المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الْجُزْءُ الْرَّابِعِ عَشَرَ كِتَابُ الْتَفْسِيرِ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ إِلَى سُورَةِ الْأَعْرَافِ بسم - مجموع الفتاوى - جـ ١٤

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

الْجُزْءُ الْرَّابِعِ عَشَرَ

كِتَابُ الْتَفْسِيرِ

الْجُزْءُ الْأَوَّلُ

مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ إِلَى سُورَةِ الْأَعْرَافِ

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ -:

فَصْلٌ:

أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ

الْقُرْآنُ الْفُرْقَانُ الْكِتَابُ الْهُدَى النُّورُ الشِّفَاءُ الْبَيَانُ الْمَوْعِظَةُ الرَّحْمَةُ بَصَائِرُ الْبَلَاغُ الْكَرِيمُ الْمَجِيدُ الْعَزِيزُ الْمُبَارَكُ التَّنْزِيلُ الْمُنَزَّلُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ حَبْلُ اللَّهِ الذِّكْرُ الذِّكْرَى تَذْكِرَةٌ {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} {إنَّهُ تَذْكِرَةٌ} {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} و {تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} الْمُتَشَابِهُ الْمَثَانِي الْحَكِيمُ {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ

ص: 1

الْحَكِيمِ} مُحْكَمٌ الْمُفَصَّلُ {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} الْبُرْهَانُ {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ الْحَقُّ {قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} عَرَبِيٌّ مُبِينٌ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أَحْسَنَ الْقَصَصِ عَلَى قَوْلٍ كَلَامُ اللَّهِ {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} الْعِلْمُ {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} الْعَلِيُّ الْحَكِيمُ {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} الْقَيِّمُ {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} {قِيَمًا} وَحَيٌّ فِي قَوْلِهِ: {إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى} حِكْمَةٌ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} وَحُكْمًا فِي قَوْلِهِ: {أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} وَنَبَأٌ عَلَى قَوْلٍ فِي قَوْلِهِ: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} وَنَذِيرٌ عَلَى قَوْلٍ {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى شَافِعًا مُشَفَّعًا وَشَاهِدًا مُصَدِّقًا وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " حُجَّةٌ لَك أَوْ عَلَيْك " وَفِي حَدِيثِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ {عِصْمَةٌ لِمَنْ اسْتَمْسَكَ بِهِ} . وَأَمَّا وَصْفُهُ بِأَنَّهُ يَقُصُّ وَيَنْطِقُ وَيَحْكُمُ وَيُفْتِي وَيُبَشِّرُ وَيَهْدِي فَقَالَ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ} {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ} {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} أَيْ يُفْتِيكُمْ أَيْضًا {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ} .

ص: 2

فَصْلٌ:

فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ. {قَوْلُهُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فَإِنَّهُ فِي التَّفْسِيرِ الْمَرْفُوعِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كِتَابَ اللَّهِ}. . . (1).

(1)

بياض بالأصل

ص: 3

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ أَحَادِيثَ هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ وَهَلْ رَوَاهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُعْتَبَرِينَ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ؟ إلَخْ فَقَالَ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا حَدِيثُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ {النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ} .

ص: 4

وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ وَلَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إلَّا الْيَوْمَ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إلَى الْأَرْضِ وَلَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إلَّا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ بنورين أُوتِيتهمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَك: فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفِ مِنْهَا إلَّا أُعْطِيته} وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: {إنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أُعْطِيَهَا مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ.}

فَصْلٌ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ وَهِيَ الشَّافِيَةُ وَهِيَ الْوَاجِبَةُ فِي الصَّلَوَاتِ لَا صَلَاةَ إلَّا بِهَا وَهِيَ الْكَافِيَةُ تَكْفِي مِنْ غَيْرِهَا وَلَا يَكْفِي غَيْرُهَا عَنْهَا. وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَهِيَ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ كَلِمٍ طَيِّبٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ؛ أَفْضَلُ كَلِمِهَا الطَّيِّبِ وَأَوْجَبُهُ الْقُرْآنُ وَأَفْضَلُ عَمَلِهَا الصَّالِحِ وَأَوْجَبُهُ السُّجُودُ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي أَوَّلِ سُورَةٍ أَنْزَلَهَا عَلَى رَسُولِهِ حَيْثُ افْتَتَحَهَا

ص: 5

بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} فَوُضِعَتْ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلُهَا الْقِرَاءَةُ وَآخِرُهَا السُّجُودُ. وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} وَالْمُرَادُ بِالسُّجُودِ الرَّكْعَةُ الَّتِي يَفْعَلُونَهَا وَحْدَهُمْ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِمْ لِلْإِمَامِ وَمَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ مِنْ تَكْبِيرٍ وَاسْتِفْتَاحٍ وَاسْتِعَاذَةٍ هِيَ تَحْرِيمٌ لِلصَّلَاةِ وَمُقَدِّمَةٌ لِمَا بَعْدَهُ أَوَّلُ مَا يَبْتَدِئُ بِهِ كالتقدمة وَمَا يُفْعَلُ بَعْدَ السُّجُودِ مِنْ قُعُودٍ وَتَشَهُّدٍ فِيهِ التَّحِيَّةُ لِلَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَالدُّعَاءُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْحَاضِرِينَ فَهُوَ تَحْلِيلٌ لِلصَّلَاةِ ومعقبة لِمَا قَبْلَهُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ.} وَلِهَذَا لَمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ‌

‌ أَيُّمَا أَفْضَلُ كَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْ طُولُ الْقِيَامِ

أَوْ هُمَا سَوَاءٌ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ الْقِيَامُ فِيهِ أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ وَالسُّجُودُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فَاعْتَدَلَا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعْتَدِلَةً يَجْعَلُ الْأَرْكَانَ قَرِيبًا مِنْ السِّوَاءِ وَإِذَا أَطَالَ الْقِيَامَ طُولًا كَثِيرًا - كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ - أَطَالَ مَعَهُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَإِذَا اقْتَصَدَ فِيهِ اقْتَصَدَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَأُمُّ الْكِتَابِ كَمَا أَنَّهَا الْقِرَاءَةُ الْوَاجِبَةُ فَهِيَ أَفْضَلُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 6

فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا الْإِنْجِيلِ وَلَا الزَّبُورِ وَلَا الْقُرْآنِ مِثْلُهَا وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيته} وَفَضَائِلُهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَدْ جَاءَ مَأْثُورًا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ جَمَعَ عِلْمَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْأَرْبَعَةِ فِي الْقُرْآنِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْمُفَصَّلِ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَجَمَعَ عِلْمَ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَإِنَّ عِلْمَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ اجْتَمَعَ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ: {إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ: نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ اللَّهُ عز وجل: مَجَّدَنِي عَبْدِي وَفِي رِوَايَةٍ: فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ}

ص: 7

فَقَدْ ثَبَتَ بِهَذَا النَّصِّ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُنْقَسِمَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عَبْدِهِ وَأَنَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ مُقْتَسَمُ السُّورَةِ ف {إيَّاكَ نَعْبُدُ} مَعَ مَا قَبْلَهُ لِلَّهِ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَعَ مَا بَعْدَهُ لِلْعَبْدِ وَلَهُ مَا سَأَلَ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: نِصْفُهَا ثَنَاءٌ وَنِصْفُهَا مَسْأَلَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ دُعَاءٌ. وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ فَرَضَ عَلَيْنَا أَنْ نُنَاجِيَهُ وَنَدْعُوَهُ بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَأَنْ نَسْتَعِينَهُ؛ إذْ إيجَابُ الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ إقْرَارٌ وَاعْتِرَافٌ وَدُعَاءٌ وَسُؤَالٌ هُوَ إيجَابٌ لِمَعْنَاهُ لَيْسَ إيجَابًا لِمُجَرَّدِ لَفْظٍ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ؛ بَلْ إيجَابُ ذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ إيجَابِ مُجَرَّدِ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ أَصْلُهُ بِمُجَرَّدِ الْقَلْبِ أَوْ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ بَلْ أَوْجَبَ دُعَاءَ اللَّهِ عز وجل وَمُنَاجَاتَهُ وَتَكْلِيمَهُ وَمُخَاطَبَتَهُ بِذَلِكَ لِيَكُونَ الْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ كَامِلًا صُورَةً وَمَعْنًى بِالْقَلْبِ وَبِسَائِرِ الْجَسَدِ. وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْجَامِعَيْنِ إيجَابًا وَغَيْرَ إيجَابٍ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ هُودٍ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ شُعَيْبٍ: {وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وَقَوْلِ إبْرَاهِيمَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ إذْ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَهُمْ

ص: 8

يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} . فَأَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَنْ يَقُولَ: عَلَى الرَّحْمَنِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ مَتَابِ كَمَا أَمَرَهُ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَالْأَمْرُ لَهُ أَمْرٌ لِأُمَّتِهِ وَأَمْرُهُ بِذَلِكَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَفِي غَيْرِهَا لِأُمَّتِهِ لِيَكُونَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ طَاعَةً لِلَّهِ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَلَا يَتَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَا يَفْعَلُهُ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم وَالْخَالِصُونَ مَنْ أُمَّتِهِ مِنْ الْأَدْعِيَةِ وَالْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا إنَّمَا هُوَ بِأَمْرِ مِنْ اللَّهِ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَفْعَلُ مَا لَمْ يُؤْمَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا أَوْ عَفْوًا وَهَذَا أَحَدُ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِفَضْلِهِ وَفَضْلِ أُمَّتِهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَفَضْلِ الْخَالِصِينَ مَنْ أُمَّتِهِ عَلَى الْمُشَوِّبِينَ الَّذِينَ شَابُوا مَا جَاءَ بِهِ بِغَيْرِهِ كَالْمُنْحَرِفِينَ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَإِلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْصِدُ فِي عِبَادَاتِهِ وَأَذْكَارِهِ وَمُنَاجَاتِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ: {اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَلَك} فَإِنَّ قَوْلَهُ: " مِنْك " هُوَ مَعْنَى التَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَقَوْلَهُ: " لَك " هُوَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي قِيَامِهِ مِنْ اللَّيْلِ: {لَك أَسْلَمْت وَبِك آمَنْت وَعَلَيْك تَوَكَّلْت وَإِلَيْك أَنَبْت وَبِك خَاصَمْت وَإِلَيْك حَاكَمْت أَعُوذُ بِعِزَّتِك لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا تَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ} إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ.

ص: 9

إذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ فَالْإِنْسَانُ فِي هَذَيْنِ الْوَاجِبَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحْوَالٍ أَرْبَعَةٍ هِيَ الْقِسْمَةُ الْمُمْكِنَةُ إمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهِمَا وَإِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالْعِبَادَةِ فَقَطْ وَإِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالِاسْتِعَانَةِ فَقَطْ وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُمَا جَمِيعًا. وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ؛ بَلْ أَهْلُ الدِّيَانَاتِ هُمْ أَهْلُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَهُمْ الْمَقْصُودُونَ هُنَا بِالْكَلَامِ. قِسْمٌ يَغْلِبُ عَلَيْهِ قَصْدُ التَّأَلُّهِ لِلَّهِ وَمُتَابَعَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى وَاتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ فِي الْخُضُوعِ لِأَوَامِرِهِ وَزَوَاجِرِهِ وَكَلِمَاتِهِ الْكَوْنِيَّاتِ؛ لَكِنْ يَكُونُ مَنْقُوصًا مِنْ جَانِبِ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ فَيَكُونُ إمَّا عَاجِزًا وَإِمَّا مُفَرِّطًا وَهُوَ مَغْلُوبٌ إمَّا مَعَ عَدُوِّهِ الْبَاطِنِ وَإِمَّا مَعَ عَدُوِّهِ الظَّاهِرِ وَرُبَّمَا يَكْثُرُ مِنْهُ الْجَزَعُ مِمَّا يُصِيبُهُ وَالْحُزْنُ لِمَا يَفُوتُهُ وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَعْرِفُ شَرِيعَةَ اللَّهِ وَأَمْرَهُ وَيَرَى أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلشَّرِيعَةِ وَلِلْعِبَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا يَعْرِفُ قَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ وَهُوَ حَسَنُ الْقَصْدِ طَالِبٌ لِلْحَقِّ لَكِنَّهُ غَيْرُ عَارِفٍ بِالسَّبِيلِ الْمُوَصِّلَةِ وَالطَّرِيقِ الْمُفْضِيَةِ. وَقِسْمٌ يَغْلِبُ عَلَيْهِ قَصْدُ الِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَإِظْهَارِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْخُضُوعِ لِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَكَلِمَاتِهِ الْكَوْنِيَّاتِ؛ لَكِنْ يَكُونُ مَنْقُوصًا مِنْ جَانِبِ الْعِبَادَةِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ فَلَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ

ص: 10

أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَةِ اللَّهِ عز وجل وَمِنْهَاجِهِ؛ بَلْ قَصْدُهُ نَوْعُ سُلْطَانٍ فِي الْعَالَمِ إمَّا سُلْطَانُ قُدْرَةٍ وَتَأْثِيرٍ وَإِمَّا سُلْطَانُ كَشْفٍ وَإِخْبَارٍ أَوْ قَصْدُهُ طَلَبُ مَا يُرِيدُهُ وَدَفْعُ مَا يَكْرَهُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ أَوْ مَقْصُودُهُ نَوْعُ عِبَادَةٍ وَتَأَلُّهٍ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ هِمَّتُهُ فِي الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ الْمُعِينَةُ لَهُ عَلَى مَقْصُودِهِ فَيَكُونُ إمَّا جَاهِلًا وَإِمَّا ظَالِمًا تَارِكًا لِبَعْضِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ رَاكِبًا لِبَعْضِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَتَأَلَّهُ وَيَتَصَوَّفُ وَيَتَفَقَّرُ وَيَشْهَدُ قَدَرَ اللَّهِ وَقَضَاءَهُ وَلَا يَشْهَدُ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ وَيَشْهَدُ قِيَامَ الْأَكْوَانِ بِاَللَّهِ وَفَقْرَهَا إلَيْهِ وَإِقَامَتَهُ لَهَا وَلَا يَشْهَدُ مَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ وَمَا الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْهُ وَيَرْضَاهُ وَمَا الَّذِي يَكْرَهُهُ مِنْهُ وَيَسْخَطُهُ. وَلِهَذَا يَكْثُرُ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ لَهُ كَشْفٌ وَتَأْثِيرٌ وَخَرْقُ عَادَةٍ مَعَ انْحِلَالٍ عَنْ بَعْضِ الشَّرِيعَةِ وَمُخَالَفَةٍ لِبَعْضِ الْأَمْرِ وَإِذَا أَوْغَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ دَخَلَ فِي الْإِبَاحِيَّةِ وَالِانْحِلَالِ وَرُبَّمَا صَعِدَ إلَى فَسَادِ التَّوْحِيدِ فَيَخْرُجُ إلَى الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ الْمُقَيَّدِ كَمَا قَدْ وَقَعَ لِكَثِيرِ مِنْ الشُّيُوخِ وَيُوجَدُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " وَغَيْرِهِ مَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ. وَقَدْ يَدْخُلُ بَعْضُهُمْ فِي " الِاتِّحَادِ الْمُطْلَقِ وَالْقَوْلِ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ " فَيَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ " الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ " فِي أَوَّلِهَا:

ص: 11

الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ

يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ المكلف

إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ ميت

أَوْ قُلْت رَبٌّ أَنَّى يُكَلَّفْ

وَقِسْمٌ ثَالِثٌ مُعْرِضُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَعَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ جَمِيعًا. وَهُمْ فَرِيقَانِ: أَهْلُ دُنْيَا وَأَهْلُ دِينٍ فَأَهْلُ الدِّينِ مِنْهُمْ هُمْ أَهْلُ الدِّينِ الْفَاسِدِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَسْتَعِينُونَ غَيْرَ اللَّهِ بِظَنِّهِمْ وَهَوَاهُمْ {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وَأَهْلُ الدُّنْيَا مِنْهُمْ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مَا يَشْتَهُونَهُ مِنْ الْعَاجِلَةِ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَنْ قَدْ يُعْرِضُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَبَيْنَ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ وَيَسْتَعِينُ بِسِوَاهُ.

‌فَصْلٌ:

قَالَ اللَّهُ عز وجل فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

فَبَدَأَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ: اللَّهِ وَالرَّبِّ. و " اللَّهُ " هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ فَهَذَا الِاسْمُ أَحَقُّ بِالْعِبَادَةِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. الْحَمْدُ لِلَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ

ص: 12

لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ و " الرَّبُّ " هُوَ الْمُرَبِّي الْخَالِقُ الرَّازِقُ النَّاصِرُ الْهَادِي وَهَذَا الِاسْمُ أَحَقُّ بِاسْمِ الِاسْتِعَانَةِ وَالْمَسْأَلَةِ. وَلِهَذَا يُقَالُ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} . فَعَامَّةُ الْمَسْأَلَةِ وَالِاسْتِعَانَةُ الْمَشْرُوعَةُ بِاسْمِ الرَّبِّ. فَالِاسْمُ الْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ غَايَةَ الْعَبْدِ وَمَصِيرَهُ وَمُنْتَهَاهُ وَمَا خُلِقَ لَهُ وَمَا فِيهِ صَلَاحُهُ وَكَمَالُهُ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَالِاسْمُ الثَّانِي يَتَضَمَّنُ خَلْقَ الْعَبْدِ وَمُبْتَدَاهُ وَهُوَ أَنَّهُ يُرَبِّهِ وَيَتَوَلَّاهُ مَعَ أَنَّ الثَّانِيَ يَدْخُلُ فِي الْأَوَّلِ دُخُولَ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْأُلُوهِيَّةَ أَيْضًا. وَالِاسْمُ " الرَّحْمَنِ " يَتَضَمَّنُ كَمَالَ التَّعْلِيقَيْنِ وَبِوَصْفِ الْحَالَيْنِ فِيهِ تَتِمُّ سَعَادَتُهُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} فَذَكَرَ هُنَا الْأَسْمَاءَ الثَّلَاثَةَ: (الرَّحْمَنَ و (رَبِّي و (الْإِلَهَ وَقَالَ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} كَمَا ذَكَرَ الْأَسْمَاءَ الثَّلَاثَةَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ؛ لَكِنْ بَدَأَ هُنَاكَ بِاسْمِ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا بَدَأَ فِي السُّورَةِ بـ (إيَّاكَ نَعْبُدُ فَقَدَّمَ الِاسْمَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ

ص: 13

تِلْكَ السُّورَةَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَأُمُّ الْقُرْآنِ فَقَدَّمَ فِيهَا الْمَقْصُودَ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ الغائية فَإِنَّهَا عِلَّةٌ فَاعِلِيَّةٌ لِلْعِلَّةِ الغائية. وَقَدْ بَسَطْت هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ؛ فِي أَوَّلِ " التَّفْسِيرِ " وَفِي " قَاعِدَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ " وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ.

فَصْلٌ:

وَلَمَّا كَانَ عِلْمُ النُّفُوسِ بِحَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ إلَى الرَّبِّ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِحَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ إلَى الْإِلَهِ الْمَعْبُودِ وَقَصْدِهِمْ لِدَفْعِ حَاجَاتِهِمْ الْعَاجِلَةِ قَبْلَ الْآجِلَةِ كَانَ إقْرَارُهُمْ بِاَللَّهِ مِنْ جِهَةِ رُبُوبِيَّتِهِ أَسْبَقَ مِنْ إقْرَارِهِمْ بِهِ مِنْ جِهَةِ أُلُوهِيَّتِهِ وَكَانَ الدُّعَاءُ لَهُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ فِيهِمْ أَكْثَرَ مِنْ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ. وَلِهَذَا إنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ يَدْعُونَهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْإِقْرَارِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وَأَنَّهُمْ إذَا مَسَّهُمْ الضُّرُّ ضَلَّ مَنْ يَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ وَقَالَ: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَأَنَّهُمْ مُخْلِصُونَ لَهُ الدِّينَ إذَا مَسَّهُمْ

ص: 14

الضُّرُّ فِي دُعَائِهِمْ وَاسْتِعَانَتِهِمْ ثُمَّ يُعْرِضُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ فِي حَالِ حُصُولِ أَغْرَاضِهِمْ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّمَا يُقَرِّرُونَ الْوَحْدَانِيَّةَ مِنْ جِهَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَمَّا الرُّسُلُ فَهُمْ دَعَوْا إلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُتَعَبِّدَةِ وَأَرْبَابِ الْأَحْوَالِ إنَّمَا تَوَجُّهُهُمْ إلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ رُبُوبِيَّتِهِ؛ لِمَا يَمُدُّهُمْ بِهِ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الْأَحْوَالِ الَّتِي بِهَا يَتَصَرَّفُونَ وَهَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْمُلُوكِ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ عز وجل فِي الْقُرْآنِ هَذَا الصِّنْفَ كَثِيرًا فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ تَنْكَشِفُ بِهِ أَحْوَالُ قَوْمٍ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْحَقَائِقِ وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهَا وَهُمْ لَعَمْرِي فِي نَوْعٍ مِنْ الْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ لَا فِي الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَقَدْ تَكَلَّمْت عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:

وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ بَلْ وَجَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ عِبَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى فُقَرَاءُ إلَيْهِ مَمَالِيكُ لَهُ وَهُوَ رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ وَإِلَهُهُمْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَالْمَخْلُوقُ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ أَصْلًا؛ بَلْ نَفْسُهُ وَصِفَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ وَمَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَوْ يَسْتَحِقُّهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَاَللَّهُ عز وجل رَبُّ

ص: 15

ذَلِكَ كُلِّهِ وَمَلِيكُهُ وَبَارِئُهُ وَخَالِقُهُ وَمُصَوِّرُهُ. وَإِذَا قُلْنَا لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ إلَّا الْعَدَمُ فَالْعَدَمُ لَيْسَ هُوَ شَيْئًا يَفْتَقِرُ إلَى فَاعِلٍ مَوْجُودٍ؛ بَلْ الْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءِ وَبَقَاؤُهُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ فِعْلِ الْفَاعِلِ لَا أَنَّ عَدَمَ الْفَاعِلِ يُوجِبُهُ وَيَقْتَضِيهِ كَمَا يُوجِبُ الْفَاعِلُ الْمَفْعُولَ الْمَوْجُودَ؛ بَلْ قَدْ يُضَافُ عَدَمُ الْمَعْلُولِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمَوْجُودَ إنَّمَا خَلَقَهُ وَأَبْدَعَهُ الْفَاعِلُ وَلَيْسَ الْمَعْدُومُ أَبْدَعَهُ عَدَمُ الْفَاعِلِ فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى التَّسَلْسُلِ وَالدَّوْرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ اقْتِضَاءُ أَحَدِ العدمين لِلْآخَرِ بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدُ العدمين مُمَيِّزًا لِحَقِيقَةِ اسْتَوْجَبَ بِهَا أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ أَنَّ عَدَمَ الْمُقْتَضِي أَوْلَى بِعَدَمِ الْأَثَرِ مِنْ الْعَكْسِ فَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وُجُودُ الْمُقْتَضِي هُوَ الْمُفِيدُ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي صَارَ الْعَقْلُ يُضِيفُ عَدَمَهُ إلَى عَدَمِهِ إضَافَةً لُزُومِيَّةً؛ لِأَنَّ عَدَمَ الشَّيْءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي أَوْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ. وَبَعْدَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ إلَّا لِأَجْلِ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ أَوْ الْحَالَتَيْنِ؛ فَلَمَّا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُودِهِ يَعُوقُهُ وَيَمْنَعُهُ الْمَانِعُ الْمُنَافِي وَهُوَ أَمْرٌ مَوْجُودٌ وَتَارَةً لَا يَكُونُ سَبَبُهُ قَدْ انْعَقَدَ صَارَ عَدَمُهُ تَارَةً يُنْسَبُ إلَى عَدَمِ مُقْتَضِيهِ وَتَارَةً إلَى وُجُودِ مَانِعِهِ وَمُنَافِيهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ إذْ

ص: 16

مَشِيئَتُهُ هِيَ الْمُوجِبَةُ وَحْدَهَا لَا غَيْرُهَا فَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهَا انْتِفَاؤُهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ حَتَّى تَكُونَ مَشِيئَتُهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ بِدُونِهَا بِحَالِ فَلَيْسَ لَنَا سَبَبٌ يَقْتَضِي وُجُودَ شَيْءٍ حَتَّى تَكُونَ مَشِيئَتُهُ مَانِعَةً مِنْ وُجُودِهِ بَلْ مَشِيئَتُهُ هِيَ السَّبَبُ الْكَامِلُ فَمَعَ وُجُودِهَا لَا مَانِعَ وَمَعَ عَدَمِهَا لَا مُقْتَضًى {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} . وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ خَيْرٌ أَصْلًا؛ بَلْ مَا بِنَا مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَإِذَا مَسَّنَا الضُّرُّ فَإِلَيْهِ نَجْأَرُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ كَمَا قَالَ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَقَالَ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: {اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ} وَقَالَ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ:

ص: 17

{لَبَّيْكَ وسعديك وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك تَبَارَكْت رَبَّنَا وَتَعَالَيْت} . وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا فَالْمَعْدُومُ سَوَاءٌ كَانَ عَدَمَ ذَاتٍ أَوْ عَدَمَ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهَا أَوْ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهَا مِثْلَ عَدَمِ الْحَيَاةِ أَوْ الْعِلْمِ أَوْ السَّمْعِ أَوْ الْبَصَرِ أَوْ الْكَلَامِ أَوْ الْعَقْلِ أَوْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى تَنَوُّعِ أَصْنَافِهِ مِثْلُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَرَجَائِهِ وَخَشْيَتِهِ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَحْمُودَةِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا خَيْرَاتٌ وَحَسَنَاتٌ وَعَدَمَهَا شَرٌّ وَسَيِّئَاتٌ؛ لَكِنَّ هَذَا الْعَدَمَ لَيْسَ بِشَيْءِ أَصْلًا حَتَّى يَكُونَ لَهُ بَارِئٌ وَفَاعِلٌ فَيُضَافُ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمَ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ وَبَعْدَ أَنْ خُلِقَتْ؛ فَإِنَّهَا قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ عَدَمٌ مُسْتَلْزِمٌ لِهَذَا الْعَدَمِ وَبَعْدَ أَنْ خُلِقَتْ - وَقَدْ خُلِقَتْ ضَعِيفَةً نَاقِصَةً - فِيهَا النَّقْصُ وَالضَّعْفُ وَالْعَجْزُ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ عَدَمِيَّةٌ فَأُضِيفَ إلَى النَّفْسِ مِنْ بَابِ إضَافَةِ عَدَمِ الْمَعْلُولِ إلَى عَدَمِ عِلَّتِهِ وَعَدَمِ مُقْتَضِيهِ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ بَابِ إضَافَتِهِ إلَى وُجُودِ مُنَافِيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. و " نُكْتَةُ الْأَمْرِ " أَنَّ هَذَا الشَّرَّ وَالسَّيِّئَاتِ الْعَدَمِيَّةَ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ خَالِقَهَا فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.

ص: 18

وَالْمَعْدُومَاتُ تُنْسَبُ تَارَةً إلَى عَدَمِ فَاعِلِهَا وَتَارَةً إلَى وُجُودِ مَانِعِهَا فَلَا تُنْسَبُ إلَيْهِ هَذِهِ الشُّرُورُ الْعَدَمِيَّةُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ:

أَمَّا " الْأَوَّلُ " فَلِأَنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ فَلَا يُقَالُ عُدِمَتْ لِعَدَمِ فَاعِلهَا وَمُقْتَضِيهَا. وَأَمَّا " الثَّانِي " - وَهُوَ وُجُودُ الْمَانِعِ - فَلِأَنَّ الْمَانِعَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ إذَا وُجِدَ الْمُقْتَضِي وَلَوْ شَاءَ فِعْلَهَا لَمَا مَنَعَهُ مَانِعٌ وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - لَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ مَا شَاءَ فِعْلَهُ؛ بَلْ هُوَ فَعَّالٌ لِمَا يَشَاءُ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَدْ يَخْلُقُ هَذَا سَبَبًا وَمُقْتَضِيًا وَمَانِعًا فَإِنْ جَعَلَ السَّبَبَ تَامًّا لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ تَامًّا مَنَعَهُ الْمَانِعُ لِضِعْفِ السَّبَبِ وَعَدَمِ إعَانَةِ اللَّهِ لَهُ فَلَا يُعْدَمُ أَمْرٌ إلَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَشَأْهُ كَمَا لَا يُوجَدُ أَمْرٌ إلَّا لِأَنَّهُ يَشَاؤُهُ وَإِنَّمَا تُضَافُ هَذِهِ السَّيِّئَاتُ الْعَدَمِيَّةُ إلَى الْعَبْدِ لِعَدَمِ السَّبَبُ مِنْهُ تَارَةً وَلِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْهُ أُخْرَى. أَمَّا عَدَمُ السَّبَبِ فَظَاهِرٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ قُوَّةٌ وَلَا حَوْلٌ وَلَا خَيْرٌ وَلَا سَبَبُ خَيْرٍ أَصَالَةً وَلَوْ كَانَ مِنْهُ شَيْءٌ لَكَانَ سَبَبًا فَأُضِيفَ إلَيْهِ لِعَدَمِ السَّبَبِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ صَدَرَتْ مِنْهُ أَفْعَالٌ كَانَ سَبَبًا لَهَا بِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُ فَمَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ كَانَ لِعَدَمِ السَّبَبِ.

ص: 19

وَأَمَّا وُجُودُ الْمَانِعِ الْمُضَادِّ لَهُ الْمُنَافِي فَلِأَنَّ نَفْسَهُ قَدْ تَضِيقُ وَتَضْعُفُ وَتَعْجِزُ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ أَفْعَالٍ مُمْكِنَةٍ فِي نَفْسِهَا مُتَنَافِيَةٍ فِي حَقِّهِ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِسَمْعِ شَيْءٍ أَوْ بَصَرِهِ أَوْ الْكَلَامِ فِي شَيْءٍ أَوْ النَّظَرِ فِيهِ أَوْ إرَادَتِهِ أَوْ اشْتَغَلَتْ جَوَارِحُهُ بِعَمَلِ كَثِيرٍ اشْتَغَلَتْ عَنْ عَمَلٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لِضِيقِهِ وَعَجْزِهِ؛ فَصَارَ قِيَامُ إحْدَى الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ بِهِ مَانِعًا وَصَادًّا عَنْ آخَرَ. وَالضِّيقُ وَالْعَجْزُ يَعُودُ إلَى عَدَمِ قُدْرَتِهِ فَعَادَ إلَى الْعَدَمِ الَّذِي هُوَ مِنْهُ وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِشَيْءِ حَتَّى يُضَافَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا إنْ كَانَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا كَالْأَلَمِ وَسَبَبِ الْأَلَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الشَّرَّ الْمَوْجُودَ لَيْسَ شَرًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَا شَرًّا مَحْضًا وَإِنَّمَا هُوَ شَرٌّ فِي حَقِّ مَنْ تَأَلَّمَ بِهِ وَقَدْ تَكُونُ مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدَ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ مُسَلْسَلًا {آمَنْت بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ} وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: {لَوْ أَنْفَقْت مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمَا قَبِلَهُ مِنْك حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَك لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَك وَمَا أَخْطَأَك لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَك} فَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ هُمَا بِحَسَبِ الْعَبْدِ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَالْحُلْوِ وَالْمُرِّ سَوَاءٌ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَأَلَّمْ بِالشَّيْءِ لَيْسَ فِي حَقِّهِ شَرًّا وَمَنْ تَنَعَّمَ بِهِ فَهُوَ فِي حَقِّهِ خَيْرٌ كَمَا {كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ مَنْ قَصَّ عَلَيْهِ أَخُوهُ رُؤْيَا أَنْ

ص: 20

يَقُولَ: خَيْرًا تَلَقَّاهُ وَشَرًّا تَوَقَّاهُ خَيْرًا لَنَا وَشَرًّا لِأَعْدَائِنَا} فَإِنَّهُ إذَا أَصَابَ الْعَبْدَ شَرٌّ سُرَّ قَلْبُ عَدُوِّهِ؛ فَهُوَ خَيْرٌ لِهَذَا وَشَرٌّ لِهَذَا؛ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيًّا وَلَا عَدُوًّا فَلَيْسَ فِي حَقِّهِ خَيْرًا وَلَا شَرًّا وَلَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ مَا يُؤْلِمُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ دَائِمًا وَلَا مَا يُؤْلِمُ جُمْهُورَهُمْ دَائِمًا؛ بَلْ مَخْلُوقَاتُهُ إمَّا مُنْعِمَةٌ لَهُمْ أَوْ لِجُمْهُورِهِمْ فِي أَغْلَبِ الْأَوْقَاتِ كَالشَّمْسِ وَالْعَافِيَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ مَا هُوَ شَرٌّ مُطْلَقًا عَامًّا. فَعُلِمَ أَنَّ الشَّرَّ الْمَخْلُوقَ الْمَوْجُودَ شَرٌّ مُقَيَّدٌ خَاصٌّ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ هُوَ بِهِ خَيْرٌ وَحُسْنٌ وَهُوَ أَغْلَبُ وَجْهَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ} وَقَالَ: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} . وَقَدْ عَلَم الْمُسْلِمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا مَا إلَّا لِحِكْمَةِ؛ فَتِلْكَ الْحِكْمَةُ وَجْهُ حُسْنِهِ وَخَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ شَرٌّ مَحْضٌ لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ؛ وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك} وَكَوْنُ الشَّرِّ لَمْ يُضَفْ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ؛ بَلْ إمَّا بِطْرِيقِ الْعُمُوم أَوْ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ أَوْ يُحْذَفُ فَاعِلُهُ.

ص: 21

فَهَذَا الشَّرُّ الْمَوْجُودُ الْخَاصُّ الْمُقَيَّدُ سَبَبُهُ: إمَّا عَدَمٌ وَإِمَّا وُجُودٌ؛ فَالْعَدَمُ مِثْلُ عَدَمِ شَرْطٍ أَوْ جُزْءِ سَبَبٍ إذْ لَا يَكُونُ سَبَبُهُ عَدَمًا مَحْضًا فَإِنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ لَا يَكُونُ سَبَبًا تَامًّا لِوُجُودِ؛ وَلَكِنْ يَكُونُ سَبَبُ الْخَيْرِ وَاللَّذَّةِ قَدْ انْعَقَدَ وَلَا يَحْصُلُ الشَّرْطُ فَيَقَعُ الْأَلَمُ؛ وَذَلِكَ مِثْلُ عَدَمِ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَمِثْلُ عَدَمِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ أَلَمِ الْجَهْلِ وَعَدَمِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْأَلَمِ بِالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْبُكْمِ وَعَدَمِ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْأَلَمِ وَالْمَرَضِ وَالضَّعْفِ. فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ وَنَحْوِهَا يَكُونُ الشَّرُّ أَيْضًا مُضَافًا إلَى الْعَدَمِ الْمُضَافِ إلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ قَوْلُ الْخَلِيلِ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فَإِنَّ الْمَرَضَ وَإِنْ كَانَ أَلَمًا مَوْجُودًا فَسَبَبُهُ ضَعْفُ الْقُوَّةِ وَانْتِفَاءُ الصِّحَّةِ الْمَوْجُودَةِ وَذَلِكَ عَدَمٌ هُوَ مِنْ الْإِنْسَانِ الْمَعْدُومِ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ قَوْلُ الْحَقِّ {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَقَوْلُهُ: {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وَنَحْوُ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ سَبَبُهُ عَدَمَ فِعْلِ الْوَاجِبِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ.

يُبَيِّن ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ جَمِيعَهَا مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ إنَّمَا يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ لِجَهْلِهِ أَوْ لِحَاجَتِهِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِمَضَرَّتِهَا وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا امْتَنَعَ أَنْ يَفْعَلَهَا وَالْجَهْلُ أَصْلُهُ عَدَمٌ وَالْحَاجَةُ أَصْلُهَا الْعَدَمُ.

ص: 22

فَأَصْلُ وُقُوعِ السَّيِّئَاتِ مِنْهُ عَدَمُ الْعِلْمِ وَالْغِنَى وَلِهَذَا يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} ؟ {إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} إلَى نَحْوِ هَذِهِ الْمَعَانِي. وَأَمَّا الْمَوْجُودُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الشَّرِّ الْمَوْجُودِ الَّذِي هُوَ خَاصٌّ كَالْآلَامِ مِثْلُ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ تَكْذِيبٌ أَوْ اسْتِكْبَارٌ وَالْفُسُوقِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْمُحَرَّمَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَكَذَلِكَ تَنَاوُلُ الْأَغْذِيَةِ الضَّارَّةِ وَكَذَلِكَ الْحَرَكَاتُ الشَّدِيدَةُ الْمُوَرِّثَةُ لِلْأَلَمِ فَهَذَا الْوُجُودُ لَا يَكُونُ وُجُودًا تَامًّا مَحْضًا؛ إذْ الْوُجُودُ التَّامُّ الْمَحْضُ لَا يُوَرِّثُ إلَّا خَيْرًا كَمَا قُلْنَا إنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ لَا يَقْتَضِي وُجُودًا؛ بَلْ يَكُونُ وُجُودًا نَاقِصًا إمَّا فِي السَّبَبِ وَإِمَّا فِي الْمَحَلِّ كَمَا يَكُونُ سَبَبُ التَّكْذِيبِ عَدَمَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْإِقْرَارِ بِهِ وَسَبَبُ عَدَمِ هَذَا الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ عَدَمُ أَسْبَابِهِ مِنْ النَّظَرِ التَّامِّ وَالِاسْتِمَاعِ التَّامِّ لِآيَاتِ الْحَقِّ وَأَعْلَامِهِ. وَسَبَبُ عَدَمِ النَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ: إمَّا عَدَمُ الْمُقْتَضِي فَيَكُونُ عَدَمًا مَحْضًا وَإِمَّا وُجُودُ مَانِعٍ مِنْ الْكِبْرِ أَوْ الْحَسَدِ فِي النَّفْسِ {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وَهُوَ تَصَوُّرٌ بَاطِلٌ وَسَبَبُهُ عَدَمُ غِنَى النَّفْسِ بِالْحَقِّ فَتَعْتَاضُ عَنْهُ بِالْخَيَالِ الْبَاطِلِ.

ص: 23

وَ " الْحَسَدُ " أَيْضًا سَبَبُهُ عَدَمُ النِّعْمَةِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا مِثْلَ الْمَحْسُودِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَرَاهَةَ الْحَاسِدِ لَأَنْ يُكَافِئَهُ الْمَحْسُودُ أَوْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ الْفُسُوقُ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَسَائِرِ الْقَبَائِحِ إنَّمَا سَبَبُهَا حَاجَةُ النَّفْسِ إلَى الِاشْتِفَاءِ بِالْقَتْلِ وَالِالْتِذَاذِ بِالزِّنَا وَإِلَّا فَمَنْ حَصَلَ غَرَضُهُ بِلَا قَتْلٍ أَوْ نَالَ اللَّذَّةَ بِلَا زِنًا لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ وَالْحَاجَةُ مَصْدَرُهَا الْعَدَمُ وَهَذَا يُبَيِّنُ - إذَا تَدَبَّرَهُ الْإِنْسَانُ - أَنَّ الشَّرَّ الْمَوْجُودَ إذَا أُضِيفَ إلَى عَدَمٍ أَوْ وُجُودٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وُجُودًا نَاقِصًا فَتَارَةً يُضَافُ إلَى عَدَمِ كَمَالِ السَّبَبِ أَوْ فَوَاتِ الشَّرْطِ وَتَارَةً يُضَافُ إلَى وُجُودٍ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ تَارَةً بِالسَّبَبِ النَّاقِصِ وَالْمَحَلِّ النَّاقِصِ وَسَبَبُ ذَلِكَ إمَّا عَدَمُ شَرْطٍ أَوْ وُجُودُ مَانِعٍ وَالْمَانِعُ لَا يَكُونُ مَانِعًا إلَّا لِضِعْفِ الْمُقْتَضِي وَكُلُّ مَا ذَكَرْته وَاضِحٌ بَيِّنٌ إلَّا هَذَا الْمَوْضِعَ فَفِيهِ غُمُوضٌ يَتَبَيَّنُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ وَلَهُ طَرَفَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ سَبَبُهُ عَدَمًا مَحْضًا. و " الثَّانِي " أَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْعَدَمِ الْمَحْضِ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ أَنَّ الْكَائِنَاتِ الْمَوْجُودَةَ لَا تَصْدُرُ إلَّا عَنْ حَقٍّ مَوْجُودٍ.

ص: 24

وَلِهَذَا كَانَ مَعْلُومًا بِالْفِطْرَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مَصْنُوعٍ مِنْ صَانِعٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} يَقُولُ: أَخُلِقُوا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ خَلَقَهُمْ أَمْ هُمْ خَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ؟ . وَمِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ بِالْقِيَاسِ وَضَرْبُ الْمِثَالِ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ وَدَلَائِلُهُ كَثِيرَةٌ. وَالْفِطْرَةُ عِنْدَ صِحَّتِهَا أَشَدُّ إقْرَارًا بِهِ وَهُوَ لَهَا أَبْدَهُ وَهِيَ إلَيْهِ أَشَدُّ اضْطِرَارًا مِنْ الْمِثَالِ الَّذِي يُقَاسُ بِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ فِي الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ‌

‌ هَلْ يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوُجُودِيُّ بِالْوَصْفِ الْعَدَمِيِّ فِيهَا مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْعَدَمِيَّ يُعَلَّلُ بِالْعَدَمِيِّ؟

فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُعَلَّلُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْوُجُودِ فِي قِيَاسِ الْعِلَّةِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ لَهُ فِي قِيَاسِ الدَّلَالَةِ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ فِي قِيَاسِ الدَّلَالَةِ وَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ وَهُوَ أَنَّ قِيَاسَ الدَّلَالَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ فِيهِ عِلَّةً وَجُزْءًا مِنْ عِلَّةٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْوَصْفِ قَدْ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى وَصْفٍ وُجُودِيٍّ يَقْتَضِي الْحُكْمَ. وَأَمَّا " قِيَاسُ الْعِلَّةِ " فَلَا يَكُونُ الْعَدَمُ فِيهِ عِلَّةً تَامَّةً؛ لَكِنْ يَكُونُ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ وَشَرْطًا لِلْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِتَامَّةِ وَقُلْنَا: جُزْءٌ مِنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ. وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ شَرْطًا فِي اقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ الْوُجُودِيَّةِ

ص: 25

وَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ فَإِذَا حُقِّقَتْ الْمَعَانِي ارْتَفَعَ. فَهَذَا فِي بَيَانِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ سَبَبُهُ عَدَمًا مَحْضًا. وَأَمَّا " الطَّرَفُ الثَّانِي " وَهُوَ أَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُودِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمًا فَلِأَنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ مَوْجُودٍ بَلْ يَكْفِي فِيهِ عَدَمُ السَّبَبِ الْمَوْجُودِ؛ وَلِأَنَّ السَّبَبَ الْمَوْجُودَ إذَا أَثَّرَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ شَيْئًا وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِشَيْءِ فَالْأَثَرُ الَّذِي هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ الْأَثَرِ؛ بَلْ إذَا أَثَّرَ الْإِعْدَامُ فَالْإِعْدَامُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ فِيهِ عَدَمٌ فَإِنَّ جَعْلَ الْمَوْجُودِ مَعْدُومًا وَالْمَعْدُومِ مَوْجُودًا أَمْرٌ مَعْقُولٌ أَمَّا جَعْلُ الْمَعْدُومِ مَعْدُومًا فَلَا يُعْقَلُ إلَّا بِمَعْنَى الْإِبْقَاءِ عَلَى الْعَدَمِ وَالْإِبْقَاءُ عَلَى الْعَدَمِ يَكْفِي فِيهِ عَدَمُ الْفَاعِلِ وَالْفَرْقُ مَعْلُومٌ بَيْنَ عَدَمِ الْفَاعِلِ وَعَدَمِ الْمُوجِبِ فِي عَدَمِ الْعِلَّةِ وَبَيْنَ فَاعِلِ الْعَدَمِ وَمُوجِبِ الْعَدَمِ وَعِلَّةُ الْعَدَمِ. وَالْعَدَمُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الثَّانِي؛ بَلْ يَكْفِي فِيهِ الْأَوَّلُ. فَتَبَيَّنَّ بِذَلِكَ الطَّرَفَانِ وَهُوَ أَنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَوْبُ وُجُودٍ لَا يَكُونُ وُجُودًا مَا: لَا سَبَبًا وَلَا مُسَبِّبًا وَلَا فَاعِلًا وَلَا مَفْعُولًا أَصْلًا فَالْوُجُودُ الْمَحْضُ التَّامُّ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَوْبُ عَدَمٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ أَصْلًا وَلَا مُسَبَّبًا عَنْهُ وَلَا فَاعِلًا لَهُ وَلَا مَفْعُولًا أَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ مُسَبَّبًا عَنْهُ وَلَا مَفْعُولًا لَهُ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ سَبَبًا لَهُ فَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِعَدَمِ مَحْضٍ فَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ مَوْجُودٍ وَإِنْ كَانَ لِعَدَمِ

ص: 26

فِيهِ وُجُودٌ فَذَاكَ الْوُجُودُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ وَلَوْ كَانَ سَبَبُهُ تَامًّا وَهُوَ قَابِلٌ لَمَا دَخَلَ فِيهِ عَدَمٌ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ السَّبَبُ تَامًّا وَالْمَحَلُّ قَابِلًا وَجَبَ وُجُودُ الْمُسَبِّبِ فَحَيْثُ كَانَ فِيهِ عَدَمٌ فَلِعَدَمِ مَا فِي السَّبَبِ أَوْ فِي الْمَحَلِّ فَلَا يَكُونُ وُجُودًا مَحْضًا. فَظَهَرَ أَنَّ السَّبَبَ حَيْثُ تَخَلَّفَ حُكْمُهُ إنْ كَانَ لِفَوَاتِ شَرْطٍ فَهُوَ عَدَمٌ وَإِنْ كَانَ لِوُجُودِ مَانِعٍ فَإِنَّمَا صَارَ مَانِعًا لِضِعْفِ السَّبَبِ وَهُوَ أَيْضًا عَدَمُ قُوَّتِهِ وَكَمَالِهِ فَظَهَرَ أَنَّ الْوُجُودَ لَيْسَ سَبَبَ الْعَدَمِ الْمَحْضِ وَظَهَرَ بِذَلِكَ الْقِسْمَةُ الرُّبَاعِيَّةُ وَهِيَ أَنَّ الْوُجُودَ الْمَحْضَ لَا يَكُونُ إلَّا خَيْرًا. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَرًّ فِي الْعَالَمِ لَا يَخْرُجُ عَنْ قِسْمَيْنِ إمَّا أَلَمٌ وَإِمَّا سَبَبُ الْأَلَمِ وَسَبَبُ الْأَلَمِ مِثْلُ الْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعَذَابِ وَالْأَلَمِ الْمَوْجُودِ لَا يَكُونُ إلَّا لِنَوْعِ عَدَمٍ فَكَمَا يَكُونُ سَبَبُهُ تَفَرُّقُ الِاتِّصَالِ؛ وَتَفَرُّقُ الِاتِّصَالِ هُوَ عَدَمُ التَّأْلِيفِ وَالِاتِّصَالِ الَّذِي بَيْنَهُمَا وَهُوَ الشَّرُّ وَالْفَسَادُ. وَأَمَّا سَبَبُ الْأَلَمِ فَقَدْ قَرَّرْت فِي " قَاعِدَةٍ كَبِيرَةٍ " أَنَّ أَصْلَ الذُّنُوبِ هُوَ عَدَمُ الْوَاجِبَاتِ لَا فِعْلَ الْمُحَرَّمَات وَأَنَّ فِعْلَ الْمُحَرَّمَاتِ إنَّمَا وَقَعَ لِعَدَمِ الْوَاجِبَاتِ فَصَارَ أَصْلُ الذُّنُوبِ عَدَمَ الْوَاجِبَاتِ وَأَصْلُ الْأَلَمِ

ص: 27

عَدَمَ الصِّحَّةِ؛ وَلِهَذَا {كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُمْ فِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ أَنْ يَقُولُوا: وَنَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا} فَيَسْتَعِيذُ مِنْ شَرِّ النَّفْسِ الَّذِي نَشَأَ عَنْهَا مِنْ ذُنُوبِهَا وَخَطَايَاهَا وَيَسْتَعِيذُ مِنْ سَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ عُقُوبَاتُهَا وَآلَامُهَا؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا} قَدْ يُرَادُ بِهِ السَّيِّئَاتُ فِي الْأَعْمَالِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْعُقُوبَاتُ؛ فَإِنَّ لَفْظَ السَّيِّئَاتِ فِي كِتَابِ اللَّهِ يُرَادُ بِهِ مَا يَسُوءُ الْإِنْسَانَ مِنْ الشَّرِّ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ قَالَ تَعَالَى: {إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَرَّ النَّفْسِ هُوَ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ فَتَكُونُ سَيِّئَاتُ الْأَعْمَالِ هِيَ الشَّرُّ وَالْعُقُوبَاتُ الْحَاصِلَةُ بِهَا فَيَكُونُ مُسْتَعِيذًا مِنْ نَوْعَيْ السَّيِّئَاتِ: الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَعُقُوبَاتِهَا كَمَا فِي الِاسْتِعَاذَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي الصَّلَاةِ: {أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ} فَأَمَرَنَا بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الْعَذَابِ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَعَذَابِ الْبَرْزَخِ وَمِنْ سَبَبِ الْعَذَابِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَذَكَرَ الْفِتْنَةَ الْخَاصَّةَ بَعْدَ الْفِتْنَةِ الْعَامَّةِ فِتْنَةِ الْمَسِيح الدَّجَّالِ فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْفِتَنِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَا مِنْ خَلْقِ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فِتْنَةٍ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ} .

ص: 28

فَصْلٌ:

إذَا ظَهَرَ أَنَّ الْعَبْدَ وَكُلَّ مَخْلُوقٍ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لَيْسَ فَقِيرًا إلَى سِوَاهُ فَلَيْسَ هُوَ مُسْتَغْنِيًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِ رَبِّهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ فَقِيرٌ أَيْضًا مُحْتَاجٌ إلَى اللَّهِ وَمِنْ الْمَأْثُورِ عَنْ أَبِي يَزِيدَ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْغَرِيقِ بِالْغَرِيقِ. وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ أَنَّهُ قَالَ: اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْمَسْجُونِ بِالْمَسْجُونِ. وَهَذَا تَقْرِيبٌ وَإِلَّا فَهُوَ كَاسْتِغَاثَةِ الْعَدَمِ بِالْعَدَمِ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَغَاثَ بِهِ إنْ لَمْ يَخْلُقْ الْحَقُّ فِيهِ قُوَّةً وَحَوْلًا وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ قَالَ سُبْحَانَهُ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} .

وَاسْمُ الْعَبْدِ يَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ. " أَحَدَهُمَا " بِمَعْنَى الْعَابِدِ كَرْهًا كَمَا قَالَ: {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} وَقَالَ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} وَقَالَ: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {كُلٌّ

ص: 29

لَهُ قَانِتُونَ} وَقَالَ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} . و " الثَّانِي " بِمَعْنَى الْعَابِدِ طَوْعًا وَهُوَ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَيَسْتَعِينُهُ وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} وَقَوْلِهِ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} وَقَوْلِهِ: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وَقَوْلِهِ: {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} وَقَوْلِهِ: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} وَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} وَقَوْلِهِ: {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} وَقَوْلِهِ: {نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ} وَقَوْلِهِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} . وَهَذِهِ الْعُبُودِيَّةُ قَدْ يَخْلُو الْإِنْسَانُ مِنْهَا تَارَةً وَأَمَّا الْأُولَى فَوَصْفٌ لَازِمٌ إذَا أُرِيدَ بِهَا جَرَيَانُ الْقَدَرِ عَلَيْهِ وَتَصْرِيفُ الْخَالِقِ لَهُ قَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} وَعَامَّةُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِسْلَامِ اسْتِسْلَامُهُمْ لَهُ بِالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ لَا مُجَرَّدَ تَصْرِيفِ الرَّبِّ لَهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} وَهَذَا الْخُضُوعُ وَالذُّلُّ هُوَ أَيْضًا لَازِمٌ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ

ص: 30

كَانَ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ أَحْيَانًا الْإِعْرَاضُ عَنْ رَبِّهِ وَالِاسْتِكْبَارُ فَلَا بُدَّ لَهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ مِنْ الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ لَهُ؛ لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ يُسَلِّمُ لَهُ طَوْعًا فَيُحِبُّهُ وَيُطِيعُ أَمْرَهُ وَالْكَافِرَ إنَّمَا يَخْضَعُ لَهُ عِنْدَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ فَإِذَا زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ أَعْرَضَ عَنْ رَبِّهِ كَمَا قَالَ: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} وَقَالَ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} . وَفَقْرُ الْمَخْلُوقِ وَعُبُودِيَّتُهُ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَهُ لَا وُجُودَ لَهُ بِدُونِ ذَلِكَ وَالْحَاجَةُ ضَرُورِيَّةٌ لِكُلِّ الْمَصْنُوعَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ وَبِذَلِكَ هِيَ أَنَّهَا لِخَالِقِهَا وَفَاطِرِهَا إذْ لَا قِيَامَ لَهَا بِدُونِهِ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ النَّاسُ فِي شُهُودِ هَذَا الْفَقْرِ وَالِاضْطِرَارِ وَعُزُوبِهِ عَنْ قُلُوبِهِمْ. و " أَيْضًا " فَ‌

‌الْعَبْدُ يَفْتَقِرُ إلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَعْبُودُهُ

الَّذِي يُحِبُّهُ حُبَّ إجْلَالٍ وَتَعْظِيمٍ فَهُوَ غَايَةُ مَطْلُوبِهِ وَمُرَادِهِ وَمُنْتَهَى هِمَّتِهِ وَلَا صَلَاحَ لَهُ إلَّا بِهَذَا وَأَصْلُ الْحَرَكَاتِ الْحُبُّ وَاَلَّذِي يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ لِذَاتِهِ هُوَ اللَّهُ فَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ مَعَ اللَّهِ شَيْئًا فَهُوَ مُشْرِكٌ وَحُبُّهُ فَسَادٌ؛ وَإِنَّمَا الْحُبُّ الصَّالِحُ النَّافِعُ حُبُّ اللَّهِ وَالْحَبُّ لِلَّهِ وَالْإِنْسَانُ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ عِبَادَتِهِ لَهُ وَمِنْ جِهَةِ اسْتِعَانَتِهِ بِهِ لِلِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ لِمَنْ أَنْتَ إلَيْهِ فَقِيرٌ وَهُوَ رَبُّك وَإِلَهُك.

ص: 31

وَهَذَا الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ تَعْلَمُ فَقْرَهَا إلَى خَالِقِهَا وَتَذِلُّ لِمَنْ افْتَقَرَتْ إلَيْهِ وَغِنَاهُ مِنْ الصَّمَدِيَّةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا فَإِنَّهُ {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَهُوَ شُهُودُ الرُّبُوبِيَّةِ بِالِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ ثُمَّ هَذَا لَا يَكْفِيهَا حَتَّى تَعْلَمَ مَا يُصْلِحُهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَذَلِكَ هُوَ عِبَادَتُهُ وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا خُلِقَ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ فَصَلَاحُهُ وَكَمَالُهُ وَلَذَّتُهُ وَفَرَحُهُ وَسُرُورُهُ فِي أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ وَيُنِيبَ إلَيْهِ وَذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَسْأَلَتِهِ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ حَادِثَةٌ بِمَشِيئَتِهِ قَائِمَةٌ بِقُدْرَتِهِ وَكَلِمَتِهِ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ فَقِيرَةٌ إلَيْهِ مُسَلِّمَةٌ لَهُ طَوْعًا وَكَرْهًا فَإِذَا شَهِدَ الْعَبْدُ ذَلِكَ وَأَسْلَمَ لَهُ وَخَضَعَ فَقَدْ آمَنَ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَرَأَى حَاجَتَهُ وَفَقْرَهُ إلَيْهِ صَارَ سَائِلًا لَهُ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مُسْتَعِينًا بِهِ إمَّا بِحَالِهِ أَوْ بِقَالِهِ بِخِلَافِ الْمُسْتَكْبِرِ عَنْهُ الْمُعْرِضِ عَنْ مَسْأَلَتِهِ. ثُمَّ هَذَا الْمُسْتَعِينُ بِهِ السَّائِلُ لَهُ إمَّا أَنْ يَسْأَلَ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَوْ مَا هُوَ مُبَاحٌ لَهُ؛ ف " الْأَوَّلُ " حَالُ الْمُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ الَّذِينَ حَالُهُمْ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} و " الثَّانِي " حَالُ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ وَالْعُصَاةِ الَّذِينَ فِيهِمْ إيمَانٌ بِهِ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا كَمَا قَالَ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} فَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِرُبُوبِيَّتِهِ مُشْرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِ كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِحُصَيْنٍ الخزاعي:

ص: 32

يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ؟ قَالَ: سَبْعَةَ آلِهَةٍ: سِتَّةً فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ قَالَ: فَمَنْ الَّذِي تَعُدُّ لِرَغْبَتِك وَرَهْبَتِك؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ قَالَ: أَسْلِمْ حَتَّى أُعَلِّمَك كَلِمَةً يَنْفَعُك اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فَأَسْلَمَ فَقَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَقِنِّي شَرَّ نَفْسِي} رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ. وَلِهَذَا قَالَ سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إذَا دَعَاهُ فَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ رُبُوبِيَّتِهِ لَهُمْ وَإِعْطَائِهِ سُؤْلَهُمْ وَإِجَابَةِ دُعَائِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ إذَا دَعَوْهُ فَقَدْ آمَنُوا بِرُبُوبِيَّتِهِ لَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ كُفَّارًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَفُسَّاقًا أَوْ عُصَاةً قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَمْرَيْنِ فَقَالَ: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} فـ " الْأَوَّلُ " أَنْ يُطِيعُوهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ و " الثَّانِي " الْإِيمَانُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَإِلَهُهُمْ. وَلِهَذَا قِيلَ: إجَابَةُ الدُّعَاءِ تَكُونُ عَنْ صِحَّةِ الِاعْتِقَادِ وَعَنْ كَمَالِ الطَّاعَةِ؛

ص: 33

لِأَنَّهُ عَقَّبَ آيَةَ الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} وَالطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ هِيَ مَصْلَحَةُ الْعَبْدِ الَّتِي فِيهَا سَعَادَتُهُ وَنَجَاتُهُ وَأَمَّا إجَابَةُ دُعَائِهِ وَإِعْطَاءُ سُؤَالِهِ فَقَدْ يَكُونُ مَنْفَعَةً وَقَدْ يَكُونُ مَضَرَّةً قَالَ تَعَالَى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُشْرِكِينَ: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وَقَالَ: {إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وَقَالَ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَقَالَ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} الْآيَةَ وَقَالَ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} {وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ عَلَى أَهْلِ جَابِرٍ فَقَالَ: لَا تَدْعُوَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إلَّا بِخَيْرِ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ} .

ص: 34

فَصْلٌ:

فَالْعَبْدُ كَمَا أَنَّهُ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ دَائِمًا فِي إعَانَتِهِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَإِعْطَاءِ سُؤَالِهِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِ فَهُوَ فَقِيرٌ إلَيْهِ فِي أَنْ يَعْلَمَ مَا يُصْلِحُهُ وَمَا هُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ وَيُرِيدُهُ وَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالشَّرِيعَةُ وَإِلَّا فَإِذَا قُضِيَتْ حَاجَتُهُ الَّتِي طَلَبَهَا وَأَرَادَهَا وَلَمْ تَكُنْ مَصْلَحَةً لَهُ كَانَ ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَهُ فِيهِ لَذَّةٌ وَمَنْفَعَةٌ فَالِاعْتِبَارُ بِالْمَنْفَعَةِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ وَهَذَا قَدْ عَرَّفَهُ اللَّهُ عِبَادَهُ بِرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ: عَلَّمُوهُمْ وَزَكَّوْهُمْ وَأَمَرُوهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهَوْهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ وَبَيَّنُوا لَهُمْ أَنَّ مَطْلُوبَهُمْ وَمَقْصُودَهُمْ وَمَعْبُودَهُمْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ كَمَا أَنَّهُ هُوَ رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ وَأَنَّهُمْ إنْ تَرَكُوا عِبَادَتَهُ أَوْ أَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا وَضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا وَكَانَ مَا أُوتُوهُ مِنْ قُوَّةٍ وَمَعْرِفَةٍ وَجَاهٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَإِنْ كَانُوا فِيهِ فُقَرَاءَ إلَى اللَّهِ مُسْتَعِينِينَ بِهِ عَلَيْهِ مُقِرِّينَ بِرُبُوبِيَّتِهِ - فَإِنَّهُ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ بِئْسَ الْمَصِيرُ وَسُوءُ الدَّارِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ وَالْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ

ص: 35

الشَّرْعِيَّةُ كَمَا تَعَلَّقَ بِالْأَوَّلِ الْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ وَالْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِعَانَةِ وَالْهِدَايَةِ؛ فَإِنَّهُ بَيَّنَ لَهُمْ هُدَاهُمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَأَعَانَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ ذَلِكَ عِلْمًا وَعَمَلًا كَمَا مَنَّ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ بِأَنْ خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ وَعَافَاهُمْ وَمَنَّ عَلَى أَكْثَرِ الْخَلْقِ بِأَنْ عَرَّفَهُمْ رُبُوبِيَّتَهُ لَهُمْ وَحَاجَتَهُمْ إلَيْهِ وَأَعْطَاهُمْ سُؤْلَهُمْ وَأَجَابَ دُعَاءَهُمْ قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فَكُلُّ أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَسْأَلُونَهُ فَصَارَتْ الدَّرَجَاتُ أَرْبَعَةً. " قَوْمٌ " لَمْ يَعْبُدُوهُ وَلَمْ يَسْتَعِينُوهُ وَقَدْ خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ وَعَافَاهُمْ. و " قَوْمٌ " اسْتَعَانُوهُ فَأَعَانَهُمْ وَلَمْ يَعْبُدُوهُ. و " قَوْمٌ " طَلَبُوا عِبَادَتَهُ وَطَاعَتَهُ وَلَمْ يَسْتَعِينُوهُ وَلَمْ يَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ. و " الصِّنْفُ الرَّابِعُ " الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَاسْتَعَانُوهُ فَأَعَانَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا خَصَّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: {حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى أَفْضَلِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 36

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

‌فَصْلٌ:

وَالْعَبْدُ مُضْطَرٌّ دَائِمًا إلَى أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

فَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى مَقْصُودِ هَذَا الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَا نَجَاةَ مِنْ الْعَذَابِ وَلَا وُصُولَ إلَى السَّعَادَةِ إلَّا بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ فَمَنْ فَاتَهُ فَهُوَ إمَّا مِنْ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَإِمَّا مِنْ الضَّالِّينَ وَهَذَا الْهُدَى لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهُدَى اللَّهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يُبَيِّنُ فَسَادَ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ. وَأَمَّا سُؤَالُ مَنْ يَقُولُ فَقَدْ هَدَاهُمْ فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَى السُّؤَالِ وَجَوَابُ مَنْ أَجَابَهُ بِأَنَّ الْمَطْلُوبَ دَوَامُهَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ الْأَسْبَابِ وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؛ فَإِنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أَنْ يَفْعَلَ الْعَبْدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا أُمِرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَلَا يَفْعَلُ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَهَذَا يَحْتَاجُ فِي كُلِّ وَقْتٍ إلَى أَنْ يَعْلَمَ وَيَعْمَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ

ص: 37

وَمَا نُهِيَ عَنْهُ وَإِلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ إرَادَةٌ جَازِمَةٌ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَكَرَاهَةٌ جَازِمَةٌ لِتَرْكِ الْمَحْظُورِ فَهَذَا الْعِلْمُ الْمُفَصَّلُ وَالْإِرَادَةُ الْمُفَصَّلَةُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَحْصُلَ لِلْعَبْدِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ كُلُّ وَقْتٍ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ مَا يَهْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. نَعَمْ حَصَلَ لَهُ هُدًى مُجْمَلٌ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَالرَّسُولَ حَقٌّ وَدِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَذَلِكَ حَقٌّ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الْمُجْمَلَ لَا يُغْنِيهِ إنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هُدًى مُفَصَّلٌ فِي كُلِّ مَا يَأْتِيهِ وَيَذْرُهُ مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي يَحَارُ فِيهَا أَكْثَرُ عُقُولِ الْخَلْقِ وَيَغْلِبُ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتُ أَكْثَرَ عُقُولِهِمْ لِغَلَبَةِ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ عَلَيْهِمْ. وَالْإِنْسَانُ خُلِقَ ظَلُومًا جَهُولًا فَالْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الْعِلْمِ وَمَيْلُهُ إلَى مَا يَهْوَاهُ مِنْ الشَّرِّ فَيَحْتَاجُ دَائِمًا إلَى عِلْمٍ مُفَصَّلٍ يَزُولُ بِهِ جَهْلُهُ وَعَدْلٍ فِي مَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَفِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَإِعْطَائِهِ وَمَنْعِهِ وَأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَنَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ فَكُلُّ مَا يَقُولُهُ وَيَعْمَلُهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى عِلْمٍ يُنَافِي جَهْلَهُ وَعَدْلٍ يُنَافِي ظُلْمَهُ فَإِنْ لَمْ يَمُنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ الْمُفَصَّلِ وَالْعَدْلِ الْمُفَصَّلِ كَانَ فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ مَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا

ص: 38

مُسْتَقِيمًا} فَإِذَا كَانَ هَذِهِ حَالُهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا فَكَيْفَ حَالُ غَيْرِهِ.

والصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمِ قَدْ فُسِّرَ بِالْقُرْآنِ وَبِالْإِسْلَامِ وَطَرِيقِ الْعُبُودِيَّةِ وَكُلُّ هَذَا حَقٌّ.

فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ فـ " الْقُرْآنُ " مُشْتَمِلٌ عَلَى مُهِمَّاتٍ وَأُمُورٍ دَقِيقَةٍ وَنَوَاهٍ وَأَخْبَارٍ وَقَصَصٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَهْدِ اللَّهُ الْعَبْدَ إلَيْهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِهَا ضَالٌّ عَنْهَا وَكَذَلِكَ " الْإِسْلَامُ " وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَكَارِمِ وَالطَّاعَاتِ وَالْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ وَكَذَلِكَ " الْعِبَادَةُ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ ". فَحَاجَةُ الْعَبْدِ إلَى سُؤَالِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ ضَرُورِيَّةٌ فِي سَعَادَتِهِ وَنَجَاتِهِ وَفَلَاحِهِ؛ بِخِلَافِ حَاجَتِهِ إلَى الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ فَإِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ فَإِذَا انْقَطَعَ رِزْقُهُ مَاتَ وَالْمَوْتُ لَا بُدَّ مِنْهُ فَإِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْهُدَى بِهِ كَانَ سَعِيدًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ وَكَانَ الْمَوْتُ مُوَصِّلًا إلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ وَكَذَلِكَ النَّصْرُ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ غُلِبَ حَتَّى قُتِلَ فَإِنَّهُ يَمُوتُ شَهِيدًا وَكَانَ الْقَتْلُ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْهُدَى أَعْظَمُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى النَّصْرِ وَالرِّزْقِ؛ بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا هُدِيَ كَانَ مِنْ الْمُتَّقِينَ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وَكَانَ مِمَّنْ يَنْصُرُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ نَصَرَ اللَّهَ نَصَرَهُ اللَّهُ وَكَانَ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ وَهُمْ الْغَالِبُونَ؛ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ هُوَ الْمَفْرُوضُ.

ص: 39

وَ" أَيْضًا " فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الرِّزْقَ وَالنَّصْرَ؛ لِأَنَّهُ إذَا هُدِيَ ثُمَّ أَمَرَ وَهَدَى غَيْرَهُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَرُؤْيَتِهِ فَالْهُدَى التَّامُّ أَعْظَمُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الرِّزْقُ وَالنَّصْرُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ جَامِعٌ لِكُلِّ مَطْلُوبٍ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ لَا يَقُومُ مَقَامَهَا وَأَنَّ فَضْلَهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْكَلَامِ أَعْظَمُ مِنْ فَضْلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى سَائِرِ أَفْعَالِ الْخُضُوعِ فَإِذَا تَعَيَّنَتْ الْأَفْعَالُ فَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

ص: 40

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

فَصْلٌ:

وَقَدْ ذَكَرْت فِي مَوَاضِعَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ " سُورَةُ الْبَقَرَةِ " مِنْ تَقْرِيرِ أُصُولِ الْعِلْمِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَتَحَهَا بِذِكْرِ كِتَابِهِ الْهَادِي لِلْمُتَّقِينَ فَوَصَفَ حَالَ أَهْلِ الْهُدَى ثُمَّ الْكَافِرِينَ ثُمَّ الْمُنَافِقِينَ. فَهَذِهِ " جُمَلٌ خَبَرِيَّةٌ " ثُمَّ ذَكَرَ " الْجُمَلَ الطَّلَبِيَّةَ " فَدَعَا النَّاسُ إلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلَائِلَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ فَرْشِ الْأَرْضِ وَبِنَاءِ السَّمَاءِ وَإِنْزَالِ الْمَاءِ وَإِخْرَاجِ الثِّمَارِ رِزْقًا لِلْعِبَادِ ثُمَّ قَرَّرَ " الرِّسَالَةَ " وَذَكَرَ " الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ " ثُمَّ ذَكَرَ مَبْدَأَ " النُّبُوَّةِ وَالْهُدَى " وَمَا بَثَّهُ فِي الْعَالَمِ مِنْ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعْلِيمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ وَإِسْجَادَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ لِمَا شَرَّفَهُ مِنْ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ هَذَا تَقْرِيرٌ لِجِنْسِ مَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ فَقَصَّ جِنْسَ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى خِطَابِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَقِصَّةِ مُوسَى مَعَهُمْ وَضَمَّنَ ذَلِكَ تَقْرِيرَ نُبُوَّتِهِ إذْ هُوَ قَرِينُ مُحَمَّدٍ فَذَكَرَ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ،

ص: 41

وَمُوسَى الَّذِي هُوَ نَظِيرُهُ وَهُمَا اللَّذَانِ احْتَجَّا وَمُوسَى قَتَلَ نَفْسًا فَغَفَرَ لَهُ وَآدَمُ أَكَلَ مِنْ الشَّجَرَةِ فَتَابَ عَلَيْهِ وَكَانَ فِي قِصَّةِ مُوسَى رَدٌّ عَلَى الصَّابِئَةِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يُقِرُّ بِجِنْسِ النُّبُوَّاتِ وَلَا يُوجِبُ اتِّبَاعَ مَا جَاءُوا بِهِ وَقَدْ يَتَأَوَّلُونَ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَتَقْرِيرِ نُبُوَّتِهِ وَذَكَرَ حَالَ مَنْ عَدَلَ عَنْ النُّبُوَّةِ إلَى السِّحْرِ وَذَكَرَ النَّسْخَ الَّذِي يُنْكِرُهُ بَعْضُهُمْ وَذَكَرَ النَّصَارَى وَأَنَّ الْأُمَّتَيْنِ لَنْ يَرْضَوْا عَنْهُ حَتَّى يَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ. كُلُّ هَذَا فِي تَقْرِيرِ أُصُولِ الدِّينِ مِنْ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ. ثُمَّ أَخَذَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الَّتِي عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ فَذَكَرَ إبْرَاهِيمَ الَّذِي هُوَ إمَامٌ وَبِنَاءَ الْبَيْتِ الَّذِي بِتَعْظِيمِهِ يَتَمَيَّزُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عَمَّا سِوَاهُمْ وَذَكَرَ اسْتِقْبَالَهُ وَقَرَّرَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ شِعَارُ الْمِلَّةِ بَيْنَ أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: أَهْلُ الْقِبْلَةِ كَمَا يُقَالُ: {مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ} . وَذَكَرَ مِنْ " الْمَنَاسِكِ " مَا يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ لَهُ مَكَانٌ وَزَمَانٌ و " الْعُمْرَةَ " لَهَا مَكَانٌ فَقَطْ وَالْعُكُوفُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ شُرِعَ فِيهِ؛ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ وَلَا بِمَكَانِ وَلَا بِزَمَانِ؛ لَكِنَّ الصَّلَاةَ تَتَقَيَّدُ بِاسْتِقْبَالِهِ فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْخَمْسَةَ: مِنْ الْعُكُوفِ

ص: 42

وَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَالطَّوَافُ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ فَقَطْ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ مِنْ الطَّوَافِ بِالْجَبَلَيْنِ وَأَنَّهُ لَا جُنَاحَ فِيهِ جَوَابًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَرَاهَةِ الطَّوَافِ بِهِمَا لِأَجْلِ إهْلَالِهِمْ لِمَنَاةَ وَجَوَابًا لِقَوْمِ تَوَقَّفُوا عَنْ الطَّوَافِ بِهِمَا. وَجَاءَ ذِكْرُ الطَّوَافِ بَعْدَ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَيْتِ - بَلْ وَبِالْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ - بَعْدَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ اللَّذَيْنِ لَا يَقُومُ الدِّينُ إلَّا بِهِمَا وَكَانَ ذَلِكَ مِفْتَاحَ الْجِهَادِ الْمُؤَسَّسِ عَلَى الصَّبْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ أَمْرِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ لَا يُخَالِفُونَ فِيهِ فَلَا يَقُومُ أَمْرُ الْبَيْتِ إلَّا بِالْجِهَادِ عَنْهُ وَذَكَرَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَشْرُوعِ وَالْمَقْدُورِ وَبَيَّنَّ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ الْبُشْرَى لِلصَّابِرِينَ فَإِنَّهَا أُعْطِيَتْ مَا لَمْ تُعْطَ الْأُمَمُ قَبْلَهَا فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهَا وَشَعَائِرِهَا كَالْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَيْتِ؛ وَلِهَذَا يَقْرِنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ لِدُخُولِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَّا الْجِهَادُ فَهُوَ أَعْظَمُ سَبِيلِ اللَّهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ فِي الْأَصَحِّ كَمَا قَالَ: {الْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِذَمِّهِ لِكَاتِمِ الْعِلْمِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دِينًا غَيْرَ ذَلِكَ. فَفِي أَوَّلِهَا: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} وَفِي أَثْنَائِهَا. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} فـ " الْأَوَّلُ " نَهْيٌ عَامٌّ و " الثَّانِي " نَهْيٌ خَاصٌّ وَذَكَرَهَا بَعْدَ الْبَيْتِ لَيُنْتَهَى عَنْ قَصْدِ

ص: 43

الْأَنْدَادِ الْمُضَاهِيَةِ لَهُ وَلِبَيْتِهِ مِنْ الْأَصْنَامِ وَالْمَقَابِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَوَحَّدَ نَفْسَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ {لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَوْحِيدِهِ مِنْ الْآيَاتِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَأَطْلَقَ الْأَمْرَ فِي الْمَطَاعِمِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ بُعِثَ بِالْحَنِيفِيَّةِ وَشِعَارُهَا وَهُوَ الْبَيْتُ وَذَكَرَ سَمَاحَتَهَا فِي الْأَحْوَالِ الْمُبَاحَةِ وَفِي الدِّمَاءِ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الْقِصَاصِ وَمِنْ أَخْذِ الدِّيَةِ ثُمَّ ذَكَرَ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالزَّمَانِ فَذَكَرَ الْوَصِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ الصِّيَامَ الْمُتَعَلِّقَ بِرَمَضَانَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الِاعْتِكَافِ ذَكَرَهُ فِي عِبَادَاتِ الْمَكَانِ وَعِبَادَاتِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ وَبِالزَّمَانِ اسْتِحْبَابًا أَوْ وُجُوبًا بِوَقْتِ الصِّيَامِ وَوَسَّطَهُ أَوَّلًا بَيْنَ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالصَّلَاةُ تُشْرَعُ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ وَالْعُكُوفُ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ " نَوْعَانِ ": نَوْعٌ لِعَيْنِهِ كَالْمَيِّتَةِ وَنَوْعٌ لِكَسْبِهِ كَالرِّبَا وَالْمَغْصُوبِ فَأَتْبَعَ الْمَعْنَى الثَّابِتَ بِالْمُحَرَّمِ الثَّابِتِ تَحْرِيمُهُ لِعَيْنِهِ وَذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ عِبَادَاتِ الزَّمَانِ الْمُنْتَقِلِ الْحَرَامَ الْمُنْتَقِلَ؛ وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} الْآيَةَ وَهِيَ أَعْلَامُ الْعِبَادَاتِ الزَّمَنِيَّةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَهَا مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَلِلْحَجِّ لِأَنَّ الْبَيْتَ تَحُجُّهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ فَكَانَ هَذَا أَيْضًا

ص: 44

فِي أَنَّ الْحَجَّ مُوَقَّتٌ بِالزَّمَانِ كَأَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِالْبَيْتِ الْمَكَانِيِّ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ مَا يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ مَعَ أَنَّ الْمَكَانَ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَذَكَرَ " الْمُحْصَرَ " وَذَكَرَ تَقْدِيمَ الْإِحْلَالِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَالِ وَهُوَ الْهَدْيُ عَنْ الْإِحْلَالِ الْمُتَعَلِّقِ بِالنَّفْسِ وَهُوَ الْحَلْقُ وَأَنَّ الْمُتَحَلِّلَ يَخْرُجُ مِنْ إحْرَامِهِ فَيَحِلُّ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ؛ وَلِهَذَا كَانَ آخِرُ مَا يَحِلُّ عَيْنَ الْوَطْءِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ الْمَحْظُورَاتِ وَلَا يَفْسُدُ النُّسُكُ بِمَحْظُورِ سِوَاهُ. وَذَكَرَ " التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ " لِتَعَلُّقِهِ بِالزَّمَانِ مَعَ الْمَكَانِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا حَتَّى يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَتَّى لَا يَكُونَ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - وَهُوَ الْأُفُقِيُّ - فَإِنَّهُ الَّذِي يَظْهَرُ التَّمَتُّعُ فِي حَقِّهِ لِتَرَفُّهِهِ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ عَنْهُ أَمَّا الَّذِي هُوَ حَاضِرٌ فسيان عِنْدَهُ تَمَتَّعَ أَوْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ ذَكَرَ وَقْتَ الْحَجِّ وَأَنَّهُ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَذَكَرَ الْإِحْرَامَ وَالْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ؛ فَإِنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ وَمَكَانٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} وَلَمْ يَقُلْ: وَالْعُمْرَةَ لِأَنَّهَا تُفْرَضُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَلَا رَيْبَ أَنَّ السُّنَّةَ فَرْضُ الْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ وَمَنْ فَرَضَ قَبْلَهُ خَالَفَ السُّنَّةَ فَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَهُ مَا الْتَزَمَهُ كَالنَّذْرِ - إذْ لَيْسَ فِيهِ نَقْضٌ لِلْمَشْرُوعِ وَلَيْسَ كَمَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ - وَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَ

ص: 45

الْإِحْرَامَ وَيَسْقُطُ الْحَجُّ وَيَكُونُ مُعْتَمِرًا وَهَذَانِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ. ثُمَّ أَمَرَ عِنْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ بِذِكْرِهِ وَقَضَاؤُهَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - قَضَاءُ التَّفَثِ وَالْإِحْلَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْعِبَادَاتِ الزَّمَانِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ. وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ رَمْيِ الْجِمَارِ وَمَعَ الصَّلَوَاتِ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَكَانِيٌّ قَوْلُهُ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} الْآيَةَ وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّعْجِيلُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْمَكَانِ؛ وَلِهَذَا تُضَافُ هَذِهِ الْأَيَّامُ إلَى مَكَانِهَا فَيُقَالُ: أَيَّامُ مِنًى وَإِلَى عَمَلِهَا فَيُقَالُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ كَمَا يُقَالُ: لَيْلَةَ جَمْعٍ وَلَيْلَةَ مُزْدَلِفَةَ وَيَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَيَوْمَ الْعِيدِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ فَتُضَافُ إلَى الْأَعْمَالِ وَأَمَاكِنِ الْأَعْمَالِ؛ إذْ الزَّمَانُ تَابِعٌ لِلْحَرَكَةِ وَالْحَرَكَةُ تَابِعَةٌ لِلْمَكَانِ. فَتَدَبَّرْ تَنَاسُبَ الْقُرْآنِ وَارْتِبَاطَ بَعْضِهِ بِبَعْضِ وَكَيْفَ ذَكَرَ أَحْكَامَ الْحَجِّ فِيهَا فِي مَوْضِعَيْنِ: مَعَ ذَكَرِ بَيْتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَكَانِهِ وَمَوْضِعٍ ذَكَرَ فِيهِ الْأَهِلَّةَ فَذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانِهِ وَذَكَرَ أَيْضًا الْقِتَالَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمُقَاصَّةَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَكَانِ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ سُبْحَانَهُ ذِكْرَ كَوْنِ الْأَهِلَّةِ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. وَذَكَرَ أَنَّ " الْبِرَّ " لَيْسَ أَنْ يُشْقِيَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَيَفْعَلَ مَا لَا فَائِدَةَ

ص: 46

فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ يَبْرُزُ لِلسَّمَاءِ فَلَا يَسْتَظِلُّ بِسَقْفِ بَيْتِهِ حَتَّى إذَا أَرَادَ دُخُولَ بَيْتِهِ لَا يَأْتِيهِ إلَّا مِنْ ظَهْرِهِ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْهِلَالَ الَّذِي جُعِلَ مِيقَاتًا لِلْحَجِّ شَرْعٌ مِثْلُ هَذَا وَإِنَّمَا تَضَمَّنَ شَرْعَ التَّقْوَى ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ النِّكَاحِ وَالْوَالِدَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ وَالصَّدَقَاتِ وَالرِّبَا وَالدُّيُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ خَتَمَهَا بِالدُّعَاءِ الْعَظِيمِ الْمُتَضَمِّنِ وَضْعَ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَالْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَطَلَبَ النَّصْرِ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ هُمْ أَعْدَاءُ مَا شَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

ص: 47

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أُشْكِلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ " كُتُبِ التَّفْسِيرِ " إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ.

مِنْهَا قَوْلُهُ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} الْآيَةَ، ذَكَرَ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ السَّيِّئَةَ الشِّرْكُ وَقِيلَ الْكَبِيرَةُ يَمُوتُ عَلَيْهَا قَالَهُ عِكْرِمَةُ قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الذُّنُوبُ تُحِيطُ بِالْقَلْبِ. قُلْت: الصَّوَابُ ذِكْرُ أَقْوَالِ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَعِيفٌ فَالْحُجَّةُ تُبَيِّنُ ضَعْفَهُ فَلَا يُعْدَلُ عَنْ ذِكْرِ أَقْوَالِهِمْ لِمُوَافَقَتِهَا قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُبْتَدَعَةِ وَهُمْ يَنْقُلُونَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَخْطَأَ فِيهَا الْكَاتِبُ كَمَا قِيلَ فِي غَيْرِهَا وَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَوَاتُرِهِ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَأَمَّا قَبْلُ تَوَاتُرِهِ عِنْدَهُ فَلَا يُسْتَتَابُ؛ لَكِنْ يُبَيَّنُ لَهُ وَكَذَلِكَ الْأَقْوَالُ الَّتِي جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِخِلَافِهَا: فِقْهًا وَتَصَوُّفًا وَاعْتِقَادًا وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ صَحِيحٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ

ص: 48

نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ} إلَخْ وَاَلَّذِي يَغْشَى الْقَلْبَ يُسَمَّى " رَيْنًا " و " طَبْعًا " و " خَتْمًا " و " قَفْلًا " وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا مَا أَصَرَّ عَلَيْهِ. و " إحَاطَةُ الْخَطِيئَةِ " إحْدَاقُهَا بِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ وَهَذَا هُوَ الْبَسْلُ بِمَا كَسَبَتْ نَفْسُهُ أَيْ: تُحْبَسُ عَمَّا فِيهِ نَجَاتُهَا فِي الدَّارَيْنِ؛ فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ قَيْدٌ وَحَبْسٌ لِصَاحِبِهَا عَنْ الْجَوَلَانِ فِي فَضَاءِ التَّوْحِيدِ وَعَنْ جَنْيِ ثِمَارِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَمِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يُعَذَّبُ مُطْلَقًا وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَزِنُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَعَلَى هَذَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ مَعْنَى الْوَزْنِ؛ لَكِنَّ تَفْسِيرَ السَّيِّئَةِ بِالشِّرْكِ هُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَايَرَ بَيْنَ الْمَكْسُوبِ وَالْمُحِيطِ فَلَوْ كَانَ وَاحِدًا لَمْ يُغَايِرْ وَالْمُشْرِكُ لَهُ خَطَايَا غَيْرُ الشِّرْكِ أَحَاطَتْ بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا. و " أَيْضًا " قَوْلُهُ (سَيِّئَةً نَكِرَةٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ جِنْسَ السَّيِّئَاتِ بِالِاتِّفَاقِ. و " أَيْضًا " لَفْظُ (السَّيِّئَةِ قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مُرَادًا بِهِ الشِّرْكَ وَقَوْلُهُ: (سَيِّئَةً أَيْ حَالٌ سَيِّئَةٌ أَوْ مَكَانٌ سَيِّئَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أَيْ حَالًا حَسَنَةً تَعَمٍّ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَهَذَا اللَّفْظُ يَكُونُ صِفَةً وَقَدْ يُنْقَلُ مِنْ الْوَصْفِيَّةِ إلَى الِاسْمِيَّةِ وَيُسْتَعْمَلُ لَازِمًا أَوْ

ص: 49

مُتَعَدِّيًا يُقَالُ: سَاءَ هَذَا الْأَمْرُ أَيْ قَبُحَ وَيُقَالُ: سَاءَنِي هَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} عَمِلُوا الشِّرْكَ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِهَذَا فَقَطْ وَلَوْ آمَنُوا لَكَانَ لَهُمْ حَسَنَاتٌ وَكَذَا لَمَّا قَالَ: (كَسَبَ سَيِّئَةً) لَمْ يَذْكُرْ حَسَنَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} أَيْ فَعَلُوا الْحُسْنَى وَهُوَ مَا أُمِرُوا بِهِ كَذَلِكَ (السَّيِّئَةُ) تَتَنَاوَلُ الْمَحْظُورَ فَيَدْخُلُ فِيهَا الشِّرْكُ.

ص: 50

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -

فَصْلٌ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: " الْغَيْبُ " هُوَ اللَّهُ أَوْ مِنْ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ. فَفِي مَوْضِعٍ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا وَفِي مَوْضِعٍ جَعَلَهُ نَفْسَهُ غَيْبًا. وَلِهَذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ - كَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزَّاغُونِي - يَقُولُونَ: بِقِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَيُرِيدُونَ بِالْغَائِبِ اللَّهَ وَيَقُولُونَ: قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ ثَابِتٌ بِالْحَدِّ وَالْعِلَّةِ وَالدَّلِيلِ وَالشَّرْطِ، كَمَا يَقُولُونَ

ص: 51

فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ فِي إثْبَاتِ الْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَهْلِ رَأْسِ الْعَيْنِ وَقَالَ: لَا يُسَمَّى اللَّهُ غَائِبًا وَاسْتَدَلَّ بِمَا ذُكِرَ. وَفَصْلُ الْخِطَابِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّ اسْمَ " الْغَيْبِ وَالْغَائِبِ " مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ يُرَادُ بِهِ مَا غَابَ عَنَّا فَلَمْ نُدْرِكْهُ وَيُرَادُ بِهِ مَا غَابَ عَنَّا فَلَمْ يُدْرِكْنَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إذَا غَابَ عَنْ الْآخَرِ مَغِيبًا مُطْلَقًا لَمْ يُدْرِكْ هَذَا هَذَا وَلَا هَذَا هَذَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ شَهِيدٌ عَلَى الْعِبَادِ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ فَلَيْسَ هُوَ غَائِبًا وَإِنَّمَا لَمَّا لَمْ يَرَهُ الْعِبَادُ كَانَ غَيْبًا؛ وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِي الْغَيْبِ الَّذِي يُؤْمَنُ بِهِ وَلَيْسَ هُوَ بِغَائِبِ؛ فَإِنَّ " الْغَائِبَ " اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَوْلِك غَابَ يَغِيبُ فَهُوَ غَائِبٌ وَاَللَّهُ شَاهِدٌ غَيْرُ غَائِبٍ وَأَمَّا " الْغَيْبُ " فَهُوَ مَصْدَرُ غَابَ يَغِيبُ غَيْبًا وَكَثِيرًا مَا يُوضَعُ الْمَصْدَرُ مَوْضِعَ الْفَاعِلِ كَالْعَدْلِ وَالصَّوْمِ وَالزُّورِ وَمَوْضِعَ الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَدِرْهَمٍ ضَرْبِ الْأَمِيرِ. وَلِهَذَا يَقْرِنُ الْغَيْبَ بِالشَّهَادَةِ وَهِيَ أَيْضًا مَصْدَرٌ فَالشَّهَادَةُ هِيَ الْمَشْهُودُ أَوْ الشَّاهِدُ وَالْغَيْبُ هُوَ إمَّا الْمَغِيبُ عَنْهُ فَهُوَ الَّذِي لَا يَشْهَدُ نَقِيضَ الشَّهَادَةِ وَإِمَّا بِمَعْنَى الْغَائِبِ الَّذِي غَابَ عَنَّا فَلَمْ نَشْهَدْهُ فَتَسْمِيَتُهُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ فِيهِ تَنْبِيهٌ

ص: 52

عَلَى النِّسْبَةِ إلَى الْغَيْرِ أَيْ لَيْسَ هُوَ بِنَفْسِهِ غَائِبًا وَإِنَّمَا غَابَ عَنْ الْغَيْرِ أَوْ غَابَ الْغَيْرُ عَنْهُ. وَقَدْ يُقَالُ اسْمُ " الشَّهَادَةِ وَالْغَيْبِ " يَجْمَعُ النِّسْبَتَيْنِ فَالشَّهَادَةُ مَا شَهِدْنَا وَشَهِدْنَاهُ وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَنَّا وَغِبْنَا عَنْهُ فَلَمْ نَشْهَدْهُ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْمَعْنَى فِي كَوْنِهِ غَيْبًا هُوَ انْتِفَاءُ شُهُودِنَا لَهُ وَهَذِهِ تَسْمِيَةٌ قُرْآنِيَّةٌ صَحِيحَةٌ فَلَوْ قَالُوا: قِيَاسُ الْغَيْبِ عَلَى الشَّهَادَةِ لَكَانَتْ الْعِبَارَةُ مُوَافَقَةً وَأَمَّا قِيَاسُ الْغَائِبِ فَفِيهِ مُخَالَفَةٌ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَلَكِنْ مُوَافَقَةٌ فِي الْمَعْنَى؛ فَلِهَذَا حَصَلَ فِي إطْلَاقِهِ التَّنَازُعُ.

ص: 53

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

فَصْلٌ:

الْمَثَلُ فِي الْأَصْلِ هُوَ الشَّبِيهُ وَهُوَ نَوْعَانِ لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ شَبَهًا مُعَيَّنًا أَوْ عَامًّا كُلِّيًّا فَإِنَّ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةَ الَّتِي تُعْلَمُ وَتُقَالُ هِيَ مُطَابِقَةٌ مُمَاثِلَةٌ لِكُلِّ مَا يَنْدَرِجُ فِيهَا وَهَذَا يُسَمَّى قِيَاسًا فِي لُغَةِ السَّلَفِ وَاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّينَ وَتَمْثِيلُ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ هُوَ أَيْضًا يُسَمَّى قِيَاسًا فِي لُغَةِ السَّلَفِ وَاصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى قِيَاسَ التَّمْثِيلِ. ثُمَّ مِنْ مُتَأَخَّرِي الْعُلَمَاءِ - كَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ - مَنْ ادَّعَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْقِيَاسِ إنَّمَا يُقَالُ عَلَى هَذَا وَمَا يُسَمِّيهِ تَأْلِيفَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ قِيَاسًا فَمَجَازٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يُشَبَّهْ فِيهِ شَيْءٌ بِشَيْءِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ عُمُومِ الْحُكْمِ تَسَاوِي أَفْرَادِهِ فِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ فَإِنَّهُ زَعَمَ

ص: 54

أَنَّ لَفْظَ الْقِيَاسِ إنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَهُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ. وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ اللُّغَةِ الْمُوَافِقَةِ لِمَا فِي الْقُرْآنِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ أَنَّ كِلَيْهِمَا قِيَاسٌ وَتَمْثِيلٌ وَاعْتِبَارٌ وَهُوَ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ ظَاهِرٌ وَأَمَّا قِيَاسُ التَّكْلِيلِ وَالشُّمُولِ فَلِأَنَّهُ يُقَاسُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ بِذَلِكَ الْمِقْيَاسِ الْعَامِّ الثَّابِتِ فِي الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ وَهُوَ الْأَصْلُ كَمَا يُقَاسُ الْوَاحِدُ بِالْأَصْلِ الَّذِي يُشْبِهُهُ فَالْأَصْلُ فِيهِمَا هُوَ الْمَثَلُ وَالْقِيَاسُ هُوَ ضَرْبُ الْمَثَلِ وَأَصْلُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - تَقْدِيرُهُ فَضَرْبُ الْمِثْلِ لِلشَّيْءِ تَقْدِيرُهُ لَهُ كَمَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلُهُ تَقْدِيرُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ وَمِنْهُ ضَرْبُ الدِّرْهَمِ وَهُوَ تَقْدِيرُهُ وَضَرْبُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَهُوَ تَقْدِيرُهُمَا وَالضَّرِيبَةُ الْمَقْدِرَةُ وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ أَثَرُ الْمَاشِي بِقَدْرِهِ وَكَذَلِكَ الضَّرْبُ بِالْعَصَا لِأَنَّهُ تَقْدِيرُ الْأَلَمِ بِالْآلَةِ وَهُوَ جَمْعُهُ وَتَأْلِيفُهُ وَتَقْدِيرُهُ كَمَا أَنَّ الضَّرِيبَةَ هِيَ الْمَالُ الْمَجْمُوعُ وَالضَّرِيبَةُ الْخَلْقُ وَضَرَبَ الدِّرْهَمَ جَمَعَ فِضَّةٍ مُؤَلِّفَةً مُقَدَّرَةً وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ إذَا فَرَضَهُ وَقَدَّرَهُ عَلَى مَرِّ السِّنِينَ وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ الْحَرَكَاتُ الْمُقَدَّرَةُ الْمَجْمُوعَةُ إلَى غَايَةٍ مَحْدُودَةٍ وَمِنْهُ تَضْرِيبُ الثَّوْبِ الْمَحْشُوِّ وَهُوَ تَأْلِيفُ خُلَلِهِ طَرَائِقَ طَرَائِقَ. وَلِهَذَا يُسَمُّونَ الصُّورَةَ الْقِيَاسِيَّةَ الضَّرْبَ كَمَا يُقَالُ لِلنَّوْعِ الْوَاحِدِ ضَرْبٌ لِتَأَلُّفِهِ وَاتِّفَاقِهِ وَضَرْبُ الْمَثَلِ لَمَّا كَانَ جَمْعًا بَيْنَ عِلْمَيْنِ يُطْلَبُ مِنْهُمَا عِلْمٌ

ص: 55

ثَالِثٌ كَانَ بِمَنْزِلَةِ ضِرَابِ الْفَحْلِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ عَنْهُ الْوَلَدُ وَلِهَذَا يُقَسِّمُونَ الضَّرْبَ إلَى نَاتِجٍ وَعَقِيمٍ كَمَا يَنْقَسِمُ ضَرْبُ الْفَحْلِ لِلْأُنْثَى إلَى نَاتِجٍ وَعَقِيمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ نَوْعَيْ ضَرْبِ الْمَثَلِ - وَهُوَ الْقِيَاسُ - تَارَةً يُرَادُ بِهِ التَّصْوِيرُ وَتَفْهِيمُ الْمَعْنَى وَتَارَةً يُرَادُ بِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى ثُبُوتِهِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ فَقِيَاسُ تَصَوُّرٍ وَقِيَاسُ تَصْدِيقٍ فَتَدَبَّرْ هَذَا. وَكَثِيرًا مَا يُقْصَدُ كِلَاهُمَا فَإِنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ يُوَضِّحُ صُورَةَ الْمَقْصُودِ وَحُكْمَهُ.

وَ‌

‌ضَرْبُ الْأَمْثَالِ فِي الْمَعَانِي نَوْعَانِ

هُمَا نَوْعَا الْقِيَاسِ: " أَحَدُهُمَا " الْأَمْثَالُ الْمُعَيَّنَةُ الَّتِي يُقَاسُ فِيهَا الْفَرْعُ بِأَصْلِ مُعَيَّنٍ مَوْجُودٍ أَوْ مُقَدَّرٍ وَهِيَ فِي الْقُرْآنِ بِضْعٌ وَأَرْبَعُونَ مَثَلًا كَقَوْلِهِ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} إلَى آخِرِهِ وَقَوْلِهِ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} الْآيَةَ {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} . فَإِنَّ التَّمْثِيلَ بَيْنَ الْمَوْصُوفَيْنِ اللَّذَيْنِ يَذْكُرُهُمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنْفِقِينَ الْمُخْلَصِينَ مِنْهُمْ وَالْمُرَائِينَ وَبَيْنَ مَا يَذْكُرُهُ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْأَمْثَالِ

ص: 56

هُوَ مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ: مَثَلُ الَّذِي يَقْتُلُ بكودين الْقَصَّارِ كَمَثَلِ الَّذِي يَقْتُلُ بِالسَّيْفِ وَمَثَلُ الْهِرَّةِ تَقَعُ فِي الزَّيْتِ كَمَثَلِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَمَبْنَاهُ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا؛ وَالْفَرْقُ فِي الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْحُكْمِ الْمَقْصُودِ إثْبَاتَهُ أَوْ نَفْيَهُ وَقَوْلُهُ: مَثَلُهُ كَمَثَلِ كَذَا. تَشْبِيهٌ لِلْمَثَلِ الْعِلْمِيِّ بِالْمَثَلِ الْعِلْمِيِّ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بِتَوَسُّطِهِ يَحْصُلُ الْقِيَاسُ فَإِنَّ الْمُعْتَبِرَ يُنْظَرُ فِي أَحَدِهِمَا فَيَتَمَثَّلُ فِي عِلْمِهِ وَيَنْظُرُ فِي الْآخَرِ فَيَتَمَثَّلُ فِي عِلْمِهِ ثُمَّ يَعْتَبِرُ أَحَدَ الْمَثَلَيْنِ بِالْآخَرِ فَيَجِدُهُمَا سَوَاءً فَيَعْلَمُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي أَنْفُسِهِمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْعِلْمِ وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَتَمَثَّلَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ الْحُكْمَ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَلَى تَصَوُّرِهِ؛ وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ يُقَالُ مَثَلُ هَذَا كَمَثَلِ. . . (1)

وَبَعْضُ الْمَوَاضِعِ يَذْكُرُ سُبْحَانَهُ الْأَصْلَ الْمُعْتَبَرَ بِهِ لِيُسْتَفَادَ حُكْمُ الْفَرْعِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِذِكْرِ الْفَرْعِ كَقَوْلِهِ: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} إلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} فَإِنَّ هَذَا يَحْتَاجُ إلَى تَفَكُّرٍ؛ وَلِهَذَا سَأَلَ عُمَرُ عَنْهَا مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَأَجَابَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْجَوَابِ الَّذِي أَرْضَاهُ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ ذِكْرُ الْقَصَصِ؛ فَإِنَّهَا كُلَّهَا أَمْثَالٌ هِيَ أُصُولُ قِيَاسٍ

(1)

بياض بالأصل

ص: 57

وَاعْتِبَارٍ وَلَا يُمْكِنُ هُنَاكَ تَعْدِيدُ مَا يُعْتَبَرُ بِهَا لِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ لَهُ فِي حَالَةٍ مِنْهَا نَصِيبٌ فَيُقَالُ فِيهَا: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وَيُقَالُ عَقِبَ حِكَايَتِهَا: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} وَيُقَالُ: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} وَالِاعْتِبَارُ هُوَ الْقِيَاسُ بِعَيْنِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ دِيَةِ الْأَصَابِعِ فَقَالَ هِيَ سَوَاءٌ وَاعْتَبِرُوا ذَلِكَ بِالْأَسْنَانِ أَيْ قِيسُوهَا بِهَا فَإِنَّ الْأَسْنَانَ مُسْتَوِيَةُ الدِّيَةِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ فَكَذَلِكَ الْأَصَابِعُ وَيُقَالُ: اعْتَبَرْت الدَّرَاهِمَ بِالصَّنْجَةِ إذَا قَدَّرْتهَا بِهَا. " النَّوْعُ الثَّانِي " الْأَمْثَالُ الْكُلِّيَّةُ وَهَذِهِ الَّتِي أُشْكِلَ تَسْمِيَتُهَا أَمْثَالًا كَمَا أُشْكِلَ تَسْمِيَتُهَا قِيَاسًا حَتَّى اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} فَقَالَ: أَيْنَ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ؟ وَكَذَلِكَ إذَا سَمِعُوا قَوْلَهُ: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} يَبْقَوْنَ حَيَارَى لَا يَدْرُونَ مَا هَذِهِ الْأَمْثَالُ وَقَدْ رَأَوْا عَدَدَ مَا فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْأَمْثَالِ الْمُعَيَّنَةِ بِضْعًا وَأَرْبَعِينَ مَثَلًا. وَهَذِهِ " الْأَمْثَالُ " تَارَةً تَكُونُ صِفَاتٍ وَتَارَةً تَكُونُ أَقْيِسَةً فَإِذَا كَانَتْ أَقْيِسَةً فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ خَبَرَيْنِ هُمَا قَضِيَّتَانِ وَحُكْمَانِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا كُلِّيًّا؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي هِيَ الْقَضَايَا لَمَّا انْقَسَمَتْ إلَى مُعَيَّنَةٍ وَمُطْلَقَةٍ وَكُلِّيَّةٍ وَجُزْئِيَّةٍ وَكُلٌّ مِنْ ذَلِكَ انْقَسَمَ إلَى خَبَرٍ عَنْ إثْبَاتٍ

ص: 58

وَخَبَرٍ عَنْ نَفْيٍ فَضَرْبُ الْمَثَلِ الَّذِي هُوَ الْقِيَاسُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى خَبَرٍ عَامٍّ وَقَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ وَذَلِكَ هُوَ الْمَثَلُ الثَّابِتُ فِي الْعَقْلِ الَّذِي تُقَاسُ بِهِ الْأَعْيَانُ الْمَقْصُودُ حُكْمُهَا فَلَوْلَا عُمُومُهُ لَمَا أَمْكَنَ الِاعْتِبَارُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ حُكْمُهُ خَارِجًا عَنْ الْعُمُومِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: لَا قِيَاسَ عَنْ قَضِيَّتَيْنِ جُزْئِيَّتَيْنِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا كُلِّيَّةً وَلَا قِيَاسَ أَيْضًا عَنْ سَالِبَتَيْنِ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا مُوجَبَةً وَإِلَّا فَالسَّلِبَانِ لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ خَبَرٍ يَعُمُّ. وَجُمْلَةُ مَا يُضْرَبُ مِنْ الْأَمْثَالِ سِتَّةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ الْأُولَى إمَّا جُزْئِيَّةٌ وَإِمَّا كُلِّيَّةٌ مُثْبَتَةٌ أَوْ نَافِيَةٌ فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ إذَا ضَرَبْتهَا فِي أَرْبَعَةٍ صَارَتْ سِتَّةَ عَشَرَ تُحْذَفُ مِنْهُمَا الْجُزْئِيَّتَانِ سَوَاءٌ كَانَتَا مُوجَبَتَيْنِ أَوْ سَالِبَتَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا سَالِبَةٌ وَالْأُخْرَى مُوجَبَةٌ فَهَذِهِ سِتٌّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ وَالسَّالِبَتَانِ سَوَاءٌ كَانَتَا جُزْئِيَّتَيْنِ أَوْ كُلِّيَّتَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى؛ لَكِنْ إذَا كَانَتَا جُزْئِيَّتَيْنِ سَالِبَتَيْنِ فَقَدْ دَخَلَتْ فِي الْأَوَّلِ يَبْقَى ضَرْبَانِ مَحْذُوفَيْنِ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ. وَيُحْذَفُ مِنْهُمَا السَّالِبَةُ الْكُلِّيَّةُ الصُّغْرَى مَعَ الْكُبْرَى الْمُوجَبَةِ الْجُزْئِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْكُبْرَى إذَا كَانَتْ جُزْئِيَّةً لَمْ يَجِبْ أَنْ يُلَاقِيَهَا السَّلْبُ؛ بِخِلَافِ الْإِيجَابِ فَإِنَّ الْإِيجَابَيْنِ الْجُزْئِيَّيْنِ يَلْتَقِيَانِ وَكَذَلِكَ الْإِيجَابُ الْجُزْئِيُّ مَعَ السَّلْبِ الْكُلِّيِّ يَلْتَقِيَانِ لِانْدِرَاجِ ذَلِكَ الْمُوجَبِ تَحْتَ السَّلْبِ الْعَامِّ.

ص: 59

يَبْقَى مِنْ السِّتَّةَ عَشَرَ سِتَّةُ أَضْرُبٍ فَإِذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا مُوجَبَةً كُلِّيَّةً جَازَ فِي الْأُخْرَى الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ وَإِذَا كَانَتْ سَالِبَةً كُلِّيَّةً جَازَ أَنْ تُقَارِنَهَا الْمُوجَبَتَانِ لَكِنْ تُقَدَّمُ مُقَارَنَةُ الْكُلِّيَّةِ لَهَا وَلَا بُدَّ فِي الْجُزْئِيَّةِ أَنْ تَكُونَ صُغْرَى وَإِذَا كَانَتْ مُوجَبَةً جُزْئِيَّةً جَازَ أَنْ تُقَارِنَهَا الْكُلِّيَّتَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَتَا وَإِذَا كَانَتْ سَالِبَةً جُزْئِيَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَارِنَهَا إلَّا مُوجَبَةً كُلِّيَّةً وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فَيُقِرُّ النَّاتِجُ سِتَّةً وَالْمُلْغَى عَشْرَةً وبالاعتبارين تَصِيرُ ثَمَانِيَةً. فَهَذِهِ الضُّرُوبُ الْعَشَرَةُ مَدَارُ ثَمَانِيَةٍ مِنْهَا عَلَى الْإِيجَابِ الْعَامِّ وَلَا بُدَّ فِي جَمِيعِ ضُرُوبِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا إيجَابٌ وَعُمُومٌ وَإِمَّا سَلْبٌ وَخُصُوصٌ فَنَقِيضَانِ لَا يُفِيدُ اجْتِمَاعُهُمَا فَائِدَةً؛ بَلْ إذَا اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ مِنْ نَوْعَيْنِ كَسَالِبَةٍ كُلِّيَّةٍ وَمُوجَبَةٍ جُزْئِيَّةٍ فَتُفِيدُ بِشَرْطِ كَوْنِ الْكُبْرَى هِيَ الْعَامَّةَ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ قِيَاسٍ مِنْ ثُبُوتٍ وَعُمُومٍ إمَّا مُجْتَمَعَيْنِ فِي مُقَدِّمَةٍ وَإِمَّا مُفْتَرِقَيْنِ فِي الْمُقَدَّمَتَيْنِ. وَأَيْضًا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ غَالِبَ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ وَالْأَقْيِسَةِ إنَّمَا يَكُونُ الْخَفِيُّ فِيهَا إحْدَى الْقَضِيَّتَيْنِ وَأَمَّا الْأُخْرَى فَجَلِيَّةٌ مَعْلُومَةٌ فَضَارِبُ الْمَثَلِ وَنَاصِبُ الْقِيَاسِ إنَّمَا يَحْتَاجُ أَنْ يُبَيِّنَ تِلْكَ الْقَضِيَّةَ الْخَفِيَّةَ فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ الْمَقْصُودُ لِمَا قَارَبَهَا فِي الْفِعْلِ مِنْ الْقَضِيَّةِ السَّلْبِيَّةِ وَالْجَلِيَّةُ هِيَ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ أَعَمُّ.

ص: 60

فَإِنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ أَعَمَّ كَانَ أَعْرَفَ فِي الْعَقْلِ لِكَثْرَةِ مُرُورِ مُفْرَدَاتِهِ فِي الْعَقْلِ وَخَيْرُ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ تُحْذَفُ مِنْهَا الْقَضِيَّةُ الْجَلِيَّةُ لِأَنَّ فِي ذِكْرِهَا تَطْوِيلًا وَعَيًّا وَكَذَلِكَ ذِكْرُ النَّتِيجَةِ الْمَقْصُودَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ يُعَدُّ تَطْوِيلًا. وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} مَا أَحْسَنَ هَذَا الْبُرْهَانَ فَلَوْ قِيلَ بَعْدَهُ: وَمَا فَسَدَتَا فَلَيْسَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَكَانَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الْغَثِّ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ بَلَاغَةَ التَّنْزِيلِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ تَأْلِيفِ الْمَعَانِي فِي الْعَقْلِ مِثْلُ تَأْلِيفِ الْأَسْمَاءِ مِنْ الْحُرُوفِ فِي الْهِجَاءِ وَالْخَطِّ إذَا عَلَّمْنَا الصَّبِيَّ الْخَطَّ نَقُولُ: " با "" سِين "" مِيم " صَارَتْ (بِسْمِ) فَإِذَا عَقَلَ لَمْ يَصْلُحْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقْرَأَهُ تَهَجِّيًا فَيَذْهَبُ بِبَهْجَةِ الْكَلَامِ؛ بَلْ قَدْ صَارَ التَّأْلِيفُ مُسْتَقِرًّا وَكَذَلِكَ النَّحْوِيُّ إذَا عَرَفَ أَنَّ " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ " مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ لَمْ يُلْفِ كُلَّمَا رَفَعَ مِثْلَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. فَتَأْلِيفُ الْأَسْمَاءِ مِنْ الْحُرُوفِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَتَأْلِيفُ الْكَلِمِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَتَأْلِيفُ الْأَمْثَالِ مِنْ الْكَلِمِ جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤَلِّفُونَ لِلْأَقْيِسَةِ يَتَكَلَّمُونَ أَوَّلًا فِي مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي الَّتِي هِيَ الْأَسْمَاءُ ثُمَّ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَأْلِيفِ الْكَلِمَاتِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ وَالْقِصَّةُ وَالْحُكْمُ ثُمَّ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَأْلِيفِ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ الَّذِي هُوَ " الْقِيَاسُ " و " الْبُرْهَانُ " و " الدَّلِيلُ " و " الْآيَةُ "

ص: 61

و " الْعَلَامَةُ ". فَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتَفَطَّنَ لَهُ فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ كَمَالِ الْقُرْآنِ تَرْكَهُ فِي أَمْثَالِهِ الْمَضْرُوبَةِ وَأَقْيِسَتِهِ الْمَنْصُوبَةِ لِذِكْرِ الْمُقَدِّمَةِ الْجَلِيَّةِ الْوَاضِحَةِ الْمَعْلُومَةِ ثُمَّ اتِّبَاعُ ذَلِكَ بِالْإِخْبَارِ عَنْ النَّتِيجَةِ الَّتِي قَدْ عُلِمَ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ أَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودُ؛ بَلْ إنَّمَا يَكُونُ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِذِكْرِ مَا يُسْتَفَادُ ذِكْرُهُ وَيُنْتَفَعُ بِمَعْرِفَتِهِ فَذَلِكَ هُوَ الْبَيَانُ وَهُوَ الْبُرْهَانُ وَأَمَّا مَا لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ فَذِكْرُهُ عَيٌّ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَك خَطَأُ قَوْمٍ مِنْ البيانيين الْجُهَّالِ والمنطقيين الضُّلَّالِ حَيْثُ قَالَ بَعْضُ أُولَئِكَ: الطَّرِيقَةُ الْكَلَامِيَّةُ الْبُرْهَانِيَّةُ فِي أَسَالِيبِ الْبَيَانِ لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا قَلِيلًا وَقَالَ الثَّانِي: إنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ بُرْهَانٌ تَامٌّ فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا الطَّرِيقَةُ الْبُرْهَانِيَّةُ الْمُسْتَقِيمَةُ لِمَنْ عَقَلَ وَتَدَبَّرَ. و " أَيْضًا " فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ مَدَارَ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَنَصْبَ الْقِيَاسِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ خَبَرٍ إلَّا وَهُوَ إمَّا عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ: سَالِبٌ أَوْ مُوجَبٌ فَالْمُعَيَّنُ خَاصٌّ مَحْصُورٌ وَالْجُزْئِيُّ أَيْضًا خَاصٌّ غَيْرُ مَحْصُورٍ وَالْمُطْلَقُ إمَّا عَامٌّ وَإِمَّا فِي مَعْنَى الْخَاصِّ. فَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَعْرِفَ " صِيَغَ النَّفْيِ وَالْعُمُومِ " فَإِنَّ ذَلِكَ يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَبْلَغِ نِظَامٍ.

ص: 62

مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ " صِيغَةَ الِاسْتِفْهَامِ " يَحْسَبُ مَنْ أَخَذَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْقِيَاسِ الْمَضْرُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا الْقَضَايَا الْخَبَرِيَّةُ وَهَذِهِ طَلَبِيَّةٌ فَإِذَا تَأَمَّلَ وَعَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ اسْتِفْهَامَاتِ الْقُرْآنِ أَوْ كَثِيرًا مِنْهَا إنَّمَا هِيَ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ مَعْنَاهُ الذَّمُّ وَالنَّهْيُ إنْ كَانَ إنْكَارًا شَرْعِيًّا أَوْ مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَالسَّلْبُ إنْ كَانَ إنْكَارَ وُجُودٍ وَوُقُوعٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} الْآيَةَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} وَقَوْلُهُ فِي تَعْدِيدِ الْآيَاتِ: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أَيْ أَفَعَلَ هَذِهِ إلَهٌ مَعَ اللَّهِ وَالْمَعْنَى مَا فَعَلَهَا إلَّا اللَّهُ وَقَوْلُهُ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} وَمَا مَعَهَا. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَقَدْ يُعَبَّرُ فِي اللُّغَةِ بِضَرْبِ الْمَثَلِ أَوْ بِالْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ عَنْ نَوْعٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ التَّعْبِيرُ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ اللُّغَةِ؛ لَكِنْ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الدَّلِيلُ عَلَى الْحُكْمِ كَأَمْثَالِ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ قَالَ كَلِمَةً مَنْظُومَةً أَوْ مَنْثُورَةً لِسَبَبِ اقْتَضَاهُ فَشَاعَتْ فِي الِاسْتِعْمَالِ حَتَّى يُصَارَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ كُلِّ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ فِي الْأَصْلِ غَيْرَ مَوْضُوعٍ لَهَا فَكَأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ المثلية نُقِلَتْ بِالْعُرْفِ مِنْ الْمَعْنَى الْخَاصِّ إلَى

ص: 63

الْعَامِّ كَمَا تُنْقَلُ الْأَلْفَاظُ الْمُفْرَدَةُ فَهَذَا نَقْلٌ فِي الْجُمْلَةِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: " يَدَاك أَوْكَتَا وَفُوك نَفَخَ " هُوَ مُوَازٍ لِقَوْلِهِمْ: " أَنْتَ جَنَيْت هَذَا " لِأَنَّ هَذَا الْمَثَلَ قِيلَ ابْتِدَاءً لِمَنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ بِالْإِيكَاءِ وَالنَّفْخِ ثُمَّ صَارَ مَثَلًا عَامًّا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: " الصَّيْفَ ضَيَّعْت اللَّبَنَ " مِثْلُ قَوْلِك " فَرَّطْت وَتَرَكْت الْحَزْمَ وَتَرَكْت مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَقْتَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَتَّى فَاتَ " وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ قِيلَتْ لِلْمَعْنَى الْخَاصِّ. وَكَذَلِكَ " عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا " أَيْ أَتَخَافُ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الظَّاهِرِ الْحَسَنِ بَاطِنٌ رَدِيءٌ؟ فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْبَيَانِ يَدْخُلُ فِي اللُّغَةِ وَالْخِطَابِ فَالْمُتَكَلِّمُ بِهِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُبَيِّنِ بِالْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا إذْ قَدْ يَتَمَثَّلُ بِهِ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَهَذَا تَطَلُّبُهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ جِنْسِ تَطَلُّبِ الْأَلْفَاظِ الْعُرْفِيَّةِ فَهُوَ نَظَرٌ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى لَا نَظَرٌ فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ يَجْلُو عَنْك شُبْهَةً لَفْظِيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً. وَهَذِهِ الْأَمْثَالُ اللُّغَوِيَّةُ أَنْوَاعٌ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا أَجْنَاسُهَا وَهِيَ مُعْلِنَةٌ بِبَلَاغَةِ لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَبَرَاعَةِ بَيَانِهِ اللَّفْظِيِّ وَاَلَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ وَإِعْجَازِ الْقُرْآنِ يَتَكَلَّمُونَ فِي مِثْلِ هَذَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ أَوَّلُ مَا يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ صَارَتْ مَثَلًا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا تَصِيرُ الْكَلِمَةُ مَثَلًا

ص: 64

حَتَّى يَتَمَثَّلَ بِهَا الضَّارِبُ فَيَكُونُ هَذَا أَوَّلَ مَنْ تَمَثَّلَ بِهَا كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ} وَكَقَوْلِهِ: {مُسَعِّرُ حَرْبٍ} وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ النَّفْيَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ هُوَ نَفْيٌ مُضَمَّنٌ دَلِيلَ النَّفْيِ؛ فَلَا يُمْكِنُ مُقَابَلَتُهُ بِمَنْعِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْفِي بِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ إلَّا مَا ظَهَرَ بَيَانُهُ أَوْ اُدُّعِيَ ظُهُورُ بَيَانِهِ فَيَكُونُ ضَارِبُهُ إمَّا كَامِلًا فِي اسْتِدْلَالِهِ وَقِيَاسِهِ وَإِمَّا جَاهِلًا كَاَلَّذِي قَالَ: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} . إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَالْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا مَا يُصَرِّحُ فِيهِ بِتَسْمِيَتِهِ مَثَلًا وَمِنْهَا مَا لَا يُسَمَّى بِذَلِكَ. . . (1){مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} وَاَلَّذِي يَلِيهِ {إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} الْآيَةَ {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} . وَاَلَّذِي بَعْدَهُ لَيْسَ فِيهِ لَفْظٌ مِثْلُ {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} فِي الثَّلَاثَةِ {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَقَوْلُهُ: {أَرَأَيْتُمْ إنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ} .

(1)

بياض بالأصل

ص: 65

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ} الْآيَةَ وَيُسَمَّى جِدَالًا {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} - إلَى قَوْلِهِ - {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} {إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} الْآيَةَ {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ} {إلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى الْمَاءِ} وَقَوْلُ يُوسُفَ {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} الْآيَةَ {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} إلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} إلَى آخِرِهِ {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} وَاَلَّذِي بَعْدَهُ {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً} {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} فِي مَوْضِعَيْنِ {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلَّا كُفُورًا} بَعْدَ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالتَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} الْقِصَّةَ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّهَا بَرَاهِينُ وَحُجَجٌ تُفِيدُ تَصَوُّرًا أَوْ تَصْدِيقًا {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} {مَثَلُ نُورِهِ} - إلَى

ص: 66

قَوْلِهِ - {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} الْمَثَلَيْنِ مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسَاجِدِ وَأُولَئِكَ فِي الظُّلُمَاتِ {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} - ف " التَّفْسِيرُ " يَعُمُّ التَّصْوِيرَ وَيَعُمُّ التَّحْقِيقَ بِالدَّلِيلِ كَمَا فِي تَفْسِيرِ الْكَلَامِ الْمَشْرُوحِ - {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} الْآيَةَ {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} الْآيَةَ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} وَقَوْلُهُ: {إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} إلَى قَوْلِهِ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا} {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} إلَى آخِرِهِ لَمَّا أَوْرَدُوهُ نَقْضًا عَلَى قَوْلِهِ: {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فَهُمْ الَّذِينَ ضَرَبُوهُ جَدَلًا {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا} إلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا} {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} الْآيَةَ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا} ولِلَّذِينَ آمَنُوا {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} {كَأَنَّهُمْ إلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} {كَالْفَرَاشِ} و {كَالْعِهْنِ} .

ص: 67

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أُشْكِلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ " كُتُبٍ فِي التَّفْسِيرِ " إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ فِيهَا.

مِنْهَا قَوْلُهُ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الْآيَتَانِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَصَفَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَيُعْرَفُ بِهِ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ تَنَاقُضٍ وَمُنَاسِبَةٍ لِمَا قَبْلهَا وَلِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ السَّلَفِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ سَبَبِ نُزُولِهَا بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {قَالَ سَلْمَانُ: سَأَلْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَهْلِ دِينٍ كُنْت مَعَهُمْ فَذَكَرَ مِنْ عِبَادَتِهِمْ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ} . وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَمَا رُوِيَ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا فِي مُسْلِمٍ {إلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} . وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يُجِيبُ بِمَا لَا عِلْمَ عِنْدِهِ وَقَدْ

ص: 68

ثَبَتَ أَنَّهُ أَثْنَى عَلَى مَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ كَزَيْدِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ خِلَافًا عَنْ السَّلَفِ؛ لَكِنْ ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} الْآيَةَ وَمُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إلَّا الْإِسْلَامَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَكَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ يُرِيدُ بِلَفْظِ النَّسْخِ رَفْعَ مَا يُظَنُّ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا وَاحِدًا فَهُوَ كَافِرٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُهُ: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إلَخْ. وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ: أَنَّ الْآيَةَ فِيمَنْ بُعِثَ إلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً فَغَلِطُوا ثُمَّ افْتَرَقُوا عَلَى أَقْوَالٍ مُتَنَاقِضَةٍ.

ص: 69

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

فَصْلٌ:

قَسَّمَ اللَّهُ مَنْ ذَمَّهُ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ إلَى مُحَرِّفِينَ وَأُمِّيِّينَ حَيْثُ يَقُولُ: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ} {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} . وَفِي هَذَا عِبْرَةٌ لِمَنْ رَكِبَ سَنَنَهُمْ مِنْ أُمَّتِنَا؛ فَإِنَّ الْمُنْحَرِفِينَ فِي

ص: 70

نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِر: " قَوْمٌ " يُحَرِّفُونَهُ إمَّا لَفْظًا وَإِمَّا مَعْنًى وَهُمْ النَّافُونَ لِمَا أَثْبَتَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم جُحُودًا وَتَعْطِيلًا وَيَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا مُوجَبُ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ الْقَاضِي عَلَى السَّمْعِ. و " قَوْمٌ " لَا يَزِيدُونَ عَلَى تِلَاوَةِ النُّصُوصِ لَا يَفْقَهُونَ مَعْنَاهَا وَيَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا مُوجَبُ السَّمْعِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنْ عِبَادِهِ فَهْمَ هَذِهِ النُّصُوصِ فَهُمْ {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ} أَيْ تِلَاوَةً {وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ} . ثُمَّ يُصَنِّفُ أَقْوَامٌ عُلُومًا يَقُولُونَ: إنَّهَا دِينِيَّةٌ وَأَنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ عَلَيْهَا وَالْعَقْلَ وَهِيَ دِينُ اللَّهِ؛ مَعَ مُخَالَفَتِهَا لِكِتَابِ اللَّهِ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. فَتَدَبَّرْ كَيْفَ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ أُولَئِكَ: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} حَالُ مَنْ يَكْتُمُ النُّصُوصَ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا مُنَازِعُهُ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ أَمْكَنَهُمْ كِتْمَانُ الْقُرْآنِ لَكَتَمُوهُ لَكِنَّهُمْ يَكْتُمُونَ مِنْهُ وُجُوهَ دَلَالَتِهِ مِنْ الْعُلُومِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهُ وَيُعَوِّضُونَ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَكْتُبُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ وَيُضِيفُونَهُ إلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.

ص: 71

وَسُئِلَ:

عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ.

فَأَجَابَ:

أَمَّا قَوْلُهُ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} فَفِيهَا قِرَاءَتَانِ أَشْهَرُهُمَا: (أَوْ نُنْسِهَا) أَيْ نُنْسِيكُمْ إيَّاهَا: أَيْ نَسَخْنَا مَا أَنْزَلْنَاهُ أَوْ اخْتَرْنَا تَنْزِيلَ مَا نُرِيدُ أَنْ نُنَزِّلُهُ نَأْتِكُمْ بِخَيْرِ مِنْهُ أَوْ مَثَلِهِ وَالثَّانِيَةُ: (أَوْ نَنْسَأْهَا) بِالْهَمْزِ أَيْ نُؤَخِّرُهَا وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ نَنْسَاهَا فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مَعْنَى نَنْسَأَهَا بِمَعْنَى نَنْسَاهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالتَّفْسِيرِ قَالَ مُوسَى عليه السلام {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} و " النِّسْيَانُ " مُضَافٌ إلَى الْعَبْدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} {إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} وَلِهَذَا قَرَأَهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ: (أَوْ تَنْسَاهَا) أَيْ تَنْسَاهَا يَا مُحَمَّدُ وَهَذَا وَاضِحٌ لَا يَخْفَى إلَّا عَلَى جَاهِلٍ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ نَنْسَأَهَا بِالْهَمْزِ وَبَيْنَ نَنْسَاهَا بِلَا هَمْزٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 72

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

فِي قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الْآيَةَ وَفِيهَا قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِصَاصَ هُوَ الْقَوَدُ وَهُوَ أَخْذُ الدِّيَةِ بَدَلُ الْقَتْلِ كَمَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ الدِّيَةُ فَجَعَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الدِّيَةَ فَقَالَ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} وَالْعَفُوُّ هُوَ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} مِمَّا كَانَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُقْتَلَ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى. قَالَ قتادة: إنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ فِيهِمْ بَغْيٌ وَكَانَ الْحَيُّ إذَا كَانَ فِيهِمْ عَدَدٌ وَعُدَّةٌ فَقَتَلَ عَبْدُهُمْ عَبْدَ قَوْمٍ آخَرِينَ قَالُوا: لَنْ يُقْتَلَ بِهِ إلَّا حُرٌّ تَعَزُّزًا عَلَى غَيْرِهِمْ وَإِنْ قَتَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ امْرَأَةً مِنْ آخَرِينَ قَالُوا لَنْ يُقْتَلَ بِهَا إلَّا رَجُلًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ.

ص: 73

وَيَحْتَجُّ بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ لِقَوْلِهِ: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} فَيَنْقُض ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ لَمْ يَذْكُرُوا إلَّا هَذَا الْقَوْلَ. " الْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْقَتْلَى يَكُونُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْن قِتَالَ عَصَبِيَّةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ فَيُقْتَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ أَحْرَارٌ وَعَبِيدٌ وَنِسَاءٌ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَدْلِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ بِأَنْ يُقَاصَّ دِيَةُ حُرٍّ بِدِيَةِ حُرٍّ وَدِيَةُ امْرَأَةٍ بِدِيَةِ امْرَأَةٍ وَعَبْدٍ بِعَبْدِ فَإِنْ فَضَلَ لِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ شَيْءٌ بَعْدَ الْمُقَاصَّةِ فَلْتُتْبَعْ الْأُخْرَى بِمَعْرُوفِ وَلْتُؤَدِّ الْأُخْرَى إلَيْهَا بِإِحْسَانِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ وَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري وَغَيْرُهُ وعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّهُ إذَا جَعَلَ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَزِمَتْهُ إشْكَالَاتٌ؛ لَكِنَّ الْمَعْنَى الثَّانِي هُوَ مَدْلُولُ الْآيَةِ وَمُقْتَضَاهُ وَلَا إشْكَالَ عَلَيْهِ؛ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُسْتَفَادُ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَظْهَرُ مِنْ وُجُوهٍ.

أَحَدُهَا أَنَّهُ قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} و " الْقِصَاصُ " مَصْدَرُ قَاصَّهُ يُقَاصُّهُ مُقَاصَّةً وَقِصَاصًا وَمِنْهُ مُقَاصَّةُ الدَّيْنَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالْآخِرِ وَالْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْجَمِيعُ قَتْلَى كَمَا ذَكَرَ الشَّعْبِيُّ فَيُقَاصُّ هَؤُلَاءِ الْقَتْلَى بِهَؤُلَاءِ الْقَتْلَى أَمَّا إذَا قَتَلَ

ص: 74

رَجُلٌ رَجُلًا فَالْمَقْتُولُ مَيِّتٌ فَهُنَا الْمَقْتُولُ لَا مُقَاصَّةَ فِيهِ وَلَكِنَّ الْقِصَاصَ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ قَتْلِ الْقَاتِلِ لَا غَيْرِهِ وَفِي اعْتِبَارِ الْمُكَافَآتِ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ قِيلَ: تُعْتَبَرُ الْمُكَافَآتُ فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِذِمِّيِّ وَلَا حُرٌّ بِعَبْدِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَقِيل لَا تُعْتَبَرُ الْمُكَافَآتُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُكَافَآتُ لَا تُسَمَّى قِصَاصًا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وَإِنْ أُرِيدَ بِالْقِصَاصِ الْمُكَافَآتُ فَتِلْكَ لَمْ تُكْتَبْ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ فَذَلِكَ مُبَاحٌ لِلْوَلِيِّ إنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْتَصَّ فَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ الِاقْتِصَاصُ وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَى الْقَاتِلِ أَنْ يُمَكِّنَ مِنْ نَفْسِهِ فَيُقَالُ لَهُ: هُوَ تَعَالَى قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَلَيْسَ هَذَا خِطَابًا لِلْقَاتِلِ وَحْدَهُ بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} ثُمَّ لَا يُقَالُ لِلْقَاتِلِ: كُتِبَ عَلَيْك الْقِصَاصُ فِي الْمَقْتُولِ فَإِنَّ الْمَقْتُولَ لَا قِصَاصَ فِيهِ. و " أَيْضًا " فَنَفْسُ انْقِيَادِ الْقَاتِلِ لِلْوَلِيِّ لَيْسَ هُوَ قِصَاصًا؛ بَلْ الْوَلِيُّ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ وَلَهُ أَنْ لَا يَقْتَصَّ وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا قَوْدًا لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَقُودُهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَسْلِيمِ السِّلْعَةِ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} فَكَيْفَ يُقَالُ مِثْلُ هَذَا قَصَدَهُ الْقَاتِلُ؛ بَلْ هَذَا خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ

ص: 75

بِالْمُقَاصَّةِ وَالْمُعَادَلَةِ فِي الْقَتْلِ. {وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ لَمَّا كَسَرَتْ الربيع سِنَّ جَارِيَةٍ وَامْتَنَعُوا مِنْ أَخْذِ الْأَرْشِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: لَا وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الربيع فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ الْقَوْمُ بِالْأَرْشِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} يَعْنِي " كِتَابُ اللَّهِ " أَنْ يُؤْخَذَ الْعُضْوُ بِنَظِيرِهِ فَهَذَا قِصَاصٌ لِأَنَّهُ مُسَاوَاةٌ وَلِهَذَا كَانَتْ الْمُكَافَآتُ فِي الْأَعْضَاءِ وَالْجُرُوحِ مُعْتَبَرَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ قِيلَ الْقِصَاصُ هُوَ أَنْ يُقْتَلَ قَاتِلُهُ لَا غَيْرُهُ فَهُوَ خِلَافُ الِاعْتِدَاءِ قِيلَ: نَعَمْ وَهَذَا قِصَاصٌ فِي الْأَحْيَاءِ لَا فِي الْقَتْلَى. (الثَّانِي أَنَّهُ قَالَ: {فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} وَمَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ الْعَبْدَ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ وَبِالْحُرِّ وَالْأُنْثَى تُقْتَلُ بِالْأُنْثَى وَبِالذَّكَرِ وَالْحَرُّ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ وَبِالْأُنْثَى أَيْضًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ تُؤَدَّى تَمَامُ دِيَتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مُقَاصَّةِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ وَمُعَادَلَتِهِ بِهِ وَمُقَابَلَتِهِ بِهِ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانُوا مَقْتُولِينَ فَيُقَابِلُ كُلَّ وَاحِدٍ بِالْآخَرِ وَيَنْظُرُ أَيَتَعَادَلَانِ أَمْ يُفَضَّلُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَضْلٌ أَمَّا فِي الْقَتْلَى فَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. (الثَّالِثُ أَنَّهُ قَالَ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} لَفْظُ (عُفِيَ)

ص: 76

هُنَا قَدْ اُسْتُعْمِلَ مُتَعَدِّيًا؛ فَإِنَّهُ قَالَ: (عُفِيَ)(شَيْءٌ) وَلَمْ يَقُلْ: (عَفَا)(شَيْئًا) وَهَذَا إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْفِعْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} وَأَمَّا الْعَفْوُ عَنْ الْقَتْلِ فَذَاكَ يُقَالُ فِيهِ عَفَوْت عَنْ الْقَاتِلِ فَوَلِيُّ الْمَقْتُولِ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ: بَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْقَتْلِ وَيَأْخُذَ الدِّيَةَ فَلَمْ يُعْفَ لَهُ شَيْءٌ؛ بَلْ هُوَ عَفَا عَنْ الْقَتْلِ وَإِذَا عَفَا فَإِمَّا أَنْ يَسْتَحِقَّ الدِّيَةَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: {مِنْ أَخِيهِ} أَيْ مِنْ دَمِ أَخِيهِ أَيْ تَرَكَ لَهُ الْقَتْلَ وَرَضِيَ بِالدِّيَةِ؛ وَالْمُرَادُ الْقَاتِلُ يَعْنِي أَنَّ الْقَاتِلَ عُفِيَ لَهُ مِنْ دَمِ أَخِيهِ الْمَقْتُولِ أَيْ تَرَكَ لَهُ الْقَتْلَ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَنَّ الْوَلِيَّ عَفَا لِلْقَاتِلِ مِنْ دَمِ الْمَقْتُولِ شَيْئًا وَهَذَا كَلَامٌ لَا يُعْرَفُ لَا يُقَالُ: عَفَوْت لَك شَيْئًا وَلَا يُقَالُ: عَفَوْت مِنْ دَمِ الْقَاتِلِ وَإِنَّمَا الَّذِي يُقَالُ: إنَّهُ عَفَا عَنْ الْقَاتِلِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْمُتَقَاصَّانِ إذَا تَعَادَّا الْقَتْلَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ أَيْ فَضَلَ لَهُ مِنْ مُقَاصَّةِ أَخِيهِ مُقَاصَّةٌ أُخْرَى أَيْ هَذَا الَّذِي فَضَلَ لَهُ فَضْلٌ كَمَا يُقَالُ: أَبَقِيَ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَخِيهِ بَقِيَّةٌ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} فَهَذَا الْمُسْتَحِقّ لِلْفَضْلِ يَتَّبِعُ الْمُقَاصَّ الْآخَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى هَذَا بِإِحْسَانِ {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} أَيْ مِنْ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُؤَدِّي قَتْلَى الْأُخْرَى فَإِنَّ فِي هَذَا تَثْقِيلًا عَظِيمًا لَهُ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فَإِنَّهُمْ

ص: 77

إذَا تَعَادُّوا الْقَتْلَى وَتَقَاصُّوا وَتَعَادَلُوا لَمْ يَبْقَ وَاحِدَةٌ تَطْلُبُ الْأُخْرَى بِشَيْءِ فَحَيِيَ هَؤُلَاءِ وَحَيِيَ هَؤُلَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَتَقَاصُّوا فَإِنَّهُمْ يَتَقَاتَلُونَ وَتَقُومُ بَيْنَهُمْ الْفِتَنُ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا خَلَائِقُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي فِتَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ إنَّمَا تَقَعُ الْفِتَنُ لِعَدَمِ الْمُعَادَلَةِ وَالتَّنَاصُفِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَإِلَّا فَمَعَ التَّعَادُلِ وَالتَّنَاصُفِ الَّذِي يَرْضَى بِهِ أُولُو الْأَلْبَابِ لَا تَبْقَى فِتْنَةٌ. وَقَوْلُهُ: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} فَطَلَب مِنْ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى مَالًا أَوْ قَوْمًا أَوْ آذَاهُمْ بِسَبَبِ مَا بَيْنَهُمْ مِنْ الدَّمِ {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} و " الْأُخُوَّةُ " هُنَا كَالْأُخُوَّةِ هُنَاكَ وَهَذَا فِي قَتْلَى الْفِتَنِ. وَأَمَّا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ فَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ الْقَاتِلَ يُقْتَلُ لَكِنْ كَانَتْ الطَّائِفَةُ الْقَوِيَّةُ تَطْلُبُ أَنْ تَقْتُلَ غَيْرَ الْقَاتِلِ أَوْ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ الْقَاتِلِ أَوْ اثْنَيْنِ بِوَاحِدِ وَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْهَا لَمْ تَقْتُلْ بِهِ مَنْ هُوَ دُونَهُ كَمَا قِيلَ: إنَّهُ كَانَ بَيْنَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لَكِنَّ هَذَا لَمْ تَثُرْ بِهِ الْفِتَنُ بَلْ فِيهِ ظُلْمُ الطَّائِفَةِ الْقَوِيَّةِ لِلضَّعِيفَةِ وَلَمْ

ص: 78

يَكُنْ فِي الْأُمَمِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقَاتِلَ الظَّالِمَ الْمُتَعَدِّي مُطْلَقًا لَا يُقْتَلُ فَهَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ؛ بَلْ كُلُّ بَنِي آدَمَ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ فِي الْجُمْلَةِ يُقْتَلُ لَكِنَّ الظَّلَمَةَ الْأَقْوِيَاءَ يُفَرِّقُونَ بَيْن قَتِيلٍ وَقَتِيلٍ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا عَرَفَ أَنَّهُ يُقْتَلُ كَفَّ فَكَانَ فِي ذَلِكَ حَيَاةٌ لَهُ وَلِلْمَقْتُولِ يُقَالُ لَهُ: هَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ؛ وَلَكِنَّ هَذَا مِمَّا يَعْرِفُهُ جَمِيعُ النَّاسِ وَهُوَ مَغْرُوزٌ فِي جِبِلَّتِهِمْ وَلَيْسَ فِي الْآدَمِيِّينَ مَنْ يُبِيحُ قَتْلَ أَحَدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْتَلَ قَاتِلُهُ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مَعَ التَّسَاوِي يُجَوِّزُونَ قَتْلَ الْقَاتِلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ النَّاسَ. . . (1) إذَا كَانَ كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَى غَيْرِهِ قَتَلَهُ وَهُوَ لَا يُقْتَلُ يَرْضَى بِمَالِ وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ أَوَائِلِ مَا يَعْرِفُهُ الْآدَمِيُّونَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَعِيشُونَ بِدُونِهِ صَارَ هَذَا مِثْلُ حَاجَتِهِمْ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالسُّكْنَى فَالْقُرْآنُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ التَّعْرِيفَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْبَدِيهِيَّةِ؛ بَلْ هَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَتَبَ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصَ فِي الْمَقْتُولِينَ أَنَّهُ يَسْقُطُ حُرٌّ بِحُرِّ وَعَبْدٌ بِعَبْدِ وَأُنْثَى بِأُنْثَى فَجَعَلَ دِيَةَ هَذَا كَدِيَةِ هَذَا وَدَمَ هَذَا كَدَمِ هَذَا مُتَضَمِّنٌ لِمُسَاوَاتِهِمْ فِي الدِّمَاءِ وَالدِّيَاتِ وَكَانَ بِهَذِهِ الْمُقَاصَّةِ لَهُمْ حَيَاةٌ مِنْ الْفِتَنِ الَّتِي تُوجِبُ هَلَاكَهُمْ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَعُلِمَ أَنَّ دَمَ الْحُرِّ وَدِيَتَهُ كَدَمِ الْحُرِّ وَدِيَتِهِ فَيُقْتَلُ بِهِ وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ التَّقَاصَّ يَقَعُ لِلتَّسَاوِي فِي الدِّيَاتِ عَلِمَ أَنَّ لِلْمَقْتُولِ دِيَةً.

(1)

بياض بالأصل

ص: 79

وَلَفْظُ الْقِصَاصِ يَدُلُّ عَلَى الْمُعَادَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الْعَدْلَ وَالْإِنْصَافَ فِي أَمْرِ الْقَتْلَى فَمَنْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ وَالْمَقْتُولُ وَأَوْلِيَاؤُهُ إذَا امْتَنَعُوا مِنْ إنْصَافِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَهُمْ ظَالِمُونَ هَؤُلَاءِ خَارِجُونَ عَمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْعَدْلِ وَهَؤُلَاءِ خَارِجُونَ عَمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْعَدْلِ. وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} وَإِذَا دَلَّتْ عَلَى الْعَدْلِ فِي الْقَوَدِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ وَالتَّنْبِيهِ ذَهَبَ الْإِشْكَالُ وَلَمْ يَقُلْ: فَلِمَ لَا قَالَ: وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْحُرِّ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ يُقَاصُّ بِهِ فِي الْقَتْلَى وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا يُقَاصُّ الْحُرِّ بِالْحُرِّ لَا بِالْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ بِالْمَرْأَةِ لَا بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ. فَظَهَرَتْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بِهِ وَالْمُقَابَلَةِ فِي الْآيَةِ. وَدَلَّتْ الْآيَةُ حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدَ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى؛ إذَا كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الدَّمِ وَبَدَلُهُ هُوَ الدِّيَة وَلَمْ يَنْتَفِ أَنْ يُقْتَلَ عَبْدٌ بِحُرِّ وَأُنْثَى بِذَكَرِ وَلَا لَهَا مَفْهُومٌ يَنْفِي ذَلِكَ؛ بَلْ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَالْفَحْوَى وَالْأَوْلَى كَذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ إذَا قُتِلَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ فَقَتْلُهُ بِالْحُرِّ أَوْلَى وَإِذَا قُتِلَتْ الْمَرْأَةُ بِالْمَرْأَةِ فَقَتْلُهَا بِالرَّجُلِ أَوْلَى.

ص: 80

وَأَمَّا قَتْلُ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ بِالْأُنْثَى فَالْآيَةُ لَمْ تَتَعَرَّضْ لَهُ لَا بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ وَلَا لَهَا مَفْهُومٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ وَلَا مُخَالَفَةٍ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْمُقَاصَّةِ يُقَاسُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى لِتَسَاوِي الدِّيَاتِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى قَتْلِ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ وَالْأَدْنَى بِالْأَعْلَى. يَبْقَى قَتْلُ الْأَعْلَى الْكَثِيرِ الدِّيَةِ بِالْأَدْنَى الْقَلِيلِ الدِّيَةِ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعَرُّضٌ لَهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا ابْتِدَاءَ الْقَوَدِ وَإِنَّمَا قَصَدَ الْمُقَاصَّةَ فِي الْقَتْلَى لِتَسَاوِي دِيَاتِهِمْ.

فَ‌

‌إِنْ قِيلَ: دِيَةُ الْحُرِّ كَدِيَةِ الْحُرِّ وَدِيَةُ الْأُنْثَى كَدِيَةِ الْأُنْثَى وَيَبْقَى الْعَبِيدُ قِيمَتُهُمْ مُتَفَاضِلَةٌ؟

.

قِيلَ: عَبِيدُهُمْ كَانُوا مُتَقَارِبِينَ الْقِيمَةَ وَقَوْلُهُ: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} قَدْ يُرَادُ بِهِ بِالْعَبْدِ الْمُمَاثِلِ بِهِ كَمَا يُقَالُ: ثَوْبٌ بِثَوْبِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَغْلَى قِيمَةٍ فَذَاكَ مِمَّا عُفِيَ لَهُ وَقَدْ يُعْفَى إذَا لَمْ تُعْرَفْ قِيمَتُهُمْ وَهُوَ الْغَالِبُ فَإِنَّ الْمَقْتُولِينَ فِي الْفِتَنِ عَبِيدُهُمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ وَهُمْ يَكُونُونَ تَرْبِيَتُهُمْ عِنْدَهُمْ لَمْ يَشْتَرُوهُمْ فَهَذَا يَكُونُ مَعَ الْعِلْمِ بِتَسَاوِي الْقِيمَةِ وَمَعَ الْجَهْلِ بِتَفَاضُلِهَا؛ فَإِنَّ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ وَلَوْ أَتْلَفَ كُلٌّ مِنْ الرَّجُلَيْنِ ثَوْبَ الْآخَرِ وَلَا يَعْلَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا قِيمَةَ وَاحِدٍ مِنْ الثَّوْبَيْنِ قِيلَ ثَوْبٌ بِثَوْبِ وَهَذَا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مُحْتَمَلَةٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُ هَذَا أَغْلَى

ص: 81

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُ هَذَا أَغْلَى وَلَيْسَ تَرْجِيحَ أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزِّيَادَةِ فَلَا تَشْتَغِلُ الذِّمَّةُ بِأَمْرِ مَشْكُوكٍ فِيهِ لَوْ كَانَ الشَّكُّ فِي أَحَدِهِمَا فَكَيْفَ إذَا كَانَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ؟ . فَظَهَرَ حِكْمَةُ قَوْلِهِ: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى مَا يَحْتَاجُ الْخَلْقُ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَيُحْقَنُ بِهِ دِمَاؤُهُمْ وَيَحْيَوْنَ بِهِ وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْآخَرُونَ مِنْ الْعَدْلِ فِي الْقَوَدِ. وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَى يُؤْخَذُ لَهُمْ دِيَاتٌ فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ وَأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الْمَقْتُولِينَ وَهَذَا مِمَّا مَنَّ اللَّه بِهِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ أَثْبَتَ الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ. وَأَمَّا كَوْنِ الْعَفْوِ هُوَ قَبُولُ الدِّيَةِ فِي الْعَمْدِ وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا الْعَافِي بِمُجَرَّدِ عَفْوِهِ فَالْآيَةُ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِهَذَا. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الطَّوَائِفَ الْمُمْتَنِعَةَ تُضَمِّنُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا أَتْلَفَتْهُ الْأُخْرَى مِنْ دَمٍ وَمَالٍ بِطَرِيقِ الظُّلْمِ لِقَوْلِهِ: {مِنْ أَخِيهِ} بِخِلَافِ مَا أَتْلَفَهُ الْمُسْلِمُونَ لِلْكُفَّارِ وَالْكُفَّارُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا الْقِتَالُ بِتَأْوِيلِ " كَقِتَالِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين " فَلَا ضَمَانَ فِيهِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْكُفَّارُ الْمُتَأَوِّلُونَ

ص: 82

لَا يَضْمَنُونَ فَالْمُسْلِمُونَ الْمُتَأَوِّلُونَ أَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنُوا. وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ عَلَى مَجْمُوعِ الطَّائِفَةِ يَسْتَوِي فِيهِ الرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ لَا يُقَالُ: اُنْظُرُوا مَنْ قَتَلَ صَاحِبَكُمْ هَذَا فَطَالِبُوهُ بِدِيَتِهِ بَلْ يُقَالُ: دِيَتُهُ عَلَيْكُمْ كُلِّكُمْ فَإِنَّكُمْ جَمِيعًا قَتَلْتُمُوهُ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ إنَّمَا تَمَكَّنَ بِمُعَاوَنَةِ الرَّدْءِ لَهُ وَعَلَى هَذَا دَلَّ قَوْلُهُ: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} فَإِنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ كَانَ عَلَيْهِمْ مِثْلُ صَدَاقِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الَّتِي ذَهَبَتْ إلَيْهِمْ فَإِذَا لَمْ يُؤَدُّوهُ أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي يَقْدِرُ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا مِثْلُ امْرَأَةٍ جَاءَتْ مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّونَ صَدَاقَهَا فَيُعْطِي الْمُسْلِمُ زَوْجَ تِلْكَ الْمُرْتَدَّةِ صَدَاقَهَا مِنْ صَدَاقِ هَذِهِ الْمُسْلِمَةِ الْمُهَاجِرَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهُ الْكُفَّارُ لِكَوْنِهَا أَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ وَفَوَّتَتْ زَوْجَهَا بُضْعَهَا كَمَا فَوَّتَتْ الْمُرْتَدَّةُ بُضْعَهَا لِزَوْجِهَا وَإِنْ كَانَ زَوْجُ الْمُهَاجِرَةِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي تَزَوَّجَ بِالْمُرْتَدَّةِ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ لَمَّا كَانَتْ مُمْتَنِعَةً يَمْنَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا صَارَتْ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ. وَلِهَذَا لَمَّا قَتَلَ خَالِدٌ مَنْ قَتَلَ مِنْ بَنِي جذيمة وَدَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ؛ لِأَنَّ خَالِدًا نَائِبُهُ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُمْ مِنْ مُطَالَبَتِهِ وَحَبْسِهِ لِأَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ وَكَذَلِكَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ وَعَاقِلَتُهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ لِأَنَّهُ قَتَلَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْجِهَادِ لَا لِعَدَاوَةِ تَخُصُّهُ وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي خَطَأِ وَلِيِّ الْأَمْرِ هَلْ هُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ أَوْ عَلَى ذِمَّتِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.

ص: 83

وَلِهَذَا كَانَ مَا غَنِمَتْهُ السَّرِيَّةُ يُشَارِكُهَا فِيهِ الْجَيْشُ وَمَا غَنِمَهُ الْجَيْشُ شَارَكَتْهُ فِيهِ السَّرِيَّةُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَغْنَمُ بَعْضُهُمْ بِظَهْرِ بَعْضِ فَإِذَا اشْتَرَكُوا فِي الْمَغْرَمِ اشْتَرَكُوا فِي الْمَغْنَمِ وَكَذَلِكَ فِي الْعُقُوبَةِ يُقْتَلُ الرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ مِنْ الْمُحَارِبِينَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ كَمَا قَتَلَ عُمَرُ رضي الله عنه رَبِيئَةَ الْمُحَارِبِينَ وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْقَتْلِ قَوَدًا وَفِي السُّرَّاقِ أَيْضًا. وَبَيَانُ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْتُولِينَ إذَا حُبِسَ حُرٌّ بِحُرِّ وَعَبْدٌ بِعَبْدِ وَأُنْثَى بِأُنْثَى فَالْحُرُّ مِنْ هَؤُلَاءِ لَيْسَ قَاتِلُهُ هُوَ وَلِيُّ الْحُرِّ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ غَيْرُهُ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ مِنْ هَؤُلَاءِ لَيْسَ قَاتِلُهُ هُوَ سَيِّدُ الْعَبْدِ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ غَيْرُهُ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانُوا مُجْتَمِعِينَ مُتَنَاصِرِينَ عَلَى قِتَالِ أُولَئِكَ وَمُحَارَبَتِهِمْ كَانَ مَنْ قَتَلَهُ بَعْضُهُمْ فَكُلُّهُمْ قَتَلَهُ وَكُلُّهُمْ يَضْمَنُونَهُ؛ وَلِهَذَا مَا فَضَلَ لِأَحَدِ الطَّائِفَتَيْنِ يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْأُخْرَى. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ مُسْتَقِرًّا فِي فِطْرِ بَنِي آدَمَ أَنَّ الْقَاتِلَ الظَّالِمَ لِنَظِيرِهِ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقْتَلُ وَلَيْسَ فِي الْآدَمِيِّينَ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا يُقْتَلُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} - أَيْ فِي التَّوْرَاةِ - {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} الْآيَةَ. إذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا الشَّرْعِ يَعْرِفُهُ الْعُقَلَاءُ كُلُّهُمْ؟ . قِيلَ لَهُمْ: فَائِدَتُهُ بَيَانُ تَسَاوِي دِمَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَأَنَّ دِمَاءَهُمْ

ص: 84

مُتَكَافِئَةٌ لَيْسَ لِشَرِيفِهِمْ مَزِيَّةٌ عَلَى ضَعِيفِهِمْ وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ الْجَلِيلَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَّا الطَّوَائِفُ الْخَارِجُونَ عَنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يَحْكُمُونَ بِذَلِكَ مُطْلَقًا؛ بَلْ قَدْ لَا يَقْتُلُونَ الشَّرِيفَ وَإِذَا كَانَ الْمَلِكُ عَادِلًا فَقَدْ يَفْعَلُ بَعْضَ ذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ تَكَافُؤِ دِمَائِهِمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ فَحَكَمَ أَيْضًا فِي الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ بِتَكَافُؤِ دِمَائِهِمْ فَالْمُسْلِمُ الْحُرُّ يُقْتَلُ بِالْمُسْلِمِ الْحُرِّ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِ مَنْ احْتَجَّ بِآيَةِ التَّوْرَاةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلَ بِالذِّمِّيِّ لِقَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} و " شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا " فَإِنَّهُ يُقَالُ: الَّذِي كُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنَّ النَّفْسَ مِنْهُمْ بِالنَّفْسِ مِنْهُمْ وَهُمْ كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ كَافِرٌ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرِيعَتِهِمْ إبْقَاءُ كَافِرٍ بَيْنَهُمْ لَا بِجِزْيَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَهَذَا مِثْلُ شَرْعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَتَيْنِ أَنَّ دَمَ الْكَافِرِ يُكَافِئُ دَمَ الْمُسْلِمِ؛ بَلْ جَعْلُ الْإِيمَانِ هُوَ الْوَاجِبُ لِلْمُكَافَآتِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي الْكَافِرِ - سَوَاءٌ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا - لِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ لِلْمُكَافَأَةِ فِيهِ؛ نَعَمْ يُحْتَجُّ بِعُمُومِهِ عَلَى الْعَبْدِ. وَلَيْسَ فِي الْعَبْدِ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ صَحِيحَةٌ كَمَا فِي الذِّمِّيِّ؛ بَلْ مَا رُوِيَ {مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ بِهِ} وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ ظَالِمًا كَانَ الْإِمَامُ وَلِيَّ

ص: 85

دَمِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ كَمَا لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ إذَا كَانَ حُرًّا فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ وَلِيَّ دَمِهِ إذَا كَانَ عَبْدًا؛ بَلْ هَذَا أَوْلَى كَيْفَ يَكُونُ وَلِيُّ دَمِهِ وَهُوَ الْقَاتِلُ؟ بَلْ لَا يَكُونُ وَلِيَّ دَمِهِ؛ بَلْ وَرَثَةُ الْقَاتِلِ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُمْ وَرَثَتُهُ وَهُوَ بِالْحَيَاةِ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ وِلَايَةٌ حَتَّى تَنْتَقِلَ إلَيْهِمْ فَيَكُونُ وَلَيَّهُ الْإِمَام. وَحِينَئِذٍ فَلِلْإِمَامِ قَتْلُهُ فَكُلُّ مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ. وَ " أَيْضًا " فَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ أَنَّهُ إذَا مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَقَتْلُهُ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْمَثْلِ فَلَا يَمُوتُ إلَّا حُرًّا؛ لَكِنَّ حُرِّيَّتَهُ لَمْ تَثْبُتْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ حَتَّى يَرِثَهُ عَصَبَتُهُ؛ بَلْ حُرِّيَّتُهُ ثَبَتَتْ حُكْمًا وَهُوَ إذَا كَانَ عَتَقَ كَانَ وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْإِمَامُ هُوَ وَلِيُّهُ فَلَهُ قَتْلُ قَاتِلٍ عَبْدِهِ. وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذَا مَنْ يَقُولُ: إنَّ قَاتِلَ عَبْدَ غَيْرِهِ لِسَيِّدِهِ قَتْلُهُ وَإِذَا دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرَّاجِحُ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَيْسَ مَعَهُ نَصٌّ صَرِيحٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ: مَنْ قُتِلَ وَلَا وَلِيَّ لَهُ كَانَ الْإِمَامُ وَلِيَّ دَمِهِ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَلَى الدِّيَةِ؛ لَا مَجَّانًا. يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ مَنْ قَالَ: لَا يَقْتُلُ حُرٌّ بِعَبْدِ يَقُولُ: إنَّهُ لَا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ

ص: 86

مِنْ مُشْرِكٍ} فَالْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ خَيْرٌ مِنْ الذِّمِّيِّ الْمُشْرِكِ فَكَيْفَ لَا يُقْتَلُ بِهِ وَالْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ مِثْلُ الْحَرَائِرِ الْمُؤْمِنَاتِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهَذَا قَوِيٌّ عَلَى قَوْلِ أَحْمَد؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ كَالْحُرِّ؛ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ فَلِمَاذَا لَا يَقْتُلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَكُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَقَدْ {قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ} .

ص: 87

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} مِنْ بَابِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ وَالسُّؤَالُ إنَّمَا وَقَعَ عَنْ الْقِتَالِ فِيهِ فَلِمَ قُدِّمَ الشَّهْرُ وَقَدْ قُلْتُمْ: إنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ مَا بَيَانُهُ أَهَمُّ وَهُمْ بِهِ أَعْنَى؟ . قِيلَ: السُّؤَالُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ وَتَشْنِيعِ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ انْتِهَاكَهُ وَانْتِهَاكَ حُرْمَتِهِ وَكَانَ اهْتِمَامُهُمْ بِالشَّهْرِ فَوْقَ اهْتِمَامِهِمْ بِالْقِتَالِ فَالسُّؤَالُ إنَّمَا وَقَعَ مِنْ أَجْلِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ فَلِذَلِكَ قُدِّمَ فِي الذِّكْرِ وَكَانَ تَقْدِيمُهُ مُطَابِقًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقَاعِدَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إعَادَةِ ذِكْرِ الْقِتَالِ بِلَفْظِ الظَّاهِرِ وَهَلَّا اكْتَفَى بِضَمِيرِهِ فَقَالَ: هُوَ كَبِيرٌ؟ وَأَنْتَ إذَا قُلْت: سَأَلَتْهُ عَنْ زَيْد هُوَ فِي الدَّارِ كَانَ أَوْجَزَ مِنْ أَنْ تَقُولَ أَزَيْدٌ فِي الدَّارِ؟ . قِيلَ: فِي إعَادَتِهِ بِلَفْظِ الظَّاهِرِ بَلَاغَةٌ بَدِيعَةٌ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ الْخَبَرِيِّ بِاسْمِ الْقِتَال فِيهِ عُمُومًا وَلَوْ أَتَى بِالْمُضْمَرِ فَقَالَ: هُوَ كَبِيرٌ لَتَوَهَّمَ اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْقِتَالِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛

ص: 88

وَإِنَّمَا هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ قِتَالٍ وَقَعَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْفَائِدَةِ {قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ -: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ} فَأَعَادَ لَفَظَ الْمَاءِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِهِ: " نَعَمْ تَوَضَّئُوا بِهِ " لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِالسَّائِلِينَ لِضَرْبِ مِنْ ضُرُوبِ الِاخْتِصَاصِ فَعَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ: " نَعَمْ تَوَضَّئُوا " إلَى جَوَابٍ عَامٍّ يَقْتَضِي تَعْلِيقَ الْحُكْمِ وَالطَّهُورِيَةِ بِنَفْسِ مَائِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَأَفَادَ اسْتِمْرَارَ الْحُكْمِ عَلَى الدَّوَامِ وَتَعَلُّقَهُ بِعُمُومِ الْأُمَّةِ وَبَطَلَ تَوَهُّمُ قَصْرِهِ عَلَى السَّبَبِ فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ بَدِيعٌ. فَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ لَمَّا قَالَ: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} فَجَعَلَ الْخَبَرَ بـ (كَبِيرٌ وَاقِعًا عَنْ {قِتَالٍ فِيهِ} فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ عَلَى الْعُمُومِ؛ وَلَفْظُ " الْمُضْمَرِ " لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} وَلَمْ يَقُلْ أَجْرَهُمْ تَعْلِيقًا لِهَذَا الْحُكْمَ بِالْوَصْفِ وَهُوَ كَوْنُهُمْ مُصْلِحِينَ وَلَيْسَ فِي الضَّمِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ وَهُوَ أَلْطَفُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ

ص: 89

قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ تَعْلِيقًا بِحُكْمِ الِاعْتِزَالِ بِنَفْسِ الْحَيْضِ وَإِنَّهُ هُوَ سَبَبُ الِاعْتِزَالِ وَقَالَ: {قُلْ هُوَ أَذًى} وَلَمْ يَقُلْ: (الْمَحِيضُ أَذًى لِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَرَّرَهُ لَثَقُلَ اللَّفْظُ بِهِ لِتُكَرِّرهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَكَانَ ذِكْرُهُ بِلَفْظِ الظَّاهِرِ فِي الْأَمْرِ بِالِاعْتِزَالِ أَحْسَنَ مِنْ ذِكْرِهِ مُضْمَرًا لِيُفِيدَ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِكَوْنِهِ حَيْضًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ أَذًى} فَإِنَّهُ إخْبَارٌ بِالْوَاقِعِ وَالْمُخَاطَبُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّ جِهَةَ كَوْنِهِ أَذًى هُوَ نَفْسُ كَوْنِهِ حَيْضًا بِخِلَافِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُعْلَمُ بِالشَّرْعِ فَتَأَمَّلْهُ.

ص: 90

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} وَقَدْ أَبَاحَ الْعُلَمَاءُ التَّزْوِيجَ بالنصرانية وَالْيَهُودِيَّةِ؛ فَهَلْ هُمَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ جَائِزٌ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ قَالَ تَعَالَى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ.} وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَرِهَ نِكَاحَ النَّصْرَانِيَّةِ وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ شِرْكًا أَعْظَمَ مِمَّنْ تَقُولُ: إنَّ رَبَّهَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ. وَهُوَ الْيَوْمُ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَقَدْ احْتَجُّوا بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَبِقَوْلِهِ {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} وَالْجَوَابُ عَنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. (أَحَدُهَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْمُشْرِكِينَ فَجَعَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ غَيْرَ الْمُشْرِكِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:

ص: 91

{إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} . فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَصَفَهُمْ بِالشِّرْكِ بِقَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قِيلَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَيْسَ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ شِرْكٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ بِالتَّوْحِيدِ فَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ شِرْكٌ؛ وَلَكِنَّ النَّصَارَى ابْتَدَعُوا الشِّرْكَ كَمَا قَالَ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فَحَيْثُ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا فَلِأَجْلِ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَحَيْثُ مَيَّزَهُمْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ فَلِأَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ اتِّبَاعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الَّتِي جَاءَتْ بِالتَّوْحِيدِ لَا بِالشِّرْكِ. فَإِذَا قِيلَ: أَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُشْرِكِينَ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ الَّذِي أُضِيفُوا إلَيْهِ لَا شِرْكَ فِيهِ كَمَا إذَا قِيلَ: الْمُسْلِمُونَ وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا اتِّحَادٌ وَلَا رَفْضٌ وَلَا تَكْذِيبٌ بِالْقَدَرِ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الدَّاخِلِينَ فِي الْأُمَّةِ قَدْ ابْتَدَعَ هَذِهِ الْبِدَعَ؛ لَكِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَلَا يَزَالُ فِيهَا مَنْ هُوَ مُتْبِعٌ لِشَرِيعَةِ التَّوْحِيدِ؛ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يُخْبِرْ اللَّهُ عز وجل عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِالِاسْمِ؛ بَلْ قَالَ: عَمَّا يُشْرِكُونَ بِالْفِعْلِ وَآيَةُ الْبَقَرَةِ قَالَ فِيهَا:

ص: 92

الْمُشْرِكِينَ والْمُشْرِكَاتِ بِالِاسْمِ وَالِاسْمُ أَوْكَدُ مِنْ الْفِعْلِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: إنْ شَمَلَهُمْ لَفْظُ (الْمُشْرِكِينَ) فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَمَا وَصَفَهُمْ بِالشِّرْكِ فَهَذَا مُتَوَجَّهٌ بِأَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ دَلَالَةِ اللَّفْظِ مُفْرَدًا وَمَقْرُونًا فَإِذَا أُفْرِدُوا دَخَلَ فِيهِمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَإِذَا قُرِنُوا بِأَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَدْخُلُوا فِيهِمْ كَمَا قِيلَ: مِثْلُ هَذَا فِي اسْمِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا يُقَالُ: آيَةُ الْبَقَرَةِ عَامَّةٌ وَتِلْكَ خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ: آيَةُ الْمَائِدَةِ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ الْمَائِدَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْبَقَرَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَائِدَة مِنْ. . . (1)

(1)

آخِرُ مَا وُجِدَ مِنَ الْأَصْلِ

ص: 93

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

فَصْلٌ:

لِمَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يُبْطِلُ الصَّدَقَةَ مِنْ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَمِنْ الرِّيَاءِ وَمَثَّلَهُ بِالتُّرَابِ عَلَى الصَّفْوَانِ إذَا أَصَابَهُ الْمَطَرُ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِأَحَدِهِمَا لَا يَنْفَعُ هُنَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي النِّسَاءِ: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} إلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} . فَإِنَّهُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ فَذَكَرَ غَايَتَهُ وَذَكَرَ مَا يُقَابِلُهُ وَهُمْ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. فَالْأَوَّلُ الْإِخْلَاصُ. و " التَّثْبِيتُ " هُوَ التَّثَبُّتُ كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} كَقَوْلِهِ: {وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا} وَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ بَابِ قَدِّمْ وَتَقَدَّمْ كَقَوْلِهِ: {لَا تُقَدِّمُوا

ص: 94

بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فَتَبَتَّلْ وَتَثَبَّتْ لَازِمٌ بِمَعْنَى ثَبَتَ لِأَنَّ التَّثَبُّتَ هُوَ الْقُوَّةُ وَالْمُكْنَةُ وَضِدَّهُ الزَّلْزَلَةُ وَالرَّجْفَةُ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ جِنْسِ الْقِتَالِ فَالْجَبَانُ يَرْجُفُ وَالشُّجَاعُ يَثْبُتُ وَلِهَذَا {قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْحَرْبِ وَاخْتِيَالُهُ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الصَّدَقَةِ} لِأَنَّهُ مَقَامُ ثَبَاتٍ وَقُوَّةٍ فَالْخُيَلَاءُ تُنَاسِبُهُ وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ الْمُخْتَالُ الْفَخُورُ الْبَخِيلُ الْآمِرُ بِالْبُخْلِ فَأَمَّا الْمُخْتَالُ مَعَ الْعَطَاءِ أَوْ الْقِتَالِ فَيُحِبُّهُ. وَقَوْلُهُ {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أَيْ لَيْسَ الْمُقَوِّي لَهُ مِنْ خَارِجٍ كَاَلَّذِي يَثْبُتُ وَقْتَ الْحَرْبِ لِإِمْسَاكِ أَصْحَابِهِ لَهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} بَلْ تَثَبُّتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ فِي الْعَطَاءِ. إمَّا أَنْ لَا يُعْطِيَ فَهُوَ الْبَخِيلُ الْمَذْمُومُ فِي النِّسَاءِ أَوْ يُعْطِي مَعَ الْكَرَاهَةِ وَالْمَنِّ وَالْأَذَى فَلَا يَكُونُ بِتَثْبِيتِ وَهُوَ الْمَذْمُومُ فِي الْبَقَرَةِ أَوْ مَعَ الرِّيَاءِ فَهُوَ الْمَذْمُومُ فِي السُّورَتَيْنِ فَبَقِيَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ: ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.

ص: 95

وَنَظِيرُهُ " الصَّلَاةُ " إمَّا أَنْ لَا يُصَلِّيَ أَوْ يُصَلِّي رِيَاءً أَوْ كَسْلَانَ أَوْ يُصَلِّي مُخْلِصًا وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ مَذْمُومَةٌ وَكَذَلِكَ " الزَّكَاةُ " وَنَظِيرُ ذَلِكَ " الْهِجْرَة وَالْجِهَادُ " فَإِنَّ النَّاسَ فِيهِمَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ وَكَذَلِكَ {إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} فِي الثَّبَاتِ وَالذِّكْرِ وَكَذَلِكَ: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ.} فِي الصَّبْرِ وَالْمَرْحَمَةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ وَكَذَلِكَ {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} فَهُمْ. . . (1) فِي الصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ فَعَامَّةُ هَذِهِ الْأَشْفَاعِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ: إمَّا عَمَلَانِ وَإِمَّا وَصْفَانِ فِي عَمَلٍ: انْقَسَمَ النَّاسُ فِيهَا قِسْمَةً رُبَاعِيَّةً ثُمَّ إنْ كَانَا عَمَلَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ نَفَعَ أَحَدَهُمَا وَلَوْ تَرَكَ الْآخَرَ وَإِنْ كَانَا شَرْطَيْنِ فِي عَمَلٍ كَالْإِخْلَاصِ وَالتَّثَبُّتِ لَمْ يَنْفَعْ أَحَدُهُمَا فَإِنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى مُحْبِطٌ كَمَا أَنَّ الرِّيَاءَ مُحْبِطٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَمِنْ هَذَا تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى وَالْحَقُّ وَالصَّبْرُ وَأَفْضَلُ الْإِيمَانِ السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ. بِخِلَافِ الْأَشْفَاعِ فِي الذَّمِّ كَالْإِفْكِ وَالْإِثْمِ وَالِاخْتِيَالِ وَالْفَخْرِ وَالشُّحِّ وَالْجُبْنِ وَالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ؛ فَإِنَّ الذَّمَّ يَنَالُ أَحَدَهُمَا مُفْرَدًا

(1)

هُنَا كَلِمَاتٌ غَيْرُ مُتَضِحَةٍ

ص: 96

وَمَقْرُونًا لِأَنَّ الْخَيْرَ مِنْ بَابِ الْمَطْلُوبِ وُجُودُهُ لِمَنْفَعَتِهِ فَقَدْ لَا تَحْصُلُ الْمَنْفَعَةُ إلَّا بِتَمَامِهِ وَالشَّرَّ يُطْلَبُ عَدَمُهُ لِمَضَرَّتِهِ وَبَعْضُ الْمَضَارِّ يَضُرُّ فِي الْجُمْلَةِ غَالِبًا وَلِهَذَا فُرِّقَ فِي الْأَسْمَاءِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ فَإِذَا أَمَرَ بِالشَّيْءِ اقْتَضَى كَمَالِهِ وَإِذَا نَهَى عَنْهُ اقْتَضَى النَّهْيَ عَنْ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَلِهَذَا حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ بِالنِّكَاحِ - كَمَا فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَكَمَا فِي الْإِحْصَانِ - فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَمَالِ بِالْعَقْدِ وَالدُّخُولِ وَحَيْثُ نَهَى عَنْهُ كَمَا فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فَالنَّهْيُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد الْمَنْصُوصُ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَن لَمْ يَبَرَّ إلَّا بِالْعُقْدَةِ وَالدُّخُولِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالْعُقْدَةِ وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا حَنِثَ بِفِعْلِ بَعْضِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنهُ فَإِنَّ دَلَالَةَ الِاسْمِ عَلَى كُلٍّ وَبَعْضٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. وَلِهَذَا لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ كَانَ الْوَاجِبُ الْإِتْمَامَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} وَقَالَ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى.} وَلَمَّا نَهَى عَنْ الْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ كَانَ نَاهِيًا عَنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ؛ بَلْ وَعَنْ مُقَدِّمَاتِهِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ لَا يَتَنَاوَلُهُ فِي الْإِثْبَاتِ وَلِهَذَا فَرَّقَ فِي الْأَسْمَاءِ النَّكِرَاتِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالْأَفْعَالُ كُلُّهَا

ص: 97

نَكِرَاتٌ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَيْنَ التَّكْرَارِ وَغَيْرِهِ {وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ} . وَإِنَّمَا اخْتَلِفْ فِي الْمَعَارِفِ الْمَنْفِيَّةِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَا تَأْخُذْ الدَّرَاهِمَ وَلَا تُكَلِّمْ النَّاسَ.

ص: 98

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ -:

فَصْلٌ:

فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ {أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ وَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنْ الْعَمَلِ مَا نُطِيقُ: الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ؛ وَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيْك هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَك رَبَّنَا وَإِلَيْك الْمَصِيرُ فَلَمَّا قَرَأَهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَثَرِهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ

ص: 99

بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قَالَ: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قَالَ: نَعَمْ. {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قَالَ: نَعَمْ.} وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ وَقَالَ: قَدْ فَعَلْت قَدْ فَعَلْت بَدَلَ نَعَمْ. وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَالْحُسْنِ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ سِيرِين وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقتادة وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ والسدي وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ وَنُقِلَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ فِي الْمُحَاسَبَةِ عَلَى الْعُمُومِ فَيَأْخُذُ مِنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحُسْنِ

ص: 100

وَاخْتَارَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَقَالُوا: هَذَا خَبَرٌ وَالْأَخْبَارُ لَا تُنْسَخُ. و " فَصْلُ الْخِطَابِ ": أَنَّ لَفْظَ " النُّسَخِ " مُجْمَلٌ فَالسَّلَفُ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهُ فِيمَا يُظَنُّ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَيْهِ مِنْ عُمُومٍ أَوْ إطْلَاقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَلَيْسَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَنَاقُضٌ لَكِنْ قَدْ يَفْهَمُ بَعْضَ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ: {حَقَّ تُقَاتِهِ} و {حَقَّ جِهَادِهِ} الْأَمْرَ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُهُ الْعَبْدُ فَيَنْسَخُ مَا فَهِمَهُ هَذَا كَمَا يَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَسْخُ ذَلِكَ نَسْخَ مَا أَنْزَلَهُ بَلْ نَسْخُ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ إمَّا مِنْ الْأَنْفُسِ أَوْ مِنْ الْأَسْمَاعِ أَوْ مِنْ اللِّسَانِ. وَكَذَلِكَ يَنْسَخُ اللَّهُ مَا يَقَعُ فِي النُّفُوسِ مِنْ فَهَمِّ مَعْنًى وَإِنْ كَانَتْ الْآيَةُ لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} الْآيَةَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُ بِمَا فِي النُّفُوسِ لَا عَلَى أَنَّهُ يُعَاقِبُ عَلَى كُلِّ مَا فِي النُّفُوسِ وَقَوْلَهُ: {لِمَنْ يَشَاءُ} يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمْرَ إلَيْهِ فِي الْمَغْفِرَةِ وَالْعَذَابِ لَا إلَى غَيْرِهِ. وَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا عَدْلٍ كَمَا قَدْ يَظُنُّهُ مَنْ يَظُنُّهُ مِنْ

ص: 101

النَّاس حَتَّى يُجَوِّزُوا أَنَّهُ يُعَذِّبُ عَلَى الْأَمْرِ الْيَسِيرِ مِنْ السَّيِّئَاتِ مَعَ كَثْرَةِ الْحَسَنَاتِ وَعِظَمِهَا وَأَنَّ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَهُمَا حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ يَغْفِرُ لِأَحَدِهِمَا مَعَ كَثْرَةِ سَيِّئَاتِهِ وَقِلَّةِ حَسَنَاتِهِ وَيُعَاقِبُ الْآخَر عَلَى السَّيِّئَةِ الْوَاحِدَةِ مَعَ كَثْرَةِ حَسَنَاتِهِ وَيَجْعَلُ دَرَجَةَ ذَاكَ فِي الْجَنَّةِ فَوْقَ دَرَجَةِ الثَّانِي. وَهَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ أَنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ النَّاسَ بِلَا ذَنْبٍ وَأَنْ يُكَلِّفَهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ وَيُعَذِّبَهُمْ عَلَى تَرْكِهِ وَالصَّحَابَةُ إنَّمَا هَرَبُوا وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَقَالُوا: لَا طَاقَةَ لَنَا بِهَذَا؛ فَإِنَّهُ إنْ كَلَّفَنَا مَا لَا نُطِيقُ عَذَّبَنَا فَنَسَخَ اللَّهُ هَذَا الظَّنَّ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَبَيَّنَ بُطْلَانَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ يُكَلِّفُ الْعَبْدَ مَا لَا يُطِيقُهُ وَيُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ؛ بَلْ أَقْوَالُهُمْ تُنَاقِضُ ذَلِكَ حَتَّى إنَّ سُفْيَان بْنَ عُيَيْنَة سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} قَالَ: إلَّا يُسْرَهَا وَلَمْ يُكَلِّفْهَا طَاقَتَهَا. قَالَ البغوي: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ الْوُسْعَ مَا دُونَ الطَّاقَةِ وَإِنَّمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمَّا نَاظَرُوا الْمُعْتَزِلَةَ فِي " مَسَائِلِ الْقَدَرِ " وَسَلَكَ هَؤُلَاءِ مَسْلَكَ الْجَبْرِ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ فَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ وَصَارُوا فِيهِ عَلَى مَرَاتِبَ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أَيْ لَا تُحَمِّلْنَا مَا يَثْقُلُ عَلَيْنَا أَدَاؤُهُ وَإِنْ كُنَّا مُطِيقِينَ لَهُ عَلَى تَجَشُّمٍ

ص: 102

وَتَحَمُّلٍ مَكْرُوهٍ. قَالَ: فَخَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى حَسَبِ مَا تَعْقِلُ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَقُولُ لِلرَّجُلِ مَا أُطِيقُ النَّظَرَ إلَيْك وَهُوَ مُطِيقٌ لِذَلِكَ؛ لَكِنَّهُ ثَقِيلٌ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَيْهِ قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} . قُلْت لَيْسَتْ هَذِهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَحْدَهُمْ؛ بَلْ هَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ. و " الِاسْتِطَاعَةُ فِي الشَّرْعِ " هِيَ مَا لَا يَحْصُلُ مَعَهُ لِلْمُكَلَّفِ ضَرَرٌ رَاجِحٌ كَاسْتِطَاعَةِ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ فَمَتَى كَانَ يَزِيدُ فِي الْمَرَضِ أَوْ يُؤَخِّرُ الْبُرْءَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مُضِرَّةً رَاجِحَةً؛ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ لِبُغْضِ الْحَقِّ وَثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ: إمَّا حَسَدًا لِقَائِلِهِ وَإِمَّا اتِّبَاعًا لِلْهَوَى وَرَيْنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي عَلَى الْقُلُوبِ وَلَيْسَ هَذَا عُذْرًا فَلَوْ لَمْ يَأْمُرْ الْعِبَادَ إلَّا بِمَا يَهْوُونَهُ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ.

وَالْمَقْصُودُ أَنْ السَّلَفَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ مُسْتَطِيعًا إلَّا فِي حَالِ فِعْلِهِ وَأَنَّهُ قَبْلَ الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا فَهَذَا لَمْ يَأْتِ الشَّرْعُ بِهِ قَطُّ وَلَا اللُّغَةُ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ عَقْلٌ؛ بَلْ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالرَّبُّ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَفْعَلُ الْفِعْلَ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لَهُ وَالْمَعْلُومُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ وَلَا يُرِيدُهُ لَا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَالْعِلْمُ يُطَابِقُ

ص: 103

الْمَعْلُومَ فَاَللَّهُ يَعْلَمُ مِمَّنْ اسْتَطَاعَ الْحَجَّ وَالْقِيَامَ وَالصِّيَامَ أَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ وَيَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مُسْتَطِيعٌ يَفْعَلُ مُسْتَطَاعَهُ فَالْمَعْلُومُ هُوَ عَدَمُ الْفِعْلِ لِعَدَمِ إرَادَةِ الْعَبْدِ؛ لَا لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ كَالْمَقْدُورَاتِ لَهُ الَّتِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهَا لِعَدَمِ إرَادَتِهِ لَهَا لَا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا وَالْعَبْدُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَعَ الْقُدْرَةِ؛ وَلِهَذَا يُعَذِّبُهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِمَا اسْتَطَاعَ لَا بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ لَمْ يَأْمُرْهُ وَلَا يُعَذِّبْهُ عَلَى مَا لَمْ يَسْتَطِعْهُ. وَإِذَا قِيلَ: فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَغْيِيرِ عِلْمِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْفِعْلِ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِ عِلْمِ اللَّهِ. قِيلَ: هَذِهِ مَغْلَطَةٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مُجَرَّدَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْفِعْلِ لَا يَلْزَمُ فِيهَا تَغْيِيرُ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا يَظُنُّ مَنْ يَظُنُّ تَغْيِيرَ الْعِلْمِ إذَا وَقَعَ الْفِعْلُ وَلَوْ وَقَعَ الْفِعْلُ لَكَانَ الْمَعْلُومُ وُقُوعَهُ؛ لَا عَدَمَ وُقُوعِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُلَ وُقُوعُ الْفِعْلِ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ؛ بَلْ إنْ وَقَعَ كَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَقَعُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ كَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُ عِلْمَ اللَّهِ إلَّا بِمَا يَظْهَرُ وَعِلْمُ اللَّهِ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ يَسْتَلْزِمُ تَغْيِيرَ الْعِلْمِ بَلْ أَيُّ شَيْءٍ وَقَعَ كَانَ هُوَ الْمَعْلُومُ وَالْعَبْدُ الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءِ يُغَيِّرُ الْعِلْمَ؛ بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يَقَعْ

ص: 104

وَلَوْ وَقَعَ لَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَقَعُ لَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ. وَإِذَا قِيلَ: فَمَعَ عَدَمِ وُقُوعِهِ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ فَلَوْ قَدَرَ الْعَبْدُ عَلَى وُقُوعِهِ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِ الْعِلْمِ. قِيلَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ الْعَبْدُ يَقْدِرُ عَلَى وُقُوعِهِ وَهُوَ لَمْ يُوقِعْهُ وَلَوْ أَوْقَعَهُ لَمْ يَكُنْ الْمَعْلُومُ إلَّا وُقُوعَهُ فَمَقْدُورُ الْعَبْدِ إذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ الْمَعْلُومُ إلَّا وُقُوعَهُ فَإِذَا وَقَعَ كَانَ اللَّهُ عَالِمًا أَنَّهُ سَيَقَعُ وَإِذَا لَمْ يَقَعْ كَانَ اللَّهُ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ أَلْبَتَّةَ فَإِذَا فُرِضَ وُقُوعُهُ مَعَ انْتِفَاءٍ لَازِمِ الْوُقُوعِ صَارَ مُحَالًا مِنْ جِهَةِ إثْبَاتِ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ وَكُلُّ الْأَشْيَاءِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ هِيَ مُحَالٌ. وَمِمَّا يَلْزَمُ هَؤُلَاءِ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ إلَّا الرَّبُّ؛ فَإِنَّ الْأُمُورَ نَوْعَانِ: " نَوْعٌ " عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَكُونُ و " نَوْعٌ " عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ. ف " الْأَوَّلُ " لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ. و " الثَّانِي " لَا يَقَعُ أَلْبَتَّةَ. فَمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَقَعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقَعُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَشَاؤُهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.

ص: 105

وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ وَأُولَئِكَ " الْمُجْبِرَةُ " فِي جَانِبٍ وَهَؤُلَاءِ فِي جَانِبٍ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ. وَمَا يَفْعَلُهُ الْعِبَادُ بِاخْتِيَارِهِمْ يَعْلَمُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ بِقُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ وَمَا لَمْ يَفْعَلُوهُ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوهُ لِعَدَمِ إرَادَتِهِمْ لَهُ لَا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْخَالِقُ لِلْعِبَادِ وَلِقُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَكُلُّ ذَلِكَ مَقْدُورٌ لِلرَّبِّ وَلَيْسَ هَذَا مَقْدُورًا بَيْنَ قَادِرِينَ بَلْ الْقَادِرُ الْمَخْلُوقُ هُوَ وَقُدْرَتُهُ وَمَقْدُورُهُ مَقْدُورٌ لِلْخَالِقِ مَخْلُوقٌ لَهُ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} حَقٌّ وَالنَّسْخُ فِيهَا هُوَ رَفْعُ فَهْمِ مَنْ فَهِمَ مِنْ الْآيَةِ مَا لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ فَمَنْ فَهِمَ أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّفُ نَفْسًا مَا لَا تَسَعُهُ فَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ فَهْمَهُ وَظَنَّهُ وَمَنْ فَهِمَ مِنْهَا أَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالْعَذَابَ بِلَا حِكْمَةٍ وَعَدْلٍ فَقَدْ نَسَخَ فَهْمَهُ وَظَنَّهُ فَقَوْلُهُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} رَدٌّ لِلْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} رَدٌّ لِلثَّانِي وَقَوْلُهُ: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} كَقَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

ص: 106

يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَدْ عَلَّمَنَا أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ تَابَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} الْآيَةَ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحَاسِبُ بِمَا فِي النُّفُوسِ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ: زِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا. و " الْمُحَاسَبَةُ " تَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ يُحْسَبُ وَيُحْصَى. وَأَمَّا " الْمَغْفِرَةُ وَالْعَذَابُ " فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ الْكُفْرُ وَبُغْضُ الرَّسُولِ وَبُغْضُ مَا جَاءَ بِهِ أَنَّهُ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْ عَفَا اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ - وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا الَّذِينَ لَمْ يَرْتَابُوا - عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَا تَتَكَلَّمُ بِهِ أَوْ تَعْمَلُ كَمَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّ الَّذِي يَهِمُّ بِالْحَسَنَةِ تُكْتَبُ لَهُ وَاَلَّذِي يَهِمُّ بِالسَّيِّئَةِ لَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا} إذَا كَانَ مُؤْمِنًا مِنْ عَادَتِهِ عَمَلُ الْحَسَنَاتِ وَتَرْكُ السَّيِّئَاتِ فَإِنْ تَرَكَ السَّيِّئَةَ لِلَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ فَإِذَا أَبْدَى الْعَبْدُ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الشَّرِّ بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ صَارَ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الذَّمَّ وَالْعِقَابَ

ص: 107

وَإِنْ أَخْفَى ذَلِكَ وَكَانَ مَا أَخْفَاهُ مُتَضَمِّنًا لِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالرَّسُولِ مِثْلُ الشَّكِّ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ أَوْ بُغْضِهِ كَانَ مُعَاقَبًا عَلَى مَا أَخْفَاهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْإِيمَانَ الَّذِي لَا نَجَاةَ وَلَا سَعَادَةَ إلَّا بِهِ وَأَمَّا إنْ كَانَ وَسْوَاسًا وَالْعَبْدُ يَكْرَهُهُ فَهَذَا صَرِيحُ الْإِيمَانِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الصَّحِيحِ. وَهَذِهِ " الْوَسْوَسَةُ " هِيَ مِمَّا يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فَإِذَا كَرِهَهُ الْعَبْدُ وَنَفَاهُ كَانَتْ كَرَاهَتُهُ صَرِيحَ الْإِيمَانِ وَقَدْ خَافَ مَنْ خَافَ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْعُقُوبَةِ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} .

وَ " الْوُسْعُ " فِعْلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ مَا يَسَعُهُ لَا يُكَلِّفُهَا مَا تُضِيقُ عَنْهُ فَلَا تَسَعُهُ وَهُوَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ الْمُسْتَطَاعُ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ " الْوُسْعَ " اسْمٌ لِمَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ وَلَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ مَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ هُوَ مُبَاحٌ لَهُ وَمَا لَمْ يَسَعْهُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ فَمَا يَسَعُهُ قَدْ يُؤْمَرُ بِهِ وَأَمَّا مَا لَا يَسَعُهُ فَهُوَ الْمُبَاحُ يُقَالُ: يَسَعُنِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا وَلَا يَسَعُنِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا وَالْمُبَاحُ هُوَ الْوَاسِعُ وَمِنْهُ بَاحَةُ الدَّارِ فَالْمُبَاحُ لَك أَنْ تَفْعَلَهُ هُوَ يَسَعُك وَلَا تَخْرُجُ عَنْهُ وَمِنْهُ يُقَالُ: رَحِمَ اللَّهُ مِنْ وَسِعَتْهُ السُّنَّةُ فَلَمْ يَتَعَدَّهَا إلَى الْبِدْعَةِ: أَيْ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا

ص: 108

أَبَاحَهُ مَا يَكْفِي الْمُؤْمِنَ الْمُتَّبِعَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُخْرَجَ عَنْهُ إلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَأَمَّا مَا كُلِّفْت بِهِ فَهُوَ مَا أُمِرْت بِفِعْلِهِ وَذَلِكَ يَكُونُ مِمَّا تَسَعُهُ أَنْتَ لَا مِمَّا يَسَعُك هُوَ وَقَدْ يُقَالُ: لَا يَسَعُنِي تَرْكُهُ؛ بَلْ تَرْكُهُ مُحَرَّمٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} وَهُوَ أَوَّلُ الْحَرَامِ وَقَالَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} وَهِيَ آخِرُ الْحَلَالِ وَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وَهَذَا التَّغْيِيرُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُبْدُوا ذَلِكَ فَيَبْقَى قَوْلًا وَعَمَلًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الذَّمُّ وَالْعِقَابُ.

وَالثَّانِي أَنْ يُغَيِّرُوا الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ بِضِدِّهِ مِنْ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ وَالْبُغْضِ وَيَعْزِمُوا عَلَى تَرْكِ فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَيَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ هُنَا عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ وَهُنَاكَ عَلَى فِعْلِ الْمَحْظُورِ. وَكَذَلِكَ مَا فِي النَّفْسِ مِمَّا يُنَاقِضُ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَالْإِخْلَاصَ لَهُ وَالشُّكْرَ لَهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا وَاجِبَةٌ فَإِذَا خُلِّيَ الْقَلْبُ عَنْهَا وَاتَّصَفَ بِأَضْدَادِهَا اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ عَلَى تَرْكِ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ.

ص: 109

وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ تَزُولُ شُبَهٌ كَثِيرَةٌ وَيَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ النُّصُوصِ فَإِنَّهَا كُلَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ يُعَاقَبُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ؛ بَلْ أَضْمَرَتْ الْكُفْرَ قَالَ تَعَالَى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} وَقَالَ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} فَالْمُنَافِقُ لَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نِفَاقِهِ وَمَا أَضْمَرَهُ كَمَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان: مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} ثُمَّ قَالَ: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} وَهُوَ جَوَابُ قِسْمٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَاَللَّهِ لَتَعْرِفَهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ فَمَعْرِفَةُ الْمُنَافِقِ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ لَا بُدَّ مِنْهَا وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُ بِالسِّيمَا فَمَوْقُوفَةٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} خَبَرًا مِنْ اللَّهِ؛ لَيْسَ فِيهَا إثْبَاتٌ إيمَانٍ لِلْعَبْدِ بِخِلَافِ الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُمَا قَوْلُهُ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} إلَى آخِرِهَا. وَكَلَامُ السَّلَفِ يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ تُنْسَخْ وَلَكِنَّ اللَّهَ إذَا جَمَعَ الْخَلَائِقَ يَقُولُ: إنِّي أُخْبِرُكُمْ بِمَا أَخْفَيْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ

ص: 110

مِمَّا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ مَلَائِكَتِي فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيُخْبِرُهُمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} يَقُولُ: يُخْبِرُكُمْ بِهِ اللَّهُ وَأَمَّا أَهْلُ الشِّرْكِ وَالرَّيْبِ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا أَخْفَوْهُ مِنْ التَّكْذِيبِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَذَلِكَ كَكِتْمَانِ الْعَيْبِ الَّذِي يَجِبُ إظْهَارُهُ وَكِتْمَانِ الْعِلْمِ الَّذِي يَجِبُ إظْهَارُهُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ الشَّكُّ وَالْيَقِينُ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ بَابِ تَرْكِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ وَاجِبٌ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ: مَا أَعْلَنْت فَإِنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُك بِهِ وَأَمَّا مَا أَخْفَيْت فَمَا عُجِّلَتْ لَك بِهِ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا. وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مِمَّا يُعَاقَبُ فِيهِ الْعَبْدُ بِالْغَمِّ كَمَا سُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ غَمٍّ لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ قَالَ هُوَ ذَنْبٌ هَمَمْت بِهِ فِي سِرِّك وَلَمْ تَفْعَلْهُ فَجُزِيت هَمًّا بِهِ. فَالذُّنُوبُ لَهَا عُقُوبَاتٌ: السِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ وَرُوِيَ عَنْهَا مَرْفُوعًا {قَالَتْ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فَقَالَ يَا عَائِشَةُ هَذِهِ مُعَاتَبَةُ اللَّهِ الْعَبْدَ مِمَّا يُصِيبُهُ مِنْ النَّكْبَةِ وَالْحُمَّى حَتَّى الشَّوْكَةِ وَالْبِضَاعَةِ يَضَعُهَا فِي كُمِّهِ فَيَفْقِدُهَا فَيَرُوعُ لَهَا فَيَجِدُهَا فِي جَيْبِهِ حَتَّى إنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ كَمَا يَخْرُجُ التِّبْرُ الْأَحْمَرُ مِنْ الْكِيرِ} .

ص: 111

قُلْت: هَذَا الْمَرْفُوعُ هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بَيَانُ مَا يُعَاقَبُ بِهِ الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا؛ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا أَخْفَاهُ يُعَاقَبُ بِهِ بَلْ فِيهِ أَنَّهُ إذَا عُوقِبَ عَلَى مَا أَخْفَاهُ عُوقِبَ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. وَقَدْ رَوَى الروياني فِي مَسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ الْعُقُوبَةَ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . فَهَؤُلَاءِ كَانُوا فِي ظَنِّهِمْ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ظَنًّا يُنَافِي الْيَقِينَ بِالْقَدَرِ وَظَنًّا يُنَافِي بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ رَسُولَهُ فَكَانَ عِقَابُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْيَقِينِ وَوُجُودِ الشَّكِّ وَظَنِّ الْجَاهِلِيَّةِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.

ص: 112

وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ نِيَّاتُ الْأَعْمَالِ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. و " النِّيَّةُ " هِيَ مِمَّا يُخْفِيهِ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ رِيَاءَ النَّاسِ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} وَقَالَ: {وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحِ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ فِي الَّذِي تَعَلَّمَ وَعَلَّمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ قَارِئٌ وَاَلَّذِي قَاتَلَ لِيُقَالَ جَرِيءٌ وَشُجَاعٌ. وَاَلَّذِي تَصَدَّقَ لِيُقَالَ جَوَادٌ وَكِرِيمٌ فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا كَانَ قَصْدُهُمْ مَدْحَ النَّاسِ لَهُمْ وَتَعْظِيمَهُمْ لَهُمْ وَطَلَبَ الْجَاهِ عِنْدَهُمْ؛ لَمْ يَقْصِدُوا بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ صُوَرُ أَعْمَالِهِمْ صُوَرًا حَسَنَةً فَهَؤُلَاءِ إذَا حُوسِبُوا كَانُوا مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إلَيْهِ فَلَهُ مِنْ عَمَلِهِ النَّارُ} وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {مَنْ طَلَبَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا يَطْلُبُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسمِائَةِ عَامٍ} . وَفِي " الْجُمْلَةِ " الْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الْقَلْبُ مَلِكُ الْأَعْضَاءِ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا

ص: 113

خَبُثَ خَبُثَتْ جُنُودُهُ وَهَذَا كَمَا فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلُحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} فَصَلَاحُهُ وَفَسَادُهُ يَسْتَلْزِمُ صَلَاحَ الْجَسَدِ وَفَسَادَهُ فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا أَبْدَاهُ لَا مِمَّا أَخْفَاهُ. وَكُلُّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ لَا بُدَّ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْقَلْبِ فَإِنَّهُ الْأَصْلُ وَإِنْ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ تَبَعًا فَالْعَبْدُ الْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ إنَّمَا يَعْلَمُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ قَلْبُهُ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِالطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ الْقَلْبُ وَالْعِلْمُ بِالْمَأْمُورِ وَالِامْتِثَالُ يَكُونُ قَبْلَ وُجُودِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَدْ أَعْرَضَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ وَقَصَدَ الِامْتِثَالَ كَانَ أَوَّلَ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ؛ بَلْ كَانَ هُوَ الْعَاصِيَ وَغَيْرُهُ تَبَعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي حَقِّ الشَّقِيِّ: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} الْآيَاتِ وَقَالَ فِي حَقِّ السُّعَدَاءِ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَالْمَأْمُورُ نَوْعَانِ. " نَوْعٌ " هُوَ عَمَلٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْجَوَارِحِ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بِعِلْمِ الْقَلْبِ وَإِرَادَتِهِ. فَالْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ كَالْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وَكَأَفْعَالِ الصَّلَاةِ: مِنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَأَفْعَالُ الْحَجِّ: مِنْ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ

ص: 114

وَإِنْ كَانَتْ أَقْوَالًا فَالْقَلْبُ أَخَصُّ بِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ الْقَلْبُ وُجُودَ مَا يَقُولُهُ أَوْ بِمَا يَقُولُ وَيَقْصِدُهُ.

وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَقْوَالُ فِي الشَّرْعِ لَا تُعْتَبَرُ إلَّا مِنْ عَاقِلٍ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَيَقْصِدُهُ فَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالطِّفْلُ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ فَأَقْوَالُهُ كُلُّهَا لَغْوٌ فِي الشَّرْعِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ إيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ وَلَا عَقْدٌ مِنْ الْعُقُودِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْأَقْوَالِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ النَّائِمُ إذَا تَكَلَّمَ فِي مَنَامِهِ فَأَقْوَالُهُ كُلُّهَا لَغْوٌ سَوَاءٌ تَكَلَّمَ الْمَجْنُونُ وَالنَّائِمُ بِطَلَاقِ أَوْ كُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الطِّفْلِ؛ فَإِنَّ الْمَجْنُونَ وَالنَّائِمَ إذَا أَتْلَفَ مَالًا ضَمِنَهُ وَلَوْ قَتَلَ نَفْسًا وَجَبْت دِيَتُهَا كَمَا تَجِبُ دِيَةُ الْخَطَأِ. وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي السَّكْرَانِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ} وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي السُّنَنِ. وَتَنَازَعُوا فِي عُقُودِ السَّكْرَانِ كَطَلَاقِهِ وَفِي أَفْعَالِهِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا هَلْ يُجْرَى مَجْرَى الْعَاقِلِ أَوْ مَجْرَى الْمَجْنُونِ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَبَيْنَ بَعْضِ ذَلِكَ وَبَعْضٍ؟ عَلَى عِدَّةِ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ. وَاَلَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ: أَنَّ أَقْوَالَهُ هَدَرٌ - كَالْمَجْنُونِ - لَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ وَلَا غَيْرُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ:

ص: 115

{حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَالْقَلْبُ هُوَ الْمَلِكُ الَّذِي تَصْدُرُ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ عَنْهُ فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَادِرًا عَنْ الْقَلْبِ؛ بَلْ يُجْرِي مَجْرَى اللَّغْوِ وَالشَّارِعُ لَمْ يُرَتِّبْ الْمُؤَاخَذَةَ إلَّا عَلَى مَا يَكْسِبُهُ الْقَلْبُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ كَمَا قَالَ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وَلَمْ يُؤَاخِذْ عَلَى أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا الْقَلْبُ وَلَمْ يَتَعَمَّدْهَا وَكَذَلِكَ مَا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ لَمْ يُؤَاخَذْ مِنْهُ إلَّا بِمَا قَالَهُ أَوْ فَعَلَهُ وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَثَبَتَ لِلْقَلْبِ كَسْبًا فَقَالَ: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} فَلَيْسَ لِلَّهِ عَبْدٌ أَسَرَّ عَمَلًا أَوْ أَعْلَنَهُ مِنْ حَرَكَةٍ فِي جَوَارِحِهِ أَوْ هَمٍّ فِي قَلْبِهِ إلَّا يُخْبِرُهُ اللَّهُ بِهِ وَيُحَاسِبُهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ شَاذٌّ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} إنَّمَا ذَكَرَهُ لِبَيَانِ أَنَّهُ يُؤَاخِذُ فِي الْأَعْمَالِ بِمَا كَسَبَ الْقَلْبُ لَا يُؤَاخِذُ بِلَغْوِ الْأَيْمَانِ كَمَا قَالَ: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} فَالْمُؤَاخَذَةُ لَمْ تَقَعْ إلَّا بِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ كَسْبُ الْقَلْبِ مَعَ عَمَلِ الْجَوَارِحِ فَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي النَّفْسِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْهُ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ يَعْمَلْ وَمَا وَقَعَ مِنْ لَفْظٍ أَوْ حَرَكَةٍ بِغَيْرِ قَصْدِ الْقَلْبِ وَعِلْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ بِهِ. و " أَيْضًا " فَإِذَا كَانَ السَّكْرَانُ لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَالصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ تَصِحُّ

ص: 116

صِلَاتُهُ ثُمَّ الصَّبِيُّ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ فَالسَّكْرَانُ أَوْلَى وَقَدْ {قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمَاعِزِ لَمَّا اعْتَرَفَ بِالْحَدِّ: أَبِك جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا ثُمَّ أَمَرَ بِاسْتِنْكَاهِهِ لِئَلَّا يَكُونَ سَكْرَانَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إقْرَارَ السَّكْرَانِ بَاطِلٌ وَقَضِيَّةُ مَاعِزٍ مُتَأَخِّرَةٌ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَإِنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ بَعْدَ أُحُدٍ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لَا يَقَعُ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ صَحَابِيٍّ خِلَافُهُ. وَاَلَّذِينَ أَوْقَعُوا طَلَاقَهُ لَمْ يَذْكُرُوا إلَّا مَأْخَذًا ضَعِيفًا وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ عَاصٍ بِإِزَالَةِ عَقْلِهِ وَهَذَا صَحِيحٌ يُوجِبُ عُقُوبَتَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ الشُّرْبُ فَيُحَدُّ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَلَا يُعَاقَبُ بِهِ مُسْلِمٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ كُلُّ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ سَكِرَ طَلَقَتْ امْرَأَتُهُ وَإِنَّمَا قَالَ مَنْ قَالَ: إذَا تَكَلَّمَ بِهِ طَلَقَتْ فَهُمْ اعْتَبَرُوا كَلَامَهُ لَا مَعْصِيَتَهُ ثُمَّ إنَّهُ فِي حَالِ سُكْرِهِ قَدْ يَعْتِقُ وَالْعِتْقُ قُرْبَةٌ فَإِنْ صَحَّحُوا عِتْقَهُ بَطَلَ الْفَرْقُ وَإِنْ أَلْغَوْهُ فَإِلْغَاءُ الطَّلَاقِ أَوْلَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعِتْقَ وَلَا يُحِبُّ الطَّلَاقَ. ثُمَّ مَنْ عَلَّلَ ذَلِكَ بِالْمَعْصِيَةِ لَزِمَهُ طَرْدُ ذَلِكَ فِيمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِغَيْرِ مُسْكِرٍ كَالْبَنْجِ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْبَنْجِ وَالسَّكْرَانِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافَقِيهِ كَأَبِي الْخَطَّابِ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْفَرْقِ وَهُوَ مَنْصُوصُ

ص: 117

أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ تَشْتَهِيهَا النَّفْسُ وَفِيهَا الْحَدُّ؛ بِخِلَافِ الْبَنْجِ فَإِنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِ؛ بَلْ فِيهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَهَى كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فِيهَا التَّعْزِيرُ وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهَا إلَّا قَوْلًا نُقِلَ عَنْ الْحَسَنِ فَهَذَا فِيمَنْ زَالَ عَقْلُهُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ فَإِنْ كَانَ مُخْتَارًا قَاصِدًا لِمَا يَقُولُهُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَقْوَالُهُ كُلُّهَا لَغْوٌ مِثْلُ كُفْرِهِ وَإِيمَانِهِ وَطَلَاقِهِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَأَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ وَمَا لَا يَقْبَلُهُ. قَالُوا: فَمَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْمُكْرَهِ كَالْبَيْعِ؛ بَلْ يَقِفُ عَلَى إجَازَتِهِ لَهُ وَمَا لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ الْمُكْرَهِ. وَالْجُمْهُورُ يُنَازِعُونَ فِي هَذَا الْفَرْقِ: فِي ثُبُوتِ الْوَصْفِ وَفِي تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: النِّكَاحُ وَنَحْوُهُ يَقْبَلُ الْفَسْخَ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ يَقْبَلُ الْفَسْخَ عِنْد الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد حَتَّى إنَّ الْمُكَاتَبَ قَدْ يَحْكُمُونَ بِعِتْقِهِ ثُمَّ يَفْسَخُونَ الْعِتْقَ وَيُعِيدُونَهُ عَبْدًا وَالْأَيْمَانُ الْمُنْعَقِدَةُ تَقْبَلُ التَّحِلَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} .

ص: 118

وَبَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ.

وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ‌

‌ الْقَلْبَ هُوَ الْأَصْلُ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ

فَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَقَصْدِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ إنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ بِقَصْدِ الْقَلْبِ وَأَمَّا ثُبُوتُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَضَمَانِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ إذَا أَتْلَفَهَا مَجْنُونٌ أَوْ نَائِمٌ أَوْ مُخْطِئٌ أَوْ نَاسٍ فَهَذَا مِنْ بَابِ الْعَدْلِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الْعُقُوبَةِ. فَالْمَأْمُورُ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا " نَوْعَانِ " نَوْعٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْجَوَارِحِ وَنَوْعٌ بَاطِنٌ فِي الْقَلْبِ. " النَّوْعُ الثَّانِي " مَا يَكُونُ بَاطِنًا فِي الْقَلْبِ كَالْإِخْلَاصِ وَحَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَكَنَفْسِ إيمَانِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ فَهَذَا النَّوْعُ تَعَلُّقُهُ بِالْقَلْبِ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ مَحَلُّهُ وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ أَصْلُ النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ الْأَوَّلِ فَنَفْسُ إيمَانِ الْقَلْبِ وَحُبِّهِ وَتَعْظِيمِهِ لِلَّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ لَا يَتِمُّ شَيْءٌ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ ظَاهِرًا إلَّا بِهَا وَإِلَّا فَلَوْ عَمِلَ أَعْمَالًا ظَاهِرَةً بِدُونِ هَذِهِ كَانَ مُنَافِقًا وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا تُوجِبُ لِصَاحِبِهَا أَعْمَالًا ظَاهِرَةً تُوَافِقُهَا وَهِيَ أَشْرَفُ مِنْ فُرُوعِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى:

ص: 119

{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} . وَكَذَلِكَ تَكْذِيبُ الرَّسُولِ بِالْقَلْبِ وَبُغْضُهُ وَحَسَدُهُ وَالِاسْتِكْبَارُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ أَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ خَالِيَةٍ عَنْ هَذَا كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ وَمَا كَانَ كُفْرًا مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ: كَالسُّجُودِ لِلْأَوْثَانِ وَسَبِّ الرَّسُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُسْتَلْزِمًا لِكُفْرِ الْبَاطِنِ وَإِلَّا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ سَجَدَ قُدَّامَ وَثَنٍ وَلَمْ يَقْصِدْ بِقَلْبِهِ السُّجُودَ لَهُ بَلْ قَصَدَ السُّجُودَ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُفْرًا وَقَدْ يُبَاحُ ذَلِكَ إذَا كَانَ بَيْنَ مُشْرِكِينَ يَخَافُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ فَيُوَافِقُهُمْ فِي الْفِعْلِ الظَّاهِرِ وَيَقْصِدُ بِقَلْبِهِ السُّجُودَ لِلَّهِ كَمَا ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَعَلَ نَحْوَ ذَلِكَ مَعَ قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا عَلَى يَدَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرْ مُنَافِرَتَهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَهُنَا " أُصُولٌ " تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا. مِنْهَا أَنَّ الْقَلْبَ هَلْ يَقُومُ بِهِ تَصْدِيقٌ أَوْ تَكْذِيبٌ وَلَا يَظْهَرُ قَطُّ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ نَقِيضُهُ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ؟ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَجُمْهُورُ النَّاسِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ مُوجَبِ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَارِحِ فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يُصَدِّقُ الرَّسُولَ وَيُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ بِالْإِسْلَامِ وَلَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ بِلَا خَوْفٍ فَهَذَا لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ كَافِرٌ.

ص: 120

وَزَعَمَ جَهْمٌ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ. . . (1) وَأَنَّ مُجَرَّدَ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ يَكُونُ إيمَانًا يُوجِبُ الثَّوَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلَا قَوْلٍ وَلَا عَمَلٍ ظَاهِرٍ وَهَذَا بَاطِلٌ شَرْعًا وَعَقْلًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ كَفَّرَ السَّلَفُ كَوَكِيعِ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مَنْ يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} فَبَيَّنَ أَنَّ صَلَاحَ الْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِصَلَاحِ الْجَسَدِ فَإِذَا كَانَ الْجَسَدُ غَيْرَ صَالِحٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ غَيْرُ صَالِحٍ وَالْقَلْبُ الْمُؤْمِنُ صَالِحٌ فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْإِيمَانِ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ لَا يَكُونُ قَلْبُهُ مُؤْمِنًا حَتَّى إنَّ الْمُكْرَهَ إذَا كَانَ فِي إظْهَارِ الْإِيمَانِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَكَلَّمَ مَعَ نَفْسِهِ وَفِي السِّرِّ مَعَ مَنْ يَأْمَنُ إلَيْهِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ كَمَا قَالَ عُثْمَانُ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ لَا بِقَوْلِهِ وَلَا بِفِعْلِهِ قَطُّ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقَلْبِ إيمَانٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الْجَسَدَ تَابِعٌ لِلْقَلْبِ فَلَا يَسْتَقِرُّ شَيْءٌ فِي الْقَلْبِ إلَّا ظَهَرَ مُوجَبُهُ وَمُقْتَضَاهُ عَلَى الْبَدَنِ وَلَوْ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ كُلُّ مُوجَبِهِ لِمُعَارِضِ فَالْمُقْتَضِي لِظُهُورِ مُوجَبِهِ قَائِمٌ؛ وَالْمُعَارِضُ لَا يَكُونُ لَازِمًا لِلْإِنْسَانِ لُزُومَ الْقَلْبِ لَهُ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مُتَعَذِّرًا إذَا

(1)

بياض بالأصل

ص: 121

كَتَمَ مَا فِي قَلْبِهِ كَمُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ دَعَا إلَى الْإِيمَانِ دُعَاءً ظَهَرَ بِهِ مِنْ إيمَانِ قَلْبِهِ مَا لَا يَظْهَرُ مِنْ إيمَانِ مَنْ أَعْلَنَ إيمَانَهُ بَيْنَ مُوَافَقِيهِ وَهَذَا فِي مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ. وَمِنْهَا قَصْدُ الْقَلْبِ وَعَزْمُهُ إذَا قَصَدَ الْفِعْلَ وَعَزَمَ عَلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا قَصَدَهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ لَا يُوجَدَ شَيْءٌ مِمَّا قَصَدَهُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْقَصْدُ الْجَازِمُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَجَبَ وُجُودُ الْمَقْدُورِ وَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ الْعَبْدُ مَقْدُورَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ قَصْدٌ جَازِمٌ وَقَدْ يَحْصُلُ قَصْدٌ جَازِمٌ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَقْدُورِ لَكِنْ يَحْصُلُ مَعَهُ مُقَدِّمَاتُ الْمَقْدُورِ وَقِيلَ: بَلْ قَدْ يُمْكِنُ حُصُولُ الْعَزْمِ التَّامِّ بِدُونِ أَمْرٍ ظَاهِرٍ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ وَهُمَا مِنْ أَقْوَالِ أَتْبَاعِ جَهْمٍ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَهُ فِي الْإِيمَانِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَمْثَالِهِ فَإِنَّهُمْ نَصَرُوا قَوْلَهُ وَخَالَفُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ وَعَامَّةَ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ. وَبِهَذَا يَنْفَصِلُ النِّزَاعُ فِي " مُؤَاخَذَةِ الْعَبْدِ بالهمة " فَمِنْ النَّاسِ: مَنْ قَالَ: يُؤَاخَذُ بِهَا إذَا كَانَتْ عَزْمًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُؤَاخَذُ بِهَا وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْهِمَّةَ إذَا صَارَتْ عَزْمًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا قَوْلٌ أَوْ

ص: 122

فِعْلٌ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: يُؤَاخَذُ بِهَا احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: {إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ} الْحَدِيثَ وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي رَجُلَيْنِ اقْتَتَلَا كُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ قَتْلَ الْآخَرِ وَهَذَا لَيْسَ عَزْمًا مُجَرَّدًا؛ بَلْ هُوَ عَزْمٌ مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ؛ لَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إتْمَامِ مُرَادِهِ وَهَذَا يُؤَاخَذُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ اجْتَهَدَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَسَعَى فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ ثُمَّ عَجَزَ فَإِنَّهُ آثِمٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ كَالشَّارِبِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ شُرْبٌ وَكَذَلِكَ مَنْ اجْتَهَدَ عَلَى الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ ثُمَّ عَجَزَ فَهُوَ آثِمٌ كَالْفَاعِلِ وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِ كَمَا جَعَلَ الدَّاعِيَ إلَى الْخَيْرِ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْمَدْعُوِّ وَوِزْره لِأَنَّهُ أَرَادَ فِعْلَ الْمَدْعُوِّ وَفِعْلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ مِنْ ذَلِكَ فَيَحْصُلُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْفَاعِلِ وَوِزْرِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ. وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي الْآيَةِ أَنَّ {أُولِي الضَّرَرِ} نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَهُمْ عَزْمٌ تَامٌّ عَلَى الْجِهَادِ وَلَوْ تَمَكَّنُوا لَمَا قَعَدُوا وَلَا تَخَلَّفُوا وَإِنَّمَا أَقْعَدَهُمْ الْعُذْرُ فَهُمْ كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 123

إنَّ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ} وَهُمْ أَيْضًا كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الأنماري {هُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ} وَكَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى {إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا} فَأَثْبَتَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ عَزْمَهُ تَامٌّ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ الْعُذْرُ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ " أُولِي الضَّرَرِ " الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ عَزْمٌ عَلَى الْخُرُوجِ فَهَؤُلَاءِ يُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ الْخَارِجُونَ الْمُجَاهِدُونَ وَأُولُو الضَّرَرِ الْعَازِمُونَ عَزْمًا جَازِمًا عَلَى الْخُرُوجِ وقَوْله تَعَالَى {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} سَوَاءٌ كَانَ اسْتِثْنَاءً أَوْ صِفَةً دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ مَعَ الْقَاعِدِينَ فِي نَفْيِ الِاسْتِوَاءِ فَإِذَا فَصَّلَ الْأَمْرَ فِيهِمْ بَيْنَ الْعَازِمِ وَغَيْرِ الْعَازِمِ بَقِيَتْ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَلَوْ جَعَلَ قَوْلَهُ: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} عَامًّا فِي أَهْلِ الضَّرَرِ وَغَيْرِهِمْ لَكَانَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فَإِنَّ قَوْلَهُ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} {وَالْمُجَاهِدُونَ} إنَّمَا فِيهَا نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ؛ فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الضَّرَرِ كُلِّهِمْ كَذَلِكَ لَزِمَ بُطْلَانُ قَوْلِهِ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وَلَزِمَ أَنَّهُ لَا يُسَاوِي الْمُجَاهِدِينَ قَاعِدٌ وَلَوْ كَانَ مِنْ أُولِي الضَّرَرِ وَهَذَا خِلَافُ مَقْصُودِ الْآيَةِ. و " أَيْضًا " فَالْقَاعِدُونَ إذَا كَانُوا مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ وَالْجِهَادُ

ص: 124

لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ فَقَدْ حَصَلَتْ الْكِفَايَةُ بِغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي الْقُعُودِ؛ بَلْ هُمْ مَوْعُودُونَ بِالْحُسْنَى كَأُولِي الضَّرَرِ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الْآيَةَ فَالْوَعْدُ بِالْحُسْنَى شَامِلٌ لِأُولِي الضَّرَرِ وَغَيْرِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ فِي الْأُولَى فِي فَضْلِهِمْ دَرَجَةً ثُمَّ قَالَ فِي فَضْلِهِمْ {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} كَمَا قَالَ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ.} فَقَوْلُهُ: {أَعْظَمُ دَرَجَةً} كَمَا قَالَ فِي السَّابِقِينَ {أَعْظَمُ دَرَجَةً} وَهَذَا نَصْبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ: أَيْ دَرَجَتُهُمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً وَهَذَا يَقْتَضِي تَفْضِيلًا مُجْمَلًا يُقَالُ: مَنْزِلَةُ هَذَا أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} الْآيَاتِ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يُفَضَّلُوا عَلَيْهِمْ إلَّا بِدَرَجَةِ فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَرْوِيهِ أَبُو سَعِيدٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: {إنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الْحَدِيثَ وَفِي

ص: 125

حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: {مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَقَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بَيَّنَ أَنَّ الْمُجَاهِدَ يُفَضَّلُ عَلَى الْقَاعِدِ الْمَوْعُودِ بِالْحُسْنَى مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ مِائَةَ دَرَجَةٍ وَهُوَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْوَعْدَ بِالْحُسْنَى وَالتَّفْضِيلَ بِالدَّرَجَةِ مُخْتَصٌّ بِأُولِي الضَّرَرِ فَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ (دَرَجَةً مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ كَمَا قَالَ أَعْظَمُ دَرَجَةً أَيْ فَضْلُ دَرَجَتِهِمْ عَلَى دَرَجَتِهِمْ أَفْضَلُ كَمَا يُقَالُ: فُضِّلَ هَذَا عَلَى هَذَا مَنْزِلًا وَمَقَامًا وَقَدْ يُرَادُ (بِالدَّرَجَةِ جِنْسُ الدُّرْجِ وَهِيَ الْمُنَزَّلَةُ وَالْمُسْتَقَرُّ لَا يُرَادُ بِهِ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ الْعَدَدِ وَقَوْلُهُ: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} {دَرَجَاتٍ} مَنْصُوبٌ (بفضل لِأَنَّ التَّفْضِيلَ زِيَادَةٌ لِلْمُفَضَّلِ فَالتَّقْدِيرُ زَادَهُمْ عَلَيْهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً فَهَذَا النِّزَاعُ فِي الْعَازِمِ الْجَازِمِ إذَا فَعَلَ مَقْدُورَهُ هَلْ يَكُونُ كَالْفَاعِلِ فِي الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ أَمْ لَا؟ وَأَمَّا فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ فَلَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: {إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا} فِيهِ حِرْصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَتْلٍ صَاحِبِهِ وَفِعْلِ مَقْدُورِهِ فَكِلَاهُمَا مُسْتَحِقٌّ لِلنَّارِ

ص: 126

وَيَبْقَى الْكَلَامُ فِي تَسَاوِي الْقَعُودَيْنِ بِشَيْءِ آخَرَ. وَهَكَذَا‌

‌ حَالُ الْمُقْتَتِلِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْفِتَنِ

الْوَاقِعَةِ بَيْنَهُمْ فَلَا تَكُونُ عَاقِبَتُهُمَا إلَّا عَاقِبَةَ سَوْءٍ الْغَالِبُ وَالْمَغْلُوبُ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ دُنْيَا وَلَا آخِرَةٌ كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ: أَصَابَتْنَا فِتْنَةٌ لَمْ نَكُنْ فِيهَا بَرَرَةً أَتْقِيَاءَ وَلَا فَجَرَةً أَشْقِيَاءَ وَأَمَّا الْغَالِبُ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ حَظٌّ عَاجِلٌ ثُمَّ يُنْتَقَمُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لَهُ الِانْتِقَامَ فِي الدُّنْيَا كَمَا جَرَى لِعَامَّةِ الْغَالِبِينَ فِي الْفِتَنِ فَإِنَّهُمْ أُصِيبُوا فِي الدُّنْيَا كَالْغَالِبِينَ فِي الْحَرَّةِ وَفِتْنَةِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِالْعَزْمِ الْقَلْبِيِّ فَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا} وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ عَافٍ لَهُمْ عَنْ الْعَزْمِ بَلْ فِيهِ أَنَّهُ عَفَا عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ إلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ أَوْ يَعْمَلَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ أَوْ يَعْمَلْ لَا يُؤَاخَذُ؛ وَلَكِنْ ظَنُّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ عَزْمًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ أَوْ يَعْمَلْ لَا يَكُونُ عَزْمًا؛ فَإِنَّ الْعَزْمَ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ الْمَقْدُورُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ الْعَازِمُ إلَى الْمَقْصُودِ فَاَلَّذِي يَعْزِمُ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الزِّنَا أَوْ نَحْوِهِ عَزْمًا جَازِمًا لَا بُدَّ أَنْ يَتَحَرَّكَ وَلَوْ بِرَأْسِهِ أَوْ يَمْشِيَ أَوْ يَأْخُذَ آلَةً أَوْ يَتَكَلَّمَ كَلِمَةً أَوْ يَقُولَ أَوْ يَفْعَلَ شَيْئًا فَهَذَا كُلُّهُ مَا يُؤَاخَذُ بِهِ كَزِنَا الْعَيْنِ وَاللِّسَانِ وَالرِّجْلِ فَإِنَّ هَذَا يُؤَاخَذُ بِهِ وَهُوَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الزِّنَا التَّامِّ

ص: 127

بِالْفَرْجِ وَإِنَّمَا وَقَعَ الْعَفْوُ عَمَّا مَا لَمْ يَبْرُزْ خَارِجًا بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ قَطُّ فَهَذَا يُعْفَى عَنْهُ لِمَنْ قَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْقَلْبِ وَمُوجَبُهُ فِي الْجَسَدِ أَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ ظَاهِرًا فِي الْجَسَدِ وَفِي الْقَلْبِ مَعْرِفَتُهُ وَقَصْدُهُ فَهَؤُلَاءِ إذَا حَدَّثُوا أَنْفُسَهُمْ بِشَيْءِ كَانَ عَفْوًا مِثْلُ هَمٍّ ثَابِتٍ بِلَا فِعْلٍ وَمِثْلُ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يَكْرَهُونَهُ وَهُمْ يُثَابُونَ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَعَلَى تَرْكِ مَا هَمُّوا بِهِ وَعَزَمُوا عَلَيْهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَخَوْفًا مِنْهُ.

ص: 128

وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أَعْطَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَبَارَكَ خَوَاتِيمَ (سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُؤْتَ مِنْهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَفَهِمَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ حَقَائِقِ الدِّينِ وَقَوَاعِدِ الْإِيمَانِ الْخَمْسِ وَالرَّدِّ عَلَى كُلِّ مُبْطِلٍ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ كَمَالِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى هَذَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتِهِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ وَتَفْضِيلِهِ إيَّاهُمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ فَلْيَهْنَهْ الْعَلَمُ وَلَوْ ذَهَبْنَا نَسْتَوْعِبُ الْكَلَامَ فِيهَا لَخَرَجْنَا عَنْ مَقْصُودِ الْكِتَابِ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ كليمات يَسِيرَةٍ تُشِيرُ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَتْ (سُورَةُ الْبَقَرَةِ) سَنَامَ الْقُرْآنِ وَأَكْثَرَ سُوَرِهِ أَحْكَامًا وَأَجْمَعَهَا لِقَوَاعِدِ الدِّينِ: أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ " أَقْسَامِ الْخَلْقِ ": الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَذِكْرِ أَوْصَافِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. وَذِكْرِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إثْبَاتِ الْخَالِقِ سبحانه وتعالى وَعَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَذِكْرِ نِعَمِهِ وَإِثْبَاتِ نُبُوَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم،

ص: 129

وَتَقْرِيرِ الْمَعَادِ وَذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا فِيهِمَا مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ. ثُمَّ ذِكْرِ تَخْلِيقِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ. ثُمَّ ذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ عليه السلام وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيمِ وَإِسْجَادِ مَلَائِكَتِهِ لَهُ وَإِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ ثُمَّ ذِكْرِ مِحْنَتِهِ مَعَ إبْلِيسَ وَذِكْرِ حُسْنِ عَاقِبَةِ آدَمَ عليه السلام. ثُمَّ ذِكْرِ " الْمُنَاظَرَةِ " مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ ثُمَّ ذِكْرِ النَّصَارَى وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَتَقْرِيرِ عُبُودِيَّةِ الْمَسِيحِ ثُمَّ تَقْرِيرِ النَّسْخِ وَالْحِكْمَةِ فِي وُقُوعِهِ. ثُمَّ بِنَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَتَقْرِيرِ تَعْظِيمِهِ وَذِكْرِ بَانِيهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ تَقْرِيرِ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام وَتَسْفِيهِ مَنْ رَغِبَ عَنْهَا وَوَصِيَّةِ بَنِيهِ بِهَا وَهَكَذَا شَيْئًا فَشَيْئًا إلَى آخِرِ السُّورَةِ فَخَتَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِآيَاتِ جَوَامِعَ مُقَرِّرَةٍ لِجَمِيعِ مَضْمُونِ السُّورَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . فَأَخْبَرَ تَعَالَى: أَنَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مُلْكُهُ وَحْدَهُ لَا

ص: 130

يُشَارِكُهُ فِيهِ مُشَارِكٌ وَهَذَا يَتَضَمَّنُ انْفِرَادَهُ بِالْمُلْكِ الْحَقِّ وَالْمُلْكِ الْعَامِّ لِكُلِّ مَوْجُودٍ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ رُبُوبِيَّتِهِ وَتَوْحِيدَ إلَهِيَّتِهِ فَتَضَمَّنَ نَفْيَ الْوَلَدِ وَالصَّاحِبَةِ وَالشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إذَا كَانَ مُلْكَهُ وَخَلْقَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِمْ وَلَدٌ وَلَا صَاحِبَةٌ وَلَا شَرِيكٌ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ سُبْحَانَهُ بِعَيْنِ هَذَا الدَّلِيلِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَسُورَةِ مَرْيَمَ فَقَالَ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّغْبَةَ وَالسُّؤَالَ وَالطَّلَبَ وَالِافْتِقَارَ لَا يَكُونُ إلَّا إلَيْهِ وَحْدَهُ؛ إذْ هُوَ الْمَالِكُ لِمَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَلَمَّا كَانَ تَصَرُّفُهُ سُبْحَانَهُ فِي خَلْقِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَهُوَ تَصَرُّفٌ بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مُلْكُهُ فَمَا تَصَرَّفَ خَلْقًا وَأَمْرًا إلَّا فِي مُلْكِهِ الْحَقِيقِيِّ وَكَانَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ مُشْتَمِلَةً مِنْ الْأَمْرِ وَالْخَلْقِ عَلَى مَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ سُورَةٌ غَيْرُهَا - أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْهُ فِي مُلْكِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فَهَذَا مُتَضَمِّنٌ لِكَمَالِ عِلْمِهِ

ص: 131

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِسَرَائِرِ عِبَادِهِ وَظَوَاهِرِهِمْ وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عِلْمِهِ كَمَا لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِمَّنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَنْ مُلْكِهِ فَعِلْمُهُ عَامٌّ وَمُلْكُهُ عَامٌّ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ مُحَاسَبَتِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ وَهِيَ تَعْرِيفُهُمْ مَا أَبْدَوْهُ أَوْ أَخْفَوْهُ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ عِلْمَهُ بِهِمْ وَتَعْرِيفَهُمْ إيَّاهُ ثُمَّ قَالَ: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ قِيَامَهُ عَلَيْهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ فَضْلًا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ عَدْلًا وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ قُدْرَتِهِ أَلْبَتَّةَ وَأَنَّ كُلَّ مَقْدُورٍ وَاقِعٌ بِقَدَرِهِ فَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى الْمَجُوسِ الثنوية وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ أَخْرَجَ شَيْئًا مِنْ الْمَقْدُورَاتِ عَنْ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ - وَهُمْ طَوَائِفُ كَثِيرُونَ. فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ إثْبَاتَ التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتَ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ وَإِثْبَاتَ الشَّرَائِعِ وَالنُّبُوَّاتِ وَإِثْبَاتَ الْمَعَادِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَقِيَامِ الرَّبِّ عَلَى خَلْقِهِ بِالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَإِثْبَاتَ كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَعُمُومِهَا وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ حُدُوثَ الْعَالَمِ بِأَسْرِهِ؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَكُونُ مَقْدُورًا وَلَا مَفْعُولًا. ثُمَّ إنَّ إثْبَاتَ كَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ سَائِرِ صِفَاتِهِ

ص: 132

الْعُلَى وَلَهُ مِنْ كُلِّ صِفَةٍ اسْمٌ حَسَنٌ فَيَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَكَمَالُ الْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ فَعَّالًا لِمَا يُرِيدُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَنْزِيهَهُ عَنْ كُلِّ مَا يُضَادُّ كَمَالِهِ فَيَتَضَمَّنُ تَنْزِيهَهُ عَنْ الظُّلْمِ الْمُنَافِي لِكَمَالِ غِنَاهُ وَكَمَالِ عِلْمِهِ؛ إذْ الظُّلْمُ إنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ مُحْتَاجٍ أَوْ جَاهِلٍ وَأَمَّا الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الظُّلْمُ كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْعَجْزُ الْمُنَافِي لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَالْجَهْلُ الْمُنَافِي لِكَمَالِ عِلْمِهِ. فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ هَذِهِ الْمَعَارِفَ كُلَّهَا بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ وَأَفْصَحِ لَفْظٍ وَأَوْضَحِ مَعْنًى. وَقَدْ عَرَفْت بِهَذَا أَنَّ الْآيَةَ لَا تَقْتَضِي الْعِقَابَ عَلَى خَوَاطِرِ النُّفُوسِ الْمُجَرَّدَةِ؛ بَلْ إنَّمَا تَقْتَضِي مُحَاسَبَةَ الرَّبِّ عَبْدَهُ بِهَا وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الْعِقَابِ وَالْأَعَمُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ وَبَعْدَ مُحَاسَبَتِهِ بِهَا يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَعَلَى هَذَا فَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَا نَسْخَ فِيهَا وَمَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: نَسَخَهَا مَا بَعْدَهَا فَمُرَادُهُ بَيَانُ مَعْنَاهَا وَالْمُرَادِ مِنْهَا وَذَلِكَ يُسَمَّى نَسْخًا فِي لِسَانِ السَّلَفِ كَمَا يُسَمُّونَ الِاسْتِثْنَاءَ نَسْخًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} فَهَذِهِ شَهَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام بِإِيمَانِهِ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ إعْطَاءَهُ

ص: 133

ثَوَابَ أَكْمَلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ - زِيَادَةً عَلَى ثَوَابِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ - لِأَنَّهُ شَارَكَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِيمَانِ وَنَالَ مِنْهُ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ وَامْتَازَ عَنْهُمْ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَقَوْلُهُ: {أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ كَلَامُهُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَمِنْهُ نَزَلَ لَا مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} وَقَالَ: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَهَذَا أَحَدُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ قَالُوا: فَلَوْ كَانَ كَلَامًا لِغَيْرِ اللَّهِ لَكَانَ مُنَزَّلًا مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا مِنْ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ صِفَةٌ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا؛ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} فَإِنَّ تِلْكَ أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا فَهِيَ مِنْهُ خَلْقًا وَأَمَّا " الْكَلَامُ " فَوَصْفٌ قَائِمٌ بِالْمُتَكَلِّمِ فَلَمَّا كَانَ مِنْهُ فَهُوَ كَلَامُهُ؛ إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ. ثُمَّ شَهِدَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا آمَنَ بِهِ رَسُولُهُمْ ثُمَّ شَهِدَ لَهُمْ جَمِيعًا بِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ إيمَانَهُمْ بِقَوَاعِدِ الْإِيمَانِ الْخَمْسَة الَّتِي لَا يَكُونُ أَحَدٌ مُؤْمِنًا إلَّا بِهَا وَهِيَ: الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْأُصُولَ الْخَمْسَةَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَوَسَطِهَا

ص: 134

وَآخِرِهَا فَقَالَ فِي أَوَّلِهَا: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} فَالْإِيمَانُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْمَلَائِكَةِ ثُمَّ قَالَ: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَفِي الْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ فَتَضَمَّنَتْ الْإِيمَانَ بِالْقَوَاعِدِ الْخَمْسِ. وَقَالَ فِي وَسَطِهَا: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} ثُمَّ حَكَى عَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ أَنَّهُمْ قَالُوا: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} فَنُؤْمِنُ بِبَعْضِ وَنَكْفُرُ بِبَعْضِ فَلَا يَنْفَعُنَا إيمَانُنَا بِمَنْ آمَنَّا بِهِ مِنْهُمْ كَمَا لَمْ يَنْفَعْ أَهْلَ الْكِتَابِ ذَلِكَ؛ بَلْ نُؤْمِنُ بِجَمِيعِهِمْ وَنُصَدِّقُهُمْ وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ وَقَدْ جَمَعَتْهُمْ رِسَالَةُ رَبِّهِمْ فَنُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَنُعَادِي رُسُلَهُ وَنَكُونُ مُعَادِينَ لَهُ. فَبَايَنُوا بِهَذَا الْإِيمَانِ جَمِيعَ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ لِجِنْسِ الرُّسُلِ. وَالْمُصَدِّقِينَ لِبَعْضِهِمْ الْمُكَذِّبِينَ لِبَعْضِهِمْ. وَتَضَمَّنَ إيمَانُهُمْ بِاَللَّهِ إيمَانَهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَصِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَعُمُومِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فَبَايَنُوا بِذَلِكَ جَمِيعَ طَوَائِفِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ أَوْ لِشَيْءِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا نَزَّهَ نَفْسَهُ

ص: 135

عَنْهُ فَبَايَنُوا بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعَ طَوَائِفَ الْكُفْرِ وَفِرَقِ أَهْلِ الضَّلَالِ الْمُلْحِدِينَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ. ثُمَّ قَالُوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُمْ بِرُكْنَيْ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا يَقُومُ إلَّا بِهِمَا وَهُمَا السَّمْعُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْقَبُولِ؛ لَا مُجَرَّدَ سَمْعِ الْإِدْرَاكِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ؛ بَلْ سَمْعَ الْفَهْمِ وَالْقَبُولِ و " الثَّانِي " الطَّاعَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِكَمَالِ الِانْقِيَادِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَهَذَا عَكْسُ قَوْلِ الْأُمَّةِ الْغَضَبِيَّةِ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا. فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ كَمَالَ إيمَانِهِمْ وَكَمَالَ قَبُولِهِمْ وَكَمَالَ انْقِيَادِهِمْ ثُمَّ قَالُوا: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يُوَفُّوا مَقَامَ الْإِيمَانِ حَقَّهُ مَعَ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ تَمِيلَ بِهِمْ غلبات الطِّبَاعِ وَدَوَاعِي الْبَشَرِيَّةِ إلَى بَعْضِ التَّقْصِيرِ فِي وَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ وَأَنَّهُ لَا يَلُمُّ شَعَثُ ذَلِكَ إلَّا مَغْفِرَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ سَأَلُوهُ غُفْرَانَهُ الَّذِي هُوَ غَايَةُ سَعَادَتِهِمْ وَنِهَايَةُ كَمَالِهِمْ؛ فَإِنَّ غَايَةَ كُلِّ مُؤْمِنٍ الْمَغْفِرَةُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} ثُمَّ اعْتَرَفُوا أَنَّ مَصِيرَهُمْ وَمَرَدَّهُمْ إلَى مَوْلَاهُمْ الْحَقِّ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الرُّجُوعِ إلَيْهِ فَقَالُوا: {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} . فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ إيمَانَهُمْ بِهِ وَدُخُولَهُمْ تَحْتَ طَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ

ص: 136

وَاعْتِرَافِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَاضْطِرَارِهِمْ إلَى مَغْفِرَتِهِ وَاعْتِرَافِهِمْ بِالتَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ وَإِقْرَارِهِمْ بِرُجُوعِهِمْ إلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} فَنَفَى بِذَلِكَ مَا تَوَهَّمُوهُ مِنْ أَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ بِالْخَطَرَاتِ الَّتِي لَا يَمْلِكُونَ دَفْعَهَا وَأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ تَكْلِيفِهِ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُهُمْ إلَّا وُسْعَهُمْ فَهَذَا هُوَ الْبَيَانُ الَّذِي قَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ فَنَسَخَهَا اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا فَهُمْ مُطِيقُونَ لَهُ قَادِرُونَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ صَرِيحٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ خِلَافَ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ وَضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ فَكَلَّفَهُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا يَسَعُونَهُ وَأَعْطَاهُمْ مِنْ الرِّزْقِ مَا يَسَعُهُمْ فَتَكْلِيفُهُمْ يَسَعُونَهُ وَأَرْزَاقُهُمْ تَسَعُهُمْ فَهُمْ فِي الْوُسْعِ فِي رِزْقِهِ وَأَمْرِهِ: وَسِعُوا أَمْرَهُ وَوَسِعَهُمْ رِزْقَهُ فَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَسَعُ الْعَبْدَ وَمَا يَسَعُهُ الْعَبْدُ وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِرَحْمَتِهِ وَبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَحِكْمَتِهِ وَغِنَاهُ؛ لَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ كَلَّفَهُمْ مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ وَلَا يُطِيقُونَهُ ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ عَلَى مَا لَا يَعْمَلُونَهُ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ عز وجل: {إلَّا وُسْعَهَا} كَيْفَ تَجِدُ تَحْتَهُ أَنَّهُمْ فِي سَعَةٍ وَمِنْحَةٍ مِنْ تَكَالِيفِهِ؛ لَا فِي ضِيقٍ وَحَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ؛ فَإِنَّ الْوُسْعَ

ص: 137

يَقْتَضِي ذَلِكَ فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ أَنَّ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ مَقْدُورٌ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ عُسْرٍ لَهُمْ وَلَا ضِيقٍ وَلَا حَرِجٍ؛ بِخِلَافِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الشَّخْصُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَقْدُورًا لَهُ وَلَكِنْ فِيهِ ضِيقٌ وَحَرَجٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا وُسْعُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُ فِي سَعَةٍ فَهُوَ دُونَ مَدَى الطَّاقَةِ وَالْمَجْهُودِ؛ بَلْ لِنَفْسِهِ فِيهِ مَجَالٌ وَمُتَّسَعٌ وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلضِّيقِ وَالْحَرَجِ {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} بَلْ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة فِي قَوْلِهِ: {إلَّا وُسْعَهَا} إلَّا يُسْرَهَا لَا عُسْرَهَا وَلَمْ يُكَلِّفْهَا طَاقَتَهَا وَلَوْ كَلَّفَهَا طَاقَتَهَا لَبَلَغَ الْمَجْهُودُ. فَهَذَا فَهْمُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ كَلَّفَهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَهُ أَلْبَتَّةَ وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ؟ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ ثَمَرَةَ هَذَا التَّكْلِيفِ وَغَايَتَهُ عَائِدَةٌ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ انْتِفَاعِهِ بِكَسْبِهِمْ وَتَضَرُّرِهِ بِاكْتِسَابِهِمْ؛ بَلْ لَهُمْ كَسْبُهُمْ وَنَفْعُهُ. وَعَلَيْهِمْ اكْتِسَابُهُمْ وَضَرَرُهُ فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ حَاجَةً مِنْهُ إلَيْهِمْ؛ بَلْ رَحْمَةً وَإِحْسَانًا وَتَكَرُّمًا وَلَمْ يَنْهَهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ بُخْلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ بَلْ حَمِيَّةً وَحِفْظًا وَصِيَانَةً وَعَافِيَةً. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ نَفْسًا لَا تُعَذَّبُ بِاكْتِسَابِ غَيْرِهَا وَلَا تُثَابُ بِكَسْبِهِ فَفِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى} {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .

ص: 138

وَفِيهِ أَيْضًا إثْبَاتُ كَسْبِ النَّفْسِ الْمُنَافِي لِلْجَبْرِ. وَفِيهِ أَيْضًا اجْتِمَاعُ الْحِكْمَةِ فِيهِ فَإِمَّا كَسَبَ خَيْرًا أَوْ اكْتَسَبَ شَرًّا لَمْ يُبْطِلْ اكْتِسَابُهُ كَسْبَهُ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِحْبَاطِ وَالتَّخْلِيدِ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ عَلَيْهِ مَا اكْتَسَبَ وَلَيْسَ لَهُ مَا كَسَبَ فَالْآيَةُ رَدٌّ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ فَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَتَى فِيمَا لَهَا بِالْكَسْبِ الْحَاصِلِ وَلَوْ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَفِيمَا عَلَيْهَا بِالِاكْتِسَابِ الدَّالِّ عَلَى الِاهْتِمَامِ وَالْحِرْصِ وَالْعَمَلِ؛ فَإِنَّ اكْتَسَبَ أَبْلَغُ مِنْ كَسَبَ فَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى غَلَبَةِ الْفَضْلِ لِلْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ لِلْغَضَبِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ عُهُودًا مِنْهُ وَوَصَايَا وَأَوَامِرَ تَجِبُ مُرَاعَاتُهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَأَنْ لَا يُخِلَّ بِشَيْءِ مِنْهَا؛ وَلَكِنَّ غَلَبَةَ الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ تَأْبَى إلَّا النِّسْيَانَ وَالْخَطَأَ وَالضَّعْفَ وَالتَّقْصِيرَ أَرْشَدَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إلَى أَنْ يَسْأَلُوهُ مُسَامَحَتَهُ إيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَرَفَعَ مُوجَبَهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِمْ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} أَيْ لَا تُكَلِّفْنَا مِنْ الْآصَارِ الَّتِي يَثْقُلُ حَمْلُهَا مَا كَلَّفْته مَنْ قَبْلَنَا؛ فَإِنَّا أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَأَقَلُّ احْتِمَالًا. ثُمَّ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُمْ غَيْرُ مُنْفَكِّينَ مِمَّا يَقْضِيهِ وَيُقَدِّرُهُ عَلَيْهِمْ كَمَا أَنَّهُمْ غَيْرُ مُنْفَكِّينَ مِمَّا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ سَأَلُوهُ التَّخْفِيفَ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ

ص: 139

كَمَا سَأَلُوهُ التَّخْفِيفَ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَقَالُوا: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فَهَذَا فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالْمَصَائِبِ وَقَوْلُهُمْ {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّكْلِيفِ فَسَأَلُوهُ التَّخْفِيفَ فِي النَّوْعَيْنِ. ثُمَّ سَأَلُوهُ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَالنَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ؛ فَإِنَّ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ تَتِمُّ لَهُمْ النِّعْمَةُ الْمُطْلَقَةُ وَلَا يَصْفُو عَيْشٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إلَّا بِهَا وَعَلَيْهَا مَدَارُ السَّعَادَةِ وَالْفَلَّاحِ فَالْعَفْوُ مُتَضَمِّنٌ لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ قِبَلِهِمْ وَمُسَامَحَتِهِمْ بِهِ وَالْمَغْفِرَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِوِقَايَتِهِمْ شَرَّ ذُنُوبِهِمْ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِمْ وَرِضَاهُ عَنْهُمْ؛ بِخِلَافِ الْعَفْوِ الْمُجَرَّدِ؛ فَإِنَّ الْعَافِيَ قَدْ يَعْفُو وَلَا يُقْبِلُ عَلَى مَنْ عَفَا عَنْهُ وَلَا يَرْضَى عَنْهُ فَالْعَفْوُ تَرْكٌ مَحْضٌ وَالْمَغْفِرَةُ إحْسَانٌ وَفَضْلٌ وَجُودٌ وَالرَّحْمَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ مَعَ زِيَادَةِ الْإِحْسَانِ وَالْعَطْفِ وَالْبِرِّ فَالثَّلَاثَةُ تَتَضَمَّنُ النَّجَاةَ مِنْ الشَّرِّ وَالْفَوْزَ بِالْخَيْرِ وَالنُّصْرَةُ تَتَضَمَّنُ التَّمْكِينَ مِنْ إعْلَانِ عِبَادَتِهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَقَهْرِ أَعْدَائِهِ وَشِفَاءِ صُدُورِهِمْ مِنْهُمْ وَإِذْهَابِ غَيْظِ قُلُوبِهِمْ وحزازات نُفُوسِهِمْ وَتَوَسَّلُوا فِي خِلَالِ هَذَا الدُّعَاءِ إلَيْهِ بِاعْتِرَافِهِمْ أَنَّهُ مَوْلَاهُمْ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَوْلَى لَهُمْ سِوَاهُ فَهُوَ نَاصِرُهُمْ وَهَادِيهِمْ وَكَافِيهِمْ وَمُعِينُهُمْ وَمُجِيبُ دَعَوَاتِهِمْ وَمَعْبُودُهُمْ. فَلَمَّا تَحَقَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِهَذِهِ الْمَعَارِفِ وَانْقَادَتْ وَذَلَّتْ لِعِزَّةِ رَبِّهَا وَمَوْلَاهَا وَأَجَابَتْهَا جَوَارِحُهُمْ أُعْطُوا كُلَّمَا سَأَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَسْأَلُوا

ص: 140

شَيْئًا مِنْهُ إلَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ فَعَلْت كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ. فَهَذِهِ كَلِمَاتٌ قَصِيرَةٌ مُخْتَصَرَةٌ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الشَّأْنِ الْجَلِيلَةِ الْمِقْدَارِ الَّتِي خَصَّ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتَهُ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ. وَبَعْدُ فَفِيهَا مِنْ الْمَعَارِفِ وَحَقَائِقِ الْعُلُومِ مَا تَعْجِزُ عُقُولُ الْبَشَرِ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِهِ وَاَللَّهُ الْمَرْغُوبُ إلَيْهِ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا الْفَهْمَ فِي كِتَابِهِ إنَّهُ رَحِيمٌ وَدُودٌ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 141

وَقَالَ رحمه الله:

فَصْلٌ:

فِي الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ (سُورَةِ الْبَقَرَةِ) وَهُوَ قَوْلُهُ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلَى آخِرِهَا. قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: {أَنَّهُ قَالَ قَدْ فَعَلْت} وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {أُعْطِيت فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ تَقْرَأْ بِحَرْفِ مِنْهَا إلَّا أُعْطِيته} وَفِي صَحِيحِهِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اُنْتُهِيَ بِهِ إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يَعْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يَهْبِطُ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا قَالَ: {إذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قَالَ: فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ: فَأُعْطِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغُفِرَ لِمَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِهِ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ} .

ص: 142

قَالَ بَعْضُ النَّاسِ إذَا كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ قَدْ أُجِيبَ فَطَلَبُ مَا فِيهِ مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهَذَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ عِبَادَةً مَحْضَةً لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ السُّؤَالَ وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ قَالَهُ طَائِفَةٌ فِي جَمِيعِ الدُّعَاءِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مُقَدَّرًا فَلَا حَاجَةَ إلَى سُؤَالِهِ وَطَلَبِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُقَدَّرٍ لَمْ يَنْفَعْ الدُّعَاءُ - دَعَوْت أَوْ لَمْ تَدْعُ - فَجَعَلُوا الدُّعَاءَ تَعَبُّدًا مَحْضًا كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ أُخْرَى فِي التَّوَكُّلِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرْنَا قَوْلَ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ أَمَارَةً أَوْ عَلَامَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ سَبَبٌ يُفْعَلُ بِهِ؛ بَلْ يَقْتَرِنُ أَحَدُ الْحَادِثَيْنِ بِالْآخَرِ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ النُّظَّارِ وَأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ عَنْهُ ذَلِكَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمَنْ وَافَقَهُ وَذَكَرْنَا أَنَّ " الْقَوْلَ الثَّالِثَ " هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ وَالتَّوَكُّلَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ سَبَبٌ فِي حُصُولِ الْمَدْعُوِّ بِهِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْمَعَاصِي سَبَبٌ وَأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِالسَّبَبِ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حَصَلَ الْمُسَبَّبُ بِلَا رَيْبٍ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أُجِيبَ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هَذَا تَعَبُّدٌ مَحْضٌ لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ بِدُونِ دُعَائِنَا فَلَا يَبْقَى سَبَبًا وَلَا عَلَامَةً وَهَذَا ضَعِيفٌ.

ص: 143

أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ الْعَمَلَ الَّذِي لَا مَصْلَحَةَ لِلْعَبْدِ فِيهِ لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِ السَّلَفِ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ وَلَمْ يَأْمُرْ إلَّا لِحِكْمَةِ كَمَا لَمْ يَخْلُقْ وَلَمْ يَأْمُرْ إلَّا لِسَبَبِ. وَاَلَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْأَسْبَابَ وَالْحُكْمَ يَقُولُونَ بَلْ يَأْمُرُ بِمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْعِبَادِ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ أَطَاعُوهُ وَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ كَمَا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمَرَ بِهِ لِحِكْمَةِ وَمَا نَهَى عَنْهُ نَهَى لِحِكْمَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَعَامَّتِهَا فَالتَّعَبُّدُ الْمَحْضُ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِ حِكْمَةٌ لَمْ يَقَعْ. نَعَمْ قَدْ تَكُونُ الْحِكْمَةُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَقَدْ تَكُونُ فِي الْأَمْرِ وَقَدْ تَكُونُ فِي كِلَيْهِمَا فَمِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ مَا لَوْ فَعَلَهُ الْعَبْدُ بِدُونِ الْأَمْرِ حَصَلَ لَهُ مَنْفَعَةٌ: كَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْخَلْقِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذَا إذْ أَمَرَ بِهِ صَارَ فِيهِ " حِكْمَتَانِ " حِكْمَةٌ فِي نَفْسِهِ وَحِكْمَةٌ فِي الْأَمْرِ فَيَبْقَى لَهُ حُسْنٌ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَمِنْ جِهَةِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَمَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ إنَّمَا كَانَتْ حِكْمَتُهُ لَمَّا أَمَرَ بِهِ. وَكَذَلِكَ مَا نَسَخَ زَالَتْ حِكْمَتُهُ وَصَارَتْ فِي بَدَلِهِ كَالْقِبْلَةِ. وَإِذَا قَدَّرَ أَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَتْ فِيهِ حِكْمَةٌ أَصْلًا فَهَلْ يَصِيرُ بِنَفْسِ الْأَمْرِ فِيهِ حِكْمَةُ الطَّاعَةِ؟ وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالتَّعَبُّدِ الْمَحْضِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ

ص: 144

بِجَوَازِ الْأَمْرِ لِكُلِّ شَيْءٍ؛ لَكِنْ يُجْعَلُ مِنْ بَابِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ فَإِذَا فُعِلَ صَارَ الْعَبْدُ بِهِ مُطِيعًا كَنَهْيِهِمْ عَنْ الشُّرْبِ إلَّا مَنْ اغْتَرَفَ غَرْفَةً بِيَدِهِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ يُحَضُّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ فِي الْفِعْلِ مَتَى اعْتَقَدَهُ الْعَبْدُ وَعَزَمَ عَلَى الِامْتِثَالِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ كَإِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُمِرَ بِذَبْحِ ابْنِهِ وَكَحَدِيثِ أَقْرَعَ وَأَبْرَصَ وَأَعْمَى لَمَّا طُلِبَ مِنْهُمْ إعْطَاءُ ابْنِ السَّبِيلِ فَامْتَنَعَ الْأَبْرَصُ وَالْأَقْرَعُ فَسُلِبَا النِّعْمَةَ وَأَمَّا الْأَعْمَى فَبَذَلَ الْمَطْلُوبَ فَقِيلَ لَهُ أَمْسِكْ مَالَك فَإِنَّمَا اُبْتُلِيتُمْ فَقَدْ رَضِيَ عَنْك وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْك وَهَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ فَقَدْ يُؤْمَرُ الْعَبْدُ وَيُنْهَى وَتَكُونُ الْحِكْمَةُ طَاعَتَهُ لِلْأَمْرِ وَانْقِيَادَهُ لَهُ وَبَذْلَهُ لِلْمَطْلُوبِ كَمَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْ إبْرَاهِيمَ تَقْدِيمَ حُبِّ اللَّهِ عَلَى حُبِّهِ لِابْنِهِ حَتَّى تَتِمَّ خُلَّتُهُ بِهِ قَبْلَ ذَبْحِ هَذَا الْمَحْبُوبِ لِلَّهِ فَلَمَّا أَقْدَمَ عَلَيْهِ وَقَوِيَ عَزْمُهُ بِإِرَادَتِهِ لِذَلِكَ تَحَقَّقَ بِأَنَّ اللَّهَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ مَحْبُوبٌ يُزَاحِمُ مُحِبَّةَ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ طَالُوتَ اُبْتُلُوا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الشُّرْبِ لِيَحْصُلَ مِنْ إيمَانِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُوَافَقَةُ وَالِابْتِلَاءُ هَاهُنَا كَانَ بِنَهْيٍ لَا بِأَمْرِ وَأَمَّا رَمْيُ الْجِمَارِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَالْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ مَقْصُودٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ.

ص: 145

وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ {إنَّمَا جُعِلَ السَّعْيُ بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ هَذَا لَهُ حِكْمَةٌ فَكَيْفَ يُقَالُ لَا حِكْمَةَ؛ بَلْ هُوَ تَعَبُّدٌ وَابْتِلَاءٌ مَحْضٌ. وَأَمَّا فِعْلُ مَأْمُورٍ فِي الشَّرْعِ لَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ وَلَا حِكْمَةٌ إلَّا مُجَرَّدَ الطَّاعَةِ وَالْمُؤْمِنُونَ يَفْعَلُونَهُ فَهَذَا لَا أَعْرِفُهُ بَلْ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ نُسِخَ بَعْدَ الْعَزْمِ كَمَا نُسِخَ إيجَابُ الْخَمْسِينَ صَلَاةً إلَى خَمْسٍ. و " الْمُعْتَزِلَةُ " تُنْكِرُ الْحِكْمَةَ النَّاشِئَةَ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزُوا النَّسْخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ كَأَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَبَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِمْ وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ كَاشِفٌ عَنْ حُسْنِ الْفِعْلِ الثَّابِتِ فِي نَفْسِهِ لَا مُثْبِتٌ لِحُسْنِ الْفِعْلِ وَأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَكُونُ إلَّا بِحُسْنِ وَغَلِطُوا فِي الْمُقَدَّمَتَيْنِ فَإِنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَاشِفًا عَنْ حُسْنِ الْفِعْلِ فَالْفِعْلُ بِالْأَمْرِ يَصِيرُ لَهُ حُسْنٌ آخَرُ غَيْرُ الْحُسْنِ الْأَوَّلِ وَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الْآمِرِ الِامْتِحَانَ لِلطَّاعَةِ فَقَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَيْسَ بِحُسْنِ فِي نَفْسِهِ وَيَنْسَخُهُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ إذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ طَاعَةِ الْمَأْمُورِ وَعَزْمِهِ وَانْقِيَادِهِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا. وَالْجَهْمِيَّة تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فِي الْفِعْلِ حِكْمَةٌ أَصْلًا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي نَفْسِ

ص: 146

الْأَمْرِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ لِحِكْمَةِ وَعَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ لَيْسَ بَعْضُهَا حَسَنًا وَبَعْضُهَا قَبِيحًا وَكِلَا الْأَصْلَيْنِ قَدْ وَافَقَتْهُمْ عَلَيْهِ الْأَشْعَرِيَّةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَهُمَا أَصْلَانِ مُبْتَدَعَانِ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِحِكْمَةِ وَيَأْمُرُ لِحِكْمَةِ وَمَذْهَبَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَيَرْضَى ذَلِكَ وَلَا يُحِبُّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ شَاءَ وُجُودَ ذَلِكَ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} فَإِنَّ نَفْسَ السُّجُودِ خُضُوعٌ لِلَّهِ وَلَوْ فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ لِلَّهِ مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ انْتَفَعَ كَالسَّحَرَةِ الَّذِينَ سَجَدُوا قَبْلَ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْعَبْدِ حُطَّ عَنَّا خَطَايَانَا دُعَاءٌ لِلَّهِ وَخُضُوعٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ الْمَدْعُوُّ بِهَا فِي آخِرِ الْبَقَرَةِ أُمُورٌ مَطْلُوبَةٌ لِلْعِبَادِ. وَقَدْ أُجِيبَ بِجَوَابِ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا قَدَّرَ أَمْرًا فَإِنَّهُ يُقَدِّرُ أَسْبَابَهُ وَالدُّعَاءُ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِهِ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَدَّرَ النَّصْرَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وُقُوعِهِ أَصْحَابَهُ بِالنَّصْرِ وَبِمَصَارِعِ الْقَوْمِ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ اسْتِغَاثَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدُعَاؤُهُ وَكَذَلِكَ

ص: 147

مَا وَعَدَهُ بِهِ رَبُّهُ مِنْ الْوَسِيلَةِ وَقَدْ قَضَى بِهَا لَهُ وَقَدْ أَمَرَ أُمَّتَهُ بِطَلَبِهَا لَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَهَا بِأَسْبَابِ مِنْهَا مَا سَيَكُونُ مِنْ الدُّعَاءِ. وَعَلَى هَذَا فَالدَّاخِلُ فِي السَّبَبِ هُوَ مَا وَقَعَ مِنْ الدُّعَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ فَيُثِيبُ هَذَا الدَّاعِيَ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الدُّعَاءِ بِجَعْلِهِ تَمَامَ السَّبَبِ وَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ سَبَبًا فِي اخْتِصَاصِهِ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ؛ بَلْ فِي حُصُولِهِ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ؛ لَكِنْ هُوَ يُثَابُ عَلَى الدُّعَاءِ لِكَوْنِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ وَهَذَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {مَا مِنْ عَبْدٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةِ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ مِثْلَهَا وَإِمَّا أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ مِنْ الذُّنُوبِ مِثْلَهَا وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ مِنْ الْبَلَاءِ مِثْلَهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إذًا نُكْثِرُ قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ} (1) فَالدَّاعِي بِهَذَا كَالدَّاعِي بِالْوَسِيلَةِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مَا يَخُصُّهُ كَالدَّاعِي لِلْأُمَّةِ وَلِأَخِيهِ الْغَائِبِ وَدُعَاؤُهُ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ الَّتِي بِهَا رَحْمَةُ الْأُمَّةِ كَمَا يُثَابُ عَلَى سُؤَالِهِ الْوَسِيلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ تَحِلَّ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهُنَا " جَوَابٌ ثَالِثٌ " وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْمَدْعُوِّ الْمَطْلُوبِ مَا لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْمَطْلُوبِ مِنْ الدُّعَاءِ فَيَكُونُ الدُّعَاءُ بِهِ كَدُعَائِهِ بِسَائِرِ مَطَالِبِهِ مِنْ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَلَيْسَ هُوَ كَدُعَاءِ

(1)

في الأصل والمطبوعة زيادة خصلة وهي: " وإما أن يكفر عنه من الذنوب مثلها " وعليه فالخصال أربع، وهو ما يتعارض مع مقدمة الحديث " خصال ثلاث ". والصواب ما أثبتناه من أحمد وابن أبي شيبة والطبراني.

ص: 148

الْغَائِبِ لِلْغَائِبِ؛ فَإِنَّ الْمَلَكَ يَقُولُ هُنَاكَ: وَلَك بِمِثْلِهِ فَيَدْعُو لَهُ الْمَلَكُ بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ لِلْغَائِبِ وَهُنَا هُوَ دَاعٍ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الشَّرْعَ وَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِهِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الرَّسُولَ يَضَعُ عَنْ أُمَّتِهِ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ وَسَأَلَ رَبَّهُ لِأُمَّتِهِ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَجْتَاحُهُمْ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْحُكْمِ فِي حَقِّ آحَادِ الْأُمَّةِ قَدْ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا عَصَى اللَّهَ ذَلِكَ الشَّخْصُ الْعَاصِي عُوقِبَ عَنْ ذَلِكَ بِسَلْبِ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَإِنْ كَانَتْ الشَّرِيعَةُ لَمْ تُنْسَخُ. يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ فِي هَذَا الدُّعَاءِ سُؤَالَ اللَّهِ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالنَّصْرِ عَلَى الْكُفَّارِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ حَاصِلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْصَرُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسْلَبُ الرِّزْقَ لِكَوْنِهِمْ فَرَّطُوا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُسْلَبُونَ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا فَرَّطُوا أَوْ قَصَّرُوا وَقَوْلُ اللَّهِ: " قَدْ فَعَلْت " يُقَالُ فِيهِ شَيْئَانِ.

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ وَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ يَتَضَمَّنُ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ نَقَصَ

ص: 149

إيمَانُهُ الْوَاجِبُ فَيَسْتَحِقُّ مِنْ سَلْبِ هَذِهِ النِّعَمِ بِقَدْرِ النَّقْصِ وَيُعَوِّقُ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَاذَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْ الْجَزَاءِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ قَامَ بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ.

الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: هَذَا الدُّعَاءُ اُسْتُجِيبَ لَهُ فِي جُمْلَةِ الْأَمَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ ثُبُوتُهُ لِكُلِّ فَرْدٍ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْمَطْلُوبِ لِجُمْلَةِ الْأُمَّةِ حَاصِلٌ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُهْلِكُوا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا أُهْلِكَتْ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {سَأَلْت رَبِّي لِأُمَّتِي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْته أَنْ لَا يَهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةِ عَامَّةٍ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْته أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَجْتَاحُهُمْ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْته أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا. وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنِّي إذَا قَضَيْت قَضَاءً لَمْ يُرَدَّ} . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: {لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعُوذُ بِوَجْهِك {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِك {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ: هَاتَانِ أَهْوَنُ} وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَقَعَ الذُّنُوبُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَخْتَلِفُوا؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمَ الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَنُو آدَمَ إلَّا كَذَلِكَ

ص: 150

وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْقِتَالِ وَالذُّنُوبِ دَلِيلًا عَلَى نَقْصِهَا؛ بَلْ هِيَ أَفْضَلُ الْأُمَمِ وَهَذَا الْوَاقِعُ بَيْنَهُمْ مِنْ لَوَازِمِ الْبَشَرِيَّةِ وَهُوَ فِي غَيْرِهَا أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ وَخَيْرُ غَيْرِهَا أَقَلُّ وَالْخَيْرُ فِيهَا أَكْثَرُ وَالشَّرُّ فِيهَا أَقَلُّ فَكُلُّ خَيْرٍ فِي غَيْرِهَا فَهُوَ فِيهَا أَعْظَمُ وَكُلُّ شَرٍّ فِيهَا فَهُوَ فِي غَيْرِهَا أَعْظَمُ. وَأَمَّا حُصُولُ الْمَطْلُوبِ لِلْآحَادِ مِنْهَا فَلَا يَلْزَمُ حُصُولُهُ لِكُلِّ عَاصٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ وَلَكِنْ قَدْ يَحْصُلُ لِلْعَاصِي مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا مَعَهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا حُصُولُ الْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ بِحَسَبِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ الْخِلْقِيَّةِ مِنْ جِنْسِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَأَمَّا دَفْعُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَدَفْعُ الْآصَارِ فَإِنَّ هَذَا قَدْ يُشْكِلُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَحْكَامِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. فَيُقَالُ: الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ الْمَرْفُوعُ عَنْ الْأُمَّةِ مَرْفُوعٌ عَنْ عُصَاةِ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّ الْعَاصِيَ لَا يَأْثَمُ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَكَلَ نَاسِيًا أَتَمَّ صَوْمَهُ سَوَاءٌ كَانَ مُطِيعًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَوْ عَاصِيًا فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُشْكِلُ وَعَنْهُ جَوَابَانِ. (أَحَدُهُمَا أَنَّ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحَنِيفِيَّةِ

ص: 151

السَّمْحَةِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَفْعَلُ شَيْئًا نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا وَيَكُونُ لِتَقْصِيرِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عِلْمًا وَعَمَلًا لَا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ؛ إمَّا لِجَهْلِهِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُفْتِيهِ بِالرُّخْصَةِ فِي الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ. وَالْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بُطْلَانَ الْعِبَادَاتِ أَوْ بَعْضِهَا بِهِ كَمَنْ يُبْطِلُ الصَّوْمَ بِالنِّسْيَانِ وَآخَرُونَ بِالْخَطَأِ وَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ الْمَخْلُوقُ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا فَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ نَفَى الْمُؤَاخَذَةَ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَخَفِيَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ هَذَا عُقُوبَةً لِمَنْ لَمْ يَجِدْ فِي نَفْسِهِ ثِقَةً إلَّا هَؤُلَاءِ فَيُفْتُونَهُ بِمَا يَقْتَضِي مُؤَاخَذَتَهُ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ فَلَا يَكُونُ مُقْتَضَى هَذَا الدُّعَاءِ حَاصِلًا فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ لَا لِنَسْخِ الشَّرِيعَةِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ مِمَّا يُعَاقِبُ بِهِ النَّاسَ عَلَى الذُّنُوبِ سَلْبَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ النَّافِعِ كَقَوْلِهِ: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وَقَالَ: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} وَقَالَ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَقَالَ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} وَقَالَ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}

ص: 152

وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ لِأَجْلِ ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ فَشَرِيعَةُ مُحَمَّدٍ لَا تَنْسَخُ وَلَا تُعَاقِبُ أُمَّتَهُ كُلَّهَا بِهَذَا وَلَكِنْ قَدْ تُعَاقِبُ ظَلَمَتَهُمْ بِهَذَا بِأَنْ يُحْرَمُوا الطَّيِّبَاتِ أَوْ بِتَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ: إمَّا تَحْرِيمًا كَوْنِيًّا بِأَنْ لَا يُوجَدَ غَيْثُهُمْ وَتَهْلَكَ ثِمَارُهُمْ وَتُقْطَعَ الْمِيرَةُ عَنْهُمْ أَوْ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ لَذَّةَ مَأْكَلٍ وَلَا مَشْرَبٍ وَلَا منكح وَلَا مَلْبَسٍ وَنَحْوِهِ كَمَا كَانُوا يَجِدُونَهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَتُسَلَّطَ عَلَيْهِمْ الْغُصَصُ وَمَا يُنَغِّصُ ذَلِكَ وَيُعَوِّقُهُ وَيَجْرَعُونَ غُصَصَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْأَهْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَقَالَ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} وَقَالَ: {إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} فَيَكُونُ هَذَا كَابْتِلَاءِ أَهْلِ السَّبْتِ بِالْحِيتَانِ. وَإِمَّا أَنْ يُعَاقَبُوا بِاعْتِقَادِ تَحْرِيمِ مَا هُوَ طَيِّبٌ حَلَالٌ لِخَفَاءِ تَحْلِيلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عِنْدَهُمْ كَمَا قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْأُمَّةِ اعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ أَشْيَاءَ فَرَوَّجَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَقَعُونَ فِيهِ مِنْ الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ؛ لَكِنْ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ عُوقِبُوا بِحِرْمَانِ الْعِلْمِ الَّذِي يَعْلَمُونَ بِهِ الْحِلَّ فَصَارَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ تَحْرِيمًا كَوْنِيًّا وَتَحْرِيمًا شَرْعِيًّا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ؛ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُ إلَّا إلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ لِعَجْزِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ

ص: 153

الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحِلِّ كَانَ عَجْزُهُ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ فِي حَقِّ الْمُقَصِّرِينَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ اعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا كَضَمَانِ الْبَسَاتِينِ وَالْمُشَارَكَاتِ وَغَيْرِهَا وَذَلِكَ لِخَفَاءِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَثَبَتَ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّهِمْ بِمَا ظَنُّوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُعَاقَبُ بِأَنْ يُخْفَى عَلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ وَالشَّرَابِ الطَّيِّبِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ وَهُوَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ لَوْ عَلِمَهُ؛ لَكِنْ لَا يَعْرِفُ بِذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا ضَمِنَ الْأَشْيَاءَ عَلَى وَجْهِهَا وَاسْتِقَامَتِهَا لِلْمُتَّقِينَ كَمَا ضَمِنَ هَذَا لِلْمُتَّقِينَ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُقَصِّرِينَ فِي طَاعَتِهِ مِنْ الْأُمَّةِ قَدْ يُؤَاخَذُونَ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمِنْ غَيْرِ نَسْخٍ بَعْدَ الرَّسُولِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ التَّيْسِيرِ وَلِعَدَمِ عِلْمِ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَا يُصَلِّي فِي السَّفَرِ قَصْرًا يَرَى الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ حَرَامًا فَيَصُومُ فِي السَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ الْعَظِيمَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا عُقُوبَةٌ لَهُ لِتَقْصِيرِهِ فِي الطَّاعَةِ؛ لَكِنَّهُ مِمَّا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ مِنْ خَطَايَاهُ مَا يُكَفِّرُهُ كَمَا يُكَفِّرُ خَطَايَا الْمُؤْمِنِينَ بِسَائِرِ مَصَائِبِ الدُّنْيَا.

ص: 154

وَكَذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ التَّرْبِيعَ فِي السَّفَرِ وَاجِبًا فَيُرَبِّعُ فَيُبْتَلَى بِذَلِكَ لِتَقْصِيرِهِ فِي الطَّاعَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي بَعْضُهَا مُبَاحٌ بِالِاتِّفَاقِ وَبَعْضُهَا مُتَنَازَعٌ فِيهِ؛ لَكِنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُحَرِّمْهُ؛ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا وُجُوبَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتَحْرِيمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ حَمَلَ عَلَيْهِمْ إصْرًا وَلَمْ تُوضَعْ عَنْهُمْ جَمِيعُ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ قَدْ وَضَعَهَا لَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوهَا. وَقَدْ يُبْتَلَوْنَ بِمُطَاعِ يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ فَيَكُونُ آصَارًا وَأَغْلَالًا مِنْ جِهَةِ مُطَاعِهِمْ: مِثْلُ حَاكِمٍ وَمُفْتٍ وَنَاظِرِ وَقْفٍ وَأَمِيرٍ يُنْسَبُ ذَلِكَ إلَى الشَّرْعِ؛ لِاعْتِقَادِهِ الْفَاسِدِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ وَيَكُونُ عَدَمُ عَلَمِ مُطَاعِيهِمْ تَيْسِيرَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً فِي حَقِّهِمْ لِذُنُوبِهِمْ كَمَا لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ سَارَ بِهِمْ فِي طَرِيقٍ يَضُرُّهُمْ وَعَدَلَ بِهِمْ عَنْ طَرِيقٍ فِيهِ الْمَاءُ وَالْمَرْعَى لِجَهْلِهِ لَا لِتَعَمُّدِهِ مَضَرَّتِهِمْ أَوْ أَقَامَ بِهِمْ فِي بَلَدٍ غَالِي الْأَسْعَارِ مَعَ إمْكَانِ الْمُقَامِ بِبَلَدِ آخَرَ. وَهَذَا لِأَنَّ النَّاسَ كَمَا قَدْ يُبْتَلَوْنَ بِمُطَاعِ يَظْلِمُهُمْ وَيَقْصِدُ ظُلْمَهُمْ يُبْتَلَوْنَ أَيْضًا بِمُطَاعِ يَجْهَلُ مَصْلَحَتَهُمْ الشَّرْعِيَّةَ وَالْكَوْنِيَّةَ فَيَكُونُ جَهْلُ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ عُقُوبَتِهِمْ كَمَا أَنَّ ظُلْمَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ مَضَرَّتِهِمْ فَهَؤُلَاءِ لَمْ تُرْفَعْ عَنْهُمْ الْآصَارُ وَالْأَغْلَالُ لِذُنُوبِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ لَيْسَ فِي شَرْعِهِ آصَارٌ وَأَغْلَالٌ فَلِهَذَا تُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ حُكَّامُ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ وَتُسَاقُ

ص: 155

إلَيْهِمْ الْأَعْدَاءُ وَتُقَادُ بِسَلَاسِلِ الْقَهْرِ وَالْقَدَرِ وَذَلِكَ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي لَمْ تُرْفَعْ عَنْهُمْ مَعَ عُقُوبَاتٍ لَا تُحْصَى؛ وَذَلِكَ لِضَعْفِ الطَّاعَةِ فِي قُلُوبِهِمْ وَتَمَكُّنِ الْمَعَاصِي وَحُبِّ الشَّهَوَاتِ فِيهَا فَإِذَا قَالُوا {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} دَخَلَ فِيهِ هَذَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فَعَلَى قَوْلَيْنِ:

قِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ التَّحْمِيلِ الْقَدَرِيِّ لَا مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ أَيْ: لَا تَبْتَلِينَا بِمَصَائِبَ لَا نُطِيقُ حَمْلَهَا كَمَا يُبْتَلَى الْإِنْسَانُ بِفَقْرِ لَا يُطِيقُهُ أَوْ مَرَضٍ لَا يُطِيقُهُ أَوْ حَدَثٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ حُبٍّ أَوْ عِشْقٍ لَا يُطِيقُهُ وَيَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ ذُنُوبَهُ. وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الذُّنُوبَ عَوَاقِبُهَا مَذْمُومَةٌ مُطْلَقًا. وَقَوْلُهُ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} وَ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} قَوْلُ حَقٍّ وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} . فَمَا مِنْ أَحَدٍ يُبْتَلَى بِجِنْسِ عَمَلِهِمْ إلَّا نَالَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ حَتَّى تَعَمُّدُ النَّظَرِ يُوَرِّثُ الْقَلْبَ عَلَاقَةً يَتَعَذَّبُ بِهَا الْإِنْسَانُ وَإِنْ قَوِيَتْ حَتَّى صَارَتْ غَرَامًا وَعِشْقًا زَادَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ سَوَاءٌ قَدَّرَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى

ص: 156

الْمَحْبُوبِ أَوْ عَاجِزٌ عَنْهُ؛ فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا فَهُوَ فِي عَذَابٍ أَلِيمٍ مِنْ الْحُزْنِ وَالْهَمِّ وَالْغَمِّ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا فَهُوَ فِي عَذَابٍ أَلِيمٍ مِنْ خَوْفِ فِرَاقِهِ وَمِنْ السَّعْيِ فِي تَأْلِيفِهِ وَأَسْبَابِ رِضَاهُ فَإِنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ أَوْ افْتَقَرَ تَضَاعَفَ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَإِنْ صَارَ إلَى غَيْرِهِ اسْتِبْدَالًا بِهِ أَوْ مُشَارَكَةً قَوِيَ عَذَابُهُ فَإِنَّ هَذَا الْجِنْسَ يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الْعَذَابِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي عِشْقِ الْبَغَايَا وَمَا يَحْصُلُ مِثْلُهُ فِي الْحَلَالِ وَإِنْ حَصَلَ فِي الْحَلَالِ نَوْعُ عَذَابٍ كَانَ أَخَفَّ مِنْ نَظِيرِهِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ ذُنُوبٍ أُخْرَى. فَإِذَا دَعَا الْإِنْسَانُ بِهَذَا الدُّعَاءِ يَخُصُّ نَفْسَهُ وَيَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمُ نَصِيبٍ كَيْفَ لَا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَا قَرَأَ بِهِمَا أَحَدٌ فِي لَيْلَةٍ إلَّا كَفَتَاهُ} وَكَيْفَ لَا تَكْفِيَانِهِ وَمَا دَعَا بِهِ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ إلَّا مَا حَصَلَ لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَقْرَءُوهُمَا فَإِنَّ الدَّاعِيَ بِهَذَا الدُّعَاءِ لَهُ مِنْهُ نَصِيبٌ يَخُصُّهُ كَسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا اُسْتُجِيبَ لَهُمْ هَذَا الدُّعَاءُ لَمَّا الْتَزَمُوا الطَّاعَةَ لِلَّهِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِمْ: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ثُمَّ أُنْزِلَ هَذَا الدُّعَاءُ فَدَعَوْا بِهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُمْ. وَلِهَذَا كَانُوا فِي الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 157

وَكَانُوا فِيهَا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ خَيْرًا مِمَّا كَانُوا فِيهَا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ فَلَمَّا كَانُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ حَدَثَ مِنْ بَعْضِهِمْ ذُنُوبٌ أَوْجَبَتْ اجْتِهَادَ الْإِمَامِ فِي نَوْعٍ مِنْ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ كَمَنْعِهِمْ مِنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَكَإِيقَاعِ الثَّلَاثِ إذَا قَالُوهَا بِكَلِمَةِ وَكَتَغْلِيظِ الْعُقُوبَةِ فِي الْخَمْرِ وَكَانَ أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ وَأَزْهَدُهُمْ مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ يَنْقَادُ لَهُ عُمَرُ مَا لَا يَنْقَادُ لِغَيْرِهِ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا حَتَّى تَنَازَعُوا فِيهَا وَهُمْ مُؤْتَلِفُونَ مُتَحَابُّونَ كُلٌّ مِنْهُمْ يُقِرُّ الْآخَرَ عَلَى اجْتِهَادِهِ. فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ " عُثْمَانَ " زَادَ التَّغَيُّرُ وَالتَّوَسُّعُ فِي الدُّنْيَا وَحَدَثَتْ أَنْوَاعٌ مِنْ الْأَعْمَالِ لَمْ تَكُنْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ فَحَصَلَ بَيْنَ بَعْضِ الْقُلُوبِ تَنَافُرٌ حَتَّى قُتِلَ عُثْمَانُ فَصَارُوا فِي فِتْنَةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} أَيْ هَذِهِ الْفِتْنَةُ لَا تُصِيبُ الظَّالِمَ فَقَطْ؛ بَلْ تُصِيبُ الظَّالِمَ وَالسَّاكِتَ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ الظُّلْمِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْهُ} . وَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَنْعِهِمْ كَثِيرًا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَصَارُوا يَخْتَصِمُونَ فِي مُتْعَةِ الْحَجِّ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَمْ تَكُنْ فِيهِ خُصُومَةٌ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ فَطَائِفَةٌ تَمْنَعُ الْمُتْعَةَ مُطْلَقًا كَابْنِ الزُّبَيْرِ وَطَائِفَةٌ تَمْنَعُ الْفَسْخَ كَبَنِي أُمِّيَّةَ وَأَكْثَرِ النَّاسِ وَصَارُوا يُعَاقِبُونَ مَنْ تَمَتَّعَ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تُوجِبُ الْمُتْعَةَ وَكُلٌّ مِنْهُمْ لَا

ص: 158

يَقْصِدُ مُخَالَفَةَ الرَّسُولِ؛ بَلْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ الْعِلْمُ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبُهُ مَا حَدَثَ مِنْ الذُّنُوبِ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم {خَرَجْت لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ فَرُفِعَتْ وَلَعَلَّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ} أَيْ قَدْ يَكُونُ إخْفَاؤُهَا خَيْرًا لَكُمْ لِتَجْتَهِدُوا فِي لَيَالِي الْعَشْرِ كُلِّهَا؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ إخْفَاءُ بَعْضِ الْأُمُورِ رَحْمَةً لِبَعْضِ النَّاسِ. وَالنِّزَاعُ فِي الْأَحْكَامِ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى شَرٍّ عَظِيمٍ مِنْ خَفَاءِ الْحُكْمِ؛ وَلِهَذَا صَنَّفَ رَجُلٌ كِتَابًا سَمَّاهُ " كِتَابُ الِاخْتِلَافِ " فَقَالَ أَحْمَد: سَمِّهِ " كِتَابَ السِّعَةِ " وَإِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِبَعْضِ النَّاسِ خَفَاؤُهُ لِمَا فِي ظُهُورِهِ مِنْ الشِّدَّةِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْله تَعَالَى {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . وَهَكَذَا مَا يُوجَدُ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ قَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَغْصُوبًا فَإِذَا لَمْ يَعْلَمُ الْإِنْسَان بِذَلِكَ كَانَ كُلُّهُ لَهُ حَلَالًا لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ بِحَالِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ فَخَفَاءُ الْعِلْمِ بِمَا يُوجِبُ الشِّدَّةَ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً كَمَا أَنَّ خَفَاءَ الْعِلْمِ بِمَا يُوجِبُ الرُّخْصَةَ قَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً كَمَا أَنَّ رَفْعَ الشَّكِّ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً وَقَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً. وَالرُّخْصَةُ رَحْمَةٌ وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهُ النَّفْسِ أَنْفَعَ كَمَا فِي الْجِهَادِ: {وَعَسَى

ص: 159

أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مِنْ الذُّنُوبِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِخَفَاءِ الْعِلْمِ النَّافِعِ أَوْ بَعْضِهِ؛ بَلْ يَكُونُ سَبَبًا لِنِسْيَانِ مَا عَلِمَ وَلِاشْتِبَاهِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ تَقَعُ الْفِتَنُ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ كَانَ أَسْكَنَ آدَمَ وَزَوْجَهُ الْجَنَّةَ وَقَالَ لَهُمَا: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} فَكُلُّ عَدَاوَةٍ كَانَتْ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا وَبَلَاءٍ وَمَكْرُوهٍ تَكُونُ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَفِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبَبُهَا الذُّنُوبُ وَمَعْصِيَةُ الرَّبِّ تَعَالَى. فَالْإِنْسَانُ إذَا كَانَ مُقِيمًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَانَ فِي نَعِيمِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمُ وَارِدٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَاتِهِ وَهُوَ فِي جَنَّةِ الدُّنْيَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {إذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا. قِيلَ: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: مَجَالِسُ الذِّكْرِ} وَقَالَ: {مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ} فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ هُنَا فِي رِيَاضِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. وَكُلَّمَا كَانَ قَلْبُهُ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ وَطَاعَتِهِ كَانَ مُعَلَّقًا بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى

ص: 160

فَلَا يَزَالُ فِي عُلُوٍّ مَا دَامَ كَذَلِكَ فَإِذَا أَذْنَبَ هَبَطَ قَلْبُهُ إلَى أَسْفَلَ فَلَا يَزَالُ فِي هُبُوطٍ مَا دَامَ كَذَلِكَ وَوَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمْثَالِهِ عَدَاوَةٌ؛ فَإِنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا ثَابَ وَعَمِلَ فِي حَالِ هُبُوطِ قَلْبِهِ إلَى أَنْ يَسْتَقِيمَ فَيَصْعَدُ قَلْبُهُ قَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} فَتَقْوَى الْقُلُوبِ هِيَ الَّتِي تَنَالُ اللَّهَ كَمَا قَالَ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فَأَمَّا الْأُمُورُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنَّا مِنْ اللُّحُومِ وَالدِّمَاءِ فَإِنَّهَا لَا تَنَالُ اللَّهَ. و " الْبَاطِنِيَّةُ " الْمُنْكِرُونَ لِخَلْقِ الْعَالَمِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمُعَادِ الْأَبْدَانِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ لِلْقُرْآنِ تَأْوِيلًا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ عِنْدَهُمْ مَا ثَمَّ " جَنَّةٌ " إلَّا لَذَّةُ مَا تَتَّصِفُ بِهَا النَّفْسُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَمَا ثَمَّ " نَارٌ " إلَّا أَلَمُ مَا تَتَّصِفُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ الْجَهْلِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ السَّيِّئَةِ فَنَارُ النُّفُوسِ أَلَمُهَا الْقَائِمُ بِهَا كَحَسَرَاتِهَا لِفَوَاتِ الْعِلْمِ أَوْ لِفَوَاتِ الدُّنْيَا الْمَحْبُوبَةِ لَهَا وَحَجْبُهَا إنَّمَا هِيَ ذُنُوبُهَا. وَهَذَا الْكَلَامُ مِمَّا يَذْكُرُهُ أَبُو حَامِدٍ فِي " الْمَضْنُونِ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ " لَكِنْ قَدْ يَقُولُ هَذَا: لَيْسَ هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَجْسَامِ؛ بَلْ ذَاكَ أَمْرٌ آخَرُ مِمَّا بَيَّنَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ. وَلَا نَعِيمَ عِنْدِهِمْ إلَّا مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ مِنْ هَذَا وَلِهَذَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ نَعِيمٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ النَّفْسِ وَلَا عَذَابٌ.

ص: 161

وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ شَرْعًا وَعَقْلًا؛ فَإِنَّ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا يُثَابُونَ وَيُعَاقَبُونَ بِأُمُورِ مُنْفَصِلَةٍ عَنْهُمْ فَكَيْفَ فِي دَارِ الْجَزَاءِ. وَلَكِنَّ الَّذِي أَثْبَتُوهُ مِنْ هَذَا وَهَذَا مِنْهُ مَا هُوَ حَقٌّ وَلَكِنَّ الْبَاطِلَ جَحَدَهُمْ مَا جَحَدُوهُ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ إلَّا فِي جَنَّةِ الْعِلْمِ وَهُبُوطُهُ انْخِفَاضُ دَرَجَتِهِ فِي الْعِلْمِ وَهَذَا كَذِبٌ؛ وَلَكِنْ مَا أَثْبَتُوهُ مِنْ الْحَقِّ حَقٌّ وَقِصَّةُ آدَمَ تَدُلُّ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ الَّذِي تُسَمِّيهِ الصُّوفِيَّةُ الْإِشَارَةَ؛ لَا أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ؛ لَكِنْ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ عُوقِبَ بِأَنْ يُطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ فَلَا يَفْهَمُ الْعِلْمَ أَوْ لَا يَفْهَمُ الْمُرَادَ مِنْهُ وَأَنَّهُ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ عَدُوُّهُ وَيَجِدُ ذُلًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْيَهُودِ: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} . وَلَا رَيْبَ أَنَّ لَذَّةَ الْعِلْمِ أَعْظَمُ اللَّذَّاتِ و " اللَّذَّةُ " الَّتِي تَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ وَتَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ هِيَ لَذَّةُ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَالْعَمَلِ لَهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِهِ وَهُمْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ. وَأَيْضًا فَنَفْسُ الْعِلْمِ بِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ حُبٌّ لَهُ وَعِبَادَةٌ لَهُ بَلْ كَانَ مَعَ حُبٍّ لِغَيْرِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ فَإِنَّ عَذَابَ هَذَا قَدْ يَكُونُ مِنْ أَعْظَمِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُمْ لَا يَجْعَلُونَ كَمَالَ اللَّذَّةِ إلَّا فِي نَفْسِ الْعِلْمِ.

ص: 162

وَ" أَيْضًا " فَاقْتِصَارُهُمْ عَلَى اللَّذَّةِ الْعَقْلِيَّةِ خَطَأٌ وَالنَّصَارَى زَادُوا عَلَيْهِمْ السَّمْعَ وَالشَّمَّ فَقَالُوا: يَتَمَتَّعُونَ بِالْأَرْوَاحِ الْمُتَعَشَّقَةِ وَالنَّغَمَاتِ الْمُطْرِبَةِ وَلَمْ يُثْبِتُوا هُمْ وَلَا الْيَهُودُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَلَا النِّكَاحَ - وَهِيَ لَذَّةُ اللَّمْسِ - وَالْمُسْلِمُونَ أَثْبَتُوا جَمِيعَ أَنْوَاعِ اللَّذَّاتِ: سَمْعًا وَبَصَرًا وَشَمًّا وَذَوْقًا وَلَمْسًا لِلرُّوحِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا وَكَانَ هَذَا هُوَ الْكَمَالُ؛ لَا مَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَأَعْظَمُ لَذَّاتِ الْآخِرَةِ لَذَّةُ النَّظَرِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ} وَهُوَ ثَمَرَةُ مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ فِي الدُّنْيَا فَأَطْيَبُ مَا فِي الدُّنْيَا مَعْرِفَتُهُ وَأَطْيَبُ مَا فِي الْآخِرَةِ النَّظَرُ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ التَّجَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مِقْدَارِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا. وَأَبُو حَامِدٍ يَذْكُرُ فِي كُتُبِهِ هُوَ وَأَمْثَالِهِ " الرُّؤْيَةَ " وَأَنَّهَا أَفْضَلُ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ وَيَذْكُرُ كَشْفَ الْحُجُبِ وَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ وَجْهَ اللَّهِ وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ يُرِيدُ بِهِ مَا تَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة وَالْفَلَاسِفَةُ؛ فَإِنَّ " الرُّؤْيَةَ " عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ إلَّا الْعِلْمَ؛ لَكِنْ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى الشَّيْءَ بِعَيْنَيْهِ وَقَدْ يُمَثِّلُ لَهُ خَيَالُهُ إذَا غَابَ عَنْهُ فَهَكَذَا الْعِلْمُ فَفِي الدُّنْيَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا مِثَالٌ كَالْخَيَالِ فِي الْحِسَابِ وَفِي الْآخِرَةِ يَعْلَمُونَهُ بِلَا مِثَالٍ وَهُوَ عِنْدُهُمْ " وُجُودٌ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ " و " كَشْفُ الْحِجَابِ "

ص: 163

عِنْدَهُمْ رَفْعُ الْمَانِعِ الَّذِي فِي الْإِنْسَانِ مِنْ الرُّؤْيَةِ وَهُوَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ فَحَقِيقَتُهُ جَعْلُ الْعَبْدِ عَالِمًا وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا تَقُولُ بِهِ الْفَلَاسِفَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ. وَهَؤُلَاءِ إنَّمَا يَأْمُرُونَ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا لِيَنْقَطِعَ تَعَلُّقُ النَّفْسِ بِهَا وَقْتَ فِرَاقِ النَّفْسِ فَلَا تَبْقَى النَّفْسُ مُفَارِقَةً لِشَيْءِ يُحِبُّهُ؛ لَكِنْ أَبُو حَامِدٍ لَا يُبِيحُ مَحْظُورَاتِ الشَّرْعِ قَطُّ؛ بَلْ يَقُولُ قَتْلُ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنْ قَتْلِ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ الْكُفَّارِ. وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَالْوَاصِلُ عِنْدَهُمْ إلَى الْعِلْمِ الْمَطْلُوبِ قَدْ يُبِيحُونَ لَهُ مَحْظُورَاتِ الشَّرَائِعِ حَتَّى الْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهَا إذَا كَانُوا مِمَّنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَإِلَّا فَغَالِبُ هَؤُلَاءِ لَا يُوجِبُونَ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ؛ بَلْ يُجَوِّزُونَ التَّهَوُّدَ وَالتَّنَصُّرَ وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَاصِلًا إلَى عِلْمِهِمْ فَهُوَ سَعِيدٌ. وَهَكَذَا تَقُولُ الِاتِّحَادِيَّةُ مِنْهُمْ: كَابْنِ سَبْعِينَ؛ وَابْنِ هُودٍ والتلمساني وَنَحْوِهِمْ وَيَدْخُلُونَ مَعَ النَّصَارَى بِيَعَهُمْ وَيُصَلُّونَ مَعَهُمْ إلَى الشَّرْقِ وَيَشْرَبُونَ مَعَهُمْ وَمَعَ الْيَهُودِ الْخَمْرَ وَيَمِيلُونَ إلَى دِينِ النَّصَارَى أَكْثَرَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ إبَاحَةِ الْمَحْظُورَاتِ؛ وَلِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَى الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ وَلِأَنَّهُمْ أَجْهَلُ فَيَقْبَلُونَ مَا يَقُولُونَهُ أَعْظَمُ مِنْ قَبُولِهِمْ لِقَوْلِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءِ النَّصَارَى جُهَّالٌ إذَا كَانَ فِيهِمْ مُتَفَلْسِفٌ

ص: 164

عَظَّمُوهُ وَهَؤُلَاءِ يَتَفَلْسَفُونَ. وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَفْرَحُ إذَا قِيلَ لَهُ لَسْت بِمُسْلِمِ؛ وَيَحْكِي عَنْ نَفْسِهِ - كَمَا كَانَ أَحْمَد المارديني وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَرَبِيٍّ يَحْكِي عَنْ نَفْسِهِ - أَنَّهُ دَخَلَ إلَى بَعْضِ دِيَارَاتِ النَّصَارَى لِيَأْخُذَ مِنْهُمْ مَا يَأْكُلُهُ هُوَ وَرَفِيقُهُ فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ يَتَكَلَّمُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَيَقُولُ: يَقُولُونَ: كَذَا وَكَذَا فَقَالَ لَهُ آخَرُ: لَا تَتَكَلَّمْ فِي الْمُسْلِمِينَ فَهَذَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَقَالَ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُ هَذَا وَجْهُهُ وَجْهُ مُسْلِمٍ؟ أَيْ لَيْسَ هَذَا بِمُسْلِمِ فَصَارَ يَحْكِيهَا المارديني أَنَّ النَّصْرَانِيَّ قَالَ عَنْهُ لَيْسَ هَذَا بِمُسْلِمِ وَيَفْرَحُ بِقَوْلِ النَّصْرَانِيِّ وَيُصَدِّقُهُ فِيمَا يَقُولُ أَيْ لَيْسَ هُوَ بِمُسْلِمِ. والمتفلسفة يُصَرِّحُونَ بِهَذَا. يَقُولُونَ: قُلْنَا: كَذَا وَكَذَا وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كَذَا وَكَذَا وَرُبَّمَا قَالُوا قُلْنَا: كَذَا وَقَالَ الْمِلِّيون: أَيْ أَهْلَ الْمِلَلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكُتُبُهُمْ مَشْحُونَةٌ بِهَذَا وَلَا بُدَّ لِأَحَدِهِمْ عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ أَنْ يَكُونَ عَلَى دِينِهِمْ. لَكِنَّ دُخُولَهُمْ فِي هَذَا كَدُخُولِهِمْ فِي سِيَاسَةِ الْمُلُوكِ كَمَا كَانُوا مَعَ التُّرْكِ الْكُفَّارِ وَكَانُوا مَعَ هُولَاكُو " مَلِكِ الْمَغُولِ الْكُفَّارِ وَمَعَ الْقَانِّ " الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ خَلِيفَةُ جنكزخان " بِبِلَادِ الخطا وَانْتِسَابُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ هُنَاكَ إلَى الْإِسْلَامِ انْتِسَابٌ إلَى إسْلَامٍ يَرْضَاهُ ذَلِكَ

ص: 165

الْمَلِكُ بِحَسَبِ غَرَضِهِ كَمَا كَانَ النَّصِيرُ الطوسي " وَأَمْثَالُهُ مَعَ هُولَاكُو " مَلِكِ الْكُفَّارِ وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِقَتْلِ الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَأَخَذَ كُتُبَ النَّاسِ: مُلْكَهَا وَوَقْفَهَا وَأَخَذَ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِغَرَضِهِ وَأَفْسَدَ الْبَاقِيَ وَبَنَى الرُّصَدَ وَوَضَعَهَا فِيهِ وَكَانَ يُعْطِي مِنْ وَقْفِ الْمُسْلِمِينَ لِعُلَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ البخشية والطوينية وَيُعْطِي فِي رَصْدِهِ الْفَيْلَسُوفَ وَالْمُنَجِّمَ وَالطَّبِيبَ أَضْعَافَ مَا يُعْطِي الْفَقِيهَ وَيَشْرَبُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْخَمْرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَا يُصَلُّونَ. وَكَذَلِكَ كَانَ بِالشَّامِ وَمِصْرً طَائِفَةٌ مَعَ تَصَوُّفِهِمْ وَتَأَلُّهِهِمْ وَتَزَهُّدِهِمْ يَشْرَبُ أَحَدُهُمْ الْخَمْرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَتَارَةً يُصَلُّونَ وَتَارَةً لَا يُصَلُّونَ. فَإِنَّهُمْ لَا يَدِينُونَ بِإِيجَابِ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ وَتَحْرِيمِ مُحَرَّمَاتِهِ عَلَيْهِمْ؛ بَلْ يَقُولُونَ: هَذَا لِلْعَامَّةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَأَمَّا مِثْلُنَا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْأَنْبِيَاءِ. وَيَحْكُونَ عَنْ بَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: قَدْ بُعِثَ نَبِيٌّ فَقَالَ: لَوْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِثْلِي مَا احْتَاجُوا إلَى نَبِيٍّ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْحِكَايَةِ يَحْكِيهَا مَنْ يَكُونُ رَئِيسَ الْأَطِبَّاءِ وَلَا يَعْرِفُ الزَّنْدَقَةَ وَلَا يَدْرِي مَضْمُونَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَا هُوَ لِجَهْلِهِ بِالنُّبُوَّاتِ وَقِيلَ لِرَئِيسِهِمْ الْأَكْبَرِ فِي زَمَنِ مُوسَى أَلَا تَأْتِيهِ فَتَأْخُذُ عَنْهُ؟ فَقَالَ: نَحْنُ قَوْمٌ مَهْدِيُّونَ فَلَا نَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَهْدِينَا. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ حُصُولِ اللَّذَّةِ فِي الْقَلْبِ وَالنَّعِيمِ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ

ص: 166

وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَهُوَ سَبَبُ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم {إذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ} وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَنْبَعِثُ الْقُلُوبَ إلَى الْخَيْرِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي بِهَا وَبِسَبَبِهَا تُفَتَّحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَيُمْتَنَعُ مِنْ الشُّرُورِ الَّتِي بِهَا تُفَتَّحُ أَبْوَابُ النَّارِ وَتُصَفَّدُ الشَّيَاطِينُ فَلَا يَتَمَكَّنُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَا يَعْمَلُونَهُ فِي الْإِفْطَارِ فَإِنَّ الْمُصَفَّدَ هُوَ الْمُقَيَّدُ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ بَنِي آدَمَ بِسَبَبِ الشَّهَوَاتِ فَإِذَا كَفُّوا عَنْ الشَّهَوَاتِ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ. وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ الَّتِي تُفْتَحُ وَتُغْلَقُ غَيْرُ مَا فِي الْقُلُوبِ؛ وَلَكِنْ مَا فِي الْقُلُوبِ سَبَبٌ لَهُ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ وَأَثَرٌ مِنْ آثَارِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم {الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ} فَقِيلَ: يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ مَا سَيَصِيرُ نَارًا وَقِيلَ: هُوَ سَبَبُ النَّارِ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 167

وَقَالَ شَيْخ الْإِسْلَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ -:

فَصْلٌ:

فِي قَوْله تَعَالَى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} : قَدْ تَنَوَّعَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي لَفْظِ (شَهِدَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَالْفِرَاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ حَكَمَ وَقَضَى. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ثَعْلَبٌ وَالزَّجَّاجُ: أَيْ بَيَّنَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَيْ أَعْلَمَ. وَكَذَلِكَ قَالَتْ طَائِفَةٌ مَعْنَى شَهَادَةِ اللَّهِ الْإِخْبَارُ وَالْإِعْلَامُ وَمَعْنَى شَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ الْإِقْرَارُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسِ أَنَّهُ شَهِدَ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ حِين كَانَ وَلَمْ يَكُنْ سَمَاءٌ وَلَا أَرْضٌ وَلَا بَرٌّ وَلَا بَحْرٌ فَقَالَ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ} . وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا صَحِيحَةٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ

ص: 168

تَتَضَمَّنُ كَلَامَ الشَّاهِدِ وَقَوْلُهُ وَخَبَرُهُ عَمَّا شَهِدَ بِهِ وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مَعَ أَنَّ الشَّاهِدَ نَفْسَهُ يَتَكَلَّمُ بِذَلِكَ وَيَقُولُهُ وَيَذْكُرُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْلِمًا بِهِ لِغَيْرِهِ وَلَا مُخْبِرًا بِهِ لِسِوَاهُ. فَهَذِهِ أَوَّلُ مَرَاتِبِ الشَّهَادَةِ. ثُمَّ قَدْ يُخْبِرُهُ وَيُعْلِمُهُ بِذَلِكَ فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ إعْلَامًا لِغَيْرِهِ وَإِخْبَارًا لَهُ وَمَنْ أَخْبَرَ غَيْرَهُ بِشَيْءِ فَقَدْ شَهِدَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} قَوْله تَعَالَى {وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا} الْآيَةَ. فَفِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ إنَّمَا أَخْبَرُوا خَبَرًا مُجَرَّدًا وَقَدْ قَالَ: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} } وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ قَوْلِ زُورٍ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَعَلَى أَيْ صِفَةٍ وُجِدَ فَلَا يَقُولُهُ الْعَبْدُ وَلَا يَحْضُرُهُ وَلَا يَسْمَعُهُ مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ. و " الزُّورُ " هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي قَدْ ازْوَرَّ عَنْ الْحَقِّ وَالِاسْتِقَامَةِ أَيْ تَحَوَّلَ وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَهَادَةَ الزُّورِ وَقَدْ قَالَ فِي الْمُظَاهِرِينَ مِنْ نِسَائِهِمْ {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} .

ص: 169

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ - وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ} وَهَؤُلَاءِ حَدَّثُوهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ؛ وَلَمْ يَقُولُوا: نَشْهَدُ عِنْدَك؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَلْتَزِمُونَ هَذَا اللَّفْظَ فِي التَّحْدِيثِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ قَدْ يَنْطِقُ بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي مَاعِزٍ: فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ رَجَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَفْظُهُ كَانَ إقْرَارًا وَلَمْ يَقُلْ: أَشْهَدُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ هِيَ إقْرَارُهُ وَهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهَا لَفْظُ أَشْهَدُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَكَلَامُ أَحْمَد يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ و " الثَّانِي " يُشْتَرَطُ ذَلِكَ كَمَا يُحْكَى عَنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " الْآيَةُ. فَالشَّهَادَةُ تَضَمَّنَتْ مَرْتَبَتَيْنِ: " إحْدَاهُمَا " تَكَلُّمُ الشَّاهِدِ وَقَوْلُهُ وَذِكْرُهُ لِمَا شَهِدَ فِي نَفْسِهِ بِهِ. و " الثَّانِي " إخْبَارُهُ وَإِعْلَامُهُ لِغَيْرِهِ بِمَا شَهِدَ بِهِ؛ فَمَنْ قَالَ:

ص: 170

حَكَمَ وَقَضَى فَهَذَا مِنْ بَابِ اللَّازِمِ فَإِنَّ الْحُكْمَ وَالْقَضَاءَ هُوَ إلْزَامٌ وَأَمْرٌ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ أَلْزَمَ الْخَلْقَ التَّوْحِيدَ وَأَمَرَهُمْ بِهِ وَقَضَى بِهِ وَحَكَمَ فَقَالَ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} وَقَالَ: {أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} وَقَالَ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وَقَالَ: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ يُوجِبُ عَلَى الْعِبَادِ عِبَادَتَهُ وَتَوْحِيدَهُ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ مَا سِوَاهُ فَقَدْ حَكَمَ وَقَضَى: أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي دَلَالَةِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَقَدْ أَخْبَرَ وَبَيَّنَ وَأَعْلَمَ أَنَّ مَا سِوَاهُ لَيْسَ بِإِلَهِ فَلَا يُعْبَدُ وَأَنَّهُ وَحْدَهُ الْإِلَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِعِبَادَتِهِ وَالنَّهْيَ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ فَإِنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ فِي مِثْلِ هَذَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ كَمَا إذَا اسْتَفْتَى شَخْصٌ شَخْصًا فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: هَذَا لَيْسَ بِمُفْتٍ هَذَا هُوَ الْمُفْتِي فَفِيهِ نَهْيٌ عَنْ اسْتِفْتَاءِ الْأَوَّلِ وَأَمْرٌ وَإِرْشَادٌ إلَى اسْتِفْتَاءِ الثَّانِي.

ص: 171

وَكَذَلِكَ إذَا تَحَاكَمَ إلَى غَيْرِ حَاكِمٍ أَوْ طَلَبَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ وَلِيِّ الْأَمْرِ فَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا حَاكِمًا وَلَا هَذَا سُلْطَانًا؛ هَذَا هُوَ الْحَاكِمُ وَهَذَا هُوَ السُّلْطَانُ فَهَذَا النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَذَلِكَ أَنَّ الطَّالِبَ إنَّمَا يَطْلُبُ مَنْ عِنْدَهُ مُرَادُهُ وَمَقْصُودُهُ فَإِذَا ظَنَّهُ شَخْصًا فَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ مُرَادُك عِنْدَهُ وَإِنَّمَا مُرَادُك عِنْدَ هَذَا كَانَ أَمْرًا لَهُ بِطَلَبِ مُرَادِهِ عِنْدَ هَذَا دُونَ ذَاكَ. وَالْعَابِدُونَ إنَّمَا مَقْصُودُهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا مَنْ هُوَ إلَهٌ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ لَيْسَ بِإِلَهِ إنَّمَا الْإِلَهُ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَانَ هَذَا نَهْيًا لَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَأَمْرًا بِعِبَادَتِهِ. و " أَيْضًا " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَالِبٌ لِلْعِبَادَةِ فَلَفْظُ الْإِلَهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ فَإِذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ مَا سِوَاهُ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا " بِالْإِلَهِ " مَنْ عَبَدَهُ عَابِدٌ بِلَا اسْتِحْقَاقٍ فَإِنَّ هَذِهِ الْآلِهَةَ كَثِيرَةٌ؛ وَلَكِنَّ تَسْمِيَتَهُمْ آلِهَةً وَالْخَبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ وَاِتِّخَاذَهُمْ مَعْبُودِينَ أَمْرٌ بَاطِلٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنْ هِيَ إلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} وَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} .

ص: 172

فَالْآلِهَةُ الَّتِي جَعَلَهَا عَابِدُوهَا آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا كَثِيرَةٌ؛ لَكِنَّ هِيَ لَا تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ فَلَيْسَتْ بِآلِهَةِ كَمَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ شَاهِدًا أَوْ حَاكِمًا أَوْ مُفْتِيًا أَوْ أَمِيرًا وَهُوَ لَا يُحْسِنُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَلَا بُدَّ لِكُلِّ إنْسَانٍ مِنْ إلَهٍ يَأْلَهُهُ وَيَعْبُدُهُ {تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ} فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ أَلَّهَ ذَلِكَ مَحَبَّةً وَذُلًّا وَتَعْظِيمًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِذَا شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَقَدْ حَكَمَ وَقَضَى بِأَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ. و " أَيْضًا " فَلَفْظُ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجُمَلِ الْخَبَرِيَّةِ فَيُقَالُ: لِلْجُمَلِ الْخَبَرِيَّةِ قَضِيَّةٌ وَيُقَالُ: قَدْ حُكِمَ فِيهَا بِثُبُوتِ هَذَا الْمَعْنَى وَانْتِفَاءِ هَذَا الْمَعْنَى وَكُلُّ شَاهِدٍ وَمُخْبِرٌ هُوَ حَاكِمٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ قَدْ حَكَمَ بِثُبُوتِ مَا أَثْبَتَهُ وَنَفْيِ مَا نَفَاهُ حُكْمًا خَبَرِيًّا قَدْ يَتَضَمَّنُ حُكْمًا طَلَبِيًّا.

‌فَصْلٌ:

وَشَهَادَةُ الرَّبِّ وَبَيَانُهُ وَإِعْلَامُهُ يَكُونُ بِقَوْلِهِ تَارَةً وَبِفِعْلِهِ تَارَةً.

فَالْقَوْلُ هُوَ مَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَأَوْحَاهُ إلَى عِبَادِهِ

ص: 173

كَمَا قَالَ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَقَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ وَالِاضْطِرَارِ أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ أَخْبَرُوا عَنْ اللَّهِ أَنَّهُ شَهِدَ وَيَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ بِقَوْلِهِ وَكَلَامِهِ؛ وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ جِهَةِ كُلِّ مَنْ بَلَّغَ عَنْهُ كَلَامَهُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} وَأَمَّا شَهَادَتُهُ بِفِعْلِهِ فَهُوَ مَا نَصَبَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ الَّتِي تُعْلَمُ دَلَالَتُهَا بِالْعَقْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَبَرٌ عَنْ اللَّهِ وَهَذَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِرْشَادِ فَإِنَّ الدَّلِيلَ يُبَيِّنُ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ وَيُظْهِرُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْبِرِ بِهِ الشَّاهِدِ بِهِ كَمَا قِيلَ: سَلْ الْأَرْضَ مَنْ فَجَّرَ أَنْهَارَهَا وَغَرَسَ أَشْجَارَهَا وَأَخْرَجَ ثِمَارَهَا وَأَحْيَا نَبَاتَهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَوْضَحَ نَهَارَهَا؛ فَإِنْ لَمْ تُجِبْك حِوَارًا أَجَابَتْك اعْتِبَارًا. وَهُوَ سُبْحَانَهُ شَهِدَ بِمَا جَعَلَهَا دَالَّةً عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ دَلَالَتَهَا إنَّمَا هِيَ بِخَلْقِهِ لَهَا فَإِذَا كَانَتْ الْمَخْلُوقَاتُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي جَعَلَهَا دَالَّةً عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ دَلَالَتَهَا إنَّمَا هِيَ بِخَلْقِهِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ الشَّاهِدُ الْمُبَيِّنُ بِهَا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ الْفِعْلِيَّةُ ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ. قَالَ ابْنُ كيسان: {شَهِدَ اللَّهُ} بِتَدْبِيرِهِ الْعَجِيبِ وَأُمُورِهِ

ص: 174

الْمُحْكَمَةِ عِنْدَ خَلْقِهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ.

فَصْلٌ:

وَقَوْلُهُ: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: قِيلَ: هُوَ حَالٌ مِنْ (شَهِدَ) : أَيْ شَهِدَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ. وَقِيلَ: مَنْ (هُوَ أَيْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ كَمَا يُقَالُ: لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَحْدَهُ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ. وَقَوْلُهُ: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ كِلَا الْعَامِلَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي أَنَّ الْمَعْمُولَ الْوَاحِدَ يَعْمَلُ فِيهِ عَامِلَانِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} و {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَسِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابِهِ يَجْعَلُونَ لِكُلِّ عَامِلٍ مَعْمُولًا وَيَقُولُونَ حُذِفَ مَعْمُولُ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ أَرْجَحُ كَمَا قَدْ بَسَطْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ فَقَوْلُهُ: {بِالْقِسْطِ} يَخْرُجُ عَلَى هَذَا إمَّا كَوْنُهُ يَشْهَدُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ؛ فَإِنَّ الْقَائِمَ بِالْقِسْطِ هُوَ الْقَائِمُ بِالْعَدْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ

ص: 175

{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} فَالْقِيَامُ بِالْقِسْطِ يَكُونُ فِي الْقَوْلِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْعَدْلُ وَيَكُونُ فِي الْفِعْلِ. فَإِذَا قِيلَ: شَهِدَ {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} أَيْ: مُتَكَلِّمًا بِالْعَدْلِ مُخْبِرًا بِهِ آمِرًا بِهِ: كَانَ هَذَا تَحْقِيقًا لِكَوْنِ الشَّهَادَةِ شَهَادَةَ عَدْلٍ وَقِسْطٍ وَهِيَ أَعْدَلُ مِنْ كُلِّ شَهَادَةٍ كَمَا أَنَّ الشِّرْكَ أَظْلَمُ مِنْ كُلِّ ظُلْمٍ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ أَعْظَمُ الشَّهَادَاتِ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ فَذَكَرَ ابْنُ السَّائِبِ: {أَنَّ حَبْرَيْنِ مِنْ أَحْبَارِ الشَّامِ قَدِمَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَبْصَرَا الْمَدِينَةَ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ بِصِفَةِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ الَّذِي يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَلَمَّا دَخَلَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَرَّفَاهُ بِالصِّفَةِ فَقَالَا: أَنْتَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَا: وَأَحْمَد؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَا: نَسْأَلُك عَنْ شَهَادَةٍ فَإِنْ أَخْبَرْتنَا بِهَا آمَنَّا بِك. فَقَالَ: سَلَانِي. فَقَالَا: أَخْبِرْنَا عَنْ أَعْظَمِ شَهَادَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ} . وَلَفْظُ " الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ " كَمَا يَتَنَاوَلُ الْقَوْلَ يَتَنَاوَلُ الْعَمَلَ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: بشهد وَهُوَ قَائِلٌ بِالْقِسْطِ عَامِلٌ بِهِ لَا بِالظُّلْمِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تَضَمَّنَتْ قَوْلًا وَعَمَلًا فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ فَيُعْبَدُ وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَأَنَّ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَحْدَهُ هُمْ الْمُفْلِحُونَ السُّعَدَاءُ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ بِهِ فِي النَّارِ فَإِذَا شَهِدَ قَائِمًا بِالْعَدْلِ الْمُتَضَمِّنَ جَزَاءَ الْمُخْلَصِينَ بِالْجَنَّةِ وَجَزَاءَ

ص: 176

الْمُشْرِكِينَ بِالنَّارِ كَانَ هَذَا مِنْ تَمَامِ تَحْقِيقِ مُوجَبِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَكَانَ قَوْلُهُ: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} تَنْبِيهًا عَلَى جَزَاءِ الْمُخْلَصِينَ وَالْمُشْرِكِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمْ البغوي نَظْمُ الْآيَةِ شَهِدَ اللَّهُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} أَيْ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ قَائِمٌ بِأَمْرِ فُلَانٍ أَيْ يُدَبِّرُهُ وَيَتَعَاهَدُ أَسْبَابَهُ وَقَائِمٌ بِحَقِّ فُلَانٍ أَيْ مُجَازٍ لَهُ فَاَللَّهُ تَعَالَى مُدَبِّرٌ رَزَّاقٌ مُجَازٍ بِالْأَعْمَالِ. وَإِذَا اُعْتُبِرَ الْقِسْطُ فِي الْإِلَهِيَّةِ كَانَ الْمَعْنَى: " لَا إلَهَ إلَّا هُوَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ " أَيْ هُوَ وَحْدَهُ الْإِلَهُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ فَيَكُونُ وَحْدَهُ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ مَعَ كَوْنِهِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ كَمَا يُقَالُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إلَهًا وَاحِدًا أَحَدًا صَمَدًا وَهَذَا الْوَجْهُ أَرْجَحُ؛ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَأُولِي الْعِلْمِ يَشْهَدُونَ لَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ. و " الْوَجْهُ الْأَوَّلُ " لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ كَمَا شَهِدَ بِهِ أَبْلَغَ مِنْ كَوْنِهِ حَالَ الشَّاهِدِ وَقِيَامُهُ بِالْقِسْطِ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ يَقُولُ الصِّدْقَ وَيَعْمَلُ بِالْعَدْلِ كَمَا قَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} وَقَالَ هُودٌ: {إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ.

ص: 177

وَقَالَ: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَلِمَا يُشْرَكُ بِهِ مِنْ الْأَوْثَانِ كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} الْآيَاتِ. إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَالِقٌ مُنْعِمٌ عَالِمٌ وَمَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا تَخْلُقُ شَيْئًا وَلَا تُنْعِمُ بِشَيْءِ وَلَا تَعْلَمُ شَيْئًا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا مَيْتَةٌ فَهَلْ يَسْتَوِي هَذَا وَهَذَا؟ فَكَيْفَ يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَعَ هَذَا الْفَرْقِ الَّذِي لَا فَرْقَ أَعْظَمَ مِنْهُ؟ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا أَعْظَمُ الظُّلْمِ وَالْإِفْكِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} كِلَاهُمَا مَثَلٌ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَوِي هُوَ وَمَا يُشْرِكُونَ بِهِ كَمَا ذُكِرَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْفَرْقُ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ لَكِنْ الْمُشْرِكُونَ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ

ص: 178

آلِهَتَهُمْ مَخْلُوقَةٌ مَمْلُوكَةٌ لَهُ يُسَوُّونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي الْمَحَبَّةِ وَالدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} فَإِنَّ الِاسْتِقَامَةَ وَالِاعْتِدَالَ مُتَلَازِمَانِ فَمَنْ كَانَ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ بِالْقِسْطِ كَانَ مُسْتَقِيمًا وَمَنْ كَانَ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ مُسْتَقِيمًا كَانَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ. وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ نَسْأَلَهُ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ؛ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ: مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَصِرَاطُهُمْ هُوَ الْعَدْلُ وَالْمِيزَانُ؛ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ وَتَرْكُ مَعَاصِيهِ فَالْمَعَاصِي كُلُّهَا ظُلْمٌ مُنَاقِضٌ لِلْعَدْلِ مُخَالِفٌ لِلْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . ذُكِرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: الْأُولَى وَصْفٌ وَتَوْحِيدٌ وَالثَّانِيَةُ رَسْمٌ وَتَعْلِيمٌ. أَيْ قَوْلُهُ: {لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْأُولَى هُوَ

ص: 179

ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ شَهِدَ بِهَا فَقَالَ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ} وَالتَّالِي لِلْقُرْآنِ إنَّمَا يَذْكُرُ أَنَّ اللَّهَ شَهِدَ بِهَا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَهَادَةٌ مِنْ التَّالِي نَفْسِهِ بِهَا فَذَكَرَهَا اللَّهُ مُجَرَّدَةً لِيَقُولَهَا التَّالِي فَيَكُونُ التَّالِي قَدْ شَهِدَ بِهَا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. فَالْأُولَى خَبَرٌ عَنْ اللَّهِ بِالتَّوْحِيدِ لِنَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ وَهَذِهِ خَبَرٌ عَنْ اللَّهِ بِالتَّوْحِيدِ. وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَالْعِزَّةُ تَتَضَمَّنُ الْقُدْرَةَ وَالشِّدَّةَ وَالِامْتِنَاعَ وَالْغَلَبَةَ. تَقُولُ الْعَرَبُ: عَزَّ يعز بِفَتْحِ الْعَيْنِ إذَا صُلِبَ وَعَزَّ يَعِزُّ بِكَسْرِهَا إذَا امْتَنَعَ وَعَزَّ يَعُزُّ بِضَمِّهَا إذَا غَلَبَ. فَهُوَ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ قَوِيٌّ مَتِينٌ وَهُوَ مَنِيعٌ لَا يُنَالُ وَهُوَ غَالِبٌ لَا يُغْلَبُ. وَالْحَكِيمُ يَتَضَمَّنُ حُكْمُهُ وَعِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ فِيمَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ فَإِذَا أَمَرَ بِأَمْرِ كَانَ حَسَنًا وَإِذَا أَخْبَرَ بِخَبَرِ كَانَ صِدْقًا وَإِذَا أَرَادَ خَلْقَ شَيْءٍ كَانَ صَوَابًا فَهُوَ حَكِيمٌ فِي إرَادَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ.

فَصْلٌ:

وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَلَاثَةَ أُصُولٍ: شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ وَأَنَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ؛ فَتَضَمَّنَتْ وَحْدَانِيَّتَهُ الْمُنَافِيَةَ

ص: 180

لِلشِّرْكِ وَتَضَمَّنَتْ عَدْلَهُ الْمُنَافِيَ لِلظُّلْمِ وَتَضَمَّنَتْ عِزَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ الْمُنَافِيَةَ لِلذُّلِّ وَالسَّفَهِ وَتَضَمَّنَتْ تَنْزِيهَهُ عَنْ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالسَّفَهِ فَفِيهَا إثْبَاتُ التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتُ الْعَدْلِ وَإِثْبَاتُ الْحِكْمَةِ وَإِثْبَاتُ الْقُدْرَةِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ قَدْ تَحْتَجُّ بِهَا عَلَى مَا يَدْعُونَهُ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَلَا حُجَّةَ فِيهَا لَهُمْ؛ لَكِنَّ فِيهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى خُصُومِهِمْ الْجَبْرِيَّةِ أَتْبَاعِ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ؛ الَّذِينَ يَقُولُونَ: كُلُّ مَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ فَهُوَ عَدْلٌ وَيَنْفُونَ الْحِكْمَةَ. فَيَقُولُونَ: يَفْعَلُ لَا لِحِكْمَةِ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لَهُمْ؛ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَفْيُ الصِّفَاتِ وَهُمْ يُسَمُّونَ نَفْيَ الصِّفَاتِ تَوْحِيدًا؛ بَلْ الْإِلَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ مَحَبَّةِ الْمَعْبُودِ. وَالْمُشْرِكُونَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّونَ اللَّهَ أَعْظَمَ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنْدَادِهِمْ؛ فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ لَمْ يَشْهَدْ فِي الْحَقِيقَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: إنَّ ذَاتَه لَا تُحَبُّ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْكِرُونَ إلَهِيَّتَهُ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

ص: 181

وَقِيَامُهُ بِالْقِسْطِ مَقْرُونٌ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ؛ فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمَاثِلُهُ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ وَالْمُعْتَزِلَةُ تَجْعَلُ الْقِسْطَ مِنْهُ مِثْلَ الْقِسْطِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ؛ فَمَا كَانَ عَدْلًا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ كَانَ عَدْلًا مِنْ الْخَالِقِ وَهَذَا تَسْوِيَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ؛ وَذَلِكَ قَدْحٌ فِي أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَالْجَهْمِيَّة عِنْدَهُمْ أَيُّ شَيْءٍ أَمْكَنَ وُقُوعُهُ كَانَ قِسْطًا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} كَلَامًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا مَدْحَ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ كُلُّ مَقْدُورٍ قِسْطًا كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ قَائِمٌ بِمَا يَفْعَلُهُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لِمَا يَفْعَلُهُ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَدْحٌ وَلَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَوْنِهِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ؛ بَلْ الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّهُ يَقُومُ بِالْقِسْطِ لَا بِالظُّلْمِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ؛ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ مُنَزَّهٌ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا كَمَا قَالَ: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} وَقَدْ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَكُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ وَقَالَ: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} فَهُوَ يَقُومُ عَلَيْهَا بِكَسْبِهَا لَا بِكَسْبِ غَيْرِهَا وَهَذَا مِنْ قِيَامِهِ بِالْقِسْطِ. وَقَالَ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} الْآيَةَ. وَأَيْضًا فَمِنْ قِيَامِهِ بِالْقِسْطِ وَقِيَامِهِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ: أَنَّهُ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ كَمَا قَالَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} إلَى آخِرِهَا.

ص: 182

وَالْمُعْتَزِلَةُ تُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ الْعَظِيمَةَ الْكَثِيرَةَ بِكَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ وَتُحْبِطُ إيمَانَهُ وَتَوْحِيدَهُ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوبِ وَهَذَا مِمَّا تَفَرَّدُوا بِهِ مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ فَهُمْ يَنْسُبُونَ اللَّهَ إلَى الظُّلْمِ لَا إلَى الْعَدْلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:

وَقَوْلُهُ: {هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} إثْبَاتٌ لِعِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْجَبْرِيَّةَ - أَتْبَاعَ جَهْمٍ - لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ حِكْمَةٌ؛ وَلِهَذَا لَمَّا أَرَادَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ أَنْ تُفَسِّرَ حِكْمَتَهُ فَسَّرُوهَا إمَّا بِالْقُدْرَةِ وَإِمَّا بِالْعِلْمِ وَإِمَّا بِالْإِرَادَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إثْبَاتٌ لِحِكْمَتِهِ فَإِنَّ الْقَادِرَ وَالْعَالِمَ وَالْمُرِيدَ قَدْ يَكُونُ حَكِيمًا وَقَدْ لَا يَكُونُ وَالْحِكْمَةُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ وَيَقُولُونَ أَيْضًا: الْفِعْلُ لِغَرَضِ إنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ وَيَتَضَرَّرُ وَيَتَأَلَّمُ وَيَلْتَذُّ؛ وَذَلِكَ يُنْفَى عَنْ اللَّهِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ أَثْبَتُوا أَنَّهُ يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ. وَسَمَّوْا ذَلِكَ غَرَضًا: هُمْ وَطَائِفَةٌ

ص: 183

مِنْ الْمُثْبِتَةِ؛ لَكِنْ قَالُوا: الْحِكْمَةُ أَمْرٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ لَا يَقُومُ بِهِ كَمَا قَالُوا فِي كَلَامِهِ وَإِرَادَتِهِ؛ فَاسْتَطَالَ عَلَيْهِمْ الْمُجْبِرَةُ بِذَلِكَ فَقَالُوا: الْحَكِيمُ مَنْ يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ تَعُودُ إلَى نَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ تَعُدْ إلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ حَكِيمًا؛ بَلْ كَانَ سَفِيهًا. فَيُقَالُ لِلْمُجْبِرَةِ: مَا نَفَيْتُمْ بِهِ الْحِكْمَةَ هُوَ بِعَيْنِهِ حُجَّةُ مَنْ نَفَى الْإِرَادَةَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ قَالُوا: الْإِرَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ يَنْتَفِعُ وَيَتَضَرَّرُ وَيَتَأَلَّمُ وَيَلْتَذُّ وَإِثْبَاتُ إرَادَةٍ بِدُونِ هَذَا لَا يُعْقَلُ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: نَحْنُ مُوَافِقُونَ لِلسَّلَفِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى إثْبَاتِ الْإِرَادَةِ فَمَا كَانَ جَوَابًا لَكُمْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فَهُوَ جَوَابُ سَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَكُمْ حَيْثُ أَثْبَتُّمْ إرَادَةً بِلَا حِكْمَةٍ يُرَادُ الْفِعْلُ لَهَا. وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ مَا فِي لَفْظِ هَذِهِ الْحُجَّةِ مِنْ الْكَلِمَاتِ الْمُجْمَلَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:

وَإِثْبَاتُ شَهَادَةِ أُولِي الْعِلْمِ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَهُ بالوحدانية يَشْهَدُ بِهَا لَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيَشْهَدُونَ بِمَا شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ.

ص: 184

وَزَعَمَ طَائِفَةٌ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُوَحِّدُ أَحَدٌ اللَّهُ وَأَنْشَدُوا:

مَا وَحَّدَ الْوَاحِدُ مِنْ واحد

إذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جاحد

وَهَؤُلَاءِ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ يَدَّعُونَ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَحِّدُ هُوَ الْمُوَحَّدَ؛ فَيَكُونُ الْحَقُّ هُوَ النَّاطِقُ عَلَى لِسَانِ الْعَبْدِ وَاَللَّهُ الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ لَا الْعَبْدُ. وَهَذَا فِي زَعْمِهِمْ هُوَ السِّرُّ الَّذِي كَانَ الْحَلَّاجُ يَعْتَقِدُهُ وَهُوَ بِزَعْمِهِمْ قَوْلُ خَوَاصِّ الْعَارِفِينَ؛ لَكِنْ لَا يُصَرِّحُونَ بِهِ. وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا فِي عُمُومِ الصَّالِحِينَ مَا اعْتَقَدَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ؛ لَكِنْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ إظْهَارُهُ؛ فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ يُنَاقِضُ ذَلِكَ مُنَاقِضَةً ظَاهِرَةً فَصَارُوا يُشِيرُونَ إلَيْهِ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ مِنْ السِّرِّ الْمَكْتُومِ وَمِنْ عِلْمِ الْأَسْرَارِ الْغَيْبِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُبَاحَ بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ مُلْحِدٍ وَهُوَ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى فَإِنَّ النَّصَارَى إنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ فِي الْمَسِيحِ لَمْ يَقُولُوهُ فِي جَمِيعِ الصَّالِحِينَ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ؛ إذْ الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَإِبْطَالُ قَوْلِ الْمُبْتَدِعِينَ.

ص: 185

فَصْلٌ:

وَإِذَا كَانَتْ شَهَادَةُ اللَّهِ تَتَضَمَّنُ بَيَانَهُ لِلْعِبَادِ وَدَلَالَتَهُ لَهُمْ وَتَعْرِيفَهُمْ بِمَا شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ أَنَّهُ شَهِدَ فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ أَعْظَمُ الشَّهَادَاتِ وَإِلَّا فَلَوْ شَهِدَ شَهَادَةً لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْعِلْمِ بِهَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِذَلِكَ وَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ كَمَا أَنَّ الْمَخْلُوقَ إذَا كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لَمْ يُبَيِّنْهَا بَلْ كَتَمَهَا لَمْ يَنْتَفِعْ أَحَدٌ بِهَا وَلَمْ تَقُمْ بِهَا حُجَّةٌ. وَلِهَذَا ذَمَّ سُبْحَانَهُ مَنْ كَتَمَ الْعِلْمَ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ الشَّهَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} أَيْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ مِنْ اللَّهِ وَكَتَمَهَا وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ وَشَهَادَةٌ مِنْهُ بِمَا فِيهِ. وَقَدْ ذَمَّ مَنْ كَتَمَهُ كَمَا كَتَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْخَبَرِ وَالشَّهَادَةِ لِإِبْرَاهِيمَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَكَتَمُوا إسْلَامَهُمْ وَمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْأَخْبَارِ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَبِصِفَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} . وَقَالَ

ص: 186

تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَالشَّهَادَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ عِلْمِ الشَّاهِدِ وَصِدْقِهِ وَبَيَانِهِ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الشَّهَادَةِ إلَّا بِهَذِهِ الْأُمُورِ؛ وَلِهَذَا ذَمَّ مَنْ يَكْتُمُ وَيُحَرِّفُ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ {الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا} .

فَصْلٌ:

وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ شَهَادَتِهِ لِلْعِبَادِ؛ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ شَهِدَ فَهُوَ قَدْ بَيَّنَهَا بِالطَّرِيقَيْنِ: بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ. فَالسَّمِيعُ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ الْمَتْلُوَّةَ الْمُنَزَّلَةَ وَالْبَصِيرُ يُعَايِنُ آيَاتِهِ الْمَخْلُوقَةَ الْفِعْلِيَّةَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ شَهَادَتَهُ تَتَضَمَّنُ

ص: 187

بَيَانَهُ وَدَلَالَتَهُ لِلْعِبَادِ وَتَعْرِيفَهُمْ ذَلِكَ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِآيَاتِهِ فَإِنَّ آيَاتِهِ هِيَ دَلَالَاتُهُ وَبَرَاهِينَهُ الَّتِي بِهَا يَعْرِفُ الْعِبَادُ خَبَرَهُ وَشَهَادَتَهُ كَمَا عَرَّفَهُمْ بِهَا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَهُوَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ؛ فَخَبَرُهُ يَتَضَمَّنُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَفِعْلُهُ يُبَيِّنُ حِكْمَتَهُ. فَالْأَنْبِيَاءُ إذَا أَخْبَرُوا عَنْهُ بِكَلَامِهِ عُرِفَ بِذَلِكَ شَهَادَتُهُ وَآيَاتُهُ الْقَوْلِيَّةُ وَلَا بُدَّ أَنْ يُعَرِّف صِدْقَ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا أَخْبَرُوا عَنْهُ؛ وَذَلِكَ قَدْ عَرَفَهُ بِآيَاتِهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا الْأَنْبِيَاءَ وَدَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِهِمْ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إلَّا بِآيَةِ تُبَيِّنُ صِدْقَهُ إذْ تَصْدِيقُهُ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ غَيْرُ جَائِزٍ كَمَا قَالَ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ. وَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . وَقَالَ: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} وَقَالَ: {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيته وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَيَّ

ص: 188

فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . فَالْآيَاتُ وَالْبَرَاهِينُ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا الرُّسُلُ دَلَالَاتُ اللَّهِ عَلَى صِدْقِهِمْ دَلَّ بِهَا الْعِبَادَ وَهِيَ شَهَادَةُ اللَّهِ بِصِدْقِهِمْ فِيمَا بَلَّغُوا عَنْهُ وَاَلَّذِي بَلَّغُوهُ فِيهِ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ النُّظَّارِ: إنَّ الْمُعْجِزَةَ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ وَهِيَ تَجْرِي مَجْرَى الْمُرْسَلِ صُدِّقَتْ فَهِيَ تَصْدِيقٌ بِالْفِعْلِ تَجْرِي مَجْرَى التَّصْدِيقِ بِالْقَوْلِ؛ إذْ كَانَ النَّاسُ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ الْمُرْسَلَ مِنْهُ وَتَصْدِيقُهُ إخْبَارٌ بِصِدْقِهِ وَشَهَادَةٌ لَهُ بِالصِّدْقِ وَشَهَادَةٌ لَهُ بِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ وَشَهَادَةٌ لَهُ بِأَنَّ كُلَّ مَا يُبَلِّغُهُ عَنْهُ كَلَامُهُ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ اسْمُهُ الْمُؤْمِنُ وَهُوَ فِي أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ الْمُصَدِّقُ الَّذِي يُصَدِّقُ أَنْبِيَاءَهُ فِيمَا أَخْبَرُوا عَنْهُ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي دَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِهِ. وَأَمَّا الطَّرِيقُ العياني فَهُوَ أَنْ يَرَى الْعِبَادُ مِنْ الْآيَاتِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ مَا يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ الْوَحْيَ الَّذِي بَلَّغَتْهُ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ حَقٌّ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أَيْ أَوَلَمْ يَكْفِ بِشَهَادَتِهِ الْمُخْبِرَةِ بِمَا عَلِمَهُ وَهُوَ الْوَحْيُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وَعَلِيمٌ بِهِ فَإِذَا أَخْبَرَ بِهِ وَشَهِدَ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا وَإِنْ لَمْ يَرَ

ص: 189

الْمَشْهُودَ بِهِ وَشَهَادَتُهُ قَدْ عُلِمَتْ بِالْآيَاتِ الَّتِي دَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فَالْعَالِمُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَنْظُرَ الْآيَاتِ الْمُشَاهَدَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ بَلْ قَدْ يَعْلَمُ ذَلِكَ بِمَا عَلِمَ بِهِ أَنَّ الرَّسُولَ صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ شَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِهِ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ فَقَالَ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} الْآيَاتِ إلَى قَوْلِهِ: {إلَّا الظَّالِمُونَ} فَبَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعَلَمَ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهِ وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الدَّعْوَةُ وَالْحُجَّةُ وَهُوَ الدَّلِيلُ وَالْمَدْلُولُ عَلَيْهِ وَالْحُكْمُ وَهُوَ الدَّعْوَى وَهُوَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الدَّعْوَى وَهُوَ الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ بَيِّنٌ فِي صُدُورِهِمْ أَوْ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ فِي صُدُورِهِمْ أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْأَمْرَانِ وَهُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّهُ مَحْفُوظٌ فِي صُدُورِ الْعُلَمَاءِ بَيْن فِي صُدُورِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ كَمَا قَالَ: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} وَقَالَ: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ

ص: 190

فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . فِيهَا بَيَانُ مَا يُوجِبُ السَّعَادَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُنْجِيهِمْ مِنْ الْعَذَابِ. ثُمَّ قَالَ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ كَانَتْ شَهَادَتُهُ بِعِلْمِ وَقَدْ بَيَّنَ شَهَادَتَهُ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ وَمِنْهَا الْقُرْآنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

‌فَصْلٌ:

وَأَمَّا كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ صَادِقًا فَهَذَا مَعْلُوم بِالْفِطْرَةِ الضَّرُورِيَّةِ لِكُلِّ أَحَدٍ

؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ مِنْ أَبْغَضِ الصِّفَاتِ عِنْدَ بَنِي آدَمَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ

ص: 191

ذَلِكَ وَكُلُّ إنْسَانٍ مَحْمُودٌ يَتَنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَذُمُّ الْكَذِبَ فَهُوَ وَصْفُ ذَمٍّ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَأَمَّا عَدَمُ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَهَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْمَخْلُوقِ وَلَا يُحِيطُ عِلْمًا بِكُلِّ شَيْءٍ إلَّا اللَّهُ فَلَمْ يَكُنْ عَدَمُ الْعِلْمِ عِنْدَ النَّاسِ نَقْصًا كَالْكَذِبِ؛ فَلِهَذَا يُبَيِّنُ الرَّبُّ عِلْمَهُ بِمَا يَشْهَدُ بِهِ وَأَنَّهُ أَصْدَقُ حَدِيثًا مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَأَحْسَنُ حُكْمًا وَأَصْدَقُ قِيلًا؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَهُوَ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. و {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَهُمْ يَشْهَدُونَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ؛ فَيَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ كَالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالنَّهْيِ عَنْ الشِّرْكِ وَالْإِخْبَارِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالشَّرَائِعِ الْكُلِّيَّةِ وَيَشْهَدُونَ أَيْضًا بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ ذِكْرِ صِفَاتِهِ وَرِسَالَتِهِ وَكِتَابِهِ. وَهَذَانِ الطَّرِيقَانِ بِهِمَا تَثْبُتُ نُبُوَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ الْآيَاتُ وَالْبَرَاهِينُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ أَوْ شَهَادَةِ نَبِيٍّ آخَرَ قَدْ عَلِمَ صِدْقَهُ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ. فَذَكَرَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ بِقَوْلِهِ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ

ص: 192

وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} فَتِلْكَ يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُهُ بِالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ فِي آيَاتِهِ وَبَرَاهِينِهِ وَهَذِهِ يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُهُ بِالْخَبَرِ السَّمْعِيِّ الْمَنْقُولِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ قِبَلَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فَقَوْلُهُ: {قُلِ اللَّهُ} فِيهَا وَجْهَانِ: قِيلَ: هُوَ جَوَابُ السَّائِلِ وَقَوْلُهُ {شَهِيدٌ} خَبَرُ مُبْتَدَأٍ: أَيْ هُوَ شَهِيدٌ. وَقِيلَ: هُوَ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: {شَهِيدٌ} خَبَرُهُ؛ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ. و " الْأَوَّلُ " عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ {قُلِ اللَّهُ} و " الثَّانِي " عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ لَا يَقِفُ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ؛ لَكِنَّ الثَّانِيَ أَحْسَنُ وَهُوَ أَتَمُّ. وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ شَهَادَةً فَلَمَّا قَالَ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ شَهَادَةً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَقِيلَ لَهُ: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وَلَمَّا قَالَ: {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} كَانَ فِي هَذَا مَا يُغْنِي عَنْ قَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ شَهَادَةً. وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ اللَّهِ أَكْبَرُ شَهَادَةً هُوَ مَعْلُومٌ وَلَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ {أَكْبَرُ شَهَادَةً}

ص: 193

بِخِلَافِ كَوْنِهِ شَهِيدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالنَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالِ فَيُنْظَرُ هَلْ شَهِدَ اللَّهُ بِصَدْقِهِ وَكَذِبِهِمْ فِي تَكْذِيبِهِ؟ أَمْ شَهِدَ بِكَذِبِهِ وَصِدْقِهِمْ فِي تَكْذِيبِهِ؟ وَإِذَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ شَهِدَ بِصِدْقِهِ وَكَذِبِهِمْ بِالنَّوْعَيْنِ مِنْ الْآيَاتِ: بِكَلَامِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَبِمَا بَيَّنَ أَنَّهُ رَسُولٌ صَادِقٌ. وَلِهَذَا أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: {وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ فِيهِ الْإِنْذَارُ وَهُوَ آيَةٌ شَهِدَ بِهَا أَنَّهُ صَادِقٌ وَبِالْآيَاتِ الَّتِي يُظْهِرُهَا فِي الْآفَاقِ وَفِي الْأَنْفُسِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ شَهِيدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ: شَاهِدٌ عَلَيْنَا وَلَا شَاهِدٌ لِي؛ لِأَنَّهُ ضَمَّنَ الشَّهَادَةَ الْحُكْمَ فَهُوَ شَهِيدٌ يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَالْحُكْمُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الشَّهَادَةِ؛ فَإِنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يُؤَدِّي الشَّهَادَةَ. وَأَمَّا الْحَاكِمُ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ لِلْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ وَيَأْخُذُ حَقَّهُ مِنْهُ وَيُعَامِلُ الْمُحِقَّ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ وَالْمُبْطِلَ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ.

ص: 194

وَهَكَذَا شَهَادَةُ اللَّهِ بَيْنَ الرَّسُولِ وَمُتَّبِعِيهِ وَبَيْنَ مُكَذِّبِيهِ فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ حُكْمَ اللَّهِ لِلرَّسُولِ وَأَتْبَاعِهِ يَحْكُمُ بِمَا يُظْهِرُهُ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ عَلَى أَنَّهَا الْحَقُّ وَتِلْكَ الْآيَاتُ أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَيَحْكُمُ لَهُ أَيْضًا بِالنَّجَاةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِمُكَذِّبِيهِ بِالْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ وَشَقَاءِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} فَيُظْهِرُهُ بِالدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّهُ حَقٌّ وَيُظْهِرُهُ أَيْضًا بِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ عَلَى مُخَالِفِيهِ وَيَكُونُ مَنْصُورًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} فَهَذِهِ شَهَادَةُ حُكْمٍ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ} . قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْفِرَاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: {شَهِدَ اللَّهُ} أَيْ حَكَمَ وَقَضَى؛ لَكِنَّ الْحُكْمَ فِي قَوْلِهِ {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أَظْهَرُ وَقَدْ يَقُولُ الْإِنْسَانُ لِآخَرَ: فُلَانٌ شَاهِدٌ بَيْنِي وَبَيْنَك أَيْ يَتَحَمَّلُ الشَّهَادَةَ بِمَا بَيْنَنَا فَاَللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَهُ وَيَقُولُهُ وَهَذَا مِثْلُ الشَّهَادَةِ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ؛ وَلَكِنْ الْمُكَذِّبُونَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ التَّكْذِيبَ وَلَا كَانُوا يَتَّهِمُونَ الرَّسُولَ بِأَنَّهُ يُنْكِرُ دَعْوَى الرِّسَالَةِ فَيَكُونُ الشَّهِيدُ بِتَضَمُّنِ الْحُكْمِ أَثْبَتَ وَأَشْبَهَ بِالْقُرْآنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 195

فَصْلٌ:

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} فَإِنَّ شَهَادَتَهُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْهِ هِيَ شَهَادَتُهُ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ مِنْهُ وَأَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ فَمَا فِيهِ مِنْ الْخَبَرِ هُوَ خَبَرٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ لَيْسَ خَبَرًا عَمَّنْ دُونَهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} وَلَيْسَ مَعْنَى مُجَرَّدِ كَوْنِهِ أَنْزَلَهُ أَنَّهُ هُوَ مَعْلُومٌ لَهُ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ مَعْلُومَةٌ لَهُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا حَقٌّ؛ لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنْزَلَهُ فِيهِ عِلْمُهُ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يَتَكَلَّمُ بِعِلْمِ وَيَقُولُ بِعِلْمِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ كَمَا قَالَ: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَلَمْ يَقُلْ تَكَلَّمَ بِهِ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَضَمَّنُ نُزُولَهُ إلَى الْأَرْضِ. فَإِذَا قَالَ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} تَضَمَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ إلَى الْأَرْضِ فِيهِ عِلْمُ اللَّهِ كَمَا قَالَ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ نَفْسِهِ مِنْهُ نَزَلَ وَلَمْ يَنْزِلْ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِ اللَّهِ مِنْ الْعِلْمِ - وَنَفْسُهُ هِيَ ذَاتُهُ

ص: 196

الْمُقَدَّسَةُ - إلَّا أَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الْمَسِيحُ عليه السلام {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: {لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} وَقَالَ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ} وَقَالَ: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} {إلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} فَغَيْبُهُ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ لَا يُظْهِرُ عَلَيْهِ أَحَدًا إلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ وَالْمَلَائِكَةُ لَا يَعْلَمُونَ غَيْبَ الرَّبِّ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ. وَأَمَّا مَا أَظْهَرَهُ لِعِبَادِهِ فَإِنَّهُ يُعَلِّمُهُ مَنْ شَاءَ وَمَا تَتَحَدَّثُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ فَقَدْ تَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ بَعْضَهُ؛ لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ غَيْبِهِ وَعِلْمِ نَفْسِهِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ بَلْ هَذَا قَدْ أَظْهَرَ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} فَشَهِدَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُهُ وَأَنَّ الرَّسُولَ صَادِقٌ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي هُودٍ: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} لَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فَعَجَزُوا عَنْ ذَا وَذَاكَ ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةِ مِثْلِهِ فَعَجَزُوا فَإِنَّ الْخَلَائِقَ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ وَلَا بِسُورَةِ مِثْلِهِ؛ وَإِذَا كَانَ

ص: 197

الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَاجِزِينَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِسُورَةِ مِثْلِهِ وَمُحَمَّدٌ مِنْهُمْ عَلِمَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ نَزَّلَهُ بِعِلْمِهِ لَمْ يُنَزِّلْهُ بِعِلْمِ مَخْلُوقِ فَمَا فِيهِ مِنْ الْخَبَرِ فَهُوَ خَبَرٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لِأَنَّ فِيهِ مِنْ الْأَسْرَارِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ فَذِكْرُهُ ذَلِكَ يُسْتَدَلُّ بِهِ تَارَةً عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ لَكِنْ تَضَمَّنَ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ أَسْرَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالدُّنْيَا وَالْأَوَّلِينَ والآخرين وَسِرِّ الْغَيْبِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. فَمِنْ هُنَا نَسْتَدِلُّ بِعِلْمِنَا بِصِدْقِ أَخْبَارِهِ أَنَّهُ مِنْ اللَّهِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ تَعَالَى اسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ خَبَرَهُ حَقٌّ وَإِذَا كَانَ خَبَرًا بِعِلْمِ اللَّهِ فَمَا فِيهِ مِنْ الْخَبَرِ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ وَتَارَةً عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا فِيهَا وَالْخَبَرُ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ نَعْلَمَ صِحَّتَهُ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ وَذَلِكَ كَإِخْبَارِهِ بالمستقبلات فَوَقَعَتْ كَمَا أَخْبَرَ وَكَإِخْبَارِهِ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ بِمَا يُوَافِقُ مَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ مِنْهُمْ وَإِخْبَارِهِ بِأُمُورِ هِيَ سِرٌّ عِنْدَ أَصْحَابِهَا كَمَا قَالَ: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} إلَى قَوْلِهِ: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} فَقَوْلُهُ: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} اسْتِدْلَالٌ بِأَخْبَارِهِ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَهُ تَكْذِيبًا لِمَنْ قَالَ هُوَ {إفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ

ص: 198

عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} وَقَوْلُهُ: {أَنْزَلَهُ} اسْتِدْلَالٌ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ وَأَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي فِيهِ عَنْ اللَّهِ حَقٌّ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ التَّحَدِّي وَظُهُورِ عَجْزِ الْخَلْقِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ.

‌فَصْلٌ:

وَمِنْ شَهَادَتِهِ مَا يَجْعَلُهُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ الْعِلْمِ وَمَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسُنُ مِنْ ذَلِكَ

كَمَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَمُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَوْلُك: وَجَبَتْ وَجَبَتْ؟ قَالَ: هَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةَ وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ} فَقَوْلُهُ: " شُهَدَاءُ اللَّهِ " أَضَافَهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالشَّهَادَةُ تُضَافُ تَارَةً إلَى مَنْ يَشْهَدُ لَهُ. وَإِلَى مَنْ يَشْهَدُ عِنْدَهُ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَمَا يُقَالُ: شُهُودُ الْقَاضِي وَشُهُودُ السُّلْطَانِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الَّذِينَ تُقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ وَقَدْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمَا تَحْمِلُهُ

ص: 199

مِنْ الشَّهَادَةِ لِيُؤَدِّيَهَا عِنْدَ غَيْرِهِ كَاَلَّذِينَ يَشْهَدُ النَّاسُ عَلَيْهِمْ بِعُقُودِهِمْ أَوْ أقاريرهم. فَشُهَدَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لَهُ بِمَا جَعَلَهُ وَفَعَلَهُ وَيُؤَدُّونَ الشَّهَادَةَ عَنْهُ فَإِنَّهُمْ إذَا رَأَوْا مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ بَرًّا تَقِيًّا يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ كَذَلِكَ وَيُؤَدُّونَ عَنْهُ الشَّهَادَةَ فَهُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي أَشْهَدَهُمْ بِأَنْ جَعَلَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا يَشْهَدُونَ بِهِ وَيَنْطِقُونَ بِهِ وَإِعْلَامه لَهُمْ بِذَلِكَ هُوَ شَهَادَةٌ مِنْهُ بِذَلِكَ فَهَذَا أَيْضًا مِنْ شَهَادَتِهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} وَفَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبُشْرَى بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ وَفَسَّرَهَا بِثَنَاءِ النَّاسِ وَحَمْدِهِمْ وَالْبُشْرَى خَبَرٌ بِمَا يُسِرُّ وَالْخَبَرُ شَهَادَةٌ بِالْبُشْرَى مِنْ شَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ص: 200

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} الْمُرَادُ بِهِ أَمْنُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ الْكُفْرِ عِنْدَ عَرْضِ الْأَدْيَانِ؟ أَمْ الْمُرَادُ بِهِ إذَا أَحْدَثَ حَدَثًا لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ مَا دَامَ فِي الْحَرَمِ؟ .

فَأَجَابَ:

التَّفْسِيرُ الْمَعْرُوفُ فِي أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَرَمَ بَلَدًا آمِنًا قَدْرًا وَشَرْعًا فَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَسْفِكُ بَعْضُهُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ خَارِجَ الْحَرَمِ فَإِذَا دَخَلُوا الْحَرَمَ أَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ لَمْ يَهْجُرُوا حُرْمَتَهُ فَفِي الْإِسْلَامِ كَذَلِكَ وَأَشَدُّ. لَكِنْ لَوْ أَصَابَ الرَّجُلُ حَدًّا خَارِجَ الْحَرَمِ ثُمَّ لَجَأَ إلَيْهِ فَهَلْ يَكُونُ آمِنًا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِيهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ نِزَاعٌ. وَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ آمِنًا كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إنَّ اللَّهَ

ص: 201

حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدِ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا} . فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُولُوا: إنَّمَا أَحَلَّهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحِلَّهَا لَك. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ فِيهَا دَمُ مَنْ كَانَ مُبَاحًا فِي الْحِلِّ وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ أُبِيحَ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {وَمَنْ دَخَلَهُ} الْحَرَمُ كُلُّهُ. وَأَمَّا عَرْضُ الْأَدْيَانِ وَقْتَ الْمَوْتِ فَيُبْتَلَى بِهِ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ {مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 202

وَلِلشَّيْخِ رحمه الله:

فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: كَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ والنَّخَعِي؛ وَأَهْلِ اللُّغَةِ كَالْفَرَّاءِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجِ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَعِبَارَةُ الْفَرَّاءِ: يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ كَمَا قَالَ: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} بِبَأْسِ شَدِيدٍ. وَقَوْلُهُ: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} وَعِبَارَةُ الزَّجَّاجِ: يُخَوِّفُكُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ فِي الْآيَةِ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَعْطَيْت الْأَمْوَالَ: أَيْ أَعْطَيْت الْقَوْمَ الْأَمْوَالَ فَيَحْذِفُونَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى ذِكْرِ الثَّانِي. وَهَذَا لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ النَّاسَ أَوْلِيَاءَهُ تَخْوِيفًا مُطْلَقًا لَيْسَ لَهُ فِي تَخْوِيفِ نَاسٍ بِنَاسِ ضَرُورَةٌ فَحَذْفُ الْأَوَّلِ لَيْسَ مَقْصُودًا وَهَذَا يُسَمَّى حَذْفَ اخْتِصَارٍ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يُعْطِي الْأَمْوَالَ وَالدَّرَاهِمَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ وَنُقِلَ هَذَا

ص: 203

عَنْ الْحَسَنِ والسُّدِّي وَهَذَا لَهُ وَجْهٌ سَنَذْكُرُهُ؛ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ تَخْوِيفِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ كَمَا قَالَ قَبْلَهَا: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا} الْآيَاتِ. ثُمَّ قَالَ: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَهِيَ إنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَنْ خَوَّفَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ النَّاسِ. وَقَدْ قَالَ: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} ثُمَّ قَالَ: {فَلَا تَخَافُوهُمْ} وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {فَاخْشَوْهُمْ} قَبْلَهَا. وَأَمَّا ذَلِكَ الْقَوْلُ فَاَلَّذِي قَالَهُ فَسَّرَهَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ إنَّمَا يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ سُلْطَانَهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ بِخَوْفِ يُدْخِلُ عَلَيْهِمْ الْمَخَاوِفَ دَائِمًا فَالْمَخَاوِفُ مُنْصَبَّةٌ إلَيْهِمْ مُحِيطَةٌ بِقَوْلِهِمْ وَإِنْ كَانُوا ذَوِي هَيْئَاتٍ وَعَدَدٍ وَعُدَدٍ فَلَا تَخَافُوهُمْ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللَّهِ لَا يُخَوِّفُهُمْ الْكُفَّارَ أَوْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ: أَيْ يُخَوِّفُ الْمُنَافِقِينَ أَوْلِيَاءَهُ وَإِلَّا فَهُوَ يُخَوِّفُ الْكُفَّارَ كَمَا يُخَوِّفُ الْمُنَافِقِينَ وَلَوْ أَنَّهُ أُرِيدَ أَنَّهُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ: أَيْ يَجْعَلُهُمْ خَائِفِينَ لَمْ يَكُنْ لِلضَّمِيرِ مَا يَعُود عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَلَا تَخَافُوهُمْ} . وَأَيْضًا فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُ أَوْلِيَاءَهُ وَيُمَنِّيهِمْ كَمَا قَالَ:

ص: 204

تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا} . وَلَكِنَّ الْكُفَّارَ يُلْقِي اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالشَّيْطَانُ لَا يَخْتَارُ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالِيَ: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} وَقَالَ: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} وَقَالَ: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} . وَفِي حَدِيثِ قُرْطُبَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: " إنِّي ذَاهِبٌ إلَيْهِمْ فَمُزَلْزِلٌ بِهِمْ الْحِصْنَ " فَتَخْوِيفُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَإِرْعَابُهُمْ هُوَ مِنْ اللَّهِ نُصْرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. وَلَكِنَّ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ أَرَادُوا أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فَهُمْ يُوَالُونَ الْعَدُوَّ فَصَارُوا بِذَلِكَ مُنَافِقِينَ وَإِنَّمَا يَخَافُ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُنَافِقُونَ بِتَخْوِيفِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} الْآيَاتِ. إلَى قَوْلِهِ: {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لَكِنَّ لَفْظَ أَوْلِيَائِهِ هُمْ الَّذِينَ يَجْعَلُهُمْ الشَّيْطَانُ مُخَوَّفِينَ لَا خَائِفِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ

ص: 205

الْآيَةِ وَلَفْظُهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَإِذَا جَعَلَهُمْ الشَّيْطَانُ مُخَوَّفِينَ فَإِنَّمَا يَخَافُهُمْ مَنْ خَوَّفَهُ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ فَجَعَلَهُ خَائِفًا. فَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْعَلُ أَوْلِيَاءَهُ مُخَوَّفِينَ وَيَجْعَلُ نَاسًا خَائِفِينَ مِنْهُمْ. وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخَافَ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ وَلَا يَخَافُ النَّاسَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ اللَّهَ فَخَوْفُ اللَّهِ أَمَرَ بِهِ وَخَوْفُ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَائِهِ نَهَى عَنْهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} فَنَهَى عَنْ خَشْيَةِ الظَّالِمِ وَأَمَرَ بِخَشْيَتِهِ وَاَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ. وَقَالَ: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} . وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: يَا رَبِّ إنِّي أَخَافُك وَأَخَافُ مَنْ لَا يَخَافُك وَهَذَا كَلَامٌ سَاقِطٌ لَا يَجُوزُ؛ بَلْ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَخَافَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا يَخَافُ أَحَدًا لَا مَنْ يَخَافُ اللَّهَ وَلَا مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ؛ فَإِنَّ مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ أَخَسُّ وَأَذَلُّ أَنْ يُخَافَ فَإِنَّهُ ظَالِمٌ وَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ فَالْخَوْفُ مِنْهُ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 206

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْله تَعَالَى {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} .

فَذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِشَهَوَاتِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ سَائِرِ مَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ حَتَّى النِّسَاءِ والمردان وَقَالَ: الْعَبْدُ يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ وَتَكُونُ مُجَاهَدَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَمَيْلُ النَّفْسِ إلَى النِّسَاءِ عَامٌّ فِي طَبْعِ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ وَقَدْ يُبْتَلَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِالْمَيْلِ إلَى الذُّكْرَانِ كالمردان وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ الْفَاحِشَةَ الْكُبْرَى كَانَ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَانَ بِالنَّظَرِ وَيَحْصُلُ لِلنَّفْسِ بِذَلِكَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّاسُ مِنْ أَخْبَارِ الْعُشَّاقِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ فَإِذَا اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُ بِبَعْضِ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهَذَا الْجِهَادِ وَلَيْسَ هُوَ أَمْرًا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ فِي طَاعَةِ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ؛ بَلْ هُوَ أَمْرٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا حِيلَةَ فِيهِ فَتَكُونُ الْمُجَاهِدَةُ لِلنَّفْسِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

ص: 207

وَفِي حَدِيثِ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا {مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ وَكَتَمَ وَصَبَرَ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ شَهِيدٌ} وَأَبُو يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ؛ لَكِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ فَمِنْ التَّقْوَى أَنْ يَعِفَّ عَنْ كُلِّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ نَظَرٍ بِعَيْنِ وَمِنْ لَفْظٍ بِلِسَانِ وَمِنْ حَرَكَةٍ بِيَدِ وَرِجْلٍ. وَالصَّبْرُ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ شَكْوَى بِهِ إلَى غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الصَّبْرُ الْجَمِيلُ. وَأَمَّا الْكِتْمَانُ فَيُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَنْ يَكْتُمَ بَثَّهُ وَأَلَمَهُ وَلَا يَشْكُوَ إلَى غَيْرِ اللَّهِ فَمَتَى شَكَا إلَى غَيْرِ اللَّهِ نَقَصَ صَبْرُهُ وَهَذَا أَعْلَى الكتمانين؛ لَكِنَّ هَذَا لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَشْكُو مَا بِهِ وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ. فَإِنْ شَكَا ذَلِكَ إلَى طَبِيبٍ يَعْرِفُ طِبَّ النُّفُوسِ لِيُعَالِجَ نَفْسَهُ بِعِلَاجِ الْإِيمَانِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَفْتِي وَهَذَا حَسَنٌ وَإِنْ شَكَا إلَى مَنْ يُعِينُهُ عَلَى الْمُحَرَّمِ فَهَذَا حَرَامٌ وَإِنْ شَكَا إلَى غَيْرِهِ لِمَا فِي الشَّكْوَى مِنْ الرَّاحَةِ كَمَا أَنَّ الْمُصَابَ يَشْتَكِي مُصِيبَتَهُ إلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ تَعَلُّمَ مَا يَنْفَعُهُ وَلَا الِاسْتِعَانَةَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَهَذَا يَنْقُصُ صَبْرُهُ؛ لَكِنْ لَا يَأْثَمُ مُطْلَقًا إلَّا إذَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يُحَرَّمُ كَالْمُصَابِ الَّذِي يَتَسَخَّطُ. و " الثَّانِي " أَنْ يَكْتُمَ ذَلِكَ فَلَا يَتَحَدَّثُ بِهِ مَعَ النَّاسِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ

ص: 208

مِنْ إظْهَارِ السُّوءِ وَالْفَاحِشَةِ فَإِنَّ النُّفُوسَ إذَا سَمِعَتْ مِثْلَ هَذَا تَحَرَّكْت وَتَشَهَّتْ وَتَمَنَّتْ وتتيمت وَالْإِنْسَانُ مَتَى رَأَى أَوْ سَمِعَ أَوْ تَخَيَّلَ مَنْ يَفْعَلُ مَا يَشْتَهِيهِ كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إلَى الْفِعْلِ وَالنِّسَاءُ مَتَى رَأَيْنَ الْبَهَائِمَ تَنْزَوِ الذُّكُورَ مِنْهَا عَلَى الْإِنَاثِ مِلْنَ إلَى الْبَاءَةِ؛ وَالْمُجَامَعَةِ وَالرَّجُلُ إذَا سَمِعَ مَنْ يَفْعَلُ مَعَ المردان وَالنِّسَاءِ أَوْ رَأَى ذَلِكَ أَوْ تَخَيَّلَهُ فِي نَفْسِهِ دَعَاهُ ذَلِكَ إلَى الْفِعْلِ وَإِذَا ذَكَرَ الْإِنْسَانُ طَعَامًا اشْتَهَاهُ وَمَالَ إلَيْهِ وَإِنْ وَصَفَ لَهُ مَا يَشْتَهِيهِ مِنْ لِبَاسٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ مَسْكَنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مَالَتْ نَفْسُهُ إلَيْهِ. وَالْغَرِيبُ عَنْ وَطَنِهِ مَتَى ذُكِّرَ بِالْوَطَنِ حَنَّ إلَيْهِ. فَكُلَّمَا كَانَ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ مَحَبَّتُهُ إذَا تَصَوَّرَهُ تَحَرَّكَتْ الْمَحَبَّةُ وَالطَّلَبُ إلَى ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ الْمَطْلُوبِ إمَّا إلَى وَصْفِهِ وَإِمَّا إلَى مُشَاهَدَتِهِ وَكِلَاهُمَا يَحْصُلُ بِهِ تَخَيُّلٌ فِي النَّفْسِ وَقَدْ يَحْصُلُ التَّخَيُّلُ بِالسَّمَاعِ وَالرُّؤْيَةِ أَوْ التَّفَكُّرِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ؛ فَإِذَا تَخَيَّلَتْ النَّفْسُ تِلْكَ الْأُمُورَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ انْقَلَبَتْ إلَى تَخَيُّلَةٍ أُخْرَى فَتَحَرَّكَتْ دَاعِيَةُ الْمَحَبَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَحَبَّةُ مَحْمُودَةً أَوْ مَذْمُومَةً. وَلِهَذَا تَتَحَرَّكُ النُّفُوسُ إلَى الْحَجِّ إذَا ذُكِرَ الْحِجَازُ وَتَتَحَرَّكُ بِذِكْرِ الْأَبْرَقِ وَالْأَجْرَعِ وَالْعَلِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَأَى تِلْكَ الْمَنَازِلَ لَمَّا كَانَ ذَاهِبًا إلَى الْمَحْبُوبِ فَصَارَ ذِكْرُهَا يَذْكُرُ الْمَحْبُوبَ. وَكَذَلِكَ إذَا ذُكِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَذَكَّرَ بِهِ وَتَحَرَّكَتْ مَحَبَّتُهُ.

ص: 209

فَالْمُبْتَلَى بِالْفَاحِشَةِ وَالْعِشْقِ. إذَا ذَكَرَ مَا بِهِ لِغَيْرِهِ تَحَرَّكَتْ النُّفُوسُ إلَى جِنْسِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ؛ فَإِذَا تَصَوَّرَتْ جِنْسَ ذَلِكَ تَحَرَّكَتْ إلَى الْمَحْبُوبِ؛ وَلِهَذَا نَهَى اللَّهُ عَنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ.

ص: 210

وَسُئِلَ الشَّيْخُ رحمه الله:

عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} وقَوْله تَعَالَى {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} إلَى قَوْله تَعَالَى {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} يُبَيِّنُ لَنَا شَيْخُنَا هَذَا النُّشُوزُ مِنْ ذَاكَ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، " النُّشُوزُ " فِي قَوْله تَعَالَى {تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} هُوَ أَنْ تَنْشُزَ عَنْ زَوْجِهَا فَتَنْفِرَ عَنْهُ بِحَيْثُ لَا تُطِيعُهُ إذَا دَعَاهَا لِلْفِرَاشِ أَوْ تَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ امْتِنَاعٌ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ طَاعَتِهِ. وَأَمَّا النُّشُوزُ فِي قَوْلِهِ:{وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} فَهُوَ النُّهُوضُ وَالْقِيَامُ وَالِارْتِفَاعُ وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَادَّةِ هُوَ الِارْتِفَاعُ وَالْغِلَظُ وَمِنْهُ النَّشْزُ مِنْ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الْغَلِيظُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَانْظُرْ إلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} أَيْ نَرْفَعُ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ وَمَنْ قَرَأَ (نَنْشُرُهَا أَرَادَ نُحْيِيهَا فَسَمَّى الْمَرْأَةَ الْعَاصِيَةَ نَاشِزًا لِمَا فِيهَا مِنْ الْغِلَظِ وَالِارْتِفَاعِ عَنْ طَاعَةِ زَوْجِهَا وَسُمِّيَ النُّهُوضُ نُشُوزًا لِأَنَّ الْقَاعِدَ يَرْتَفِعُ عَنْ الْأَرْضِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 211

وَقَالَ:

فَصْلٌ:

قَوْله تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} فِي النِّسَاءِ وَفِي الْحَدِيدِ أَنَّهُ {لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} قَدْ تُؤُوِّلَتْ فِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ وَالْمَنْعِ وَالْبُخْلِ بِالْعِلْمِ وَنَحْوِهِ وَهِيَ تَعُمُّ الْبُخْلَ بِكُلِّ مَا يَنْفَعُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ عِلْمٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} النَّفَقَةُ مِنْ الْمَالِ وَالنَّفَقَةُ مِنْ الْعِلْمِ. وَقَالَ مُعَاذٌ فِي الْعِلْمِ: تَعَلُّمُهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَا تَصَدَّقَ رَجُلٌ بِصَدَقَةِ أَفْضَلَ مِنْ مَوْعِظَةٍ يَعِظُ بِهَا جَمَاعَةً فَيَتَفَرَّقُونَ وَقَدْ نَفَعَهُمْ اللَّهُ بِهَا. أَوْ كَمَا قَالَ. وَفِي الْأَثَرِ نِعْمَةُ الْعَطِيَّةِ وَنِعْمَت الْهَدِيَّةُ الْكَلِمَةُ مِنْ الْخَبَرِ يَسْمَعُهَا الرَّجُلُ ثُمَّ يُهْدِيهَا إلَى أَخ لَهُ أَوْ كَمَا قَالَ: وَهَذِهِ صَدَقَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتُهُمْ الْعُلَمَاءُ؛ وَلِهَذَا كَانَ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَحِيتَانُ الْبَحْرِ وَطَيْرُ الْهَوَاءِ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ كَمَا أَنَّ

ص: 212

كَاتِمَ الْعِلْمِ يَلْعَنُهُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُ اللَّاعِنُونَ وَبَسْطُ هَذَا كَثِيرٌ فِي فَضْلِ بَيَانِ الْعَلَمِ وَذَمِّ ضِدِّهِ. وَالْغَرَضُ هُنَا أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْمُخْتَالَ الْفَخُورَ الْبَخِيلَ بِهِ فَالْبَخِيلُ بِهِ الَّذِي مَنَعَهُ وَالْمُخْتَالُ إمَّا أَنْ يَخْتَالَ فَلَا يَطْلُبُهُ وَلَا يَقْبَلُهُ وَإِمَّا أَنْ يَخْتَالَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَلَا يَبْذُلُهُ وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَقَعُ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ يَبْخَلُ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَيَخْتَالُ بِهِ وَأَنَّهُ يَخْتَالُ عَنْ أَنْ يَتَعَدَّى مِنْ غَيْرِهِ وَضِدُّ ذَلِكَ التَّوَاضُعُ فِي طَلَبِهِ وَبَذْلِهِ وَالتَّكَرُّمُ بِذَلِكَ.

ص: 213

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

فَصْلٌ:

قَدْ كَتَبْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ الْكَلَامَ عَلَى جَمْعِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ وَبَيْنَ الْبُخْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} فِي النِّسَاءِ وَالْحَدِيدِ وَضِدُّ ذَلِكَ الْإِعْطَاءِ وَالتَّقْوَى الْمُتَضَمِّنَةِ لِلتَّوَاضُعِ كَمَا قَالَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ هُمَا جِمَاعُ الدِّينِ الْعَامِّ كَمَا يُقَالُ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالرَّحْمَةُ لِعِبَادِ اللَّهِ. فَالتَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ يَكُونُ بِالْخُشُوعِ وَالتَّوَاضُعِ وَذَلِكَ أَصْلُ التَّقْوَى وَالرَّحْمَةُ لِعِبَادِ اللَّهِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَهَذَانِ هُمَا حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْخُشُوعِ لِلَّهِ وَالْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ وَالذُّلِّ لَهُ وَذَلِكَ كُلُّهُ مُضَادٌّ لِلْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ وَالْكِبْرِ. وَالزَّكَاةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِنَفْعِ الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَذَلِكَ مُضَادٌّ لِلْبُخْلِ.

ص: 214

وَلِهَذَا وَغَيْرِهِ كَثَّرَ الْقِرَانُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ تَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا كَانَ ذِكْرًا لِلَّهِ أَوْ دُعَاءً لَهُ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا دُمْت تَذْكُرُ اللَّهَ فَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ وَلَوْ كُنْت فِي السُّوقِ وَهَذَا الْمَعْنَى - وَهُوَ دُعَاءُ اللَّهِ أَيْ قَصْدُهُ وَالتَّوَجُّهُ إلَيْهِ الْمُتَضَمِّنُ ذِكْرَهُ عَلَى وَجْهِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ - هُوَ حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ الْمَوْجُودَةِ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِ اسْمِ الصَّلَاةِ كَصَلَاةِ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ وَالْمُضْطَجِعِ. وَالْقَارِئِ وَالْأُمِّيِّ وَالنَّاطِقِ وَالْأَخْرَسِ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ حَرَكَاتُهَا وَأَلْفَاظُهَا فَإِنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الصَّلَاةِ عَلَى مَوَارِدِهَا هُوَ بِالتَّوَاطُؤِ الْمُنَافِي لِلِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. إذْ مِنْ النَّاسِ مَنْ ادَّعَى فِيهَا الِاشْتِرَاكَ وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى الْمَجَازَ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهَا مَنْقُولَةً مِنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَوْ مَزِيدَةً أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ اسْمُ الْجِنْسِ الْعَامِّ الْمُتَوَاطِئِ الْمُطْلَقِ إذَا دَلَّ عَلَى نَوْعٍ أَوْ عَيْنٍ كَقَوْلِك هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا الْحَيَوَانُ أَوْ قَوْلِك: هَاتِ الْحَيَوَانَ الَّذِي عِنْدَك وَهِيَ غَنَمٌ فَهُنَا اللَّفْظُ قَدْ دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ: عَلَى الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الْمَوْجُودِ فِي جَمِيعِ الْمَوَارِدِ وَعَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا النَّوْعُ أَوْ الْعَيْنُ. فَاللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ الْمَوْجُودُ فِي جَمِيعِ التَّصَارِيفِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَمَا قُرِنَ بِاللَّفْظِ مِنْ لَامِ التَّعْرِيفِ مَثَلًا أَوْ غَيْرِهَا دَلَّ عَلَى الْخُصُوصِ وَالتَّعْيِينِ وَكَمَا أَنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ الْمُطْلَقَ لَا وُجُودَ لَهُ فِي

ص: 215

الْخَارِجِ فَكَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَفْظٌ مُطْلَقٌ مُجَرَّدٌ عَنْ جَمِيعِ الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ. فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُفِيدُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ وَذَلِكَ تَقْيِيدٌ وَتَخْصِيصٌ كَقَوْلِك أَكْرِمْ الْإِنْسَانَ أَوْ الْإِنْسَانُ خَيْرٌ مِنْ الْفَرَسِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْ هُنَا غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ حَيْثُ ظَنُّوا وُجُودَهَا فِي الْخَارِجِ مُجَرَّدَةً عَنْ الْقُيُودِ وَفِي اللَّفْظِ الْمُتَوَاطِئِ حَيْثُ ظَنُّوا تَجَرُّدَهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَنْ الْقُيُودِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ لَا يُوجَدُ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الْمُطْلَقُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا مُقَيَّدًا وَلَا يُوجَدُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إلَّا مُقَيَّدًا مُخَصَّصًا وَإِذَا قُدِّرَ الْمَعْنَى مُجَرَّدًا كَانَ مَحَلُّهُ الذِّهْنَ وَحِينَئِذٍ يُقَدَّرُ لَهُ لَفْظٌ مُجَرَّدٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ مُجَرَّدًا. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ فِيهِ عُمُومٌ وَإِطْلَاقٌ وَلَكِنْ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا مَقْرُونًا بِقَيْدِ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ مَوَارِدِهِ كَصَلَوَاتِنَا وَصَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ وَالصَّلَاةِ مِنْ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَإِنَّمَا يَغْلَطُ النَّاسُ فِي مِثْلِ هَذَا حَيْثُ يَظُنُّونَ أَنَّ صَلَاةَ هَذَا الصِّنْفِ مِثْلُ صَلَاةِ هَذَا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِثْلَ هَذَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ لَمْ يَجِبْ أَنْ تَكُونَ صِلَاتُهُ مِثْلَ صِلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُتَشَابِهٌ كَمَا قَدْ حَقَّقْنَا هَذَا فِي الرَّدِّ عَلَى الِاتِّحَادِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة والمتفلسفة وَنَحْوِهِمْ.

ص: 216

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ الَّتِي يُسَمَّى وَيُوصَفُ الْعِبَادُ بِمَا يُشْبِهُهَا كَالْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ اسْمُ الزَّكَاةِ هُوَ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ} وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ {عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ} وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْمَالِيَّةُ الْمَفْرُوضَةُ فَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالزَّكَاةُ الْمُقَارِنَةُ لِلصَّلَاةِ تُشَارِكُهَا فِي أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: يُعِينُ صَانِعًا أَوْ يَصْنَعُ لِأَخْرَقَ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: يَكُفُّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّرِّ} . وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ: {عَلَى كُلِّ سلامي مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ} فَهَذَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ - كَتَضَمُّنِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ نَفْعَ الْخَلَائِقِ فَإِنَّهُ بِمِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ يَحْصُلُ الرِّزْقُ وَالنَّصْرُ وَالْهُدَى فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْخَلْقِ. ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ هِيَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ وَجِنْسُ الصَّلَاةِ الَّذِي

ص: 217

يَنْتَفِعُ بِهِ الْغَيْرُ يَتَضَمَّنُ الْمَعْنَيَيْنِ الصَّلَاةَ وَالصَّدَقَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ صَلَاةٌ وَصَدَقَةٌ؟ وَكَذَلِكَ كُلُّ دُعَاءٍ لِلْغَيْرِ وَاسْتِغْفَارٍ مَعَ أَنَّ الدُّعَاءَ لِلْغَيْرِ دُعَاءٌ لِلنَّفْسِ أَيْضًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ بِدَعْوَةِ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لَهُ بِدَعْوَةِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَك بِمِثْلِ} .

ص: 218

وَقَالَ:

فَصْلٌ:

قَوْلُ النَّاسِ: الْآدَمِيُّ جَبَّارٌ ضَعِيفٌ أَوْ فُلَانٌ جَبَّارٌ ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ ضَعْفَهُ يَعُودُ إلَى ضَعْفِ قُوَاهُ مِنْ قُوَّةِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَأَمَّا تَجَبُّرُهُ فَإِنَّهُ يَعُود إلَى اعْتِقَادَاتِهِ وَإِرَادَاتِهِ أَمَّا اعْتِقَادُهُ فَأَنْ يُتَوَهَّمَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ فَوْقَ مَا هُوَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الِاخْتِيَالُ وَالْخُيَلَاءُ وَالْمَخِيلَةُ وَهُوَ أَنْ يَتَخَيَّلَ عَنْ نَفْسِهِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَمِمَّا يُوجِبُ ذَلِكَ مَدْحَهُ بِالْبَاطِلِ نَظْمًا وَنَثْرًا وَطَلَبَهُ لِلْمَدْحِ الْبَاطِلِ فَإِنَّهُ يُورِثُ هَذَا الِاخْتِيَالَ. وَأَمَّا الْإِرَادَةُ فَإِرَادَةُ أَنْ يَتَعَظَّمَ وَيُعَظِّمَ وَهُوَ إرَادَةُ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَخْرِ عَلَى النَّاسِ وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ مِنْ الْعُلُوِّ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يُرِيدَهُ وَهُوَ الرِّئَاسَةُ وَالسُّلْطَانُ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى مُزَاحَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ كَفِرْعَوْنَ وَمُزَاحَمَةِ النُّبُوَّةِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي جِنْسِ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ وَالْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ.

ص: 219

وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَالْإِرَادَةِ يَسْتَلْزِمُ جِنْسَ الْآخَرِ؛ فَإِنَّ مَنْ تَخَيَّلَ أَنَّهُ عَظِيمٌ أَرَادَ مَا يَلِيقُ بِذَلِكَ الِاخْتِيَالِ وَمَنْ أَرَادَ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَخَيَّلَ عَظَمَةَ نَفْسِهِ وَتَصْغِيرَ غَيْرِهِ حَتَّى يَطْلُبَ ذَلِكَ فَفِي الْإِرَادَةِ يَتَخَيَّلُهُ مَقْصُودًا وَفِي الِاعْتِقَادِ يَتَخَيَّلُهُ مَوْجُودًا وَيَطْلُبُ تَوَابِعَهُ مِنْ الْإِرَادَاتِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {الْكِبَرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ} فَالْفَخْرُ يُشْبِهُ غَمْطَ النَّاسِ فَإِنَّ كِلَيْهِمَا تَكَبُّرٌ عَلَى النَّاسِ. وَأَمَّا بَطَرُ الْحَقِّ - وَهُوَ جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ - فَيُشْبِهُ الِاخْتِيَالَ الْبَاطِلَ فَإِنَّهُ تَخَيَّلَ أَنَّ الْحَقَّ بَاطِلٌ بِجَحْدِهِ وَدَفْعِهِ. ثُمَّ هُنَا وَجْهَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَنْ يَجْعَلَ الِاخْتِيَالَ وَبَطَرَ الْحَقِّ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْحَقَّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلَ حَقًّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَعْظِيمِ النَّفْسِ وَعُلُوِّ قَدْرِهَا فَيَجْحَدُ الْحَقَّ الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهَا وَعُلُوَّهَا وَيَتَخَيَّلُ الْبَاطِلَ الَّذِي يُوَافِقُ هَوَاهَا وَعُلُوَّهَا وَيَجْعَلُ الْفَخْرَ وَغَمْطَ النَّاسِ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ فَإِنَّ الْفَاخِرَ يُرِيدُ أَنْ يَرْفَعَ نَفْسَهُ وَيَضَعَ غَيْرَهُ وَكَذَلِكَ غَامِطُ النَّاسِ. يُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ المجاشعي

ص: 220

عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنَّهُ أُوحِيَ إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ} فَبَيَّنَ أَنَّ التَّوَاضُعَ الْمَأْمُورَ بِهِ ضِدَّ الْبَغْيِ وَالْفَخْرِ. {وَقَالَ فِي الْخُيَلَاءِ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ: الِاخْتِيَالُ فِي الْفَخْرِ وَالْبَغْيِ} . . . (1) فَكَانَ فِي ذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَالَةَ عَلَى النَّاسِ إنْ كَانَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهِيَ بَغِيٌّ؛ إذْ الْبَغْيُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ. وَإِنْ كَانَتْ بِحَقِّ فَهِيَ الْفَخْرُ؛ لَكِنْ يُقَالُ عَلَى هَذَا: الْبَغْيُ يَتَعَلَّقُ بِالْإِرَادَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هُوَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ وَقَسِيمُهُ مِنْ بَابِ الْإِرَادَةِ بَلْ الْبَغْيُ كَأَنَّهُ فِي الْأَعْمَالِ وَالْفَخْرُ فِي الْأَقْوَالِ أَوْ يُقَالُ: الْبَغْيُ بَطَرُ الْحَقِّ وَالْفَخْرُ غَمْطُ النَّاسِ. " الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا مُتَعَلِّقَيْنِ بِالِاعْتِقَادِ وَالْإِرَادَةِ لَكِنَّ الْخُيَلَاءَ غَمْطُ الْحَقِّ يَعُودُ إلَى الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ وَالْفَخْرُ وَغَمْطُ النَّاسِ يَعُودُ إلَى حَقِّ الْآدَمِيِّينَ؛ فَيَكُونُ التَّنْوِيعُ لِتَمْيِيزِ حَقِّ الْآدَمِيِّينَ مِمَّا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ لَا يَتَعَلَّقُ [بـ](2) الْآدَمِيِّينَ؛ بِخِلَافِ الشَّهْوَةِ فِي حَالِ الزِّنَا وَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ: فَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} وَالْبُخْلُ مَنْعُ النَّافِعِ: قَيَّدَ هَذَا بِهَذَا وَقَدْ كَتَبْت فِيمَا قَبْلَ هَذَا مِنْ التَّعَالِيقِ: الْكَلَامُ فِي التَّوَاضُعِ وَالْإِحْسَانِ وَالْكَلَامُ فِي التَّكَبُّرِ وَالْبُخْلِ.

(1)

خرم بالأصل

(2)

قلت - أسامة بن الزهراء -: ما بين معقوفين غير موجود في المطبوع والمثبت من نسخة شركة " حرف "الإلكترونية.

ص: 221

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

قَوْلُهُ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} الْآيَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْجَمْعِ أَعْرَضَ الْعَاصِي عَنْ ذَمِّ نَفْسِهِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ الذَّنْبِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِ وَقَامَ بِقَلْبِهِ حُجَّةُ إبْلِيسَ فَلَمْ تَزِدْهُ إلَّا طَرْدًا كَمَا زَادَتْ الْمُشْرِكِينَ ضَلَالًا حِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} . وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَرْقِ لَغَابُوا عَنْ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَاللَّجَأِ إلَى اللَّهِ فِي الْهِدَايَةِ كَمَا فِي خُطْبَتِهِ صلى الله عليه وسلم {الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ} فَيَشْكُرُهُ وَيَسْتَعِينُهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَيَسْتَغْفِرُهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَيَحْمَدُهُ عَلَى إحْسَانِهِ. ثُمَّ قَالَ: {وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا} إلَى آخِرِهِ. لَمَّا اسْتَغْفَرَ مِنْ الْمَعَاصِي اسْتَعَاذَهُ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ تَقَعُ. ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا} أَيْ وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا. ثُمَّ قَالَ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ} إلَخْ. شَهَادَةٌ بِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ فَفِيهِ إثْبَاتُ الْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ نِظَامُ التَّوْحِيدِ هَذَا كُلُّهُ مُقَدِّمَةٌ بَيْنَ يَدَيْ الشَّهَادَتَيْنِ فَإِنَّمَا يَتَحَقَّقَانِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ وَاللَّجَأِ إلَيْهِ،

ص: 222

وَالْإِيمَانِ بِأَقْدَارِهِ. فَهَذِهِ الْخُطْبَةُ عِقْدُ نِظَامِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَقَالَ كَوْنُ الْحَسَنَاتِ مِنْ اللَّهِ وَالسَّيِّئَاتِ مِنْ النَّفْسِ لَهُ وُجُوهٌ: " الْأَوَّلُ " أَنَّ النِّعَمَ تَقَعُ بِلَا كَسْبٍ. " الثَّانِي " أَنَّ عَمَلَ الْحَسَنَاتِ مِنْ إحْسَانِ اللَّهِ إلَى عَبْدِهِ فَخَلَقَ الْحَيَاةَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ وَحَبَّبَ إلَيْهِمْ الْإِيمَانَ. وَإِذَا تَدَبَّرْت هَذَا شَكَرْت اللَّهَ فَزَادَك وَإِذَا عَلِمْت أَنَّ الشَّرَّ لَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ نَفْسِك تُبْت فَزَالَ. " الثَّالِثُ " أَنَّ الْحَسَنَةَ تُضَاعَفُ. " الرَّابِعُ " أَنَّ الْحَسَنَةَ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا فَيُحِبُّ أَنْ يُنْعِمَ وَيُحِبَّ أَنْ يُطَاعَ؛ وَلِهَذَا تَأَدَّبَ الْعَارِفُونَ فَأَضَافُوا النِّعَمَ إلَيْهِ وَالشَّرَّ إلَى مَحَلِّهِ كَمَا قَالَ إمَامُ الْحُنَفَاءِ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} . " الْخَامِسُ " أَنَّ الْحَسَنَةَ مُضَافَةٌ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَحْسَنَ بِهَا بِكُلِّ اعْتِبَارٍ وَأَمَّا السَّيِّئَةُ فَمَا قَدَّرَهَا إلَّا لِحِكْمَةِ. " السَّادِسُ " أَنَّ الْحَسَنَاتِ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ؛

ص: 223

لِأَنَّهَا إمَّا فِعْلُ مَأْمُورٍ أَوْ تَرْكُ مَحْظُورٍ وَالتَّرْكُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ فَتَرْكُهُ لَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ ذَنْبٌ وَكَرَاهَتُهُ لَهُ وَمَنْعُ نَفْسِهِ مِنْهُ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ وَإِنَّمَا يُثَابُ عَلَى التَّرْكِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبُغْضَ فِي اللَّهِ مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الْإِيمَانِ وَهُوَ أَصْلُ التَّرْكِ. وَجَعَلَ الْمَنْعَ لِلَّهِ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَهُوَ أَصْلُ التَّرْكِ. وَكَذَلِكَ بَرَاءَةُ الْخَلِيلِ مِنْ قَوْمِهِ الْمُشْرِكِينَ وَمَعْبُودِيهِمْ لَيْسَتْ تَرْكًا مَحْضًا؛ بَلْ صَادِرًا عَنْ بُغْضٍ وَعَدَاوَةٍ. وَأَمَّا السَّيِّئَاتُ فَمَنْشَؤُهَا مِنْ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ كُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى الْجَهْلِ وَإِلَّا فَلَوْ تَمَّ الْعِلْمُ بِهَا لَمْ يَفْعَلْهَا؛ فَإِنَّ هَذَا خَاصَّةُ الْعَقْلِ وَقَدْ يَغْفُلُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ بِقُوَّةِ وَارِدِ الشَّهْوَةِ وَالْغَفْلَةُ وَالشَّهْوَةُ أَصْلُ الشَّرِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} الْآيَةَ. " السَّابِعُ " أَنَّ ابْتِلَاءَهُ لَهُ بِالذُّنُوبِ عُقُوبَةٌ لَهُ عَلَى عَدَمِ فِعْلِ مَا خُلِقَ لَهُ وَفُطِرَ عَلَيْهِ. " الثَّامِنُ " أَنَّ مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْخَيْرِ وَالنِّعَمِ لَا تَنْحَصِرُ أَسْبَابُهُ مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ فَيَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى اللَّهِ وَلَا يَرْجُو إلَّا هُوَ؛ فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ التَّامَّ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ وَأَنَّ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الشُّكْرِ جَزَاءً عَلَى مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ؛ وَلَكِنْ لَا يَبْلُغُ أَنْ يَشْكُرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَإِنَّهُ الْمُنْعِمُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مَخْلُوقٌ وَنِعَمُ الْمَخْلُوقِ

ص: 224

مِنْهُ أَيْضًا وَجَزَاؤُهُ عَلَى الشُّكْرِ وَالْكُفْرِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِهِ. فَإِذَا عَرَفَ أَنَّ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} صَارَ تَوَكُّلُهُ وَرَجَاؤُهُ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَإِذَا عَرَفَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الشُّكْرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ صَارَ لَهُ. . . (1) وَالشَّرُّ انْحَصَرَ سَبَبُهُ فِي النَّفْسِ؛ فَعَلِمَ مِنْ أَيْنَ يُؤْتَى فَتَابَ وَاسْتَعَانَ بِاَللَّهِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ وَلَا يَخَافُ إلَّا ذَنْبَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ السَّلَفِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مُطْلَقًا كَانَ بِذُنُوبِهِمْ لَمْ يُسْتَثْنَ أَحَدٌ وَهَذَا مِنْ فَوَائِدِ تَخْصِيصِ الْخِطَابِ؛ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ ". التَّاسِعُ " أَنَّ السَّيِّئَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ النَّفْسِ وَالسَّيِّئَةُ خَبِيثَةٌ: كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} الْآيَةَ. قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ: الْكَلِمَاتُ {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} وَقَالَ: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} وَقَالَ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَالْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ صِفَاتٌ لِلْقَائِلِ الْفَاعِلِ فَإِذَا اتَّصَفَتْ النَّفْسُ بِالْخُبْثِ فَمَحَلُّهَا مَا يُنَاسِبُهَا فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْحَيَّاتِ يُعَاشِرْنَ النَّاسَ كَالسَّنَانِيرِ لَمْ يَصْلُحْ؛ بَلْ إذَا كَانَ فِي النَّفْسِ خُبْثٌ طَهُرَتْ حَتَّى

(1)

بياض بالأصل

ص: 225

تَصْلُحَ لِلْجَنَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ وَفِيهِ: {حَتَّى إذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ} فَإِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ السَّيِّئَةَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَطْمَعْ فِي السَّعَادَةِ التَّامَّةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الشَّرِّ بَلْ عَلِمَ تَحْقِيقَ قَوْلِهِ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} إلَخْ. وَعَلِمَ أَنَّ الرَّبَّ عَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ عَدْلٌ وَأَفْعَالُهُ عَلَى قَانُونِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ {يَمِينُ اللَّهِ ملآى} إلَى قَوْلِهِ: {وَالْقِسْطُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى} وَعَلِمَ فَسَادَ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا عَدْلٍ. إلَى أَنْ قَالَ: وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ غَايَتُهُ إذَا عَظُمَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ أَنْ يَقُولَ - كَمَا نُقِلَ عَنْ الشاذلي - يَكُونُ الْجَمْعُ فِي قَلْبِك مَشْهُودًا وَالْفَرْقُ عَلَى لِسَانِك مَوْجُودًا كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ أَقْوَالٌ وَأَدْعِيَةٌ تَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدَهُ أَنْ يَجْعَلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ وَيَدْعُونَ بِأَدْعِيَةِ فِيهَا اعْتِدَاءٌ كَمَا فِي حِزْبِ الشاذلي. وَآخَرُونَ مِنْ عَوَامِّهِمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يُكَرِّمَ اللَّهُ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ لِمَنْ هُوَ فَاجِرٌ وَكَافِرٌ وَيَقُولُونَ: هَذِهِ مَوْهِبَةٌ وَيَظُنُّونَهَا مِنْ الْكَرَامَاتِ وَهِيَ مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ مِثْلُهَا لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} وَصَحَّ قَوْلُهُ:

ص: 226

{لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ} . فَعَدَلَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ إلَى أَنْ نَبَذَ الْقُرْآنَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ فَلَا يُعَظِّمُ أَمْرَ الْقُرْآنِ وَنَهْيَهُ وَلَا يُوَالِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُوَالَاتِهِ وَلَا يُعَادِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُعَادَاتِهِ؛ بَلْ يُعَظِّمُ مَنْ يَأْتِي بِبَعْضِ الْخَوَارِقِ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ مِنْ الشَّيَاطِينِ؛ لَكِنْ يُعَظِّمُهُ لِهَوَاهُ وَيُفَضِّلُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} إلَخْ.

قَالَ: وَفِي قَوْله تَعَالَى {فَمِنْ نَفْسِكَ} مِنْ الْفَوَائِدِ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَطْمَئِنُّ إلَى نَفْسِهِ وَلَا يَشْتَغِلُ بِمَلَامِ النَّاسِ وَذَمِّهِمْ؛ بَلْ يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَنْفَعُ الدُّعَاءِ وَأَعْظَمُهُ دُعَاءَ الْفَاتِحَةِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْهُدَى كُلَّ لَحْظَةٍ وَيَدْخُلُ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَاجَاتِ مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ وَيُبَيِّنُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُصَّ عَلَيْنَا قِصَّةً فِي الْقُرْآنِ إلَّا لِنَعْتَبِرَ وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاعْتِبَارُ إذَا قِسْنَا الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ؛ فَلَوْلَا أَنَّ فِي النُّفُوسِ مَا فِي نُفُوسِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إلَى الِاعْتِبَارِ بِمَنْ لَا نُشَبِّهُهُ قَطُّ؛ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا يُقَالُ لَكَ إلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} وَقَوْلُهُ: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} وَقَوْلُهُ: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} وَلِهَذَا

ص: 227

فِي الْحَدِيثِ: {لَتَسْلُكُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ} . وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ مِنْ النَّفْسِ وَأَعْظَمُ السَّيِّئَاتِ جُحُودُ الْخَالِقِ وَالشِّرْكُ بِهِ وَطَلَبُ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا لَهُ وَكِلَا هَذَيْنِ وَقَعَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَا مِنْ نَفْسٍ إلَّا وَفِيهَا مَا فِي نَفْسِ فِرْعَوْنَ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اعْتَبَرَ وَتَعَرَّفَ أَحْوَالَ النَّاسِ رَأَى مَا يُبْغِضُ نَظِيرَهُ وَأَتْبَاعَهُ حَسَدًا كَمَا فَعَلَتْ الْيَهُودُ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مَنْ يَدْعُو إلَى مَثَلِ مَا دَعَا إلَيْهِ مُوسَى؛ وَلِهَذَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِنَظِيرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ.

ص: 228

وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ -:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا. مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ. وَمَنْ يَضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم.

فَصْلٌ:

فِي قَوْله تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَبَعْضُ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْحِكَمِ الْعَظِيمَةِ.

هَذِهِ الْآيَةُ: ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي سِيَاقِ الْأَمْر بِالْجِهَادِ وَذَمِّ النَّاكِثِِينَ عَنْهُ،

ص: 229

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} الْآيَاتِ إلَى أَنَّ ذَكَرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَقَدْ ذَكَرَ قَبْلَهَا طَاعَةَ اللَّهِ وَطَاعَةَ الرَّسُولِ وَالتَّحَاكُمَ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ. وَرَدَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ. وَذَمَّ الَّذِينَ يَتَحَاكَمُونَ وَيَرُدُّونَ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ. فَكَانَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ: تَبْيِينًا لِلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِالرَّسُولِ. وَلِهَذَا قَالَ فِيهَا: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وَهَذَا جِهَادٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} وَقَالَ {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ

ص: 230

أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} . وَذَكَرَ بَعْدَ آيَاتِ الْجِهَادِ إنْزَالَ الْكِتَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ وَنَهْيَهُ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ. وَذَكَّرَهُ فَضْلَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَرَحْمَتَهُ فِي حِفْظِهِ وَعِصْمَتِهِ مِنْ إضْلَالِ النَّاسِ لَهُ وَتَعْلِيمِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ. وَذَمَّ مَنْ شَاقَّ الرَّسُولَ وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَتَعْظِيمَ أَمْرِ الشِّرْكِ وَشَدِيدَ خَطَرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُهُ. وَلَكِنْ يَغْفِرُ مَا دُونَهُ لِمَنْ يَشَاءُ - إلَى أَنْ بَيَّنَ أَنَّ أَحْسَنَ الْأَدْيَانِ: دِينُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ عِبَادَتُهُ بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ الَّتِي شَرَعَهَا

ص: 231

لَا بِالْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ. وَهُمْ أَهْلُ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} . فَكَانَ فِي الْأَمْرِ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَالْجِهَادِ عَلَيْهَا: اتِّبَاعُ التَّوْحِيدِ وَمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ. وَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ وَأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ بِمَا أَمَرَ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي ضِمْنِ آيَاتِ الْجِهَادِ: ذَمَّ مَنْ يَخَافُ الْعَدُوَّ وَيَطْلُبُ الْحَيَاةَ. وَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ: لَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ الْمَوْتَ. بَلْ أَيْنَمَا كَانُوا أَدْرَكَهُمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كَانُوا فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. فَلَا يَنَالُونَ بِتَرْكِ الْجِهَادِ مَنْفَعَةً. بَلْ لَا يَنَالُونَ إلَّا خَسَارَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَقَالَ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} . وَهَذَا الْفَرِيقُ قَدْ قِيلَ: إنَّهُمْ مُنَافِقُونَ. وَقِيلَ: نَافَقُوا لَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ. وَقِيلَ: بَلْ حَصَلَ مِنْهُمْ جُبْنٌ وَفَشَلٌ. فَكَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ

ص: 232

رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا} . وَالْمَعْنَى مُتَنَاوِلٌ لِهَؤُلَاءِ وَلِهَؤُلَاءِ. وَلِكُلِّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْحَالِ. ثُمَّ قَالَ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} . فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ " وَإِنْ تُصِبْهُمْ " يَعُودُ إلَى مَنْ ذَكَرَ. وَهُمْ الَّذِينَ {يَخْشَوْنَ النَّاسَ} أَوْ يَعُودُ إلَى مَعْلُومٍ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ. كَمَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا كُفَّارًا مِنْ الْيَهُود. وَقِيلَ: كَانُوا مُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: بَلْ كَانُوا مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. وَالْمَعْنَى يَعُمُّ كُلَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ. وَلَكِنْ تَنَاوُلُهُ لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَمَرَ بِالْجِهَادِ: أَوْلَى. ثُمَّ إذَا تَنَاوَلَ الذَّمُّ هَؤُلَاءِ: فَهُوَ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ أَوْلَى

ص: 233

وَأَحْرَى. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ " الْحَسَنَةَ " و " السَّيِّئَةَ " يُرَادُ بِهِمَا النِّعَمَ وَالْمَصَائِبَ. لَيْسَ الْمُرَادُ: مُجَرَّدُ مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ أَوْ السَّيِّئَاتِ.

فَصْلٌ:

وَلَفْظُ " الْحَسَنَاتِ " و " السَّيِّئَاتِ " فِي كِتَابِ اللَّهِ: يُتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ {إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنَّا إذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ الْمُتَطَيِّرِينَ بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} ذَكَرَ هَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} . وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْمَأْمُورُ بِهَا وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا: فَفِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {مَنْ

ص: 234

جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقَوْله تَعَالَى {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} وقَوْله تَعَالَى {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . وَهُنَا قَالَ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَلَمْ يَقُلْ: وَمَا فَعَلْت وَمَا كَسَبْت. كَمَا قَالَ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلَّا إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} {الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} . فَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} و {مِنْ سَيِّئَةٍ} مُتَنَاوِلٌ لِمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ وَيَأْتِيهِ مِنْ النِّعَمِ الَّتِي تَسُرُّهُ وَمِنْ الْمَصَائِبِ الَّتِي تَسُوءُهُ. فَالْآيَةُ مُتَنَاوِلَةٌ لِهَذَا قَطْعًا. وَكَذَلِكَ قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}

ص: 235

قَالَ: هَذِهِ فِي السَّرَّاءِ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} قَالَ: وَهَذِهِ فِي الضَّرَّاءِ. وَقَالَ السدي: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} قَالُوا وَالْحَسَنَةُ الْخِصْبُ يُنْتِجُ خُيُولَهُمْ وَأَنْعَامَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ وَيُحْسِنُ حَالَهُمْ وَتَلِدُ نِسَاؤُهُمْ الْغِلْمَانَ {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} قَالُوا - وَالسَّيِّئَةُ: الضَّرَرُ فِي أَمْوَالِهِمْ تَشَاؤُمًا بِمُحَمَّدِ - قَالُوا: {هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} يَقُولُونَ: بِتَرْكِنَا دِينَنَا وَاتِّبَاعِنَا مُحَمَّدًا أَصَابَنَا هَذَا الْبَلَاءُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} قَالَ: الْقُرْآنُ. وَقَالَ الوالبي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} قَالَ: مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْك يَوْمَ بَدْرٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ الوالبي أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " مِنْ حَسَنَةٍ " قَالَ: مَا أَصَابَ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَالْفَتْحِ فَمِنْ اللَّهِ. قَالَ: " وَالسَّيِّئَةُ " مَا أَصَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ. إذْ شُجَّ فِي وَجْهِهِ وَكُسِرَتْ رباعيته. وَقَالَ: أَمَّا " الْحَسَنَةُ " فَأَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْك وَأَمَّا " السَّيِّئَةُ " فَابْتَلَاك اللَّهُ بِهَا.

ص: 236

وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} قَالَ: هَذَا يَوْمُ بَدْرٍ {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قَالَ: هَذَا يَوْمُ أُحُدٍ. يَقُولُ: مَا كَانَ مِنْ نَكْبَةٍ: فَمِنْ ذَنْبِك وَأَنَا قَدَّرْت ذَلِكَ عَلَيْك. وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ عُيَيْنَة عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ فَمِنْ " نَفْسِك " قَالَ: فَبِذَنْبِك وَأَنَا قَدَّرْتهَا عَلَيْك. رَوَى هَذِهِ الْآثَارُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشخير. قَالَ: مَا تُرِيدُونَ مِنْ الْقَدَرِ؟ أَمَا تَكْفِيكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} ؟ أَيْ مِنْ نَفْسِك. وَاَللَّهِ مَا وَكَّلُوا إلَى الْقَدَرِ. وَقَدْ أُمِرُوا بِهِ. وَإِلَيْهِ يَصِيرُونَ. وَكَذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} الْخِصْبُ وَالْمَطَرُ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} الْجَدْبُ وَالْبَلَاءُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قَالَ: الْحَسَنَةُ النِّعْمَةُ. وَالسَّيِّئَةُ الْبَلِيَّةُ.

ص: 237

وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ فِي قَوْلِهِ " {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} - وَمِنْ سَيِّئَةٍ " ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ " الْحَسَنَةَ " مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يَوْم بَدْرٍ. و " السَّيِّئَةَ " مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ. قَالَ: رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ - وَهُوَ الوالبي - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: وَالثَّانِي " الْحَسَنَةُ " الطَّاعَةُ. و " السَّيِّئَةُ " الْمَعْصِيَةُ. قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَالثَّالِثُ " الْحَسَنَةُ " النِّعْمَةُ. و " السَّيِّئَةُ " الْبَلِيَّةُ. قَالَهُ ابْنُ مُنَبِّهٍ. قَالَ: وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ نَحْوُهُ. وَهُوَ أَصَحُّ. قُلْت: هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ بِالْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَفْسِيرِهِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يُرْوَى عَنْهُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيق أَبِي جَعْفَرٍ الداري عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْهُ وَأَمْثَالِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ إسْنَادَهُ. وَلَكِنْ يَنْقُلُ مِنْ كُتِبَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ أَقْوَالَ السَّلَفِ بِلَا إسْنَادٍ. وَكَثِيرٌ مِنْهَا ضَعِيفٌ. بَلْ كَذِبٌ لَا يَثْبُتُ عَمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ. وَعَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَيْضًا يُفَسِّرُونَهُ عَلَى مِثْلِ أَقْوَالِ السَّلَفِ وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ تَحْمِلُهَا عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ.

ص: 238

فَأَمَّا الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: فَهِيَ تَتَنَاوَلُهُ قَطْعًا. كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهَا وَسِيَاقُهَا وَمَعْنَاهَا وَأَقْوَالُ السَّلَفِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّانِي: فَلَيْسَ مُرَادًا دُونَ الْأَوَّلِ قَطْعًا. وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ مُرَادٌ مَعَ الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا يَهْدِيهِ اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ الطَّاعَةِ: هُوَ نِعْمَةٌ فِي حَقِّهِ مِنْ اللَّهِ أَصَابَتْهُ. وَمَا يَقَعُ مِنْهُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ: هُوَ سَيِّئَةٌ أَصَابَتْهُ. وَنَفْسُهُ الَّتِي عَمِلَتْ السَّيِّئَةَ. وَإِذَا كَانَ الْجَزَاءُ مِنْ نَفْسِهِ فَالْعَمَلُ الَّذِي أَوْجَبَ الْجَزَاءَ: أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِهِ. فَلَا مُنَافَاةَ أَنْ تَكُونَ سَيِّئَةُ الْعَمَلِ وَسَيِّئَةُ الْجَزَاءِ مِنْ نَفْسِهِ. مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ مُقَدَّرٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ " فَمِنْ نَفْسِك وَأَنَا قَدَّرْتهَا عَلَيْك ".

فَصْلٌ:

وَالْمَعْصِيَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ تَكُونُ عُقُوبَةَ الْأُولَى. فَتَكُونُ مِنْ سَيِّئَاتِ الْجَزَاءِ مَعَ أَنَّهَا مِنْ سَيِّئَاتِ الْعَمَلِ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ -

ص: 239

عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ. فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ. وَالْبِرُّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ. وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ. فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَالْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ. وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يَكْتُبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا} . وَقَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَسَنَةَ الثَّانِيَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ ثَوَابِ الْأُولَى. وَكَذَلِكَ السَّيِّئَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ تَكُونُ مِنْ عُقُوبَةِ الْأُولَى. قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكِتَابٌ مُبِينٌ} {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}

ص: 240

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} . قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ: مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ - قَوْلًا وَفِعْلًا - نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ. وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ - قَوْلًا وَفِعْلًا - نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}

ص: 241

قُلْت: وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إلَّا قَلِيلًا} . وقال تَعَالَى {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَقَالَ تَعَالَى فِي النَّوْعَيْنِ {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ

ص: 242

وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَقَالَ تَعَالَى {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} . وقال تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . وقال تَعَالَى {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا

ص: 243

فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} {إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إسْرَارَهُمْ} . وقال تَعَالَى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} وَقَالَ تَعَالَى فِي ضِدِّ هَذَا {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} - إلَى قَوْلِهِ - {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} . وَتَوْلِيَتُهُمْ الْأَدْبَارَ: لَيْسَ مِمَّا نُهُوا عَنْهُ وَلَكِنْ هُوَ مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ.

ص: 244

فَصْلٌ:

وَإِذَا كَانَتْ السَّيِّئَاتُ الَّتِي يَعْمَلُهَا الْإِنْسَانُ قَدْ تَكُونُ مِنْ جَزَاءِ سَيِّئَاتٍ تَقَدَّمَتْ - وَهِيَ مُضِرَّةٌ - جَازَ أَنْ يُقَالَ: هِيَ مِمَّا أَصَابَهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَهِيَ بِذُنُوبِ تَقَدَّمَتْ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: فَالذُّنُوبُ الَّتِي يَعْمَلُهَا؛ هِيَ مِنْ نَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ مُسَبَّبٌ عَنْهَا مِنْ نَفْسِهِ فَعَمَلُهُ الَّذِي هُوَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ: مِنْ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ {نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا} . {وَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلِّمْنِي دُعَاءً. فَقَالَ قُلْ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ. أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ. قُلْهُ إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت وَإِذَا أَخَذْت مَضْجَعَك} .

ص: 245

فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ {فَمِنْ نَفْسِكَ} يَتَنَاوَلُ الْعُقُوبَاتِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَيَتَنَاوَلُ الْأَعْمَالَ. مَعَ أَنَّ الْكُلَّ بِقَدَرِ اللَّهِ.

فَصْلٌ:

وَلَيْسَ لِلْقَدَرِيَّةِ أَنْ يَحْتَجُّوا بِالْآيَةِ لِوُجُوهِ: مِنْهَا: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: فِعْلُ الْعَبْدِ - حَسَنَةً كَانَ أَوْ سَيِّئَةً - هُوَ مِنْهُ لَا مِنْ اللَّهِ. بَلْ اللَّهُ قَدْ أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ مَا يَفْعَلُ بِهِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. لَكِنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ: أَحْدَثَ إرَادَةً فَعَلَ بِهَا الْحَسَنَاتِ. وَهَذَا أَحْدَثَ إرَادَةً فَعَلَ بِهَا السَّيِّئَاتِ. وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ إحْدَاثِ الرَّبِّ عِنْدَهُمْ. وَالْقُرْآنُ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. وَهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ فِي الْأَعْمَالِ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ. لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِ اللَّهِ خَلَقَ فِيهِ الْحَسَنَاتِ دُونَ السَّيِّئَاتِ. بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ لَمْ يَخْلُقْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا. لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّهُ يُحْدِثُ مِنْ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ: مَا يَكُونُ جَزَاءً. كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ.

ص: 246

لَكِنْ عَلَى هَذَا: فَلَيْسَتْ عِنْدَهُمْ كُلُّ الْحَسَنَاتِ مِنْ اللَّهِ. وَلَا كُلُّ السَّيِّئَاتِ. بَلْ بَعْضُ هَذَا وَبَعْضُ هَذَا. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فَجَعَلَ الْحَسَنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا جَعَلَ السَّيِّئَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ. بَلْ فِي الْجَزَاءِ. وَقَوْلُهُ - بَعْدَ هَذَا - {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} و {مِنْ سَيِّئَةٍ} مِثْلُ قَوْلِهِ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} وَقَوْلُهُ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} . الثَّالِثُ: أَنَّ الْآيَةَ أُرِيدَ بِهَا: النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ. كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَيْسَ لِلْقَدَرِيَّةِ الْمُجْبِرَةِ أَنْ تَحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نَفْيِ أَعْمَالِهِمْ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا الْعِقَابَ. فَإِنَّ قَوْلَهُ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} هُوَ النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ. وَلِأَنَّ قَوْلَهُ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. وَبَيَانُ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ فَاعِلُ السَّيِّئَاتِ. وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْعِقَابَ. وَاَللَّهُ يُنْعِمُ عَلَيْهِ بِالْحَسَنَاتِ - عَمَلِهَا وَجَزَائِهَا - فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ حَسَنَةٍ فَهُوَ مِنْ اللَّهِ: فَالنِّعَمُ مِنْ اللَّهِ. سَوَاءٌ كَانَتْ ابْتِدَاءً أَوْ كَانَتْ جَزَاءً. وَإِذَا كَانَتْ جَزَاءً - وَهِيَ مِنْ اللَّهِ -: فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي كَانَ سَبَبَهَا: هُوَ أَيْضًا مِنْ اللَّهِ. أَنْعَمَ بِهِمَا اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ. وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ - كَمَا كَانَتْ السَّيِّئَاتُ مِنْ نَفْسِهِ - لَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: {عَنْ اللَّهِ يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ

ص: 247

أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا. فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ. وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} وَقَالَ تَعَالَى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وَقَالَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا فِي الصَّلَاةِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} .

فَصْلٌ:

وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ: أَنَّ فِي الْآيَةِ إشْكَالًا أَوْ تَنَاقُضًا فِي الظَّاهِرِ حَيْثُ قَالَ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. فَقَالَ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} .

ص: 248

وَهَذَا مِنْ قِلَّةِ فَهْمِهِمْ وَعَدَمِ تَدَبُّرِهِمْ الْآيَةَ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَنَاقُضٌ. لَا فِي ظَاهِرِهَا وَلَا فِي بَاطِنِهَا. لَا فِي لَفْظِهَا وَلَا مَعْنَاهَا. فَإِنَّهُ ذَكَرَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ النَّاكِصِينَ عَنْ الْجِهَادِ. مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} هَذَا يَقُولُونَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ بِسَبَبِ مَا أَمَرْتنَا بِهِ مِنْ دِينِك وَالرُّجُوعِ عَمَّا كُنَّا عَلَيْهِ: أَصَابَتْنَا هَذِهِ السَّيِّئَاتُ. لِأَنَّك أَمَرْتنَا بِمَا أَوْجَبَهَا. فَالسَّيِّئَاتُ: هِيَ الْمَصَائِبُ وَالْأَعْمَالُ الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا سَبَبُ الْمَصَائِبِ: هُوَ أَمَرَهُمْ بِهَا. وَقَوْلُهُمْ " مِنْ عِنْدِك " تَتَنَاوَلُ مَصَائِبَ الْجِهَادِ الَّتِي تُوجِبُ الْهَزِيمَةَ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ. وَتَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَصَائِبَ الرِّزْقِ عَلَى جِهَةِ التَّشَاؤُمِ وَالتَّطَيُّرِ. أَيْ هَذَا عُقُوبَةٌ لَنَا بِسَبَبِ دِينِك. كَمَا كَانَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ يَتَطَيَّرُونَ بِمُوسَى وَبِمَنْ مَعَهُ. وَكَمَا قَالَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ لِلْمُرْسَلِينَ {إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} وَكَمَا قَالَ الْكُفَّارُ مِنْ ثَمُودَ لِصَالِحِ وَلِقَوْمِهِ: {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} فَكَانُوا يَقُولُونَ عَمَّا يُصِيبُهُمْ - مِنْ الْحَرْبِ وَالزِّلْزَالِ وَالْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ الْعَدُوِّ -: هُوَ مِنْك. لِأَنَّك أَمَرْتنَا بِالْأَعْمَالِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ. وَيَقُولُونَ عَنْ هَذَا وَعَنْ الْمَصَائِبِ السمائية: إنَّهَا مِنْك. أَيْ بِسَبَبِ طَاعَتِنَا لَك وَاتِّبَاعِنَا لِدِينِك: أَصَابَتْنَا هَذِهِ

ص: 249

الْمَصَائِبُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} . فَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ جَعَلَ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَفِعْلَ مَا بُعِثَ بِهِ: مُسَبِّبًا لِشَرِّ أَصَابَهُ: إمَّا مِنْ السَّمَاءِ. وَإِمَّا مِنْ آدَمِيٍّ. وَهَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ. لَمْ يَقُولُوا " هَذِهِ مِنْ عِنْدِك " بِمَعْنَى: أَنَّك أَنْتَ الَّذِي أَحْدَثْتهَا. فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ " مِنْ عِنْدِك " خِطَابًا مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ. بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. وَمَنْ فَهِمَ هَذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ قَوْلَهُ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} لَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} بَلْ هُوَ مُحَقِّقٌ لَهُ. لِأَنَّهُمْ - هُمْ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ - يَجْعَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَالْعَمَلُ بِهِ: سَبَبًا لِمَا قَدْ يُصِيبُهُمْ مِنْ مَصَائِبَ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَطَاعَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكَانُوا تَارَةً يَقْدَحُونَ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَيَقُولُونَ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَلَوْ كَانَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ: لَمَا جَرَى عَلَى أَهْلِهِ هَذَا الْبَلَاءُ.

ص: 250

وَتَارَةً لَا يَقْدَحُونَ فِي الْأَصْلِ. لَكِنْ يَقْدَحُونَ فِي الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ. فَيَقُولُونَ: هَذَا بِسُوءِ تَدْبِيرِ الرَّسُولِ. كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي ابْنِ سلول يَوْمَ أُحُدٍ - إذْ كَانَ رَأْيُهُ مَعَ رَأْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يَخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ - فَسَأَلَهُ صلى الله عليه وسلم نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ لَهُمْ رَغْبَةٌ فِي الْجِهَادِ: أَنْ يَخْرُجَ. فَوَافَقَهُمْ وَدَخَلَ بَيْتَهُ وَلَبِسَ لَامَّتَهُ. فَلَمَّا لَبِسَ لأمته نَدِمُوا. وَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْتَ أَعْلَمُ. فَإِنْ شِئْت أَنْ لَا نَخْرُجَ فَلَا نَخْرُجُ. فَقَالَ: {مَا يَنْبَغِي لِنَبِيِّ إذَا لَبِسَ لَامَّتَهُ أَنْ يَنْزِعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ} يَعْنِي: أَنَّ الْجِهَادَ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ كَمَا يَلْزَمُ الْحَجُّ. لَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا شُرِعَ فِيهِ مِنْهُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ بِالْإِحْصَارِ فِي الْحَجِّ.

فَصْلٌ:

وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} هَذَا وَهَذَا. فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، والسدي، وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا، تَشَاؤُمًا بِدِينِهِ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. قَالَ: بِسُوءِ تَدْبِيرِك - يَعْنِي

ص: 251

كَمَا قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي وَغَيْرُهُ يَوْمَ أُحُدٍ - وَهُمْ كَاَلَّذِينَ {قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} . فَبِكُلِّ حَالٍ: قَوْلُهُمْ " مِنْ عِنْدك " هُوَ طَعْنٌ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ: مِنْ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ. وَجَعَلَ ذَلِك: هُوَ الْمُوجِبُ لِلْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ، كَمَا أَصَابَتْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ. وَتَارَةً تُصِيبُ عَدُوَّهُمْ. فَيَقُولُ الْكَافِرُونَ: هَذَا بِشُؤْمِ هَؤُلَاءِ، كَمَا قَالَ أَصْحَابُ الْقَرْيَةِ لِلْمُرْسَلِينَ {إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ آلِ فِرْعَوْنَ {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} وَلَمَّا قَالَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ {إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} . قَالَ الضَّحَّاكُ: فِي قَوْلِهِ {أَلَا إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} يَقُول: الْأَمْرُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ أَمْرٍ فَمِنْ اللَّهِ، بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ.

ص: 252

وَقَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: " مَعَايِبُكُمْ " وَقَالَ قتادة " عَمَلُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ ". وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ عَلِيٍّ: عَمَلُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} أَيْ تُبْتَلَوْنَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ. رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ ابْنِ إسْحَاقَ قَالَ: قَالَتْ الرُّسُلُ " طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ " أَيْ أَعْمَالُكُمْ. فَقَدْ فَسَّرُوا " الطَّائِرَ " بِالْأَعْمَالِ وَجَزَائِهَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّمَا أَصَابَنَا مَا أَصَابَنَا مِنْ الْمَصَائِبِ بِذُنُوبِ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ. فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَّ طَائِرَهُمْ - وَهُوَ الْأَعْمَالُ وَجَزَاؤُهَا - هُوَ عِنْدَ اللَّهِ. وَهُوَ مَعَهُمْ. فَهُوَ مَعَهُمْ لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ وَمَا قَدَّرَ مِنْ جَزَائِهَا مَعَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَكُلَّ إنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} وَهُوَ مِنْ اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ تِلْكَ الْمَصَائِبَ بِأَعْمَالِهِمْ. فَمِنْ عِنْدِهِ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَصَائِبُ. جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمْ، لَا بِسَبَبِ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ. وَفِي هَذَا يُقَالُ: إنَّهُمْ إنَّمَا يُجْزَوْنَ بِأَعْمَالِهِمْ، لَا بِأَعْمَالِ غَيْرِهِمْ. وَلِذَلِك قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ - لَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُونَ وَالْكُفَّارُ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ يَقُولُ: هَذَا الَّذِي أَصَابَنَا هُوَ بِسَبَبِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، عُقُوبَةٌ

ص: 253

دِينِيَّةٌ وَصَلَ إلينا - بَيَّنَ سُبْحَانَهُ: أن ما أصابهم من الْمَصَائِبِ إنما هو بذنوبهم. ففي هَذَا رَدٌّ على مَنْ أَعْرَضَ عن طَاعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لئلا تُصِيبَهُ تلك الْمَصَائِبُ. وعلى مَنْ انتسب إلى الْإِيمَانِ بالرسول، وَنَسَبَهَا إلى فِعْلِ ما جاء بِهِ الرَّسُولُ، وعلى مَنْ أصابته مع كُفْرِهِ بالرسول وَنَسَبَهَا إلى ما جاء بِهِ الرَّسُولُ.

فَصْلٌ:

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ سَبَبًا لِشَيْءِ مِنْ الْمَصَائِبِ. وَلَا تَكُونُ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَطُّ سَبَبًا لِمُصِيبَةِ، بَلْ طَاعَةُ اللَّهِ وَالرَّسُولِ لَا تَقْتَضِي إلَّا جَزَاءَ أَصْحَابِهَا بِخَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَلَكِنْ قَدْ تُصِيبُ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مَصَائِبُ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ. لَا بِمَا أَطَاعُوا فِيهِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ، كَمَا لَحِقَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ. لَا بِسَبَبِ طَاعَتِهِمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم. وَكَذَلِك مَا اُبْتُلُوا بِهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالزَّلْزَالِ: ليس هو بسبب نَفْسِ إيمَانِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ، لَكِنْ اُمْتُحِنُوا به، لِيَتَخَلَّصُوا مما فيهم من الشَّرِّ

ص: 254

وَفُتِنُوا بِهِ كَمَا يُفْتَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ، لِيَتَمَيَّزَ طَيِّبُهُ مِنْ خَبِيثِهِ. وَالنَّفُوسُ فِيهَا شَرٌّ. وَالِامْتِحَانُ يُمَحِّصُ الْمُؤْمِنَ مِنْ ذَلِك الشَّرِّ الَّذِي فِي نَفْسِهِ. قَالَ تَعَالَى {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} وَلِهَذَا قَالَ صَالِحٌ عليه السلام لِقَوْمِهِ {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} . وَلِهَذَا كَانَتْ الْمَصَائِبُ تُكَفِّرُ سَيِّئَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِالصَّبْرِ عَلَيْهَا تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُمْ وَمَا أَصَابَهُمْ فِي الْجِهَادِ مِنْ مَصَائِبَ بِأَيْدِي الْعَدُوِّ، فَإِنَّهُ يُعَظِّمُ أَجْرَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ {مَا مِنْ غَازِيَةٍ يَغْزُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَسْلَمُونَ وَيَغْنَمُونَ إلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ. وَإِنْ أُصِيبُوا وَأَخْفَقُوا: تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ} . وَأَمَّا مَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الْجَوْعِ وَالْعَطَشِ وَالتَّعَبِ: فَذَاكَ يُكْتَبُ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ.

ص: 255

فَصْلٌ:

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ قَوْلَهُ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا مَا يُصِيبهُمْ مِنْ الْمَصَائِبِ بِسَبَبِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: النِّعْمَةُ الَّتِي تُصِيبُنَا هِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْمُصِيبَةُ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ. أَيْ بِسَبَبِ دِينِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ. فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ هَذَا وَهَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. لَا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ. مُحَمَّدٌ لَا يَأْتِي لَا بِنِعْمَةِ وَلَا بِمُصِيبَةِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} قَالَ: السدي وَغَيْرُهُ: هُوَ الْقُرْآنُ. فَإِنَّ الْقُرْآنَ إذَا هُمْ فَقُهُوا مَا فِيهِ: تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْخَيْرِ، وَالْعَدْلِ، وَالصَّدْقِ، وَالتَّوْحِيدِ. لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْمَصَائِبِ. فَإِنَّهُمْ إذَا فَهِمُوا مَا فِي الْقُرْآنِ عَلِمُوا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلشَّرِّ مُطْلَقًا. وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ: يَعْلَمُ بِالْأَمْرِ بِهِ حَسَنِهِ وَنَفْعِهِ، وَأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لِلْعِبَادِ. وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُ مَنْ يَقُولُ: قَدْ يَأْمُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ بِمَا لَا مَصْلَحَةَ لَهُمْ فِيهِ إذَا فَعَلُوهُ. بَلْ فِيهِ مَضَرَّةٌ لَهُمْ.

ص: 256

فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَدْ يُصَدِّقُهُ الْمُتَطَيِّرُونَ بِالرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِك: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قَالَ بَعْدَهَا {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} فَإِنَّهُ قَدْ شَهِدَ لَهُ بِالرِّسَالَةِ بِمَا أَظْهَرَهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ. وَإِذَا شَهِدَ اللَّهُ لَهُ كَفَى بِهِ شَهِيدًا. وَلَمْ يَضُرَّهُ جَحْدُ هَؤُلَاءِ لِرِسَالَتِهِ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الشُّبَهِ الَّتِي هِيَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ بِمَا أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا سَيِّئَاتِهِمْ وَعُقُوبَاتِهِمْ حَجَّةً على إبْطَالِ رِسَالَتِهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ شَهِدَ لَهُ: أَنَّهُ أَرْسَلَهُ لِلنَّاسِ رَسُولًا. فَكَانَ خَتْمُ الْكَلَامِ بِهَذَا إبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ: إنَّ الْمَصَائِبَ مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ. وَلِهَذَا قَالَ، بَعْدَ هَذَا {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} .

فَصْلٌ:

وَكَانَ فِيمَا ذَكَرَهُ إبْطَالٌ لِقَوْلِ الْجَهْمِيَّة الْمُجْبِرَةِ وَنَحْوِهِمْ، مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ قَدْ يُعَذِّبُ الْعِبَادَ بِلَا ذَنْبٍ. وَأَنَّهُ قَدْ يَأْمُرُ الْعِبَادَ بِمَا لَا يَنْفَعُهُمْ، بَلْ بِمَا يَضُرُّهُمْ. فَإِنْ فَعَلُوا ما أمرهم به حَصَلَ لهم الضَّرَرُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوهُ عَاقَبَهُمْ.

ص: 257

يقولون هذا وَمِثْلَهُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَالْقُرْآنُ يَرُدُّ على هؤلاء من وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا يَرُدُّ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ. فَالْآيَةُ تَرُدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ، مَعَ احْتِجَاجِ الْفَرِيقَيْنِ بِهَا. وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ. فَإِنْ قَالَ نفاة الْقَدَرِ: إنَّمَا قَالَ فِي الْحَسَنَةِ " هِيَ مِنْ اللَّهِ " وَفِي السَّيِّئَةِ " هِيَ مِنْ نَفْسِك " لِأَنَّهُ يَأْمُرُ بِهَذَا، وَيَنْهَى عَنْ هَذَا، بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. قَالُوا: وَنَحْنُ نَقُولُ: الْمُشِيئَةُ مُلَازِمَةٌ لِلْأَمْرِ. فَمَا أَمَرَ بِهِ فَقَدْ شَاءَهُ وَمَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ لَمْ يَشَأْهُ. فَكَانَتْ مُشِيئَتُهُ وَأَمْرُهُ حَاضَّةً عَلَى الطَّاعَةِ دُونَ الْمَعْصِيَةِ. فَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ مِنْهُ دُونَ هَذِهِ. قِيلَ: أَمَّا الْآيَةُ: فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا " الْحَسَنَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالسَّيِّئَةُ مِنْ عِنْدِك " أَرَادُوا: مِنْ عِنْدِك يَا مُحَمَّدُ، أَيْ بِسَبَبِ دِينِك. فَجَعَلُوا رِسَالَةَ الرَّسُولِ هِيَ سَبَبُ الْمَصَائِبِ. وَهَذَا غَيْرُ مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ. وَإِذَا كَانَ قَدْ أُرِيدَ: أَنَّ الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ - مِمَّا قَدْ قِيلَ - كَانَ

ص: 258

قَوْلُهُ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} لَا يُنَافِي ذَلِك. بَلْ " الْحَسَنَةُ " أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا وَبِثَوَابِهَا و " السَّيِّئَةُ " هِيَ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ نَاشِئَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} فَمِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مَا لَهُ شَرٌّ، وَإِنْ كَانَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ هُمَا مِنْ أَحْدَاثِ الْإِنْسَانِ، بِدُونِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ هَذَا فَاعِلًا وَهَذَا فَاعِلًا، وَبِدُونِ أَنْ يَخُصَّ اللَّهُ الْمُؤْمِنَ بِنِعْمَةِ وَرَحْمَةٍ أَطَاعَهُ بِهَا وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ.

فَصْلٌ:

فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي مُقَدَّرَةً، وَالنِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ مُقَدَّرَةً. فَلِمَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ، الَّتِي هِيَ النِّعَمُ، وَالسَّيِّئَاتِ، الَّتِي هِيَ الْمَصَائِبُ؟ فَجَعَلَ هَذِهِ مِنْ اللَّهِ، وَهَذِهِ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ؟ . قِيلَ: لِفَرُوقِ بَيْنَهُمَا:

ص: 259

" الْفَرْقُ الْأَوَّلُ ": أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ وَإِحْسَانَهُ إلَى عِبَادِهِ يَقَعُ ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ مِنْهُمْ أَصْلًا. فَهُوَ يُنْعِمُ بِالْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ وَالنَّصْرِ، وَغَيْرِ ذَلِك عَلَى مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. وَيُنْشِئُ لِلْجَنَّةِ خَلْقًا يُسْكِنُهُمْ فُضُولَ الْجَنَّةِ. وَقَدْ خَلَقَهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا. وَيُدْخِلُ أَطْفَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَجَانِينَهُمْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ بِلَا عَمَلٍ. وَأَمَّا الْعِقَابُ: فَلَا يُعَاقِبُ أَحَدًا إلَّا بِعَمَلِهِ. " الْفَرْقُ الثَّانِي ": أَنَّ الَّذِي يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ. إذَا عَمِلَهَا، فَنَفْسُ عَمَلِهِ الْحَسَنَاتِ: هو من إحْسَانِ اللَّهِ، وَبِفَضْلِهِ عَلَيْهِ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {يَا عِبَادِي، إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا. فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ. وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِك فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} . فَنَفْسُ خَلْقِ اللَّهِ لَهُمْ أَحِيَاءً، وَجَعْلِهِ لهم السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ: هو من نِعْمَتِهِ وَنَفْسُ إرْسَالِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ، وَتَبْلِيغِهِ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ الذي اهْتَدَوْا به: هو من نِعْمَتِهِ. وَإِلْهَامُهُمْ الْإِيمَانَ، وَهِدَايَتُهُمْ إلَيْهِ، وَتَخْصِيصُهُمْ بِمَزِيدِ نِعْمَةٍ حَصَلَ

ص: 260

لهم بها الْإِيمَانُ دُونَ الْكَافِرِينَ: هو من نِعْمَتِهِ. كما قال تعالى {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} . فَجَمِيعُ مَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ الْعَالَمُ مِنْ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: هُوَ نِعْمَةٌ مَحْضَةٌ مِنْهُ بِلَا سَبَبٍ سَابِقٍ يُوجِبُ لَهُمْ حَقًّا. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسهمْ إلَّا بِهِ. وَهُوَ خَالِقُ نَفُوسِهِمْ، وَخَالِقُ أَعْمَالِهَا الصَّالِحَةِ، وَخَالِقُ الْجَزَاءِ. فَقَوْلُهُ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} حَقٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَأَمَّا " السَّيِّئَةُ " فَلَا تَكُونُ إلَّا بِذَنْبِ الْعَبْدِ. وَذَنْبُهُ مِنْ نَفْسِهِ. وَهُوَ لَمْ يَقُلْ: إنِّي لَمْ أُقَدِّرْ ذَلِك وَلَمْ أَخْلُقْهُ. بَلْ ذَكَرَ لِلنَّاسِ مَا يَنْفَعُهُمْ.

فَصْلٌ:

فَإِذَا تَدَبَّرَ الْعَبْدُ عَلِمَ أَنَّ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، فَشَكَرَ اللَّهَ، فَزَادَهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَمَلًا صَالِحًا، وَنِعَمًا يُفِيضُهَا عَلَيْهِ.

ص: 261

وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الشَّرَّ لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا مِنْ نَفْسِهِ بِذُنُوبِهِ: اسْتَغْفَرَ وَتَابَ. فَزَالَ عَنْهُ سَبَبُ الشَّرِّ. فَيَكُونُ الْعَبْدُ دَائِمًا شَاكِرًا مُسْتَغْفِرًا. فَلَا يَزَالُ الْخَيْرُ يَتَضَاعَفُ لَهُ، وَالشَّرُّ يَنْدَفِعُ عَنْهُ. كَمَا {كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَيَشْكُرُ اللَّهَ. ثُمَّ يَقُولُ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ نَسْتَعِينُهُ عَلَى الطَّاعَةِ. وَنَسْتَغْفِرُهُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ. ثُمَّ يَقُولُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا} فَيَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْ الشَّرِّ الَّذِي فِي النَّفْسِ، وَمِنْ عُقُوبَةِ عَمَلِهِ. فَلَيْسَ الشَّرُّ إلَّا مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ عَمَلِ نَفْسِهِ. فَيَسْتَعِيذُ اللَّهَ مِنْ شَرِّ النَّفْسِ: أَنْ يَعْمَلَ بِسَبَبِ سَيِّئَاتِهِ الْخَطَايَا. ثُمَّ إذَا عَمِلَ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ مِنْ سَيِّئَاتِ عَمَلِهِ، وَمِنْ عُقُوبَاتِ عَمَلِهِ. فَاسْتَعَانَهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَأَسْبَابِهَا. وَاسْتَعَاذَ بِهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَعِقَابِهَا. فَعَلِمَ الْعَبْدُ بِأَنَّ مَا أَصَابَهُ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ، وَمَا أَصَابَهُ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِهِ: يُوجِبُ لَهُ هَذَا وَهَذَا. فَهُوَ سُبْحَانَهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا هُنَا، بَعْدَ أَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . فَبَيَّنَ أَنَّ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ: النِّعَمَ وَالْمَصَائِبَ، وَالطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي، عَلَى قَوْلِ مَنْ أَدْخَلَهَا فِي " مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ". ثُمَّ بَيَّنَ الْفَرْقَ الَّذِي يَنْتَفِعُونَ بِهِ. وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْخَيْرَ: مِنْ

ص: 262

نِعْمَةِ اللَّهِ، فَاشْكُرُوهُ يَزِدْكُمْ. وَهَذَا الشَّرُّ: مِنْ ذُنُوبِكُمْ. فَاسْتَغْفِرُوهُ، يَدْفَعُهُ عَنْكُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} {أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} . وَالْمُذْنِبُ إذَا اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ مِنْ ذَنْبِهِ فَقَدْ تَأَسَّى بِالسُّعَدَاءِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ، كَآدَمَ وَغَيْرِهِ. وَإِذَا أَصَرَّ، وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ: فَقَدْ تَأَسَّى بِالْأَشْقِيَاءِ، كإبليس وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْغَاوِينَ. فَكَانَ مِنْ ذِكْرِهِ: أن السَّيِّئَةَ من نَفْسِ الْإِنْسَانِ بِذُنُوبِهِ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ: أن الْجَمِيعَ من عِنْدِ اللَّهِ، تَنْبِيهًا عَلَى الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ وَسَيِّئَاتِ عَمَلِهِ. وَالدُّعَاءُ بِذَلِك فِي الصَّبَاحِ وَالْمُسَاءِ، وَعِنْدَ الْمَنَامِ، كَمَا {أَمَرَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِذَلِك أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، أَفْضَلَ الْأُمَّةِ، حَيْثُ عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِي

ص: 263

وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِف عَلَى نَفْسِي سُوءًا، أَوْ أَجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ} . فَيَسْتَغْفِرُ مِمَّا مَضَى. وَيَسْتَعِيذُ مِمَّا يَسْتَقْبِلُ. فَيَكُونُ مِنْ حُزُبِ السُّعَدَاءِ. وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْحَسَنَةَ مِنْ اللَّهِ - الْجَزَاءَ وَالْعَمَلَ - سَأَلَهُ أَنْ يُعِينَهُ على فِعْلِ الْحَسَنَاتِ. بِقَوْلِهِ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَبِقَوْلِهِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وَقَوْلِهِ {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا} وَنَحْوِ ذَلِك. وَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَقَطْ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْفَرْقَ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ مِنْ هَذَا التَّسْوِيَةُ. فَأَعْرَضَ الْعَاصِي وَالْمُذْنِبُ عَنْ ذَمِّ نَفْسِهِ وَعَنْ التَّوْبَةِ مِنْ ذُنُوبِهَا، وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهَا. بَلْ وَقَامَ فِي نَفْسِهِ: أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى اللَّهِ بِالْقَدَرِ. وَتِلْكَ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ، لَا تَنْفَعُهُ. بَلْ تَزِيدُهُ عَذَابًا وَشَقَاءً، كَمَا زَادَتْ إبْلِيسَ لَمَّا قال {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} وَقَالَ {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} . وَكَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ

ص: 264

الْمُتَّقِينَ} وَكَاَلَّذِينَ قَالُوا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} . فَمَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَأَعْرَضَ عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، مِنْ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ، وَاسْتِهْدَائِهِ: كَانَ مِنْ أَخْسَرِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَهَذَا مِنْ فَوَائِدِ ذِكْرِ الْفَرْقِ بَيْنِ الْجَمْعِ.

فَصْلٌ:

الْفَرْقُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْحَسَنَةَ يُضَاعِفُهَا اللَّهُ وَيُنَمِّيهَا، وَيُثِيبُ عَلَى الْهَمِّ بِهَا. وَالسَّيِّئَةُ لَا يُضَاعِفُهَا، وَلَا يُؤَاخِذُ عَلَى الْهَمِّ بِهَا فَيُعْطِي صَاحِبَ الْحَسَنَةِ: مِنْ الْحَسَنَاتِ فَوْقَ مَا عَمِلَ. وَصَاحِبُ السَّيِّئَةِ: لَا يُجْزِيهِ إلَّا بِقَدْرِ عَمَلِهِ. قَالَ تَعَالَى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} . الْفَرْقُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْحَسَنَةَ مُضَافَةٌ إلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَحَسَنَ بِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، كَمَا تَقَدَّمَ. فَمَا مِنْ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِهَا: إلَّا وَهُوَ يَقْتَضِي الْإِضَافَةَ إلَيْهِ.

ص: 265

وَأَمَّا السَّيِّئَةُ: فَهُوَ إنَّمَا يَخْلُقُهَا بِحِكْمَةِ. وَهِيَ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ مِنْ إحْسَانِهِ. فَإِنَّ الرَّبَّ لَا يَفْعَلُ سَيِّئَةً قَطُّ. بَلْ فِعْلُهُ كُلُّهُ حَسَنٌ وَحَسَنَاتٌ. وَفِعْلُهُ كُلُّهُ خَيْرٌ. وَلِهَذَا {كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك. وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك} فَإِنَّهُ لَا يَخْلُق شَرًّا مَحْضًا. بَلْ كُلُّ مَا يَخْلُقُهُ: فَفِيهِ حِكْمَةٌ، هُوَ بِاعْتِبَارِهَا خَيْرٌ. وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شَرٌّ لِبَعْضِ النَّاسِ. وَهُوَ شَرٌّ جُزْئِيٌّ إضَافِيٌّ. فَأَمَّا شَرٌّ كُلِّيٌّ، أَوْ شَرٌّ مُطْلَقٌ: فَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْهُ. وَهَذَا هُوَ الشَّرُّ الَّذِي لَيْسَ إلَيْهِ. وَأَمَّا الشَّرُّ الْجُزْئِيُّ الْإِضَافِيُّ: فَهُوَ خَيْرٌ بِاعْتِبَارِ حِكْمَتِهِ. وَلِهَذَا لَا يُضَافُ الشَّرُّ إلَيْهِ مُفْرَدًا قَطُّ. بَلْ إمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ الْمَخْلُوقَاتِ، كَقَوْلِهِ {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} . وَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إلَى السَّبَبِ كَقَوْلِهِ {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} . وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُهُ، كَقَوْلِ الْجِنِّ {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} . وَهَذَا الْمَوْضِعُ ضَلَّ فِيهِ فَرِيقَانِ مِنْ النَّاسِ الْخَائِضِينَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَاطِلِ:

ص: 266

فِرْقَةٌ كَذَّبَتْ بِهَذَا، وَقَالَتْ: إنَّهُ لَا يَخْلُقُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، وَلَا يَشَاءُ كُلُّ مَا يَكُونُ. لِأَنَّ الذُّنُوبَ قَبِيحَةٌ، وَهُوَ لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ. وَإِرَادَتُهَا قَبِيحَةٌ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْقَبِيحَ. وَفِرْقَةٌ: لَمَّا رَأَتْ أَنَّهُ خَالِقُ هَذَا كُلِّهِ وَلَمْ تُؤْمِنْ أَنَّهُ خَلَقَ هَذَا لِحِكْمَةِ بَلْ قَالَتْ: إذَا كَانَ يَخْلُقُ هَذَا: فَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ كُلَّ شَرٍّ، وَلَا يَخْلُقُ شَيْئًا لِحِكْمَةِ. وَمَا ثَمَّ فِعْلٌ تَنَزَّهَ عَنْهُ. بَلْ كُلُّ مَا كَانَ مُمْكِنًا جَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ. وَجَوَّزُوا: أَنْ يَأْمُرَ بِكُلِّ كُفْرٍ وَمَعْصِيَةٍ. وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ إيمَانٍ وَطَاعَةٍ، وَصَدْقٍ وَعَدْلٍ. وَأَنْ يُعَذِّبَ الْأَنْبِيَاءَ، وَيُنَعِّمَ الْفَرَاعِنَةَ وَالْمُشْرِكِينَ وَغَيْرَ ذَلِك. وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَفْعُولٍ وَمَفْعُولٍ. وَهَذَا مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ، كَالْأَوَّلِ. قَالَ تَعَالَى {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَنَحْوِ ذَلِك مِمَّا يُوجِبُ أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَبَيْنَ الْمُحْسِنِ

ص: 267

وَالْمُسِيءِ. وَأَنَّ مَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا: فَقَدْ أَتَى بِقَوْلِ مُنْكَرٍ، وَزُورٍ يُنْكَرُ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ إذَا خَلَقَ مَا يَتَأَذَّى بِهِ بَعْضُ الْحَيَوَانِ: لَا يَكُونُ فِيهِ حِكْمَةٌ. بَلْ فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا يَخْفَى عَلَى بَعْضِهِمْ مِمَّا لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إلَّا اللَّهُ. وَلَيْسَ إذَا وَقَعَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ شَرٌّ جُزْئِيٌّ بِالْإِضَافَةِ: يَكُونُ شَرًّا كُلِّيًّا عَامًّا. بَلْ الْأُمُورُ الْعَامَّةُ الْكُلِّيَّةُ: لَا تَكُونُ إلَّا خَيْرًا وَمَصْلَحَةً لِلْعِبَادِ. كَالْمَطَرِ الْعَامِّ وَكَإِرْسَالِ رَسُولٍ عَامٍّ. وَهَذَا مِمَّا يَقْتَضِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَيِّدَ اللَّهُ كَذَّابًا عَلَيْهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ الصَّادِقِينَ. فَإِنَّ هَذَا شَرٌّ عَامٌّ لِلنَّاسِ، يُضِلُّهُمْ وَيُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ وَآخِرَتَهُمْ. وَلَيْسَ هَذَا كَالْمَلِكِ الظَّالِمِ، وَالْعَدُوِّ. فَإِنَّ الْمَلِكَ الظَّالِمَ: لَا بُدَّ أَنْ يَدْفَعَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الشَّرِّ أَكْثَرَ مِنْ ظُلْمِهِ. وَقَدْ قِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً بِإِمَامِ ظَالِمٍ: خَيْرٌ مِنْ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا إمَامٍ. وَإِذَا

ص: 268

قُدِّرَ كَثْرَةُ ظُلْمِهِ: فَذَاكَ ضَرَرٌ فِي الدِّينِ، كَالْمَصَائِبِ تَكُونُ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِمْ وَيُثَابُونَ عَلَيْهَا، وَيَرْجِعُونَ فِيهَا إلَى اللَّهِ، ويستغفرونه وَيَتُوبُونَ إلَيْهِ. وَكَذَلِك مَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَدُوِّ. وَأَمَّا مَنْ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، وَيَقُولُ - أَيْ يَدَّعِي - أَنَّهُ نَبِيٌّ: فَلَوْ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَأْيِيدَ الصَّادِقِ: لَلَزِمَ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّادِقِ. فَيَسْتَوِي الْهُدَى وَالضَّلَالُ، وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَطَرِيقُ الْجَنَّةِ وَطَرِيقُ النَّارِ. وَيَرْتَفِعُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. وَهَذَا مِمَّا يُوجِبُ الْفَسَادَ الْعَامَّ لِلنَّاسِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ. وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى الدِّينِ الْفَاسِدِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، كَالْخَوَارِجِ. وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ. وَنَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ. وَلِهَذَا قَدْ يُمَكِّنُ اللَّهُ كَثِيرًا مِنْ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ مُدَّةً. وَأَمَّا الْمُتَنَبِّئُونَ الْكَذَّابُونَ: فَلَا يُطِيلُ تَمْكِينَهُمْ. بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُهْلِكَهُمْ. لِأَنَّ فَسَادَهُمْ عَامٌّ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى

ص: 269

قَلْبِكَ} فَأَخْبَرَ: أَنَّهُ - بِتَقْدِيرِ الِافْتِرَاءِ - لَا بُدَّ أَنْ يُعَاقِبَ مَنْ افْتَرَى عَلَيْهِ.

فَصْلٌ:

وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا اضْطَرَبَ فِيهِ النَّاسُ، فَاسْتَدَلَّتْ الْقَدَرِيَّةُ الْنُّفَاةِ وَالْمُجْبِرَةُ عَلَى أَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يُضِلَّ شَخْصًا: جَازَ أَنْ يُضِلَّ كُلَّ النَّاسِ. وَإِذَا جَازَ أَنْ يُعَذِّبَ حَيَوَانًا بِلَا ذَنْبٍ وَلَا عِوَضٍ: جَازَ أَنْ يُعَذِّبَ كُلَّ حَيٍّ بِلَا ذَنْبٍ وَلَا عِوَضٍ. وَإِذَا جَازَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعِينَ وَاحِدًا مِمَّنْ أَمَرَهُ عَلَى طَاعَةِ أَمْرِهِ: جَازَ أَنْ لَا يُعِينَ كُلَّ الْخَلْقِ. فَلَمْ تُفَرِّقْ الطَّائِفَتَانِ بَيْنَ الشَّرِّ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ. وَبَيْنَ الشَّرِّ الْإِضَافِيِّ، وَالشَّرِّ الْمُطْلَقِ. وَلَمْ يَجْعَلُوا فِي الشَّرِّ الْإِضَافِيِّ حِكْمَةً يَصِيرُ بِهَا مِنْ قِسْمِ الْخَيْرِ. ثُمَّ قَالَ الْنُّفَاةِ: وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ. فَإِنَّا لَوْ جَوَّزْنَا عَلَيْهِ هَذَا لَجَوَّزْنَا عَلَيْهِ تَأْيِيدَ الْكَذَّابِ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَتَعْذِيبَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِكْرَامَ الْكُفَّارِ، وَغَيْرَ ذَلِك، مِمَّا يَسْتَعْظِمُ الْعُقَلَاءُ إضَافَتَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 270

فَقَالَتْ الْمُثْبِتَةُ مِنْ الْجَهْمِيَّة الْمُجْبِرَةِ: بَلْ كُلُّ الْأَفْعَالِ جَائِزَةٌ عَلَيْهِ، كَمَا جَازَ ذَلِك الْخَاصُّ. وَإِنَّمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا لَا يَفْعَلُ، أَوْ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ: بِالْخَبَرِ، خَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْهُ. وَإِلَّا فَمَهْمَا قَدَّرَ: جَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَجَازَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ. لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ سَبَبٌ وَلَا حِكْمَةٌ، وَلَا صِفَةٌ تَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ دُونَ بَعْضٍ. بَلْ لَيْسَ إلَّا مَشِيئَةٌ، نِسْبَتُهَا إلَى جَمِيعِ الْحَوَادِثِ سَوَاءٌ. تَرَجَّحَ أَحَدُ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجَّحٍ. فَقِيلَ لَهُمْ: فَيَجُوزُ تَأْيِيدُ الْكَذَّابُ بِالْمُعْجِزِ. فَلَا يَبْقَى الْمُعْجِزُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ. فَلَا يَبْقَى خَبَرُ نَبِيٍّ يَعْلَمُ بِهِ الْفَرْقَ. فَيَلْزَمُ - مَعَ الْكُفْرِ بِالْأَنْبِيَاءِ - أَنْ لَا يَعْلَمَ الْفَرْقَ، لَا بِسَمْعِ وَلَا بِعَقْلِ. فَاحْتَالُوا لِلْفَرَقِ بَيْن الْمُعْجَزَاتِ وَغَيْرِهَا. بِأَنَّ تَجْوِيزَ إتْيَانِ الْكَذَّابِ بِالْمُعْجِزَاتِ يَسْتَلْزِمُ تَعْجِيزَ الْبَارِي تَعَالَى عَمَّا بِهِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ. أَوْ لِأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الصَّدْقِ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ. كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِك فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبَيْنَ خَطَأِ الطَّائِفَتَيْنِ. وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا جَهْمًا فِي الْجَبْرِ - وَنَفَوْا حِكْمَةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ، وَالْأَسْبَابُ الَّتِي بِهَا يَفْعَلُ، وَمَا خَلَقَهُ مِنْ الْقُوَى وَغَيْرِهَا - هُمْ مُبْتَدِعَةٌ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ، مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ. كَمَا أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ الْنُّفَاةِ: مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ، مَعَ مُخَالِفَتِهِمْ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ.

ص: 271

فَصْلٌ:

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي، أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ شَاكِرًا مُسْتَغْفِرًا. وَقَدْ ذَكَرَ: أَنَّ الشَّرَّ لَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ، إلَّا عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْفَاتِحَةُ لِلْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ هُوَ سُبْحَانَهُ الرَّحْمَنُ الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا} وَقَدْ سَبَقَتْ وَغَلَبَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، الْحَلِيمُ الرَّحِيمُ. فَإِرَادَتُهُ: أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ وَنِعْمَةٍ، وَكُلُّ خَيْرٍ وَنِعْمَةٍ فَمِنْهُ {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} . وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ثُمَّ قَالَ {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} وَقَالَ تَعَالَى {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَالْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ مِنْ صِفَاتِهِ الْمَذْكُورَةِ

ص: 272

بِأَسْمَائِهِ. فَهِيَ مِنْ مُوجِبِ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ، وَمُقْتَضَاهَا وَلَوَازِمِهَا. وَأَمَّا الْعَذَابُ: فَمِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، الَّذِي خَلَقَهُ بِحِكْمَةِ، هُوَ بِاعْتِبَارِهَا حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ. فَالْإِنْسَانُ لَا يَأْتِيهِ الْخَيْرُ إلَّا مِنْ رَبِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ. وَلَا يَأْتِيهِ الشَّرُّ إلَّا مِنْ نَفْسِهِ. فَمَا أَصَابَهُ مِنْ حَسَنَةٍ: فَمِنْ اللَّهِ. وَمَا أَصَابَهُ مِنْ سَيِّئَةٍ: فَمِنْ نَفْسِهِ. وَقَوْلُهُ {وَمَا أَصَابَكَ} إمَّا أَنْ تَكُونَ كَافُ الْخِطَابِ لَهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ - وَهُوَ الْأَظْهَرُ. لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِك {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} . وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآدَمِيِّينَ، كَقَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} . لَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ. فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمُ هُنَا ذِكْرُ الْإِنْسَانِ وَلَا مَكَانُهُ. وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ طَائِفَةٍ قَالُوا مَا قَالُوهُ. فَلَوْ أُرِيدَ ذِكْرُهُمْ: لَقِيلَ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَهُمْ مِنْ سَيِّئَةٍ. لَكِنْ خُوطِبَ الرَّسُولُ بِهَذَا، لِأَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ. وَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمَهُ: كَانَ هَذَا حُكْمَ غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. كَمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ {اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} ، وَقَوِلِهِ تَعَالَى {لَئِنْ أَشْرَكْتَ

ص: 273

لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وَقَوْلِهِ {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} . ثُمَّ هَذَا الْخِطَابُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَخْتَصُّ لَفْظُهُ بِهِ لَكِنْ يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، كَقَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} ثُمَّ قَالَ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . وَنَوْعٌ: قَدْ يَكُونُ خِطَابُهُ خِطَابًا بِهِ لِجَمِيعِ النَّاسِ، كَمَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يُخَاطَبْ بِذَلِك. بَلْ هُوَ الْمُقَدَّمُ. فَالْخِطَابُ لَهُ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْجَنْسِ الْبَشَرِيِّ. وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَقَعُ مِنْهُ مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَلَا يَتْرُكُ مَا أُمِرَ بِهِ. بَلْ هَذَا يَقَعُ مِنْ غَيْرِهِ. كَمَا يَقُولُ وَلِيُّ الْأَمْرِ لِلْأَمِيرِ: سَافِرْ غَدًا إلَى الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ. أَيْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَك مِنْ الْعَسْكَرِ. وَكَمَا يَنْهَى أَعَزَّ مَنْ عِنْدَهُ عَنْ شَيْءٍ. فَيَكُونُ نَهْيًا لِمَنْ دُونَهُ. وَهَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ الْخِطَابِ. فَقَوْلُهُ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} الْخِطَابُ لَهُ صلى الله عليه وسلم. وَجَمِيعُ الْخَلْقِ دَاخِلُونَ فِي

ص: 274

هَذَا الْخِطَابِ بِالْعُمُومِ، وَبِطَرِيقِ الْأَوْلَى. بِخِلَافِ قَوْلِهِ {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} فَإِنَّ هَذَا لَهُ خَاصَّةٌ. وَلَكِنْ مَنْ يُبَلِّغُ عَنْهُ يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْخِطَابِ. كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم {بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً} وَقَالَ {نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ} وَقَالَ {لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ} وَقَالَ {إنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ {وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} . وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ " الْحَسَنَةَ " مُضَافَةٌ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. و " السَّيِّئَةَ " مُضَافَةٌ إلَيْهِ لِأَنَّهُ خَلَقَهَا. كَمَا خَلَقَ " الْحَسَنَةَ " فَلِهَذَا قَالَ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . ثُمَّ إنَّهُ إنَّمَا خَلَقَهَا لِحِكْمَةِ. وَلَا تُضَافُ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا سَيِّئَةٌ، بَلْ تُضَافُ إلَى النَّفْسِ الَّتِي تَفْعَلُ الشَّرَّ بِهَا لَا لِحِكْمَةِ. فَتَسْتَحِقُّ أَنْ يُضَافَ الشَّرُّ وَالسَّيِّئَةُ إلَيْهَا. فَإِنَّهَا لَا تَقْصِدُ بِمَا تَفْعَلُهُ مِنْ الذُّنُوبِ خَيْرًا يَكُونُ فِعْلُهُ لِأَجْلِهِ أَرْجَحَ. بَلْ مَا كَانَ هَكَذَا فهو من بَابِ الْحَسَنَاتِ. وَلِهَذَا كَانَ فِعْلُ اللَّهِ حَسَنًا. لَا يَفْعَلُ قَبِيحًا وَلَا سَيِّئًا قَطُّ. وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا سَيِّئَاتُ الْجَزَاءِ وَالْعَمَلِ. لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} و {مِنْ سَيِّئَةٍ} النِّعَمِ وَالْمَصَائِبِ، كَمَا تَقَدَّمَ. لَكِنْ إذَا كَانَتْ الْمُصِيبَةُ مِنْ نَفْسِهِ - لِأَنَّهُ أَذْنَبَ - فَالذَّنْبُ مِنْ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. فَالسَّيِّئَاتُ مِنْ نَفْسِهِ بِلَا رَيْبٍ. وَإِنَّمَا جَعَلَهَا مِنْهُ مَعَ الْحَسَنَةِ بِقَوْلِهِ:

ص: 275

{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} كَمَا تَقَدَّمَ. لِأَنَّهَا لَا تُضَافُ إلَى اللَّهِ مُفْرَدَةً. بَلْ فِي الْعُمُومِ، كَقَوْلِهِ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . وَكَذَلِك الْأَسْمَاءُ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الشَّرِّ، لَا تُذْكَرُ إلَّا مَقْرُونَةً، كَقَوْلِنَا " الضَّارُّ النَّافِعُ، الْمُعْطِي الْمَانِعُ، الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ " أَوْ مُقَيَّدَةً، كَقَوْلِهِ {إنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} . وَكُلُّ مَا خَلَقَهُ - مِمَّا فِيهِ شَرٌّ جُزْئِيٌّ إضَافِيٌّ - فَفِيهِ مِنْ الْخَيْرِ الْعَامِّ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ أَضْعَافُ ذَلِك. مِثْلُ إرْسَالِ مُوسَى إلَى فِرْعَوْنَ. فَإِنَّهُ حَصَلَ بِهِ التَّكْذِيبُ وَالْهَلَاكُ لَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. وَذَلِك شَرٌّ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِمْ. لَكِنْ حَصَلَ بِهِ - مِنْ النَّفْعِ الْعَامِّ لِلْخَلْقِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالِاعْتِبَارِ بِقِصَّةِ فِرْعَوْنَ - مَا هُوَ خَيْرٌ عَامٌّ. فَانْتَفَعَ بِذَلِك أَضْعَافُ أَضْعَافُ مَنْ اسْتَضَرَّ بِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِ {إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} . وَكَذَلِك مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم شَقِيَ بِرِسَالَتِهِ طَائِفَةٌ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمْ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ، وَأَهْلَكَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِسَبَبِهِ. وَلَكِنْ سَعِدَ بِهَا أَضْعَافُ أَضْعَافُ هَؤُلَاءِ. وَلِذَلِك مَنْ شَقِيَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا مُبَدِّلِينَ مُحَرَّفِينَ قَبْل أَنْ

ص: 276

يَبْعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم. فَأَهْلَكَ اللَّهُ بِالْجِهَادِ طَائِفَةً. وَاهْتَدَى بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَضْعَافُ أَضْعَافُ أُولَئِكَ. وَاَلَّذِينَ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقَهْرِ وَالصَّغَارِ، أَوْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَحْدَثَ فِيهِمْ الصَّغَارَ، فَهَؤُلَاءِ كَانَ قَهْرُهُمْ رَحْمَةً لَهُمْ. لِئَلَّا يَعْظُمَ كُفْرُهُمْ، وَيَكْثُرَ شَرُّهُمْ. ثُمَّ بَعْدَهُمْ حَصَلَ مِنْ الْهُدَى وَالرَّحْمَةِ لِغَيْرِهِمْ مَا لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ. وَهُمْ دَائِمًا يَهْتَدِي مِنْهُمْ نَاسٌ مِنْ بَعْدِ نَاسٍ بِبَرَكَةِ ظُهُورِ دِينِهِ بِالْحُجَّةِ وَالْيَدِ. فَالْمَصْلَحَةُ بِإِرْسَالِهِ وَإِعْزَازِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ، فِيهَا مِنْ الرَّحْمَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بِذَلِك مَا لَا نِسْبَةَ لَهَا إلَى مَا حَصَلَ بِذَلِك لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ شَرٍّ جُزْئِيٍّ إضَافِيٍّ، لِمَا فِي ذَلِك مِنْ الْخَيْرِ وَالْحِكْمَةِ أَيْضًا. إذْ لَيْسَ فِيمَا خَلَقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شَرٌّ مَحْضٌ أَصْلًا، بَلْ هُوَ شَرٌّ بِالْإِضَافَةِ.

فَصْلٌ:

الْفَرْقُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ الْحَسَنَاتِ الَّتِي يَعْمَلُهَا كُلَّهَا أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ. أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ، وَحَصَلَتْ بِمُشِيئَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ، لَيْسَ فِي الْحَسَنَاتِ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى

ص: 277

اللَّهِ. بَلْ كُلُّهَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. وَكُلُّ مَوْجُودٍ وَحَادِثٍ فَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْدِثُهُ. وَذَلِك: أَنَّ الْحَسَنَاتِ إمَّا فِعْلٌ مَأْمُورٌ بِهِ، أَوْ تَرْكٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَالتَّرْكُ: أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. فَتَرْكُ الْإِنْسَانِ لِمَا نُهِيَ عَنْهُ، وَمُعْرِفَتُهُ بِأَنَّهُ ذَنْبٌ قَبِيحٌ، وَبِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعَذَابِ، وَبُغْضُهُ وَكَرَاهَتُهُ لَهُ، وَمَنْعُ نَفْسِهِ مِنْهُ إذَا هَوِيَتْهُ، وَاشْتَهَتْهُ وَطَلَبَتْهُ. كُلُّ هَذِهِ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ. كَمَا أَنَّ مُعْرِفَتَهُ بِأَنَّ الْحَسَنَاتِ - كَالْعَدْلِ وَالصِّدْقِ - حَسَنَةٌ، وَفِعْلَهُ لَهَا أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ. وَلِهَذَا إنَّمَا يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنَاتِ إذَا فَعَلَهَا مُحِبًّا لَهَا بِنِيَّةِ وَقَصَدَ فِعْلَهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ. وَطَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَيُثَابُ عَلَى تَرْكِ السَّيِّئَاتِ إذَا تَرَكَهَا بِالْكَرَاهَةِ لَهَا، وَالِامْتِنَاعِ مِنْهَا. قَالَ تَعَالَى {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ. وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ

ص: 278

أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ - بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ - كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} . وَفِي السُّنَنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ: الْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ} . وَفِيهَا عَنْ أَبِي أمامة عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ. وَذَلِك أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} . وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه لَمَّا ذَكَرَ الْخُلُوفَ - قَالَ {مَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِك مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} .

ص: 279

وَقَالَ عَلَى لِسَانِ الْخَلِيلِ {إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} {إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} وَقَالَ {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فَهَذَا الْبُغْضُ وَالْعَدَاوَةُ وَالْبَرَاءَةُ مِمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمِنْ عَابِدِيهِ: هِيَ أُمُورٌ مَوْجُودَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَعَلَى اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ، كَمَا أَنَّ حُبَّ اللَّهِ وَمُوَالَاتَهُ وَمُوَالَاةَ أَوْلِيَائِهِ: أُمُورٌ مَوْجُودَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَعَلَى اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ. وَهِيَ تَحْقِيقُ قَوْلِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَهُوَ إثْبَاتُ تَأْلِيهِ الْقَلْبِ لِلَّهِ حُبًّا خَالِصًا وَذُلًّا صَادِقًا. وَمَنْعُ تَأْلِيهِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَبُغْضُ ذَلِك وَكَرَاهَتُهُ. فَلَا يَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ. وَيُحِبُّ أَنْ يَعْبُدَهُ، وَيُبْغِضُ عِبَادَةَ غَيْرِهِ وَيُحِبُّ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَخَشْيَتَهُ وَدُعَاءَهُ وَيُبْغِضُ التَّوَكُّلَ على غَيْرِهِ وَخَشْيَتَهُ وَدُعَاءَهُ. فَهَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ مَوْجُودَةٌ فِي الْقَلْبِ. وَهِيَ الْحَسَنَاتُ الَّتِي يُثِيبُ اللَّهُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا مُجَرَّدُ عَدِمِ السَّيِّئَاتِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهَا سَيِّئَةٌ، وَلَا يَكْرَهُهَا، بَلْ لَا يَفْعَلُهَا لِكَوْنِهَا لَمْ تَخْطِرْ بِبَالِهِ، أَوْ تَخْطِرُ كَمَا تَخْطِرُ

ص: 280

الْجَمَادَاتُ الَّتِي لَا يُحِبُّهَا وَلَا يُبْغِضُهَا - فَهَذَا لَا يُثَابُ عَلَى عَدِمِ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ. وَلَكِنْ لَا يُعَاقَبُ أَيْضًا عَلَى فِعْلِهَا. فَكَأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهَا. فَهَذَا تَكُونُ السَّيِّئَاتُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَتِهَا فِي حَقِّ الطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ وَالْبَهِيمَةِ. لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ. وَلَكِنْ إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِعِلْمِهِ تَحْرِيمَهَا. فَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ تَحْرِيمَهَا وَيَكْرَهَا وَإِلَّا عُوقِبَ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِتَحْرِيمِهَا.

‌فَصْلٌ:

وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي التَّرْكِ: هَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَوْ عَدَمِيٌّ؟

. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ وُجُودِيٌّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ - كَأَبِي هَاشِمِ بْنِ الْجِبَائِيِّ - إنَّهُ عَدَمِيٌّ وَأَنَّ الْمَأْمُورَ يُعَاقَبُ عَلَى مُجَرَّدِ عَدِمِ الْفِعْلِ، لَا عَلَى تَرْكٍ يَقُومُ بِنَفْسِهِ. وَيُسَمُّونَ " المذمية " لِأَنَّهُمْ رَتَّبُوا الذَّمَّ عَلَى الْعَدِمِ الْمَحْضِ. وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ: التَّرْكُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. فَلَا يُثَابُ مَنْ

ص: 281

تَرَكَ الْمَحْظُورَ إلَّا عَلَى تَرْكٍ يَقُومُ بِنَفْسِهِ. وَتَارِكُ الْمَأْمُورِ: إنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكٍ يَقُومُ بِنَفْسِهِ. وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِالْفِعْلِ فَيَمْتَنِعُ. فَهَذَا الِامْتِنَاعُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. وَلِذَلِك فَهُوَ يَشْتَغِلُ عَمَّا أُمِرَ بِهِ بِفِعْلِ ضِدِّهِ، كَمَا يَشْتَغِلُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ. فَيُعَاقَبُ عَلَى ذَلِك. وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ لَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ وَحْدَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَابِدًا لِغَيْرِهِ. يَعْبُدُ غَيْرَهُ فَيَكُونُ مُشْرِكًا. وَلَيْسَ فِي بَنِي آدَمَ قِسْمٌ ثَالِثٌ. بَلْ إمَّا مُوَحِّدٌ، أَوْ مُشْرِكٌ، أَوْ مَنْ خَلَطَ هَذَا بِهَذَا كَالْمُبَدِّلِينَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ: النَّصَارَى وَمَنْ أَشَبَهَهُمْ مِنْ الضُّلَّالِ، الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} لَمَّا قَالَ إبْلِيسُ {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} قَالَ تَعَالَى {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} . فَإِبْلِيسُ لَا يُغْوِي الْمُخْلَصِينَ. وَلَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ. إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الْغَاوِينَ. وَهُمْ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَهُمْ الَّذِينَ بِهِ مُشْرِكُونَ.

ص: 282

وَقَوْلُهُ {الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} صِفَتَانِ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ. فَكُلُّ مَنْ تَوَلَّاهُ فَهُوَ بِهِ مُشْرِكٌ، وَكُلُّ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ فَقَدْ تَوَلَّاهُ. قَالَ تَعَالَى {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} . وَكُلُّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ فَإِنَّمَا يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ، وَإِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ. وَقَالَ تَعَالَى {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} . وَلِهَذَا تَتَمَثَّلُ الشَّيَاطِينُ لِمَنْ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَيُخَاطِبُونَهُمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّ الَّذِي خَاطَبَهُمْ مَلَكٌ أَوْ نَبِيٌّ، أَوْ وَلِيٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ، جَعَلَ نَفْسَهُ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا يُصِيبُ عُبَّادُ الْكَوَاكِبِ وَأَصْحَابُ الْعَزَائِمِ وَالطَّلْسَمَاتِ. يُسَمُّونَ أَسَمَاءً، يَقُولُونَ: هِيَ أَسَمَاءُ الْمَلَائِكَةِ مِثْلَ منططرون وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَسَمَاءُ الْجِنِّ. وَكَذَلِك الَّذِينَ يَدْعُونَ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ قَدْ يَتَمَثَّلُ لِأَحَدِهِمْ مَنْ يُخَاطِبُهُ، فَيَظُنُّهُ النَّبِيُّ، أَوْ الصَّالِحُ الَّذِي دَعَاهُ. وَإِنَّمَا

ص: 283

هُوَ شَيْطَانٌ تَصَوَّرَ فِي صُورَتِهِ، أَوْ قَالَ: أَنَا هُوَ، لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ صُورَةَ ذَلِك الْمَدْعُوِّ. وَهَذَا كَثِيرٌ يَجْرِي لِمَنْ يَدْعُو الْمَخْلُوقِينَ، مِنْ النَّصَارَى وَمِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ يَدْعُونَهُمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ، أَوْ مَغِيبِهِمْ. وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ. فَيَأْتِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ ذَلِك الْمُسْتَغَاثُ بِهِ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ إمَّا رَاكِبًا، وَإِمَّا غَيْرَ رَاكِبٍ. فَيَعْتَقِدُ الْمُسْتَغِيثُ: أَنَّهُ ذَلِك النَّبِيَّ، أَوْ الصَّالِحَ، أَوْ أَنَّهُ سِرُّهُ، أَوْ رُوحَانِيَّتُهُ، أَوْ رَقِيقَتُهُ أَوْ الْمَعْنَى تَشَكَّلَ، أو يَقُولُ: إنَّهُ مَلَكٌ جَاءَ عَلَى صُورَتِهِ. وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ يُغْوِيهِ، لِكَوْنِهِ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ وَدَعَا غَيْرَهُ: الْمَيِّتَ فَمَنْ دُونَهُ. فَصَارَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ بِذَلِك الشِّرْكِ. فَظَنَّ أَنَّهُ يَدْعُو النَّبِيَّ، أَوْ الصَّالِحَ، أَوْ الْمَلَكَ. وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي شَفَعَ لَهُ، أَوْ هُوَ الَّذِي أَجَابَ دَعْوَتَهُ. وَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ، لِيَزِيدَهُ غُلُوًّا فِي كُفْرِهِ وَضَلَالِهِ. فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُشْرِكًا عَابِدًا لِغَيْرِ اللَّهِ. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ: عَابِدٌ لِلشَّيْطَانِ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إمَّا عَابِدٌ لِلرَّحْمَنِ، وَإِمَّا عَابِدٌ لِلشَّيْطَانِ. قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} {حَتَّى إذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} {وَلَنْ

ص: 284

يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . فَبَنُو آدَمَ مُنْحَصِرُونَ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ.

فَصْلٌ:

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى عَمَلٍ وُجُودِيٍّ بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ، كَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَتَرْكُ السَّيِّئَاتِ، كَتَرْكِ الشِّرْكِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، وَفِعْلُ السَّيِّئَاتِ، مِثْلُ تَرْكِ التَّوْحِيدِ، وَعِبَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. قَالَ تَعَالَى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وَقَالَ تَعَالَى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} وَقَالَ تَعَالَى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} - إلَى قَوْلِهِ - {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى

ص: 285

{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} . فَأَمَّا عَدَمُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ: فَجَزَاؤُهُ عَدَمُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَإِذَا فُرِضَ رَجُلٌ آمَنَ بِالرَّسُولِ مُجْمَلًا، وَبَقِيَ مُدَّةً لَا يَفْعَلُ كَثِيرًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَا سَمِعَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، فَلَمْ يَعْتَقِدْ تَحْرِيمَهَا. مِثْلُ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَلَا عَلِمَ أَنَّهُ حَرَّمَ نِكَاحَ الْأَقَارِبِ سِوَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ، وَلَا حَرَّمَ بِالْمُصَاهَرَةِ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ - حَرَّمَ عَلَى كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ أُصُولَ الْآخَرِ وَفُرُوعَهُ - فَإِذَا آمَنَ وَلَمْ يَفْعَلْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَا اعتقد تَحْرِيمَهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِك: فَهَذَا لَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ. وَلَكِنْ إذَا عَلِمَ التَّحْرِيمَ فَاعْتَقَدَهُ: أُثِيبَ عَلَى اعْتِقَادِهِ. وَإِذَا تَرَكَ ذَلِك - مَعَ دُعَاءِ النَّفْسِ إلَيْهِ - أُثِيبَ ثَوَابًا آخَرَ، كَاَلَّذِي تَدْعُوهُ نَفْسُهُ إلَى الشَّهَوَاتِ فَيَنْهَاهَا كَالصَّائِمِ الَّذِي تَشْتَهِي نَفْسُهُ الْأَكْلَ وَالْجِمَاعَ فَيَنْهَاهَا، وَاَلَّذِي تَشْتَهِي نَفْسُهُ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالْفَوَاحِشَ فَيَنْهَاهَا. فَهَذَا يُثَابُ ثَوَابًا آخَرَ، بِحَسَبِ نَهْيِهِ لِنَفْسِهِ، وَصَبْرِهِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ، وَاشْتِغَالِهِ بِالطَّاعَاتِ الَّتِي هِيَ ضِدُّهَا. فَإِذَا فَعَلَ تِلْكَ الطَّاعَاتِ كَانَتْ مَانِعَةً لَهُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ.

ص: 286

وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَالْحَسَنَاتُ الَّتِي يُثَابُ عَلَيْهَا كُلُّهَا وُجُودِيَّةٌ، نِعْمَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا أَحَبَّتْهُ النَّفْسُ مِنْ ذَلِك، وَكَرِهَتْهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ: فَهُوَ الَّذِي حَبَّبَ الْإِيمَانَ إلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ. وَكَرَّهَ إلَيْهِمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا السَّيِّئَاتُ: فَمَنْشَؤُهَا الْجَهْلُ وَالظُّلْمُ. فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَفْعَلُ سَيِّئَةً قَبِيحَةً إلَّا لِعَدِمِ عِلْمِهِ بِكَوْنِهَا سَيِّئَةً قَبِيحَةً، أَوْ لِهَوَاهُ وَمَيْلِ نَفْسِهِ إلَيْهَا. وَلَا يَتْرُكُ حَسَنَةً وَاجِبَةً إلَّا لِعَدِمِ عِلْمِهِ بِوُجُوبِهَا، أَوْ لِبُغْضِ نَفْسِهِ لَهَا. وَفِي الْحَقِيقَةِ: فَالسَّيِّئَاتُ كُلُّهَا تَرْجِعُ لِلْجَهْلِ. وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ عَالِمًا عِلْمًا نَافِعًا بِأَنْ فِعْلَ هَذَا يَضُرُّهُ ضَرَرًا رَاجِحًا لَمْ يَفْعَلْهُ. فَإِنَّ هَذَا خَاصِّيَّةُ الْعَاقِلِ. وَلِهَذَا إذَا كَانَ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَضُرُّهُ ضَرَرًا رَاجِحًا، كَالسُّقُوطِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ، أَوْ فِي نَهَرٍ يُغْرِقُهُ، أَوْ الْمُرُورِ بِجَنْبِ حَائِطٍ مَائِلٍ، أَوْ دُخُولِ نَارٍ مُتَأَجِّجَةٍ، أَوْ رَمْيِ مَالِهِ فِي الْبَحْرِ وَنَحْوِ ذَلِك،

ص: 287

لَمْ يَفْعَلْهُ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ هَذَا ضَرَرٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ. وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَضُرُّهُ - كَالصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالسَّاهِي وَالْغَافِلِ - فَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِك. وَمَنْ أَقْدَمَ عَلَى مَا يَضُرُّهُ - مَعَ عِلْمِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ - فَلِظَنِّهِ أَنَّ مَنْفَعَتَهُ رَاجِحَةٌ. فَإِمَّا أَنْ يَجْزِمَ بِضَرَرِ مَرْجُوحٍ، أَوْ يَظُنَّ أَنَّ الْخَيْرَ رَاجِحٌ. فَلَا بُدَّ مِنْ رُجْحَانِ الْخَيْرِ، إمَّا فِي الظَّنِّ وَإِمَّا فِي الْمَظْنُونِ، كَاَلَّذِي يَرْكَبُ الْبَحْرَ وَيُسَافِرُ الْأَسْفَارَ الْبَعِيدَةَ لِلرِّبْحِ. فَإِنَّهُ لَوْ جَزَمَ بِأَنَّهُ يَغْرَقُ أَوْ يَخْسِرُ لَمَا سَافَرَ، لَكِنَّهُ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ السِّلَامَةُ وَالرِّبْحُ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي هَذَا الظَّنِّ. وَكَذَلِك الذُّنُوبُ: إذَا جَزَمَ السَّارِقُ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ وَيُقْطَعُ، لَمْ يَسْرِقْ. وَكَذَلِك الزَّانِي: إذَا جَزَمَ بِأَنَّهُ يُرْجَمُ، لَمْ يَزْنِ. وَالشَّارِبُ يَخْتَلِفُ حَالُهُ. فَقَدْ يُقَدَّمُ عَلَى جَلْدِ أَرْبَعِينَ وَثَمَانِينَ، وَيُدِيمُ الشُّرْبَ مَعَ ذَلِك. وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ: أَنَّ عُقُوبَةَ الشَّارِبِ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَنْتَهِي إلَى الْقَتْلِ، إذَا لَمْ يَنْتَهِ إلَّا بِذَلِك. كَمَا جَاءَتْ بِذَلِك الْأَحَادِيثُ. كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَذَلِك الْعُقُوبَاتُ، مَتَى جَزَمَ طَالِبُ الذَّنْبِ بِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ

ص: 288

الضَّرَرُ الرَّاجِحُ لَمْ يَفْعَلْهُ. بَلْ إمَّا أَلَا يَكُونَ جَازِمًا بِتَحْرِيمِهِ، أَوْ يَكُونَ غَيْرَ جَازِمٍ بِعُقُوبَتِهِ. بَلْ يَرْجُو الْعَفْوَ بِحَسَنَاتِ، أَوْ تَوْبَةٍ، أَوْ بِعَفْوِ اللَّهِ، أَوْ يَغْفُلُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ. وَلَا يَسْتَحْضِرُ تَحْرِيمًا، وَلَا وَعِيدًا فَيَبْقَى غَافِلًا. غَيْرَ مُسْتَحْضِرٍ لِلتَّحْرِيمِ. وَالْغَفْلَةُ مِنْ أَضْدَادِ الْعِلْمِ.

فَصْلٌ:

فَالْغَفْلَةُ وَالشَّهْوَةُ أَصْلُ الشَّرِّ. قَالَ تَعَالَى {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} وَالْهَوَى وَحْدَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ إلَّا مَعَ الْجَهْلِ. وَإِلَّا فَصَاحِبُ الْهَوَى، إذَا عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ ذَلِك يَضُرُّهُ ضَرَرًا رَاجِحًا: انْصَرَفَتْ نَفْسُهُ عَنْهُ بِالطَّبْعِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي النَّفْسِ حُبًّا لِمَا يَنْفَعُهَا، وَبُغْضًا لِمَا يَضُرُّهَا. فَلَا تَفْعَلُ مَا تَجْزِمُ بِأَنَّهُ يَضُرُّهَا ضَرَرًا رَاجِحًا. بَلْ مَتَى فَعَلَتْهُ كَانَ لِضَعْفِ الْعَقْلِ. وَلِهَذَا يُوصَفُ هَذَا بِأَنَّهُ عَاقِلٌ، وَذُو نُهًى، وَذُو حِجًا. وَلِهَذَا كَانَ الْبَلَاءُ الْعَظِيمُ مِنْ الشَّيْطَانِ. لَا مِنْ مُجَرَّدِ النَّفْسِ. فَإِنَّ

ص: 289

الشَّيْطَانَ يُزَيِّنُ لَهَا السَّيِّئَاتِ. وَيَأْمُرُهَا بِهَا، وَيَذْكُرُ لَهَا مَا فِيهَا مِنْ الْمَحَاسِنِ. الَّتِي هِيَ مَنَافِعُ لَا مَضَارَّ. كَمَا فَعَلَ إبْلِيسُ بِآدَمَ وَحَوَّاءَ. فَقَالَ {يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وَقَوْلُهُ {زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} هُوَ بِتَوْسِيطِ تَزْيِينِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُؤْمِنِينَ لِلْخَيْرِ. وَتَزْيِينِ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِلشَّرِّ. قَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} فَأَصْلُ مَا يُوقِعُ النَّاسَ فِي السَّيِّئَاتِ: الْجَهْلُ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا تَضُرُّهُمْ ضَرَرًا رَاجِحًا، أَوْ ظَنُّ أَنَّهَا تَنْفَعُهُمْ نَفْعًا رَاجِحًا. وَلِهَذَا قَالَ

ص: 290

الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم " كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ " وَفَسَّرُوا بِذَلِك قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} كَقَوْلِهِ {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَلِهَذَا يُسَمَّى حَالُ فِعْلِ السَّيِّئَاتِ: الْجَاهِلِيَّةَ. فَإِنَّهُ يُصَاحِبُهَا حَالٌ مِنْ حَالٍ جَاهِلِيَّةٍ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ؟ {إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} فَقَالُوا: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ. وَمَنْ تَابَ قُبَيْلَ الْمَوْتِ: فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ. وَعَنْ قتادة قَالَ " أَجْمَعَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ عَصَى رَبَّهُ فَهُوَ فِي جَهَالَةٍ، عَمْدًا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَكُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ " وَكَذَلِك قَالَ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. قَالَ مُجَاهَدٌ: مَنْ عَمِلَ ذَنْبًا - مِنْ شَيْخٍ، أَوْ شَابٍّ - فَهُوَ بِجَهَالَةٍ، وَقَالَ: مَنْ عَصَى رَبَّهُ فَهُوَ جَاهِلٌ. حَتَّى يَنْزِعَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ إعْطَاءُ الْجَهَالَةِ الْعَمْد. وَقَالَ مُجَاهَدٌ أَيْضًا: مَنْ عَمِلَ سُوءًا خَطَأً، أَوْ إثْمًا عَمْدًا: فَهُوَ جَاهِلٌ. حَتَّى يَنْزِعَ مِنْهُ. رَوَاهُنَّ ابْنُ

ص: 291

أَبِي حَاتِمٍ. ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ قتادة، وَعَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَنَحْوِ ذَلِك " خَطَأٌ، أَوْ عَمْدًا ". وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهَدٍ وَالضَّحَّاكِ قَالَا: لَيْسَ مِنْ جَهَالَتِهِ أَنْ لَا يَعْلَمَ حَلَالًا وَلَا حَرَامًا. وَلَكِنْ مِنْ جَهَالَتِهِ: حِينَ دَخَلَ فِيهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الدُّنْيَا كُلُّهَا جَهَالَةٌ وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهَا؟ فَقَالَ: هُمْ قَوْمٌ لَمْ يَعْلَمُوا مَا لَهُمْ مِمَّا عَلَيْهِمْ. قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْت لَوْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا؟ قَالَ: فَلْيَخْرُجُوا مِنْهَا. فَإِنَّهَا جَهَالَةٌ. قُلْت: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِك: قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وَكُلُّ مَنْ خَشِيَهُ، وَأَطَاعَهُ، وَتَرَكَ مَعْصِيَتَهُ: فَهُوَ عَالِمٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . وَقَالَ رَجُلٌ لِلشَّعْبِيِّ: أَيُّهَا الْعَالِمُ. فَقَالَ: إنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ. قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ فَهُوَ عَالِمٌ. فَإِنَّهُ لَا يَخْشَاهُ إلَّا عَالِمٌ.

ص: 292

وَيَقْتَضِي أَيْضًا: أَنَّ الْعَالِمَ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ. كَمَا قَالَ السَّلَفُ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ " كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا، وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ جَهْلًا ". وَمِثْلُ هَذَا الْحَصْرُ يَكُونُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ. حَصْرُ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي. وَهُوَ مُطَّرِدٌ، وَحَصْرُ الثَّانِي فِي الْأَوَّلِ نَحْوَ قَوْلِهِ {إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} وَقَوْلِهِ {إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} وَقَوْلِهِ {إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . وَذَلِك: أَنَّهُ أَثْبَتَ الْخَشْيَةَ لِلْعُلَمَاءِ، وَنَفَاهَا عَنْ غَيْرِهِمْ. وَهَذَا كَالِاسْتِثْنَاءِ. فَإِنَّهُ مِنْ النَّفْيِ: إثْبَاتٌ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. كَقَوْلِنَا " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " قَوْله تَعَالَى {وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وَقَوْلِهِ {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَوْلِهِ {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} . وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مَسْكُوتٌ عَنْهُ. لَمْ يُثْبِتْ لَهُ مَا ذَكَرَ. ولم يَنْفِ عَنْهُ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ ذَلِك فِي صِيغَةِ الْحَصْرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. فَيَقُولُونَ: نَفَى الْخَشْيَةَ عَنْ غَيْرِ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يُثْبِتْهَا لَهُمْ.

ص: 293

وَالصَّوَابُ: قَوْلُ الْجُمْهُورِ. أَنَّ هَذَا كَقَوْلِهِ {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فَإِنَّهُ يَنْفِي التَّحْرِيمَ عَنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَيُثْبِتُهَا لَهَا. لَكِنْ أَثَبَتَهَا لِلْجِنْسِ. أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ؟ كَمَا يُقَالُ: إنَّمَا يَحُجُّ الْمُسْلِمُونَ. وَلَا يَحُجُّ إلَّا مُسْلِمٌ. وَذَلِك أَنَّ الْمُسْتَثْنَى هَلْ هُوَ مُقْتَضٍ أَوْ شَرْطٌ؟ . فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا: هُوَ مُقْتَضٍ. فَهُوَ عَامٌّ. فَإِنَّ الْعِلْمَ بِمَا أَنَذَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ يُوجِبُ الْخَوْفَ. فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ يُوجِبُ الْخَشْيَةَ الْحَامِلَةَ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنَاتِ. وِتْرِك السَّيِّئَاتِ. وَكُلُّ عَاصٍ فَهُوَ جَاهِلٌ. لَيْسَ بِتَامِّ الْعِلْمِ. يُبَيِّنُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ أَصْلَ السَّيِّئَاتِ الْجَهْلُ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ. فَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ شَيْئًا مَوْجُودًا. بَلْ هُوَ مِثْلُ عَدَمِ الْقُدْرَةِ، وَعَدَمِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَسَائِرِ الأعدام. وَالْعَدَمُ: لَا فَاعِلَ لَهُ. وَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا. وَإِنَّمَا الشَّيْءُ الْمَوْجُودُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. فَلَا يَجُوز أَنْ يُضَافَ الْعَدَمُ الْمَحْضُ إلَى اللَّهِ. لَكِنْ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِاَللَّهِ، لَا يَدْعُوهُ إلَى الْحَسَنَاتِ، وَتَرْكِ السَّيِّئَاتِ. وَالنَّفْسُ بِطَبْعِهَا مُتَحَوِّلَةٌ. فَإِنَّهَا حَيَّةٌ. وَالْإِرَادَةُ وَالْحَرَكَةُ الْإِرَادِيَّةُ مِنْ

ص: 294

لَوَازِمِ الْحَيَاةِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ} فَكُلُّ آدَمِيٍّ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ. أَيْ عَامِلٌ كَاسِبٌ، وَهُوَ هَمَّامٌ. أَيْ يَهِمُّ وَيُرِيدُ. فَهُوَ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ {مَثَلُ الْقَلْبِ: مَثَلُ رِيشَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ وَلَلْقَلْبُ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنْ الْقِدْرِ إذَا اُسْتُجْمِعَتْ غَلَيَانًا} . فَلَمَّا كَانَتْ الْإِرَادَةُ وَالْعَمَلُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهَا. فَإِذَا هَدَاهَا اللَّهُ: عَلَّمَهَا مَا يَنْفَعُهَا وَمَا يَضُرُّهَا. فَأَرَادَتْ مَا يَنْفَعُهَا، وَتَرَكَتْ مَا يَضُرُّهَا.

فَصْلٌ:

وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ تَفَضَّلَ عَلَى بَنِي آدَمَ بِأَمْرَيْنِ، هُمَا أَصْلُ السَّعَادَةِ:

أَحَدِهِمَا: أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ. فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ. هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} } قَالَ تَعَالَى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} .

ص: 295

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ. وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} . فَالنَّفْسُ بِفِطْرَتِهَا إذَا تُرِكَتْ كَانَتْ مُقِرَّةً لِلَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ مَحَبَّةً لَهُ تَعْبُدُهُ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. وَلَكِنْ يُفْسِدُهَا مَا يُزَيِّنُ لَهَا شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بِمَا يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ مِنْ الْبَاطِلِ. قَالَ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} {أَوْ تَقُولُوا إنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} . وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ هَدَى النَّاسَ هِدَايَةً عَامَّةً بِمَا جَعَلَ فِيهِمْ بِالْفِطْرَةِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَأَسْبَابِ الْعِلْمِ وَبِمَا أَنْزَلَ إلَيْهِمْ مِنْ الْكُتُبِ وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ مِنْ الرُّسُلِ. قَالَ تَعَالَى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وَقَالَ تَعَالَى {الرَّحْمَنِ} {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} {عَلَّمَهُ

ص: 296

الْبَيَانَ} وَقَالَ تَعَالَى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} وَقَالَ تَعَالَى {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} . فَفِي كُلِّ أَحَدٍ مَا يَقْتَضِي مَعْرِفَتَهُ بِالْحَقِّ وَمَحَبَّتَهُ لَهُ. وَقَدْ هَدَاهُ رَبُّهُ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْعِلْمِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى سَعَادَةِ الْأُولَى وَالْآخِرَةِ. وَجَعَلَ فِي فِطْرَتِهِ مَحَبَّةً لِذَلِكَ. لَكِنْ قَدْ يُعْرِضُ الْإِنْسَانُ - بِجَاهِلِيَّتِهِ وَغَفْلَتِهِ - عَنْ طَلَبِ عِلْمِ مَا يَنْفَعُهُ. وَكَوْنُهُ لَا يَطْلُبُ ذَلِكَ وَلَا يُرِيدُهُ: أَمْرٌ عَدَمِيٌّ لَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَلَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ: لَا عَدَمُ عِلْمِهِ بِالْحَقِّ وَلَا عَدَمُ إرَادَتِهِ لِلْخَيْرِ. لَكِنَّ النَّفْسَ كَمَا تَقَدَّمَ: الْإِرَادَةُ وَالْحَرَكَةُ مِنْ لَوَازِمِهَا فَإِنَّهَا حَيَّةٌ حَيَاةً طَبِيعِيَّةً؛ لَكِنَّ سَعَادَتَهَا وَنَجَاتَهَا إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِأَنْ تَحْيى الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ الْكَامِلَةَ. وَكَانَ مَا لَهَا مِنْ الْحَيَاةِ الطَّبِيعِيَّةِ مُوجِبًا لِعَذَابِهَا. فَلَا هِيَ حَيَّةٌ مُتَنَعِّمَةٌ بِالْحَيَاةِ. وَلَا هِيَ مَيِّتَةٌ مُسْتَرِيحَةٌ مِنْ الْعَذَابِ. قَالَ تَعَالَى {فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. لَمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا: لَيْسَ بِحَيِّ الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ الَّتِي خُلِقَ لِأَجْلِهَا.

ص: 297

بَلْ كَانَتْ حَيَاتُهُ مِنْ جِنْسِ حَيَاةِ الْبَهَائِمِ. وَلَمْ يَكُنْ مَيِّتًا عَدِيمَ الْإِحْسَاسِ: كَانَ فِي الْآخِرَةِ كَذَلِكَ. فَإِنَّ مَقْصُودَ الْحَيَاةِ: هُوَ حُصُولُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْحَيُّ وَيَسْتَلِذُّ بِهِ وَالْحَيُّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ لَذَّةٍ أَوْ أَلَمٍ. فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ لَهُ اللَّذَّةُ: لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَقْصُودُ الْحَيَاةِ فَإِنَّ الْأَلَمَ لَيْسَ مَقْصُودًا. كَمَنْ هُوَ حَيٌّ فِي الدُّنْيَا وَبِهِ أَمْرَاضٌ عَظِيمَةٌ لَا تَدَعُهُ يَتَنَعَّمُ بِشَيْءِ مِمَّا يَتَنَعَّمُ بِهِ الْأَحْيَاءُ. فَهَذَا يَبْقَى طُولَ حَيَاتِهِ يَخْتَارُ الْمَوْتَ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ طَبْعِ النَّفْسِ الْمُلَازِمِ لَهَا: وُجُودُ الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ إذْ هُوَ حَارِثٌ هَمَّامٌ. فَإِنْ عَرَفَتْ الْحَقَّ وَأَرَادَتْهُ وَأَحَبَّتْهُ وَعَبَدَتْهُ: فَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهَا. وَإِلَّا فَهِيَ بِطَبْعِهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَادِ مَعْبُودٍ غَيْرِ اللَّهِ. وَمُرَادَاتٍ سَيِّئَةٍ تَضُرُّهَا. فَهَذَا الشَّرُّ قَدْ تَرَكَّبَ مِنْ كَوْنِهَا لَمْ تَعْرِفْ اللَّهَ وَلَمْ تَعْبُدْهُ. وَهَذَا عَدَمٌ لَا يُضَافُ إلَى فَاعِلٍ وَمِنْ كَوْنِهَا بِطَبْعِهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَادٍ مَعْبُودٍ. فَعَبَدَتْ غَيْرَهُ. وَهَذَا هُوَ الشَّرُّ الَّذِي تُعَذَّبُ عَلَيْهِ. وَهُوَ مِنْ مُقْتَضَى طَبْعِهَا مَعَ عَدَمِ هُدَاهَا. وَالْقَدَرِيَّةُ يَعْتَرِفُونَ بِهَذَا جَمِيعِهِ. وَبِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مُرِيدًا. لَكِنْ يَجْعَلُونَ الْمَخْلُوقَ كَوْنَهُ مُرِيدًا بِالْقُوَّةِ وَالْقَبُولِ. أَيْ قَابِلًا لَأَنْ يُرِيدَ هَذَا وَهَذَا.

ص: 298

وَأَمَّا كَوْنُهُ مُرِيدًا لِهَذَا الْمُعَيَّنِ وَهَذَا الْمُعَيَّنُ: فَهَذَا عِنْدَهُمْ لَيْسَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ وَغَلِطُوا فِي ذَلِكَ غَلَطًا فَاحِشًا. فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُ هَذَا كُلِّهِ. وَإِرَادَةُ النَّفْسِ لِمَا تُرِيدُهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَفِعْلِهَا: هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. وَهُوَ الَّذِي أَلْهَمَ النَّفْسَ - الَّتِي سَوَّاهَا - فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. {وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا. أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا} . وَهُوَ سُبْحَانَهُ: جَعَلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَهُ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِهِ. وَجَعَلَ فِرْعَوْنَ وَآلَهُ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ. لَكِنَّ هَذَا لَا يُضَافُ مُفْرَدًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِوَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ الغائية وَمِنْ جِهَةِ سَبَبِهِ وَعِلَّتِهِ الْفَاعِلِيَّةِ. أَمَّا الغائية: فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا خَلَقَهُ لِحِكْمَةِ هُوَ بِاعْتِبَارِهَا خَيْرٌ لَا شَرٌّ. وَإِنْ كَانَ شَرًّا إضَافِيًّا. فَإِذَا أُضِيفَ مُفْرَدًا: تَوَهَّمَ الْمُتَوَهِّمُ مَذْهَبَ جَهْمٍ: أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الشَّرَّ الْمَحْضَ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ لِأَحَدِ لَا لِحِكْمَةِ وَلَا رَحْمَةٍ. وَالْأَخْبَارُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ تُبْطِلُ هَذَا الْمَذْهَبَ.

ص: 299

كَمَا أَنَّهُ إذَا قِيلَ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ يَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ: كَانَ هَذَا ذَمًّا لَهُمْ وَكَانَ بَاطِلًا. وَإِذَا قِيلَ: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَيَقْتُلُونَ مَنْ مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ: كَانَ هَذَا مَدْحًا لَهُمْ وَكَانَ حَقًّا. فَإِذَا قِيلَ: إنَّ الرَّبَّ تبارك وتعالى حَكِيمٌ رَحِيمٌ. أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَأَتْقَنَ مَا صَنَعَ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا. وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ. وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْهِ. بَلْ لَا يَفْعَلُ إلَّا خَيْرًا. وَمَا خَلَقَهُ مِنْ أَلَمٍ لِبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ أَوْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ الْمَذْمُومَةِ: فَلَهُ فِيهَا حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَنِعْمَةٌ جَسِيمَةٌ - كَانَ هَذَا حَقًّا. وَهُوَ مَدْحٌ لِلرَّبِّ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا إذَا قِيلَ: إنَّهُ يَخْلُقُ الشَّرَّ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا مَنْفَعَةَ لِأَحَدِ. وَلَا لَهُ فِيهَا حِكْمَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ. وَيُعَذِّبُ النَّاسَ بِلَا ذَنْبٍ: لَمْ يَكُنْ هَذَا مَدْحًا لِلرَّبِّ وَلَا ثَنَاءً عَلَيْهِ. بَلْ كَانَ بِالْعَكْسِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَرُّ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ إبْلِيسَ. وَبَسْطُ الْقَوْلِ فِي بَيَانِ فَسَادِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ مَا فِي خَلْقِ جَهَنَّمَ وَإِبْلِيسَ وَالسَّيِّئَاتِ: مِنْ الْحِكْمَةِ

ص: 300

وَالرَّحْمَةِ. وَمَا لَمْ نَعْلَمْ أَعْظَمَ مِمَّا عَلِمْنَاهُ. فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَخَيْرُ الْغَافِرِينَ. وَمَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ. الْأَحَدُ الصَّمَدُ. الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. الَّذِي لَا يُحْصِي الْعِبَادُ ثَنَاءً عَلَيْهِ. بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ الَّذِي لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ. وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالْحُبَّ وَالرِّضَا لِذَاتِهِ وَلِإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ. سبحانه وتعالى. يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْمَدَ لِمَا لَهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْمَحَامِدِ وَالْإِحْسَانِ إلَى عِبَادِهِ. هَذَا حَمْدُ شُكْرٍ وَذَاكَ حَمْدٌ مُطْلَقًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ - مَا قِيلَ: مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. يَسْتَحِقُّ أَنْ يَحْمَدُوهُ وَيَشْكُرُوهُ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ آلَائِهِ. وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّجْمِ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} وَفِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ يَذْكُرُ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} وَنَحْوَ ذَلِكَ. ثُمَّ يَقُولُ عَقِبَ ذَلِكَ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . وَقَالَ آخَرُونَ: مِنْهُمْ الزَّجَّاجُ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ. لِأَنَّهَا كُلَّهَا يُنْعِمُ بِهَا عَلَيْكُمْ فِي دَلَالَتِهَا إيَّاكُمْ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَفِي رِزْقِهِ إيَّاكُمْ مَا بِهِ قِوَامُكُمْ. وَهَذَا قَالُوهُ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ.

ص: 301

وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} فَبِأَيِّ نِعَمِ رَبِّك الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ تَتَشَكَّكُ؟ وَقِيلَ: تَشُكُّ وَتُجَادِلُ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُكَذِّبُ؟ . قُلْت: قَدْ ضَمَّنَ {تَتَمَارَى} مَعْنَى تُكَذِّبُ. وَلِهَذَا عَدَّاهُ بِالتَّاءِ. فَإِنَّ التَّمَارِي: تَفَاعُلٌ مِنْ الْمِرَاءِ. يُقَالُ: تَمَارَيْنَا فِي الْهِلَالِ. وَالْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ وَهُوَ يَكُونُ تَكْذِيبًا وَتَشْكِيكًا. وَقَدْ يُقَالُ: لَمَّا كَانَ الْخِطَابُ لَهُمْ. قَالَ {تَتَمَارَى} أَيْ تَتَمَارَوْنَ. وَلَمْ يَقُلْ: تَمْتَرِي. فَإِنَّ التَّفَاعُلَ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ تَمَارَيَا. قَالُوا: وَالْخِطَابُ لِلْإِنْسَانِ. قِيلَ لِلْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. فَإِنَّهُ قَالَ {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيْهِ فَقَالَ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} تُكَذِّبُ. كَمَا قَالَ {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . فَفِي كُلِّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ إحْسَانٌ إلَى عِبَادِهِ يَحْمَدُ عَلَيْهِ حَمْدَ شُكْرٍ وَلَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ تَعُودُ إلَيْهِ يَسْتَحِقُّ لِأَجْلِهَا أَنْ يُحْمَدَ عَلَيْهِ حَمْدًا يَسْتَحِقُّهُ لِذَاتِهِ. فَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ: فِيهَا إنْعَامٌ عَلَى الْعِبَادِ كَالثَّقَلَيْنِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ

ص: 302

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا آيَاتٌ لِلرَّبِّ يَحْصُلُ بِهَا هِدَايَتُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ الَّذِي يَسْعَدُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَيَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ وَعَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَالْآيَاتُ الَّتِي بَعَثَ بِهَا الْأَنْبِيَاءَ وَأَيَّدَهُمْ بِهَا وَنَصَرَهُمْ. وَإِهْلَاكُ عَدُوِّهِمْ - كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ النَّجْمِ {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} - تَدُلُّهُمْ عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. مَا بَشَّرُوا بِهِ وَأَنْذَرُوا بِهِ. وَلِهَذَا قَالَ عَقِيبَ ذَلِكَ {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} قِيلَ: هُوَ مُحَمَّدٌ. وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ. فَإِنَّ اللَّهَ سَمَّى كُلًّا مِنْهُمَا بَشِيرًا وَنَذِيرًا. فَقَالَ فِي رَسُولِ اللَّهِ {إنْ أَنَا إلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ: مُرَادٌ. يُقَالُ: هَذَا نَذِيرٌ أَنْذَرَ بِمَا أَنْذَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالْكُتُبُ الْأُولَى. وَقَوْلُهُ " مِنْ النُّذُرِ " أَيْ مِنْ جِنْسِهَا. أَيْ رَسُولٍ مِنْ

ص: 303

الرُّسُلِ الْمُرْسَلِينَ. فَفِي الْمَخْلُوقَاتِ: نِعَمٌ مِنْ جِهَةِ حُصُولِ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ وَالِاعْتِبَارِ وَالْمَوْعِظَةِ بِهَا. وَهَذِهِ أَفْضَلُ النِّعَمِ. فَأَفْضَلُ النِّعَمِ: نِعْمَةُ الْإِيمَانِ. وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ: فَهُوَ الْآيَاتُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا مَا يَحْصُل مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ. قَالَ تَعَالَى {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وَقَالِي تَعَالَى {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} . وَمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ إنْ كَانَ يَسُرُّهُ: فَهُوَ نِعْمَةٌ بَيِّنَةٌ. وَإِنْ كَانَ يَسُوءُهُ: فَهُوَ نِعْمَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُكَفِّرُ خَطَايَاهُ. وَيُثَابُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ لَا يَعْلَمُهَا {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ {وَاَللَّهِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ

ص: 304

خَيْرًا لَهُ. إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ} .

وَإِذَا كَانَ هَذَا وَهَذَا: فَكِلَاهُمَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَكِلْتَا النِّعْمَتَيْنِ تَحْتَاجُ مَعَ الشُّكْرِ إلَى الصَّبْرِ. أَمَّا نِعْمَةُ الضَّرَّاءِ: فَاحْتِيَاجُهَا إلَى الصَّبْرِ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا نِعْمَةُ السَّرَّاءِ: فَتَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ فِيهَا.

فَإِنَّ فِتْنَةَ السَّرَّاءِ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الضَّرَّاءِ.

كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: اُبْتُلِينَا بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا. وَابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ فَلَمْ نَصْبِرْ. وَفِي الْحَدِيثِ {أَعُوذ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ. وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى} . وَالْفَقْرُ: يَصْلُحُ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ.

وَالْغِنَى: لَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ إلَّا أَقَلُّ مِنْهُمْ. وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْمَسَاكِينُ. لِأَنَّ فِتْنَةَ الْفَقْرِ أَهْوَنُ وَكِلَاهُمَا يَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ. لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي السَّرَّاءِ: اللَّذَّةُ. وَفِي الضَّرَّاءِ: الْأَلَمُ. اشْتَهَرَ ذِكْرُ الشُّكْرِ فِي السَّرَّاءِ وَالصَّبْرِ فِي الضَّرَّاءِ. قَالَ تَعَالَى {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي

ص: 305

إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} {إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وَلِأَنَّ صَاحِبَ السَّرَّاءِ: أَحْوَجُ إلَى الشُّكْرِ وَصَاحِبَ الضَّرَّاءِ: أَحْوَجُ إلَى الصَّبْرِ. فَإِنَّ صَبْرَ هَذَا وَشُكْرَ هَذَا: وَاجِبٌ. إذَا تَرَكَهُ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ. وَأَمَّا صَبْرُ صَاحِبِ السَّرَّاءِ: فَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا إذَا كَانَ عَنْ فُضُولِ الشَّهَوَاتِ. وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَلَكِنْ لِإِتْيَانِهِ بِالشُّكْرِ - الَّذِي هُوَ حَسَنَاتٌ - يَغْفِرُ لَهُ مَا يَغْفِرُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ. وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الضَّرَّاءِ: لَا يَكُونُ الشُّكْرُ فِي حَقِّهِ مُسْتَحَبًّا إذَا كَانَ شُكْرًا يَصِيرُ بِهِ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ. وَقَدْ يَكُونُ تَقْصِيرُهُ فِي الشُّكْرِ: مِمَّا يَغْفِرُ لَهُ لِمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الصَّبْرِ. فَإِنَّ اجْتِمَاعَ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ جَمِيعًا: يَكُونُ مَعَ تَأَلُّمِ النَّفْسِ وَتَلَذُّذِهَا يَصْبِرُ عَلَى الْأَلَمِ وَيَشْكُرُ عَلَى النِّعَمِ. وَهَذَا حَالٌ يَعْسُرُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخِرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْعِمٌ بِهَذَا كُلِّهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُظْهِرُ الْإِنْعَامَ بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ لِأَكْثَرِ النَّاسِ. فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ مِنْهُ.

وَأَمَّا ذُنُوبُ الْإِنْسَانِ: فَهِيَ مِنْ نَفْسِهِ. وَمَعَ هَذَا فَهِيَ - مَعَ

ص: 306

حُسْنِ الْعَاقِبَةِ - نِعْمَةٌ وَهِيَ نِعْمَةٌ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهَا مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالْهُدَى وَالْإِيمَانِ. وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَحْسَنِ الدُّعَاءِ قَوْلُهُ {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي عِبْرَةً لِغَيْرِي وَلَا تَجْعَلْ أَحَدًا أَسْعَدَ بِمَا عَلَّمْتنِي مِنِّي} . وَفِي دُعَاءِ الْقُرْآنِ {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} {لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} كَمَا فِيهِ {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا} أَيْ فَاجْعَلْنَا أَئِمَّةً لِمَنْ يَقْتَدِي بِنَا وَيَأْتَمُّ. وَلَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِمَنْ يُضِلُّ بِنَا وَيَشْقَى. و " الْآلَاءُ " فِي اللُّغَةِ: هِيَ النِّعَمُ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الْقُدْرَةَ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَمَّا عَدَّدَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ - سُورَةِ الرَّحْمَنِ - نَعْمَاءَهُ وَذَكَّرَ عِبَادَهُ آلَاءَهُ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ. جَعَلَ كُلَّ كَلِمَةٍ مِنْ ذَلِكَ فَاصِلَةً بَيْنَ نِعْمَتَيْنِ لِيُفْهِمَ النِّعَمَ ويقررهم بِهَا. وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ وَالتِّرْمِذِي عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ {قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّحْمَنُ حَتَّى خَتَمَهَا. ثُمَّ قَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوتًا؟ لَلْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ مِنْكُمْ رَدًّا. مَا قَرَأْت عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ مَرَّةٍ - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} - إلَّا قَالُوا: وَلَا بِشَيْءِ مِنْ نِعَمِك رَبَّنَا نُكَذِّبُ. فَلَك الْحَمْدُ} .

ص: 307

وَاَللَّهُ تَعَالَى يُذَكِّرُ فِي الْقُرْآنِ بِآيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ. وَيُذَكِّرُ بِآيَاتِهِ الَّتِي فِيهَا نِعَمُهُ وَإِحْسَانُهُ إلَى عِبَادِهِ. وَيُذَكِّرُ بِآيَاتِهِ الْمُبَيِّنَةِ لِحِكْمَتِهِ تَعَالَى. وَهِيَ كُلُّهَا مُتَلَازِمَةٌ. فَكُلُّ مَا خَلَقَ: فَهُوَ نِعْمَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَلَى حِكْمَتِهِ. لَكِنْ نِعْمَةُ الرِّزْقِ وَالِانْتِفَاعِ بِالْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَلَابِسِ: ظَاهِرَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ. فَلِهَذَا يُسْتَدَلُّ بِهَا كَمَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ. وَتُسَمَّى سُورَةَ النِّعَمِ. كَمَا قَالَهُ قتادة وَغَيْرُهُ. وَعَلَى هَذَا: فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُ: الْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ الشُّكْرِ. مِنْ جِهَةِ أَسْبَابِهِ. فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى نِعْمَةٍ وَعَلَى غَيْرِ نِعْمَةٍ. وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَنْوَاعِهِ. فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْيَدِ. فَإِذَا كَانَ كُلُّ مَخْلُوقٍ فِيهِ نِعْمَةٌ: لَمْ يَكُنْ الْحَمْدُ إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَال. لِأَنَّهُ مَا مِنْ حَالٍ يَقْضِيهَا إلَّا وَهِيَ نِعْمَةٌ عَلَى عِبَادِهِ. لَكِنْ هَذَا فَهْمُ مَنْ عَرَفَ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ النِّعَمِ. وَالْجَهْمِيَّة وَالْجَبْرِيَّةُ: بِمَعْزِلِ عَنْ هَذَا.

ص: 308

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَخْلُقُهُ: فَفِيهِ لَهُ حِكْمَةٌ. فَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ. وَالْجَهْمِيَّة أَيْضًا بِمَعْزِلِ عَنْ هَذَا. وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا تَعُودُ الْحِكْمَةُ إلَيْهِ. بَلْ مَا ثُمَّ إلَّا نَفْعُ الْخَلْقِ. فَمَا عِنْدَهُمْ إلَّا شُكْرٌ كَمَا لَيْسَ عِنْدَ الْجَهْمِيَّة إلَّا قُدْرَةٌ. وَالْقُدْرَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ نِعْمَةٍ وَحِكْمَةٍ: لَا يَظْهَرُ فِيهَا وَصْفُ حَمَدٍ كَالْقَادِرِ الَّذِي يَفْعَلُ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا يَنْفَعُ بِهِ أَحَدًا. فَهَذَا لَا يُحْمَدُ. فَحَقِيقَةُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة أَتْبَاعِ جَهْمٌ: أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ. فَلَهُ عِنْدُهُمْ مُلْكٌ بِلَا حَمْدٍ مَعَ تَقْصِيرِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ مُلْكِهِ. كَمَا أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الْحَمْدِ بِلَا مُلْكٍ تَامٍّ. إذْ كَانَ عِنْدَهُمْ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ. وَتَحْدُثُ حَوَادِثُ بِلَا قُدْرَتِهِ. وَعَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ تَامَّيْنِ. وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى حِكْمَتِهِ كَمَا هُوَ مَحْمُودٌ عَلَى قُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ.

ص: 309

وَقَدْ قَالَ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَلَهُ الْوَحْدَانِيَّةُ فِي إلَهِيَّتِهِ وَلَهُ الْعَدْلُ وَلَهُ الْعِزَّةُ وَالْحِكْمَةُ. وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ إنَّمَا يُثْبِتُهَا السَّلَفُ وَأَتْبَاعُهُمْ. فَمَنْ قَصَّرَ عَنْ مَعْرِفَةِ السُّنَّةِ فَقَدْ نَقَصَ الرَّبَّ بَعْضَ حَقِّهِ. والجهمي الْجَبْرِيُّ لَا يُثْبِتُ عَدْلًا وَلَا حِكْمَةً وَلَا تَوْحِيدَ إلَهِيَّةٍ. بَلْ تَوْحِيدَ رُبُوبِيَّتِهِ. وَالْمُعْتَزِلِيُّ أَيْضًا لَا يُثْبِتُ فِي الْحَقِيقَةِ تَوْحِيدَ إلَهِيَّةٍ وَلَا عَدْلًا فِي الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَلَا عَزَّةً وَلَا حِكْمَةً فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ قَالَ: إنَّهُ يُثْبِتُ الْحِكْمَةَ بِمَا مَعْنَاهَا يَعُودُ إلَى غَيْرِهِ. وَتِلْكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ حِكْمَةً مِنْ فِعْلٍ لَا لِأَمْرِ يَرْجِعُ إلَيْهِ بَلْ لِغَيْرِهِ هُوَ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ قَاطِبَةً بِهَا لَيْسَ بِحَكِيمِ بَلْ سَفِيهٍ. وَإِذَا كَانَ الْحَمْدُ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ فَقَدْ ثَبَتَ: أَنَّهُ رَأْسُ الشُّكْرِ. فَهُوَ أَوَّلُ الشُّكْرِ. وَالْحَمْدُ - وَإِنْ كَانَ عَلَى نِعْمَتِهِ وَعَلَى حِكْمَتِهِ - فَالشُّكْرُ بِالْأَعْمَالِ

ص: 310

هُوَ عَلَى نِعْمَتِهِ. وَهُوَ عِبَادَةٌ لَهُ لِإِلَهِيَّتِهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ حِكْمَتَهُ. فَقَدْ صَارَ مَجْمُوعُ الْأُمُورِ دَاخِلًا فِي الشُّكْرِ. وَلِهَذَا عَظَّمَ الْقُرْآنُ أَمْرَ الشُّكْرِ. وَلَمْ يُعَظِّمْ أَمْرَ الْحَمْدِ مُجَرَّدًا إذْ كَانَ نَوْعًا مِنْ الشُّكْرِ. وَشَرَعَ الْحَمْدَ - الَّذِي هُوَ الشُّكْرُ الْمَقُولُ - أَمَامَ كُلِّ خِطَابٍ مَعَ التَّوْحِيدِ. فَفِي الْفَاتِحَةِ: الشُّكْرُ وَالتَّوْحِيدُ. وَالْخُطَبُ الشَّرْعِيَّةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الشُّكْرِ وَالتَّوْحِيدِ. وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ نَوْعَانِ. فَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ: فِيهَا الشُّكْرُ وَالتَّنْزِيهُ وَالتَّعْظِيمُ. وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَاَللَّهُ أَكْبَرُ: فِيهَا التَّوْحِيدُ وَالتَّكْبِيرُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

وَهَلْ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ مَا يُحْمَدُ بِهِ الْمَمْدُوحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ لَا يَكُونُ الْحَمْدُ إلَّا عَلَى الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ. كَمَا قِيلَ فِي الذَّمِّ؟ فِيهِ نَظَرَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ. مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ

ص: 311

الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ. أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ - وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ - لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت. وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت. وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ} هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ. " أَحَقُّ " أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ. وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فَقَالُوا {حَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ} . وَهَذَا لَيْسَ لَفْظَ الرَّسُولِ. وَلَيْسَ هُوَ بِقَوْلِ سَدِيدٍ. فَإِنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ. بَلْ حَقٌّ مَا يَقُولُهُ الرَّبُّ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} . وَلَكِنْ لَفْظُهُ {أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ} خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ الْحَمْدُ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ. أَوْ هَذَا - وَهُوَ الْحَمْدُ - أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ. فَفِيهِ بَيَانُ: أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعِبَادُ. وَلِهَذَا أَوْجَبَ قَوْلَهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَأَنْ تُفْتَتَحَ بِهِ الْفَاتِحَةُ. وَأَوْجَبَ قَوْلَهُ فِي كُلِّ خُطْبَةٍ وَفِي كُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ. وَالْحَمْدُ ضِدُّ الذَّمِّ. وَالْحَمْدُ يَكُونُ عَلَى مَحَاسِنَ الْمَحْمُودِ مَعَ الْمَحَبَّةِ لَهُ كَمَا أَنَّ الذَّمَّ يَكُونُ عَلَى مُسَاوِيهِ مَعَ الْبُغْضِ لَهُ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ الْخَيْرَ وَالْحَسَنَاتِ وَهُوَ حَكِيمٌ رَحِيمٌ

ص: 312

بِعِبَادِهِ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا: أَوْجَبَ ذَلِكَ أَنْ يُحِبَّهُ عِبَادُهُ وَيَحْمَدُوهُ. وَأَمَّا إذَا قِيلَ: بَلْ يَخْلُقُ مَا هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ لَا نَفْعَ فِيهِ وَلَا رَحْمَةَ وَلَا حِكْمَةَ لِأَحَدِ. وَإِنَّمَا يَتَّصِفُ بِإِرَادَةِ تُرَجِّحُ مِثْلًا عَلَى مِثْلٍ. لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ أَنْ يَرْحَمَ أَوْ يُعَذِّبَ. وَلَيْسَتْ نَفْسُهُ وَلَا إرَادَتُهُ مُرَجِّحَةً لِلْإِحْسَانِ إلَى الْخَلْقِ بَلْ تَعْذِيبُهُمْ وَتَنْعِيمُهُمْ سَوَاءٌ عِنْدَهُ. وَهُوَ - مَعَ هَذَا - يَخْلُقُ مَا يَخْلُقُ لِمُجَرَّدِ الْعَذَابِ وَالشَّرِّ وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ لَا لِحِكْمَةِ - وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة -: لَمْ يَكُنْ هَذَا مُوجِبًا لِأَنْ يُحِبَّهُ الْعِبَادُ وَيَحْمَدُوهُ. بَلْ هُوَ مُوجِبٌ لِلْعَكْسِ. وَلِهَذَا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ بِالذَّمِّ وَالشَّتْمِ وَالطَّعْنِ. وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ نَظْمًا وَنَثْرًا. وَكَثِيرٌ مِنْ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ وَعُلَمَائِهِمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي كَلَامِهِ مَا يَقْتَضِي هَذَا. وَمَنْ لَمْ يَقُلْهُ بِلِسَانِهِ فَقَلْبُهُ مُمْتَلِئٌ بِهِ لَكِنْ يَرَى أَنْ لَيْسَ فِي ذِكْرِهِ مَنْفَعَةٌ أَوْ يَخَافُ مِنْ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي شِعْرِ طَائِفَةٍ مِنْ الشُّيُوخِ ذُكِرَ نَحْوُ هَذَا. وَهَؤُلَاءِ يُقِيمُونَ حُجَجَ إبْلِيسَ وَأَتْبَاعِهِ عَلَى اللَّهِ. وَيَجْعَلُونَ الرَّبَّ ظَالِمًا لَهُمْ.

ص: 313

وَهُوَ خِلَافُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} وَقَوْلِهِ {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} وَقَوْلِهِ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . كَيْفَ يَكُونُ ظَالِمًا؟ وَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَوْ أَسَاءَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ أَوْ قَصَّرَ فِي حَقِّهِ لَكَانَ يُؤَاخِذُهُ وَيُعَاقِبُهُ وَيَنْتَقِمُ مِنْهُ. وَيَكُونُ ذَلِكَ عَدْلًا إذَا لَمْ يَعْتَدِ عَلَيْهِ. ولو قَالَ: إنَّ الَّذِي فَعَلْته قَدَرٌ عَلَيَّ فَلَا ذَنْبَ لِي فِيهِ: لَمْ يَكُنْ هَذَا عُذْرًا لَهُ عِنْدَهُمْ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. فَإِذَا كَانَ الْعُقَلَاءُ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْمَخْلُوقِ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ احْتِجَاجًا بِالْقَدَرِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ إسْقَاطُ حَقِّ الْخَالِقِ احْتِجَاجًا بِالْقَدَرِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا. وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْه أَجْرًا عَظِيمًا. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَوْلُهُ {أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ} يَقْتَضِي: أَنَّ حَمْدَ اللَّهِ أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ. فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا الْخَيْرَ

ص: 314

وَالْإِحْسَانَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ عَلَيْهِ سبحانه وتعالى. وَإِنْ كَانَ الْعِبَادُ لَا يَعْلَمُونَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَخَلَقَ نَفْسَهُ مُتَحَرِّكَةً بِالطَّبْعِ حَرَكَةً لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الشَّرِّ لِحِكْمَةِ بَالِغَةٍ وَرَحْمَةٍ سَابِغَةٍ. فَإِذَا قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَخْلُقْهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ؟ . قِيلَ: كَانَ يَكُونُ ذَلِكَ خَلْقًا غَيْرَ الْإِنْسَانِ. وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ الَّتِي خَلَقَهَا بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ لَا تَحْصُلُ. وَهَذَا سُؤَالُ الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ قَالُوا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} وَمَا لَمْ تَعْلَمْهُ الْمَلَائِكَةُ فَكَيْفَ يَعْلَمُهُ آحَادُ النَّاسِ. وَنَفْسُ الْإِنْسَانِ خُلِقَتْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} {إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} وَقَالَ تَعَالَى {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} . فَقَدْ خُلِقَتْ خِلْقَةً تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مَا وُجِدَ مِنْهَا لِحِكْمَةِ عَظِيمَةٍ وَرَحْمَةٍ عَمِيمَةٍ. فَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا وَرَحْمَةً. وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَرٌّ إضَافِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ. فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْغَايَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُضَافُ الشَّرُّ إلَى اللَّهِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ جِهَةِ السَّبَبِ: فَإِنَّ هَذَا الشَّرَّ إنَّمَا وُجِدَ لِعَدَمِ

ص: 315

الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ الَّتِي تُصْلِحُ النَّفْسَ. فَإِنَّهَا خُلِقَتْ بِفِطْرَتِهَا تَقْتَضِي مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ. وَقَدْ هُدِيَتْ إلَى عُلُومٍ وَأَعْمَالٍ تُعِينُهَا عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ. لَكِنَّ النَّفْسَ الْمُذْنِبَةَ لَمَّا لَمْ يَحْصُلْ لَهَا مَنْ يُكَمِّلْهَا بَلْ حَصَلَ لَهَا مَنْ زَيَّنَ لَهَا السَّيِّئَاتِ - مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ - مَالَتْ إلَى ذَلِكَ وَفَعَلَتْ السَّيِّئَاتِ. فَكَانَ فِعْلُهَا لِلسَّيِّئَاتِ. مُرَكَّبًا مِنْ عَدَمِ مَا يَنْفَعُ وَهُوَ الْأَفْضَلُ. وَوُجُودُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَيَّرُوهَا. وَالْعَدَمُ لَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ. وَهَؤُلَاءِ: الْقَوْلُ فِيهِمْ كَالْقَوْلِ فِيهَا: خَلَقَهُمْ لِحِكْمَةِ. فَلَمَّا كَانَ عَدَمُ مَا تَعْمَلُ بِهِ وَتَصْلُحُ: هُوَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ. وَكَانَ الشَّرُّ الْمَحْضُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ: هُوَ الْعَدَمُ الْمَحْضُ وَالْعَدَمُ لَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ. فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا. وَاَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ: كَانَتْ السَّيِّئَاتُ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ ذَاتَهَا فِي نَفْسِهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْهَا - مَعَ عَدَمِ مَا يُصْلِحُهَا - تِلْكَ السَّيِّئَاتِ.

وَالْعَبْدُ إذَا اعْتَرَفَ وَأَقَرَّ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِهِ كُلِّهَا فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ. إنْ اعْتَرَفَ بِهِ إقْرَارًا بِخَلْقِ اللَّهِ كُلَّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ وَإِقْرَارًا بِكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ وَاعْتِرَافًا بِفَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ إلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يَهْدِهِ فَهُوَ ضَالٌّ. وَإِنْ لَمْ يَتُبْ عَلَيْهِ فَهُوَ مُصِرٌّ. وَإِنْ لَمْ يَغْفِرْ لَهُ فَهُوَ هَالِكٌ: خَضَعَ لِعِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَهَذَا حَالُ

ص: 316

الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَرْحَمُهُمْ اللَّهُ وَيَهْدِيهِمْ وَيُوَفِّقُهُمْ لِطَاعَتِهِ. وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ احْتِجَاجًا عَلَى الرَّبِّ وَدَفْعًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ وَإِقَامَةً لِعُذْرِ نَفْسِهِ فَهَذَا ذَنْبٌ أَعْظَمُ مِنْ الْأَوَّلِ. وَهَذَا مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ. وَلَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إلَّا شَرًّا. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ مَحْمُودٌ لِنَفْسِهِ وَلِإِحْسَانِهِ إلَى خَلْقِهِ. وَلِذَلِكَ هُوَ يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ لِنَفْسِهِ وَلِإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ. وَيَسْتَحِقُّ أَنْ يَرْضَى الْعَبْدُ بِقَضَائِهِ. لِأَنَّ حُكْمَهُ عَدْلٌ لَا يَفْعَلُ إلَّا خَيْرًا وَعَدْلًا. وَلِأَنَّهُ لَا يَقْضِي لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ {إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ. فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ. فَكَانَ خَيْرًا لَهُ} . فَالْمُؤْمِنُ يَرْضَى بِقَضَائِهِ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ لِنَفْسِهِ - مِنْ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ - وَلِأَنَّهُ مُحْسِنٌ إلَى الْمُؤْمِنِ. وَمَا تَسْأَلُهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ وَهُوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ {لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ} وَقَدْ قَضَى عَلَيْهِ بِالسَّيِّئَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِقَابِ. فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ خَيْرًا؟ .

وَعَنْهُ جَوَابَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْحَدِيثِ، إنَّمَا دَخَلَ فِيهِ

ص: 317

مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ النِّعَمِ وَالْمَصَائِبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَلِهَذَا قَالَ {إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ. فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ. فَكَانَ خَيْرًا لَهُ} فَجَعَلَ الْقَضَاءَ: مَا يُصِيبُهُ مِنْ سَرَّاءَ وَضَرَّاءَ. هَذَا ظَاهِرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ. فَلَا إشْكَالَ عَلَيْهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْأَعْمَالَ دَخَلَتْ فِي هَذَا. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ} . فَإِذَا قَضَى لَهُ بِأَنْ يُحْسِنَ فَهَذَا مِمَّا يَسُرُّهُ. فَيَشْكُرُ اللَّهَ عَلَيْهِ. وَإِذَا قَضَى عَلَيْهِ بِسَيِّئَةِ: فَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ سَيِّئَةً يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهَا إذَا لَمْ يَتُبْ مِنْهَا. فَإِنْ تَابَ أُبْدِلَتْ بِحَسَنَةِ. فَيَشْكُرُ اللَّهَ عَلَيْهَا. وَإِنْ لَمْ يَتُبْ اُبْتُلِيَ بِمَصَائِبَ تُكَفِّرُهَا فَصَبَرَ عَلَيْهَا. فَيَكُونُ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ. وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم قَالَ {لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ} وَالْمُؤْمِنُ هُوَ الَّذِي لَا يُصِرُّ عَلَى ذَنْبٍ بَلْ يَتُوبُ مِنْهُ. فَيَكُونُ حَسَنَةً كَمَا قَدْ جَاءَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ. إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الذَّنْبَ فَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ. لَا يَزَالُ يَتُوبُ مِنْهُ حَتَّى يَدْخُلَ بِتَوْبَتِهِ مِنْهُ الْجَنَّةَ. وَالذَّنْبُ يُوجِبُ ذُلَّ الْعَبْدِ وَخُضُوعَهُ وَدُعَاءَ اللَّهِ وَاسْتِغْفَارَهُ إيَّاهُ وَشُهُودَهُ بِفَقْرِهِ وَحَاجَتَهُ إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا هُوَ.

ص: 318

فَيَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ - بِسَبَبِ الذَّنْبِ - مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ يَحْصُلُ بِدُونِ ذَلِكَ. فَيَكُونُ هَذَا الْقَضَاءُ خَيْرًا لَهُ. فَهُوَ فِي ذُنُوبِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مِنْ التَّوَّابِينَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ. وَإِمَّا أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ بِمَصَائِبَ؛ تُصِيبُهُ ضَرَّاءُ فَيَصْبِرُ عَلَيْهَا. فَيُكَفِّرُ عَنْهُ السَّيِّئَاتِ بِتِلْكَ الْمَصَائِبِ وَبِالصَّبْرِ عَلَيْهَا تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي. وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي. وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي. وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُؤَيِّسُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي. إنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ} أَيْ مُحِبُّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ {وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ. أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ لِأُكَفِّرَ عَنْهُمْ المعائب} . وَفِي قَوْله تَعَالَى {فَمِنْ نَفْسِكَ} مِنْ الْفَوَائِدِ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَرْكَنُ إلَى نَفْسِهِ وَلَا يَسْكُنُ إلَيْهَا. فَإِنَّ الشَّرَّ لَا يَجِيءُ إلَّا مِنْهَا. وَلَا يَشْتَغِلُ بِمَلَامِ النَّاسِ وَلَا ذَمِّهِمْ إذَا أَسَاءُوا إلَيْهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ السَّيِّئَاتِ الَّتِي أَصَابَتْهُ. وَهِيَ إنَّمَا أَصَابَتْهُ بِذُنُوبِهِ. فَيَرْجِعُ إلَى الذُّنُوبِ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهَا. وَيَسْتَعِيذُ

ص: 319

بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ وَسَيِّئَاتِ عَمَلِهِ. وَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ. فَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ كُلُّ خَيْرٍ وَيَنْدَفِعُ عَنْهُ كُلُّ شَرٍّ. وَلِهَذَا كَانَ أَنْفَعُ الدُّعَاءِ وَأَعْظَمُهُ وَأَحْكَمُهُ: دُعَاءَ الْفَاتِحَةِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَإِنَّهُ إذَا هَدَاهُ هَذَا الصِّرَاطَ: أَعَانَهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مَعْصِيَتِهِ. فَلَمْ يُصِبْهُ شَرٌّ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. لَكِنَّ الذُّنُوبَ هِيَ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ. وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْهُدَى فِي كُلِّ لَحْظَةٍ: وَهُوَ إلَى الْهُدَى أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. لَيْسَ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: إنَّهُ قَدْ هَدَاهُ. فَلِمَاذَا يَسْأَلُ الْهُدَى؟ . وَأَنَّ الْمُرَادَ بِسُؤَالِ الْهُدَى: الثَّبَاتُ أَوْ مَزِيدُ الْهِدَايَةِ. بَلْ الْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يُعَلِّمَهُ رَبُّهُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ تَفَاصِيلِ أَحْوَالِهِ. وَإِلَى مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأُمُورِ فِي كُلِّ يَوْمٍ. وَإِلَى أَنْ يُلْهَمَ أَنْ يَعْمَلَ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدَ عِلْمِهِ إنْ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ مُرِيدًا لِلْعَمَلِ بِعِلْمِهِ وَإِلَّا

ص: 320

كَانَ الْعِلْمُ حُجَّةً عَلَيْهِ. وَلَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا. وَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْإِرَادَةِ الصَّالِحَةِ. فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ - صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ - إلَّا بِهَذِهِ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَاجَاتِ مَا لَا يُمْكِنُ إحْصَاؤُهُ. وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ مَأْمُورِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ لِفَرْطِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ. فَلَيْسُوا إلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إلَى هَذَا الدُّعَاءِ. وَإِنَّمَا يَعْرِفُ بَعْضَ قَدْرِ هَذَا الدُّعَاءِ مَنْ اعْتَبَرَ أَحْوَالَ نَفْسِهِ وَنُفُوسِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَأْمُورِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ. وَرَأَى مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ الَّذِي يَقْتَضِي شَقَاءَهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ - بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ - جَعَلَ هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْخَيْرِ الْمَانِعَةِ مِنْ الشَّرِّ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُصَّ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ قِصَّةَ أَحَدٍ

ص: 321

إلَّا لِنَعْتَبِرَ بِهَا لِمَا فِي الِاعْتِبَارِ بِهَا مِنْ حَاجَتِنَا إلَيْهِ وَمَصْلَحَتِنَا. وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاعْتِبَارُ إذَا قِسْنَا الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ وَكَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ. فَلَوْلَا أَنَّ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ فِي نُفُوسِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ - فِرْعَوْنَ وَمَنْ قَبْلَهُ - لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إلَى الِاعْتِبَارِ بِمَنْ لَا نُشَبِّهُهُ قَطُّ. وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {مَا يُقَالُ لَكَ إلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} وَقَالَ تَعَالَى {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {لَتَسْلُكُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ. قَالُوا: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟} . وَقَالَ {لَتَأْخُذَن أُمَّتِي مَأْخَذَ الْأُمَمِ قَبْلَهَا: شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَارِسُ وَالرُّومُ؟ قَالَ: فَمَنْ؟} وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ.

ص: 322

{وَلَمَّا كَانَ فِي غَزْوَةِ حنين كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ شَجَرَةٌ - يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ وَيَنُوطُونَهَا بِهَا وَيَسْتَظِلُّونَ بِهَا مُتَبَرِّكِينَ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. قُلْتُمْ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً. إنَّهَا السَّنَنُ. لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ} . وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ: أَنَّ السَّيِّئَاتِ مِنْ النَّفْسِ وَإِنْ كَانَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ. فَ‌

‌أَعْظَمُ السَّيِّئَاتِ:

جُحُودُ الْخَالِقِ. وَالشِّرْكُ بِهِ وَطَلَبُ النَّفْسِ أَنْ تَكُونَ شَرِيكَةً وَنِدًّا لَهُ أَوْ أَنْ تَكُونَ إلَهًا مِنْ دُونِهِ. وَكِلَا هَذَيْنِ وَقَعَ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ إلَهًا مَعْبُودًا دُونَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي} وَقَالَ {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَقَالَ لِمُوسَى {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} و {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} . وَإِبْلِيسُ يَطْلُبُ: أَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَيُرِيدُ: أَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ هُوَ وَلَا يُعْبَدُ اللَّهُ وَلَا يُطَاعَ. وَهَذَا الَّذِي فِي فِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ هُوَ غَايَةُ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ. وَفِي نُفُوسِ سَائِرِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ: شُعْبَةٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا. إنْ لَمْ يُعِنْ

ص: 323

اللَّهُ الْعَبْدَ وَيَهْدِهِ وَإِلَّا وَقَعَ فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ فِيهِ إبْلِيسُ وَفِرْعَوْنُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَا مِنْ نَفْسٍ إلَّا وَفِيهَا مَا فِي نَفْسِ فِرْعَوْنَ غَيْرَ أَنَّ فِرْعَوْنَ قَدَرَ فَأَظْهَرَ. وَغَيْرَهُ عَجَزَ فَأَضْمَرَ. وَذَلِكَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اعْتَبَرَ وَتَعَرَّفَ نَفْسَهُ وَالنَّاسَ وَسَمِعَ أَخْبَارَهُمْ: رَأَى الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يُرِيدُ لِنَفْسِهِ أَنْ تُطَاعَ وَتَعْلُو بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ. فَالنَّفْسُ مَشْحُونَةٌ بِحُبِّ الْعُلُوِّ وَالرِّيَاسَةِ بِحَسَبِ إمْكَانِهَا فَتَجِدُ أَحَدَهُمْ يُوَالِي مَنْ يُوَافِقُهُ عَلَى هَوَاهُ وَيُعَادِي مَنْ يُخَالِفُهُ فِي هَوَاهُ. وَإِنَّمَا مَعْبُودُهُ: مَا يَهْوَاهُ وَيُرِيدُهُ. قَالَ تَعَالَى {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} وَالنَّاسُ عِنْدَهُ فِي هَذَا الْبَابِ: كَمَا هُمْ عِنْدَ مُلُوكِ الْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ. يَقُولُونَ " يَا رُبَاعِيّ " أَيْ صَدِيقٌ وَعَدُوٌّ. فَمَنْ وَافَقَ هَوَاهُمْ: كَانَ وَلِيًّا وَإِنْ كَانَ كَافِرًا مُشْرِكًا. وَمَنْ لَمْ يُوَافِقْ هَوَاهُمْ: كَانَ عَدُوًّا وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ. وَهَذِهِ هِيَ حَالُ فِرْعَوْنَ. وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ: يُرِيدُ أَنْ يُطَاعَ أَمْرُهُ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ لَكِنَّهُ

ص: 324

لَا يَتَمَكَّنُ مِمَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ فِرْعَوْنُ: مِنْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ وَجُحُودِ الصَّانِعِ. وَهَؤُلَاءِ - وَإِنْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ - لَكِنَّهُمْ إذَا جَاءَهُمْ مَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ تَرْكَ طَاعَتِهِمْ: فَقَدْ يُعَادُونَهُ كَمَا عَادَى فِرْعَوْنُ مُوسَى. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ عِنْدَهُ بَعْضُ عَقْلٍ وَإِيمَانٍ لَا يَطْلُبُ هَذَا الْحَدَّ بَلْ يَطْلُبُ لِنَفْسِهِ مَا هُوَ عِنْدَهُ. فَإِنْ كَانَ مُطَاعًا مُسْلِمًا: طَلَبَ أَنْ يُطَاعَ فِي أَغْرَاضِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا هُوَ ذَنْبٌ وَمَعْصِيَةٌ لِلَّهِ. وَيَكُونُ مَنْ أَطَاعَهُ فِي هَوَاهُ: أَحَبُّ إلَيْهِ وَأَعَزُّ عِنْدِهِ مِمَّنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَخَالَفَ هَوَاهُ. وَهَذِهِ شُعْبَةٌ مِنْ حَالِ فِرْعَوْنَ. وَسَائِرِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا - أَوْ شَيْخًا - أَحَبَّ مَنْ يُعَظِّمُهُ دُونَ مَنْ يُعَظِّمُ نَظِيرَهُ حَتَّى لَوْ كَانَا يَقْرَآنِ كِتَابًا وَاحِدًا كَالْقُرْآنِ أَوْ يَعْبُدَانِ عِبَادَةً وَاحِدَةً مُتَمَاثِلَانِ فِيهَا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. فَإِنَّهُ يُحِبُّ مَنْ يُعَظِّمُهُ بِقَبُولِ قَوْلِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ: أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. وَرُبَّمَا أَبْغَضَ نَظِيرَهُ وَأَتْبَاعَهُ حَسَدًا وَبَغْيًا كَمَا فَعَلَتْ الْيَهُودُ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَدْعُو إلَى مِثْلِ مَا دَعَا إلَيْهِ مُوسَى. قَالَ تَعَالَى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا

ص: 325

جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} . وَلِهَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِنَظِيرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ. وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ انْتَقَمَ بِهِ مِنْهُمْ. فَقَالَ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا}

وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ لِيَذْكُرُوهُ وَيَشْكُرُوهُ وَيَعْبُدُوهُ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَلِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا كَمَا أَرْسَلَ كُلَّ رَسُولٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ بِهَذَا وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ. فَقَالَ {إنَّ

ص: 326

هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} . قَالَ قتادة: أَيْ دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ. وَرَبُّكُمْ رَبٌّ وَاحِدٌ. وَالشَّرِيعَةُ مُخْتَلِفَةٌ. وَكَذَلِكَ قَالَ الضَّحَّاكُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أَيْ دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقتادة وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ نَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ وَمَا يَأْتُونَ. ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذِهِ سُنَّتُكُمْ سَنَةً وَاحِدَةً. وَهَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. و " الْأُمَّةُ " الْمِلَّةُ. وَالطَّرِيقَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {قَالُوا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} - مُقْتَدُونَ كَمَا يُسَمَّى " الطَّرِيقُ " إمَامًا. لِأَنَّ السَّالِكَ فِيهِ يَأْتَمُّ بِهِ فَكَذَلِكَ السَّالِكُ يَؤُمُّهُ وَيَقْصِدُهُ. و " الْأُمَّةُ " أَيْضًا مُعَلِّمُ الْخَيْرِ الَّذِي يَأْتَمُّ بِهِ النَّاسُ. كَمَا أَنَّ " الْإِمَامَ " هُوَ الَّذِي يَأْتَمُّ بِهِ النَّاسُ. وَإِبْرَاهِيمُ عليه السلام جَعَلَهُ اللَّهُ إمَامًا. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ {كَانَ أُمَّةً}

ص: 327

وَأَمَرَ اللَّهُ الرُّسُلَ أَنْ تَكُونَ مِلَّتُهُمْ وَدِينُهُمْ وَاحِدًا. لَا يَتَفَرَّقُونَ فِيهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ {إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ} وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ رُسُلِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. لَا يَخْتَلِفُونَ مَعَ تَنَوُّعِ شَرَائِعِهِمْ. فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُطَاعِينَ - مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ - مُتَّبِعًا لِلرُّسُلِ: أَمَرَ بِمَا أَمَرُوا بِهِ. وَدَعَا إلَى مَا دَعَوْا إلَيْهِ. وَأَحَبَّ مَنْ دَعَا إلَى مِثْلِ مَا دَعَا إلَيْهِ. فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ذَلِكَ. فَيُحِبُّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا قَصْدُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ: أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَظِيرٌ يَدْعُو إلَى ذَلِكَ: فَهَذَا يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُطَاعُ الْمَعْبُودُ. فَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ حَالِ فِرْعَوْنَ وَأَشْبَاهِهِ. فَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُطَاعَ دُونَ اللَّهِ: فَهَذَا حَالُ فِرْعَوْنَ. وَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُطَاعَ مَعَ اللَّهِ: فَهَذَا يُرِيدُ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا

ص: 328

يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَمَرَ: أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ وَأَنْ لَا يَكُونَ الدِّينُ إلَّا لَهُ وَأَنْ تَكُونَ الْمُوَالَاةُ فِيهِ وَالْمُعَادَاةُ فِيهِ. وَأَنْ لَا يُتَوَكَّلَ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يُسْتَعَانَ إلَّا بِهِ. فَالْمُؤْمِنُ الْمُتَّبِعُ لِلرُّسُلِ: يَأْمُرُ النَّاسَ بِمَا أَمَرَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ لَا لَهُ. وَإِذَا أَمَرَ أَحَدٌ غَيْرُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ: أَحَبَّهُ وَأَعَانَهُ وَسُرَّ بِوُجُودِ مَطْلُوبِهِ. وَإِذَا أَحْسَنَ إلَى النَّاسِ فَإِنَّمَا يُحْسِنُ إلَيْهِمْ: ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى. وَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ مَنَّ عَلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَهُ مُحْسِنًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُسِيئًا فَيَرَى أَنَّ عَمَلَهُ لِلَّهِ وَأَنَّهُ بِاَللَّهِ. وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ مُحْتَاجُونَ إلَيْهَا أَعْظَمَ مِنْ حَاجَتِهِمْ إلَى أَيْ شَيْءٍ. وَلِهَذَا فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ قِرَاءَتُهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ السُّوَرِ وَلَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا. فَإِنَّ فِيهَا {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . فَالْمُؤْمِنُ يَرَى: أَنَّ عَمَلَهُ لِلَّهِ لِأَنَّهُ إيَّاهُ يَعْبُدُ وَأَنَّهُ بِاَللَّهِ. لِأَنَّهُ

ص: 329

إيَّاهُ يَسْتَعِينُ. فَلَا يَطْلُبُ مِمَّنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ جَزَاءً وَلَا شَكُورًا. لِأَنَّهُ إنَّمَا عَمِلَ لَهُ مَا عَمِلَ لِلَّهِ كَمَا قَالَ الْأَبْرَارُ {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} وَلَا يَمُنُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَلَا يُؤْذِيهِ. فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَانُّ عَلَيْهِ إذْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الْإِحْسَانِ. وَأَنَّ الْمِنَّةَ لِلَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ. فَعَلَيْهِ هُوَ: أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ. إذْ يَسَّرَهُ لِلْيُسْرَى. وَعَلَى ذَلِكَ: أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ. إذْ يَسَّرَ لَهُ مَنْ يُقَدِّمُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ رِزْقٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ نَصْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْ النَّاسِ: مَنْ يُحْسِنُ إلَى غَيْرِهِ لِيَمُنَّ عَلَيْهِ أَوْ يَرُدَّ الْإِحْسَانَ لَهُ بِطَاعَتِهِ إلَيْهِ وَتَعْظِيمِهِ أَوْ نَفْعِ آخَرَ. وَقَدْ يَمُنُّ عَلَيْهِ. فَيَقُولُ: أَنَا فَعَلْت بِك كَذَا. فَهَذَا لَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ وَلَمْ يَسْتَعِنْهُ. وَلَا عَمِلَ لِلَّهِ وَلَا عَمِلَ بِاَللَّهِ. فَهُوَ الْمُرَائِي. وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ صَدَقَةَ الْمَنَّانِ وَصَدَقَةَ الْمُرَائِي. قَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .

ص: 330

قَالَ قتادة {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} احْتِسَابًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَقِينًا وَتَصْدِيقًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْكَلْبِيُّ. قِيلَ: يُخْرِجُونَ الصَّدَقَةَ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُهُمْ. عَلَى يَقِينٍ بِالثَّوَابِ وَتَصْدِيقٍ بِوَعْدِ اللَّهِ. يَعْلَمُونَ: أَنَّ مَا أَخْرَجُوهُ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا تَرَكُوهُ. قُلْت: إذَا كَانَ الْمُعْطِي مُحْتَسِبًا لِلْأَجْرِ عِنْدَ اللَّهِ مُصَدِّقًا بِوَعْدِ اللَّهِ لَهُ: طَالِبٌ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ الَّذِي أَعْطَاهُ فَلَا يَمُنُّ عَلَيْهِ. كَمَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ: أَعْطِ مَمَالِيكك هَذَا الطَّعَامَ وَأَنَا أُعْطِيك ثَمَنَهُ؛ لَمْ يَمُنَّ عَلَى الْمَمَالِيكِ. لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ يَعْلَمُ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالْإِعْطَاءِ.

فَصْلٌ:

الْفَرْقُ السَّادِسُ: أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْعَبْدُ مِنْ الذُّنُوبِ الْوُجُودِيَّةِ - وَإِنْ كَانَتْ خَلْقًا لِلَّهِ - فَهُوَ عُقُوبَةٌ لَهُ عَلَى عَدَمِ فِعْلِهِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لَهُ. وَفَطَرَهُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا خَلَقَهُ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَدَلَّهُ عَلَى الْفِطْرَةِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ} وَقَالَ تَعَالَى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .

ص: 331

فَهُوَ لَمَّا لَمْ يَفْعَلْ مَا خُلِقَ لَهُ وَمَا فُطِرَ عَلَيْهِ وَمَا أُمِرَ بِهِ - مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ. وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ - عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي. قَالَ تَعَالَى لِلشَّيْطَانِ {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} - إلَى قَوْلِهِ - {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} . فَقَدْ تَبَيَّنَ: أَنَّ إخْلَاصَ الدِّينِ لِلَّهِ: يَمْنَعُ مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ وَمِنْ وِلَايَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي تُوجِبُ الْعَذَابَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} . فَإِذَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ لِرَبِّهِ الدِّينَ: كَانَ هَذَا مَانِعًا لَهُ مِنْ فِعْلِ ضِدِّ ذَلِكَ وَمِنْ إيقَاعِ الشَّيْطَانِ لَهُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ. وَإِذَا لَمْ يُخْلِصْ لِرَبِّهِ الدِّينَ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا خُلِقَ لَهُ وَفُطِرَ عَلَيْهِ: عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ. وَكَانَ مِنْ عِقَابِهِ:

ص: 332

تَسَلُّطُ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ حَتَّى يُزَيِّنَ لَهُ فِعْلَ السَّيِّئَاتِ. وَكَانَ إلْهَامُهُ لِفُجُورِهِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كَوْنِهِ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ. وَعَدَمُ فِعْلِهِ لِلْحَسَنَاتِ: لَيْسَ أَمْرًا وُجُودِيًّا حَتَّى يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ بَلْ هُوَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ. لَكِنْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ: عَدِمَ مَا خُلِقَ لَهُ وَمَا أُمِرَ بِهِ. وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْعُقُوبَةَ عَلَى أَمْرٍ عَدَمِيٍّ. لَكِنْ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ لَا بِالْعُقُوبَاتِ - الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ - بِالنَّارِ وَنَحْوِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُجَرَّدَ عَدَمِ الْمَأْمُورِ: هَلْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ: لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَدَمٌ مَحْضٌ. وَيَقُولُونَ: إنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى التَّرْكِ. وَهَذَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. وَطَائِفَةٌ - مِنْهُمْ: أَبُو هَاشِمٍ - قَالُوا: بَلْ يُعَاقَبُ عَلَى هَذَا الْعَدَمِ. بِمَعْنَى أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ كَمَا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِ الذُّنُوبِ بِالنَّارِ وَنَحْوِهَا. وَمَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْوَجْهِ: هُوَ أَمْرٌ وَسَطٌ. وَهُوَ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى هَذَا الْعَدَمِ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ لَا بِالْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا. وَلَا يُعَاقِبُهُ عَلَيْهَا حَتَّى يُرْسِلَ إلَيْهِ رَسُولَهُ. فَإِذَا عَصَى الرَّسُولَ: اسْتَحَقَّ حِينَئِذٍ الْعُقُوبَةَ التَّامَّةَ. وَهُوَ أَوَّلًا: إنَّمَا عُوقِبَ بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ شَرِّهِ بِأَنْ يَتُوبَ مِنْهُ.

ص: 333

أَوْ بِأَنْ لَا تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ. وَهُوَ كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَشْتَغِلُ بِمَا يَنْفَعُهُ بَلْ بِمَا هُوَ سَبَبٌ لِضَرَرِهِ وَلَكِنْ لَا يَكْتُبُ عَلَيْهِ قَلَمٌ الْإِثْمَ حَتَّى يَبْلُغَ. فَإِذَا بَلَغَ عُوقِبَ. ثُمَّ مَا تَعَوَّدَهُ مِنْ فِعْلِ السَّيِّئَاتِ: قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِمَعْصِيَتِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَهُوَ لَمْ يُعَاقَبْ إلَّا عَلَى ذَنْبِهِ. وَلَكِنَّ الْعُقُوبَةَ الْمَعْرُوفَةَ: إنَّمَا يَسْتَحِقُّهَا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا اشْتِغَالُهُ بِالسَّيِّئَاتِ: فَهُوَ عُقُوبَةُ عَدَمِ عَمَلِهِ لِلْحَسَنَاتِ. وَعَلَى هَذَا: فَالشَّرُّ لَيْسَ إلَى اللَّهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَانَ اللَّهُ خَالِقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ - فَخَلْقُهُ لِلطَّاعَاتِ: نِعْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَخَلْقُهُ لِلسَّيِّئَاتِ: لَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَهُوَ - مَعَ هَذَا - عَدْلٌ مِنْهُ فَمَا ظَلَمَ النَّاسَ شَيْئًا. وَلَكِنَّ النَّاسَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. وَظُلْمُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ نَوْعَانِ: عَدَمُ عَمَلِهِمْ بِالْحَسَنَاتِ. فَهَذَا لَيْسَ مُضَافًا إلَيْهِ. وَعَمَلُهُمْ لِلسَّيِّئَاتِ: خَلَقَهُ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى تَرْكِ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ الَّتِي خَلَقَهُمْ لَهَا وَأَمَرَهُمْ بِهَا. فَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ. وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ.

ص: 334

وَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ: تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ عَامَّةَ مَا يَذْكُرُهُ اللَّهُ فِي خَلْقِ الْكَفْرِ وَالْمَعَاصِي يَجْعَلُهُ جَزَاءً لِذَلِكَ الْعَمَلِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} . وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ: بَذَلُوا فِيهِ أَعْمَالًا عَاقَبَهُمْ بِهَا عَلَى فِعْلٍ مَحْظُورٍ وَتَرْكٍ مَأْمُورٍ. وَتِلْكَ الْأُمُورُ إنَّمَا كَانَتْ مِنْهُمْ وَخُلِقَتْ فِيهِمْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَفْعَلُوا مَا خُلِقُوا لَهُ. وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ حَرَكَةٍ وَإِرَادَةٍ. فَلَمَّا لَمْ يَتَحَرَّكُوا بِالْحَسَنَاتِ: حُرِّكُوا بِالسَّيِّئَاتِ عَدْلًا مِنْ اللَّهِ. حَيْثُ وَضَعَ ذَلِكَ مَوْضِعَهُ فِي مَحَلِّهِ الْقَابِلِ لَهُ - وَهُوَ الْقَلْبُ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا عَامِلًا - فَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ الْحَسَنَةَ اُسْتُعْمِلَ فِي عَمَلِ السَّيِّئَةِ. كَمَا قِيلَ: نَفْسُك إنْ لَمْ تَشْغَلْهَا شَغَلَتْك. وَهَذَا الْوَجْهُ - إذَا حُقِّقَ - يَقْطَعُ مَادَّةَ كَلَامِ الْقَدَرِيَّةِ الْمُكَذِّبَةِ وَالْمُجْبِرَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ. وَيَجْعَلُونَ خَلْقَهَا وَالتَّعْذِيبَ عَلَيْهَا ظُلْمًا. وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ خَلَقَ كُفْرَ الْكَافِرِينَ وَمَعْصِيَتَهُمْ وَعَاقَبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ لَا لِسَبَبِ وَلَا لِحِكْمَةِ.

ص: 335

فَإِذَا قِيلَ لِأُولَئِكَ: إنَّهُ إنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِي تِلْكَ الذُّنُوبِ وَطَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ: عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى عَدَمِ فِعْلِهِمْ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ. فَمَا ظَلَمَهُمْ وَلَكِنْ هُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. يُقَالُ: ظَلَمْته إذَا نَقَصْته حَقَّهُ. قَالَ تَعَالَى {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} . وَكَثِيرٌ مِنْ أُولَئِكَ يُسَلِّمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْعَبْدِ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا يَكُونُ جَزَاءً لَهُ عَلَى عَمَلٍ مِنْهُ مُتَقَدِّمٌ. وَيَقُولُونَ: إنَّهُ خَلَقَ طَاعَةَ الْمُطِيعِ. فَلَا يُنَازِعُونَ فِي نَفْسِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. لَكِنْ يَقُولُونَ: مَا خَلَقَ شَيْئًا مِنْ الذُّنُوبِ ابْتِدَاءً بَلْ إنَّمَا خَلَقَهَا جَزَاءً لِئَلَّا يَكُونَ ظَالِمًا. فَنَقُولُ: أَوَّلُ مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ مِنْ الذُّنُوبِ: هُوَ أَحْدَثُهُ لَمْ يُحْدِثْهُ اللَّهُ. ثُمَّ مَا يَكُونُ جَزَاءً عَلَى ذَلِكَ: فَاَللَّهُ مُحْدِثُهُ. وَهُمْ لَا يُنَازِعُونَ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ: يُوَافِقُونَ عَلَيْهِ. لَكِنْ يَقُولُونَ: أَوَّلُ الذُّنُوبِ لَمْ يُحْدِثْهُ اللَّهُ بَلْ يُحْدِثْهُ الْعَبْدُ لِئَلَّا يَكُونَ الْجَزَاءُ عَلَيْهِ ظُلْمًا. وَمَا ذَكَرْنَاهُ: يُوجِبُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. فَمَا حَدَثَ شَيْءٌ إلَّا

ص: 336

بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. لَكِنْ أَوَّلُ الذُّنُوبِ الْوُجُودِيَّةِ: هُوَ الْمَخْلُوقُ. وَذَاكَ عُقُوبَةٌ عَلَى عَدَمِ فِعْلِ الْعَبْدِ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَلِمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ. وَهَذَا الْعَدَمُ لَا يَجُوزُ إضَافَتُهُ إلَى اللَّهِ. وَلَيْسَ بِشَيْءِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي قَوْلِنَا {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وَمَا أَحْدَثَهُ مِنْ الذُّنُوبِ الْوُجُودِيَّةِ فَأَوَّلُهَا: عُقُوبَةٌ لِلْعَبْدِ عَلَى هَذَا الْعَدَمِ. وَسَائِرُهَا: قَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً لِلْعَبْدِ عَلَى مَا وَجَدَ. وَقَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى اسْتِمْرَارِهِ عَلَى الْعَدَمِ. فَمَا دَامَ لَا يُخْلِصُ لِلَّهِ الْعَمَلَ: فَلَا يَزَالُ مُشْرِكًا. وَلَا يَزَالُ الشَّيْطَانُ مُسَلَّطًا عَلَيْهِ. ثُمَّ تَخْصِيصُهُ سُبْحَانَهُ لِمَنْ هَدَاهُ - بِأَنْ اسْتَعْمَلَهُ ابْتِدَاءً فِيمَا خُلِقَ لَهُ وَهَذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ - هُوَ تَخْصِيصٌ مِنْهُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَلِهَذَا يَقُولُ اللَّهُ {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وَلِذَلِكَ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ هُوَ أَعْلَمُ بِهَا كَمَا خَصَّ بَعْضَ الْأَبْدَانِ بِقُوَى لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا وَبِسَبَبِ عَدَمِ الْقُوَّةِ قَدْ تَحْصُلُ لَهُ أَمْرَاضٌ وُجُودِيَّةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ حِكْمَتِهِ. وَبِتَحْقِيقِ هَذَا يَدْفَعُ شُبُهَاتِ هَذَا الْبَابِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 337

فَصْلٌ:

وَمِمَّا ذَكَرَ فِيهِ الْعُقُوبَةِ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ: قَوْله تَعَالَى {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وَهَذَا مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} الْآيَةَ فَذَكَرَ: أَنَّ هَذَا التَّقْلِيبَ إنَّمَا حَصَلَ لِقُلُوبِهِمْ لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهَذَا عَدَمُ الْإِيمَانِ. لَكِنْ يُقَالُ: إنَّمَا كَانَ هَذَا بَعْدَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ لَهُمْ وَهُمْ قَدْ تَرَكُوا الْإِيمَانَ وَكَذَّبُوا الرَّسُولَ. وَهَذِهِ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ لَكِنْ الْمُوجِبَ لِلْعَذَابِ: هُوَ عَدَمُ الْإِيمَانِ. وَمَا ذَكَرَ شَرْطٌ فِي التَّعْذِيبِ بِمَنْزِلَةِ إرْسَالِ الرَّسُولِ. فَإِنَّهُ قَدْ يَشْتَغِلُ عَنْ الْإِيمَانِ بِمَا جِنْسُهُ مُبَاحٌ - مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبَيْعٍ وَسَفَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَهَذَا الْجِنْسُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ إلَّا لِأَنَّهُ شَغَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: ضِدُّ الْإِيمَانِ هُوَ تَرْكُهُ. وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ لَا ضِدَّ لَهُ إلَّا ذَلِكَ.

ص: 338

فَصْلٌ:

الْفَرْقُ السَّابِعُ: مِنْ الْحَسَنَات وَالسَّيِّئَاتِ الَّتِي تَتَنَاوَلُ الْأَعْمَالَ وَالْجَزَاءَ فِي كَوْنِ هَذِهِ تُضَافُ إلَى النَّفْسِ. وَتِلْكَ تُضَافُ إلَى اللَّهِ: أَنَّ السَّيِّئَاتِ الَّتِي تُصِيبُ الْإِنْسَانَ - وَهِيَ مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - لَيْسَ لَهَا سَبَبٌ إلَّا ذَنْبَهُ الَّذِي هُوَ مِنْ نَفْسِهِ. فَانْحَصَرَتْ فِي نَفْسِهِ. وَأَمَّا مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْخَيْرِ وَالنِّعَمِ: فَإِنَّهُ لَا تَنْحَصِرُ أَسْبَابُهُ. لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ وَبِغَيْرِ عَمَلِهِ. وَعَمَلُهُ نَفْسُهُ مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَجْزِي بِقَدْرِ الْعَمَلِ بَلْ يُضَاعِفُهُ لَهُ. وَلَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى ضَبْطِ أَسْبَابِهَا لَكِنْ يَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِنْعَامِهِ. فَيَرْجِعُ فِيهَا إلَى اللَّهِ. فَلَا يَرْجُو إلَّا اللَّهَ. وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ. وَيَعْلَمُ أَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنْ اللَّهِ. وَأَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ. فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ الْمُطْلَقَ الْعَامَّ التَّامَّ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ. وَمِنْ الشُّكْرِ: مَا يَكُونُ جَزَاءً عَلَى مَا يَسَّرَهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ

ص: 339

كَشُكْرِ الْوَالِدَيْنِ وَشُكْرِ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْك مِنْ غَيْرِهِمَا. فَإِنَّهُ {مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ} لَكِنْ لَا يَبْلُغُ مِنْ حَقِّ أَحَدٍ وَإِنْعَامِهِ: أَنْ يَشْكُرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ أَوْ أَنْ يُطَاعَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْعِمُ بِالنِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا مَخْلُوقٌ. وَنِعْمَةُ الْمَخْلُوقِ إنَّمَا هِيَ مِنْهُ أَيْضًا. قَالَ تَعَالَى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وَجَزَاؤُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِهِ. فَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَاعَ مَخْلُوقٌ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ وَمَنْشَطِهِ وَمَكْرَهِهِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةِ. فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةِ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ {إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ} وَقَالَ {مَنْ أَمَرَكُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا تُطِيعُوهُ} وَقَالَ {لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ} .

ص: 340

وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ إذَا عَرَفَ أَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنْ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا مُقَدِّرَ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا إلَّا اللَّهُ. فَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا هُوَ وَلَا يُذْهِبُ السَّيِّئَاتِ إلَّا هُوَ. وَأَنَّهُ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} صَارَ تَوَكُّلُهُ وَرَجَاؤُهُ وَدُعَاؤُهُ لِلْخَالِقِ وَحْدَهُ. وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ مِنْ الشُّكْرِ - الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ - صَارَ عِلْمُهُ بِأَنَّ الْحَسَنَاتِ مِنْ اللَّهِ: يُوجِبُ لَهُ الصِّدْقَ فِي شُكْرِ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. وَلَوْ قِيلَ: إنَّهَا مِنْ نَفْسِهِ لَكَانَ غَلَطًا. لِأَنَّ مِنْهَا مَا لَيْسَ لِعَمَلِهِ فِيهِ مَدْخَلٌ. وَمَا كَانَ لِعَمَلِهِ فِيهِ مَدْخَلٌ: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْعِمُ بِهِ. فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَلَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ. وَعَلِمَ أَنَّ الشَّرَّ قَدْ انْحَصَرَ سَبَبُهُ فِي النَّفْسِ. فَضَبَطَ ذَلِكَ وَعَلِمَ مِنْ أَيْنَ يُؤْتَى. فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ مِمَّا فَعَلَ وَتَابَ. وَاسْتَعَانَ اللَّهَ وَاسْتَعَاذَ بِهِ مِمَّا لَمْ يَعْمَلْ بَعْدُ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ " لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ. وَلَا يَخَافَنَّ عَبْدٌ إلَّا ذَنْبَهُ ".

ص: 341

وَهَذَا يُخَالِفُ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ بِلَا ذَنْبٍ وَيُعَذِّبُ أَطْفَالَ الْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ عَذَابًا دَائِمًا أَبَدًا بِلَا ذَنْبٍ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: يَخَافُ اللَّهُ خَوْفًا مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَنْبٌ. وَيُشَبِّهُونَ خَوْفَهُ بِالْخَوْفِ مِنْ الْأَسَدِ وَمِنْ الْمَلِكِ الْقَاهِرِ الَّذِي لَا يَنْضَبِطُ فِعْلُهُ وَلَا سَطْوَتُهُ بَلْ قَدْ يَقْهَرُ وَيُعَذِّبُ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مِنْ رَعِيَّتِهِ. فَإِذَا صَدَّقَ الْعَبْدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} عَلِمَ بُطْلَانَ هَذَا الْقَوْلِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُهُ وَيُعَاقِبُهُ إلَّا بِذُنُوبِهِ حَتَّى الْمَصَائِبَ الَّتِي تُصِيبُ الْعَبْدَ كُلَّهَا بِذُنُوبِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ السَّلَفِ - ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ - أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ الْغَمِّ وَالْفَشَلِ: إنَّمَا كَانَ بِذُنُوبِهِمْ. لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ. وَهَذَا مِنْ فَوَائِدَ تَخْصِيصِ الْخِطَابِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ {مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا غَمٍّ - حَتَّى الشَّوْكَةِ يشاكها - إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ} .

ص: 342

فَصْلٌ:

الْفَرْقُ الثَّامِنُ: أَنَّ السَّيِّئَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ النَّفْسِ. وَالسَّيِّئَةُ خَبِيثَةٌ مَذْمُومَةٌ وَصَفَهَا بِالْخُبْثِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} .

قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ: الْكَلِمَاتُ الْخَبِيثَةُ لِلْخَبِيثَيْنِ وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ: الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ الْخَبِيثَةُ لِلْخَبِيثِينَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} وَقَالَ اللَّهُ {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَالْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ صِفَاتُ الْقَائِلِ الْفَاعِلِ. فَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ مُتَّصِفَةً بِالسُّوءِ وَالْخُبْثِ لَمْ يَكُنْ مَحَلُّهَا يَنْفَعُهُ إلَّا مَا يُنَاسِبُهَا. فَمَنْ أَرَادَ: أَنْ يَجْعَلَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ يُعَاشِرُونَ النَّاسَ كَالسَّنَانِيرِ: لَمْ يَصْلُحْ.

ص: 343

وَمَنْ أَرَادَ: أَنْ يُجْعَلَ الَّذِي يَكْذِبُ شَاهِدًا عَلَى النَّاسِ لَمْ يَصْلُحْ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ: أَنْ يَجْعَلَ الْجَاهِلَ مُعَلِّمًا لِلنَّاسِ مُفْتِيًا لَهُمْ. أَوْ يَجْعَلَ الْعَاجِزَ الْجَبَانَ مُقَاتِلًا عَنْ النَّاسِ. أَوْ يَجْعَلَ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا يَعْرِفُ شَيْئًا سَائِسًا لِلنَّاسِ أَوْ لِلدَّوَابِّ: فَمِثْلُ هَذَا يُوجِبُ الْفَسَادَ فِي الْعَالَمِ. وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُمْكِنٍ. مِثْلُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْحِجَارَةَ تُسَبِّحُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ كَالسُّفُنِ أَوْ تَصْعَدُ إلَى السَّمَاءِ كَالرِّيحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالنُّفُوسُ الْخَبِيثَةُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ فِي الْجَنَّةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مِنْ الْخُبْثِ شَيْءٌ. فَإِنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْفَسَادِ أَوْ غَيْرَ مُمْكِنٍ. بَلْ إذَا كَانَ فِي النَّفْسِ خُبْثٌ طُهِّرَتْ وَهُذِّبَتْ حَتَّى تَصْلُحَ لِسُكْنَى الْجَنَّةِ. كَمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إنَّ الْمُؤْمِنِينَ إذَا نَجَوْا مِنْ النَّارِ - أَيْ عَبَرُوا الصِّرَاطَ - وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا. فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا: أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ} .

ص: 344

وَهَذَا مِمَّا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ. فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا: أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ. فَوَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا} . وَالتَّهْذِيبُ: التَّخْلِيصُ كَمَا يُهَذَّبُ الذَّهَبُ. فَيَخْلُصُ مِنْ الْغِشِّ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجَنَّةَ إنَّمَا يَدْخُلُهَا الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ التَّهْذِيبِ وَالتَّنْقِيَةِ مِنْ بَقَايَا الذُّنُوبِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ يَعْبُرُ بِهَا الصِّرَاطَ؟ . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ سَبَبُهَا ثَابِتًا فَالْجَزَاءُ كَذَلِكَ بِخِلَافِ الْحَسَنَةِ. فَإِنَّهَا مِنْ إنْعَامِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الْبَاقِي الْأَوَّلِ الْآخِرِ. فَسَبَبُهَا دَائِمٌ فَيَدُومُ بِدَوَامِهِ. وَإِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ السَّيِّئَةَ مِنْ نَفْسِهِ: لَمْ يَطْمَعْ فِي السَّعَادَةِ التَّامَّةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الشَّرِّ بَلْ عَلِمَ تَحْقِيقَ قَوْله تَعَالَى {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} وَقَوْلِهِ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} .

ص: 345

وَعَلِمَ أَنَّ الرَّبَّ عَلِيمٌ حَلِيمٌ رَحِيمٌ عَدْلٌ وَأَنَّ أَفْعَالَهُ جَارِيَةٌ عَلَى قَانُونِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ. وَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ. وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ {يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى، لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ. وَالْقِسْطُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ} . وَعُلِمَ فَسَادُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا عَدْلٍ وَلَا وَضْعٍ لِلْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا. فَيَصِفُونَ الرَّبَّ بِمَا يُوجِبُ الظُّلْمَ وَالسَّفَهَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ شَهِدَ {أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وَلِهَذَا يَقُولُونَ: لَا نَدْرِي مَا يَفْعَلُ بِمَنْ فَعَلَ السَّيِّئَاتِ. بَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ: أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْجَمِيعِ. وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ: أَنْ يُعَذِّبَ الْجَمِيعَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ وَيَغْفِرَ بِلَا مُوَازَنَةٍ. بَلْ يَعْفُو عَنْ شَرِّ النَّاسِ وَيُعَذِّبُ خَيْرَ النَّاسِ عَلَى سَيِّئَةٍ صَغِيرَةٍ وَلَا يَغْفِرُهَا لَهُ. وَهُمْ يَقُولُونَ: السَّيِّئَةُ لَا تُمْحَى لَا بِتَوْبَةِ وَلَا حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ لَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ.

ص: 346

قَالُوا: لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ إنَّمَا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ وَالْخَبَرِ خَبَرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالُوا: وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُبَيِّنُ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِمَنْ كَسَبَ السَّيِّئَاتِ إلَّا الْكُفْرَ. وَتَأَوَّلُوا قَوْله تَعَالَى {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَبَائِرِ: قَدْ يَكُونُ هُوَ الْكُفْرُ وَحْدَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} . وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْبَاقِلَانِي وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُولُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِمَّنْ سَلَكَ مَسْلَكَ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ فِي الْقَدَرِ وَفِي الْوَعِيدِ. وَهَؤُلَاءِ قَصَدُوا مُنَاقَضَةَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ. فَأُولَئِكَ لَمَّا قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَنَّهُ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ. وَسَلَكُوا مَسْلَكَ نفاة الْقَدَرِ فِي هَذَا وَقَالُوا فِي الْوَعِيدِ بِنَحْوِ قَوْلِ الْخَوَارِجِ. قَالُوا: إنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا لَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا. بَلْ يَكُونُ عَذَابُهُ مُؤَبَّدًا. فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ أَوْ مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ - عِنْدَهُمْ - لَا يَرْحَمُهُ اللَّهُ أَبَدًا. بَلْ يُخَلِّدُهُ فِي النَّارِ. فَخَالَفُوا السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ فِيمَا قَالُوهُ فِي الْقَدَرِ. وَنَاقَضَهُمْ جَهْمٌ فِي هَذَا وَهَذَا. وَسَلَكَ هَؤُلَاءِ مَسْلَكَ جَهْمٍ. مَعَ انْتِسَابِهِمْ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ

ص: 347

وَأَتْبَاعِ السَّلَفِ. وَكَذَلِكَ سَلَكُوا فِي الْإِيمَانِ وَالْوَعِيدِ مَسْلَكَ الْمُرْجِئَةِ الْغُلَاةِ كَجَهْمِ وَأَتْبَاعِهِ. وَجَهْمٌ اُشْتُهِرَ عَنْهُ نَوْعَانِ مِنْ الْبِدْعَةِ: نَوْعٌ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. فَغَلَا فِي نَفْيِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مَلَاحِدَةُ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَوَافَقَهُ الْمُعْتَزِلَةُ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ دُونَ الْأَسْمَاءِ. والْكُلَّابِيَة - وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ السالمية. وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ - وَافَقُوهُ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ دُونَ نَفْيِ أَصْلِ الصِّفَاتِ. وَالْكَرَامِيَّة وَنَحْوُهُمْ: وَافَقُوهُ عَلَى أَصْلِ ذَلِكَ. وَهُوَ امْتِنَاعُ دَوَامِ مَا لَا يَتَنَاهَى. وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَفَعَّالًا لِمَا يَشَاءُ إذَا شَاءَ. لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَهُوَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ - الَّذِي هُوَ نَفْيُ وُجُودِ مَا لَا يَتَنَاهَى فِي الْمُسْتَقْبَلِ - قَالَ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَدْ وَافَقَهُ أَبُو الهذيل إمَامُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى هَذَا لَكِنْ قَالَ: بِتَنَاهِي الْحَرَكَاتِ. فَالْمُعْتَزِلَةُ فِي الصِّفَاتِ: مَخَانِيثُ الْجَهْمِيَّة.

ص: 348

وَأَمَّا الْكُلَّابِيَة: فَيُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ فِي الْجُمْلَةِ. وَكَذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّونَ وَلَكِنَّهُمْ - كَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ -: الْجَهْمِيَّة الْإِنَاثُ. وَهُمْ مَخَانِيثُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْمُعْتَزِلَةُ مَخَانِيثُ الْفَلَاسِفَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا. لِأَنَّ قَائِلَهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ جَهْمًا سَبَقَ هَؤُلَاءِ إلَى هَذَا الْأَصْلِ أَوْ لِأَنَّهُمْ مَخَانِيثُهُمْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَإِلَّا فَإِنَّ مُخَالَفَتَهُمْ لِلْفَلَاسِفَةِ كَبِيرَةٌ جِدًّا. وَالشِّهْرِسْتَانِي يَذْكُرُ عَنْ شُيُوخِهِمْ: أَنَّهُمْ أَخَذُوا مَا أَخَذُوا عَنْ الْفَلَاسِفَة. لِأَنَّ الشِّهْرِسْتَانِيّ إنَّمَا يَرَى مُنَاظَرَةَ أَصْحَابِهِ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي الصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ بِخِلَافِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. فَإِنَّ مُنَاظَرَتَهُمْ إنَّمَا كَانَتْ مَعَ الْجَهْمِيَّة. وَهُمْ الْمَشْهُورُونَ عِنْد السَّلَفِ وَالْأُمَّةِ بِنَفْيِ الصِّفَاتِ. وَأَهْلُ النَّفْيِ لِلصِّفَاتِ وَالتَّعْطِيلِ لَهَا: هُمْ عِنْد السَّلَفِ يُقَالُ لَهُمْ: الْجَهْمِيَّة. وَبِهَذَا تَمَيَّزُوا عِنْدَ السَّلَفِ عَنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ: فَامْتَازُوا بِقَوْلِهِمْ بِالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ لِمَا أَحْدَثَ ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ. وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَجْلِسُونَ مُعْتَزِلِينَ لِلْجَمَاعَةِ فَيَقُولُ قتادة وَغَيْرُهُ: أُولَئِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ.

ص: 349

وَبَعْدَهُمْ حَدَثَتْ الْجَهْمِيَّة. وَكَانَ الْقَدَرُ: قَدْ حَدَّثَ أَهْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ وَلِهَذَا تَكَلَّمَ فِيهِمْ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم وَغَيْرُهُمَا. وَابْنُ عَبَّاسٍ مَاتَ قَبْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَابْنُ عُمَرَ مَاتَ عَقِبَ مَوْتِهِ وَعَقِبَ ذَلِكَ تَوَلَّى الْحَجَّاجُ الْعِرَاقَ سَنَةَ بِضْعٍ وَسَبْعِينَ. فَبَقِيَ النَّاسُ يَخُوضُونَ فِي الْقَدَرِ بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَأَكْثَرُهُ: كَانَ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ بِالْبَصْرَةِ وَأَقَلُّهُ: كَانَ بِالْحِجَازِ. ثُمَّ لَمَّا حَدَثَتْ الْمُعْتَزِلَةُ - بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ وَتُكُلِّمَ فِي الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَقَالُوا بِإِنْفَاذِ الْوَعِيدِ وَخُلُودِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي النَّارِ وَأَنَّ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ دَخَلَهَا. وَهَذَا تَغْلِيظٌ عَلَى أَهْلِ الذُّنُوبِ - ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ الْقَدَرَ. فَإِنَّ بِهِ يَتِمُّ التَّغْلِيظُ عَلَى أَهْلِ الذُّنُوبِ. وَلَمْ يَكُنْ النَّاسُ إذْ ذَاكَ قَدْ أَحْدَثُوا شَيْئًا مِنْ نَفْيِ الصِّفَاتِ. إلَى أَنْ ظَهَرَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَهُوَ أَوَّلُهُمْ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ وَقَالَ " أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا. تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ. فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ. إنَّهُ زَعَمَ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا

ص: 350

وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا. تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا " ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَهَذَا كَانَ بِالْعِرَاقِ. ثُمَّ ظَهَرَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ مِنْ تِرْمِذَ. وَمِنْهَا ظَهَرَ رَأْيُ جَهْمٍ. وَلِهَذَا كَانَ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ بِالْمَشْرِقِ: أَكْثَرَ كَلَامًا فِي رَدِّ مَذْهَبِ جَهْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ مِثْلُ إبْرَاهِيمَ بْنِ طهمان وَخَارِجَةَ بْنِ مُصْعَبٍ وَمَثَلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَمْثَالِهِمْ - وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي ذَمِّهِمْ - وَابْنُ الماجشون وَغَيْرُهُمَا وَكَذَلِكَ الأوزاعي وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ. وَإِنَّمَا اشْتَهَرَتْ مَقَالَتُهُمْ مِنْ حِينِ مِحْنَةِ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ. فَإِنَّهُمْ فِي إمَارَةِ الْمَأْمُونِ قَوُوا وَكَثُرُوا. فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَقَامَ بِخُرَاسَانَ مُدَّةً. وَاجْتَمَعَ بِهِمْ. ثُمَّ كَتَبَ بِالْمِحْنَةِ مِنْ طرسوس سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَفِيهَا مَاتَ. وَرَدُّوا أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ إلَى الْحَبْسِ بِبَغْدَادَ إلَى سَنَةِ عِشْرِينَ. وَفِيهَا كَانَتْ مِحْنَتُهُ مَعَ الْمُعْتَصِمِ وَمُنَاظَرَتُهُ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ. فَلَمَّا رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَيْهِ وَبَيَّنَ أَنْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ طَلَبَهُمْ مِنْ النَّاسِ أَنْ يُوَافِقُوهُمْ وَامْتِحَانُهُمْ إيَّاهُمْ: جَهْلٌ وَظُلْمٌ. وَأَرَادَ الْمُعْتَصِمُ إطْلَاقَهُ. فَأَشَارَ عَلَيْهِ مَنْ أَشَارَ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ

ص: 351

ضَرْبُهُ حَتَّى لَا تَنْكَسِرَ حُرْمَةُ الْخِلَافَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. فَلَمَّا ضَرَبُوهُ قَامَتْ الشَّنَاعَةُ عَلَيْهِمْ فِي الْعَامَّةِ وَخَافُوا الْفِتْنَةَ. فَأَطْلَقُوهُ. وَكَانَ أَحْمَد بْنُ أَبِي دؤاد قَدْ جَمَعَ لَهُ نفاة الصِّفَاتِ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ. فَجَمَعَ لَهُ مِثْلُ أَبِي عِيسَى مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بُرْغُوثٍ مِنْ أَكَابِرَ النجارية أَصْحَابِ حُسَيْنٍ النَّجَّارِ. وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ - كَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد، وَإسْحَاقَ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ - يُسَمُّونَ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ: جهمية. وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ - مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ - يَظُنُّونَ أَنَّ خُصُومَهُ كَانُوا الْمُعْتَزِلَةَ. وَيَظُنُّونَ أَنَّ بِشْرَ بْنَ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيَّ - وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ مِحْنَةِ أَحْمَد وَابْنِ أَبِي دؤاد وَنَحْوِهِمَا - كَانُوا مُعْتَزِلَةً. وَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلْ الْمُعْتَزِلَةُ كَانُوا نَوْعًا مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَكَانَتْ الْجَهْمِيَّة أَتْبَاعَ جَهْمٍ والنجارية أَتْبَاعَ حُسَيْنٍ النَّجَّارِ والضرارية أَتْبَاعَ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو وَالْمُعْتَزِلَةُ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ جَهْمًا اُشْتُهِرَ عَنْهُ نَوْعَانِ مِنْ الْبِدْعَةِ. أَحَدُهُمَا:

ص: 352

نَفْيُ الصِّفَاتِ، وَالثَّانِي: الْغُلُوُّ فِي الْقَدَرِ وَالْإِرْجَاءُ. فَجَعْلُ الْإِيمَانِ مُجَرَّدُ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ. وَجَعْلُ الْعِبَادِ لَا فِعْلَ لَهُمْ وَلَا قُدْرَةَ. وَهَذَانِ مِمَّا غَلَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي خِلَافِهِ فِيهِمَا. وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ: فَوَافَقَهُ عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِ وَلَكِنْ قَدْ يُنَازِعُهُ مُنَازَعَاتٌ لَفْظِيَّةٌ. وَجَهْمٌ لَمْ يُثْبِتْ شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ - لَا الْإِرَادَةَ وَلَا غَيْرَهَا - فَهُوَ إذَا قَالَ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الطَّاعَاتِ وَيُبْغِضُ الْمَعَاصِيَ. فَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُ: الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ: فَهُوَ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ - كَالْإِرَادَةِ - فَاحْتَاجَ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الْإِرَادَةِ: هَلْ هِيَ الْمَحَبَّةُ أَمْ لَا؟ وَأَنَّ الْمَعَاصِيَ: هَلْ يُحِبُّهَا اللَّهُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: إنَّ الْمَعَاصِيَ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا كَمَا يُرِيدُهَا. وَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي: أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ قَبْلَهُ كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَعَاصِيَ. وَذَكَرَ الْأَشْعَرِيّ فِي الْمُوجَزِ: أَنَّهُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَهُ طَائِفَةٌ سَمَّاهُمْ. أَشُكُّ فِي بَعْضِهِمْ.

ص: 353

وَشَاعَ هَذَا الْقَوْلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَمَشَايِخِ الْمَعْرِفَةِ وَالْحَقِيقَةِ فَصَارُوا يُوَافِقُونَ جَهْمًا فِي مَسَائِلِ الْأَفْعَالِ وَالْقَدَرِ وَإِنْ كَانُوا مُكَفِّرِينَ لَهُ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ كَأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ الهروي صَاحِبِ كِتَابِ " ذَمُّ الْكَلَامِ " فَإِنَّهُ مِنْ الْمُبَالِغِينَ فِي ذَمِّ الْجَهْمِيَّة لِنَفْيِهِمْ الصِّفَاتِ. وَلَهُ كِتَابُ " تَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّة " وَيُبَالِغُ فِي ذَمِّ الْأَشْعَرِيَّةِ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ أَقْرَبِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. وَرُبَّمَا كَانَ يَلْعَنُهُمْ. وَقَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ النَّاسِ - بِحَضْرَةِ نِظَامِ الْمَلِكِ - أَتَلْعَنُ الْأَشْعَرِيَّةَ؟ فَقَالَ: أَلْعَنُ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ فِي السَّمَوَاتِ إلَهٌ وَلَا فِي الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ وَلَا فِي الْقَبْرِ نَبِيٌّ. وَقَامَ مِنْ عِنْدِهِ مُغْضَبًا. وَمَعَ هَذَا فَهُوَ فِي مَسْأَلَةِ إرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ: أَبْلَغُ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ. لَا يُثْبِتُ سَبَبًا وَلَا حِكْمَةً بَلْ يَقُولُ: إنَّ مُشَاهِدَةَ الْعَارِفِ الْحُكْمَ لَا تَبْقَى لَهُ اسْتِحْسَانُ حَسَنَةٍ وَلَا اسْتِقْبَاحُ سَيِّئَةٍ. وَالْحُكْمُ عِنْدَهُ: هِيَ الْمَشِيئَةُ. لِأَنَّ الْعَارِفَ الْمُحَقِّقَ - عِنْدَهُ - هُوَ مَنْ يَصِلُ إلَى مَقَامِ الْفَنَاءِ. فَيَفْنَى عَنْ جَمِيعِ مُرَادَاتِهِ بِمُرَادِ الْحَقِّ. وَجَمِيعُ الْكَائِنَاتِ مُرَادَةٌ لَهُ. وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ. و " الْحَسَنَةُ " و " السَّيِّئَةُ " يَفْتَرِقَانِ فِي حَظِّ الْعَبْدِ لِكَوْنِهِ يُنَعَّمُ بِهَذِهِ وَيُعَذَّبُ بِهَذِهِ. وَالِالْتِفَاتُ إلَى هَذَا هُوَ مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ. وَمَقَامِ الْفَنَاءِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُشَاهَدَةُ مُرَادِ الْحَقِّ.

ص: 354

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ الْجُنَيْد كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَبَيَّنَ لَهُمْ الْجُنَيْد الْفَرْقَ الثَّانِيَ. وَهُوَ أَنَّهُمْ - مَعَ مُشَاهَدَةِ الْمَشِيئَةِ الْعَامَّةِ - لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ وَمَا يَنْهَى عَنْهُ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ. وَبَيَّنَ لَهُمْ الْجُنَيْد كَمَا قَالَ فِي التَّوْحِيدِ: هُوَ إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ. فَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الْجُنَيْد مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْمَعْرِفَةِ كَانَ قَدْ اهْتَدَى وَنَجَا وَسَعِدَ. وَمَنْ لَمْ يَسْلُكْ فِي الْقَدَرِ مَسْلَكَهُ بَلْ سَوَّى بَيْنِ الْجَمِيعِ: لَزِمَهُ أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْفُسَّاقِ. فَلَا يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ هَؤُلَاءِ وَهَذِهِ الْأَعْمَالَ. وَلَا يُبْغِضُ هَؤُلَاءِ وَهَذِهِ الْأَعْمَالَ. بَلْ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ: هُوَ يُحِبُّهَا كَمَا يُرِيدُهَا كَمَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ. وَإِنَّمَا الْفَرْقُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ يُنَعَّمُونَ. وَهَؤُلَاءِ يُعَذَّبُونَ. وَالْأَشْعَرِيُّ لَمَّا أَثْبَتَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا - بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَخْلُوقِ - كَانَ أَعْقَلَ مِنْهُمْ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ: أَنَّ الْعَارِفَ الْوَاصِلَ إلَى مَقَامِ الْفَنَاءِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا.

ص: 355

وَهُمْ غَلِطُوا فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَحَقِّ الرَّبِّ. أَمَّا فِي حَقِّ الْعَبْدِ: فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ تَسْتَوِيَ عِنْدَهُ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ. وَهَذَا مُحَالٌ قَطْعًا. وَهُمْ قَدْ تَمُرُّ عَلَيْهِمْ أَحْوَالٌ يَفْنَوْنَ فِيهَا عَنْ أَكْثَرِ الْأَشْيَاءِ. أَمَّا الْفَنَاءُ عَنْ جَمِيعِهَا: فَمُمْتَنِعٌ. فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُفَرِّقَ كُلُّ حَيٍّ بَيْنَ مَا يُؤْلِمُهُ وَبَيْنَ مَا يُلِذُّهُ. فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْخُبْزِ وَالتُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالشَّرَابِ. فَهَؤُلَاءِ: عَزَلُوا الْفَرْقَ الشَّرْعِيَّ الْإِيمَانِيَّ الرَّحْمَانِيَّ الَّذِي بِهِ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَعَ الْجَمْعِ الْقَدَرِيِّ. وَعَلَى هَذَا: فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الْعَبْدِ بَيْنَ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ بَلْ لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ أَنْ يُفَرِّقَ. فَإِنْ لَمْ يُفَرِّقْ بِالْفَرْقِ الشَّرْعِيِّ - فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مَحْبُوبِ الْحَقِّ وَمَكْرُوهِهِ وَبَيْنَ مَا يَرْضَاهُ وَمَا يَسْخَطُهُ - وَإِلَّا فَرَّقَ بِالْفَرْقِ الطَّبْعِيِّ بِهَوَاهُ وَشَيْطَانِهِ. فَيُحِبُّ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ وَمَا يَأْمُرُ بِهِ شَيْطَانُهُ. وَمِنْ هُنَا: وَقَعَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي الْمَعَاصِي. وَآخَرُونَ فِي الْفُسُوقِ. وَآخَرُونَ فِي الْكُفْرِ. حَتَّى جَوَّزُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ. ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَقِلُ إلَى وَحْدَةِ الْوُجُودِ. وَهُمْ الَّذِينَ خَالَفُوا

ص: 356

الْجُنَيْد وَأَئِمَّةَ الدِّينِ فِي التَّوْحِيدِ. فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ. وَهَؤُلَاءِ صَرَّحُوا بِعِبَادَةِ كُلِّ مَوْجُودٍ. كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ الْحَاتِمِيِّ وَابْنِ سَبْعِينَ والقونوي وَالتِّلْمِسَانِيّ والبلياني وَابْنِ الْفَارِضِ وَأَمْثَالِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْكَلَامُ عَلَى مَنْ نَفَى الْحُكْمَ وَالْعَدْلَ وَالْأَسْبَابَ فِي الْقَدَرِ بَيْنَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ وَافَقُوا جَهْمًا فِي هَذَا الْأَصْلِ. وَهُوَ بِدْعَتُهُ الثَّانِيَةُ الَّتِي اُشْتُهِرَتْ عَنْهُ بِخِلَافِ الْإِرْجَاءِ. فَإِنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى طَوَائِفَ غَيْرِهِ. فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّبَّ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ حِكْمَةٍ وَلَا رَحْمَةٍ وَلَا عَدْلٍ. وَيَقُولُونَ: إنَّ مَشِيئَتَهُ هِيَ مَحَبَّتُهُ. وَلِهَذَا تَجِدُ مَنْ اتَّبَعَهُمْ: غَيْرَ مُعَظِّمٍ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بَلْ هُوَ مُنْحَلٌّ عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ كُلِّهِ أَوْ عَنْ بَعْضِهِ أَوْ مُتَكَلِّفٌ لِمَا يَعْتَقِدُهُ أَوْ يَعْلَمُهُ. فَإِنَّهُمْ أَرَادُوا: أَنَّ الْجَمِيعَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرَّبِّ سَوَاءٌ وَأَنَّ كُلَّ مَا شَاءَهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ. وَأَنَّهُ يُحْدِثُ مَا يُحْدِثُهُ بِدُونِ أَسْبَابٍ يَخْلُقُهُ بِهَا وَلَا حِكْمَةٍ يَسُوقُهُ إلَيْهَا بَلْ غَايَتُهُ: أَنَّهُ يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إلَى الْمَوَاقِيتِ.

ص: 357

لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ فَرْقٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ. بَلْ وَافَقُوا جَهْمًا وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ - كَالْأَشْعَرِيِّ - فِي أَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ: لَا حَسَنٌ وَلَا سَيِّئٌ. وَإِنَّمَا الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ: مُجَرَّدُ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ وَمَحْظُورًا. وَذَلِكَ فَرْقٌ يَعُود إلَى حَظِّ الْعَبْدِ. وَهَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ الْفَنَاءَ عَنْ الْحُظُوظِ. فَتَارَةً: يَقُولُونَ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: إنَّهُ مِنْ مَقَامِ التَّلْبِيسِ أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذَا. كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَبِي إسْمَاعِيلَ الهروي صَاحِبِ مَنَازِل السَّائِرِينَ. وَتَارَةً يَقُولُونَ: يَفْعَلُ هَذَا لِأَهْلِ الْمَارَسْتَان أَيْ الْعَامَّةِ. كَمَا يَقُولُهُ الشَّيْخُ الْمَغْرِبِيُّ إلَى أَنْوَاعٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا. وَمَنْ يَسْلُكُ مَسْلَكَهُمْ: غَايَتُهُ - إذَا عَظُمَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ - أَنْ يَقُولَ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشاذلي: يَكُونُ الْجَمْعُ فِي قَلْبِك مَشْهُودًا. وَالْفَرْقُ عَلَى لِسَانِك مَوْجُودًا. وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ: أَقْوَالٌ وَأَدْعِيَةٌ وَأَحْزَابٌ تَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. مِثْلُ أَنْ يَدْعُوَ: أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ إذَا عَصَاهُ أَعْظَمَ مِمَّا يُعْطِيهِ إذَا أَطَاعَهُ وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يُوجِبُ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ: أَنْ يَجْعَلَ

ص: 358

الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بَلْ أَفْضَلُ مِنْهُمْ. وَيَدْعُونَ بِأَدْعِيَةِ فِيهَا اعْتِدَاءٌ كَمَا يُوجَدُ فِي حزب الشاذلي. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَآخَرُونَ مِنْ عَوَامِّ هَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ: أَنْ يُكَرِّمَ اللَّهُ بِكَرَامَاتِ أَكَابِرِ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَكُونُ فَاجِرًا بَلْ كَافِرًا. وَيَقُولُونَ: هَذِهِ مَوْهِبَةٌ وَعَطِيَّةٌ يُعْطِيهَا اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ. مَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ لَا بِصَلَاةِ وَلَا بِصِيَامِ. وَيَظُنُّونَ أَنَّ تِلْكَ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ. وَتَكُونُ كَرَامَاتُهُمْ: مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ مِثْلُهَا لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ} . وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ جَاءَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ الْقُرْآنُ: عَدَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ - مِمَّنْ أَضَلَّهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ - إلَى أَنْ نَبَذَ كِتَابَ اللَّهِ

ص: 359

وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ. فَلَا يُعَظِّمُ أَمْرَ الْقُرْآنِ وَلَا نَهْيَهُ. وَلَا يُوَالِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُوَالَاتِهِ. وَلَا يُعَادِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُعَادَاتِهِ. بَلْ يُعَظِّمُ مَنْ رَآهُ يَأْتِي بِبَعْضِ خَوَارِقِهِمْ الَّتِي يَأْتِي بِمِثْلِهَا السَّحَرَةُ وَالْكُهَّانُ. بِإِعَانَةِ الشَّيَاطِينِ. وَهِيَ تَحْصُلُ بِمَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ: أَنَّ هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ. وَلَكِنْ يُعَظِّمُ ذَلِكَ لِهَوَاهُ وَيُفَضِّلُهُ عَلَى طَرِيقِ الْقُرْآنِ لِيَصِلَ بِهِ إلَى تَقْدِيسِ الْعَامَّةِ. وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ. كَاَلَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} . وَهَؤُلَاءِ ضَاهُوا الْكُفَّارَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ. وَمِنْهُمْ: مَنْ لَا يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا مِنْ الشَّيَاطِينِ. وَقَدْ يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ وَأَهْلِ

ص: 360

الْعِبَادَةِ وَالتَّصَوُّفِ. حَتَّى جَوَّزُوا عِبَادَةَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ. لِمَا رَأَوْهُ فِيهَا مِنْ الْأَحْوَالِ الْعَجِيبَةِ. الَّتِي تُعِينُهُمْ عَلَيْهَا الشَّيَاطِينُ. لِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهَا مِنْ بَعْضِ أَغْرَاضِهِمْ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ فَلَا يُبَالُونَ بِشِرْكِهِمْ بِاَللَّهِ وَلَا كُفْرِهِمْ بِهِ وَبِكِتَابِهِ إذَا نَالُوا ذَلِكَ وَلَمْ يُبَالُوا بِتَعْلِيمِ ذَلِكَ لِلنَّاسِ. وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُمْ. لِرِيَاسَةِ يَنَالُونَهَا أَوْ مَالٍ يَنَالُونَهُ. وَإِنْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ: عَمِلُوهُ وَدَعَوْا إلَيْهِ. بَلْ حَصَلَ عِنْدَهُمْ رَيْبٌ وَشَكٌّ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم. أَوْ اعْتِقَادٌ أَنَّ الرَّسُولَ خَاطَبَ الْجُمْهُورَ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ. لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْجُمْهُورِ. كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمَلَاحِدَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ. وَقَدْ دَخَلَ فِي رَأْيِ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. وَهَذَا مِمَّا ضَاهُوا بِهِ فَارِسَ وَالرُّومَ وَغَيْرَهُمْ. فَإِنَّ فَارِسَ كَانَتْ تُعَظِّمُ الْأَنْوَارَ وَتَسْجُدُ لِلشَّمْسِ وَلِلنَّارِ. وَالرُّومَ كَانُوا - قَبْلَ النَّصْرَانِيَّةِ - مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَشْبَهُوا فَارِسَ وَالرُّومَ: شَرٌّ مِنْ الَّذِينَ أَشْبَهُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. فَإِنَّ أُولَئِكَ ضَاهَوْا أَهْلَ الْكِتَابِ فِيمَا بُدِّلَ أَوْ نُسِخَ. وَهَؤُلَاءِ ضَاهَوْا مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ مِنْ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ فَارِسَ وَالرُّومَ وَمَنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْهِنْدِ وَالْيُونَانِ. وَمَذْهَبُ الْمَلَاحِدَةُ الْبَاطِنِيَّةُ: مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْمَجُوسِ بِالْأَصْلَيْنِ

ص: 361

وَمِنْ قَوْلِ فَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ بِالْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ. وَأَصْلُ قَوْلِ الْمَجُوسِ: يَرْجِعُ إلَى أَنْ تَكُونَ الظُّلْمَةُ الْمُضَاهِيَةُ لِلنُّورِ: هِيَ إبْلِيسُ وَقَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ بِالنَّفْسِ. فَأَصْلُ الشَّرِّ: عِبَادَةُ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَجَعْلُهُمَا شَرِيكَانِ لِلرَّبِّ وَأَنْ يَعْدِلَا بِهِ. وَنَفْسُ الْإِنْسَانِ تَفْعَلُ الشَّرَّ بِأَمْرِ الشَّيْطَانِ. وَقَدْ {عَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه أَنْ يَقُولَ - إذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى وَإِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ - اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك. إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَهَذَا مِنْ تَمَامِ تَحْقِيقِ قَوْله تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} مَعَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وَقَوْلِهِ {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وَقَدْ ظَهَرَتْ دَعْوَى النَّفْسِ الْإِلَهِيَّةِ فِي فِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ ادَّعَى أَنَّهُ إلَهٌ مَعَ اللَّهِ أَوْ مِنْ دُونِهِ وَظَهَرَتْ فِيمَنْ ادَّعَى إلَهِيَّةَ بَشَرٍ مَعَ اللَّهِ كَالْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ.

ص: 362

وَأَصْلُ الشِّرْكِ فِي بَنِي آدَمَ: كَانَ مِنْ الشِّرْكِ بِالْبَشَرِ الصَّالِحِينَ الْمُعَظَّمِينَ. فَإِنَّهُمْ لَمَّا مَاتُوا: عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ ثُمَّ عَبَدُوهُمْ. فَهَذَا أَوَّلُ شِرْكٍ كَانَ فِي بَنِي آدَمَ. وَكَانَ فِي قَوْمِ نُوحٍ. فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بُعِثَ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ. يَدْعُوهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ. وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الشِّرْكِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} وَهَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ كَانُوا فِي قَوْمِ نُوحٍ. فَلَمَّا مَاتُوا جَعَلُوا الْأَصْنَامَ عَلَى صُوَرِهِمْ ثُمَّ ذَهَبَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ أَهْلَ الْأَرْضِ ثُمَّ صَارَتْ إلَى الْعَرَبِ. كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. إنْ لَمْ تَكُنْ أَعْيَانُهَا وَإِلَّا فَهِيَ نَظَائِرُهَا. وَأَمَّا الشِّرْكُ بِالشَّيْطَانِ: فَهَذَا كَثِيرٌ. فَمَتَى لَمْ يُؤْمِنْ الْخَلْقُ بِأَنَّهُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " بِمَعْنَى: أَنَّهُ الْمَعْبُودُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ مَا سِوَاهُ. وَأَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ وَأَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُعْبَدَ وَأَنَّهُ لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَا أَحَبَّهُ مِمَّا شَرَعَ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ - فَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعُوا فِي الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ. فَاَلَّذِينَ جَعَلُوا الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ كُلَّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ سَوَاءٌ. لَا يُحِبُّ

ص: 363

شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ: فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ مَنْ يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. وَبَيْنَ مَنْ يَعْبُدُ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى. وَجَعَلُوا الْأَمْرَ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَةِ. لَيْسَ مَعَهَا حِكْمَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا عَدْلٌ. وَلَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ: طَمِعَتْ النَّفْسُ فِي نَيْلِ مَا تُرِيدُهُ بِدُونِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. ثُمَّ إذَا جَوَّزُوا الْكَرَامَاتِ لِكُلِّ مَنْ زَعَمَ الصَّلَاحَ وَلَمْ يُقَيِّدُوا الصَّلَاحَ بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَالتَّقْوَى بَلْ جَعَلُوا عَلَامَةَ الصَّلَاحِ هَذِهِ الْخَوَارِقَ. وَجَوَّزُوا الْخَوَارِقَ مُطْلَقًا. وَحَكَوْا فِي ذَلِكَ مُكَاشَفَاتٍ وَقَالُوا أَقْوَالًا مُنْكَرَةً. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْوَلِيَّ يُعْطَى قَوْلَ " كُنْ " وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْوَلِيِّ فِعْلُ مُمْكِنٍ. كَمَا لَا يَمْتَنِعُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِعْلُ مُحَالٍ. وَهَذَا قَالَهُ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ. قَالُوا: إنَّ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يُقَالُ: إنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ لِلْوَلِيِّ حَتَّى وَلَا الْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ. وَزَادَ ابْنُ عَرَبِيٍّ: أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَعْزُبُ عَنْ قُدْرَتِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ. وَاَلَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْ قُدْرَتِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ: هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ. فَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُمْ: بِأَنَّ الْوَلِيَّ مِثْلُ اللَّهِ إنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ اللَّهُ.

ص: 364

وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ. وَيَقْدِرُ عَلَى كُلِّ مَا يَقْدِرُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَادَّعَوْا أَنَّ هَذَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ثُمَّ مِنْ الْحَسَنِ إلَى ذُرِّيَّتِهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. حَتَّى انْتَهَى ذَلِكَ إلَى أَبِي الْحَسَنِ الشاذلي ثُمَّ إلَى ابْنِهِ. خَاطَبَنِي بِذَلِكَ: مَنْ هُوَ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِهِمْ. وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ مِنْ أَعْيَانِهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ مُحَمَّدًا هُوَ اللَّهُ. وَحَدَّثَنِي بَعْضُ الشُّيُوخِ الَّذِينَ لَهُمْ سُلُوكٌ وَخِبْرَةٌ: أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَابْنُ هُودٍ فِي مَكَّةَ فَدَخَلَا الْكَعْبَةَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ هُودٍ - وَأَشَارَ إلَى وَسَطِ الْكَعْبَةِ - هَذَا مَهْبِطُ النُّورِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ لَهُ: لَوْ قَالَ لَك صَاحِبُ هَذَا الْبَيْتِ: أُرِيدُ أَنْ أَجْعَلَك إلَهًا مَاذَا كُنْت تَقُولُ لَهُ؟ قَالَ: وَقَفَ شَعَرِي مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَانْخَنَسْت - أَوْ كَمَا قَالَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْكِي عَنْ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الزِّنْجُ الْبَصْرَةَ. قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: هاه إنَّ بِبَلَدِكُمْ هَذَا مَنْ لَوْ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُزِيلَ الْجِبَالَ عَنْ أَمَاكِنِهَا لَأَزَالَهَا. وَلَوْ سَأَلُوهُ:

ص: 365

أَنْ لَا يُقِيمَ الْقِيَامَةَ لَمَا أَقَامَهَا. لَكِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَوَاضِعَ رِضَاهُ فَلَا يَسْأَلُونَهُ إلَّا مَا يُحِبُّ. وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ: إمَّا كَذِبٌ عَلَى سَهْلٍ - وَهُوَ الَّذِي نَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا - أَوْ تَكُونَ غَلَطًا مِنْهُ. فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَذَلِكَ: أَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ. وَلَوْ سَأَلَهُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْ لَا يَكُونَ: لَمْ يُجِبْهُمْ مِثْلُ إقَامَةِ الْقِيَامَةِ وَأَنْ لَا يَمْلَأَ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَغَيْرُ ذَلِكَ. بَلْ كُلُّ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ فَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ دُعَاءَ أَحَدٍ فِي أَنْ لَا يَكُونَ. لَكِنَّ الدُّعَاءَ سَبَبٌ يَقْضِي اللَّهُ بِهِ مَا عَلِمَ اللَّهُ: أَنَّهُ سَيَكُونُ بِهَذَا السَّبَبِ كَمَا يَقْضِي بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ مَا عَلِمَ: أَنَّهُ سَيَكُونُ بِهَا. وَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى - مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ مَنْ فِي الْبَصْرَةِ بِكَثِيرِ - مَا هُوَ دُونَ هَذَا فَلَمْ يُجَابُوا. لِمَا سَبَقَ الْحُكْمُ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا سَأَلَهُ إبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام أَنْ يَغْفِرَ لِأَبِيهِ. وَكَمَا سَأَلَهُ نُوحٌ عليه السلام سَأَلَهُ نَجَاةَ ابْنِهِ. فَقِيلَ لَهُ {يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} . وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ فِي شَأْنِ عَمِّهِ أَبِي

ص: 366

طَالِبٍ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} وَقِيلَ لَهُ فِي الْمُنَافِقِينَ {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عُمُومًا {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فَمَنْ هَذَا الَّذِي لَوْ سَأَلَ اللَّهَ مَا يَشَاؤُهُ هُوَ أعطاه إيَّاهُ. {وَسَيِّدُ الشُّفَعَاءِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَيَحْمَدُ رَبَّهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ. فَيُقَالُ لَهُ: أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعْ. وَسَلْ تُعْطَ. وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. قَالَ: فَيَحُدُّ لِي حَدًّا. فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . وَأَيُّ اعْتِدَاءٍ أَعْظَمُ وَأَشْنَعُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ الْعَبْدُ رَبَّهُ: أَنْ لَا يَفْعَلُ مَا قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ أَنْ يَفْعَلَ مَا قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} وَقَالَ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ {مَا مِنْ

ص: 367

دَاعٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةِ لَيْسَ فِيهَا ظُلْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ: إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ. وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ مِثْلَهَا. وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ مِثْلَهَا} . فَالدَّعْوَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا اعْتِدَاءٌ يَحْصُلُ بِهَا الْمَطْلُوبُ أَوْ مِثْلُهُ. وَهَذَا غَايَةُ الْإِجَابَةِ. فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ بِعَيْنِهِ قَدْ يَكُونُ مُمْتَنِعًا. أَوْ مُفْسِدًا لِلدَّاعِي أَوْ لِغَيْرِهِ. وَالدَّاعِي جَاهِلٌ لَا يَعْلَمُ مَا فِيهِ الْمَفْسَدَةُ عَلَيْهِ. وَالرَّبُّ قَرِيبٌ مُجِيبٌ. وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا. وَالْكَرِيمُ الرَّحِيمُ إذَا سُئِلَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْعَبْدِ إعْطَاؤُهُ: أَعْطَاهُ نَظِيرَهُ كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ إذَا طَلَبَ مِنْهُ مَا لَيْسَ لَهُ. فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ مِنْ مَالِهِ نَظِيرَهُ. وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى. وَكَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا طَلَبَتْ مِنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي عَمِّهِ أَنْ يُوَلِّيَهُمْ وِلَايَةً لَا تَصْلُحُ لَهُمْ - فَأَعْطَاهُمْ مِنْ الْخُمُسِ مَا أَغْنَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَزَوَّجَهُمْ كَمَا فَعَلَ بِالْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ وَرَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ {لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الدُّعَاءِ} وَهَذَا حَقٌّ.

ص: 368

فَصْلٌ:

وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أَوْجَبَ هَذَا: أَنْ لَا يَطْلُبَ الْعَبْدُ الْحَسَنَاتِ - وَالْحَسَنَاتُ تَدْخُلُ فِيهَا كُلُّ نِعْمَةٍ - إلَّا مِنْ اللَّهِ. وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا مِنْ اللَّهِ وَحْدَهُ فَيَسْتَحِقُّ اللَّهُ عَلَيْهَا الشُّكْرَ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ. وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} . فَهَذَا يُوجِبُ عَلَى الْعَبْدِ شُكْرَهُ وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ. ثُمَّ قَالَ {ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ وَالْجُؤَارُ: يَتَضَمَّنُ رَفْعَ الصَّوْتِ. وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَجْأَرُ إذَا أَصَابَهُ الضُّرُّ. وَأَمَّا فِي حَالِ النِّعْمَةِ: فَهُوَ سَاكِنٌ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا {ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} {ثُمَّ إذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} .

ص: 369

وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يَذُمُّ مَنْ يُشْرِكُ بِهِ بَعْدَ كَشْفِ الْبَلَاءِ عَنْهُ وَإِسْبَاغِ النَّعْمَاءِ عَلَيْهِ فَيُضِيفُ الْعَبْدُ - بَعْدَ ذَلِكَ - الْإِنْعَامَ إلَى غَيْرِهِ. وَيَعْبُدُ غَيْرَهُ تَعَالَى. وَيَجْعَلُ الْمَشْكُورَ غَيْرَهُ عَلَى النِّعَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إلَيْهِ ثُمَّ إذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إلَيْهِ ثُمَّ إذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} . وَقَوْلُهُ {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إلَيْهِ} أَيْ نَسِيَ الضُّرَّ الَّذِي كَانَ يَدْعُو اللَّهُ لِدَفْعِهِ عَنْهُ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {بَلْ إيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} . فَذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حِزْبَيْنِ: حِزْبًا لَا يَدْعُونَهُ فِي الضَّرَّاءِ. وَلَا يَتُوبُونَ إلَيْهِ. وَحِزْبًا يَدْعُونَهُ وَيَتَضَرَّعُونَ إلَيْهِ وَيَتُوبُونَ إلَيْهِ. فَإِذَا

ص: 370

كَشَفَ الضُّرَّ عَنْهُمْ: أَعْرَضُوا عَنْهُ وَأَشْرَكُوا بِهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ مِنْ الْأَنْدَادِ مِنْ دُونِهِ. فَهَذَا الْحِزْبُ نَوْعَانِ - كَالْمُعَطِّلَةِ وَالْمُشْرِكَةِ - حِزْبٌ إذَا نَزَلَ بِهِمْ الضُّرُّ لَمْ يَدْعُوا اللَّهَ وَلَمْ يَتَضَرَّعُوا إلَيْهِ وَلَمْ يَتُوبُوا إلَيْهِ كَمَا قَالَ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} {فَلَوْلَا إذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَحِزْبٌ يَتَضَرَّعُونَ إلَيْهِ فِي حَالِ الضَّرَّاءِ. وَيَتُوبُونَ إلَيْهِ. فَإِذَا كَشَفَهَا عَنْهُمْ: أَعْرَضُوا عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} وَقَالَ فِي الْمُشْرِكِينَ مَا تَقَدَّمَ {ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} {ثُمَّ إذَا كَشَفَ

ص: 371

الضُّرَّ عَنْكُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} . وَالْمَمْدُوحُ: هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ. وَهُمْ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ وَيَتُوبُونَ إلَيْهِ. وَيَثْبُتُونَ عَلَى عِبَادَتِهِ وَالتَّوْبَةُ إلَيْهِ فِي حَالِ السَّرَّاءِ. فَيَعْبُدُونَهُ وَيُطِيعُونَهُ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَهُمْ أَهْلُ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ أَنْبِيَائِهِ عليهم السلام. فَقَالَ تَعَالَى {وَذَا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} وَقَالَ تَعَالَى {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} {إذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} {إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا

ص: 372

الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَقَالَ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قُتِلَ نَبِيُّهُمْ {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . وَقَوْلُهُ " قُتِلَ " أَيْ النَّبِيُّ قُتِلَ. هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. وَقَوْلُهُ {مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ صِفَةٌ لِلنَّبِيِّ - صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ - أَيْ كَمْ مِنْ نَبِيٍّ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ قُتِلَ وَلَمْ يُقْتَلُوا مَعَهُ. فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ قُتِلَ وَهُمْ مَعَهُ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ وَقُتِلَ فِي الْجُمْلَةِ. وَأُولَئِكَ الرِّبِّيُّونَ {مَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} .

ص: 373

و " الرِّبِّيُّونَ " الْجُمُوعُ الْكَثِيرَةُ. وَهُمْ الْأُلُوفُ الْكَثِيرَةُ. وَهَذَا الْمَعْنَى: هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ سَبَبَ النُّزُولِ وَهُوَ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ لَمَّا قِيلَ: " إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ " وَقَدْ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ {وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} وَهِيَ الَّتِي تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه يَوْمَ مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ " مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ. وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ ". فَإِنَّهُ عِنْدَ قَتْلِ النَّبِيِّ وَمَوْتِهِ: تَحْصُلُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ لِلنَّاسِ - الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ - وَتَحْصُلُ رِدَّةٌ وَنِفَاقٌ لِضَعْفِ قُلُوبِ أَتْبَاعِهِ لِمَوْتِهِ وَلِمَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ: إنَّ هَذَا قَدْ انْقَضَى أَمْرُهُ وَمَا بَقِيَ يَقُومُ دِينُهُ. وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمَا قُتِلَ وَغُلِبَ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُ كَمْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ؟ . فَإِنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ قَتَلُوا كَثِيرًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. وَالنَّبِيُّ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ أَتْبَاعٌ لَهُ. وَقَدْ يَكُونُ قَتْلُهُ فِي غَيْرِ حَرْبٍ وَلَا قِتَالٍ. بَلْ يُقْتَلُ وَقَدْ اتَّبَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ. فَمَا وَهَنَ الْمُؤْمِنُونَ لِمَا أَصَابَهُمْ بِقَتْلِهِ وَمَا ضَعُفُوا. وَمَا اسْتَكَانُوا. وَاَللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَلَكِنْ اسْتَغْفِرُوا لِذُنُوبِهِمْ الَّتِي بِهَا

ص: 374

تَحْصُلُ الْمَصَائِبُ - فَمَا أَصَابَهُمْ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ أَنْفُسِهِمْ - وَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَأَنْ يُثَبِّتَ أَقْدَامَهُمْ فَيُثَبِّتَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ لِئَلَّا يَرْتَابُوا. وَلَا يَنْكُلُوا عَنْ الْجِهَادِ. قَالَ تَعَالَى {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وَسَأَلُوهُ أَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. سَأَلُوا رَبَّهُمْ مَا يَفْعَلُ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ التَّثْبِيتِ وَمَا يُعْطِيهِمْ مِنْ عِنْدِهِ مِنْ النَّصْرِ. فَإِنَّهُ هُوَ النَّاصِرُ وَحْدَهُ. وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَكَذَا أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ عَوْنًا لَهُمْ. قَالَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْحَسَنَةُ مِنْ إحْسَانِهِ تَعَالَى وَالْمَصَائِبُ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ - وَإِنْ كَانَتْ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ - وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَشْكُرَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَأَنْ يَسْتَغْفِرَهُ مِنْ ذُنُوبِهِ. وَأَلَّا يَتَوَكَّلَ إلَّا عَلَيْهِ وَحْدَهُ. فَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا هُوَ. فَأَوْجَبَ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ: تَوْحِيدَهُ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَالشُّكْرَ لَهُ وَحْدَهُ وَالِاسْتِغْفَارَ مِنْ الذُّنُوبِ.

ص: 375

وَهَذِهِ الْأُمُورُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُهَا فِي الصَّلَاةِ. كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ. أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ} فَهَذَا حَمْدٌ وَهُوَ شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَبَيَانٌ أَنَّ حَمْدَهُ أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ. ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ {اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت. وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ} . وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِوَحْدَانِيِّتِهِ: لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ. خَلْقًا وَقَدَرًا وَبِدَايَةً وَهِدَايَةً. هُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ. لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ وَلِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ - شَرْعًا وَأَمْرًا وَنَهْيًا - وَهُوَ أَنَّ الْعِبَادَ وَإِنْ كَانُوا يُعْطَوْنَ مُلْكًا وَعَظْمَةً وَبَخْتًا وَرِيَاسَةً فِي الظَّاهِرِ أَوْ فِي الْبَاطِنِ كَأَصْحَابِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْخَارِقَةِ {فَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ} أَيْ لَا يُنْجِيهِ وَلَا يُخَلِّصُهُ مِنْ سُؤَالِك وَحِسَابِك حَظَّهُ وَعَظَمَتَهُ وَغِنَاهُ. وَلِهَذَا قَالَ {لَا يَنْفَعُهُ مِنْك} وَلَمْ يَقُلْ " لَا يَنْفَعُهُ عِنْدَك " فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ ذَلِكَ: أَوْهَمَ أَنَّهُ لَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْك لَكِنْ قَدْ لَا يَضُرُّهُ. فَيَقُولُ صَاحِبُ الْجَدِّ: إذَا سَلِمْت مِنْ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ فَمَا أُبَالِي كَاَلَّذِينَ

ص: 376

أُوتُوا النُّبُوَّةَ وَالْمُلْكَ لَهُمْ مُلْكٌ فِي الدُّنْيَا وَهُمْ مِنْ السُّعَدَاءِ فَقَدْ يَظُنُّ ذُو الْجَدِّ - الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ بِطَاعَةِ اللَّهِ مِنْ بَعْدِهِ - أَنَّهُ كَذَلِكَ. فَقَالَ {وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك} ضَمَّنَ " يَنْفَعُ " مَعْنَى " يُنْجِي وَيُخَلِّصُ " فَبَيَّنَ أَنْ جَدَّهُ لَا يُنْجِيهِ مِنْ الْعَذَابِ. بَلْ يَسْتَحِقُّ بِذُنُوبِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ أَمْثَالُهُ وَلَا يَنْفَعُهُ جَدُّهُ مِنْك. فَلَا يُنَجِّيهِ وَلَا يُخَلِّصُهُ. فَتَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامَ تَحْقِيقَ التَّوْحِيدِ وَتَحْقِيقَ قَوْلِهِ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَقَوْلِهِ {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَوْلِهِ {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وَقَوْلِهِ {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا} {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} . فَقَوْلُهُ {لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت} تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي يَقْتَضِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ: هُوَ الَّذِي يُسْأَلُ وَيُدْعَى وَيُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ. وَهُوَ سَبَبٌ لِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ. كَمَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِهَذَا التَّوْحِيدِ - تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ - وَمَعَ هَذَا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ. فَيَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَهُ وَإِنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ إلَيْهِ. فَيَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ وَقُرْبَانًا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا

ص: 377

يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .

وَهَذَا التَّوْحِيدُ: هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَأَنْ لَا نَعْبُدَهُ إلَّا بِمَا أَحَبَّهُ وَمَا رَضِيَهُ. وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ وَشَرَعَهُ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَمُوَالَاةِ أَوْلِيَائِهِ وَمُعَادَاةِ أَعْدَائِهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُمَا. وَهُوَ يَتَضَمَّنُ: أَنْ يُحِبَّ اللَّهَ حُبًّا لَا يُمَاثِلُهُ وَلَا يُسَاوِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ بَلْ يَقْتَضِي: أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ. فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ - لِأَجْلِ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ نَفْسِهِ فَكَيْفَ بِرَبِّهِ سبحانه وتعالى؟ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ {أَنَّ عُمَرَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَللَّهِ إنَّك لَأَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي فَقَالَ: لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ

ص: 378

أَحَبَّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك. قَالَ: فَوَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنَّك لَأَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي قَالَ: الْآنَ يَا عُمَرُ} . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ: أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مِنْ الْأَهْلِ وَالْمَالِ - عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ - فَإِنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتِ هَذَا الْوَعِيدِ.

فَهَذَا التَّوْحِيدُ - تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ - يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ. وَمِنْ ذَلِكَ: الصَّبْرُ عَلَى الْمَقْدُورِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّل يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِأَنَّهُ لَا خَالِقَ وَلَا رَازِقَ وَلَا مُعْطِيَ وَلَا مَانِعَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ. فَيَقْتَضِي: أَنْ لَا يَسْأَلَ الْعَبْدُ غَيْرَهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يَسْتَعِينُ إلَّا بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي النَّوْعَيْنِ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَقَالَ {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} .

ص: 379

وَهَذَا التَّوْحِيدُ: هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْمُوَحِّدِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. وَعَلَيْهِ يَقَعُ الْجَزَاءُ وَالثَّوَابُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ. فَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الْخَالِدِينَ. فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ. أَمَّا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ: فَقَدْ أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَكَانُوا يَعْبُدُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ وَيُحِبُّونَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَهُ. فَكَانَ ذَلِكَ التَّوْحِيدُ - الَّذِي هُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ - حُجَّةً عَلَيْهِمْ. فَإِذَا كَانَ اللَّهُ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَلَا خَالِقَ وَلَا رَازِقَ إلَّا هُوَ. فَلِمَاذَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ مَعَهُ وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ خَلْقٌ وَلَا رِزْقٌ وَلَا بِيَدِهِ لَهُمْ مَنْعٌ وَلَا عَطَاءٌ بَلْ هُوَ عَبْدٌ مِثْلُهُمْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا فَإِنْ قَالُوا " لِيَشْفَعَ " فَقَدْ قَالَ اللَّهُ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} فَلَا يَشْفَعُ مَنْ لَهُ شَفَاعَةٌ - مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ - إلَّا بِإِذْنِهِ. وَأَمَّا قُبُورُهُمْ - وَمَا نُصِبَ عَلَيْهَا مِنْ قِبَابٍ وَأَنْصَابٍ - أَوْ تَمَاثِيلُهُمْ - الَّتِي مُثِّلَتْ عَلَى صُوَرِهِمْ مُجَسَّدَةً أَوْ مَرْقُومَةً - فَجَعْلُ الِاسْتِشْفَاعِ بِهَا اسْتِشْفَاعًا بِهِمْ فَهَذَا بَاطِلُ عَقْلًا وَشَرْعًا. فَإِنَّهَا لَا شَفَاعَةَ لَهَا بِحَالِ وَلَا لِسَائِرِ الْأَصْنَامِ الَّتِي عُمِلَتْ لِلْكَوَاكِبِ وَالْجِنِّ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ.

ص: 380

وَإِذَا كَانَ اللَّهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنْ ارْتَضَى: فَمَا بَقِيَ الشُّفَعَاءُ شُرَكَاءَ كَشَفَاعَةِ الْمَخْلُوقِ عِنْدَ الْمَخْلُوقِ. فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ يَشْفَعُ عِنْدَهُ نَظِيرُهُ - أَوْ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ أَوْ دُونَهُ - بِدُونِ إذْنِ الْمَشْفُوعِ إلَيْهِ. وَيَقْبَلُ الْمَشْفُوعُ إلَيْهِ وَلَا بُدَّ شَفَاعَتُهُ: إمَّا لِرَغْبَتِهِ إلَيْهِ أَوْ فِيمَا عِنْدَهُ مِنْ قُوَّةٍ أَوْ سَبَبٍ يَنْفَعُهُ بِهِ أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ مَا يَخْشَاهُ وَإِمَّا لِرَهْبَتِهِ مِنْهُ وَإِمَّا لِمَحَبَّتِهِ إيَّاهُ وَإِمَّا لِلْمُعَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا وَالْمُعَاوَنَةِ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ. وَتَكُونُ شَفَاعَةُ الشَّفِيعِ: هِيَ الَّتِي حَرَّكَتْ إرَادَةَ الْمَشْفُوعِ إلَيْهِ وَجَعَلَتْهُ مُرِيدًا لِلشَّفَاعَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لَهَا. كَأَمْرِ الْآمِرِ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي الْمَأْمُورِ. فَيَفْعَلُ مَا أَمَرَهُ بِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِفِعْلِهِ. وَكَذَلِكَ سُؤَالُ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ: فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُحَرِّكًا لَهُ إلَى فِعْلِ مَا سَأَلَهُ. فَالشَّفِيعُ: كَمَا أَنَّهُ شَافِعٌ لِلطَّالِبِ شَفَاعَتَهُ فِي الطَّلَبِ. فَهُوَ أَيْضًا قَدْ شَفَّعَ الْمَشْفُوعَ إلَيْهِ. فَبِشَفَاعَتِهِ صَارَ الْمَشْفُوعُ إلَيْهِ فَاعِلًا لِلْمَطْلُوبِ. فَقَدْ شَفَعَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى وِتْرٌ لَا يُشَفِّعُهُ أَحَدٌ. فَلَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ

ص: 381

فَالْأَمْرُ كُلُّهُ إلَيْهِ وَحْدَهُ. فَلَا شَرِيكَ لَهُ بِوَجْهِ. وَلِهَذَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نَفْيَ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ الَّتِي فِيهَا تَقْرِيرُ التَّوْحِيدِ. فَقَالَ {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} . وَسَيِّدُ الشُّفَعَاءِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْقِيَامَةِ. إذَا سَجَدَ وَحَمِدَ رَبَّهُ. يُقَالُ لَهُ " ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَيُحِدُّ لَهُ حَدًّا. فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ " فَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ. كَمَا قَالَ {قُلْ إنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} وَقَالَ لِرَسُولِهِ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وَقَالَ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} . فَإِذَا كَانَ لَا يَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ. فَهُوَ يَأْذَنُ لِمَنْ يَشَاءُ وَلَكِنْ يُكْرَمُ الشَّفِيعُ بِقَبُولِ الشَّفَاعَةِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ} . وَإِذَا دَعَاهُ الدَّاعِي وَشَفَعَ عِنْدَهُ الشَّفِيعُ. فَسَمِعَ الدُّعَاءَ وَقَبِلَ الشَّفَاعَةَ: لَمْ يَكُنْ هَذَا مُؤَثِّرًا فِيهِ. كَمَا يُؤَثِّرُ الْمَخْلُوقُ فِي الْمَخْلُوقِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ هَذَا يَدْعُو وَهَذَا يَشْفَعُ. وَهُوَ الْخَالِقُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ. فَهُوَ الَّذِي وَفَّقَ الْعَبْدَ لِلتَّوْبَةِ ثُمَّ قَبِلَهَا. وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ ثُمَّ أَثَابَهُ عَلَيْهِ. وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلدُّعَاءِ ثُمَّ أَجَابَهُ. فَمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ شَيْءٌ

ص: 382

مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ. بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي جَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ سَبَبًا لِمَا يَفْعَلُهُ. وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ عَلَى أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَدَرِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ. وَهُوَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَمَا هُوَ خَالِقُ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ: مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. وَلَكِنَّ هَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ. فَإِنَّهُمْ إذَا جَعَلُوا الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي يُحْدِثُ وَيَخْلُقُ أَفْعَالَهُ بِدُونِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ: لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ قَدْ جَعَلَ رَبَّهُ فَاعِلًا لِمَا لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لَهُ. فَبِدُعَائِهِ جَعَلَهُ مُجِيبًا لَهُ وَبِتَوْبَتِهِ جَعَلَهُ قَابِلًا لِلتَّوْبَةِ وَبِشَفَاعَتِهِ جَعَلَهُ قَابِلًا لِلشَّفَاعَةِ. وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْمَخْلُوقَ يَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. فَإِنَّ ‌

" الْإِذْنَ " نَوْعَانِ: إذْنٌ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ وَإِذْنٌ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ وَالْإِجَازَةِ.

فَمِنْ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ فِي السِّحْرِ {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ. وَإِلَّا فَهُوَ لَمْ يُبِحْ السِّحْرَ.

ص: 383

وَالْقَدَرِيَّةُ تُنْكِرُ هَذَا " الْإِذْنَ " وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: إنَّ السِّحْرَ يَضُرُّ بِدُونِ إذْنِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} فَإِنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ مِنْ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ وَالتَّمْثِيلِ وَالْهَزِيمَةِ: إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ فَهُوَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْكُفَّارِ وَلِأَفْعَالِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} {وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} وَقَوْلُهُ {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} فَإِنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ إبَاحَتَهُ لِذَلِكَ وَإِجَازَتَهُ لَهُ وَرَفْعَ الْجُنَاحِ وَالْحَرَجِ عَنْ فَاعِلِهِ مَعَ كَوْنِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ. فَقَوْلُهُ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} هُوَ هَذَا الْإِذْنُ الْكَائِنُ بِقَدَرِهِ وَشَرْعِهِ. وَلَمْ يُرِدْ بِمُجَرَّدِ الْمَشِيئَةِ وَالْقَدَرِ. فَإِنَّ السِّحْرَ وَانْتِصَارَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانَ بِذَلِكَ الْإِذْنُ. فَمَنْ جَعَلَ الْعِبَادَ يَفْعَلُونَ أَفْعَالَهُمْ بِدُونِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَالِقًا لَهَا وَقَادِرًا عَلَيْهَا وَمُشِيئًا لَهَا فَعِنْدَهُ: كُلُّ شَافِعٍ وَدَاعٍ قَدْ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِدُونِ خَلْقِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَبَاحَ الشَّفَاعَةَ. وَأَمَّا الْكُفْرُ وَالسِّحْرُ وَقِتَالُ الْكُفَّارِ: فَهُوَ عِنْدُهُمْ بِغَيْرِ إذْنِهِ

ص: 384

لَا هَذَا الْإِذْنُ وَلَا هَذَا الْإِذْنُ. فَإِنَّهُ لَمْ يُبِحْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَعِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَمْ يَشَأْهُ وَلَمْ يَخْلُقْهُ. بَلْ كَانَ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ. وَالْمُشْرِكُونَ الْمُقِرُّونَ بِالْقَدَرِ يَقُولُونَ: إنَّ الشُّفَعَاءَ يَشْفَعُونَ بِالْإِذْنِ الْقَدَرِيِّ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ إبَاحَةً وَجَوَازًا. وَمَنْ كَانَ مُكَذِّبًا بِالْقَدَرِ - مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ النَّصَارَى - يَقُولُونَ: إنَّ شَفَاعَةَ الشُّفَعَاءِ بِغَيْرِ إذْنٍ لَا قَدَرِيٍّ وَلَا شَرْعِيٍّ. وَالْقَدَرِيَّةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: يَشْفَعُونَ بِغَيْرِ إذْنٍ قَدَرِيٍّ. وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ بِغَيْرِ إذْنِهِ الشَّرْعِيِّ: فَقَدْ شَفَعَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ إذْنٍ قَدَرِيٍّ وَلَا شَرْعِيٍّ. فَالدَّاعِي الْمَأْذُونُ لَهُ فِي الدُّعَاءِ: مُؤَثِّرٌ فِي اللَّهِ عِنْدَهُمْ. لَكِنْ بِإِبَاحَتِهِ. وَالدَّاعِي غَيْرُ الْمَأْذُونِ لَهُ: إذَا أَجَابَ دُعَاءَهُ فَقَدْ أَثَّرَ فِيهِ عِنْدَهُمْ لَا بِهَذَا الْإِذْنِ وَلَا بِهَذَا الْإِذْنِ كَدُعَاءِ بلعام بْنِ باعوراء وَغَيْره. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ الشُّفَعَاءِ مَنْ يَشْفَعُ بِدُونِ إذْنِ اللَّهِ الشَّرْعِيِّ وَإِنْ

ص: 385

كَانَ خَالِقًا لِفِعْلِهِ - كَشَفَاعَةِ نُوحٍ لِابْنِهِ وَشَفَاعَةِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ وَشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي ابْنِ سلول حِينَ صَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَقَوْلُهُ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} قَدْ قُلْتُمْ: إنَّهُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ. فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْإِذْنَ الْقَدَرِيَّ: لَكَانَ كُلُّ شَفَاعَةٍ دَاخِلَةٌ فِي ذَلِكَ كَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ كُفْرٍ وَسِحْرٍ. وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ مَا يَكُونُ بِإِذْنِهِ وَمَا لَا يَكُونُ بِإِذْنِهِ. وَلَوْ أَرَادَ الْإِذْنَ الشَّرْعِيَّ فَقَطْ: لَزِمَ قَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ. وَهَؤُلَاءِ قَدْ شَفَعُوا بِغَيْرِ إذْنٍ شَرْعِيٍّ؟ . قِيلَ: الْمَنْفِيُّ مِنْ الشَّفَاعَةِ بِلَا إذْنٍ: هِيَ الشَّفَاعَةُ التَّامَّةُ وَهِيَ الْمَقْبُولَةُ كَمَا فِي قَوْلِ الْمُصَلِّي " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " أَيْ اسْتَجَابَ لَهُ. وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وَقَوْلِهِ {إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} وَقَوْلِهِ {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ الْهُدَى وَالْإِنْذَارَ وَالتَّذْكِيرَ وَالتَّعْلِيمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَبُولِ الْمُتَعَلِّمِ. فَإِذَا تَعَلَّمَ حَصَلَ لَهُ التَّعْلِيمُ الْمَقْصُودُ. وَإِلَّا قِيلَ: عَلَّمْته فَلَمْ يَتَعَلَّمْ. كَمَا قِيلَ {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} فَكَذَلِكَ الشَّفَاعَةُ.

فَالشَّفَاعَةُ: مَقْصُودُهَا قَبُولُ الْمَشْفُوعِ إلَيْهِ - وَهِيَ الشَّفَاعَةُ التَّامَّةُ. فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي لَا تَكُونُ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَأَمَّا إذَا شَفَعَ شَفِيعٌ فَلَمْ تُقْبَلْ

ص: 386

شَفَاعَتُهُ: كَانَتْ كَعَدَمِهَا وَكَانَ عَلَى صَاحِبِهَا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهَا. كَمَا قَالَ نُوحٌ {رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَكَمَا نَهَى اللَّهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ لَهُ {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} وَقَالَ لَهُ {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} . وَلِهَذَا قَالَ عَلَى لِسَانِ الْمُشْرِكِينَ {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} {وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} . فَالشَّفَاعَةُ الْمَطْلُوبَةُ: هِيَ شَفَاعَةُ الْمُطَاعِ الَّذِي تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ. وَهَذِهِ لَيْسَتْ لِأَحَدِ عِنْدَ اللَّهِ إلَّا بِإِذْنِهِ قَدَرًا وَشَرْعًا. فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْذَنَ فِيهَا. وَلَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدَ شَافِعًا. فَهُوَ الْخَالِقُ لِفِعْلِهِ وَالْمُبِيحُ لَهُ كَمَا فِي الدَّاعِي: هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ وَهُوَ الَّذِي يَجْعَلُ الدَّاعِيَ دَاعِيًا فَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ خَلْقًا وَأَمْرًا. كَمَا قَالَ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} . وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ - ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ - أَنَّهُ قَالَ {فَمَنْ يَثِقُ بِهِ فَلْيَدَعْهُ} أَيْ فَلَمْ يَبْقَ لِغَيْرِهِ لَا خَلْقٌ وَلَا أَمْرٌ. وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالشَّفَاعَةِ الْمُثْبَتَةِ: هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ الْمَقْصُودُ بِالشَّفَاعَةِ وَهِيَ الْمَقْبُولَةُ بِخِلَافِ الْمَرْدُودَةِ. فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُرِيدُهَا لَا

ص: 387

الشَّافِعُ وَلَا الْمَشْفُوعُ لَهُ وَلَا الْمَشْفُوعُ إلَيْهِ. وَلَوْ عَلِمَ الشَّافِعُ وَالْمَشْفُوعُ لَهُ أَنَّهَا تُرَدُّ: لَمْ يَفْعَلُوهَا. وَالشَّفَاعَةُ الْمَقْبُولَةُ: هِيَ النَّافِعَةُ. بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَوْلِهِ {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} فَنَفَى الشَّفَاعَةَ الْمُطْلَقَةَ وَبَيَّنَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. وَهُوَ الْإِذْنُ الشَّرْعِيُّ بِمَعْنَى: أَبَاحَ لَهُ ذَلِكَ. وَأَجَازَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} وَقَوْلِهِ {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} وَقَوْلِهِ {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ {إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} هُوَ إذْنٌ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ. فَلَا يَأْذَنُ فِي شَفَاعَةٍ مُطْلَقَةٍ لِأَحَدِ. بَلْ إنَّمَا يَأْذَنُ فِي أَنْ يَشْفَعُوا لِمَنْ أَذِنَ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ فِيهِ. قَالَ تَعَالَى {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إلَّا هَمْسًا} {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} وَفِيهِ قَوْلَانِ: قِيلَ: إلَّا شَفَاعَةَ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ. وَقِيلَ: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ. فَهُوَ الَّذِي تَنْفَعُهُ الشَّفَاعَةُ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ. لَا يَذْكُرُونَ غَيْرَهُ

ص: 388

لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ " لَا تَنْفَعُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ " وَلَا قَالَ " لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا فِيمَنْ أَذِنَ لَهُ " بَلْ قَالَ {لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ} فَهِيَ لَا تَنْفَعُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا وَلَا تَكُونُ نَافِعَةً إلَّا لِلْمَأْذُونِ لَهُمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . وَلَا يُقَالُ: لَا تَنْفَعُ إلَّا لِشَفِيعِ مَأْذُونٍ لَهُ. بَلْ لَوْ أُرِيدَ هَذَا لَقِيلَ: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ. وَإِنَّمَا قَالَ {إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَهُوَ الْمَشْفُوعُ لَهُ الَّذِي تَنْفَعُهُ الشَّفَاعَةُ. وَقَوْلُهُ {حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} لَمْ يَعُدْ إلَى " الشُّفَعَاءِ " بَلْ عَادَ إلَى الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} ثُمَّ قَالَ {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ} ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا مُنْتَفٍ {حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} فَلَا يَعْلَمُونَ مَاذَا قَالَ حَتَّى يُفَزَّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَكَيْفَ يَشْفَعُونَ بِلَا إذْنِهِ؟ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا أَذِنَ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ فَقَدْ أَذِنَ لِلشَّافِعِ. فَهَذَا الْإِذْنُ هُوَ الْإِذْنُ الْمُطْلَقُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَذِنَ لِلشَّافِعِ فَقَطْ. فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَذِنَ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ. إذْ قَدْ يَأْذَنُ لَهُ إذْنًا خَاصًّا.

ص: 389

وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ. قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنْفَعُ إلَّا الْمُؤْمِنِينَ. وَكَذَلِكَ قَالَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ قتادة فِي قَوْلِهِ {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} هُوَ شَفَاعَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} إنَّ اللَّهَ يُشَفِّعُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ. قَالَ البغوي {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} أَذِنَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} أَيْ وَرَضِيَ قَوْلَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي قَالَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " قَالَ البغوي: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِ. وَقَدْ ذَكَرُوا الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَدَّمَ طَائِفَةٌ هُنَاكَ: أَنَّ الْمُسْتَثْنَى هُوَ الشَّافِعُ دُونَ الْمَشْفُوعِ لَهُ بِخِلَافِ مَا قَدَّمُوهُ هُنَا. مِنْهُمْ البغوي. فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ إلَّا الْمَشْفُوعَ لَهُ.

ص: 390

وَقَالَ هُنَاكَ: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فِي الشَّفَاعَةِ قَالَهُ تَكْذِيبًا لَهُمْ حَيْثُ قَالُوا {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ. وَكَذَلِكَ ذَكَرُوا الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنُبَيِّنُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهَا يَعُمُّ الطَّائِفَتَيْنِ وَأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ. وَمَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِثْلُ مَعْنَى تِلْكَ الْآيَةِ. وَهُوَ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ. وَذَلِكَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} و " الشَّفَاعَةُ " مَصْدَرُ شَفَعَ شَفَاعَةً. وَالْمَصْدَرُ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ تَارَةً وَإِلَى مَحَلِّ الْفِعْلِ تَارَةً. وَيُمَاثِلُهُ الَّذِي يُسَمَّى لَفْظُهُ " الْمَفْعُولَ بِهِ " تَارَةً كَمَا يُقَالُ: أَعْجَبَنِي دَقُّ الثَّوْبِ وَدَقُّ الْقَصَّارِ. وَذَلِكَ مِثْلُ لَفْظِ " الْعِلْمِ " يُضَافُ تَارَةً إلَى الْعِلْمِ وَتَارَةً إلَى الْمَعْلُومِ. فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} وَقَوْلِهِ {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وَقَوْلِهِ {أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ {إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فَالسَّاعَةُ هُنَا: مَعْلُومَةٌ لَا عَالِمَةً. وَقَوْلِهِ حِينَ قَالَ فِرْعَوْنُ {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى}

ص: 391

قَالَ مُوسَى {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} وَمَثَلِ هَذَا كَثِيرٌ. فَالشَّفَاعَةُ مَصْدَرٌ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَافِعٍ وَمَشْفُوعٍ لَهُ. وَالشَّفَاعَةُ: تَعُمُّ شَفَاعَةَ كُلِّ شَافِعٍ وَكُلُّ شَفَاعَةٍ لِمَشْفُوعِ لَهُ. فَإِذَا قَالَ {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} نَفَى النَّوْعَيْنِ: شَفَاعَةَ الشُّفَعَاءِ وَالشَّفَاعَةَ لِلْمُذْنِبِينَ. فَقَوْلُهُ {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ: مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا مِنْ الشُّفَعَاءِ. وَمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا مِنْ الْمَشْفُوعِ لَهُ. وَهِيَ تَنْفَعُ الْمَشْفُوعَ لَهُ فَتُخَلِّصُهُ مِنْ الْعَذَابِ. وَتَنْفَعُ الشَّافِعَ فَتُقْبَلُ مِنْهُ وَيُكْرَمُ بِقَبُولِهَا وَيُثَابُ عَلَيْهِ. وَالشَّفَاعَةُ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ لَا شَافِعًا وَلَا مَشْفُوعًا لَهُ {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} فَهَذَا الصِّنْفُ الْمَأْذُونُ لَهُمْ الْمَرْضِيُّ قَوْلَهُمْ: هُمْ الَّذِينَ يَحْصُلُ لَهُمْ نَفْعُ الشَّفَاعَةِ. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِسَائِرِ الْآيَاتِ. فَإِنَّهُ تَارَةً يَشْتَرِطُ فِي الشَّفَاعَةِ إذْنَهُ. كَقَوْلِهِ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} . وَتَارَةً يَشْتَرِطُ فِيهَا الشَّهَادَةَ بِالْحَقِّ. كَقَوْلِهِ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ

ص: 392

يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} ثُمَّ قَالَ {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . وَهُنَا اشْتَرَطَ الْأَمْرَيْنِ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَأَنْ يَقُولَ صَوَابًا وَالْمُسْتَثْنَى يَتَنَاوَلُ مَصْدَرَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ كَمَا تَقُولُ: لَا يَنْفَعُ الزَّرْعُ إلَّا فِي وَقْتِهِ. فَهُوَ يَتَنَاوَلُ زَرْعَ الْحَارِثِ وَزَرْعَ الْأَرْضِ لَكِنْ هُنَا قَالَ {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ. فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَ هَذَا مَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ هَذَا. وَإِنَّمَا قَالَ {لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ كَانَ الْمَعْنَى: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا هَذَا النَّوْعُ فَإِنَّهُمْ تَنْفَعُهُمْ الشَّفَاعَةُ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهَا تَنْفَعُ الشَّافِعَ وَالْمَشْفُوعَ لَهُ. وَإِنْ جُعِلَ فِيهِ حَذْفٌ - تَقْدِيرُهُ: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا شَفَاعَةَ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ - كَانَ الْمَصْدَرُ مُضَافًا إلَى النَّوْعَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِهِ يُضَافُ إلَى بَعْضِهِمْ لِكَوْنِهِ شَافِعًا وَإِلَى بَعْضِهِمْ لِكَوْنِهِ مَشْفُوعًا لَهُ وَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أَيْ مَنْ يُؤْمِنُ. و {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} أَيْ مِثْلُ دَاعِي الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ أَوْ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ مَنْعُوقٍ بِهِ أَيْ الَّذِي ينعق بِهِ. وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ. فَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَفْصَحِ الْكَلَامِ: إيجَازُهُ دُونَ الْإِطْنَابِ فِيهِ.

ص: 393

وَقَوْلُهُ {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} إذَا كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَمْ يُحْتَجَّ: أَنَّ الشَّافِعَ تَنْفَعُهُ الشَّفَاعَةُ. وَإِنْ لَمْ يُكْرِمْهُ كَانَ الشَّافِعُ مِمَّنْ تَنْفَعُهُ الشَّفَاعَةُ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: التَّقْدِيرُ: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ فَيُؤْذَنُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ. فَيَكُونُ الْإِذْنُ لِلطَّائِفَتَيْنِ وَالنَّفْعُ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ كَأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْ وَلَا تَنْفَعُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. فَكَمَا أَنَّ الْإِذْنَ لِلطَّائِفَتَيْنِ فَالنَّفْعُ أَيْضًا لِلطَّائِفَتَيْنِ. فَالشَّافِعُ يَنْتَفِعُ بِالشَّفَاعَةِ. وَقَدْ يَكُونُ انْتِفَاعُهُ بِهَا أَعْظَمَ مِنْ انْتِفَاعِ الْمَشْفُوعِ لَهُ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا. وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَان نَبِيِّهِ مَا شَاءَ} . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُكْرِمُ بِهِ اللَّهُ عَبْدَهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم هُوَ الشَّفَاعَةُ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا. وَهِيَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي يَحْمَدُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون. وَعَلَى هَذَا لَا تَحْتَاجُ الْآيَةُ إلَى حَذْفٍ بَلْ يَكُونُ مَعْنَاهَا:

ص: 394

يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ لَا شَافِعًا وَلَا مَشْفُوعًا {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} . وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ {يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، يَا عَبَّاسُ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا {لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ أَوْ شَاةٌ لَهَا يُعَارُ أَوْ رِقَاعٌ تَخْفُقُ فَيَقُولُ: أَغِثْنِي أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: قَدْ أَبْلَغَتْك، لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} . فَيَعْلَمُ مِنْ هَذَا: أَنَّ قَوْلَهُ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} و {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} عَلَى مُقْتَضَاهُ. وَأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْآيَةِ {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ} كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} وَهُوَ كَقَوْلِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} . وَهَذِهِ الْآيَةُ تُشْبِهُ قَوْله تَعَالَى {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا

ص: 395

لَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} فَإِنَّ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} فَفِي الْمَوْضِعَيْنِ: اشْتَرَطَ إذْنَهُ. فَهُنَاكَ ذَكَرَ " الْقَوْلَ الصَّوَابَ " وَهُنَا ذَكَرَ " أَنْ يَرْضَى قَوْلَهُ " وَمَنْ قَالَ الصَّوَابَ رَضِيَ اللَّهُ قَوْلَهُ. فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَرْضَى بِالصَّوَابِ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تِلْكَ الْآيَةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الشَّفَاعَةُ أَيْضًا كَمَا قَالَ ابْنُ السَّائِبِ: لَا يَمْلِكُونَ شَفَاعَةً إلَّا بِإِذْنِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَقْدِرُ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يُكَلِّمُوا الرَّبَّ إلَّا بِإِذْنِهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} قَالَ: كَلَامًا. هَذَا مِنْ تَفْسِيرِهِ الثَّابِتِ عَنْهُ. وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ - أَوْ أَعْلَمُ - التَّابِعِينَ بِالتَّفْسِيرِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ. وَقَالَ: عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا. وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَالْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَهَذَا يَتَنَاوَلُ " الشَّفَاعَةَ " أَيْضًا.

ص: 396

وَفِي قَوْلِهِ {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} لَمْ يَذْكُرْ اسْتِثْنَاءً. فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ خِطَابًا مُطْلَقًا. إذْ الْمَخْلُوقُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا يُشَارِكُ فِيهِ الْخَالِقُ كَمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} أَنَّ هَذَا عَامٌّ مُطْلَقٌ. فَإِنَّ أَحَدًا - مِمَّنْ يَدَّعِي مِنْ دُونِهِ - لَا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ بِحَالِ. وَلَكِنَّ اللَّهَ إذَا أَذِنَ لَهُمْ شَفَعُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَؤُلَاءِ هُمْ الْكُفَّارُ. لَا يَمْلِكُونَ مُخَاطَبَةَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ {لَا يَمْلِكُونَ} الضَّمِيرُ لِلْكُفَّارِ. أَيْ لَا يَمْلِكُونَ - مِنْ إفْضَالِهِ وَإِكْمَالِهِ - أَنْ يُخَاطِبُوهُ بِمَعْذِرَةِ وَلَا غَيْرِهَا. وَهَذَا مُبْتَدِعٌ. وَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ. وَالصَّحِيحُ: قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَالسَّلَفِ: أَنَّ هَذَا عَامٌّ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إلَّا هَمْسًا} وَفِي حَدِيثِ التَّجَلِّي الَّذِي فِي الصَّحِيحِ - لَمَّا ذَكَرَ مُرُورَهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ - قَالَ صلى الله عليه وسلم {وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إلَّا الرُّسُلُ وَدَعْوَى الرُّسُلِ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ} فَهَذَا فِي وَقْتِ الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ. وَهُوَ بَعْدَ الْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ. فَكَيْفَ بِمَا قَبْلَ ذَلِكَ؟ .

ص: 397

وَقَدْ طُلِبَتْ الشَّفَاعَةُ مِنْ أَكَابِرِ الرُّسُلِ وَأُولِي الْعَزْمِ وَكُلٌّ يَقُولُ " إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ. وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. وَإِنِّي فَعَلْت كَذَا وَكَذَا نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي " فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يَتَقَدَّمُونَ إلَى مُخَاطَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالشَّفَاعَةِ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ؟ . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُتَّقِينَ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْكَافِرِينَ. فَقَالَ {إنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} {وَكَأْسًا دِهَاقًا} {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} ثُمَّ قَالَ {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} فَقَدْ أَخْبَرَ: أَنَّ " الرُّوحَ وَالْمَلَائِكَةَ " يَقُومُونَ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ. وَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ قَوْلِهِ {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} وَالْعَرَبُ تَقُولُ: مَا أَمْلِكُ مِنْ أَمْرِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا أَيْ لَا أَقْدِرُ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى شَيْءٍ. وَغَايَةُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمْرِ غَيْرِهِ: خِطَابُهُ وَلَوْ بِالسُّؤَالِ. فَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَلَا الْخِطَابَ. فَإِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا. قَالَ تَعَالَى {إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ

ص: 398

اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} فَقَدْ أَخْبَرَ الْخَلِيلُ: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِأَبِيهِ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. فَكَيْفَ غَيْرُهُ؟ .

وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} قَالَ: حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمَلًا بِهِ. رَوَاهُ - وَاَلَّذِي قَبْلَهُ - عَبْدُ بْنُ حميد. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ {وَقَالَ صَوَابًا} قَالَ: الصَّوَابُ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَعَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: يَكُونُ الْمُسْتَثْنَى: مَنْ أَتَى بِالْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ طَه {لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} فَإِذَا جَعَلْت هَذِهِ مِثْلَ تِلْكَ: فَتَكُونُ الشَّفَاعَةُ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمُطْلَقَةُ. وَهِيَ الشَّفَاعَةُ فِي الْحَسَنَاتِ وَفِي دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ {أَنَّ النَّاسَ يَهْتَمُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَيَقُولُونَ: لَوْ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَقَامِنَا هَذَا؟} فَهَذَا طَلَبُ الشَّفَاعَةِ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمْ. وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ {أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِك مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَابِ الْأَيْمَنِ} فَهَذِهِ شَفَاعَةٌ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ

ص: 399

هَاتَيْنِ الشَّفَاعَتَيْنِ مُخْتَصَّتَانِ بِمُحَمَّدِ صلى الله عليه وسلم. وَيَشْفَعُ غَيْرُهُ فِي الْعُصَاةِ. فَقَوْلُهُ {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} يَدْخُلُ فِيهَا الشَّفَاعَةُ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ عُمُومًا وَفِي أَهْلِ الْجَنَّةِ وَفِي الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعَذَابِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ وَتِلْكَ: لَمْ يَذْكُرْ الْعَمَلَ. إنَّمَا قَالَ {وَقَالَ صَوَابًا} وَقَالَ {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} لَكِنْ قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ " الْقَوْلَ الصَّوَابَ الْمَرَضِيَّ " لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ مَحْمُودًا إلَّا مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لَكِنَّ نَفْسَ الْقَوْلِ مَرْضِيٌّ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} .

وَقَدْ ذَكَرَ البغوي وَأَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمَا فِي قَوْلِهِ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قَوْلَيْنِ. أَحَدَهُمَا: أَنَّ الْمُسْتَثْنَى هُوَ الشَّافِعُ. وَمَحَلُّ " مَنْ " الرَّفْعُ. وَالثَّانِيَ: هُوَ الْمَشْفُوعُ لَهُ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: فِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بـ {الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} آلِهَتَهُمْ. ثُمَّ اسْتَثْنَى عِيسَى وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ. فَقَالَ {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بِقُلُوبِهِمْ مَا شَهِدُوا بِهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ. قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ قتادة.

ص: 400

وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بـ {الَّذِينَ يَدْعُونَ} عِيسَى وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ عَبَدَهُمْ الْمُشْرِكُونَ لَا يَمْلِكُ هَؤُلَاءِ الشَّفَاعَةُ لِأَحَدِ {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} وَهِيَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ عِيسَى وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ. وَهَذَا مَذْهَبُ قَوْمٍ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ البغوي {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} هُمْ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ. فَإِنَّهُمْ عُبِدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَلَهُمْ الشَّفَاعَةُ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ " مَنْ " فِي مَحَلِّ رَفْعٍ. وَقِيلَ " مَنْ " فِي مَحَلِّ خَفْضٍ. وَأَرَادَ بِاَلَّذِينَ يَدْعُونَ: عِيسَى وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ. يَعْنِي: أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إلَّا لِمَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ. قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قُلْت: قَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ قَوْلَ مُجَاهِدٍ وقتادة مِنْهُمْ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. رَوَى بِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ - عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ - عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ يَقُولُ: لَا يَشْفَعُ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} يَعْلَمُ الْحَقَّ. هَذَا لَفْظُهُ. جَعَلَ " شَفَعَ " مُتَعَدِّيًا بِنَفَسِهِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ. . . (1)

وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَنْصُوبًا لَا يَكُونُ مَخْفُوضًا كَمَا قَالَهُ البغوي؛

(1)

بياض بالأصل

ص: 401

فَإِنَّ الْحَرْفَ الْخَافِضَ إذَا حُذِفَ انْتَصَبَ الِاسْمُ. وَيَكُونُ عَلَى هَذَا يُقَالُ: شَفَعْته وَشَفَعْت لَهُ كَمَا يُقَالُ: نَصَحْته وَنَصَحْت لَهُ. و " شَفَعَ " أَيْ صَارَ شَفِيعًا لِلطَّالِبِ. أَيْ لَا يَشْفَعُونَ طَالِبًا وَلَا يُعِينُونَ طَالِبًا {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ قتادة {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} الْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى وَعُزَيْرٌ. أَيْ أَنَّهُمْ قَدْ عُبِدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَهُمْ شَفَاعَةٌ عِنْدَ اللَّهِ وَمَنْزِلَةٌ. قُلْت: كِلَا الْقَوْلَيْنِ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ. لَكِنَّ التَّحْقِيقَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ. وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ الشَّفَاعَةَ مُطْلَقًا. لَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ عِنْدَ اللَّهِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ. وَلَا قَالَ: لَا يَشْفَعُ لِأَحَدِ بَلْ قَالَ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} وَكُلُّ مَنْ دُعِيَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ أَلْبَتَّةَ. وَالشَّفَاعَةُ بِإِذْنِ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِمَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ وَسَيِّدُ الشُّفَعَاءِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُعْبَدْ كَمَا عُبِدَ الْمَسِيحُ. وَهُوَ - مَعَ هَذَا - لَهُ شَفَاعَةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ. فَلَا يَحْسُنُ أَنْ تَثْبُتَ الشَّفَاعَةُ لِمَنْ دُعِيَ مِنْ دُونِ اللَّهِ دُونَ مَنْ لَمْ يُدْعَ.

ص: 402

فَمَنْ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا فَإِنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّ مَنْ دُعِيَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِالْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَشْفَعُ إلَّا لِمَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ. وَيَبْقَى الَّذِينَ لَمْ يُدْعَوْا مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمْ تَذْكَرْ شَفَاعَتُهُمْ لِأَحَدِ. وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَلِيقُ بِالْقُرْآنِ وَلَا يُنَاسِبُهُ. وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ يُبْطِلُهُ أَيْضًا. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِهِ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَصْنَامُ. فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: هُمْ يَشْفَعُونَ لَنَا. قَالَ تَعَالَى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} . فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ اسْتَثْنَى الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ كَانَ فِي هَذَا إطْمَاعٌ لِمَنْ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَعْبُودِيهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَشْفَعُونَ لَهُمْ. وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ فَسَادَ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ عَنْ قتادة. فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ الْمَعْبُودِينَ لَا يَشْفَعُونَ إلَّا إذَا كَانُوا مَلَائِكَةً أَوْ أَنْبِيَاءَ كَانَ فِي هَذَا إثْبَاتُ شَفَاعَةِ الْمَعْبُودِينَ لِمَنْ عَبَدُوهُمْ إذَا كَانُوا

ص: 403

صَالِحِينَ. وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ يُبْطِلُ هَذَا الْمَعْنَى. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وَقَالَ تَعَالَى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنْ ارْتَضَى الرَّبُّ. فَعُلِمَ: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ فِيمَنْ يَشْفَعُونَ فِيهِ وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ إذْنٌ مُطْلَقٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ: إذَا نَفَى الشَّفَاعَةَ مِنْ دُونِهِ: نَفَاهَا مُطْلَقًا. فَإِنَّ قَوْلَهُ {مِنْ دُونِهِ} إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ يَمْلِكُونَ أَوْ بِقَوْلِهِ يَدْعُونَ أَوْ بِهِمَا. فَالتَّقْدِيرُ: لَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ الشَّفَاعَةَ مِنْ دُونِهِ. أَوْ لَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِهِ أَنْ يَشْفَعُوا. وَهَذَا أَظْهَرُ. لِأَنَّهُ قَالَ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} فَأَخَّرَ " الشَّفَاعَةَ " وَقَدَّمَ " مِنْ دُونِهِ ". وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ويَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} وَقَوْلِهِ {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} . بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ: لَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ الشَّفَاعَةَ مِنْ دُونِهِ.

ص: 404

فَإِنَّ هَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ. وَاللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُقَالَ: لَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ الشَّفَاعَةَ إلَّا بِإِذْنِهِ أَوْ لِمَنْ ارْتَضَى وَنَحْوَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي هَذَا الْمَعْنَى " مِنْ دُونِهِ " فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ هِيَ مِنْ عِنْدِهِ. فَكَيْفَ تَكُونُ مِنْ دُونِهِ؛ لَكِنْ قَدْ تَكُونُ بِإِذْنِهِ وَقَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَأَيْضًا فَإِذَا قِيلَ {الَّذِينَ يَدْعُونَ} مُطْلَقًا. دَخَلَ فِيهِ الرَّبُّ تَعَالَى. فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَدْعُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ. وَلِهَذَا قَالَ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ} . وَالتَّقْدِيرُ الثَّالِثُ: لَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ مِنْ دُونِهِ وَهَذَا أَجْوَدُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ. لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ مَا يُرَدُّ عَلَى الْأَوَّلِ. وَمِمَّا يُضْعِفُهُمَا: " أَنَّ الشَّفَاعَةَ " لَمْ تُذْكَرْ بَعْدَهَا صِلَةٌ لَهَا. بَلْ قَالَ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} فَنَفَى مُلْكَهُمْ الشَّفَاعَةَ مُطْلَقًا. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَأَنَّ كُلَّ مَنْ دُعِيَ مِنْ دُونِ اللَّهِ: لَا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ. فَإِنَّ الْمَالِكَ لِلشَّيْءِ: هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ. فَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ الشَّفَاعَةَ بِحَالِ. وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا " إلَّا بِإِذْنِهِ " إنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْفِعْلِ. فَيُقَالُ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} .

ص: 405

وَأَمَّا فِي الْمُلْكِ: فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَالِكًا لَهَا. فَلَا يَمْلِكُ مَخْلُوقٌ الشَّفَاعَةَ بِحَالِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ نَبِيٌّ فَمَنْ دُونِهِ مَالِكًا لَهَا. بَلْ هَذَا مُمْتَنِعٌ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا وَرَبًّا. وَهَذَا كَمَا قَالَ {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} فَنَفَى الْمُلْكَ مُطْلَقًا. ثُمَّ قَالَ {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فَنَفَى نَفْعَ الشَّفَاعَةِ إلَّا لِمَنْ اسْتَثْنَاهُ. لَمْ يُثْبِتْ أَنَّ مَخْلُوقًا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ. بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ. لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْمُلْكِ قَالَ تَعَالَى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} . وَلِهَذَا - لَمَّا نَفَى الشُّفَعَاءَ مِنْ دُونِهِ - نَفَاهُمْ نَفْيًا مُطْلَقًا بِغَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ. وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاسْتِثْنَاءُ: إذَا لَمْ يُقَيِّدْهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ دُونِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} فَلَمَّا قَالَ " مِنْ دُونِهِ " نَفَى الشَّفَاعَةَ مُطْلَقًا. وَإِذَا ذَكَرَ " بِإِذْنِهِ " لَمْ يَقُلْ " مِنْ دُونِهِ " كَقَوْلِهِ {مَنْ

ص: 406

ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَوْلِهِ {مَا مِنْ شَفِيعٍ إلَّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ} .

فَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ: تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا. لَيْسَ بِمُخْتَلِفِ وَلَا بِمُتَنَاقِضِ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . وَهُوَ " مَثَانِيَ " يُثَنِّي اللَّهُ فِيهِ الْأَقْسَامَ. وَيَسْتَوْفِيَهَا. وَالْحَقَائِقُ: إمَّا مُتَمَاثِلَةٌ. وَهِيَ " الْمُتَشَابِهُ " وَإِمَّا مُمَاثِلَةٌ. وَهِيَ: الْأَصْنَافُ وَالْأَقْسَامُ وَالْأَنْوَاعُ. وَهِيَ " الْمَثَانِي ". و " التَّثْنِيَةُ " يُرَادُ بِهَا: جِنْسُ التَّعْدِيدِ مِنْ غَيْرِ اقْتِصَارٍ عَلَى اثْنَيْنِ فَقَطْ. كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} يُرَادُ بِهِ: مُطْلَقُ الْعَدَدِ كَمَا تَقُولُ: قُلْت لَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. تُرِيدُ: جِنْسَ الْعَدَدِ. وَتَقُولُ: هُوَ يَقُولُ كَذَا وَيَقُولُ كَذَا. وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ مَرَّاتٍ كَقَوْلِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنهما {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّهُ جَعَلَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي. رَبِّ اغْفِرْ لِي} لَمْ يُرِدْ: أَنَّ هَذَا قَالَهُ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ الغالطين. بَلْ يُرِيدُ: أَنَّهُ جَعَلَ يُثَنِّي هَذَا الْقَوْلَ وَيُرَدِّدَهُ وَيُكَرِّرَهُ كَمَا كَانَ يُثَنِّي لَفْظَ التَّسْبِيحِ.

ص: 407

وَقَدْ قَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ {إنَّهُ رَكَعَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَذَكَرَ أَنَّهُ سَجَدَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي. رَبِّ اغْفِرْ لِي} . وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {أَنَّهُ أَطَالَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ بِقَدْرِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانَ} فَإِنَّهُ قَامَ بِهَذِهِ السُّوَرِ كُلِّهَا. وَذَكَرَ {أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى} . فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِتَثْنِيَةِ اللَّفْظِ: جِنْسَ التَّعْدَادِ وَالتَّكْرَارِ لَا الِاقْتِصَارَ عَلَى مَرَّتَيْنِ. فَإِنَّ " الِاثْنَيْنِ " أَوَّلُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ. فَذَكَرَ أَوَّلَ الْأَعْدَادِ يَعْنِي أَنَّهُ عَدَّدَ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. فَالتَّثْنِيَةُ التَّعْدِيدُ. وَالتَّعْدِيدُ يَكُونُ لِلْأَقْسَامِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَ‌

‌لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَكْرَارٌ مَحْضٌ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ فَوَائِدَ فِي كُلِّ خِطَابٍ.

فـ " الْمُتَشَابِهُ " فِي النَّظَائِرِ الْمُتَمَاثِلَةِ. و " الْمَثَانِي " فِي الْأَنْوَاعِ. وَتَكُونُ التَّثْنِيَةُ فِي الْمُتَشَابِهِ أَيْ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ ثُنِّيَ فِي الْقُرْآنِ لِفَوَائِدَ أُخَرَ.

ص: 408

فـ " الْمَثَانِي " تَعُمُّ هَذَا وَهَذَا. وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ: هِيَ " السَّبْعُ الْمَثَانِي " لِتَضَمُّنِهَا هَذَا وَهَذَا. وَبَسْطٌ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ قَوْلَهُ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} قَدْ تَمَّ الْكَلَامُ هُنَا. فَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ الْمَعْبُودِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الشَّفَاعَةَ أَلْبَتَّةَ. ثُمَّ اسْتَثْنَى {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. وَالْمُنْقَطِعُ يَكُونُ فِي الْمَعْنَى الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ الْمَذْكُورِينَ. فَلَمَّا نَفَى مُلْكَهُمْ الشَّفَاعَةَ بَقِيَتْ الشَّفَاعَةُ بِلَا مَالِكٍ لَهَا. كَأَنَّهُ قَدْ قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يَمْلِكُوهَا هَلْ يَشْفَعُونَ فِي أَحَدٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ {مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الشَّافِعَ وَالْمَشْفُوعَ لَهُ. فَلَا يَشْفَعُ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. فَالْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ - وَإِنْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ - لَكِنْ إذَا أَذِنَ الرَّبُّ لَهُمْ شَفَعُوا. وَهُمْ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ إلَّا فِي الشَّفَاعَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَيَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. لَا يَشْفَعُونَ لِمَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَقْلِيدًا لِلْآبَاءِ وَالشُّيُوخِ. كَمَا جَاءَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: {إنَّ الرَّجُلَ يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ؟ مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى. وَأَمَّا الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ: هاه هاه لَا أَدْرِي. سَمِعْت

ص: 409

النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته} فَلِهَذَا قَالَ {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي مَنْ قَالَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " يَعْنِي: خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ.

وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْوَارِدَةُ فِي الشَّفَاعَةِ كُلُّهَا تُبَيِّنُ: أَنَّ الشَّفَاعَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي أَهْلِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ". وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. {أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِك يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ لَقَدْ ظَنَنْت أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلَ مِنْك لِمَا رَأَيْت مِنْ حِرْصِك عَلَى الْحَدِيثِ. أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ} . فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُخْلِصَ لَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ: هُوَ أَسْعَدُ بِشَفَاعَتِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَقُولُهَا بِلِسَانِهِ وَتُكَذِّبُهَا أَقْوَالُهُ وَأَعْمَالُهُ.

فَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ شَهِدُوا بِالْحَقِّ شَهِدُوا " أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " كَمَا شَهِدَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ وَمَلَائِكَتُهُ وَأُولُو الْعِلْمِ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا

ص: 410

هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . فَإِذَا شَهِدُوا - وَهُمْ يَعْلَمُونَ - كَانُوا مِنْ أَهْلِ الشَّفَاعَةِ شَافِعِينَ وَمَشْفُوعًا لَهُمْ. فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَهْلَ التَّوْحِيدِ يَشْفَعُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: - فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ حَدِيثِ التَّجَلِّي وَالشَّفَاعَةِ - {حَتَّى إذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ. فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّارِ. يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ. فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ} - وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ ". وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةَ - عَلَى مَا ذَكَرُوهُ - مُؤَيِّدٌ لِمَا ذَكَرَهُ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: سَبَبُ نُزُولِهَا: أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَنَفَرًا مَعَهُ قَالُوا " إنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا. فَنَحْنُ نَتَوَلَّى الْمَلَائِكَةَ. فَهُمْ أَحَقُّ بِالشَّفَاعَةِ مِنْ مُحَمَّدٍ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ " قَالَهُ مُقَاتِلٌ.

ص: 411

وَعَلَى هَذَا: فَيُقْصَدُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ. فَلَيْسَ تَوَلِّيكُمْ إيَّاهُمْ وَاسْتِشْفَاعُكُمْ بِهِمْ: بِاَلَّذِي يُوجِبُ أَنْ يَشْفَعُوا لَكُمْ. فَإِنَّ أَحَدًا مِمَّنْ يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ. وَلَكِنْ {مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فَإِنَّ اللَّهَ يَشْفَعُ فِيهِ. فَاَلَّذِي تُنَالُ بِهِ الشَّفَاعَةُ: هِيَ الشَّهَادَةُ بِالْحَقِّ. وَهِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. لَا تُنَالُ بِتَوَلِّي غَيْرِ اللَّهِ. لَا الْمَلَائِكَةِ وَلَا الْأَنْبِيَاءِ وَلَا الصَّالِحِينَ. فَمَنْ وَالَى أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَدَعَاهُ وَحَجَّ إلَى قَبْرِهِ أَوْ مَوْضِعِهِ وَنَذَرَ لَهُ وَحَلَفَ بِهِ وَقَرَّبَ لَهُ الْقَرَابِينَ لِيَشْفَعَ لَهُ: لَمْ يُغْنِ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا. وَكَانَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ شَفَاعَتِهِ وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ. فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ إنَّمَا تَكُونُ: لِأَهْلِ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِ الْقَلْبِ وَالدِّينِ لَهُ. وَمَنْ تَوَلَّى أَحَدًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ. فَهَذَا الْقَوْلُ وَالْعِبَادَةُ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ الشَّفَاعَةَ: يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الشَّفَاعَةَ. فَاَلَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ - لِيَشْفَعُوا لَهُمْ - كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ إيَّاهُمْ وَإِشْرَاكُهُمْ بِرَبِّهِمْ الَّذِي بِهِ طَلَبُوا شَفَاعَتَهُمْ: بِهِ حُرِمُوا شَفَاعَتَهُمْ وَعُوقِبُوا بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ. لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ: يَظُنُّ أَنَّ الشَّفَاعَةَ

ص: 412

تُنَالُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا شِرْك أَوْ هِيَ شِرْكٌ خَالِصٌ كَمَا ظَنَّ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ الْأَوَّلُونَ. وَكَمَا يَظُنُّهُ النَّصَارَى وَمَنْ ضَلَّ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ. الَّذِينَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَحُجُّونَ إلَى قَبْرِهِ أَوْ مَكَانِهِ وَيُنْذِرُونَ لَهُ وَيَحْلِفُونَ بِهِ. وَيَظُنُّونَ: أَنَّهُ بِهَذَا يَصِيرُ شَفِيعًا لَهُمْ. قَالَ تَعَالَى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ أَقْوَامٌ يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ وَالْعُزَيْرَ وَالْمَلَائِكَةَ فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ وَلَا تَحْوِيلَهُ. كَمَا بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ. وَهَذَا لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُجِيبُ دُعَاءَهُمْ ثُمَّ قَالَ {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَزْعُومِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَانُوا يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَسَائِرِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .

وَلِلنَّاسِ فِي الشَّفَاعَةِ أَنْوَاعٌ مِنْ الضَّلَالِ قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

ص: 413

فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ: يَظُنُّ أَنَّ الشَّفَاعَةَ هِيَ بِسَبَبِ اتِّصَالِ رُوحِ الشَّافِعِ بِرُوحِ الْمَشْفُوعِ لَهُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ. وَيَقُولُونَ: مَنْ كَانَ أَكْثَرَ صَلَاةٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَحَقَّ بِالشَّفَاعَةِ مِنْ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ أَحْسَنَ ظَنًّا بِشَخْصِ وَأَكْثَرَ تَعْظِيمًا لَهُ: كَانَ أَحَقَّ بِشَفَاعَتِهِ. وَهَذَا غَلَطٌ. بَلْ هَذَا هُوَ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: نَتَوَلَّى الْمَلَائِكَةَ لِيَشْفَعُوا لَنَا. يَظُنُّونَ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ أَحَدًا - مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَتَوَلَّاهُ - كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِشَفَاعَتِهِ لَهُ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. بَلْ الشَّفَاعَةُ: سَبَبُهَا تَوْحِيدُ اللَّهِ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ وَالْعِبَادَةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا لَهُ فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ إخْلَاصًا كَانَ أَحَقَّ بِالشَّفَاعَةِ كَمَا أَنَّهُ أَحَقُّ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ. فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ: مِنْ اللَّهِ مَبْدَؤُهَا وَعَلَى اللَّهِ تَمَامُهَا فَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَهُوَ الَّذِي يَأْذَنُ لِلشَّافِعِ. وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ شَفَاعَتَهُ فِي الْمَشْفُوعِ لَهُ. وَإِنَّمَا الشَّفَاعَةُ سَبَبٌ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ يَرْحَمُ مِنْ عِبَادِهِ. وَأَحَقُّ النَّاسِ بِرَحْمَتِهِ: هُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَكْمَلَ فِي تَحْقِيقِ إخْلَاصِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " عِلْمًا وَعَقِيدَةً وَعَمَلًا وَبَرَاءَةً وَمُوَالَاةً وَمُعَادَاةً: كَانَ أَحَقَّ بِالرَّحْمَةِ.

ص: 414

وَالْمُذْنِبُونَ - الَّذِينَ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ فَخَفَّتْ مَوَازِينُهُمْ فَاسْتَحَقُّوا النَّارَ -: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَإِنَّ النَّارَ تُصِيبُهُ بِذُنُوبِهِ. وَيُمِيتُهُ اللَّهُ فِي النَّارِ إمَاتَةً. فَتُحَرِّقُهُ النَّارُ إلَّا مَوْضِعَ السُّجُودِ. ثُمَّ يُخْرِجُهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ. وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. فَبَيَّنَ أَنَّ مَدَارَ الْأَمْرِ كُلِّهِ: عَلَى تَحْقِيقِ كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَهِيَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " لَا عَلَى الشِّرْكِ بِالتَّعَلُّقِ بِالْمَوْتَى وَعِبَادَتِهِمْ كَمَا ظَنَّهُ الْجَاهِلِيُّونَ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْحَمْدِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الشُّكْرِ وَبَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَيَقُولُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ. أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ - وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ -: لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت. وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت. وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ. اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ} كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ

ص: 415

مِنْ الرُّكُوعِ - قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ. أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ - وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ - لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت. وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ} . وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ - قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ. اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ. اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْوَسَخِ} . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ وَقَالَ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا} . وَلَمْ يَذْكُرْ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. لِأَنَّ " السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ " قَدْ يُرَادُ بِهِمَا: الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ مُطْلَقًا. فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْهَوَاءُ وَغَيْرُهُ. فَإِنَّهُ عَالٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا تَحْتَهُ وَسَافِلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فَوْقَهُ. فَقَدْ يَجْعَلُ مِنْ السَّمَاءِ. كَمَا يَجْعَلُ السَّحَابَ سَمَاءً وَالسَّقْفَ سَمَاءً. وَكَذَا قَالَ فِي الْقُرْآنِ {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}

ص: 416

وَلَمْ يَقُلْ " وَمَا بَيْنَهُمَا " كَمَا يَقُولُ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} . فَتَارَةً يَذْكُرُ قَوْلَهُ وَمَا بَيْنَهُمَا فِيمَا خَلَقَهُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. وَتَارَةً لَا يَذْكُرُهُ. وَهُوَ مُرَادٌ. فَإِنْ ذَكَرَهُ كَانَ إيضَاحًا وَبَيَانًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ دَخَلَ فِي لَفْظِ " السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ " وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَارَةً يَقُولُ {مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ} وَلَا يَقُولُ " وَمَا بَيْنَهُمَا " وَتَارَةً يَقُولُ " وَمَا بَيْنَهُمَا " وَفِيهَا كُلُّهَا {وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ} وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ {أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ} إلَى آخِرِهِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى " الدُّعَاءُ بِالطَّهَارَةِ مِنْ الذُّنُوبِ ". فَفِي هَذَا الْحَمْدِ رَأْسُ الشُّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ. فَإِنَّ رَبَّنَا غَفُورٌ شَكُورٌ. فَالْحَمْدُ بِإِزَاءِ النِّعْمَةِ. وَالِاسْتِغْفَارُ: بِإِزَاءِ الذُّنُوبِ. وَذَلِكَ تَصْدِيقُ قَوْله تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} . فَفِي {سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي} وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ {الْحَمْدُ رَأْسُ الشُّكْرِ وَالتَّوْحِيدِ} كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي

ص: 417

أُمِّ الْقُرْآنِ. فَأَوَّلُهَا تَحْمِيدٌ وَأَوْسَطُهَا: تَوْحِيدٌ وَآخِرُهَا: دُعَاءٌ. وَكَمَا فِي قَوْلِهِ {هُوَ الْحَيُّ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَفِي حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ {أَفْضَلُ مَا قُلْت. أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ. وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. مَنْ قَالَهَا: كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ حَسَنَةٍ. وَحَطَّ عَنْهُ أَلْفَ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ. وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلَّا رَجُلٌ قَالَ مِثْلَهَا أَوْ زَادَ عَلَيْهِ. وَمَنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ} . وَفَضَائِلُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ: وَفِيهَا: التَّوْحِيدُ وَالتَّحْمِيدُ. فَقَوْلُهُ {لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ} تَوْحِيدٌ. وَقَوْلُهُ {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} تَحْمِيدٌ. وَفِيهَا مَعَانٍ أُخْرَى شَرِيفَةٌ. وَقَدْ جَاءَ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّحْمِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي مَوَاضِعَ مِثْلِ حَدِيثِ كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ {سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك. أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك} فِيهِ: التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ

ص: 418

وَالتَّوْحِيدُ وَالِاسْتِغْفَارُ. مَنْ قَالَهَا فِي مَجْلِسٍ إنْ كَانَ مَجْلِسَ لَغَطٍ كَانَتْ كَفَّارَةً لَهُ وَإِنْ كَانَ مَجْلِسَ ذِكْرٍ: كَانَتْ كَالطَّابَعِ لَهُ. وَفِي حَدِيثٍ أَيْضًا " إنَّ هَذَا يُقَالُ عَقِبَ الْوُضُوءِ ". فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ. يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ يَقُولُ {سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك} . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ فِي الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَلَقَّاهَا آدَمَ مِنْ رَبِّهِ نَحْوَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ " اللَّهُمَّ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك. رَبِّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي. إنَّك خَيْرُ الْغَافِرِينَ. اللَّهُمَّ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك. رَبِّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَارْحَمْنِي. فَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك. رَبِّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ. إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ".

ص: 419

فَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ مِنْ جِنْسِ خَاتِمَةِ الْوُضُوءِ. وَخَاتِمَةُ الْوُضُوءِ: فِيهَا التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّوْحِيدُ وَالِاسْتِغْفَارُ. فَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّوْحِيدُ لِلَّهِ. فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا هُوَ. وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْ ذُنُوبِ النَّفْسِ الَّتِي مِنْهَا تَأْتِي السَّيِّئَاتُ. وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَفِي قَوْلِهِ {أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ} وَفِي قَوْلِهِ {قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} . وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَغَيْرِهِ {يَقُولُ الشَّيْطَانُ: أَهَلَكْت النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِالِاسْتِغْفَارِ وَبِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ بَثَثْت فِيهِمْ الْأَهْوَاءَ. فَهُمْ يُذْنِبُونَ وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ. لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} . و " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " تَقْتَضِي الْإِخْلَاصَ وَالتَّوَكُّلَ. وَالْإِخْلَاصُ يَقْتَضِي الشُّكْرَ. فَهِيَ أَفْضَلُ الْكَلَامِ. وَهِيَ أَعْلَى شُعَبِ الْإِيمَانِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ {الْإِيمَانُ بِضْعٌ

ص: 420

وَسِتُّونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - شُعْبَةً. أَعْلَاهَا: قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَأَدْنَاهَا: إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} . ف " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " هِيَ قُطْبُ رَحَى الْإِيمَانِ وَإِلَيْهَا يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ. وَالْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ: مَجْمُوعَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَهِيَ مَعْنَى " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " و " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " هِيَ مِنْ مَعْنَى " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " و " الْحَمْدُ لِلَّهِ " فِي مَعْنَاهَا و " سُبْحَانَ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " مِنْ مَعْنَاهَا. لَكِنْ فِيهَا تَفْصِيلٌ بَعْدَ إجْمَالٍ.

فَصْلٌ:

وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ {فَمِنْ نَفْسِكَ} أَيْ أَفَمِنْ نَفْسك؟ وَأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَمَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ كُلَّهَا مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ نَفْسِك. وَهَذَا الْقَوْلُ يُبَايِنُ مَعْنَى الْآيَةِ. فَإِنَّ الْآيَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ السَّيِّئَاتِ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ. أَيْ بِذُنُوبِهِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَيْسَتْ السَّيِّئَاتُ مِنْ نَفْسِهِ.

ص: 421

وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ: أَبُو بَكْرِ بْنُ فورك. فَإِنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ: أَفَمِنْ نَفْسِك؟ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

ثُمَّ قَالُوا: تُحِبُّهَا؟ قُلْت: بَهْرًا

عَدَدَ الرَّمْلِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ

قُلْت: وَإِضْمَارُ الِاسْتِفْهَامِ - إذَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ - لَا يَقْتَضِي جَوَازَ إضْمَارِهِ فِي الْخَبَرِ الْمَخْصُوصِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ. فَإِنَّ هَذَا يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ. وَيَسْتَلْزِمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ يُقَدِّرُ أَنْ يَنْفِيَهُ بِأَنْ يُقَدِّرَ فِي خَبَرِهِ اسْتِفْهَامًا. وَيَجْعَلَهُ اسْتِفْهَامَ إنْكَارٍ. وَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ نَظِيرُ مَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام " هَذَا رَبِّي " أَهَذَا رَبِّي؟ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هَذَا الْقَوْلُ شَاذٌّ. لِأَنَّ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ لَا يُضْمَرُ إذَا كَانَ فَارِقًا بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَالِاسْتِخْبَارِ. وَهَؤُلَاءِ اسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِهِ {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} . وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ. لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِفْهَامُ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ فِي الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ ثَانِيَةً. بَلْ ذِكْرُهُ يُفْسِدُ الْكَلَامَ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ

ص: 422

انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} وَقَوْلُهُ {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} وَقَوْلُهُ {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} وَهَذَا مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَبَلِيغِهِ. وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِهِ:

لَعُمْرَك لَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْت دَارِيًا

بِسَبْعِ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانٍ؟

وَقَوْلِهِ: كَذَبَتْك عَيْنُك أَمْ رَأَيْت بِوَاسِطِ

غَلَسَ الظَّلَامِ مِنْ الرَّبَابِ خَيَالَا؟

تَقْدِيرُهُ: أَكَذَبَتْك عَيْنُك؟ . وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ. لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا بَعْدُ " أَمْ بِثَمَانٍ " و " أَمْ رَأَيْت " يَدُلُّ عَلَى الْأَلِفِ الْمَحْذُوفَةِ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنْ كَانَتْ " أَمْ " هِيَ الْمُتَّصِلَةُ فَكَذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُنْفَصِلَةُ. فَالْخَبَرُ عَلَى بَابِهِ. وَهَؤُلَاءِ مَقْصُودُهُمْ: أَنَّ النَّفْسَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي وُجُودِ السَّيِّئَاتِ.

ص: 423

وَلَيْسَتْ سَبَبًا فِيهَا. بَلْ قَدْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَعَاصِيَ عَلَامَةٌ مَحْضَةٌ عَلَى الْعُقُوبَةِ لِاقْتِرَانِهَا بِهَا. لَا أَنَّهَا سَبَبٌ لَهَا. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَلِلْعَقْلِ. وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْلِكْ أَحَدًا وَلَمْ يُعَذِّبْهُ إلَّا بِذَنْبِ. فَقَالَ هُنَا {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَقَالَ لَهُمْ فِي شَأْنِ أُحُدٍ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّورَى أَيْضًا {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} . وقال تَعَالَى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَلَمِ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ ضَرَبَ بِهِمْ الْمَثَلَ لَمَّا أَهْلَكَهَا بِذَلِكَ

ص: 424

الْعَذَابِ {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . وقال تَعَالَى عَنْ أَهْلِ سَبَأٍ {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} - إلَى قَوْلِهِ - {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إلَّا الْكَفُورَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ {يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا. فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا: فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ. وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ: فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} . وَفِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ {أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ وَعَنْ التَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.

ص: 425

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

فَصْلٌ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} فَنَفَى أَنْ يَكُونَ دِينٌ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الدِّينِ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ دِينَا أَحْسَنَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ وَهُوَ إنْكَارُ نَهْيٍ وَذَمٍّ لِمَنْ جَعَلَ دِينًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا. قَالَ قتادة وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمَا: إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ وَنَحْنُ أَوْلَى بِاَللَّهِ مِنْكُمْ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَوْلَى بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْكُمْ وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} الْآيَةَ.

ص: 426

وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَحْنُ وَأَنْتُمْ سَوَاءٌ حَتَّى نَزَلَتْ {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الْآيَةَ. وَنَزَلَتْ فِيهِمْ أَيْضًا {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٌ قَالَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: لَا نُبْعَثُ أَوْ لَا نُحَاسَبُ وَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ مِنْ الْأُمِّيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ الْعَذَابَ الدَّائِمَ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ فِي النَّقْلِ وَأَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَالْخِطَابُ فِيهَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ كَسَائِرِ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَفَاضَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَيَّنَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا مِنْ الْجَزَاءِ وَبِهَا يُجْزَى الْمُؤْمِنُ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَا مُجَرَّدَ الْكُفَّارِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ

ص: 427

أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ تَنَازُعًا فِي تَفْضِيلِ الْأَدْيَانِ لَا مُجَرَّدَ إنْكَارِ عُقُوبَةٍ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَيْضًا: فَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَوَابٌ لَهُمْ فَكَانَ الْمُخَاطَبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمُخَاطَبُ فِي بَقِيَّةِ الْآيَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ نَصٌّ فِي نَفْيِ دِينٍ أَحْسَنَ مِنْ دِينِ هَذَا الْمُسْلِمِ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ أَنَّهُ لَيْسَ دِينٌ مِثْلُهُ؟ فَإِنَّ الْأَقْسَامَ ثَلَاثَةٌ: إمَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ دِينٌ أَحْسَنَ مِنْهُ. أَوْ دُونَهُ أَوْ مِثْلَهُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِنْهُ فَمِنْ أَيْنَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ لَا دِينَ مِثْلَهُ؟ وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قِيلَ: لَوْ قُلْنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ: إنَّ الْآيَةَ لَمْ تَدُلَّ إلَّا عَلَى نَفْيِ الْأَحْسَنِ لَمْ يَضُرَّ هَذَا؛ فَإِنَّ الْخِطَابَ لَهُ مَقَامَاتٌ قَدْ يَكُونُ الْخِطَابُ تَارَةً بِإِثْبَاتِ صَلَاحِ الدِّينِ إذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ يَدَّعِي أَوْ يَظُنُّ فَسَادَهُ ثُمَّ فِي مَقَامٍ بِأَنْ يَقَعَ النِّزَاعُ فِي التَّفَاضُلِ فَيُبَيِّنُ أَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ أَفْضَلَ مِنْهُ. ثُمَّ فِي مَقَامٍ ثَالِثٍ يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ. وَهَكَذَا إذَا تَكَلَّمْنَا فِي أَمْرِ الرَّسُولِ فَفِي مَقَامٍ نُبَيِّنُ صِدْقَهُ وَصِحَّةَ رِسَالَتِهِ. وَفِي مَقَامٍ بِأَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَفِي مَقَامٍ ثَالِثٍ نُبَيِّنُ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ

ص: 428

آدَمَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ يَتَنَوَّعُ بِحَسَبِ حَالِ الْمُخَاطَبِ.

ثُمَّ نَقُولُ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ أَحْسَنُ وُجُوهٍ:

" أَحَدُهَا " أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ وَإِنْ كَانَتْ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِنَفْيِ الْأَفْضَلِ لِدُخُولِ النَّفْيِ عَلَى أَفْعَلَ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يُضْمَرُ بِعُرْفِ الْخِطَابِ يُفَضَّلُ - الْمَذْكُورُ الْمَجْرُورُ بِمَنْ مُفَضَّلًا عَلَيْهِ فِي الْإِثْبَاتِ فَإِنَّك إذَا قُلْت: هَذَا الدِّينُ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا كَانَ الْمَجْرُورُ بِمَنْ مُفَضَّلًا عَلَيْهِ وَالْأَوَّلُ مُفَضَّلًا فَإِذَا قُلْت لَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَوْ مِنْ أَحْسَنِ مِنْ هَذَا؟ أَوْ لَيْسَ فِيهِمْ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا أَوْ مَا عِنْدِي أَعْلَمُ مِنْ زَيْدٍ أَوْ مَا فِي الْقَوْمِ أَصْدَقُ مِنْ عَمْرٍو أَوْ مَا فِيهِمْ خَيْرٌ مِنْهُ فَإِنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُهُمْ وَأَعْلَمُهُمْ وَخَيْرُهُمْ؛ بَلْ قَدْ صَارَتْ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي نَفْيِ فَضْلِ الدَّاخِلِ فِي أَفْعَلِ وَتَفْضِيلُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْبَاقِينَ وَأَنَّهَا تَقْتَضِي نَفْيَ فَضْلِهِمْ وَإِثْبَاتَ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَضُمِّنَتْ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ كَأَنَّك قُلْت: مَا فِيهِمْ أَفْضَلُ إلَّا هَذَا أَوْ مَا فِيهِمْ الْمُفَضَّلُ إلَّا هَذَا كَمَا أَنَّ (إنْ) إذَا كُفَّتْ بِمَا النَّافِيَةِ صَارَتْ مُتَضَمِّنَةً لِلنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ. وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِخْرَاجِ مِنْ الْحُكْمِ فَإِنَّهُ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي مُنَاقَضَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ،

ص: 429

وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَاللَّفْظُ يَصِيرُ بِالِاسْتِعْمَالِ لَهُ مَعْنًى غَيْرَ مَا كَانَ يَقْتَضِيهِ أَصْلُ الْوَضْعِ. وَكَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ تَارَةً وَيَكُونُ فِي تَرْكِيبِ الْكَلَامِ أُخْرَى وَيَكُونُ فِي الْجُمَلِ الْمَنْقُولَةِ كَالْأَمْثَالِ السَّائِرَةِ جُمْلَةً فَيَتَغَيَّرُ الِاسْمُ الْمُفْرَدُ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ إمَّا بِالتَّعْمِيمِ وَإِمَّا بِالتَّخْصِيصِ وَإِمَّا بِالتَّحْوِيلِ؛ كَلَفْظِ الدَّابَّةِ وَالْغَائِطِ وَالرَّأْسِ. وَيَتَغَيَّرُ التَّرْكِيبُ بِالِاسْتِعْمَالِ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيهِ نَظَائِرُهُ كَمَا فِي زِيَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ فِي الْجُمَلِ السَّلْبِيَّةِ وَزِيَادَةِ النَّفْيِ فِي كَادَ وَبِنَقْلِ الْجُمْلَةِ عَنْ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ إلَى غَيْرِهِ كَالْجُمَلِ الْمُتَمَثِّلِ بِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: " يَدَاك أَوْكَتَا وَفُوك نَفَخَ " و " عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسَا ".

" الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا دِينَ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا فَالْغَيْرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ أَوْ دُونَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ الدِّينَ إذَا مَاثَلَ الدِّينَ وَسَاوَاهُ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ كَانَ هُوَ إيَّاهُ وَإِنْ تَعَدَّدَ الْغَيْرَ لَكِنَّ النَّوْعَ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ التَّمَاثُلُ وَالتَّسَاوِي بَيْنَ الدِّينَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فَإِنَّ اخْتِلَافَهُمَا يَمْنَعُ تَمَاثُلَهُمَا؛ إذْ الِاخْتِلَافُ ضِدُّ التَّمَاثُلِ فَكَيْفَ يَكُونَانِ مُخْتَلِفَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ؟ وَاخْتِلَافُهُمَا اخْتِلَافُ تَضَادٍّ لَا تَنَوُّعَ؛ فَإِنَّ أَحَدَ الدِّينَيْنِ يُعْتَقَدُ فِيهِ أُمُورٌ عَلَى أَنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ وَالْآخَرُ يَقُولُ إنَّهَا بَاطِلٌ مُحَرَّمٌ. فَمِنْ الْمُحَالِ اسْتِوَاءُ هَذَيْنِ الِاعْتِقَادَيْنِ.

ص: 430

وَكَذَلِكَ الِاقْتِصَادَانِ فَإِنَّ هَذَا يَقْصِدُ الْمَعْبُودَ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْمَقَاصِدِ وَالْأَعْمَالِ وَالْآخَرَ يَقْصِدُهُ بِمَا يُضَادُّ ذَلِكَ وَيُنَافِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ تَنَوُّعُ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَذَاهِبِهِمْ؛ فَإِنَّ دِينَهُمْ وَاحِدٌ كُلٌّ مِنْهُمْ يَعْتَقِدُ مَا يَعْتَقِدُهُ الْآخَرُ وَيَعْبُدُهُ بِالدِّينِ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَيُسَوِّغُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا تَنَازَعَ فِيهِ مِنْ الْفُرُوعِ فَلَمْ يَخْتَلِفَا؛ بَلْ نَقُولُ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقَدَرَ الَّذِي يَتَنَازَعُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْفُرُوعِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَحْسَنَ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْمُوَافِقِينَ لِسَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُصِيبَ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ فَذَاكَ الصَّوَابُ هُوَ أَحْسَنُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يُقِرُّ الْآخَرَ. فَالْإِقْرَارُ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَفْضُولًا مَرْجُوحًا وَإِنَّمَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا. وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي دِقِّ الْفُرُوعِ فَمَا الظَّنُّ بِمَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِنْ الْأُصُولِ؟ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْمُصِيبَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْمُخْطِئِ هَلْ يُغْفَرُ لَهُ أَوْ لَا يُغْفَرُ وَهَلْ يَكُونُ مُصِيبًا بِمَعْنَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ؟ وَسُقُوطِ اللَّوْمِ لَا بِمَعْنَى صِحَّةِ الِاعْتِقَادِ؟ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ: أَنَّ الِاعْتِقَادَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا صَوَابًا. فَتَلْخِيصُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ إنَّمَا فِيهِ تَفْضِيلُ قَوْلٍ وَعَمَلٍ عَلَى قَوْلٍ وَعَمَلٍ فَالْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ الْمُخْتَلِفَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

ص: 431

عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ؛ بَلْ وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ قَدْ لَا يُنَازِعُ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَحْسَنُ وَأَصْوَبُ وَلَا يَدَّعِي تَمَاثُلَهُمَا. وَإِنْ ادَّعَاهُ فَلَمْ يَدَّعِهِ إلَّا فِي دِقِّ الْفُرُوعِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ. وَأَمَّا الْحَلُّ فَلَمْ يَدَّعِ مُدَّعٍ تَسَاوِي الْأَقْسَامَ فِيهِ وَهَذَا بِخِلَافِ التَّنَوُّعِ الْمَحْضِ مِثْلُ قِرَاءَةِ سُورَةٍ وَقِرَاءَةِ سُورَةٍ أُخْرَى وَصَدَقَةٍ بِنَوْعِ وَصَدَقَةٍ بِنَوْعِ آخَرَ. فَإِنَّ هَذَا قَدْ يَتَمَاثَلُ؛ لِأَنَّ الدِّينَ وَاحِدٌ فِي ذَلِكَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الْأَدْيَانِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَيْسَ هُنَا خِلَافٌ بِحَالِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الدِّينَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ لَا يُمْكِنُ تَمَاثُلُهُمَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى نَفْيٍ هَذَا فِي اللَّفْظِ لِانْتِفَائِهِ بِالْعَقْلِ. وَكَذَلِكَ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} كَانَ فِي هَذَا مَا يُخَافُ انْتِقَاصُهُمْ إيَّاهُ. هَذَا مَعَ أَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ شَاهِدَةٌ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَبَعْضِ الرُّسُلِ عَلَى بَعْضٍ قَاضِيَةٌ لِأُولِي الْعَزْمِ بِالرُّجْحَانِ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى رَبِّهِ؛ لَكِنَّ تَفْضِيلَ الدِّينِ الْحَقِّ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِقَادِهِ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ.

ص: 432

وَأَمَّا تَفْضِيلُ الْأَشْخَاصِ فَقَدْ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَالدِّينُ الْوَاجِبُ لَا بُدَّ مِنْ تَفْضِيلِهِ؛ إذْ الْفَضْلُ يَدْخُلُ فِي الْوُجُوبِ وَإِذَا وَجَبَ الدِّينُ بِهِ دُونَ خِلَافِهِ فَلَأَنْ يَجِبَ اعْتِقَادُ فَضْلِهِ أَوْلَى. وَأَمَّا الدِّينُ الْمُسْتَحَبُّ فَقَدْ لَا يَشْرَعُ اعْتِقَادُ فِعْلِهِ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ شُرِعَ لَهُ فِعْلُ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبِّ وَإِلَّا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَضُرُّهُ إذَا سَلَكَ سَبِيلًا مِنْ سُبُلِ السَّلَامِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنْ يَرَى غَيْرَهُ أَفْضَلَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَشَوَّفُ إلَى الْأَفْضَلِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَالْمَفْضُولُ يُعْرِضُ عَنْهُ. وَكَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ أَنْ يَعْرِفَ أَفْضَلَ مِنْ طَرِيقَتِهِ إذَا كَانَ يَتْرُكُ طَرِيقَتَهُ وَلَا يَسْلُكُ تِلْكَ فَلَيْسَ أَيْضًا مِنْ الْحَقِّ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ طَرِيقَتَهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا؛ بَلْ مَصْلَحَتُهُ أَنْ يَسْلُكَ تِلْكَ الطَّرِيقَةَ الْمُفْضِيَةَ بِهِ إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ بَعْضَ الْمُتَفَقِّهَةِ يَدْعُونَ الرَّجُلَ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ طَرِيقَتِهِ عِنْدَهُمْ وَقَدْ يَكُونُونَ مُخْطِئِينَ فَلَا سَلَكَ الْأَوَّلَ وَلَا الثَّانِيَ وَبَعْضَ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُرِيدُ يَعْتَقِدُ أَنَّ شَيْخَهُ أَكْمَلُ شَيْخٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَطَرِيقَتَهُ أَفْضَلُ الطُّرُقِ. وَكِلَاهُمَا انْحِرَافٌ؛ بَلْ يُؤْمَرُ كُلُّ رَجُلٍ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَا اسْتَطَاعَهُ وَلَا يَنْقُلُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِطَرِيقَتِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَوْعُ نَقْصٍ أَوْ خَطَأٍ وَلَا يُبَيِّنُ لَهُ نَقْصَهَا إلَّا إذَا نُقِلَ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا وَإِلَّا فَقَدْ يَنْفِرُ قَلْبُهُ عَنْ الْأَوْلَى بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى يَتْرُكَ الْحَقَّ الَّذِي لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَلَا يَتَمَسَّكَ بِشَيْءِ آخَرَ.

ص: 433

وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا اسْتِقْصَاؤُهُ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْبَعَةِ أُصُولٍ: " أَحَدِهَا " مَعْرِفَةُ مَرَاتِبِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ؛ لِيَعْرِفَ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ. " الثَّانِي " مَعْرِفَةُ مَا يَجِبُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا لَا يَجِبُ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا لَا يُسْتَحَبُّ ". الثَّالِثِ " مَعْرِفَةُ شُرُوطِ الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ مِنْ الْإِمْكَانِ وَالْعَجْزِ وَأَنَّ الْوُجُوبَ وَالِاسْتِحْبَابَ قَدْ يَكُونُ مَشْرُوطًا بِإِمْكَانِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ. " الرَّابِعِ " مَعْرِفَةُ أَصْنَافِ الْمُخَاطَبِينَ وَأَعْيَانِهِمْ؛ لِيُؤْمَرَ كُلُّ شَخْصٍ بِمَا يُصْلِحُهُ أَوْ بِمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُنْهَى عَمَّا يَنْفَعُ نَهْيُهُ عَنْهُ وَلَا يُؤْمَرُ بِخَيْرِ يُوقِعُهُ فِيمَا هُوَ شَرٌّ مِنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ. وَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ - مِنْ أَنَّ دِينَ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ هُوَ أَحْسَنُ الْأَدْيَانِ أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ - مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ؛

ص: 434

بَلْ مَنْ يَتَّبِعْ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ. وَلَكِنَّ كِتَابَ اللَّهِ هُوَ حَاكِمٌ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمُبَيِّنٌ وَجْهَ الْحُكْمِ؛ فَإِنَّهُ بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَ التَّفْضِيلِ بِقَوْلِهِ: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} وَبِقَوْلِهِ: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} فَإِنَّ الْأَوَّلَ بَيَانُ نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ وَمَعْبُودِهِ وَإِلَهِهِ وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} فَانْتَفَى بِالنَّصِّ نَفْيَ مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ وَبِالْعَقْلِ مَا هُوَ مِثْلُهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَحْسَنُ الْأَدْيَانِ. " الْوَجْهُ الثَّالِثُ " أَنَّ النِّزَاعَ كَانَ بَيْنَ الْأُمَّتَيْنِ أَيُّ الدِّينَيْنِ أَفْضَلُ؟ فَلَمْ يَقُلْ لَهُمَا: إنَّ الدِّينَيْنِ سَوَاءٌ وَلَا نُهُوا عَنْ تَفْضِيلِ أَحَدِهِمَا؛ لَكِنْ حُسِمَتْ مَادَّةُ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْغُرُورِ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ تَفْضِيلِ أَحَدِ الدِّينَيْنِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اسْتَشْعَرَ فَضْلَ نَفْسِهِ أَوْ فَضْلَ دِينِهِ يَدْعُوهُ ذَلِكَ إلَى الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ؛ فَقِيلَ لِلْجَمِيعِ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} سَوَاءٌ كَانَ دِينُهُ فَاضِلًا أَوْ مَفْضُولًا؛ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ السَّيِّئَاتِ وَالْجَزَاءَ عَلَيْهَا وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، قَالَ تَعَالَى {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} إلَى قَوْلِهِ:{لَوَاقِعٌ} . فَلَمَّا اسْتَشْعَرَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهُمْ مَجْزِيُّونَ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ فَضْلُ دِينَهُمْ وَفَسَّرَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْجَزَاءَ قَدْ يَكُونُ

ص: 435

فِي الدُّنْيَا بِالْمَصَائِبِ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ فَسَادَ دِينِ الْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} الْآيَةَ. فَبَيَّنَ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إنَّمَا يَقَعُ الْجَزَاءُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُجْزَى بِهِ صَاحِبُهُ فِي الدُّنْيَا بِلَا إيمَانٍ فَوَقَعَ الرَّدُّ عَلَى الْكُفَّارِ مِنْ جِهَةِ جَزَائِهِمْ بِالسَّيِّئَاتِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ حَسَنَاتِهِمْ لَا يَدْخُلُونَ بِهَا الْجَنَّةَ إلَّا مَعَ الْإِيمَانِ ثُمَّ بَيَّنَّ بَعْدِ هَذَا فَضْلَ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ الْحَنَفِيِّ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} فَجَاءَ الْكَلَامُ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ. وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُفَضَّلُ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ التَّفْضِيلَ الَّذِي فِيهِ انْتِقَاصُ الْمَفْضُولِ وَالْغَضُّ مِنْهُ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم {لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ} وَقَالَ: {لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى} بَيَانٌ لِفَضْلِهِ وَبِهَذَيْنِ يَتِمُّ الدِّينُ. فَإِذَا كَانَ اللَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ وَصَاحِبُهُ قَدْ أَخْلَصَ لَهُ وَانْقَادَ وَعَمَلُهُ فِعْلَ الْحَسَنَاتِ فَالْعَقْلُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ دِينٌ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا؛ بِخِلَافِ دِينٍ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ وَأَسْلَمَ وَجْهَهُ لَهُ أَوْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا بِإِسْلَامِ وَجْهِهِ؛ بَلْ يَتَكَبَّرُ كَالْيَهُودِ وَيُشْرِكُ كَالنَّصَارَى أَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْسِنًا بَلْ فَاعِلًا لِلسَّيِّئَاتِ دُونَ الْحَسَنَاتِ وَهَذَا الْحُكْمُ

ص: 436

عَدْلٌ مَحْضٌ وَقِيَاسٌ وَقِسْطٌ دَلَّ الْقُرْآنُ الْعُقَلَاءَ عَلَى وَجْهِ الْبُرْهَانِ فِيهِ. وَهَكَذَا غَالِبُ مَا بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَالصِّدْقَ وَيَذْكُرُ أَدِلَّتَهُ وَبَرَاهِينَهُ؛ لَيْسَ يُبَيِّنُهُ بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ عَنْ الْأَمْرِ كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة أَنَّ دَلَالَتَهُ سَمْعِيَّةٌ خَبَرِيَّةٌ وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِصِدْقِ الْمُخْبِرِ؛ بَلْ دَلَالَتُهُ أَيْضًا عَقْلِيَّةٌ بُرْهَانِيَّةٌ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى أَحْسَنِهَا وَأَتَمِّهَا بِأَحْسَنِ بَيَانٍ لِمَنْ كَانَ لَهُ فَهْمٌ وَعَقْلٌ؛ بِحَيْثُ إذَا أَخَذَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ وَبَيَّنَ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ صِدْقَ الرَّسُولِ أَوْ يَظُنَّ فِيهِ ظَنًّا مُجَرَّدًا عَنْ مَا يَجِبُ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ الْمُخْبِرِ كَانَ فِيهِ مَا يُبَيِّنُ صِدْقَهُ وَحَقَّهُ وَيُبَرْهِنُ عَنْ صِحَّتِهِ.

ص: 437

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

فَصْلٌ:

فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} فَقَوْلُهُ: {يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} مِثْلُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ تَخُونُونَ أَنْفُسَكُمْ. زَادَ بَعْضُهُمْ: تَظْلِمُونَهَا. فَجَعَلُوا الْأَنْفُسَ مَفْعُولَ {تَخْتَانُونَ} وَجَعَلُوا الْإِنْسَانَ قَدْ خَانَ نَفْسَهُ أَيْ ظَلَمَهَا بِالسَّرِقَةِ كَمَا فَعَلَ ابْنُ أبيرق - أَوْ بِجِمَاعِ امْرَأَتِهِ لَيْلَةَ الصِّيَامِ كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ - وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ كُلَّ ذَنْبٍ يَذْنِبُهُ الْإِنْسَانُ فَقَدْ ظَلَمَ فِيهِ نَفْسَهُ سَوَاءٌ فَعَلَهُ سِرًّا أَوْ عَلَانِيَةً. وَإِذَا كَانَ اخْتِيَانُ النَّفْسِ هُوَ ظُلْمُهَا أَوْ ارْتِكَابُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهَا كَانَ كُلُّ مُذْنِبٍ مُخْتَانًا لِنَفْسِهِ وَإِنْ جَهَرَ بِالذُّنُوبِ وَكَانَ كُفْرُ الْكَافِرِينَ

ص: 438

وَقِتَالُهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ اخْتِيَانًا لِأَنْفُسِهِمْ وَكَذَلِكَ قَطْعُ الطَّرِيقَ وَالْمُحَارَبَةُ وَكَذَلِكَ الظُّلْمُ الظَّاهِرُ وَكَانَ مَا فَعَلَهُ قَوْمُ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ اخْتِيَانًا لِأَنْفُسِهِمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا وَإِنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِي خَاصٍّ مِنْ الذُّنُوبِ مِمَّا يُفْعَلُ سِرًّا وَحَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} عَنَى بِذَلِكَ فِعْلَ عُمَرَ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ {لَمَّا جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فشكى أَنَّهُ بَاتَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَلَمْ يَتَعَشَّ لَمَّا نَامَ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَكَانَ مَنْ نَامَ قَبْلَ الْأَكْلِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ فَيَسْتَمِرُّ صَائِمًا فَأَصْبَحَ يَتَقَلَّبُ ظَهْرًا لِبَطْنِ فَلَمَّا شَكَا حَالَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَرَدْت أَهْلِي اللَّيْلَةَ فَقَالَتْ إنَّهَا قَدْ نَامَتْ فَظَنَنْتهَا لَمْ تَنَمْ فَوَاقَعْتهَا فَأَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ نَامَتْ قَالُوا: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي عُمَرَ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ} } . وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْجِمَاعَ لَيْلَةَ الصِّيَامِ كَانُوا مَنْهِيِّينَ عَنْهُ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الْأَكْلِ فَإِنَّهُ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ النَّوْمِ. وَقَدْ رُوِيَ {أَنَّ عُمَرَ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ الْعِشَاءِ قَبْلَ النَّوْمِ وَأَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ أَخَذَ يَلُومُ نَفْسَهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْتَذِرُ إلَى اللَّهِ مِنْ نَفْسِي هَذِهِ الْخَائِنَةَ إنِّي رَجَعْت إلَى أَهْلِي بَعْدَمَا صَلَّيْت الْعِشَاءَ فَوَجَدْت رَائِحَةً طَيِّبَةً فَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي فَجَامَعْت أَهْلِي فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا كُنْت

ص: 439

جَدِيرًا بِذَلِكَ يَا عُمَرُ} وَجَاءَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَذَكَرُوا مِثْلَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. فَهَذَا فِيهِ أَنَّ نَفْسَهُ الْخَاطِئَةَ سَوَّلَتْ لَهُ ذَلِكَ وَدَعَتْهُ إلَيْهِ وَأَنَّهُ أَخَذَ يَلُومُهَا بَعْدَ الْفِعْلِ فَالنَّفْسُ هُنَا هِيَ الْخَائِنَةُ الظَّالِمَةُ وَالْإِنْسَانُ تَدْعُوهُ نَفْسُهُ فِي السِّرِّ إذَا لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ إلَى أَفْعَالِ لَا تَدْعُو إلَيْهَا عَلَانِيَةٌ وَعَقْلُهُ يَنْهَاهُ عَنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ وَنَفْسُهُ تَغْلِبُهُ عَلَيْهَا. وَلَفْظُ الْخِيَانَةِ حَيْثُ اُسْتُعْمِلَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا خَفِيَ عَنْ الْمَخُونِ كَاَلَّذِي يَخُونُ أَمَانَتَهُ فَيَخُونُ مَنْ ائْتَمَنَهُ إذَا كَانَ لَا يُشَاهِدُهُ وَلَوْ شَاهَدَهُ لَمَا خَانَهُ. قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} وَقَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَامَ: {أَمَا فِيكُمْ رَجُلٌ يَقُومُ إلَى هَذَا فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: هَلَّا أَوْمَضْت إلَيَّ؟ فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيِّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ} قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}

ص: 440

{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ {عَلَى كُلِّ خُلُقٍ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ إلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ} وَمَثَلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْإِنْسَانُ كَيْفَ يَخُونُ نَفْسَهُ. وَهُوَ لَا يَكْتُمُهَا مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ سِرًّا عَنْهَا؟ كَمَا يَخُونُ مَنْ لَا يَشْهَدُهُ مِنْ النَّاسِ؟ كَمَا يَخُونُ اللَّهَ وَالرَّسُولَ إذَا لَمْ يُشَاهِدْهُ فَلَا يَكُونُ مِمَّنْ يَخَافُ اللَّهَ بِالْغَيْبِ وَلِمَ خُصَّتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ بِأَنَّهَا خِيَانَةٌ لِلنَّفْسِ دُونَ غَيْرِهَا؟ فَالْأَشْبَهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} مِثْلَ قَوْلِهِ: {إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} . وَالْبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ فِي مِثْلِ هَذَا: إنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَيُخْرِجُونِ قَوْلَهُ: {سَفِهَ} عَنْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ لَازِمٌ؛ فَيَحْتَاجُونَ أَنْ يَنْقُلُوهُ مِنْ اللُّزُومِ إلَى التَّعْدِيَةِ بِلَا حُجَّةٍ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ - كَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ - فَعِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُمَيَّزَ قَدْ يَكُونُ مَعْرِفَةً كَمَا يَكُونُ نَكِرَةً وَذَكَرُوا لِذَلِكَ شَوَاهِدَ كَثِيرَةً مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: أَلِمَ فُلَانٌ

ص: 441

رَأْسَهُ وَوَجِعَ بَطْنَهُ وَرَشَدَ أَمْرَهُ. وَكَانَ الْأَصْلُ سَفِهَتْ نَفْسُهُ وَرَشَدَ أَمْرُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: غَبِنَ رَأْيُهُ وَبَطِرَتْ نَفْسُهُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} مِنْ هَذَا الْبَابِ فَالْمَعِيشَةُ نَفْسُهَا بَطِرَتْ فَلَمَّا كَانَ الْفِعْلُ. . . (1) نَصَبَهُ عَلَى التَّمْيِيزِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} فَقَوْلُهُ: {سَفِهَ نَفْسَهُ} مَعْنَاهُ إلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسُهُ أَيْ كَانَتْ سَفِيهَةً فَلَمَّا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ نَصَبَهَا عَلَى التَّمْيِيزِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ؛ لَكِنَّ ذَاكَ نَكِرَةٌ وَهَذَا مَعْرِفَةٌ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ أَصَحُّ فِي اللُّغَةِ وَالْمَعْنَى؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ السَّفِيهُ نَفْسُهُ: كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ} فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ تَخْتَانُ أَنْفُسُكُمْ فَالْأَنْفُسُ هِيَ الَّتِي اخْتَانَتْ كَمَا أَنَّهَا هِيَ السَّفِيهَةُ. وَقَالَ: اخْتَانَتْ وَلَمْ يَقُلْ خَانَتْ؛ لِأَنَّ الِافْتِعَالَ فِيهِ زِيَادَةُ فِعْلٍ عَلَى مَا فِي مُجَرَّدِ الْخِيَانَةِ قَالَ عِكْرِمَةُ: وَالْمُرَادُ بِاَلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ابْنُ أبيرق الَّذِي سَرَقَ الطَّعَامَ وَالْقُمَاشَ وَجَعَلَ هُوَ وَقَوْمُهُ يَقُولُونَ: إنَّمَا سَرَقَ فُلَانٌ لِرَجُلِ آخَرَ.

(1)

بياض بالأصل

ص: 442

فَهَؤُلَاءِ اجْتَهَدُوا فِي كِتْمَانِ سَرِقَةِ السَّارِقِ وَرَمْيِ غَيْرِهِ بِالسَّرِقَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} فَكَانُوا خَائِنِينَ لِلصَّاحِبِ وَالرَّسُولِ وَقَدْ اكْتَسَبُوا الْخِيَانَةَ. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ كَانُوا يُجَامِعُونَ بِاللَّيْلِ وَهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَظْهَرُ عَنْهُمْ حِينَ يَفْعَلُونَهُ وَإِنْ أَظْهَرُوهُ فِيمَا بَعْدُ عِنْدِ التَّوْبَةِ أَمَّا عِنْدَ الْفِعْلِ فَكَانُوا يَحْتَاجُونَ مِنْ سَتْرِ ذَلِكَ وَإِخْفَائِهِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْخَائِنُ وَحْدَهُ أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُ: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ يَخُونُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} وَقَوْلُهُ: {لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} فَإِنَّ السَّارِقَ وَأَقْوَامًا خَانُوا إخْوَانَهُمْ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَجَامِعُ إنْ كَانَ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ فَقَدْ خَانَهَا وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ. وَالصِّيَامُ مَبْنَاهُ عَلَى الْأَمَانَةِ فَإِنَّ الصَّائِمَ يُمْكِنُهُ الْفِطْرُ وَلَا يَدْرِي بِهِ أَحَدٌ فَإِذَا أَفْطَرَ سِرًّا فَقَدْ خَانَ أَمَانَتَهُ وَالْفِطْرُ بِالْجِمَاعِ الْمَسْتُورِ خِيَانَةٌ كَمَا أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ سِرًّا وَإِخْبَارَ الرَّسُولِ وَالْمَظْلُومِ بِبَرَاءَةِ السَّقِيمِ وَسَقِمَ الْبَرِيءِ خِيَانَةٌ فَهَذَا كُلُّهُ خِيَانَةٌ وَالنَّفْسُ هِيَ الَّتِي خَانَتْ؛ فَإِنَّهَا تُحِبُّ الشَّهْوَةَ وَالْمَالَ وَالرِّئَاسَةَ وَخَانَ وَاخْتَانَ مِثْلُ كَسَبَ وَاكْتَسَبَ فَجَعَلَ الْإِنْسَانَ مُخْتَانًا.

ص: 443

ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ نَفْسَهُ هِيَ الَّتِي تَخْتَانُ كَمَا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَضُرُّ؛ لِأَنَّ مَبْدَأَ ذَلِكَ مِنْ شَهْوَتِهَا لَيْسَ هُوَ مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ الْعَقْلُ وَالرَّأْيُ وَمَبْدَأُ السَّفَهِ مِنْهَا لِخِفَّتِهَا وَطَيْشِهَا وَالْإِنْسَانُ تَأْمُرُهُ نَفْسُهُ فِي السِّرِّ بِأُمُورِ يَنْهَاهَا عَنْهُ الْعَقْلُ وَالدِّينُ فَتَكُونُ نَفْسُهُ اخْتَانَتْهُ وَغَلَبَتْهُ وَهَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي أَمْرِ الْجِمَاعِ وَالْمَالِ؛ وَلِهَذَا لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ النَّاسِ وَيُقْصَدُ بالائتمان مَنْ لَا تَدْعُوهُ نَفْسُهُ إلَى الْخِيَانَةِ فِي ذَلِكَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَوْ ائْتَمَنْت عَلَى بَيْتِ مَالٍ لَأَدَّيْت الْأَمَانَةَ وَلَوْ ائْتَمَنْت عَلَى امْرَأَةٍ سَوْدَاءَ لَخِفْت أَنْ لَا أُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ فِيهَا. وَكَذَلِكَ الْمَالُ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْأَنْفُسِ الْحَرِيصَةِ عَلَى أَخْذِهِ كَيْفَ اتَّفَقَ. وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ النَّفْسَ تَخُونُ أَمَانَتَهَا وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ ابْتِدَاءً لَا يَقْصِدُ الْخِيَانَةَ فَتَحْمِلُهُ عَلَى الْخِيَانَةِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَتَغْلِبُهُ عَلَى رَأْيِهِ وَلِهَذَا يَلُومُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَذُمُّهَا وَيَقُولُ هَذِهِ النَّفْسُ الْفَاعِلَةُ الصَّانِعَةُ؛ فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي اخْتَانَتْ.

فَصْلٌ:

وَدَلَّ قَوْلُهُ: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجِدَالُ عَنْ الْخَائِنِ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُجَادِلَ عَنْ نَفْسِهِ إذَا كَانَتْ

ص: 444

خَائِنَةً: لَهَا فِي السِّرِّ أَهْوَاءٌ وَأَفْعَالٌ بَاطِنَةٌ تَخْفَى عَلَى النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ الْمُجَادَلَةُ عَنْهَا قَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فَإِنَّهُ يَعْتَذِرُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَعْذَارِ وَيُجَادِلُ عَنْهَا وَهُوَ يُبْصِرُهَا بِخِلَافِ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ} فَهُوَ يُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْبَاطِلِ وَفِيهِ لَدَدٌ: أَيْ مَيْلٌ وَاعْوِجَاجٌ عَنْ الْحَقِّ وَهَذَا عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مُجَادَلَتُهُ وَذَبُّهُ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ النَّاسِ و " الثَّانِي " فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ بِحَيْثُ يُقِيمُ أَعْذَارَ نَفْسِهِ وَيَظُنُّهَا مُحِقَّةً وَقَصْدُهَا حَسَنًا وَهِيَ خَائِنَةٌ ظَالِمَةٌ لَهَا أَهْوَاءٌ خَفِيَّةٌ قَدْ كَتَمَتْهَا حَتَّى لَا يَعْرِفَ بِهَا الرَّجُلُ حَتَّى يَرَى وَيَنْظُرَ قَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ: إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ قَالَ أَبُو دَاوُد: هِيَ حَبُّ الرِّيَاسَةِ. وَهَذَا مِنْ شَأْنِ النَّفْسِ حَتَّى إنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَيُجَادِلُ اللَّهَ بِالْبَاطِلِ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}

ص: 445

{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} . وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَجْحَدُ أَعْمَالَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَجَوَارِحُهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} . وَمِنْ عَادَةِ الْمُنَافِقِينَ الْمُجَادَلَةُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْكَذِبِ وَالْأَيْمَانِ الْفَاجِرَةِ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. {وَفِي قِصَّةِ تَبُوكَ لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَجَاءَ الْمُنَافِقُونَ يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ فَجَعَلَ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ فَلَمَّا جَاءَ كَعْبٌ قَالَ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ قَعَدْت بَيْنَ يَدَيْ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ لَقَدَرْت أَنْ أَخْرُجَ مِنْ سَخَطِهِ: إنِّي أُوتِيت جَدَلًا؛ وَلَكِنْ أَخَافُ إنْ حَدَّثْتُك حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشَكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَك عَلَيَّ؛ وَلَئِنْ حَدَّثْتُك حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ لَا وَاَللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ وَاَللَّهِ مَا كُنْت أَقْوَى قَطُّ وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْت عَنْك فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 446

أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ يَعْنِي وَالْبَاقِي يُكَذَّبُونَ ثُمَّ إنَّهُ هَجَرَهُ مُدَّةً ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِبَرَكَةِ صِدْقِهِ} . فَالِاعْتِذَارُ عَنْ النَّفْسِ بِالْبَاطِلِ وَالْجِدَالُ عَنْهَا لَا يَجُوزُ؛ بَلْ إنْ أَذْنَبَ سِرًّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ اعْتَرَفَ لِرَبِّهِ بِذَنْبِهِ وَخَضَعَ لَهُ بِقَلْبِهِ وَسَأَلَهُ مَغْفِرَتَهُ وَتَابَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَوَّابٌ وَإِنْ كَانَتْ السَّيِّئَةُ ظَاهِرَةً تَابَ ظَاهِرًا وَإِنْ أَظْهَرَ جَمِيلًا وَأَبْطَنَ قَبِيحًا تَابَ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الْقَبِيحِ فَمَنْ أَسَاءَ سِرًّا أَحْسَنَ سِرًّا وَمَنْ أَسَاءَ عَلَانِيَةً أَحْسَنَ عَلَانِيَةً {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} .

ص: 447

سُورَةُ الْمَائِدَةِ

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

فَصْلٌ:

سُورَةُ الْمَائِدَةِ أَجْمَعُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {هِيَ آخِرُ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا} وَلِهَذَا اُفْتُتِحَتْ بِقَوْلِهِ: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَالْعُقُودُ هِيَ الْعُهُودُ وَذُكِرَ فِيهَا مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِيجَابِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِهَا وَالْآيَاتُ فِيهَا مُتَنَاسِبَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . وَقَدْ اُشْتُهِرَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ الَّذِينَ أَرَادُوا

ص: 448

التَّبَتُّلَ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَاَلَّذِينَ اجْتَمَعُوا مَعَهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَأَقْوَمُ لَا أَنَامُ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي} فَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} فِيمَنْ حَرَّمَ الْحَلَالَ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِ أَوْ عَزْمٍ عَلَى تَرْكِهِ مِثْلُ الَّذِي قَالَ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَلَا آكُلُ اللَّحْمَ وَهِيَ الرَّهْبَانِيَّةُ الْمُبْتَدِعَةُ فَإِنَّ الرَّاهِبَ لَا يَنْكِحُ وَلَا يَذْبَحُ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَعْتَدُوا} فِيمَنْ قَالَ: أَقْوَمُ لَا أَنَامُ وَقَالَ أَصُومُ لَا أُفْطِرُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَاءَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فَهَذَا مُجَاوِزٌ لِلْحَدِّ فِي الْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ كَالْعُدْوَانِ فِي الدُّعَاءِ فِي قَوْلِهِ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَالطَّهُورِ} فَالِاعْتِدَاءُ فِي " الْعِبَادَاتِ وَفِي الْوَرَعِ " كَاَلَّذِينَ تَحَرَّجُوا مِنْ أَشْيَاءَ تَرَخَّصَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَفِي " الزُّهْدِ " كَاَلَّذِينَ حَرَّمُوا الطَّيِّبَاتِ وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ تَرَكَ فَقَوْلُهُ: " {وَلَا تَعْتَدُوا} " إمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِجَانِبِ الْأَفْعَالِ الْعِبَادِيَّةِ وَإِمَّا أَنْ

ص: 449

يَكُونَ الْعُدْوَانُ يَشْمَلُ الْعُدْوَانَ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّحْرِيمِ وَهَذَانِ النَّوْعَانِ هُمَا اللَّذَانِ ذَمَّ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ بِهِمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ حَيْثُ عَبَدُوا عِبَادَةً لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهَا وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهِ فَقَوْلُهُ: {لَا تُحَرِّمُوا} {وَلَا تَعْتَدُوا} يَتَنَاوَلُ الْقِسْمَيْنِ. وَالْعُدْوَانُ هُنَا كَالْعُدْوَانِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} إمَّا أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْ الْإِثْمِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَوْعًا آخَرَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعُدْوَانُ فِي مُجَاوَزَةِ حُدُودِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجِبِهَا وَمُسْتَحِبِّهَا وَمُجَاوَزَةِ حَدِّ الْمُبَاحِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مُجَاوَزَةُ حَدِّ التَّحْرِيمِ أَيْضًا فَإِنَّهَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: مَأْمُورٌ بِهِ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ وَمُبَاحٌ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا قَوْلَهُ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الْآيَةَ ذَكَرَ هَذَا بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ التَّحْرِيمِ لِيُبَيِّنَ الْمَخْرَجَ مِنْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ إذَا عَقَدَ عَلَيْهِ يَمِينًا بِاَللَّهِ أَوْ يَمِينًا أُخْرَى وَبِهَذَا يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا حَرَّمَهُ مِنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ فَبَيَّنَ بِهِ مَا حَرَّمَهُ فَإِنَّ نَفْيَ التَّحْرِيمِ الشَّرْعِيِّ يَقَعُ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْإِبَاحِيَّةِ كَمَا يَقَعُ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَكُونُونَ فِي حَالِ اجْتِهَادِهِمْ وَرِيَاضَتُهُمْ تحريمية ثُمَّ إذَا وَصَلُوا بِزَعْمِهِمْ صَارُوا إبَاحِيَّةً وَهَاتَانِ

ص: 450

آفَتَانِ تَقَعَانِ فِي الْمُتَعَبِّدَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ كَثِيرًا وَقُرِنَ بَيْنَهُمَا حُكْمُ الْأَيْمَانِ فَإِنَّ كِلَاهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَمِ دَاخِلًا وَخَارِجًا كَمَا يَقْرِنُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالْأَطْعِمَةِ وَفِيهِ رُخْصَةٌ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ مُطْلَقًا خِلَافًا لِمَا شَدَّدَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْأَيْمَانِ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا فَإِنَّ هَذَا التَّشْدِيدَ مُضَاهٍ لِلتَّحْرِيمِ فَيَكُونُ الرَّجُلُ مَمْنُوعًا مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبِ أَوْ الْمُبَاحِ بِذَلِكَ التَّشْدِيدِ وَهَذَا كُلُّهُ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ بِنَا دُونَ غَيْرِنَا مِنْ الْأُمَمِ الَّتِي حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءَ عُقُوبَةً لَهُمْ وَلَا كَفَّارَةَ فِي أَيْمَانِهِمْ وَلَمْ يُطْهِرْهُمْ مِنْ الرِّجْسِ كَمَا طَهَّرَنَا فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ نَافِعٌ.

ص: 451

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

فَصْلٌ:

قَوْلُهُ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} قِيلَ: اللَّامُ لَامُ كَيْ أَيْ يَسْمَعُونَ لِيَكْذِبُوا وَيَسْمَعُونَ لِيَنْقُلُوا إلَى قَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك فَيَكُونُونَ كَذَّابِينَ وَنَمَّامِينَ جَوَاسِيسَ وَالصَّوَابُ أَنَّهَا لَامُ التَّعْدِيَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ: {سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ} فَالسَّمَاعُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الْقَبُولِ أَيْ قَابِلُونَ لِلْكَذِبِ وَيَسْمَعُونَ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك وَيُطِيعُونَهُمْ فَيَكُونُ ذَمًّا لَهُمْ عَلَى قَبُولِ الْخَبَرِ الْكَاذِبِ وَعَلَى طَاعَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أَيْ هُمْ يَطْلُبُونَ أَنْ يَفْتِنُوكُمْ وَفِيكُمْ مَنْ يَسْمَعُ مِنْهُمْ فَيَكُونُ قَدْ ذَمَّهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ الْبَاطِلِ فِي نَوْعَيْ الْكَلَامِ خَبَرِهِ وَإِنْشَائِهِ فَإِنَّ بَاطِلَ الْخَبَرِ الْكَذِبُ وَبَاطِلَ الْإِنْشَاءِ طَاعَةُ غَيْرِ الرُّسُلِ وَهَذَا بَعِيدٌ. ثُمَّ قَالَ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} فَذَكَرَ أَنَّهُمْ فِي

ص: 452

غذائي الْجَسَدِ وَالْقَلْبِ يَغْتَذُونَ الْحَرَامَ بِخِلَافِ مَنْ يَأْكُلُ الْحَلَالَ وَلَا يَقْبَلُ إلَّا الصِّدْقَ وَفِيهِ ذَمٌّ لِمَنْ يُرَوِّجُ عَلَيْهِ الْكَذِبَ وَيَقْبَلُهُ أَوْ يُؤْثِرُهُ لِمُوَافَقَتِهِ هَوَاهُ وَيَدْخُلُ فِيهِ قَبُولُ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ؛ لِأَنَّهَا كَذِبٌ لَا سِيَّمَا إذَا اقْتَرَنَ بِذَلِكَ قَبُولُهَا لِأَجْلِ الْعِوَضِ عَلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مِنْ ذِي سُلْطَانٍ أَوْ وَقْفٍ أَوْ فُتُوحٍ أَوْ هَدِيَّةٍ أَوْ أُجْرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: {إنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . . . (1) أَهْلُ الْبِدَعِ وَأَهْلُ الْفُجُورِ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِمَا كُذِبَ بِهِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَحْكَامِهِ وَاَلَّذِينَ يُطِيعُونَ الْخَلْقَ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. وَمِثْلُهُ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} فَإِنَّمَا تَنَزَّلَتْ بِالسَّمْعِ الَّذِي يَخْلِطُ فِيهِ بِكَلِمَةِ الصِّدْقِ أَلْفَ كَلِمَةٍ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى مَنْ هُوَ كَذَّابٌ فَاجِرٌ فَيَكُونُ سَمَّاعًا لِلْكَذِبِ مِنْ مُسْتَرِقَةِ السَّمْعِ. ثُمَّ قَالَ فِي السُّورَةِ: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} فَقَوْلُ الْإِثْمِ وَسَمَاعُ الْكَذِبِ وَأَكْلُ السُّحْتِ أَعْمَالٌ مُتَلَازِمَةٌ فِي الْعَادَةِ وَلِلْحُكَّامِ مِنْهَا خُصُوصٌ فَإِنَّ الْحَاكِمَ إذَا

(1)

بياض بالأصل

ص: 453

ارْتَشَى سَمِعَ الشَّهَادَةَ الْمُزَوَّرَةَ وَالدَّعْوَى الْفَاجِرَةَ فَصَارَ سَمَّاعًا لِلْكَذِبِ أَكَّالًا لِلسُّحْتِ قَائِلًا لِلْإِثْمِ. وَلِهَذَا خَيَّرَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَصْدُهُمْ قَبُولَ الْحَقِّ وَسَمَاعَهُ مُطْلَقًا؛ بَلْ يَسْمَعُونَ مَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ وَإِنْ كَانَ كَذِبًا وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يَتَقَوَّلُونَ الرِّوَايَاتِ الْمَكْذُوبَةَ.

ص: 454

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أُشْكِلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ كُتِبَ التَّفْسِيرِ إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ.

مِنْهَا قَوْلُهُ: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} وَالصَّوَابُ عَطْفُهُ عَلَى قَوْلِهِ: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} فِعْلٌ مَاضٍ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ؛ لَكِنَّ الْمُتَقَدِّمَةَ الْفَاعِلُ اللَّهُ مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا وَهَذَا الْفِعْلُ اسْمُ مَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ وَهُوَ الضَّمِيرُ فِي عَبَدَ وَلَمْ يُعَدِّ حَرْفَ (مَنْ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لِصِنْفِ وَاحِدٍ وَهُمْ الْيَهُودُ.

ص: 455

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

فَصْلٌ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} الْآيَةَ. وَمِنْ الْمَشْهُورِ فِي التَّفْسِيرِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى التَّرَهُّبِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ: {أَنَّ رِجَالًا سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عِبَادَتِهِ فِي السِّرِّ فتقالوا ذَلِكَ} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: {رَدّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا} . وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَالْمِقْدَادَ وَسَالِمًا

ص: 456

مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ فِي أَصْحَابٍ لَهُمْ تَبَتَّلُوا فَجَلَسُوا فِي الْبُيُوتِ وَاعْتَزَلُوا النِّسَاءَ وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ وَحَرَّمُوا الطَّيِّبَاتِ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ إلَّا مَا يَأْكُلُ وَيَلْبَسُ أَهْلُ السِّيَاحَةِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَهَمُّوا بِالِاخْتِصَاءِ وَأَجْمَعُوا لِقِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ مَا يُشْبِهُ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الَّذِينَ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ وَذَمَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَاَلَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا وَيُرِيدُونَ مَيْلَ الْمُؤْمِنِينَ مَيْلًا عَظِيمًا. وَذَمَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَاَلَّذِينَ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ. وَأَكْثَرُ الَّذِينَ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ شربة الْخَمْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} فَجَمَعُوا بَيْنَ الشَّهْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَتَرْكِ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِضَاعَةِ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّهَوَاتِ. ثُمَّ نَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَعَنْ الِاعْتِدَاءِ فِي تَنَاوُلِهَا وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَقَدْ فَسَّرَ الِاعْتِدَاءَ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ بِأَنْ يُحَرِّمُوا الْحَلَالَ وَيَفْعَلُوا مِنْ الْعِبَادَةِ مَا يَضُرُّهُمْ فَيَكُونُوا قَدْ تَجَاوَزُوا

ص: 457

الْحَدَّ وَأَسْرَفُوا. وَقِيلَ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ عَلَى الْإِسْرَافِ وَتَنَاوُلِ الْحَرَامِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ فَإِنَّ آكِلَ الطَّيِّبَاتِ وَالشَّهَوَاتِ الْمُعْتَدِيَ فِيهَا لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ لِأَجْلِ الْإِسْرَافِ فِي ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ بِالزُّهْدِ تَرْكُ مَا يَضُرُّ الْعَبْدَ فِي الْآخِرَةِ وَبِالْعِبَادَةِ فِعْلُ مَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ فَإِذَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ مَا يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ وَيَنْفَعُهُ فِي آخِرَتِهِ وَفَعَلَ مِنْ الْعِبَادَةِ مَا يَضُرُّ فَقَدْ اعْتَدَى وَأَسْرَفَ وَإِنْ ظَنَّ ذَلِكَ زُهْدًا نَافِعًا وَعِبَادَةً نَافِعَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقتادة والنَّخَعِي: {وَلَا تَعْتَدُوا} أَيْ لَا تَجُبُّوا أَنْفُسَكُمْ وَقَالَ عِكْرِمَةُ لَا تَسِيرُوا بِغَيْرِ سِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ: مِنْ تَرْكِ النِّسَاءِ وَدَوَامِ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَا تُحَرِّمُوا الْحَلَالَ وَعَنْ الْحَسَنِ لَا تَأْتُوا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا مَا أُرِيدَ بِهِ لَا تُحَرِّمُوا الْحَلَالَ وَلَا تَفْعَلُوا الْحَرَامَ؛ فَيَكُونُ قَدْ نَهَى عَنْ النَّوْعَيْنِ؛ لَكِنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ وَسِيَاقَهَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَقَدْ يُقَالُ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} وَقَوْلِهِ فِي تَمَامِ الْآيَةِ: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ

ص: 458

وَقَوْلِ الْآخَرِ لَا آكُلُ اللَّحْمَ. كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ مَكْرُوهٌ وَكَذَلِكَ مُدَاوَمَةُ قِيَامِ اللَّيْلِ.

فَصْلٌ:

وَهَذَا الَّذِي جَاءَتْ بِهِ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ الَّذِي يَصْلُحُ بِهِ دِينُ الْإِنْسَانِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {أَعْدَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُد كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا} وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: " أَفْضَلُ " وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْأَعْدَلُ الْأَقْوَمُ. وَهَذَا الْقُرْآنُ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَهِيَ وَسَطٌ بَيْنِ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ: أَصْحَابِ الْبِدَعِ وَأَصْحَابِ الْفُجُورِ أَهْلِ الْإِسْرَافِ وَالتَّقَشُّفِ الزَّائِدِ. وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يُحَذِّرُونَ مِنْ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْمُبْتَدِعُ فِي دِينِهِ وَالْفَاجِرُ فِي دُنْيَاهُ وَكَانُوا يَقُولُونَ: احْذَرُوا صَاحِبَ الدُّنْيَا أَغْوَتْهُ دُنْيَاهُ وَصَاحِبَ هَوًى مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ وَكَانُوا يَأْمُرُونَ بِمُجَانَبَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ. فـ " الْقِسْمُ الْأَوَّلُ " أَهْلُ الْفُجُورِ

ص: 459

وَهُمْ الْمُتْرَفُونَ الْمُنَعَّمُونَ أَوْقَعَهُمْ فِي الْفُجُورِ مَا هُمْ فِيهِ. و " الْقِسْمُ الثَّانِي " الْمُتَرَهِّبُونَ أَوْقَعَهُمْ فِي الْبِدَعِ غُلُوُّهُمْ وَتَشْدِيدُهُمْ هَؤُلَاءِ اسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ وَهَؤُلَاءِ خَاضُوا كَمَا خَاضَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا أَوْ يُسْرِفُونَ فِي الْمُبَاحَاتِ وَيَتْرُكُونَ الصَّلَوَاتِ وَالْعِبَادَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا يَسْتَحْوِذُ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ وَالْهَوَى فَيُنْسِيهِمْ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَيُفْسِدُ حَالَهُمْ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ كَثِيرًا مِنْهُمْ. وَاَلَّذِينَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ الطَّيِّبَاتِ - وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْرِمْ هَذَا؛ بَلْ يَلْتَزِمُونَ أَلَّا يَفْعَلُوهُ إمَّا بِالنَّذْرِ وَإِمَّا بِالْيَمِينِ كَمَا حَرَّمَ كَثِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ وَالزُّهَّادِ أَشْيَاءَ - يَقُولُ أَحَدُهُمْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَلَّا آكُلَ طَعَامًا بِالنَّهَارِ أَبَدًا وَيُعَاهِدُ أَحَدُهُمْ أَلَّا يَأْكُلَ الشَّهْوَةَ الْمُلَائِمَةَ وَيَلْتَزِمَ ذَلِكَ بِقَصْدِهِ وَعَزْمِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ وَلَمْ يَنْذِرْ. فَهَذَا يَلْتَزِمُ أَنْ لَا يَشْرَبَ الْمَاءَ وَهَذَا يَلْتَزِمُ أَلَّا يَأْكُلَ الْخُبْزَ وَهَذَا يَلْتَزِمُ أَلَّا يَشْرَبَ الْفُقَّاعَ وَهَذَا يَلْتَزِمُ أَلَّا يَتَكَلَّمَ قَطُّ وَهَذَا يَجُبُّ نَفْسَهُ وَهَذَا يَلْتَزِمُ أَلَّا يَنْكِحَ وَلَا يَذْبَحَ. وَأَنْوَاعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ الرَّهْبَانِيَّةِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا عَلَى سَبِيلِ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَقَهْرِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُجَاهَدَةَ النَّفْسِ مَأْمُورٌ بِهَا وَكَذَلِكَ قَهْرُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَالْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ

ص: 460

الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ} لَكِنْ الْمُسْلِمَ الْمُتَّبِعَ لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ هُوَ الْمُحَرِّمُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَلَا يُسْرِفُ فِي تَنَاوُلِهِ؛ بَلْ يَتَنَاوَلُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ لِبَاسٍ أَوْ نِكَاحٍ وَيَقْتَصِدُ فِي ذَلِكَ وَيَقْتَصِدُ فِي الْعِبَادَةِ؛ فَلَا يُحَمِّلُ نَفْسَهُ مَا لَا تُطِيقُ. فَهَذَا تَجِدُهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ مُجَاهَدَاتِ النَّفْسِ وَقَهْرِ الْهَوَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ الْمُبْتَدَعَةِ الْوَعِرَةِ الْقَلِيلَةِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي غَالِبُ مَنْ سَلَكَهَا ارْتَدَّ عَلَى حَافِرِهِ وَنَقَضَ عَهْدَهُ وَلَمْ يَرْعَهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا. وَهَذَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ مَا لَا يُثَابُ عَلَى سُلُوكِ تِلْكَ الطَّرِيقِ وَتَزْكُو بِهِ نَفْسُهُ وَتَسِيرُ بِهِ إلَى رَبِّهِ وَيَجِدُ بِذَلِكَ مِنْ الْمَزِيدِ فِي إيمَانِهِ مَا لَا يَجِدُهُ أَصْحَابُ تِلْكَ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ تَدْعُوَهُمْ أَنْفُسُهُمْ إلَى الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ بَنِي آدَمَ إلَّا مَنْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةِ إلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} . قَالَ طاوس فِي أَمْرِ النِّسَاءِ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهُنَّ كَمَا تَقَدَّمَ فَمَيْلُ النَّفْسِ إلَى النِّسَاءِ عَامٌّ فِي طَبْعِ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ وَقَدْ يُبْتَلَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِالْمَيْلِ إلَى الذُّكْرَانِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ عَنْهُمْ؛ فَيُبْتَلَى بِالْمَيْلِ إلَى المردان وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْفَاحِشَةَ الْكُبْرَى اُبْتُلِيَ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَلَا يَكَادُ أَنْ يَسْلَمَ أَحَدُهُمْ مِنْ الْفَاحِشَةِ إمَّا فِي سِرِّهِ وَإِمَّا

ص: 461

بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرَدِ وَيَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّاسُ مِنْ أَخْبَارِ الْعُشَّاقِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ فَإِذَا اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُ بِبَعْضِ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهَذَا الْجِهَادِ لَيْسَ أَمْرًا أَوْجَبَهُ وَحَرَّمَهُ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ فِي طَاعَةِ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ؛ بَلْ هُوَ أَمْرٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا حِيلَةَ فِيهِ؛ فَيَصِيرُ بِالْمُجَاهِدَةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو يَحْيَى الْقَتَّاتُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: {مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ وَكَتَمَ وَصَبَرَ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ شَهِيدٌ} وَأَبُو يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ؛ لَكِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ فَمِنْ التَّقْوَى أَنْ يَعِفُّ عَنْ كُلِّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ نَظَرٍ بِعَيْنِ وَمِنْ لَفْظٍ بِلِسَانِ وَمِنْ حَرَكَةٍ بِيَدِ وَرِجْلٍ وَمِنْ الصَّبْرِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ شَكْوَى مَا بِهِ إلَى غَيْرِ اللَّهِ عز وجل. فَإِنَّ هَذَا هُوَ الصَّبْرُ الْجَمِيلُ. وَأَمَّا الْكِتْمَانُ فَيُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَنْ يَكْتُمَ بَثَّهُ وَأَلَمَهُ فَلَا يَشْكُو إلَى غَيْرِ اللَّهِ فَمَتَى شَكَا إلَى غَيْرِ اللَّهِ نَقَصَ صَبْرُهُ وَهَذَا أَعْلَى الكتمانين؛ لَكِنَّ هَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَشْكُو مَا بِهِ وَهَذَا عَلَى

ص: 462

وَجْهَيْنِ: فَإِنْ شَكَا ذَلِكَ إلَى طَبِيبٍ يَعْرِفُ طِبَّ الْأَدْيَانِ وَمَضَرَّاتِ النُّفُوسِ وَمَنَافِعَهَا؛ لِيُعَالِجَ نَفْسَهُ بِعِلَاجِ الْإِيمَانِ؛ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَفْتِي وَهَذَا حَسَنٌ. وَإِنْ شَكَا إلَى مَنْ يُعِينُهُ عَلَى الْمُحَرَّمِ فَهَذَا حَرَامٌ وَإِنْ شَكَا إلَى غَيْرِهِ لِمَا فِي الشَّكْوَى مِنْ الرَّاحَةِ كَمَا يَشْكُو الْمُصَابُ مُصِيبَتَهُ إلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ تَعَلُّمَ مَا يَنْفَعُهُ وَلَا الِاسْتِعَانَةَ عَلَى مُصِيبَتِهِ فَهَذَا يُنْقِصُ صَبْرَهُ؛ وَلَكِنْ لَا يَأْثَمُ مُطْلَقًا إلَّا إذَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يُحَرَّمُ كَالْمُصَابِ الَّذِي يَتَسَخَّطُ. و " الثَّانِي " أَنْ يَكْتُمَ ذَلِكَ فَلَا يَتَحَدَّثُ بِهِ مَعَ النَّاسِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إظْهَارِ السُّوءِ وَالْفَاحِشَةِ فَإِنَّ النُّفُوسَ إذَا سَمِعْت مِثْلَ هَذَا تَحَرَّكَتْ وَتَشَهَّتْ وَتَمَنَّتْ وتتيمت وَالْإِنْسَانُ مَتَى رَأَى أَوْ سَمِعَ أَوْ تَخَيَّلَ مَنْ يَفْعَلُ مَا يَشْتَهِيهِ كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إلَى الْفِعْلِ وَالتَّشَبُّهِ بِهِ وَالنِّسَاءُ مَتَى رَأَيْنَ الْبَهَائِمَ تَنْزُو الذُّكُورَ مِنْهَا عَلَى الْإِنَاثِ مِلْنَ إلَى الْبَاءَةِ وَالْمُجَامَعَةِ وَالرَّجُلُ إذَا سَمِعَ مَنْ يَفْعَلُ مَعَ المردان وَالنِّسَاءِ وَرَأَى ذَلِكَ أَوْ تَخَيَّلَهُ فِي نَفْسِهِ دَعَاهُ ذَلِكَ إلَى الْفِعْلِ وَإِذَا ذُكِرَ لِلْإِنْسَانِ طَعَامٌ اشْتَهَاهُ وَمَالَ إلَيْهِ وَإِنْ وُصِفَ لَهُ مَا يَشْتَهِيهِ مِنْ لِبَاسٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ مَسْكَنٍ أَوْ غَيْرِهِ مَالَتْ نَفْسُهُ إلَيْهِ وَالْغَرِيبُ عَنْ وَطَنِهِ مَتَى ذُكِّرَ بِالْوَطَنِ حَنَّ إلَيْهِ وَكُلُّ مَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ مَحَبَّتُهُ إذَا تَصَوَّرَهُ تَحَرَّكَتْ

ص: 463

الْمَحَبَّةُ وَالطَّلَبُ إلَى ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ الْمَطْلُوبِ؛ إمَّا إلَى وَصْفِهِ وَإِمَّا إلَى مُشَاهَدَتِهِ وَكِلَاهُمَا يَحْصُلُ بِهِ تَخَيُّلٌ فِي النَّفْسِ وَقَدْ يَحْصُلُ التَّخَيُّلُ بِالسَّمَاعِ أَوْ الرُّؤْيَةِ أَوْ الْفِكْرِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فَإِذَا تَخَيَّلَتْ النَّفْسُ تِلْكَ الْأُمُورَ الْمُتَعَلِّقَةَ انْقَلَبَتْ إلَى مَا تَخَيَّلَتْهُ فَتَحَرَّكَتْ دَاعِيَةُ الْمَحَبَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحَبَّةً مَحْمُودَةً أَوْ مَذْمُومَةً. وَلِهَذَا تَتَحَرَّكُ النُّفُوسُ إلَى الْحَجِّ إذَا ذُكِرَ الْحِجَازُ أَوْ كَانَ أَوَانُ الْحَجِّ أَوْ رَأَى مَنْ يَذْهَبُ إلَى الْحَجِّ مِنْ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ أَوْ أَصْحَابِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ وَلَوْ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ وَيَرَاهُ لَمَا تَحَرَّكَ وَلَا حَدَثَ مِنْهُ دَاعِيَةُ قُوَّتِهِ إلَى ذَلِكَ فَتَتَحَرَّكُ بِذِكْرِ الْأَبْرَقِ وَالْأَجْرَعِ وَالْعَلِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَأَى تِلْكَ الْمَنَازِلَ لَمَّا كَانَ ذَاهِبًا إلَى مَحْبُوبِهِ فَصَارَ ذِكْرُهَا يُذَكِّرُهُ بِالْمَحْبُوبِ. وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الْمَتَاجِرِ وَالْأَمْوَالِ إذَا سَمِعَ أَحَدُهُمْ بِالْمَكَاسِبِ تَحَرَّكَتْ دَاعِيَتُهُ إلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْفُرَجِ وَالتَّنَزُّهِ إذَا رَأَوْا مَنْ يَقْصِدُ ذَلِكَ تَحَرَّكُوا إلَيْهِ وَهَذِهِ الدَّوَاعِي كُلُّهَا مَرْكُوزَةٌ فِي نُفُوسِ بَنِي آدَمَ وَالْإِنْسَانُ ظَلُومٌ جَهُولٌ. وَكَذَلِكَ ذِكْرُ آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُذَكِّرُ بِهِ وَتُحَرِّكُ مَحَبَّتَهُ فَالْمُبْتَلَى بِالْفَاحِشَةِ وَالْعِشْقِ إذَا ذَكَرَ مَا بِهِ لِغَيْرِهِ تَحَرَّكَتْ نَفْسُ ذَلِكَ الْغَيْرِ إلَى جِنْسِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ

ص: 464

فَإِذَا تَصَوَّرَتْ جِنْسًا تَحَرَّكَ إلَيْهَا الْمَحْبُوبُ. وَلِهَذَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ. وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِسَتْرِ الْفَوَاحِشِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ اُبْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ بِشَيْءِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ} وَقَالَ: {كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ عَلَى الذَّنْبِ قَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَيُصْبِحُ يَتَحَدَّثُ بِهِ} فَمَا دَامَ الذَّنْبُ مَسْتُورًا فَعُقُوبَتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ خَاصَّةً وَإِذَا ظَهَرَ وَلَمْ يُنْكَرْ كَانَ ضَرَرُهُ عَامًّا فَكَيْفَ إذَا كَانَ فِي ظُهُورِهِ تَحْرِيكٌ لِغَيْرِهِ إلَيْهِ. وَلِهَذَا كَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ إنْشَادَ الْأَشْعَارِ: الْغَزَلِ الرَّقِيقِ؛ لِأَنَّهُ يُحَرِّكُ النُّفُوسَ إلَى الْفَوَاحِشِ؛ فَلِهَذَا أَمَرَ مَنْ يُبْتَلَى بِالْعِشْقِ أَنْ يَعِفَّ وَيَكْتُمَ وَيَصْبِرَ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى هَذِهِ الْمُجَاهَدَةِ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ. وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُونَ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ السَّالِكُونَ طَرِيقَ الرُّهْبَانِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَزْهَدُونَ فِي النِّكَاحِ وَفُضُولِ الطَّعَامِ وَالْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا مَحْمُودٌ؛ لَكِنْ عَامَّةَ هَؤُلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعُوا فِي ذُنُوبٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ كَمَا نَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُبْتَلَى بِصُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ وَإِرْفَاقِ النِّسَاءِ؛ فَيُبْتَلَوْنَ بِالْمَيْلِ

ص: 465

إلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مَا لَا يُبْتَلَى بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ الْمُتَّبِعُونَ لِلشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَحِكَايَاتُهُمْ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْكَى بَسْطُهَا فِي كِتَابٍ وَعِنْدَهُمْ مِنْ الْفَوَاحِشِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ مَا لَا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ وَخِيَارُ مَنْ فِيهِمْ يَمِيلُ إلَى الْأَحْدَاثِ وَالْغِنَاءِ وَالسَّمَاعِ؛ لِمَا يَجِدُونَ فِي ذَلِكَ مِنْ رَاحَةِ النُّفُوسِ وَلَوْ اتَّبَعُوا السُّنَّةَ لَاسْتَرَاحُوا مِنْ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ لَمَّا قَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي الْمَنَامِ: لِي فِيكُمْ لَطِيفَتَانِ السَّمَاعُ وَصُحْبَةُ الْأَحْدَاثِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَلَّ مَنْ يَنْجُو مِنْهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا حَتَّى [إنَّهُمْ] لِقُوَّةِ مَحَبَّةِ نُفُوسِهِمْ [لَهُ](1) صَارَ ذَلِكَ مُمْتَزِجًا بِطَرِيقِهِمْ إلَى اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الشَّاهِدِ مِنْ الرَّغْبَةِ فِيمَا اعْتَادَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ مَا لَا يَجِدُهَا بِدُونِ ذَلِكَ وَعِنْدَهُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقَصَائِدِ مِنْ الشَّوْقِ وَالرَّغْبَةِ وَالنَّشَاطِ مَا لَا يَجِدُهُ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَصَارُوا فِي شُبْهَةٍ وَشَهْوَةٍ لَمْ يَكْتَفِ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ بِوُقُوعِهِمْ فِي الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي تَفْتِنُهُمْ حَتَّى جَعَلَهُمْ يَعْتَبِرُونَ ذَلِكَ عِبَادَةً كَاَلَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} الْآيَةَ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ. وَإِذَا وَقَعُوا فِي السَّمَاعِ وَقَعُوا فِيهِ بِشَوْقِ وَرَغْبَةٍ قَوِيَّةٍ وَمَحَبَّةٍ تَامَّةِ

(1)

ما بين معقوفتين غير موجود في المطبوع، ولم أقف عليه في كتاب صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف

أسامة بن الزهراء - منسق الكتاب للموسوعة الشاملة

ص: 466

وَبَذَلُوا فِيهِ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. فَقَدْ يَبْذُلُونَ فِيهِ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَيَدْخُلُونَ فِي الدِّيَاثَةِ لِأَغْرَاضِهِمْ فَيَأْتِي أَحَدُهُمْ بِوَلَدِهِ فَيَهَبُهُ لِلشَّيْخِ يَفْعَلُ مَا أَرَادَ هُوَ وَمَنْ يَلُوذُ بِهِ وَيُسَمُّونَهُ حِوَارًا وَإِنْ كَانَ حَسَنَ الصُّورَةِ اسْتَأْثَرَ بِهِ الشَّيْخُ دُونَهُمْ وَيَعُدُّ أَهْلُهُ ذَلِكَ بَرَكَةً حَصَلَتْ لَهُ مِنْ الشَّيْخِ وَيَرْتَفِعُ الْحَيَاءُ بَيْنَ أُمِّ الصَّبِيِّ وَأَبِيهِ وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ. وَإِذَا صَلَّوْا صَلَّوْا صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ يَقُومُونَ إلَيْهَا وَهُمْ كُسَالَى {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا} . فَقَدْ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ وَمَعَ هَذَا فَهُمْ قَدْ يَزْهَدُونَ فِي بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُمْ وَيَجْتَهِدُونَ فِي عِبَادَاتٍ وَأَذْكَارٍ لَكِنْ مَعَ بِدْعَةٍ وَأَفْعَالٍ لَا تَجُوزُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَتِلْكَ الْبِدْعَةُ هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتْهُمْ فِي اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَإِضَاعَةِ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مِثَالُهَا مِثَالُ سَفِينَةِ نُوحٍ؛ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ. وَهَؤُلَاءِ تَخَلَّفُوا عَنْهَا فَغَرِقُوا بِحُبِّهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ. وَالسَّالِكُونَ لِلشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ إذَا اُبْتُلُوا بِالذُّنُوبِ لَمْ تَكُنْ التَّوْبَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ؛ بَلْ مِنْ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ فَقَدْ تَكُونُ التَّوْبَةُ عَلَيْهِمْ آصَارًا وَأَغْلَالًا كَمَا كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الرُّهْبَانِ فَإِنَّهُمْ إذَا وَقَعَ أَحَدُهُمْ فِي الذَّنْبِ لَمْ يَخْلُصْ مِنْ شَرَهٍ إلَّا بِبَلَاءِ شَدِيدٍ مِنْ أَجْلِ خُرُوجِهِ عَنْ السُّنَّةِ.

ص: 467

وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ السُّلُوكُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِبِدْعَةِ. وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْفُجُورِ الْمُتْرَفِينَ قَدْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ إلَّا بِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَلَا يُمْكِنُهُ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ إلَّا بِذَلِكَ وَهَذَا يَقَعُ لِبِشْرِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَدَاءُ الصَّلَوَاتِ وَاجْتِنَابُ الْكَلَامِ الْمُحَرَّمِ - مِنْ الْغِيبَةِ وَغَيْرِهَا - إلَّا بِأَكْلِ الْحَشِيشَةِ. وَيَقُولُ الْآخَرُ: إنَّ أَكْلَهَا يُعِينُهُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْعُلُومِ وَتَصْفِيَةِ الذِّهْنِ حَتَّى يُسَمِّيَهَا بَعْضُهُمْ مَعْدِنَ الْفِكْرِ وَالذِّكْرِ وَمُحَرِّكَةَ الْعَزْمِ السَّاكِنِ وَكُلُّ هَذَا مِنْ خُدَعِ النَّفْسِ وَمَكْرِ الشَّيْطَانِ بِهَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّهَا لَعَمَى الذِّهْنِ وَيَصِيرُ آكِلُهَا أَبْكَمَ مَجْنُونًا لَا يَعِي مَا يَقُولُ. وَكَذَلِكَ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ مَحَبَّتَهُ لِلَّهِ وَرَغْبَتَهُ فِي الْعِبَادَةِ وَحَرَكَتَهُ وَوَجْدَهُ وَشَوْقَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِسَمَاعِ الْقَصَائِدِ وَمُعَاشَرَةِ الشَّاهِدِ مِنْ الصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ وَسَمَاعِ الْأَصْوَاتِ وَالنَّغَمَاتِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِسَمَاعِ هَذِهِ الْأَصْوَاتِ وَرُؤْيَةِ الصُّوَرِ الْمُحَرَّكَاتِ تَتَحَرَّكُ عِنْدَهُمْ مِنْ دَوَاعِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ مَا لَا تَتَحَرَّكُ بِدُونِ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ بِدُونِ ذَلِكَ قَدْ يَتْرُكُونَ

ص: 468

الصَّلَوَاتِ وَيَفْعَلُونَ الْمُحَرَّمَاتِ الْكِبَارِ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَقَتْلِ النُّفُوسِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ بِهَذَا تَرْتَاضُ نُفُوسُهُمْ وَتَلْتَذُّ بِذَلِكَ لَذَّةً تَصُدُّهَا عَنْ ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ وَالْكَبَائِرِ وَتَحْمِلُهَا عَلَى الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ. وَهَذَا مُسْتَنَدُ كَثِيرٍ مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى طَرِيقِهِمْ بِالسَّمَاعِ الْمُبْتَدَعِ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ وَأَنْوَاعِهِ. مِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو إلَيْهِ بِالدُّفِّ وَالرَّقْص وَمِنْهُمْ مَنْ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ الشَّبَّابَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُهُ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُهُ بِالدُّفِّ وَالْكَفِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُهُ بِأَذْكَارِ وَاجْتِمَاعٍ وَتَسْبِيحَاتٍ وَقِيَامٍ وَإِنْشَادِ أَشْعَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِهِ وَأَلْوَانِهِ. وَرُبَّمَا ضَمُّوا إلَيْهِ مِنْ مُعَاشَرَةِ النِّسَاءِ والمردان وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ توبناهم وَقَدْ كَانُوا لَا يُصَلُّونَ وَلَا يَحُجُّونَ وَلَا يَصُومُونَ بَلْ كَانُوا يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ وَيَقْتُلُونَ النَّفْسَ وَيَزْنُونَ؛ فتوبناهم عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا السَّمَاعِ. وَمَا أَمْكَنَ أَحَدَهُمْ اسْتِتَابَتُهُمْ بِغَيْرِ هَذَا. وَقَدْ يَعْتَرِفُونَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ بِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا أَوْ مُحَرَّمَةٌ؛ وَلَكِنْ يَقُولُونَ مَا أَمْكَنَنَا إلَّا هَذَا وَإِنْ لَمْ نَفْعَلْ هَذَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمُحَرَّمِ حَصَلَ الْوُقُوعُ فِيمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ تَحْرِيمًا وَفِي تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ مَا يَزِيدُ إثْمُهُ عَلَى إثْمِ هَذَا الْمُحَرَّمِ الْقَلِيلِ فِي جَنْبِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الْمُحَرَّمِ الْكَثِيرِ.

ص: 469

وَيَقُولُونَ: إنَّ الْإِنْسَانَ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ نَشَاطًا وَقُوَّةً فِي كَثِيرٍ مِنْ الطَّاعَاتِ إذَا حَصَلَ لَهُ مَا يُحِبُّهُ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا حَرَامًا. وَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ فَلَا يَجِدُ شَيْئًا وَلَا يَفْعَلُهُ. وَهُوَ أَيْضًا يَمْتَنِعُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ إذَا عُوِّضَ بِمَا يُحِبُّهُ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا وَإِلَّا لَمْ يَمْتَنِعْ وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ وَاقِعَةٌ لِكَثِيرِ مِنْ النَّاسِ وَجَوَابُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى ثَلَاثِ مَقَامَاتٍ: " أَحَدُهَا " أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ قِسْمَانِ: " أَحَدُهُمَا " مَا يَقْطَعُ بِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُبِحْ مِنْهُ شَيْئًا لَا لِضَرُورَةِ وَلَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ: كَالشَّرَكِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَالظُّلْمِ الْمَحْضِ وَهِيَ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُحَرَّمَةٌ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ وَبِتَحْرِيمِهَا بَعَثَ اللَّهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ وَلَمْ يُبِحْ مِنْهَا شَيْئًا قَطُّ وَلَا فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ وَلِهَذَا أُنْزِلَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةُ الْمَكِّيَّةُ وَنَفْيُ التَّحْرِيمِ عَمَّا سِوَاهَا؛ فَإِنَّمَا حَرَّمَهُ بَعْدَهَا كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ حَرَّمَهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَلَيْسَ تَحْرِيمُهُ مُطْلَقًا.

ص: 470

وَكَذَلِكَ " الْخَمْرُ " يُبَاحُ لِدَفْعِ الْغُصَّةِ بِالِاتِّفَاقِ وَيُبَاحُ لِدَفْعِ الْعَطَشِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ لَمْ يُبِحْهَا قَالَ: إنَّهَا لَا تَدْفَعُ الْعَطَشَ وَهَذَا مَأْخَذُ أَحْمَد. فَحِينَئِذٍ فَالْأَمْرُ مَوْقُوفٌ عَلَى دَفْعِ الْعَطَشِ بِهَا فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا تَدْفَعُهُ أُبِيحَتْ بِلَا رَيْبٍ كَمَا يُبَاحُ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ لِدَفْعِ الْمَجَاعَةِ وَضَرُورَةِ الْعَطَشِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ يُهْلِكُهُ أَعْظَمَ مِنْ ضَرُورَةِ الْجُوعِ؛ وَلِهَذَا يُبَاحُ شُرْبُ النَّجَاسَاتِ عِنْدَ الْعَطَشِ بِلَا نِزَاعٍ فَإِنْ انْدَفَعَ الْعَطَشُ وَإِلَّا فَلَا إبَاحَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ " الْمَيْسِرُ " فَإِنَّ الشَّارِعَ أَبَاحَ السَّبْقَ فِيهِ بِمَعْنَى الْمَيْسِرِ لِلْحَاجَةِ فِي مَصْلَحَةِ الْجِهَادِ. وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَمْ يُبِحْ الْعِوَضَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُطْلَقًا إلَّا الْمُحَلَّلَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَيْسِرَ أَخَفُّ مِنْ أَمْرِ الْخَمْرِ وَإِذَا أُبِيحَتْ الْخَمْرُ لِلْحَاجَةِ فَالْمَيْسِرُ أَوْلَى. وَالْمَيْسِرُ لَمْ يُحَرَّمْ لِذَاتِهِ إلَّا لِأَنَّهُ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَيُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ. فَإِذَا كَانَ فِيهِ تَعَاوُنٌ عَلَى الرَّمْيِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ وَعَلَى الْجِهَادِ الَّذِي فِيهِ تَعَاوُنٌ وَتَتَأَلَّفُ بِهِ الْقُلُوبُ عَلَى الْجِهَادِ زَالَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ. وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْغَرَرِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمَيْسِرِ وَيُبَاحُ مِنْهُ أَنْوَاعٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَرُجْحَانِ الْمَصْلَحَةِ.

ص: 471

وَكَذَلِكَ " الرِّبَا " حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ وَأَوْجَبَ أَلَّا يُبَاعَ الشَّيْءُ إلَّا بِمِثْلِهِ ثُمَّ أُبِيحَ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ خَرْصًا عِنْدَ الْحَاجَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهَا تُحَرَّمُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. وَلِهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - نَفَى التَّحْرِيمَ عَمَّا سِوَاهَا وَهُوَ التَّحْرِيمُ الْمُطْلَقُ الْعَامُّ فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ مِنْ جِنْسِ الْمُثْبَتِ فَلَمَّا أَثْبَتَ فِيهَا التَّحْرِيمَ الْعَامَّ الْمُطْلَقَ نَفَاهُ عَمَّا سِوَاهَا. و " الْمَقَامُ الثَّانِي " أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا يَفْعَلُ فِي الْإِنْسَانِ وَيَأْمُرُ بِهِ وَيُبِيحُهُ وَبَيْنَ مَا يَسْكُتُ عَنْ نَهْيِ غَيْرِهِ عَنْهُ وَتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مَا لَوْ نَهَى عَنْهُ حَصَلَ مَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْهُ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ وَلَمْ يُبِحْهُ أَيْضًا. وَلِهَذَا‌

‌ لَا يَجُوزُ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ بِمَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ

؛ وَلِهَذَا حُرِّمَ الْخُرُوجُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ بِالسَّيْفِ؛ لِأَجْلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ وَاجِبٍ أَعْظَمَ مِمَّا يَحْصُلُ بِفِعْلِهِمْ الْمُنْكَرَ وَالذُّنُوبَ وَإِذَا كَانَ قَوْمٌ عَلَى بِدْعَةٍ أَوْ فُجُورٍ وَلَوْ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَرٌّ أَعْظَمُ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْ مَنْعُهُمْ مِنْهُ وَلَمْ يَحْصُلْ بِالنَّهْيِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ لَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ. بِخِلَافِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ مِنْ دَعْوَةِ الْخَلْقِ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ يَحْصُلُ بِهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَتِهَا كَدَعْوَةِ مُوسَى

ص: 472

لِفِرْعَوْنَ وَنُوحٍ لِقَوْمِهِ فَإِنَّهُ حَصَلَ لِمُوسَى مِنْ الْجِهَادِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَحَصَلَ لِقَوْمِهِ مِنْ الصَّبْرِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ مَا كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ بِهِ حَمِيدَةً وَحَصَلَ أَيْضًا مِنْ تَغْرِيقِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مَا كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ عَظِيمَةً. وَكَذَلِكَ نُوحٌ حَصَلَ لَهُ مَا أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ ذُرِّيَّتُهُ هُمْ الْبَاقِينَ وَأَهْلَك اللَّهُ قَوْمَهُ أَجْمَعِينَ فَكَانَ هَلَاكُهُمْ مَصْلَحَةً. فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ إذَا زَادَ شَرُّهُ بِالنَّهْيِ وَكَانَ النَّهْيُ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً كَانَ حَسَنًا وَأَمَّا إذَا زَادَ شَرُّهُ وَعَظُمَ وَلَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ خَيْرٌ يَفُوتُهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَتِهِ مَصْلَحَةٌ زَائِدَةٌ فَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى شَرٍّ أَعْظَمَ مِنْهُ لَمْ يُشْرَعْ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ لَا صَبْرَ لَهُ فَيُؤْذَى فَيَجْزَعُ جَزَعًا شَدِيدًا يَصِيرُ بِهِ مُذْنِبًا وَيَنْتَقِصُ بِهِ إيمَانُهُ وَدِينُهُ. فَهَذَا لَمْ يَحْصُلْ بِهِ خَيْرٌ لَا لَهُ وَلَا لِأُولَئِكَ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا صَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ وَجَاهَدَ وَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ بَلْ اسْتَعْمَلَ التَّقْوَى وَالصَّبْرَ؛ فَإِنَّ هَذَا تَكُونُ عَاقِبَتُهُ حَمِيدَةً. وَأُولَئِكَ قَدْ يَتُوبُونَ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِبَرَكَتِهِ وَقَدْ يُهْلِكُهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَيَكُونُ ذَلِكَ مَصْلَحَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

ص: 473

وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلُ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لِظَنِّهِ أَنَّهُ يُعِينُهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مَفْسَدَةً أَوْ مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَتِهِ وَقَدْ تَنْقَلِبُ تِلْكَ الطَّاعَةُ مَفْسَدَةً؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ حَكِيمٌ فَلَوْ عَلِمَ أَنَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَمْ يُحَرِّمْهُ لَكِنْ قَدْ يَفْعَلُ الْإِنْسَانُ الْمُحَرَّمَ ثُمَّ يَتُوبُ وَتَكُونُ مَصْلَحَتُهُ أَنَّهُ يَتُوبُ مِنْهُ وَيَحْصُلُ لَهُ بِالتَّوْبَةِ خُشُوعٌ وَرِقَّةٌ وَإِنَابَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ الذُّنُوبَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَصْلَحَةٌ مَعَ التَّوْبَةِ مِنْهَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ بِعَدَمِ الذُّنُوبِ كِبْرٌ وَعُجْبٌ وَقَسْوَةٌ فَإِذَا وَقَعَ فِي ذَنْبٍ أَذَلَّهُ ذَلِكَ وَكَسَرَ قَلْبَهُ وَلَيَّنَ قَلْبَهُ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّوْبَةِ. وَلِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا النَّارَ وَيَفْعَلُ السَّيِّئَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا الْجَنَّةَ وَهَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ فِي ابْتِلَاءِ مَنْ اُبْتُلِيَ بِالذُّنُوبِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَأَمَّا بِدُونِ التَّوْبَةِ فَلَا يَكُونُ الْمُحَرَّمُ إلَّا مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتَقِدَ حِلَّ مَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ قَطْعًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ قَطْعًا فَإِنْ غَلَبَتْهُ نَفْسُهُ وَشَيْطَانُهُ فَوَقَعَ فِيهِ تَابَ مِنْهُ فَإِنْ تَابَ فَصَارَ بِالتَّوْبَةِ خَيْرًا مِمَّا كَانَ قَبْلَهُ فَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِهِ حِينَ تَابَ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَتُبْ لَفَسَدَ حَالُهُ بِالذَّنْبِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ أَنَا أَفْعَلُ ثُمَّ أَتُوبُ وَلَا يُبِيحُ الشَّارِعُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ أَنَا أُطْعِمُ نَفْسِي مَا يُمْرِضُنِي ثُمَّ أَتَدَاوَى أَوْ آكُلُ السُّمَّ ثُمَّ أَشْرَبُ التِّرْيَاقَ.

ص: 474

وَالشَّارِعُ حَكِيمٌ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّوْبَةِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَحْصُلُ الدَّوَاءُ بِالتِّرْيَاقِ وَغَيْرِهِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَتَمَكَّنُ مِنْ الشُّرْبِ أَمْ لَا؟ لَكِنْ لَوْ وَقَعَ هَذَا وَكَانَتْ آخِرَتُهُ إلَى التَّوْبَةِ النَّصُوحِ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَحْسَنَ إلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ وَبِالْعَفْوِ عَمَّا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِ وَقَدْ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا لَيْسَ صَلَاحُهُ إلَّا فِي أَنْ يُذْنِبَ وَيَتُوبَ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ شَرًّا مِنْهُ لَوْ لَمْ يُذْنِبْ وَيَتُبْ؛ لَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَحِكْمَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ الْإِنْسَانَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ وَلَيْسَ مَا يَفْعَلُهُ خَلْقًا - لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ - يَجُوزُ لِلرُّسُلِ وَلِلْعِبَادِ أَنْ يَفْعَلُوهُ وَيَأْمُرُوا بِهِ. وَ‌

‌قِصَّةُ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى لَمْ تَكُنْ مُخَالِفَةً لِشَرْعِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ

وَلَا فَعَلَ الْخَضِرُ مَا فَعَلَهُ لِكَوْنِهِ مُقَدَّرًا كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ؛ بَلْ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ مَا عَلِمَهُ الْخَضِرُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مُحَرَّمًا مُطْلَقًا؛ وَلَكِنْ خَرَقَ السَّفِينَةَ وَقَتَلَ الْغُلَامَ وَأَقَامَ الْجِدَارَ فَإِنَّ إتْلَافَ بَعْضِ الْمَالِ لِصَلَاحِ أَكْثَرِهِ هُوَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ دَائِمًا. وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْإِنْسَانِ الصَّائِلِ لِحِفْظِ دِينِ غَيْرِهِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ وَصَبْرُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْجُوعِ مَعَ إحْسَانِهِ إلَى غَيْرِهِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ. فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْأُمُورِ مَا ظَاهِرُهُ فَسَادٌ فَيُحَرِّمُهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْحِكْمَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا فُعِلَ وَهُوَ مُبَاحٌ فِي الشَّرْعِ

ص: 475

بَاطِنًا وَظَاهِرًا لِمَنْ عَلِمَ مَا فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ الَّتِي تُوجِبُ حُسْنَهُ وَإِبَاحَتَهُ. وَهَذَا لَا يَجِيءُ فِي الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّ الشِّرْكَ وَالْقَوْلَ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ وَالْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالظُّلْمَ: لَا يَكُونُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَقَتْلُ النَّفْسِ أُبِيحَ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ؛ فَلَيْسَ مِنْ الْأَرْبَعَةِ. وَكَذَلِكَ إتْلَافُ الْمَالِ يُبَاحُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَكَذَلِكَ الصَّبْرُ عَلَى الْمَجَاعَةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَالْعَدْلُ وَاجِبٌ مُطْلَقًا فِي كُلِّ حَالٍ وَفِي كُلِّ شَرْعٍ؛ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَيَدْعُوهُ مُخْلِصًا لَهُ لَا يَسْقُطُ هَذَا عَنْهُ بِحَالِ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا أَهْلُ التَّوْحِيدِ وَهُمْ أَهْلُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ". فَهَذَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ {مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ لَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} الْحَدِيثَ. فَلَا يَنْجُوَنَّ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إلَّا مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ دِينَهُ وَعِبَادَتَهُ وَدَعَاهُ

ص: 476

مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ وَلَمْ يَعْبُدْهُ فَهُوَ مُعَطِّلٌ عَنْ عِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ غَيْرِهِ: كَفِرْعَوْنَ وَأَمْثَالِهِ فَهُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمُشْرِكِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَلَا يَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ أَلْبَتَّةَ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ دِينَا غَيْرَهُ. وَلَكِنْ لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ أَحَدًا حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُ فَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ مُؤْمِنَةٌ وَلَا يَدْخُلُهَا مُشْرِكٌ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ فَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فِي الدُّنْيَا اُمْتُحِنَ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ إلَّا مَنْ اتَّبَعَ الشَّيْطَانَ فَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ لَا يَدْخُلَ النَّارَ وَلَا يُعَذِّبُ اللَّهُ بِالنَّارِ أَحَدًا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا فَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ رَسُولٍ إلَيْهِ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَيِّتِ فِي الْفَتْرَةِ الْمَحْضَةِ فَهَذَا يُمْتَحَنُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ. فَيَجِبُ الْفَرْقُ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ - وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا هُوَ اللَّازِمُ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهُوَ الْعَدْلُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ لَا يُبَاحُ مِنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ الْفَوَاحِشُ وَالظُّلْمُ وَالشِّرْكُ وَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ - وَبَيْنَ مَا سِوَى ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا

ص: 477

بِهِ شَيْئًا} فَهَذَا مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ مِنْهُ شَيْءٌ {وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا} فَهَذَا فِيهِ تَقْيِيدٌ. فَإِنَّ الْوَالِدَ إذَا دَعَا الْوَلَدَ إلَى الشِّرْكِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطِيعَهُ بَلْ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ وَهَذَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِلْوَالِدِ هُوَ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ مُشْرِكًا جَاز لِلْوَلَدِ قَتْلُهُ وَفِي كَرَاهَتِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. قَوْلُهُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إمْلَاقٍ} فَهَذَا تَحْرِيمٌ خَاصٌّ {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} هَذَا مُطْلَقٌ {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} هَذَا مُقَيَّدٌ فَإِنَّ يَتَامَى الْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الْحَرْبِ يَجُوزُ غَنِيمَةُ أَمْوَالِهِمْ؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: هَذَا أَخْذٌ وَقُرْبَانٌ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إذَا فُسِّرَ الْأَحْسَنُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} هَذَا مُقَيَّدٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} هَذَا مُطْلَقٌ. {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} فَالْوَفَاءُ وَاجِبٌ؛ لَكِنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ عَهْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَسْكُتُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ وَبَيْنَ مَا يَلْفِظُ بِهِ وَيَفْعَلُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ فَحَصَلَ بِسَبَبِهِ خَيْرٌ وَبَيْنَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَبْدُ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِهِ خَيْرٌ.

ص: 478

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

فَصْلٌ:

قَوْله - تَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} لَا يَقْتَضِي تَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لَا نَهْيًا وَلَا إذْنًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّهُ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: {إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْهُ} . وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخشني مَرْفُوعًا فِي تَأْوِيلِهَا {إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك بخويصة نَفْسِك} وَهَذَا يُفَسِّرُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي مُسْلِمٍ: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} فَإِذَا قَوِيَ أَهْلُ الْفُجُورِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمْ إصْغَاءٌ إلَى

ص: 479

الْبِرِّ؛ بَلْ يُؤْذُونَ النَّاهِيَ لِغَلَبَةِ الشُّحِّ وَالْهَوَى وَالْعُجْبِ سَقَطَ التَّغْيِيرُ بِاللِّسَانِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَبَقِيَ بِالْقَلْبِ و " الشُّحُّ " هُوَ شِدَّةُ الْحِرْصِ الَّتِي تُوجِبُ الْبُخْلَ وَالظُّلْمَ وَهُوَ مَنْعُ الْخَيْرِ وَكَرَاهَتُهُ و " الْهَوَى الْمُتَّبَعُ " فِي إرَادَةِ الشَّرِّ وَمَحَبَّتِهِ و " الْإِعْجَابُ بِالرَّأْيِ " فِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ فَذَكَرَ فَسَادَ الْقُوَى الثَّلَاثِ الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ وَبِإِزَائِهَا الثَّلَاثُ الْمُنْجِيَاتُ: خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَكَلِمَةُ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا} وَهِيَ الَّتِي سَأَلَهَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَشْيَتَك فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَأَسْأَلُك كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا وَأَسْأَلُك الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى} . فَخَشْيَةُ اللَّهِ بِإِزَاءِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فَإِنَّ الْخَشْيَةَ تَمْنَعُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى بِإِزَاءِ الشُّحِّ الْمُطَاعِ وَكَلِمَةُ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا بِإِزَاءِ إعْجَابِ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ وَمَا ذَكَرَهُ الصِّدِّيقُ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ الْزَمُوهَا وَأَقْبِلُوا عَلَيْهَا وَمِنْ مَصَالِحِ النَّفْسِ فِعْلُ مَا أُمِرَتْ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَقَالَ: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} وَإِنَّمَا يَتِمُّ الِاهْتِدَاءُ إذَا أُطِيعَ اللَّهُ وَأُدِّيَ الْوَاجِبُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَغَيْرِهِمَا؛ وَلَكِنَّ فِي الْآيَةِ فَوَائِدَ عَظِيمَةً:

ص: 480

" أَحَدُهَا " أَلَّا يَخَافَ الْمُؤْمِنُ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوهُ إذَا كَانَ مُهْتَدِيًا.

" الثَّانِي " أَلَّا يَحْزَنَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَجْزَعَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ مَعَاصِيَهُمْ لَا تَضُرُّهُ إذَا اهْتَدَى وَالْحُزْنُ عَلَى مَا لَا يَضُرُّ عَبَثٌ وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ مَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} . " الثَّالِثُ " أَلَّا يَرْكَنَ إلَيْهِمْ وَلَا يَمُدَّ عَيْنَهُ إلَى مَا أُوتُوهُ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْمَالِ وَالشَّهَوَاتِ كَقَوْلِهِ: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} فَنَهَاهُ عَنْ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُمْ فِي آيَةٍ وَنَهَاهُ عَنْ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ وَالرَّهْبَةِ مِنْهُمْ فِي آيَةٍ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَأَلَّمُ عَلَيْهِمْ وَمِنْهُمْ إمَّا رَاغِبًا وَإِمَّا رَاهِبًا. " الرَّابِعُ " أَلَّا يَعْتَدِيَ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي بِزِيَادَةِ عَلَى الْمَشْرُوعِ فِي بُغْضِهِمْ أَوْ ذَمِّهِمْ أَوْ نَهْيِهِمْ أَوْ هَجْرِهِمْ أَوْ عُقُوبَتِهِمْ؛ بَلْ يُقَالُ لِمَنْ اعْتَدَى عَلَيْهِمْ عَلَيْك نَفْسَك لَا يَضُرُّك مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْت كَمَا قَالَ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَقَالَ: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْآمِرِينَ النَّاهِينَ قَدْ يَتَعَدَى

ص: 481

حُدُودَ اللَّهِ إمَّا بِجَهْلِ وَإِمَّا بِظُلْمِ وَهَذَا بَابٌ يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِيهِ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْإِنْكَارُ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْفَاسِقِينَ وَالْعَاصِينَ. " الْخَامِسُ " أَنْ يَقُومَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ الْعِلْمِ وَالرِّفْقِ وَالصَّبْرِ وَحُسْنِ الْقَصْدِ وَسُلُوكِ السَّبِيلِ الْقَصْدِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} وَفِي قَوْلِهِ: {إذَا اهْتَدَيْتُمْ} . فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ تُسْتَفَادُ مِنْ الْآيَةِ لِمَنْ هُوَ مَأْمُورٌ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَفِيهَا الْمَعْنَى الْآخَرُ. وَهُوَ إقْبَالُ الْمَرْءِ عَلَى مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَإِعْرَاضُهُ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ: {مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ} وَلَا سِيَّمَا كَثْرَةُ الْفُضُولِ فِيمَا لَيْسَ بِالْمَرْءِ إلَيْهِ حَاجَةٌ مِنْ أَمْرِ دِينِ غَيْرِهِ وَدُنْيَاهُ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ التَّكَلُّمُ لِحَسَدِ أَوْ رِئَاسَةٍ. وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ فَصَاحِبُهُ إمَّا مُعْتَدٍ ظَالِمٌ وَإِمَّا سَفِيهٌ عَابِثٌ وَمَا أَكْثَرُ مَا يُصَوِّرُ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ بِصُورَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ. فَتَأَمَّلْ الْآيَةَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ أَنْفَعِ الْأَشْيَاءِ لِلْمَرْءِ وَأَنْتَ إذَا تَأَمَّلْت مَا يَقَعُ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ عُلَمَائِهَا وَعُبَّادِهَا وَأُمَرَائِهَا

ص: 482

وَرُؤَسَائِهَا وَجَدْت أَكْثَرَهُ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ الْبَغْيُ بِتَأْوِيلِ أَوْ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ كَمَا بَغَتْ الْجَهْمِيَّة عَلَى الْمُسْتَنَّةِ فِي مِحْنَةِ الصِّفَاتِ وَالْقُرْآنِ؛ مِحْنَةِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَكَمَا بَغَتْ الرَّافِضَةُ عَلَى الْمُسْتَنَّةِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً وَكَمَا بَغَتْ النَّاصِبَةُ عَلَى عَلِيٍّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَكَمَا قَدْ تَبْغِي الْمُشَبِّهَةُ عَلَى الْمُنَزِّهَةِ وَكَمَا قَدْ يَبْغِي بَعْضُ الْمُسْتَنَّةِ إمَّا عَلَى بَعْضِهِمْ وَإِمَّا عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ بِزِيَادَةِ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَهُوَ الْإِسْرَافُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِمْ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} . وَبِإِزَاءِ هَذَا الْعُدْوَانِ تَقْصِيرُ آخَرِينَ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْحَقِّ أَوْ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ كُلِّهَا فَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا أَمَرَ اللَّهُ بِأَمْرِ إلَّا اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِأَمْرَيْنِ - لَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا ظَفَرَ - غُلُوٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ. فَالْمُعِينُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ بِإِزَائِهِ تَارِكُ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَفَاعِلُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَزِيَادَةٍ مَنْهِيٍّ عَنْهَا بِإِزَائِهِ تَارِكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَبَعْضِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَاَللَّهُ يَهْدِينَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ.

ص: 483

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

فَصْلٌ:

الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي آيَةِ الشَّهَادَةِ فِي قَوْلِهِ {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} أَيْ بِقَوْلِنَا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى حُذِفَ ضَمِيرُ كَانَ لِظُهُورِهِ أَيْ وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} أَيْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الشَّهَادَةَ الْمُزَوَّرَةَ يُعْتَاضُ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَلَيْسَ أَحَدٌ يَشْهَدُ شَهَادَةً مُزَوَّرَةً بِلَا عِوَضٍ - وَلَوْ مَدْحَ - أَوْ اتِّخَاذَ يَدٍ. وَآفَةُ الشَّهَادَةِ: إمَّا اللَّيُّ وَإِمَّا الْإِعْرَاضُ: الْكَذِبُ وَالْكِتْمَانُ فَيَحْلِفَانِ لَا نَشْتَرِي بِقَوْلِنَا ثَمَنًا: أَيْ لَا نُكَذِّبُ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ أَوْ لَا نَشْتَرِي بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُؤْتَمَنَيْنِ فَعَلَيْهِمَا عَهْدٌ بِتَسْلِيمِ الْمَالِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ؛ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ عَهْدٌ مِنْ الْعُهُودِ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا} أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ

ص: 484

فِي الشَّهَادَةِ أَوْ الْأَمَانَةِ. وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَمَانَةِ فَإِنَّهُمَا اسْتَشْهَدَا وَائْتَمَنَا لَكِنَّ ائْتِمَانَهُمَا لَيْسَ خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ؛ بَلْ حُكْمُهُ ظَاهِرٌ فَلَمْ يَحْتَجْ فِيهِ إلَى تَنْزِيلٍ بِخِلَافِ اسْتِشْهَادِهِمَا وَالْمَعْثُورُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْإِثْمِ ظُهُورُ بَعْضِ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ مَنْ اشْتَرَاهَا مِنْهُمَا بَعْدَ أَنْ وَجَدَ ذِكْرَهَا فِي الْوَصِيَّةِ وَسُئِلَا عَنْهَا فَأَنْكَرَاهَا. وَقَوْلُهُ: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَمَّنًا مَعْنًى بَغَى عَلَيْهِمْ وعدى (عَلَيْهِمْ كَمَا يُقَالُ فِي الْغَصْبِ: غَصَبْت عَلَيَّ مَالِي. وَلِهَذَا قِيلَ: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا} أَيْ كَمَا اعْتَدَوْا. ثُمَّ قَوْلُهُ: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبُخَارِيِّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بِمَعْنَى مَا فِي الْقُرْآنِ فَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِيَيْنِ بَعْدَ أَنْ اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ لَمَّا عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا وَهُوَ إخْبَارُ الْمُشْتَرِينَ أَنَّهُمْ اشْتَرَوْا " الْجَامَ " مِنْهُمَا بَعْدَ قَوْلِهِمَا مَا رَأَيْنَاهُ فَحَلَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اثْنَيْنِ مِنْ الْمُدَّعِينَ الْأُولَيَانِ وَأَخَذَ " الْجَامَ " مِنْ الْمُشْتَرِي وَسَلَّمَ إلَى الْمُدَّعِي وَبَطَلَ الْبَيْعُ وَهَذَا لَا يَكُونُ مَعَ إقْرَارِهِمَا بِأَنَّهُمَا بَاعًا الْجَامَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إلَى يَمِينِ الْمُدَعَّيَيْنِ لَوْ اعْتَرَفَا بِأَنَّهُ جَامُ الْمُوصِي وَأَنَّهُمَا

ص: 485

غَصَبَاهُ وَبَاعَاهُ بَلْ بَقُوا عَلَى إنْكَارِ قَبْضِهِ مَعَ بَيْعِهِ أَوْ ادَّعَوْا مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَوْصَى لَهُمَا بِهِ وَهَذَا بَعِيدٌ. فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُتَّهَمَ بِخِيَانَةِ وَنَحْوِهَا - كَمَا اتَّهَمَ هَؤُلَاءِ - إذَا ظَهَرَ كَذِبُهُ وَخِيَانَتُهُ كَانَ ذَلِكَ لَوْثًا يُوجِبُ رُجْحَانَ جَانِبِ الْمُدَّعِي؛ فَيَحْلِفُ وَيَأْخُذُ كَمَا قُلْنَا فِي الدِّمَاءِ سَوَاءٌ وَالْحِكْمَةُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يُفْعَلُ عَلَانِيَةً بَلْ سِرًّا فَيَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي مُطْلَقًا أُخِذَ بِقَوْلِ مَنْ يَتَرَجَّحُ جَانِبُهُ فَمَعَ عَدَمِ اللَّوْثِ جَانِبُ الْمُنْكَرِ رَاجِحٌ أَمَّا إذَا كَانَ قَتْلٌ وَلَوْثٌ قَوِيَ جَانِبُ الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ. وَكَذَلِكَ الْخِيَانَةُ وَالسَّرِقَةُ يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِمَا فِي الْعَادَةِ وَمَنْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَسْرِقَ فَقَدْ لَا يَتَوَرَّعُ عَنْ الْكَذِبِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَوْثٌ فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ أَمَّا إذَا ظَهَرَ لَوْثٌ بِأَنْ يُوجَدَ بَعْضُ الْمَسْرُوقِ عِنْدَهُ فَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي وَيَأْخُذُ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ابْتِدَاءً ثُمَّ ظَهَرَ بَعْضُ الْمَسْرُوقِ عِنْدَ مَنْ اشْتَرَاهُ أَوْ اتَّهَبَهُ أَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ فَإِنَّ هَذَا اللَّوْثَ فِي تَغْلِيبِ الظَّنِّ أَقْوَى؛ لَكِنْ فِي الدَّمِ قَدْ يَتَيَقَّنُ الْقَتْلُ وَيَشُكُّ فِي عَيْنِ الْقَاتِلِ فَالدَّعْوَى إنَّمَا هِيَ بِالتَّعْيِينِ. وَأَمَّا فِي الْأَمْوَالِ: فَتَارَةً يَتَيَقَّنُ ذَهَابُ الْمَالِ وَقَدْرِهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ

ص: 486

مَعْلُومًا فِي مَكَانٍ مَعْرُوفٍ، وَتَارَةً يَتَيَقَّنُ ذَهَابَ مَالٍ لَا قَدْرُهُ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مَالٌ وَذَهَبَ. وَتَارَةً يَتَيَقَّنُ هَتْكَ الْحِرْزِ وَلَا يَدْرِي أَذَهَبَ بِشَيْءِ أَمْ لَا؟ هَذَا فِي دَعْوَى السَّرِقَةِ وَأَمَّا فِي دَعْوَى الْخِيَانَةِ فَلَا تُعْلَمُ الْخِيَانَةُ فَإِذَا ظَهَرَ بَعْضُ الْمَالِ الْمُتَّهَمِ بِهِ عِنْدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ مِنْ قَبْضِهِ مِنْهُ ظَهَرَ اللَّوْثُ بِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْمُدَّعِي فَإِنَّ تَحْلِيفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بَعِيدٌ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ. وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ} جَمَعَ فِيهِ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ فَكَمَا أَنَّ الدِّمَاءَ إذَا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي لَوْثٌ حَلَفَ فَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ كَمَا حَلَّفْنَاهُ مَعَ شَاهِدِهِ فَكُلُّ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدِهِ كَمَا جَعَلْنَا فِي الدِّمَاءِ الشَّهَادَةَ الْمُزَوَّرَةَ لِنَقْصِ نِصَابِهَا أَوْ صِفَاتِهَا لَوْثًا وَكَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ جَعَلَ الشَّاهِدَ مَعَ الْيَمِينِ فَالشَّاهِدُ الْمُزَوِّرُ مَعَ لَوْثٍ وَهُوَ. . . (1) لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ فِي هَذَا حَالُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّ بَابَ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا فَاسِقٌ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ. . . (2) إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا عَدْلًا. وَكَذَلِكَ الْمُدَّعِي قَدْ يَكْذِبُ فَاعْتِبَارِ الْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ فِي هَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْأَنْصَارِيِّ: كَيْفَ نَرْضَى بِأَيْمَانِ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُتَّهَمَ إذَا كَانَ فَاجِرًا فَلِلْمُدَّعِي أَنْ لَا يَرْضَى بِيَمِينِهِ لِأَنَّهُ مَنْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَسْرِقَ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَحْلِفَ.

(1، 2) بياض بالأصل

ص: 487

سُورَةُ الْأَنْعَامِ

سُئِلَ رضي الله عنه:

عَنْ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} وقَوْله تَعَالَى {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلَّا فِي كِتَابٍ} وقَوْله تَعَالَى {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} هَلْ الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَالْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ عِنْدُهُ عَلَى عَرْشِهِ} الْحَدِيثَ. وَقَدْ جَاءَ: {جَفَّ الْقَلَمُ} فَمًا مَعْنَى ذَلِكَ فِي الْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ؟ . وَهَلْ شُرِعَ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يَقُولَ: " اللَّهُمَّ إنْ كُنْت كَتَبْتنِي كَذَا فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي كَذَا فَإِنَّك قُلْت: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وَهَلْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَدْعُو بِمِثْلِ هَذَا؟ وَهَلْ الصَّحِيحُ عِنْدَكُمْ أَنَّ الْعُمْرَ يَزِيدُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

فَأَجَابَ رضي الله عنه:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،

ص: 488

أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} فَالْأَجَلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَجَلُ كُلِّ عَبْدٍ؛ الَّذِي يَنْقَضِي بِهِ عُمُرُهُ وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى عِنْدَهُ هُوَ: أَجَلُ الْقِيَامَةِ الْعَامَّةِ. وَلِهَذَا قَالَ: {مُسَمًّى عِنْدَهُ} فَإِنَّ وَقْتَ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ كَمَا قَالَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلَّا هُوَ} . بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: (مُسَمًّى كَقَوْلِهِ: {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} إذْ لَمْ يُقَيِّدْ بِأَنَّهُ مُسَمًّى عِنْدَهُ فَقَدْ يَعْرِفُهُ الْعِبَادُ. وَأَمَّا أَجَلُ الْمَوْتِ فَهَذَا تَعْرِفُهُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ رِزْقَ الْعَبْدِ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. كَمَا قَالَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ -: إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خُلُقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُبْعَثُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ: اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ} فَهَذَا الْأَجَلُ الَّذِي هُوَ أَجَلُ الْمَوْتِ قَدْ يُعَلِّمُهُ اللَّهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ. وَأَمَّا أَجَلُ الْقِيَامَةِ الْمُسَمَّى عِنْدَهُ فَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا هُوَ.

ص: 489

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} فَقَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ أَيْ مَا يُعَمَّرُ مِنْ عُمُرِ إنْسَانٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِ إنْسَانٍ ثُمَّ التَّعْمِيرُ وَالتَّقْصِيرُ يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّ هَذَا يَطُولُ عُمْرُهُ وَهَذَا يَقْصُرُ عُمُرُهُ فَيَكُونُ تَقْصِيرُهُ نَقْصًا لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ الْمُعَمَّرَ يَطُولُ عُمُرُهُ وَهَذَا يَقْصُرُ عُمُرُهُ فَيَكُونُ تَقْصِيرُهُ نَقْصًا لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ التَّعْمِيرَ زِيَادَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى آخَرِ. وَقَدْ يُرَادُ بِالنَّقْصِ النَّقْصُ مِنْ الْعُمُرِ الْمَكْتُوبِ كَمَا يُرَادُ بِالزِّيَادَةِ الزِّيَادَةُ فِي الْعُمُرِ الْمَكْتُوبِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ} وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبَرَكَةُ فِي الْعُمُرِ بِأَنْ يَعْمَلَ فِي الزَّمَنِ الْقَصِيرِ مَا لَا يَعْمَلُهُ غَيْرُهُ إلَّا فِي الْكَثِيرِ قَالُوا: لِأَنَّ الرِّزْقَ وَالْأَجَلَ مُقَدَّرَانِ مَكْتُوبَانِ. فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ تِلْكَ الْبَرَكَةُ. وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي الْعَمَلِ وَالنَّفْعِ. هِيَ أَيْضًا مُقَدَّرَةٌ مَكْتُوبَةٌ وَتَتَنَاوَلُ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. وَالْجَوَابُ الْمُحَقَّقُ: أَنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ لِلْعَبْدِ أَجَلًا فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ

ص: 490

فَإِذَا وَصَلَ رَحِمَهُ زَادَ فِي ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ. وَإِنْ عَمِلَ مَا يُوجِبُ النَّقْصَ نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ. وَنَظِيرُ هَذَا مَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّ آدَمَ لَمَّا طَلَبَ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُرِيَهُ صُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَأَرَاهُ إيَّاهُمْ فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ بَصِيصٌ فَقَالَ مَنْ هَذَا يَا رَبِّ؟ فَقَالَ ابْنُك دَاوُد. قَالَ: فَكَمْ عُمُرُهُ؟ قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً. قَالَ: وَكَمْ عُمْرِي؟ قَالَ: أَلْفُ سَنَةٍ. قَالَ فَقَدْ وَهَبْت لَهُ مِنْ عُمْرِي سِتِّينَ سَنَةً. فَكُتِبَ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَشَهِدَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِي سِتُّونَ سَنَةً. قَالُوا: وَهَبْتهَا لِابْنِك دَاوُد. فَأَنْكَرَ ذَلِكَ فَأَخْرَجُوا الْكِتَابَ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَسِيَ آدَمَ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَجَحَدَ آدَمَ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ} وَرُوِيَ أَنَّهُ كَمَّلَ لِآدَمَ عُمُرَهُ ولدَاوُد عُمُرَهُ. فَهَذَا دَاوُد كَانَ عُمُرُهُ الْمَكْتُوبُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ جَعَلَهُ سِتِّينَ وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْت كَتَبَتْنِي شَقِيًّا فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي سَعِيدًا فَإِنَّك تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا كَتَبَهُ لَهُ وَمَا يَزِيدُهُ إيَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْمَلَائِكَةُ لَا عِلْمَ لَهُمْ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ كَوْنِهَا وَبَعْدَ كَوْنِهَا؛

ص: 491

فَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ وَأَمَّا عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَبْدُو لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَلَا مَحْوَ فِيهِ وَلَا إثْبَاتَ. وَأَمَّا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَهَلْ فِيهِ مَحْوٌ وَإِثْبَاتٌ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ؟ .

ص: 492

وَقَالَ أَيْضًا:

فَصْلٌ:

ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ يَشَاءُ فِي قِصَّةِ مُنَاظِرَةِ إبْرَاهِيمَ وَفِي قِصَّةِ احْتِيَالِ يُوسُفَ وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ: بِالْعِلْمِ؛ فَإِنَّ سِيَاقَ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقِصَّةُ إبْرَاهِيمَ فِي الْعِلْمِ بِالْحُجَّةِ وَالْمُنَاظَرَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْخَصْمِ عَنْ الدِّينِ وَقِصَّةُ يُوسُفَ فِي الْعِلْمِ بِالسِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ لِتَحْصُلَ مَنْفَعَةُ الْمَطْلُوبِ فَالْأَوَّل عَلِمَ بِمَا يَدْفَعُ الْمَضَارَّ فِي الدِّينِ وَالثَّانِي عَلِمَ بِمَا يَجْلِبُ الْمَنَافِعَ أَوْ يُقَالُ: الْأَوَّلُ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَدْفَعُ الْمَضَرَّةَ عَنْ الدِّينِ وَيَجْلِبُ مَنْفَعَتَهُ وَالثَّانِي عَلِمَ بِمَا يَدْفَعُ الْمَضَرَّةَ عَنْ الدُّنْيَا وَيَجْلِبُ مَنْفَعَتَهَا أَوْ يُقَالُ قِصَّةُ إبْرَاهِيمَ فِي عِلْمِ الْأَقْوَالِ النَّافِعَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَقِصَّةُ يُوسُفَ فِي عِلْمِ الْأَفْعَالِ النَّافِعَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا فَالْحَاجَةُ فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ قَدْ تَكُونُ إلَى الْقَوْلِ وَقَدْ تَكُونُ. . . (1).

وَلِهَذَا كَانَ الْمُقَصِّرُونَ عَنْ عِلْمِ الْحُجَجِ وَالدَّلَالَاتِ، وَعِلْمِ السِّيَاسَةِ

(1)

خرم بالأصل

وفي نسخة شركة حرف الإلكترونية: " قد تكون إلى القول وقد تكون إلى الفعل "

ص: 493

وَالْإِمَارَاتِ مَقْهُورِينَ مَعَ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ تَارَةً بِالِاحْتِيَاجِ إلَيْهِمْ إذَا هَجَمَ عَدُوٌّ يُفْسِدُ الدِّينَ بِالْجَدَلِ أَوْ الدُّنْيَا بِالظُّلْمِ وَتَارَةً بِالِاحْتِيَاجِ إلَيْهِمْ إذَا هَجَمَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ وَتَارَةً بِالِاحْتِيَاجِ إلَيْهِمْ لِتَخْلِيصِ بَعْضِهِمْ مِنْ شَرِّ بَعْضٍ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَتَارَةً يَعِيشُونَ فِي ظِلِّهِمْ فِي مَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ مُبْتَدِعٌ يَسْتَطِيلُ عَلَيْهِمْ وَلَا وَالٍ يَظْلِمُهُمْ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِوُجُودِ عُلَمَاءِ الْحُجَجِ الدَّامِغَةِ لِأَهْلِ الْبِدَعِ وَالسِّيَاسَةِ الدَّافِعَةِ لِلظُّلْمِ. وَلِهَذَا قِيلَ: صِنْفَانِ إذَا صَلَحُوا صَلَحَ النَّاسُ: الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ وَكَمَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِيهِمَا فَالْمَضَرَّةُ مِنْهُمَا فَإِنَّ الْبِدَعَ وَالظُّلْمَ لَا تَكُونُ إلَّا فِيهِمَا: أَهْلِ الرِّيَاسَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَأَهْلِ الرِّيَاسَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ كَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَة وَغَيْرِهِمَا مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ نَجَا مِنْ فِتْنَةِ الْبِدَعِ وَفِتْنَةِ السُّلْطَانِ فَقَدْ نَجَا مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ وَقَدْ بَسَطْت الْقَوْلَ فِي هَذَا فِي الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} .

ص: 494

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أُشْكِلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ.

مِنْهَا قَوْلُهُ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَالْآيَةُ بَعْدَهَا. أُشْكِلَتْ قِرَاءَةُ الْفَتْحِ عَلَى كَثِيرٍ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْآيَةَ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لَكِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي خَبَرِ أَنَّ. وَالْمَعْنَى: إذَا كُنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَأَنَا أَفْعَلُ بِهِمْ هَذَا: لَمْ يَكُنْ قَسَمَهُمْ صِدْقًا؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ كَذِبًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ الْمَعْرُوفِ أَنَّهَا " أَنَّ " الْمَصْدَرِيَّةَ وَلَوْ كَانَ (وَنُقَلِّبُ) إلَخْ. كَلَامًا مُبْتَدَأً لَزِمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَاءَتْهُ آيَةٌ قُلِّبَ فُؤَادُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ يُؤْمِنُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ.

ص: 495

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

فَصْلٌ:

قَالَ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ذُكِرَ هَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} {وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} ثُمَّ قَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} . فَأَخْبَرَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَأَخْبَرَ فِي الْأُولَى أَنَّهَا تَمَّتْ صِدْقًا وَعَدْلًا. وَقَدْ تَوَاتَرَ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 496

أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعِيذُ وَيَأْمُرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} فَأَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ؛ عَقِبَ قَوْله: {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} وَذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَهُ رُسُلَهُ مِنْ كَلِمَاتِهِ الَّتِي لَا مُبَدِّلَ لَهَا لَمَّا قَالَ فِي أَوْلِيَائِهِ: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَأَنَّ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ. فَوَعَدَهُمْ بِنَفْيِ الْمَخَافَةِ وَالْحُزْنِ وَبِالْبُشْرَى فِي الدَّارَيْنِ. وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} فَكَانَ فِي هَذَا تَحْقِيقُ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ وَعْدُهُ. كَمَا قَالَ: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} . وَقَالَ: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} . فَإِخْلَافُ مِيعَادِهِ تَبْدِيلٌ

ص: 497

لِكَلِمَاتِهِ - وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ قَدَّمَ إلَيْهِمْ بِالْوَعِيدِ وَقَالَ: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ صَادِقٌ فِي وَعِيدِهِ أَيْضًا وَأَنَّ وَعِيدَهُ لَا يُبَدَّلُ. وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ فُسَّاقَ الْمِلَّةِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُضْعِفُ جَوَابَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ إخْلَافَ الْوَعِيدِ جَائِزٌ. فَإِنَّ قَوْلَهُ: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَعِيدَهُ لَا يُبَدَّلُ كَمَا لَا يُبَدَّلُ وَعْدَهُ. لَكِنَّ التَّحْقِيقَ الْجَمْعُ بَيْنَ نُصُوصِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَتَفْسِيرُ بَعْضِهَا بِبَعْضِ مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلِ شَيْءٍ مِنْهَا كَمَا يَجْمَعُ بَيْنَ نُصُوصِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلِ شَيْءٍ مِنْهَا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إذَا انْطَلَقْتُمْ إلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

آخِرُ الْمُجَلَّدِ الرَابِعُ عَشَرَ

ص: 498