمَعْنَى وَالصَّوْتِ هُوَ عَيْنُ مَا قَامَ بِاَللَّهِ مِنْ الْمَعْنَى وَالصَّوْتِ وَإِذَا قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ أَوْ تِلَاوَتِي لِلْقُرْآنِ أَوْ لَفْظُ الْقُرْآنِ أَوْ تِلَاوَتُهُ مَخْلُوقَةٌ أَوْ التِّلَاوَةُ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ أَوْ الْقِرَاءَةُ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ أَفْهَمَ ذَلِكَ أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ بِحَالِ وَأَنَّ نِصْفَ الْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ وَنِصْفَهُ كَلَامُ غَيْرِهِ وَأَفْهَمَ ذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَةَ اللَّهِ لِلْقُرْآنِ مُبَايِنَةٌ لِمَقْرُوئِهِ وَتِلَاوَتُهُ لِلْقُرْآنِ مُبَايِنَةٌ لِمُتَلَوِّهِ وَأَنَّ قِرَاءَةَ الْعَبْدِ لِلْقُرْآنِ مُبَايِنَةٌ لِمَقْرُوءِ الْعَبْدِ وَتِلَاوَتُهُ لَهُ مُبَايِنَةٌ لِمُتَلَوِّهِ وَأَفْهَمَ ذَلِكَ أَنَّمَا نَزَلَ إلَيْنَا لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْرُوءَ وَالْمَتْلُوَّ هُوَ كَلَامُ اللَّه وَالْمُغَايَرَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ تَقْتَضِي الْمُبَايَنَةَ فَمَا بَايَنَ كَلَامَهُ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا لَهُ فَلَا يَكُونُ هَذَا الَّذِي أَنْزَلَهُ كَلَامَهُ.

ص: 409

وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ إنَّمَا يَكُونُ بِحَرَكَةِ وَفِعْلٍ تَنْشَأُ عَنْهُ حُرُوفٌ وَمَعَانٍ صَارَ الْكَلَامُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْفِعْلِ وَالْعَمَلِ: تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْحَرَكَةِ وَالْفِعْلِ وَيَخْرُجُ عَنْهُ تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي؛ وَلِهَذَا يَجِيءُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قِسْمًا مِنْهُ تَارَةً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَقَسِيمًا لَهُ أُخْرَى كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَعْمَلُ عَمَلًا فِي هَذَا الْمَكَانِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَلَا سَبَبٌ يُفِيدُ هَلْ يَحْنَثُ بِالْكَلَامِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَذَكَرُوهُمَا رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي بَيَانِ " اللَّفْظِ " أَنَّ الْقِرَاءَةَ قُرْآنٌ وَعَمَلٌ لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا قُرْآنٌ فَهُوَ صَادِقٌ وَمَنْ حَلَفَ إنَّهَا عَمَلٌ فَهُوَ بَارٌّ وَأَخْطَأَ مَنْ أَطْلَقَ: أَنَّ الْقِرَاءَةَ مَخْلُوقَةٌ وَأَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَنَسَبَهُمَا جَمِيعًا إلَى قِلَّةِ الْعِلْمِ وَقُصُورِ الْفَهْمِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ خَفِيَتْ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ لِغُمُوضِهَا؛ فَإِنَّ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَجَدَتْ الْقِرَاءَةَ تُسَمَّى قُرْآنًا فَنَفَتْ الْخَلْقَ عَنْهَا وَالْأُخْرَى وَجَدَتْ الْقِرَاءَةَ فِعْلًا يُثَابُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ فَأَثْبَتَتْ حُدُوثَهُ.

ص: 410

قُلْت: وَالْخَطَأُ فِي هَذَا الْأَصْلِ فِي طَرَفَيْنِ كَمَا أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ الْأَوَّلِ فِي طَرَفَيْنِ. فَفِي الْأَصْلِ الْأَوَّلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ لَهُ كَلَامٌ قَائِمٌ بِهِ وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ كَلَامُهُ إلَّا مَعْنًى مُجَرَّدٌ أَوْ صَوْتٌ مُجَرَّدٌ. وَفِي هَذَا الْأَصْلِ مَنْ قَالَ: كَلَامُهُ لَا يَقُولُهُ غَيْرُهُ أَوْ لَا يَسْمَعُ مِنْ غَيْرِهِ وَمَنْ قَالَ: كَلَامُهُ إذَا أَبْلَغَهُ غَيْرُهُ وَأَدَّاهُ فَحَالُهُ كَحَالِهِ إذَا سَمِعَهُ مِنْهُ وَتَلَاهُ بَلْ كَلَامُهُ يَقُولُهُ: رُسُلُهُ وَعِبَادُهُ وَيَتَكَلَّمُونَ بِهِ وَيَتْلُونَهُ وَيَقْرَءُونَهُ فَهُوَ كَلَامُهُ حَيْثُ تَصَرَّفَ وَحَيْثُ تُلِيَ وَحَيْثُ كُتِبَ وَكَلَامُهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ حَيْثُ تَصَرَّفَ؛ وَهُوَ مَعَ هَذَا فَلَيْسَ حَالُهُ إذَا قَرَأَهُ الْعِبَادُ وَكَتَبُوهُ كَحَالِهِ إذَا قَرَأَهُ اللَّهُ وَسَمِعُوهُ مِنْهُ وَلَا مَنْ يَسْمَعُهُ مِنْ الْقَارِئِ بِمَنْزِلَةِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ الَّذِي سَمِعَ كَلَامَ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " {إذَا سَمِعَ الْخَلَائِقُ الْقُرْآنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ اللَّهِ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ} " بَلْ وَلَا تِلَاوَةُ الرَّسُولِ وَسَمْعُهُ مِنْهُ كَتِلَاوَةِ غَيْرِهِ وَسَمْعِهِ مِنْهُ؛ بَلْ وَلَا تِلَاوَةُ بَعْضِ النَّاسِ وَالسَّمَاعُ مِنْهُ كَتِلَاوَةِ بَعْضِ النَّاسِ وَالسَّمَاعِ مِنْهُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُ. وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أَنْزَلَهُ اللَّهُ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ؛ بَلْ وَقَوْلُ النَّاسِ لِمَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ: هَذَا كَلَامُ فُلَانٍ كَقَوْلِهِمْ لِمِثْلِ قَوْلِهِ: " {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ

ص: 411

امْرِئٍ مَا نَوَى} " هَذَا كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِمِثْلِ قَوْلِهِ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ هَذَا شِعْرُ لَبِيَدِ. فَلَيْسَ قَوْلُهُمْ: هَذَا هُوَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ مُسَاوٍ لَهُ فِي النَّوْعِ كَمَا يُقَالُ: هَذَا السَّوَادُ هُوَ هَذَا السَّوَادُ؛ فَإِنَّ هَذَا يَقُولُونَهُ لِمَا اتَّفَقَ مِنْ الْكَلَامَيْنِ وَالْعِلْمَيْنِ؛ وَالْقُدْرَتَيْنِ وَالشَّخْصَيْنِ. وَيَقُولُونَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ: وَقْعُ الْخَاطِرِ عَلَى الْخَاطِرِ كَوَقْعِ الْحَافِرِ عَلَى الْحَافِرِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ فَهُوَ إنَّمَا هُوَ مِثْلُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} وَهْم يَقُولُونَ: هَذَا هُوَ هَذَا مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الصِّفَاتِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا اخْتِلَافًا غَيْرَ مَقْصُودٍ كَمَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ إذَا اخْتَلَفَتْ صِفَتُهَا هَذِهِ عَيْنُ هَذِهِ وَلَا هُوَ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَمَثَّلَ بِكَلَامِ لِغَيْرِهِ سَوَاءً كَانَ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا مِثْلُ أَنْ يَتَمَثَّلَ الرَّجُلُ بِقَوْلِ لِغَيْرِهِ فَيَصِيرُ مُتَكَلِّمًا بِهِ مُتَشَبِّهًا بِالْمُتَكَلِّمِ بِهِ أَوَّلًا وَهَذَا مِثْلُ أَنْ نَقُولَ قَوْلًا قَالَهُ غَيْرُنَا مُوَافِقِينَ لِذَلِكَ الْقَائِلِ فِي صِحَّةِ الْقَوْلِ. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إنَّ مَنْ قَالَ مَا يُوَافِقُ لَفْظَ الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ

ص: 412

الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ بِسْمِ اللَّهِ وَعِنْدَ الْأَكْلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا وَجَازَ لَهُ ذَلِكَ مَعَ الْجَنَابَةِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَجَعَلَهَا أَفْضَلَ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَهِيَ مِنْ الْقُرْآنِ. وَإِذَا قَالَهَا عَلَى وَجْهِ الذِّكْرِ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا. لَكِنْ هَذَا الْوَجْهُ قَدْ يُضَافُ فِيهِ الْكَلَامُ إلَى الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الثَّانِي تَبْلِيغَ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ الْحَقِيقَةَ ابْتِدَاءً وَالثَّانِي قَالَهَا احْتِذَاءً فَإِذَا تَمَثَّلَ الرَّجُلُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ تَبْلِيغَ شِعْرِهِ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ قِيلَ لَهُ هَذَا كَلَامُ لَبِيَدِ؛ لَكِنَّ الثَّانِيَ قَدْ لَا يَقْصِدُ إلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ابْتِدَاءً لِاعْتِقَادِهِ صِحَّةَ مَعْنَاهُ. وَمِنْ هُنَا تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي " حُرُوفِ الْهِجَاءِ " وَفِي " الْأَسْمَاءِ " الْمُنَزَّلَةِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي " كَلِمَاتٍ " فِي الْقُرْآنِ إذَا تَمَثَّلَ الرَّجُلُ بِهَا وَلَمْ يَقْصِدْ بِهَا الْقِرَاءَةَ هَلْ يُقَالُ: لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً لِأَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ؟ أَوْ يُقَالُ: إذَا لَمْ يَقْصِدُ بِهَا الْقُرْآنَ وَكَلَامَ اللَّهِ فَلَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَتَكُونُ

ص: 413

مَخْلُوقَةً عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ. وَأَمَّا الْإِنْسَانُ إذَا قَالَ مَا هُوَ كَلَامٌ لِغَيْرِهِ يَقْصِدُ تَبْلِيغَهُ وَتَأْدِيَتَهُ أَوْ التَّكَلُّمَ بِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ التَّكَلُّمَ بِكَلَامِ غَيْرِهِ الَّذِي هُوَ الْآمِرُ بِأَمْرِهِ. الْمُخْبِرُ بِخَبَرِهِ؛ الْمُتَكَلِّمُ ابْتِدَاءً بِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ فَهُنَا الْكَلَامُ كَلَامُ الْأَوَّلِ قَطْعًا لَيْسَ كَلَامًا لِلثَّانِي بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنَّمَا وَصَلَ إلَى النَّاسِ بِوَاسِطَةِ الثَّانِي. وَلَيْسَ لِلْكَلَامِ نَظِيرٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَشْتَبِهُ بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مَعْقُولٌ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ كَلَامَ زَيْدٍ الْمَخْلُوقِ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَدِمَ مِثْلًا وَعَدِمَ أَيْضًا مَا قَامَ بِهِ مِنْ الصِّفَةِ فَإِذَا رَوَاهُ عَنْهُ رَاوٍ آخَرُ وَقُلْنَا: هَذَا كَلَامُ زَيْدٍ. فَإِنَّمَا نُشِيرُ إلَى الْحَقِيقَةِ الَّتِي ابْتَدَأَ بِهَا زَيْدٌ وَاتَّصَفَ بِهَا وَهَذِهِ هِيَ تِلْكَ بِعَيْنِهَا: أَعْنِي الْحَقِيقَةَ الصُّورِيَّةَ؛ لَا الْمَادَّةَ؛ فَإِنَّ الصَّوْتَ الْمُطْلَقَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُرُوفِ الصَّوْتِيَّةِ الْمُقَطَّعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا لِلْمُتَكَلِّمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَجْلِ الصَّوْتِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ صَوْتُ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ الْعُجْمِ وَالْجَمَادَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الصُّورَةِ الَّتِي أَلَّفَهَا زَيْدٌ مَعَ تَأْلِيفِهِ لِمَعَانِيهَا. وَوُجُودُ هَذِهِ الصُّورَةِ فِي الْمَادَّتَيْنِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ وُجُودِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَشْخَاصِ فِي الْأَعْيَانِ وَلَا بِمَنْزِلَةِ وُجُودِ الْأَعْرَاضِ فِي الْجَوَاهِرِ وَلَا

ص: 414

هُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِر الصُّوَرِ فِي مَوَادِّهَا الْجَوْهَرِيَّةِ؛ بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا وَلَيْسَ لِكُلِّ حَقِيقَةٍ نَظِيرٌ مُطَابِقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَإِذَا قَالُوا: هَذَا شِعْرُ لَبِيَدِ فَإِنَّمَا يُشِيرُونَ إلَى اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا. ثُمَّ مَعَ هَذَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: أَنَا أَنْشَأْت لَفْظَ هَذَا الشِّعْرِ أَوْ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ إنْشَائِي أَوْ لَفْظِي بِهَذَا الشِّعْرِ مِنْ إنْشَائِي لَكَذَّبَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَالُوا لَهُ: بَلْ أَنْتَ رَوَيْته وَأَنْشَدْته. أَمَّا أَنْ تَكُونَ أَحْدَثْت لَفْظَهُ أَوْ هُوَ مُحْدَثٌ الْبَارِحَةَ بِلَفْظِك؛ أَوْ لَفْظُك بِهِ مُحْدَثٌ الْبَارِحَةَ فَكَذَّبَ؛ لِأَنَّ لَفْظَ هَذَا الشِّعْرِ مَوْجُودٌ مِنْ دَهْرٍ طَوِيلٍ وَإِنْ كُنْت أَنْتَ أَدَّيْته بِحَرَكَتِك وَصَوْتِك فَالْحَرَكَةُ وَالصَّوْتُ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ يَشْرَكُك فِيهِ الْحَيَوَانُ نَاطِقُهُ وَأَعْجَمُهُ فَلَيْسَ لَك فِيهِ حَظٌّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامٌ وَلَا مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامٌ ذَلِكَ الشَّاعِرِ؛ إذْ كَوْنُهُ كَلَامًا أَوْ كَلَامًا لِمُتَكَلِّمِ هُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ؛ إنَّمَا أَدَّيْته بِآلَةِ يَشْرَكُك فِيهَا الْعَجْمَاوَاتُ وَالْجَمَادَاتُ؛ لَكِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ لَك مِنْ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ مَا تَهْتَدِي بِهِ وَيَسِيرُ بِهِ لِسَانُك وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ لِلْعَجْمَاوَاتِ؛ فَجَعَلَ فِعْلُك وَصِفَتَك تُعِينُك عَلَى عَقْلِ الْكَلَامِ وَالتَّكَلُّمِ بِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ فِعْلَ الْعَجَمِ وَصِفَتَهَا كَذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي مَخْلُوقٍ بَلَّغَ كَلَامَ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ فَكَيْفَ الظَّنُّ بِكَلَامِ الْخَالِقِ جل جلاله الَّذِي فَضْلُهُ عَلَى سَائِر الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ

ص: 415

فَإِنَّ لَهُ شَأْنًا آخَرَ يَخْتَصُّ بِهِ لَا يُشَبَّهُ بِتَبْلِيغِ سَائِر الْكَلَامِ كَمَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَا يُشْبِهُ سَائِر الْكَلَامِ وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْخُلُقِ؛ بِخِلَافِ سَائِر مَا يُبَلَّغُ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ؛ فَإِنَّ مِثْلَهُ مَقْدُورٌ فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ هَذَا الْكَلَامِ الْمَسْمُوعِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ؛ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّبْلِيغِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ خَاطَبَنَا بِهِ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي هِيَ مَحَارَاتُ الْعُقُولِ الَّتِي اضْطَرَبَتْ فِيهَا الْخَلَائِقُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا جَوَابُ فُتْيَا لَا يَلِيقُ بِهِ إلَّا التَّنْبِيهُ عَلَى جُمَلِ الْأُمُورِ وَإِثْبَاتُ وُجُوبِ نِسْبَةِ الْكَلَامِ إلَى مَنْ بَدَأَ مِنْهُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ دُونَ مَنْ بَلَّغَهُ عَنْهُ وَأَدَّاهُ وَأَنَّهُ كَلَامُ الْمُتَّصِفِ بِهِ مُبْتَدِئًا حَقِيقَةً سَوَاءً سُمِعَ مِنْهُ أَوْ سُمِعَ مِمَّنْ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ بِفِعْلِهِ وَصَوْتِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ مَخْلُوقَةٌ وَأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَمَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا رَيْبَ فِيهِ وَأَنَّ " الْقُرْآنَ " الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَكْتُبُونَهُ وَيَحْفَظُونَهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تَصَرَّفَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَأَمَّا مَا اقْتَرَنَ بِتَبْلِيغِهِ وَقِرَاءَتِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ. لَكِنْ هَذَا الْمَوْضِعُ فِيهِ اشْتِبَاهٌ وَإِشْكَالٌ لَا تَحْتَمِلُ تَحْرِيرَهُ وَبَسْطَهُ هَذِهِ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا مُسْتَوْفِزٌ عَجْلَانُ يُرِيدُ أَخْذَهَا؛ وَلِأَنَّ فِي

ص: 416

ذَلِكَ مِنْ الدِّقَّةِ وَالْغُمُوضِ مَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ النُّصُوصِ وَبَيَانِ مَعَانِيهَا وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ الَّتِي تُوَضِّحُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. بَلْ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْ حَيْثُ " الْجُمْلَةُ " أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَالْأَئِمَّةَ الْكِبَارَ الَّذِينَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ عَامٌّ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَعْظَمَ عِلْمًا بِهِ وَقِيَامًا بِوَاجِبِهِ مِنْ بَعْضٍ. وَقَدْ غَلِطَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ مِنْ أَكَابِرِ النَّاسِ جَمَاعَاتٌ. وَقَدْ رَدَّ الْإِمَامُ أَحْمَد عَامَّةَ الْبِدَعِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ وَالْأَئِمَّةِ.

فَأَوَّلُ مَا ابْتَدَعَ الْجَهْمِيَّة الْقَوْلَ " بِخَلْقِ الْقُرْآنِ " وَ " نَفْيِ الصِّفَاتِ " فَأَنْكَرَهَا مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ التَّابِعِينَ ثُمَّ تَابِعِي التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَكَفَّرُوا قَائِلَهَا. ثُمَّ ابْتَدَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ الَّذِينَ نَاظَرُوا الْجَهْمِيَّة: الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ مَخْلُوقٌ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَصَاحِفِ وَلَا فِي الصُّدُورِ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَكَلَّمَ بِالصَّوْتِ وَأَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَئِمَّةُ وَقْتِهِ ذَلِكَ. وَقَابَلَهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ؛ فَزَعَمُوا أَنَّ أَلْفَاظَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ ادَّعَوْا أَنَّ بَعْضَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَوْ صِفَاتِهِمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ أَنَّ مَا يَسْمَعُ مِنْ النَّاسِ مِنْ الْقُرْآنِ هُوَ مِثْلُ مَا يَسْمَعُ

ص: 417

مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَأَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَعَامَّةُ أَئِمَّةِ وَقْتِهِ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ. وَإِنْكَارُ جَمِيعِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَرَدُّهَا مَوْجُودٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي الْكُتُبِ الثَّابِتَةِ مِثْلِ " كِتَابِ السُّنَّةِ " لِلْخَلَّالِ وَ " الْإِبَانَةِ " لِابْنِ بَطَّةَ وَ " كُتُبِ الْمِحْنَةِ " الَّتِي رَوَاهَا حَنْبَلٌ وَصَالِحٌ وَ " كِتَابِ السُّنَّةِ " لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد وَ " السُّنَّةِ " للالكائي وَ " السُّنَّةِ " لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْكُتُبِ. فَأَمَّا‌

‌ الرَّدُّ عَلَى " الْجَهْمِيَّة "

الْقَائِلِينَ بِنَفْيِ الصِّفَاتِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ فَفِي كَلَامِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَالْأَئِمَّةِ الْمَشَاهِيرِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَفِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " مِنْ ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا. مِثْلُ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنِ شَاهِينَ واللالكائي وَغَيْرِهِمْ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قِيلَ لَهُ يَوْمَ صفين: حَكَّمْت رَجُلَيْنِ فَقَالَ: مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا مَا حَكَّمْت إلَّا الْقُرْآنَ وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا وَضَعَ الْمَيِّتَ فِي لَحْدِهِ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لَهُ فَوَثَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: مَهْ الْقُرْآنُ مِنْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَرْبُوبِ مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ كَفَّارَةٌ فَمَنْ كَفَرَ بِحَرْفِ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ أَجْمَعَ.

ص: 418

وَمِنْ الْمُسْتَفِيضِ عَنْ سُفْيَانِ بْنِ عُيَيْنَة عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ - وَرُبَّمَا وَقَفَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى سُفْيَانَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ - قَالَ: أَدْرَكْت مَشَايِخَنَا وَالنَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَمَشَايِخُ عَمْرِو مَنْ لَقِيَ عَمْرُو مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ وَابْنِهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: لَيْسَ الْقُرْآنُ بِخَالِقِ وَلَا مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. وَمِثْلَ هَذَا مَأْثُورٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَيُّوبِ السختياني وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَابْنِ الماجشون وَالْأَوْزَاعِي وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وهشيم وَعَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَبِي إسْحَاقَ الفزاري وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَمُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سلام وَأَبِي ثَوْرٍ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَمَنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةً. قَالَ أَبُو الْقَاسِمُ اللالكائي - وَقَدْ سَمَّى عُلَمَاءُ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ وَمَنْ يَلِيهِمْ الَّذِينَ نَقَلَ عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ " - فَهَؤُلَاءِ خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ نَفْسًا مِنْ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ

ص: 419

الْمَرْضِيِّينَ - سِوَى الصَّحَابَةِ - عَلَى اخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَمُضِيِّ السِّنِينَ وَالْأَعْوَامِ وَفِيهِمْ نَحْوٌ مَنْ مِائَةِ إمَامٍ مِمَّنْ أَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِهِمْ وَتَمَذْهَبُوا بِمَذَاهِبِهِمْ وَلَوْ اشْتَغَلْت بِنَقْلِ قَوْلِ الْمُحَدِّثِينَ لَبَلَغْت أَسْمَاؤُهُمْ أُلُوفًا كَثِيرَةً فَنَقَلْت عَنْ هَؤُلَاءِ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ الْمُنْكِرُ وَمَنْ أَنْكَرَ قَوْلَهُمْ اسْتَتَابُوهُ أَوْ أَمَرُوا بِقَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ أَوْ صَلْبِهِ. قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ ثُمَّ " الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ " وَكِلَاهُمَا قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ. وَمِمَّنْ أَفْتَى بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ: مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة وَأَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ الْخَلِيفَةُ وَمَعْمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَمُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ وَوَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَبُوهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد الخريبي وَبِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ - صَاحِبُ أَبِي يُوسُفَ - وَأَبُو مُصْعَبٍ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سلام وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ.

وَكَذَلِكَ ذَمُّ " الْوَاقِفَةِ " وَتَضْلِيلُهُمْ - الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ - مَأْثُورٌ عَنْ جُمْهُورِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ مِثْلِ ابْنِ الماجشون وَأَبِي مُصْعَبٍ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَبِي الْوَلِيدِ وَأَبِي الْوَلِيدِ الْجَارُودِيَّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه،

ص: 420

وَمَنْ لَا يُحْصِي عَدَدُهُ إلَّا اللَّهُ.

وَأَمَّا الْبِدْعَةُ الثَّانِيَةُ - الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ تِلَاوَةُ الْعِبَادِ لَهُ - وَهِيَ " مَسْأَلَةُ اللَّفْظِيَّةِ " فَقَدْ أَنْكَرَ بِدْعَةَ " اللَّفْظِيَّةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتَهُ وَاللَّفْظَ بِهِ مَخْلُوقٌ أَئِمَّةُ زَمَانِهِمْ جَعَلُوهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَبَيَّنُوا أَنَّ قَوْلَهُمْ: يَقْتَضِي الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ تَكْفِيرُهُمْ. وَكَذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةٌ عَنْهُ أَوْ عِبَارَةٌ عَنْهُ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ وَالصُّدُورِ إلَّا كَمَا أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي مُصْعَبٍ الزُّهْرِيّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي الْوَلِيدِ الْجَارُودِيَّ وَمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ وَيَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الدورقي وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو الْعَدَنِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذهلي وَمُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ الطوسي وَعَدَدٍ كَثِيرٍ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَهُدَاتِهِ. وَكَذَلِكَ أَنْكَرَ بِدْعَةَ " اللَّفْظِيَّةِ الْمُثْبِتَةِ " - الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ لَفْظَ الْعِبَادِ أَوْ صَوْتَ الْعِبَادِ بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ يَقُولُونَ إنَّ التِّلَاوَةَ الَّتِي هِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَصَوْتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ - الْأَئِمَّةُ الَّذِينَ بَلَغْتهمْ هَذِهِ

ص: 421

الْبِدْعَةُ: مِثْلُ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ وَأَبِي بَكْرٍ المروذي أَخَصِّ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ بِهِ وَأَخَذَ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ إذْ ذَاكَ: بِبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَالْحَرَمَيْنِ وَالشَّامِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمْ: مِثْلُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقِ وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ وَمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ بُنْدَارٍ وَأَبِي الْحُسَيْنِ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ الطوسي وَيَعْقُوبِ الدورقي وَمُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُخَرِّمِيَّ الْحَافِظِ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ الصاغاني وَالْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيّ وَعَلِيِّ بْنِ دَاوُد القنطري وَمُثَنَّى بْنِ جَامِعٍ الْأَنْبَارِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الأزدي وَالْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الجروي وَعَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْهَيْثَمِ العاقولي وَأَبِي مُوسَى بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ النفروني وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي وَأَبِي الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي الْجَارُودِ وَأَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي مُرَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَحْمَد بْنِ سِنَانٍ الْوَاسِطِيَّ وَعَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ الْمَوْصِلَيَّ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ لَفْظَ الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ أَوْ صَوْتَهُ بِهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْعِبَادِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُرْآنِ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ وَيَأْمُرُونَ بِعُقُوبَتِهِ بِالْهَجْرِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ جَمَعَ بَعْضَ كَلَامِهِمْ فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ "

ص: 422

وَمِنْ الْمَشْهُورِ فِي " كِتَابِ صَرِيحِ السُّنَّةِ " لِمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري وَهُوَ مُتَوَاتِرٌ عَنْهُ لَمَّا ذَكَرَ الْكَلَامَ فِي أَبْوَابِ السُّنَّةِ قَالَ: وَأَمَّا الْقَوْلُ فِي " أَلْفَاظِ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ " فَلَا أَثَرَ فِيهِ نَعْلَمُهُ عَنْ صَحَابِيٍّ مَضَى وَلَا عَنْ تَابِعِيٍّ قَفَا إلَّا عَمَّنْ فِي قَوْلِهِ الشِّفَاءُ وَالْعِفَاءُ وَفِي اتِّبَاعِهِ الرُّشْدُ وَالْهُدَى وَمَنْ يَقُومُ لَدَيْنَا مَقَامَ الْأَئِمَّةِ الْأُولَى: أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ فَإِنَّ أَبَا إسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيَّ حَدَّثَنِي قَالَ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ يَقُولُ " اللَّفْظِيَّةُ " جهمية يَقُولُ اللَّهُ: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} مِمَّنْ يَسْمَعُ؟ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَسَمِعْت جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِنَا - لَا أَحْفَظُ أَسْمَاءَهُمْ - يَحْكُونَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَا قَوْلَ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا يَجُوزُ أَنْ نَقُولَهُ غَيْرُ قَوْلِهِ إذْ لَمْ يَكُنْ لَنَا إمَامٌ نَأْتَمُّ بِهِ سِوَاهُ وَفِيهِ الْكِفَايَةُ وَالْمَقْنَعُ وَهُوَ الْإِمَامُ الْمُتَّبَعُ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ صَالِحُ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي " كِتَابِ الْمِحْنَةِ " تَنَاهَى إلَيَّ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ حَكَى عَنْ أَبِي أَنَّهُ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَأَخْبَرْت أَبِي بِذَلِكَ فَقَالَ: مَنْ أَخْبَرَك فَقُلْت: فُلَانٌ فَقَالَ: ابْعَثْ إلَى أَبِي طَالِبٍ فَوَجَّهْت إلَيْهِ فَجَاءَ وَجَاءَ فوران فَقَالَ لَهُ أَبِي: أَنَا قُلْت لَك: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ وَغَضِبَ

ص: 423

وَجَعَلَ يَرْتَعِدُ فَقَالَ لَهُ: قَرَأْت عَلَيْك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَقُلْت لِي: هَذَا لَيْسَ بِمَخْلُوقِ قَالَ لَهُ: فَلِمَ حَكَيْت عَنِّي أَنِّي قُلْت: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ وَبَلَغَنِي: أَنَّك وَضَعْت ذَلِكَ فِي كِتَابِك وَكَتَبْت بِهِ إلَى قَوْمٍ فَإِنْ كَانَ فِي كِتَابِك فَامْحُهُ أَشَدَّ الْمَحْوِ وَاكْتُبْ إلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَتَبْت إلَيْهِمْ: أَنِّي لَمْ أَقُلْ هَذَا وَغَضِبَ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: تَحْكِي عَنِّي مَا لَمْ أَقُلْ لَك؟ فَجَعَلَ فوران يَعْتَذِرُ لَهُ وَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ مَرْعُوبٌ فَعَادَ أَبُو طَالِبٍ فَذَكَرَ أَنَّهُ حَكَّ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِهِ وَأَنَّهُ كَتَبَ إلَى الْقَوْمِ يُخْبِرُهُمْ؟ أَنَّهُ وَهِمَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْحِكَايَةِ. قَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: كُنْت أَنَا والبستي عِنْدَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فَأَخْرَجَ إلَيْنَا كِتَابَهُ وَقَدْ ضَرَبَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ: كَانَ الْخَطَأُ مِنْ قِبَلِي وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَإِنَّمَا قَرَأْت عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْآنَ فَقَالَ: هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَانَ الْوَهْمُ مِنْ قِبَلِي يَا أَبَا الْعَبَّاسِ وَقَالَ الْخَلَّالُ فِي: " السُّنَّةِ " حَدَّثَنَا الْمَرْوَزِي قَالَ لِي أَبُو عَبْدُ اللَّهِ قَدْ غَيَّظَ قَلْبِي عَلَى ابْنِ شَدَّادٍ قُلْت: أَيُّ شَيْءٍ حَكَى عَنْك؟ قَالَ: حَكَى عَنِّي فِي اللَّفْظِ فَبَلَغَ ابْنَ شَدَّادٍ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ فَجَاءَنَا حمدون بْنُ شَدَّادٍ بِالرُّقْعَةِ فِيهَا مَسَائِلُ فَأَدْخَلَتْهَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَنَظَرَ فَرَأَى فِيهَا: أَنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ - مَعَ مَسَائِلَ فِيهَا - فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فِيهَا كَلَامٌ مَا تَكَلَّمْت بِهِ فَقَامَ مِنْ الدِّهْلِيزِ فَدَخَلَ

ص: 424

فَأَخْرَجَ الْمَحْبَرَةَ وَالْقَلَمَ وَضَرَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مَوْضِعِ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَتَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِخَطِّهِ بَيْنَ السَّطْرَيْنِ: الْقُرْآنُ حَيْثُ تَصَرَّفَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَقَالَ: مَا سَمِعْت أَحَدًا تَكَلَّمَ فِي هَذَا بِشَيْءِ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَقَالَ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ ": أَخْبَرَنِي زَكَرِيَّا بْنُ الْفَرَجِ الْوَرَّاقُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ فوران قَالَ جَاءَنِي صَالِحٌ - وَأَبُو بَكْرٍ المروذي عِنْدِي - فَدَعَانِي إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ: إنَّهُ قَدْ بَلَغَ أَبِي أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقُمْت إلَيْهِ فَتَبِعَنِي صَالِحُ فَدَارَ صَالِحُ مِنْ بَابِهِ فَدَخَلْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَإِذَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ غَضْبَانُ شَدِيدُ الْغَضَبِ بَيِّنٌ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: اذْهَبْ فَجِئْنِي بِأَبِي طَالِبٍ فَجَاءَ أَبُو طَالِبٍ وَجَعَلْت أُسَكِّنُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَبْلَ مَجِيءِ أَبِي طَالِبٍ وَأَقُولُ: لَهُ حُرْمَةٌ فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ - وَهُوَ مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ - فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: حَكَيْت عَنِّي أَنِّي قُلْت: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ فَقَالَ: إنَّمَا حَكَيْت عَنْ نَفْسِي فَقَالَ: لَا تَحْكِ هَذَا عَنْك وَلَا عَنِّي فَمَا سَمِعْت عَالِمًا يَقُولُ هَذَا - أَوْ الْعُلَمَاءَ شَكَّ فوران - وَقَالَ لَهُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَيْثُ تَصَرَّفَ فَقُلْت لِأَبِي طَالِبٍ - وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَسْمَعُ - إنْ كُنْت حَكَيْت هَذَا لِأَحَدِ فَاذْهَبْ حَتَّى تُخْبِرَهُ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ نَهَى عَنْ

ص: 425

هَذَا؟ فَخَرَجَ أَبُو طَالِبٍ فَأَخْبَرَ غَيْرَ وَاحِدٍ - بِنَهْيِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ - مِنْهُمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ زنجويه وَالْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ الْقَطَّانُ وَحَمْدَانُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَرَّاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو عَامِرٍ وَكَتَبَ أَبُو طَالِبٍ بِخَطِّهِ إلَى أَهْلِ نصيبين - بَعْدَ مَوْتِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ - يُخْبِرُهُمْ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ نَهَى أَنْ يُقَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَجَاءَنِي أَبُو طَالِبٍ بِكِتَابِهِ وَقَدْ ضَرَبَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ مِنْ كِتَابِهِ قَالَ زَكَرِيَّا بْنُ الْفَرَجِ: فَمَضَيْت إلَى عَبْدِ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقِ فَأَخَذَ الرُّقْعَةَ فَقَرَأَهَا فَقَالَ لِي: مَنْ أَخْبَرَك بِهَذَا عَنْ أَحْمَد فَقُلْت لَهُ: فوران بْنُ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: الثِّقَةُ الْمَأْمُون عَلَى أَحْمَد قَالَ زَكَرِيَّا: وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ أَخْبَرَ أَبُو بَكْرٍ المروذي عَبْدَ الْوَهَّابِ فَصَارَ عِنْدَ عَبْدِ الْوَهَّابِ شَاهِدَانِ. قَالَ زَكَرِيَّا وَسَمِعْت عَبْدَ الْوَهَّابِ قَالَ: مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ يُهْجَرُ وَلَا يُكَلَّمُ وَيُحَذَّرُ عَنْهُ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ: هُوَ مُبْتَدِعٌ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي الْحَارِثِ قَالَ سَمِعْت رَجُلًا يَقُولُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَلَيْسَ نَقُولُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ بِمَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي وَعَلَى كُلِّ حَالٍ وَجِهَةٍ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: نَعَمْ. وَاسْتِيعَابُ هَذَا يَطُولُ. وَكَذَلِكَ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ إضَافَةِ صَوْتِ

ص: 426

الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ إلَيْهِ مَا يَطُولُ كَمَا جَاءَ الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ بِذَلِكَ: مِثْلُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} " وَقَوْلِهِ: {لَلَّهُ أَشَدُّ أَذْنًا إلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ} " فَذَكَرَ الْخَلَّالُ فِي (كِتَابِ الْقُرْآنِ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ قَالَ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَوْمًا - وَكُنْت سَأَلْته عَنْهُ -: تَدْرِي مَا مَعْنَى مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ؟ قُلْت: لَا. قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَهَذَا مَعْنَاهُ إذَا رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَدْ تَغَنَّى بِهِ وَعَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ: يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ؟ قَالَ: نَعَمْ إنْ شَاءَ رَفَعَهُ " ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أُمِّ هَانِئٍ: {كُنْت أَسْمَعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عَلَى عَرِيشٍ مِنْ اللَّيْلِ} " وَعَنْ صَالِحِ بْنِ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ: " {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} " فَقَالَ: " التَّزْيِينُ " أَنْ تُحَسِّنَهُ. وَعَنْ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْقِرَاءَةِ: فَقَالَ يُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِالْأَلْحَانِ؟ فَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ مُحْدَثٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْجِبُنِي إلَّا أَنْ يَكُونَ صَوْتُ الرَّجُلِ لَا يَتَكَلَّفُهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِيمَا عَلَّقَهُ بِخَطِّهِ عَلَى " جَامِعِ الْخَلَّالِ ": هَذَا يَدُلُّ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى أَنَّ صَوْتَ الْقَارِئِ لَيْسَ هُوَ الصَّوْتَ الْقَدِيمَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إلَى الْقَارِئِ الَّذِي هُوَ طَبْعُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْأَلْحَانَ.

ص: 427

وَأَمَّا مَا فِي كَلَامِ أَحْمَد وَالْأَئِمَّةِ مِنْ إنْكَارِهِمْ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ الْقِرَاءَةَ مَخْلُوقَةٌ وَتَعْظِيمُهُمْ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ فِي الصُّدُورِ قُرْآنٌ وَلَا فِي الْمَصَاحِفِ قُرْآنٌ وَزَعَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ النَّصَارَى وَالْحُلُولِيَّةِ فَإِنْكَارُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ كَثِيرٌ شَائِعٌ مَوْجُودٌ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْفُتْيَا مُحْتَاجَةً إلَى تَقْرِيرِ هَذَا الْأَصْلِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى تَفْصِيلِ الْكَلَامِ فِيهِ؛ بِخِلَافِ الْأَصْلِ الْآخَرِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَوْ ذَكَرْت مَا فِي كَلَامِ أَحْمَد وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ: مِنْ الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَفْظُ الْعَبْدِ أَوْ صَوْتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ يَقُولُ: إنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقَارِي قَدِيمٌ لَطَالَ. وَهَذَا أَبُو نَصْرٍ السجزي قَدْ صَنَّفَ " الْإِبَانَةَ " الْمَشْهُورَ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ التِّلَاوَةَ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَاللَّفْظَ بِالْقُرْآنِ هُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنْكَرَ مَا سِوَى ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ: فَإِنْ اعْتَرَضَ خُصُومُنَا فَقَالُوا: أَنْتُمْ وَإِنْ قُلْتُمْ: الْقِرَاءَةُ قُرْآنٌ وَكَلَامُ اللَّهِ فَلَا تُطْلِقُونَ أَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقَارِي صَوْتُ اللَّهِ؛ بَلْ تَنْسُبُونَهُ إلَى الْقَارِي وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْكُمْ إطْلَاقُ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ الْقُرْآنِ قَالَ أَبُو نَصْرٍ: فَالْجَوَابُ أَنَّ اعْتِصَامَنَا فِي هَذَا الْبَابِ بِظَاهِرِ الشَّرْعِ

ص: 428

وَقَوْلُنَا فِي الْقِرَاءَةِ وَالصَّوْتِ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ وَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ الْقُرْآنَ لَا يَقُولُ: إنَّ هَذِهِ قِرَاءَةُ اللَّهِ وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ بِوَجْهِ: بَلْ يَنْسُبُ الْقِرَاءَةَ إلَى الْقَارِئِ تَوَسُّعًا لِوُجُودِ التَّحْوِيلِ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَقُولُ إنَّ قِرَاءَةَ الْقَارِي قُرْآنٌ وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ؛ فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لَنَا يَقُولُ: الْمَسْمُوعُ مِنْ الْقَارِي قُرْآنٌ وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالْقُرْآنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي اخْتَلَفْنَا فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَكَذَلِكَ يَقُولُ: إنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ قَارِئِ الْقُرْآنِ قِرَاءَةٌ وَقُرْآنٌ وَالشَّرْعُ يُوجِبُ مَا قُلْنَاهُ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا نُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَد عَلَى " خَلْقِ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ " وَ " خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " فَمَوْجُودَةٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سَائِر الْأَئِمَّةِ. وَلَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ شَيْخُ الْإِمَامِ أَحْمَد: مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ أَفَاعِيلِ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ نَعَمْ. وَنَصَّ عَلَى كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَد بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ كَمَا سَيَأْتِي وَفِيمَا خَرَّجَهُ عَلَى " الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " وَهُوَ

ص: 429

مَرْوِيٌّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَجَادَةً (1).

وَقَدْ ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ أَيْضًا فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَنَقَلَ مِنْهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ وَقَدْ حَكَى إجْمَاعَ الْخَلْقِ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَبُو نَصْرٍ السجزي فِي " الْإِبَانَةِ " وَهُوَ مَنْ أَشَدِّ النَّاسِ إنْكَارًا عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ أَلْفَاظَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ أَوْ يَقُولُ: إنَّ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقَارِئِ لَيْسَ هُوَ الْقُرْآنَ. قَالَ أَبُو نَصْرٍ: وَأَمَّا نِسْبَةُ الْأَصْوَاتِ إلَى الْقُرَّاءِ - فِيمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا - وَنِسْبَةُ الْقِرَاءَةِ إلَيْهِمْ وَإِنْ فَرِحَ بِهَا الزَّائِغُونَ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّا لَمْ نَخْتَلِفْ فِي إضَافَةِ الصَّوْتِ إلَى الْإِنْسَانِ وَأَنَّهُ إذَا صَاحَ أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ النَّاسِ أَوْ نَادَى إنْسَانًا فَصَوْتُهُ مَخْلُوقٌ. قَالَ: وَهَذَا لَا يَشْتَبِهُ: وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّ الْمُسْتَمِعَ مِنْ قَارِئِ الْقُرْآنِ مَاذَا يَسْتَمِعُ؟ وَسَاقَ الْكَلَامَ إلَى آخِرِهِ. وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ " الْإِجْمَاعَ " أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ.

فَصْلٌ:

وَإِنَّمَا نَبَّهْت عَلَى أَصْلِ مَقَالَةِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَسَائِر أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ فِي " مَسْأَلَةِ تِلَاوَتِنَا لِلْقُرْآنِ " لِأَنَّهَا أَصْلُ مَا وَقَعَ مِنْ الِاضْطِرَابِ

(1)

في المطبوع: وحاده، وعلق الجامع رحمه الله في الحاشية: كذا بالأصل

قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 109):

وهو تصحيف صوابه: (وجادة)، وهي من طرق التحمل في الرواية، وقد ذكر هذا الشيخ رحمه الله في غير موضع كما قال في (الدرء) 2/ 116 (وقال الخلال: أنبأنا الخضر بن أحمد المثنى الكندي: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: وجدت هذا الكتاب بخط أبي فيما احتج به على الجهمية)

ص: 430

وَالتَّنَازُعِ فِي هَذَا الْبَابِ مِثْلُ " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " هَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ وَ " مَسْأَلَةِ نُورِ الْإِيمَانِ " وَ " الْهُدَى " وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَكْثُرُ تَنَازُعُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فِيهَا وَيَتَمَسَّكُ كُلُّ فَرِيقٍ بِبَعْضِ مِنْ الْحَقِّ فَيَصِيرُونَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ مُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُؤْمِنُ بِبَعْضِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضِ وَهُمْ عَامَّتُهُمْ فِي جَهْلٍ وَظُلْمٍ: جَهْلٍ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالْحَقِّ وَظُلْمِ الْخَلْقِ وَيَقَعُ بِسَبَبِهَا بَيْنَ الْأُمَّةِ مِنْ التَّكْفِيرِ وَالتَّلَاعُنِ مَا يَفْرَحُ بِهِ الشَّيْطَانُ وَيَغْضَبُ لَهُ الرَّحْمَنُ وَيَدْخُلُ بِهِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ وَيَخْرُجُ عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ والائتلاف. وَأَصْلُ ذَلِكَ الْقُرْبُ وَالِاتِّصَالُ الْحَاصِلُ بَيْنَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ وَبَيْنَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ؛ فَلِعُسْرِ الْفَرْقِ وَالتَّمْيِيزِ يَمِيلُ قَوْمٌ إلَى زِيَادَةٍ فِي الْإِثْبَاتِ. وَآخَرُونَ إلَى زِيَادَةٍ فِي النَّفْيِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ: النَّهْيُ عَنْ الْإِثْبَاتِ الْعَامِّ وَالنَّفْيِ الْعَامِّ؛ بَلْ إمَّا الْإِمْسَاكُ عَنْهُمَا - وَهُوَ الْأَصْلَحُ لِلْعُمُومِ وَهُوَ جُمَلُ الِاعْتِقَادِ. وَأَمَّا التَّفْصِيلُ الْمُحَقَّقُ فَهُوَ لِذِي الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ لِعُمُومِ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا أَصْلَانِ:

ص: 431

أَحَدُهُمَا أَنَّ " أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ " وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهَا الْأَئِمَّةُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَسَائِر أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْمُخَالِفِينَ لِلْقَدَرِيَّةِ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مُحْدَثَةٌ. وَ (الْأَصْلُ الثَّانِي مَسْأَلَةُ " تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتُهُ وَاللَّفْظُ بِهِ " هَلْ يُقَالُ إنَّهُ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ وَالْإِمَامُ أَحْمَد قَدْ نَصَّ عَلَى رَدِّ الْمُقَالَتَيْنِ هُوَ وَسَائِر أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِنْ الْمُسْتَقْدِمِينَ وَالْمُسْتَأْخِرِين؛ لَكِنْ كَانَ رَدُّهُ عَلَى " اللَّفْظِيَّةِ النَّافِيَةِ " أَكْثَرَ وَأَشْهَرَ وَأَغْلَظَ لِوَجْهَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ يُفْضِي إلَى زِيَادَةِ التَّعْطِيلِ وَالنَّفْيِ وَجَانِبُ النَّفْيِ - أَبَدًا - شَرٌّ مِنْ جَانِبِ الْإِثْبَاتِ؛ فَإِنَّ الرُّسُلَ جَاءُوا بِالْإِثْبَاتِ الْمُفَصَّلِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ وَبِالنَّفْيِ الْمُجْمَلِ: فَوَصَفُوهُ بِالْعِلْمِ وَالرَّحْمَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْكَلَامِ وَالْعُلُوِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ وَفِي النَّفْيِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} . وَأَمَّا الْخَارِجُونَ عَنْ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ: مِنْ الصَّابِئَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ تَجَهَّمَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ فَطَرِيقَتُهُمْ " النَّفْيُ الْمُفَصَّلُ " لَيْسَ كَذَا لَيْسَ كَذَا وَفِي الْإِثْبَاتُ أَمْرٌ مُجْمَلٌ وَلِهَذَا يُقَالُ: الْمُعَطِّلُ أَعْمَى وَالْمُشَبِّهُ أَعْشَى. فَأَهْلُ التَّشْبِيهِ مَعَ ضَلَالِهِمْ خَيْرٌ مِنْ أَهْلِ التَّعْطِيلِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ أَحْمَد إنَّمَا اُبْتُلِيَ بالْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ فَهُمْ خُصُومُهُ،

ص: 432

فَكَانَ هَمُّهُ مُنْصَرِفًا إلَى رَدِّ مَقَالَاتِهِمْ؛ دُونَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ مَنْ هُوَ دَاعٍ إلَى زِيَادَةٍ فِي الْإِثْبَاتِ؛ كَمَا ظَهَرَ مَنْ كَانَ يَدْعُو إلَى زِيَادَةٍ فِي النَّفْيِ. وَالْإِنْكَارُ يَقَعُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَالْبُخَارِيُّ لَمَّا اُبْتُلِيَ " بِاللَّفْظِيَّةِ الْمُثْبِتَةِ " ظَهَرَ إنْكَارُهُ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي تَرَاجِمِ آخِرِ " كِتَابِ الصَّحِيحِ " وَكَمَا فِي " كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ " مَعَ أَنَّهُ كَذَّبَ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَأَظُنُّهُ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ.

فَصْلٌ:

وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى نَفْسِ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ اللالكائي فِي " أُصُولِ السُّنَّةِ " قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ؛ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: قُلْت لَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: إنَّ النَّاسَ قَدْ وَقَعُوا فِي الْقُرْآنِ فَكَيْفَ أَقُولُ؟ فَقَالَ أَلَيْسَ أَنْتَ مَخْلُوقًا؟ قُلْت: نَعَمْ قَالَ: فَكَلَامُك مِنْك مَخْلُوقٌ؟ قُلْت: نَعَمْ قَالَ: أَفَلَيِسَ الْقُرْآنُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ؟ قُلْت: نَعَمْ قَالَ: وَكَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ؟ قُلْت: نَعَمْ قَالَ: فَيَكُونُ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ.

ص: 433

بَيَّنَ أَحْمَد لِلسَّائِلِ: أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ وَقَائِمٌ بِهِ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِالْمُتَكَلِّمِ وَلَا قَائِمٍ بِهِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ كَلَامَك أَيُّهَا الْمَخْلُوقُ مِنْك؛ لَا مِنْ غَيْرِك فَإِذَا كُنْت أَنْتَ مَخْلُوقًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُك أَيْضًا مَخْلُوقًا وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرَ مَخْلُوقٍ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ مِنْهُ وَبِهِ مَخْلُوقًا. وَقَصْدُهُ بِذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى " الْجَهْمِيَّة " الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ مِنْ اللَّهِ وَلَا مُتَّصِلٌ بِهِ. فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ مُتَكَلِّمًا وَلَا هُوَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ وَلَا هُوَ مُرَادُ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْإِخْبَارِ عَنْ أَنَّ اللَّهَ قَالَ وَيَقُولُ وَتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَنَادَى وَنَاجَى وَدَعَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ عَنْ اللَّهِ رُسُلُهُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} وَقَالَ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} . وَلَيْسَ الْقُرْآنُ عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا حَتَّى يُقَالَ: هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ وَالْإِرَادَةِ وَالنَّظَرِ وَالسَّمْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ لَا يَقُومُ إلَّا بِمَوْصُوفِ وَكُلُّ مَعْنًى لَهُ اسْمٌ

ص: 434

وَهُوَ قَائِمٌ بِمَحَلِّ وَجَبَ أَنْ يُشْتَقَّ لِمَحَلِّهِ مِنْهُ اسْمٌ وَأَنْ لَا يُشْتَقَّ لِغَيْرِ مَحَلِّهِ مِنْهُ اسْمٌ. فَكَمَا أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ إذَا قَامَ بِمَوْصُوفِ وَجَبَ أَنْ يُشْتَقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمُ الْحَيِّ وَالْعَالَمِ وَالْقَادِرِ؛ وَلَا يُشْتَقُّ الْحَيُّ وَالْعَالَمُ وَالْقَادِرُ لِغَيْرِ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ وَالْكَلَامُ وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ وَالرِّضَا وَالرَّحْمَةُ وَالْغَضَبُ وَالْإِرَادَةُ وَالْمَشِيئَةُ إذَا قَامَ بِمَحَلِّ وَجَبَ أَنْ يُشْتَقَّ لِذَلِكَ الْمَوْصُوفِ مِنْهُ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ فَيُقَالُ: هُوَ الصَّادِقُ وَالشَّهِيدُ وَالْحَكِيمُ وَالْوَدُودُ وَالرَّحِيمُ وَالْآمِرُ وَلَا يُشْتَقُّ لِغَيْرِهِ مِنْهُ اسْمٌ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ سبحانه وتعالى هُوَ الْقَائِلَ بِنَفْسِهِ: {أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا} بَلْ أَحْدَثَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْآمِرَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَلَا الْمُخْبِرَ بِهَذَا الْخَبَرِ وَلَكَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْآمِرَ بِهَذَا الْأَمْرِ الْمُخْبِرَ بِهَذَا الْخَبَرِ وَذَلِكَ الْمَحَلُّ: إمَّا الْهَوَاءُ وَإِمَّا غَيْرُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَحَلُّ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْقَائِلُ لِمُوسَى: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا: مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ. وَيَسْتَعْظِمُونَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا يَعْظُمُ عَلَيْهِمْ أَنْ تَقُومَ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ " أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ " - وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ: مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ

ص: 435

وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَطَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ: مِنْ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ - أَنَّ كَوْنَ اللَّهِ سبحانه وتعالى خَالِقًا وَرَازِقًا وَمُحْيِيًا وَمُمِيتًا وَبَاعِثًا وَوَارِثًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ؛ لَيْسَ مَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ فَالْخَلْقُ فِعْلُ اللَّهِ الْقَائِمُ بِهِ وَالْمَخْلُوقُ هُوَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْهُ. وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ " أَهْلِ الْكَلَامِ " مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: مِنْ الْفُقَهَاءِ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ مِنْ أَفْعَالِهِ وَإِنَّمَا الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ أَوْ مُجَرَّدُ نِسْبَةٍ وَإِضَافَةٍ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ وَأَوَّلُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ حَالُ الذَّاتِ الَّتِي تَخْلُقُ وَتَرْزُقُ أَوْ لَا تَخْلُقُ وَلَا تَرْزُقُ سَوَاءً. وَبِهَذَا نَقَضَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مَنْ نَاظَرَهَا مَنَّ الصفاتية الْأَشْعَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ؛ لَمَّا اسْتَدَلَّتْ الصفاتية بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ " الْقَاعِدَةِ الشَّرِيفَةِ " فَقَالُوا: يَنْتَقِضُ عَلَيْكُمْ بِالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ؛ فَإِنَّ الْخَلْقَ وَالرِّزْقَ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ وَقَدْ اُشْتُقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمُ الْخَالِقِ وَالرَّازِقِ؛ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ صِفَةُ فِعْلٍ أَصْلًا فَكَذَلِكَ الصَّادِقُ وَالْحَكِيمُ وَالْمُتَكَلِّمُ وَالرَّحِيمُ وَالْوَدُودُ وَهَذَا النَّقْضُ لَا يَلْزَمُ جَمَاهِيرَ الْأُمَّةِ وَعَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ الْبَابَ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا بِقِدَمِ مَخْلُوقَاتِهِ أَوْ مَفْعُولَاتِهِ سَوَاءً قِيلَ: أَنَّ نَفْسَ فِعْلِهِ الْقَائِمِ بِهِ قَدِيمٌ فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ

ص: 436

الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَالصُّوفِيَّةِ - أَوْ يَقُولُونَ لَهُ عِنْدَ إحْدَاثِ الْمَخْلُوقَاتِ أَحْوَالٌ وَنِسَبٌ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ: الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ كَالْقَوْلِ فِي مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَسَائِر الصفاتية أَنَّهَا قَدِيمَةٌ فَلَيْسَتْ مُرَادَاتُهُ قَدِيمَةً وَكَذَلِكَ صِفَةُ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَ الْخَالِقِ وَالرَّازِقِ الْفَاطِرِ الْمُحْيِي الْمُمِيتِ الْهَادِي النَّصِيرِ لَيْسَ حَالُهُ فِي نَفْسِهِ كَحَالِهِ لَوْ لَمْ يُبْدِعْ هَذِهِ الْأُمُورَ؛ وَلِهَذَا قَالَ سبحانه وتعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} . فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَغَيْرِ الْخَالِقِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْقَادِرِ وَغَيْرِ الْقَادِرِ. وَالْمُخَالِفُ يَقُولُ إنَّمَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِالْقُدْوَةِ الَّتِي تَتَنَاوَلُ مَا يَخْلُقُهُ وَمَا لَا يَخْلُقُهُ سَوَاءً فِي نَفْسِهِ كَانَ خَالِقًا أَوْ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا لَيْسَ لَهُ مِنْ كَوْنِهِ خَالِقًا " صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ " لَا صِفَةُ كَمَالٍ وَلَا صِفَةُ وُجُودٍ مُطْلَقٍ كَمَا لَهُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا. وَنُصُوصُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تُوجِبُ أَنْ تَكُونَ أَسْمَاءُ أَفْعَالِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الَّتِي تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِهَا مَحْمُودًا مُثْنَى عَلَيْهِ مُمَجَّدًا؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا ذِكْرُ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " وَإِنَّمَا هِيَ طَرْدُ حُجَّةِ

ص: 437

الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ الثِّقَاتِ وَسَائِر الصفاتية؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِي " كِتَابِ الْمِحْنَةِ ": لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا غَفُورًا. فَبَيَّنَ اتِّصَافَهُ بِالْعِلْمِ - وَهُوَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ مَحْضَةٌ - وَ " بِالْمَغْفِرَةِ " وَهِيَ مِنْ " الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ " وَالْكَلَامُ الَّذِي يُشْبِهُ هَذَا وَهَذَا وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِيمَا خَرَّجَهُ فِي " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ جَهْمٍ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ؛ وَلَكِنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ. قَالَ أَحْمَد قُلْنَا لَهُ: وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ كَلَامُهُمْ مَخْلُوقٌ فَفِي مَذْهَبِكُمْ كَانَ اللَّهُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ الْكَلَامَ وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ لَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى خَلَقَ لَهُمْ كَلَامًا فَقَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ وَكَذَلِكَ ذَكَرُوا فِي " الْمِحْنَةِ " فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُنَاظَرَةِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} قَالَ: فَإِنْ يَكُنْ الْقَوْلُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ أَحْمَد إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ النَّاسِ فَبُطْلَانُ هَذَا يَعْلَمُهُ كُلُّ عَاقِلٍ بَلَغَهُ شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِ أَحْمَد وَقَائِلُ هَذَا إلَى الْعُقُوبَةِ الْبَلِيغَةِ الَّتِي يَفْتَرِي بِهَا عَلَى الْأَئِمَّةِ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى جَوَابِهِ؛ فَإِنَّ

ص: 438

الْإِمَامَ أَحْمَد صَارَ مَثَلًا سَائِرًا يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْمِحْنَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ حَتَّى صَارَ اسْمُ الْإِمَامِ مَقْرُونًا بِاسْمِهِ فِي لِسَانِ كُلٍّ أَحَدٍ فَيُقَالُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد. هَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد. لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} فَإِنَّهُ أُعْطِيَ مِنْ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ. وَقَدْ تَدَاوَلَهُ " ثَلَاثَةُ خُلَفَاءَ " مُسَلَّطُونَ مِنْ شَرْقِ الْأَرْضِ إلَى غَرْبِهَا وَمَعَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْقُضَاةِ وَالْوُزَرَاءِ وَالسُّعَاةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْوُلَاةِ مَنْ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ. فَبَعْضُهُمْ بِالْحَبْسِ وَبَعْضُهُمْ بِالتَّهْدِيدِ الشَّدِيدِ بِالْقَتْلِ وَبِغَيْرِهِ وَبِالتَّرْغِيبِ فِي الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ وَبِالضَّرْبِ وَبَعْضُهُمْ بِالتَّشْرِيدِ وَالنَّفْيِ وَقَدْ خَذَلَهُ فِي ذَلِكَ عَامَّةُ أَهْلِ الْأَرْضِ - حَتَّى أَصْحَابُهُ الْعُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَالْأَبْرَارُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُعْطِهِمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً مِمَّا طَلَبُوهُ مِنْهُ وَمَا رَجَعَ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلَا كَتَمَ الْعِلْمَ وَلَا اسْتَعْمَلَ التَّقِيَّةَ؛ بَلْ قَدْ أَظْهَرَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَآثَارِهِ وَدَفَعَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِذَلِكَ مَا لَمْ يَتَأَتَّ مِثْلُهُ لِعَالِمِ: مِنْ نُظَرَائِهِ وَإِخْوَانِهِ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ شُيُوخِ الشَّامِ: لَمْ يُظْهِرْ أَحَدٌ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَظْهَرَهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَخَافُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي لَا قَدْرَ لَهَا؟

ص: 439

وَ " أَيْضًا " فَمِنْ أُصُولِهِ أَنَّهُ لَا يَقُولُ فِي الدِّينِ قَوْلًا مُبْتَدَعًا وَقَدْ جَعَلُوا يُطَالِبُونَهُ بِمَا ابْتَدَعُوهُ فَيَقُولُ لَهُمْ: كَيْفَ أَقُولُ مَا لَمْ يُقَلْ فَكَيْفَ يَكْتُمُ كَلِمَة مَا قَالَهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ أَحْمَد بْنَ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيَّ مِنْ خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ وَأَعْيَانِهِمْ فَمَا الْمُوجِبُ لِأَنْ يَسْتَعْمِلَ التَّقِيَّةَ مَعَهُ. وَ " أَيْضًا " فَلَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى أَنْ يَقُولَ: كَلَامُ الْآدَمِيِّ مَخْلُوقٌ وَإِنَّمَا هُوَ ذَكَرَ ذَلِكَ مُسْتَدِلًّا بِهِ ضَارِبًا بِهِ الْمَثَلَ فَكَيْفَ يَبْتَدِئُ بِكَلَامِ هُوَ عِنْدَهُ بَاطِلٌ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ أَحَدٌ وَ " أَيْضًا " فَقَدْ كَانَ يَسَعُهُ أَنْ يَسْكُتَ عَنْ هَذَا؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا خَافَ مِنْ إظْهَارِ قَوْلٍ كَتَمَهُ. أَمَّا إظْهَارُهُ لِقَوْلِ لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُ فَهَذَا لَا يَفْعَلُهُ أَقَلُّ النَّاسِ عَقْلًا وَعِلْمًا وَدِينًا. فَمَنْ يَسُبُّ " الْإِمَامَ أَحْمَد " الَّذِي مَوْقِفُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ فَوْقَ مَا يَصِفُهُ الْوَاصِفُ؛ وَيَعْرِفُهُ الْعَارِفُ فَقَدْ اسْتَوْجَبَ مِنْ غَلِيظِ الْعُقُوبَةِ مَا يَكُونُ نَكَالًا لِكُلِّ مُفْتَرٍ كَاذِبٍ رَاجِمٍ بِالظَّنِّ قَاذِفٍ قَائِلٍ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَأَئِمَّتِهِمْ مَا لَا يَقُولُهُ الْعَدُوُّ الْمُنَافِقُ. وَ " أَيْضًا " فَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِيمَا صَنَّفَهُ مِنْ " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ

ص: 440

وَالْجَهْمِيَّة " وَهُوَ فِي الْحَبْسِ وَكَتَبَهُ بِخَطِّهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا أَظْهَرَهُ لِأَعْدَائِهِ: الَّذِينَ يَحْتَاجُ غَيْرُهُ إلَى أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَعَهُمْ التَّقِيَّةَ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْبَحُ مِنْ قَوْلِ الرَّوَافِضِ فِيمَا ثَبَتَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَهُ وَفَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّقِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد صَنَّفَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ زَنَادِقَةٌ فَأَيُّ تَقِيَّةٍ تَكُونُ لَهُمْ مَعَ هَذَا وَهُوَ يُجَاهِدُهُمْ بِبَيَانِهِ وَبَنَانِهِ وَقَلَمِهِ وَلِسَانِهِ؟

فَصْلٌ:

شُبْهَةُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ وَجَدُوا النَّاسَ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي " حُرُوفِ الْمُعْجَمِ " وَ " أَسْمَاءُ الْمَخْلُوقَاتِ ". فَإِنَّ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ تَكَلَّمُوا فِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ وَالْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَقَالَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ: كَابْنِ حَامِدٍ وَأَبِي نَصْرٍ السجزي وَالْقَاضِي فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ: إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَقَالُوا: الْحُرُوفُ حَرْفَانِ. وَقَالَ طَوَائِفَ وَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ: كَالْقَاضِي يَعْقُوبَ البرزبيني وَالشَّرِيفِ أَبِي الْفَضَائِلِ الزَّيْدِيِّ الْحَرَّانِي وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ سمعون وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ وَحَكَاهُ عَنْ أَبِيهِ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ الْأَنْصَارِيِّ وَالشَّيْخِ عَبْدِ

ص: 441

الْقَادِرِ وَابْنِ الزَّاغُونِي وَغَيْرِهِمْ: الْحَرْفُ حَرْفٌ وَاحِدٌ وَحُرُوفُ الْمُعْجَمِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ حَيْثُ تَصَرَّفَتْ؛ لِأَنَّهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَحَقِيقَةُ الْحَرْفِ وَاحِدَةٌ لَا تَخْتَلِفُ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد رضي الله عنه الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ قَالَ: بِخَلْقِ الْحُرُوفِ وَإِنَّهُ لَمَّا حُكِيَ لَهُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْحُرُوفَ سَجَدَتْ لَهُ إلَّا الْأَلِفُ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: هَذَا كُفْرٌ. وَرُوِيَ إنْكَارُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَالْأَوَّلُونَ لَا يُنَازِعُونَ فِي هَذَا؛ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْحُرُوفَ مَخْلُوقَةٌ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ دَخَلَ فِيهِ حُرُوفُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَهُمْ يَخُصُّونَ الْكَلَامَ فِي الْحُرُوفِ الْمَوْجُودَةِ فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ دُونَ الْحُرُوفِ الْمَوْجُودَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ: حَقِيقَةُ الْحُرُوفِ وَالِاسْمِ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَاتٍ مَوْجُودَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَقَدْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُ الْمَخْلُوقِينَ. فَالْمُتَكَلِّمُ تَارَةً يَقْصِدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ غَيْرِهِ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي لَفْظِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ وَهُوَ مَا دُونُ السُّورَةِ الْقَصِيرَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَحَدَّى الْخَلْقَ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةِ مِثْلِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَنْ يَفْعَلُوا. قَالَ الْأَوَّلُونَ: فَمُوَافَقَةُ لَفْظُ الْكَلَامِ لِلَفْظِ الْكَلَامِ لَا يُوجِبُ أَنْ

ص: 442

يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا حُكْمُ الْآخَرِ فِي النِّسْبَةِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ الْمَخْلُوقِ؛ بِحَيْثُ يُنْسَبُ أَحَدُهُمَا إلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْآخَرُ فَكَيْفَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَالِقِ؟ بَلْ {لَمَّا كَتَبَ مُسَيْلِمَةُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ إلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ رَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ} كَانَ اللَّفْظُ بِرَسُولِ اللَّهِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ سَوَاءً: مِنْ أَحَدِهِمَا صِدْقٌ - وَمِنْ أَعْظَمِ الصِّدْقِ - وَمِنْ الْآخَرِ كَذِبٌ - وَمِنْ أَقْبَحِ الْكَذِبِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ الْكُفَّارِ مَقَالَاتِ سُوءٍ فِي كِتَابِهِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا} وَقَوْلِهِمْ: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} وَ {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ وَقَدْ حَكَاهَا اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِذَا تَكَلَّمْنَا بِمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ كُنَّا مُتَكَلِّمِينَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَلَوْ حَكَيْنَاهَا عَنْهُمْ ابْتِدَاءً لَكُنَّا قَدْ حَكَيْنَا كَلَامَهُمْ الْكَذِبَ الْمَذْمُومَ. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَوْ دعاه جَاز لَهُ ذَلِكَ مَعَ الْجَنَابَةِ وَإِنْ وَافَقَ لَفْظَ الْقُرْآنِ إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْقِرَاءَةَ. وَقَالُوا: لَوْ تَكَلَّمَ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ يَقْصِدُ مُجَرَّدَ خِطَابِ الْآدَمِيِّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ وَالصَّلَاةُ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ وَإِنْ قَصَدَ مَعَ تَنْبِيهِ الْغَيْرِ الْقِرَاءَةَ صَحَّتْ صِلَاتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا لَوْ لَمْ

ص: 443

يَقْصِدْ إلَّا الْقِرَاءَةَ. وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ تَبْطُلُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَة. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَسْأَلَةُ الْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ وَتَنْبِيهُ الدَّاخِلِ بِآيَةِ مِنْ الْقُرْآنِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّاهُ لَيْسَ هُوَ اسْمًا لِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى: هُوَ إنْشَاءٌ وَإِخْبَارٌ وَالْإِنْشَاءُ فِيهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَمْرَ زَيْدٍ لَيْسَ هُوَ أَمْرَ عَمْرٍو وَلَا حُكْمُهُ حُكْمُهُ وَإِنْ اتَّفَقَ اللَّفْظُ وَكَذَلِكَ اخْتِيَارُ زَيْدٍ لَيْسَ هُوَ اخْتِيَارَ عَمْرٍو وَلَا حُكْمُهُ حُكْمُهُ وَإِنْ اتَّفَقَ اللَّفْظُ. فَالْآمِرُ الْمُطَاعُ الْحَكِيمُ إذَا أَمَرَ بِأَمْرِ كَانَ لَهُ حُكْمٌ خِلَافُ مَا إذَا أَمَرَ بِهِ الْجَاهِلُ الْعَاجِزُ وَإِنْ اتَّفَقَ لَفْظُهُمَا وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ الْعَالِمُ الصَّادِقُ إذَا أَخْبَرَ بِخَبَرِ كَانَ حُكْمُهُ خِلَافَ مَا إذَا أَخْبَرَ بِهِ الْجَاهِلُ الْكَاذِبُ وَإِنْ اتَّفَقَ لَفْظُهُمَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ أَدْخَلَ فِي كَلَامٍ لَهُ بَعْضَ لَفْظٍ أَدْخَلَهُ غَيْرُهُ فِي كَلَامِهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ كَلَامِ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ شَبِيهًا بِالْآخَرِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَتَبَ حُرُوفًا تُشْبِهُ حُرُوفَ الْمُصْحَفِ كَتَبَهَا كَلَامًا آخَرَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُرُوفِ الْمُصْحَفِ. وَقَالَ الْآخَرُونَ مُجَرَّدُ الْمُوَافَقَةِ فِي اللَّفْظِ لَا يُوجِبُ أَنْ يُجْعَلَ حُكْمُ

ص: 444

أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ حُكْمَ الْآخَرِ لَكِنْ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَصْلًا سَابِقًا إلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ وَالْآخَرُ إنَّمَا احْتَذَى فِيهِ حَذْوَهُ وَمِثَالُهُ: كَانَ اللَّفْظُ وَالْكَلَامُ مَنْسُوبًا إلَى الْأَوَّلِ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ لَبِيَدِ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ أَوْ بِقَوْلِهِ: وَيَأْتِيك بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْ أَوْ بِمَثَلِ مِنْ الْأَمْثَالِ السَّائِرَةِ كَقَوْلِهِ: " عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا " وَ " يَدَاك أَوْكَتَا وَفُوك نَفَخَ " وَكُلُّ الصَّيْدِ فِي جَوْفِ الْفَرَا " وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا الْكَلَامُ هُوَ تَكَلَّمَ بِهِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ؛ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّبْلِيغِ عَنْ غَيْرِهِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى قَائِلِهِ الْأَوَّلِ فَهَكَذَا الْحُرُوفُ الْمَوْجُودَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَإِنْ أَدْخَلَهَا النَّاسُ فِي كَلَامِهِمْ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُمْ فَأَصْلُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْأَوَّلُونَ: هُنَا مَقَامَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ مِمَّنْ اسْتَفَادَهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَهَذِهِ الدَّعْوَى الْعَامَّةُ تَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ؛ فَإِنَّ تَعْلِيمَ اللَّهِ لِآدَمَ الْأَسْمَاءَ أَوْ إنْزَالَهُ كُتُبَهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَنْطِقْ غَيْرُ آدَمَ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعُ

ص: 445

الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَنْطِقُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهُ بِلِسَانِهِمْ الَّذِي كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ.

الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ نَطَقَ بِهَا إلَّا مُسْتَفِيدًا لَهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ؛ لَكِنْ إذَا أَنْشَأَ بِهَا كَلَامًا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهَا قِرَاءَةَ كَلَامِ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْجُمَلِ الْمُرَكَّبَةِ وَأَوْلَى. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ. قَالَ الْآخَرُونَ - الْقَائِلُونَ بِأَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ مُطْلَقًا - لَنَا فِي الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ قَوْلَانِ. مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ فِي الْحُرُوفِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ وَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ ابْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ عَمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَمَنْ عَمَّمَ ذَلِكَ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ. (إحْدَاهُمَا أَنَّ مَبْدَأَ اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّوْقِيفِ خِطَابُ اللَّهِ بِهَا لَا تَعْرِيفُهُ بِعِلْمِ ضَرُورِيٍّ وَهَذَا الْمَوْضِعُ قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَسَائِر الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ.

ص: 446

فَقَالَ قَوْمٌ: إنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَطَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد؛ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ فورك وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ قَوْمٌ: بَعْضُهَا تَوْقِيفِيٌّ وَبَعْضُهَا اصْطِلَاحِيٌّ. وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ: مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ فِيهَا هَذَا وَهَذَا وَلَا نَجْزِمُ بِشَيْءِ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَانِي وَغَيْرِهِمَا. وَلَمْ يَقُلْ: إنَّهَا كُلَّهَا اصْطِلَاحِيَّةٌ إلَّا طَوَائِفُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ - وَرَأْسُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَبُو هَاشِمٍ ابْنُ الجبائي. وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّهَا " تَوْقِيفِيَّةٌ " تَنَازَعُوا: هَلْ التَّوْقِيفُ بِالْخِطَابِ أَوْ بِتَعْرِيفِ ضَرُورِيٍّ أَوْ كِلَيْهِمَا؟ فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ وَإِنَّ التَّوْقِيفَ بِالْخِطَابِ فَإِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ؛ لِأَنَّهَا كُلَّهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لَكِنْ نَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ فِي أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ مَا هُوَ مُرْتَجَلٌ وَضَعَهُ النَّاسُ ابْتِدَاءً فَيَكُونُ التَّرَدُّدُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ. وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ تَعْلِيمَ اللَّهِ لِآدَمَ بِالْخِطَابِ لَا يُوجِبُ بَقَاءَ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ بِأَلْفَاظِهَا فِي ذُرِّيَّتِهِ؛ بَلْ الْمَأْثُورُ أَنَّ أَهْلَ سَفِينَةِ نُوحٍ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ السَّفِينَةِ أُعْطِيَ كُلُّ قَوْمٍ لُغَةً وَتَبَلْبَلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا تَجَاذُبٌ وَالنِّزَاعُ فِيهَا بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَسَائِر أَهْلِ السُّنَّةِ يَعُودُ إلَى نِزَاعٍ

ص: 447

لَفْظِيٍّ فِيمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ النِّزَاعُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ مَعْنَوِيٌّ. وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي قَالَ الْحَرْفُ حَرْفٌ وَاحِدٌ وَإِنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً؛ إنَّمَا مَقْصُودُهُ بِذَلِكَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَأَنَّهَا مُنْتَزَعَةٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَأَنَّهَا مَادَّةُ لَفْظِ كَلَامِ اللَّهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ. فَأَمَّا حَرْفٌ مُجَرَّدٌ فَلَا يُوجَدُ لَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي غَيْرِهِ وَلَا يُنْطَقُ بِالْحَرْفِ إلَّا فِي ضِمْنِ مَا يَأْتَلِفُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ وَحُرُوفِ الْمَعَانِي وَأَمَّا الْحُرُوفُ الَّتِي يُنْطَقُ بِهَا مُفْرَدَةً مِثْلُ: أَلِف لَام مِيم وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ أَسْمَاءُ الْحُرُوفِ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ حُرُوفًا بِاسْمِ مُسَمَّاهَا كَمَا يُسَمَّى ضَرَبَ فِعْلٌ مَاضٍ بِاعْتِبَارِ مُسَمَّاهُ؛ وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ الْخَلِيلُ أَصْحَابَهُ كَيْفَ تَنْطِقُونَ بالزاء مِنْ زَيْدٍ؟ قَالُوا: نَقُولُ " زا " قَالَ: جِئْتُمْ بِالِاسْمِ؛ وَإِنَّمَا يُقَالُ " زه ". وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ - الَّتِي هِيَ أَسْمَاءُ الْحُرُوفِ - إلَّا نِصْفُهَا وَهِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا وَهِيَ نِصْفُ أَجْنَاسِ الْحُرُوفِ: نَصِفُ الْمَجْهُورَةِ وَالْمَهْمُوسَةِ والمستعلية وَالْمُطْبَقَةِ وَالشَّدِيدَةِ وَالرَّخْوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَجْنَاسِ الْحُرُوفِ. وَهُوَ أَشْرَفُ النِّصْفَيْنِ. وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي ضِمْنِ الْأَسْمَاءِ أَوْ الْأَفْعَالِ أَوْ حُرُوفِ الْمَعَانِي - الَّتِي لَيْسَتْ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ بِأَسْمَائِهَا جَمِيعِهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ؛ لَكِنْ نَفْسُ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي

ص: 448

هِيَ أَبْعَاضُ الْكَلَامِ مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ؛ بَلْ قَدْ اجْتَمَعَتْ فِي آيَتَيْنِ: " إحْدَاهُمَا " فِي آلِ عِمْرَانَ وَ " الثَّانِيَةِ " فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ} الْآيَةَ وَ {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} الْآيَةَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ آخَرَ مُؤَلَّفٍ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فَلَمْ يَنْطِقْ بِنَفْسِ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا نَطَقَ بِمِثْلِهَا وَذَلِكَ الَّذِي نَطَقَ بِهِ قَدْ يَكُونُ هُوَ أَخَذَهُ وَإِذَا ابْتَدَأَ مِنْ لَفْظِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً. قِيلَ: الْحَرْفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَهُ الْحَقِيقَةُ الْمُطْلَقَةُ الَّتِي لَا تَأْلِيفَ فِيهَا لَا تُوجَدُ لَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا فِي كَلَامِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ الْحَرْفُ الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنْ اللَّفْظِ أَوْ اسْمُهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ إلَّا حَرْفٌ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الْمُطْلَقُ؛ بَلْ الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا كَالْإِنْسَانِ لَا يُوجَدُ مُجَرَّدًا عَنْ الْأَعْيَانِ فِي الْأَعْيَانِ لَا يُوجَدُ مُجَرَّدًا عَنْ الْأَعْيَانِ إلَّا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ فَكَيْفَ بِالْحَرْفِ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُؤَلَّفًا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ مُتَعَدِّدَ الْأَعْيَانِ كَمَا يُوجَدُ الْإِنْسَانُ لَمْ تَكُنْ حَقِيقَتُهُ الْمُطْلَقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مَوْجُودَةً إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحُرُوفَ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِاخْتِلَافِ مَعَانِيهَا وَاخْتِلَافِ الْمُتَكَلِّمِ

ص: 449

بِهَا وَهَذَا أَوْجَبَ تَعْظِيمَ حُرُوفِ الْقُرْآنِ الْمَنْطُوقَةَ وَالْمَسْطُورَةَ وَكَانَ لَهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَا امْتَازَتْ بِهِ عَمَّا سِوَاهَا وَاخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ إنَّمَا كَانَ لِاخْتِلَافِ صِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُقَالَ مَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: إنَّ كَلَامَ الْإِنْسَانِ كُلَّهُ مَخْلُوقٌ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ وَالْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " {يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْت الرَّحِمَ وَشَقَقْت لَهَا مِنْ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْته وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ} " وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ {الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ: عَجَبًا لَهُمْ كَيْفَ يَكْفُرُونَ بِهِ وَهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي نَعْمَائِهِ وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَسْمَائِهِ} . وَذَكَرَ فِي مُعْظَمِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ أَنَّهَا مَبَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَكُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ وَهَذَا مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ قَالَ: لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً وَلَيْسَ بِحُجَّةِ؛ فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا اشْتَقَّهُ هُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ فَتَكَلَّمَ بِهِ فَكَلَامُهُ بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَمَّا إذَا اشْتَقُّوا اسْمًا أَحْدَثُوهُ فَذَلِكَ الِاسْمُ هُمْ أَحْدَثُوهُ وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَقُّ كَذَلِكَ. وَمَا يُرْوَى عَنْ الْمَسِيحِ فَلَا يُعْرَفُ ثُبُوتُهُ عَنْهُ وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَإِذَا كَانَ قَدْ أَلْهَمَ عِبَادَهُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْحُرُوفِ

ص: 450

الَّتِي هِيَ مَبَانِي أَسْمَائِهِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مَا أَحْدَثُوهُ هُمْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ. " وَبِالْجُمْلَةِ " فَمَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَرْفِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ مَوْجُودَةٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ إشَارَةً إلَى نَفْسِ حَقِيقَةِ الْحَرْفِ؛ لَا إلَى عَيْنِ جُزْءِ اللَّفْظِ الَّذِي بِهِ يَنْطِقُ الْكُفَّارُ وَالْمُشْرِكُونَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الْحَرْفَ الَّذِي هُوَ صَوْتٌ لِمُقَدَّرِ أَوْ تَقْدِيرُ صَوْتِ قَائِمٍ بِالْكَافِرِ وَالْمُشْرِكِ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ: إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مُضَافًا إلَى اللَّهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنَّمَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ مَا شَارَكَهُ فِي اسْمِهِ مِمَّا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَعْنَى الْمُضَافِ إلَى اللَّهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي كَلَامِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ تِلْكَ كَلَامُ اللَّهِ كَيْفَ مَا تَصَرَّفَتْ وَنَحْنُ لَمَّا يَسَّرَ اللَّهُ كَلَامَهُ بِأَلْسِنَتِنَا أَمْكَنَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِ؛ لَكِنْ بِأَدَوَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا؛ وَلَيْسَ تَكَلُّمُنَا بِهِ وَسَمْعُهُ مِنَّا كَتَكَلُّمِ اللَّهِ بِهِ وَسَمْعِهِ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى هَذَا كَمَا أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ سَائِر مَا يُضَافُ إلَيْهِ؛ وَلَكِنْ لَمَّا أَنْطَقَنَا اللَّهُ بِأَدَوَاتِنَا وَحَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا صَارَ بَيْنَ بَعْضِ لَفْظِنَا بِهِ وَلَفْظِنَا بِغَيْرِهِ نَوْعٌ مِنْ الشَّبَهِ؛ فَإِذَا تَكَلَّمْنَا بِكَلَامِ آخَرَ فَهُوَ يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لَفْظَنَا وَصَوْتَنَا بِالْقُرْآنِ لَا يُشْبِهُ تَكَلُّمَ اللَّهِ بِهِ وَقِرَاءَتَهُ إيَّاهُ فَإِذَا كَانَ وُجُودُ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَإِنَّمَا يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ تَكَلُّمَنَا بِهِ

ص: 451

مِنْ جِهَةِ مَا يُضَافُ إلَيْنَا لَا مِنْ جِهَةِ مَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ امْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ: عَيْنُ الْحَرْفِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ لَفْظَةٍ مِنْ الِاسْمِ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ النَّاسُ هُوَ عَيْنُ الْحَرْفِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ لَفْظٍ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يُشْبِهُهُ وَيُقَارِبُهُ فَهُوَ هُوَ بِاعْتِبَارِ النَّوْعِ؛ وَلَيْسَ هُوَ إيَّاهُ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ وَالشَّخْصُ خِلَافُ حُرُوفِ كَلَامِ اللَّهِ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تَصَرَّفَتْ وَفِيهَا دِقَّةٌ وَشُبْهَةٌ أَشَرْنَا إلَيْهَا فِي هَذَا الْجَوَابِ وَشَرَحْنَاهَا فِي مَوْضِعِهَا. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْحُرُوفَ حَرْفَانِ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُمَا عَيْنَانِ وَشَخْصَانِ وَهَذَا حَقٌّ. وَمَنْ قَالَ: الْحَرْفُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَرَادَ بِهِ: أَنَّ الْحَقِيقَةَ النَّوْعِيَّةَ وَاحِدَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهَذَا حَقٌّ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ حُرُوفَ الْهِجَاءِ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَقَدْ صَدَقَ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ النَّوْعِيَّةِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ الشَّخْصِيَّةِ فَقَدْ صَدَقَ. وَنَظِيرُ هَذَا كَثِيرٌ يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَيَكُونُ النِّزَاعُ فِي مَعْنَيَيْنِ مُتَنَوِّعَيْنِ نِزَاعًا لَفْظِيًّا اعْتِبَارِيًّا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ؛ لَكِنْ وُقُوعُ الِاشْتِرَاكِ وَالْإِجْمَالِ يَضِلُّ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْخَلْقِ كَمَا يَهْتَدِي بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْخَلْقِ وَهُوَ سَبَبُ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ فَإِنَّ حُجَّتَهُمْ: أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى

ص: 452

أَنَّ " اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ " كَقَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ فورك وَغَيْرِهِمَا. لَكِنَّ " التَّوْقِيفَ " هَلْ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْلِيمُ أَوْ التَّعْرِيفُ أَوْ كِلَاهُمَا؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ. فَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ يَقُولُونَ: إنَّهَا " تَوْقِيفِيَّةٌ " وَإِنَّ التَّعْلِيمَ هُوَ بِالْخِطَابِ فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْأَسْمَاءِ كُلِّهَا وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. قَالَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ الضَّالُّونَ: وَكَلَامُ الْآدَمِيِّينَ لَيْسَ إلَّا مَا يَأْتَلِفُ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ وَتِلْكَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. فَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَبَنَوْا قَوْلَهُمْ عَلَى أَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنْ الْحُرُوفِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَاعْتَقَدُوا مَعَ ذَلِكَ أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ لَيْسَ إلَّا مَا يَأْتَلِفُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ وَتِلْكَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَقَالُوا: كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ لِأَنَّ مُفْرَدَاتِهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. وَإِذَا ضُويِقُوا. فَقَدْ يَقُولُونَ النَّظْمُ وَالتَّأْلِيفُ مَخْلُوقٌ وَأَمَّا نَفْسُ الْمَنْظُومِ الْمُؤَلَّفِ فَهُوَ قَدِيمٌ ثُمَّ يَحْسَبُونَ أَنَّ الْمَوَادَّ الْمَنْظُومَةَ الْمُؤَلَّفَةَ هِيَ أَدْخَلُ فِي الْكَلَامِ مِنْ نَفْسِ التَّأْلِيفِ وَالنَّظْمِ كَمَا أَنَّ أَجْزَاءَ الْبَيْتِ هِيَ أَدْخَلُ فِي مُسَمَّاهُ مِنْ تَأْلِيفِهِ وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ اسْمًا لِلْأَجْزَاءِ وَلِتَأْلِيفِهَا.

ص: 453

وَرُبَّمَا طَرَدَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ " الْمَقَالَةِ " فِي سَائِر أَصْوَاتِ الْآدَمِيِّينَ. وَلَمَّا أَلْزَمُهُمْ مَنْ خَاطَبَهُمْ بِأَصْوَاتِ الْعِبَادِ؛ الَّتِي لَيْسَتْ بِكَلَامِ طَرَدَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فِي الْأَصْوَاتِ ثُمَّ طَرَدَ ذَلِكَ فِي أَصْوَاتِ الْبَهَائِمِ: مِنْ الْحَمِيرِ وَغَيْرِهَا وَيَلْزَمُهُمْ طَرْدُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَصْوَاتِ حَتَّى أَصْوَاتُ الْعِيدَانِ وَالْمَزَامِيرِ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَصْوَاتِ الْبَهَائِمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَهَالَةَ إذَا انْتَهَتْ إلَى هَذَا الْحَدِّ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْوَتَدَ وَالْحَائِطَ وَالْعَجَلَ الَّذِي يُعْمَلُ مِنْهُ الْجِلْدُ كَلَامُ اللَّهِ أَوْ يَقُولُ: إنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ كَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الْكِبَارِ أَوْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ يُعَانِقُ الْمُشَاةَ وَيُصَافِحُ الرُّكْبَانَ أَوْ يَقُولُ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَيْسَا مَدْفُونَيْنِ بِالْحُجْرَةِ أَوْ أَنَّهُمَا فِرْعَوْنُ وَهَامَانُ وَأَنَّهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ عَدُوَّيْنِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لَهَبٍ أَوْ يَقُولُ: إنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَوْ يَقُولُ: إنَّ الَّذِي صَفَعَتْهُ الْيَهُودُ وَصَلَبَتْهُ وَوَضَعَتْ الشَّوْكَ عَلَى رَأْسِهِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّ الْيَدَيْنِ الْمُسَمَّرَتَيْنِ هُمَا اللَّتَانِ خَلَقَتَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَوْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ قَعَدَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَبْكِي وَيَنُوحُ حَتَّى جَاءَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْيَهُودِ فَبَرَكَ عَلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ بَكَى حَتَّى رَمَدَتْ عَيْنَاهُ وَعَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَأَنَّهُ نَدِمَ عَلَى الطُّوفَانِ وَعَضَّ يَدَيْهِ مِنْ النَّدَمِ حَتَّى جَرَى الدَّمُ أَوْ يَقُولُ: إنَّ

ص: 454

الشَّيْخَ فُلَانًا وَالشَّيْخَ فُلَانًا يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَكُلُّ رِزْقٍ لَا يَرْزُقُنِيهِ مَا أُرِيدُهُ أَوْ يَقُولُ إنَّ عَلِيًّا هُوَ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُ الْقُرْآنَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ يَقُولُ: إنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ لَمَّا صَنَعَهُ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الطَّبِيعَةُ حَتَّى أَهَلَكَ نَفْسَهُ أَوْ يَقُولُ: إنَّ وُجُودَهُ وَوُجُودَ هَذَا وَهَذَا هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْحَقِّ وَإِنَّ اللَّهَ هُوَ عَيْنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَأَنَّ كُلَّ صَوْتٍ وَنُطْقٍ فِي الْعَالَمِ فَهُوَ صَوْتُهُ وَكَلَامُهُ وَكُلَّ حَرَكَةٍ فِي الْعَالَمِ وَسُكُونٍ فَهُوَ حَرَكَتُهُ وَسُكُونُهُ وَإِنَّ الْحَقَّ الْمُنَزَّهَ هُوَ الْخَلْقُ الْمُشَبَّهُ وَإِنَّهُ لَوْ زَالَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ لَزَالَتْ حَقِيقَةُ اللَّهِ وَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ لَا اسْمَ لَهُ وَلَا صِفَةَ وَإِنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا فِي الْأَعْيَانِ الْمُمْكِنَاتِ وَإِنَّهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ السَّارِي فِي الْمَخْلُوقَاتِ: الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ وَلَا يَنْفَصِلُ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ. إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي يَقُولُهَا الْغُلَاة مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالْكِتَابِيِّينَ. وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ غَالِيَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَإِنَّ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ - وَإِنْ كَانُوا أَصْلَحَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَشْبَاهِهِمْ فَالسُّنَّةُ فِي الْإِسْلَامِ كَالْإِسْلَامِ فِي الْمَلَلِ كَمَا أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ كُلُّ خَيْرٍ فِي غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُ وَكُلُّ شَرٍّ فِي الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي غَيْرِهِمْ أَكْثَرُ فَكَذَلِكَ الْمُنْتَسِبَةُ إلَى السُّنَّةِ - قَدْ يُوجَدُ فِيهِمْ مَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ كُلُّ خَيْرٍ فِي غَيْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَهُوَ فِيهِمْ أَكْثَرُ وَكُلُّ

ص: 455

شَرٍّ فِيهِمْ فَهُوَ فِي غَيْرِهِمْ أَكْثَرُ؛ إذْ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لِتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ: حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ. قَالُوا: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ} ؟ " وَقَالَ: "{لَتَأْخُذُنَّ مَآخِذَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ قَالُوا: فَارِسُ وَالرُّومُ؟ قَالَ: وَمَنْ النَّاسُ إلَّا هَؤُلَاءِ} ". وَإِزَالَةُ شُبْهَةِ هَؤُلَاءِ تَحْتَاجُ إلَى الْكَلَامِ فِي " الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ " هَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ أَمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَإِنْ كُنَّا قَدْ أَشَرْنَا إلَى ذَلِكَ؛ بَلْ نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَنَقُولُ مَعَ هَذَا: يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَخْلُوقٌ وَيُطْلَقُ الْقَوْلُ بِذَلِكَ إطْلَاقًا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ: بِأَنْ يُقَالَ نَظْمُهُ وَتَأْلِيفُهُ مَخْلُوقٌ وَحُرُوفُهُ وَأَسْمَاؤُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ تَرْكِيبُهُ مَخْلُوقٌ وَمُفْرَدَاتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَإِنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلَامَ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ لَيْسَ الْكَلَامُ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْأَلْفَاظِ وَلَا لِمُجَرَّدِ الْمَعَانِي. وَعَامَّةُ مَا يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ؛ بَلْ وَسَائِر الْأُمَمِ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ مَنْ لَفْظَا الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَهَذَا كَلَامُ فُلَانٍ أَوْ كَلَامُ فُلَانٍ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا

ص: 456

لِشُمُولِهِ لَهُمَا؛ لَيْسَ حَقِيقَةً فِي اللَّفْظِ فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ؛ وَلَا فِي الْمَعْنَى فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ. وَلَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ. وَلَا مُشْتَرَكٌ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ وَحَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى فِي كَلَامِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ} "{وَقَوْلُ مُعَاذٍ لَهُ: وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ؛ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ} " وَقَوْلُهُ: "{كَلِمَتَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ} " وَقَوْلُهُ: "{إنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ: كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ} وَقَوْلُهُ: " {إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا أَحَدٌ عِنْدَ الْمَوْتِ إلَّا وَجَدَ رُوحَهُ لَهَا رَوْحًا. فَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ} " وَمَا فِي الْقُرْآنِ: مِثْلُ قَوْلِهِ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ جَمِيعًا وَنَحْوُهُمَا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.

ص: 457

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلَامِ الْمُبْتَدِئِ لَهُ سَوَاءً كَانَ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا لَا رَيْبَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلَّفَ مَعَانِيَهُ وَأَلَّفَ أَلْفَاظَهُ؛ وَأَمَّا مُفْرَدَاتُ " الْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ " فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ تَعَلَّمَهَا مِنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَخْلُوقَةً أَوْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ؛ فَإِنَّ " اللُّغَاتِ " سَابِقَةٌ لِكَلَامِ عَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَنُطْقِ النَّاطِقِينَ مِنْ الْبَشَرِ وَهُمْ تَلَقَّوْا الْأَسْمَاءَ وَحُرُوفَ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي لُغَاتِهِمْ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى أَوَّلِ مُتَكَلِّمٍ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ. ثُمَّ أَنَّهُ مِمَّا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَرْضِ جَمِيعُهُمْ: أَنَّ الْكَلَامَ هُوَ كَلَامُ مَنْ أَلَّفَ مَعَانِيَهُ وَأَلْفَاظَهُ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ مَا فِيهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ إنَّمَا تَعَلَّمَهَا مِنْ غَيْرِهِ فَالنَّاسُ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَصَائِدَ كَلَامُ مُنْشِئِيهَا: مِثْلُ شَعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَالنَّابِغَةِ الذبياني: كَقَوْلِهِ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ فَجَمِيعُ الْأُمَمِ يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ إنَّ هَذَا شِعْرُ امْرِئِ الْقَيْسِ وَكَلَامُهُ وَإِنْ كَانَتْ الْأَسْمَاءُ الْمُفْرَدَةُ فِيهِ إنَّمَا تَعَلَّمَهَا مِنْ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ نَطَقَتْ قَبْلَهُ بِلَفْظِ " قِفَا " وَبِلَفْظِ " نَبْكِ " وَبِلَفْظِ " مِنْ ذِكْرَى "" حَبِيبٍ "" وَمَنْزِلٍ " وَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ إذَا سَمِعُوا قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم " {إنَّمَا

ص: 458

الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى} " أَوْ "{ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} " وَقَوْلُهُ: "{مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ} " قَالُوا: هَذَا كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا حَدِيثُهُ وَهَذَا قَوْلُهُ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ جَمِيعَ مُفْرَدَاتِ هَذَا الْكَلَامِ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَهُ: مِثْلُ لَفْظِ " إنَّمَا " وَلَفْظِ " الْأَعْمَالُ " وَلَفْظِ " النِّيَّةِ " وَ " النِّيَّاتِ " وَلَفْظِ " كُلُّ امْرِئِ " وَلَفْظِ " مَا نَوَى " وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَكَذَا كَلَامُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكَلَامُ مُصَنِّفِي الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ كُلُّهُمْ يَقُولُ: هَذِهِ الرِّسَالَةُ كَلَامُ فُلَانٍ وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ كَلَامُ فُلَانٍ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ كَلَامِ فُلَانٍ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِمُفْرَدَاتِ الْكَلَامِ: أَسْمَائِهِ وَحُرُوفِ هِجَائِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا بِاعْتِبَارِ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ وَلَا بِاعْتِبَارِ أَجْزَائِهَا - وَهِيَ حُرُوفُ الْهِجَاءِ - وَلَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِوَضْعِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى الدَّلَالَةَ عَلَى الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْمُفْرَدَةَ لَا يُعْلَمُ وَضْعُ اللَّفْظِ لَهَا إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِهَا لَا يُسْتَفَادُ إلَّا مِنْ اللَّفْظِ لَزِمَ الدَّوْرُ. وَلِهَذَا يَقُولُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ - وَهُمْ أَخْبَرُ بِمُشَبَّهَاتِ الْأَلْفَاظِ مِنْ

ص: 459

غَيْرِهِمْ -: إنَّ اسْمَ الْكَلَامِ لَا يُقَالُ إلَّا عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ كَالْمُرَكَّبَةِ مِنْ اسْمَيْنِ أَوْ اسْمٍ وَفِعْلٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ " سِيبَوَيْهِ " حَكِيمُ لِسَانِ الْعَرَبِ فِي (بَابِ الْحِكَايَةِ بِالْقَوْلِ حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّ الْقَوْلَ يُحْكَى بِهِ مَا كَانَ كَلَامًا وَلَا يُحْكَى بِهِ مَا كَانَ قَوْلًا وَالْقَوْلُ إنَّمَا تُحْكَى بِهِ الْجُمَلُ الْمُفِيدَةُ. فَعُلِمَ أَنَّهَا هِيَ الْكَلَامُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ. وَحَيْثُ أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ اسْمَ " الْكَلَامِ " عَلَى حَرْفَيْنِ فَصَاعِدًا فِي (بَابِ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا غَرَضُهُمْ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ سَوَاءً كَانَ مُفِيدًا أَوْ غَيْرَ مُفِيدٍ وَمَوْضُوعًا أَوْ مُهْمَلًا حَتَّى لَوْ صَوَّتَ تَصْوِيتًا طَوِيلًا وَلَحَّنَ لُحُونَ الْغِنَاءِ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ كَلَامًا. وَهُمْ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَيَتَكَلَّمَن لَا يُعَلِّقُونَ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ إلَّا بِمَا هُوَ فِي عُرْفِ الْحَالِفِ كَلَامٌ وَإِنْ كَانَ أَخَصَّ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ وَأَطْلَقَ يَمِينَهُ حَنِثَ بِكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَهَلْ يَحْنَثُ بِتَكَلُّمِهِ بِالْقُرْآنِ؟ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: لَا يَحْنَثُ بِحَالِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَحْنَثُ بِتِلَاوَتِهِ فِي الصَّلَاةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَرْجِعُهَا إلَى عُرْفِ الْحَالِفِ فَعُمُومُ اسْمِ الْكَلَامِ وَخُصُوصُهُ عِنْدَهُمْ بِحَسَبِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ. وَالسَّلَفُ إذَا ذَمُّوا أَهْلَ الْكَلَامِ وَقَالُوا: عُلَمَاءُ الْكَلَامِ زَنَادِقَةٌ وَمَا ارْتَدَى أَحَدٌ بِالْكَلَامِ فَأَفْلَحَ فَلَمْ يُرِيدُوا بِهِ مُطْلَقَ الْكَلَامِ،

ص: 460

وَإِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ فِيمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ طَرِيقَةِ الْمُرْسَلِينَ. وَالْخَائِضُونَ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " وَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْكَلَامَ مَا تَأَلَّفَ مِنْ حَرْفَيْنِ فَصَاعِدًا أَوْ مَا انْتَظَمَ مِنْ " الْحُرُوفِ " وَهِيَ الْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ الْمُتَوَاضِعُ عَلَيْهَا. وَتَنَازَعُوا فِي الْحَرْفِ الْوَاحِدِ الْمُؤَلَّفِ مَعَ غَيْرِهِ هَلْ يُسَمَّى كَلَامًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ كَمَا قَالَ أَكْثَرُ مُتَكَلِّمِيهِمْ: إنَّ الْجِسْمَ هُوَ الْمُؤَلَّفُ وَأَقَلُّ التَّرْكِيبِ مَنْ جَوْهَرَيْنِ وَتَنَازَعُوا فِي الْجَوْهَرِ الْوَاحِدِ الْمُؤَلَّفِ هَلْ يُسَمَّى جِسْمًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ فَهَذَا اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ لَهُمْ. كَمَا اصْطَلَحَ النُّحَاةُ عَلَى أَنَّ الْمُفْرَدَ مِثْلُ الِاسْمِ وَحَرْفُ الْمَعْنَى يُسَمَّى كَلِمَةً وَإِنْ كَانَتْ الْكَلِمَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ العرباء لَا تُوجَدُ إلَّا اسْمًا لِلْجُمْلَةِ التَّامَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا لَا يَحْضُرُنِي الْآنَ. وَإِذَا كَانَ النَّاسُ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ هُوَ كَلَامُ مَنْ أَلَّفَ أَلْفَاظَهُ وَمَعَانِيَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَلَّمَ أَسْمَاءَهُ مِنْ غَيْرِهِ زَالَتْ كُلُّ شُبْهَةٍ فِي الْمَسْأَلَةِ وَوَجَبَ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَخْلُوقٌ كَمَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا الشِّعْرَ مِنْ كَلَامِ فُلَانٍ وَهَذَا الْكَلَامُ كَلَامُ فُلَانٍ؛ لَا كَلَامُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا قَبْلَهُمْ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَحُرُوفِهَا؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ هُوَ كَلَامُ الَّذِينَ أَنْشَئُوهُ وَابْتَدَءُوهُ فَأَلَّفُوا أَلْفَاظَهُ وَمَعَانِيَهُ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ تَعَلَّمَ أَسْمَاءَهُ وَحُرُوفَهُ مِنْ بَعْضٍ وَلَوْ كَانَتْ أَسْمَاؤُهُ قَدْ سَمِعُوهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 461

وَاعْلَمْ أَنَّ هُنَا أَمْرًا عَجِيبًا وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ ضِدُّ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَءُونَهُ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ لَا كَلَامَ اللَّهِ فَإِنَّ أُولَئِكَ عَمَدُوا إلَى كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي يَتْلُونَهُ وَيُبَلِّغُونَهُ وَيُؤَدُّونَهُ - فَجَعَلُوهُ كَلَامَ أَنْفُسِهِمْ وَهَؤُلَاءِ عَمَدُوا إلَى كَلَامِهِمْ - الْمُتَضَمِّنِ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَالْكَذِبَ وَالْبُطْلَانَ - فَجَعَلُوهُ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ. فَأُولَئِكَ لَمْ يَنْظُرُوا إلَّا إلَى مَنْ سُمِعَ مِنْهُ الْكَلَامُ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَنْظُرُوا إلَّا إلَى مَنْ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ أَوَّلًا بِمُفْرَدَاتِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا " الْأُمَّةُ الْوَسَطُ " الْبَاقُونَ عَلَى الْفِطْرَةِ وَجَمِيعُ بَنِي آدَمَ فَيَقُولُونَ لِمَا بَلَّغَهُ الْمُبَلِّغُ عَنْ غَيْرِهِ وَأَدَّاهُ وَلِمَا قَرَأَهُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ وَتَلَاهُ. هَذَا كَلَامُ ذَاكَ وَإِنَّمَا بَلَّغْت بِقُوَاك كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه لَمَّا خَرَجَ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ: {الم} {غُلِبَتِ الرُّومُ} {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} فَقَالُوا: هَذَا كَلَامُك أَمْ كَلَامُ صَاحِبِك؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِكَلَامِي وَلَا كَلَامِ صَاحِبِي وَلَكِنْ كَلَامُ اللَّهِ. وَهَذَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " {أَنَّهُ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْقِفِ فَيَقُولُ: أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لَأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي} " فَبَيَّنَ

ص: 462

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّمَا يُبَلِّغُهُ وَيَتْلُوهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُهُ وَإِنْ كَانَ يُبَلِّغُهُ بِأَفْعَالِهِ وَصَوْتِهِ كَمَا قَالَ: " {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} " وَقَالَ: {لَلَّهُ أَشَدُّ أَذْنًا إلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ} ". وَالْأُمَمُ مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا إذَا سَمِعُوا مَنْ يَرْوِي قَصِيدَةً مَنْ شَعْرٍ مِثْلِ " قِفَا نَبْكِ " أَوْ " هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ " أَوْ " خُطْبَةً " مِثْلَ خُطَبِ عَلِيٍّ وَزِيَادٍ أَوْ " رِسَالَةً " كَرِسَالَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَنَحْوِهِ أَوْ سَجْعًا مِنْ سَجْعِ الْكُهَّانِ أَوْ قُرْآنًا مُفْتَرًى كَقُرْآنِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ قَالُوا: هَذَا شِعْرُ امْرِئِ الْقَيْسِ وَكَلَامُ عَلِيٍّ وَكَلَامُ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَقُرْآنُ مُسَيْلِمَةَ وَهُوَ كَلَامُهُ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ كَلَامًا لِلْمُبَلِّغِ الْمُؤَدِّي بِالْوَاسِطَةِ وَإِنْ كَانَ بَلَّغَهُ بِفِعْلِهِ وَصَوْتِهِ وَإِذَا أَنْشَأَ رَجُلٌ قَصِيدَةً أَوْ خُطْبَةً أَوْ رِسَالَةً أَوْ سَجْعًا أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ مَنْثُورٍ: آمِرًا أَوْ مُخْبِرًا قَالُوا: هَذَا كَلَامُ فُلَانٍ وَقَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَلَّمَ مُفْرَدَاتِهِ مَنْ غَيْرِهِ وَتَلَقَّنَهَا مَنْ أَحَدٍ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْكَلَامَ هُوَ كَلَامٌ لِمَنْ تَعَلَّمَ مِنْهُ الْمُفْرِدَاتِ فَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ مِمَّنْ قَالَ: إنَّ الْكَلَامَ لِمَنْ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ كَلَامُ مَنْ اتَّصَلَ بِهِ وَاتَّصَفَ بِهِ وَأَلَّفَهُ وَأَنْشَأَهُ وَكَانَ مُخْبِرًا بِخَبَرِهِ وَآمِرًا بِأَمْرِهِ وَنَاهِيًا عَنْ نَهْيِهِ.

ص: 463

فَصْلٌ:

وَأَمَّا سُؤَالُ السَّائِلِ: هَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ زَجْرُهُمْ وَرَدْعُهُمْ؟ فَنَعَمْ يَجِبُ ذَلِكَ فِي هَؤُلَاءِ وَفِي كُلِّ مَنْ أَظْهَرَ مُقَالَةً تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ " الْمُنْكَرِ " الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وَهُوَ مِنْ " الْإِثْمِ " الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} . وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ نَفَى عَنْ اللَّهِ مَا أَثْبَتّه لِنَفْسِهِ مِنْ الْمُعَطِّلَةِ وَالْمُمَثِّلَةِ فَإِنَّهُ قَالَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَذَلِكَ مِمَّا زَجَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ لِلنَّصَارَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} وَبِقَوْلِهِ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} وَقَالَ عَنْ الشَّيْطَانِ: {إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَقَالَ: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ

ص: 464

وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . فَإِنَّ مَنْ قَالَ غَيْرَ الْحَقِّ فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ؛ فَإِنَّ الْبَاطِلَ لَا يُعْلَمُ إلَّا إذَا عُلِمَ بُطْلَانُهُ فَأَمَّا اعْتِقَادُ أَنَّهُ الْحَقُّ فَهُوَ جَهْلٌ لَا عِلْمٌ فَمَنْ قَالَهُ فَقَدْ قَالَ مَا لَا يَعْلَمُ وَكَذَلِكَ مَنْ تَبِعَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَبْوَابِ الدِّينِ آبَاءَهُ وَأَسْلَافَهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ مِنْهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ مِمَّنْ ذَمَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} {وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} . وَكَذَلِكَ مَنْ اتَّبَعَ الظُّنُونَ وَالْأَهْوَاءَ مُعْتَقِدًا أَنَّهَا " عَقْلِيَّاتٌ " وَ " ذَوْقِيَّاتٌ " فَهُوَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وَإِنَّمَا يَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ مِنْ السَّمَاءِ وَالرَّسُولِ الْمُؤَيَّدِ بِالْأَنْبَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ

ص: 465

مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ} بَلْ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَلْتَزِمُوا الْأُصُولَ الْجَامِعَةَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا: فَيُؤْمِنُونَ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ: مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَتُبَيَّنَ لَهُ الْمَحَجَّةُ وَمَنْ ثَبَتَ إسْلَامُهُ بِيَقِينِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ؛ بَلْ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا تَكْفِيرُ قَائِلٍ هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ لَا بُدَّ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ عَدَمِ ضَبْطِهِ اضْطَرَبَتْ الْأُمَّةُ اضْطِرَابًا كَثِيرًا فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ كَمَا اضْطَرَبُوا قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي سَلْبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْكَبَائِرِ وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِثْلُ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُمَثِّلَةِ يَعْتَقِدُونَ اعْتِقَادًا هُوَ ضَلَالٌ

ص: 466

يَرَوْنَهُ هُوَ الْحَقَّ وَيَرَوْنَ كُفْرَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ فَيَصِيرُ فِيهِمْ شَوْبٌ قَوِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُفْرِهِمْ بِالْحَقِّ وَظُلْمِهِمْ لِلْخَلْقِ وَلَعَلَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الْمُكَفِّرِينَ يُكَفِّرُ بِ " الْمُقَالَةِ " الَّتِي لَا تُفْهَمُ حَقِيقَتُهَا وَلَا تُعْرَفُ حُجَّتُهَا. وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ الْمُكَفِّرِينَ بِالْبَاطِلِ أَقْوَامٌ لَا يَعْرِفُونَ اعْتِقَادَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَمَا يَجِبُ أَوْ يَعْرِفُونَ بَعْضَهُ وَيَجْهَلُونَ بَعْضَهُ وَمَا عَرَفُوهُ مِنْهُ قَدْ لَا يُبَيِّنُونَهُ لِلنَّاسِ بَلْ يَكْتُمُونَهُ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَذُمُّونَ أَهْلَ الْبِدَعِ وَيُعَاقِبُونَهُمْ؛ بَلْ لَعَلَّهُمْ يَذُمُّونَ الْكَلَامَ فِي السُّنَّةِ وَأُصُولِ الدِّينِ ذَمًّا مُطْلَقًا؛ لَا يُفَرِّقُونَ فِيهِ بَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ أَوْ يُقِرُّونَ الْجَمِيعَ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا يُقَرُّ الْعُلَمَاءُ فِي مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا النِّزَاعُ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ قَدْ تَغْلِبُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَبَعْضِ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ والمتفلسفة كَمَا تَغْلِبُ الْأُولَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْكَلَامِ وَكِلَا هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ مُنْحَرِفَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ بَيَانُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَتَبْلِيغُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ وَالْوَفَاءُ بِمِيثَاقِ اللَّهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ فَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَيُؤْمِنَ بِهِ وَيُبَلِّغَهُ وَيَدْعُوَ إلَيْهِ

ص: 467

وَيُجَاهِدَ عَلَيْهِ وَيَزِنَ جَمِيعَ مَا خَاضَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ غَيْرَ مُتَّبِعِينَ لِهَوَى: مِنْ عَادَةٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ أَوْ رِئَاسَةٍ أَوْ سَلَفٍ؛ وَلَا مُتَّبِعِينَ لِظَنِّ: مِنْ حَدِيثٍ ضَعِيفٍ أَوْ قِيَاسٍ فَاسِدٍ - سَوَاءً كَانَ قِيَاسَ شُمُولٍ أَوْ قِيَاسَ تَمْثِيلٍ - أَوْ تَقْلِيدٍ لِمَنْ لَا يَجِبُ اتِّبَاعُ قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ فِي كِتَابِهِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَيَتْرُكُونَ اتِّبَاعَ مَا جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ مِنْ الْهُدَى.

فَصْلٌ:

إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ " مَسَائِلَ التَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ " هِيَ مِنْ مَسَائِلِ " الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَتَتَعَلَّقُ بِهَا الْمُوَالَاةُ وَالْمُعَادَاةُ وَالْقَتْلُ وَالْعِصْمَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ الْجَنَّةَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَحَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ وَهَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَكَانٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى - لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى -:

ص: 468

{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . فَأَمَرَ أَنْ يُطَالِبَهُمْ بِالْبُرْهَانِ عَلَى هَذَا النَّفْيِ الْعَامِّ وَمَا فِيهِ مِنْ الْإِثْبَاتِ الْبَاطِلِ ثُمَّ قَالَ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمَّنْ مَضَى مِمَّنْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِدِينِ حَقٍّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَعَنْ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَنْ جَمَعَ " الْخِصَالَ الثَّلَاثَ " الَّتِي هِيَ جِمَاعُ الصَّلَاحِ وَهِيَ الْإِيمَانُ بِالْخَلْقِ وَالْبَعْثِ: بِالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ؛ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ؛ وَهُوَ أَدَاءُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. فَإِنَّ لَهُ حُصُولُ الثَّوَابِ وَهُوَ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَانْدِفَاعُ الْعِقَابِ. فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ وَلَا يَحْزَنُ عَلَى مَا وَرَاءَهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَهُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَهُوَ مُحْسِنٌ. فَ " الْأَوَّلُ " وَهُوَ إسْلَامُ الْوَجْهِ هُوَ النِّيَّةُ وَهَذَا " الثَّانِي " - وَهُوَ الْإِحْسَانُ - هُوَ الْعَمَلُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ هُوَ الْإِيمَانُ الْعَامُّ وَالْإِسْلَامُ الْعَامُّ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ.

ص: 469

وَهُوَ " دِينُ اللَّهِ الْعَامِّ " الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ وَبِهِ بَعَثَ جَمِيعَ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وَقَالَ تَعَالَى لِبَنِي آدَمَ جَمِيعًا: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . فَكَانَ مِنْ أَوَّلِ الْبِدَعِ وَالتَّفَرُّقِ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ " بِدْعَةُ الْخَوَارِجِ " الْمُكَفِّرَةِ بِالذَّنْبِ فَإِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِي الْفَاسِقِ الْمِلِّي فَزَعَمَتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ الذُّنُوبَ الْكَبِيرَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَالصَّغِيرَةَ لَا تُجَامِعُ الْإِيمَانَ أَبَدًا بَلْ تُنَافِيهِ وَتُفْسِدُهُ كَمَا يُفْسِدُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ الصِّيَامَ قَالُوا: لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورِ فَمَتَى بَطَلَ بَعْضُهُ بَطَلَ كُلُّهُ كَسَائِرِ الْمُرَكَّبَاتِ.

ص: 470

ثُمَّ قَالَتْ " الْخَوَارِجُ ": فَيَكُونُ الْعَاصِي كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ ثُمَّ اعْتَقَدُوا أَنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَغَيْرَهُمَا عَصَوْا وَمَنْ عَصَى فَقَدْ كَفَرَ فَكَفَّرُوا هَذَيْنِ الْخَلِيفَتَيْنِ وَجُمْهُورَ الْأُمَّةِ. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ. وَقَابَلَتْهُمْ " الْمُرْجِئَةُ " وَ " الْجَهْمِيَّة " وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ والكَرَّامِيَة. فَقَالُوا: لَيْسَ مِنْ الْإِيمَانِ فِعْلُ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ وَلَا تَرْكُ الْمَحْظُورَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْإِيمَانُ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ؛ بَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ: مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالْمُقَرَّبِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ وَالظَّالِمِينَ. ثُمَّ قَالَ فُقَهَاءُ الْمُرْجِئَةِ: هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَقَالَ أَكْثَرُ مُتَكَلِّمِيهِمْ: هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّصْدِيقُ بِاللِّسَانِ. قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَتْ فِيهِ الْوَاجِبَاتُ الْعَمَلِيَّةُ لَخَرَجَ مِنْهُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا كَمَا قَالَتْ الْخَوَارِجُ وَنُكْتَةُ هَؤُلَاءِ جَمِيعِهِمْ تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الْإِيمَانِ فَقَدْ تَرَكَهُ كُلَّهُ. وَأَمَّا " أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " مِنْ الصَّحَابَةِ جَمِيعِهِمْ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَجَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ مِثْلِ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ

ص: 471

وَغَيْرِهِمْ، وَمُحَقِّقِي أَهْلِ الْكَلَامِ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالدِّينَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ. هَذَا لَفْظُ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعْنِي بِالْإِيمَانِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَا يُغَايِرُ الْعَمَلَ؛ لَكِنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ كُلَّهَا تَدْخُلُ أَيْضًا فِي مُسَمَّى الدِّينِ وَالْإِيمَانِ وَيَدْخُلُ فِي الْقَوْلِ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَفِي الْعَمَلِ عَمَلُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ لِمَذْهَبِهِمْ: إنَّ لَهُ أُصُولًا وَفُرُوعًا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْكَانٍ وَوَاجِبَاتٍ - لَيْسَتْ بِأَرْكَانِ - وَمُسْتَحِبَّاتٍ؛ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ اسْمَ الْحَجِّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُشْرَعُ فِيهِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ مِثْلِ الْإِحْرَامِ وَتَرْكِ مَحْظُورَاتِهِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى وَالطَّوَافِ بِبَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَبَيْنَ الْجَبَلَيْنِ الْمُكْتَنِفَيْنِ بِهِ وَهُمَا الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ. ثُمَّ الْحَجُّ مَعَ هَذَا مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْكَانٍ مَتَى تُرِكَتْ لَمْ يَصِحَّ الْحَجُّ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَعَلَى تَرْكِ مَحْظُورٍ مَتَى فَعَلَهُ فَسَدَ الْحَجُّ وَهُوَ الْوَطْءُ وَمُشْتَمِلٌ عَلَى وَاجِبَاتٍ: مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا عَمْدًا وَيَجِبُ مَعَ تَرْكِهَا - لِعُذْرِ أَوْ غَيْرِهِ - الْجُبْرَانُ بِدَمِ كَالْإِحْرَامِ مِنْ الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِعَرَفَةَ وَكَرَمْيِ الْجِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَتَرْكِ اللِّبَاسِ الْمُعْتَادِ وَالتَّطَيُّبِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمُشْتَمِلٌ عَلَى مُسْتَحِبَّاتٍ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ يَكْمُلُ الْحَجُّ بِهَا؛ فَلَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا وَلَا يَجِبُ دَمٌ مِثْلُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْإِهْلَالِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ وَسَوْقِ الْهَدْيِ وَذِكْرِ اللَّهِ،

ص: 472

وَدُعَائِهِ فِي الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ وَغَيْرِهِمَا. وَقِلَّةِ الْكَلَامِ إلَّا فِي أَمْرٍ بِمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَتَرَكَ الْمَحْظُورَ فَقَدْ أَتَمَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَهُوَ مُقْتَصِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْعَمَلِ. لَكِنْ مَنْ أَتَى بِالْمُسْتَحَبِّ فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ وَأَتَمُّ مِنْهُ حَجًّا وَهُوَ سَابِقٌ مُقَرَّبٌ وَمَنْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ وَفَعَلَ الْمَحْظُورَ لَكِنَّهُ أَتَى بِرُكْنِهِ وَتَرَكَ مُفْسِدَهُ فَهُوَ حَاجٌّ حَجًّا نَاقِصًا يُثَابُ عَلَى مَا فِعْلِهِ مِنْ الْحَجِّ وَيُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكَهُ وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ أَصْلُ الْفَرْضِ بِذَلِكَ مَعَ عُقُوبَتِهِ عَلَى مَا تَرَكَهُ وَمَنْ أَخَلَّ بِرُكْنِ الْحَجِّ أَوْ فِعْلِ مُفْسِدٍ فَحَجُّهُ فَاسِدٌ لَا يَسْقُطُ بِهِ فَرْضٌ؛ بَلْ عَلَيْهِ إعَادَتُهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَتَنَازَعُ فِي إثَابَتِهِ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْفَرْضُ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ. فَصَارَ " الْحَجُّ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ " كَامِلًا بالمستحبات وَتَامًّا بِالْوَاجِبَاتِ فَقَطْ وَنَاقِصًا عَنْ الْوَاجِبِ. وَالْفُقَهَاءُ يُقَسِّمُونَ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ إلَى كَامِلٍ وَمُجْزِئٍ؛ لَكِنْ يُرِيدُونَ بِالْكَامِلِ مَا أَتَى بِمَفْرُوضِهِ وَمَسْنُونِهِ وَبِالْمُجْزِئِ مَا اقْتَصَرَ عَلَى وَاجِبِهِ. فَهَذَا فِي " الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ ". وَكَذَلِكَ فِي " الْأَعْيَانِ الْمَشْهُودَةِ " فَإِنَّ الشَّجَرَةَ مَثَلًا اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْجِذْعِ وَالْوَرَقِ وَالْأَغْصَانِ وَهِيَ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَرَقِ

ص: 473

شَجَرَةٌ وَبَعْدَ ذَهَابِ الْأَغْصَانِ شَجَرَةٌ؛ لَكِنْ كَامِلَةٌ وَنَاقِصَةٌ فَلْيُفْعَلْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالدِّينِ أَنَّ " الْإِيمَانَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ ": إيمَانُ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ. وَهُوَ مَا أَتَى فِيهِ بِالْوَاجِبَاتِ والمستحبات: مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ. وَإِيمَانُ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَهُوَ مَا أَتَى فِيهِ بِالْوَاجِبَاتِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ. وَإِيمَانُ الظَّالِمِينَ. وَهُوَ مَا يَتْرُكُ فِيهِ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ أَوْ يَفْعَلُ فِيهِ بَعْضَ الْمَحْظُورَاتِ. وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ فِي وَصْفِهِمْ " اعْتِقَادَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ": إنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبِ إشَارَةً إلَى بِدْعَةِ الْخَوَارِجِ الْمُكَفِّرَةِ بِمُطْلَقِ الذُّنُوبِ فَأَمَّا أَصْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ تَصْدِيقًا بِهِ وَانْقِيَادًا لَهُ؛ فَهَذَا أَصْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ؛ وَلِهَذَا تَوَاتَرَ فِي الْأَحَادِيثِ " {أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} {مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} . وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحِ أَيْضًا "{مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَيْرٍ} " "{مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - أَوْ بِضْعَةٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً - أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} " فَعُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ وَالتَّجْزِئَةَ وَأَنَّ قَلِيلَهُ يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنْ النَّارِ مَنْ دَخَلَهَا لَيْسَ هُوَ كَمَا يَقُولُهُ الْخَارِجُونَ عَنْ مَقَالَةِ أَهْلِ

ص: 474

السُّنَّةِ: إنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ وَالتَّجْزِئَةَ؛ بَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ: إمَّا أَنْ يَحْصُلَ كُلُّهُ أَوْ لَا يَحْصُلَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِهِ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْكِتَابِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَيَتَنَوَّعُ مُسَمَّاهَا قَدْرًا وَوَصْفًا بِتَنَوُّعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ؛ فَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَجَمِيعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ: مِثْلُ الْإِقْرَارِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ بِمَكَّةَ هِيَ فِي هَذَا الْإِيمَانِ الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ جَمِيعِهِمْ وَالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعِهِمْ. وَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ فِي بَعْضِ الْمِلَلِ أَعْظَمُ قَدْرًا وَوَصْفًا فَإِنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَوَصْفِ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَكْمَلُ مِمَّا جَاءَ بِهِ سَائِر الْأَنْبِيَاءِ. وَمِنْهُ مَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ وَالْمَنَاهِجُ كَالْقِبْلَةِ وَالْمَنْسَكِ وَمَقَادِيرِ الْعِبَادَاتِ وَأَوْقَاتِهَا وَصِفَاتِهَا وَالسُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالدِّينِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ هُوَ مُسَمَّاهُ فِي آخِرِ زَمَانِ النُّبُوَّةِ؛ بَلْ مُسَمَّاهُ فِي الْآخِرِ أَكْمَلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وَقَالَ فِي السُّورَةِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد كَانَ بَدْءُ الْإِيمَانِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ نَاقِصًا فَجَعَلَ يَتِمُّ وَهَكَذَا

ص: 475

مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالدِّينِ قَدْ شُرِعَ فِي حَقِّ الْأَشْخَاصِ بِحَسَبِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كُلًّا مِنْهُمْ وَبِحَسَبِ مَا فَعَلَهُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين؛ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُشْتَرِكِينَ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ. مَعَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِقْرَارُ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْنَا الْإِقْرَارُ بِهِ؛ مِثْلُ إقْرَارِهِمْ بِوَاجِبَاتِ التَّوْرَاةِ وبمحرماتها مِثْلِ السَّبْتِ وَشَحْمِ الثَّرْبِ وَالْكُلْيَتَيْنِ. وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ التَّصْدِيقُ الْمُفَصَّلُ بِمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَصِفَاتِ الْيَوْمِ الْآخِرِ. وَنَحْنُ يَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ وَيَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ الْإِقْرَارِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ فِي إيمَانِنَا وَلَيْسَ دَاخِلًا فِي إيمَانِهِمْ؛ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ. وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِأَعْيَانِ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ الْإِقْرَارُ بِأَعْيَانِهِمْ دَاخِلًا فِي إيمَانِ مَنْ قَبْلَنَا وَنَحْنُ إنَّمَا يَدْخُلُ فِي إيمَانِنَا الْإِقْرَارُ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. وَالْمُنَازِعُونَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْإِيمَانُ فِي الشَّرْعِ مُبْقًى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ؛ وَهُوَ التَّصْدِيقُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ

ص: 476

مَنْقُولٌ إلَى مَعْنًى آخَرَ. وَهُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ. وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْقُولٌ كَالْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ: مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ مَتْرُوكٌ عَلَى مَا كَانَ وَزَادَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ أَشْيَاءَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ مَعَ دُخُولِ الْأَعْمَالِ فِيهِ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ دَاخِلَةٌ فِي التَّصْدِيقِ فَالْمُؤْمِنُ يُصَدِّقُ قَوْلَهُ بِعَمَلِهِ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلَا بِالتَّحَلِّي؛ وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ} ". وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقَ؛ بَلْ هُوَ الْإِقْرَارُ وَهُوَ فِي الشَّرْعِ الْإِقْرَارُ أَيْضًا وَالْإِقْرَارُ يَتَنَاوَلُ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ فَقَدْ بَسَطْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِذَا عُرِفَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ فَعِنْدَ ذِكْرِ اسْتِحْقَاقِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ النَّارِ وَذَمَّ مَنْ تَرَكَ بَعْضَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ - يُرَادُ بِهِ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ كَقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وَقَوْلِهِ {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ

ص: 477

وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} . وَقَوْلِهِ فِي الْجَنَّةِ: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} . وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} " فَنُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْجَنَّةَ وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نَفْيَ أَصْلِ الْإِيمَانِ وَسَائِر أَجْزَائِهِ وَشُعَبِهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: نَفْيُ كَمَالِ الْإِيمَانِ لَا حَقِيقَتُهُ أَيْ الْكَمَالُ الْوَاجِبُ لَيْسَ هُوَ الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: الْغُسْلُ كَامِلٌ وَمُجْزِئٌ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "{مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا} " لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَافِرٌ. كَمَا تَأَوَّلَتْهُ الْخَوَارِجُ وَلَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ خِيَارِنَا. كَمَا تَأَوَّلَتْهُ الْمُرْجِئَةُ؛ وَلَكِنْ الْمُضْمَرُ يُطَابِقُ الْمَظْهَرَ وَالْمَظْهَرُ هُوَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلثَّوَابِ السَّالِمُونَ مِنْ الْعَذَابِ وَالْغَاشُّ لَيْسَ مِنَّا لِأَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لِسُخْطِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ. وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَمَنْ تَرَكَ بَعْضَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ لِعَجْزِهِ عَنْهُ إمَّا لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ: مِثْلُ أَنْ لَا تَبْلُغَهُ الرِّسَالَةُ أَوْ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ

ص: 478

وَالدِّينِ الْوَاجِبِ فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فِي الْأَصْلِ؛ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ وَالْخَائِفِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ وَسَائِر أَهْلِ الْأَعْذَارِ الَّذِينَ يَعْجِزُونَ عَنْ إتْمَامِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ صَلَاتَهُمْ صَحِيحَةٌ بِحَسَبِ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ وَبِهِ أُمِرُوا إذْ ذَاكَ وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الْقَادِرِ عَلَى الْإِتْمَامِ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ} " رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثٍ حَسَنِ السِّيَاقِ. وَقَوْلُهُ: "{صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ وَصَلَاةُ النَّائِمِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ} " وَلَوْ أَمْكَنَهُ الْعِلْمُ بِهِ دُونَ الْعَمَلِ لَوَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ عِلْمًا وَاعْتِقَادًا دُونَ الْعَمَلِ.

فَصْلٌ:

فَهَذَا أَصْلٌ مُخْتَصَرٌ فِي " مَسْأَلَةِ الْأَسْمَاءِ " وَأَمَّا " مَسْأَلَةُ الْأَحْكَامِ " وَحُكْمُهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَة فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِر أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. أَنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ مَنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ؛ بَلْ يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ مَعَهُ مِثْقَالُ حَبَّةٍ أَوْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ. وَأَمَّا " الْخَوَارِجُ " وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَة فَيُوجِبُونَ خُلُودَ مَنْ

ص: 479

دَخَلَ النَّارَ وَعِنْدَهُمْ مَنْ دَخَلَهَا خُلِّدَ فِيهَا وَلَا يَجْتَمِعُ فِي حَقِّ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ الْعَذَابُ وَالثَّوَابُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَسَائِر مَنْ اتَّبَعَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فِي حَقِّ خَلْقٍ كَثِيرٍ. كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَنُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَ " أَيْضًا ": فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا يُوجِبُونَ الْعَذَابَ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً وَلَا يَشْهَدُونَ لِمُسْلِمِ بِعَيْنِهِ بِالنَّارِ لِأَجْلِ كَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ عَمِلَهَا؛ بَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِلَا عَذَابٍ إمَّا لِحَسَنَاتِ تَمْحُو كَبِيرَتَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَإِمَّا لِمَصَائِبَ كَفَّرَتْهَا عَنْهُ وَإِمَّا لِدُعَاءِ مُسْتَجَابٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فِيهِ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَ " الوعيدية " مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ: يُوجِبُونَ الْعَذَابَ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكَبَائِرِ؛ لِشُمُولِ نُصُوصِ الْوَعِيدِ لَهُمْ. مِثْلُ قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} وَتَجْعَلُ الْمُعْتَزِلَةُ إنْفَاذَ الْوَعِيدِ أَحَدَ " الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ " الَّتِي يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهَا وَيُخَالِفُونَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي وُجُوبِ نُفُوذِ الْوَعِيدِ فِيهِمْ وَفِي تَخْلِيدِهِمْ؛ وَلِهَذَا مَنَعَتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ أَنْ يَكُونَ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم شَفَاعَةٌ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ - فِي إخْرَاجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ. وَهَذَا مَرْدُودٌ بِمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ مِنْ السُّنَنِ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:

ص: 480

{شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي} وَأَحَادِيثُهُ فِي إخْرَاجِهِ مِنْ النَّارِ مَنْ قَدْ دَخَلَهَا. وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَحْرِيرَ هَذِهِ الْأُصُولِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا وَكَانَ مَا أَوْقَعَهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ سَمِعُوا نُصُوصَ الْوَعِيدِ فَرَأَوْهَا عَامَّةً فَقَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا كُلُّ مَنْ شَمَلَتْهُ وَهُوَ خَبَرٌ وَخَبَرُ اللَّهِ صِدْقٌ فَلَوْ أَخْلَفَ وَعِيدَهُ كَانَ كَإِخْلَافِ وَعْدِهِ وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ فَعَارَضَهُمْ غَالِيَةُ الْمُرْجِئَةِ بِنُصُوصِ الْوَعْدِ فَإِنَّهَا قَدْ تَتَنَاوَلُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَعَادَ كُلُّ فَرِيقٍ إلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ. فَقَالَ الْأَوَّلُونَ: نُصُوصُ الْوَعْدِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا مُؤْمِنًا وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: نُصُوصُ الْوَعِيدِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا كَافِرًا وَكُلٌّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ. فَإِنَّ النُّصُوصَ - مِثْلَ قَوْلِهِ. {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الْكُفْرُ؛ بَلْ هِيَ فِي حَقِّ الْمُتَدَيِّنِ بِالْإِسْلَامِ. وَقَوْلِهِ: " {مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ} " لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ " {وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ} ". فَهُنَا اضْطَرَبَ النَّاسُ فَأَنْكَرَ قَوْمٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ الْعُمُومَ وَقَالُوا: لَيْسَ فِي اللُّغَةِ عُمُومٌ وَهُمْ الواقفية فِي الْعُمُومِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَبَعْضِ

ص: 481

الْأَشْعَرِيَّةِ وَالشِّيعِيَّةِ وَإِنَّمَا الْتَزَمُوا ذَلِكَ لِئَلَّا يَدْخُلَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ. وَقَالَتْ الْمُقْتَصِدَةُ: بَلْ الْعُمُومُ صَحِيحٌ وَالصِّيَغُ صِيَغُ عُمُومٍ؛ لَكِنَّ الْعَامَّ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ؛ وَهَذَا مَذْهَبُ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين إلَّا هَذِهِ الشِّرْذِمَةُ. قَالُوا: فَمَنْ عُفِيَ عَنْهُ كَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعُمُومِ. وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ: بَلْ إخْلَافُ الْوَعِيدِ لَيْسَ بِكَذِبِ وَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَعُدُّ عَارًا أَوْ شَنَارًا أَنْ يُوعِدَ الرَّجُلُ شَرًّا ثُمَّ لَا يُنْجِزُهُ كَمَا تَعِدُ عَارًا أَوْ شَنَارًا أَنْ يَعِدَ خَيْرًا ثُمَّ لَا يُنْجِزُهُ وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين وَقَدْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ يُخَاطِبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نُبِّئْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي وَالْعَفُوُّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولٌ قَالُوا: فَهَذَا وَعِيدٌ خَاصٌّ وَقَدْ رَجَا فِيهِ الْعَفْوَ مُخَاطِبًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعُلِمَ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْمُتَوَعَّدِ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ. وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مُشْتَمِلٌ عَلَى نُصُوصِ الْوَعْدِ

ص: 482

وَالْوَعِيدِ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ مُشْتَمِلٌ عَلَى نُصُوصِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَكُلٌّ مِنْ النُّصُوصِ يُفَسِّرُ الْآخَرَ وَيُبَيِّنُهُ فَكَمَا أَنَّ نُصُوصَ الْوَعْدِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ الْكُفْرِ الْمُحْبِطِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ ارْتَدَّ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فَكَذَلِكَ نُصُوصُ الْوَعِيدِ لِلْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا لِمَنْ تَابَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ. فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ بِنُصُوصِ مَعْرُوفَةٍ أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ وَأَنَّ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وَأَنَّهُ يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إذَا دَعَاهُ وَأَنَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ وَأَنَّهُ يَقْبَلُ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ كَمَا بَيَّنَ أَنَّ الصَّدَقَةَ يُبْطِلُهَا الْمَنُّ وَالْأَذَى وَأَنَّ الرِّبَا يُبْطِلُ الْعَمَلَ وَأَنَّهُ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ؛ أَيْ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَجَعَلَ لِلسَّيِّئَاتِ مَا يُوجِبُ رَفْعَ عِقَابِهَا كَمَا جَعَلَ لِلْحَسَنَاتِ مَا قَدْ يُبْطِلُ ثَوَابَهَا لَكِنْ لَيْسَ شَيْءٌ يُبْطِلُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُبْطِلُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الرِّدَّةُ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّا نَشْهَدُ بِأَنَّ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا

ص: 483

إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ وَلَا نَشْهَدُ لِمُعَيَّنِ أَنَّهُ فِي النَّارِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ لُحُوقَ الْوَعِيدِ لَهُ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ بِالْمُعَيَّنِ مَشْرُوطٌ بِشُرُوطِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ ثُبُوتَ الشُّرُوطِ وَانْتِفَاءَ الْمَوَانِعِ فِي حَقِّهِ وَفَائِدَةُ الْوَعِيدِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الذَّنْبَ سَبَبٌ مُقْتَضٍ لِهَذَا الْعَذَابِ وَالسَّبَبُ قَدْ يَقِفُ تَأْثِيرُهُ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ وَانْتِفَاءِ مَانِعِهِ. يُبَيِّنُ هَذَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم {لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا} . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ {أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُكْثِرُ شُرْبَ الْخَمْرِ فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا تَلْعَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} " فَنَهَى عَنْ لَعْنِ هَذَا الْمُعَيَّنِ وَهُوَ مُدْمِنُ خَمْرٍ؛ لِأَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَقَدْ لُعِنَ شَارِب الْخَمْرِ عَلَى الْعُمُومِ.

فَصْلٌ:

إذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ فِي اسْمِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ الْمِلِّي وَفِي حُكْمِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ وَمَا وَقَعَ فِي

ص: 484

ذَلِكَ مِنْ الِاضْطِرَابِ فَ " مَسْأَلَةُ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ " مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَنَحْنُ نَبْدَأُ بِمَذْهَبِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِيهَا قَبْلَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْحُجَّةِ فَنَقُولُ: الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَعَامَّةِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ‌

‌ تَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّة

وَهُمْ الْمُعَطِّلَةُ لِصِفَاتِ الرَّحْمَنِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ صَرِيحٌ فِي مُنَاقَضَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْكِتَابِ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ جُحُودُ الصَّانِعِ فَفِيهِ جُحُودُ الرَّبِّ وَجُحُودُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّهُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَعْنُونَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَلِهَذَا كَفَّرُوا مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا غَضَبٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ. وَأَمَّا " الْمُرْجِئَةُ ": فَلَا تَخْتَلِفُ نُصُوصُهُ أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُهُمْ؛ فَإِنَّ بِدْعَتَهُمْ مِنْ جِنْسِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي الْفُرُوعِ وَكَثِيرٌ مِنْ كَلَامِهِمْ يَعُودُ النِّزَاعُ فِيهِ إلَى نِزَاعٍ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَسْمَاءِ: وَلِهَذَا يُسَمَّى الْكَلَامُ فِي مَسَائِلِهِمْ " بَابُ الْأَسْمَاءِ " وَهَذَا مِنْ نِزَاعِ الْفُقَهَاءِ لَكِنْ يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ

ص: 485

الدِّينِ؛ فَكَانَ الْمُنَازِعُ فِيهِ مُبْتَدِعًا. وَكَذَلِكَ " الشِّيعَةُ " الْمُفَضِّلُونَ لِعَلِيِّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ إنَّهُمْ لَا يُكَفَّرُونَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا وَإِنْ كَانُوا يُبَدَّعُونَ. وَأَمَّا " الْقَدَرِيَّةُ " الْمُقِرُّونَ بِالْعِلْمِ وَ " الرَّوَافِضُ " الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ الْغَالِيَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْخَوَارِجُ: فَيُذْكَرُ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِهِمْ رِوَايَتَانِ هَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِهِ الْمُطْلَقِ مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ عَنْ تَكْفِيرِ الْقَدَرِيَّةِ الْمُقِرِّينَ بِالْعِلْمِ وَالْخَوَارِجِ مَعَ قَوْلِهِ: مَا أَعْلَمُ قَوْمًا شَرًّا مِنْ الْخَوَارِجِ. ثُمَّ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَحْكُونَ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ مُطْلَقًا رِوَايَتَيْنِ حَتَّى يَجْعَلُوا الْمُرْجِئَةَ دَاخِلِينَ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَعَنْهُ فِي تَكْفِيرِ مَنْ لَا يُكَفِّرُ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يَكْفُرُ. وَرُبَّمَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ فِي تَكْفِيرِ مَنْ لَا يُكَفِّرُ مُطْلَقًا وَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ. وَالْجَهْمِيَّة - عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ: مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ - لَيْسُوا مِنْهُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً الَّتِي افْتَرَقَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ؛ بَلْ أُصُولُ هَذِهِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ: هُمْ الْخَوَارِجُ وَالشِّيعَةُ وَالْمُرْجِئَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَهَذَا الْمَأْثُورُ

ص: 486

عَنْ أَحْمَد وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عَامَّةِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ؛ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ. ثُمَّ حَكَى أَبُو نَصْرٍ السجزي عَنْهُمْ فِي هَذَا قَوْلَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ كُفْرٌ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَ " الثَّانِي " أَنَّهُ كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ. وَلِذَلِكَ قَالَ الخطابي: إنَّ هَذَا قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ وَكَذَلِكَ تَنَازَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي تَخْلِيدِ الْمُكَفَّرِ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ فَأَطْلَقَ أَكْثَرُهُمْ عَلَيْهِ التَّخْلِيدَ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ مُتَقَدِّمِي عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ؛ كَأَبِي حَاتِمٍ؟ وَأَبِي زُرْعَةَ وَغَيْرِهِمْ وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْقَوْلِ بِالتَّخْلِيدِ. وَسَبَبُ هَذَا التَّنَازُعِ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَدِلَّةً تُوجِبُ إلْحَاقَ أَحْكَامِ الْكُفْرِ بِهِمْ ثُمَّ إنَّهُمْ يَرَوْنَ مِنْ الْأَعْيَانِ الَّذِينَ قَالُوا تِلْكَ الْمَقَالَاتِ مَنْ قَامَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فَيَتَعَارَضُ عِنْدَهُمْ الدَّلِيلَانِ وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ مَا أَصَابَ الْأَوَّلِينَ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فِي نُصُوصِ الشَّارِعِ كُلَّمَا رَأَوْهُمْ قَالُوا: مَنْ قَالَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ اعْتَقَدَ الْمُسْتَمِعُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ شَامِلٌ لِكُلِّ مَنْ قَالَهُ وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا أَنَّ التَّكْفِيرَ لَهُ شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ قَدْ تَنْتَقِي فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ وَأَنَّ تَكْفِيرَ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَكْفِيرَ الْمُعَيَّنِ

ص: 487

إلَّا إذَا وُجِدَتْ الشُّرُوطُ وَانْتَفَتْ الْمَوَانِعُ يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَعَامَّةَ الْأَئِمَّةِ: الَّذِينَ أَطْلَقُوا هَذِهِ العمومات لَمْ يُكَفِّرُوا أَكْثَرَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ بِعَيْنِهِ. فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد - مَثَلًا - قَدْ بَاشَرَ " الْجَهْمِيَّة " الَّذِينَ دَعَوْهُ إلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَفْيِ الصِّفَاتِ وَامْتَحَنُوهُ وَسَائِر عُلَمَاءِ وَقْتِهِ وَفَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الَّذِينَ لَمْ يُوَافِقُوهُمْ عَلَى التَّجَهُّمِ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالْقَتْلِ وَالْعَزْلِ عَنْ الْوِلَايَاتِ وَقَطْعِ الْأَرْزَاقِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ وَتَرْكِ تَخْلِيصِهِمْ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ بِحَيْثُ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ إذْ ذَاكَ مِنْ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ: يُكَفِّرُونَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ جهميا مُوَافِقًا لَهُمْ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ مِثْلِ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَيَحْكُمُونَ فِيهِ بِحُكْمِهِمْ فِي الْكَافِرِ فَلَا يُوَلُّونَهُ وِلَايَةً وَلَا يُفْتِكُونَهُ مِنْ عَدُوٍّ وَلَا يُعْطُونَهُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يَقْبَلُونَ لَهُ شَهَادَةً وَلَا فُتْيَا وَلَا رِوَايَةً وَيَمْتَحِنُونَ النَّاسَ عِنْدَ الْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالِافْتِكَاكِ مِنْ الْأَسْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَمَنْ أَقَرَّ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ حَكَمُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لَمْ يَحْكُمُوا لَهُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَنْ كَانَ دَاعِيًا إلَى غَيْرِ التَّجَهُّمِ قَتَلُوهُ أَوْ ضَرَبُوهُ وَحَبَسُوهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَغْلَظِ التَّجَهُّمِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ إلَى الْمَقَالَةِ أَعْظَمُ مِنْ

ص: 488

قَوْلِهَا وَإِثَابَةُ قَائِلِهَا وَعُقُوبَةَ تَارِكِهَا أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الدُّعَاءِ إلَيْهَا وَالْعُقُوبَةُ بِالْقَتْلِ لِقَائِلِهَا أَعْظَمُ مِنْ الْعُقُوبَةِ بِالضَّرْبِ. ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد دَعَا لِلْخَلِيفَةِ وَغَيْرِهِ. مِمَّنْ ضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وحللهم مِمَّا فَعَلُوهُ بِهِ مِنْ الظُّلْمِ وَالدُّعَاءِ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ؛ فَإِنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَفَّارِ لَا يَجُوزُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يُكَفِّرُوا الْمُعَيَّنِينَ مِنْ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَد مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَفَّرَ بِهِ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ فَأَمَّا أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ فَفِيهِ نَظَرٌ أَوْ يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى التَّفْصِيلِ. فَيُقَالُ: مَنْ كَفَّرَهُ بِعَيْنِهِ؛ فَلِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّكْفِيرِ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ وَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُ بِعَيْنِهِ؛ فَلِانْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ هَذِهِ مَعَ إطْلَاقِ قَوْلِهِ بِالتَّكْفِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالِاعْتِبَارُ. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وقَوْله تَعَالَى {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} .

ص: 489

وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: قَدْ فَعَلْت لَمَّا دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنُونَ بِهَذَا الدُّعَاءِ} . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " {أُعْطِيت فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ} " وَ " {أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِحَرْفِ مِنْهَا إلَّا أُعْطِيَهُ} ". وَإِذَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ الْمُفَسَّرِ بِالسُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ فَهَذَا عَامٌّ عُمُومًا مَحْفُوظًا وَلَيْسَ فِي الدَّلَالَةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُوجِبُ أَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُخْطِئًا عَلَى خَطَئِهِ وَإِنْ عَذَّبَ الْمُخْطِئَ. مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَ " أَيْضًا " قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيح مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إنَّ رَجُلًا لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ فَقَالَ لِأَهْلِهِ: إذَا مَاتَ فَأَحْرِقُوهُ ثُمَّ اُذْرُوَا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا بِهِ كَمَا أَمَرَهُمْ فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْت هَذَا؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِك يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ؛ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ} ".

ص: 490

وَهَذَا الْحَدِيثُ مُتَوَاتِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْأَسَانِيدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَحُذَيْفَةَ وَعُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِمْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ يَعْلَمُ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا تُفِيدُهُمْ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَشْرَكهُمْ فِي أَسْبَابِ الْعِلْمِ. فَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ قَدْ وَقَعَ لَهُ الشَّكُّ وَالْجَهْلُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إعَادَةِ ابْنِ آدَمَ؛ بَعْدَ مَا أُحْرِقَ وَذُرِيَ وَعَلَى أَنَّهُ يُعِيدُ الْمَيِّتَ وَيَحْشُرُهُ إذَا فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ وَهَذَانِ أَصْلَانِ عَظِيمَانِ: " أَحَدُهُمَا " مُتَعَلِّقٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَ " الثَّانِي " مُتَعَلِّقٌ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ يُعِيدُ هَذَا الْمَيِّتَ وَيَجْزِيهِ عَلَى أَعْمَالِهِ وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ وَمُؤْمِنًا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ وَيُعَاقِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا - وَهُوَ خَوْفُهُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى ذُنُوبِهِ - غَفَرَ اللَّهُ لَهُ بِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَأَيْضًا: فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ دِينَارٍ مِنْ إيمَانٍ} "

ص: 491

وَفِي رِوَايَةٍ: {مِثْقَالُ دِينَارٍ مَنْ خَيْرٍ ثُمَّ يُخْرِجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ} " وَفِي رِوَايَةٍ " مَنْ خَيْرٍ " "{وَيُخْرِجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ أَوْ خَيْرٍ} " وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ النُّصُوصِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدُلُّ أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مَنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا وَأَنَّ الْإِيمَانَ مِمَّا يَتَبَعَّضُ وَيَتَجَزَّأُ. وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْطِئِينَ مَعَهُمْ مِقْدَارٌ مَا مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ إذْ الْكَلَامُ فِيمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّلَفَ أَخْطَأَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَاتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ مِثْلُ مَا أَنْكَرَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ نِدَاءَ الْحَيِّ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمِعْرَاجُ يَقَظَةً وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ رُؤْيَةَ مُحَمَّدٍ رَبَّهُ وَلِبَعْضِهِمْ فِي الْخِلَافَةِ وَالتَّفْضِيلِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ وَكَذَلِكَ لِبَعْضِهِمْ فِي قِتَالِ بَعْضٍ وَلَعْنِ بَعْضٍ وَإِطْلَاقِ تَكْفِيرِ بَعْضِ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ. وَكَانَ الْقَاضِي شريح يُنْكِرُ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: {بَلْ عَجِبْتَ} وَيَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ؛ فَبَلَغَ ذَلِكَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي فَقَالَ: إنَّمَا شريح شَاعِر يُعْجِبُهُ عِلْمُهُ. كَانَ عَبْد اللَّه أُفُقه مِنْهُ فَكَانَ يَقُولُ: {بَلْ عَجِبْتَ} فَهَذَا قَدْ أَنْكَرَ قِرَاءَةً ثَابِتَةً وَأَنْكَرَ صِفَةً دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ إمَامٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَكَذَلِكَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنْكَرَ

ص: 492

بَعْضُهُمْ حُرُوفَ الْقُرْآنِ مِثْلَ إنْكَارِ بَعْضِهِمْ قَوْلَهُ: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} وَقَالَ: إنَّمَا هِيَ: أو لَمْ يَتَبَيَّنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَإِنْكَارِ الْآخَرِ قِرَاءَةَ قَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} وَقَالَ: إنَّمَا هِيَ: وَوَصَّى رَبُّك. وَبَعْضُهُمْ كَانَ حَذَفَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَآخَرُ يَكْتُبُ سُورَةَ الْقُنُوتِ. وَهَذَا خَطَأٌ مَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ قَدْ تَوَاتَرَ النَّقْلُ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ لَمْ يُكَفَّرُوا وَإِنْ كَانَ يَكْفُرُ بِذَلِكَ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إلَّا بَعْدَ إبْلَاغِ الرِّسَالَةِ فَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ جُمْلَةً لَمْ يُعَذِّبْهُ رَأْسًا وَمَنْ بَلَغَتْهُ جُمْلَةً دُونَ بَعْضِ التَّفْصِيلِ لَمْ يُعَذِّبْهُ إلَّا عَلَى إنْكَارِ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية. وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وَقَوْلِهِ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} وَقَوْلِهِ: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} وَقَوْلِهِ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ

ص: 493

خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} وَقَوْلِهِ " {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وَنَحْوُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ. فَمَنْ كَانَ قَدْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ تَفْصِيلًا؛ إمَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ. أَوْ سَمِعَهُ مِنْ طَرِيقٍ لَا يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهَا أَوْ اعْتَقَدَ مَعْنًى آخَرَ لِنَوْعِ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي يُعْذَرُ بِهِ. فَهَذَا قَدْ جُعِلَ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مَا يُوجِبُ أَنْ يُثِيبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بِهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ مُخَالِفُهَا. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ مِنْ الْخَطَأِ فِي الدِّينِ مَا لَا يَكْفُرُ مُخَالِفُهُ؛ بَلْ وَلَا يَفْسُقُ؛ بَلْ وَلَا يَأْثَمُ؛ مِثْلُ الْخَطَأِ فِي الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ؛ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُخْطِئَ فِيهَا آثِمٌ وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ يَعْتَقِدُ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ شَاذَّانِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِتَكْفِيرِ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهَا وَمَعَ ذَلِكَ فَبَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَدْ ثَبَتَ خَطَأُ الْمُنَازِعِ

ص: 494

فِيهَا بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ مِثْلُ اسْتِحْلَالِ بَعْضِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الرِّبَا وَاسْتِحْلَالِ آخَرِينَ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْخَمْرِ وَاسْتِحْلَالِ آخَرِينَ لِلْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفِينَ بِالْخَيْرِ كَالصَّحَابَةِ الْمَعْرُوفِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَا يُفَسَّقُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُكَفَّرَ حَتَّى عَدَّى ذَلِكَ مَنْ عَدَّاهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى سَائِر أَهْلِ الْبَغْيِ فَإِنَّهُمْ مَعَ إيجَابِهِمْ لِقِتَالِهِمْ مَنَعُوا أَنْ يُحْكَمَ بِفِسْقِهِمْ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ: إنَّ شَارِبَ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مُتَأَوِّلًا لَا يُجْلَدُ وَلَا يَفْسُقُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} . وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ العاص وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ} ". وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {عَنْ بريدة بْنِ الحصيب أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ} "

ص: 495

وَأَدِلَّةُ هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرَةٌ لَهَا مَوْضِعٌ آخَرُ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ مَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُؤْمِنُ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ الِاعْتِذَارُ بِالِاجْتِهَادِ لِظُهُورِ أَدِلَّةِ الرِّسَالَةِ وَأَعْلَامِ النُّبُوَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْعُذْرَ بِالْخَطَأِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَكَمَا أَنَّ الذُّنُوبَ تَنْقَسِمُ إلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ وَالْوَاجِبَاتُ تَنْقَسِمُ إلَى أَرْكَانٍ وَوَاجِبَاتٍ لَيْسَتْ أَرْكَانًا: فَكَذَلِكَ الْخَطَأُ يَنْقَسِمُ إلَى مَغْفُورٍ وَغَيْرِ مَغْفُورٍ وَالنُّصُوصُ إنَّمَا أَوْجَبَتْ رَفْعَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْخَطَأِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُخْطِئُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ: إمَّا أَنْ يَلْحَقَ بِالْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ مُبَايَنَتِهِ لَهُمْ فِي عَامَّةِ أُصُولِ الْإِيمَانِ. وَإِمَّا أَنْ يَلْحَقَ بِالْمُخْطِئِينَ فِي مَسَائِلِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ مَعَ أَنَّهَا أَيْضًا مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ. فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ؛: هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ وَالْجَاحِدُ لَهَا كَافِرٌ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي بَعْضِهَا لَيْسَ بِكَافِرِ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ خَطَئِهِ. وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إلْحَاقِهِ بِأَحَدِ الصِّنْفَيْنِ: فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُخْطِئِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَشَدُّ شَبَهًا مِنْهُ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ

ص: 496

فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ وَعَلَى هَذَا مَضَى عَمَلُ الْأُمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي أَنَّ عَامَّةَ الْمُخْطِئِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى غَيْرِهِمْ هَذَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ مُنَافِقُونَ النِّفَاقَ الْأَكْبَرَ وَأُولَئِكَ كُفَّارٌ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ فَمَا أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ فِي الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ بَلْ أَصْلُ هَذِهِ الْبِدَعِ هُوَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةِ مِمَّنْ يَكُونُ أَصْلُ زَنْدَقَتِهِ عَنْ الصَّابِئِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ عُلِمَ حَالُهُ فَهُوَ كَافِرٌ فِي الظَّاهِرِ أَيْضًا. وَأَصْلُ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَاضُ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَابْتِغَاءِ الْهُدَى فِي خِلَافِ ذَلِكَ فَمَنْ كَانَ هَذَا أَصْلَهُ فَهُوَ بَعْدَ بَلَاغِ الرِّسَالَةِ كَافِرٌ لَا رَيْبَ فِيهِ مِثْلُ مَنْ يَرَى أَنَّ الرِّسَالَةَ لِلْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَالِيَةِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ أَوْ يَرَى أَنَّهُ رَسُولٌ إلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. فَهَذَا الْكَلَامُ يُمَهِّدُ أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَالْهُدَى فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَأَنَّ خِلَافَ ذَلِكَ كُفْرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَنَفْيُ الصِّفَاتِ كُفْرٌ وَالتَّكْذِيبُ بِأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ أَوْ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ أَوْ

ص: 497

أَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى أَوْ أَنَّهُ اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا كُفْرٌ وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ. وَ " الْأَصْلُ الثَّانِي " أَنَّ التَّكْفِيرَ الْعَامَّ - كَالْوَعِيدِ الْعَامِّ - يَجِبُ الْقَوْلُ بِإِطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ عَلَى الْمُعَيَّنِ بِأَنَّهُ كَافِرٌ أَوْ مَشْهُودٌ لَهُ بِالنَّارِ: فَهَذَا يَقِفُ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَقِفُ عَلَى ثُبُوتِ شُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ تَأْمُرُنَا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى شَخْصٍ فِي الدُّنْيَا؛ إمَّا بِقَتْلِ أَوْ جَلْدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَيَكُونُ فِي الْآخِرَةِ غَيْرَ مُعَذَّبٍ مِثْلُ قِتَالِ الْبُغَاةِ والمتأولين مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى الْعَدَالَةِ وَمِثْلُ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَوْبَةً صَحِيحَةً فَإِنَّا نُقِيمُ الْحَدَّ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ كَمَا أَقَامَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ وَعَلَى الغامدية مَعَ قَوْلِهِ: {لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ} " وَمِثْلُ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مُتَأَوِّلًا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى الْعَدَالَةِ. بِخِلَافِ مَنْ لَا تَأْوِيلَ لَهُ فَإِنَّهُ لَمَّا شَرِبَ الْخَمْرَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ

ص: 498

وَاعْتَقَدُوا أَنَّهَا تَحِلُّ لِلْخَاصَّةِ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ مِثْلُ عُمَرِ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِمَا عَلَى أَنَّهُمْ إنْ أَقَرُّوا بِالتَّحْرِيمِ جُلِدُوا وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى الِاسْتِحْلَالِ قُتِلُوا. وَكَذَلِكَ نَعْلَمُ أَنَّ خَلْقًا لَا يُعَاقَبُونَ فِي الدُّنْيَا مَعَ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمُقِرِّينَ بِالْجِزْيَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَمِثْلُ الْمُنَافِقِينَ الْمُظْهِرِينَ الْإِسْلَامَ فَإِنَّهُمْ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَافِرُونَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ. وَهَذَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَأَمَّا الدُّنْيَا فَإِنَّمَا يُشْرَعُ فِيهَا مِنْ الْعِقَابِ مَا يُدْفَعُ

ص: 499

بِهِ الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ هُوَ إقَامَةُ الْقِسْطِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَعُقُوبَةُ الدُّنْيَا غَيْرُ مُسْتَلْزَمَةٍ لِعُقُوبَةِ الْآخِرَةِ وَلَا بِالْعَكْسِ. وَلِهَذَا أَكْثَرُ السَّلَفِ يَأْمُرُونَ بِقَتْلِ الدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ الَّذِي يُضِلُّ النَّاسَ لِأَجْلِ إفْسَادِهِ فِي الدِّينِ سَوَاءً قَالُوا: هُوَ كَافِرٌ أَوْ لَيْسَ بِكَافِرِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَتَكْفِيرُ " الْمُعَيَّنِ " مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ وَأَمْثَالِهِمْ - بِحَيْثُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْ الْكُفَّارِ - لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَقُومَ عَلَى أَحَدِهِمْ الْحُجَّةُ الرسالية الَّتِي يَتَبَيَّنُ بِهَا أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ لَا رَيْبَ أَنَّهَا كُفْرٌ. وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي تَكْفِيرِ جَمِيعِ " الْمُعَيَّنِينَ " مَعَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ

ص: 500

الْبِدْعَةِ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ وَبَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ يَكُونُ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَيْسَ فِي بَعْضٍ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَتُبَيَّنَ لَهُ الْمَحَجَّةُ. وَمَنْ ثَبَتَ إيمَانُهُ بِيَقِينِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ؛ بَلْ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ. وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا. وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يُوَفِّقَنَا وَسَائِر إخْوَانِنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ص: 501

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

فِي رَجُلٍ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا وَإِنَّمَا خَلَقَ الْكَلَامَ وَالصَّوْتَ فِي الشَّجَرَةِ وَمُوسَى عليه السلام سَمِعَ مِنْ الشَّجَرَةِ لَا مِنْ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يُكَلِّمْ جِبْرِيلَ بِالْقُرْآنِ وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. فَهَلْ هُوَ عَلَى الصَّوَابِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَيْسَ هَذَا عَلَى الصَّوَابِ؛ بَلْ هَذَا ضَالٌّ مُفْتَرٍ كَاذِبٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا؛ بَلْ هُوَ كَافِرٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَإِذَا قَالَ: لَا أُكَذِّبُ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ - وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} - بَلْ أَقَرَّ بِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ حَقٌّ لَكِنْ أَنْفِي مَعْنَاهُ وَحَقِيقَتَهُ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَنْ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً. وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ يُقَالُ لَهُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ

ص: 502

فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ يَوْمَ أَضْحَى؛ فَإِنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: ضَحُّوا أَيُّهَا النَّاسُ تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ فَشَكَرُوا ذَلِكَ وَأَخَذَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْهُ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَقَتَلَهُ بِخُرَاسَانَ سَلَمَةُ بْنُ أَحْوَزَ وَإِلَيْهِ نُسِبَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ الَّتِي تُسَمَّى " مَقَالَةَ الْجَهْمِيَّة " وَهِيَ نَفْيُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُ عِبَادَهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَمٌ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ وَيَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَوَافَقَ الْجَهْمَ عَلَى ذَلِكَ " الْمُعْتَزِلَةُ " أَصْحَابُ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَضَمُّوا إلَيْهَا بِدَعًا أُخْرَى فِي الْقَدَرِ وَغَيْرِهِ؛ لَكِنْ الْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى حَقِيقَةً وَتَكَلَّمَ حَقِيقَةً؛ لَكِنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ إمَّا فِي شَجَرَةٍ وَإِمَّا فِي هَوَاءٍ وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِذَاتِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ كَلَامٌ وَلَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا مَشِيئَةٌ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ. وَالْجَهْمِيَّة تَارَةً يَبُوحُونَ بِحَقِيقَةِ الْقَوْلِ فَيَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا وَلَا يَتَكَلَّمُ. وَتَارَةً لَا يُظْهِرُونَ هَذَا اللَّفْظَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الشَّنَاعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَيُقِرُّونَ بِاللَّفْظِ

ص: 503

وَلَكِنْ يُقْرِنُونَهُ بِأَنَّهُ خَلَقَ فِي غَيْرِهِ كَلَامًا. وَأَئِمَّةُ الدِّينِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَنُصُوصُ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ حَتَّى أَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ الطبري الْحَافِظَ لَمَّا ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ فِي " شَرْحِ أُصُولِ السُّنَّةِ " مَقَالَاتِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي الْأُصُولِ: ذَكَرَ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَقَالَ: فَهَؤُلَاءِ خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ نَفْسًا أَوْ أَكْثَرُ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَرْضِيِّينَ سِوَى الصَّحَابَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْإِعْصَارِ وَمُضِيِّ السِّنِينَ وَالْأَعْوَامِ وَفِيهِمْ نَحْوٌ مَنْ مِائَةِ إمَامٍ مِمَّنْ أَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِهِمْ وَتَدَيَّنُوا بِمَذَاهِبِهِمْ. وَلَوْ اشْتَغَلْت بِنَقْلِ قَوْلِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَبَلَغَتْ أَسْمَاؤُهُمْ أُلُوفًا: لَكِنِّي اخْتَصَرْت فَنَقَلْت عَنْ هَؤُلَاءِ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ وَمَنْ أَنْكَرَ قَوْلَهُمْ اسْتَتَابُوهُ أَوْ أَمَرُوا بِقَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ أَوْ صَلْبِهِ قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْأُمَّةِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ جَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فِي سِنِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ثُمَّ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ فَأَمَّا جَعْدٌ فَقَتَلَة خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ. وَأَمَّا جَهْمٌ فَقُتِلَ بِمُرْوٍ فِي خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ.

ص: 504

وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مِنْ وَجْهَيْنِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ يَوْمَ صفين: حَكَّمْت رَجُلَيْنِ؟ فَقَالَ: مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا مَا حَكَّمْت إلَّا الْقُرْآنَ وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي لَحْدِهِ قَامَ رَجُلٌ وَقَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لَهُ فَوَثَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَهْ الْقُرْآنُ مِنْهُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ. وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة قَالَ: سَمِعْت عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ: أَدْرَكْت مَشَايِخَنَا وَالنَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَفِي لَفْظٍ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالَ حَرْبٌ الكرماني ثنا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ يَعْنِي ابْنَ رَاهَوَيْه عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: أَدْرَكْت النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً أَدْرَكْت أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ دُونَهُمْ يَقُولُونَ: اللَّهُ الْخَالِقُ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ إلَّا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَهَذَا قَدْ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَة إسْحَاقُ وَإِسْحَاقُ إمَّا أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ - وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ - أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ الْقُرْآنِ أَخَالِقٌ هُوَ أَمْ مَخْلُوقٌ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِخَالِقِ وَلَا مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَيُّوبَ السختياني وَسُلَيْمَانَ

ص: 505

التيمي وَخَلْقٍ مِنْ التَّابِعِينَ. وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ بَلْ اشْتَهَرَ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ تَكْفِيرُ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَأَنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كَمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ؟ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِحَفْصِ الْفَرْدِ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو مِمَّنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَلَمَّا نَاظَرَ الشَّافِعِيَّ وَقَالَ لَهُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ قَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ - كَفَرْت بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ: ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة قَالَ: كَانَ فِي كِتَابِي عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَضَرْت الشَّافِعِيَّ أَوْ حَدَّثَنِي أَبُو شُعَيْبٍ إلَّا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ حَضَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَيُوسُفُ بْنُ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ فَسَأَلَ حَفْصٌ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهُ فَسَأَلَ يُوسُفَ بْنَ عَمْرٍو فَلَمْ يُجِبْهُ وَكِلَاهُمَا أَشَارَ إلَى الشَّافِعِيِّ فَسَأَلَ الشَّافِعِيَّ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ وَطَالَتْ فِيهِ الْمُنَاظَرَةُ فَقَامَ الشَّافِعِيُّ بِالْحُجَّةِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَفَّرَ حَفْصًا الْفَرْدَ. قَالَ الرَّبِيعُ: فَلَقِيت حَفْصًا فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ هَذَا فَقَالَ: أَرَادَ الشَّافِعِيُّ قَتْلِي. وَأَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَنُقِلَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَاسْتِتَابَتُهُ وَهَذَا الْمَشْهُورُ عَنْهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ.

ص: 506

وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِي فِي الِاعْتِقَادِ الَّذِي قَالَ فِي أَوَّلِهِ: " ذِكْرُ بَيَانِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ ": أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشيباني قَالَ فِيهِ:" وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا وَأَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ وَحْيًا وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا وَأَثْبَتُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ كَكَلَامِ الْبَرِيَّةِ فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلَامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ عَذَابَهُ وَتَوَعَّدَهُ حَيْثُ قَالَ: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} فَلَمَّا أَوْعَدَ اللَّهُ سَقَرَ لِمَنْ قَالَ: {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} عَلِمْنَا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ وَلَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ ". وَأَمَّا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فَكَلَامُهُ فِي مِثْلِ هَذَا مَشْهُورٌ مُتَوَاتِرٌ وَهُوَ الَّذِي اشْتَهَرَ بِمِحْنَةِ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة فَإِنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْقَوْلَ بِإِنْكَارِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَائِقِ أَسْمَائِهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ تَعْطِيلَ الْخَالِقِ سبحانه وتعالى وَدَعَوْا النَّاس إلَى ذَلِكَ وَعَاقَبُوا مَنْ لَمْ يُجِبْهُمْ إمَّا بِالْقَتْلِ وَإِمَّا بِقِطَعِ الرِّزْقِ وَإِمَّا بِالْعَزْلِ عَنْ الْوِلَايَةِ وَإِمَّا بِالْحَبْسِ أَوْ بِالضَّرْبِ وَكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهُمْ فَثَبَّتَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِمَامَ أَحْمَد حَتَّى أَخْمَدَ اللَّهُ بِهِ بَاطِلَهُمْ وَنَصَرَ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ عَلَيْهِمْ وَأَذَلَّهُمْ بَعْدَ الْعِزِّ وَأَخْمَلَهُمْ بَعْدَ الشُّهْرَةِ وَاشْتَهَرَ عِنْدَ خَوَاصِّ الْأُمَّةِ وَعَوَامِّهَا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ

ص: 507

اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ. وَأَمَّا إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى فَهَذِهِ مُنَاقَضَةٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَهَذَا بِلَا رَيْبٍ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ فَإِنَّهُ أَنْكَرَ نَصَّ الْقُرْآنِ وَبِذَلِكَ أَفْتَى الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَفُ فِي مَثَلِهِ وَاَلَّذِي يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ هُوَ فِي الْمَعْنَى مُوَافِقٌ لَهُ فَلِذَلِكَ كَفَّرَهُ السَّلَفُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " خَلْقِ الْأَفْعَالِ " قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: مَنْ قَالَ {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا} مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَلَا يَنْبَغِي لِمَخْلُوقِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ قَالَ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة إنَّهُ فِي الْأَرْضِ هَاهُنَا بَلْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَقَالَ: مَنْ قَالَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنَّا نَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة. قَالَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ: مَا الَّذِينَ قَالُوا إنَّ لِلَّهِ وَلَدًا أَكْفَرُ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي إدْرِيسَ يُسَمِّيهِمْ زَنَادِقَةَ الْعِرَاقِ

ص: 508

وَقِيلَ لَهُ: سَمِعْت أَحَدًا يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةُ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ سَمِعْت يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ - وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ - فَقَالَ كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا} ؟ قَالَ: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سلام نَظَرْت فِي كَلَامِ الْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ فَمَا رَأَيْت قَوْمًا أَضَلُّ فِي كُفْرِهِمْ مِنْهُمْ وَإِنِّي لأستجهل مَنْ لَا يُكَفِّرُهُمْ إلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ كُفْرَهُمْ. قَالَ: وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا كَمَا زَعَمُوا فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يُخَلَّدَ فِي النَّارِ إذْ قَالَ {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ؟ وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا مَخْلُوقٌ وَاَلَّذِي قَالَ: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} هَذَا أَيْضًا قَدْ ادَّعَى مَا ادَّعَى فِرْعَوْنُ فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى أَنْ يُخَلَّدَ فِي النَّارِ مِنْ هَذَا؟ وَكِلَاهُمَا عِنْدَهُ مَخْلُوقٌ. فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ فَاسْتَحْسَنَهُ وَأَعْجَبَهُ. وَمَعْنَى كَلَامِ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ رضي الله عنهم أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي الشَّجَرَةِ أَوْ غَيْرِهَا - كَمَا قَالَ هَذَا الجهمي الْمُعْتَزِلِيُّ الْمَسْئُولُ عَنْهُ - كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ: إنَّ الشَّجَرَةَ هِيَ الَّتِي قَالَتْ لِمُوسَى {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} وَمَنْ قَالَ: هَذَا مَخْلُوقٌ قَالَ ذَلِكَ فَهَذَا الْمَخْلُوقُ عِنْدَهُ كَفِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} كِلَاهُمَا مَخْلُوقٌ وَكِلَاهُمَا قَالَ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ كُفْرًا فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ أَيْضًا كُفْرٌ.

ص: 509

وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ يَئُولُ إلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ؛ وَإِنْ كَانُوا لَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَذَّبَ مُوسَى فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ: مِنْ أَنَّ رَبَّهُ هُوَ الْأَعْلَى وَأَنَّهُ كَلَّمَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} وَهُوَ قَدْ كَذَّبَ مُوسَى فِي أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ صَارَ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: (أَحَدُهَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْطَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا نُطْقًا مُعْتَادًا وَنُطْقًا خَارِجًا عَنْ الْمُعْتَادِ قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} وَقَدْ {ثَبَتَ أَنَّ الْحَصَى كَانَ يُسَبِّحُ فِي يَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ الْحَجْرَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ إنْطَاقِ الْجَمَادَاتِ؛ فَلَوْ كَانَ إذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ كَانَ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ كَانَ هَذَا كُلُّهُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ قَدْ كَلَّمَ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ

ص: 510

أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَكُلُّ نَاطِقٍ فَاَللَّهُ خَالِقُ نُطْقِهِ وَكَلَامِهِ فَلَوْ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الْكَلَامِ لَكَانَ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامَهُ حَتَّى كَلَامُ إبْلِيسَ وَالْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا تَقُولُهُ غُلَاةُ الْجَهْمِيَّة كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ يَقُولُونَ:

وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ

سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ

وَهَكَذَا أَشْبَاهُ هَؤُلَاءِ مِنْ غُلَاةِ الْمُشَبِّهَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَجْعَلُونَ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ الْخَالِقِ فَأُولَئِكَ يَجْعَلُونَ الْجَمِيعَ مَخْلُوقًا وَأَنَّ الْجَمِيعَ كَلَامُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْجَمِيعَ كَلَامَ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلِهَذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ اتِّصَالٌ بَيْنَ شَيْخِ الْجَهْمِيَّة الْحُلُولِيَّةِ وَشَيْخِ الْمُشَبِّهَةِ الْحُلُولِيَّةِ. وَبِسَبَبِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ سَلَّطَ اللَّهُ أَعْدَاءَ الدِّينِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} {الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} وَأَيُّ مَعْرُوفٍ أَعْظَمُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ. وَأَيُّ مُنْكَرٍ أَعْظَمُ مِنْ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ؟

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ لِهَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ: مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ

ص: 511

مِنْ الْكَلَامِ وَسَائِر الصِّفَاتِ فَإِنَّمَا يَعُودُ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ حَرَكَةً أَوْ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا كَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الْمُتَحَرِّكَ الْمُتَلَوِّنَ الْمُتَرَوِّحَ الْمَطْعُومَ وَإِذَا خَلَقَ بِمَحَلِّ حَيَاةً أَوْ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ إرَادَةً أَوْ كَلَامًا كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْحَيَّ الْعَالَمَ الْقَادِرَ الْمُرِيدَ الْمُتَكَلِّمَ. فَإِذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي الشَّجَرَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْأَجْسَامِ كَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ كَمَا لَوْ خَلَقَ فِيهِ إرَادَةً أَوْ حَيَاةً أَوْ عِلْمًا وَلَا يَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ كَمَا إذَا خَلَقَ فِيهِ حَيَاةً أَوْ قُدْرَةً أَوْ سَمْعًا أَوْ بَصَرًا كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْحَيَّ بِهِ وَالْقَادِرَ بِهِ وَالسَّمِيعَ بِهِ وَالْبَصِيرَ بِهِ فَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ وَغَيْرِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ فَلَا يَكُونُ هُوَ الْمُتَحَرِّكَ بِمَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَلَا الْمُصَوِّتَ بِمَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَلَا سَمْعُهُ وَلَا بَصَرُهُ وَقُدْرَتُهُ مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ كَلَامُهُ مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَلَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِذَلِكَ الْكَلَامِ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَقَّ مِنْ مَعْنًى لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَاسْمُ الْفَاعِلِ وَاسْمُ الْمَفْعُولِ وَالصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ وَأَفْعَالُ التَّفْضِيلِ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ مَعْنَاهَا دُونَ مَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّتِي هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْهُ وَالنَّاسُ

ص: 512

مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَحَرِّكٌ وَلَا مُتَكَلِّمٌ إلَّا بِحَرَكَةِ وَكَلَامٍ فَلَا يَكُونُ مُرِيدٌ إلَّا بِإِرَادَةِ وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ عَالِمٌ إلَّا بِعِلْمِ وَلَا قَادِرٌ إلَّا بِقُدْرَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. ثُمَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَقَّةُ مِنْ الْمَصْدَرِ إنَّمَا يُسَمَّى بِهَا مَنْ قَامَ بِهِ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ فَإِنَّمَا يُسَمَّى بِالْحَيِّ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ وَبِالْمُتَحَرِّكِ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَرَكَةُ وَبِالْعَالِمِ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَبِالْقَادِرِ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ. فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُسَمَّى بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَنَحْوِهِ مِنْ الصِّفَاتِ. وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاعْتِبَارِ فِي جَمِيعِ النَّظَائِرِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ وَنَحْوَهُ مِنْ الْمُشْتَقَّاتِ هُوَ مُرَكَّبٌ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَعَلَى الصِّفَةِ. وَالْمُرَكَّبُ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ بِدُونِ تَحَقُّقِ مُفْرَدَاتِهِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ: مِثْلُ تَكَلَّمَ وَكَلَّمَ وَيَتَكَلَّمُ وَيُكَلِّمُ وَعَلِمَ وَيَعْلَمُ وَسَمِعَ وَيَسْمَعُ وَرَأَى وَيَرَى وَنَحْوِ ذَلِكَ سَوَاءً قِيلَ: إنَّ الْفِعْلَ الْمُشْتَقَّ مِنْ الْمَصْدَرِ أَوْ الْمَصْدَرُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْفِعْلِ لَا نِزَاعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ فَاعِلَ الْفِعْلِ هُوَ فَاعِلُ الْمَصْدَرِ. فَإِذَا قِيلَ كَلَّمَ أَوْ عَلِمَ أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ تَعَلَّمَ فَفَاعِلُ التَّكْلِيمِ وَالتَّعْلِيمِ هُوَ الْمُكَلِّمُ وَالْمُعَلِّمُ وَكَذَلِكَ التَّعَلُّمُ وَالتَّكَلُّمُ وَالْفَاعِلُ هُوَ الَّذِي قَامَ بِهِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ التَّكْلِيمُ وَالتَّعْلِيمُ وَالتَّكَلُّمُ وَالتَّعَلُّمُ فَإِذَا قِيلَ. تَكَلَّمَ فُلَانٌ أَوْ كَلَّمَ فُلَانٌ فُلَانًا فَفُلَانٌ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ وَالْمُكَلِّمُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى

ص: 513

تَكْلِيمًا} وَقَوْلُهُ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} وَقَوْلُهُ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُكَلِّمُ فَكَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ كَلَّمَ بِكَلَامِ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا أَنَّهُ يَلْزَمُ الْجَهْمِيَّة عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ خَلَقَهُ اللَّهُ كَلَامًا لَهُ: إذْ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ إلَّا كَوْنُهُ خَلَقَهُ وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ كَلَامًا وَلَوْ فِي غَيْرِهِ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِهِ عِنْدَهُمْ وَلَيْسَ لِلْكَلَامِ عِنْدَهُمْ مَدْلُولٌ يَقُومُ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى لَوْ كَانَ مَدْلُولُ " قَائِمًا " يَدُلُّ لِكَوْنِهِ خَلَقَ صَوْتًا فِي مَحَلٍّ وَالدَّلِيلُ يَجِبُ طَرْدُهُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ صَوْتٍ يَخْلُقُهُ لَهُ كَذَلِكَ وَهُمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ الْمَخْلُوقُ عَلَى جَمِيعِ الصِّفَاتِ فَلَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَوْلِهِمْ وَالصَّوْتُ الَّذِي هُوَ لَيْسَ بِكَلَامِ. (الثَّانِي أَنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالْحَرَكَةِ عَادَ حُكْمُهَا إلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَلَا يَعُودُ حُكْمُهَا إلَى غَيْرِهِ. (الثَّالِثُ أَنْ يُشْتَقَّ مِنْهُ الْمَصْدَرُ وَاسْمُ الْفَاعِلِ وَالصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ بِهِ

ص: 514

وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَا يُشْتَقُّ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ مَا يُبَيِّنُ قَوْلَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ التَّكَلُّمِ عَائِدًا إلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا إلَى اللَّهِ. (الرَّابِعُ أَنَّ اللَّهَ أَكَّدَ تَكْلِيمَ مُوسَى بِالْمَصْدَرِ فَقَالَ (تَكْلِيمًا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: التَّوْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ يَنْفِي الْمَجَازَ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا أَوْ كَتَبَ إلَيْهِ كِتَابًا بَلْ كَلَّمَهُ مِنْهُ إلَيْهِ. (وَالْخَامِسُ أَنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُوسَى بِتَكْلِيمِهِ إيَّاهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يُكَلِّمْهُ وَقَالَ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} الْآيَةَ فَكَانَ تَكْلِيمُ مُوسَى مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ وَقَالَ: {يَا مُوسَى إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} وَقَالَ {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَالْوَحْيُ هُوَ مَا نَزَّلَهُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْأَنْبِيَاءِ بِلَا وَاسِطَةٍ فَلَوْ كَانَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى إنَّمَا هُوَ صَوْتٌ خَلَقَهُ فِي الْهَوَاءِ لَكَانَ وَحْيُ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ عَرَفُوا الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ بِلَا وَاسِطَةٍ وَمُوسَى إنَّمَا عَرَفَهُ بِوَاسِطَةِ وَلِهَذَا كَانَ غُلَاةُ الْجَهْمِيَّة مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ يَدَّعُونَ أَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْإِلْهَامِ أَفْضَلُ مِمَّا حَصَلَ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

ص: 515

وَلَمَّا فَهِمَ السَّلَفُ حَقِيقَةَ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ الرِّسَالَةِ فَإِنَّ الرُّسُلَ إنَّمَا بُعِثُوا لِيُبَلِّغُوا كَلَامَ اللَّهِ؛ بَلْ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ التَّوْحِيدِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا حَيَاةٌ هُوَ كَالْمَوَاتِ بَلْ مَنْ لَا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ فَهُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ إذْ ذَاتٌ لَا صِفَةَ لَهَا إنَّمَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهَا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ كَتَقْدِيرِ وُجُودٍ مُطْلَقٍ لَا يَتَعَيَّنُ وَلَا يَتَخَصَّصُ. فَكَانَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ مُضَاهِيًا لِقَوْلِ " الْمُتَفَلْسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ " الَّذِينَ يَجْعَلُونَ وُجُودَ الرَّبِّ وُجُودًا مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا صِفَةَ لَهُ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الذِّهْنِ. وَهَؤُلَاءِ الدَّهْرِيَّةُ يُنْكِرُونَ أَيْضًا حَقِيقَةَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى وَيَقُولُونَ إنَّمَا هُوَ فَيْضٌ فَاضَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِي الْوَحْيِ إلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ الْبَشَرِ لَكِنَّهُ صَدَرَ عَنْ نَفْسٍ صَافِيَةٍ شَرِيفَةٍ. وَإِذَا كَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ خَيْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَقَدْ كَفَّرَ السَّلَفُ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ فَكَيْفَ هَؤُلَاءِ وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ لَا يُحْصَى قَالَ حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الكرماني: سَمِعْت إسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْه يَقُولُ. لَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ اخْتِلَافٌ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَكَيْفَ يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ الرَّبِّ عَزَّ ذِكْرُهُ مَخْلُوقًا؟ وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: عِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ مَخْلُوقَةٌ فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا كَانَ اللَّهُ

ص: 516

- تَبَارَكَ اسْمُهُ - وَلَا عِلْمَ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا مَشِيئَةَ وَهُوَ الْكُفْرُ الْمَحْضُ الْوَاضِحُ؛ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا لَهُ الْمَشِيئَةُ وَالْقُدْرَةُ فِي خَلْقِهِ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ اللَّهِ مَخْلُوقٌ. فَقِيلَ لَهُ: مَنْ أَيْنَ قُلْت هَذَا؟ قَالَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} وَلَا يَكُونُ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ. وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنِ مِنْهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ وَمِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نفير قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {إنَّكُمْ لَنْ تَرْجِعُوا إلَى اللَّهِ بِشَيْءِ أَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي أمامة مَرْفُوعًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لِأَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ لَمَّا سَمِعَ قُرْآنَ مُسَيْلِمَةَ " وَيَحْكُمُ أَيْنَ يَذْهَبُ بِعُقُولِكُمْ؟ إنَّ هَذَا كَلَامًا لَمْ يَخْرَجْ مِنْ إلٍّ " أَيْ مِنْ رَبٍّ. وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ: إنَّهُ مِنْهُ خَرَجَ وَمِنْهُ بَدَا. أَنَّهُ فَارَقَ ذَاتَه وَحَلَّ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ إذْ تَكَلَّمَ بِهِ لَا يُفَارِقُ ذَاتَه

ص: 517

وَيَحِلُّ بِغَيْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ؟ قَالَ تَعَالَى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا} فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْكَلِمَةَ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ تُفَارِقْ ذَاتَهمْ. وَ " أَيْضًا " فَالصِّفَةُ لَا تُفَارِقُ الْمَوْصُوفَ وَتَحِلُّ بِغَيْرِهِ لَا صِفَةُ الْخَالِقِ وَلَا صِفَةُ الْمَخْلُوقِ وَالنَّاسُ إذَا سَمِعُوا كَلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بَلَّغُوهُ عَنْهُ كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي بَلَّغُوهُ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ بَلَّغُوهُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} وَلَكِنَّ مَقْصُودَ السَّلَفِ الرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ قَدْ ابْتَدَأَ وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ لَا مِنْ اللَّهِ كَمَا يَقُولُونَ: كَلَامُهُ لِمُوسَى خَرَجَ مِنْ الشَّجَرَةِ فَبَيَّنَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّهِ بَدَأَ وَخَرَجَ وَذَكَرُوا قَوْلَهُ {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَوْلَ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ. وَ " مِنْ " هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَإِنْ كَانَ الْمَجْرُورُ بِهَا عَيْنًا يَقُومُ بِنَفْسِهِ لَمْ

ص: 518

يَكُنْ صِفَةً لِلَّهِ كَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وَقَوْلِهِ فِي الْمَسِيح: {وَرُوحٌ مِنْهُ} وَكَذَلِكَ مَا يَقُومُ بِالْأَعْيَانِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَجْرُورُ بِهَا صِفَةً وَلَمْ يُذْكَرْ لَهَا مَحَلٌّ كَانَ صِفَةً لِلَّهِ كَقَوْلِهِ {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} . وَكَذَلِكَ قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَنَّ الْقُرْآنَ نُزِّلَ مِنْهُ وَأَنَّهُ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْهُ رَدًّا عَلَى هَذَا الْمُبْتَدِعِ الْمُفْتَرِي وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَرُوحُ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ} وَقَالَ {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَالَ هُنَا {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} فَبَيَّنَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَهُ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ هَوَاءٍ وَلَا مِنْ لَوْحٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ سَائِر آيَاتِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَقَوْلِهِ {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وَقَوْلِهِ {حم} {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَقَوْلِهِ {الم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} .

ص: 519

فَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَاللَّوْحِ وَالْهَوَاءِ فَهُوَ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ مُكَذِّبٌ لِكِتَابِ اللَّهِ. مُتَّبِعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنَ مَا نَزَلَ مِنْهُ وَمَا نَزَّلَهُ مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوفَاتِ كَالْمَطَرِ بِأَنْ قَالَ: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} ؟ فَذَكَرَ الْمَطَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ نَزَّلَهُ مِنْ السَّمَاءِ وَالْقُرْآنُ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْهُ. وَأَخْبَرَ بِتَنْزِيلِ مُطْلَقٍ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} لِأَنَّ الْحَدِيدَ يُنَزَّلُ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ لَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ؛ فَإِنَّ الذَّكَرَ يُنْزِلُ الْمَاءَ فِي الْإِنَاثِ. فَلَمْ يَقُلْ فِيهِ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْ كَانَ جِبْرِيلُ أَخَذَ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَكَانَ الْيَهُودُ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ لِمُوسَى التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ وَأَنْزَلَهَا مَكْتُوبَةً. فَيَكُونُ بَنُو إسْرَائِيلَ قَدْ قَرَءُوا الْأَلْوَاحَ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهُ عَنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمُحَمَّدٌ أَخَذَهُ عَنْ جِبْرِيلَ وَجِبْرِيلُ عَنْ اللَّوْحِ فَيَكُونُ بَنُو إسْرَائِيلَ بِمَنْزِلَةِ جِبْرِيلَ وَتَكُونُ مَنْزِلَةُ بَنِي إسْرَائِيلَ أَرْفَعَ مِنْ مَنْزِلَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ مِنْ فَضَائِلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ وَأَنَّهُ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ تِلَاوَةً لَا كِتَابَةً وَفَرَّقَهُ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ. فَقَالَ: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} .

ص: 520

ثم إنْ كَانَ جِبْرِيلُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ اللَّهِ وَإِنَّمَا وَجَدَهُ مَكْتُوبًا كَانَتْ الْعِبَارَةُ عِبَارَةَ جِبْرِيلَ وَكَانَ الْقُرْآنُ كَلَامَ جِبْرِيلَ تَرْجَمَ بِهِ عَنْ اللَّهِ. كَمَا يُتَرْجَمُ عَنْ الْأَخْرَسِ الَّذِي كَتَبَ كَلَامًا وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. وَهَذَا خِلَافُ دِينِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} قِيلَ لَهُ فَقَدْ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} فَالرَّسُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَالرَّسُولُ فِي الْأُخْرَى جِبْرِيلُ فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الرَّسُولَ أَحْدَثَ عِبَارَتَهُ لَتَنَاقَضَ الْخِبْرَانِ. فَعُلِمَ أَنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِ إضَافَةَ تَبْلِيغٍ لَا إضَافَةَ إحْدَاثٍ وَلِهَذَا قَالَ: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} وَلَمْ يَقُلْ مَلَكٌ وَلَا نَبِيٌّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} فَكَانَ {النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ وَيَقُولُ: أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لَأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؟} وَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {الم} {غُلِبَتِ الرُّومُ} خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَرَأَهَا عَلَى عَلَى النَّاسِ فَقَالُوا: هَذَا كَلَامُك أَمْ كَلَامُ صَاحِبِك؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِكَلَامِي وَلَا كَلَامَ صَاحِبِي وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. وَإِنْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} قِيلَ لَهُ

ص: 521

هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْك فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} عَلِمَ أَنَّ الذِّكْرَ مِنْهُ مُحْدَثٌ وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِمُحْدَثِ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ إذَا وُصِفَتْ مُيِّزَ بِهَا بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَغَيْرِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: مَا يَأْتِينِي مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ إلَّا أَكْرَمَتْهُ وَمَا آكُلُ إلَّا طَعَامًا حَلَالًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُحْدَثَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَ الَّذِي يَقُولُهُ الجهمي وَلَكِنَّهُ الَّذِي أُنْزِلَ جَدِيدًا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ يُنَزِّلُ الْقُرْآنَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَالْمُنَزَّلُ أَوَّلًا هُوَ قَدِيمٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُنَزَّلِ آخِرًا. وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ قَدِيمٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ كَمَا قَالَ: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} وَقَالَ: {تَاللَّهِ إنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} وَقَالَ: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إفْكٌ قَدِيمٌ} وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} لَمْ يَقُلْ جَعَلْنَاهُ فَقَطْ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ بِمَعْنَى خَلَقْنَاهُ؛ وَلَكِنْ قَالَ: {جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أَيْ صَيَّرْنَاهُ عَرَبِيًّا لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُنَزِّلَهُ عَجَمِيًّا فَلَمَّا أَنْزَلَهُ عَرَبِيًّا كَانَ قَدْ جَعَلَهُ عَرَبِيًّا دُونَ عَجَمِيٍّ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي فَارَقُوا بِهَا الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 522

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

عَمَّنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا فَقَالَ لَهُ آخَرُ: بَلْ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا فَقَالَ: إنْ قُلْت كَلَّمَهُ فَالْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ وَصَوْتٍ وَالْحَرْفُ وَالصَّوْتُ مُحْدَثٌ وَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى بِحَرْفِ وَصَوْتٍ فَهُوَ كَافِرٌ فَهَلْ هُوَ كَمَا قَالَ أَوْ لَا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا فَهَذَا إنْ كَانَ لَمْ يَسْمَعْ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ أَنَّ هَذَا نَصُّ الْقُرْآنِ فَإِنْ أَنْكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إنْ كَانَ كَلَامُهُ بَعْدَ أَنْ يَجْحَدَ نَصَّ الْقُرْآنِ بَلْ لَوْ قَالَ: إنَّ مَعْنَى كَلَامِي أَنَّهُ خَلَقَ صَوْتًا فِي الْهَوَاءِ فَأَسْمَعُهُ مُوسَى كَانَ كَلَامُهُ أَيْضًا كُفْرًا وَهُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ كَفَّرَهُمْ السَّلَفُ وَقَالُوا: يُسْتَتَابُونَ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا؛ لَكِنْ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يُبَيِّنُ لَهُ الصَّوَابَ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَفَرَ. إذْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ

ص: 523

يُخْطِئُ فِيمَا يَتَأَوَّلُهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَيَجْهَلُ كَثِيرًا مِمَّا يَرِدُ مِنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ مَرْفُوعَانِ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْكُفْرُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْبَيَانِ. وَالْأَئِمَّةُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِقَتْلِ مِثْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ وَيَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ قِيلَ إنَّهُمْ أُمِرُوا بِقَتْلِهِمْ لِكُفْرِهِمْ وَقِيلَ لِأَنَّهُمْ إذَا دَعَوْا النَّاسَ إلَى بِدْعَتِهِمْ أَضَلُّوا النَّاسَ فَقُتِلُوا لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَحِفْظًا لِدِينِ النَّاسِ أَنْ يُضِلُّوهُمْ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ الْجَهْمِيَّة مِنْ شَرِّ طَوَائِفِ أَهْلِ الْبِدَعِ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ كَثِيرٌ عَنْ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً. وَمِنْ الْجَهْمِيَّة: الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا كَلَّمَ مُوسَى بِكَلَامِ مَخْلُوقٍ خَلَقَهُ فِي الْهَوَاءِ وَإِنَّهُ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ - وَإِنَّهُ لَيْسَ مُبَايِنًا لِخَلْقِهِ وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الْخَالِقِ وَتَكْذِيبَ رُسُلِهِ وَإِبْطَالَ دِينِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الجهمي: إنْ قُلْت كَلَّمَهُ فَالْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ وَصَوْتٍ وَالْحَرْفُ وَالصَّوْتُ مُحْدَثٌ وَمَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى بِحَرْفِ وَصَوْتٍ فَهُوَ كَافِرٌ. فَيُقَالُ لِهَذَا الْمُلْحِدِ: أَنْتَ تَقُولُ إنَّهُ كَلَّمَهُ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ

ص: 524

لَكِنْ تَقُولُ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ خَلَقَهُ فِي الْهَوَاءِ وَتَقُولُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُومَ بِهِ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ إلَّا بِمُتَحَيِّزِ وَالْبَارِي لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُتَحَيِّزٌ فَقَدْ كَفَرَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ جَحَدَ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَانَ أَوْلَى بِالْكُفْرِ مِمَّنْ أَقَرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَإِنْ قَالَ الْجَاحِدُ لِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّ الْعَقْلَ مَعَهُ قَالَ لَهُ الْمُوَافِقُ لِلنُّصُوصِ: بَلْ الْعَقْلُ مَعِي وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهَذَا يَقُولُ إنَّ مَعَهُ السَّمْعَ وَالْعَقْلَ وَذَاكَ إنَّمَا يَحْتَجُّ لِقَوْلِهِ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْعَقْلِ الَّذِي يُبَيِّنُ مُنَازِعُهُ فَسَادَهُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعَقْلَ مَعَهُ. " وَالْكُفْرُ " هُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ خَالَفَ شَيْئًا عُلِمَ بِنَظَرِ الْعَقْلِ يَكُونُ كَافِرًا وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ جَحَدَ بَعْضَ صَرَائِحِ الْعُقُولِ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ كُفْرًا فِي الشَّرِيعَةِ. وَأَمَّا مَنْ خَالَفَ مَا عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِلَا نِزَاعٍ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا الْإِخْبَارُ عَنْ اللَّهِ بِأَنَّهُ مُتَحَيِّزٌ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا وَهَذَا يَكْفُرُ. وَهَذَا اللَّفْظُ مُبْتَدَعٌ وَالْكَفْرُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمُجَرَّدِ أَسْمَاءٍ مُبْتَدَعَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ بَلْ يَسْتَفْسِرُ هَذَا الْقَائِلَ إذَا قَالَ: إنَّ اللَّهَ مُتَحَيِّزٌ أَوْ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ فَإِنْ قَالَ: أَعْنِي بِقَوْلِي إنَّهُ مُتَحَيِّزٌ

ص: 525

أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنَّ الْمَخْلُوقَاتِ قَدْ حَازَتْهُ وَأَحَاطَتْ بِهِ فَهَذَا بَاطِلٌ. وَإِنْ قَالَ أَعْنِي بِهِ أَنَّهُ مُنْحَازٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ مُبَايِنٌ لَهَا فَهَذَا حَقٌّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَحُوزُ الْخَالِقَ فَقَدْ أَصَابَ وَإِنْ قَالَ إنَّ الْخَالِقَ لَا يُبَايِنُ الْمَخْلُوقَ وَيَنْفَصِلُ عَنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَالنَّاسُ فِي الْجَوَابِ عَنْ حُجَّتِهِ الدَّاحِضَةِ - وَهِيَ قَوْلُهُ " لَوْ قُلْت إنَّهُ كَلَّمَهُ فَالْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ وَصَوْتٍ وَالْحَرْفُ وَالصَّوْتُ مُحْدَثٌ " - ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ مَنَعُوهُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَصِنْفٌ مَنَعُوهُ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ - وَصِنْفٌ لَمْ يَمْنَعُوهُ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَلْ اسْتَفْسَرُوهُ وَبَيَّنُوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا. فَ " الصِّنْفُ الْأَوَّلُ " أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ وَمِنْ اتَّبَعَهُمَا قَالُوا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ وَصَوْتٍ بَلْ الْكَلَامُ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ عِبَارَةٌ عَنْهُ " وَذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِكُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَالْخَبَرَ عَنْ كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا وَقَالُوا: إنَّهُ اسْمُ الْكَلَامِ حَقِيقَةً فَيَكُونُ اسْمُ الْكَلَامِ مُشْتَرَكًا أَوْ مَجَازًا فِي كَلَامِ الْخَالِقِ وَحَقِيقَةً فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ.

ص: 526

" وَالصِّنْفُ الثَّانِي " سَلَّمُوا لَهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ وَصَوْتٍ وَمَنَعُوهُمْ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ وَهُوَ أَنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ لَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا. وَصِنْفٌ قَالُوا: إنَّ الْمُحْدَثَ كَالْحَادِثِ سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ لَا يَكُونُ قَدِيمًا وَهُوَ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ قَدِيمٌ وَهُوَ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ كَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ وَأَتْبَاعِهِ السالمية وَطَوَائِفَ مِمَّنْ اتَّبَعَهُ وَقَالَ هَؤُلَاءِ فِي الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ نَظِيرُ مَا قَالَهُ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ فِي الْمَعَانِي. وَقَالُوا كَلَامٌ لَا بِحَرْفِ وَلَا صَوْتٍ لَا يُعْقَلُ وَمَعْنًى يَكُونُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَاتُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ - فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ عَقْلًا وَشَرْعًا وَإِخْرَاجُ الْحُرُوفِ عَنْ مُسَمَّى الْكَلَامِ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ جَمِيعِ اللُّغَاتِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ الْمَخْلُوقَةَ فِي غَيْرِ كَلَامِ اللَّهِ حَقِيقَةٌ أَمْكَنَ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ كَلَّمَ مُوسَى بِكَلَامِ مَخْلُوقٍ فِي غَيْرِهِ. وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ الْأَوَّلِينَ: إذَا قُلْتُمْ إنَّ الْكَلَامَ هُوَ مُجَرَّدُ الْمَعْنَى

ص: 527

وَقَدْ خَلَقَ عِبَارَةَ بَيَانٍ. . . (1) فَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ تِلْكَ الْعِبَارَةَ كَلَامُهُ حَقِيقَةً بَطَلَتْ حُجَّتُكُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَإِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِكُمْ عَلَيْهِمْ قَوْلُكُمْ إنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْلَمَ بِعِلْمِ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ وَأَنْ يَقْدِرَ بِقُدْرَةِ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ وَأَنْ يُرِيدَ بِإِرَادَةِ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ وَإِنْ قُلْتُمْ هِيَ كَلَامٌ مَجَازًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى مَجَازًا فِي اللَّفْظِ وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ جَمِيعِ اللُّغَاتِ. وَ " الصِّنْفُ الثَّالِثُ ": الَّذِينَ لَمْ يَمْنَعُوا الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَلَكِنْ اسْتَفْسَرُوهُمْ وَبَيَّنُوا أَنَّ هَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ قَوْلِكُمْ بَلْ قَالُوا: إنْ قُلْتُمْ: إنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ مُحْدَثٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِكُمْ وَتَنَاقُضِهِ وَهَذَا قَوْلٌ مَمْنُوعٌ وَإِنْ قُلْتُمْ: بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَدِيمًا فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَكِنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ مُحْدَثَةٌ. وَهَؤُلَاءِ " صِنْفَانِ ": صِنْفٌ قَالُوا: إنَّ الْمُحْدَثَ هُوَ الْمَخْلُوقُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ فَإِذَا قُلْنَا: الْحَرْفُ وَالصَّوْتُ لَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِنَا لَا يَكُونُ إلَّا مَخْلُوقًا وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ هَذَا الْمُعْتَزِلِيُّ أَبْطَلَ قَوْلَهُ

(1)

بياض بالأصل

ص: 528

بِقَوْلِهِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ مَخْلُوقٍ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ لَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ مَخْلُوقٍ فِيهِ تَلْبِيسٌ. وَنَحْنُ لَا نَقُولُ كَلَّمَ مُوسَى بِكَلَامِ قَدِيمٍ وَلَا بِكَلَامِ مَخْلُوقٍ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ كَمَا أَنَّهُ سبحانه وتعالى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَأْتِي فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ كَمَا قَالَ {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَقَالَ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ كَثِيرٌ. يُبَيِّنُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ إذَا شَاءَ فَعَلَ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ تَكْلِيمِهِ وَأَفْعَالِهِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ وَمَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ هُوَ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ. وَالْمَخْلُوقُ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِالْخَالِقِ وَلَا يَكُونُ الرَّبُّ مَحَلًّا لِلْمَخْلُوقَاتِ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَقُومُ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ كَلِمَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ مَخْلُوقًا إنَّمَا الْمَخْلُوقُ مَا كَانَ بَائِنًا عَنْهُ. وَكَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنِ مِنْهُ وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ

ص: 529

وَإِلَيْهِ يَعُودُ فَقَالُوا: مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَا أَنَّهُ خَلَقَهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ. وَهَذَا " الْجَوَابُ " هُوَ جَوَابُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْفِقْهِ وَطَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ: مِنْ الهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ. وَأَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: مِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ جَوَابَ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَهُمْ الَّذِينَ يَرْتَضُونَ قَوْلَ ابْنِ كُلَّابٍ فِي الْقُرْآنِ وَهُمْ طَوَائِفُ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ جَوَابَ الصِّنْفِ الثَّانِي وَهُمْ الطَّوَائِفُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ قَوْلَ ابْنِ كُلَّابٍ وَيَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ: كالسالمية وَطَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ جَوَابَ الطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ وَهُمْ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ قَوْلَ الطَّائِفَتَيْنِ المتقدمتين الْكُلَّابِيَة والسالمية. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ الكَرَّامِيَة - والكَرَّامِيَة يَنْتَسِبُونَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ - وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَخْتَارُ قَوْلَ الكَرَّامِيَة أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَنَاقُضٍ آخَرَ؛ بَلْ يَقُولُ بِقَوْلِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ: كَالْبُخَارِيِّ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ السَّلَفِ:

ص: 530

كَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القرظي وَالزُّهْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَمَا نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ تَضِيقُ عَنْهَا هَذِهِ الْوَرَقَةُ. وَبَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مُنَازَعَاتٌ وَدَقَائِقُ تَضِيقُ عَنْهَا هَذِهِ الْوَرَقَةُ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ وَبَيَّنَّا حَقِيقَةَ كُلِّ قَوْلٍ وَمَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّوَابُ فِي صَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ؛ لَكِنْ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَضْلِيلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ. وَالْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا يُقْتَلُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

ص: 531

وَسُئِلَ أَيْضًا رحمه الله:

عَمَّنْ قَالَ: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا وَسَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ وَوَعَاهُ قَلْبُهُ وَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ وَنَاوَلَهُ إيَّاهُ مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِهِ وَقَالَ آخَرُ: لَمْ يُكَلِّمْهُ إلَّا بِوَاسِطَةِ.

فَأَجَابَ:

الْقَائِلُ الَّذِي قَالَ: إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا - كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ - مُصِيبٌ وَأَمَّا الَّذِي قَالَ: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بِوَاسِطَةِ فَهَذَا ضَالٌّ مُخْطِئٌ؛ بَلْ قَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ؛ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ إنْكَارٌ لِمَا قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلِمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} الْآيَةَ فَفَرَّقَ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ - كَمَا كَلَّمَ مُوسَى - وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ بِوَاسِطَةِ رَسُولٍ كَمَا أَوْحَى إلَى غَيْرِ مُوسَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} .

ص: 532

وَالْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَحْفُوظِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثُ {الْتَقَى آدَمَ وَمُوسَى قَالَ آدَمَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي كَلَّمَك اللَّهُ تَكْلِيمًا لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَك وَبَيْنَهُ رَسُولًا مِنْ خَلْقِهِ} . وَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا كَفَّرُوا الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ كَلَامًا فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ سَمِعَهُ مُوسَى وَفَسَّرَ التَّكْلِيمَ بِذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ} فَهَذَا قَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ - مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَإِذَا أَنْكَرَهُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ " نَاوَلَهَا بِيَدِهِ إلَى يَدِهِ " فَهَذَا مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَهُوَ هَكَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لَكِنْ لَا أَعْلَمُ غَيْرَ هَذَا اللَّفْظِ مَأْثُورًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَالْمُتَكَلِّم بِهِ إنْ أَرَادَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 533

مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْأَعْلَامُ أَئِمَّةُ الدِّينِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ -:

هَلْ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي نَتْلُوهُ الْقَائِمُ بِنَا حِينَ التِّلَاوَةِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ وَكَانَ صِفَةً لَهُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ كَلَامُهُ فَهَلْ إذَا تَلَوْنَاهُ وَقَامَ بِنَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَتُهُ؟ أَمْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ دُونَ صِفَتِهِ؟ أَمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يَجِبُ بَيَانُهُ؟ وَهَلْ إذَا قَامَ بِنَا كَانَ مُنْتَقِلًا عَنْ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَامَ بِهِ؟ أَمْ يَكُونُ قَائِمًا بِنَا وَبِهِ مَعًا؟ أَمْ الَّذِي قَامَ بِنَا يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ حِكَايَةً عَنْهُ وَيَكُونُ إطْلَاقُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ مَجَازًا؟ وَهَلْ يَكُونُ صِفَةً لَنَا مُحْدَثَةً قَامَتْ بِمُحْدَثِ؛ إذْ الْقَدِيمُ لَا يَقُومُ بِمُحْدَثِ وَالْمُحْدَثُ لَا يَكُونُ قَدِيمًا وَهَلْ " التِّلَاوَةُ " هِيَ نَفْسُ الْمَتْلُوِّ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " جَوَابُهَا يَحْتَمِلُ الْبَسْطَ وَيُمْكِنُ فِيهِ الِاخْتِصَارُ ثُمَّ بَسَطَ الْجَوَابَ بَعْضَ الْبَسْطِ؛ فَأَمَّا الْجَوَابُ الْمُخْتَصَرُ فَإِنَّهُ يُقَالُ: جَوَابُ

ص: 534

هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى " مُقَدِّمَةٍ " وَهِيَ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ لِمَا بَلَغَهُ عَنْ غَيْرِهِ: هَذَا كَلَامُ ذَلِكَ الْغَيْرِ؛ فَإِنَّ الْمُحَدِّثَ إذَا حَدَّثَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى} أَوْ قَوْلِهِ: {الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ} أَوْ قَوْلِهِ: {مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَكَلَّمَ بِهِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ فَهُوَ الَّذِي أَخْبَرَ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ الَّذِي أَلَّفَ حُرُوفَهُ وَتَكَلَّمَ بِهَا بِصَوْتِهِ. ثُمَّ الْمُبَلِّغُ بِذَلِكَ عَنْهُ بَلَّغَ كَلَامَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ} فَدَعَا بِالنَّضْرَةِ لِمَنْ سَمِعَ مِنْهُ حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ. فَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَسْمُوعَ مِنْهُ هُوَ الْحَدِيثُ الْمُبَلَّغُ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُبَلِّغَ عَنْهُ بَلَّغَهُ بِأَفْعَالِهِ وَأَصْوَاتِهِ وَأَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْهُ هُوَ صَوْتُهُ لَا صَوْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَكَلَّمَ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ بِصَوْتِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ فَالْمُبَلَّغُ عَنْهُ هُوَ حَدِيثُهُ الَّذِي سُمِعَ مِنْهُ وَلَيْسَ الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ صَوْتَهُ. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: هَلْ هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي قَرَأَهُ الْمُحَدِّثُ الْقَائِمُ بِهِ

ص: 535

حِينَ الْقِرَاءَةِ هُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ وَكَانَ صِفَةً لَهُ أَمْ لَا؟ قِيلَ لَهُ: إنْ كُنْت تُرِيدُ أَنَّ نَفْسَ الْحَدِيثِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ كَانَ صِفَةً لَهُ؛ فَنَعَمْ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ أَنَّ مَا اخْتَصَّ بِالْقَارِئِ مِنْ حَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ هُوَ الْقَائِمُ بِالرَّسُولِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إنْ أَرَدْت أَنَّ نَفْسَ مَا اخْتَصَّ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ حَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ وَالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ هِيَ بِعَيْنِهَا انْتَقَلَتْ عَنْ الرَّسُولِ وَقَامَتْ بِالْقَارِئِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: هَذَا هُوَ هَذَا وَلَيْسَ هُوَ إيَّاهُ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ هَذَا وَلَيْسَ هُوَ عَيْنَهُ: لَفْظٌ فِيهِ إجْمَالٌ فَإِنَّ مَنْ نَقَلَ لَفْظَ غَيْرِهِ كَمَا سَمِعَهُ وَكَتَبَهُ فِي كِتَابٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ: هَذَا كَلَامُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ وَهَذَا نَفْسُ كَلَامِهِ وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِهِ. وَمُرَادُهُ أَنَّ نَفْسَ مَا قَالَهُ هُوَ الَّذِي بَلَغَهُ عَنْهُ وَهُوَ الْمَكْتُوبُ فِي الْكِتَابِ لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: لِمَا سَمِعَ مِنْ الْقَارِئِ هَذَا عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ بِعَيْنِهِ أَوْ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ قَالَ لِمَا بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ بِعَيْنِهِ. وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ كَانَ صَادِقًا

ص: 536

وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: أَنَّ الْقُرْآنَ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ مُطْبِقِينَ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ؛ وَالْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ نَفَى ذَلِكَ. وَقَدْ يُقَالُ لِكَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ: هَذَا كَلَامُ زَيْدٍ بِعَيْنِهِ؛ وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِ زَيْدٍ وَهَذَا نَفْسُ كَلَامِ زَيْدٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ؛ بِحَيْثُ يَسْمَعُ صِفَةَ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمِ الْمُخْتَصِّ بِهِ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ أَيُّوبُ السختياني. كَانَ الْحَسَنُ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ فَيَأْتِي مِثْلَ الدُّرِّ؛ فَتَكَلَّمَ بِهِ بَعْدَهُ قَوْمٌ فَجَاءَ مِثْلَ الْبَعْرِ. وَالْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلَامِ مِنْ الْبَشَرِ لَهُ صَوْتٌ يَخُصُّهُ وَنَغْمَةٌ تَخُصُّهُ كَمَا لَهُ سَجِيَّةٌ تَخُصُّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} . وَلَهُ أَيْضًا - إنْ كَانَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ خَبَرًا - مِنْ الْحَالِ وَالصِّفَةِ وَالْكَيْفِيَّةِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ فَإِذَا سُمِعَ كَلَامُهُ بِالصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ وَقِيلَ: هَذَا كَلَامُهُ بِعَيْنِهِ وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِهِ وَنَفْسُ كَلَامِهِ وَأُدْخِلَتْ الصِّفَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ فِي مُسَمَّى الْعَيْنِ وَالنَّفْسِ لَمْ يَصْدُقْ هَذَا عَلَيْهِ إذَا كَانَ مَرْوِيًّا. لَكِنْ لَمَّا كَانَ النَّاسُ فِي زَمَانِنَا يَعْلَمُونَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْمَعُ كَلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ: لَمْ يَسْبِقْ هَذَا الْمَعْنَى إلَى ذِهْنِ أَحَدٍ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّا إذَا قُلْنَا سَمِعْنَا كَلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَيْنِهِ وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِهِ فَإِنَّمَا الْمُرَادُ

ص: 537

بِهِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ وَهُوَ كَوْنُهُ مَسْمُوعًا مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ لَا أَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْهُ وَلَا أَنَّ تَكَلُّمَهُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْكَلَامِ وُجِدَ. وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَوْلَى بِذَلِكَ فَإِنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ اللَّهِ كَمَا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ؛ بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ إنَّمَا سُمِعَ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} وَقَالَ نُوحٌ: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي} وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ بِالْمَوْقِفِ: {أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنَّ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي} فَلَمَّا كَانَ هَذَا مُسْتَقِرًّا فِي قُلُوبِ الْمُسْتَمِعِينَ عَلِمُوا أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} إنَّمَا هُوَ سَمَاعُهُ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ لَهُ لَا سَمَاعُهُ مِنْهُ وَإِنَّ هَذَا السَّمَاعَ لَيْسَ كَسَمَاعِ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ؛ فَإِنَّ مُوسَى سَمِعَهُ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَنَحْنُ إذَا سَمِعْنَا كَلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ كَسَمْعِ الصَّحَابَةِ

ص: 538

مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَنَّهُمْ يُبَلِّغُونَ حَدِيثَهُ كَمَا سَمِعُوهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْكُوا صَوْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا هِيَ أَصْوَاتُهُمْ صَوْتَهُ وَلَا مِثْلَ صَوْتِهِ مَعَ أَنَّهُمْ بَلَّغُوا حَدِيثَهُ كَمَا سَمِعُوهُ. فَالْقُرْآنُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ بَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ وَالرَّسُولُ بَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ وَالْأُمَّةُ بَلَّغَتْهُ كَمَا سَمِعَتْهُ وَأَنْ يَكُونَ مَا بَلَّغَتْهُ هُوَ مَا سَمِعَتْهُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ عز وجل فِي الْحَالَيْنِ؛ مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ بَشَرٌ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ " وَاَللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وَالتَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ أَعْظَمُ مِنْ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَدْنَى الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْلَاهَا فَإِذَا كَانَ سَمْعُ التَّابِعِينَ لِكَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الصَّحَابَةِ لَيْسَ كَسَمْعِ الصَّحَابَةِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَمَاعُ كَلَامِ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ أَبْعَدُ مِنْ مُمَاثَلَةِ سَمَاعِ شَيْءٍ لِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوفَاتِ. وَالْقَائِلُ إذَا قَالَ لِمَا سَمِعَهُ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْ الرَّسُولِ هَذَا كَلَامُ الرَّسُولِ أَوْ هَذَا كَلَامٌ صَوَابٌ أَوْ حَقٌّ أَوْ صَحِيحٌ أَوْ هَذَا حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ أَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ. أَوْ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ الرَّسُولِ أَوْ عَيْنُهُ فَإِنَّمَا قَصَدَ إلَى مُجَرَّدِ الْكَلَامِ وَهُوَ مَا يُوجَدُ حَالَ سَمَاعِهِ مِنْ الْمُبَلِّغِ وَالْمُبَلَّغِ عَنْهُ لَمْ يُشِرْ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا؛ فَلَمْ يُشِرْ إلَى مُجَرَّدِ صَوْتِ الْمُبَلِّغِ وَلَا مُجَرَّدِ صَوْتِ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ وَلَا إلَى حَرَكَةِ أَحَدٍ مِنْهُمَا؛ بَلْ هُنَاكَ أَمْرٌ يَتَّحِدُ فِي الْحَالَيْنِ

ص: 539

وَهَذَا أَمْرٌ يَتَعَدَّدُ يَخْتَصُّ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْهُ بِمَا يَخُصُّهُ. فَإِذَا قِيلَ: هَذَا هُوَ كَلَامُهُ كَانَتْ الْإِشَارَةُ إلَى الْمُتَّحِدِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا قِيلَ: هَذَا صَوْتُهُ كَانَتْ الْإِشَارَةُ إلَى الْمُخْتَصِّ الْمُتَعَدِّدِ فَيُقَالُ: هَذَا صَوْتٌ غَلِيظٌ أَوْ رَقِيقٌ أَوْ حَسَنٌ أَوْ لَيْسَ حَسَنًا؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَلَّهُ أَشَدُّ أَذْنًا إلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ} وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: {زُيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} قَالَ أَحْمَد. يُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ مَا اسْتَطَاعَ. فَبَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَد أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُ الْقَارِئِ مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ الْبَارِي. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ تَبْلِيغِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَكَذَلِكَ فِي تَبْلِيغِ كَلَامِ كُلِّ أَحَدٍ فَإِذَا سَمِعَ النَّاسُ مُنْشِدًا يُنْشِدُ. أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ قَالُوا: هَذَا شِعْرُ لَبِيَدٍ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَهَذَا كَلَامُ لَبِيَدٍ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ} . وَلَوْ قَالَ الْمُنْشِدُ: هَذَا شَعْرِي أَوْ كَلَامِي لَكَذَّبَهُ النَّاسُ كَمَا يُكَذِّبُونَهُ لَوْ قَالَ: هَذَا صَوْتُ لَبِيَدٍ وَإِذَا قَالَ: هَذَا لَفْظُ لَبِيَدٍ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ - وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الْمَلْفُوظَ هُوَ كَلَامُهُ بِنَظْمِهِ وَتَأْلِيفِهِ - لَصَدَّقَهُ النَّاسُ.

ص: 540

وَإِنْ قَالَ: هَذَا لَفْظُهُ بِمَعْنَى أَنَّ هَذَا بِلَفْظِهِ كَذَّبَهُ النَّاسُ؛ فَإِنَّ " اللَّفْظَ " يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ " وَيُرَادُ بِهِ الْمَلْفُوظُ وَكَذَلِكَ " التِّلَاوَةُ " وَ " الْقِرَاءَةُ " يُرَادُ بِذَلِكَ الْمَصْدَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ نَفْسُهُ الَّذِي يُقْرَأُ وَيُتْلَى. وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ تَعَلُّمَ الْجَامِعِ وَالْفَارِقِ بَيْنَ سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَمِنْ الْمُبَلِّغِ لَهُ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَأَنَّهُ كَلَامُهُ فِي الْحَالَيْنِ: لَكِنْ هُوَ فِي أَحَدِهِمَا مَسْمُوعٌ مِنْهُ سَمَاعًا مُطْلَقًا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَفِي الْأُخْرَى مَسْمُوعٌ مِنْهُ سَمَاعًا مُقَيَّدًا بِوَاسِطَةِ التَّبْلِيغِ كَمَا أَنَّك تَارَةً تَرَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ فَلَا تَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى وَاسِطَةٍ وَتَارَةً تَرَاهَا فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ تَرَاهَا بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْجِسْمِ الشَّفَّافِ فَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالرُّؤْيَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. لَكِنْ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ رَأَيْتهَا نَفْسَهَا بِالْمُبَاشَرَةِ رُؤْيَةً مُطْلَقَةً وَفِي الْأُخْرَى رَأَيْتهَا رُؤْيَةً مُقَيَّدَةً بِوَاسِطَةِ. وَإِذَا قُلْت: الْمَرْئِيُّ مِثَالُهَا أَوْ خَيَالُهَا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. قِيلَ: أَنْتَ تَجِدُ الْفَرْقَ بَيْنَ رُؤْيَتِك خَيَالَ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ ظِلُّهُ وَتِمْثَالُهُ الَّذِي هُوَ صُورَتُهُ الْمُصَوَّرَةُ وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ؛ إذَا كَانَ الْمَرْئِيُّ هُنَا وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَوَسُّطِ خَيَالٍ فَالْمَقْصُودُ بِالرُّؤْيَةِ هُوَ الْحَقِيقَةُ؛ وَلَكِنْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمِرْآةِ فَيُرَى كَبِيرًا إنْ كَانَتْ الْمِرْآةُ كَبِيرَةً وَصَغِيرًا

ص: 541

إنْ كَانَتْ الْمِرْآةُ صَغِيرَةً وَمُسْتَطِيلًا إنْ كَانَتْ الْمِرْآةُ مُسْتَطِيلَةً. وَهَذَا الْكَلَامُ الْمَرْوِيُّ عَنْ الْغَيْرِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ هُوَ نَفْسُ كَلَامِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَوَسُّطِ صَوْتِ هَذَا الْمُبَلِّغِ؛ وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صَوْتِ الْمُبَلِّغِ؛ فَتَارَةً يَكُونُ رَقِيقًا وَتَارَةً غَلِيظًا وَتَارَةً مَجْهُورًا بِهِ وَتَارَةً مُخَافَتًا بِهِ. فَإِنْ قُلْت: فَهَذَا الْمَسْمُوعُ مِثْلُ كَلَامِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ أَوْ حِكَايَةُ كَلَامِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ كَمَا أَطْلَقَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ كَانَ إطْلَاقُ هَذَا خَطَأً كَمَا أَنَّك إذَا قُلْت لِمَا تَرَاهُ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ هَذَا مِثْلُ الشَّمْسِ أَوْ هَذَا يَحْكِي الشَّمْسَ: كَانَ إطْلَاقُ ذَلِكَ خَطَأً قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} الْآيَةَ فَقَدْ بَيَّنَ عَجْزَ الْخَلَائِقِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مَعَ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى تَبْلِيغِهِ وَتِلَاوَتِهِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْمَسْمُوعَ لَا يُقَالُ إنَّهُ مِثْلُ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا سَمَّاهُ كَلَامَهُ؛ لَكِنَّهُ كَلَامُهُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ لَا بِطْرِيقَ الْمُبَاشَرَةِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ فَرَّقَ بَيْن التَّكْلِيمَيْنِ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَفَرَّقَ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ - كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى - وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ بِإِرْسَالِهِ رَسُولًا يُوحِي بِإِذْنِهِ؛ ذَاكَ تَكْلِيمٌ بِلَا

ص: 542

وَاسِطَةٍ وَهَذَا تَكْلِيمُهُ بِوَاسِطَةِ. وَإِنْ قُلْت: لِمَا يُبَلِّغُهُ الْمُبَلِّغُ عَنْ غَيْرِهِ هَذَا حِكَايَةُ كَلَامِ ذَلِكَ كَانَ الْإِطْلَاقُ خَطَأً فَإِنَّ لَفْظَ " الْحِكَايَةِ " إذَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ أَتَى بِكَلَامِ يُشْبِهُ كَلَامَهُ كَمَا يُقَالُ: هَذَا يُحَاكِي هَذَا وَهَذَا قَدْ حَكَى هَذَا؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: فُلَانٌ قَدْ حَكَى هَذَا الْكَلَامَ عَنْ فُلَانٍ. كَمَا يُقَالُ: رَوَاهُ عَنْهُ وَبَلَّغَهُ عَنْهُ وَنَقَلَهُ عَنْهُ وَحَدَّثَ بِهِ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا يَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ. فَكُلَّمَا بَلَّغَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللَّهِ فَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُ وَرَوَاهُ عَنْهُ. فَالْقَائِلُ إذَا قَالَ لِلْقَارِئِ هَذَا يَحْكِي كَلَامَ اللَّهِ أَوْ يَحْكِي الْقُرْآنَ فَقَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِكَلَامِ يُحَاكِي بِهِ كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا كُفْرٌ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ بَلَّغَهُ وَتَلَاهُ فَالْمَعْنَى صَحِيحٌ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي تَعْبِيرُهُ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى بَاطِلٍ فَيَقُولُ: قَرَأَهُ وَتَلَاهُ وَبَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ؛ وَلِهَذَا إذَا قِيلَ: يَحْكِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ وَيَرْوِيهَا وَيَنْقُلُهَا لَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا تَبْلِيغُهَا؛ لَا أَنَّهُ يَأْتِي بِمِثْلِهَا.

ص: 543

فَصْلٌ:

إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ، فَيُقَالُ: هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي نَقْرَؤُهُ وَنُبَلِّغُهُ وَنَسْمَعُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَنَزَلَ بِهِ مِنْهُ رُوحُ الْقُدُسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي قَالُوا: إنَّمَا يُعَلِّمُهُ إيَّاهُ بَشَرٌ وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي يَمْتَنِعُ أَنْ يُعَلِّمَهُ إيَّاهُ ذَلِكَ الْأَعْجَمِيُّ الَّذِي أَلْحَدُوا إلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ رَجُلٌ بِمَكَّةَ مَوْلًى لِابْنِ الْحَضْرَمِيّ وَالْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةُ لَا يَمْتَنِعُ تَعَلُّمُهَا مِنْ الْأَعْجَمِيِّ بِخِلَافِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ فَدَلَّ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ اللَّهِ تبارك وتعالى.

ص: 544

وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَهَذَا الْكَلَامُ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا مَا اُخْتُصَّ قِيَامُهُ بِنَا؛ مِنْ حَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا وَفَهْمِنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِنَا فَلَمْ يَقُمْ مِنْهُ شَيْءٌ بِذَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنَّ مَا اخْتَصَّ الرَّبُّ تَعَالَى بِقِيَامِهِ بِهِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ وَلَمْ يَقُمْ بِغَيْرِهِ لَا هُوَ وَلَا مِثْلُهُ: فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ إذَا سَمِعَ مِنْ الْمَخْلُوقِ كَلَامَهُ وَبَلَّغَهُ عَنْهُ كَانَ مَا بَلَّغَهُ هُوَ كَلَامَهُ كَمَا تَقَدَّمَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {: نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ} مَعَ أَنَّ مَا قَامَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِبَاطِنِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِهِمَا وَبِظَاهِرِهِ مِنْ الْحَرَكَةِ وَالصَّوْتِ وَغَيْرِهِمَا - لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ وَلَمْ يَقُمْ بِغَيْرِهِ؛ بَلْ جَمِيعُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ لَا تُفَارِقُ ذَوَاتِهِمْ وَتَنْتَقِلُ عَنْهُمْ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ صِفَةَ الْخَالِقِ فَارَقَتْ ذَاتَه فَانْتَقَلَتْ عَنْهُ؟ وَالْمُتَعَلِّمُ إذَا أَخَذَ عِلْمَ الْمُعَلِّمِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ لَمْ يُفَارِقْ ذَاتَ الْأَوَّلِ وَيَنْتَقِلْ عَنْهَا إلَى الثَّانِي؛ بَلْ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ الْعِلْمِيَّةِ حَصَلَتْ لَهُ مِثْلَ مَا حَصَلَتْ لِمُعَلِّمِهِ أَوْ لَيْسَ مَثَلَهُ بَلْ يُشْبِهُهُ؛ وَلِهَذَا يُشَبَّهُ الْعِلْمُ بِضَوْءِ السِّرَاجِ كُلُّ أَحَدٍ يَقْتَبِسُ مِنْهُ وَهُوَ لَمْ يَنْقُصْ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ أَوْقَدَ مِنْ مِصْبَاحِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى سِرَاجِهِ شَيْءٌ مِنْ جِرْمِ تِلْكَ النَّارِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهَا الْقَائِمَةِ بِهَا؛ بَلْ جَعَلَ اللَّهُ بِسَبَبِ مُلَاصَقَةِ النَّارِ ذَلِكَ نَارًا مِثْلَ تِلْكَ

ص: 545

فَالْحَقِيقَةُ النَّارِيَّةُ مَوْجُودَةٌ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعَيْنُ لَيْسَتْ تِلْكَ؛ لَكِنَّ النَّارَ وَالْعِلْمَ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْكَلَامِ الَّذِي يُبَلَّغُ عَنْ الْغَيْرِ؛ بَلْ هُوَ مِثْلُ أَنْ يَسْمَعَ بَعْضُ النَّاسِ كَلَامَ غَيْرِهِ وَشِعْرَ غَيْرِهِ فَيَقُولُ مِنْ جِنْسِ مَا قَالَ وَيَقُولُ كَمَا قَالَ غَيْرُهُ مِثْلَهُ. كَمَا يُقَالُ: وَقْعُ الْخَاطِرِ عَلَى الْخَاطِرِ كَوَقْعِ الْحَافِرِ عَلَى الْحَافِرِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّبْلِيغِ وَالرِّوَايَةِ فِي شَيْءٍ (فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ هُوَ كَلَامُ لَبِيَدٍ

كَيْفَ مَا أَنْشَدَهُ النَّاسُ وَكَتَبُوهُ؛ فَهَذَا الشِّعْرُ الَّذِي يُنْشِدُهُ هُوَ شِعْرُ لَبِيَدٍ بِعَيْنِهِ. فَإِذَا قِيلَ: الشِّعْرُ الَّذِي قَامَ بِنَا هُوَ الَّذِي قَامَ بلبيد. قِيلَ: إنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الشِّعْرَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ إنْ أُرِيدَ أَنَّ نَفْسَ مَا قَامَ بِذَاتِهِ فَارَقَ ذَاتَه وَانْتَقَلَ إلَيْنَا؛ فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ أُرِيدَ أَنَّ عَيْنَ الصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِذَلِكَ الشَّخْصِ كَحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ هِيَ عَيْنُ الصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِنَا كَحَرَكَتِنَا وَصَوْتِنَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ) (*). فَقَوْلُك: هَذَا هُوَ هَذَا لَفْظٌ فِيهِ إجْمَالٌ يُبَيِّنُهُ السِّيَاقُ. فَإِذَا قُلْت: هَذَا الْكَلَامُ هُوَ ذَاكَ أَوْ هَذَا الشِّعْرُ هُوَ ذَاكَ كُنْت صَادِقًا. وَإِذَا قُلْت هَذَا الصَّوْتُ هُوَ ذَاكَ كَانَ كَذِبًا. وَالنَّاسُ لَا يَقْصِدُونَ إذَا قَالُوا: هَذَا شِعْرُ لَبِيَدٍ إلَّا الْقَدْرَ الْمُتَّحِدَ

قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 110):

وقوله هنا (إن أريد بذلك أن الشعر من حيث هو هو إن أريد أن نفس ما قام بذاته فارق ذاته وانتقل إلينا، فليس كذلك) فيه سقط ظاهر، فإن قوله (إن أريد بذلك. . .) جملة شرطية لا جواب لها.

وقد ذكر الشيخ قبل هذه الصفحة بصفحات قلائل ما يشبه هذه الجمل الشرطية، فقال (12/ 535، 536)(فإذا قال القائل: هل هذا الحديث الذي قرأه المحدث القائم به حين القراءة هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قام به حين تكلم به وكان صفة له أم لا؟ قيل له: إن كنت تريد: أن نفس الحديث من حيث هو هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قام به حين تكلم به كان صفة له، فنعم. هذا الحديث من حيث هو هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كنت تريد: أن ما اختص بالقارئ من حركاته وأصواته هو القائم بالرسول، فليس كذلك).

فمن هذا النص يكون صواب العبارة السابقة والله أعلم:

(إن أريد بذلك أن الشعر من حيث هو هو [شعر لبيد الذي قام به حين تكلم به كان صفة له فنعم، و] إن أريد أن نفس ما قام بذاته فارق ذاته وانتقل إلينا، فليس كذلك. .).

ص: 546

وَهِيَ الْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعَ قَصْرِ النَّظَرِ عَمَّا اخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: الْقَدْرُ الْمُتَّحِدُ كُلِّيٌّ مُطْلَقٌ وَالْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا تُوجَدُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. قِيلَ: ذِكْرُ هَذَا هُنَا غَلَطٌ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يُقَالُ لَوْ كَانَ رَجُلٌ قَدْ قَالَ شِعْرُ لَبِيَدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ بِشِعْرِهِ. فَنَقُولُ: هذان شَيْئَانِ اشْتَرَكَا فِي النَّوْعِ الْكُلِّيِّ وَامْتَازَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِمَا يَخُصُّهُ وَالْكُلِّيُّ إنَّمَا يُوجَدُ كُلِّيًّا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ وَأَمَّا هُنَا فَنَفْسُ شِعْرِهِ كَانَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحَقِيقَةِ الْكَلَامِيَّةِ - مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ صَوْتِ زَيْدٍ وَصَوْتِ عَمْرٍو - مَوْجُودٌ لَمَّا تَكَلَّمَ بِهِ لَبِيَدِ وَمَوْجُودٌ إذَا أَنْشَدَهُ غَيْرُ لَبِيَدٍ وَتِلْكَ الْحَقِيقَةُ الْمُتَّحِدَةُ مَوْجُودَةٌ هُنَا وَهُنَا؛ لَيْسَتْ مِثْلَ وُجُودِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَخَالِدٍ؛ فَإِنَّ إنْسَانِيَّةَ زَيْدٍ لَيْسَتْ إنْسَانِيَّةَ عَمْرٍو بَلْ مِثْلُهَا وَالْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ وَهُنَا نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لَبِيَدِ تَكَلَّمَ بِهِ الْمُنْشِدُ عَنْهُ وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ أَنْشَأَ مِثْلَهُ وَلَا أَنْشَدَ مِثْلَهُ بَلْ يُقَالُ: أَنْشَدَ شِعْرَهُ بِعَيْنِهِ. لَكِنَّ الشِّعْرَ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ إمَّا بلبيد وَإِمَّا بِغَيْرِهِ وَالْقَائِمُ بِهِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مِثْلَ الْقَائِمِ بِغَيْرِهِ؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِمَا وَاحِدٌ. فَالتَّمَاثُلُ وَالتَّغَايُرُ فِي الْوَسِيلَةِ وَالِاتِّحَادُ فِي الْحَقِيقَةِ الْمَقْصُودَةِ وَتِلْكَ الْحَقِيقَةُ هِيَ إنْشَاءُ لَبِيَدٍ لَا إنْشَاءُ غَيْرِهِ وَالْعُقَلَاءُ

ص: 547

يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ نَفْسُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ لَبِيَدٍ هُوَ نَفْسَ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْمُنْشِدِ؛ لَكِنَّ نَفْسَ الْمَقْصُودِ بِالصَّوْتِ هُوَ الْكَلَامُ؛ فَإِنَّ الصَّوْتَ وَاسِطَةٌ فِي تَبْلِيغِهِ؛ وَلِهَذَا مَا كَانَ فِي الصَّوْتِ مِنْ مَدْحٍ وَذَمٍّ كَانَ لِلْمُبَلِّغِ وَمَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مِنْ مَدْحٍ وَذَمٍّ كَانَ لِلْمُتَكَلِّمِ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ فِي لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعْنَاهُ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا: فَقَوْلُ الْقَائِلِ: هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي نَتْلُوهُ الْقَائِمُ بِنَا حِينَ التِّلَاوَةِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ وَكَانَ صِفَةً لَهُ أَمْ لَا؟ قِيلَ لَهُ: أَمَّا الْكَلَامُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُنَا وَلَا غَيْرُنَا وَهُوَ مَسْمُوعٌ مِنْ الْمُبَلِّغِ لَا مِنْ اللَّهِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَهُوَ مَسْمُوعٌ بِوَاسِطَةِ سَمَاعًا مُقَيَّدًا لَا سَمَاعًا مِنْ اللَّهِ مُطْلَقًا - كَمَا تَقَدَّمَ - وَلَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا قَامَ بِذَاتِهِ فَارَقَهُ وَانْتَقَلَ إلَيْنَا وَلَا شَيْءٌ مِمَّا يَخْتَصُّ بِذَوَاتِنَا - كَحَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا فَهُوَ مِنَّا - قَائِمًا بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي نَتْلُوهُ الْقَائِمُ بِنَا حِينَ التِّلَاوَةِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ؟ فَلَفْظُ الْقِيَامِ فِيهِ إجْمَالٌ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ نَفْسَ صِفَةِ الرَّبِّ تَكُونُ صِفَةً لِغَيْرِهِ أَوْ صِفَةُ الْعَبْدِ تَكُونُ صِفَةً لِلرَّبِّ فَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ نَفْسَ مَا لَيْسَ بِمَخْلُوقِ صَارَ مَخْلُوفًا أَوْ مَا هُوَ مَخْلُوقٌ صَارَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مَا اخْتَصَّ الرَّبُّ بِقِيَامِهِ بِهِ شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَإِنْ

ص: 548

أَرَادَ أَنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ فِي الْحَالَيْنِ - كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ - فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْحَالَ إذَا سُمِعَ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ كَالْحَالِ إذَا سُمِعَ مِنْ خَلْقِهِ وَذَلِكَ فَرْقٌ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ وَاحِدًا. فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفَرْقُ ثَابِتًا فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ مَسْمُوعًا وَمُبَلَّغًا عَنْهُ فَثُبُوتُهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَوْلَى وَأَحْرَى فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَكَلُّمُهُ بِهِ وَسَمَاعُهُ مِمَّا يُعْرَفُ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا مِثَالٌ وَلَا يُقَاسُ ذَلِكَ بِتَكَلُّمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ صِفَاتِهِ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا مِثَالَ لَهُ وَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمُ مِنْ بُعْدِ مُمَاثَلَةِ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ عَنْ مُمَاثَلَةِ أَدْنَاهَا.

وَقَوْلُ السَّائِلِ: إذَا تَلَوْنَاهُ وَقَامَ بِنَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَتُهُ أَمْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ دُونَ صِفَتِهِ؟ أَمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يَجِبُ بَيَانُهُ؟ فَيُقَالُ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَتُهُ مَسْمُوعًا مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ لَا مِنْهُ؛ فَالنَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ بِدُونِ هَذَا التَّفْصِيلِ يُوهِمُ: إمَّا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ مَسْمُوعًا مِنْهُ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ. بَلْ كَلَامُ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَقَعَ فِي كَلَامِ طَائِفَتَيْنِ مِنْ النَّاسِ. طَائِفَةٌ جَعَلَتْ هَذَا كَلَامَ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ؛ لَا كَلَامَ

ص: 549

اللَّهِ. وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ مَسْمُوعًا مِنْ اللَّهِ وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَالَيْنِ؛ حَتَّى ادَّعَى بَعْضُهَا أَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ قَدِيمٌ وَتِلْكَ لَمْ تَجْعَلْهُ كَلَامَ اللَّهِ؛ بَلْ كَلَامَ النَّاسِ. فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَيْسَ هَذَا كَلَامَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: هَذَا الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ قَدِيمٌ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَضَلَالٌ؛ لَكِنْ هُوَ كَلَامُهُ مُقَيَّدًا بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ الْقَارِئِ لَيْسَ هُوَ كَلَامَهُ وَصِفَتَهُ مُطْلَقًا عَنْ التَّقْيِيدِ مَسْمُوعًا مِنْهُ وَكَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ يُضَافُ إلَيْهِ مُطْلَقًا إذَا سُمِعَ مِنْهُ وَمُقَيَّدًا إذَا سُمِعَ مِنْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ كَمَا أَنَّ رُؤْيَتَهُ يُقَالُ: مُطْلَقَةٌ إذَا رُئِيَ مُبَاشَرَةً. وَيُقَالُ: مُقَيَّدَةٌ إذَا رُئِيَ فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إذَا قَامَ بِنَا هَلْ كَانَ مُنْتَقِلًا عَنْ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَامَ بِهِ أَمْ يَكُونُ قَائِمًا بِنَا وَبِهِ مَعًا؟ أَمْ الَّذِي قَامَ بِنَا يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ حِكَايَةً عَنْهُ؟ وَيَكُونُ إطْلَاقُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ مَجَازًا؟ فَيُقَالُ: إنَّ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ لَا تُفَارِقُ ذَاتَه وَتَنْتَقِلُ عَنْهُ وَتَقُومُ بِغَيْرِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ صِفَةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فَارَقَتْ ذَاتَه وَانْتَقَلَتْ عَنْهُ وَقَامَتْ بِغَيْرِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مِنَّا إذَا أَرْسَلَ غَيْرَهُ بِكَلَامِ فَإِنَّهُ مَا قَامَ بِهِ؛ بَلْ لَمْ يُفَارِقْ ذَاتَه وَيَنْتَقِلْ إلَى غَيْرِهِ؛ فَكَلَامُ اللَّهِ أَوْلَى وَأَحْرَى؛ بَلْ كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ قَائِمٌ بِهِ كَمَا يَقُومُ بِهِ لَوْ تَكَلَّمَ بِهِ وَلَمْ يُرْسِلْ بِهِ رَسُولًا فَإِرْسَالُهُ رَسُولًا بِهِ يُفِيدُ إبْلَاغَهُ إلَى الْخَلْقِ. وَإِنْزَالَهُ إلَيْهِمْ

ص: 550

لَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي حَقِّ الرَّبِّ وَلَا زَوَالَ اتِّصَافِهِ بِهِ وَلَا خُرُوجَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامَهُ؛ بَلْ نَعْلَمُ أَنَّ الرَّبَّ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَلَا يُرْسِلُ بِهِ رَسُولًا قَدْ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُرْسِلُ بِهِ رَسُولًا فَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ كَلَامُهُ - سُبْحَانَهُ -؛ بَلْ إرْسَالُ الرَّسُولِ بِهِ نَفْعُ الْخَلْقِ وَهُدَاهُمْ وَلَمْ يَجِبْ بِهِ نُقْصَانُ صِفَةِ مَوْلَاهُمْ. وَقَوْلُهُ: أَمْ يَكُونُ قَائِمًا بِنَا وَبِهِ؟ فَيُقَالُ: مَعْنَى الْقَائِمِ لَفْظٌ مُجْمَلٌ؛ فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ تَكَلَّمَ هُوَ بِهِ وَتَكَلَّمْنَا بِهِ مُبَلِّغِينَ لَهُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ هُوَ. وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ يَقُومُ بِنَا أَوْ مَا اخْتَصَّ بِنَا يَقُومُ بِهِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْقِيَامِ أَنَّا بَلَّغْنَا كَلَامَهُ أَوْ قَرَأْنَا كَلَامَهُ أَوْ تَلَوْنَا كَلَامَهُ فَهَذَا صَحِيحٌ. فَكَذَلِكَ إنْ أُرِيدُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَلَامُهُ مَسْمُوعًا مِنْ الْمُبَلِّغِ لَا مِنْهُ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْقِيَامِ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ هُوَ بِعَيْنِهِ قَامَ بِغَيْرِهِ مُخْتَصًّا بِهِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ. وَإِنْ قِيلَ: الصِّفَةُ الْوَاحِدَةُ تَقُومُ بِمَوْضِعَيْنِ. قِيلَ: هَذَا أَيْضًا مُجْمَلٌ؛ فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُخْتَصَّ بِمَحَلِّ يَقُومُ بِمَحَلِّ آخَرَ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يُسَمَّى صِفَةً وَاحِدَةً يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَيُبَلِّغُهُ عَنْهُ غَيْرُهُ كَانَ هَذَا صَحِيحًا. فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ يَجِبُ أَنْ تُفَسَّرَ الْأَلْفَاظُ الْمُجْمَلَةُ بِالْأَلْفَاظِ الْمُفَسِّرَةِ الْمُبَيِّنَةِ وَكُلُّ لَفْظٍ يَحْتَمِلُ حَقًّا وَبَاطِلًا فَلَا يُطْلَقُ إلَّا مُبَيَّنًا بِهِ الْمُرَادُ الْحَقُّ دُونَ

ص: 551

الْبَاطِلِ فَقَدْ قِيلَ أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ. وَكَثِيرٌ مِنْ نِزَاعِ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ مِنْ جِهَةِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا هَذَا مَعْنًى يُثْبِتُهُ وَيُفْهَمُ مِنْهَا الْآخَرُ مَعْنًى يَنْفِيهِ. ثُمَّ الْنُّفَاةِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَالْمُثْبِتَةُ يَجْمَعُونَ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَمْ الَّذِي يَقُومُ بِنَا يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ حِكَايَةً عَنْهُ وَيَكُونُ إطْلَاقُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ مَجَازًا؟ فَيُقَالُ: الْعِبَارَةُ عَنْ كَلَامِ الْغَيْبِ يُقَالُ لِمَنْ فِي نَفْسِهِ مَعْنَى ثُمَّ يُعَبِّرُ عَنْهُ غَيْرُهُ كَمَا يُعَبِّرُ عَمَّا فِي نَفْسِ الْأَخْرَسِ مَنْ فَهِمَ مُرَادَهُ وَاَلَّذِينَ قَالُوا: " الْقُرْآنُ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ " قَصَدُوا هَذَا وَهَذَا بَاطِلٌ؛ بَلْ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ؛ وَجِبْرِيلُ بَلَّغَهُ عَنْهُ. وَأَمَّا " الْحِكَايَةُ " فَيُرَادُ بِهَا مَا يُمَاثِلُ الشَّيْءَ كَمَا يُقَالُ: هَذَا يُحَاكِي فُلَانًا إذَا كَانَ يَأْتِي بِمِثْلِ قَوْلِهِ أَوْ عَمَلِهِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ الْآيَةَ. وَقَدْ يُقَالُ فُلَانٌ حَكَى فُلَانٌ عَنْهُ أَيْ بَلَّغَهُ عَنْهُ وَنَقَلَهُ عَنْهُ وَيَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ وَيُقَالُ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَوَى عَنْ رَبِّهِ وَحَكَى عَنْ رَبِّهِ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ حَكَى عَنْ اللَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ بَلَّغَ عَنْ اللَّهِ فَهَذَا صَحِيحٌ.

ص: 552

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: هَلْ يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ مَجَازًا؟ فَيُقَالُ: عَلَامَةُ الْمَجَازِ صِحَّةُ نَفْيِهِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ فُلَانًا لَوْ قَالَ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ لَيْسَ هَذَا كَلَامَ اللَّهِ لَكَانَ عِنْدَهُ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بِالْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ. وَأَيْضًا: فَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ أَنَّهُ يُقَالُ هَذَا كَلَامُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ لَا كَلَامُ الْمُبَلِّغِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 553

مَا تَقُولُ السَّادَةُ أَئِمَّةُ الدِّينِ:

فِي رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدَهُمَا: الْقُرْآنُ الْمَسْمُوعُ كَلَامُ اللَّهِ. وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ كَلَامُ جِبْرِيلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فَهَلْ أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ؟ وَمَا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ؟ وَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ الشُّيُوخِ وَالْأَئِمَّةِ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟ .

فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ بَلْ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ كَلَامَ جِبْرِيلَ. وَلَا كَلَامَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَصْحَابِهِمْ الَّذِينَ يُفْتَى بِقَوْلِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ وَسَمِعَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ جِبْرِيلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} . وَرُوحُ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَقَالَ تَعَالَى: {حم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} فَهُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ

ص: 554

تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فَإِنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ لَا لِكَوْنِهِ أَحْدَثَ مِنْهُ شَيْئًا وَابْتَدَأَهُ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي إحْدَى الْآيَتَيْنِ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَالرَّسُولُ هُنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} فَالرَّسُولُ هُنَا جِبْرِيلُ. وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ؛ فَلَوْ كَانَتْ إضَافَتُهُ إلَى أَحَدِهِمَا لِكَوْنِهِ أَلَّفَ النَّظْمَ الْعَرَبِيَّ وَأَحْدَثَ مِنْهُ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ تَنَاقَضَ الْكَلَامُ. فَإِنَّهُ إنْ كَانَ نَظَمَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَكُنْ نَظَمَ الْآخَرَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} وَلَمْ يَقُلْ لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَفْظُ الرَّسُولِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنْ مُرْسِلِهِ لَا أَنَّهُ أَنْشَأَ مِنْ عِنْدِهِ شَيْئًا. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ضَمِيرٌ يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ

ص: 555

وَالْقُرْآنُ يَتَنَاوَلُ مَعَانِيَهُ وَلَفْظَهُ وَمَجْمُوعُ هَذَا لَيْسَ قَوْلًا لِغَيْرِ اللَّهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ جِبْرِيلَ أَوْ مُحَمَّدٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ كُفْرٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ عَظَّمَ اللَّهُ الْإِنْكَارَ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ فَقَالَ تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} {ثُمَّ نَظَرَ} {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} {فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} {إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} . فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّهُ قَوْلُ مَلَكٍ؛ وَإِنَّمَا يَقُولُ إنَّهُ قَوْلُ جِبْرِيلَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا رَجُلٌ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ. الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ فَيْضٌ فَاضَ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ جِبْرِيلُ. وَيَقُولُونَ: إنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الْخَيَالُ الَّذِي يَتَمَثَّلُ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. يَقُولُونَ: إنَّهُ تَلَقَّاهُ مَعَانٍ مُجَرَّدَةً ثُمَّ إنَّهُ تَشَكَّلَ فِي نَفْسِهِ حُرُوفًا كَمَا يَتَشَكَّلُ فِي نَفْسِ النَّائِمِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ ابْنُ عَرَبِيٍّ صَاحِبُ " الْفُصُوصِ " وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ؛ وَلِهَذَا يَدَّعِي أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى الرَّسُولِ فَإِنَّ " الْمَعْدِنَ " عِنْدَهُ هُوَ الْعَقْلُ وَ " الْمَلَكُ " هُوَ الْخَيَالُ الَّذِي فِي نَفْسِهِ وَالنَّبِيُّ عِنْدَهُمْ يَأْخُذُ مِنْ هَذَا الْخَيَالِ.

ص: 556

وَهَذَا الْكَلَامُ مَنْ أَظْهَرِ الْكُفْرِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُوَ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ. أَوْ رَجُلٌ يَنْتَسِبُ إلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ عِنْدَهُ وَإِنَّمَا كَلَامُهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ: هُوَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ؛ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالعبرانية كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ والقلانسي وَالْأَشْعَرِيِّ وَنَحْوِهِمْ فَلَمْ يَقُولُوا: إنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ جِبْرِيلَ وَمَنْ حَكَى هَذَا عَنْ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ فَهُوَ مُجَازِفٌ وَإِنَّمَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ - كَمَا قَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى - إنَّهُ نَظْمُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ أَنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ مَخْلُوقٌ وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ مَخْلُوقًا فَقَدْ يَكُونُ خَلَقَهُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ فِي جِسْمٍ؛ لَكِنَّ الْقَوْلَ إذَا كَانَ ضَعِيفًا ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي لَوَازِمِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَصْحَابِهِمْ الَّذِينَ يُفْتَى بِقَوْلِهِمْ: بَلْ كَانَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإسفراييني يَقُولُ: مَذْهَبِي وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسَائِر عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي الْقُرْآنِ مُخَالِفٌ لِهَذَا الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِي - وَالِدُ أَبِي

ص: 557

الْمَعَالِي - قَالَ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ فِي الْكَلَامِ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ الْأَشْعَرِيِّ وَعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عُرِّبَتْ لَمْ تَكُنْ هِيَ الْقُرْآنَ وَنَعْلَمُ أَنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَيْسَتْ هِيَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ فَرَّقَ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى وَإِيحَائِهِ إلَى غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَفَرَّقَ بَيْنَ التَّكْلِيمِ الَّذِي حَصَلَ لِمُوسَى وَبَيْنَ الْإِيحَاءِ الْمُشْتَرَكِ وَمُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى. {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا} . وَالرَّسُولُ إذَا بَلَّغَهُ إلَى النَّاسِ وَبَلَّغَهُ النَّاسُ عَنْهُ كَانَ مَسْمُوعًا سَمَاعًا مُقَيَّدًا بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} فَهُوَ مَسْمُوعٌ مُبَلَّغٌ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمَخْلُوقِ؛ بِخِلَافِ سَمَاعِ مُوسَى صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يَسْمَعُ كَلَامَ الرَّسُولِ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ كَالسَّمَاعِ مِنْهُ فَأَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ.

ص: 558

وَلِهَذَا اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَلَا مِدَادَ الْمَصَاحِفِ قَدِيمٌ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُثْبَتَ بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} فَالْكَلَامُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ وَالْأَصْوَاتُ الَّتِي يَقْرَءُونَ بِهَا أَصْوَاتُهُمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 559

وَسُئِلَ رحمه الله:

مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءَ الْجَهَابِذَةُ - أَئِمَّةُ الدِّينِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ - فِيمَنْ يَقُولُ: الْكَلَامُ غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْقَوْلُ غَيْرُ الْقَائِلِ وَالْقُرْآنُ وَالْمَقْرُوءُ وَالْقَارِئُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَهُ مَعْنًى؟ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ بَيَانًا شَافِيًا؛ لِيَصِلَ إلَى ذِهْنِ الْحَاذِقِ وَالْبَلِيدِ أَثَابَكُمْ اللَّهُ بِمَنِّهِ.

فَأَجَابَ رضي الله عنه:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَنْ قَالَ: إنَّ الْكَلَامَ غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْقَوْلَ غَيْرُ الْقَائِلِ وَأَرَادَ أَنَّهُ مُبَايِنٌ لَهُ وَمُنْفَصِلٌ عَنْهُ فَهَذَا خَطَأٌ وَضَلَالٌ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ لَا الْقُرْآنُ وَلَا غَيْرُهُ وَيُوهِمُونَ النَّاسَ بِقَوْلِهِمْ الْعِلْمُ غَيْرُ الْعَالِمِ وَالْقُدْرَةُ غَيْرُ الْقَادِرِ وَالْكَلَامُ غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ ثُمَّ يَقُولُونَ: وَمَا كَانَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَهَذَا تَلْبِيسٌ مِنْهُمْ. فَإِنَّ لَفْظَ " الْغَيْرِ " يُرَادُ بِهِ مَا يَجُوزُ مُبَايَنَتُهُ لِلْآخَرِ وَمُفَارَقَتُهُ لَهُ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عِلْمُ اللَّهِ غَيْرُهُ وَلَا يُقَالُ إنَّ الْوَاحِدَ

ص: 560

مِنْ الْعَشَرَةِ غَيْرُهَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ " الْغَيْرِ " مَا لَيْسَ هُوَ الْآخَرَ وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ الصِّفَةُ غَيْرَ الْمَوْصُوفِ لَكِنْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يَكُونُ مَا هُوَ غَيْرُ ذَاتِ اللَّهِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتِهِ مَخْلُوقًا؛ لِأَنَّ صِفَاتِهِ لَيْسَتْ هِيَ الذَّاتَ؛ لَكِنْ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى هُوَ الذَّاتُ الْمُقَدَّسَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِصِفَاتِ كَمَالِهِ وَلَيْسَ الِاسْمُ اسْمًا لِذَاتِ لَا صِفَاتِ لَهَا؛ بَلْ يَمْتَنِعُ وُجُودُ ذَاتٍ لَا صِفَاتِ لَهَا. وَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُقَالَ: الْكَلَامُ صِفَةُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْقَوْلُ صِفَةُ الْقَائِلِ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ باينا مِنْهُ؛ بَلْ أَسْمَعَهُ لِجِبْرِيلَ وَنَزَلَ بِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فَارَقَ ذَاتَه وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ. بَلْ يُقَالُ كَمَا قَالَ السَّلَفُ: إنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. فَقَوْلُهُمْ: " مِنْهُ بَدَأَ " رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ وَمِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ ابْتَدَأَ. فَبَيَّنُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ " مِنْهُ بَدَأَ " لَا مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ " وَإِلَيْهِ يَعُودُ " أَيْ فَلَا يَبْقَى فِي الصُّدُورِ مِنْهُ آيَةٌ وَلَا فِي الْمَصَاحِفِ حَرْفٌ وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ فَخَطَؤُهُ وَتَلْبِيسُهُ كَخَطَأِ مَنْ قَالَ إنَّ الْكَلَامَ غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ

ص: 561

اللَّهِ لَهُ مَقْرُوءٌ غَيْرُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ فَخَطَؤُهُ ظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَإِنْ أَرَادَ بِ " الْقُرْآنِ " مَصْدَرَ قَرَأَ يَقْرَأُ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا وَقَالَ: أَرَدْت أَنَّ الْقِرَاءَةَ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ؛ فَلَفْظُ الْقِرَاءَةِ مُجْمَلٌ قَدْ يُرَادُ بِالْقِرَاءَةِ الْقُرْآنُ وَقَدْ يُرَادُ بِالْقِرَاءَةِ الْمَصْدَرُ فَمَنْ جَعَلَ " الْقِرَاءَةَ " الَّتِي هِيَ الْمَصْدَرُ غَيْرَ الْمَقْرُوءِ كَمَا يُجْعَلُ التَّكَلُّمُ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ غَيْرَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ يَقُولُهُ وَأَرَادَ بِالْغَيْرِ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إيَّاهُ فَقَدْ صَدَقَ فَإِنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ الْإِنْسَانُ يَتَضَمَّنُ فِعْلًا كَالْحَرَكَةِ وَيَتَضَمَّنُ مَا يَقْتَرِنُ بِالْفِعْلِ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي؛ وَلِهَذَا يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَسِيمًا لِلْفِعْلِ تَارَةً وَقِسْمًا مِنْهُ أُخْرَى. فَالْأَوَّلُ كَمَا يَقُولُ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ} " وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ". وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. وَأَمَّا دُخُولُ الْقَوْلِ فِي الْعَمَلِ فَفِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَدْ فَسَّرُوهُ بِقَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَمَّا

ص: 562

{سُئِلَ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ} مَعَ قَوْلِهِ: {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ} وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ. وَقَدْ تُنُوزِعَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَعْمَلُ عَمَلًا إذَا قَالَ قَوْلًا كَالْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهَا هَلْ يَحْنَثُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا. فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الَّتِي فِيهَا إجْمَالٌ وَاشْتِبَاهٌ إذَا فُصِّلَتْ مَعَانِيهَا. وَإِلَّا وَقَعَ فِيهَا نِزَاعٌ وَاضْطِرَابٌ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 563

وَ‌

‌سُئِلَ:

هَلْ نَفْسُ الْمُصْحَفِ هُوَ نَفْسُ الْقُرْآنِ أَمْ كِتَابَتُهُ؟

وَمَا فِي صُدُورِ الْقُرَّاءِ هَلْ هُوَ نَفْسُ الْقُرْآنِ أَوْ حِفْظُهُ؟ .

فَأَجَابَ: الْوَاجِبُ أَنْ يُطْلِقَ مَا أَطْلَقَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وَقَوْلِهِ: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وَقَوْلِهِ: {وَالطُّورِ} {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} وَقَوْلِهِ: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} وقَوْله تَعَالَى {كَلَّا إنَّهَا تَذْكِرَةٌ} {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} . وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {لَا يُسَافِرُ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ} وَقَوْلُهُ: {اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ فِي عُقُلِهَا} وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَوْلُهُ: {الْجَوْفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

ص: 564

فَمَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ فِي الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ فَقَدْ صَدَقَ وَمَنْ قَالَ: فِيهَا حِفْظُهُ وَكِتَابَتُهُ فَقَدْ صَدَقَ وَمَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ فَقَدْ صَدَقَ وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمِدَادَ أَوْ الْوَرَقَ أَوْ صِفَةَ الْعَبْدِ أَوْ فِعْلَهُ أَوْ حِفْظَهُ وَصَوْتَهُ قَدِيمٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَمَنْ قَالَ: إنَّ مَا فِي الْمُصْحَفِ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ مَا فِي صُدُورِ الْقُرَّاءِ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ اللَّهُ وَلَكِنْ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ صَنَّفَهُ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ وَقَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمَصَاحِفِ كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَهُوَ أَيْضًا مُخْطِئٌ ضَالٌّ. فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ وَالْكَلَامُ نَفْسُهُ يُكْتَبُ فِي الْمُصْحَفِ. بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُكْتَبُ اسْمُهَا وَذِكْرُهَا فَالرَّسُولُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ذِكْرُهُ وَنَعْتُهُ كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ وَكَمَا أَنَّ أَعْمَالَنَا فِي الزُّبُرِ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} وَمُحَمَّدٌ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ وَكَمَا أَنَّ أَعْمَالَنَا فِي الْكُتُبِ وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ نَفْسُهُ مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ لَيْسَ الْمَكْتُوبُ ذِكْرُهُ وَالْخَبَرُ عَنْهُ كَمَا يُكْتَبُ اسْمُ اللَّهِ فِي الْوَرَقِ وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كِتَابَةِ الْأَسْمَاءِ وَالْكَلَامِ وَكِتَابَةِ الْمُسَمَّيَاتِ وَالْأَعْيَانِ - كَمَا جَرَى لِطَائِفَةٍ مِنْ النَّاسِ - فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا سَوَّى فِيهِ بَيْنَ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا قَدْ

ص: 565

يَجْعَلُ مِثْلُ هَؤُلَاءِ الْحَقَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ شَيْئًا وَاحِدًا كَمَا قَدْ جَعَلُوا جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ مَعْنًى وَاحِدًا. وَكَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ يُسْمَعُ تَارَةً مِنْهُ وَتَارَةً مِنْ الْمُبَلِّغِ. فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ} فَهَذَا الْكَلَامُ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ؛ فَلَفْظُهُ لَفْظُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الرَّسُولِ. فَإِذَا بَلَّغَهُ الْمُبَلِّغُ عَنْهُ بَلَّغَ كَلَامَ الرَّسُولِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ؛ وَلَكِنَّ صَوْتَ الصَّحَابِيِّ الْمُبَلِّغِ لَيْسَ هُوَ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ سَمِعَهُ مِنْهُ جِبْرِيلُ وَبَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ إلَى مُحَمَّدٍ؛ وَمُحَمَّدٌ سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَبَلَّغَهُ إلَى أُمَّتِهِ فَهُوَ كَلَامُ اللَّه حَيْثُ سُمِعَ وَكُتِبَ وَقُرِئَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} . وَكَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بِنَفْسِهِ تَكَلَّمَ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَقُدْرَتِهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْهُ. بَلْ هُوَ قَائِمٌ بِذَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَيْسَ قَائِمًا بِدُونِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ.

ص: 566

وَالسَّلَفُ قَالُوا: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ. فَإِذَا قِيلَ: كَلَامُ اللَّهِ قَدِيمٌ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا وَلَا كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ وَلَا مَعْنًى وَاحِدٌ قَدِيمٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ؛ بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ الْمُعَيَّنِ قَدِيمًا. وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَلَا قَالُوا: إنَّ كَلَامَهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَلَا قَالُوا: إنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ أَوْ حُرُوفَهُ وَأَصْوَاتَهُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْحُرُوفِ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا بِهَا إذَا شَاءَ؛ بَلْ قَالُوا: إنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْحُرُوفَ. وَكَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. يَقُولُونَ: مَنْ قَالَ هُوَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ؛ فَإِنَّ " اللَّفْظَ " يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا وَيُرَادُ بِاللَّفْظِ الْمَلْفُوظُ بِهِ وَهُوَ نَفْسُ الْحُرُوفِ الْمَنْطُوقَةِ وَأَمَّا أَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَمِدَادُ الْمَصَاحِفِ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ فِي أَنَّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ صَوْتَ الْقَارِئِ صَوْتُ الْعَبْدِ وَكَذَلِكَ غَيْرُ أَحْمَد مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَ أَحْمَد: مَنْ

ص: 567

قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ يُرِيدُ بِهِ الْقُرْآنَ فَهُوَ جهمي فَالْإِنْسَانُ وَجَمِيعُ صِفَاتِهِ مَخْلُوقٌ حَرَكَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ وَأَصْوَاتُهُ مَخْلُوقَةٌ وَجَمِيعُ صِفَاتِهِ مَخْلُوقَةٌ؛ فَمَنْ قَالَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْعَبْدِ إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ قَدِيمَةٌ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَمَنْ قَالَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ كَلَام اللَّهِ أَوْ صِفَاتِهِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ. وَأَمَّا أَصْوَاتُ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ وَالْمِدَادِ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ يَتَوَقَّفُ فِي ذَلِكَ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ أَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ وَالْمِدَادَ كُلَّهُ مَخْلُوقٌ وَكَلَامُ اللَّهِ الَّذِي يُكْتَبُ بِالْمِدَادِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا وَذُكِرَ أَقْوَالُ النَّاسِ وَاضْطِرَابُهُمْ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.

ص: 568

وَقَالَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

فَصْلٌ:

وَالْقُرْآنُ الَّذِي بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ مُتَوَاتِرٌ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَصَاحِفَ الْمَكْتُوبَةَ اتَّفَقَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ وَنَقَلُوهَا قُرْآنًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ نَعْلَمُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّهَا مَا غُيِّرَتْ وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ عَنْ السَّلَفِ الْمُوَافِقَةُ لِلْمُصْحَفِ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ بَيْنَ قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلْفٍ وَبَيْنَ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو وَنُعَيْمٍ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إنَّ الْقِرَاءَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ: إنَّمَا جَمَعَ قِرَاءَاتِهِمْ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ مُجَاهِدٍ بُعْدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَاتَّبَعَهُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ وَقَصَدَ أَنْ يَنْتَخِبَ قِرَاءَةَ سَبْعَةٍ مِنْ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ وَلَمْ يَقُلْ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّ مَا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَا إنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ} أُرِيدَ بِهِ قِرَاءَةُ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ؛ وَلَكِنَّ

ص: 569

هَذِهِ السَّبْعَةَ اُشْتُهِرَتْ فِي أَمْصَارٍ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهَا كَأَرْضِ الْمَغْرِب. فَأُولَئِكَ لَا يَقْرَءُونَ بِغَيْرِهَا؛ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِاشْتِهَارِ غَيْرِهَا. فَأَمَّا مَنْ اشْتَهَرَتْ عِنْدَهُمْ هَذِهِ كَمَا اشْتَهَرَ غَيْرُهَا. مِثْلُ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا فَلَهُمْ أَنْ يَقْرَءُوا بِهَذَا وَهَذَا وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ مِثْلُ مَا خَرَجَ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: الْحَيُّ الْقَيَّامُ وَصِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ وَإنْ كَانَتْ الأزقية وَاحِدَةً وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ إذَا قُرِئَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد. " أَحَدُهُمَا " تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِهَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ قَرَءُوا بِهَا كَانُوا يَقْرَءُونَهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ. " وَالثَّانِي " لَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَتَوَاتَرْ إلَيْنَا وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهَلْ يُقَالُ: إنَّهَا كَانَتْ قُرْآنًا فَنُسِخَ وَلَمْ يُعْرَفْ مَنْ قَرَأَ بِالنَّاسِخِ؟ أَوْ لَمْ تُنْسَخْ وَلَكِنْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ بِهَا جَائِزَةً لِمَنْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ دُونَ مَنْ لَمْ تَثْبُتْ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِقِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ وَنَحْوِهِمَا: فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَغَارِبَةِ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ كَلَامًا وَافَقَهُ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ص: 570

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

وَأَمَّا " الْحُرُوفُ " هَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ؟ فَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْخَلَفِ مَشْهُورٌ فَأَمَّا السَّلَفُ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ وَأَلْفَاظَهُ وَتِلَاوَتَهُ مَخْلُوقَةٌ وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ أَلْفَاظَنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ. وَقَالُوا: هُوَ جهمي. وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَّرَهُ وَفِي لَفْظِ بَعْضِهِمْ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ وَلَفْظِ بَعْضِهِمْ الْحُرُوفُ. وَمِمَّنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو الْوَلِيدِ الْجَارُودِيَّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه والحميدي وَمُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطوسي وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ وَأَحْمَد بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ. وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى نُصُوصِ كَلَامِهِمْ فَلْيُطَالِعْ الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ فِي السُّنَّةِ؛ مِثْلَ " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة " لِلْإِمَامِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَكِتَابِ " الشَّرِيعَةِ " للآجري وَ " الْإِبَانَةِ " لِابْنِ بَطَّةَ وَ " السُّنَّةِ " للالكائي وَ " السُّنَّةِ " للطبراني،

ص: 571

وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ الْكَثِيرَةِ وَلَمْ يُنْسَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى خِلَافِ ذَلِكَ إلَّا بَعْضُ أَهْلِ الْغَرَضِ نَسَبَ الْبُخَارِيَّ إلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَرَضِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ عَنِّي أَنِّي قُلْت لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَذَبَ. وَتَرَاجِمُهُ فِي آخِرِ صَحِيحِهِ تُبَيِّنُ ذَلِكَ. وَهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: " أَحَدُهَا " حُرُوفُ الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ لَفْظُهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهَا جِبْرِيلُ وَبَعْدَ مَا نَزَلَ بِهَا فَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذِهِ مَخْلُوقَةٌ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِمْ مَنْ يَقُولُ هَذَا إلَّا الَّذِينَ قَالُوا. إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَإِنَّ أُولَئِكَ قَالُوا بِالْخَلْقِ لِلْأَلْفَاظِ؛ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِثُبُوتِهِ لَا مَخْلُوقًا وَلَا غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَقَدْ اعْتَرَفَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ فُحُولِ أَهْلِ الْكَلَامِ بِهَذَا: مِنْهُمْ عَبْدُ الْكَرِيمِ الشَّهْرَستَانِي مَعَ خِبْرَتِهِ بِالْمِلَلِ وَالنِّحَلِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ السَّلَفَ مُطْلَقًا ذَهَبُوا إلَى أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَقَالَ: ظُهُورُ الْقَوْلِ بِحُدُوثِ الْقُرْآنِ مُحْدَثٌ وَقَرَّرَ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِ " نِهَايَةِ الْكَلَامِ ". " الثَّانِي " أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَهِيَ حَرَكَاتُهُمْ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَيْهَا التِّلَاوَةُ. فَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوفَةٌ؛ وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّهُ بَدَّعَ

ص: 572

أَكْثَرَهُمْ مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُهُ. " الثَّالِثُ " التِّلَاوَةُ الظَّاهِرَةُ مِنْ الْعَبْدِ عَقِيبَ حَرَكَةِ الْآيَةِ فَهَذِهِ مِنْهُمْ مَنْ يَصِفُهَا بِالْخَلْقِ وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ - فِيمَا بَلَغَنَا - حُسَيْنٌ الكرابيسي وَتِلْمِيذُهُ دَاوُد الأصبهاني وَطَائِفَةٌ؛ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَالُوا فِيهِمْ كَلَامًا غَلِيظًا وَجُمْهُورُهُمْ - وَهُمْ اللَّفْظِيَّةُ عِنْدَ السَّلَفِ - الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ الْقُرْآنُ بِأَلْفَاظِنَا مَخْلُوقٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَعَارَضَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرُونَ فَقَالُوا: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَطَبَقَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُطْلَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَمَا عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَجُمْهُورُ السَّلَفِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِطْلَاقَيْنِ يَقْتَضِي إيهَامًا لِخَطَأِ؛ فَإِنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ مُحْدَثَةٌ بِلَا شَكٍّ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ مَنْ نَصَرَ السُّنَّةَ يَنْفِي الْخَلْقَ عَنْ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يَكُونُ مِنْ الْقُرْآنِ الْمُبَلَّغِ. فَإِنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَعَابُوهُ جَرْيًا عَلَى مِنْهَاجِ أَحْمَد

ص: 573

وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} . وَأَمَّا التِّلَاوَةُ فِي نَفْسِهَا الَّتِي هِيَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ وَأَلْفَاظُهُ فَهِيَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَالْعَبْدُ إنَّمَا يَقْرَأُ كَلَامَ اللَّهِ بِصَوْتِهِ كَمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} فَهَذَا الْكَلَامُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ إنَّمَا هُوَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَدْ بَلَّغَهُ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ كَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى؛ لَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ فِيهِ إلَّا تَبْلِيغُهُ وَتَأْدِيَتُهُ وَصَوْتُهُ وَمَا يَخْفَى عَلَى لَبِيبٍ الْفَرْقُ بَيْنَ التِّلَاوَةِ فِي نَفْسِهَا؛ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا الْخَلْقُ وَبَعْدَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِهَا وَبَيْنَ مَا لِلْعَبْدِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ مِنْ عَمَلٍ وَكَسْبٍ وَإِنَّمَا غَلِطَ بَعْضُ الْمُوَافِقِينَ وَالْمُخَالِفِينَ فَجَعَلُوا الْبَابَيْنِ بَابًا وَاحِدًا وَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى نَفْسِ حُدُوثِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ بِمَا دَلَّ عَلَى حُدُوثِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَمَا تَوَلَّدَ عَنْهَا وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْغَلَطِ وَلَيْسَ فِي الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَلَا السَّمْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ نَفْسِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى حُدُوثِ مَعَانِيهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْحُجَجِ مِثْلُ الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ لِمَنْ اسْتَهْدَى اللَّهَ فَهَدَاهُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا: فَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِر الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ الْإِقْرَارُ وَالْإِمْرَارُ. قَالَ

ص: 574

أَبُو سُلَيْمَانَ الخطابي وَأَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: مَذْهَبُ السَّلَفِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ إجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا. وَقَالَا فِي ذَلِكَ: إنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ يُحْتَذَى فِيهِ حَذْوَهُ وَيُتَّبَعُ فِيهِ مِثَالَهُ فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ ذَاتِهِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّةٍ: فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ صِفَاتِهِ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ فَلَا نَقُولُ: إنَّ مَعْنَى الْيَدِ الْقُدْرَةُ وَلَا إنَّ مَعْنَى السَّمْعِ الْعِلْمُ هَذَا كَلَامُهُمَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا قَالَ لَك الجهمي: كَيْفَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا؟ فَقُلْ لَهُ: كَيْفَ هُوَ فِي نَفْسِهِ؟ فَإِنْ قَالَ: نَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ. فَقُلْ: وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ صِفَاتِهِ وَكَيْفَ نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ صِفَةٍ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ مَوْصُوفِهَا. وَمَنْ فَهِمَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُدُوثِ مُجَانِسٌ لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ عَنْ اللَّهِ فَقَدْ شَبَّهَ وَعَطَّلَ؛ بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُوصَفَ اللَّهُ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ لَا نَتَجَاوَزُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ. وَأَنْ نَعْلَمَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي أَوْصَافِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَأَنَّ الْخَلْقَ لَا تُطِيقُ عُقُولُهُمْ كُنْهَ مَعْرِفَتِهِ وَلَا تَقْدِرُ أَلْسِنَتُهُمْ عَلَى بُلُوغِ صِفَتِهِ {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

ص: 575

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَمَّنْ يَقُولُ: إنَّ الشَّكْلَ وَالنَّقْطَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تبارك وتعالى وَهَلْ ذَلِكَ حَقٌّ أَمْ بَاطِلٌ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي الْأَحْرُفِ؟ هَلْ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ أَمْ لَا؟ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ مُثَابِينَ مَأْجُورِينَ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْمَصَاحِفُ الَّتِي كَتَبَهَا الصَّحَابَةُ لَمْ يُشَكِّلُوا حُرُوفًا وَلَمْ يُنَقِّطُوهَا؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَرَبًا لَا يَلْحَنُونَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ لَمَّا نَشَأَ اللَّحْنُ صَارُوا يُنَقِّطُونَ الْمَصَاحِفَ وَيُشَكِّلُونَهَا وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ حُكْمَ الشَّكْلِ وَالنَّقْطِ حُكْمُ الْحُرُوفِ الْمَكْتُوبَةِ فَإِنَّ النُّقَطَ تُمَيِّزُ بَيْنَ الْحُرُوفِ وَالشَّكْلُ يُبَيِّنُ الْإِعْرَابَ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ. وَيُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا:" إعْرَابُ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ حِفْظِ بَعْضِ حُرُوفِهِ " فَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} كَانَتْ الضَّمَّةُ وَالْفَتْحَةُ وَالْكَسْرَةُ مِنْ تَمَامِ لَفْظِ الْقُرْآنِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمِدَادُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الشَّكْلُ وَالنَّقْطُ كَالْمِدَادِ الَّذِي

ص: 576

يُكْتَبُ بِهِ الْحُرُوفُ وَالْمِدَادُ كُلُّهُ مَخْلُوقٌ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَالصَّوْتُ الَّذِي يَقْرَأُ بِهِ النَّاسُ الْقُرْآنَ هُوَ صَوْتُ الْعِبَادِ؛ لَكِنْ الْكَلَامُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ وَهَذَا لَيْسَ هُوَ الصَّوْتَ الَّذِي يُنَادِي اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ وَيَسْمَعُهُ مُوسَى وَغَيْرُهُ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَهُوَ أَيْضًا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ عِنْدَهُمْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَهُوَ قَدِيمُ النَّوْعِ وَأَمَّا نَفْسُ " النِّدَاءِ " الَّذِي نَادَى بِهِ مُوسَى وَنَحْوَهُ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ نَادَاهُ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} وَكَذَلِكَ نَظَائِرُهُ فَكَانَ السَّلَفُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ نَوْعِ الْكَلَامِ وَبَيْنَ الْكَلِمَةِ الْمُعَيَّنَةِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} . وكلام اللَّهِ وَمَا يَدْخُلُ فِي كَلَامِهِ مِنْ نِدَائِهِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ بَائِنٍ مِنْهُ بَلْ هُوَ مِنْهُ وَالْقُرْآنُ سَمِعَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّهِ وَنَزَلَ بِهِ إلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَالَ تَعَالَى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وَنَحْوَ ذَلِكَ.

ص: 577

وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَلَّغَهُ إلَى الْأُمَّةِ وَالْمُسْلِمُونَ يَسْمَعُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَسَمَاعِ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ فَإِنَّهُ سَمِعَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَاَلَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَكْتُبُونَهُ فِي مَصَاحِفِهِمْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَهُمْ يَقْرَءُونَهُ بِأَصْوَاتِهِمْ وَيَكْتُبُونَهُ بِمِدَادِهِمْ فِي وَرَقِهِمْ. وَأَفْعَالُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ وَمِدَادُهُمْ مَخْلُوقٌ. وَالْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَءُونَهُ وَيَكْتُبُونَهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ سَوَاءٌ قَرَءُوهُ قِرَاءَةً يُثَابُونَ عَلَيْهَا أَوْ لَا يُثَابُونَ عَلَيْهَا وَسَوَاءٌ كَتَبُوهُ مَشْكُولًا مَنْقُوطًا أَوْ كَتَبُوهُ غَيْرَ مَشْكُولٍ وَلَا مَنْقُوطٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ هُوَ الْقُرْآنَ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَمَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ سَوَاءٌ كَانَ مَشْكُولًا مَنْقُوطًا أَوْ كَانَ غَيْرَ مَشْكُولٍ وَلَا مَنْقُوطٍ وَكَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَالْمِدَادُ مَخْلُوقَانِ. وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ بِهِ لَيْسَ بَعْضُهُ كَلَامَ اللَّهِ وَبَعْضُهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ وَلَيْسَ لِجِبْرِيلَ وَلَا لِمُحَمَّدِ مِنْهُ إلَّا التَّبْلِيغُ لَمْ يُحْدِثْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْ حُرُوفِهِ؛ بَلْ الْجَمِيعُ كَلَامُ اللَّهِ تبارك وتعالى. وَهَذِهِ " الْمَسَائِلُ " مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ. وَلَكِنْ هَذَا قَدْرُ مَا وَسِعَتْهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 578

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

فَصْلٌ:

الْكَلَامُ فِي " الْقُرْآنِ " وَ " الْكَلَامِ " هَلْ هُوَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ أَمْ لَيْسَ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ مُحْدَثٌ: حَدَثَ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَانْتَشَرَ فِي الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ؛ فَإِنَّ أَبَا سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ ثُمَّ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ وَنَحْوَهُمَا لَمَّا نَاظَرُوا الْمُعْتَزِلَةَ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا كَانَ الْقُرْآنُ قَدِيمًا وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنًى قَائِمًا بِنَفْسِ اللَّهِ كَعِلْمِهِ وَزَادُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَلَا لُغَةٍ لَا قَدِيمٍ وَلَا غَيْرِ قَدِيمٍ لَمَّا رَأَوْهُ مِنْ امْتِنَاعِ قِيَامِ أَمْرٍ حَادِثٍ بِهِ وَخَالَفُوا فِي ذَلِكَ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ: مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ مَآخِذُهُمْ فَإِنَّ الْآثَارَ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ. وَلِهَذَا جَهَّمَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد: قُلْت لِأَبِي: إنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ.

ص: 579

فَقَالَ: هَؤُلَاءِ جهمية؛ إنَّمَا يَدُورُونَ عَلَى التَّعْطِيلِ وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَحْمَد. وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ تَرْجَمَ فِي صَحِيحِهِ بَابًا فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} بَيَّنَ فِيهِ الْحُجَّةَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ. وَكَذَلِكَ الْمُصَنِّفُونَ فِي السُّنَّةِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَهُمْ كَثِيرٌ وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ الصُّوفِيَّةِ كَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيَّ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ وَغَيْرِهِمَا وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ: الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنْبَلِيَّةُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ يُقَرِّرُونَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ وَالْعُمُومَ لَهُ صِيَغٌ مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ بِمَجْرَدِهَا عَلَى أَنَّهَا أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَعُمُومٌ وَيَذْكُرُونَ خِلَافَ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي أَنَّ الْأَمْرَ لَا صِيغَةَ لَهُ. ثُمَّ الْمُثْبِتُونَ لِلصَّوْتِ مِنْهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ يَقُولُونَ كَلَامُهُ صَوْتٌ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ وَمِنْهُمْ الكَرَّامِيَة وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ قَائِمٍ بِهِ لَكِنْ لَيْسَ الصَّوْتُ بِقَدِيمِ. وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ قَدِيمٍ قَائِمٍ بِهِ. وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: يُخَاطِبُ

ص: 580

بِصَوْتِ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ وَالْمَعْنَى قَدِيمٌ قَائِمٌ بِهِ. فَلَمَّا أَظْهَرَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ - كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَانِي وَغَيْرِهِ فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ - أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ بِحَرْفِ وَلَا صَوْتٍ وَلَا لُغَةٍ وَقَدْ تَبِعَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَقَلِيلٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد. رَأَى أَهْلُ الْحَدِيثِ وَجُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْبِدْعَةِ؛ فَأَظْهَرُوا خِلَافَ ذَلِكَ وَأَطْلَقَ مَنْ أَطْلَقَ مِنْهُمْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ. . . (1).

(1)

بياض بالأصل

ص: 581

سُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلَيْنِ تَبَاحَثَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الْقُرْآنُ حَرْفٌ وَصَوْتٌ. وَقَالَ الْآخَرُ: لَيْسَ هُوَ بِحَرْفِ وَلَا صَوْتٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا: النُّقَطُ الَّتِي فِي الْمُصْحَفِ وَالشَّكْلُ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ الْآخَرُ: لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ فَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ رضي الله عنه:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " يَتَنَازَعُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَيَخْلِطُونَ فِيهَا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَاَلَّذِي قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَنَّ جِبْرِيلَ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالْمُسْلِمُونَ سَمِعُوهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} فَقَدْ أَصَابَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَالدَّلَائِلُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

ص: 582

وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ جِبْرِيلَ أَوْ غَيْرِهِ عُبِّرَ بِهِ عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ ابْنُ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ وَإِنَّ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَإِنَّهُ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وبالعبرانية كَانَ تَوْرَاةً وبالسريانية كَانَ إنْجِيلًا فَيَجْعَلُونَ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مَعْنًى وَاحِدًا وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَهُوَ قَوْلٌ أَحْدَثَهُ ابْنُ كُلَّابٍ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ غَيْرَهُ مِنْ السَّلَفِ. وَإِنْ أَرَادَ الْقَائِل بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ أَنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ وَالْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمَصَاحِفِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ أَخْطَأَ وَابْتَدَعَ وَقَالَ مَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} فَبَيَّنَ أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُ الْقَارِئِ وَالْكَلَامَ كَلَامُ الْبَارِئِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} فَالْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ وَفِي السُّنَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْسِمِ فَيَقُولُ:

ص: 583

أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لَأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي} وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِمْ. {الم} {غُلِبَتِ الرُّومُ} أَهَذَا كَلَامُك أَمْ كَلَامُ صَاحِبِك؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِكَلَامِي وَلَا كَلَامِ صَاحِبِي؛ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى. وَالنَّاسُ إذَا بَلَّغُوا كَلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَقَوْلِهِ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} فَإِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي يَسْمَعُونَهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَكَلَّمَ بِهِ بِصَوْتِهِ وَبِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ وَالْمُحَدِّثُ بَلَّغَهُ عَنْهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ لَا بِصَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَالْقُرْآنُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ إذَا بَلَّغَتْهُ الرُّسُلُ عَنْهُ وَقَرَأَتْهُ النَّاسُ بِأَصْوَاتِهِمْ. وَاَللَّهُ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ بِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَنَادَى مُوسَى بِصَوْتِ نَفْسِهِ؛ كَمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَصَوْتُ الْعَبْدِ لَيْسَ هُوَ صَوْتُ الرَّبِّ وَلَا مِثْلُ صَوْتِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ: لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ. وَقَدْ نَصَّ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يُنَادِي بِصَوْتِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ تَكَلَّمَ بِهِ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ كَلَامًا لِغَيْرِهِ لَا جِبْرِيلَ وَلَا غَيْرِهِ وَأَنَّ الْعِبَادَ يَقْرَءُونَهُ بِأَصْوَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ فَالصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ مِنْ الْعَبْدِ

ص: 584

صَوْتُ الْقَارِئِ وَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِئِ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ صَوْتِ الْعَبْدِ وَصَوْتِ الرَّبِّ؛ بَلْ يَجْعَلُ هَذَا هُوَ هَذَا فَيَنْفِيهِمَا جَمِيعًا أَوْ يُثْبِتُهُمَا جَمِيعًا فَإِذَا نَفَى الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ نَفَى أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ كَلَامَ اللَّهِ وَأَنْ يَكُونَ مُنَادِيًا لِعِبَادِهِ بِصَوْتِهِ وَأَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا نَفَى أَنْ يَكُونَ صَوْتُ الْعَبْدِ صِفَةً لِلَّهِ عز وجل ثُمَّ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ الْمُتَنَوِّعَ شَيْئًا وَاحِدًا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ هُوَ مُصِيبٌ فِي هَذَا الْفَرْقِ دُونَ ذَاكَ الثَّانِي الَّذِي فِيهِ نَوْعٌ مِنْ الْإِلْحَادِ وَالتَّعْطِيلِ حَيْثُ جَعَلَ الْكَلَامَ الْمُتَنَوِّعَ شَيْئًا وَاحِدًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ. وَإِذَا ثَبَتَ جَعْلُ صَوْتِ الرَّبِّ هُوَ صَوْتَ الْعَبْدِ أَوْ سَكَتَ عَنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا مَعَ قَوْلِهِ إنَّ الْحُرُوفَ مُتَعَاقِبَةٌ فِي الْوُجُودِ مُقْتَرِنَةٌ فِي الذَّاتِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةُ الْأَعْيَانِ فَجَعَلَ عَيْنَ صِفَةِ الرَّبِّ تَحِلُّ فِي الْعَبْدِ أَوْ تَتَّحِدُ بِصِفَتِهِ فَقَالَ بِنَوْعِ مِنْ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ يُفْضِي إلَى نَوْعٍ مِنْ التَّعْطِيلِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ عَدَمَ الْفَرْقِ وَالْمُبَايَنَةِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَصِفَاتِهِ وَالْمَخْلُوقِ وَصِفَاتِهِ خَطَأٌ وَضَلَالٌ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا؛ بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ صَوْتِ الرَّبِّ وَصَوْتِ الْعَبْدِ وَمُتَّفِقُونَ أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ

ص: 585

وَأَنَّهُ يُنَادِي عِبَادَهُ بِصَوْتِهِ وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ أَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ وَلَا مِدَادِ الْمَصَاحِفِ قَدِيمًا بَلْ الْقُرْآنُ مَكْتُوبٌ فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ مَقْرُوءٌ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَحْفُوظٌ بِقُلُوبِهِمْ وَهُوَ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ. وَالصَّحَابَةُ كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ لَمَّا كَتَبُوهَا بِغَيْرِ شَكْلٍ وَلَا نُقَطٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَرَبًا لَا يَلْحَنُونَ ثُمَّ لَمَّا حَدَثَ اللَّحْنُ نَقَّطَ النَّاسُ الْمَصَاحِفَ وَشَكَّلُوهَا فَإِنْ كُتِبَتْ بِلَا شَكْلٍ وَلَا نُقَطٍ جَازَ وَإِنْ كُتِبَتْ بِنَقْطِ وَشَكْلٍ جَازَ وَلَمْ يُكْرَهْ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَحُكْمُ " النَّقْطِ وَالشَّكْلِ " حُكْمُ الْحُرُوفِ فَإِنَّ الشَّكْلَ يُبَيِّنُ إعْرَابَ الْقُرْآنِ كَمَا يُبَيِّنُ النَّقْطُ الْحُرُوفَ. وَالْمِدَادُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْحُرُوفُ وَيُكْتَبُ بِهِ الشَّكْلُ وَالنَّقْطُ مَخْلُوقٌ وَكَلَامُ اللَّهِ الْعَرَبِيُّ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَكُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ بِالشَّكْلِ وَالنَّقْطِ وَبِغَيْرِ شَكْلٍ وَنَقْطٍ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَحُكْمُ الْإِعْرَابِ حُكْمُ الْحُرُوفِ؛ لَكِنَّ الْإِعْرَابَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِلْحُرُوفِ الْمَرْسُومَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يُحْتَاجُ لِتَجْرِيدِهِمَا وَإِفْرَادِهِمَا بِالْكَلَامِ؛ بَلْ الْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ: مَعَانِيهِ وَحُرُوفُهُ وَإِعْرَابُهُ وَاَللَّهُ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ يَقْرَءُونَهُ بِأَفْعَالِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ. وَالْمَكْتُوبُ فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ: سَوَاءٌ كُتِبَ

ص: 586

بِشَكْلِ وَنَقْطٍ أَوْ بِغَيْرِ شَكْلٍ وَنَقْطٍ وَالْمِدَادُ الَّذِي كُتِبَ بِهِ الْقُرْآنُ لَيْسَ بِقَدِيمِ؛ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ الَّذِي كُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ بِالْمِدَادِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْمَصَاحِفُ يَجِبُ احْتِرَامُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَكْتُوبٌ فِيهَا وَاحْتِرَامُ النَّقْطِ وَالشَّكْلِ إذَا كُتِبَ الْمُصْحَفُ مُشَكَّلًا مَنْقُوطًا كَاحْتِرَامِ الْحُرُوفِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا أَنَّ حُرْمَةَ إعْرَابِ الْقُرْآنِ كَحُرْمَةِ حُرُوفِهِ الْمَنْقُوطَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما حِفْظُ إعْرَابِ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ حِفْظِ بَعْضِ حُرُوفِهِ.

وَاَللَّهُ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ بِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ فَجَمِيعُهُ كَلَامُ اللَّهِ فَلَا يُقَالُ بَعْضُهُ كَلَامُ اللَّهِ وَبَعْضُهُ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ نَادَى مُوسَى بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ نَادَى مُوسَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} {إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} وَالنِّدَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا صَوْتًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} فَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ إيحَائِهِ إلَى النَّبِيِّينَ وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى

ص: 587

فَمَنْ قَالَ: إنَّ مُوسَى لَمْ يَسْمَعْ صَوْتًا؛ بَلْ أُلْهِمَ مَعْنَاهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُوسَى وَغَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَالتَّكَلُّمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ هَذَا وَهَذَا كَانَ ضَالًّا. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد رضي الله عنه وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ. وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ يَتَكَلَّمُ بِشَيْءِ بَعْدَ شَيْءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} فَنَادَاهُ حِينَ أَتَاهَا وَلَمْ يُنَادِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ نَادَاهُمَا حِينَ أَكَلَا مِنْهَا وَلَمْ يُنَادِهِمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} بَعْدَ أَنْ خَلَقَ آدَمَ وَصَوَّرَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَذَا قَوْلُهُ: {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ وَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ: يُخْبِرُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَنَادَى فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ. وَقَدْ

ص: 588

ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ إلَى الصَّفَا قَرَأَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} وَقَالَ: نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ} فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ بَدَأَ بِالصَّفَا قَبْلَ الْمَرْوَةِ. وَالسَّلَفُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّهُ قَدِيمُ الْعَيْنِ ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَأْمُورٍ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ مَنْهِيٍّ وَالْخَبَرُ بِكُلِّ مُخْبَرٍ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالعبرانية كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا. وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ لَازِمَةٌ لِذَاتِ اللَّه لَمْ تَزَلْ لَازِمَةً لِذَاتِهِ وَإِنَّ الْبَاءَ وَالسِّينَ وَالْمِيمَ مَوْجُودَةٌ مُقْتَرِنَةٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ مَعًا أَزَلًا وَأَبَدًا لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهَا شَيْءٌ شَيْئًا. وَهَذَا أَيْضًا مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنَّهُ فِي الْأَزَلِ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِالنِّدَاءِ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى وَإِنَّمَا تَجَدَّدَ اسْتِمَاعُ مُوسَى لَا أَنَّهُ نَادَاهُ حِينَ أَتَى الْوَادِيَ الْمُقَدَّسَ؛ بَلْ نَادَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَنَاهَى وَلَكِنْ تِلْكَ السَّاعَةُ سَمِعَ النِّدَاءَ. وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْقُرْآنَ

ص: 589

مَخْلُوقٌ فِي أَصْلِ قَوْلِهِمْ. فَإِنَّ أَصْلَ قَوْلِهِمْ أَنَّ الرَّبَّ لَا تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ. فَلَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ وَلَا فِعْلٌ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقَالُوا: هَذِهِ حَوَادِثُ وَالرَّبُّ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ. فَخَالَفُوا صَحِيحَ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحَ الْمَعْقُولِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ بِهَذَا يَرُدُّونَ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ وَيُثْبِتُونَ حُدُوثَ الْعَالَمِ وَأَخْطَئُوا فِي ذَلِكَ فَلَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِلْفَلَاسِفَةِ كَسَرُوا وَادَّعَوْا أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ عَلَى كَلَامٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَلَا فِعْلٍ يَفْعَلُهُ وَأَنَّهُ صَارَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا بِغَيْرِ أَمْرٍ حَدَثَ أَوْ يُغَيِّرُونَ الْعِبَارَةَ فَيَقُولُونَ. لَمْ يَزَلْ قَادِرًا؛ لَكِنْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَقْدُورَ كَانَ مُمْتَنِعًا وَإِنَّ الْفِعْلَ صَارَ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ شَيْءٍ. وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولُوا: كَانَ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ عَلَى مَا يُمْكِنُ فِيمَا لَا يَزَالُ لَا عَلَى مَا لَا يُمْكِنُ فِي الْأَزَلِ فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ حَيْثُ يُثْبِتُونَهُ قَادِرًا فِي حَالِ كَوْنِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مُمْتَنِعًا عِنْدَهُمْ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ نَوْعِ الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ وَبَيْنَ عَيْنِهِ كَمَا لَمْ يُفَرِّقْ الْفَلَاسِفَةُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا؛ بَلْ الْفَلَاسِفَةُ ادَّعَوْا أَنَّ مَفْعُولَهُ الْمُعَيَّنَ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ فَضَلُّوا فِي ذَلِكَ وَخَالَفُوا صَرِيحَ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحَ الْمَنْقُولِ؛ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ لَا تَدُلُّ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعَالَمِ بَلْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ إذْ هُوَ فَاعِلٌ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الدَّلَائِلُ

ص: 590

الْقَطْعِيَّةُ وَالْفَاعِلُ بِمَشِيئَتِهِ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ مَفْعُولِهِ لَازِمًا لِذَاتِهِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ. بَلْ وَكُلُّ فَاعِلٍ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ مَفْعُولِهِ لَازِمًا لِذَاتِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ مُقَارَنَةُ مَفْعُولِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِغَيْرِ إرَادَةٍ فَكَيْفَ بِالْفَاعِلِ بِالْإِرَادَةِ. وَمَا يُذْكَرُ بِأَنَّ الْمَعْلُولَ يُقَارِنُ عِلَّتَهُ إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا كَانَ مِنْ الْعِلَلِ يَجْرِي مَجْرَى الشُّرُوطِ فَإِنَّ الشَّرْطَ لَا يَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْمَشْرُوطِ بَلْ قَدْ يُقَارِنُهُ كَمَا تُقَارِنُ الْحَيَاةُ الْعِلْمَ وَأَمَّا مَا كَانَ فَاعِلًا سَوَاءً سُمِّيَ عِلَّةً أَوْ لَمْ يُسَمَّ عِلَّةً فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ وَالْفِعْلُ الْمُعَيَّنُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَارِنَهُ شَيْءٌ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ وَلَا يَعْرِفَ الْعُقَلَاءُ فَاعِلًا قَطُّ يَلْزَمُهُ مَفْعُولٌ مُعَيَّنٌ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ حَرَّكْت يَدِي فَتَحَرَّكَ الْخَاتَمُ هُوَ مِنْ بَابِ الشَّرْطِ لَا مِنْ بَابِ الْفَاعِلِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعَالَمُ قَدِيمًا لَكَانَ فَاعِلُهُ مُوجِبًا بِذَاتِهِ فِي الْأَزَلِ وَلَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْهُ مُوجَبُهُ وَمُقْتَضَاهُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ مِنْ الْحَوَادِثِ وَهَذَا خِلَافُ الْمُشَاهَدَةِ. وَإِنْ كَانَ هُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ؛ بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَاعِلًا لِمَا يَشَاءُ وَلَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالْعَالَمُ فِيهِ مِنْ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ مَا دَلَّ عَلَى عِلْمِ الرَّبِّ وَفِيهِ مِنْ الِاخْتِصَاصِ مَا دَلَّ عَلَى مَشِيئَتِهِ وَفِيهِ مِنْ الْإِحْسَانِ مَا دَلَّ عَلَى رَحْمَتِهِ؛ وَفِيهِ مِنْ الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ مَا دَلَّ عَلَى حِكْمَتِهِ وَفِيهِ

ص: 591

مِنْ الْحَوَادِثِ مَا دَلَّ عَلَى قُدْرَةِ الرَّبِّ تَعَالَى مَعَ أَنَّ الرَّبَّ مُسْتَحِقٌّ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ لِذَاتِهِ؛ فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِكُلِّ كَمَالٍ مُمْكِنِ الْوُجُودِ لَا نَقْصَ فِيهِ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ لَهُ كُفُؤٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ مُنَزَّهٌ فِيهَا عَنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَمُنَزَّهٌ عَنْ النَّقَائِصِ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّ وَصْفَهُ بِهَا مَنْ أَعْظَمِ الْأَبَاطِيلِ وَكَمَالُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ لَا يَسْتَفِيدُهُ مَنْ غَيْرِهِ بَلْ هُوَ الْمُنْعِمُ عَلَى خَلْقِهِ بِالْخَلْقِ وَالْإِنْشَاءِ وَمَا جَعَلَهُ فِيهِمْ مِنْ صِفَاتِ الْأَحْيَاءِ وَخَالِقُ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَحَقُّ بِهَا وَلَا كُفُؤَ لَهُ فِيهَا.

وَأَصْلُ اضْطِرَابِ النَّاسِ فِي " مَسْأَلَةِ كَلَامِ اللَّهِ " أَنَّ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ لَمَّا نَاظَرَتْ الْفَلَاسِفَةَ فِي " مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ " اعْتَقَدُوا أَنَّ مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمُتَعَاقِبَةِ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا لَا يَتَنَاهَى لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَالْتَزَمُوا أَنَّ الرَّبَّ كَانَ فِي الْأَزَلِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ؛ بَلْ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ. وَكَانَ مُعَطَّلًا عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ عَلَى الْفِعْلِ فِيمَا لَا يَزَالُ مَعَ امْتِنَاعِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ فِي الْأَزَلِ فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ حَيْثُ يَصِفُونَهُ بِالْقُدْرَةِ فِي حَالِ امْتِنَاعِ الْمَقْدُورِ لِذَاتِهِ؛ إذْ كَانَ الْفِعْلُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوَّلُ وَالْأَزَلُ لَا أَوَّلَ لَهُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ إثْبَاتِ الْأَوَّلِيَّةِ وَنَفْيِهَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ.

ص: 592

وَلَمْ يَهْتَدُوا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلِيَّةَ وَالْحُدُوثَ وَهُوَ الْفِعْلُ الْمُعَيَّنُ وَالْمَفْعُولُ الْمُعَيَّنُ وَبَيْنَ مَا لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَهُوَ نَوْعُ الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ؛ بَلْ هَذَا يَكُونُ دَائِمًا وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ آحَادِهِ حَادِثًا كَمَا يَكُونُ دَائِمًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ آحَادِهِ فَانِيًا بِخِلَافِ خَالِقٍ يَلْزَمُهُ مَخْلُوقُهُ الْمُعَيَّنُ دَائِمًا فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْبَاطِلُ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وَصَحِيحِ النَّقْلِ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَتْ فِطَرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ لَمْ يُنَازِعْ فِيهِ إلَّا شِرْذِمَةٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْمُمْكِنَ الْمَفْعُولَ قَدْ يَكُونُ قَدِيمًا وَاجِبَ الْوُجُودِ بِغَيْرِهِ فَخَالَفُوا فِي ذَلِكَ جَمَاهِيرَ الْعُقَلَاءِ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لِسَلَفِهِمْ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ وَإِنْ قَالُوا بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ وَأَرِسْطُو أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِقِدَمِهَا مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ بِنَاءً عَلَى إثْبَاتِ عِلَّةٍ غائية لِحَرَكَةِ الْفَلَكِ يَتَحَرَّكُ الْفَلَكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهَا لَمْ يُثْبِتُوا لَهُ فَاعِلًا مُبْدِعًا وَلَمْ يُثْبِتُوا مُمْكِنًا قَدِيمًا وَاجِبًا بِغَيْرِهِ وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَجْهَلَ بِاَللَّهِ وَأَكْفَرَ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ فَهُمْ يُسَلِّمُونَ لِجُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ مَا كَانَ مُمْكِنًا بِذَاتِهِ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ فَاحْتَاجُوا أَنْ يَقُولُوا كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ. وَطَائِفَةٌ وَافَقَتْهُمْ عَلَى امْتِنَاعِ وُجُودِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ؛ لَكِنْ قَالُوا تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ فَقَالُوا إنَّهُ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بَلْ وَلَا كَانَ الْكَلَامُ مَقْدُورًا لَهُ ثُمَّ صَارَ مُتَكَلِّمًا بِلَا حُدُوثِ حَادِثٍ بِكَلَامِ يَقُومُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْهَاشِمِيَّةِ والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ.

ص: 593

وَطَائِفَةٌ قَالَتْ إذَا كَانَ الْقُرْآنُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَلَا يَكُونُ إلَّا قَدِيمَ الْعَيْنِ لَازِمًا لِذَاتِ الرَّبِّ فَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَدِيمٌ فَجَعَلَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَآيَةَ الدَّيْنِ وَسَائِر آيَاتِ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَكُلَّ كَلَامٍ يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ مَعْنًى وَاحِدًا لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُقْتَرِنَةٌ لَازِمَةٌ لِلَذَّاتِ. وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا وَافَقُوا الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ فِي أَصْل قَوْلِهِمْ إنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ وَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَوِ عَلَى عَرْشِهِ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يُنَادِ مُوسَى حِينَ نَادَاهُ وَلَا تُغْضِبُهُ الْمَعَاصِي وَلَا تُرْضِيه الطَّاعَاتُ وَلَا تُفْرِحُهُ تَوْبَةُ التَّائِبِينَ. وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ: إنَّهُ لَا يَرَاهَا إذَا وُجِدَتْ؛ بَلْ إمَّا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ رَائِيًا لَهَا وَإِمَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ شَيْءٌ مَوْجُودٌ بَلْ تَعَلُّقٌ مَعْدُومٌ إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي خَالَفُوا فِيهَا نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَ مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْعَقْلِ. وَاَلَّذِي أَلْجَأَهُمْ لِذَلِكَ مُوَافَقَتُهُمْ للجهمية عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِمْ فِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقْدِرُ فِي الْأَزَلِ عَلَى الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ وَخَالَفُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ فِي قَوْلِهِمْ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ ثُمَّ افْتَرَقُوا أَحْزَابًا أَرْبَعَةً كَمَا تَقَدَّمَ: الخلقية والحدوثية والاتحادية والِاقْتِرَانِيَّةُ.

ص: 594

وَشَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ الصَّابِئَةُ وَالْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ لَا بِكَلَامِ قَائِمٍ بِذَاتِهِ وَلَا بِكَلَامِ يَتَكَلَّمُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ: لَا قَدِيمِ النَّوْعِ وَلَا قَدِيمِ الْعَيْنِ وَلَا حَادِثٍ وَلَا مَخْلُوقٍ؛ بَلْ كَلَامُهُ عِنْدَهُمْ مَا يَفِيضُ عَلَى نُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ. وَيَقُولُونَ إنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى مِنْ سَمَاءِ عَقْلِهِ وَقَدْ يَقُولُونَ: إنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَعْلَمُهَا عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: إنَّهُ يَعْلَمُ نَفْسَهُ وَيَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ. وَقَوْلُهُمْ يَعْلَمُ نَفْسَهُ وَمَفْعُولَاتِهِ حَقٌّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} لَكِنْ قَوْلُهُمْ مَعَ ذَلِكَ: إنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْأَعْيَانَ الْمُعَيَّنَةَ جَهْلٌ وَتَنَاقُضٌ فَإِنَّ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ مُعَيَّنَةٌ وَالْأَفْلَاكُ مُعَيَّنَةٌ وَكُلُّ مَوْجُودٍ مُعَيَّنٌ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُعَيَّنَاتِ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ إذْ الْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا تَكُونُ كُلِّيَّاتٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا الْكُلِّيَّاتِ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ. تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَهُمْ إنَّمَا أَلْجَأَهُمْ إلَى هَذَا الْإِلْحَادِ فِرَارُهُمْ مِنْ تَجَدُّدِ الْأَحْوَالِ لِلْبَارِي تَعَالَى مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ الْحَوَادِثَ تَقُومُ بِالْقَدِيمِ وَإِنَّ الْحَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا؛ لَكِنْ نَفَوْا ذَلِكَ عَنْ الْبَارِي لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ لَا صِفَةَ لَهُ؛ بَلْ هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ وَقَالُوا: إنَّ الْعِلْمَ نَفْسُ عَيْنِ الْعَالِمِ وَالْقُدْرَةَ نَفْسُ عَيْنِ الْقَادِرِ وَالْعِلْمَ وَالْعَالِمَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَالْمُرِيدَ وَالْإِرَادَةَ

ص: 595

شَيْءٌ وَاحِدٌ فَجَعَلُوا هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ الْأُخْرَى وَجَعَلُوا الصِّفَاتِ هِيَ الْمَوْصُوفَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ الْعِلْمُ كُلُّ الْمَعْلُومِ كَمَا يَقُولُهُ الطوسي صَاحِبُ " شَرْحِ الْإِشَارَاتِ " فَإِنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى ابْنِ سِينَا إثْبَاتَهُ لِعِلْمِهِ بِنَفْسِهِ وَمَا يَصْدُرُ عَنْ نَفْسِهِ وَابْنُ سِينَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ لَكِنَّهُ تَنَاقَضَ مَعَ ذَلِكَ حَيْثُ نَفَى قِيَامَ الصِّفَاتِ بِهِ وَجَعَلَ الصِّفَةَ عَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَكُلَّ صِفَةٍ هِيَ الْأُخْرَى. وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ هُمْ أَوْغَلَ فِي الِاتِّحَادِ وَالْإِلْحَادِ مِمَّنْ يَقُولُ مَعَانِي الْكَلَامِ شَيْءٌ وَاحِدٌ؛ لَكِنَّهُمْ أَلْزَمُوا قَوْلَهُمْ لِأُولَئِكَ فَقَالُوا: إذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ الْمَعَانِي الْمُتَعَدِّدَةُ شَيْئًا وَاحِدًا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ هُوَ الْقُدْرَةَ وَالْقُدْرَةُ هِيَ الْإِرَادَةَ. فَاعْتَرَفَ حُذَّاقُ أُولَئِكَ بِأَنَّ هَذَا الْإِلْزَامَ لَا جَوَابَ عَنْهُ. ثُمَّ قَالُوا: وَإِذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْأُخْرَى جَازَ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفَ فَجَاءَ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَابْنُ سَبْعِينَ والقونوي وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ فَقَالُوا: إذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْأُخْرَى وَالصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفَ جَاز أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ الْخَالِقُ هُوَ الْمَوْجُودَ الْمُمْكِنَ الْمُحْدَثَ الْمَخْلُوقَ فَقَالُوا: إنَّ وُجُودَ كُلِّ مَخْلُوقٍ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ وَقَالُوا: الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ وَالْوَاحِدِ

ص: 596

بِالْعَيْنِ كَمَا لَمْ يُفَرِّقْ أُولَئِكَ بَيْنَ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَالْكَلَامِ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ. وَكَانَ مُنْتَهَى أَمْرِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ فِي الْكَلَامِ إلَى هَذَا التَّعْطِيلِ وَالْكُفْرِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِي قَالَهُ أَهْلُ الْوَحْدَةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِي الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقَاتِ كَمَا أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ نَوْعِ الْكَلَامِ وَعَيْنِهِ وَقَالُوا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ قَدِيمٍ قَالُوا أَوَّلًا: إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا تَسْبِقُ الْبَاءُ السِّينَ؛ بَلْ لَمَّا نَادَى مُوسَى فَقَالَ {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} {إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} كَانَتْ الْهَمْزَةُ وَالنُّونُ وَمَا بَيْنَهُمَا مَوْجُودَاتٍ فِي الْأَزَلِ يُقَارِنُ بَعْضُهَا بَعْضًا لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ لَازِمَةً لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ: إنَّ ذَلِكَ الْقَدِيمَ هُوَ نَفْسُ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مِنْ الْقُرَّاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ الْمَسْمُوعُ صَوْتَانِ قَدِيمٌ وَمُحْدَثٌ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَشْكَالُ الْمِدَادِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَحَلُّ الْمِدَادِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: الْمِدَادُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ وَأَكْثَرُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلَفْظِ الْقَدِيمِ وَلَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهُ؛ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدِيمٌ فِي عِلْمِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى غَيْرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَى اللَّفْظِ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا يَقُولُ فَصَارَ هَؤُلَاءِ حُلُولِيَّةً اتِّحَادِيَّةً فِي الصِّفَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِي

ص: 597

الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَكَانَ مُنْتَهَى أَمْرِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ إلَى التَّعْطِيلِ. وَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّ كَلِمَاتِهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَأَنَّهُ نَادَى مُوسَى بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى وَإِنَّمَا نَادَاهُ حِينَ أَتَى؛ لَمْ يُنَادِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّ صَوْتَ الرَّبِّ لَا يُمَاثِلُ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ كَمَا أَنَّ عِلْمَهُ لَا يُمَاثِلُ عِلْمَهُمْ وَقُدْرَتَهُ لَا تُمَاثِلُ قُدْرَتَهُمْ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَائِنٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَإِنَّ أَقْوَالَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِينَ عَطَّلُوا الذَّاتَ أَوْ الصِّفَاتِ أَوْ الْكَلَامَ أَوْ الْأَفْعَالَ بَاطِلَةٌ وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْحُلُولِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْحُلُولِ فِي الذَّاتِ أَوْ الصِّفَاتِ بَاطِلَةٌ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ بَسَطْنَاهَا فِي الْوَاجِبِ الْكَبِيرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 598

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ الْمُصْحَفِ الْعَتِيقِ إذَا تَمَزَّقَ مَا يُصْنَعُ بِهِ؟ وَمَنْ كَتَبَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ مَحَاهُ بِمَاءِ أَوْ حَرَقَهُ فَهَلْ لَهُ حُرْمَةٌ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا الْمُصْحَفُ الْعَتِيقُ وَاَلَّذِي تَخَرَّقَ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِ فَإِنَّهُ يُدْفَنُ فِي مَكَانٍ يُصَانُ فِيهِ كَمَا أَنَّ كَرَامَةَ بَدَنِ الْمُؤْمِنِ دَفْنُهُ فِي مَوْضِعٍ يُصَانُ فِيهِ وَإِذَا كُتِبَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ الذِّكْرِ فِي إنَاءٍ أَوْ لَوْحٍ وَمُحِيَ بِالْمَاءِ وَغَيْرِهِ وَشُرِبَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَنَقَلُوا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ كَلِمَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَيَأْمُرُ بِأَنْ تُسْقَى لِمَنْ بِهِ دَاءٌ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ لِذَلِكَ بَرَكَةً. وَالْمَاءُ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ أَيْضًا مَاءٌ مُبَارَكٌ؛ صُبَّ مِنْهُ عَلَى جَابِرٍ وَهُوَ مَرِيضٌ. وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَتَبَرَّكُونَ بِهِ وَمَعَ هَذَا فَكَانَ يَتَوَضَّأُ عَلَى التُّرَابِ وَغَيْرِهِ فَمَا بَلَغَنِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَاءِ يُنْهَى عَنْ صَبِّهِ فِي التُّرَابِ وَنَحْوِهِ وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ نَهْيًا فَإِنَّ أَثَرَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْمَحْوِ كِتَابَةً وَلَا يَحْرُمْ عَلَى الْجُنُبِ مَسُّهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ

ص: 599

لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَتِهِ مَا دَامَ الْقُرْآنُ وَالذِّكْرُ مَكْتُوبَانِ كَمَا أَنَّهُ لَوْ صِيغَ فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ أَوْ نُحَاسٌ عَلَى صُورَةِ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ أَوْ نُقِشَ حَجَرٌ عَلَى ذَلِكَ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ ثُمَّ غُيِّرَتْ تِلْكَ الصِّيَاغَةُ وَتَغَيَّرَ الْحَجَرُ لَمْ يَجِبْ لِتِلْكَ الْمَادَّةِ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا كَانَ لَهَا حِينَ الْكِتَابَةِ. وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ فِي مَاءِ زَمْزَمَ: لَا أُحِلُّهُ لِمُغْتَسِلِ وَلَكِنْ لِشَارِبِ حِلٌّ وبل. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لِشَارِبِ وَمُتَوَضِّئٍ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُكْرَهُ الْغُسْلُ وَالْوُضُوءُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَذَكَرُوا فِيهِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَالشَّافِعِيِّ احْتَجَّ بِحَدِيثِ الْعَبَّاسِ وَالْمُرَخِّصُ احْتَجَّ بِحَدِيثِ فِيهِ أَنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ} وَالصَّحَابَةُ تَوَضَّئُوا مِنْ الْمَاءِ الَّذِي نَبَعَ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ مَعَ بَرَكَتِهِ؛ لَكِنْ هَذَا وَقْتُ حَاجَةٍ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ النَّهْيَ مِنْ الْعَبَّاسِ إنَّمَا جَاءَ عَنْ الْغُسْلِ فَقَطْ لَا عَنْ الْوُضُوءِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ هُوَ لِهَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ الْغُسْلَ يُشْبِهُ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يُغْسَلَ فِي الْجَنَابَةِ مَا يَجِبُ أَنْ يُغْسَلَ مِنْ النَّجَاسَةِ؛ وَحِينَئِذٍ فَصَوْنُ هَذِهِ الْمِيَاهِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ النَّجَاسَاتِ مُتَوَجِّهٌ بِخِلَافِ صَوْنِهَا مِنْ التُّرَابِ وَنَحْوِهِ مِنْ الطَّاهِرَاتِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

آخِرُ الْمُجَلَّدِ الثَّانِي عَشَرَ

ص: 600