المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الْجُزْءُ الْعِشْرُونَ كِتَابُ أُصُولِ الْفِقْهِ الْجُزْءُ الْثَانِي: الْتمَذْهُبُ بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ - مجموع الفتاوى - جـ ٢٠

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

الْجُزْءُ الْعِشْرُونَ

كِتَابُ أُصُولِ الْفِقْهِ

الْجُزْءُ الْثَانِي: الْتمَذْهُبُ

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالى -:

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ؛ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنُؤْمِنُ بِهِ؛ وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ؛ وَنُثْنِي عَلَيْهِ الْخَيْرَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ؛ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ: وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا؛ وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا؛ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا؛ فَهَدَى بِهِ مِنْ الضَّلَالَةِ؛ وَعَلَّمَ بِهِ مِنْ الْجَهَالَةِ وَبَصَّرَ بِهِ مِنْ الْعَمَى؛ وَأَرْشَدَ بِهِ مِنْ الْغَيِّ: وَفَتَحَ بِهِ آذَانًا صُمًّا وَأَعْيُنًا عُمْيًا وَقُلُوبًا غُلْفًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

وَبَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ دَلَّنَا عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بِمَا أَخْبَرَنَا بِهِ فِي

ص: 5

كِتَابِهِ الْعَزِيزِ؛ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِذَلِكَ أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ. فَقَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} إلَى قَوْلِهِ: {يُنِيبُ} . وَقَالَ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . وقد ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ؟ . وَالشَّرَائِعُ مُخْتَلِفَةٌ} فَجَمِيعُ الرُّسُلِ مُتَّفِقُونَ فِي الدِّينِ الْجَامِعِ فِي الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِيَّةِ كَالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَبَنِيَّ إسْرَائِيلَ وَهُوَ: قَوْله تَعَالَى {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} الْآيَاتِ الثَّلَاثَ وَقَوْلُهُ {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} إلَى آخِرِ الْوَصَايَا وَقَوْلُهُ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} الْآيَةَ. فَالدَّعْوَةُ وَالْعِبَادَةُ اسْمٌ جَامِعٌ لِغَايَةِ الْحُبِّ لِلَّهِ وَغَايَةِ الذُّلِّ لَهُ فَمَنْ ذَلَّ لَهُ مِنْ غَيْرِ حُبٍّ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا بَلْ يَكُونُ هُوَ الْمَحْبُوبَ الْمُطْلَقَ؛ فَلَا يُحِبُّ

ص: 6

شَيْئًا إلَّا لَهُ وَمَنْ أَشْرَكَ غَيْرَهُ فِي هَذَا وَهَذَا لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَقِيقَةَ الْحُبِّ فَهُوَ مُشْرِكٌ؛ وَإِشْرَاكُهُ يُوجِبُ نَقْصَ الْحَقِيقَةِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} الْآيَةَ. وَالْحُبُّ يُوجِبُ الذُّلَّ وَالطَّاعَةَ وَالْإِسْلَامُ: أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ وَكِلَاهُمَا ضِدُّ الْإِسْلَامِ. وَالْقَلْبُ لَا يَصْلُحُ إلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَتَحْقِيقُ هَذَا تَحْقِيقُ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ. وَمِنْ الْمَحَبَّةِ الدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ؛ وَهِيَ الدَّعْوَةُ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ بِتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَطَاعَتِهِمْ بِمَا أَمَرُوا بِهِ فَالدَّعْوَةُ إلَيْهِ مِنْ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَمِنْ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ النَّهْيُ عَنْهُ وَمِنْ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ أَنْ يَفْعَلَ الْعَبْدُ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَتْرُكَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَمِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ؛ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا.

ص: 7

وَالدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ أُمَّتُهُ وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} إلَى قَوْلِهِ: {الْمُفْلِحُونَ} فَهَذِهِ فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي حَقِّهِمْ قَوْلُهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الْآيَةَ. وَهَذَا الْوَاجِبُ وَاجِبٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ: وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ يَسْقُطُ عَنْ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ كَقَوْلِهِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ} الْآيَةَ فَجَمِيعُ الْأُمَّةِ تَقُومُ مَقَامَهُ فِي الدَّعْوَةِ: فَبِهَذَا إجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُحِبَّ مَا أَحَبَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: وَأَنْ يُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَجْعَلَ الْأَصْلَ فِي الدِّينِ لِشَخْصِ إلَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَقُولَ إلَّا لِكِتَابِ اللَّهِ عز وجل. وَمَنْ نَصَّبَ شَخْصًا كَائِنًا مَنْ كَانَ فَوَالَى وَعَادَى عَلَى مُوَافَقَتِهِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَهُوَ {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} الْآيَةَ وَإِذَا تَفَقَّهَ الرَّجُلُ وَتَأَدَّبَ بِطَرِيقَةِ قَوْمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ: اتِّبَاعِ: الْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ قُدْوَتَهُ وَأَصْحَابَهُ هُمْ الْعِيَارُ فَيُوَالِي مَنْ وَافَقَهُمْ

ص: 8

وَيُعَادِي مَنْ خَالَفَهُمْ فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ التَّفَقُّهَ الْبَاطِنَ فِي قَلْبِهِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَهَذَا زَاجِرٌ. وَكَمَائِنُ الْقُلُوبِ تَظْهَرُ عِنْدَ الْمِحَنِ. وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَدْعُوَ إلَى مَقَالَةٍ أَوْ يَعْتَقِدَهَا لِكَوْنِهَا قَوْلَ أَصْحَابِهِ وَلَا يُنَاجِزَ عَلَيْهَا بَلْ لِأَجْلِ أَنَّهَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ أَوْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَيَنْبَغِي لِلدَّاعِي أَنْ يُقَدِّمَ فِيمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّهُ نُورٌ وَهُدًى؛ ثُمَّ يَجْعَلَ إمَامَ الْأَئِمَّةِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ كَلَامَ الْأَئِمَّةِ. وَلَا يَخْلُو أَمْرُ الدَّاعِي مِنْ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا فَالْمُجْتَهِدُ يَنْظُرُ فِي تَصَانِيفِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ؛ ثُمَّ يُرَجِّحُ مَا يَنْبَغِي تَرْجِيحُهُ. الثَّانِي: الْمُقَلِّدُ يُقَلِّدُ السَّلَفَ؛ إذْ الْقُرُونُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَفْضَلُ مِمَّا بَعْدَهَا. فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَنَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا رَبُّنَا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {مُسْلِمُونَ} وَنَأْمُرُ بِمَا أَمَرَنَا بِهِ. وَنَنْهَى عَمَّا نَهَانَا عَنْهُ فِي نَصِّ كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الْآيَةَ فَمَبْنَى أَحْكَامِ هَذَا الدِّينِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْكِتَابِ؛ وَالسُّنَّةِ؛ وَالْإِجْمَاعِ.

ص: 9

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

عَنْ مَعْنَى إجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ؛ وَهَلْ يَسُوغُ لِلْمُجْتَهِدِ خِلَافُهُمْ؟ وَمَا مَعْنَاهُ؟ وَهَلْ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ،‌

‌ مَعْنَى الْإِجْمَاعِ:

أَنْ تَجْتَمِعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ. وَإِذَا ثَبَتَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ إجْمَاعِهِمْ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ فِيهَا إجْمَاعًا وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ الْآخَرُ أَرْجَحَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَأَمَّا أَقْوَالُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ كَالْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَلَيْسَ حُجَّةً لَازِمَةً وَلَا إجْمَاعًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُمْ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ نَهَوْا النَّاسَ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ؛ وَأَمَرُوا إذَا رَأَوْا قَوْلًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَقْوَى مِنْ قَوْلِهِمْ: أَنْ يَأْخُذُوا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَيَدَعُوا أَقْوَالَهُمْ. وَلِهَذَا كَانَ الْأَكَابِرُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَا يَزَالُونَ إذَا

ص: 10

ظَهَرَ لَهُمْ دَلَالَةُ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ عَلَى مَا يُخَالِفُ قَوْلَ مَتْبُوعِهِمْ اتَّبَعُوا ذَلِكَ مِثْلَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ؛ فَإِنَّ تَحْدِيدَهَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا لَمَّا كَانَ قَوْلًا ضَعِيفًا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ تَرَى قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ الَّذِي هُوَ دُونَ ذَلِكَ كَالسَّفَرِ مِنْ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَصَرُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِنَى وَعَرَفَةَ. وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد قَالُوا: إنَّ جَمْعَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ وَبِدْعَةٌ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ عِنْدَهُمْ إنَّمَا يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ وَخَالَفُوا أَئِمَّتَهُمْ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَأَوْا غَسْلَ الدُّهْنِ النَّجِسِ؛ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَأَوْا تَحْلِيفَ النَّاسِ بِالطَّلَاقِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بَلْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى خِلَافِهِ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ يَمِينَهُ؛ وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ بِالْعِتَاقِ وَكَذَلِكَ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ

ص: 11

أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ قَالُوا: إنَّ مَنْ قَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَمَنْ حَلَفَ بِذَلِكَ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ. وَطَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: إنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرِ التَّابِعِينَ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ؛ بَلْ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَأَقْوَالُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بِخِلَافِهِ فَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَلِهَذَا كَانَ مَنْ هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ يَقُولُ: الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَيَجْعَلُهُ يَمِينًا فِيهِ الْكَفَّارَةُ. وَهَذَا بِخِلَافِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَقَعَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ كَفَّارَةٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ بَلْ لَا كَفَّارَةَ فِي الْإِيقَاعِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ خَاصَّةً فِي الْحَلِفِ. فَإِذَا تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي مَسْأَلَةٍ وَجَبَ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ كَقَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النَّذْرِ وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْيَمِينِ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِي قَوْله تَعَالَى {إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} وَذَكَرَ حُكْمَ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ حَلَفَ

ص: 12

عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ} . فَمَنْ جَعَلَ الْيَمِينَ بِهَا لَهَا حُكْمٌ وَالنَّذْرَ وَالْإِعْتَاقَ وَالتَّطْلِيقَ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ كَانَ قَوْلُهُ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَمَنْ جَعَلَ هَذَا وَهَذَا سَوَاءٌ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. وَمَنْ ظَنَّ فِي هَذَا إجْمَاعًا كَانَ ظَنُّهُ بِحَسَبِ عِلْمِهِ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا وَكَيْفَ تَجْتَمِعُ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ مَرْجُوحٍ لَيْسَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ يُخَالِفُهُ. وَالصِّيَغُ ثَلَاثَةٌ: صِيغَةُ إيقَاعٍ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ: فَهَذِهِ لَيْسَتْ يَمِينًا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. وَصِيغَةُ قَسَمٍ كَقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَن كَذَا فَهَذِهِ صِيغَةُ يَمِينٍ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. وَصِيغَةُ تَعْلِيقٍ كَقَوْلِهِ: إنْ زَنَيْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهَذَا إنْ قَصَدَ بِهِ الْإِيقَاعَ عِنْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ. بِأَنْ يَكُونَ يُرِيدُ إذَا زَنَتْ إيقَاعَ الطَّلَاقِ

ص: 13

وَلَا يُقِيمُ مَعَ زَانِيَةٍ؛ فَهَذَا إيقَاعٌ وَلَيْسَ بِيَمِينِ وَإِنْ قَصَدَ مَنْعَهَا وَزَجْرَهَا وَلَا يُرِيدُ طَلَاقَهَا إذَا زَنَتْ فَهَذَا يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ؛ فَإِنْ انْتَشَرَتْ وَلَمْ تُنْكَرْ فِي زَمَانِهِمْ فَهِيَ حُجَّةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ تَنَازَعُوا رُدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً مَعَ مُخَالَفَةِ بَعْضِهِمْ لَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلًا وَلَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ بِخِلَافِهِ وَلَمْ يَنْتَشِرْ؛ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَحْتَجُّونَ بِهِ كَأَبِي حَنِيفَةَ. وَمَالِكٍ؛ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ؛ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَفِي كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَلَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ.

ص: 14

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ الِاجْتِهَادِ؛ وَالِاسْتِدْلَالِ: وَالتَّقْلِيدِ؛ وَالِاتِّبَاعِ؟

فَأَجَابَ: أَمَّا التَّقْلِيدُ الْبَاطِلُ الْمَذْمُومُ فَهُوَ: قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ بِلَا حُجَّةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} فِي الْبَقَرَةِ وَفِي الْمَائِدَةِ وَفِي لُقْمَانَ {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ} وَفِي الزُّخْرُفِ: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} وَفِي الصَّافَّاتِ: {إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} وَقَالَ: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} {وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} الْآيَاتِ. وَقَالَ: {إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} وَقَالَ: {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} وَقَالَ: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ

ص: 15

وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . فَهَذَا الِاتِّبَاعُ وَالتَّقْلِيدُ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ هُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى إمَّا لِلْعَادَةِ وَالنَّسَبِ كَاتِّبَاعِ الْآبَاءِ وَإِمَّا لِلرِّئَاسَةِ كَاتِّبَاعِ الْأَكَابِرِ وَالسَّادَةِ والمتكبرين فَهَذَا مِثْلُ تَقْلِيدِ الرَّجُلِ لِأَبِيهِ أَوْ سَيِّدِهِ أَوْ ذِي سُلْطَانِهِ وَهَذَا يَكُونُ لِمَنْ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الصَّغِيرُ: فَإِنَّ دِينَهُ دِينُ أُمِّهِ فَإِنْ فُقِدَتْ فَدِينُ مَلِكِهِ وَأَبِيهِ: فَإِنْ فُقِدَ كَاللَّقِيطِ فَدِينُ الْمُتَوَلِّي عَلَيْهِ وَهُوَ أَهْلُ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَأَمَّا إذَا بَلَغَ وَأَعْرَبَ لِسَانُهُ فَإِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ الْوَاجِبَ الْإِعْرَاضُ عَنْ هَذَا التَّقْلِيدِ إلَى اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ؛ فَإِنَّهُمْ حُجَّةُ اللَّهِ الَّتِي أَعْذَرَ بِهَا إلَى خَلْقِهِ. وَالْكَلَامُ فِي التَّقْلِيدِ فِي شَيْئَيْنِ: فِي كَوْنِهِ حَقًّا؛ أَوْ بَاطِلًا مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ. وَفِي كَوْنِهِ مَشْرُوعًا؛ أَوْ غَيْرَ مَشْرُوعٍ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ التَّقْلِيدَ الْمَذْكُورَ لَا يُفِيدُ عِلْمًا؟ فَإِنَّ الْمُقَلِّدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدُهُ مُصِيبًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَمُصِيبٌ هُوَ أَمْ مُخْطِئٌ؟ فَلَا تَحْصُلُ لَهُ ثِقَةٌ وَلَا طُمَأْنِينَةٌ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ مُقَلِّدَهُ مُصِيبٌ

ص: 16

كَتَقْلِيدِ الرَّسُولِ أَوْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فَقَدْ قَلَّدَهُ بِحُجَّةِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ عَالِمٌ وَلَيْسَ هُوَ التَّقْلِيدُ الْمَذْكُورُ وَهَذَا التَّقْلِيدُ وَاجِبٌ؛ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الرَّسُولَ مَعْصُومٌ؛ وَأَهْلَ الْإِجْمَاعِ مَعْصُومُونَ. وَأَمَّا تَقْلِيدُ الْعَالِمِ حَيْثُ يَجُوزُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اتِّبَاعِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَغَلِّبَةِ عَلَى الظَّنِّ. كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ إصَابَةُ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ كَمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ لَكِنْ بَيْنَ اتِّبَاعِ الرَّاوِي وَالرَّأْيِ فَرْقٌ يُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. فَإِنَّ اتِّبَاعَ الرَّاوِي وَاجِبٌ لِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِعِلْمِ مَا أَخْبَرَ بِهِ: بِخِلَافِ الرَّأْيِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ حَيْثُ عُلِمَ وَلِأَنَّ غَلَطَ الرِّوَايَةِ بَعِيدٌ؛ فَإِنَّ ضَبْطَهَا سَهْلٌ؛ وَلِهَذَا نُقِلَ عَنْ النِّسَاءِ وَالْعَامَّةِ بِخِلَافِ غَلَطِ الرَّأْيِ فَإِنَّهُ كَثِيرٌ؛ لِدِقَّةِ طُرُقِهِ وَكَثْرَتِهَا وَهَذَا هُوَ الْعُرْفُ لِمَنْ يَجُوزُ قَبُولُ الْخَبَرِ مَعَ إمْكَانِ مُرَاجَعَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ الْمَعْنَى مَعَ إمْكَانِ مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ. وَأَمَّا الْعُرْفُ الْأَوَّلُ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ وَلِهَذَا يُوجِبُونَ اتِّبَاعَ الْخَبَرِ وَلَا يُوجِبُ أَحَدٌ تَقْلِيدَ الْعَالِمِ عَلَى مَنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِدْلَالُ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ حَيْثُ عُلِمَ فَهَذِهِ جُمْلَةٌ.

ص: 17

وَأَمَّا تَفْصِيلُهَا فَنَقُولُ: النَّاسُ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّقْلِيدِ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ الِاسْتِدْلَالَ حَتَّى فِي الْمَسَائِلِ الدَّقِيقَةِ: أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَرِّمُ الِاسْتِدْلَالَ فِي الدَّقِيقِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَهَذَا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا.

ص: 18

وَ‌

‌سُئِلَ:

هَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ؟ أَوْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ

وَالْبَاقِي مُخْطِئُونَ؟ .

فَأَجَابَ: قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَذَكَرَ نِزَاعَ النَّاسِ فِيهَا وَذَكَرَ أَنَّ لَفْظَ الْخَطَأِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْإِثْمُ؛ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ عَدَمُ الْعِلْمِ. فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مُصِيبٌ؛ فَإِنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ لَيْسَ بِآثِمِ وَلَا مَذْمُومٍ. وَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي فَقَدْ يُخَصُّ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ بِعِلْمِ خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ؛ وَيَكُونُ ذَلِكَ عِلْمًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْآخَرُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ؛ لَكِنْ سَقَطَ عَنْهُ وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ لِعَجْزِهِ عَنْهُ وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ إلَى الصَّوَابِ لَهُ أَجْرَانِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ} .

ص: 19

وَلَفْظُ " الْخَطَأِ " يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَمْدِ وَفِي غَيْرِ الْعَمْدِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} وَالْأَكْثَرُونَ يَقْرَءُونَ (خِطْئًا عَلَى وَزْنِ رِدْءًا وَعِلْمًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (خَطَأً) عَلَى وَزْنِ عَمَلًا كَلَفْظِ الْخَطَأِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً} . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (خِطَاءً عَلَى وَزْنِ هِجَاءً. وَقَرَأَ ابْنُ رَزِينٍ (خَطَاءً) عَلَى وَزْنِ شَرَابًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وقتادة (خطأ) عَلَى وَزْنِ قَتْلًا. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ (خِطَا) بِلَا هَمْزٍ عَلَى وَزْنِ عِدًى. قَالَ الْأَخْفَشُ: خَطَا يَخْطَأُ بِمَعْنَى: أَذْنَبَ وَلَيْسَ مَعْنَى أَخْطَأَ؛ لِأَنَّ أَخْطَأَ فِي مَا لَمْ يَصْنَعْهُ عَمْدًا يَقُولُ فِيمَا أَتَيْته عَمْدًا خَطَّيْت؛ وَفِيمَا لَمْ يَتَعَمَّدْهُ: أَخْطَأْت. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الْخَطَأُ: الْإِثْمُ يُقَالُ: قَدْ خَطَا يَخْطَأُ إذَا أَثِمَ وَأَخْطَأَ يُخْطِئُ إذَا فَارَقَ الصَّوَابَ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: قَالُوا لَمُذْنِبِينَ آثِمِينَ فِي أَمْرِك وَهُوَ كَمَا قَالُوا فَإِنَّهُمْ قَالُوا: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} وَكَذَلِكَ قَالَ الْعَزِيزُ لِامْرَأَتِهِ: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَلِهَذَا اُخْتِيرَ خَاطِئِينَ عَلَى مُخْطِئِينَ وَإِنْ كَانَ أَخْطَأَ عَلَى أَلْسُنِ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ خَطَا يُخْطِي؛ لِأَنَّ مَعْنَى خَطَا يُخْطِي فَهُوَ خَاطِئٌ: آثِمٌ وَمَعْنَى أَخْطَأَ يُخْطِئُ: تَرَكَ الصَّوَابَ

ص: 20

وَلَمْ يَأْثَمْ. قَالَ عِبَادُك يُخْطِئُونَ وَأَنْتَ رَبٌّ تَكْفُلُ الْمَنَايَا وَالْحُتُومَ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْخَطَأُ: الْإِثْمُ الخطا والخطا وَالْخَطَاءُ مَمْدُودٌ. ثَلَاثُ اللُّغَاتٍ. قُلْت: يُقَالُ فِي الْعَمْدِ: خَطَأٌ كَمَا يُقَالُ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ فَيُقَالُ لِغَيْرِ الْمُتَعَمِّدِ: أَخْطَأْت كَمَا يُقَالُ لَهُ: خَطَّيْت وَلَفْظُ الْخَطِيئَةِ مِنْ هَذَا. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} وَقَوْلُ السَّحَرَةِ: {إنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} . وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: {يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى؛ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: {اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي؛ وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ} .

ص: 21

وَاَلَّذِينَ قَالُوا: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْمُجْتَهِدُ لَا يَكُونُ عَلَى خَطَأٍ وَكَرِهُوا أَنْ يُقَالَ لِلْمُجْتَهِدِ: إنَّهُ أَخْطَأَ هُمْ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعَامَّةِ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ عَنْ إمَامٍ كَبِيرٍ: إنَّهُ أَخْطَأَ وَقَوْلُهُ أَخْطَأَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي الذَّنْبِ كَقِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ: إنَّهُ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا وَلِأَنَّهُ يُقَالُ فِي الْعَامِدِ: أَخْطَأَ يُخْطِئُ كَمَا قَالَ: {يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرُ لَكُمْ} فَصَارَ لَفْظُ الْخَطَأِ وَأَخْطَأَ قَدْ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ كَمَا يَخُصُّ غَيْرَ الْعَامِلِ وَأَمَّا لَفْظُ الْخَطِيئَةِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْإِثْمِ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ لَفْظَ الْخَطَأِ يُفَارِقُ الْعَمْدَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً} الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} . وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْخَطَأَ يَنْقَسِمُ إلَى خَطَأٍ فِي الْفِعْلِ؛ وَإِلَى خَطَأٍ فِي الْقَصْدِ. فَالْأَوَّلُ: أَنْ يَقْصِدَ الرَّمْيَ إلَى مَا يَجُوزُ رَمْيُهُ مِنْ صَيْدٍ وَهَدَفٍ فَيُخْطِئَ بِهَا وَهَذَا فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُخْطِئَ فِي قَصْدِهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ؛ كَمَا أَخْطَأَ هُنَاكَ لِضَعْفِ

ص: 22

الْقُوَّةِ وَهُوَ أَنْ يَرْمِيَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ مُبَاحَ الدَّمِ وَيَكُونُ مَعْصُومَ الدَّمِ كَمَنَ قَتَلَ رَجُلًا فِي صُفُوفِ الْكُفَّارِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا وَالْخَطَأُ فِي الْعِلْمِ هُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: إنَّهُ لَا دِيَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} فَفَرَّقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ وَقَالَ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: " قَدْ فَعَلْت ". فَلَفْظُ الْخَطَأِ وَأَخْطَأَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْعَامِدِ وَإِذَا ذَكَرَ مَعَ النِّسْيَانِ أَوْ ذَكَرَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَامِدِ كَانَ نَصًّا فِيهِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَعَ الْقَرِينَةِ الْعَمْدُ أَوْ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ جَمِيعًا كَمَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ؛ وَفِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ - إنْ كَانَ لَفْظُهُ كَمَا يَرْوِيهِ عَامَّةُ الْمُحَدِّثِينَ - " تُخْطِئُونَ " بِالضَّمِّ. وَأَمَّا اسْمُ الْخَاطِئِ فَلَمْ يَجِئْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا لِلْإِثْمِ بِمَعْنَى الْخَطِيئَةِ كَقَوْلِهِ: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} وَقَوْلِهِ: {لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} وَقَوْلِهِ: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} وَقَوْلِهِ: {لَا يَأْكُلُهُ إلَّا الْخَاطِئُونَ} .

ص: 23

وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ غَيْرُ خَاطِئٍ وَغَيْرُ مُخْطِئٍ أَيْضًا إذَا أُرِيدَ بِالْخَطَأِ الْإِثْمُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَلَا يَكُونُ مِنْ مُجْتَهِدٍ خَطَأٌ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَقَالُوا: الْخَطَأُ وَالْإِثْمُ مُتَلَازِمَانِ فَعِنْدَهُمْ لَفْظُ الْخَطَأِ كَلَفْظِ الْخَطِيئَةِ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْعِلْمِ الَّذِي عَجَزَ عَنْهُ لَكِنْ لَا يُسَمُّونَهُ خَطَأً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَقَدْ يُسَمُّونَهُ خَطَأً إضَافِيًّا بِمَعْنَى: أَنَّهُ أَخْطَأَ شَيْئًا لَوْ عَلِمَهُ لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَهُ وَكَانَ هُوَ حُكْمَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ؛ وَلَكِنَّ الصَّحَابَةَ وَالْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ رضي الله عنهم وَجُمْهُورَ السَّلَفِ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْخَطَأِ عَلَى غَيْرِ الْعَمْدِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إثْمًا كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ} . وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ؛ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ. وَقَالَ عَلِيٌّ فِي قِصَّةِ الَّتِي أَرْسَلَ إلَيْهَا عُمَرُ فَأَسْقَطَتْ - لَمَّا قَالَ لَهُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ رضي الله عنهما أَنْتَ مُؤَدِّبٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْك - إنْ كَانَا اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَآ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا اجْتَهَدَا فَقَدْ غَشَّاك.

ص: 24

وَأَحْمَد يُفَرِّقُ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا مُعَارِضَ لَهُ كَانَ مَنْ أَخَذَ بِحَدِيثِ ضَعِيفٍ أَوْ قَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مُخْطِئًا وَإِذَا كَانَ فِيهَا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ نَظَرَ فِي الرَّاجِحِ فَأَخَذَ بِهِ؛ وَلَا يَقُولُ لِمَنْ أَخَذَ بِالْآخَرِ إنَّهُ مُخْطِئٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ اجْتَهَدَ فِيهَا بِرَأْيِهِ قَالَ: وَلَا أَدْرِي أَصَبْت الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأْته؟ فَفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَصٌّ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ وَإِذَا عَمِلَ الرَّجُلُ بِنَصِّ وَفِيهَا نَصٌّ آخَرُ خَفِيَ عَلَيْهِ لَمْ يُسَمِّهِ مُخْطِئًا؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ؛ لَكِنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ فِي تَعْيِينِ الْخَطَأِ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَا أَقْطَعُ بِخَطَأِ مُنَازِعِي فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَقْطَعُ بِخَطَئِهِ. وَأَحْمَد فَصَّلَ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَهُوَ إذَا قَطَعَ بِخَطَئِهِ بِمَعْنَى عَدَمِ الْعِلْمِ لَمْ يَقْطَعْ بِإِثْمِهِ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَهِدْ. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهَا نَصٌّ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ عِلْمُهُ وَلَوْ عَلِمَ بِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ؛ لَكِنَّهُ لَمَّا خَفِيَ عَلَيْهِ اتَّبَعَ النَّصَّ الْآخَرَ وَهُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ مَخْصُوصٌ: فَقَدْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ كَاَلَّذِينَ صَلَّوْا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ أَنْ نُسِخَتْ وَقَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِالنَّسْخِ وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ إلَّا بَعْدَ تَمَكُّنِهِمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ وَقِيلَ: يَثْبُتُ مَعْنَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ لَا

ص: 25

بِمَعْنَى الْإِثْمِ وَقِيلَ يَثْبُتُ فِي الْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ دُونَ النَّاسِخِ وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا لَمْ يَسْمَعْهُ الْمُجْتَهِدُ مِنْ النُّصُوصِ النَّاسِخَةِ أَوْ الْمَخْصُوصَةِ فَلَمْ تُمْكِنْهُ مَعْرِفَتُهُ فَحُكْمُهُ سَاقِطٌ عَنْهُ وَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي عَمَلِهِ بِالنَّصِّ الْمَنْسُوخِ وَالْعَامِّ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ. وَهُنَا تَنَازَعَ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قِيلَ: عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْحُكْمِ الْبَاطِنِ؛ وَأَنَّهُ إذَا أَخْطَأَ كَانَ مُخْطِئًا عِنْدَ اللَّهِ وَفِي الْحُكْمِ تَارِكٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ فَهُوَ آثِمٌ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ تَارِكًا لِمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ آثِمٍ وَقِيلَ: بَلْ لَمْ يُؤْمَرْ قَطُّ بِالْحُكْمِ الْبَاطِنِ وَلَا هُوَ حُكْمٌ فِي حَقِّهِ وَلَا أَخْطَأَ حُكْمَ اللَّهِ وَلَا لِلَّهِ فِي الْبَاطِنِ حُكْمٌ فِي حَقِّهِ غَيْرَ مَا حَكَمَ بِهِ؛ وَلَا يُقَالُ لَهُ: أَخْطَأَ؛ فَإِنَّ الْخَطَأَ عِنْدَهُمْ مُلَازِمٌ لِلْإِثْمِ وَهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ وَلَكَانَ حُكْمًا فِي حَقِّهِ فَكَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَقَدْ خَالَفُوا فِي مَنْعِ اللَّفْظِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُمْ: لَيْسَ فِي الْبَاطِنِ حُكْمٌ خَطَأٌ؛ بَلْ حُكْمُ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ

ص: 26

هُوَ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ النَّاسِخُ وَالْخَاصُّ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَسَقَطَ عَنْهُ لِعَجْزِهِ. وَقِيلَ: كَانَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ هُوَ الْأَمْرُ الْبَاطِنُ وَلَكِنْ لَمَّا اجْتَهَدَ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ هَذَا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ انْتَقَلَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ؛ فَصَارَ مَأْمُورًا بِهَذَا. وَالصَّحِيحُ: مَا قَالَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ؛ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إصَابَتُهُ فِي الْبَاطِنِ إذَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ؛ فَإِنْ تَرَكَ الِاجْتِهَادَ أَثِمَ وَإِذَا اجْتَهَدَ وَلَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِ أَنْ يَعْلَمَ الْبَاطِنَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ مَعَ الْعَجْزِ وَلَكِنْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ بِشَرْطِ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَقَدْ صَدَقَ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُ الْحَقَّ فِي الْبَاطِنِ فَلَهُ أَجْرَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} وَلَا نَقُولُ: إنَّ حُكْمَ اللَّهِ انْتَقَلَ فِي حَقِّهِ فَكَانَ مَأْمُورًا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ بِالْحَقِّ لِلْبَاطِنِ ثُمَّ صَارَ مَأْمُورًا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ لِمَا ظَنَّهُ بَلْ مَا زَالَ مَأْمُورًا بِأَنْ يَجْتَهِدَ وَيَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَهُوَ إنَّمَا أُمِرَ بِالْحَقِّ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ. فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالِاجْتِهَادِ فَإِذَا كَانَ اجْتِهَادُهُ اقْتَضَى قَوْلًا آخَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ

ص: 27

بِهِ؛ لَا لِأَنَّهُ أُمِرَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَقْتَضِيهِ اجْتِهَادُهُ وَبِمَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَتُهُ وَهُوَ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَقْدُورُهُ لَا مِنْ جِهَةِ عَيْنِهِ كَالْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ إذَا صَلَّوْا إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ فَالْمُصِيبُ لِلْقِبْلَةِ وَاحِدٌ وَالْجَمِيعُ فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ لَا إثْمَ عَلَيْهِمْ وَتَعْيِينُ الْقِبْلَةِ سَقَطَ عَنْ الْعَاجِزِينَ عَنْ مَعْرِفَتِهَا وَصَارَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْكَعْبَةُ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِعَيْنِ الصَّوَابِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَأْمُورٌ بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الصَّوَابُ وَأَنَّهُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَإِذَا رَآهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - بَلْ مِنْ جِهَةِ قُدْرَتِهِ لَكِنْ إذَا كَانَ مُتَّبِعًا لِنَصِّ وَلَمْ يَبْلُغْهُ نَاسِخُهُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِهِ إلَى أَنْ يَعْلَمَ النَّاسِخَ فَإِنَّ الْمَنْسُوخَ كَانَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ النَّاسِخِ لَهُ. وَأَمَّا اللَّفْظُ الْعَامُّ إذَا كَانَ مَخْصُوصًا فَقَدْ يُقَالُ: صُورَةُ التَّخْصِيصِ لَمْ يُرِدْهَا الشَّارِعُ لَكِنْ هُوَ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَرَادَهَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْلَمْ التَّخْصِيصَ. وَهَكَذَا يُقَالُ فِيمَا نُسِخَ مِنْ النُّصُوصِ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ كَالنُّصُوصِ الَّتِي نُسِخَتْ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَعْلَمْ بَعْضُ النَّاسِ بِنَسْخِهَا؛ وَقَدْ بَلَغَهُ الْمَنْسُوخُ بِهَا لَا يُقَالُ: إنَّ الْمَنْسُوخَ

ص: 28

ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا قِيلَ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ الَّذِينَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ اسْتِقْبَالُهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا قَبْلَ النَّسْخِ وَلَكِنْ يُقَالُ: مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّصُّ النَّاسِخُ وَبَلَغَهُ النَّصُّ الْآخَرُ فَعَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَعَلَى هَذَا فَتَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِينَ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ فَمَنْ كَانَ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ مِنْ مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ الرَّاجِحِ كَالنَّاسِخِ وَالْمُخَصِّصِ؛ فَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ دَلِيلٌ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ إلَّا إذَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ.

وَعَلَى هَذَا فَالْآيَةُ إذَا احْتَمَلَتْ مَعْنَيَيْنِ وَكَانَ ظُهُورُ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مَعْلُومٍ لِبَعْضِ النَّاسِ بَلْ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا مَا لَا يَظْهَرُ لِلْآخَرِ؛ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِمَا دَلَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى؛ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَا دَلَّهُ عَلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ؛ وَكُلٌّ مِنْهُمَا فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لَكِنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ. وَإِذَا قِيلَ فَمَا فَعَلَهُ ذَاكَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ أَيْضًا قِيلَ: لَمْ يَأْمُرْ بِهِ عَيْنِيًّا بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ؛ وَيَعْمَلَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ إلَّا هَذَا؛ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ جِنْسِ الْمَقْدُورِ وَالْمَعْلُومُ وَالظَّاهِرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ؛ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ جِهَةِ عَيْنِهِ نَفْسِهِ فَمَنْ قَالَ: لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَقَدْ أَصَابَ. وَمَنْ قَالَ: هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَدَرَ عَلَيْهِ وَعَلِمَهُ وَظَهَرَ لَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ فَقَدْ أَصَابَ

ص: 29

كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَقَدْ غَلِطَا فِي الشَّهَادَةِ فَهُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ مَا شَهِدَا بِهِ مُطْلَقًا لَمْ يُؤْمَرْ بِغَيْرِ مَا شَهِدَا بِهِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ. وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم {إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ} فَهُوَ إذَا ظَهَرَتْ لَهُ حُجَّةُ أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَذْكُرْ الْآخَرُ حُجَّتَهُ فَقَدْ عَمِلَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي حَقِّهِ مِنْ جِهَةِ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْبَاطِلِ وَالظُّلْمِ وَالْخَطَأِ وَلَكِنْ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ النَّبَوِيَّةَ وَالْخَبَرِيَّةَ.

وَ‌

‌الْمُجْتَهِدُ الْمُخْطِئُ لَهُ أَجْرٌ

؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ الْحَقُّ وَطَلَبَهُ بِحَسَبِ وُسْعِهِ وَهُوَ لَا يَحْكُمُ إلَّا بِدَلِيلِ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ بِمَا عَلَيْهِ وَيَكُونُ قَدْ سَقَطَ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِبْرَاءِ أَوْ قَضَاءٍ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ حُجَّةٌ وَحُكْمُهُ بِالْبَرَاءَةِ مَعَ الْيَمِينِ وَيَكُونُ قَدْ اشْتَغَلَتْ الذِّمَّةُ بِاقْتِرَاضِ أَوْ ابْتِيَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ حُجَّةٌ وَحُكِمَ لِرَبِّ الْيَدِ مَعَ الْيَمِينِ وَيَكُونُ قَدْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ عَنْهُ أَوْ يَدُهُ يَدُ غَاصِبٍ؛ لَكِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ حُجَّةٌ.

ص: 30

وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الْعَامَّةُ؛ يَحْكُمُ الْمُجْتَهِدُ بِعُمُومِهِ وَمَا يَخُصُّهُ وَلَمْ يَبْلُغْهُ؛ أَوْ بِنَصِّ وَقَدْ نُسِخَ وَلَمْ يَبْلُغْهُ؛ أَوْ يَقُولُ بِقِيَاسِ ظَهَرَ وَفِيهِ التَّسْوِيَةُ؛ وَتَكُونُ تِلْكَ الصُّورَةُ امْتَازَتْ بِفَرْقِ مُؤَثِّرٍ؛ وَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهُ؛ فَإِنَّ تَأْثِيرَ الْفَرْقِ قَدْ يَكُونُ بِنَصِّ لَمْ يَبْلُغْهُ وَقَدْ يَكُونُ وَصْفًا خَفِيًّا. فَفِي الْجُمْلَةِ الْأَجْرُ هُوَ عَلَى اتِّبَاعِهِ الْحَقَّ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ؛ وَلَوْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ حَقٌّ يُنَاقِضُهُ هُوَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ لَوْ قَدَرَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ؛ لَكِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَهَذَا كَالْمُجْتَهِدِينَ فِي جِهَاتِ الْكَعْبَةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ عَبَدَ عِبَادَةً نُهِيَ عَنْهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِالنَّهْيِ - لَكِنْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ - مِثْلَ مَنْ صَلَّى فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَبَلَغَهُ الْأَمْرُ الْعَامُّ بِالصَّلَاةِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ أَوْ تَمَسَّكَ بِدَلِيلِ خَاصٍّ مَرْجُوحٍ مِثْلَ صَلَاةِ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهُمَا وَمِثْلَ صَلَاةٍ رُوِيَتْ فِيهَا أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ أَوْ مَوْضُوعَةٌ كَأَلْفِيَّةِ نِصْفِ شَعْبَانَ وَأَوَّلِ رَجَبَ وَصَلَاةِ التَّسْبِيحِ كَمَا جَوَّزَهَا ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهَا إذَا دَخَلَتْ فِي عُمُومِ اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ مَا يُوجِبُ النَّهْيَ أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَهْيٌ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَعْلَمْ بِكَوْنِهَا بِدْعَةً تُتَّخَذُ شِعَارًا وَيَجْتَمِعُ عَلَيْهَا كُلَّ عَامٍ فَهُوَ مِثْلَ أَنْ يُحْدِثَ صَلَاةً سَادِسَةً؛ وَلِهَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ مِثْلَ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِلَا حَدِيثٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لَكِنْ لَمَّا رُوِيَ الْحَدِيثُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَغَلِطَ فِي ذَلِكَ فَهَذَا يُغْفَرُ لَهُ

ص: 31

خَطَؤُهُ وَيُثَابُ عَلَى جِنْسِ الْمَشْرُوعِ. وَكَذَلِكَ مَنْ صَامَ يَوْمَ الْعِيدِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالنَّهْيِ. بِخِلَافِ مَا لَمْ يُشْرَعْ جِنْسُهُ مِثْلَ الشِّرْكِ فَإِنَّ هَذَا لَا ثَوَابَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ لَا يُعَاقِبُ صَاحِبَهُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} لَكِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُعَذِّبُ فَإِنَّ هَذَا لَا يُثَابُ بَلْ هَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي عُمِلَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي لَمْ تُقْبَلْ. وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} الْآيَةَ فَهَؤُلَاءِ أَعْمَالُهُمْ بَاطِلَةٌ لَا ثَوَابَ فِيهَا. وَإِذَا نَهَاهُمْ الرَّسُولُ عَنْهَا فَلَمْ يَنْتَهُوا عُوقِبُوا فَالْعِقَابُ عَلَيْهَا مَشْرُوطٌ بِتَبْلِيغِ الرَّسُولِ وَأَمَّا بُطْلَانُهَا فِي نَفْسِهَا فَلِأَنَّهَا غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهَا فَكُلُّ عِبَادَةٍ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يُنْهَى عَنْهَا. ثُمَّ إنْ عَلِمَ أَنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَفَعَلَهَا اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعِقَابَ وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا وَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْمَشْرُوعِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الشِّرْكِ فَهَذَا الْجِنْسُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مَأْمُورٌ بِهِ لَكِنْ قَدْ يَحْسَبُ بَعْضُ النَّاسِ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ. وَهَذَا لَا يَكُونُ مُجْتَهِدًا؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّبِعَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا وَهَذِهِ لَا يَكُونُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَكِنْ قَدْ يَفْعَلُهَا بِاجْتِهَادِ مِثْلِهِ: وَهُوَ تَقْلِيدُهُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الشُّيُوخِ وَالْعُلَمَاءِ وَاَلَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ قَدْ فَعَلُوهُ لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ يَنْفَعُ؛ أَوْ لِحَدِيثِ كَذِبٍ سَمِعُوهُ. فَهَؤُلَاءِ إذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِالنَّهْيِ لَا يُعَذَّبُونَ وَأَمَّا الثَّوَابُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ثَوَابُهُمْ أَنَّهُمْ أَرْجَحُ مِنْ أَهْلِ جِنْسِهِمْ وَأَمَّا الثَّوَابُ بِالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ فَلَا يَكُونُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ.

ص: 32

فَصْلٌ:

وَالْخَطَأُ الْمَغْفُورُ فِي الِاجْتِهَادِ هُوَ فِي نَوْعَيْ الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَنْ اعْتَقَدَ ثُبُوتَ شَيْءٍ لِدَلَالَةِ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ وَكَانَ لِذَلِكَ مَا يُعَارِضُهُ وَيُبَيِّنُ الْمُرَادَ وَلَمْ يَعْرِفْهُ مِثْلَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الذَّبِيحَ إسْحَاقُ لِحَدِيثِ اعْتَقَدَ ثُبُوتَهُ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى؛ لِقَوْلِهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} وَلِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} كَمَا احْتَجَّتْ عَائِشَةُ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ الرُّؤْيَةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا يَدُلَّانِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ.

ص: 33

وَكَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى وَفَسَّرُوا قَوْلَهُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} بِأَنَّهَا تَنْتَظِرُ ثَوَابَ رَبِّهَا كَمَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي صَالِحٍ. أَوْ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ وَأَنَّ ذَلِكَ يُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ الرَّاوِي لِأَنَّ السَّمْعَ يَغْلَطُ كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ طَائِفَة مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَسْمَعُ خِطَابَ الْحَيِّ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَإنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ شريح؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْعَجَبَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ جَهْلِ السَّبَبِ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ الْجَهْلِ. أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ عَلِيًّا أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ؛ لِاعْتِقَادِهِ صِحَّةَ حَدِيثِ الطَّيْرِ؛ وَأَنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ الْخَلْقِ إلَيْك؛ يَأْكُلُ مَعِي مِنْ هَذَا الطَّائِرِ} . أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ مَنْ جَسَّ لِلْعَدُوِّ وَأَعْلَمَهُمْ بِغَزْوِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 34

فَهُوَ مُنَافِقٌ: كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ عُمَرُ فِي حَاطِبٍ وَقَالَ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ مَنْ غَضِبَ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ غَضْبَةً فَهُوَ مُنَافِقٌ؛ كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ أسيد بْنُ حضير فِي سَعْدِ بْنِ عبادة وَقَالَ: إنَّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ. أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ بَعْضَ الْكَلِمَاتِ أَوْ الْآيَاتِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ بِالنَّقْلِ الثَّابِتِ كَمَا نُقِلَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَلْفَاظًا مِنْ الْقُرْآنِ كَإِنْكَارِ بَعْضِهِمْ: {وَقَضَى رَبُّكَ} وَقَالَ: إنَّمَا هِيَ وَوَصَّى رَبُّك. وَإِنْكَارِ بَعْضِهِمْ قَوْلَهُ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} وَقَالَ: إنَّمَا هُوَ مِيثَاقُ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ. وَإِنْكَارِ بَعْضِهِمْ {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} إنَّمَا هِيَ أَوَلَمْ يَتَبَيَّنْ الَّذِينَ آمَنُوا. وَكَمَا أَنْكَرَ عُمَرُ عَلَى هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ لَمَّا رَآهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأَهَا. وَكَمَا أَنْكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ عَلَى بَعْضِ الْقُرَّاءِ بِحُرُوفِ لَمْ يَعْرِفُوهَا حَتَّى جَمَعَهُمْ عُثْمَانُ عَلَى الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ. وَكَمَا أَنْكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ الْمَعَاصِيَ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ذَلِكَ وَيَرْضَاهُ وَيَأْمُرُ بِهِ. وَأَنْكَرَ طَائِفَةٌ

ص: 35

مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ الْمَعَاصِيَ؛ لِكَوْنِهِمْ ظَنُّوا أَنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ لِخَلْقِهَا وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ؛ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَالْقُرْآنُ قَدْ جَاءَ بِلَفْظِ الْإِرَادَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَبِهَذَا الْمَعْنَى لَكِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ عَرَفَتْ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ وَأَنْكَرَتْ الْآخَرَ. وَكَاَلَّذِي قَالَ لِأَهْلِهِ: إذَا أَنَا مُتّ فَأَحْرِقُونِي: ثُمَّ ذَرُونِي فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ. وَكَمَا قَدْ ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} وَفِي قَوْلِ الْحَوَارِيِّينَ: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} وَكَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ؛ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ؛ إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ الْأَحَادِيثُ وَإِمَّا لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ كَذِبٌ وَغَلَطٌ.

ص: 36

فَصْلٌ:

وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ مَا قَبْلَ الرِّسَالَةِ وَمَا بَعْدَهَا فِي أَسْمَاءَ وَأَحْكَامٍ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي أَسْمَاءَ وَأَحْكَامٍ وَذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ: عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ الْأَفْعَالَ لَيْسَ فِيهَا حَسَنٌ وَقَبِيحٌ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ سَمَّاهُمْ ظَالِمِينَ وَطَاغِينَ وَمُفْسِدِينَ؛ لِقَوْلِهِ: {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ ظَالِمٌ وَطَاغٍ وَمُفْسِدٌ هُوَ وَقَوْمُهُ وَهَذِهِ أَسْمَاءُ ذَمِّ الْأَفْعَالِ؛ وَالذَّمُّ إنَّمَا. يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ الْقَبِيحَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ تَكُونُ قَبِيحَةً مَذْمُومَةً قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ إلَّا بَعْدَ إتْيَانِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ؛ لِقَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْ هُودَ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ

ص: 37

إلَهٍ غَيْرُهُ إنْ أَنْتُمْ إلَّا مُفْتَرُونَ} فَجَعَلَهُمْ مُفْتَرِينَ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ بِحُكْمِ يُخَالِفُونَهُ؛ لِكَوْنِهِمْ جَعَلُوا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَاسْمُ الْمُشْرِكِ ثَبَتَ قَبْلَ الرِّسَالَةِ؛ فَإِنَّهُ يُشْرِكُ بِرَبِّهِ وَيَعْدِلُ بِهِ وَيَجْعَلُ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى وَيَجْعَلُ لَهُ أَنْدَادًا قَبْلَ الرَّسُولِ وَيُثْبِتُ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ اسْمُ الْجَهْلِ وَالْجَاهِلِيَّةِ يُقَالُ: جَاهِلِيَّةً وَجَاهِلًا قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ وَأَمَّا التَّعْذِيبُ فَلَا. وَالتَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ كَقَوْلِهِ: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الرَّسُولِ مِثْلَ قَوْلِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ. {فَكَذَّبَ وَعَصَى} كَانَ هَذَا بَعْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى. {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} {فَكَذَّبَ وَعَصَى} وَقَالَ: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} (1).

(1)

هذا آخر ما وجد بالأصل

ص: 38

وَسُئِلَ أَيْضًا رضي الله عنه:

هَلْ الْبُخَارِيُّ؛ وَمُسْلِمٌ؛ وَأَبُو دَاوُد؛ وَالتِّرْمِذِي؛ وَالنَّسَائِي؛ وَابْنُ مَاجَه؛ وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِى؛ وَالدَّارِمِي وَالْبَزَّارُ؛ وَالدَّارَقُطْنِي؛ وَالْبَيْهَقِي؛ وَابْنُ خُزَيْمَة؛ وَأَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ هَلْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُجْتَهِدِينَ لَمْ يُقَلِّدُوا أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ أَمْ كَانُوا مُقَلِّدِينَ؟ وَهَلْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ يَنْتَسِبُ إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ؟ وَهَلْ إذَا وُجِدَ فِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ؛ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ التيمي؛ عَنْ عَائِشَةَ. وَوُجِدَ فِي الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنِي مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ؛ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ؛ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَهَلْ يُقَالُ أَنَّ هَذَا أَصَحُّ مِنْ الَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ؟ وَهَلْ إذَا كَانَ الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ بِسَنَدِ وَفِي الْمُوَطَّأِ بِسَنَدِ فَهَلْ يُقَالُ: إنَّ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ أَصَحُّ؟ وَإِذَا رَوَيْنَا عَنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ حَدِيثًا وَلَمْ يَرْوِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَهَلْ يُقَالُ. هُوَ مِثْلُ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ؟

ص: 39

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا الْبُخَارِيُّ؛ وَأَبُو دَاوُد فَإِمَامَانِ فِي الْفِقْهِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا مُسْلِمٌ؛ وَالتِّرْمِذِي؛ وَالنَّسَائِي؛ وَابْنُ مَاجَه؛ وَابْنُ خُزَيْمَة؛ وَأَبُو يَعْلَى؛ وَالْبَزَّارُ؛ وَنَحْوُهُمْ؛ فَهُمْ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَيْسُوا مُقَلِّدِينَ لِوَاحِدِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلَا هُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ [بَلْ هُمْ يَمِيلُونَ إلَى قَوْلِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ](*) كَالشَّافِعِيِّ؛ وَأَحْمَد؛ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ؛ وَأَمْثَالِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ كَاخْتِصَاصِ أَبِي دَاوُد وَنَحْوِهِ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَهُمْ إلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْحِجَازِ - كَمَالِكِ وَأَمْثَالِهِ - أَمْيَلُ مِنْهُمْ إلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ - كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ -. وَأَمَّا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِى فَأَقْدَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ مِنْ طَبَقَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ؛ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ الواسطي؛ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُد. وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ؛ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ؛ وَمُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ؛ وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ؛ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ؛ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ طَبَقَةِ شُيُوخِ الْإِمَامِ أَحْمَد. وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يُعَظِّمُونَ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ

(*) في المطبوع: (بل هم [لا] يميلون إلى قول أئمة الحديث)

قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 159):

كذا وقع (لا يميلون إلى أهل الحديث)، و (لا) مقحمة، وصوابه:(بل هم يميلون إلى أئمة الحديث) - كما يظهر من السياق -.

ص: 40

الْعِرَاقِيِّينَ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَنَحْوِهِمَا كَوَكِيعِ؛ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ الْمَدَنِيِّينَ: مَالِكٌ وَنَحْوُهُ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ. وَأَمَّا البيهقي فَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ مُنْتَصِرًا لَهُ فِي عَامَّةِ أَقْوَالِهِ. وَالدَّارَقُطْنِي هُوَ أَيْضًا يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَئِمَّةِ السَّنَدِ وَالْحَدِيثِ لَكِنْ لَيْسَ هُوَ فِي تَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ كالبيهقي مَعَ أَنَّ البيهقي لَهُ اجْتِهَادٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ وَاجْتِهَادُ الدارقطني أَقْوَى مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ وَأَفْقَهَ مِنْهُ.

ص: 41

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

الْقَلْبُ الْمَعْمُورُ بِالتَّقْوَى إذَا رَجَّحَ بِمُجَرَّدِ رَأْيِهِ فَهُوَ تَرْجِيحٌ شَرْعِيٌّ.

قَالَ: فَمَتَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُ وَحَصَلَ فِي قَلْبِهِ مَا بَطَنَ مَعَهُ إنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَوْ هَذَا الْكَلَامَ أَرْضَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ هَذَا تَرْجِيحًا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ (*) وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْإِلْهَامِ لَيْسَ طَرِيقًا إلَى الْحَقَائِقِ مُطْلَقًا أَخْطَؤُوا فَإِذَا اجْتَهَدَ الْعَبْدُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ كَانَ تَرْجِيحُهُ لِمَا رَجَّحَ أَقْوَى مِنْ أَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ ضَعِيفَةٍ فَإِلْهَامُ مِثْلِ هَذَا دَلِيلٌ فِي حَقِّهِ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَقْيِسَةِ الضَّعِيفَةِ وَالْمَوْهُومَةِ وَالظَّوَاهِرِ والاستصحابات الْكَثِيرَةِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي الْمَذَاهِبِ وَالْخِلَافِ؛ وَأُصُولِ الْفِقْهِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: اقْرَبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ؛ فَإِنَّهُمْ تَتَجَلَّى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ. وَحَدِيثُ مَكْحُولٍ الْمَرْفُوعُ {مَا أَخْلَصَ عَبْدٌ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ تَعَالَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا إلَّا أَجْرَى اللَّهُ الْحِكْمَةَ عَلَى قَلْبِهِ؛ وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ وَفِي رِوَايَةٍ إلَّا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ} . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني: إنَّ الْقُلُوبَ إذَا اجْتَمَعَتْ

(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 159 - 160):

هنا أمران:

الأول: أن وجود (قال) في هذا الموضع بعد السطر الأول يدل على أن هذا الكلام فيه حذف، أو اتختصار، أو نحو ذلك، ولم أجد أصل هذا في المطبوع، إلا أن تفصيل هذه المسألة وهي (الإلهام) تجدها في (10/ 472) وهو مثل الشرح لهذه القطعة.

والثاني: أن قوله هنا (وحصل في قلبه ما بطن معه أن هذا الأمر. . .) صوابه (ما يظن معه) كما يقتضيه السياق، وكما قال في (10/ 473) عن نفس المسألة:(ففي الجملة متى حصل ما يظن معه أن أحد الأمرين. . .)، والله تعالى أعلم.

ص: 42

عَلَى التَّقْوَى جَالَتْ فِي الْمَلَكُوتِ؛ وَرَجَعَتْ إلَى أَصْحَابِهَا بِطَرَفِ الْفَوَائِدِ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهَا عَالِمٌ عِلْمًا. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {: الصَّلَاةُ نُورٌ؛ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ؛ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ} وَمَنْ مَعَهُ نُورٌ وَبُرْهَانٌ وَضِيَاءٌ كَيْفَ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ مِنْ فَحْوَى كَلَامِ أَصْحَابِهَا؟ وَلَا سِيَّمَا الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ ذَلِكَ مَعْرِفَةً تَامَّةً؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ الْعَمَلَ بِهَا؛ فتتساعد فِي حَقِّهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَعَ الِامْتِثَالِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى أَنَّ الْمُحِبَّ يَعْرِفُ مِنْ فَحْوَى كَلَامِ مَحْبُوبِهِ مُرَادَهُ مِنْهُ تَلْوِيحًا لَا تَصْرِيحًا.

وَالْعَيْنُ تَعْرِفُ مِنْ عَيْنَيْ مُحَدِّثِهَا

إنْ كَانَ مِنْ حِزْبِهَا أَوْ مِنْ أَعَادِيهَا

إنَارَةُ الْعَقْلِ مَكْسُوفٌ بِطَوْعِ هَوًى

وَعَقْلُ عَاصِي الْهَوَى يَزْدَادُ تَنْوِيرًا

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا} " وَمَنْ كَانَ تَوْفِيقُ اللَّهِ لَهُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَا بَصِيرَةٍ نَافِذَةٍ وَنَفْسٍ فَعَّالَةٍ؟ وَإِذَا كَانَ

ص: 43

الْإِثْمُ وَالْبِرُّ فِي صُدُورِ الْخَلْقِ لَهُ تَرَدُّدٌ وَجَوَلَانٌ؛ فَكَيْفَ حَالُ مَنْ اللَّهُ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَهُوَ فِي قَلْبِهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْإِثْمُ حواز الْقُلُوبِ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ وَالصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ فَالْحَدِيثُ الصِّدْقُ تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ النَّفْسُ وَيَطْمَئِنُّ إلَيْهِ الْقَلْبُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى الْحَقِّ؛ فَإِذَا لَمْ تَسْتَحِلَّ الْفِطْرَةُ: شَاهَدَتْ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ؛ فَأَنْكَرَتْ مُنْكِرَهَا وَعَرَّفَتْ مَعْرُوفَهَا. قَالَ عُمَرُ: الْحَقُّ أَبْلَجُ لَا يَخْفَى عَلَى فَطِنٍ. فَإِذَا كَانَتْ الْفِطْرَةُ مُسْتَقِيمَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ مُنَوَّرَةً بِنُورِ الْقُرْآنِ. تَجَلَّتْ لَهَا الْأَشْيَاءُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَزَايَا وَانْتَفَتْ عَنْهَا ظُلُمَاتُ الْجَهَالَاتِ فَرَأَتْ الْأُمُورَ عِيَانًا مَعَ غَيْبِهَا عَنْ غَيْرِهَا. وَفِي السُّنَنِ وَالْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا؛ وَعَلَى جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ؛ وَفِي السُّورَيْنِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ؛ وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ؛ وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ. وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ؛ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ؛ وَالسُّتُورُ الْمُرْخَاةُ حُدُودُ اللَّهِ؛ وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ نَادَاهُ الْمُنَادِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَفْتَحْهُ؛ فَإِنَّك إنْ فَتَحْته تَلِجْهُ. وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ

ص: 44

الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ؛ وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ} فَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ - الَّذِي مَنْ عَرَفَهُ انْتَفَعَ بِهِ انْتِفَاعًا بَالِغًا إنْ سَاعَدَهُ التَّوْفِيقُ؛ وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ - أَنَّ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَاعِظًا وَالْوَعْظُ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ؛ وَالتَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ. وَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ مَعْمُورًا بِالتَّقْوَى انْجَلَتْ لَهُ الْأُمُورُ وَانْكَشَفَتْ؛ بِخِلَافِ الْقَلْبِ الْخَرَابِ الْمُظْلِمِ؛ قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: إنَّ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ سِرَاجًا يُزْهِرُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {إنَّ الدَّجَّالَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ قَارِئٍ وَغَيْرِ قَارِئٍ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَتَبَيَّنُ لَهُ مَا لَا يَتَبَيَّنُ لِغَيْرِهِ؛ وَلَا سِيَّمَا فِي الْفِتَنِ وَيَنْكَشِفُ لَهُ حَالُ الْكَذَّابِ الْوَضَّاعِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ الدَّجَّالَ أَكْذَبُ خَلْقِ اللَّهِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ يُجْرِي عَلَى يَدَيْهِ أُمُورًا هَائِلَةً ومخاريق مُزَلْزِلَةً حَتَّى إنَّ مَنْ رَآهُ افْتَتَنَ بِهِ فَيَكْشِفُهَا اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ حَتَّى يَعْتَقِدَ كَذِبَهَا وَبُطْلَانَهَا. وَكُلَّمَا قَوِيَ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ قَوِيَ انْكِشَافُ الْأُمُورِ لَهُ؛ وَعَرَفَ حَقَائِقَهَا مِنْ بَوَاطِلِهَا وَكُلَّمَا ضَعُفَ الْإِيمَانُ ضَعُفَ الْكَشْفُ وَذَلِكَ مَثَلُ السِّرَاجِ الْقَوِيِّ وَالسِّرَاجِ الضَّعِيفِ فِي الْبَيْتِ الْمُظْلِمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} قَالَ: هُوَ الْمُؤْمِنُ يَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ الْمُطَابِقَةِ لِلْحَقِّ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ فِيهَا بِالْأَثَرِ فَإِذَا سَمِعَ فِيهَا بِالْأَثَرِ كَانَ نُورًا

ص: 45

عَلَى نُورٍ. فَالْإِيمَانُ الَّذِي فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ يُطَابِقُ نُورَ الْقُرْآنِ؛ فَالْإِلْهَامُ الْقَلْبِيُّ تَارَةً يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْقَوْلِ وَالْعِلْمِ؛ وَالظَّنُّ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَذِبٌ. وَأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ بَاطِلٌ؛ وَهَذَا أَرْجَحُ مِنْ هَذَا؛ أَوْ هَذَا أَصْوَبُ. وَفِي الصَّحِيح عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ} . وَالْمُحَدِّثُ: هُوَ الْمُلْهَمُ الْمُخَاطَبُ فِي سِرِّهِ. وَمَا قَالَ عُمَرُ لِشَيْءِ: إنِّي لَأَظُنّهُ كَذَا وَكَذَا إلَّا كَانَ كَمَا ظَنَّ وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ الْأُمُورُ الْكَوْنِيَّةُ قَدْ تَنْكَشِفُ لِلْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ لِقُوَّةِ إيمَانِهِ يَقِينًا وَظَنًّا؛ فَالْأُمُورُ الدِّينِيَّةُ كَشْفُهَا لَهُ أَيْسَرُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّهُ إلَى كَشْفِهَا أَحْوَجُ فَالْمُؤْمِنُ تَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَدِلَّةٌ عَلَى الْأَشْيَاءِ لَا يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا فِي الْغَالِبِ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يُمْكِنُهُ إبَانَةُ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِقَلْبِهِ فَإِذَا تَكَلَّمَ الْكَاذِبُ بَيْنَ يَدَيْ الصَّادِقِ عَرَفَ كَذِبَهُ مِنْ فَحْوَى كَلَامِهِ فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ نَخْوَةُ الْحَيَاءِ الْإِيمَانِيِّ فَتَمْنَعُهُ الْبَيَانَ وَلَكِنْ هُوَ فِي نَفْسِهِ قَدْ أَخَذَ حِذْرَهُ مِنْهُ وَرُبَّمَا لَوَّحَ أَوْ صَرَّحَ بِهِ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ وَشَفَقَةً عَلَى خَلْقِ اللَّهِ لِيَحْذَرُوا مِنْ رِوَايَتِهِ أَوْ الْعَمَلِ بِهِ.

ص: 46

وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْكَشْفِ يُلْقِي اللَّهُ فِي قَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ حَرَامٌ؛ وَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَافِرٌ؛ أَوْ فَاسِقٌ؛ أَوْ دَيُّوثٌ؛ أَوْ لُوطِيٌّ؛ أَوْ خَمَّارٌ؛ أَوْ مُغَنٍّ؛ أَوْ كَاذِبٌ؛ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ بَلْ بِمَا يُلْقِي اللَّهُ فِي قَلْبِهِ. وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ يُلْقِي فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةً لِشَخْصِ وَأَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ؛ وَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ صَالِحٌ؛ وَهَذَا الطَّعَامَ حَلَالٌ وَهَذَا الْقَوْلَ صِدْقٌ؛ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَبْعَدَ فِي حَقِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ. وَقِصَّةُ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى هِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَأَنَّ الْخَضِرَ عَلِمَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ الْمُعَيَّنَةَ بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَطُولُ بَسْطُهُ قَدْ نَبَّهْنَا فِيهِ عَلَى نُكَتٍ شَرِيفَةٍ تُطْلِعُك عَلَى مَا وَرَاءَهَا.

ص: 47

وَقَالَ:

فَصْلٌ:

جَامِعٌ فِي تَعَارُضِ الْحَسَنَاتِ؛ أَوْ السَّيِّئَاتِ؛ أَوْ هُمَا جَمِيعًا. إذَا اجْتَمَعَا وَلَمْ يُمْكِنْ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا؛ بَلْ الْمُمْكِنُ إمَّا فِعْلُهُمَا جَمِيعًا وَإِمَّا تَرْكُهُمَا جَمِيعًا. وَقَدْ كَتَبْت مَا يُشْبِهُ هَذَا فِي " قَاعِدَةِ الْإِمَارَةِ وَالْخِلَافَةِ " وَفِي أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا وَأَنَّهَا تُرَجِّحُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ وَتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَتَدْفَعُ أَعْظَمَ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا فَنَقُولُ: قَدْ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِأَفْعَالِ وَاجِبَةٍ وَمُسْتَحَبَّةٍ؛ وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ مُسْتَحَبًّا وَزِيَادَةً. وَنَهَى عَنْ أَفْعَالٍ مُحَرَّمَةٍ أَوْ مَكْرُوهَةٍ وَالدِّينُ هُوَ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَهُوَ الدِّينُ وَالتَّقْوَى؛ وَالْبِرُّ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ؛ وَالشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فُرُوقٌ. وَكَذَلِكَ حَمِدَ أَفْعَالًا هِيَ الْحَسَنَاتُ وَوَعَدَ عَلَيْهَا وَذَمَّ أَفْعَالًا هِيَ السَّيِّئَاتُ وَأَوْعَدَ عَلَيْهَا وَقَيَّدَ

ص: 48

الْأُمُورَ بِالْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ وَالْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا مَا آتَاهَا} وَكُلٌّ مِنْ الْآيَتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فَسَبَبُ الْأُولَى الْمُحَاسَبَةُ عَلَى مَا فِي النُّفُوسِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَسَبَبُ الثَّانِيَةِ الْإِعْطَاءُ الْوَاجِبُ. وَقَالَ: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إلَّا نَفْسَكَ} وَقَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وَقَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} وَقَالَ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} وَقَالَ: {مَا وَجَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةَ وَقَالَ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} وَقَالَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} وَقَالَ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} . وَقَدْ ذَكَرَ فِي الصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ وَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ مِنْ هَذَا أَنْوَاعًا. وَقَالَ فِي الْمَنْهِيَّاتِ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ

ص: 49

إلَيْهِ} وَقَالَ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} الْآيَةَ. وَقَالَ فِي الْمُتَعَارِضِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} وَقَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وَقَالَ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَقَالَ: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} وَقَالَ: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} وَقَالَ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ} .

وَنَقُولُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَسَنَاتِ لَهَا مَنَافِعُ وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً: كَانَ فِي تَرْكِهَا مَضَارُّ وَالسَّيِّئَاتُ فِيهَا مَضَارُّ وَفِي الْمَكْرُوهِ بَعْضُ

ص: 50

حَسَنَاتٍ. فَالتَّعَارُضُ إمَّا بَيْنَ حَسَنَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ فَتُقَدَّمُ أَحْسَنُهُمَا بِتَفْوِيتِ الْمَرْجُوحِ وَإِمَّا بَيْنَ سَيِّئَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْخُلُوُّ مِنْهُمَا؛ فَيَدْفَعُ أَسْوَأَهُمَا بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا. وَإِمَّا بَيْنَ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ لَا يُمْكِنُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا؛ بَلْ فِعْلُ الْحَسَنَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُقُوعِ السَّيِّئَةِ؛ وَتَرْكُ السَّيِّئَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَرْكِ الْحَسَنَةِ؛ فَيُرَجَّحُ الْأَرْجَحُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْحَسَنَةِ وَمَضَرَّةِ السَّيِّئَةِ. فَالْأَوَّلُ كَالْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ؛ وَكَفَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ؛ مِثْلَ تَقْدِيمِ قَضَاءِ الدَّيْنِ الْمُطَالَبِ بِهِ عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. وَالثَّانِي كَتَقْدِيمِ نَفَقَةِ الْأَهْلِ عَلَى نَفَقَةِ الْجِهَادِ الَّذِي لَمْ يَتَعَيَّنْ؛ وَتَقْدِيمِ نَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قُلْت. ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَتَقْدِيمُ الْجِهَادِ عَلَى الْحَجِّ كَمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَعَيَّنٌ عَلَى مُتَعَيَّنٍ وَمُسْتَحَبٌّ عَلَى مُسْتَحَبٍّ وَتَقْدِيمُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الذِّكْرِ إذَا اسْتَوَيَا فِي عَمَلِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَتَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا إذَا شَارَكَتْهُمَا فِي عَمَلِ الْقَلْبِ وَإِلَّا فَقَدْ يَتَرَجَّحُ الذِّكْرُ بِالْفَهْمِ وَالْوَجَلِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الَّتِي لَا تُجَاوِزُ الْحَنَاجِرَ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. وَالثَّالِثُ كَتَقْدِيمِ الْمَرْأَةِ الْمُهَاجِرَةِ لِسَفَرِ الْهِجْرَة بِلَا مَحْرَمٍ عَلَى بَقَائِهَا

ص: 51

بِدَارِ الْحَرْبِ كَمَا فَعَلَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا آيَةَ الِامْتِحَانِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} وَكَتَقْدِيمِ قَتْلِ النَّفْسِ عَلَى الْكُفْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} فَتُقْتَلُ النُّفُوسُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الْفِتْنَةُ عَنْ الْإِيمَانِ لِأَنَّ ضَرَرَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ قَتْلِ النَّفْسِ وَكَتَقْدِيمِ قَطْعِ السَّارِقِ وَرَجْمِ الزَّانِي وَجَلْدِ الشَّارِبِ عَلَى مَضَرَّةِ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعُقُوبَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا فَإِنَّمَا أَمَرَ بِهَا مَعَ أَنَّهَا فِي الْأَصْلِ سَيِّئَةٌ وَفِيهَا ضَرَرٌ؛ لِدَفْعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْهَا؛ وَهِيَ جَرَائِمُهَا؛ إذْ لَا يُمْكِنُ دَفْعُ ذَلِكَ الْفَسَادِ الْكَبِيرِ إلَّا بِهَذَا الْفَسَادِ الصَّغِيرِ. وَكَذَلِكَ فِي " بَابِ الْجِهَادِ " وَإِنْ كَانَ قَتْلُ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ حَرَامًا فَمَتَى اُحْتِيجَ إلَى قِتَالٍ قَدْ يَعُمُّهُمْ مِثْلُ: الرَّمْيُ بِالْمَنْجَنِيقِ وَالتَّبْيِيتُ بِاللَّيْلِ جَازَ ذَلِكَ كَمَا جَاءَتْ فِيهَا السُّنَّةُ فِي حِصَارِ الطَّائِفِ وَرَمْيِهِمْ بِالْمَنْجَنِيقِ وَفِي أَهْلِ الدَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَبِيتُونَ وَهُوَ دَفْعٌ لِفَسَادِ الْفِتْنَةِ أَيْضًا بِقَتْلِ مَنْ لَا يَجُوزُ قَصْدُ قَتْلِهِ. وَكَذَلِكَ " مَسْأَلَةُ التَّتَرُّسِ " الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ؛ فَإِنَّ الْجِهَادَ هُوَ دَفْعُ فِتْنَةِ الْكُفْرِ فَيَحْصُلُ فِيهَا مِنْ الْمَضَرَّةِ مَا هُوَ دُونَهَا؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِمَا يُفْضِي إلَى قَتْلِ أُولَئِكَ الْمُتَتَرَّسِ بِهِمْ جَازَ ذَلِكَ؛ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ الضَّرَرَ لَكِنْ

ص: 52

لَمْ يُمْكِنْ الْجِهَادُ إلَّا بِمَا يُفْضِي إلَى قَتْلِهِمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ. وَمَنْ يُسَوِّغُ ذَلِكَ يَقُولُ: قَتْلُهُمْ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْجَلَّادِ مِثْلَ قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ الْمُقَاتِلِينَ يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَمِثْلُ ذَلِكَ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْمَبَاذِلِ؛ وَقِتَالِ الْبُغَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْ ذَلِكَ إبَاحَةُ نِكَاحِ الْأَمَةِ خَشْيَةَ الْعَنَتِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ أَيْضًا. وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَمِثْلُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ؛ فَإِنَّ الْأَكْلَ حَسَنَةٌ وَاجِبَةٌ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِهَذِهِ السَّيِّئَةِ وَمَصْلَحَتُهَا رَاجِحَةٌ وَعَكْسُهُ الدَّوَاءُ الْخَبِيثُ؛ فَإِنَّ مَضَرَّتَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَتِهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْعِلَاجِ لِقِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ؛ وَلِأَنَّ الْبُرْءَ لَا يُتَيَقَّنُ بِهِ وَكَذَلِكَ شُرْبُ الْخَمْرِ لِلدَّوَاءِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ السَّيِّئَةَ تُحْتَمَلُ فِي مَوْضِعَيْنِ دَفْعِ مَا هُوَ أَسْوَأُ مِنْهَا إذَا لَمْ تُدْفَعْ إلَّا بِهَا وَتَحْصُلُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ مِنْ تَرْكِهَا إذَا لَمْ تَحْصُلْ إلَّا بِهَا وَالْحَسَنَةُ تُتْرَكُ فِي مَوْضِعَيْنِ إذَا كَانَتْ مُفَوِّتَةً لِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهَا؛ أَوْ مُسْتَلْزِمَةً لِسَيِّئَةٍ تَزِيدُ مَضَرَّتُهَا عَلَى مَنْفَعَةِ الْحَسَنَةِ. هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَازَنَاتِ الدِّينِيَّةِ. وَأَمَّا سُقُوطُ الْوَاجِبِ لِمَضَرَّةِ فِي الدُّنْيَا؛ وَإِبَاحَةُ الْمُحَرَّمِ لِحَاجَةِ فِي الدُّنْيَا؛ كَسُقُوطِ الصِّيَامِ لِأَجْلِ السَّفَرِ؛ وَسُقُوطِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ

ص: 53

وَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْمَرَضِ فَهَذَا بَابٌ آخَرُ يَدْخُلُ فِي سِعَةِ الدِّينِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ الَّذِي قَدْ تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ؛ بِخِلَافِ الْبَابِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ جِنْسَهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اخْتِلَافُ الشَّرَائِعِ فِيهِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فِي أَعْيَانِهِ بَلْ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْعَقْلِ كَمَا يُقَالُ: لَيْسَ الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْلَمُ الْخَيْرَ مِنْ الشَّرِّ وَإِنَّمَا الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْلَمُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ وَيَنْشُدُ: إنَّ اللَّبِيبَ إذَا بَدَا مِنْ جِسْمِهِ مَرَضَانِ مُخْتَلِفَانِ دَاوَى الْأَخْطَرَا وَهَذَا ثَابِتٌ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ الطَّبِيبَ مَثَلًا يَحْتَاجُ إلَى تَقْوِيَةِ الْقُوَّةِ وَدَفْعِ الْمَرَضِ؛ وَالْفَسَادُ أَدَاةٌ تَزِيدُهُمَا مَعًا؛ فَإِنَّهُ يُرَجَّحُ عِنْدَ وُفُورِ الْقُوَّةِ تَرْكُهُ إضْعَافًا لِلْمَرَضِ وَعِنْدَ ضَعْفِ الْقُوَّةِ فِعْلُهُ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ إبْقَاءِ الْقُوَّةِ وَالْمَرَضِ أَوْلَى مِنْ إذْهَابِهِمَا جَمِيعًا؛ فَإِنَّ ذَهَابَ الْقُوَّةِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْهَلَاكِ وَلِهَذَا اسْتَقَرَّ فِي عُقُولِ النَّاسِ أَنَّهُ عِنْدَ الْجَدْبِ يَكُونُ نُزُولُ الْمَطَرِ لَهُمْ رَحْمَةً وَإِنْ كَانَ يَتَقَوَّى بِمَا يُنْبِتُهُ أَقْوَامٌ عَلَى ظُلْمِهِمْ لَكِنَّ عَدَمَهُ أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ وَيُرَجِّحُونَ وُجُودَ السُّلْطَانِ مَعَ ظُلْمِهِ عَلَى عَدَمِ السُّلْطَانِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ سِتُّونَ سَنَةً مِنْ سُلْطَانٍ ظَالِمٍ خَيْرٌ مِنْ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا سُلْطَانٍ. ثُمَّ السُّلْطَانُ يُؤَاخَذُ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْعُدْوَانِ وَيُفَرِّطُ فِيهِ مِنْ

ص: 54

الْحُقُوقِ مَعَ التَّمَكُّنِ لَكِنْ أَقُولُ هُنَا؛ إذَا كَانَ الْمُتَوَلِّي لِلسُّلْطَانِ الْعَامَّ أَوْ بَعْضَ فُرُوعِهِ كَالْإِمَارَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْقَضَاءِ وَنَحْوُ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ وَاجِبَاتِهِ وَتَرْكُ مُحَرَّمَاتِهِ وَلَكِنْ يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ مَا لَا يَفْعَلُهُ غَيْرُهُ قَصْدًا وَقُدْرَةً: جَازَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ وَرُبَّمَا وَجَبَتْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَجِبُ تَحْصِيلُ مَصَالِحهَا مِنْ جِهَادِ الْعَدُوِّ وَقَسْمِ الْفَيْءِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَأَمْنِ السَّبِيلِ: كَانَ فِعْلُهَا وَاجِبًا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِتَوْلِيَةِ بَعْضِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وَأَخْذِ بَعْضِ مَا لَا يَحِلُّ وَإِعْطَاءِ بَعْضِ مَنْ لَا يَنْبَغِي؛ وَلَا يُمْكِنُهُ تَرْكُ ذَلِكَ: صَارَ هَذَا مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ أَوْ الْمُسْتَحَبُّ إلَّا بِهِ فَيَكُونُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا إذَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ دُونَ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ أَوْ الْمُسْتَحَبِّ بَلْ لَوْ كَانَتْ الْوِلَايَةُ غَيْرَ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ظُلْمٍ؛ وَمَنْ تَوَلَّاهَا أَقَامَ الظُّلْمَ حَتَّى تَوَلَّاهَا شَخْصٌ قَصْدُهُ بِذَلِكَ تَخْفِيفُ الظُّلْمِ فِيهَا. وَدَفْعُ أَكْثَرِهِ بِاحْتِمَالِ أَيْسَرِهِ: كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا مَعَ هَذِهِ النِّيَّةِ وَكَانَ فِعْلُهُ لِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ السَّيِّئَةِ بِنِيَّةِ دَفْعِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا جَيِّدًا. وَهَذَا بَابٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدِ فَمَنْ طَلَبَ مِنْهُ ظَالِمٌ قَادِرٌ وَأَلْزَمَهُ مَالًا فَتَوَسَّطَ رَجُلٌ بَيْنَهُمَا لِيَدْفَعَ عَنْ الْمَظْلُومِ كَثْرَةَ الظُّلْمِ وَأَخَذَ مِنْهُ وَأَعْطَى الظَّالِمَ مَعَ اخْتِيَارِهِ أَنْ لَا يَظْلِمَ وَدَفْعَهُ ذَلِكَ لَوْ أَمْكَنَ: كَانَ مُحْسِنًا وَلَوْ تَوَسَّطَ إعَانَةً لِلظَّالِمِ كَانَ مُسِيئًا.

ص: 55

وَإِنَّمَا الْغَالِبُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَسَادُ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ أَمَّا النِّيَّةُ فَبِقَصْدِهِ. السُّلْطَانَ وَالْمَالَ وَأَمَّا الْعَمَلُ فَبِفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَبِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ لَا لِأَجْلِ التَّعَارُضِ وَلَا لِقَصْدِ الْأَنْفَعِ وَالْأَصْلَحِ. ثُمَّ الْوِلَايَةُ وَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً أَوْ وَاجِبَةً فَقَدْ يَكُونُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ الْمُعِينِ غَيْرُهَا أَوْجَبُ. أَوْ أَحَبُّ فَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ خَيْرُ الْخَيْرَيْنِ وُجُوبًا تَارَةً وَاسْتِحْبَابًا أُخْرَى. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَوَلِّي يُوسُفَ الصِّدِّيقَ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ لِمَلِكِ مِصْرَ بَلْ وَمَسْأَلَتُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَكَانَ هُوَ وَقَوْمُهُ كُفَّارًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} الْآيَةَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَعَ كُفْرِهِمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَادَةٌ وَسُنَّةٌ فِي قَبْضِ الْأَمْوَالِ وَصَرْفِهَا عَلَى حَاشِيَةِ الْمَلِكِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَجُنْدِهِ وَرَعِيَّتِهِ وَلَا تَكُونُ تِلْكَ جَارِيَةً عَلَى سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَدْلِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ يُوسُفُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا يُرِيدُ وَهُوَ مَا يَرَاهُ مِنْ دِينِ اللَّهِ فَإِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَكِنْ فَعَلَ الْمُمْكِنَ مِنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَنَالَ بِالسُّلْطَانِ مِنْ إكْرَامِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُ أَنْ يَنَالَهُ بِدُونِ ذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ:

ص: 56

{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . فإذا ازْدَحَمَ وَاجِبَانِ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا فَقُدِّمَ أَوْكَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ الْآخَرُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَاجِبًا وَلَمْ يَكُنْ تَارِكُهُ لِأَجْلِ فِعْلِ الْأَوْكَدِ تَارِكَ وَاجِبٍ فِي الْحَقِيقَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ مُحَرَّمَانِ لَا يُمْكِنُ تَرْكُ أَعْظَمِهِمَا إلَّا بِفِعْلِ أَدْنَاهُمَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُ الْأَدْنَى فِي هَذِهِ الْحَالِ مُحَرَّمًا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ سُمِّيَ ذَلِكَ تَرْكُ وَاجِبٍ وَسُمِّيَ هَذَا فِعْلُ مُحَرَّمٍ بِاعْتِبَارِ الْإِطْلَاقِ لَمْ يَضُرَّ. وَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا تَرْكُ الْوَاجِبِ لِعُذْرِ وَفِعْلُ الْمُحَرَّمِ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ أَوْ لِلضَّرُورَةِ؛ أَوْ لِدَفْعِ مَا هُوَ أحرم وَهَذَا كَمَا يُقَالُ لِمَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا: إنَّهُ صَلَّاهَا فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُطْلَقِ قَضَاءً. هَذَا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ} . وَهَذَا بَابُ التَّعَارُضِ بَابٌ وَاسِعٌ جِدًّا لَا سِيَّمَا فِي الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الَّتِي نَقَصَتْ فِيهَا آثَارُ النُّبُوَّةِ وَخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ تَكْثُرُ فِيهَا وَكُلَّمَا ازْدَادَ النَّقْصُ ازْدَادَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ وَوُجُودُ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُ إذَا اخْتَلَطَتْ الْحَسَنَاتُ بِالسَّيِّئَاتِ وَقَعَ

ص: 57

الِاشْتِبَاهُ وَالتَّلَازُمُ فَأَقْوَامٌ قَدْ يَنْظُرُونَ إلَى الْحَسَنَاتِ فَيُرَجِّحُونَ هَذَا الْجَانِبَ وَإِنْ تَضَمَّنَ سَيِّئَاتٍ عَظِيمَةً وَأَقْوَامٌ قَدْ يَنْظُرُونَ إلَى السَّيِّئَاتِ فَيُرَجِّحُونَ الْجَانِبَ الْآخَرَ وَإِنْ تَرَكَ حَسَنَاتٍ عَظِيمَةً والمتوسطون الَّذِينَ يَنْظُرُونَ الْأَمْرَيْنِ قَدْ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ أَوْ لِأَكْثَرِهِمْ مِقْدَارُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ أَوْ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ فَلَا يَجِدُونَ مَنْ يُعِينُهُمْ الْعَمَلَ بِالْحَسَنَاتِ وَتَرْكَ السَّيِّئَاتِ؛ لِكَوْنِ الْأَهْوَاءِ قَارَنَتْ الْآرَاءَ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ وَيُحِبُّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ} . فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَتَدَبَّرَ أَنْوَاعَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَقَدْ يَكُونُ الْوَاجِبُ فِي بَعْضِهَا - كَمَا بَيَّنْته فِيمَا تَقَدَّمَ -: الْعَفْوَ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ؛ لَا التَّحْلِيلَ وَالْإِسْقَاطَ. مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِهِ بِطَاعَةِ فِعْلًا لِمَعْصِيَةِ أَكْبَرَ مِنْهَا فَيَتْرُكُ الْأَمْرَ بِهَا دَفْعًا لِوُقُوعِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ مِثْلَ أَنْ تَرْفَعَ مُذْنِبًا إلَى ذِي سُلْطَانٍ ظَالِمٍ فَيَعْتَدِي عَلَيْهِ فِي الْعُقُوبَةِ مَا يَكُونُ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِنْ ذَنْبِهِ وَمِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي نَهْيِهِ عَنْ بَعْضِ الْمُنْكَرَاتِ تَرْكًا لِمَعْرُوفِ هُوَ أَعْظَمُ مَنْفَعَةً مِنْ تَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ فَيَسْكُتُ عَنْ النَّهْيِ خَوْفًا أَنْ يَسْتَلْزِمَ تَرْكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِمَّا هُوَ عِنْدَهُ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ تَرْكِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ. فَالْعَالِمُ تَارَةً يَأْمُرُ وَتَارَةً يَنْهَى وَتَارَةً يُبِيحُ وَتَارَةً يَسْكُتُ عَنْ

ص: 58

الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ أَوْ الْإِبَاحَةِ كَالْأَمْرِ بِالصَّلَاحِ الْخَالِصِ أَوْ الرَّاجِحِ أَوْ النَّهْيِ عَنْ الْفَسَادِ الْخَالِصِ أَوْ الرَّاجِحِ وَعِنْدَ التَّعَارُضِ يُرَجَّحُ الرَّاجِحُ - كَمَا تَقَدَّمَ - بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمُمْكِنِ: إمَّا لِجَهْلِهِ وَإِمَّا لِظُلْمِهِ وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ جَهْلِهِ وَظُلْمِهِ فَرُبَّمَا كَانَ الْأَصْلَحُ الْكَفَّ وَالْإِمْسَاكَ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ كَمَا قِيلَ: إنَّ مِنْ الْمَسَائِلِ مَسَائِلَ جَوَابُهَا السُّكُوتُ كَمَا سَكَتَ الشَّارِعُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَنْ الْأَمْرِ بِأَشْيَاءَ وَالنَّهْيِ عَنْ أَشْيَاءَ حَتَّى عَلَا الْإِسْلَامُ وَظَهَرَ. فَالْعَالِمُ فِي الْبَيَانِ وَالْبَلَاغِ كَذَلِكَ؛ قَدْ يُؤَخِّرُ الْبَيَانَ وَالْبَلَاغَ لِأَشْيَاءَ إلَى وَقْتِ التَّمَكُّنِ كَمَا أَخَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إنْزَالَ آيَاتٍ وَبَيَانَ أَحْكَامٍ إلَى وَقْتِ تَمَكُّنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَسْلِيمًا إلَى بَيَانِهَا. يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ الْحَالِ فِي هَذَا أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وَالْحُجَّةُ عَلَى الْعِبَادِ إنَّمَا تَقُومُ بِشَيْئَيْنِ: بِشَرْطِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ. فَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ الْعِلْمِ كَالْمَجْنُونِ أَوْ الْعَاجِزِ عَنْ الْعَمَلِ فَلَا أَمْرَ عَلَيْهِ وَلَا نَهْيَ وَإِذَا انْقَطَعَ الْعِلْمُ بِبَعْضِ الدِّينِ أَوْ حَصَلَ الْعَجْزُ عَنْ بَعْضِهِ: كَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ عَنْ الْعِلْمِ أَوْ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ كَمَنْ انْقَطَعَ عَنْ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الدِّينِ أَوْ عَجَزَ عَنْ جَمِيعِهِ كَالْجُنُونِ مَثَلًا وَهَذِهِ أَوْقَاتُ الْفَتَرَاتِ فَإِذَا حَصَلَ مَنْ يَقُومُ بِالدِّينِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْأُمَرَاءِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا كَانَ بَيَانُهُ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ

ص: 59

شَيْئًا فَشَيْئًا بِمَنْزِلَةِ بَيَانِ الرَّسُولِ لِمَا بُعِثَ بِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُبَلِّغُ إلَّا مَا أَمْكَنَ عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَلَمْ تَأْتِ الشَّرِيعَةُ جُمْلَةً كَمَا يُقَالُ: إذَا أَرَدْت أَنْ تُطَاعَ فَأْمُرْ بِمَا يُسْتَطَاعُ. فَكَذَلِكَ الْمُجَدِّدُ لِدِينِهِ وَالْمُحْيِي لِسُنَّتِهِ لَا يُبَالِغُ إلَّا مَا أَمْكَنَ عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ كَمَا أَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْإِسْلَامِ لَا يُمْكِنُ حِينَ دُخُولِهِ أَنْ يُلَقَّنَ جَمِيعَ شَرَائِعِهِ وَيُؤْمَرَ بِهَا كُلِّهَا. وَكَذَلِكَ التَّائِبُ مِنْ الذُّنُوبِ؛ وَالْمُتَعَلِّمُ وَالْمُسْتَرْشِدُ لَا يُمْكِنُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يُؤْمَرَ بِجَمِيعِ الدِّينِ وَيُذْكَرَ لَهُ جَمِيعُ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ لَا يُطِيقُ ذَلِكَ وَإِذَا لَمْ يُطِقْهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ لِلْعَالِمِ وَالْأَمِيرِ أَنْ يُوجِبَهُ جَمِيعَهُ ابْتِدَاءً بَلْ يَعْفُوَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِمَا لَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ إلَى وَقْتِ الْإِمْكَانِ كَمَا عَفَا الرَّسُولُ عَمَّا عَفَا عَنْهُ إلَى وَقْتِ بَيَانِهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إقْرَارِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْوَاجِبَاتِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَقَدْ فَرَضْنَا انْتِفَاءَ هَذَا الشَّرْطِ. فَتَدَبَّرْ هَذَا الْأَصْلَ فَإِنَّهُ نَافِعٌ. وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ سُقُوطُ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً أَوْ مُحَرَّمَةً فِي الْأَصْلِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْبَلَاغِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ حُجَّةُ اللَّهِ فِي

ص: 60

الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ فَإِنَّ الْعَجْزَ مُسْقِطٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فِي الْأَصْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ عِلْمًا وَعَمَلًا أَنَّ مَا قَالَهُ الْعَالِمُ أَوْ الْأَمِيرُ أَوْ فَعَلَهُ بِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ فَإِذَا لَمْ يَرَ الْعَالِمُ الْآخَرُ وَالْأَمِيرُ الْآخَرُ مِثْلَ رَأْيِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِهِ أَوْ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِمَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً وَلَا يَنْهَى عَنْهُ إذْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْهَى غَيْرَهُ عَنْ اتِّبَاعِ اجْتِهَادِهِ وَلَا أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعَهُ فَهَذِهِ الْأُمُورُ فِي حَقِّهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمَعْفُوَّةِ لَا يَأْمُرُ بِهَا وَلَا يَنْهَى عَنْهَا بَلْ هِيَ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالْعَفْوِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ جِدًّا فَتَدَبَّرْهُ.

ص: 61

وَقَالَ:

فَصْلٌ:

قَدْ كَتَبْت فِي كُرَّاسٍ قَبْلَ هَذَا: أَنَّ الْحَسَنَاتِ وَالْعِبَادَاتِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: عَقْلِيَّةٌ: وَهُوَ مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعُقَلَاءُ؛ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ. وملي: وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْمِلَلِ كَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَشَرْعِيٌّ: وَهُوَ مَا اخْتَصَّ بِهِ شَرْعُ الْإِسْلَامِ مَثَلًا وَأَنَّ الثَّلَاثَةَ وَاجِبَةٌ؛ فَالشَّرْعِيُّ بِاعْتِبَارِ الثَّلَاثَةِ الْمَشْرُوعَةِ وَبِاعْتِبَارِ يَخْتَصُّ بِالْقَدْرِ الْمُمَيَّزِ. وَهَكَذَا الْعُلُومُ وَالْأَقْوَالُ عَقْلِيٌّ وملي وَشَرْعِيٌّ؛ فَالْعَقْلُ الْمَحْضُ مِثْلَ مَا يَنْظُرُ فِيهِ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ عُمُومِ الْمَنْطِقِ وَالطَّبِيعِيِّ وَالْإِلَهِيِّ؛ وَلِهَذَا كَانَ فِيهِمْ الْمُشْرِكُ وَالْمُؤْمِنُ والْمِلِّي مِثْلَ مَا يَنْظُرُ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّاتِ وَالشَّرَائِعِ. فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَكِنَّهُمْ فِي رَسَائِلِهِمْ وَمَسَائِلِهِمْ لَا يَلْتَزِمُونَ حُكْمَ الْكِتَابِ

ص: 62

وَالسُّنَّةِ فَفِيهِمْ السُّنِّيُّ وَالْبِدْعِيُّ وَيَجْتَمِعُونَ هُمْ وَالْفَلَاسِفَةُ فِي النَّظَرِ فِي الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدَّلِيلِ وَالنَّظَرِ وَالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالْمَعْلُومَاتِ لَكِنَّهُمْ أَخَصُّ بِالنَّظَرِ فِي الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَأَبْسَطُ عِلْمًا وَلِسَانًا فِيهِ؛ وَإِنْ شَرَكَهُمْ الْفَلَاسِفَةُ فِي بَعْضِهِ كَمَا أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ أَخَصُّ بِالنَّظَرِ فِي الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ؛ وَإِنْ شَرَكَهُمْ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي بَعْضِهِ. وَالشَّرْعِيُّ مَا يَنْظُرُ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. ثُمَّ هُمْ إمَّا قَائِمُونَ بِظَاهِرِ أَسْرَعَ فَقَطْ كَعُمُومِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ فِي الْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ الْعِبَادِ الظَّاهِرِينَ فِي الْعِبَادَةِ. وَإِمَّا عَالِمُونَ بِمَعَانِي ذَلِكَ وَعَارِفُونَ بِهِ فَهُمْ فِي الْعُلُومِ كَالْعَارِفِينَ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. فَهَؤُلَاءِ هُمْ عُلَمَاءُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ الْمَحْضَةِ وَهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْمَلُهُمْ وَأَقْوَمُهُمْ طَرِيقَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَدْخُلُ فِي الْعِبَادَاتِ السَّمَاعُ فَإِنَّهُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: سَمَاعٌ عَقْلِيٌّ وملي. وَشَرْعِيٌّ. فَالْأَوَّلُ مَا فِيهِ تَحْرِيكُ مَحَبَّةٍ أَوْ مَخَافَةٍ أَوْ حُزْنٍ أَوْ رَجَاءٍ مُطْلَقًا. وَالثَّانِي مَا فِي غَيْرِهِمْ كَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَمَخَافَتِهِ وَرَجَائِهِ وَخَشْيَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ص: 63

وَالثَّالِثُ السَّمَاعُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ سَمَاعُ الْقُرْآنِ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ أُصُولُهَا صَحِيحَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} الْآيَةَ. فَاَلَّذِينَ آمَنُوا هُمْ أَهْلُ شَرِيعَةِ الْقُرْآنِ؟ وَهُوَ الدِّينُ الشَّرْعِيُّ بِمَا فِيهِ مِنْ الْمِلِّي وَالْعَقْلِيِّ. وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى أَهْلُ دِينٍ ملي بِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِمَا فِيهِ مِنْ ملي وَعَقْلِيٍّ وَالصَّابِئُونَ أَهْلُ الدِّينِ الْعَقْلِيِّ بِمَا فِيهِ مِنْ ملي أَوْ ملي وَشَرْعِيَّاتٍ (1).

(1)

بياض بالأصل بمقدار نصف سطر

ص: 64

وَقَالَ:

فَصْلٌ:

" قَاعِدَةٌ جَامِعَةٌ " كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الدِّينِ الْجَامِعِ بَيْنَ الْوَاجِبَاتِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَمِنْ التَّحْرِيمَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} وَكَمَا أَخْبَرَ عَمَّا ذَمَّهُ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي دِينِهِمْ وَتَحْرِيمِهِمْ حَيْثُ قَالَ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} إلَى آخِرِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْبَاطِلَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ وَمِنْ الْإِبَاحَةِ الْبَاطِلَةِ فِي قَتْلِ الْأَوْلَادِ وَمِنْ التَّحْرِيمَاتِ الْبَاطِلَةِ مِنْ السَّائِبَةِ وَالْبَحِيرَةِ وَالْوَصِيلَةِ والحام وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَذَمَّ الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَتَحْرِيمَاتِهِمْ وَإِبَاحَتِهِمْ. وَذَمَّ النَّصَارَى فِيمَا تَرَكُوهُ مِنْ دِينِ الْحَقِّ وَالتَّحْرِيمِ كَمَا ذَمَّهُمْ عَلَى الدِّينِ الْبَاطِلِ فِي قَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} وَأَصْنَافَ ذَلِكَ.

ص: 65

فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَسَائِرِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّات. وَمِنْ الْمَكْرُوهَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا نَهْيَ حَظْرٍ أَوْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: عَقْلِيٍّ وملي وَشَرْعِيٍّ. وَالْمُرَادُ بِالْعَقْلِيِّ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعَقْلِ مِنْ بَنِي آدَمَ سَوَاءٌ كَانَ لَهُمْ صِلَةُ كِتَابٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَالْمُرَادُ بالْمِلِّي: مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمِلَلِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ وَالْمُرَادُ بِالشَّرْعِيِّ مَا اخْتَصَّ بِهِ أَهْلُ الشَّرِيعَةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأَخُصُّ مِنْ ذَلِكَ مَا اخْتَصَّ بِهِ أَهْلُ مَذْهَبٍ أَوْ أَهْلُ طَرِيقَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. لَكِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ وَالِامْتِيَازَ لَا تُوجِبُهُ شَرِيعَةُ الرَّسُولِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا قَدْ تُوجِبُهُ مَا قَدْ تُوجِبُ بِتَخْصِيصِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ وَالْأُمَرَاءِ فِي اسْتِفْتَاءٍ أَوْ طَاعَةٍ كَمَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ غَزَاةٍ طَاعَةُ أَمِيرِهِمْ وَأَهْلِ كُلِّ قَرْيَةٍ اسْتِفْتَاءُ عَالِمِهِمْ الَّذِي لَا يَجِدُونَ غَيْرَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمَا مِنْ أَهْلِ شَرِيعَةٍ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا وَفِي شَرْعِهِمْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ فَإِنَّ مَأْمُورَاتِهِمْ وَمَنْهِيَّاتِهِمْ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ وَمَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ. وَأَمَّا السِّيَاسَاتُ الْمَلَكِيَّةُ الَّتِي لَا تَتَمَسَّكُ بِمِلَّةِ وَكِتَابٍ: فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ فَإِنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ لَا بُدَّ مِنْ الْأَمْرِ بِهِ فِي كُلِّ سِيَاسَةٍ وَإِمَامَةٍ. وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ لِكُلِّ مَلِكٍ مِنْ خَصِيصَةٍ يَتَمَيَّزُ بِهَا وَلَوْ لَمْ تَكُنْ إلَّا

ص: 66

رِعَايَةَ مَنْ يُوَالِيهِ وَدَفْعَ مَنْ يُعَادِيهِ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الْأَمْرِ بِمَا يَحْفَظُ الْوَلِيَّ وَيَدْفَعُ الْعَدُوَّ كَمَا فِي مَمْلَكَةِ جنكيزخان مَلِكِ التُّرْكِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمُلُوكِ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ لَهُمْ مِلَّةٌ صَحِيحَةٌ تَوْحِيدِيَّةٌ وَقَدْ يَكُونُ لَهُمْ مِلَّةٌ كفرية وَقَدْ لَا يَكُونُ لَهُمْ مِلَّةٌ بِحَالِ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ دِينُهُمْ مِمَّا يُوجِبُونَهُ وَقَدْ يَكُونُ مِمَّا يَسْتَحِبُّونَهُ. وَوَجْهُ الْقِسْمَةِ أَنَّ جَمِيعَ بَنِي آدَمَ الْعُقَلَاءِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أُمُورٍ يُؤْمَرُونَ بِهَا وَأُمُورٍ يُنْهَوْنَ عَنْهَا فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُمْ لَا تَتِمُّ بِدُونِ ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشُوا فِي الدُّنْيَا بَلْ وَلَا يَعِيشُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَوْ انْفَرَدَ بِدُونِ أُمُورٍ يَفْعَلُونَهَا تَجْلِبُ لَهُمْ الْمَنْفَعَةَ وَأُمُورٍ يَنْفُونَهَا تَدْفَعُ عَنْهُمْ الْمَضَرَّةَ؛ بَلْ سَائِرُ الْحَيَوَانِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قُوَّتَيْ الِاجْتِلَابِ وَالِاجْتِنَابِ وَمَبْدَؤُهُمَا الشَّهْوَةُ وَالنَّفْرَةُ وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ فَالْقِسْمُ الْمَطْلُوبُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْقِسْمُ الْمَرْهُوبُ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ. فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأُمُورُ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ - بِحَيْثُ لَا يُلْتَفَتُ إلَى الشَّوَاذِّ مِنْهُمْ الَّذِينَ خَرَجُوا عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَنْ الْعَقْلِ - وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ. وَإِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ أَهْلُ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ.

ص: 67

فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الطَّاعَاتُ الْعَقْلِيَّةُ - وَلَيْسَ الْغَرَضُ بِتَسْمِيَتِهَا عَقْلِيَّةً إثْبَاتَ كَوْنِ الْعَقْلِ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ؛ بَلْ الْغَرَضُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي هُوَ جَلْبُ الْمَنَافِعِ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ اتِّفَاقُ الْعُقَلَاءِ عَلَى مَدْحِهَا - مِثْلَ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ بِالْمَالِ وَالْمَنَافِعِ وَمِثْلَ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالْوَرَعِ الْمُطْلَقِ وَالزُّهْدِ الْمُطْلَقِ مِثْلَ جِنْسِ التَّأَلُّهِ وَالْعِبَادَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالْخُشُوعِ وَالنُّسُكِ الْمُطْبَقِ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ أَنْ يَكُونَ لِأَيِّ مَعْبُودٍ كَانَ وَبِأَيِّ عِبَادَةٍ كَانَتْ فَإِنَّ هَذَا الْجِنْسَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ مَا مِنْهُمْ إلَّا مَنْ يَمْدَحُ جِنْسَ التَّأَلُّهِ مَعَ كَوْنِ بَعْضِهِ فِيهِ مَا يَكُونُ صَالِحًا حَقًّا وَبَعْضُهُ فِيهِ مَا يَكُونُ فَاسِدًا بَاطِلًا. وَكَذَلِكَ الْوَرَعُ الْمُشْتَرَكُ مِثْلَ الْكَفِّ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ مُطْلَقًا وَعَنْ الزِّنَا مُطْلَقًا وَعَنْ ظُلْمِ الْخَلْقِ. وَكَذَلِكَ الزُّهْدُ الْمُشْتَرَكُ مِثْلَ الْإِمْسَاكِ عَنْ فُضُولِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَهَذَا الْقِسْمُ إنَّمَا عَبَّرَ أَهْلُ الْعَقْلِ بِاعْتِقَادِ حُسْنِهِ وَوُجُوبِهِ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُمْ لَا تَتِمُّ إلَّا بِهِ وَكَذَلِكَ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ دِينًا صَالِحًا أَوْ فَاسِدًا. ثُمَّ هَذِهِ الطَّاعَاتُ وَالْعِبَادَاتُ الْعَقْلِيَّةُ قِسْمَانِ:

ص: 68

أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ نَوْعٌ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ أَصْلًا كَالْعِلْمِ وَالصِّدْقِ وَهُمَا تَابِعَانِ لِلْحَقِّ الْمَوْجُودِ وَمِنْهَا مَا هُوَ جِنْسٌ تَخْتَلِفُ أَنْوَاعُهُ كَالْعَدْلِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالنُّسُكِ وَالزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْعَدْلُ فِي مِلَّةٍ وَسِيَاسَةٍ خِلَافَ الْعَدْلِ عِنْدَ آخَرِينَ كَقِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ مَثَلًا وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَابِعَةٌ لِلْحَقِّ الْمَقْصُودِ. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: النَّاسُ وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلْمَعْلُومِ وَأَنَّ الْخَبَرَ مُطَابِقٌ لِلْمُخْبَرِ؛ لَكِنْ هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْمُطَابَقَةِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا جِدًّا فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُعِدُّ مُطَابِقًا عِلْمًا وَصِدْقًا مَا يُعِدُّهُ الْآخَرُ مُخَالِفًا: جَهْلًا وَكَذِبًا؛ لَا سِيَّمَا فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ فَكَذَلِكَ الْعَدْلُ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ؛ لَكِنْ يَخْتَلِفُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ وَالْمُوَافَقَةِ وَالتَّمَاثُلِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِلْمِ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةٍ وَمُمَاثَلَةٍ وَاعْتِبَارٍ وَمُقَايَسَةٍ. لَكِنْ يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ فَيُقَالُ: هَذَا صَحِيحٌ؛ لَكِنَّ الْمُوَافَقَةَ الْعِلْمِيَّةَ والصدقية هِيَ بِحَسَبِ وُجُودِ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ الْحَقُّ الْمَوْجُودُ فَلَا يَقِفُ عَلَى أَمْرٍ وَإِرَادَةٍ وَأَمَّا الْمُوَافَقَةُ العدلية فَبِحَسَبِ مَا يَجِبُ قَصْدُهُ وَفِعْلُهُ وَهَذَا يَقِفُ عَلَى الْقَصْدِ وَالْأَمْرِ الَّذِي قَدْ يَتَنَوَّعُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ. وَلِهَذَا لَمْ تَخْتَلِفْ الشَّرَائِعُ فِي جِنْسِ الْعِلْمِ وَالصِّدْقِ كَمَا اخْتَلَفَتْ فِي جِنْسِ الْعَدْلِ وَأَمَّا جِنْسُ الْعِبَادَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالنُّسُكِ وَالْوَرَعِ عَنْ

ص: 69

السَّيِّئَاتِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ زُهْدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مُخْتَلِفٌ اخْتِلَافًا كَثِيرًا؛ وَإِنْ كَانَ يَجْمَعُ جِنْسُ الصَّلَاةِ التَّأَلُّهَ بِالْقَلْبِ وَالتَّعَبُّدَ لِلْمَعْبُودِ وَيَجْمَعُ جِنْسُ الصَّوْمِ الْإِمْسَاكَ عَنْ الشَّهَوَاتِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنِّكَاحِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ النُّسُكِ بِحَسَبِ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي تُقْصَدُ وَمَا يُفْعَلُ فِيهَا وَفِي طَرِيقِهَا؛ لَكِنْ تَجْتَمِعُ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ فِي جِنْسِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ تَأَلُّهُ الْقَلْبِ بِالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَجِنْسِ الزَّهَادَةِ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ الشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمَا جِنْسُ نَوْعَيْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الطَّاعَاتُ الْمِلِّية مِنْ الْعِبَادَاتِ وَسَائِرِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالتَّحْرِيمَاتِ مِثْلَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّوَكُّلِ وَالدُّعَاءِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَمَا يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَتَحْرِيمِ الشِّرْكِ بِهِ وَعِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَتَحْرِيمِ الْإِيمَانِ بِالْجِبْتِ وَهُوَ السِّحْرُ وَالطَّاغُوتِ وَهُوَ الْأَوْثَانُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقِسْمُ: هُوَ الَّذِي حَضَّتْ عَلَيْهِ الرُّسُلُ وَوَكَّدَتْ أَمْرَهُ وَهُوَ أَكْبَرُ الْمَقَاصِدِ بِالدَّعْوَةِ فَإِنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ: يَظْهَرُ أَمْرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ بِظَاهِرِ الْعَقْلِ وَكَأَنَّهُ فِي الْأَعْمَالِ مِثْلَ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ.

ص: 70

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: تَكْمِلَةٌ وَتَتْمِيمٌ لِهَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي. فَإِنَّ الْأَوَّلَ كَالْمُقَدِّمَاتِ وَالثَّالِثَ كَالْمُعَقِّبَاتِ وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ الْمَقْصُودُ بِخَلْقِ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعَبُّدَ الْمُطْلَقَ وَالتَّأَلُّهَ الْمُطْلَقَ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِشْرَاكُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ كَمَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ وَكَانَ التَّأَلُّهُ الْمُطْلَقُ هُوَ دِينُ الصَّابِئَةِ وَدِينُ التَّتَارِ وَنَحْوِهِمْ مِثْلَ التُّرْكِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ تَارَةً وَيَبْنُونَ لَهُ هَيْكَلًا يُسَمُّونَهُ هَيْكَلَ الْعِلَّةِ الْأُولَى وَيَعْبُدُونَ مَا سِوَاهُ تَارَةً مِنْ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَالثَّوَابِتِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ الْمُشْرِكَةِ الْمَحْضَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ قَطُّ فَلَا يَعْبُدُونَهُ إلَّا بِالْإِشْرَاكِ بِغَيْرِهِ مِنْ شُرَكَائِهِمْ وَشُفَعَائِهِمْ. وَالصَّابِئُونَ: مِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْرِكُ بِهِ وَالْحُنَفَاءُ كُلُّهُمْ يُخْلِصُ لَهُ الدِّينَ؛ فَلِهَذَا صَارَ الصَّابِئُونَ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَعْمَلُ صَالِحًا؛ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوس وَلِهَذَا كَانَ رَأْسُ دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي بُعِثَ بِهِ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ كَلِمَتَيْنِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ تُثْبِتُ التَّأَلُّهَ الْحَقَّ الْخَالِصَ وَتَنْفِي مَا سِوَاهُ مِنْ تَأَلُّهِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ تَأَلُّهٍ مُطْلَقٍ قَدْ يَدْخُلُ فِيهِ تَأَلُّهُ الْمُشْرِكِينَ فَأَخْرَجَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ كُلَّ تَأَلُّهٍ يُنَافِي الْمِلِّي مِنْ التَّأَلُّهِ الْمُخْتَصِّ بِالْكُفَّارِ أَوْ الْمُطْلَقِ الْمُشْتَرَكِ.

ص: 71

وَالْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ: شَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَهِيَ تُوجِبُ التَّأَلُّهَ الشَّرْعِيَّ النَّبَوِيَّ وَتَنْفِي مَا كَانَ مِنْ الْعَقْلِيِّ والْمِلِّي وَالشَّرْعِيِّ خَارِجًا عَنْهُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الطَّاعَاتُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ مِثْلَ خَصَائِصِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَخَصَائِصِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ. وَفَرَائِضِ الزَّكَوَاتِ وَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْمُنَاكَحَاتِ وَمَقَادِيرِ الْعُقُوبَاتِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَسَائِرِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ الشَّرْعِيَّةِ وَسَائِرِ مَا يُنْهَى عَنْهُ.

فَصْلٌ:

إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَغَالِبُ الْفُقَهَاءِ إنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ فِي الطَّاعَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ الْعَقْلِيَّةِ وَغَالِبِ الصُّوفِيَّةِ إنَّمَا يَتَّبِعُونَ الطَّاعَاتِ الْمِلِّية مَعَ الْعَقْلِيَّةِ وَغَالِبُ الْمُتَفَلْسِفَةِ يَقِفُونَ عَلَى الطَّاعَاتِ الْعَقْلِيَّةِ. وَلِهَذَا كَثُرَ فِي الْمُتَفَقِّهَةِ مَنْ يَنْحَرِفُ عَنْ طَاعَاتِ الْقَلْبِ وَعِبَادَاتِهِ: مِنْ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ. وَالْخَشْيَةِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ص: 72

وَكَثُرَ فِي الْمُتَفَقِّرَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ مَنْ يَنْحَرِفُ عَنْ الطَّاعَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا يُبَالُونَ إذَا حَصَلَ لَهُمْ تَوْحِيدُ الْقَلْبِ وَتَأَلُّهُهُ أَنْ يَكُونَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الصَّلَوَاتِ وَشَرَعَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدَّعَوَاتِ أَنْ يَتَنَاوَلُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَأَنْ يَتَعَبَّدُوا بِالْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ مِنْ الرَّهْبَانِيَّةِ وَنَحْوِهَا ويعتاضوا بِسَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَأَنْ يَقِفُوا مَعَ الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ مُعْرِضِينَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَقَائِمٌ بِكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهَا بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ وَصَادِرٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ وَمُدَبَّرٌ بِقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ. فَقَدْ يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ تَأَلُّهٌ ملي فَقَطْ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْعَقْلِيِّ والْمِلِّي وَهُوَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ بِحَيْثُ يُنِيبُ إلَى اللَّهِ وَيُحِبُّهُ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَيُعْرِضُ عَنْ الدُّنْيَا؛ لَكِنْ لَا يَقِفُ عِنْدَ الْمَشْرُوعِ مِنْ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ فِعْلًا وَتَرْكًا وَقَدْ يَحْصُلُ الْعَكْسُ بِحَيْثُ يَقِفُ عِنْدَ الْمَشْرُوعِ مِنْ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ لِقَلْبِهِ إنَابَةٌ وَتَوَكُّلٌ وَمَحَبَّةٌ وَقَدْ يَحْصُلُ التَّمَسُّكُ بِالْوَاجِبَاتِ الْعَقْلِيَّةِ. مِنْ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُحَافَظَةٍ عَلَى الْوَاجِبَاتِ الْمِلِّية وَالشَّرْعِيَّةِ. وَهَؤُلَاءِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ إذَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ مُسْلِمِينَ؛ فَقَدْ شَابُوا الْإِسْلَامَ إمَّا بِيَهُودِيَّةٍ وَإِمَّا بِنَصْرَانِيَّةٍ وَإِمَّا بصابئية؛ إذَا كَانَ مَا انْحَرَفُوا إلَيْهِ مُبَدَّلًا مَنْسُوخًا وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَشْرُوعًا فموسوية أَوْ عيسوية.

ص: 73

وَقَالَ:

فَصْلٌ:

الصِّدْقُ أَسَاسُ الْحَسَنَاتِ وَجِمَاعُهَا وَالْكَذِبُ أَسَاسُ السَّيِّئَاتِ وَنِظَامُهَا وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ حَيٌّ نَاطِقٌ فَالْوَصْفُ الْمُقَوِّمُ لَهُ الْفَاصِلُ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الدَّوَابِّ هُوَ الْمَنْطِقُ وَالْمَنْطِقُ قِسْمَانِ: خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ وَالْخَبَرُ صِحَّتُهُ بِالصِّدْقِ وَفَسَادُهُ بِالْكَذِبِ فَالْكَاذِبُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْبَهِيمَةِ الْعَجْمَاءِ وَالْكَلَامُ الْخَبَرِيُّ هُوَ الْمُمَيِّزُ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ أَصْلُ الْكَلَامِ الْإِنْشَائِيِّ فَإِنَّهُ مَظْهَرُ الْعِلْمِ وَالْإِنْشَاءُ مَظْهَرُ الْعَمَلِ وَالْعِلْمُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَمَلِ وَمُوجِبٌ لَهُ فَالْكَاذِبُ لَمْ يَكْفِهِ أَنَّهُ سُلِبَ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ حَتَّى قَلَبَهَا إلَى ضِدِّهَا وَلِهَذَا قِيلَ: لَا مُرُوءَةَ لِكَذُوبِ وَلَا رَاحَةَ لِحَسُودِ وَلَا إخَاءَ لِمَلُوكِ وَلَا سُؤْدُدَ لِبَخِيلِ فَإِنَّ الْمُرُوءَةَ مَصْدَرُ الْمَرْءِ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانِيَّةَ مَصْدَرُ الْإِنْسَانِ. الثَّانِي: أَنَّ الصِّفَةَ الْمُمَيِّزَةَ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالْمُتَنَبِّئِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ

ص: 74

فَإِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ الصَّادِقُ الْأَمِينُ وَمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ. وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . الثَّالِثُ: أَنَّ الصِّفَةَ الْفَارِقَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ هُوَ الصِّدْقُ فَإِنَّ أَسَاسَ النِّفَاقِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ وَعَلَى كُلِّ خُلُقٍ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ} . الرَّابِعُ: أَنَّ الصِّدْقَ هُوَ أَصْلُ الْبِرِّ وَالْكَذِبَ أَصْلُ الْفُجُورِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا} . الْخَامِسُ: أَنَّ الصَّادِقَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ وَالْكَاذِبَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} .

ص: 75

السَّادِسُ: أَنَّ الْفَارِقَ بَيْنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَبَيْنَ الْمُتَشَبَّهِ بِهِمْ مِنْ الْمُرَائِينَ وَالْمُسْمِعِينَ وَالْمُبْلِسِينَ هُوَ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ.

السَّابِعُ: أَنَّهُ مَقْرُونٌ بِالْإِخْلَاصِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ فِي الْكِتَابِ. . . (1) وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} وَلِهَذَا {قَالَ صلى الله عليه وسلم عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ مَرَّتَيْنِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ} .

الثَّامِنُ: أَنَّهُ رُكْنُ الشَّهَادَةِ الْخَاصَّةِ عِنْدَ الْحُكَّامِ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةُ الْعَامَّةُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ وَالشَّهَادَةُ خَاصَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي مُيِّزَتْ بِهَا فِي قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وَرُكْنُ الْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ شَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَرُكْنُ الْأَحَادِيثِ وَالْأَخْبَارِ الَّتِي بِهَا يَقُومُ الْإِسْلَامُ؛ بَلْ هِيَ رُكْنُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ الَّتِي هِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَرُكْنُ الْفُتْيَا الَّتِي

(1)

بياض بالأصل قدر كلمة، ولعلها: والسنة

ص: 76

هِيَ إخْبَارُ الْمُفْتِي بِحُكْمِ اللَّهِ. وَرُكْنُ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَخْبَارَ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَامِلَيْنِ لِلْآخَرِ بِمَا فِي سِلْعَتِهِ وَرُكْنُ الرُّؤْيَا الَّتِي قِيلَ فِيهَا: أَصْدَقُهُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُهُمْ كَلَامًا وَاَلَّتِي يُؤْتَمَنُ فِيهَا الرَّجُلُ عَلَى مَا رَأَى. التَّاسِعُ: أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ هُوَ الْمُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: أَسَاسُ النِّفَاقِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: {عَلَى كُلِّ خُلُقٍ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ} وَوَصَفَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْقُرْآنِ بِالْكَذِبِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ أَهْلُ النَّارِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ. الْعَاشِرُ: أَنَّ الْمَشَايِخَ الْعَارِفِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَسَاسَ الطَّرِيقِ إلَى اللَّهِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ كَمَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وقَوْله تَعَالَى {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى

ص: 77

لِلْكَافِرِينَ} {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالْكَاهِنِ وَالسَّاحِرِ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} إلَى قَوْلِهِ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} .

ص: 78

وَقَالَ:

فَصْلٌ:

قَدْ كَتَبْت فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْحَسَنَاتِ كُلَّهَا عَدْلٌ وَالسَّيِّئَاتِ كُلَّهَا ظُلْمٌ وَأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ؛ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ. وَقَدْ ذَكَرْت أَنَّ الْقِسْطَ وَالظُّلْمَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالتَّوْحِيدِ فَإِنَّهُ رَأْسُ الْعَدْلِ وَالشِّرْكُ رَأْسُ الظُّلْمِ وَنَوْعٌ فِي حَقِّ الْعِبَادِ؛ إمَّا مَعَ حَقِّ اللَّهِ كَقَتْلِ النَّفْسِ أَوْ مُفْرَدًا كَالدَّيْنِ الَّذِي ثَبَتَ بِرِضَا صَاحِبِهِ.

ثُمَّ إنَّ‌

‌ الظُّلْمَ فِي حَقِّ الْعِبَادِ نَوْعَانِ:

نَوْعٌ يَحْصُلُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ كَقَتْلِ نَفْسِهِ وَأَخْذِ مَالِهِ وَانْتِهَاكِ عِرْضِهِ وَنَوْعٌ يَكُونُ بِرِضَا صَاحِبِهِ وَهُوَ ظُلْمٌ كَمُعَامَلَةِ الرِّبَا وَالْمَيْسِرِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لِمَا فِيهِ مِنْ أَكْلِ مَالِ غَيْرِهِ بِالْبَاطِلِ وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ظُلْمٌ؛ وَلَوْ رَضِيَ بِهِ صَاحِبُهُ لَمْ يُبَحْ وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَنْ يَكُونَ ظُلْمًا فَلَيْسَ كُلُّ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ صَاحِبِهِ يَخْرُجُ عَنْ الظُّلْمِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَرِهَهُ بَاذِلُهُ يَكُونُ ظُلْمًا بَلْ الْقِسْمَةُ رُبَاعِيَّةٌ:

ص: 79

أَحَدُهَا: مَا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ وَكَرِهَهُ الْمَظْلُومُ. الثَّانِي: مَا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ وَإِنْ لَمْ يَكْرَهْهُ الْمَظْلُومُ كَالزِّنَا وَالْمَيْسِرِ. وَالثَّالِثُ: مَا كَرِهَهُ صَاحِبُهُ وَلَكِنَّ الشَّارِعَ رَخَّصَ فِيهِ فَهَذَا لَيْسَ بِظُلْمِ. وَالرَّابِعُ: مَا لَمْ يَكْرَهْهُ صَاحِبُهُ وَلَا الشَّارِعُ؛ وَإِنَّمَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ مَا يَرْضَى بِهِ صَاحِبُهُ إذَا كَانَ ظُلْمًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ جَاهِلٌ بِمَصْلَحَتِهِ فَقَدْ يَرْضَى مَا لَا يَعْرِفُ أَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرًا وَيَكُونُ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ؛ وَلِهَذَا إذَا انْكَشَفَ لَهُ حَقِيقَةُ الْحَالِ لَمْ يَرْضَ؛ وَلِهَذَا قَالَ طاوس مَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ عَلَى غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ إلَّا تَفَرَّقَا عَنْ تَقَالٍ فَالزَّانِي بِامْرَأَةٍ أَوْ غُلَامٍ إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهَذَا ظُلْمٌ وَفَاحِشَةٌ وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهَذَا فَاحِشَةٌ وَفِيهِ ظُلْمٌ أَيْضًا لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ بِمُوَافَقَتِهِ أَعَانَ الْآخَرَ عَلَى مَضَرَّةِ نَفْسِهِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا هُوَ الَّذِي دَعَا الْآخَرَ إلَى الْفَاحِشَةِ فَإِنَّهُ قَدْ سَعَى فِي ظُلْمِهِ وَإِضْرَارِهِ بَلْ لَوْ أَمَرَهُ بِالْمَعْصِيَةِ الَّتِي لَا حَظَّ لَهُ فِيهَا لَكَانَ ظَالِمًا لَهُ؛ وَلِهَذَا يَحْمِلُ مِنْ أَوْزَارِ الَّذِي يُضِلُّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَكَيْفَ إذَا سَعَى فِي أَنْ يَنَالَ غَرَضَهُ مِنْهُ مَعَ إضْرَارِهِ.

ص: 80

وَلِهَذَا يَكُونُ دُعَاءُ الْغُلَامِ إلَى الْفُجُورِ بِهِ أَعْظَمَ ظُلْمًا مِنْ دُعَاءِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا هَوًى فَيَكُونُ مِنْ بَاب الْمُعَاوَضَةَ كُلٌّ مِنْهُمَا نَالَ غَرَضَهُ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ غَرَضِ الْآخَرِ فَيَسْقُطُ هَذَا بِهَذَا وَيَبْقَى حَقُّ اللَّهِ عَلَيْهِمَا؛ فَلِهَذَا: لَيْسَ فِي الزِّنَا الْمَحْضِ ظُلْمُ الْغَيْرِ إلَّا أَنْ يُفْسِدَ فِرَاشًا أَوْ نَسَبًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا المتلوط فَإِنَّ الْغُلَامَ لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ إلَّا بِرَغْبَةِ أَوْ بِرَهْبَةِ وَالرَّغْبَةُ وَالْمَالُ مِنْ جِنْسِ الْحَاجَاتِ الْمُبَاحَةِ فَإِذَا طَلَبَ مِنْهُ الْفُجُورَ قَدْ يَبْذُلُهُ لَهُ فَهَذَا إذَا رَضِيَ الْآنَ بِهِ مِنْ جِنْسِ ظُلْمِ الْمُؤْتِي لِحَاجَتِهِ إلَى الْمَالِ؛ لَكِنَّ هَذَا الظُّلْمَ فِي نَفْسِهِ وَحُرْمَتِهِ فَهُوَ أَشَدُّ وَكَذَلِكَ اسْتِئْجَارُهُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْكِهَانَةِ وَالسِّحْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّهَا ظُلْمٌ لَهُ؛ وَإِنْ كَانَتْ بِرِضَاهُ وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ قَدْ ظَلَمَ الْآخَرَ أَيْضًا بِمَا أَفْسَدَ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِ حَيْثُ وَافَقَهُ عَلَى الذَّنْبِ؛ لَكِنَّ أَحَدَ نَوْعَيْ الظُّلْمِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْآخَرِ وَهَذَا بَابٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ فَأَكْثَرُ الذُّنُوبِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ظُلْمِ الْغَيْرِ وَجَمِيعُهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ظُلْمِ النَّفْسِ.

ص: 81

وَقَالَ:

‌فَصْلٌ: فِي الْعَدْلِ الْقَوْلِيِّ وَالصِّدْقِ.

. . (1)

ذَكَرْت فِي مَوَاضِعَ شَيْئًا مِنْ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَمَوْقِعَهُمَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَذَكَرْت أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أَنَّ عَامَّةَ السَّيِّئَاتِ يَدْخُلُ فِي الظُّلْمِ وَأَنَّ الْحَسَنَاتِ غَالِبُهَا عَدْلٌ وَأَنَّ الْقِسْطَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَالْقِسْطُ وَالْعَدْلُ هُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَإِنْ كَانَ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ؛ كَانَ هُوَ الْعَدْلَ الْوَاجِبَ الْمَحْمُودَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الشَّيْءِ وَخِلَافِهِ كَانَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} كَمَا قَالُوا: {إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فَهَذَا الْعَدْلُ وَالتَّسْوِيَةُ وَالتَّمْثِيلُ وَالْإِشْرَاكُ هُوَ الظُّلْمُ الْعَظِيمُ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ مَادَّةَ الْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ وَالتَّمْثِيلِ وَالْقِيَاسِ. وَالِاعْتِبَارِ وَالتَّشْرِيكِ وَالتَّشْبِيهِ وَالتَّنْظِيرِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَيُسْتَدَلُّ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الْعَقْلِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا فَإِنَّ مَدَارَهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ وَالْمُشَابَهَةِ الَّتِي بَيْنَ الرُّؤْيَا

(1)

بالأصل كلمات غير مقروءة

ص: 82

وَتَأْوِيلِهَا. وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ مَا فِي الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ مِنْ الِاسْتِعَارَةِ وَالتَّشْبِيهِ إمَّا فِي وَضْعِ اللَّفْظِ بِحَيْثُ يَصِيرُ حَقِيقَةً فِي الِاسْتِعْمَالِ وَإِمَّا فِي الِاسْتِعْمَالِ فَقَطْ مَعَ الْقَرِينَةِ إذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ أَحْرَى فَإِنَّ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَشَابِهَةِ مُتَشَابِهَةٌ. وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ لِلتَّصَوُّرِ تَارَةً وَلِلتَّصْدِيقِ أُخْرَى. وَهِيَ نَافِعَةٌ جِدًّا وَذَلِكَ أَنَّ إدْرَاكَ النَّفْسِ لِعَيْنِ الْحَقَائِقِ قَلِيلٌ وَمَا لَمْ يُدْرِكْهُ فَإِنَّمَا يَعْرِفُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا عَرَفْته فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمَعْرِفَةِ فَفِي التَّعْرِيفِ وَمُخَاطَبَةِ النَّاسِ أَوْلَى وَأَحْرَى. ثُمَّ التَّمَاثُلُ وَالتَّعَادُلُ؛ يَكُونُ بَيْن الْوُجُودَيْنِ الْخَارِجَيْنِ وَبَيْن الْوُجُودَيْنِ الْعِلْمِيَّيْنِ الذِّهْنِيَّيْنِ وَبَيْنَ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ وَالذِّهْنِيِّ. فَالْأَوَّلُ يُقَالُ: هَذَا مِثْلُ هَذَا وَالثَّانِي يُقَالُ فِيهِ؛ مَثَلُ هَذَا كَمَثَلِ هَذَا وَالثَّالِثُ يُقَالُ فِيهِ: هَذَا كَمَثَلِ هَذَا. فَالْمَثَلُ إمَّا أَنْ يُذْكَرَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إذَا كَانَ التَّمْثِيلُ بِالْحَقِيقَةِ الْخَارِجِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} فَهَذَا بَابُ الْمَثَلِ وَأَمَّا بَابُ الْعَدْلِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} وَقَالَ تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} الْآيَةَ وَقَالَ: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} وَقَالَ: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فَهَذَا الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ هُوَ الصِّدْقُ

ص: 83

الْمُبِينُ وَضِدُّهُ الْكَذِبُ وَالْكِتْمَانُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الَّذِي يُخْبِرُ بِالْأَمْرِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَا يَزِيدُ فَيَكُونُ كَاذِبًا وَلَا يَنْقُصُ فَيَكُونُ كَاتِمًا وَالْخَبَرُ مُطَابِقٌ لِلْمُخْبِرِ كَمَا تُطَابِقُ الصُّورَةُ الْعِلْمِيَّةُ وَالذِّهْنِيَّةُ لِلْحَقِيقَةِ الْخَارِجِيَّةِ وَيُطَابِقُ اللَّفْظُ لِلْعِلْمِ وَيُطَابِقُ الرَّسْمُ لِلَّفْظِ. فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ يَعْدِلُ الْمَعْلُومَ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَالْقَوْلُ يَعْدِلُ الْعِلْمَ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَالرَّسْمُ يَعْدِلُ الْقَوْلَ: كَانَ ذَلِكَ عَدْلًا وَالْقَائِمُ بِهِ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ وَشَاهِدٌ بِالْقِسْطِ وَصَاحِبُهُ ذُو عَدْلٍ. وَمَنْ زَادَ فَهُوَ كَاذِبٌ وَمَنْ نَقَصَ فَهُوَ كَاتِمٌ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ عَمْدًا وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ عَظِيمٌ نَافِعٌ جِدًّا.

ص: 84

وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ -:

قَاعِدَةٌ

فِي أَنَّ جِنْسَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَأَنَّ جِنْسَ تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَأَنَّ مَثُوبَةَ بَنِي آدَمَ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ أَعْظَمُ مِنْ مَثُوبَتِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَنَّ عُقُوبَتَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَتِهِمْ عَلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَقَدْ ذَكَرْت بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ لَمَّا ذَكَرْت أَنَّ الْعِلْمَ وَالْقَصْدَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ بِطَرِيقِ الْأَصْلِ وَيَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ بِطَرِيقِ التَّبَعِ. وَبَيَانُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِنْ وُجُوهٍ.

ص: 85

أَحَدُهَا: أَنَّ أَعْظَمَ الْحَسَنَاتِ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَأَعْظَمَ السَّيِّئَاتِ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ فَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا ظَاهِرًا حَتَّى يُظْهِرَ أَصْلَ الْإِيمَانِ وَهُوَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَشَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بَاطِنًا حَتَّى يُقِرَّ بِقَلْبِهِ بِذَلِكَ؛ فَيَنْتَفِي عَنْهُ الشَّكُّ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ مَعَ وُجُودِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِلَّا كَانَ كَمَنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وَكَمَنْ قَالَ تَعَالَى فِيهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وَكَمَنْ قَالَ فِيهِ: {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} الْآيَةَ. وَالْكُفْرُ: عَدَمُ الْإِيمَانِ؛ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ نَقِيضَهُ وَتَكَلَّمَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ شَيْئًا وَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ قَوْلًا وَعَمَلًا بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ؛ وَقَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهُ نَفْسَ اعْتِقَادِ الْقَلْبِ كَقَوْلِ الْجَهْمِيَّة وَأَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ أَوْ إقْرَارِ اللِّسَانِ كَقَوْلِ الكَرَّامِيَة؛ أَوْ جَمِيعِهَا كَقَوْلِ فُقَهَاءِ الْمُرْجِئَةِ وَبَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَعَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ؛ وَعَامَّةِ الصُّوفِيَّةِ؛ وَطَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ مُتَكَلِّمِي السُّنَّةِ؛ وَغَيْرِ مُتَكَلِّمِي السُّنَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ؛

ص: 86

وَغَيْرِهِمْ: مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِالرِّسَالَةِ فَهُوَ كَافِرٌ سَوَاءٌ كَانَ مُكَذِّبًا؛ أَوْ مُرْتَابًا؛ أَوْ مُعْرِضًا؛ أَوْ مُسْتَكْبِرًا؛ أَوْ مُتَرَدِّدًا؛ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْقِرَبِ وَالْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَالْكُفْرُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِي تَرْكَ هَذَا الْمَأْمُورِ بِهِ سَوَاءٌ اقْتَرَنَ بِهِ فِعْلٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مِنْ التَّكْذِيبِ أَوْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ شَيْءٌ بَلْ كَانَ تَرْكًا لِلْإِيمَانِ فَقَطْ: عُلِمَ أَنَّ جِنْسَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ‌

‌ الْكُفْرَ بَعْضَهُ أَغْلَظُ مِنْ بَعْضٍ

فَالْكَافِرُ الْمُكَذِّبُ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْ الْكَافِرِ غَيْرِ الْمُكَذِّبِ فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ تَرْكِ الْإِيمَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَبَيْنَ التَّكْذِيبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَمَنْ كَفَرَ وَكَذَّبَ وَحَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِيَدِهِ أَوْ لِسَانِهِ أَعْظَمُ جُرْمًا مِمَّنْ اقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ وَمَنْ كَفَرَ وَقَتَلَ وَزَنَى وَسَرَقَ وَصَدَّ وَحَارَبَ كَانَ أَعْظَمَ جُرْمًا. كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَالْمُؤْمِنُونَ فِيهِ مُتَفَاضِلُونَ تَفَاضُلًا عَظِيمًا وَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَاتٌ كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ دَرَكَاتٌ فَالْمُقْتَصِدُونَ فِي الْإِيمَانِ أَفْضَلُ مِنْ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ وَالسَّابِقُونَ بِالْخَيْرَاتِ أَفْضَلُ مِنْ

ص: 87

الْمُقْتَصِدِينَ {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} الْآيَاتِ {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} . وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ مَأْمُورٌ بِهِ وَأَصْلَ الْكُفْرِ نَقِيضُهُ وَهُوَ تَرْكُ هَذَا الْإِيمَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهَذَا الْوَجْهُ قَاطِعٌ بَيِّنٌ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ‌

‌ أَوَّلَ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ

كَانَ مِنْ أَبِي الْجِنِّ وَأَبِي الْإِنْسِ أَبَوَيْ الثَّقَلَيْنِ الْمَأْمُورَيْنِ وَكَانَ ذَنْبُ أَبِي الْجِنِّ أَكْبَرَ وَأَسْبَقَ وَهُوَ تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ السُّجُودُ إبَاءً وَاسْتِكْبَارًا وَذَنْبُ أَبِي الْإِنْسِ كَانَ ذَنْبًا صَغِيرًا {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} وَهُوَ إنَّمَا فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ الْأَكْلُ مِنْ الشَّجَرَةِ؛ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ يَزْعُمُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِذَنْبِ؛ وَأَنَّ آدَمَ تَأَوَّلَ حَيْثُ نُهِيَ عَنْ الْجِنْسِ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فَظَنَّ أَنَّهُ الشَّخْصُ فَأَخْطَأَ؛ أَوْ نَسِيَ وَالْمُخْطِئُ وَالنَّاسِي لَيْسَا مُذْنِبَيْنِ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْكَلَامِ وَالشِّيعَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُوجِبُ عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الصَّغَائِرِ وَهَؤُلَاءِ فَرُّوا مِنْ شَيْءٍ وَوَقَعُوا فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي

ص: 88

تَحْرِيفِ كَلَامِ اللَّهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَأَمَّا السَّلَفُ قَاطِبَةً مِنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ قُرُونِ الْأُمَّةِ؛ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ؛ وَأَهْلُ كُتُبِ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُبْتَدَأِ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ؛ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَجُمْهُورِ الْأَشْعَرِيَّة وَغَيْرِهِمْ وَعُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَعَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} وَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُمَا: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} وقَوْله تَعَالَى {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} مَعَ أَنَّهُ عُوقِبَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ الْجَنَّةِ. وَهَذِهِ نُصُوصٌ لَا تُرَدُّ إلَّا بِنَوْعِ مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلَامِ عَنْ مَوَاضِعِهِ؛ وَالْمُخْطِئُ وَالنَّاسِي إذَا كَانَا مُكَلَّفَيْنِ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ فَلَا فَرْقَ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُكَلَّفَيْنِ امْتَنَعَتْ الْعُقُوبَةُ وَوُصِفَ الْعِصْيَانُ وَالْإِخْبَارُ بِظُلْمِ النَّفْسِ وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وقَوْله تَعَالَى {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} وَإِنَّمَا ابْتَلَى اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ بِالذُّنُوبِ رَفْعًا لِدَرَجَاتِهِمْ بِالتَّوْبَةِ وَتَبْلِيغًا لَهُمْ إلَى مَحَبَّتِهِ وَفَرَحِهِ بِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ أَشَدَّ فَرَحٍ فَالْمَقْصُودُ كَمَالُ الْغَايَةِ لَا نَقْصُ الْبِدَايَةِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ لَهُ الدَّرَجَةُ لَا يَنَالُهَا إلَّا بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ الْبَلَاءِ.

ص: 89

وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنْ يَنْظُرَ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الذَّنْبَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ فَإِنَّهُ كَبِيرٌ وَكُفْرٌ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ وَالْآخَرُ صَغِيرٌ تِيبَ مِنْهُ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبِ وَلَا يُخْرِجُونَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ بِعَمَلِ إذَا كَانَ فِعْلًا مَنْهِيًّا عَنْهُ؛ مِثْلَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ تَرْكَ الْإِيمَانِ وَأَمَّا إنْ تَضَمَّنَ تَرْكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ مِثْلَ: الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ؛ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ؛ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِهِ وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ بِعَدَمِ اعْتِقَادِ وُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَعَدَمِ تَحْرِيمِ الْحُرُمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ. فَإِنْ قُلْت فَالذُّنُوبُ تَنْقَسِمُ إلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ وَفِعْلِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. قُلْت: لَكِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إذَا تَرَكَهُ الْعَبْدُ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِوُجُوبِهِ؛ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِوُجُوبِهِ تَارِكًا لِأَدَائِهِ فَلَمْ يَتْرُكْ الْوَاجِبَ كُلَّهُ بَلْ أَدَّى بَعْضَهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهُ وَهُوَ الْعَمَلُ

ص: 90

بِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُحَرَّمُ إذَا فَعَلَهُ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِتَحْرِيمِهِ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِتَحْرِيمِهِ فَاعِلًا لَهُ فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ أَدَاءِ وَاجِبٍ وَفِعْلِ مُحَرَّمٍ فَصَارَ لَهُ حَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يُعْذَرُ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِوُجُوبِهِ وَتَحْرِيمِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ فِيمَا فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ بِتَأْوِيلِ أَوْ جَهْلٍ يُعْذَرُ بِهِ؛ فَالْكَلَامُ فِي تَرْكِهِ هَذَا الِاعْتِقَادَ كَالْكَلَامِ فِيمَا فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ بِتَأْوِيلِ أَوْ جَهْلٍ يُعْذَرُ بِهِ. وَأَمَّا كَوْنُ تَرْكِ الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الشَّرَائِعِ كُفْرًا؛ وَفِعْلُ الْمُحَرَّمِ الْمُجَرَّدِ لَيْسَ كُفْرًا: فَهَذَا مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كِتَابُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} إذْ الْإِقْرَارُ بِهَا مُرَادٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ وَفِي تَرْكِ الْفِعْلِ نِزَاعٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} فَإِنَّ عَدَمَ الْإِيمَانِ بِوُجُوبِهِ وَتَرْكِهِ كُفْرٌ وَالْإِيمَانُ بِوُجُوبِهِ وَفِعْلِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْ هَذَا النَّصِّ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: هُوَ مَنْ لَا يَرَى حَجَّهُ بِرًّا وَلَا تَرْكَهُ إثْمًا وَأَمَّا التَّرْكُ الْمُجَرَّدُ فَفِيهِ نِزَاعٌ. وَأَيْضًا {حَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ وَيُخَمِّسَ مَالَهُ} فَإِنَّ

ص: 91

تَخْمِيسَ الْمَالِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا لَا فَاسِقًا وَكُفْرُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ مِثْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا لَمَّا شَرِبَ الْخَمْرَ [قُدَامَةُ بْنُ مَضْعُونٍ](*) وَكَانَ بَدْرِيًّا؛ وَتَأَوَّلَ أَنَّهَا تُبَاحُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُصْلِحِينَ وَأَنَّهُ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الْآيَةَ فَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَصَرَّ قُتِلَ وَإِنْ تَابَ جُلِدَ فَتَابَ فَجُلِدَ. وَأَمَّا الذُّنُوبُ فَفِي الْقُرْآنِ قَطْعُ السَّارِقِ وَجَلْدُ الزَّانِي؛ وَلَمْ يَحْكُمْ بِكَفْرِهِمْ وَكَذَلِكَ فِيهِ اقْتِتَالُ الطَّائِفَتَيْنِ مَعَ بَغْيِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى؛ وَالشَّهَادَةُ لَهُمَا بِالْإِيمَانِ وَالْأُخُوَّةِ وَكَذَلِكَ فِيهِ قَاتِلُ النَّفْسِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ جَعَلَهُ أَخًا؛ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فَسَمَّاهُ أَخًا وَهُوَ قَاتِلٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ {حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ جِبْرِيلَ: مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ؛ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ} " وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ فِي الشَّفَاعَةِ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَقَوْلِهِ: {أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ بُرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ؛ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ

(*) في المطبوع قدامة بن عبد الله والتصحيح من كتاب صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف ص 263

ص: 92

إيمَانٍ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} فَهَذِهِ النُّصُوصُ كَمَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذَا الْكَبِيرَةِ لَا يَكْفُرُ مَعَ الْإِيمَانِ وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ خِلَافًا لِلْمُبْتَدِعَةِ مِنْ الْخَوَارِجِ فِي الْأُولَى وَلَهُمْ وَلِلْمُعْتَزِلَةِ فِي الثَّانِيَةِ نِزَاعٌ: فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي خَرَجُوا بِهِ مِنْ النَّارِ هُوَ حَسَنَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا وَأَنَّهُ لَا يُقَاوِمُهَا شَيْءٌ مِنْ الذُّنُوبِ وَهَذَا هُوَ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ: أَنَّ الْحَسَنَاتِ الَّتِي هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ تُذْهِبُ بِعُقُوبَةِ الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ الَّتِي هِيَ فِعْلُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَإِنَّ فَاعِلَ الْمَنْهِيِّ يَذْهَبُ إثْمُهُ بِالتَّوْبَةِ وَهِيَ حَسَنَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُقَاوِمَةِ وَهِيَ حَسَنَاتٌ مَأْمُورٌ بِهَا وَبِدُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَشَفَاعَتِهِ وَدُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَشَفَاعَتِهِمْ وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَهْدِي إلَيْهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْحَسَنَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا. فَمَا مِنْ سَيِّئَةٍ هِيَ فِعْلُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ إلَّا لَهَا حَسَنَةٌ تُذْهِبُهَا هِيَ فِعْلُ مَأْمُورٍ بِهِ حَتَّى الْكُفْرَ سَوَاءٌ كَانَ وُجُودِيًّا أَوْ عَدَمِيًّا فَإِنَّ حَسَنَةَ الْإِيمَانِ تُذْهِبُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَفِي رِوَايَةٍ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ} " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَأَمَّا الْحَسَنَاتُ فَلَا تُذْهِبُ ثَوَابَهَا السَّيِّئَاتُ مُطْلَقًا فَإِنَّ حَسَنَةَ الْإِيمَانِ

ص: 93

لَا تُذْهِبُ إلَّا بِنَقِيضِهَا وَهُوَ الْكُفْرُ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِي الْإِيمَانَ فَلَا يَصِيرُ الْكَافِرُ مُؤْمِنًا فَلَوْ زَالَ الْإِيمَانُ زَالَ ثَوَابُهُ لَا لِوُجُودِ سَيِّئَةٍ وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ سَيِّئَةٍ لَا تُذْهِبُ بِعَمَلِ لَا يَزُولُ ثَوَابُهُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ يَرَوْنَ الْكَبِيرَةَ مُوجِبَةً لِلْكُفْرِ الْمُنَافِي لِلْإِيمَانِ وَالْمُعْتَزِلَةَ يَرَوْنَهَا مُخْرِجَةً لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي الْكُفْرِ وَأَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَرَوْنَ أَصْلَ إيمَانِهِ بَاقِيًا فَقَدْ اتَّفَقَتْ الطَّوَائِفُ عَلَى أَنَّهُ مَعَ وُجُودِ إيمَانِهِ لَا يَزُولُ ثَوَابُهُ بِشَيْءِ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَالْكُفْرِ وَإِنْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ مَعَ وُجُودِهِ لَا يَزُولُ عِقَابُهُ بِشَيْءِ مِنْ الْحَسَنَاتِ فَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ يَكْفِي فِيهِ عَدَمُ الْإِيمَانِ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مَوْجُودًا كَمَا تَقَدَّمَ فَعُقُوبَةُ الْكُفْرِ هِيَ تَرْكُ الْإِيمَانِ وَإِنْ انْضَمَّ إلَيْهَا عُقُوبَاتٌ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الْكُفْرِ الْوُجُودِيِّ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ ثَوَابِ الطَّاعَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا مَا يَدْفَعُ وَيَرْفَعُ عُقُوبَةَ الْمَعَاصِي الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فَإِذَا كَانَ جِنْسُ ثَوَابِ الْحَسَنَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا يَدْفَعُ عُقُوبَةَ كُلِّ مَعْصِيَةٍ وَلَيْسَ جِنْسُ عُقُوبَاتِ السَّيِّئَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا يَدْفَعُ ثَوَابَ كُلِّ حَسَنَةٍ: ثَبَتَ رُجْحَانُ الْحَسَنَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا عَلَى تَرْكِ السَّيِّئَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّهَا تُطْفِئُ نَارَ السَّيِّئَاتِ؛ مِثْلَ حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ وَغَيْرِهِ.

ص: 94

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَإِنْ تَرَكَهُ لِعُذْرِ مِثْلَ تَرْكِ الصَّوْمِ لِمَرَضِ أَوْ لِسَفَرٍ وَمِثْلَ النَّوْمِ عَنْ الصَّلَاةِ أَوْ نِسْيَانِهَا وَمِثْلَ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ نُسُكِهِ الْوَاجِبِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أَوْ عَلَيْهِ فِعْلُ مَا تَرَكَ إنْ أَمْكَنَ وَأَمَّا فَاعِلُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إذَا كَانَ نَائِمًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لَيْسَ عَلَيْهِ جبران إلَّا إذَا اقْتَرَنَ بِهِ إتْلَافٌ كَقَتْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ. وَالْكَفَّارَةُ فِيهِ هَلْ وَجَبَتْ جَبْرًا أَوْ زَجْرًا أَوْ مَحْوًا؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. فَحَاصِلُهُ أَنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِنْ عُذِرَ فِي التَّرْكِ لِخَطَأِ أَوْ نِسْيَانٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْجُبْرَانِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ فَاعِلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَإِنَّهُ تَكْفِي فِيهِ التَّوْبَةُ إلَّا فِي مَوَاضِعَ لِمَعْنَى آخَرَ فَعُلِمَ أَنَّ اقْتِضَاءَ الشَّارِعِ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ اقْتِضَائِهِ لِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ مَبَانِيَ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَ الْمَأْمُورَ بِهَا وَإِنْ كَانَ ضَرَرُ تَرْكِهَا لَا يَتَعَدَّى صَاحِبَهَا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِهَا فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَيَكْفُرُ أَيْضًا

ص: 95

عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَأَمَّا فِعْلُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الَّذِي لَا يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ صَاحِبَهُ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَلَا يَكْفُرُ بِهِ إلَّا إذَا نَاقَضَ الْإِيمَانَ لِفَوَاتِ الْإِيمَانِ وَكَوْنِهِ مُرْتَدًّا أَوْ زِنْدِيقًا. وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ الْأَئِمَّةِ مَنْ يَقْتُلُهُ وَيُكَفِّرُهُ بِتَرْكِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْخَمْسِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ بُنِيَ عَلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْتُلُهُ وَلَا يُكَفِّرُهُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَهِيَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَد كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي بَرَاءَةٌ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّهُمَا مُنْتَظِمَانِ لِحَقِّ الْحَقِّ وَحَقِّ الْخَلْقِ كَانْتِظَامِ الشَّهَادَتَيْنِ لِلرُّبُوبِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَلَا بَدَلَ لَهُمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمَا بِخِلَافِ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتُلُهُ بِهِمَا وَيُكَفِّرُهُ بِالصَّلَاةِ وَبِالزَّكَاةِ إذَا قَاتَلَ الْإِمَامَ عَلَيْهَا كَرِوَايَةِ عَنْ أَحْمَد. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتُلُهُ بِهِمَا وَلَا يُكَفِّرُهُ إلَّا بِالصَّلَاةِ كَرِوَايَةِ عَنْ أَحْمَد. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتُلُهُ بِهِمَا وَلَا يُكَفِّرُهُ كَرِوَايَةِ عَنْ أَحْمَد. وَمِنْهُمْ مَنْ

ص: 96

لَا يَقْتُلُهُ إلَّا بِالصَّلَاةِ وَلَا يُكَفِّرُهُ كَالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ. وَتَكْفِيرُ تَارِكِ الصَّلَاةِ هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَأْثُورُ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَمَوْرِدُ النِّزَاعِ هُوَ فِيمَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِهَا وَالْتَزَمَ فِعْلَهَا وَلَمْ يَفْعَلْهَا وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِوُجُوبِهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِهِمْ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهُ إنْ جَحَدَ وُجُوبَهَا كَفَرَ وَإِنْ لَمْ يَجْحَدْ وُجُوبَهَا فَهُوَ مَوْرِدُ النِّزَاعِ بَلْ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: إنْ جَحَدَ وُجُوبَهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَجْحَدَ وُجُوبَهَا لَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ الْتِزَامِ فِعْلِهَا كِبْرًا أَوْ حَسَدًا أَوْ بُغْضًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَيَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالرَّسُولَ صَادِقٌ فِي تَبْلِيغِ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ عَنْ الْتِزَامِ الْفِعْلِ اسْتِكْبَارًا أَوْ حَسَدًا لِلرَّسُولِ أَوْ عَصَبِيَّةً لِدِينِهِ أَوْ بُغْضًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَهَذَا أَيْضًا كَافِرٌ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ إبْلِيسَ لَمَّا تَرَكَ السُّجُودَ الْمَأْمُورَ بِهِ لَمْ يَكُنْ جَاحِدًا لِلْإِيجَابِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَاشَرَهُ بِالْخِطَابِ وَإِنَّمَا أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ. وَكَذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ كَانَ

ص: 97

مُصَدِّقًا لِلرَّسُولِ فِيمَا بَلَّغَهُ لَكِنَّهُ تَرَكَ اتِّبَاعَهُ حَمِيَّةً لِدِينِهِ وَخَوْفًا مِنْ عَارِ الِانْقِيَادِ وَاسْتِكْبَارًا عَنْ أَنْ تَعْلُوَ أَسْتُهُ رَأْسَهُ فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَفَطَّنَ لَهُ وَمَنْ أَطْلَقَ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ إلَّا مَنْ يَجْحَدُ وُجُوبَهَا فَيَكُونُ الْجَحْدُ عِنْدَهُ مُتَنَاوِلًا لِلتَّكْذِيبِ بِالْإِيجَابِ وَمُتَنَاوِلًا لِلِامْتِنَاعِ عَنْ الْإِقْرَارِ وَالِالْتِزَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} وَإِلَّا فَمَتَى لَمْ يُقِرَّ وَيَلْتَزِمْ فِعْلَهَا قُتِلَ وَكَفَرَ بِالِاتِّفَاقِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا مُلْتَزِمًا؛ لَكِنْ تَرَكَهَا كَسَلًا وَتَهَاوُنًا؛ أَوْ اشْتِغَالًا بِأَغْرَاضِ لَهُ عَنْهَا فَهَذَا مَوْرِدُ النِّزَاعِ كَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ مُقِرٌّ بِوُجُوبِهِ مُلْتَزِمٌ لِأَدَائِهِ لَكِنَّهُ يَمْطُلُ بُخْلًا أَوْ تَهَاوُنًا. وَهُنَا قِسْمٌ رَابِعٌ وَهُوَ: أَنْ يَتْرُكَهَا وَلَا يُقِرَّ بِوُجُوبِهَا؛ وَلَا يَجْحَدَ وُجُوبَهَا؛ لَكِنَّهُ مُقِرٌّ بِالْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَهَلْ هَذَا مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ؛ أَوْ مِنْ مَوَارِدِ الْإِجْمَاعِ؟ وَلَعَلَّ كَلَامَ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ مُتَنَاوِلٌ لِهَذَا وَهُوَ الْمُعْرِضُ عَنْهَا لَا مُقِرًّا وَلَا مُنْكِرًا. وَإِنَّمَا هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِالْإِسْلَامِ فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ فَإِنْ قُلْنَا. يَكْفُرُ بِالِاتِّفَاقِ؛ فَيَكُونُ اعْتِقَادُ وُجُوبِ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى التَّعْيِينِ مِنْ الْإِيمَانِ لَا يَكْفِي فِيهَا الِاعْتِقَادُ الْعَامُّ؛ كَمَا فِي

ص: 98

الْخَبَرِيَّاتِ مِنْ أَحْوَالِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا الْمَطْلُوبُ فِيهَا الْفِعْلُ لَا يَكْفِي فِيهَا الِاعْتِقَادُ الْعَامُّ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِقَادٍ خَاصٍّ؛ بِخِلَافِ الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ الْمُجْمَلَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَمْرِ الْمُعَادِ يَكْفِي فِيهِ مَا لَمْ يَنْقُضْ الْجُمْلَةَ بِالتَّفْصِيلِ وَلِهَذَا اكْتَفَوْا فِي هَذِهِ الْعَقَائِدِ بِالْجُمَلِ وَكَرِهُوا فِيهَا التَّفْصِيلَ الْمُفْضِيَ إلَى الْقِتَالِ وَالْفِتْنَةِ بِخِلَافِ الشَّرَائِعِ الْمَأْمُورِ بِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَكْتَفِي فِيهَا بِالْجُمَلِ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِهَا عِلْمًا وَعَمَلًا. وَأَمَّا الْقَاتِلُ وَالزَّانِي وَالْمُحَارِبُ فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا يُقْتَلُونَ لِعُدْوَانِهِمْ عَلَى الْخَلْقِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ الْمُتَعَدِّي وَمَنْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ اللَّهِ وَلَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَأَيْضًا فَالْمُرْتَدُّ يُقْتَلُ لِكُفْرِهِ بَعْدَ إيمَانِهِ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَارِبًا. فَثَبَتَ أَنَّ الْكُفْرَ وَالْقَتْلَ لِتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْهُ لِفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَهَذَا الْوَجْهُ قَوِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الثَّلَاثَةِ: مَالِكٍ؛ وَالشَّافِعِيِّ؛ وَأَحْمَد وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَدَلَائِلُهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَنَوِّعَةٌ وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدْ يُعَارَضُ بِمَا قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَا يُوجِبُ قَتْلَ

ص: 99

أَحَدٍ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَصْلًا حَتَّى الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْتُلُ إلَّا الْمُحَارِبَ لِوُجُودِ الْحِرَابِ مِنْهُ وَهُوَ فِعْلُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَيُسَوِّي بَيْنَ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ وَالطَّارِئِ فَلَا يَقْتُلُ الْمُرْتَدَّ لِعَدَمِ الْحِرَابِ مِنْهُ وَلَا يَقْتُلُ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ أَوْ الزَّكَاةَ إلَّا إذَا كَانَ فِي طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ فَيُقَاتِلُهُمْ لِوُجُودِ الْحِرَابِ كَمَا يُقَاتِلُ الْبُغَاةَ وَأَمَّا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَيَقْتُلُ الْقَاتِلَ وَالزَّانِيَ الْمُحْصَنَ وَالْمُحَارِبَ إذَا قَتَلَ فَيَكُونُ الْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَ النِّزَاعِ بِالرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَالٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ إذَا كَانَ أَعْمَى أَوْ زَمِنًا أَوْ رَاهِبًا وَالْأَسِيرُ يَجُوزُ قَتْلُهُ بَعْدَ أَسْرِهِ وَإِنْ كَانَ حِرَابُهُ قَدْ انْقَضَى. الثَّانِي: أَنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ الْقَتْلُ إنَّمَا وَجَبَ عَلَى سَبِيلِ الْقِصَاصِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ؛ كَمَا تَجِبُ الْمُقَاصَّةُ فِي الْأَمْوَالِ؛ فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَبْشَارِ؛ لَكِنْ إنْ لَمْ يَضُرَّ إلَّا الْمَقْتُولَ كَانَ قَتْلُهُ صَائِرًا إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ كَحَقِّ الْمَظْلُومِ فِي الْمَالِ وَإِنْ قَتَلَهُ لِأَخْذِ الْمَالِ كَانَ قَتْلُهُ وَاجِبًا؛ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ حَدُّ اللَّهِ كَمَا يَجِبُ قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ لِأَجْلِ حِفْظِ الْأَمْوَالِ؛ وَرَدُّ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ حَقٌّ لِصَاحِبِهِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ فَخَرَجَتْ هَذِهِ الصُّوَرُ عَنْ

ص: 100

النَّقْضِ لَمْ يَبْقَ مَا يُوجِبُ الْقَتْلَ عِنْدَهُ بِلَا مُمَاثَلَةٍ إلَّا الزِّنَا وَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْعُدْوَانِ أَيْضًا وَوُقُوعُ الْقَتْلِ بِهِ نَادِرٌ؛ لِخَفَائِهِ وَصُعُوبَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا لَا تَدُلُّ عَلَى كِبَرِ الذَّنْبِ وَصِغَرِهِ؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ دَارَ الْجَزَاءِ وَإِنَّمَا دَارُ الْجَزَاءِ هِيَ الْآخِرَةُ وَلَكِنْ شُرِعَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا مَا يَمْنَعُ الْفَسَادَ وَالْعُدْوَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} . فَهَذَانِ السَّبَبَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَتْهُمَا الْمَلَائِكَةُ هُمَا اللَّذَانِ كَتَبَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ الْقَتْلَ بِهِمَا؛ وَلِهَذَا يُقِرُّ كُفَّارُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ مَعَ أَنَّ ذَنْبَهُمْ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ أَعْظَمُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَنْبِ مَنْ نَقْتُلُهُ مِنْ زَانٍ وَقَاتِلٍ. فَأَبُو حَنِيفَةَ رَأَى أَنَّ الْكُفْرَ مُطْلَقًا إنَّمَا يُقَاتَلُ صَاحِبُهُ لِمُحَارَبَتِهِ فَمَنْ لَا حِرَابَ فِيهِ لَا يُقَاتَلُ وَلِهَذَا يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ وَإِنْ كَانُوا وَثَنِيِّينَ. وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَمَعَ هَذَا يَجُوزُ الْقَتْلُ تَعْزِيرًا وَسِيَاسَةً فِي مَوَاضِعَ.

ص: 101

وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَعِنْدَهُ نَفْسُ الْكُفْرِ هُوَ الْمُبِيحُ لِلدَّمِ إلَّا أَنَّ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ تُرِكُوا لِكَوْنِهِمْ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ فَيُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ لِوُجُودِ الْكُفْرِ وَامْتِنَاعِ سَبَبِهَا عِنْدَهُ مِنْ الْكُفْرِ بِلَا مَنْفَعَةٍ. وَأَمَّا أَحْمَد فَالْمُبِيحُ عِنْدَهُ أَنْوَاعٌ أَمَّا الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ فَالْمُبِيحُ عِنْدَهُ هُوَ وُجُودُ الضَّرَرِ مِنْهُ أَوْ عَدَمُ النَّفْعِ فِيهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُحَارَبَةُ بِيَدِ أَوْ لِسَانٍ فَلَا يُقْتَلُ مَنْ لَا مُحَارَبَةَ فِيهِ بِحَالِ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؛ وَالرُّهْبَانِ وَالْعُمْيَانِ؛ وَالزَّمْنَى وَنَحْوِهِمْ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَالْمُبِيحُ عِنْدَهُ هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَهُوَ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ الْكُفْرِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ ذَلِكَ لَكَانَ الدَّاخِلُ فِي الدِّينِ يَخْرُجُ مِنْهُ فَقَتْلُهُ حِفْظٌ لِأَهْلِ الدِّينِ وَلِلدِّينِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ النَّقْصِ وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْهُ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ كِتَابِيًّا أَوْ مُشْبِهًا لَهُ فَقَدْ وُجِدَ إحْدَى غَايَتَيْ الْقِتَالِ فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ وَثَنِيًّا: فَإِنْ أُخِذَتْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ فَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ فَفِي جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِ نِزَاعٌ فَمَتَى جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ كَانَ ذَلِكَ كَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُ وَمَتَى لَمْ يُمْكِنْ اسْتِرْقَاقُهُ وَلَا أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ بَقِيَ كَافِرًا لَا مَنْفَعَةَ فِي حَيَاتِهِ لِنَفْسِهِ - لِأَنَّهُ يَزْدَادُ إثْمًا - وَلَا لِلْمُؤْمِنِينَ؛ فَيَكُونُ قَتْلُهُ خَيْرًا مِنْ إبْقَائِهِ. وَأَمَّا تَارِكُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ: فَإِذَا قُتِلَ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ قِسْمِ الْمُرْتَدِّينَ لِأَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ مُلْتَزِمٌ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْهَا فَقَدْ تَرَكَ مَا الْتَزَمَهُ

ص: 102

أَوْ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ الْغَايَةِ الَّتِي يَمْتَدُّ الْقِتَالُ إلَيْهَا كَالشَّهَادَتَيْنِ فَإِنَّهُ لَوْ تَكَلَّمَ بِإِحْدَاهُمَا وَتَرَكَ الْأُخْرَى لَقُتِلَ لَكِنْ قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَأَمَّا إذَا لَمْ. . . (1) وَيُفَرَّقُ فِي الْمُرْتَدِّ بَيْنَ الرِّدَّةِ الْمُجَرَّدَةِ فَيُقْتَلُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ وَبَيْنَ الرِّدَّةِ الْمُغَلَّظَةِ فَيُقْتَلُ بِلَا اسْتِتَابَةٍ. فَهَذِهِ مَآخِذُ فِقْهِيَّةٌ نَبَّهْنَا بِهَا عَلَى بَعْضِ أَسْبَابِ الْقَتْلِ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَتَنَازَعُونَ أَنَّ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمُ وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا تَقَدَّمَ.

الْوَجْهُ السَّابِعُ: إنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي الشَّهْوَانِيَّةِ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ وَنَهَى عَنْ قِتَالِ أَئِمَّةِ الظُّلْمِ {وَقَالَ فِي الَّذِي يَشْرَبُ الْخَمْرَ: لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} " {وَقَالَ فِي ذِي الخويصرة: يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ - وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ الْإِسْلَامِ - كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ

(1)

بياض بالأصل

ص: 103

صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ". وَقَدْ قُرِّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَوَاعِدِ ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْمَعَاصِي ذُنُوبُهُمْ فِعْلُ بَعْضِ مَا نُهُوا عَنْهُ: مِنْ سَرِقَةٍ أَوْ زِنًا أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ أَكْلِ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَأَهْلُ الْبِدَعِ ذُنُوبُهُمْ تَرْكُ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ أَصْلُ بِدْعَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعَهُ فِيمَا خَالَفَ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ وَهَذَا تَرْكُ وَاجِبٍ. وَكَذَلِكَ الرَّافِضَةُ لَا يَرَوْنَ عَدَالَةَ الصَّحَابَةِ وَمَحَبَّتَهُمْ وَالِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ وَهَذَا تَرْكُ وَاجِبٍ. وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ لَا يُؤْمِنُونَ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَدِيمِ وَمَشِيئَتِهِ الشَّامِلَةِ وَقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ وَهَذَا تَرْكُ وَاجِبٍ. وَكَذَلِكَ الْجَبْرِيَّةُ لَا تُثْبِتُ قُدْرَةَ الْعَبْدِ وَمَشِيئَتَهُ وَقَدْ يَدْفَعُونَ الْأَمْرَ بِالْقَدَرِ وَهَذَا تَرْكُ وَاجِبٍ. وَكَذَلِكَ مُقْتَصِدَةُ الْمُرْجِئَةِ مَعَ أَنَّ بِدْعَتَهُمْ مِنْ بِدَعِ الْفُقَهَاءِ لَيْسَ فِيهَا كُفْرٌ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَمَنْ أَدْخَلَهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْبِدَعِ الَّتِي حَكَى فِيهَا التَّكْفِيرَ وَنَصَرَهُ فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ إدْخَالَ الْأَعْمَالِ أَوْ الْأَقْوَالِ فِي الْإِيمَانِ وَهَذَا تَرْكُ وَاجِبٍ وَأَمَّا غَالِيَةُ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالْعِقَابِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ النُّصُوصَ خَوَّفَتْ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَهَذَا الْقَوْلُ عَظِيمٌ وَهُوَ تَرْكُ وَاجِبٍ

ص: 104

وَكَذَلِكَ الوعيدية لَا يَرَوْنَ اعْتِقَادَ خُرُوجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ وَلَا قَبُولَ الشَّفَاعَةِ فِيهِمْ وَهَذَا تَرْكُ وَاجِبٍ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ اعْتِقَادًا مُحَرَّمًا: مِنْ تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَتَخْلِيدٍ. قِيلَ: هُمْ فِي ذَلِكَ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْكُفَّارِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَنَفْسُ تَرْكِ الْإِيمَانِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ضَلَالَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ اعْتِقَادٌ وُجُودِيٌّ فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ وَلَوْ كَانَ مَعَهُمْ أَصْلٌ مِنْ السُّنَّةِ لَمَا وَقَعُوا فِي الْبِدْعَةِ.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ ضَلَالَ بَنِي آدَمَ وَخَطَأَهُمْ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ وَفُرُوعِهِ إذَا تَأَمَّلْته تَجِدُ أَكْثَرَهُ مِنْ عَدَمِ التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ؛ لَا مِنْ التَّصْدِيقِ بِالْبَاطِلِ. فَمَا مِنْ مَسْأَلَةٍ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا فِي الْغَالِبِ إلَّا وَتَجِدُ مَا أَثْبَتَهُ الْفَرِيقَانِ صَحِيحًا وَإِنَّمَا تَجِدُ الضَّلَالَ وَقَعَ مِنْ جِهَةِ النَّفْيِ وَالتَّكْذِيبِ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَضِلُّوا مِنْ جِهَةِ مَا أَثْبَتُوهُ مِنْ وُجُودِ الْحَقِّ وَإِنَّمَا أَتَوْا مِنْ جِهَةِ مَا نَفَوْهُ مِنْ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ وَقَعُوا فِي الشِّرْكِ وَكُلُّ أُمَّةٍ مُشْرِكَةٍ أَصْلُ شِرْكِهَا عَدَمُ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ مِنْ السَّمَاءِ وَكُلُّ أُمَّةٍ مُخْلِصَةٍ أَصْلُ إخْلَاصِهَا كِتَابٌ مُنَزَّلٌ مِنْ السَّمَاءِ فَإِنَّ بَنِي آدَمَ

ص: 105

مُحْتَاجُونَ إلَى شَرْعٍ يُكْمِلُ فِطَرَهُمْ فَافْتَتَحَ اللَّهُ الْجِنْسَ بِنُبُوَّةِ آدَمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} وَهَلُمَّ جَرَّا. فَمَنْ خَرَجَ عَنْ النُّبُوَّاتِ وَقَعَ فِي الشَّرَكِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ كَافِرٍ غَيْرِ كِتَابِيٍّ فَإِنَّهُ مُشْرِكٌ وَشِرْكُهُ لِعَدَمِ إيمَانِهِ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وَلَمْ يَكُنْ الشِّرْكُ أَصْلًا فِي الْآدَمِيِّينَ بَلْ كَانَ آدَمَ وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِ مِنْ بَنِيهِ عَلَى التَّوْحِيدِ لِلَّهِ لِاتِّبَاعِهِمْ النُّبُوَّةَ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَبِتَرْكِهِمْ اتِّبَاعَ شَرِيعَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَعُوا فِي الشِّرْكِ لَا بِوُقُوعِهِمْ فِي الشِّرْكِ خَرَجُوا عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ آدَمَ أَمَرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَيْثُ قَالَ لَهُ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} .

ص: 106

فَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ آدَمَ وَغَيْرَهُ لَمَّا أهبطهم قَدْ تَضَمَّنَ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ هُدَاهُ الْمُنَزَّلِ وَهُوَ الْوَحْيُ الْوَارِدُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَتَضَمَّنَ أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُكَذِّبْ بِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ وَإِنَّ مَعِيشَتَهُ تَكُونُ ضَنْكًا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَفِي الْبَرْزَخِ وَالْآخِرَةِ وَهِيَ الْمَضْنُوكَةُ النَّكِدَةُ الْمَحْشُوَّةُ بِأَنْوَاعِ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ كَمَا أَنَّ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ هِيَ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا. فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُشْرِكُ بِرَبِّهِ فَإِنَّ الرُّسُلَ جَمِيعَهُمْ أَمَرُوا بِالتَّوْحِيدِ وَأُمِرُوا بِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُوحِيَ بِالتَّوْحِيدِ إلَى كُلِّ رَسُولٍ وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ الشِّرْكَ قَطُّ فَهَذَانِ النَّصَّانِ قَدْ دَلَّا عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ لِكُلِّ رَسُولٍ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْإِشْرَاكِ قَطُّ وَقَدْ أَمَرَ آدَمَ وَبَنِيهِ مِنْ حِينِ أُهْبِطَ بِاتِّبَاعِ هُدَاهُ الَّذِي يُوحِيهِ إلَى الْأَنْبِيَاءِ فَثَبَتَ أَنَّ عِلَّةَ الشِّرْكِ كَانَ مِنْ تَرْكِ اتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فِيمَا أَمَرُوا بِهِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالدِّينِ لَا أَنَّ الشِّرْكَ كَانَ عِلَّةً لِلْكُفْرِ بِالرُّسُلِ فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ وَالْكُفْرَ بِالرُّسُلِ مُتَلَازِمَانِ فِي الْوَاقِعِ فَهَذَا فِي الْكُفَّارِ بِالنُّبُوَّاتِ الْمُشْرِكِينَ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّ الْيَهُودَ لَمْ يُؤْتُوا مِنْ جِهَةِ مَا أَقَرُّوا بِهِ

ص: 107

مِنْ نُبُوَّةِ مُوسَى وَالْإِيمَانِ بِالتَّوْرَاةِ بَلْ هُمْ فِي ذَلِكَ مُهْتَدُونَ وَهُوَ رَأْسُ هُدَاهُمْ وَإِنَّمَا أُتُوا مِنْ جِهَةِ مَا لَمْ يُقِرُّوا بِهِ مِنْ رِسَالَةِ الْمَسِيحِ وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} غَضَبٌ بِكُفْرِهِمْ بِالْمَسِيحِ وَغَضَبٌ بِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَكَذَلِكَ النَّصَارَى لَمْ يُؤْتُوا مِنْ جِهَةِ مَا أَقَرُّوا بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ بِأَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَالْمَسِيحِ وَإِنَّمَا أُتُوا مِنْ جِهَةِ كُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنْ التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِي كَفَرُوا فِيهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ فَهُوَ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ لِنُصُوصِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْمُحْكَمَةِ الَّتِي تَأْمُرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَتُبَيِّنُ عُبُودِيَّةَ الْمَسِيحِ وَأَنَّهُ عَبْدٌ لِلَّهِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فَلَمَّا تَرَكُوا اتِّبَاعَ هَذِهِ النُّصُوصِ إيمَانًا وَعَمَلًا وَعِنْدَهُمْ رَغْبَةٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّأَلُّهِ ابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ وَغَلَوْا فِي الْمَسِيحِ هَوًى مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَتَمَسَّكُوا بِمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلِمَاتِ لِظَنِّ ظَنُّوهُ فِيهَا وَهَوًى اتَّبَعُوهُ خَرَجَ بِهِمْ عَنْ الْحَقِّ فَهُمْ {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وَلِهَذَا كَانَ سِيمَاهُمْ الضَّلَالَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:

ص: 108

{وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} . وَالضَّالُّ ضِدُّ الْمُهْتَدِي وَهُوَ الْعَادِلُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ بِلَا عِلْمٍ وَعَدَمُ الْعِلْمِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْهُدَى بِالْمَأْمُورِ تَرْكُ وَاجِبٍ فَأَصْلُ كُفْرِهِمْ تَرْكُ الْوَاجِبِ وَحِينَئِذٍ تَفَرَّقُوا فِي التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ وَوَقَعَتْ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ وَصَارُوا مَلَكِيَّةً؛ وَيَعْقُوبِيَّةً؛ ونسطورية؛ وَغَيْرَهُمْ وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ مَعَ أَنَّ هَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ أَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ سَبَبٌ لِفِعْلِ الْمُحَرَّمِ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُمْ تَرَكُوا بَعْضَ مَا أُمِرُوا بِهِ فَكَانَ تَرْكُهُ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ الْمُحَرَّمَيْنِ وَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ يَكُونُ سَبَبًا لِفِعْلِ الْمُحَرَّمِ كَالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالسَّبَبُ أَقْوَى مِنْ الْمُسَبِّبِ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْيَهُودِ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} فَنَقْضُ الْمِيثَاقِ تَرْكُ مَا أُمِرُوا بِهِ؛ فَإِنَّ الْمِيثَاقَ يَتَضَمَّنُ وَاجِبَاتٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي

ص: 109

وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} الْآيَاتِ. فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ بِتَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمِيثَاقِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا بِالْأَمْرِ حَصَلَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْعُقُوبَاتُ الَّتِي مِنْهَا فِعْلُ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ؛ وَتَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ؛ وَأَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ. وَأَخْبَرَ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ أَنَّهُ أَلْقَى بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} الْآيَةَ وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ السَّلَفِ مِثْلُ قتادة وَغَيْرِهِ فِي فِرَقِ النَّصَارَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ.

وَهَكَذَا إذَا تَأَمَّلْت أَهْلَ الضَّلَالِ وَالْخَطَأِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ تَجِدُ الْأَصْلَ تَرْكَ الْحَسَنَاتِ لَا فِعْلَ السَّيِّئَاتِ وَأَنَّهُمْ فِيمَا يُثْبِتُونَهُ أَصْلُ أَمْرِهِمْ صَحِيحٌ وَإِنَّمَا أُتُوا مِنْ جِهَةِ مَا نَفَوْهُ وَالْإِثْبَاتُ فِعْلُ حَسَنَةٍ وَالنَّفْيُ تَرْكُ سَيِّئَةٍ فَعُلِمَ أَنَّ تَرْكَ الْحَسَنَاتِ أَضَرُّ مِنْ فِعْلِ السَّيِّئَاتِ وَهُوَ أَصْلُهُ. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ الوعيدية مِنْ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ فِيمَا يُعَظِّمُونَهُ

ص: 110

مِنْ أَمْرِ الْمَعَاصِي وَالنَّهْيِ عَنْهَا وَاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَتَعْظِيمِهِ أَحْسَنُوا لَكِنْ إنَّمَا أُتُوا مِنْ جِهَةِ عَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ لِلسُّنَّةِ وَإِيمَانِهِمْ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِ وَإِنْ كَانَ ذَا كَبِيرَةٍ. وَكَذَلِكَ الْمُرْجِئَةُ فِيمَا أَثْبَتُوهُ مِنْ إيمَانِ أَهْلِ الذُّنُوبِ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ أَحْسَنُوا لَكِنْ إنَّمَا أَصْلُ إسَاءَتِهِمْ مِنْ جِهَةِ مَا نَفَوْهُ مِنْ دُخُولِ الْأَعْمَالِ فِي الْإِيمَانِ وَعُقُوبَاتِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ. فَالْأَوَّلُونَ بَالَغُوا فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ وَقَصَّرُوا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ. وَهَؤُلَاءِ قَصَّرُوا فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَفِي الْأَمْرِ بِكَثِيرِ مِنْ الْمَعْرُوفِ. وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ هُمْ فِي تَعْظِيمِ الْمَعَاصِي وَذَمِّ فَاعِلِهَا وَتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الظُّلْمِ وَفِعْلِ الْقَبِيحِ مُحْسِنُونَ وَإِنَّمَا أَسَاءُوا فِي نَفْيِهِمْ مَشِيئَةَ اللَّهِ الشَّامِلَةَ وَقُدْرَتَهُ الْكَامِلَةَ وَعِلْمَهُ الْقَدِيمَ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ الْجَهْمِيَّة؛ فَإِنَّ أَصْلَ ضَلَالِهِمْ إنَّمَا هُوَ التَّعْطِيلُ وَجَحْدُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ عز وجل مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَالْأَمْرُ فِيهِمْ ظَاهِرٌ جِدًّا. وَلِهَذَا قُلْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الرُّسُلَ جَاءُوا بِالْإِثْبَاتِ الْمُفَصَّلِ وَالنَّفْيِ الْمُجْمَلِ وَالْكُفَّارَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الصَّابِئِينَ وَالْمُشْرِكِينَ

ص: 111

جَاءُوا بِالنَّفْيِ الْمُفَصَّلِ وَالْإِثْبَاتِ الْمُجْمَلِ وَالْإِثْبَاتُ فِعْلُ حَسَنَاتٍ مَأْمُورٍ بِهَا إيجَابًا وَاسْتِحْبَابًا وَالنَّفْيُ تَرْكُ سَيِّئَاتٍ أَوْ حَسَنَاتٍ مَأْمُورٍ بِهَا فَعُلِمَ أَنَّ ضَلَالَهُمْ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَتَرْكِ الْإِثْبَاتِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأُمُورُ نَوْعَانِ: إخْبَارٌ؛ وَإِنْشَاءٌ. فَالْإِخْبَارُ يَنْقَسِمُ إلَى إثْبَاتٍ وَنَفْيٍ: إيجَابٍ وَسَلْبٍ كَمَا يُقَالُ فِي تَقْسِيمِ الْقَضَايَا إلَى إيجَابٍ وَسَلْبٍ. وَالْإِنْشَاءُ فِيهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ. فَأَصْلُ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ هُوَ: إثْبَاتُ الْحَقِّ الْمَوْجُودِ؛ وَفِعْلُ الْحَقِّ الْمَقْصُودِ؛ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ؛ وَنَفْيُ الْبَاطِلِ تَبَعٌ. وَأَصْلُ الضَّلَالِ وَدِينِ الْبَاطِلِ: التَّكْذِيبُ بِالْحَقِّ الْمَوْجُودِ وَتَرْكُ الْحَقِّ الْمَقْصُودِ ثُمَّ فِعْلُ الْمُحَرَّمِ وَإِثْبَاتُ الْبَاطِلِ تَبَعٌ لِذَلِكَ. فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ تَنْفَتِحُ لَك بِهِ أَبْوَابٌ مِنْ الْهُدَى.

الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ الْكَلِمَاتِ الْجَوَامِعَ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ تَتَضَمَّنُ امْتِثَالَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْوَعِيدَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِتَرْكِهِ: مِثْلَ قَوْله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ

ص: 112

مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا} وَقَالَ: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} وَقَالَ: {قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَقَالَ {قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} وَقَالَ: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ إنْ أَتَّبِعُ إلَّا مَا يُوحَى إلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} وَقَالَ: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} وَقَالَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ النُّصُوصِ الَّتِي يُوصِي فِيهَا بِاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ إلَّا بِذَلِكَ وَأَنَّهُ إنْ تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ اتِّبَاعَ الْأَمْرِ أَصْلٌ عَامٌّ وَأَنَّ اجْتِنَابَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَرْعٌ خَاصٌّ.

الْوَجْهُ الْعَاشِ: أَنَّ عَامَّةَ مَا ذَمَّ اللَّهُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الدِّينِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ وَالتَّحْرِيمُ وَكَذَلِكَ حُكِيَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن

ص: 113

شَيْءٍ} وَذَلِكَ فِي النَّحْلِ وَفِي الزُّخْرُفِ {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} وَقَالَ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وَقَالَ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} وَقَالَ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} وَقَالَ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} . وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَقَدْ ذَمَّهُمْ اللَّهُ كَمَا ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِأَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ. وَالشِّرْكُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَصْلَهُ تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ. وَتَحْرِيمُ الْحَلَالِ فِيهِ تَرْكُ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى عِبَادَتِهِ. وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الَّذِي فَعَلُوهُ الشِّرْكَ وَالتَّحْرِيمَ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: " {بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ} " فَالْحَنِيفِيَّةُ ضِدُّ الشِّرْكِ. وَالسَّمَاحَةُ ضِدُّ الْحَجْرِ وَالتَّضْيِيقِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ: إنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} ".

ص: 114

وَظَهَرَ أَثَرُ هَذَيْنِ الذَّنْبَيْنِ فِي الْمُنْحَرِفَةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ وَالْمُلُوكِ وَالْعَامَّةِ بِتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالتَّدَيُّنِ بِنَوْعِ شِرْكٍ لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْأَوَّلُ يَكْثُرُ فِي الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَوَرِّعَةِ وَالثَّانِي يَكْثُرُ فِي الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ. فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَاقَبَ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ أَكْثَرُ مِمَّا ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَاقَبَ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ.

الْوَجْهُ الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّ‌

‌ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} وَذَلِكَ هُوَ أَصْلُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَشُعَيْبٌ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} . وَقَالَ: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} إلَى قَوْلِهِ: {إلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ لِمُوسَى: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} وَقَالَ الْمَسِيحُ: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} . وَالْإِسْلَامُ: هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَهُوَ أَصْلُ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَذَلِكَ يَجْمَعُ مَعْرِفَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَالْخُضُوعَ لَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي

ص: 115

خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْخَلْقَ هُوَ: أَمْرٌ وُجُودِيٌّ مِنْ بَابِ الْمَأْمُورِ بِهِ ثُمَّ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ كَمَالُ مَا خُلِقَ لَهُ. وَأَمَّا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ: فَإِمَّا مَانِعٌ مِنْ أَصْلِ مَا خُلِقَ لَهُ وَإِمَّا مِنْ كَمَالِ مَا خُلِقَ لَهُ نُهُوا عَنْ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ الْأَصْلِ وَهُوَ ظُلْمٌ فِي الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وَمُنِعُوا عَنْ ظُلْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَعْرَاضِ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ كَمَالِ مَا خُلِقَ لَهُ. فَظَهَرَ أَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ أَصْلٌ وَهُوَ الْمَقْصُودُ وَأَنَّ تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَرْعٌ وَهُوَ التَّابِعُ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} لِأَنَّ الشِّرْكَ مَنْعُ الْأَصْلِ فَلَمْ يَكُ فِي النَّفْسِ اسْتِعْدَادٌ لِلْفَلَاحِ فِي الْآخِرَةِ بِخِلَافِ مَا دُونِهِ فَإِنَّ مَعَ الْمَغْفُورِ لَهُ أَصْلَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ السَّعَادَةِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ أَنَّ مَقْصُودَ النَّهْيِ تَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ عَدَمُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَالْعَدَمُ لَا خَيْرَ فِيهِ إلَّا إذَا تَضَمَّنَ حِفْظَ مَوْجُودٍ وَإِلَّا فَلَا خَيْرَ فِي لَا شَيْءَ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ وَالْحِسِّ لَكِنْ مِنْ الْأَشْيَاءِ مَا يَكُونُ وَجُودُهُ مُضِرًّا بِغَيْرِهِ فَيُطْلَبُ عَدَمُهُ لِصَلَاحِ الْغَيْرِ كَمَا يُطْلَبُ عَدَمُ الْقَتْلِ لِبَقَاءِ النَّفْسِ

ص: 116

وَعَدَمُ الزِّنَا لِصَلَاحِ النَّسْلِ وَعَدَمُ الرِّدَّةِ لِصَلَاحِ الْإِيمَانِ فَكُلُّ مَا نُهِيَ عَنْهُ إنَّمَا طُلِبَ عَدَمُهُ لِصَلَاحِ أَمْرٍ مَوْجُودٍ. وَأَمَّا الْمَأْمُورُ بِهِ فَهُوَ أَمْرٌ مَوْجُودٌ وَالْمَوْجُودُ يَكُونُ خَيْرًا وَنَافِعًا وَمَطْلُوبًا لِنَفْسِهِ بَلْ لَا بُدَّ فِي كُلِّ مَوْجُودٍ مِنْ مَنْفَعَةٍ مَا أَوْ خَيْرٍ مَا فَلَا يَكُونُ الْمَوْجُودُ شَرًّا مَحْضًا فَإِنَّ الْمَوْجُودَ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاَللَّهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا إلَّا لِحِكْمَةِ وَتِلْكَ الْحِكْمَةُ وَجْهُ خَيْرٍ بِخِلَافِ الْمَعْدُومِ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ؛ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} وَقَالَ: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فَالْمَوْجُودُ: إمَّا خَيْرٌ مَحْضٌ أَوْ فِيهِ خَيْرٌ وَالْمَعْدُومُ: إمَّا أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ بِحَالِ أَوْ خَيْرُهُ حِفْظُ الْمَوْجُودِ وَسَلَامَتُهُ. وَالْمَأْمُورُ بِهِ قَدْ طُلِبَ وُجُودُهُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَدْ طُلِبَ عَدَمُهُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالْأَمْرِ أَكْمَلُ وَأَشْرَفُ مِنْ الْمَطْلُوبِ بِالنَّهْيِ وَأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ الْمَقْصُودُ الْمُرَادُ لِذَاتِهِ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ عَدَمُهُ شَرًّا مَحْضًا.

الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْأُمُورُ الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا الْعَبْدُ وَيَكْمُلُ وَالْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ مَا يَفْسُدُ بِهِ وَيَنْقُصُ؛ فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ؛ وَإِرَادَةِ

ص: 117

وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ؛ وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ؛ وَرَحْمَةِ الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ؛ وَالشَّجَاعَةِ الَّتِي هِيَ الْقُوَّةُ وَالْقُدْرَةُ وَالصَّبْرُ الَّذِي يَعُودُ إلَى الْقُوَّةِ وَالْإِمْسَاكِ وَالْحَبْسِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كُلُّ هَذِهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا الْعَبْدُ وَيَكْمُلُ وَلَا يَكُونُ صَلَاحُ الشَّيْءِ وَكَمَالُهُ إلَّا فِي أُمُورٍ وُجُودِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِهِ لَكِنْ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى عَدَمِ مَا يُنَافِيهَا فَيَحْتَاجُ إلَى الْعَدَمِ بِالْعَرَضِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ أَصْلٌ وَالْمَنْهِيَّ عَنْهُ تَبَعٌ فَرْعٌ.

الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ النَّاسَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالْأَمْرِ وُجُودُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِنْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ ضِدِّهِ وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُتَنَازَعٌ فِيهِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِطَرِيقِ اللَّازِمِ وَقَدْ يَقْصِدُهُ الْآمِرُ وَقَدْ لَا يَقْصِدُهُ وَأَمَّا الْمَطْلُوبُ بِالنَّهْيِ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ نَفْسُ عَدَمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَقِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَيْسَ مَقْدُورًا وَلَا مَقْصُودًا بَلْ الْمَطْلُوبُ فِعْلُ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مَقْصُودَ النَّاهِي قَدْ يَكُونُ نَفْسَ عَدَمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ وَقَدْ يَكُونُ فِعْلَ ضِدِّهِ؛ وَذَلِكَ الْعَدَمُ عَدَمٌ خَاصٌّ مُقَيَّدٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ

ص: 118

مَقْدُورًا بِفِعْلِ ضِدِّهِ فَيَكُونُ فِعْلُ الضِّدِّ طَرِيقًا إلَى مَطْلُوبِ النَّاهِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَفْسَ الْمَقْصُودِ وَذَلِكَ أَنَّ النَّاهِيَ إنَّمَا نَهَى عَنْ الشَّيْءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ فَالْمَقْصُودُ عَدَمُهُ كَمَا يَنْهَى عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَإِنَّمَا نَهَى لِابْتِلَاءِ الْمُكَلَّفِ وَامْتِحَانِهِ كَمَا نَهَى قَوْمُ طَالُوتَ عَنْ الشُّرْبِ إلَّا بِمَلْءِ الْكَفِّ فَالْمَقْصُودُ هُنَا طَاعَتُهُمْ وَانْقِيَادُهُمْ وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ وَإِذَا كَانَ وُجُودِيًّا فَهُوَ الطَّاعَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَصَارَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ إمَّا عَدَمُ مَا يَضُرُّ الْمَأْمُورُ بِهِ أَوْ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِذَا كَانَ إمَّا حَاوِيًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ؛ أَوْ فَرْعًا مِنْهُ: ثَبَتَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ أَكْمَلُ وَأَشْرَفُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ.

الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ أَنَّ الْأَمْرَ أَصْلٌ وَالنَّهْيَ فَرْعٌ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ نَوْعٌ مِنْ الْأَمْرِ؛ إذْ الْأَمْرُ هُوَ الطَّلَبُ وَالِاسْتِدْعَاءُ وَالِاقْتِضَاءُ وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ طَلَبُ الْفِعْلِ وَطَلَبُ التَّرْكِ لَكِنْ خُصَّ النَّهْيُ بِاسْمِ خَاصٍّ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنَّ الْجِنْسَ إذَا كَانَ لَهُ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا يَتَمَيَّزُ بِصِفَةِ كَمَالٍ أَوْ نَقْصٍ أَفْرَدُوهُ بِاسْمِ وَأَبْقَوْا الِاسْمَ الْعَامَّ عَلَى النَّوْعِ الْآخَرِ كَمَا يُقَالُ: مُسْلِمٌ؛ وَمُنَافِقٌ. وَيُقَالُ نَبِيٌّ وَرَسُولٌ.

ص: 119

وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ: لَوْ قَالَ لَهَا: إذَا خَالَفْت أَمْرِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَعَصَتْ نَهْيَهُ هَلْ يَحْنَثُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: أَحَدُهَا: يَحْنَثُ لِأَنَّ ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِأَمْرِهِ فِي الْعُرْفِ وَلِأَنَّ النَّهْيَ نَوْعٌ مِنْ الْأَمْرِ. وَالثَّانِي: لَا يَحْنَثُ لِعَدَمِ الدُّخُولِ فِيهِ فِي اللُّغَةِ كَمَا زَعَمُوا. وَالثَّالِثُ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعَالِمِ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَغَيْرِ الْعَالِمِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ. فَكُلُّ مَنْ عَصَى النَّهْيَ فَقَدْ عَصَى الْأَمْرَ لِأَنَّ الْأَمْرَ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْلَاءِ وَالنَّاهِي مُسْتَدْعٍ مِنْ النَّهْيِ فِعْلًا: إمَّا بِطَرِيقِ الْقَصْدِ أَوْ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ فَإِنْ كَانَ نَوْعًا مِنْهُ فَالْأَمْرُ أَعَمُّ وَالْأَعَمُّ أَفْضَلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَوْعًا مِنْهُ فَهُوَ أَشْرَفُ الْقِسْمَيْنِ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَقْدِيمِهِ عَلَى النَّهْيِ وَبِذَلِكَ جَاءَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَالَ تَعَالَى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} .

ص: 120

الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِأَمْرِ إلَّا وَقَدْ خَلَقَ سَبَبَهُ وَمُقْتَضِيَهُ فِي جِبِلَّةِ الْعَبْدِ وَجَعَلَهُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ وَفِيهِ صَلَاحُهُ وَكَمَالُهُ؛ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَكُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَالْقُلُوبُ فِيهَا أَقْوَى الْأَسْبَابِ لِمَعْرِفَةِ بَارِيهَا وَالْإِقْرَارِ بِهِ وَأَمَرَ بِالْعِلْمِ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ؛ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ مَعْرِفَتُهَا وَمَحَبَّتُهَا؛ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ مَعْرُوفًا وَنَهَى عَنْ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَعَنْ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تُنْكِرُهَا الْقُلُوبُ وَإِنَّ مَا يَفْعَلُ الْآدَمِيُّ الشَّرَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لِجَهْلِهِ بِهِ أَوْ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَشْتَهِيهِ وَيَلْتَذُّ بِوُجُودِهِ أَوْ يَسْتَضِرُّ بِعَدَمِهِ وَالْجَهْلُ عَدَمُ الْعِلْمِ فَمَا كَانَ مِنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ سَبَبُهُ الْجَهْلُ فَلِعَدَمِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَمَا كَانَ سَبَبُهُ الْحَاجَةَ مِنْ شَهْوَةٍ أَوْ نَفْرَةٍ فَلِعَدَمِ الْمَأْمُورِ بِهِ الَّذِي يَقْتَضِي حَاجَتَهُ مِثْلَ أَنْ يَزْنِيَ لِعَدَمِ اسْتِعْفَافِهِ بِالنِّكَاحِ الْمُبَاحِ أَوْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ الْحَرَامَ لِعَدَمِ اسْتِعْفَافِهِ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْمُبَاحِ وَإِلَّا فَإِذَا فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ الَّذِي يُغْنِيهِ عَنْ الْحَرَامِ لَمْ يَقَعْ فِيهِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ خَلَقَ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ سَبَبَهُ وَمُقْتَضِيَهُ وَأَنَّ الْمَنْهِيَّ

ص: 121

عَنْهُ إنَّمَا يَقَعُ لِعَدَمِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ الْمَانِعِ عَنْهُ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي خِلْقَتِهِ مَا يَقْتَضِيهِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَبِهِ صَلَاحُهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَكْلِ لِلْجَسَدِ بَلْ هُوَ مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَبِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ لِلنَّوْعِ؛ وَهُوَ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَيْسَ فِيهِ سَبَبُهُ إلَّا لِعَدَمِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَكَانَ وُجُودُهُ لِعَدَمِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَكَانَ عَدَمُ الْمَأْمُورِ بِهِ أَضَرَّ عَلَيْهِ مِنْ وُجُودِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ لِتَضَرُّرِهِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَفِي تَرْكِهِ أَشَدَّ اسْتِحْقَاقًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ؛ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ فِيهِ الْمُعِينِ لَهُ عَلَيْهِ. وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَيْسَ فِيهِ مُقْتَضِيهِ فِي الْأَصْلِ إلَّا مَعَ عَدَمِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَأَمَّا عَدَمُهُ فَلَا يَقْتَضِيهِ إلَّا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَهَذَا هَذَا.

الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ‌

‌ فِعْلَ الْحَسَنَاتِ يُوجِبُ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ

وَلَيْسَ مُجَرَّدُ تَرْكِ السَّيِّئَاتِ يُوجِبُ فِعْلَ الْحَسَنَاتِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ مَعَ مُقْتَضِيهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِحَسَنَةٍ وَفِعْلُ الْحَسَنَاتِ عِنْدَ عَدَمِ مُقْتَضِيهَا لَا يَقِفُ عَلَى تَرْكِ السَّيِّئَةِ وَذَلِكَ يُؤْجَرُ لِأَنَّهُ تَرَكَ السَّيِّئَاتِ مَعَ مُقْتَضِيهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ ابْنَ آدَمَ هَمَّامًا حَارِثًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ} " وَالْحَارِثُ:

ص: 122

الْعَامِلُ الْكَاسِبُ وَالْهَمَّامُ: الْكَثِيرُ الْهَمِّ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ وَالْهَمِّ وَالْإِرَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِشُعُورِ وَإِحْسَاسٍ فَهُوَ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ دَائِمًا. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " {لَلْقَلْبُ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنْ الْقِدْرِ إذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا} " وَ " {مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ رِيشَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ} " وَ " {مَا مِنْ قَلْبٍ مِنْ قُلُوبِ الْعِبَادِ إلَّا بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ} " وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَدَمُ إحْسَاسِهِ وَحَرَكَتِهِ مُمْتَنِعٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إحْسَاسُهُ وَحَرَكَتُهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا أَوْ الْمُبَاحَاتِ وَإِلَّا كَانَ مِنْ السَّيِّئَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فَصَارَ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَيْنِ فَهُوَ أَشْرَفُ وَأَفْضَلُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ: قَدْ يَمْتَنِعُ بِذَلِكَ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا مِنْ جِهَةِ اجْتِمَاعِهِمَا فَإِنَّ الْإِيمَانَ ضِدُّ الْكُفْرِ؛ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ ضِدُّ السَّيِّئِ فَلَا يَكُونُ مُصَدِّقًا مُكَذِّبًا مُحِبًّا مُبْغِضًا. وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ اقْتِضَاءِ الْحَسَنَةِ تَرْكَ السَّيِّئَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} وَهَذَا مَحْسُوسٌ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ وَتَدَبَّرَهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ لَهُ مِنْ الْمَعَاصِي أَوْ بَعْضِهَا وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَكَذَلِكَ نَفْسُ الْإِيمَانِ بِتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ وَبِعَذَابِ اللَّهِ عَلَيْهَا بِصَدِّ الْقَلْبِ عَنْ إرَادَتِهَا.

ص: 123

فَالْحَسَنَاتُ إمَّا ضِدُّ السَّيِّئَاتِ؛ وَإِمَّا مَانِعَةٌ مِنْهَا فَهِيَ إمَّا ضِدٌّ وَإِمَّا صَدٌّ. وَإِنَّمَا تَكُونُ السَّيِّئَاتُ عِنْدَ ضَعْفِ الْحَسَنَاتِ الْمَانِعَةِ مِنْهَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} " فَإِنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَتَهُ يَمْنَعُ ذَلِكَ فَلَا يَقَعُ إلَّا عِنْدَ نَوْعِ ضَعْفٍ فِي الْإِيمَانِ يُزِيلُ كَمَالِهِ. وَأَمَّا تَرْكُ السَّيِّئَاتِ: فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مُجَرَّدَ عَدَمِهَا فَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَا يُنَافِي شَيْئًا وَلَا يَقْتَضِيهِ بَلْ الْخَالِي الْقَلْبُ مُتَعَرِّضٌ لِلسَّيِّئَاتِ أَكْثَرَ مِنْ تَعَرُّضِهِ لِلْحَسَنَاتِ. وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الِامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلِهَا؛ فَهَذَا الِامْتِنَاعُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ اعْتِقَادِ قُبْحِهَا وَقَصْدِ تَرْكِهَا وَهَذَا الِاعْتِقَادُ وَالِاقْتِصَادُ حَسَنَتَانِ مَأْمُورٌ بِهِمَا وَهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ. فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ وُجُودَ الْحَسَنَاتِ يَمْنَعُ السَّيِّئَاتِ وَأَنَّ عَدَمَ السَّيِّئَاتِ لَا يُوجِبُ الْحَسَنَاتِ فَصَارَ فِي وُجُودِ الْحَسَنَاتِ الْأَمْرَانِ بِخِلَافِ مُجَرَّدِ عَدَمِ السَّيِّئَاتِ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا أَمْرٌ وَاحِدٌ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ.

ص: 124

الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّ‌

‌ فِعْلَ الْحَسَنَاتِ مُوجِبٌ لِلْحَسَنَاتِ

أَيْضًا؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَقْتَضِي الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَدْعُو إلَى نَظِيرِهِ وَغَيْرِ نَظِيرِهِ؛ كَمَا قِيلَ: إنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا. وَأَمَّا عَدَمُ السَّيِّئَةِ فَلَا يَقْتَضِي عَدَمَ سَيِّئَةٍ إلَّا إذَا كَانَ امْتِنَاعًا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمَا اقْتَضَى فَرْعًا أَفْضَلُ مِمَّا لَا يَقْتَضِي فَرْعًا لَهُ وَهَذَا مِنْ نَمَطِ الَّذِي قَبْلَهُ.

الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ: تَرْجِيحُ الْوُجُودِ عَلَى الْعَدَمِ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ حَسَنَةٌ وَأَمَّا الْمُخْتَلِطُ وَالْمُشْتَبِهُ عَلَيْهِ فَقَدْ يَكُونُ الْإِمْسَاكُ خَيْرًا لَهُ لِيَبْقَى مَعَ الْفِطْرَةِ فَهَذَا حَالُ الْمُهْتَدِي وَالضَّالِّ وَحَالُ. . . (1) فَإِذَا قَامَ الْمُقْتَضِي لِلْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ فِي قَلْبِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ لَمْ يَزَلْ هَذَا الْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ إلَّا بِمَا يُزِيلُهُ أَوْ يَشْتَغِلُ عَنْهُ مِنْ إيمَانٍ وَصَلَاحٍ كَالْعِلْمِ الَّذِي يُزِيلُ الشُّبْهَةَ؛ وَالْقَصْدُ الَّذِي يَمْنَعُ الشَّهْوَةَ وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِنَّ مَا وُجِدَ مُقْتَضِيهِ فَلَا يَزُولُ إلَّا بِوُجُودِ مُنَافِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَزُولُ ذَلِكَ بِمُبَاحِ. . . (2).

(1، 2) بياض بالأصل

ص: 125

الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ بِالْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَذَلِكَ بِالْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ فَأَمَرَهُمْ فِي الِاعْتِقَادَاتِ بِالِاعْتِقَادَاتِ الْمُفَصَّلَةِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ: وَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَفِي الْأَعْمَالِ بِالْعِبَادَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ مِنْ أَصْنَافِ الْعِبَادَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ. وَأَمَّا فِي النَّفْيِ فَجَاءَتْ بِالنَّفْيِ الْمُجْمَلِ وَالنَّهْيِ عَمَّا يَضُرُّ الْمَأْمُورَ بِهِ فَالْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ وَشَرَائِعُ الرُّسُلِ مُمْتَلِئَةٌ مِنْ الْإِثْبَاتِ فِيمَا يَعْلَمُ وَيَعْمَلُ. وَأَمَّا الْمُعَطِّلَةُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ: فَيَغْلِبُ عَلَيْهِمْ النَّفْيُ وَالنَّهْيُ؛ فَإِنَّهُمْ فِي عَقَائِدِهِمْ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ السَّلْبُ: لَيْسَ بِكَذَا لَيْسَ بِكَذَا لَيْسَ بِكَذَا. . وَفِي الْأَفْعَالِ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ الذَّمُّ وَالتَّرْكُ: مِنْ الزُّهْدِ الْفَاسِدِ وَالْوَرَعِ الْفَاسِدِ: لَا يَفْعَلُ لَا يَفْعَلُ لَا يَفْعَلُ. . مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْتُوا بِأَعْمَالِ صَالِحَةٍ يَعْمَلُهَا الرَّجُلُ تَنْفَعُهُ وَتَمْنَعُ مَا يَضُرُّهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ غَالِبُ مَنْ سَلَكَ طَرَائِقَهُمْ بَطَّالًا مُتَعَطِّلًا مُعَطِّلًا فِي عَقَائِدِهِ وَأَعْمَالِهِ.

ص: 126

وَاتِّبَاعِ الرُّسُلِ فِي الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَهَذَا بَيِّنٌ فِي أَنَّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالْإِثْبَاتُ وَطَرِيقُ الْكَافِرِينَ مِنْ الْمُعَطِّلَةِ وَنَحْوِهِمْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ النَّهْيُ وَالنَّفْيُ وَهَذَا مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَرْجِيحِ الْأَمْرِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى النَّهْيِ وَالنَّفْيِ.

الْوَجْهُ الْحَادِيَ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ النَّفْيَ وَالنَّهْيَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَسْبِقَهُ ثُبُوتٌ وَأَمْرٌ بِخِلَافِ الْأَمْرِ وَالْإِثْبَاتِ فَإِنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَعْدُومَ ابْتِدَاءً وَلَا يَقْصِدَ الْمَعْدُومَ ابْتِدَاءً وَقَدْ قَرَّرْت هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَبَيَّنْت أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَعْدُومَ إلَّا بِتَوَسُّطِ تَصَوُّرِ الْمَوْجُودِ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَصَوُّرُهُ لَمْ يُمْكِنْهُ قَصْدُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّ الْقَصْدَ وَالْإِرَادَةَ مَسْبُوقٌ بِالشُّعُورِ وَالتَّصَوُّرِ وَالْأَمْرُ فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ أَوْكَدُ مِنْهُ فِي الشُّعُورِ وَالْعِلْمِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَتَصَوَّرُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ وَيُخْبِرُ عَنْهُمَا وَأَمَّا إرَادَةُ الْمَعْدُومِ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا إرَادَةُ عَدَمِ الشَّيْءِ هِيَ بُغْضُهُ وَكَرَاهَتُهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إمَّا أَنْ يُرِيدَ وُجُودَ الشَّيْءِ أَوْ عَدَمَهُ أَوْ لَا يُرِيدَ وُجُودَهُ وَلَا عَدَمَهُ فَالْأَوَّلُ هُوَ أَصْلُ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ إرَادَةُ عَدَمِهِ فَهُوَ بُغْضُهُ وَكَرَاهَتُهُ وَذَلِكَ مَسْبُوقٌ بِتَصَوُّرِ الْمُبْغِضِ الْمَكْرُوهِ فَصَارَ الْبُغْضُ وَالْكَرَاهَةُ لِلشَّيْءِ الْمُقْتَضِي لِتَرْكِهِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ النَّاهِي وَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْمَنْهِيِّ فَرْعًا مِنْ جِهَتَيْنِ:

ص: 127

مِنْ جِهَةِ أَنَّ تَصَوُّرَهُ فَرْعٌ عَلَى تَصَوُّرِ الْمَحْبُوبِ الْمُرَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَأَنَّ قَصْدَ عَدَمِهِ الَّذِي هُوَ بُغْضُهُ وَكَرَاهَتُهُ فَرْعٌ عَلَى إرَادَةِ وُجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ الَّذِي هُوَ حُبُّهُ وَإِرَادَتُهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا عَلِمَ عَدَمَ شَيْءٍ وَأَخْبَرَ عَنْ عَدَمِهِ مِثْلَ قَوْلِنَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَقَوْلِنَا: لَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ وَقَوْلِنَا: لَيْسَ الْمَسِيحُ بِإِلَهِ وَلَا رَبٍّ وَقَوْلِنَا: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ التَّمْثِيلُ إلَى قَوْلِ الْقَائِلِ: لَيْسَ الْجَبَلُ يَاقُوتًا وَلَا الْبَحْرُ زِئْبَقًا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ الْخَبَرِيَّةَ النَّافِيَةَ الَّتِي هِيَ قَضَايَا سَلْبِيَّةٌ لَوْلَا تَصَوُّرُ النَّفْيِ وَالْمَنْفِيِّ عَنْهُ لَمَا أَمْكَنَهُ الْإِخْبَارُ بِالنَّفْيِ وَالْحُكْمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَصَوَّرَ النَّفْيَ وَالْمَنْفِيَّ عَنْهُ مِثْلَ تَصَوُّرِ الْجَبَلِ وَالْيَاقُوتِ. وَالْمَنْفِيُّ هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ وَنَفْسُ الْإِنْسَانِ الَّتِي هِيَ الشَّاعِرَةُ الْعَالِمَةُ الْمُدْرِكَةُ بِقُوَاهَا وَآلَاتِهَا لَمْ تَجِدْ الْعَدَمَ وَلَمْ تَفْقَهْهُ وَلَمْ تُصَادِفْهُ وَلَمْ تُحِسَّهُ بِشَيْءِ مِنْ حَوَاسِّهَا الْبَاطِنَةِ وَلَا الظَّاهِرَةِ وَلَا شَعَرَتْ إلَّا بِمَوْجُودِ لَكِنْ لَمَّا شَعَرَتْ بِمَوْجُودِ أَخَذَ الْعَقْلُ وَالْخَيَالُ يُقَدِّرُ فِي النَّفْسِ أُمُورًا تَابِعَةً لِتِلْكَ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ إمَّا أُمُورٌ مُرَكَّبَةٌ وَإِمَّا مُشَابِهَةٌ لَهَا فَإِنَّهُ أَدْرَكَ الْيَاقُوتَ وَأَدْرَكَ الْجَبَلَ ثُمَّ رَكَّبَ فِي خَيَالِهِ جَبَلَ يَاقُوتٍ وَعَرَفَ جِنْسَ النُّبُوَّةِ وَعَرَفَ الزَّمَانَ الْمُتَأَخِّرَ عَنْ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَدَّرَ نَبِيًّا فِي هَذَا الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ وَعَرَفَ الْإِلَهَ وَالْأُلُوهِيَّةَ الثَّابِتَةَ لِلَّهِ رَبِّ

ص: 128

الْعَالَمِينَ ثُمَّ قَدَّرَ وُجُودَهَا بِغَيْرِهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ. ثُمَّ الْمُؤْمِنُ يَنْفِي هَذَا الْمُقَدَّرَ مِنْ أُلُوهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنُبُوَّةِ أَحَدٍ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْكَافِرُ قَدْ يَعْتَقِدُ ثُبُوتَ هَذَا الْقَدَرِ فَيَرَى ثُبُوتَ الْأُلُوهِيَّةِ لِلشَّمْسِ؛ أَوْ الْقَمَرِ؛ أَوْ الْكَوَاكِبِ أَوْ الْمَلَائِكَةِ أَوْ النَّبِيِّينَ أَوْ بَعْضِهِمْ؛ أَوْ الصَّالِحِينَ أَوْ بَعْضِهِمْ؛ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْبَشَرِ أَوْ الْأَوْثَانِ الْمَصْنُوعَةِ مَثَلًا لِبَعْضِ هَذِهِ الْآلِهَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمْ يُمْكِنْهُ تَصَوُّرُ عَدَمِ شَيْءٍ وَلَا الْإِخْبَارُ بِهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَصَوَّرَ وُجُودًا قَاسَ بِهِ عَلَيْهِ؛ وَقَدَّرَ بِهِ شَيْئًا آخَرَ؛ ثُمَّ نَفَى ذَلِكَ الْمَقِيسَ الْمُقَدَّرَ بِهِ؛ ثُمَّ أَثْبَتَهُ وَالْفَرْعُ الْمَقِيسُ الْمُقَدَّرُ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ الْمُقَدَّرِ بِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْعَدَمُ إلَّا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالتَّمْثِيلِ وَالتَّفْرِيعِ لَا بِطَرِيقِ الِاسْتِقْلَالِ وَالْحَقِيقَةِ وَالتَّأْصِيلِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمَوْجُودَاتِ لَا يُمْكِنُ النَّاسُ أَوْ بَعْضُهُمْ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ فِي الدُّنْيَا إلَّا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ أَوْ التَّمْثِيلِ لَكِنْ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ مَا يُدْرِكُهُ الْإِنْسَانُ حَقِيقَةً وَتَأْوِيلًا؛ وَمِنْهَا مَا يُدْرِكُهُ قِيَاسًا أَوْ تَمْثِيلًا؛ كَمُدْرَكَاتِ الْمَنَامِ. وَأَمَّا الْمَعْدُومُ فَلَا يُدْرِكُهُ إلَّا قِيَاسًا أَوْ تَمْثِيلًا؛ إذْ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ يَنَالُهَا الْحَيُّ الْمُدْرِكُ وَتُبَاشِرُهَا الذَّوَاتُ الشَّاعِرَةُ؛ إذْ حَقِيقَةُ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْخَارِجِ عَيْنُ مَاهِيَّتِه. وَأَمَّا مَا يُقَدَّرُ فِي الْعَقْلِ مِنْ الْمَاهِيَّاتِ وَالْحَقَائِقِ فَقَدْ يَكُونُ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ الْعَيْنِيِّ الْكَوْنِيِّ؛ وَقَدْ لَا يَكُونُ

ص: 129

وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي الْقَصْدِ وَالْحُبِّ وَالْإِرَادَةِ مِنْ جِهَتَيْنِ: مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَحْبُوبَ أَوْ الْمَكْرُوهَ الْمُبْغِضَ لَا يُتَصَوَّرُ حُبُّهُ وَلَا بُغْضُهُ إلَّا بَعْدَ نَوْعٍ مِنْ الشُّعُورِ بِهِ وَالشُّعُورُ فِي الْمَوْجُودِ أَصْلٌ؛ وَفِي الْمَعْدُومِ فَرْعٌ فَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ الَّذِي يَتْبَعُهُ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُحِبُّ مَا يُلَائِمُهُ وَيُنَاسِبُهُ وَلَهُ بِهِ لَذَّةٌ وَنَعِيمٌ وَنَفْسُهُ لَا تُلَائِمُ الْعَدَمَ الْمَحْضَ وَالنَّفْيَ الصِّرْفَ؛ وَلَا تُنَاسِبُهُ؛ وَلَا لَهُ فِي الْعَدَمِ الْمَحْضِ لَذَّةٌ وَلَا سُرُورٌ وَلَا نِعْمَةٌ وَلَا نَعِيمٌ وَلَا خَيْرَ أَصْلًا؛ وَلَا فَائِدَةٌ قَطْعًا؛ بَلْ مَحَبَّةُ الْعَدَمِ الْمَحْضِ كَعَدَمِ الْمَحَبَّةِ وَاللَّذَّةُ بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ كَعَدَمِ اللَّذَّةِ وَمَا لَيْسَ شَيْءٌ أَصْلًا كَيْفَ يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أَوْ لَذَّةٌ أَوْ خَيْرٌ؟ وَلَكِنَّ نَفْسَهُ تُحِبُّ مَا لَهَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَلَذَّةٌ مِثْلَ مَحَبَّةِ اللَّبَنِ عِنْدَ وِلَادَتِهِ؛ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَغْذِيَةِ ثُمَّ لِمَا يَلْتَذُّ بِهِ مِنْ مَنْكُوحٍ وَنَحْوِهِ ثُمَّ مَا يَلْتَذُّ بِهِ مِنْ شَرَفٍ وَرِيَاسَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ مَا يَلْتَذُّ بِهِ مِنْ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَيُحِبُّ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ الْمَضَرَّةَ مِنْ اللِّبَاسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْخَيْرِ الَّذِي يَقِيهِ عَدُوَّهُ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْآدَمِيِّينَ الْمُؤْذِينَ؛ وَالدَّوَابِّ الْمُؤْذِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُحِبُّ وُجُودَ مَا يَنْفَعُهُ وَعَدَمَ مَا يَضُرُّهُ. وَالنَّافِعُ لَهُ إنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مَوْجُودٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا الضَّارُّ لَهُ فَتَارَةً

ص: 130

يُرَادُ بِهِ عَدَمُ النَّافِعِ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يَضُرُّهُ عَدَمُ النَّافِعِ. وَعَدَمُ النَّافِعِ إنَّمَا يُقْصَدُ بِوُجُودِ النَّافِعِ. وَتَارَةً يَضُرُّهُ أَمْرٌ مَوْجُودٌ فَذَلِكَ الَّذِي يَضُرُّهُ لَمْ يَبْغُضْ مِنْهُ إلَّا مَضَرَّتَهُ لَهُ وَمَضَرَّتُهُ لَهُ إزَالَةُ نَعِيمِهِ أَوْ تَحْصِيلُ عَذَابِهِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْته مُعَارَضٌ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ يَأْمُرُ بِالتَّقْوَى وَيَحُضُّ عَلَيْهَا حَتَّى لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ أَكْثَرُ مِنْهَا وَهِيَ وَصِيَّةُ اللَّهِ إلَى الْأَوَّلِينَ والآخرين وَهِيَ شِعَارُ الْأَوْلِيَاءِ وَأَوَّلُ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَهْلِ أَصْحَابِ الْعَاقِبَةِ؛ وَأَهْلِ الْمَقْعَدِ الصِّدْقِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهَا. وَالتَّقْوَى هِيَ تَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَقَدْ قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَعْمَالُ الْبِرِّ يَعْمَلُهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَلَنْ يَصْبِرَ عَنْ الْآثَامِ إلَّا صِدِّيقٌ.

وَفِي تَعْظِيمِ الْوَرَعِ وَأَهْلِهِ وَالزُّهْدِ وَذَوِيهِ مَا يَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ ذِكْرِهِ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَائِدٌ إلَى تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ وَهِيَ بِقِسْمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَشْبَهُ مِنْهَا بِقِسْمِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالنَّاسُ يَذْكُرُونَ مِنْ فَضَائِلِ أَهْلِ هَذَا الْوَرَعِ وَمَنَاقِبِهِمْ مَا لَا يَذْكُرُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ.

ص: 131

فَنَقُولُ: هَذَا السُّؤَالُ مُؤَلَّفٌ مِنْ شَيْئَيْنِ: جَهْلٌ بِحَقِيقَةِ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ وَالزُّهْدِ؛ وَجَهْلٌ بِجِهَةِ حَمْدِ ذَلِكَ. فَنَقُولُ أَوَّلًا: وَمَنْ الَّذِي قَالَ: إنَّ التَّقْوَى مُجَرَّدُ تَرْكِ السَّيِّئَاتِ؟ بَلْ التَّقْوَى - كَمَا فَسَّرَهُمَا الْأَوَّلُونَ والآخرون -: فِعْلُ مَا أُمِرْت بِهِ وَتَرْكُ مَا نُهِيت عَنْهُ كَمَا قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ لَمَّا وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ: اتَّقُوهَا بِالتَّقْوَى قَالُوا: وَمَا التَّقْوَى؟ قَالَ: أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَرْجُوَ ثَوَابَ اللَّهِ وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَخَافُ عَذَابَ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَكْبَرِ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ: {الم} {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} إلَى آخِرِهَا فَوَصَفَ الْمُتَّقِينَ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ: مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ إقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وَقَالَ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ

ص: 132

وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وَهَذِهِ الْآيَةُ عَظِيمَةٌ جَلِيلَةُ الْقَدْرِ مِنْ أَعْظَمِ آيِ الْقُرْآنِ وَأَجْمَعِهِ لِأَمْرِ الدِّينِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ فَنَزَلَتْ وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ {عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: إنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ} " وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْفَاعِلِينَ لِهَذِهِ الْأُمُورِ هُمْ الْمُتَّقُونَ وَعَامَّةُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِعْلٌ مَأْمُورٌ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ هِيَ الْبِرُّ وَأَهْلُهَا هُمْ الصَّادِقُونَ يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: (آمَنَّا وَعَامَّتُهَا أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ هِيَ أَفْعَالٌ مَأْمُورٌ بِهَا فَعُلِمَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ أَدْخَلُ فِي الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِيمَانِ مِنْ عَدَمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَبِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ اسْتَحَقَّتْ الْجَنَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} وَقَالَ: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} {إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} وَقَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} وَهَذِهِ الْخِصَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ قَدْ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِهَا؛ لِأَنَّهُ

ص: 133

أَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَهَا هُمْ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي قَوْلِهِمْ: وَهُمْ الْمُتَّقُونَ وَالصِّدْقُ وَاجِبٌ وَالْإِيمَانُ وَاجِبٌ إيجَابَ حُقُوقٍ سِوَى الزَّكَاةِ وَقَوْلُهُ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} وَقَوْلُهُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} . وَقَوْلُهُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَقَوْلُهُ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} فِي " سُبْحَانَ "" وَالرُّومِ " فَإِتْيَانُ ذِي الْقُرْبَى حَقَّهُ صِلَةُ الرَّحِمِ وَالْمِسْكِينِ إطْعَامُ الْجَائِعِ وَابْنِ السَّبِيلِ قِرَى الضَّيْفِ وَفِي الرِّقَابِ فِكَاكُ الْعَانِي وَالْيَتِيمِ نَوْعٌ مِنْ إطْعَامِ الْفَقِيرِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " {عُودُوا الْمَرِيضَ وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ} " وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَفْتَى بِهِ أَحْمَد: " {لَوْ صَدَقَ السَّائِلُ مَا أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُ} ". وَأَيْضًا فَالرَّسُولُ مِثْلُ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ فَاتِحَةُ دَعْوَاهُمْ فِي هُودٍ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} وَفِي الشُّعَرَاءِ:

ص: 134

{أَلَا تَتَّقُونَ} {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} وَقَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَقَالَ: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} . فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعُهُودِ مِنْ التَّقْوَى الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ هُوَ جُمْلَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ إمَّا بِالشَّرْعِ أَوْ بِالشَّرْطِ وَكُلُّ ذَلِكَ فِعْلٌ مَأْمُورٌ بِهِ. وَذَلِكَ وَفَاءٌ بِعَهْدِ اللَّهِ وَعَهْدِ الْعَبِيدِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ التَّقْوَى إمَّا تَقْوَى اللَّهِ: وَإِمَّا تَقْوَى عَذَابِهِ كَمَا قَالَ: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} فَالتَّقْوَى اتِّقَاءُ الْمَحْذُورِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَبِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهُوَ بِالْأَوَّلِ أَكْثَرُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَلِكَ تَقْوَى لِأَنَّ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَفِعْلَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ سَبَبُ الْأَمْنِ مِنْ ذَمِّ اللَّهِ وَسَخَطِ اللَّهِ وَعَذَابِ اللَّهِ فَالْبَاعِثُ عَلَيْهِ خَوْفُ الْإِثْمِ بِخِلَافِ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ مَضَرَّةٌ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ الَّذِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَلَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ بِاسْمِ التَّقْوَى لِيُبَيِّنَ وُجُوبَ ذَلِكَ وَأَنَّ صَاحِبَهُ مُتَعَرِّضٌ لِلْعَذَابِ بِتَرْكِ التَّقْوَى. وَنَقُولُ ثَانِيًا: إنَّهُ حَيْثُ عَبَّرَ بِالتَّقْوَى عَنْ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ أَنْ قِيلَ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْبِرُّ مَا أُمِرْت بِهِ؛ وَالتَّقْوَى مَا نُهِيت عَنْهُ. فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مَقْرُونًا

ص: 135

بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا ذَكَرَ مَعَهَا الْبِرَّ وَكَمَا فِي قَوْلِ نُوحٍ: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ التَّقْوَى مُسْتَلْزِمَةٌ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَنَقُولُ ثَالِثًا: إنَّ أَكْثَرَ بَنِي آدَمَ قَدْ يَفْعَلُ بَعْضَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَا يَتْرُكُ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إلَّا الصِّدِّيقُونَ كَمَا قَالَ سَهْلٌ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ لَهُ مُقْتَضَى فِي النَّفْسِ وَأَمَّا تَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إلَى خِلَافِ الْهَوَى وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ فَهُوَ أَصْعَبُ وَأَشَقُّ فَقَلَّ أَهْلُهُ وَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَفْعَلَهُ إلَّا مَعَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا تُتَصَوَّرُ تَقْوَى وَهِيَ فِعْلٌ تَرْكٌ [وَ] قَطُّ؛ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ الشِّرْكَ وَاتِّبَاعَ الْهَوَى الْمُضِلِّ وَاتِّبَاعَ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ أُمُورًا كَثِيرَةً تَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ فَتَقْوَاهُمْ تَحْفَظُ لَهُمْ حَسَنَاتِهِمْ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا وَتَمْنَعُهُمْ مِنْ السَّيِّئَاتِ الَّتِي تَضُرُّهُمْ بِخِلَافِ مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ مَثَلًا؛ فَإِنَّ وُجُودَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يُفْسِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ مَا يُفْسِدُ فَلَا يَسْلَمُ لَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَّقِينَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَكَلَ الطَّعَامَ النَّافِعَ وَاتَّقَى الْأَطْعِمَةَ الْمُؤْذِيَةَ فَصَحَّ جِسْمُهُ وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُ سَلِيمَةً. وَغَيْرُ الْمُتَّقِي بِمَنْزِلَةِ مَنْ خَلَطَ مِنْ الْأَطْعِمَةِ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ اغْتَذَى بِهَا لَكِنَّ تِلْكَ التَّخَالِيطَ قَدْ تُورِثُهُ

(1)

ما بين معقوفتين غير موجود في المطبوع

أسامة بن الزهراء - منسق الكتاب للموسوعة الشاملة

ص: 136

أَمْرَاضًا إمَّا مُؤْذِيَةً؛ وَإِمَّا مُهْلِكَةً. وَمَعَ هَذَا فَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ حَاجَتَهُ وَانْتِفَاعَهُ بِتَرْكِ الْمُضِرِّ مِنْ الْأَغْذِيَةِ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَتِهِ وَانْتِفَاعِهِ بِالْأَغْذِيَةِ النَّافِعَةِ بَلْ حَاجَتُهُ وَانْتِفَاعُهُ بِالْأَغْذِيَةِ الَّتِي تَنَاوَلَهَا أَعْظَمُ مِنْ انْتِفَاعِهِ بِمَا تَرَكَهُ مِنْهَا بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْ غِذَاءً قَطُّ لَهَلَكَ قَطْعًا وَأَمَّا إذَا تَنَاوَلَ النَّافِعَ وَالضَّارَّ فَقَدْ يُرْجَى لَهُ السَّلَامَةُ؛ وَقَدْ يُخَافُ عَلَيْهِ الْعَطَبُ وَإِذَا تَنَاوَلَ النَّافِعَ دُونَ الضَّارِّ حَصَلَتْ لَهُ الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ. فَالْأَوَّلُ نَظِيرُ مَنْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَالثَّانِي نَظِيرُ مَنْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَالْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ المخلط الَّذِي خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا. وَالثَّالِثُ نَظِيرُ الْمُتَّقِي الَّذِي فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَاجْتَنَبَ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَعَظُمَ أَمْرُ التَّقْوَى لِتَضَمُّنِهَا السَّلَامَةَ مَعَ الْكَرَامَةِ لَا لِأَجْلِ السَّلَامَةِ فَقَطْ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآخِرَةِ دَارٌ إلَّا الْجَنَّةُ أَوْ النَّارُ فَمَنْ سَلِمَ مِنْ النَّارِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يُنَعَّمْ عُذِّبَ فَلَيْسَ فِي الْآدَمِيِّينَ مَنْ يَسْلَمُ مِنْ الْعَذَابِ وَالنَّعِيمِ جَمِيعًا. فَتَدَبَّرْ هَذَا فَكُلُّ خَصْلَةٍ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا أَوْ أَثْنَى عَلَيْهَا فَفِيهَا فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَا بُدَّ: تَضَمُّنًا أَوْ اسْتِلْزَامًا وَحَمْدُهَا لِنَيْلِ الْخَيْرِ عَنْ الشَّرِّ وَالثَّوَابِ عَنْ الْعِقَابِ.

وَكَذَلِكَ الْوَرَعُ الْمَشْرُوعُ وَالزُّهْدُ الْمَشْرُوعُ مِنْ نَوْعِ التَّقْوَى الشَّرْعِيَّةِ وَلَكِنْ قَدْ غَلِطَ بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا الْوَرَعُ الْمَشْرُوعُ الْمُسْتَحَبُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَهُوَ: اتِّقَاءُ مَنْ يَخَافُ

ص: 137

أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَالْعَذَابِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُشْتَبِهَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْوَاجِبَ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُشْتَبِهَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْحَرَامَ وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا الْمَكْرُوهَاتُ قُلْت: نَخَافُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلنَّقْصِ وَالْعَذَابِ. وَأَمَّا الْوَرَعُ الْوَاجِبُ فَهُوَ اتِّقَاءُ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَالْعَذَابِ وَهُوَ فِعْلُ الْوَاجِبِ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِيمَا اشْتَبَهَ أَمِنْ الْوَاجِبِ هُوَ أَمْ لَيْسَ مِنْهُ؟ وَمَا اشْتَبَهَ تَحْرِيمُهُ أَمِنْ الْمُحَرَّمِ أَمْ لَيْسَ مِنْهُ؛ فَأَمَّا مَا لَا رَيْبَ فِي حِلِّهِ فَلَيْسَ تَرْكُهُ مِنْ الْوَرَعِ وَمَا لَا رَيْبَ فِي سُقُوطِهِ فَلَيْسَ فِعْلُهُ مِنْ الْوَرَعِ. وَقَوْلِي عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَتْرُكُ الْحَرَامَ الْبَيِّنَ أَوْ الْمُشْتَبَهَ إلَّا عِنْدَ تَرْكِ مَا هُوَ حَسَنَةٌ مَوْقِعُهَا فِي الشَّرِيعَةِ أَعْظَمُ مِنْ تَرْكِ تِلْكَ السَّيِّئَةِ مِثْلَ مَنْ يَتْرُكُ الِائْتِمَامَ بِالْإِمَامِ الْفَاسِقِ فَيَتْرُكُ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَالْحَجَّ وَالْغَزْوَ وَكَذَلِكَ قَدْ لَا يُؤَدِّي الْوَاجِبَ الْبَيِّنَ أَوْ الْمُشْتَبِهَ إلَّا بِفِعْلِ سَيِّئَةٍ أَعْظَمَ إثْمًا مِنْ تَرْكِهِ مِثْلَ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لِذَوِي السُّلْطَانِ إلَّا بِقِتَالِ فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ أَعْظَمُ مِنْ فَسَادِ ظُلْمِهِ. وَالْأَصْلُ فِي الْوَرَعِ الْمُشْتَبِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " {الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ عِرْضَهُ وَدِينَهُ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي

ص: 138

الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ} " وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي السُّنَنِ قَوْلُهُ: "{دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك} " وَقَوْلُهُ: "{الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ النَّفْسُ وَسَكَنَ إلَيْهِ الْقَلْبُ} " وَقَوْلُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ: "{الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ} " {وَإِنَّهُ رَأَى عَلَى فِرَاشِهِ تَمْرَةً فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتهَا} ".

وَأَمَّا فِي الْوَاجِبَاتِ. . . (1)، لَكِنْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي الْوَرَعِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ: أَحَدُهَا: اعْتِقَادُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّرْكِ فَلَا يَرَوْنَ الْوَرَعَ إلَّا فِي تَرْكِ الْحَرَامِ لَا فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَهَذَا يُبْتَلَى بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَدَيِّنَةِ الْمُتَوَرِّعَةِ تَرَى أَحَدَهُمْ يَتَوَرَّعُ عَنْ الْكَلِمَةِ الْكَاذِبَةِ وَعَنْ الدِّرْهَمِ فِيهِ شُبْهَةٌ؛ لِكَوْنِهِ مَنْ مَالِ ظَالِمٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ فَاسِدَةٍ وَيَتَوَرَّعُ عَنْ الرُّكُونِ إلَى الظَّلَمَةِ مِنْ أَجْلِ الْبِدَعِ فِي الدِّينِ وَذَوِي الْفُجُورِ فِي الدُّنْيَا وَمَعَ هَذَا يَتْرُكُ أُمُورًا وَاجِبَةً عَلَيْهِ إمَّا عَيْنًا وَإِمَّا كِفَايَةً وَقَدْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ؛ وَحَقِّ جَارٍ وَمِسْكِينٍ؛ وَصَاحِبٍ وَيَتِيمٍ وَابْنِ سَبِيلٍ؛ وَحَقِّ مُسْلِمٍ وَذِي سُلْطَانٍ؛ وَذِي عِلْمٍ. وَعَنْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفِ

(1)

بياض بالأصل

ص: 139

وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ؛ وَعَنْ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ نَفْعٌ لِلْخَلْقِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَوْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ مِنْ جِهَةِ التَّكْلِيفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْوَرَعُ قَدْ يُوقِعُ صَاحِبَهُ فِي الْبِدَعِ الْكِبَارِ؛ فَإِنَّ وَرَعَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ تَوَرَّعُوا عَنْ الظُّلْمِ وَعَنْ مَا اعْتَقَدُوهُ ظُلْمًا مِنْ مُخَالَطَةِ الظَّلَمَةِ فِي زَعْمِهِمْ حَتَّى تَرَكُوا الْوَاجِبَاتِ الْكِبَارَ مِنْ الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَةِ؛ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ؛ وَنَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ وَأَهْلُ هَذَا الْوَرَعِ مِمَّنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ الْأَئِمَّةُ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَصَارَ حَالُهُمْ يُذْكَرُ فِي اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ أَنَّهُ إذَا فَعَلَ الْوَاجِبَ وَالْمُشْتَبِهَ وَتَرَكَ الْمُحَرَّمَ وَالْمُشْتَبِهَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ بِأَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالْعِلْمِ لَا بِالْهَوَى وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ تَنْفِرُ نَفْسُهُ عَنْ أَشْيَاءَ لِعَادَةِ وَنَحْوِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يُقَوِّي تَحْرِيمَهَا وَاشْتِبَاهَهَا عِنْدَهُ وَيَكُونُ بَعْضُهُمْ فِي أَوْهَامٍ وَظُنُونٍ كَاذِبَةٍ فَتَكُونُ تِلْكَ الظُّنُونُ مَبْنَاهَا عَلَى الْوَرَعِ الْفَاسِدِ فَيَكُونُ صَاحِبُهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْوَسْوَسَةِ فِي النَّجَاسَاتِ؛ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَرَعِ الْفَاسِدِ الْمُرَكَّبِ مِنْ نَوْعِ دِينٍ وَضَعْفِ عَقْلٍ وَعِلْمٍ وَكَذَلِكَ وَرَعُ قَوْمٍ يُعِدُّونَ غَالِبَ أَمْوَالِ النَّاسِ مُحَرَّمَةً

ص: 140

أَوْ مُشْتَبِهَةً أَوْ كُلَّهَا وَآلَ الْأَمْرُ بِبَعْضِهِمْ إلَى إحْلَالِهَا لِذِي سُلْطَانٍ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لَهَا وَإِلَى أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ بِهَا يَدَ السَّارِقِ وَلَا يَحْكُمُ فِيهَا بِالْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ. وَقَدْ أَنْكَرَ حَالَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ وَذَمَّ الْمُتَنَطِّعِينَ فِي الْوَرَعِ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا} . وَوَرَعُ أَهْلِ الْبِدَعِ كَثِيرٌ مِنْهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ. بَلْ وَرَعُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْكُفَّارِ عَنْ وَاجِبَاتِ دِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَكَذَلِكَ مَا ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنْ وَرَعِهِمْ عَمَّا حَرَّمُوهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تَعَالَى كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ والحام. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْوَرَعُ الَّذِي ذَمَّهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ لَمَّا تَرَخَّصَ فِي أَشْيَاءَ فَبَلَغَهُ أَنَّ أَقْوَامًا تَنَزَّهُوا عَنْهَا فَقَالَ: " {مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ أَشْيَاءَ أَتَرَخَّصُ فِيهَا وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَعْلَمَهُمْ بِاَللَّهِ وَأَخْشَاهُمْ وَفِي رِوَايَةٍ: أَخْشَاهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ بِحُدُودِهِ لَهُ} " وَكَذَلِكَ حَدِيثُ صَاحِبِ الْقِبْلَةِ. وَلِهَذَا يَحْتَاجُ الْمُتَدَيِّنُ الْمُتَوَرِّعُ إلَى عِلْمٍ كَثِيرٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ

ص: 141

فِي الدِّينِ وَإِلَّا فَقَدَ يُفْسِدُ تَوَرُّعُهُ الْفَاسِدَ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ كَمَا فَعَلَهُ الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَغَيْرِهِمْ. الثَّالِثَةُ: جِهَةُ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ. هَذَا أَصْعَبُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ؛ فَإِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ جِهَةُ فَسَادِهِ يَقْتَضِي تَرْكَهُ فَيَلْحَظُهُ الْمُتَوَرِّعُ؛ وَلَا لِحَظِّ مَا يُعَارِضُهُ مِنْ الصَّلَاحِ الرَّاجِحِ؛ وَبِالْعَكْسِ فَهَذَا هَذَا. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْوَرَعَ التَّرْكَ فَقَطْ؛ وَأَدْخَلَ فِي هَذَا الْوَرَعِ أَفْعَالَ قَوْمٍ ذَوِي مَقَاصِدَ صَالِحَةٍ بِلَا بَصِيرَةٍ مِنْ دِينِهِمْ وَأَعْرَضَ عَمَّا فَوَّتُوهُ بِوَرَعِهِمْ مِنْ الْحَسَنَاتِ الرَّاجِحَةِ فَإِنَّ الَّذِي فَاتَهُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمُ مِمَّا أَدْرَكَهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَعِيبُ أَقْوَامًا هُمْ إلَى النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ أَقْرَبُ. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَنْفَعَتُهَا لِهَذَا الضَّرْبِ وَأَمْثَالِهِ كَثِيرَةٌ؛ فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا أَهْلُ الْوَرَعِ النَّاقِصِ أَوْ الْفَاسِدِ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الزُّهْدِ النَّاقِصِ أَوْ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الزُّهْدَ الْمَشْرُوعَ الَّذِي بِهِ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ عَدَمُ الرَّغْبَةِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ مِنْ فُضُولِ الْمُبَاحِ فَتَرْكُ فُضُولِ الْمُبَاحِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ فِي الدِّينِ زُهْدٌ وَلَيْسَ بِوَرَعِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحِرْصَ وَالرَّغْبَةَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الدَّارِ الدُّنْيَا مِنْ الْمَالِ وَالسُّلْطَانِ مُضِرٌّ كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " {مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ} " قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَذَمَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحِرْصَ

ص: 142

عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ وَهُوَ الرِّيَاسَةُ وَالسُّلْطَانُ وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الدِّينَ مِثْلَ أَوْ فَوْقَ إفْسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعَيْنِ لِزَرِيبَةِ الْغَنَمِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحِرْصَ إنَّمَا ذُمَّ لِأَنَّهُ يُفْسِدُ الدِّينَ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ فَكَانَ تَرْكُ هَذَا الْحِرْصِ لِصَالِحِ الْعَمَلِ وَهَذَانِ هُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي قَوْله تَعَالَى {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} وَهُمَا اللَّذَانِ: ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ حَيْثُ افْتَتَحَهَا بِأَمْرِ فِرْعَوْنَ وَذَكَرَ عُلُوَّهُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الرِّيَاسَةُ وَالشَّرَفُ وَالسُّلْطَانُ ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِهَا قَارُونَ وَمَا أُوتِيَهُ مِنْ الْأَمْوَالِ وَذَكَرَ عَاقِبَةَ سُلْطَانِ هَذَا وَعَاقِبَةَ مَالِ هَذَا ثُمَّ قَالَ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} كَحَالِ فِرْعَوْنَ وَقَارُونَ؛ فَإِنَّ جَمْعَ الْأَمْوَالِ مِنْ غَيْرِ إنْفَاقِهَا فِي مَوَاضِعِهَا الْمَأْمُورِ بِهَا وَأَخْذَهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا هُوَ مِنْ نَوْعِ الْفَسَادِ. وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ إذَا اخْتَارَ السُّلْطَانَ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ الْعَدْلِ وَالْحَقِّ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِفَسَادِ وَظُلْمٍ وَأَمَّا نَفْسُ وُجُودِ السُّلْطَانِ وَالْمَالِ الَّذِي يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَالْقِيَامُ بِالْحَقِّ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَيُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَلَا يَفْتُرُ الْقَلْبُ عَنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَلَا يَصُدُّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ إذَا كَانَ كَذَلِكَ. وَلَكِنْ قَلَّ أَنْ

ص: 143

تَجِدَ ذَا سُلْطَانٍ أَوْ مَالٍ إلَّا وَهُوَ مُبْطِئٌ مُثْبِطٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ مُتَّبِعٌ هَوَاهُ فِيمَا آتَاهُ اللَّهُ وَفِيهِ نُكُولُ حَالِ الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَبِهَذِهِ الْخِصَالِ يَكْتَسِبُ الْمَهَانَةَ وَالذَّمَّ دُنْيَا وَأُخْرَى. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ وَأَصْحَابِهِ: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ هُمْ الْأَعْلَوْنَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} وَقَالَ: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} فَالشَّرَفُ وَالْمَالُ لَا يُحْمَدُ مُطْلَقًا وَلَا يُذَمُّ مُطْلَقًا بَلْ يُحْمَدُ مِنْهُ مَا أَعَانَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ وَاجِبًا وَهُوَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ. وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا. وَإِنَّمَا يُحْمَدُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ. وَيُذَمُّ مَا اُسْتُعِينَ بِهِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ أَوْ صَدٍّ عَنْ الْوَاجِبَاتِ فَهَذَا مُحَرَّمٌ. وَيُنْتَقَصُ مِنْهُ مَا شَغَلَ عَنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَأَوْقَعَ فِي الْمَكْرُوهَاتِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ " {مَنْ طَلَبَ هَذَا الْمَالَ اسْتِغْنَاءً عَنْ النَّاسِ وَاسْتِعْفَافًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ: وَعَوْدًا عَلَى جَارِهِ الضَّعِيفِ وَالْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ: لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَمَنْ طَلَبَهُ مُرَائِيًا مُفَاخِرًا

ص: 144

مُكَاثِرًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ} " وَقَالَ: "{التَّاجِرُ الْأَمِينُ الصَّدُوقُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} " وَقَالَ: "{نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ} ". وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَرَعَ لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ فَيَكُونُ لَهُ ثَوَابٌ إلَّا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْإِخْلَاصِ أَمَّا فِي الْوَرَعِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ وَأَمَّا بِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ وَرَعًا فَإِنَّهُ إذَا تَرَكَ السَّيِّئَاتِ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا؛ وَإِنْ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهَا. وَإِنْ تَرَكَهَا لِوَجْهِ اللَّهِ أُثِيبَ عَلَيْهَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِمَا يَقُومُ بِقَلْبِهِ مِنْ رَجَاءِ رَحْمَةِ اللَّهِ أَوْ خَشْيَةِ عَذَابِهِ. وَرَجَاءُ رَحْمَتِهِ وَخَشْيَةُ عَذَابِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَرَعَ لَا يَكُونُ عَمَلًا صَالِحًا إلَّا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الرَّجَاءِ وَالْخَشْيَةِ وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ التَّرْكِ الْعَدَمِيِّ لَا ثَوَابَ فِيهِ. وَأَمَّا الزُّهْدُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الرَّغْبَةِ فَإِنَّمَا يُحْمَدُ حَمْدًا مُطْلَقًا وَتُذَمُّ الرَّغْبَةُ لِتَرْكِ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلَّا النَّارُ} وَقَالَ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} وَقَالَ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ

ص: 145

لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} فَمَنْ لَمْ يُرِدْ الدَّارَ الْآخِرَةَ قَوْلًا وَعَمَلًا وَإِيثَارًا وَمَحَبَّةً وَرَغْبَةً وَإِنَابَةً فَلَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَا فَائِدَةَ لَهُ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا بَلْ هُوَ كَافِرٌ مَلْعُونٌ؛ مُشَتَّتٌ مُعَذَّبٌ لَكِنْ قَدْ يَنْتَفِعُ بِزُهْدِهِ فِي الدُّنْيَا بِنَوْعِ مِنْ الرَّاحَةِ الْعَاجِلَةِ وَهُوَ زُهْدٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَقَدْ يَسْتَضِرُّ بِمَا يَفُوتُهُ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ زَاهِدٍ فَلَا رَاحَةَ لَهُ فِي هَذَا. فَمَنْ زَهِدَ لِطَلَبِ رَاحَةِ الدُّنْيَا أَوْ رَغِبَ لِطَلَبِ لَذَّاتِهَا لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي عَمَلٍ صَالِحٍ وَلَا هُوَ مَحْمُودٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ قَدْ يَتَرَجَّحُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً فِي مَصْلَحَةِ الدُّنْيَا كَمَا تَتَرَجَّحُ صِنَاعَةٌ عَلَى صِنَاعَةٍ وَتِجَارَةٌ عَلَى تِجَارَةٍ وَذَلِكَ أَنَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا لَا تُنَالُ غَالِبًا إلَّا بِنَوْعِ مِنْ التَّعَبِ فَقَدْ تَتَرَجَّحُ تَارَةً لَذَّةُ التَّرْكِ عَلَى تَعَبِ الطَّلَبِ وَقَدْ يَتَرَجَّحُ تَعَبُ الطَّلَبِ عَلَى لَذَّةِ التَّرْكِ فَلَا حَمْدَ عَلَى تَرْكِ الدُّنْيَا لِغَيْرِ عَمَلِ الْآخِرَةِ كَمَا لَا حَمْدَ لِطَلَبِهَا لِغَيْرِ عَمَلِ الْآخِرَةِ. فَثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا لَا حَمْدَ فِيهِ كَمَا لَا حَمْدَ عَلَى الرَّغْبَةِ فِيهَا وَإِنَّمَا الْحَمْدُ عَلَى إرَادَةِ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَالذَّمُّ عَلَى إرَادَةِ الدُّنْيَا الْمَانِعَةِ مِنْ إرَادَةِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} وَلِهَذَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِتَسْمِيَةِ هَذَا: الطَّالِبَ الْمُرِيدَ؛

ص: 146

فَإِنَّ أَوَّلَ الْخَيْرِ إرَادَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} " فَثَبَتَ أَنَّ الزُّهْدَ الْوَاجِبَ هُوَ تَرْكُ مَا يَنْفَعُ عَنْ الْوَاجِبِ مِنْ إرَادَةِ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَالزُّهْدَ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ مَا يَشْغَلُ عَنْ الْمُسْتَحَبِّ مِنْ أَعْمَالِ الْمُقَرَّبِينَ وَالصِّدِّيقِينَ. فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالزُّهْدِ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْلَا كَوْنُ الدُّنْيَا تَشْغَلُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ لَمْ يُشْرَعْ الزُّهْدُ فِيهَا بَلْ كَانَ يَكُونُ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ سَوَاءً أَوْ يُرَجَّحُ هَذَا أَوْ يُرَجَّحُ هَذَا تَرَجُّحًا دُنْيَوِيًّا. الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّ شَخْصَيْنِ أَحَدُهُمَا يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَيُرِيدُ الدُّنْيَا وَالْآخَرُ زَاهِدٌ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَكَانَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا مُؤْمِنًا مَحْمُودًا وَالثَّانِي كَافِرًا مَلْعُونًا مَعَ أَنَّ الثَّانِيَ زَاهِدٌ فِي الدُّنْيَا وَالْأَوَّلَ طَالِبٌ لَهَا لَكِنْ امْتَازَ الْأَوَّلُ بِفِعْلِ مَأْمُورٍ مَعَ ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ وَالثَّانِي لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ذَلِكَ الْمَأْمُورُ بِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ إرَادَةِ الْآخِرَةِ يَنْفَعُ وَالزُّهْدَ بِدُونِ فِعْلِ هَذَا الْمَأْمُورِ لَا يَنْفَعُ. الثَّالِثُ: الْمَحْمُودُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّمَا هُوَ إرَادَةُ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَالْمَذْمُومُ إنَّمَا هُوَ مَنْ تَرَكَ إرَادَةَ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَاشْتَغَلَ بِإِرَادَةِ الدُّنْيَا

ص: 147

عَنْهَا فَأَمَّا مُجَرَّدُ مَدْحِ تَرْكِ الدُّنْيَا فَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا تَنْظُرْ إلَى كَثْرَةِ ذَمِّ النَّاسِ الدُّنْيَا ذَمًّا غَيْرَ دِينِيٍّ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعَامَّةِ إنَّمَا يَذُمُّونَهَا لِعَدَمِ حُصُولِ أَغْرَاضِهِمْ مِنْهَا فَإِنَّهَا لَمْ تَصْفُ لِأَحَدِ قَطُّ وَلَوْ نَالَ مِنْهَا مَا عَسَاهُ أَنْ يَنَالَ وَمَا امْتَلَأَتْ دَارٌ حِبْرَةً إلَّا امْتَلَأَتْ عِبْرَةً فَالْعُقَلَاءُ يَذُمُّونَ الْجُهَّالَ الَّذِينَ يَرْكَنُونَ إلَيْهَا وَيَظُنُّونَ بَقَاءَ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ وَتَنَاوُلِ الشَّهَوَاتِ فِيهَا وَهُمْ مَعَ هَذَا يَحْتَاجُونَ إلَى مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ مِنْهَا وَأَكْثَرُهُمْ طَالِبٌ لِمَا يَذُمُّهُ مِنْهَا وَهَؤُلَاءِ حَقِيقَةُ ذَمِّهِمْ لَهَا ذَمٌّ دُنْيَوِيٌّ لِمَا فِيهَا مِنْ الضَّرَرِ الدُّنْيَوِيِّ كَمَا يَذُمُّ الْعُقَلَاءُ التِّجَارَةَ وَالصِّنَاعَةَ الَّتِي لَا رِبْحَ فِيهَا بَلْ فِيهَا تَعَبٌ وَكَمَا تَذُمُّ مُعَاشَرَةَ مَنْ يَضُرُّك وَلَا يَنْفَعُك فِي التَّزْوِيجِ بِسَيِّئَةِ الْخُلُقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَعُودُ مَضَرَّتُهَا وَمَنْفَعَتُهَا إلَّا إلَى الدُّنْيَا أَيْضًا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا فِيهِ ضَرَرٌ فِي الدُّنْيَا مَذْمُومٌ إذَا لَمْ يَكُنْ نَافِعًا فِي الْآخِرَةِ كَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَالْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ الَّتِي لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهَا وَلَا رَسُولُهُ وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي الدُّنْيَا مَذْمُومٌ إذَا كَانَ ضَارًّا فِي الْآخِرَةِ كَنَيْلِ اللَّذَّاتِ وَإِدْرَاكِ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَكَذَلِكَ اللَّذَّاتُ وَالشَّهَوَاتُ الْمُبَاحَاتُ إذَا حَصَلَ لِلْعَبْدِ بِهَا وَهَنًا وَتَأْخِيرًا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ وَطَلَبِهَا وَمَا كَانَ مُضِرًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهُوَ شَرٌّ وَشِدَّةٌ وَمَا كَانَ نَافِعًا فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مَحْمُودٌ وَإِنْ كَانَ ضَارًّا فِي الدُّنْيَا كَإِذْهَابِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ

ص: 148

فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ ضَارًّا فِي الدُّنْيَا مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَمَا كَانَ نَافِعًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهُوَ مَحْمُودٌ أَيْضًا فَالْأَقْسَامُ سَبْعَةٌ: فَمَا كَانَ نَافِعًا فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مَحْمُودٌ سَوَاءٌ ضَرَّ فِي الدُّنْيَا أَوْ نَفَعَ أَوْ لَمْ يَنْفَعْ وَلَمْ يَضُرَّ. وَمَا كَانَ ضَارًّا فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مَذْمُومٌ وَإِنْ كَانَ نَافِعًا فِي الدُّنْيَا أَوْ ضَارًّا أَوْ لَا نَافِعًا وَلَا ضَارًّا. وَبَقِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مَا كَانَ نَافِعًا فِي الدُّنْيَا غَيْرَ ضَارٍّ فِي الْآخِرَةِ وَضَارًّا فِي الدُّنْيَا غَيْرَ نَافِعٍ فِي الْآخِرَةِ وَالنَّافِعُ مَحْمُودٌ وَالضَّارُّ مَذْمُومٌ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ فِيهِ قَوْلَانِ: قِيلَ: لَا حَمْدَ فِيهِ وَلَا ذَمَّ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مَذْمُومٌ فَأَكْثَرُ ذَمِّ النَّاسِ لِلدُّنْيَا لَيْسَ مِنْ جِهَةِ شَغْلِهَا لَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الضَّرَرِ فِيهَا وَهِيَ مَذْمُومَةٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ. وَأَعْلَى وُجُوهِ الذَّمِّ هُوَ مَا شَغَلَ عَنْ الْآخِرَةِ وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُعَدِّدُ الْمَصَائِبَ وَيَنْسَى النِّعَمَ فَقَدْ يَذُمُّ أُمُورًا كَثِيرَةً لِمَضَرَّةٍ تَلْحَقُهُ وَيَكُونُ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ لَا يَذْكُرُهَا وَهَذَا الذَّمُّ مِنْ نَوْعِ الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ كَمَا

ص: 149

قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} {إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} {إلَّا الْمُصَلِّينَ} وَإِنَّمَا الذَّمُّ الْمُحَقَّقُ هُوَ مَا يَشْغَلُ عَنْ مَصْلَحَةِ الْآخِرَةِ مِنْ الْوَاجِبِ وَالنَّقْصُ هُوَ مَا يَشْغَلُ عَنْ مَصْلَحَتِهَا الْمُسْتَحَبَّةِ وَيُذَمُّ مَا تَرَجَّحَتْ مَضَرَّتُهُ عَلَى مَنْفَعَتِهِ فِيهَا فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ هِيَ فَصْلُ الْخِطَابِ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَحْمُودَ فِيهَا وُجُودِيٌّ أَوْ عَدَمِيٌّ. وَقَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي الزُّهْدِ مِنْ وُجُوهٍ كَمَا وَقَعَ فِي الْوَرَعِ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْمًا زَهِدُوا فِيمَا يَنْفَعُهُمْ بِلَا مَضَرَّةٍ فَوَقَعُوا بِهِ فِي تَرْكِ وَاجِبَاتٍ أَوْ مُسْتَحَبَّاتٍ كَمَنْ تَرَكَ النِّسَاءَ وَاللَّحْمَ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَدْ {قَالَ صلى الله عليه وسلم لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ؛ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي} ". وَالثَّانِي: أَنَّ زُهْدَ هَذَا أَوْقَعَهُ فِي فِعْلِ مَحْظُورَاتٍ كَمَنْ تَرَكَ تَنَاوُلَ مَا أُبِيحَ لَهُ مِنْ الْمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ وَاحْتَاجَ إلَى ذَلِكَ فَأَخَذَهُ مِنْ حَرَامٍ أَوْ سَأَلَ النَّاسَ الْمَسْأَلَةَ الْمُحَرَّمَةَ أَوْ اسْتَشْرَفَ إلَيْهِمْ وَالِاسْتِشْرَافُ مَكْرُوهٌ. وَالثَّالِثُ: مَنْ زَهِدَ زُهْدَ الْكَسَلِ وَالْبَطَالَةِ وَالرَّاحَةِ لَا لِطَلَبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ زَاهِدًا بَطَّالًا فَسَدَ أَعْظَمَ فَسَادٍ فَهَؤُلَاءِ لَا يُعَمِّرُونَ الدُّنْيَا وَلَا الْآخِرَةَ كَمَا قَالَ

ص: 150

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرَى الرَّجُلَ بَطَّالًا لَيْسَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَلَا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ. وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ؛ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ؛ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَهْلُ الْجَنَّةِ خَمْسَةٌ فَذَكَرَ مِنْهُمْ: الضَّعِيفَ الَّذِي لَا زُبُرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعٌ لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا} ". فَمَنْ تَرَكَ بِزُهْدِهِ حَسَنَاتٍ مَأْمُورٍ بِهَا كَانَ مَا تَرَكَهُ خَيْرًا مِنْ زُهْدِهِ أَوْ فَعَلَ سَيِّئَاتٍ مَنْهِيًّا عَنْهَا. أَوْ دَخَلَ فِي الْكَسَلِ وَالْبَطَالَاتِ فَهُوَ مِنْ {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} . وَمَنْ زَهِدَ فِيمَا يَشْغَلُهُ عَنْ الْوَاجِبَاتِ أَوْ يُوقِعُهُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ فَهُوَ مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَمَنْ زَهِدَ فِيمَا يَشْغَلُهُ عَنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَالدَّرَجَاتِ فَهُوَ مِنْ الْمُقَدِّمِينَ السَّابِقِينَ. فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُخْتَصَرَةٌ فِي الزُّهْدِ وَقَدْ تَبَيَّنَ الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ إنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُعِينُ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 151

وَاحْذَرْ أَنْ تَغْتَرَّ بِزُهْدِ الْكَافِرِينَ وَالْمُبْتَدِعِينَ؛ فَإِنَّ الْفَاسِقَ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَيُرِيدُ الدُّنْيَا خَيْرٌ مِنْ زُهَّادِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَزُهَّادِ الْكُفَّارِ إمَّا لِفَسَادِ عَقَدِهِمْ وَإِمَّا لِفَسَادِ قَصْدِهِمْ وَإِمَّا لِفَسَادِهِمَا جَمِيعًا.

الْوَجْهُ الثَّانِيَ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْحَسَنَاتِ سَبَبٌ لِلتَّحْلِيلِ دِينًا وَكَوْنًا وَالسَّيِّئَاتِ سَبَبٌ لِلتَّحْرِيمِ دِينًا وَكَوْنًا؛ فَإِنَّ‌

‌ التَّحْرِيمَ قَدْ يَكُونُ حَمِيَّةً؛ وَقَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً وَالْإِحْلَالَ قَدْ يَكُونُ سِعَةً؛ وَقَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً وَفِتْنَةً

قَالَ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فَأَبَاحَ بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ غَيْرَ مُحَلِّي الصَّيْدِ وَهُوَ اعْتِقَادُ تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَاجْتِنَابُهُ. وَقَالَ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلَى قَوْلِهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ بِإِيجَابِهِ لِمَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي آخِرُهَا الْحَجُّ وَتَحْرِيمِهِ لِلْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَذَا مِنْ جِهَةِ شَرْعِهِ وَمِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ تَقْوِيَتُهُ وَإِعَانَتُهُ وَنَصْرُهُ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِنَا وَحَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِجَّةَ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا أَكْمَلُوا الدِّينَ قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ:

ص: 152

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} إلَى قَوْلِهِ: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} فَكَانَ إحْلَالُهُ الطَّيِّبَاتِ يَوْمَ أَكْمَلَ الدِّينَ فَأَكْمَلَهُ تَحْرِيمًا وَتَحْلِيلًا لِمَا أَكْمَلُوهُ امْتِثَالًا. وَقَالَ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الْآيَةَ وَهِيَ بَيِّنَةٌ فِي الْإِصْلَاحِ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ مُوجِبَةٌ لِرَفْعِ الْحَرَجِ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَامِلَ الصَّالِحَاتِ الْمُحْسِنَ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلَا جُنَاحَ فِيمَا طَعِمَ فَإِنَّ فِيهِ عَوْنًا لَهُ وَقُوَّةً عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِحْسَانِ: وَمَنْ سِوَاهُمْ عَلَى الْحَرَجِ وَالْجُنَاحِ؛ لِأَنَّ النِّعَمَ إنَّمَا خَلَقَهَا اللَّهُ لِيُسْتَعَانَ بِهَا عَلَى الطَّاعَةِ وَالْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إبْرَاهِيمَ: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وَقَالَ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَقَالَ: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} . وَقَالَ. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} .

ص: 153

وَأَمَّا الطَّرَفُ الْآخَرُ فَقَالَ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} وَقَالَ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} إلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْإِحْلَالِ وَالْإِعْطَاءِ فِتْنَةً فَقَوْلُهُ: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} الْآيَاتِ {إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} . وَيَخْتَلِفُ التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ بِاعْتِبَارِ النِّيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا} وَقَالَ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ}

ص: 154

وَقَدْ كَتَبْت فِي قَاعِدَةِ " الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ " - الْقَاعِدَةِ فِي الْعُهُودِ الدِّينِيَّةِ فِي الْقَوَاعِدِ الْمُطْلَقَةِ وَالْقَاعِدَةِ فِي الْعُقُودِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ؛ وَفِي كِتَابِ النَّذْرِ أَيْضًا - أَنَّ مَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ إنْ نَذَرَهُ الْعَبْدُ أَوْ عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ أَوْ بَايَعَ عَلَيْهِ الرَّسُولَ أَوْ الْإِمَامَ أَوْ تَحَالَفَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ تَقْتَضِي لَهُ وُجُوبًا ثَانِيًا غَيْرَ الْوُجُوبِ الثَّابِتِ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَتَكُونُ وَاجِبَةً مِنْ وَجْهَيْنِ بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ تَارِكُهَا مِنْ الْعُقُوبَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ نَاقِضُ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ عَاصِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ. هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ. وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد: إنَّهُ إذَا نَذَرَ وَاجِبًا فَهُوَ بَعْدَ النَّذْرِ كَمَا كَانَ قَبْلَ النَّذْرِ بِخِلَافِ نَذْرِ الْمُسْتَحَبِّ فَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ النَّذْرُ إذَا كَانَ يُوجِبُ فِعْلَ الْمُسْتَحَبِّ فَإِيجَابُهُ لِفِعْلِ الْوَاجِبِ أَوْلَى وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ بَلْ هُمَا وجوبان مِنْ نَوْعَيْنِ لِكُلِّ نَوْعٍ حُكْمٌ غَيْرُ حُكْمِ الْآخَرِ مِثْلَ الْجَدَّةِ إذَا كَانَتْ أُمَّ أُمِّ أُمٍّ وَأُمَّ أب أَبٍ فَإِنَّ فِيهَا شَيْئَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا تَسْتَحِقُّ بِهِ السُّدُسَ.

وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد: إنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي هِيَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهَا أَوْ قَدْ تُفْسِدُهُ حَتَّى قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إذَا قَالَ: زَوَّجْتُك عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ إمْسَاكٍ بِمَعْرُوفِ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانِ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ الطَّلَاقَ. فَهَذَا

ص: 155

كَلَامٌ فَاسِدٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ الْعُقُودَ إنَّمَا وَجَبَتْ مُوجِبَاتُهَا لِإِيجَابِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَمُطْلَقُ الْعَقْدِ لَهُ مَعْنًى مَفْهُومٌ فَإِذَا أُطْلِقَ كَانَا قَدْ أَوْجَبَا مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ؛ فَإِنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ هُوَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ كَمُوجَبِ النَّذْرِ لَمْ يُوجِبْهُ الشَّارِعُ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا أَوْجَبَ الْوَفَاءَ بِالْعُقُودِ كَمَا أَوْجَبَ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ فَإِذَا كَانَ لَهُ مُوجَبٌ مَعْلُومٌ بِلَفْظِ مُطْلَقٍ أَوْ يَعْرِفُ الْمُتَعَاقِدَانِ إيجَابَهُ بِلَفْظِ خَاصٍّ: كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فَيَكُونُ قَدْ أَوْجَبَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ جَعَلَ لَهُ إيجَابًا خَاصًّا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ الْإِيجَابِ الْعَامِّ. وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا نَظَائِرُ مِثْلُ قَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وَقَوْلِهِ: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} فَإِنَّ اللَّهَ أَعْلَنَ عَهْدَهُ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ مَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقَ بِالْوَفَاءِ بِهِ فَاجْتَمَعَ فِيهِ الْوَجْهَانِ: العهدي؛ والميثاقي.

ص: 156

وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ عَلَى مَا وَجَبَ بِأَمْرِ اللَّهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا} إلَى آخِرِ الْكَلَامِ وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ} الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} فَإِنَّ قَوْلَهُ: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} بَعْدَ ذِكْرِهِ لِلْإِيمَانِ يَقْتَضِي أَنَّهُ الْوَفَاءُ بِمُوجَبِ الْعُقُودِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهَا كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْبَيْعِ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} فَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ هُوَ الْوَفَاءُ بِمُوجَبِ الْعُقُودِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ بِعَقْدِهِ فَقَطْ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} فَعَهْدُ اللَّهِ مَا عَهِدَهُ إلَيْهِمْ وَأَيْمَانُهُمْ مَا عَقَدُوهُ مِنْ الْأَيْمَانِ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا قِصَّةُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي مُحَاكَمَتِهِ مَعَ الْيَهُودِيِّ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ} وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَالَ كَانَ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ

ص: 157

بِمُوجَبِ عَهْدِهِ فَإِذَا حَلَفَ بَعْدَ هَذَا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ دُونَ مُسْتَحِقِّهِ فَقَدْ صَارَ عَاصِيًا مِنْ وَجْهَيْنِ نَظِيرَ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} وَضِدُّهُمْ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ: لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَأَمَرَ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ: إنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُحَمَّدًا إذَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِرِسَالَةِ عَامَّةٍ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَنُصْرَتُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُخِذَ عَلَيْهِ مِيثَاقٌ بِذَلِكَ وَقَدْ أُخِذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقُ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ بِأَمْرِ اللَّهِ بِلَا مِيثَاقٍ وقَوْله تَعَالَى {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} الْآيَاتِ فَهَذَا مِيثَاقٌ أَخَذَهُ اللَّهُ. . . (1).

(1)

بياض بالأصل

ص: 158

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

تَنَازُعُ النَّاسِ فِي الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ هَلْ يَكُونُ أَمْرًا بِلَوَازِمِهِ؟ وَهَلْ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ؟ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ فِعْلِ لَوَازِمِهِ وَتَرْكِ ضِدِّهِ. (*)

وَمَنْشَأُ النِّزَاعِ أَنَّ الْآمِرَ بِالْفِعْلِ قَدْ لَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ اللَّوَازِمَ وَلَا تَرْكَ الضِّدِّ؛ وَلِهَذَا إذَا عَاقَبَ الْمُكَلَّفَ لَا يُعَاقِبُهُ إلَّا عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ فَقَطْ لَا يُعَاقِبُهُ عَلَى تَرْكِ لَوَازِمِهِ وَفِعْلِ ضِدِّهِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمُلَقَّبَةُ: بِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

وَقَدْ غَلِطَ فِيهَا بَعْضُ النَّاسِ فَقَسَّمُوا ذَلِكَ: إلَى مَا لَا يَقْدِرُ الْمُكَلَّفُ عَلَيْهِ؛ كَالصِّحَّةِ فِي الْأَعْضَاءِ وَالْعَدَدِ فِي الْجُمُعَة؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِهِ. وَإِلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَقَطْعِ الْمَسَافَةِ فِي الْحَجِّ وَغَسْلِ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ وَإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ فِي الصِّيَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَقَالُوا: مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ إلَّا بِهِ وَكَانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 160):

وهنا أمور:

الأول: أن الذي يظهر من هذه الرسالة أنها ليست من صياغة الشيخ رحمه الله، بل قام بعضهم بتلخيصها من (درء التعارض) و (منهاج السنة)، وفي بعض المواضع منها تلخيض مخل.

الثاني: أن أكثر هذه الرسالة مأخوذ من مواضع من المجلدين الأول والثاني من (درء التعارض)، وآخر صفحة منه مأخوذة من موضعين من (منهاج السنة) كما سيأتي.

الثالت: قد حصل في هذه الرسالة بعض السقط والتصحيف، ويظهر هذا من مقابلة هذه الرسالة بأصولها المنقولة عنها كما يلي:

ثم نقل الشيخ - وفقه الله - نص الرسالة، فراجعها هناك من ص 160 إلى ص 169.

ص: 159

وَهَذَا التَّقْسِيمُ خَطَأٌ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي ذَكَرُوهَا هِيَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ فَلَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهَا وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ فِعْلُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ أَوْ لَا كَالِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ وَاكْتِسَابِ نِصَابِ الزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ مُسْتَطِيعًا لِلْحَجِّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَإِذَا كَانَ مَالِكًا لِنِصَابِ الزَّكَاةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَالْوُجُوبُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ اسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ وَلَا مِلْكُ النِّصَابِ؛ وَلِهَذَا مَنْ يَقُولُ: إنَّ الِاسْتِطَاعَةَ فِي الْحَجِّ مِلْكُ الْمَالِ - كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - فَلَا يُوجِبُونَ عَلَيْهِ الِاكْتِسَابَ وَلَمْ يَتَنَازَعُوا إلَّا فِيمَا إذَا بُذِلَتْ لَهُ الِاسْتِطَاعَةُ إمَّا بَذْلَ الْحَجِّ وَإِمَّا بَذْلَ الْمَالِ لَهُ مِنْ وَلَدِهِ. وَفِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد عَدَمُ الْوُجُوبِ وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ لِكَوْنِ الْأَبِ لَهُ عَلَى أَصْلِهِ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَالَ وَلَدِهِ فَيَكُونُ قَبُولُهُ كَتَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ الْوُجُوبُ بِبَذْلِ الِابْنِ بِالْفِعْلِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوُجُوبُ إلَّا بِهِ وَأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ كَقَطْعِ الْمَسَافَةِ فِي الْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَى الْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ مَنْ تَرَكَ الْحَجَّ وَهُوَ بَعِيدُ الدَّارِ عَنْ مَكَّةَ؛ أَوْ تَرَكَ

ص: 160

الْجُمُعَةَ وَهُوَ بَعِيدُ الدَّارِ عَنْ الْجَامِعِ؛ فَقَدْ تَرَكَ أَكْثَرَ مِمَّا تَرَكَ قَرِيبُ الدَّارِ وَمَعَ هَذَا فَلَا يُقَالُ: إنَّ عُقُوبَةَ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ قَرِيبِ الدَّارِ. وَالْوَاجِبُ: مَا يَكُونُ تَرْكُهُ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ فَلَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي لَزِمَهُ فِعْلُهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِ مَقْصُودًا بِالْوُجُوبِ لَكَانَ الذَّمُّ وَالْعِقَابُ لِتَارِكِهِ أَعْظَمَ فَيَكُونُ مَنْ تَرَكَ الْحَجَّ مِنْ أَهْلِ الْهِنْدِ وَالْأَنْدَلُسِ أَعْظَمَ عِقَابًا مِمَّنْ تَرَكَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَمَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ أَعْظَمَ عِقَابًا مِمَّنْ تَرَكَهَا مِنْ جِيرَانِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ ثَوَابَ الْبَعِيدِ أَعْظَمُ وَعِقَابَهُ إذَا تَرَكَ لَيْسَ أَعْظَمَ مِنْ عِقَابِ الْقَرِيبِ: نَشَأَتْ مِنْ هَهُنَا الشُّبْهَةُ: هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ لَيْسَ بِوَاجِبِ؟ وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ وُجُوبَهُ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ الْعَقْلِيِّ لَا بِطَرِيقِ قَصْدِ الْأَمْرِ؛ بَلْ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ قَدْ لَا يُقْصَدُ طَلَبُ لَوَازِمِهِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا؛ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تَجُوزُ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ فَقَدْ لَا تَخْطُرُ بِقَلْبِهِ اللَّوَازِمُ. وَمَنْ فَهِمَ هَذَا انْحَلَّتْ عَنْهُ شُبَهُ الْكَعْبِيِّ: هَلْ فِي الشَّرِيعَةِ مُبَاحٌ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ الْكَعْبِيَّ زَعَمَ أَنَّهُ لَا مُبَاحَ فِي الشَّرِيعَةِ. . . إلَخْ، فَلَا تَجِدُ قَطُّ مُبْتَدِعًا إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ كِتْمَانَ النُّصُوصِ الَّتِي تُخَالِفُهُ وَيُبْغِضُهَا وَيُبْغِضُ إظْهَارَهَا وَرِوَايَتَهَا وَالتَّحَدُّثَ بِهَا وَيُبْغِضُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ:

ص: 161

مَا ابْتَدَعَ أَحَدٌ بِدْعَةً إلَّا نُزِعَتْ حَلَاوَةُ الْحَدِيثِ مِنْ قَلْبِهِ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ الَّذِي يُعَارِضُ بِهِ النُّصُوصَ لَا بُدَّ أَنْ يُلْبِسَ فِيهِ حَقًّا بِبَاطِلِ بِحَسَبِ مَا يَقُولُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الْمُتَشَابِهَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي أَوَّلِ مَا كَتَبَهُ فِي " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ " مِمَّا كَتَبَهُ فِي حَبْسِهِ - وَقَدْ ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى؛ وَأَبُو الْفَضْلِ التَّمِيمِيُّ؛ وَأَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ؛ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَلَمْ يَنْفِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ: - يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ. فَإِنْ كَانُوا فِي مَقَامِ دَعْوَةِ النَّاسِ إلَى قَوْلِهِمْ وَالْتِزَامِهِمْ بِهِ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُجِيبَ دَاعِيًا إلَّا إلَى مَا دَعَا إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الرَّسُولَ دَعَا الْخَلْقَ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَلَى النَّاسِ إجَابَةُ مَنْ دَعَا إلَيْهِ وَلَا لَهُ دَعْوَةُ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى حَقٌّ؛ وَهَذِهِ الطَّرِيقُ تَكُونُ أَصْلَحَ إذَا لَبَّسَ مُلَبِّسٌ مِنْهُمْ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ وَأَدْخَلُوهُ فِي بِدَعِهِمْ. كَمَا فَعَلَتْ الْجَهْمِيَّة بِمَنْ لَبَّسُوا عَلَيْهِ مِنْ الْخُلَفَاءِ حَتَّى أَدْخَلُوهُ فِي بِدَعِهِمْ مِنْ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ مُنَاظَرَتِهِمْ أَنْ يُقَالَ: ائْتُونَا بِكِتَابِ أَوْ سُنَّةٍ حَتَّى نُجِيبَكُمْ إلَى ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَسْنَا نُجِيبُكُمْ إلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

ص: 162

وَهَذَا لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ النِّزَاعَ إلَّا كِتَابٌ مُنَزَّلٌ مِنْ السَّمَاءِ وَإِذَا رَدُّوا إلَى عُقُولِهِمْ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَقْلٌ. وَمِنْ هُنَا يُعْرَفُ ضَلَالُ مَنْ ابْتَدَعَ طَرِيقًا أَوْ اعْتِقَادًا زَعَمَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَذْكُرْهُ وَمَا خَالَفَ النُّصُوصَ فَهُوَ بِدْعَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ خَالَفَهَا فَقَدْ لَا يُسَمَّى بِدْعَةً قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْبِدْعَةُ بِدْعَتَانِ: بِدْعَةٌ خَالَفَتْ كِتَابًا وَسُنَّةً وَإِجْمَاعًا وَأَثَرًا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَذِهِ بِدْعَةُ ضَلَالَةٍ. وَبِدْعَةٌ لَمْ تُخَالِفْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ قَدْ تَكُونُ حَسَنَةً لِقَوْلِ عُمَرَ: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ هَذَا الْكَلَامُ أَوْ نَحْوُهُ رَوَاهُ البيهقي بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ فِي الْمَدْخَلِ وَيُرْوَى عَنْ مَالِكٍ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَلَّ الْعِلْمُ ظَهَرَ الْجَفَا وَإِذَا قَلَّتْ الْآثَارُ كَثُرَتْ الْأَهْوَاءُ. وَلِهَذَا تَجِدُ قَوْمًا كَثِيرِينَ يُحِبُّونَ قَوْمًا وَيُبْغِضُونَ قَوْمًا لِأَجْلِ أَهْوَاءٍ لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهَا وَلَا دَلِيلَهَا بَلْ يُوَالُونَ عَلَى إطْلَاقِهَا أَوْ يُعَادُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مَنْقُولَةً نَقْلًا صَحِيحًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا هُمْ يَعْقِلُونَ مَعْنَاهَا وَلَا يَعْرِفُونَ لَازِمَهَا وَمُقْتَضَاهَا. وَسَبَبُ هَذَا إطْلَاقُ أَقْوَالٍ لَيْسَتْ مَنْصُوصَةً وَجَعْلُهَا مَذَاهِبَ يُدْعَى

ص: 163

إلَيْهَا وَيُوَالِي وَيُعَادِي عَلَيْهَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: {إنَّ أَصْدَقَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ إلَخْ. .} فَدِينُ الْمُسْلِمِينَ مَبْنِيٌّ عَلَى اتِّبَاعِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُصُولٌ مَعْصُومَةٌ وَمَا تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ رَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُنَصِّبَ لِلْأُمَّةِ شَخْصًا يَدْعُو إلَى طَرِيقَتِهِ وَيُوَالِي وَيُعَادِي عَلَيْهَا غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يُنَصِّبَ لَهُمْ كَلَامًا يُوَالِي عَلَيْهِ وَيُعَادِي غَيْرَ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ بَلْ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ لَهُمْ شَخْصًا أَوْ كَلَامًا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ يُوَالُونَ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ أَوْ تِلْكَ النِّسْبَةِ وَيُعَادُونَ. وَالْخَوَارِجُ إنَّمَا تَأَوَّلُوا آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى مَا اعْتَقَدُوهُ وَجَعَلُوا مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ كَافِرًا؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ خَالَفَ الْقُرْآنَ فَمَنْ ابْتَدَعَ أَقْوَالًا لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الْقُرْآنِ وَجَعَلَ مَنْ خَالَفَهَا كَافِرًا كَانَ قَوْلُهُ شَرًّا مِنْ قَوْلِ الْخَوَارِجِ. وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَعْلُومَةَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عَمَّا يُعَارِضُهَا جَوَابًا قَاطِعًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ؛ بِخِلَافِ مَا يَسْلُكُهُ مَنْ يَسْلُكُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَكُلُّ مَنْ لَمْ يُنَاظِرْ أَهْلَ الْإِلْحَادِ وَالْبِدَعِ

ص: 164

مُنَاظَرَةً تَقْطَعُ دَابِرَهُمْ لَمْ يَكُنْ أَعْطَى الْإِسْلَامَ حَقَّهُ وَلَا وَفَى بِمُوجِبِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَلَا حَصَلَ بِكَلَامِهِ شِفَاءُ الصُّدُورِ وَطُمَأْنِينَةُ النُّفُوسِ وَلَا أَفَادَ كَلَامُهُ الْعِلْمَ وَالْيَقِينَ. وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ بِالرَّسُولِ وَالْجِهَادَ مَعَهُ وَمِنْ الْإِيمَانِ بِهِ تَصْدِيقُهُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَمِنْ الْجِهَادِ مَعَهُ دَفْعُ كُلِّ مَنْ عَارَضَ مَا جَاءَ بِهِ وَأَلْحَدَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ دَائِرَةٍ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ أَوْ تَفْصِيلٍ لَكِنْ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِآثَارِ السَّلَفِ وَحَقَائِقِ أَقْوَالِهِمْ وَحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ وَحَقِيقَةِ الْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُنَاقِضَ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَقُولَ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِ؛ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ‌

‌ الْخَطَأَ فِي دَقِيقِ الْعِلْمِ مَغْفُورٌ لِلْأُمَّةِ

وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَهَلَكَ أَكْثَرُ فُضَلَاءِ الْأُمَّةِ. وَإِذَا كَانَ اللَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ جَهِلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لِكَوْنِهِ نَشَأَ بِأَرْضِ جَهْلٍ؛ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَطْلُبْ الْعِلْمَ فَالْفَاضِلُ الْمُجْتَهِدُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ بِحَسَبِ مَا أَدْرَكَهُ فِي زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ مُتَابَعَةَ الرَّسُولِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ هُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يَتَقَبَّلَ اللَّهُ حَسَنَاتِهِ وَيُثِيبَهُ عَلَى اجْتِهَادَاتِهِ وَلَا يُؤَاخِذَهُ بِمَا أَخْطَأَ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ:

ص: 165

{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} . وَأَهْلُ السُّنَّةِ جَزَمُوا بِالنَّجَاةِ لِكُلِّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ تَعَالَى؛ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ وَإِنَّمَا تَوَقَّفُوا فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ؛ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِدُخُولِهِ فِي الْمُتَّقِينَ. وَحَالُ سَائِرِ أَهْلِ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ إذَا خَفِيَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ كَمَنْ قَالَ: مِنْ الْخَوَارِجِ: لَا يُصَلِّي فِي السَّفَرِ إلَّا أَرْبَعًا. وَمَنْ قَالَ إنَّ الْأَرْبَعَ أَفْضَلُ. وَمَنْ قَالَ: لَا نَحْكُمُ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ. وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ حَقٌّ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِعَامِّ مَخْصُوصٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ عُمُومٌ لَفْظِيٌّ وَإِنَّمَا هُوَ مُطْلَقٌ كَقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي الْأَعْيَانِ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ وَقَوْلِهِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} عَامٌّ فِي الْأَوْلَادِ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ. وَلَفْظُ الظَّاهِرِ يُرَادُ بِهِ مَا يَظْهَرُ لِلْإِنْسَانِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ. فَالْأَوَّلُ يَكُونُ بِحَسَبِ مَفْهُومِ النَّاسِ وَفِي الْقُرْآنِ مِمَّا يُخَالِفُ الْفَهْمَ الْفَاسِدَ شَيْءٌ كَثِيرٌ.

ص: 166

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

‌فَصْلٌ:

فِي تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ،

وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِنْ وُجُودِ مُقَدَّرٍ وَاحِدٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ وَوُجُودِ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مِنْ فَاعِلَيْنِ فَنَقُولُ: النِّزَاعُ وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا فِي ذَلِكَ فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ يُجَوِّزُ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين يَمْنَعُ ذَلِكَ.

فَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ يَعُودُ إلَى نِزَاعٍ تَنَوُّعِيٍّ؛ وَنِزَاعٍ فِي الْعِبَارَةِ؛ وَلَيْسَ بِنِزَاعِ تَنَاقُضٍ وَنَظِيرُ ذَلِكَ النِّزَاعُ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ؛ فَإِنَّ هَذَا فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ حَتَّى يَذْكُرَ ذَلِكَ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد.

وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ مُسَمَّى الْعِلَّةِ قَدْ يَعْنِي بِهِ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ وَهِيَ: التَّامَّةُ الَّتِي يَمْتَنِعُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا فَهَذِهِ لَا يُتَصَوَّرُ تَخْصِيصُهَا وَمَتَى انْتَقَضَتْ فَسَدَتْ وَيَدْخُلُ فِيهَا مَا يُسَمَّى جُزْءَ الْعِلَّةِ؛ وَشَرْطَ الْحُكْمِ؛

ص: 167

وَعَدَمَ الْمَانِعِ فَسَائِرُ مَا يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ يَدْخُلُ فِيهَا. وَقَدْ يَعْنِي بِالْعِلَّةِ: مَا كَانَ مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ يَعْنِي: أَنَّ فِيهِ مَعْنًى يَقْتَضِي الْحُكْمَ وَيَطْلُبُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا فَيَمْتَنِعُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهُ فَهَذِهِ قَدْ يَقِفُ حُكْمُهَا عَلَى ثُبُوتِ شُرُوطٍ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ فَإِذَا تَخَصَّصَتْ فَكَانَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا لِفِقْدَانِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ لَمْ يَقْدَحْ فِيهَا وَعَلَى هَذَا فَيَنْجَبِرُ النَّقْصُ بِالْفَرْقِ. وَإِنْ كَانَ التَّخَلُّفُ عَنْهَا لَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ وَلَا وُجُودِ مَانِعٍ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعِلَّةِ؛ إذْ هِيَ بِهَذَا التَّقْدِيرِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ إذَا قُدِّرَ أَنَّهَا جَمِيعُهَا بِشُرُوطِهَا وَعَدَمِ مَوَانِعِهَا مَوْجُودَةٌ حُكْمًا وَالْعِلَّةُ التَّامَّةُ يَمْتَنِعُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا فَتَخَلُّفُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ عِلَّةً تَامَّةً وَالْمَقْصُودُ مِنْ التَّنْظِيرِ: أَنَّ سُؤَالَ النَّقْضِ الْوَارِدِ عَلَى الْعِلَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْوَصْفِ بِدُونِ الْحُكْمِ. وَسُؤَالُ عَدَمِ التَّأْثِيرِ عَكْسُهُ وَهُوَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِدُونِ الْوَصْفِ وَهُوَ يُنَافِي عَكْسَ الْعِلَّةِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ يُنَافِي طَرْدَهَا. وَالْعَكْسُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ. وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانُوا لَا يَشْتَرِطُونَ الِانْعِكَاسَ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُجَوِّزُونَ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ؛ فَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُونَ: الْعِلَّةُ تَفْسُدُ بِعَدَمِ التَّأْثِيرِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَيْسَ عِلَّةً؛ إذَا لَمْ يُخْلِفْ هَذَا

ص: 168

الْوَصْفُ وَصْفًا آخَرَ يَكُونُ عِلَّةً لَهُ فَهُمْ يُورِدُونَ هَذَا السُّؤَالَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَيْسَتْ الْعِلَّةُ فِيهِ إلَّا عِلَّةً وَاحِدَةً إمَّا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ؛ وَإِمَّا لِتَسْلِيمِ الْمُسْتَدِلِّ لِذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ‌

‌ النِّزَاعَ فِي تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ

يَرْجِعُ إلَى نِزَاعِ تَنَوُّعٍ وَنِزَاعٍ فِي الْعِبَارَةِ لَا إلَى نِزَاعِ تَنَاقُضٍ مَعْنَوِيٍّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ الْوَاحِدَ بِالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ تَعْلِيلِهِ بِعِلَّتَيْنِ يَعْنِي أَنَّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ أَوْ أَفْرَادِهِ يَثْبُتُ بِعِلَّةِ؛ وَبَعْضَ أَنْوَاعِهِ أَوْ أَفْرَادِهِ يَثْبُتُ بِعِلَّةِ أُخْرَى كَالْإِرْثِ الَّذِي يَثْبُتُ بِالرَّحِمِ وَبِالنِّكَاحِ وَبِالْوَلَاءِ وَالْمِلْكِ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِرْثِ وَحِلِّ الدَّمِ الَّذِي يَثْبُتُ بِالرِّدَّةِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَنَوَاقِضِ الْوُضُوءِ وَمُوجِبَاتِ الْغُسْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا التَّنَازُعُ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ الْوَاحِدِ بِالشَّخْصِ؛ مِثْلَ مَنْ لَمَسَ النِّسَاءَ وَمَسَّ ذَكَرَهُ وَبَالَ: هَلْ يُقَالُ: انْتِقَاضُ وُضُوئِهِ ثَبَتَ بِعِلَلِ مُتَعَدِّدَةٍ؟ فَيَكُونُ الْحُكْمُ الْوَاحِدُ مُعَلَّلًا بِعِلَّتَيْنِ. وَمِثْلُ مَنْ قَتَلَ وَارْتَدَّ وَزَنَى؛ وَمِثْلُ الرَّبِيبَةِ إذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً بِالرَّضَاعِ كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي دُرَّةِ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ أُمُّ حَبِيبَةَ: إنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّك نَاكِحٌ دُرَّةَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ: بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ فَقَالَ: إنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي لَمَا حَلَّتْ لِي؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ. أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثويبة مَوْلَاةُ أَبِي لَهَبٍ} وَكَمَا قَالَ أَحْمَد

ص: 169

فِي بَعْضِ مَا يَذْكُرُهُ: هَذَا كَلَحْمِ خِنْزِيرٍ مَيِّتٍ حَرَامٍ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَنَقُولُ: لَا نِزَاعَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّةٌ بِالْحُكْمِ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ اجْتَمَعَ لِهَذَا الْحُكْمِ عِلَّتَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلَّةٌ بِهِ إذَا انْفَرَدَتْ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: يَجُوزُ تَعْلِيلُهُ بِعِلَّتَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ بِلَا نِزَاعٍ. وَلَا يَتَنَازَعُ الْعُقَلَاءُ أَنَّ الْعِلَّتَيْنِ إذَا اجْتَمَعَتَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْحُكْمَ الْوَاحِدَ ثَبَتَ بِكُلِّ مِنْهُمَا حَالَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ؛ فَإِنَّ اسْتِقْلَالَ الْعِلَّةِ بِالْحُكْمِ هُوَ ثُبُوتُهُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا. فَإِذَا قِيلَ: ثَبَتَ بِهَذِهِ دُونَ غَيْرِهَا؛ وَثَبَتَ بِهَذِهِ دُونَ غَيْرِهَا: كَانَ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَكَانَ التَّقْدِيرُ: ثَبَتَ بِهَذِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ بِهَا؛ وَثَبَتَ بِهَذِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ بِهَا فَكَانَ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ إثْبَاتِ التَّعْلِيلِ بِكُلِّ مِنْهُمَا وَبَيْنَ نَفْيِ التَّعْلِيلِ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَهَذَا مَعْنَى مَا يُقَالُ: إنَّ تَعْلِيلَهُ بِكُلِّ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ يَنْفِي ثُبُوتَهُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَمَا أَفْضَى إثْبَاتُهُ إلَى نَفْيِهِ كَانَ بَاطِلًا. وَهُنَا يَتَقَابَلُ الْنُّفَاةِ وَالْمُثْبِتَةُ؛ وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ؛ فَتَقُولُ الْنُّفَاةِ: إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ يُنَافِي إثْبَاتَهُ بِالْأُخْرَى عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ. وَتَقُولُ الْمُثْبِتَةُ: نَحْنُ لَا نَعْنِي بِالِاسْتِقْلَالِ: الِاسْتِقْلَالَ فِي حَالِ

ص: 170

الِاجْتِمَاعِ وَإِنَّمَا نَعْنِي: أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ بِكُلِّ مِنْهُمَا؛ وَهِيَ مُسْتَقِلَّةٌ بِهِ إذَا انْفَرَدَتْ. فَهَؤُلَاءِ لَمْ يُنَازِعُوا الْأَوَّلِينَ فِي أَنَّهُمَا حَالَ الِاجْتِمَاعِ لَمْ تَسْتَقِلَّ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا بِهِ وَأُولَئِكَ لَمْ يُنَازِعُوا هَؤُلَاءِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّةٌ حَالَ انْفِرَادِهَا. فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي الْعِلَّتَيْنِ المجتمعتين. وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّابِتُ حِينَ اجْتِمَاعِهِمَا فَقَدْ يَكُونُ مُخْتَلِفًا كَحِلِّ الْقَتْلِ الثَّابِتِ بِالرِّدَّةِ وَبِالزِّنَا وَبِالْقِصَاصِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ مُتَمَاثِلَةٍ لَا يَسُدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَسَدَّ الْآخَرِ وَقَدْ تَكُونُ الْأَحْكَامُ مُتَمَاثِلَةً كَانْتِقَاضِ الْوُضُوءِ فَاَلَّذِينَ يَمْنَعُونَ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ يَقُولُونَ: الثَّابِتُ بِالْعِلَلِ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَا حُكْمٌ وَاحِدٌ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ سَلِمَ لَهُمْ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُ إذَا نَوَى التَّوَضُّؤَ أَوْ الِاغْتِسَالَ مِنْ حَدَثٍ بَعْضُ الْأَسْبَابِ لَمْ يَرْتَفِعْ الْحَدَثُ الْآخَرُ. وَالْخِلَافُ مَعْرُوفٌ فِي اجْتِمَاعِ ذَلِكَ فِي الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ وَهُوَ يَنْزِعُ إلَى اجْتِمَاعِ الْأَمْثَالِ فِي الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ؛ وَأَنَّ الْأَمْثَالَ هَلْ هِيَ مُتَضَادَّةٌ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ. وَمَنْ يَقُولُ بِتَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ لَا يُنَازِعُ فِي أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ

ص: 171

عِلَّتَانِ كَانَ الْحُكْمُ أَقْوَى وَأَوْكَدَ مِمَّا إذَا انْفَرَدَتْ إحْدَاهُمَا؛ وَلِهَذَا إذَا جَاءَ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ أَوْ الْأَئِمَّةِ كَانَ ذَلِكَ مَذْكُورًا لِبَيَانِ تَوْكِيدِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَقُوَّتِهِ كَقَوْلِ أَحْمَد فِي بَعْضِ مَا يَغْلُظُ تَحْرِيمُهُ: هَذَا كَلَحْمِ خِنْزِيرٍ مَيِّتٍ فَإِنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِتَغْلِيظِ التَّحْرِيمِ وَتَقْوِيَتِهِ وَهَذَا أَيْضًا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمَ وَالْإِبَاحَةَ هَلْ يَتَفَاوَتُ فِي نَفْسِهِ؟ فَيَكُونُ إيجَابٌ أَعْظَمَ مِنْ إيجَابٍ؛ وَتَحْرِيمٌ أَعْظَمَ مِنْ تَحْرِيمٍ؟ وَهَذَا فِيهِ أَيْضًا نِزَاعٌ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: تَجْوِيزُ تَفَاوُتِ ذَلِكَ وَمَنَعَ مِنْهُ طَائِفَة مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمْ. وَكَذَلِكَ النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ عَقْلٌ أَكْمَلَ مِنْ عَقْلٍ؟ وَهُوَ يُشْبِهُ النِّزَاعَ فِي أَنَّ التَّصْدِيقَ وَالْمَعْرِفَةَ الَّتِي فِي الْقَلْبِ هَلْ تَتَفَاوَتُ؟ وَقَدْ ذُكِرَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ الْمُخَالِفُونَ لِلْمُرْجِئَةِ: أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَتَفَاوَتُ وَيَتَفَاضَلُ وَكَذَلِكَ سَائِرُ صِفَاتِ الْحَيِّ مِنْ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ؛ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ؛ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ؛ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَاللَّمْسِ وَالشِّبَعِ وَالرِّيِّ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَالنِّزَاعُ فِي هَذَا كَالنِّزَاعِ فِي جَوَازِ اجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ مِثْلَ سوادين وَحَلَاوَتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَحَدُ السوادين أَقْوَى وَإِحْدَى الْحَلَاوَتَيْنِ أَقْوَى لَكِنْ هَلْ يُقَالُ: إنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْمَحَلِّ سوادان وَحَلَاوَتَانِ؟ أَوْ هُوَ سَوَادٌ وَاحِدٌ قَوِيٌّ؟ وَهَذَا أَيْضًا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ.

ص: 172

فَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْمَحَلِّ حُكْمَانِ كَإِيجَابَيْنِ وَتَحْرِيمَيْنِ وَإِبَاحَتَيْنِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: اجْتَمَعَ سوادان وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: هُوَ حُكْمٌ وَاحِدٌ مُؤَكَّدٌ كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: سَوَادٌ وَاحِدٌ قَوِيٌّ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَقْصُودُهُمَا وَاحِدٌ فَإِنَّ التَّوْكِيدَ لَا يُنَافِي تَعَدُّدَ الْأَمْثَالِ إذْ التَّوْكِيدُ قَدْ يَكُونُ بِتَكْرِيرِ الْأَمْثَالِ {كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا} وَقَوْلُ الْقَائِلِ: ثُمَّ ثُمَّ. وَجَاءَ زَيْدٌ جَاءَ زَيْدٌ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ بِثُبُوتِ أَحْكَامٍ وَالْقَوْلُ بِثُبُوتِ حُكْمٍ قَوِيٍّ مُؤَكَّدٍ هُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ سَوَاءٌ قَالَ الْقَائِلُ: ثَبَتَ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ أَوْ حُكْمٌ قَوِيٌّ مُؤَكَّدٌ فَذَلِكَ الْمَجْمُوعُ لَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِمَجْمُوعِ الْعِلَّتَيْنِ لَمْ تَسْتَقِلَّ بِهِ إحْدَاهُمَا وَلَا تَسْتَقِلُّ بِهِ إحْدَاهُمَا لَا فِي حَالِ الِاجْتِمَاعِ وَلَا فِي حَالِ الِانْفِرَادِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءٌ مِنْ الْعِلَّةِ الَّتِي لِهَذَا الْمَجْمُوعِ لَا عِلَّةٌ لَهُ كَمَا أَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّةٌ بِأَصْلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ حَالَ انْفِرَادِهَا وَلَكِنَّ لَفْظَ الْوَاحِدِ فِيهِ إجْمَالٌ كَمَا أَنَّ فِي لَفْظِ الِاسْتِقْلَالِ إجْمَالًا فَكَمَا أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ اسْتِقْلَالَ الْعِلَّةِ حَالَ الِانْفِرَادِ لَا يُعَارِضُ مَنْ نَفَى اسْتِقْلَالَهَا حَالَ الِاجْتِمَاعِ فَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ إذَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَسْتَقِلُّ بِهِ حَالَ الِانْفِرَادِ فَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ.

ص: 173

وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمَجْمُوعَ الْوَاحِدَ الْحَاصِلَ بِمَجْمُوعِهِمَا لَا يَحْصُلُ بِأَحَدِهِمَا فَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ. وَمَنْ جَعَلَ هَذَا الْمَجْمُوعَ أَحْكَامًا مُتَعَدِّدَةً لَمْ يُعَارِضْ قَوْلَ مَنْ جَعَلَهُ وَاحِدًا إذَا عَنَى بِهِ وِحْدَةَ النَّوْعِ فِي الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنَّ الْحُكْمَ الْوَاحِدَ بِالنَّوْعِ تَارَةً يَكُونُ شَخْصَانِ مِنْهُ فِي مَحَلَّيْنِ فَهَذَا ظَاهِرٌ. وَتَارَةً يَجْتَمِعُ مِنْهُ شَخْصَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَهُمَا نَوْعَانِ بِاعْتِبَارِ أَنْفُسِهِمَا وَهُمَا شَخْصٌ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِمَا. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْحُكْمَ الْحَاصِلَ بِالْعِلَّتَيْنِ حُكْمٌ وَاحِدٌ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ نَوْعًا وَاحِدًا فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ صَدَقَ وَمَنْ أَرَادَ بِهِ شَخْصَيْنِ مِنْ نَوْعٍ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ صَدَقَ.

فَصْلٌ:

وَقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْعِلَّتَيْنِ لَا تَكُونَانِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ بِحُكْمِ وَاحِدٍ حَالَ الِاجْتِمَاعِ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ الْبَدِيهِيَّةِ بَعْدَ التَّصَوُّرِ؛ فَإِنَّ الِاسْتِقْلَالَ يُنَافِي الِاشْتِرَاكَ؛ إذْ الْمُسْتَقِلُّ لَا شَرِيكَ لَهُ فَالْمُجْتَمِعَانِ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُسْتَقِلًّا بِهِ. وَأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِعِلَّتَيْنِ - سَوَاءٌ قِيلَ: هُوَ أَحْكَامٌ؛ أَوْ حُكْمٌ وَاحِدٌ مُؤَكَّدٌ - لَا تَسْتَقِلُّ بِهِ إحْدَاهُمَا بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءٌ مِنْ عِلَّتِهِ؛ لَا عِلَّةٌ لَهُ.

ص: 174

وَهَكَذَا يُقَالُ فِي اجْتِمَاعِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمَدْلُولِ الْوَاحِدِ: أَنَّهَا تُوجِبُ عِلْمًا مُؤَكَّدًا؛ أَوْ عُلُومًا مُتَمَاثِلَةً. وَمِنْ هُنَا يَحْصُلُ بِهَا مِنْ الْإِيضَاحِ وَالْقُوَّةِ مَا لَا يَحْصُلُ بِالْوَاحِدِ وَهَذَا دَاخِلٌ فِي الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ وَهُوَ: أَنَّ الْمُؤَثِّرَ الْوَاحِدَ - سَوَاءٌ كَانَ فَاعِلًا بِإِرَادَةِ وَاخْتِيَارٍ أَوْ بِطَبْعِ؛ أَوْ كَانَ دَاعِيًا إلَى الْفِعْلِ وَبَاعِثًا عَلَيْهِ - مَتَى كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي فِعْلِهِ وَتَأْثِيرِهِ كَانَ مُعَاوِنًا وَمُظَاهِرًا لَهُ وَمَنْعُهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِالْحُكْمِ مُنْفَرِدًا بِهِ وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ حَاجَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ وَعَدَمُ اسْتِغْنَائِهِ بِنَفْسِهِ فِي فِعْلِهِ وَأَنَّ الِاشْتِرَاكَ مُوجِبٌ لِلِافْتِقَارِ مُزِيلٌ لِلْغِنَى؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي الْفِعْلِ مُتَعَاوِنَانِ عَلَيْهِ وَأَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ - إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالِاشْتِرَاكِ وَالِانْفِرَادِ - أَنْ يَفْعَلَ وَحْدَهُ مَا فَعَلَهُ هُوَ وَالْآخَرُ فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ شَيْئًا حَالَ الِانْفِرَادِ - وَقُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ؛ وَأَنَّهُ اجْتَمَعَ بِنَظِيرِهِ - امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُهُمَا حَالَ الِاشْتِرَاكِ هُوَ مِثْلُ مَفْعُولِ كُلٍّ مِنْهُمَا حَالَ الِانْفِرَادِ؛ فَإِنَّ الْمَفْعُولَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ إلَّا مِنْ الْفَاعِلِ؛ وَالْفَاعِلُ حَالَ انْفِرَادِهِ لَهُ مَفْعُولٌ؛ فَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَ مَفْعُولُهُمَا جَمِيعًا أَكْثَرَ أَوْ أَكْبَرَ مِنْ مَفْعُولِ أَحَدِهِمَا وَإِلَّا كَانَ الزَّائِدُ كَالنَّاقِصِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَغَيَّرَ الْفَاعِلُ كَالْإِنْسَانِ الَّذِي يَرْفَعُ هُوَ وَآخَرُ خَشَبَةً أَوْ يَصْنَعُ طَعَامًا ثُمَّ هُوَ وَحْدَهُ مِثْلُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِتَغْيِيرِ مِنْهُ فِي إرَادَتِهِ وَحَرَكَتِهِ وَآلَاتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِلَّا فَإِذَا اسْتَوَى حَالَاهُ امْتَنَعَ تَسَاوِي الْمَفْعُولَيْنِ حَالَ الِانْفِرَادِ وَالِاشْتِرَاكِ.

ص: 175

وَفِي الْجُمْلَةِ فَكُلٌّ مِنْ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي مَفْعُولٍ فَأَحَدُهُمَا مُفْتَقِرٌ إلَى الْآخَرِ فِي وُجُودِ ذَلِكَ الْمَفْعُولِ؛ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فِيهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُونَا مُشْتَرِكَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِالْفِعْلِ مُنْفَرِدًا بِهِ؛ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِهِ مُنْفَرِدًا بِهِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ شَرِيكٌ أَوْ مُعَاوِنٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا مُنْفَرِدًا بِهِ لَمْ يَكُنْ الْمَفْعُولَ بِهِ وَحْدَهُ بَلْ بِهِ وَبِالْآخَرِ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ وَحْدَهُ كَافِيًا فِي وُجُودِ ذَلِكَ الْمَفْعُولِ بَلْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى الْآخَرِ فِي وُجُودِ ذَلِكَ الْمَفْعُولِ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِيهِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ رَبَّ ذَلِكَ الْمَفْعُولِ وَلَا مَالِكَهُ وَلَا خَالِقَهُ بَلْ هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ. وَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا عَنْ الشَّرِيكِ فِي ذَلِكَ الْمَفْعُولِ بَلْ كَانَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِيهِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فِيهِ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَجْزَهُ وَعَدَمَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ حَالَ الِانْفِرَادِ أَيْضًا كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَرِدُ بِمَا شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ تَغَيُّرًا يُوجِبُ تَمَامَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا شَارَكَهُ فِيهِ الْغَيْرُ وَذَلِكَ أَنَّ الْفَاعِلَ إذَا كَانَ حَالَ الِانْفِرَادِ قَادِرًا تَامَّ الْقُدْرَةِ؛ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ مُرِيدٌ لِلْمَفْعُولِ إرَادَةً جَازِمَةً؛ إذْ لَوْ لَمْ يُرِدْهُ إرَادَةً جَازِمَةً لَمَا وُجِدَ حَالَ الِانْفِرَادِ وَلَا حَالَ الِاجْتِمَاعِ وَالِاشْتِرَاكِ: إذْ الْإِرَادَةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِجَازِمَةٍ لَا يُوجَدُ مُرَادُهَا الَّذِي يَفْعَلُهُ

ص: 176

الْمُرِيدُ بِحَالِ وَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ بِلَا قُدْرَةٍ لَا يُوجَدُ مُرَادُهَا وَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْمُشْتَرِكَيْنِ تَامَّ الْقُدْرَةِ تَامَّ الْإِرَادَةِ لَوَجَبَ وُجُودُ الْمَفْعُولِ بِهِ وَحْدَهُ وَوُجُودُهُ بِهِ وَحْدَهُ يَمْنَعُ وُجُودَهُ بِالْآخَرِ فَيَلْزَمُ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ: وُجُودُ الْمَفْعُولِ بِهِ وَحْدَهُ: وَعَدَمُ وُجُودِ الْمَفْعُولِ بِهِ وَحْدَهُ وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلًا غَيْرَ فَاعِلٍ وَذَلِكَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ. وَهَذَا التَّمَانُعُ لَيْسَ هُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَاعِلَيْنِ يَمْنَعُ الْآخَرَ كَمَا يُقَالُ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمَا تَحْرِيكَ جِسْمٍ وَالْآخَرُ تَسْكِينَهُ؛ أَوْ إمَاتَةَ شَخْصٍ وَالْآخَرُ إحْيَاءَهُ وَإِنَّمَا هُوَ تَمَانُعٌ ذَاتِيٌّ وَهُوَ: أَنَّهُ تَمَانُعُ اشْتِرَاكِ شَرِيكَيْنِ تَامَّيْ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فِي مَفْعُولٍ هُمَا عَلَيْهِ تَامَّا الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ عَلَى الشَّيْءِ تَامُّ الْقُدْرَةِ وَهُوَ لَهُ تَامُّ الْإِرَادَةِ وَجَبَ وُجُودُ الْمَفْعُولِ بِهِ وَحْدَهُ وَإِذَا كَانَ الْآخَرُ كَذَلِكَ وَجَبَ وُجُودُ الْمَفْعُولِ بِهِ. وَهَذَانِ يَتَتَابَعَانِ وَيَتَمَانَعَانِ إذْ الْإِثْبَاتُ يَمْنَعُ النَّفْيَ وَالنَّفْيُ يَمْنَعُ الْإِثْبَاتَ تَمَانُعًا وَتَنَاقُضًا ذَاتِيًّا. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ مُوجِبٌ لِنَقْصِ الشَّرِيكِ فِي نَفْسِ الْقُدْرَةِ وَإِذَا قُدِّرَ اثْنَانِ مُرِيدَانِ لِأَمْرِ مِنْ الْأُمُورِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الَّذِي يَفْعَلُهُ هَذَا لَيْسَ هُوَ الْمَفْعُولَ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْآخَرُ وَلَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ بِبَعْضِ الْمَفْعُولِ.

ص: 177

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ لَا يَقْدِرُ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ إذَا انْفَرَدَ إلَّا أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ قُدْرَةٌ أَكْمَلُ مِنْ الْقُدْرَةِ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً حَالَ الِاشْتِرَاكِ فَإِذَا كَانَ الْمَفْعُولُ وَاحِدًا قَدْ اخْتَلَطَ بَعْضُهُ بِبَعْضِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ انْفِرَادُ فَاعِلٍ بِبَعْضِهِ وَفَاعِلٍ آخَرَ بِبَعْضِهِ: امْتَنَعَ فِيهِ اشْتِرَاكُ الِامْتِيَازِ كَاشْتِرَاكِ بَنِي آدَمَ فِي مَفْعُولَاتِهِمْ الَّتِي يَفْعَلُ هَذَا بَعْضَهَا وَهَذَا بَعْضَهَا وَامْتَنَعَ فِيهِ اشْتِرَاكُ الِاخْتِلَاطِ إلَّا مَعَ عَجْزِ أَحَدِهِمَا وَنَقْصِ قُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بِقَوْلِنَا: إنَّ الِاشْتِرَاكَ مُوجِبٌ لِنَقْصِ الْقُدْرَةِ.

فَصْلٌ:

ثُمَّ يُقَالُ: هَذَا أَيْضًا يَقْتَضِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَيْسَ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ غَنِيًّا قَوِيًّا بَلْ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ كَمَا كَانَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي مَفْعُولَاتِهِ (*) وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُفْتَقِرًا إلَى الْآخَرِ فِي مَفْعُولَاتِهِ عَاجِزًا عَنْ الِانْفِرَادِ بِهَا - إذْ الِاشْتِرَاكُ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ - فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ أَوْ لَا يُمْكِنُ. وَالثَّانِي مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَقْدُورًا مُمْكِنًا لِوَاحِدِ

(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 169):

هنا تنبيهات:

الأول: أن هذا الفصل مذكور في (2/ 32 - 38).

الثاني: الذي يظهر أن النسخة التي عنها طبع هذا الفصل في هذا الموضع تختلف عن نسخة هذا الفصل في المجلد الثاني، لأمور:

1 -

أن الفصل هنا من مجموعة فصول، أما في المجلد الثاني ففصل مفرد.

2 -

وجود فروق بين الفصلين - كما سيأتي إن شاء الله - مما يدل على اختلاف النسخ.

3 -

أن الفصل الذي في المجلد الثاني أكمل من الفصل الذي في هذا الموضع.

الثالث: بمقارنة الفصلين يتبين وجود بعض الفروق.

ومن أهم هذه الفروق:

1 -

20/ 178: (ليس واجبا بنفسه غنيا قويا)، 2/ 32:(ليس واجبا بنفسه قيوما)، وهو الأظهر.

2 -

20/ 179: (جاز أن يكون مفعولا مقدورا عليه لاثنين هو ممكن جاز أن يكون أيضا لواحد)، 2/ 32:(وهو ممكن)، وهو الأظهر.

3 -

20/ 179: (كان أكمل لها في أن يكون متعددا متفرقا)، 2/ 33:(من أن يكون)، وهو الأظهر.

4 -

20/ 180 (وأن يكون بصفة أخرى، وإذا كان يمكن)، 2/ 34:(بصفة أخرى إذا كان يمكن)، وهو الأظهر.

5 -

20/ 181: (فلو كانت ذاته كافية)، 2/ 34:(كاملة)، وهو الأظهر.

6 -

20/ 182: (وهذا كثير، فما من مخلوق إلا له شريك وند)، 2/ 35:(وهو الند، فما من مخلوق إلا له شريك وند)، وهو الأظهر.

الرابع: للفصل هذا بقية مذكورة في: 2/ 37، 38.

ص: 178

امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا مُمْكِنًا لِاثْنَيْنِ فَإِنَّ حَالَ الشَّيْءِ فِي كَوْنِهِ مَقْدُورًا مُمْكِنًا لَا يَخْتَلِفُ بِتَعَدُّدِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ وَتَوَحُّدِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَقْدُورًا لِوَاحِدِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَقْدُورًا لِاثْنَيْنِ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَقْدُورًا عَلَيْهِ لِاثْنَيْنِ هُوَ مُمْكِنٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا لِوَاحِدِ. وَهَذَا بَيِّنٌ إذَا كَانَ الْإِمْكَانُ وَالِامْتِنَاعُ لِمَعْنَى فِي الْمُمْكِنِ الْمَفْعُولِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ إذْ صِفَاتُ ذَاتِهِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْحَالِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لِمَعْنَى فِي الْقَادِرِ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ الْقَائِمَةَ بِاثْنَيْنِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَقُومَ بِوَاحِدِ؛ بَلْ إمْكَانُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الصِّفَاتِ بِأَسْرِهَا مِنْ الْقُدْرَةِ وَغَيْرِهَا: كُلُّ مَا كَانَ مَحَلُّهَا مُتَّحِدًا مُجْتَمِعًا كَانَ أَكْمَلَ لَهَا فِي أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّدًا مُتَفَرِّقًا وَلِهَذَا كَانَ الِاجْتِمَاعُ وَالِاشْتِرَاكُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ يُوجِبُ لَهَا مِنْ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ مَا لَا يَحْصُلُ لَهَا إذَا تَفَرَّقَتْ وَانْفَرَدَتْ وَإِنْ كَانَتْ أَحْوَالُهَا بَاقِيَةً بَلْ الْأَشْخَاصُ وَالْأَعْضَاءُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْأَجْسَامِ الْمُفْتَرِقَةِ قَدْ قَامَ بِكُلِّ مِنْهَا قُدْرَةٌ فَإِذَا قُدِّرَ اتِّحَادُهَا وَاجْتِمَاعُهَا كَانَتْ تِلْكَ الْقُدْرَةُ أَقْوَى وَأَكْمَلَ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهَا مِنْ الِاتِّحَادِ وَالِاجْتِمَاعِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَا لَمْ يَكُنْ حِينَ الِافْتِرَاقِ وَالتَّعْدَادِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْقَائِمَةَ بِاثْنَيْنِ إذَا قُدِّرَ أَنَّ ذَيْنَك الِاثْنَيْنِ كَانَا شَيْئًا وَاحِدًا تَكُونُ الْقُدْرَةُ أَكْمَلَ فَكَيْفَ لَا تَكُونُ مُسَاوِيَةً لِلْقُدْرَةِ

ص: 179

الْقَائِمَةِ بِمَحَلَّيْنِ؟ وَإِذَا كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَحَلَّيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ اللَّذَيْنِ قَامَ بِهِمَا قُدْرَتَانِ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُمَا مَحَلٌّ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْقُدْرَتَيْنِ قَامَتَا بِهِ لَمْ تَنْقُصْ الْقُدْرَةُ بِذَلِكَ بَلْ تَزِيدُ عُلِمَ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُمْكِنَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ لِقَادِرَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُمَا بِعَيْنِهِمَا قَادِرٌ وَاحِدٌ قَدْ قَامَ بِهِ مَا قَامَ بِهِمَا لَمْ يَنْقُصْ بِذَلِكَ بَلْ يَزِيدُ فَعُلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَابِلًا لِلْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فِيهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ يُمْكِنُ فِي الْمُشْتَرِكَيْنِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَيْهِ بَلْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَا شَيْئًا وَاحِدًا قَادِرًا عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَكُونَ بِصِفَةِ أُخْرَى وَإِذَا كَانَ يُمْكِنُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ تَتَغَيَّرَ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ هُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُكْمِلَ نَفْسَهُ وَحْدَهُ وَيُغَيِّرَهَا إذْ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الِانْفِرَادِ بِمَفْعُولِ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ فَأَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ تَكْمِيلِ نَفْسِهِ وَتَغْيِيرِهَا أَوْلَى وَإِذَا كَانَ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَغَيَّرَ وَيُكْمِلَ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ؛ بَلْ يَكُونُ فِيهِ إمْكَانٌ وَافْتِقَارٌ إلَى غَيْرِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ غَيْرُ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ وَاجِبًا مُمْكِنًا وَهَذَا تَنَاقُضٌ إذْ مَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ تَكُونُ نَفْسُهُ كَافِيَةً فِي حَقِيقَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ؛ إذْ ذَلِكَ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى ذَاتِهِ بَلْ وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ وَمَفْعُولَاتِهِ فَإِنَّ أَفْعَالَهُ الْقَائِمَةَ بِهِ دَاخِلَةٌ فِي

ص: 180

مُسَمَّى نَفْسِهِ وَافْتِقَارُهُ إلَى غَيْرِهِ فِي بَعْضِ الْمَفْعُولَاتِ يُوجِبُ افْتِقَارَهُ فِي فِعْلِهِ وَصِفَتِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ إذْ مَفْعُولُهُ صَدَرَ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَتْ ذَاتُهُ كَافِيَةً غَنِيَّةً لَمْ تَفْتَقِرْ إلَى غَيْرِهِ فِي فِعْلِهَا فَافْتِقَارُهُ إلَى غَيْرِهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ دَلِيلُ عَدَمِ غِنَاهُ وَعَلَى حَاجَتِهِ إلَى الْغَيْرِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِمْكَانُ الْمُنَاقِضُ لِكَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ.

وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ وُجُوبُ الْوُجُودِ مِنْ خَصَائِصِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْغِنَى عَنْ الْغَيْرِ مِنْ خَصَائِصِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: كَانَ الِاسْتِقْلَالُ بِالْفِعْلِ مِنْ خَصَائِصِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَكَانَ التَّنَزُّهُ عَنْ شَرِيكٍ فِي الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ مِنْ خَصَائِصِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِشَيْءِ مِنْ الْمَفْعُولَاتِ وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ وَحْدَهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ الشَّرِيكِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَفْعُولَاتِ بَلْ لَا يَكُونُ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ عَنْ بَعْضِ الْأَسْبَابِ إلَّا يُشَارِكُهُ سَبَبٌ آخَرُ لَهُ فَيَكُونُ - وَإِنْ سُمِّيَ عِلَّةً - عِلَّةً مُقْتَضِيَةً سَبَبِيَّةً لَا عِلَّةً تَامَّةً وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا شَرْطًا لِلْآخَرِ. كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ سَبَبٌ إلَّا وَلَهُ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ فِي الْفِعْلِ فَكُلُّ مَا فِي الْمَخْلُوقِ مِمَّا يُسَمَّى عِلَّةً أَوْ سَبَبًا أَوْ قَادِرًا أَوْ فَاعِلًا أَوْ مُؤَثِّرًا - فَلَهُ شَرِيكٌ هُوَ لَهُ كَالشَّرْطِ وَلَهُ مُعَارِضٌ هُوَ لَهُ مَانِعٌ وَضِدٌّ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} وَالزَّوْجُ يُرَادُ بِهِ: النَّظِيرُ الْمُمَاثِلُ وَالضِّدُّ الْمُخَالِفُ.

ص: 181

وَهَذَا كَثِيرٌ فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ إلَّا لَهُ شَرِيكٌ وَنِدٌّ وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا نِدَّ وَلَا مِثْلَ لَهُ بَلْ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ أَنْ يُسَمَّى خَالِقًا وَلَا رَبًّا مُطْلَقًا وَنَحْوَ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الِاسْتِقْلَالَ وَالِانْفِرَادَ بِالْمَفْعُولِ الْمَصْنُوعِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَلِهَذَا وَإِنْ تَنَازَعَ بَعْضُ النَّاسِ فِي كَوْنِ الْعِلَّةِ يَكُونُ ذَاتَ أَوْصَافٍ وَادَّعَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا ذَاتَ وَصْفٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ خَالَفُوا فِي ذَلِكَ وَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ أَوْصَافٍ بَلْ قِيلَ: لَا يَكُونُ فِي الْمَخْلُوقِ عِلَّةٌ ذَاتُ وَصْفٍ وَاحِدٍ إذْ لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقِ مَا يَكُونُ وَحْدَهُ عِلَّةً وَلَا يَكُونُ فِي الْمَخْلُوقِ عِلَّةٌ إلَّا مَا كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ أَمْرَيْنِ فَصَاعِدًا فَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَاحِدٌ يَصْدُرُ عَنْهُ شَيْءٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: الْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ بَلْ لَا يَصْدُرُ مِنْ الْمَخْلُوقِ شَيْءٌ إلَّا عَنْ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا. وَأَمَّا الْوَاحِدُ الَّذِي يَفْعَلُ وَحْدَهُ فَلَيْسَ إلَّا اللَّهُ فَكَمَا أَنَّ الْوَحْدَانِيَّةَ وَاجِبَةٌ لَهُ لَازِمَةٌ لَهُ فَالْمُشَارَكَةُ وَاجِبَةٌ لِلْمَخْلُوقِ لَازِمَةٌ لَهُ والوحدانية مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْكَمَالِ وَالْكَمَالُ مُسْتَلْزِمٌ لَهَا. وَالِاشْتِرَاكُ مُسْتَلْزِمٌ لِلنُّقْصَانِ وَالنُّقْصَانُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ. والوحدانية مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْغِنَى عَنْ الْغَيْرِ وَالْقِيَامِ بِنَفْسِهِ وَوُجُوبِهِ بِنَفْسِهِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مِنْ الْغِنَى وَالْوُجُوبِ بِالنَّفْسِ

ص: 182

وَالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْوَحْدَانِيَّةِ وَالْمُشَارَكَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْفَقْرِ إلَى الْغَيْرِ وَالْإِمْكَانِ بِالنَّفْسِ وَعَدَمِ الْقِيَامِ بِالنَّفْسِ وَكَذَلِكَ الْفَقْرُ وَالْإِمْكَانُ وَعَدَمُ الْقِيَامِ بِالنَّفْسِ مُسْتَلْزِمٌ لِلِاشْتِرَاكِ. فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا مِنْ دَلَائِلِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَعْلَامِهَا وَهِيَ مِنْ دَلَائِلِ إمْكَانِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَشْهُودَاتِ وَفَقْرِهَا وَأَنَّهَا مَرْبُوبَةٌ فَهِيَ مِنْ أَدِلَّةِ إثْبَاتِ الصَّانِعِ لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنْ الِافْتِرَاقِ وَالتَّعْدَادِ وَالِاشْتِرَاكِ يُوجِبُ افْتِقَارَهَا وَإِمْكَانَهَا وَالْمُمْكِنُ الْمُفْتَقِرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ غَنِيٍّ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ وَلَوْ فُرِضَ تَسَلْسُلُ الْمُمْكِنَاتِ الْمُفْتَقِرَاتِ فَهِيَ بِمَجْمُوعِهَا مُمْكِنَةٌ وَالْمُمْكِنُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ مُفْتَقِرٌ فِي وُجُودِهِ إلَى غَيْرِهِ فَكُلُّ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مُمْكِنٌ فَقِيرٌ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَيْضًا فِي وُجُودِهِ إلَى غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ غَنِيٍّ بِنَفْسِهِ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ مَا هُوَ فَقِيرٌ مُمْكِنٌ بِحَالِ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ وَعَلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ؛ وَهُوَ: التَّوْحِيدُ الْوَاجِبُ الْكَامِلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ؛ لِوُجُوهِ قَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا مَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. مِثْلَ: أَنَّ الْمُتَحَرِّكَاتِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ حَرَكَةٍ إرَادِيَّةٍ وَلَا بُدَّ لِلْإِرَادَةِ مِنْ مُرَادٍ لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِلَهُ. وَالْمَخْلُوقُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا لِنَفْسِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِنَفْسِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَانِ بِأَنْفُسِهِمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَرَادَانِ بِأَنْفُسِهِمَا.

ص: 183

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ

فَصْلٌ:

الْمُنْحَرِفُونَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ؛ كَبَعْضِ الْخُرَاسَانِيِينَ مِنْ أَهْلِ جِيلَانَ وَغَيْرِهِمْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَحْمَد وَغَيْرِ أَحْمَد: انْحِرَافُهُمْ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: قَوْلٌ لَمْ يَقُلْهُ الْإِمَامُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْمَعْرُوفَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالْعِلْمِ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قِدَمِ رُوحِ بَنِي آدَمَ وَنُورِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنِّيرَانِ وَقَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ بِقِدَمِ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ وَخَرَسِ النَّاسِ إذَا رُفِعَ الْقُرْآنُ وَتَكْفِيرِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَلَعْنِ أَبِي فُلَانٍ وَقِدَمِ مِدَادِ الْمُصْحَفِ. الثَّانِي: قَوْلٌ قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ أَصْحَابِهِ وَغَلِطَ فِيهِ كَقِدَمِ صَوْتِ الْعَبْدِ وَرِوَايَةِ أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ يُحْتَجُّ فِيهَا بِالسُّنَّةِ فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ؛ وَالْقُرْآنِ وَالْفَضَائِلِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ص: 184

الثَّالِثُ: قَوْلٌ قَالَهُ الْإِمَامُ فَزِيدَ عَلَيْهِ قَدْرًا أَوْ نَوْعًا كَتَكْفِيرِهِ نَوْعًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كالْجَهْمِيَّة فَيَجْعَلُ الْبِدَعَ نَوْعًا وَاحِدًا حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ الْمُرْجِئَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ أَوْ ذَمَّهُ لِأَصْحَابِ الرَّأْيِ بِمُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ وَالْإِرْجَاءِ فَيَخْرُجُ ذَلِكَ إلَى التَّكْفِيرِ وَاللَّعْنِ أَوْ رَدِّهِ لِشَهَادَةِ الدَّاعِيَةِ وَرِوَايَتِهِ وَغَيْرِ الدَّاعِيَةِ فِي بَعْضِ الْبِدَعِ الْغَلِيظَةِ فَيَعْتَقِدُ رَدَّ خَبَرِهِمْ مُطْلَقًا مَعَ نُصُوصِهِ الصَّرَائِحِ بِخِلَافِهِ وَكَخُرُوجِ مَنْ خَرَجَ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ إلَى زِيَادَةٍ مِنْ التَّشْبِيهِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَفْهَمَ مِنْ كَلَامِهِ مَا لَمْ يُرِدْهُ أَوْ يَنْقُلَ عَنْهُ مَا لَمْ يَقُلْهُ. الْخَامِسُ: أَنْ يَجْعَلَ كَلَامَهُ عَامًّا أَوْ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ فِي اللَّفْظِ إطْلَاقٌ أَوْ عُمُومٌ فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهِ بَعْضُ الْعُذْرِ وَقَدْ لَا يَكُونُ كَإِطْلَاقِهِ تَكْفِيرَ الْجَهْمِيَّة الْخِلْقِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِشُرُوطِ انْتَفَتْ فِيمَنْ تَرَحَّمَ عَلَيْهِ مِنْ الَّذِينَ امْتَحَنُوهُ وَهُمْ رُءُوسُ الْجَهْمِيَّة. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافٌ فَيَتَمَسَّكُونَ بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ. السَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ قَالَ أَوْ نُقِلَ عَنْهُ مَا يُزِيلُ شُبْهَتَهُمْ مَعَ كَوْنِ لَفْظِهِ مُحْتَمِلًا لَهَا.

ص: 185

الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى خَطَأٍ. فَالْوُجُوهُ السِّتَّةُ تُبَيِّنُ مِنْ مَذْهَبِهِ نَفْسِهِ أَنَّهُمْ خَالَفُوهُ وَهُوَ الْحَقُّ وَالسَّابِعُ خَالَفُوا الْحَقَّ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَذْهَبَهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَالثَّامِنُ خَالَفُوا الْحَقَّ وَإِنْ وَافَقُوا مَذْهَبَهُ. فَالْقِسْمَةُ ثُلَاثِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا خَالَفُوا الْحَقَّ فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ خَالَفُوهُ أَيْضًا أَوْ وَافَقُوهُ أَوْ لَمْ يُوَافِقُوهُ وَلَمْ يُخَالِفُوهُ لِانْتِفَاءِ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا وَافَقُوا الْحَقَّ فَإِمَّا أَنْ يُوَافِقُوهُ هُوَ أَوْ يُخَالِفُوهُ؛ أَوْ يَنْتَفِيَ الْأَمْرَانِ. وَأَهْلُ الْبِدَعِ فِي غَيْرِ الْحَنْبَلِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فِي الْحَنْبَلِيَّةِ بِوُجُوهِ كَثِيرَةٍ؛ لِأَنَّ نُصُوصَ أَحْمَد فِي تَفَاصِيلِ السُّنَّةِ وَنَفْيِ الْبِدَعِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ بِكَثِيرِ فَالْمُبْتَدِعَةُ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى غَيْرِهِ إذَا كَانُوا جهمية أَوْ قَدَرِيَّةً أَوْ شِيعَةً أَوْ مُرْجِئَةً؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِلْإِمَامِ إلَّا فِي الْإِرْجَاءِ؛ فَإِنَّهُ قَوْلُ أَبِي فُلَانٍ وَأَمَّا بَعْضُ التَّجَهُّمِ فَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْهُ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ الْمُنْتَسِبُونَ إلَيْهِ مَا بَيْنَ سُنِّيَّةٍ وجهمية؛ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ؛ مُشَبِّهَةٍ وَمُجَسِّمَةٍ؛ لِأَنَّ أُصُولَهُ لَا تَنْفِي الْبِدَعَ وَإِنْ لَمْ تُثْبِتْهَا. وَفِي الْحَنْبَلِيَّةِ أَيْضًا مُبْتَدِعَةٌ؛ وَإِنْ كَانَتْ الْبِدْعَةُ فِي غَيْرِهِمْ أَكْثَرَ وَبِدْعَتُهُمْ غَالِبًا فِي زِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ فِي حَقِّ اللَّهِ وَفِي زِيَادَةِ الْإِنْكَارِ عَلَى مُخَالِفِهِمْ بِالتَّكْفِيرِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ أَحْمَد كَانَ مُثْبِتًا لِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ؛ مُنْكِرًا عَلَى مَنْ خَالَفَهَا مُصِيبًا فِي غَالِبِ الْأُمُورِ مُخْتَلِفًا عَنْهُ فِي الْبَعْضِ وَمُخَالِفًا فِي الْبَعْضِ.

ص: 186

وَأَمَّا بِدْعَةُ غَيْرِهِمْ فَقَدْ تَكُونُ أَشَدَّ مِنْ بِدْعَةِ مُبْتَدِعِهِمْ فِي زِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ وَالْإِنْكَارِ؛ وَقَدْ تَكُونُ فِي النَّفْيِ وَهُوَ الْأَغْلَبُ كالْجَهْمِيَّة؛ وَالْقَدَرِيَّةِ؛ وَالْمُرْجِئَةِ؛ وَالرَّافِضَةِ. وَأَمَّا زِيَادَةُ الْإِنْكَارِ مِنْ غَيْرِهِمْ عَلَى الْمُخَالِفِ مِنْ تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ فَكَثِيرٌ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ الْبِدَعِ: الْخُلُوُّ عَنْ السُّنَّةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَتَرْكُ الْأَمْرِ بِهَا وَالنَّهْيِ عَنْ مُخَالَفَتِهَا وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ.

ص: 187

وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

فَصْلٌ:

الْمُتَكَلِّمُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِقَلْبِهِ مَعْنًى عَامٌّ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْنًى وَمَنْ قَالَ: الْعُمُومُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْمَعَانِي فَمَا أَرَادَ - وَاَللَّهُ أَعْلَم - إلَّا الْمَعَانِيَ الْخَارِجَةَ عَنْ الذِّهْنِ كَالْعَطَاءِ وَالْمَطَرِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مَرْجُوحٌ فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِ عَامٍّ لِمُسَمَّى مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ؛ أَوْ خَبَرِ سَلْبٍ أَوْ إيجَابٍ فَهَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَشْعِرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامَّ وَالْحُكْمَ عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْأَفْرَادَ مِنْ جِهَةِ تَمَيُّزِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ بَلْ قَدْ لَا يَتَصَوَّرُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ لِلْبَشَرِ وَإِنَّمَا يَتَصَوَّرُهَا وَيَحْكُمُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ صِيغَةُ الْعُمُومِ اسْمَ جَمْعٍ؛ أَوْ اسْمَ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعُمَّ الِاسْمُ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ لَفْظًا وَمَعْنًى فَهُوَ يَحْكُمُ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الْعَامِّ بَيْنَهَا وَقَدْ يَسْتَحْضِرُ أَحْيَانًا بَعْضَ آحَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ بِخُصُوصِهِ أَوْ بَعْضَ الْأَنْوَاعِ بِخُصُوصِهِ وَقَدْ يَسْتَحْضِرُ الْجَمِيعَ إنْ كَانَ مِمَّا يُحْصَرُ وَقَدْ لَا يَسْتَحْضِرُ ذَلِكَ بَلْ يَكُونُ عَالِمًا بِالْأَفْرَادِ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ جُمْلَةً

ص: 188

لَا تَفْصِيلًا ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ يَتَخَلَّفُ عَنْ بَعْضِ تِلْكَ الْآحَادِ لِمُعَارِضِ. مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَعْطِ لِكُلِّ فَقِيرٍ دِرْهَمًا فَإِذَا قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ عَدُوًّا فَقَدَ يُنْهَى عَنْ الْإِعْطَاءِ. فَهَذَا الَّذِي أَرَادَ دُخُولَهُ فِي الْعُمُومِ إمَّا أَنْ يُرِيدَ دُخُولَهُ بِخُصُوصِهِ؛ أَوْ لِمُجَرَّدِ شُمُولِ الْمَعْنَى لَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْعَارِ خُصُوصِهِ؛ بِحَيْثُ لَمْ يَقُمْ بِهِ مَا يَمْنَعُ الدُّخُولَ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِلدُّخُولِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ أَرَادَ دُخُولَهُ بِعَيْنِهِ فَهَذَا نَظِيرُ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْعَامُّ مِنْ السَّبَبِ وَهَذَا إحْدَى فَوَائِدِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَهُوَ: ثُبُوتُ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ فَوَائِدِهِ أَنْ يَتَبَيَّنَ دُخُولُهُ بِعُمُومِ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ: وَبِخُصُوصِ الْمَعْنَى الْمُمَيِّزِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ ثَابِتًا لِلْمُشْتَرَكِ. وَأَمَّا الَّذِي لَمْ يُرِدْ دُخُولَهُ فِي الْعُمُومِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حِينَ التَّكَلُّمِ بِالْعُمُومِ قَدْ اسْتَشْعَرَ قِيَامَ الْمُعَارِضِ فِيهِ فَذَاكَ يَمْنَعُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ دُخُولَهُ فِي حُكْمِ الْمَعْنَى الْعَامِّ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي فِيهِ؛ وَهُوَ الْمَعْنَى الْعَامُّ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَشْعَرَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّكَلُّمِ بِالْعَامِّ وَذُهِلَ وَقْتَ التَّكَلُّمِ بِالْعُمُومِ عَنْ دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ. فَالْأَوَّلُ كَالْمُخَصَّصِ الْمُقَارِنِ وَهَذَا كَالْمُخَصَّصِ السَّابِقِ وَإِمَّا أَنْ يَسْتَشْعِرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بَعْدَ تَكَلُّمِهِ بِالْعَامِّ مَعَ

ص: 189

عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِالْعُمُومِ مَا قَامَ فِيهِ ذَلِكَ الْمُعَارِضُ فَهُنَا قَدْ يُقَالُ: قَدْ دَخَلَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَاسْتِشْعَارِ الْمَانِعِ مِنْ إرَادَتِهِ فِيمَا بَعْدُ يَكُونُ نَسْخًا؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلدُّخُولِ فِي الْإِرَادَةِ هُوَ ثُبُوتُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ حَاصِلٌ. وَهَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ الْإِرَادَةِ إذَا اسْتَشْعَرَ حِينَ الْخِطَابِ؛ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَشْعِرًا. وَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ يَقُولُ فِي اسْتِشْعَارِ الْمَانِعِ السَّابِقِ: لَا يُؤَثِّرُ إلَّا إذَا قَارَنَ بَلْ إذَا غَفَلَ وَقْتَ التَّعْمِيمِ عَنْ إخْرَاجِ شَيْءٍ دَخَلَ فِي الْإِرَادَةِ الْعَامَّةِ كَمَا دَخَلَ فِي اسْتِشْعَارِ الْمَعْنَى الْعَامِّ؛ إذْ التَّخْصِيصُ بَيَانُ مَا لَمْ يُرِدْ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ وَهَذَا الْفَرْدُ قَدْ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إرَادَتُهُ بِخُصُوصِهِ وَإِنَّمَا يُرَادُ إرَادَةُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ؛ وَذَاكَ حَاصِلٌ. وَقَدْ يُقَالُ: بَلْ هَذَا لَمْ يُرِدْهُ بِالِاسْمِ الْعَامِّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِالِاسْمِ الْعَامِّ مَا لَمْ يَقُمْ فِيهِ مُعَارِضٌ وَكُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُتَصَوَّرْ الْمُعَارِضُ مُفَصَّلًا ذَلِكَ الْمَعْنَى فَمُرَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُقْتَضٍ لِإِرَادَتِهِ لَا مُوجَبَ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إلَى الْمَعَارِضِ وَإِذَا كَانَ مُرَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُقْتَضٍ: فَإِذَا عَارَضَ مَا هُوَ عِنْدَهُ مَانِعٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَرَادَهُ فَمَدَارُ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّ ثُبُوتَ الْمَعْنَى الْعَامِّ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْإِرَادَةِ فِي مُرَادِهِ إلَّا أَنْ يَزُولَ عَنْ بَعْضِهَا أَوْ ثُبُوتَ الْمُقْتَضِي لِإِرَادَةِ الْأَفْرَادِ وَالْمُقْتَضِي يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْأَفْرَادِ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ.

ص: 190

وَعَلَى هَذَا فَلَوْ لَمْ يَسْتَشْعِرْ الْمُعَارِضُ الْمَانِعَ؛ لَكِنْ إذَا اسْتَشْعَرَهُ لَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ: هَلْ يُقَالُ: لَمْ يَتَنَاوَلْهُ حُكْمُهُ وَإِرَادَتُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَإِنْ تَنَاوَلَهُ لَفْظُهُ وَمَعْنَى لَفْظِهِ الْعَامُّ؟ قَدْ يُقَالُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ أَرَادَ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ الْمُشْتَرَكَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْعَامِّ وَلَمْ يُرِدْ مِنْ الْأَفْرَادِ مَا فِيهِ مَعْنًى مُعَارِضٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامِّ رَاجِحًا عَلَيْهِ عِنْدَهُ ثُمَّ لَا يُكَلَّفُ اسْتِشْعَارَ الْمَوَانِعِ مُطْلَقًا فِي الْأَنْوَاعِ وَالْأَشْخَاصِ لِكَثْرَتِهَا وَلَوْ اسْتَشْعَرَ بَعْضَهَا لَمْ يَحْسُنْ التَّعَرُّضُ؛ لِنَفْيِ كُلِّ مَانِعٍ مَانِعٍ مِنْهَا؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيهِ هُجْنَةٌ وَلُكْنَةٌ؛ وَطُولٌ، وَعَيٌّ فَقَدْ يَتَعَسَّرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ عِلْمُ الْمَوَانِعِ؛ أَوْ بَيَانُهَا؛ أَوْ هُمَا جَمِيعًا. فَهُنَا مَا قَامَ بِالْأَفْرَادِ مِنْ الْخَصَائِصِ الْمُعَارِضَةِ مَانِعٌ مِنْ إرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ الْعَامُّ يَشْمَلُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ. وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَانِعُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَكُونُ عِنْدَهُ مَانِعًا؛ وَيُحْتَمَلُ أَلَّا يَكُونَ فَهَلْ نَحْكُمُ بِدُخُولِهِ لِقِيَامِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمُخَصِّصِ بِالْأَصْلِ؛ أَوْ نَقِفُ فِيهِ لِأَنَّ الْمُقْتَضِي قَائِمٌ وَالْمُعَارِضُ مُحْتَمَلٌ؟ فِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْمَانِعُ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي مُقْتَضِيًا مَعَ قِيَامِ هَذَا الْمَانِعِ. وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ: بَلْ اقْتِضَاؤُهُ ثَابِتٌ وَالْمَانِعُ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَالْأَظْهَرُ التَّوَقُّفُ فِي إرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ حِينَئِذٍ.

ص: 191

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

فَصْلٌ:

" قَاعِدَةٌ " الْحَسَنَاتُ تُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَنْفَعَةِ. وَالثَّانِيَةُ: مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ وَالْمَضَرَّةِ. وَكَذَلِكَ السَّيِّئَاتُ تُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ وَالْمَضَرَّةِ. وَالثَّانِيَةُ: مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ الصَّدِّ عَنْ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ. مِثَالُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} فَبَيَّنَ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَقَوْلُهُ: {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} بَيَانٌ لِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ دَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ فَإِنَّ النَّفْسَ إذَا قَامَ بِهَا ذِكْرُ اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ - لَا سِيَّمَا عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ - أَكْسَبَهَا ذَلِكَ صِبْغَةً صَالِحَةً تَنْهَاهَا عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا يُحِسُّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} فَإِنَّ الْقَلْبَ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَقُرَّةِ الْعَيْنِ مَا يُغْنِيهِ عَنْ

ص: 192

اللَّذَّاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْخَشْيَةِ وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ وَالْمَهَابَةِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ رَجَائِهِ وَخَشْيَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ نَاهٍ يَنْهَاهُ. وَقَوْلُهُ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} بَيَانٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ أَيْ ذِكْرُ اللَّهِ الَّذِي فِيهَا أَكْبَرُ مِنْ كَوْنِهَا نَاهِيَةً عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَالْأَوَّلُ تَابِعٌ فَهَذِهِ الْمَنْفَعَةُ وَالْمَصْلَحَةُ أَعْظَمُ مِنْ دَفْعِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ الْفَاسِقُ يَئُول أَمْرُهُ إلَى الرَّحْمَةِ وَالْمُنَافِقُ الْمُتَعَبِّدُ أَمْرُهُ صَائِرٌ إلَى الشَّقَاءِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ هُوَ جِمَاعُ السَّعَادَةِ وَأَصْلُهَا. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَعْنَى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَخْطَأَ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ الْمُجَرَّدِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَالصَّلَاةُ ذِكْرُ اللَّهِ لَكِنَّهَا ذِكْرٌ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ فَكَيْفَ يُفَضَّلُ ذِكْرُ اللَّهِ الْمُطْلَقُ عَلَى أَفْضَلِ أَنْوَاعِهِ؟ وَمِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم {عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ إلَى رَبِّكُمْ؛ وَدَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ ومنهاة عَنْ الْإِثْمِ؛ ومكفرة لِلسَّيِّئَاتِ وَمَطْرَدَةٌ لِدَاعِي الْحَسَدِ} فَبَيَّنَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ بِالْقُرْبِ إلَى اللَّهِ وَمُوَافَقَةِ الصَّالِحِينَ وَمِنْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ السَّيِّئَاتِ؛ وَالتَّكْفِيرِ لِلْمَاضِي مِنْهَا وَهُوَ نَظِيرُ الْآيَةِ.

ص: 193

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فَهَذَا دَفْعُ الْمُؤْذِي ثُمَّ قَالَ: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فَهَذَا مَصْلَحَةٌ وَفَضَائِلُ الْأَعْمَالِ وَثَوَابُهَا وَفَوَائِدُهَا وَمَنَافِعُهَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ هَذَا النَّمَطِ كَقَوْلِهِ فِي الْجِهَادِ: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} إلَى قَوْلِهِ: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} فَبَيَّنَ مَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ مَفْسَدَةِ الذُّنُوبِ وَمِنْ حُصُولِ مَصْلَحَةِ الرَّحْمَةِ بِالْجَنَّةِ فَهَذَا فِي الْآخِرَةِ وَفِي الدُّنْيَا النَّصْرُ وَالْفَتْحُ وَهُمَا أَيْضًا دَفْعُ الْمَضَرَّةِ وَحُصُولُ الْمَنْفَعَةِ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا مِنْ السَّيِّئَاتِ فَكَقَوْلِهِ: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} فَبَيَّنَ فِيهِ الْعِلَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: حُصُولُ مَفْسَدَةِ الْعَدَاوَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَغْضَاءِ الْبَاطِنَةِ وَالثَّانِيَةُ: الْمَنْعُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي هِيَ رَأْسُ السَّعَادَةِ وَهِيَ ذِكْرُ اللَّهِ وَالصَّلَاةُ فَيَصُدُّ عَنْ الْمَأْمُورِ بِهِ إيجَابًا أَوْ اسْتِحْبَابًا. وَبِهَذَا الْمَعْنَى عَلَّلُوا أَيْضًا كَرَاهَةَ أَنْوَاعِ الْمَيْسِرِ مِنْ الشِّطْرَنْجِ وَنَحْوِهِ

ص: 194

فَإِنَّهُ يُورِثُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ وَيَصُدُّ عَنْ الْمَأْمُورِ بِهِ وَكَذَلِكَ الْغِنَاءُ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْقَلْبَ نِفَاقًا وَيَدْعُو إلَى الزِّنَى وَيَصُدُّ الْقَلْبَ عَنْ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَيَدْعُو إلَى السَّيِّئَاتِ وَيَنْهَى عَنْ الْحَسَنَاتِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَارَضَهُ مَا أَزَالَ مَفْسَدَتَهُ كَنَظَائِرِهِ. وَكَذَلِكَ الْبِدَعُ الِاعْتِقَادِيَّةُ وَالْعَمَلِيَّةُ؛ تَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْحَقِّ الْمَشْرُوعِ الَّذِي يَصُدُّ عَنْهُ مِنْ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ إمَّا بِالشُّغْلِ عَنْهُ وَإِمَّا بِالْمُنَاقَضَةِ وَتَتَضَمَّنُ أَيْضًا حُصُولَ مَا فِيهَا مِنْ مَفْسَدَةِ الْبَاطِلِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ إذَا تُؤَمِّلُ انْفَتَحَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ مَعَانِي الدِّينِ.

ص: 195

وَقَالَ:

فَصْلٌ:

" قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ ": شَرْعُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلْعَمَلِ بِوَصْفِ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا بِوَصْفِ الْخُصُوصِ وَالتَّقْيِيدِ؛ فَإِنَّ الْعَامَّ وَالْمُطْلَقَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بَعْضُ أَفْرَادِهِ وَيُقَيِّدُ بَعْضَهَا فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخُصُوصُ وَالتَّقْيِيدُ مَشْرُوعًا؛ وَلَا مَأْمُورًا بِهِ فَإِنْ كَانَ فِي الْأَدِلَّةِ مَا يَكْرَهُ ذَلِكَ الْخُصُوصَ وَالتَّقْيِيدَ كُرِهَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَهُ اُسْتُحِبَّ وَإِلَّا بَقِيَ غَيْرَ مُسْتَحَبٍّ وَلَا مَكْرُوهٍ. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ دُعَاءَهُ وَذِكْرَهُ شَرْعًا مُطْلَقًا عَامًّا. فَقَالَ: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} وَقَالَ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ فَالِاجْتِمَاعُ لِلدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ؛ أَوْ زَمَانٍ مُعَيَّنٍ؛ أَوْ الِاجْتِمَاعِ لِذَلِكَ: تَقْيِيدٌ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ الْعَامَّةُ الْمُطْلَقَةُ بِخُصُوصِهِ وَتَقْيِيدِهِ لَكِنْ تَتَنَاوَلُهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنْ دَلَّتْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ كَالذِّكْرِ

ص: 196

وَالدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ؛ أَوْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ الْمَشْرُوعَيْنِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ وَالْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ وَطَرَفَيْ النَّهَارِ؛ وَعِنْدَ الطَّعَامِ وَالْمَنَامِ وَاللِّبَاسِ؛ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ؛ وَالْأَذَانِ وَالتَّلْبِيَةِ وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ صَارَ ذَلِكَ الْوَصْفُ الْخَاصُّ مُسْتَحَبًّا مَشْرُوعًا اسْتِحْبَابًا زَائِدًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ. وَفِي مِثْلِ هَذَا يُعْطَفُ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ؛ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ كَصَوْمِ يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الصَّوْمِ وَإِنْ دَلَّتْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ كَانَ مَكْرُوهًا مِثْلَ اتِّخَاذِ مَا لَيْسَ بِمَسْنُونِ سُنَّةً دَائِمَةً؛ فَإِنَّ الْمُدَاوَمَةَ فِي الْجَمَاعَاتِ عَلَى غَيْرِ السُّنَنِ الْمَشْرُوعَةِ بِدْعَةٌ كَالْأَذَانِ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْقُنُوتِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالدُّعَاءِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهِ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ الْبَرْدَيْنِ مِنْهَا وَالتَّعْرِيفِ الْمُدَاوَمِ عَلَيْهِ فِي الْأَمْصَارِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ تَطَوُّعٍ؛ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ ذِكْرٍ كُلَّ لَيْلَةٍ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مُضَاهَاةَ غَيْرِ الْمَسْنُونِ بِالْمَسْنُونِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ وَالْقِيَاسُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْخُصُوصِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ بَقِيَ عَلَى وَصْفِ الْإِطْلَاقِ كَفِعْلِهَا أَحْيَانًا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْمُدَاوَمَةِ مِثْلَ التَّعْرِيفِ أَحْيَانًا كَمَا فَعَلَتْ الصَّحَابَةُ وَالِاجْتِمَاعِ أَحْيَانًا لِمَنْ يَقْرَأُ لَهُمْ أَوْ عَلَى ذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ؛

ص: 197

وَالْجَهْرِ بِبَعْضِ الْأَذْكَارِ فِي الصَّلَاةِ كَمَا جَهَرَ عُمَرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ وَابْنُ عَبَّاسٍ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ. وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ أَحْيَانًا. وَبَعْضُ هَذَا الْقِسْمِ مُلْحَقٌ بِالْأَوَّلِ فَيَكُونُ الْخُصُوصُ مَأْمُورًا بِهِ كَالْقُنُوتِ فِي النَّوَازِلِ وَبَعْضُهَا يُنْفَى مُطْلَقًا فَفِعْلُ الطَّاعَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا مُطْلَقًا حَسَنٌ وَإِيجَابُ مَا لَيْسَ فِيهِ سُنَّةٌ مَكْرُوهٌ. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ إذَا جُمِعَتْ نَظَائِرُهَا نَفَعَتْ وَتَمَيَّزَ بِهَا مَا هُوَ الْبِدَعُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُشْرَعُ جِنْسُهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَأَنَّهَا قَدْ تُمَيَّزُ بِوَصْفِ اخْتِصَاصٍ تَبْقَى مَكْرُوهَةً لِأَجْلِهِ أَوْ مُحَرَّمَةً كَصَوْمِ يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ وَالصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ كَمَا قَدْ تَتَمَيَّزُ بِوَصْفِ اخْتِصَاصٍ تَكُونُ وَاجِبَةً لِأَجْلِهِ أَوْ مُسْتَحَبَّةً كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ. وَلِهَذَا قَدْ يَقَعُ مِنْ خَلْقِهِ الْعِبَادَةُ الْمُطْلَقَةُ وَالتَّرْغِيبُ فِيهَا فِي أَنْ شَرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كَمَا قَدْ يَقَعُ مِنْ خَلْقِهِ الْعِلْمُ الْمُجَرَّدُ فِي النَّهْيِ عَنْ بَعْضِ الْمُسْتَحَبِّ أَوْ تَرْكِ التَّرْغِيبِ. وَلِهَذَا لَمَّا عَابَ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَأَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْمُتَصَوِّفَةِ مَنْ يَصِلُ بِبِدَعِ الْأَمْرِ لِشَرْعِ الدِّينِ وَفِي الْمُتَفَقِّهَةِ مَنْ يَصِلُ بِبِدَعِ التَّحْرِيمِ إلَى الْكُفْرِ.

ص: 198

وَقَالَ:

فَصْلٌ:

" الْإِيجَابُ وَالتَّحْرِيمُ " قَدْ يَكُونُ نِعْمَةً؛ وَقَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً؛ وَقَدْ يَكُونُ مِحْنَةً. فَالْأَوَّلُ كَإِيجَابِ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرُوفِ؛ وَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَالْمُنْكَرِ وَهُوَ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْقَائِلُونَ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وَالْعُقُوبَةِ كَقَوْلِهِ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وَقَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} وَقَوْلِهِ: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} فَسَمَّاهَا آصَارًا وَأَغْلَالًا وَالْآصَارُ فِي الْإِيجَابِ وَالْأَغْلَالُ فِي التَّحْرِيمِ. وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَقَوْلُهُ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} فَإِنَّ هَذَا النَّفْيَ الْعَامَّ يَنْفِي كُلَّ مَا يُسَمَّى حَرَجًا،

ص: 199

وَالْحَرَجُ: الضِّيقُ فَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ مَا يَضِيقُ؛ وَلَا حَرَّمَ مَا يَضِيقُ وَضِدَّهُ السِّعَةُ وَالْحَرَجُ مِثْلُ الْغَلِّ وَهُوَ: الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى الْخُرُوجِ وَأَمَّا الْمِحْنَةُ فَمِثْلُ قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} الْآيَةَ. ثُمَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِإِنْزَالِ الْخِطَابِ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي زَمَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ انْقَطَعَ. وَقَدْ يَكُونُ بِإِظْهَارِ الْخِطَابِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهُ؛ ثُمَّ سَمِعَهُ وَقَدْ يَكُونُ بِاعْتِقَادِ نُزُولِ الْخِطَابِ أَوْ مَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَ اعْتِقَادًا مُخْطِئًا لِأَنَّ الْحُكْمَ الظَّاهِرَ تَابِعٌ لِاعْتِقَادِ الْمُكَلَّفِ. فَالتَّكْلِيفُ الشَّرْعِيُّ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ مِثْلَ الَّذِي تَيَقَّنَ أَنَّهُ مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا؛ مِثْلَ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ هُوَ الْإِيجَابُ أَوْ التَّحْرِيمُ؛ إمَّا اجْتِهَادًا وَإِمَّا تَقْلِيدًا وَإِمَّا جَهْلًا مُرَكَّبًا بِأَنْ نُصِبَ سَبَبٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرًا دُونَ مَا يُعَارِضُهُ تَكْلِيفٌ ظَاهِرٌ؛ إذْ الْمُجْتَهِدُ الْمُخْطِئُ مُصِيبٌ فِي الظَّاهِرِ لِمَا أُمِرَ بِهِ؛ وَهُوَ مُطِيعٌ فِي ذَلِكَ هَذَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْكَوْنِ بِأَنْ يَخْلُقَ سُبْحَانَهُ مَا يَقْتَضِي وُجُودَ التَّحْرِيمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ وَالْوُجُوبِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ كَقَوْلِهِ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ

ص: 200

بَلَاهُمْ بِفِسْقِهِمْ حَيْثُ أَتَى بِالْحِيتَانِ يَوْمَ التَّحْرِيمِ وَمَنَعَهَا يَوْمَ الْإِبَاحَةِ. كَمَا يُؤْتَى الْمُحْرِمُ الْمُبْتَلَى بِالصَّيْدِ يَوْمَ إحْرَامِهِ. وَلَا يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ حِلِّهِ؛ أَوْ يُؤْتَى بِمَنْ يُعَامِلُهُ رِبًا وَلَا يُؤْتَى بِمَنْ يُعَامِلُهُ بَيْعًا. وَمِنْ ذَلِكَ مَجِيءُ الْإِبَاحَةِ وَالْإِسْقَاطِ نِعْمَةً وَهَذَا كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُهَا.

ص: 201

وَقَالَ رحمه الله:

أَمَّا فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ فَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُوجِبُ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى عَلَى الْعَامَّةِ وَالنِّسَاءِ حَتَّى يُوجِبُوهُ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا فُضَلَاءُ الْأُمَّةِ قَالُوا: لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَا وَاجِبٌ وَلَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ إلَّا بِالنَّظَرِ الْخَاصِّ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْأُمَّةِ فَعَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَا وَجَبَ عِلْمُهُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَاجِزٌ عَنْ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الدَّقَائِقِ فَكَيْفَ يُكَلَّفُ الْعِلْمَ بِهَا؟ وَأَيْضًا فَالْعِلْمُ قَدْ يَحْصُلُ بِلَا نَظَرٍ خَاصٍّ بَلْ بِطُرُقِ أُخَرَ: مِنْ اضْطِرَارٍ وَكَشْفٍ وَتَقْلِيدِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُصِيبٌ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنْ الْمُحَدِّثَةِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْعَامَّةِ قَدْ يُحَرِّمُونَ النَّظَرَ فِي دَقِيقِ الْعِلْمِ وَالِاسْتِدْلَالَ وَالْكَلَامَ فِيهِ حَتَّى ذَوِي الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَأَهْلِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَيُوجِبُونَ التَّقْلِيدَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَوْ الْإِعْرَاضَ عَنْ تَفْصِيلِهَا.

ص: 202

وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ النَّافِعَ مُسْتَحَبٌّ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ إذَا كَانَ كَلَامًا بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ حَيْثُ يَضُرُّ فَإِذَا كَانَ كَلَامًا بِعِلْمِ وَلَا مَضَرَّةَ فِيهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ كَانَ نَافِعًا فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ فَلَا إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ صَحِيحًا وَلَا إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ صَحِيحًا. وَكَذَلِكَ الْمَسَائِلُ الفروعية: مِنْ غَالِيَةِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ مَنْ يُوجِبُ النَّظَرَ وَالِاجْتِهَادَ فِيهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى عَلَى الْعَامَّةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَبُ عِلْمِهَا وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ فَإِنَّمَا يَجِبُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى مَعْرِفَتِهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُفَصَّلَةِ تَتَعَذَّرُ أَوْ تَتَعَسَّرُ عَلَى أَكْثَرِ الْعَامَّةِ. وَبِإِزَائِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْمَذَاهِبِ مَنْ يُوجِبُ التَّقْلِيدَ فِيهَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ: عُلَمَائِهِمْ؛ وَعَوَامِّهِمْ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُوجِبُ التَّقْلِيدَ بَعْدَ عَصْرِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ مُطْلَقًا ثُمَّ هَلْ يَجِبُ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ اتِّبَاعُ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ يُقَلِّدُهُ فِي عَزَائِمِهِ وَرُخَصِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا أَصْحَابُ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ لَكِنْ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ ذَلِكَ؟ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأُمَّةِ أَنَّ الِاجْتِهَادَ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ؛ وَالتَّقْلِيدَ

ص: 203

جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ لَا يُوجِبُونَ الِاجْتِهَادَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَيُحَرِّمُونَ التَّقْلِيدَ وَلَا يُوجِبُونَ التَّقْلِيدَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَيُحَرِّمُونَ الِاجْتِهَادَ وَأَنَّ الِاجْتِهَادَ جَائِزٌ لِلْقَادِرِ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدَ جَائِزٌ لِلْعَاجِزِ عَنْ الِاجْتِهَادِ. فَأَمَّا الْقَادِرُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ؟ هَذَا فِيهِ خِلَافٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ حَيْثُ عَجَزَ عَنْ الِاجْتِهَادِ: إمَّا لِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَإِمَّا لِضِيقِ الْوَقْتِ عَنْ الِاجْتِهَادِ وَإِمَّا لِعَدَمِ ظُهُورِ دَلِيلٍ لَهُ؛ فَإِنَّهُ حَيْثُ عَجَزَ سَقَطَ عَنْهُ وُجُوبُ مَا عَجَزَ عَنْهُ وَانْتَقَلَ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ التَّقْلِيدُ كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ. وَكَذَلِكَ الْعَامِّيُّ إذَا أَمْكَنَهُ الِاجْتِهَادُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ مُنَصَّبٌ يَقْبَلُ التجزي وَالِانْقِسَامَ فَالْعِبْرَةُ بِالْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ قَادِرًا فِي بَعْضٍ عَاجِزًا فِي بَعْضٍ لَكِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الِاجْتِهَادِ لَا تَكُونُ إلَّا بِحُصُولِ عُلُومٍ تُفِيدُ مَعْرِفَةَ الْمَطْلُوبِ فَأَمَّا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ فَنٍّ فَيَبْعُدُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ص: 204

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ

فَصْلٌ:

وَأَمَّا حَلِفُ كُلِّ وَاحِدٍ: أَنَّ أَفْضَلَ الْمَذَاهِبِ مَذْهَبُ فُلَانٍ: فَهَذَا إنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: لَا يَحْنَثُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: يَحْنَثُونَ إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ حِنْثَهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ؛ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا وَيَجُوزُ كَوْنُهُمْ سَوَاءً فَيَحْنَثُونَ كُلُّهُمْ وَإِذَا حَنِثُوا إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي عَيْنِهِ فَهِيَ كَمَا لَوْ قَالَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ: إنْ كَانَ غُرَابًا فَزَوْجَتُهُ طَالِقٌ وَقَالَ الْآخَرُ: إنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَزَوْجَتُهُ طَالِقٌ وَهَذِهِ فِيهَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَقَعُ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا طَلَاقٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ لَكِنْ يَكُفُّ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ قِيلَ: حَتْمًا وَقِيلَ: رَدْعًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَقَعُ بِأَحَدِهِمَا كَمَا لَوْ كَانَ الْحَالِفُ وَاحِدًا وَأَوْقَعَهُ

ص: 205

بِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ وَعَلَى هَذَا فَهَلْ تَخْرُجُ الْمُطَلَّقَةُ بِالْقَرْعَةِ؛ أَوْ يُوقَفُ الْأَمْرُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالْوَقْفُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ يُحَنِّثُ الْجَمِيعَ وَلَوْ تَبَيَّنَ صِدْقُ الْحَالِفِ؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَالنِّزَاعُ فِيهَا كَالنِّزَاعِ فِي أَصْلِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ لَا يُوقِعُونَ الطَّلَاقَ لِأَجْلِ الشَّكِّ وَمَالِكٌ يُوقِعُهُ لِعَدَمِ عِلْمِ الْحَالِفِ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَهَذِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ وَاحِدٌ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُهُ وَلَمْ يُنَاقِضْهُ غَيْرُهُ مِثْلَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّ مَذْهَبَ فُلَانٍ أَفْضَلُ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِذَلِكَ.

ص: 206

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ يُقَلِّدُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ: فَهَلْ يُنْكَرُ عَلَيْهِ أَمْ يُهْجَرُ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ يَعْمَلُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ مَنْ عَمِلَ فِيهَا بِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُهْجَرْ وَمَنْ عَمِلَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: فَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَظْهَرُ لَهُ رُجْحَانُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَمِلَ بِهِ وَإِلَّا قَلَّدَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ فِي بَيَانِ أَرْجَحِ الْقَوْلَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 207

وَسُئِلَ رضي الله عنه:

مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءَ أَئِمَّةُ الدِّينِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ - فِي رَجُلٍ سُئِلَ إيش مَذْهَبُك؟ فَقَالَ: مُحَمَّدِيٌّ أَتَّبِعُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ لَا: يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَتَّبِعَ مَذْهَبًا وَمَنْ لَا مَذْهَبَ لَهُ فَهُوَ شَيْطَانٌ فَقَالَ: إيش كَانَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ رضي الله عنهم؟ فَقِيلَ لَهُ: لَا يَنْبَغِي لَك إلَّا أَنْ تَتَّبِعَ مَذْهَبًا مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ فَأَيُّهُمَا الْمُصِيبُ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إنَّمَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ طَاعَةُ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَهَؤُلَاءِ أُولُوا الْأَمْرِ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} إنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ تَبَعًا لِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا اسْتِقْلَالًا ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . وَإِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِ نَازِلَةٌ فَإِنَّهُ يَسْتَفْتِي مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يُفْتِيهِ بِشَرْعِ اللَّهِ

ص: 208

وَرَسُولِهِ مِنْ أَيِّ مَذْهَبٍ كَانَ وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْلِيدُ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْتِزَامُ مَذْهَبِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ مَا يُوجِبُهُ وَيُخْبِرُ بِهِ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَاتِّبَاعُ شَخْصٍ لِمَذْهَبِ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ إنَّمَا هُوَ مِمَّا يَسُوغُ لَهُ لَيْسَ هُوَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إذَا أَمْكَنَهُ مَعْرِفَةُ الشَّرْعِ بِغَيْرِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَيَطْلُبَ عِلْمَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ (1) فَيَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(1)

في المطبوعة: " ورسول " وأظن أن ما أثبتناه هو الصواب حتى يستقيم المعنى

ص: 209

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ تَفَقَّهَ فِي مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَتَبَصَّرَ فِيهِ وَاشْتَغَلَ بَعْدَهُ بِالْحَدِيثِ فَرَأَى أَحَادِيثَ صَحِيحَةً لَا يَعْلَمُ لَهَا نَاسِخًا وَلَا مُخَصِّصًا وَلَا مُعَارِضًا وَذَلِكَ الْمَذْهَبُ مُخَالِفٌ لَهَا: فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْمَذْهَبِ؟ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إلَى الْعَمَلِ بِالْأَحَادِيثِ وَيُخَالِفُ مَذْهَبَهُ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى فَرَضَ عَلَى الْخَلْقِ طَاعَتَهُ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ طَاعَةَ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ صِدِّيقُ الْأُمَّةِ وَأَفْضَلُهَا بَعْدَ نَبِيِّهَا يَقُولُ: أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللَّهَ فَإِذَا عَصَيْت اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ. وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مَعْصُومًا فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى

ص: 210

عَنْهُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ: كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ رضي الله عنهم قَدْ نَهَوْا النَّاسَ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَقُولُونَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ؛ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هَذَا رَأْيِي وَهَذَا أَحْسَنُ مَا رَأَيْت؛ فَمَنْ جَاءَ بِرَأْيٍ خَيْرٍ مِنْهُ قَبِلْنَاهُ وَلِهَذَا لَمَّا اجْتَمَعَ أَفْضَلُ أَصْحَابِهِ أَبُو يُوسُفَ بِمَالِكِ فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةِ الصَّاعِ؛ وَصَدَقَةِ الْخَضْرَاوَاتِ؛ وَمَسْأَلَةِ الْأَجْنَاسِ؛ فَأَخْبَرَهُ مَالِكٌ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: رَجَعْت إلَى قَوْلِك يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَلَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْت لَرَجَعَ إلَى قَوْلِك كَمَا رَجَعْت. وَمَالِكٌ كَانَ يَقُولُ: إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُصِيبُ وَأُخْطِئُ فَاعْرِضُوا قَوْلِي عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ. وَالشَّافِعِيُّ كَانَ يَقُولُ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ وَإِذَا رَأَيْت الْحُجَّةَ مَوْضُوعَةً عَلَى الطَّرِيقِ فَهِيَ قَوْلِي. وَفِي مُخْتَصَرِ المزني لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ اخْتَصَرَهُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ مَذْهَبِهِ قَالَ: مَعَ إعْلَامِهِ نَهْيَهُ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَالْإِمَامُ أَحْمَد كَانَ يَقُولُ: لَا تُقَلِّدُونِي وَلَا تُقَلِّدُوا مَالِكًا وَلَا الشَّافِعِيَّ

ص: 211

وَلَا الثَّوْرِيَّ وَتَعَلَّمُوا كَمَا تَعَلَّمْنَا. وَكَانَ يَقُولُ: مِنْ قِلَّةِ عِلْمِ الرَّجُلِ أَنْ يُقَلِّدَ دِينَهُ الرِّجَالَ وَقَالَ: لَا تُقَلِّدْ دِينَك الرِّجَالَ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَسْلَمُوا مِنْ أَنْ يَغْلَطُوا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ} وَلَازِمُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ اللَّهُ فِي الدِّينِ لَمْ يُرِدْ بِهِ خَيْرًا فَيَكُونُ التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ فَرْضًا. وَالتَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ: مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِأَدِلَّتِهَا السَّمْعِيَّةِ. فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَفَقِّهًا فِي الدِّينِ لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا يَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ لَا كُلُّ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ التَّفَقُّهِ وَيَلْزَمُهُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْقَادِرُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ؛ فَقِيلَ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا وَقِيلَ: يَجُوزُ مُطْلَقًا وَقِيلَ: يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ كَمَا إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ. وَالِاجْتِهَادُ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا وَاحِدًا لَا يَقْبَلُ التجزي وَالِانْقِسَامَ بَلْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُجْتَهِدًا فِي فَنٍّ أَوْ بَابٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ دُونَ فَنٍّ وَبَابٍ وَمَسْأَلَةٍ وَكُلُّ أَحَدٍ فَاجْتِهَادُهُ بِحَسَبِ وُسْعِهِ فَمَنْ نَظَرَ فِي مَسْأَلَةٍ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا وَرَأَى مَعَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ نُصُوصًا لَمْ يَعْلَمْ لَهَا مُعَارِضًا بَعْدَ نَظَرِ مِثْلِهِ فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:

ص: 212

إمَّا أَنْ يَتَّبِعَ قَوْلَ الْقَائِلِ الْآخَرِ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ الْإِمَامَ الَّذِي اشْتَغَلَ عَلَى مَذْهَبِهِ؛ وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ بَلْ مُجَرَّدُ عَادَةٍ يُعَارِضُهَا عَادَةُ غَيْرِهِ وَاشْتِغَالٌ عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ آخَرَ. وَإِمَّا أَنْ يَتَّبِعَ الْقَوْلَ الَّذِي تَرَجَّحَ فِي نَظَرِهِ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ مُوَافَقَتُهُ لِإِمَامِ يُقَاوِمُ ذَلِكَ الْإِمَامَ وَتَبْقَى النُّصُوصُ سَالِمَةً فِي حَقِّهِ عَنْ الْمُعَارِضِ بِالْعَمَلِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَصْلُحُ. وَإِنَّمَا تَنَزَّلْنَا هَذَا التَّنَزُّلَ لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إنَّ نَظَرَ هَذَا قَاصِرٌ وَلَيْسَ اجْتِهَادُهُ قَائِمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِضَعْفِ آلَةِ الِاجْتِهَادِ فِي حَقِّهِ. أَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَى الِاجْتِهَادِ التَّامِّ الَّذِي يَعْتَقِدُ مَعَهُ أَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ لَيْسَ مَعَهُ مَا يَدْفَعُ بِهِ النَّصَّ فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ النُّصُوصِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ مُتَّبِعًا لِلظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَكَانَ مَنْ أَكْبَرِ الْعُصَاةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ بِخِلَافِ مَنْ يَقُولُ: قَدْ يَكُونُ لِلْقَوْلِ الْآخَرِ حُجَّةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى هَذَا النَّصِّ وَأَنَا لَا أَعْلَمُهَا فَهَذَا يُقَالُ لَهُ: قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَاَلَّذِي تَسْتَطِيعُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ دَلَّكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الرَّاجِحُ فَعَلَيْك أَنْ تَتَّبِعَ ذَلِكَ ثُمَّ إنْ تَبَيَّنَ لَك فِيمَا بَعْدُ أَنَّ لِلنَّصِّ مُعَارِضًا رَاجِحًا كَانَ حُكْمُك فِي ذَلِكَ حُكْمَ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَانْتِقَالُ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلٍ إلَى

ص: 213

قَوْلٍ لِأَجْلِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ الْحَقِّ هُوَ مَحْمُودٌ فِيهِ بِخِلَافِ إصْرَارِهِ عَلَى قَوْلٍ لَا حُجَّةَ مَعَهُ عَلَيْهِ وَتَرْكُ الْقَوْلِ الَّذِي وَضَحَتْ حُجَّتُهُ أَوْ الِانْتِقَالُ عَنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ لِمُجَرَّدِ عَادَةٍ وَاتِّبَاعِ هَوًى فَهَذَا مَذْمُومٌ. وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ الْمُقَلَّدُ قَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَرَكَهُ - لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا - فَمِثْلُ هَذَا وَحْدَهُ لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي تَرْكِ النَّصِّ فَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي " رَفْعِ الْمَلَامِ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ " نَحْوَ عِشْرِينَ عُذْرًا لِلْأَئِمَّةِ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِبَعْضِ الْحَدِيثِ وَبَيَّنَّا أَنَّهُمْ يُعْذَرُونَ فِي التَّرْكِ لِتِلْكَ الْأَعْذَارِ وَأَمَّا نَحْنُ فَمَعْذُورُونَ فِي تَرْكِهَا لِهَذَا الْقَوْلِ. فَمَنْ تَرَكَ الْحَدِيثَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ؛ أَوْ أَنَّ رَاوِيَهُ مَجْهُولٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ وَيَكُونُ غَيْرُهُ قَدْ عَلِمَ صِحَّتَهُ وَثِقَةَ رَاوِيهِ: فَقَدْ زَالَ عُذْرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ هَذَا وَمَنْ تَرَكَ الْحَدِيثَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يُخَالِفُهُ؛ أَوْ الْقِيَاسِ؛ أَوْ عَمَلٍ لِبَعْضِ الْأَمْصَارِ؛ وَقَدْ تَبَيَّنَ لِلْآخَرِ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ لَا يُخَالِفُهُ؛ وَأَنَّ نَصَّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مُقَدَّمٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ؛ وَمُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَالْعَمَلِ: لَمْ يَكُنْ عُذْرُ ذَلِكَ الرَّجُلِ عُذْرًا فِي حَقِّهِ؛ فَإِنَّ ظُهُورَ الْمَدَارِكِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْأَذْهَانِ وَخَفَاءَهَا عَنْهَا أَمْرٌ لَا يَنْضَبِطُ طَرَفَاهُ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ التَّارِكُ لِلْحَدِيثِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَغَيْرِهَا الَّذِينَ يُقَالُ: إنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْحَدِيثَ إلَّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ أَوْ مُعَارَضٌ بِرَاجِحِ وَقَدْ بَلَغَ مَنْ بَعْدَهُ أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ

ص: 214

وَالْأَنْصَارَ لَمْ يَتْرُكُوهُ بَلْ عَمِلَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ؛ أَوْ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُمْ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْدَحُ فِي هَذَا الْمُعَارِضِ لِلنَّصِّ. وَإِذَا قِيلَ لِهَذَا الْمُسْتَهْدِي الْمُسْتَرْشِدِ: أَنْتَ أَعْلَمُ أَمْ الْإِمَامُ الْفُلَانِيُّ؟ كَانَتْ هَذِهِ مُعَارَضَةً فَاسِدَةً؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ الْفُلَانِيَّ قَدْ خَالَفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْ هُوَ نَظِيرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَلَسْت أَعْلَمُ مِنْ هَذَا وَلَا هَذَا وَلَكِنَّ نِسْبَةَ هَؤُلَاءِ إلَى الْأَئِمَّةِ كَنِسْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وأبي وَمُعَاذٍ وَنَحْوِهِمْ إلَى الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَكَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ أَكْفَاءٌ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ؛ وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ يَكُونُ أَعْلَمَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: فَكَذَلِكَ مَوَارِدُ النِّزَاعِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَقَدْ تَرَكَ النَّاسُ قَوْلَ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي مَسْأَلَةِ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ وَأَخَذُوا بِقَوْلِ مَنْ هُوَ دُونَهُمَا كَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ لَمَّا احْتَجَّ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَرَكُوا قَوْلَ عُمَرَ فِي دِيَةِ الْأَصَابِعِ وَأَخَذُوا بِقَوْلِ مُعَاوِيَةَ لِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ السُّنَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ ". وَقَدْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يُنَاظِرُ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي الْمُتْعَةِ فَقَالَ لَهُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقُولُونَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟ .

ص: 215

وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنْهَا فَأَمَرَ بِهَا فَعَارَضُوا بِقَوْلِ عُمَرَ فَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَرُدَّ مَا يَقُولُونَهُ فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ: أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ أَمْرُ عُمَرَ؟ مَعَ عِلْمِ النَّاسِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَعْلَمُ مِمَّنْ هُوَ فَوْقَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَوَجَبَ أَنْ يُعْرِضَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَبْقَى كُلُّ إمَامٍ فِي أَتْبَاعِهِ بِمَنْزِلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أُمَّتِهِ وَهَذَا تَبْدِيلٌ لِلدِّينِ يُشْبِهُ مَا عَابَ اللَّهُ بِهِ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.

ص: 216

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

هَلْ لَازِمُ الْمَذْهَبِ مَذْهَبٌ أَمْ لَا؟.

فَأَجَابَ:

وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: هَلْ لَازِمُ الْمَذْهَبِ مَذْهَبٌ أَمْ لَيْسَ بِمَذْهَبِ؟ فَالصَّوَابُ: أَنَّ [لَازِمَ](*) مَذْهَبَ الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِمَذْهَبِ لَهُ إذَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ قَدْ أَنْكَرَهُ وَنَفَاهُ كَانَتْ إضَافَتُهُ إلَيْهِ كَذِبًا عَلَيْهِ بَلْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ وَتَنَاقُضِهِ فِي الْمَقَالِ غَيْرِ الْتِزَامِهِ اللَّوَازِمَ الَّتِي يَظْهَرُ أَنَّهَا مِنْ قِبَلِ الْكُفْرِ وَالْمِحَالِ مِمَّا هُوَ أَكْثَرُ فَاَلَّذِينَ قَالُوا بِأَقْوَالِ يَلْزَمُهَا أَقْوَالٌ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُهَا لَكِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهَا تَلْزَمُهُ وَلَوْ كَانَ لَازِمُ الْمَذْهَبِ مَذْهَبًا لَلَزِمَ تَكْفِيرُ كُلِّ مَنْ قَالَ عَنْ الِاسْتِوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الصِّفَاتِ أَنَّهُ مَجَازٌ لَيْسَ بِحَقِيقَةِ؛ فَإِنَّ لَازِمَ هَذَا الْقَوْلِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَسْمَائِهِ أَوْ صِفَاتِهِ حَقِيقَةً وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ إيمَانًا؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ يُثْبِتُهُ الْقَلْبُ إلَّا وَيُقَالُ فِيهِ نَظِيرُ مَا يُقَالُ فِي الْآخَرِ وَلَازِمُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ يَسْتَلْزِمُ قَوْلَ غُلَاةِ الْمَلَاحِدَةِ الْمُعَطِّلِينَ الَّذِينَ هُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

(*) ما بين معقوفتين غير موجود في المطبوع، والمثبت من كتاب صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف ص 263

ص: 217

لَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَنْفِي ذَلِكَ لَا يَعْلَمُ لَوَازِمَ قَوْلِهِ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَيْسَتْ إلَّا مَحْضَ حَقَائِقِ الْمَخْلُوقِينَ وَهَؤُلَاءِ جُهَّالٌ بِمُسَمَّى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَقَوْلُهُمْ افْتِرَاءٌ عَلَى اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ نَفْيُ الْحَقِيقَةِ نَفْيَ مُمَاثَلَةِ صِفَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ قِيلَ لَهُ: أَحْسَنْت فِي نَفْيِ هَذَا الْمَعْنَى الْفَاسِدِ وَلَكِنْ أَخْطَأْت فِي ظَنِّك أَنَّ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِسَمِيعِ حَقِيقَةً؛ وَلَا بَصِيرٍ حَقِيقَةً؛ وَلَا مُتَكَلِّمٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا يَعْهَدُهُ مِنْ سَمْعِ الْمَخْلُوقِينَ وَبَصَرِهِمْ وَكَلَامِهِمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. فَيُقَالُ لَهُ: أَصَبْت فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ مُمَاثَلَتِهِ خَلْقَهُ؛ لَكِنْ أَخْطَأْت فِي ظَنِّك أَنَّهُ إذَا كَانَ اللَّهُ سَمِيعًا حَقِيقَةً بَصِيرًا حَقِيقَةً مُتَكَلِّمًا حَقِيقَةً كَانَ هَذَا مُتَضَمِّنًا لِمُمَاثَلَتِهِ خَلْقَهُ. فَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: إذَا قُلْنَا: إنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً لَزِمَ التَّجْسِيمُ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي سَمَّيْته تَجْسِيمًا وَنَفَيْته هُوَ لَازِمٌ لَك إذَا قُلْت: إنَّ لَهُ عِلْمًا حَقِيقَةً؛ وَقُدْرَةً حَقِيقَةً وَسَمْعًا حَقِيقَةً: وَبَصَرًا حَقِيقَةً؛ وَكَلَامًا حَقِيقَةً؛ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ الصِّفَاتِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ هِيَ فِي حَقِّنَا أَعْرَاضٌ قَائِمَةٌ بِجِسْمِ فَإِذَا كُنْت تُثْبِتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ تَنْزِيهِك لَهُ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّجْسِيمِ: فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الِاسْتِوَاءِ؛ وَلَا فَرْقَ.

ص: 218

فَإِنْ قُلْت: أَهْلُ اللُّغَةِ إنَّمَا وَضَعُوا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمَخْلُوقُ فَلَا يَكُونُ حَقِيقَةً فِي غَيْرِ ذَلِكَ. قُلْت: وَلَكِنَّ هَذَا خَطَأٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَمِ: مُسْلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ وَبِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَاتِ فَضْلًا عَنْ أَهْلِ الشَّرَائِعِ وَالدِّيَانَاتِ وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ لَفْظَ الْوَجْهِ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ حَقِيقَةً فِي وَجْهِ الْإِنْسَانِ دُونَ وَجْهِ الْحَيَوَانِ وَالْمَلَكِ وَالْجِنِّيِّ أَوْ لَفْظَ الْعِلْمِ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ حَقِيقَةً فِي عِلْمِ الْإِنْسَانِ دُونَ عِلْمِ الْمَلَكِ وَالْجِنِّيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَسْمَاءَ الصِّفَاتِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ بِحَسَبِ مَا تُضَافُ إلَيْهِ؛ فَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ أَنَّ نِسْبَةَ كُلِّ صِفَةٍ إلَى مَوْصُوفِهَا كَنِسْبَةِ تِلْكَ الصِّفَةِ إلَى مَوْصُوفِهَا فَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ النِّسْبَةُ فَنِسْبَةُ عِلْمِ الْمَلَكِ وَالْجِنِّيِّ وَوُجُوهِهِمَا إلَيْهِ كَنِسْبَةِ عِلْمِ الْإِنْسَانِ وَوَجْهِهِ إلَيْهِ وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 219

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

أَنْ يَشْرَحَ مَا ذَكَرَهُ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ حَمْدَان: مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا أُنْكِرَ عَلَيْهِ مُخَالَفَتُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا تَقْلِيدٍ أَوْ عُذْرٍ آخَرَ؟ .

فَأَجَابَ:

هَذَا يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا ثُمَّ فَعَلَ خِلَافَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ لِعَالِمِ آخَرَ أَفْتَاهُ؛ وَلَا اسْتِدْلَالَ بِدَلِيلِ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ يُبِيحُ لَهُ مَا فَعَلَهُ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ وَعَامِلًا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا تَقْلِيدٍ فَاعِلًا لِلْمُحَرَّمِ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ فَهَذَا مُنْكَرٌ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا ثُمَّ يَعْتَقِدَهُ غَيْرَ وَاجِبٍ وَلَا حَرَامٍ بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِشُفْعَةِ الْجِوَارِ فَيَعْتَقِدَهَا أَنَّهَا حَقٌّ لَهُ ثُمَّ إذَا طَلَبْت مِنْهُ شُفْعَةَ الْجِوَارِ اعْتَقَدَهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً أَوْ مِثْلَ مَنْ يَعْتَقِدُ إذَا كَانَ أَخًا مَعَ جَدٍّ أَنَّ الْإِخْوَةَ تُقَاسِمُ الْجَدَّ فَإِذَا صَارَ جَدًّا مَعَ أَخ اعْتَقَدَ أَنَّ الْجَدَّ لَا يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ أَوْ إذَا كَانَ لَهُ عَدُوٌّ يَفْعَلُ بَعْضَ الْأُمُورِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَشُرْبِ النَّبِيذِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَلِعْبِ الشِّطْرَنْجِ

ص: 220

وَحُضُورِ السَّمَاعِ أَنَّ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُهْجَرَ وَيُنْكَرَ عَلَيْهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَدِيقُهُ اعْتَقَدَ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا تُنْكَرُ فَمِثْلُ هَذَا مُمْكِنٌ فِي اعْتِقَادِهِ حِلُّ الشَّيْءِ وَحُرْمَتُهُ وَوُجُوبُهُ وَسُقُوطُهُ بِحَسَبِ هَوَاهُ هُوَ مَذْمُومٌ بِخُرُوجِهِ خَارِجٌ عَنْ الْعَدَالَةِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ لَهُ مَا يُوجِبُ رُجْحَانَ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ إمَّا بِالْأَدِلَّةِ الْمُفَصَّلَةِ إنْ كَانَ يَعْرِفُهَا وَيَفْهَمُهَا وَإِمَّا بِأَنْ يَرَى أَحَدَ رَجُلَيْنِ أَعْلَمَ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْآخَرِ وَهُوَ أَتْقَى لِلَّهِ فِيمَا يَقُولُهُ فَيَرْجِعُ عَنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ لِمِثْلِ هَذَا فَهَذَا يَجُوزُ بَلْ يَجِبُ وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَمْدَان: الْمُرَادُ بِهِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا أُنْكِرُ عَلَيْهِ مُخَالَفَتَهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ أَوْ تَقْلِيدٍ أَوْ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا خَالَفَهُ لِدَلِيلِ فَتَبَيَّنَ لَهُ بِالْقَوْلِ الرَّاجِحِ أَوْ تَقْلِيدٍ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي خِلَافِهِ؛ أَوْ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ أَبَاحَ الْمَحْظُورَ الَّذِي يُبَاحُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْعُذْرِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ. وَهُنَا مَسْأَلَةٌ ثَانِيَةٌ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ أَرَادَهَا وَلَمْ يُرِدْهَا لَكِنَّا نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ إرَادَتِهَا وَهُوَ أَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ

ص: 221

قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد وَكَذَلِكَ غَيْرُ هَذَا مَا يَذْكُرُهُ ابْنُ حَمْدَان أَوْ غَيْرُهُ؛ يَكُونُ مِمَّا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَنْهُ وَكَذَلِكَ مَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ كَثِيرٌ مِنْهُ يَكُونُ مِمَّا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِمْ وَلَيْسَ مَنْصُوصًا عَنْهُمْ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْمَنْصُوصُ عَنْهُمْ خِلَافَ ذَلِكَ.

وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْعَامِّيَّ هَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا يَأْخُذَ بِعَزَائِمِهِ وَرُخَصِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَد وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُوجِبُونَ ذَلِكَ وَاَلَّذِينَ يُوجِبُونَهُ يَقُولُونَ: إذَا الْتَزَمَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ مَا دَامَ مُلْتَزِمًا لَهُ أَوْ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالِالْتِزَامِ مِنْهُ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْتِزَامَ الْمَذَاهِبِ وَالْخُرُوجَ عَنْهَا إنْ كَانَ لِغَيْرِ أَمْرٍ دِينِيٍّ مِثْلَ: أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا لِحُصُولِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَهَذَا مِمَّا لَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ بَلْ يُذَمُّ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ وَلَوْ كَانَ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ خَيْرًا مِمَّا انْتَقَلَ عَنْهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يُسْلِمُ إلَّا لِغَرَضِ دُنْيَوِيٍّ أَوْ يُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ لِامْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا أَوْ دُنْيَا يُصِيبُهَا وَقَدْ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ هَاجَرَ لِامْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ قَيْسٍ فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: مُهَاجِرُ أُمِّ قَيْسٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ

ص: 222

بِالنِّيَّاتِ؛ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ} . وَأَمَّا إنْ كَانَ انْتِقَالُهُ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ لِأَمْرِ دِينِيٍّ مِثْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ رُجْحَانَ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ فَيَرْجِعَ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ: فَهُوَ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ؛ بَلْ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ أَلَّا يَعْدِلَ عَنْهُ وَلَا يَتَّبِعَ أَحَدًا فِي مُخَالَفَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ فَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَد كِتَابًا فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَحْلِيلُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِيجَابُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ: الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَاجِبٌ عَلَى

ص: 223

كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ: سِرًّا وَعَلَانِيَةً لَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ رَجَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ إلَى مَنْ يُعَلِّمُهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا قَالَهُ الرَّسُولُ وَأَعْلَمُ بِمُرَادِهِ فَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ وَسَائِلُ وَطُرُقٌ وَأَدِلَّةٌ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الرَّسُولِ يُبَلِّغُونَهُمْ مَا قَالَهُ وَيُفَهِّمُونَهُمْ مُرَادَهُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ وَاسْتِطَاعَتِهِمْ وَقَدْ يَخُصُّ اللَّهُ هَذَا الْعَالِمَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى مِنْ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ هَذَا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} فَهَذَانِ نَبِيَّانِ كَرِيمَانِ حَكَمَا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَخَصَّ اللَّهُ أَحَدَهُمَا بِالْفَهْمِ؛ وَأَثْنَى عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا. وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَاجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَحْكَامِ كَاجْتِهَادِ الْمُسْتَدِلِّينَ عَلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ؛ فَإِذَا صَلَّى أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِطَائِفَةِ إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ هُنَاكَ: فَإِنَّ صَلَاةَ الْأَرْبَعَةِ صَحِيحَةٌ وَاَلَّذِي صَلَّى إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُصِيبُ الَّذِي لَهُ أَجْرَانِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ} . وَأَكْثَرُ النَّاسِ إنَّمَا الْتَزَمُوا الْمَذَاهِبَ بَلْ الْأَدْيَانَ بِحُكْمِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ

ص: 224

فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَنْشَأُ عَلَى دِينِ أَبِيهِ أَوْ سَيِّدِهِ أَوْ أَهْلِ بَلَدِهِ كَمَا يَتْبَعُ. الطِّفْلُ فِي الدِّينِ أَبَوَيْهِ وَسَابِيهِ وَأَهْلَ بَلَدِهِ ثُمَّ إذَا بَلَغَ الرَّجُلُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَيْثُ كَانَتْ وَلَا يَكُونُ مِمَّنْ إذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا فَكُلُّ مَنْ عَدَلَ عَنْ اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ إلَى عَادَتِهِ وَعَادَةِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْوَعِيدِ. وَكَذَلِكَ مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الْحَقُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ إلَى عَادَتِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْ اتَّبَعَ فِيهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ قَوْلَ غَيْرِهِ أَرْجَحُ مِنْ قَوْلِهِ فَهُوَ مَحْمُودٌ يُثَابُ لَا يُذَمُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُعَاقَبُ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ وَمَعْرِفَةِ مَا هُوَ الرَّاجِحُ؛ وَتَوَقَّى بَعْضَ الْمَسَائِلِ فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إلَى التَّقْلِيدِ فَهُوَ قَدْ اخْتَلَفَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد الْمَنْصُوصِ عَنْهُ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ أَنَّ هَذَا آثِمٌ أَيْضًا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا وَقِيلَ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْأَعْلَمِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ هَذَا عَنْ أَحْمَد كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو إسْحَاقَ فِي اللُّمَعِ وَهُوَ غَلَطٌ عَلَى أَحْمَد؛ فَإِنَّ أَحْمَد إنَّمَا يَقُولُ: هَذَا فِي أَصْحَابِهِ فَقَطْ

ص: 225

عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا مِثْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَسُفْيَانَ؛ وَمِثْلُ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي عُبَيْدٍ فَقَدْ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَالِمِ الْقَادِرِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ أَنْ يُقَلِّدَهُمْ وَقَالَ: لَا تُقَلِّدُونِي وَلَا تُقَلِّدُوا مَالِكًا وَلَا الشَّافِعِيَّ وَلَا الثَّوْرِيَّ. وَكَانَ يُحِبُّ الشَّافِعِيَّ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُحِبُّ إسْحَاقَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُثْنِي عَلَى مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ وَيَأْمُرُ الْعَامِّيَّ أَنْ يَسْتَفْتِيَ إسْحَاقَ وَأَبَا عُبَيْدٍ وَأَبَا ثَوْرٍ وَأَبَا مُصْعَبٍ. وَيَنْهَى الْعُلَمَاءَ مِنْ أَصْحَابِهِ كَأَبِي دَاوُد وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ وَإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ؛ وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ وَأَبِي زُرْعَةَ؛ وَأَبِي حَاتِمٍ السجستاني وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمْ: أَنْ يُقَلِّدُوا أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَيَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْأَصْلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

ص: 226

وَسُئِلَ رحمه الله:

أَنْ يَشْرَحَ مَا ذَكَرَهُ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ حَمْدَان فِي آخِرِ " كِتَابِ الرِّعَايَةِ " وَهُوَ قَوْلُهُ: مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا أُنْكِرُ عَلَيْهِ مُخَالَفَتَهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ أَوْ تَقْلِيدٍ أَوْ عُذْرٍ آخَرَ وَيُبَيِّنُ لَنَا مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا مِنْ كَوْنِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ يُذْكَرُ فِيهَا فِي " الْكَافِي " وَ " الْمُحَرَّرِ " وَ " الْمُقْنِعِ " وَ " الرِّعَايَةِ " وَ " الْخُلَاصَةِ " وَ " الْهِدَايَةِ " رِوَايَتَانِ أَوْ وَجْهَانِ؛ وَلَمْ يُذْكَرْ الْأَصَحُّ وَالْأَرْجَحُ فَلَا نَدْرِي بِأَيِّهِمَا نَأْخُذُ؟ وَإِنْ سَأَلُونَا عَنْهُ أَشْكَلَ عَلَيْنَا؟ .

الْجَوَابُ

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا هَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا رِوَايَتَانِ أَوْ وَجْهَانِ وَلَا يُذْكَرُ فِيهَا الصَّحِيحُ: فَطَالِبُ الْعِلْمِ يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبٍ أُخْرَى؛ مِثْلَ كِتَابِ " التَّعْلِيقِ " لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَ " الِانْتِصَارِ " لِأَبِي الْخَطَّابِ وَ " عُمَدِ الْأَدِلَّةِ " لِابْنِ عَقِيلٍ. وَتَعْلِيقِ الْقَاضِي يَعْقُوبَ البرزبيني وَأَبِي الْحَسَنِ ابْنِ الزَّاغُونِي وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ الْكِبَارِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا مَسَائِلُ الْخِلَافِ وَيُذْكَرُ فِيهَا الرَّاجِحُ. وَقَدْ اخْتَصَرْت رُءُوسَ مَسَائِلِ هَذِهِ الْكُتُبِ فِي كُتُبٍ مُخْتَصَرَةٍ

ص: 227

مِثْلَ " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ " لِلْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْبَرَكَاتِ صَاحِبِ " الْمُحَرَّرِ " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِمَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد: أَنَّهُ مَا رَجَّحَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي رُءُوسِ مَسَائِلِهِ. وَمِمَّا يُعْرَفُ مِنْهُ ذَلِكَ كِتَابُ " الْمُغْنِي " لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَكِتَابُ " شَرْحِ الْهِدَايَةِ " لِجَدِّنَا أَبِي الْبَرَكَاتِ وَقَدْ شَرَحَ " الْهِدَايَةَ " غَيْرُ وَاحِدٍ كَأَبِي حَلِيمٍ النهرواني وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ تَيْمِيَّة صَاحِبِ " التَّفْسِيرِ " الْخَطِيبِ عَمِّ أَبِي الْبَرَكَاتِ وَأَبِي الْمَعَالِي ابْنِ المنجا وَأَبِي الْبَقَاءِ النَّحْوِيِّ لَكِنْ لَمْ يُكْمِلْ ذَلِكَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِيمَا يُصَحِّحُونَهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَحِّحُ رِوَايَةً وَيُصَحِّحُ آخَرُ رِوَايَةً فَمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ نَقَلَهُ وَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ قَوْلُ وَاحِدٍ عَلَى قَوْلِ آخَرَ اتَّبَعَ الْقَوْلَ الرَّاجِحَ وَمَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ نَقْلَ مَذْهَبِ أَحْمَد نَقَلَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ وَالْوُجُوهِ وَالطُّرُقِ كَمَا يَنْقُلُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ؛ فَإِنَّهُ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْ اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ عَنْ الْأَئِمَّةِ وَاخْتِلَافِ أَصْحَابِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ مَذْهَبِهِمْ وَمَعْرِفَةِ الرَّاجِحِ شَرْعًا: مَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَمَنْ كَانَ خَبِيرًا بِأُصُولِ أَحْمَد وَنُصُوصِهِ عَرَفَ الرَّاجِحَ فِي مَذْهَبِهِ فِي عَامَّةِ الْمَسَائِلِ وَإِنْ كَانَ لَهُ بَصَرٌ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ عَرَفَ الرَّاجِحَ فِي

ص: 228

الشَّرْعِ؛ وَأَحْمَد كَانَ أَعْلَمَ مِنْ غَيْرِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ وَلِهَذَا لَا يَكَادُ يُوجَدُ لَهُ قَوْلٌ يُخَالِفُ نَصًّا كَمَا يُوجَدُ لِغَيْرِهِ وَلَا يُوجَدُ لَهُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْغَالِبِ إلَّا وَفِي مَذْهَبِهِ قَوْلٌ يُوَافِقُ الْقَوْلَ الْأَقْوَى وَأَكْثَرُ مفاريده الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهَا مَذْهَبُهُ يَكُونُ قَوْلُهُ فِيهَا رَاجِحًا كَقَوْلِهِ بِجَوَازِ فَسْخِ الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ إلَى التَّمَتُّعِ وَقَبُولِهِ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَالْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ وَقَوْلِهِ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ حَتَّى تَتُوبَ وَقَوْلِهِ بِجَوَازِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ وَقَوْلِهِ بِأَنَّ السُّنَّةَ لِلْمُتَيَمِّمِ أَنْ يَمْسَحَ الْكُوعَيْنِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَوْلِهِ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ بِأَنَّهَا تَارَةً تَرْجِعُ إلَى الْعَادَةِ وَتَارَةً تَرْجِعُ إلَى التَّمْيِيزِ؛ وَتَارَةً تَرْجِعُ إلَى غَالِبِ عَادَاتِ النِّسَاءِ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا ثَلَاثُ سُنَنٍ؛ عَمِلَ بِالثَّلَاثَةِ أَحْمَد دُونَ غَيْرِهِ. وَقَوْلِهِ بِجَوَازِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ وَاَلَّتِي فِيهَا شَجَرٌ وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَجَوَازُ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْمُشَارَكَةِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ وَلَا هُوَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَنَظِيرُ هَذَا كَثِيرٌ. وَأَمَّا مَا يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ مُفْرَدَةً لِكَوْنِهِ انْفَرَدَ بِهَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ مَعَ أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ فِيهَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَحْمَد أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ

ص: 229

وَهِيَ الَّتِي صَنَّفَ لَهَا الهراسي رَدًّا عَلَيْهَا وَانْتَصَرَ لَهَا جَمَاعَةٌ كَابْنِ عَقِيلٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى الصَّغِيرِ وَأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ بْنِ الْمُثَنَّى: فَهَذِهِ غَالِبُهَا يَكُونُ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَد أَرْجَحَ مِنْ الْقَوْلِ الْآخَرِ وَمَا يَتَرَجَّحُ فِيهَا الْقَوْلُ الْآخَرُ يَكُونُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ أَحْمَد وَهَذَا: كَإِبْطَالِ الْحِيَلِ الْمُسْقِطَةِ لِلزَّكَاةِ وَالشُّفْعَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ الْحِيَلُ الْمُبِيحَةُ لِلرِّبَا وَالْفَوَاحِشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَاعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ فِي الْعُقُودِ وَالرُّجُوعِ فِي الْأَيْمَانِ إلَى سَبَبِ الْيَمِينِ وَمَا هَيَّجَهَا مَعَ نِيَّةِ الْحَالِفِ؛ وَكَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى أَهْلِ الْجِنَايَاتِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ يُقِيمُونَهَا كَمَا كَانُوا يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى الشَّارِبِ بِالرَّائِحَةِ وَالْقَيْءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَاعْتِبَارِ الْعُرْفِ فِي الشُّرُوطِ وَجَعْلِ الشَّرْطِ الْعُرْفِيِّ كَالشَّرْطِ اللَّفْظِيِّ وَالِاكْتِفَاءِ فِي الْعُقُودِ الْمُطْلَقَةِ بِمَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ وَأَنَّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ وَمَا عَدُّوهُ إجَارَةً فَهُوَ إجَارَةٌ وَمَا عَدُّوهُ هِبَةً فَهُوَ هِبَةٌ وَمَا عَدُّوهُ وَقْفًا فَهُوَ وَقْفٌ لَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.

ص: 230

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة رحمه الله الْحَبْرُ الْكَامِلُ الْعَلَّامَةُ الْأَوْحَدُ الْحَافِظُ الزَّاهِدُ؛ الْعَابِدُ الْوَرِعُ؛ الرَّبَّانِيُّ الْمَقْذُوفُ فِي قَلْبِهِ النُّورُ الْإِلَهِيُّ وَالْعُلُومُ الرَّفِيعَةُ وَالْفُنُونُ الْبَدِيعَةُ الْآخِذُ بِأَزْمَةِ الشَّرِيعَةِ النَّاكِصُ عَنْ الْآرَاءِ الْمُزِلَّةِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ الْمُقْتَفِي لِآثَارِ السَّلَفِ عِلْمًا وَعَمَلًا مُفْتِي الْفِرَقِ مُجْتَهِدُ الْعَصْرِ أَوْحَدُ الدَّهْرِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّة - أَدَامَ اللَّهُ بَرَكَتَهُ وَرَفَعَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَحَلَّهُ وَدَرَجَتَهُ -:

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى آلَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخَاتَمُ أَنْبِيَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ صَلَاةً دَائِمَةً إلَى يَوْمِ لِقَائِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.

وَبَعْدُ: فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مُوَالَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ خُصُوصًا الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، الَّذِينَ

ص: 231

جَعَلَهُمْ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ يُهْتَدَى بِهِمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ إذْ كَلُّ أُمَّةٍ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَعُلَمَاؤُهَا شِرَارُهَا إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عُلَمَاءَهُمْ خِيَارُهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ خُلَفَاءُ الرَّسُولِ فِي أُمَّتِهِ والمحيون لِمَا مَاتَ مِنْ سُنَّتِهِ بِهِمْ قَامَ الْكِتَابُ وَبِهِ قَامُوا وَبِهِمْ نَطَقَ الْكِتَابُ وَبِهِ نَطَقُوا. وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا يَتَعَمَّدُ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ مِنْ سُنَّتِهِ؛ دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ اتِّفَاقًا يَقِينِيًّا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَعَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ قَوْلٌ قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِخِلَافِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عُذْرٍ فِي تَرْكِهِ. وَجَمِيعُ الْأَعْذَارِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: أَحَدُهَا: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ. وَالثَّانِي: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ إرَادَةَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ. وَالثَّالِثُ: اعْتِقَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ.

ص: 232

وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ تَتَفَرَّعُ إلَى أَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ. السَّبَبُ الْأَوَّلُ: أَلَّا يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ. وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ لَمْ يُكَلَّفْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمُوجَبِهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ بَلَغَهُ وَقَدْ قَالَ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ بِمُوجَبِ ظَاهِرِ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ آخَرَ؛ أَوْ بِمُوجَبِ قِيَاسٍ؛ أَوْ مُوجَبِ اسْتِصْحَابٍ: فَقَدْ يُوَافِقُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ تَارَةً وَيُخَالِفُهُ أُخْرَى. وَهَذَا السَّبَبُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَكْثَرِ مَا يُوجَدُ مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ مُخَالِفًا لِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ؛ فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ تَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ الْأُمَّةِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ؛ أَوْ يُفْتِي؛ أَوْ يَقْضِي؛ أَوْ يَفْعَلُ الشَّيْءَ فَيَسْمَعُهُ أَوْ يَرَاهُ مَنْ يَكُونُ حَاضِرًا وَيُبَلِّغُهُ أُولَئِكَ أَوْ بَعْضُهُمْ لِمَنْ يُبَلِّغُونَهُ فَيَنْتَهِي عِلْمُ ذَلِكَ إلَى مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ثُمَّ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ قَدْ يُحَدِّثُ أَوْ يُفْتِي أَوْ يَقْضِي أَوْ يَفْعَلُ شَيْئًا وَيَشْهَدُهُ بَعْضُ مَنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَيُبَلِّغُونَهُ لِمَنْ أَمْكَنَهُمْ فَيَكُونُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا لَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُ الْعُلَمَاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ أَوْ جَوْدَتِهِ. وَأَمَّا إحَاطَةُ وَاحِدٍ بِجَمِيعِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 233

فَهَذَا لَا يُمْكِنُ ادِّعَاؤُهُ قَطُّ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِأُمُورِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّتِهِ وَأَحْوَالِهِ خُصُوصًا الصِّدِّيقُ رضي الله عنه الَّذِي لَمْ يَكُنْ يُفَارِقُهُ حَضَرًا وَلَا سَفَرًا بَلْ كَانَ يَكُونُ مَعَهُ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى إنَّهُ يَسْمَرُ عِنْدَهُ بِاللَّيْلِ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا مَا يَقُولُ: دَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَخَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ {لَمَّا سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَنْ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ قَالَ: مَا لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وَمَا عَلِمْت لَك فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ اسْأَلْ النَّاسَ فَسَأَلَهُمْ فَقَامَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مسلمة فَشَهِدَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهَا السُّدُسَ} وَقَدْ بَلَّغَ هَذِهِ السُّنَّةَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَيْضًا وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْخُلَفَاءِ ثُمَّ قَدْ اخْتَصُّوا بِعِلْمِ هَذِهِ السُّنَّةِ الَّتِي قَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا. وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ سُنَّةَ الِاسْتِئْذَانِ حَتَّى أَخْبَرَهُ بِهَا أَبُو مُوسَى وَاسْتَشْهَدَ بِالْأَنْصَارِ وَعُمَرُ أَعْلَمُ مِمَّنْ حَدَّثَهُ بِهَذِهِ السُّنَّةِ. وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَيْضًا يَعْلَمُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَرِثُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا بَلْ يَرَى

ص: 234

أَنَّ الدِّيَةَ لِلْعَاقِلَةِ حَتَّى كَتَبَ إلَيْهِ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ - وَهُوَ أَمِيرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ الْبَوَادِي - يُخْبِرُهُ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا} فَتَرَكَ رَأْيَهُ لِذَلِكَ وَقَالَ: لَوْ لَمْ نَسْمَعْ بِهَذَا لَقَضَيْنَا بِخِلَافِهِ. وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ حُكْمَ الْمَجُوسِ فِي الْجِزْيَةِ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ} . وَلَمَّا قَدِمَ سرغ وَبَلَغَهُ أَنَّ الطَّاعُونَ بِالشَّامِ اسْتَشَارَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ مَعَهُ ثُمَّ الْأَنْصَارَ ثُمَّ مُسْلِمَةَ الْفَتْحِ فَأَشَارَ كُلٌّ عَلَيْهِ بِمَا رَأَى وَلَمْ يُخْبِرْهُ أَحَدٌ بِسُنَّةٍ حَتَّى قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ {فَأَخْبَرَهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الطَّاعُونِ وَأَنَّهُ قَالَ إذَا وَقَعَ بِأَرْضِ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ} . وَتَذَاكَرَ هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَمْرَ الَّذِي يَشُكُّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَدْ بَلَغَتْهُ السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ حَتَّى {قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّهُ يَطْرَحُ الشَّكَّ وَيَبْنِي عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ} . وَكَانَ مَرَّةً فِي السَّفَرِ فَهَاجَتْ رِيحٌ فَجَعَلَ يَقُولُ: مَنْ يُحَدِّثُنَا عَنْ

ص: 235

الرِّيحِ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَبَلَغَنِي وَأَنَا فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ فَحَثَثْت رَاحِلَتِي حَتَّى أَدْرَكْته فَحَدَّثْته بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ. فَهَذِهِ مَوَاضِعُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا حَتَّى بَلَّغَهُ إيَّاهَا مَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ وَمَوَاضِعُ أُخَرَ لَمْ يَبْلُغْهُ مَا فِيهَا مِنْ السُّنَّةِ فَقَضَى فِيهَا أَوْ أَفْتَى فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِثْلَ مَا قَضَى فِي دِيَةِ الْأَصَابِعِ أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ مَنَافِعِهَا وَقَدْ كَانَ عِنْد أَبِي مُوسَى وَابْنِ عَبَّاسٍ - وَهُمَا دُونَهُ بِكَثِيرِ فِي الْعِلْمِ - عِلْمٌ بِأَنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ يَعْنِي: الْإِبْهَامَ وَالْخِنْصَرَ} فَبَلَغَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ لمعاوية رضي الله عنه فِي إمَارَتِهِ فَقَضَى بِهَا وَلَمْ يَجِدْ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِنْ اتِّبَاعِ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ عَيْبًا فِي عُمَرَ رضي الله عنه حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ. وَكَذَلِكَ كَانَ يُنْهِي الْمُحْرِمَ عَنْ التَّطَيُّبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ؛ وَقَبْلَ الْإِفَاضَةِ إلَى مَكَّةَ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ هُوَ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنهما وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ {حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ} . وَكَانَ يَأْمُرُ لَابِسَ الْخُفِّ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يَخْلَعَهُ مِنْ غَيْرِ

ص: 236

تَوْقِيتٍ وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَلَمْ تَبْلُغْهُمْ أَحَادِيثُ التَّوْقِيتِ الَّتِي صَحَّتْ عِنْدَ بَعْضِ مَنْ لَيْسَ مِثْلُهُمْ فِي الْعِلْمِ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ صَحِيحَةٍ. وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ رضي الله عنه لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِأَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ فِي بَيْتِ الْمَوْتِ حَتَّى حَدَّثَتْهُ {الْفُرَيْعَةُ بِنْتُ مَالِكٍ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الخدري بِقَضِيَّتِهَا لَمَّا تُوُفِّيَ زَوْجُهَا وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: اُمْكُثِي فِي بَيْتِك حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} فَأَخَذَ بِهِ عُثْمَانُ. وَأُهْدِيَ لَهُ مَرَّةً صَيْدٌ كَانَ قَدْ صِيدَ لِأَجْلِهِ فَهَمَّ بِأَكْلِهِ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ لَحْمًا أُهْدِيَ لَهُ. وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ رضي الله عنه قَالَ؛ كُنْت إذَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي مِنْهُ وَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْته فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْته وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ وَذَكَرَ حَدِيثَ صَلَاةِ التَّوْبَةِ الْمَشْهُورَ. وَأَفْتَى هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا تَعْتَدُّ

ص: 237

بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ {سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سبيعة الأسلمية حَيْثُ أَفْتَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ عِدَّتَهَا وَضْعُ حَمْلِهَا} . وَأَفْتَى هُوَ وَزَيْدٌ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ بِأَنَّ الْمُفَوَّضَةَ إذَا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بروع بِنْتِ وَاشِقٍ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَبْلُغُ الْمَنْقُولُ مِنْهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَدَدًا كَثِيرًا جِدًّا. وَأَمَّا الْمَنْقُولُ مِنْهُ عَنْ غَيْرِهِمْ فَلَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ أُلُوفٌ فَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَعْلَمَ الْأُمَّةِ وَأَفْقَهَهَا وَأَتْقَاهَا وَأَفْضَلَهَا فَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْقَصُ؛ فَخَفَاءُ بَعْضِ السُّنَّةِ عَلَيْهِ أَوْلَى فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ. فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ صَحِيحٍ قَدْ بَلَغَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَوْ إمَامًا مُعَيَّنًا فَهُوَ مُخْطِئٌ خَطَأً فَاحِشًا قَبِيحًا. وَلَا يَقُولَن قَائِلٌ: الْأَحَادِيثُ قَدْ دُوِّنَتْ وَجُمِعَتْ؛ فَخَفَاؤُهَا وَالْحَالُ هَذِهِ بَعِيدٌ. لِأَنَّ هَذِهِ الدَّوَاوِينَ الْمَشْهُورَةَ فِي السُّنَنِ إنَّمَا جُمِعَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ وَمَعَ هَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ انْحِصَارَ حَدِيثِ

ص: 238

رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَوَاوِينَ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ لَوْ فُرِضَ انْحِصَارُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَيْسَ كُلُّ مَا فِي الْكُتُبِ يَعْلَمُهُ الْعَالِمُ وَلَا يَكَادُ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِأَحَدِ. بَلْ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الدَّوَاوِينُ الْكَثِيرَةُ وَهُوَ لَا يُحِيطُ بِمَا فِيهَا بَلْ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ جَمْعِ هَذِهِ الدَّوَاوِينِ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِكَثِيرِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّا بَلَغَهُمْ وَصَحَّ عِنْدَهُمْ قَدْ لَا يَبْلُغُنَا إلَّا عَنْ مَجْهُولٍ؛ أَوْ بِإِسْنَادِ مُنْقَطِعٍ؛ أَوْ لَا يَبْلُغُنَا بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَتْ دَوَاوِينُهُمْ صُدُورَهُمْ الَّتِي تَحْوِي أَضْعَافَ مَا فِي الدَّوَاوِينِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ عَلِمَ الْقَضِيَّةَ. وَلَا يَقُولَنَّ قَائِلٌ: مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْأَحَادِيثَ كُلَّهَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا. لِأَنَّهُ إنْ اُشْتُرِطَ فِي الْمُجْتَهِدِ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ: فَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مُجْتَهِدٌ وَإِنَّمَا غَايَةُ الْعَالِمِ أَنْ يَعْلَمَ جُمْهُورَ ذَلِكَ وَمُعْظَمَهُ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ إلَّا الْقَلِيلُ مِنْ التَّفْصِيلِ ثُمَّ إنَّهُ قَدْ يُخَالِفُ ذَلِكَ الْقَلِيلَ مِنْ التَّفْصِيلِ الَّذِي يَبْلُغُهُ.

السَّبَبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ لَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ إمَّا لِأَنَّ مُحَدِّثَهُ أَوْ مُحَدِّثَ مُحَدِّثِهِ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ رِجَالِ الْإِسْنَادِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ أَوْ مُتَّهَمٌ أَوْ سَيِّئُ الْحِفْظِ. وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ مُسْنَدًا بَلْ مُنْقَطِعًا؛ أَوْ لَمْ يَضْبُطْ لَفْظَ الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ قَدْ رَوَاهُ الثِّقَاتُ لِغَيْرِهِ بِإِسْنَادِ مُتَّصِلٍ بِأَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ يَعْلَمُ مِنْ الْمَجْهُولِ عِنْدَهُ الثِّقَةَ أَوْ يَكُونُ قَدْ

ص: 239

رَوَاهُ غَيْرُ أُولَئِكَ الْمَجْرُوحِينَ عِنْدَهُ؛ أَوْ قَدْ اتَّصَلَ مِنْ غَيْرِ الْجِهَةِ الْمُنْقَطِعَةِ وَقَدْ ضَبَطَ أَلْفَاظَ الْحَدِيثِ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ الْحُفَّاظِ؛ أَوْ لِتِلْكَ الرِّوَايَةِ مِنْ الشَّوَاهِدِ وَالْمُتَابَعَاتِ مَا يُبَيِّنُ صِحَّتَهَا. وَهَذَا أَيْضًا كَثِيرٌ جِدًّا. وَهُوَ فِي التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ إلَى الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ كَانَتْ قَدْ انْتَشَرَتْ وَاشْتَهَرَتْ لَكِنْ كَانَتْ تَبْلُغُ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ وَقَدْ بَلَغَتْ غَيْرَهُمْ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ غَيْرِ تِلْكَ الطُّرُقِ فَتَكُونُ حُجَّةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ مَنْ خَالَفَهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلِهَذَا وُجِدَ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ تَعْلِيقُ الْقَوْلِ بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ فَيَقُولُ: قَوْلِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَذَا وَقَدْ رُوِيَ فِيهَا حَدِيثٌ بِكَذَا؛ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ قَوْلِي.

السَّبَبُ الثَّالِثُ: اعْتِقَادُ ضَعْفِ الْحَدِيثِ بِاجْتِهَادِ قَدْ خَالَفَهُ فِيهِ غَيْرُهُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ طَرِيقٍ آخَرَ سَوَاءٌ كَانَ الصَّوَابُ مَعَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ أَوْ مَعَهُمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ؛ وَلِذَلِكَ أَسْبَابٌ: مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ يَعْتَقِدُهُ أَحَدُهُمَا ضَعِيفًا؛ وَيَعْتَقِدُهُ الْآخَرُ ثِقَةً. وَمَعْرِفَةُ الرِّجَالِ عِلْمٌ وَاسِعٌ؛ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْمُصِيبُ مَنْ

ص: 240

يَعْتَقِدُ ضَعْفَهُ؛ لِاطِّلَاعِهِ عَلَى سَبَبٍ جَارِحٍ وَقَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَ الْآخَرِ لِمَعْرِفَتِهِ أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ غَيْرُ جَارِحٍ؛ إمَّا لِأَنَّ جِنْسَهُ غَيْرُ جَارِحٍ؛ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْجَرْحَ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَلِلْعُلَمَاءِ بِالرِّجَالِ وَأَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ مِثْلُ مَا لِغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِر أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عُلُومِهِمْ. وَمِنْهَا: أَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّ الْمُحَدِّثَ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِمَّنْ حَدَّثَ عَنْهُ وَغَيْرُهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَمِعَهُ لِأَسْبَابِ تُوجِبُ ذَلِكَ مَعْرُوفَةٍ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لِلْمُحَدِّثِ حَالَانِ: حَالُ اسْتِقَامَةٍ وَحَالُ اضْطِرَابٍ مِثْلَ أَنْ يَخْتَلِطَ أَوْ تَحْتَرِقَ كُتُبُهُ فَمَا حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ الِاسْتِقَامَةِ صَحِيحٌ وَمَا حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ الِاضْطِرَابِ ضَعِيفٌ فَلَا يَدْرِي ذَلِكَ الْحَدِيثَ مِنْ أَيِّ النَّوْعَيْنِ؟ وَقَدْ عَلِمَ غَيْرُهُ أَنَّهُ مِمَّا حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ الِاسْتِقَامَةِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ قَدْ نَسِيَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِيمَا بَعْدُ أَوْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ حَدَّثَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّ هَذَا عِلَّةٌ تُوجِبُ تَرْكَ الْحَدِيثِ. وَيَرَى غَيْرُهُ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ. وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ. وَمِنْهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحِجَازِيِّينَ يَرَوْنَ أَلَّا يُحْتَجَّ بِحَدِيثِ عِرَاقِيٍّ أَوْ شَامِيٍّ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: نَزِّلُوا أَحَادِيثَ

ص: 241

أَهْلِ الْعِرَاقِ بِمَنْزِلَةِ أَحَادِيثِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقِيلَ لِآخَرَ: سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ حُجَّةٌ؟ قَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ فَلَا وَهَذَا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ ضَبَطُوا السُّنَّةَ فَلَمْ يَشِذَّ عَنْهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ وَأَنَّ أَحَادِيثَ الْعِرَاقِيِّينَ وَقَعَ فِيهَا اضْطِرَابٌ أَوْجَبَ التَّوَقُّفَ فِيهَا. وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ يَرَى أَلَّا يُحْتَجَّ بِحَدِيثِ الشَّامِيِّينَ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ التَّضْعِيفِ بِهَذَا فَمَتَى كَانَ الْإِسْنَادُ جَيِّدًا كَانَ الْحَدِيثُ حُجَّةً سَوَاءٌ كَانَ الْحَدِيثُ حِجَازِيًّا أَوْ عِرَاقِيًّا أَوْ شَامِيًّا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو دَاوُد السجستاني كِتَابًا فِي مفاريد أَهْلِ الْأَمْصَارِ مِنْ السُّنَنِ يُبَيِّنُ مَا اخْتَصَّ بِهِ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ مِنْ السُّنَنِ الَّتِي لَا تُوجَدُ مُسْنَدَةً عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِثْلَ الْمَدِينَةِ؛ وَمَكَّةَ؛ وَالطَّائِفِ؛ وَدِمَشْقَ وَحِمْصَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا. إلَى أَسْبَابٍ أُخَرَ غَيْرِ هَذِهِ.

السَّبَبُ الرَّابِعُ: اشْتِرَاطُهُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ الْحَافِظِ شُرُوطًا يُخَالِفُهُ فِيهَا غَيْرُهُ مِثْلَ اشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ عَرْضَ الْحَدِيثِ عَلَى الْكِتَابِ

ص: 242

وَالسُّنَّةِ وَاشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ فَقِيهًا إذَا خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ وَاشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ انْتِشَارَ الْحَدِيثِ وَظُهُورَهُ إذَا كَانَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَوَاضِعِهِ.

السَّبَبُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ وَثَبَتَ عِنْدَهُ لَكِنْ نَسِيَهُ وَهَذَا يَرِدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِثْلَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ {عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُجْنِبُ فِي السَّفَرِ فَلَا يَجِدُ الْمَاءَ؟ فَقَالَ: لَا يُصَلِّ حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ فَقَالَ لَهُ عَمَّارٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَا تَذْكُرُ إذْ كُنْت أَنَا وَأَنْتَ فِي الْإِبِلِ فَأَجْنَبْنَا فَأَمَّا أَنَا فَتَمَرَّغْت كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ وَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّمَا يَكْفِيَك هَكَذَا وَضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ فَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ؟} فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عَمَّارُ فَقَالَ: إنْ شِئْت لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ. فَقَالَ: بَلْ نُوَلِّيك مِنْ ذَلِكَ مَا تَوَلَّيْت. فَهَذِهِ سُنَّةٌ شَهِدَهَا عُمَرُ ثُمَّ نَسِيَهَا حَتَّى أَفْتَى بِخِلَافِهَا وَذَكَّرَهُ عَمَّارُ فَلَمْ يَذْكُرْ وَهُوَ لَمْ يُكَذِّبْ عَمَّارًا بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ. وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: لَا يَزِيدُ رَجُلٌ عَلَى صَدَاقِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَنَاتِهِ إلَّا رَدَدْته. فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَ تَحْرِمُنَا شَيْئًا أَعْطَانَا اللَّهُ إيَّاهُ؟ ثُمَّ قَرَأَتْ:

ص: 243

{وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} فَرَجَعَ عُمَرُ إلَى قَوْلِهَا وَقَدْ كَانَ حَافِظًا لِلْآيَةِ وَلَكِنْ نَسِيَهَا. وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا ذَكَّرَ الزُّبَيْرَ يَوْمَ الْجَمَلِ شَيْئًا عَهِدَهُ إلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ حَتَّى انْصَرَفَ عَنْ الْقِتَالِ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

السَّبَبُ السَّادِسُ: عَدَمُ مَعْرِفَتِهِ بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ تَارَةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ غَرِيبًا عِنْدَهُ مِثْلَ لَفْظِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَالْغَرَرِ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكَلِمَاتِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي قَدْ يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِهَا وَكَالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: {لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إغْلَاقٍ} فَإِنَّهُمْ قَدْ فَسَّرُوا الْإِغْلَاقَ بِالْإِكْرَاهِ وَمَنْ يُخَالِفُهُ لَا يَعْرِفُ هَذَا التَّفْسِيرَ. وَتَارَةً لِكَوْنِ مَعْنَاهُ فِي لُغَتِهِ وَعُرْفِهِ غَيْرَ مَعْنَاهُ فِي لُغَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَحْمِلُهُ عَلَى مَا يَفْهَمُهُ فِي لُغَتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللُّغَةِ كَمَا سَمِعَ بَعْضُهُمْ آثَارًا فِي الرُّخْصَةِ فِي النَّبِيذِ فَظَنُّوهُ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْمُسْكِرِ؛ لِأَنَّهُ لُغَتُهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ مَا يُنْبَذُ لِتَحْلِيَةِ الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ؛ فَإِنَّهُ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ. وَسَمِعُوا لَفْظَ الْخَمْرِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَاعْتَقَدُوهُ عَصِيرَ الْعِنَبِ الْمُشْتَدِّ خَاصَّةً بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي

ص: 244

اللُّغَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ مِنْ الْأَحَادِيثِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ تُبَيِّنُ أَنَّ الْخَمْرَ اسْمٌ لِكُلِّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ. وَتَارَةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرِكًا أَوْ مُجْمَلًا؛ أَوْ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ؛ فَيَحْمِلُهُ عَلَى الْأَقْرَبِ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْآخَرَ كَمَا حَمَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ عَلَى الْحَبْلِ وَكَمَا حَمَلَ آخَرُونَ قَوْلَهُ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} عَلَى الْيَدِ إلَى الْإِبِطِ. وَتَارَةً لِكَوْنِ الدَّلَالَةِ مِنْ النَّصِّ خَفِيَّةً؛ فَإِنَّ جِهَاتِ دَلَالَاتِ الْأَقْوَالِ مُتَّسِعَةٌ جِدًّا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي إدْرَاكِهَا وَفَهْمِ وُجُوهِ الْكَلَامِ بِحَسَبِ مِنَحِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَمَوَاهِبِهِ ثُمَّ قَدْ يَعْرِفُهَا الرَّجُلُ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومُ وَلَا يَتَفَطَّنُ لِكَوْنِ هَذَا الْمَعْنَى دَاخِلًا فِي ذَلِكَ الْعَامِّ ثُمَّ قَدْ يَتَفَطَّنُ لَهُ تَارَةً ثُمَّ يَنْسَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ جِدًّا لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا اللَّهُ وَقَدْ يَغْلَطُ الرَّجُلُ فَيَفْهَمُ مِنْ الْكَلَامِ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ الَّتِي بُعِثَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِهَا.

السَّبَبُ السَّابِعُ: اعْتِقَادُهُ أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَعْرِفْ جِهَةَ الدَّلَالَةِ وَالثَّانِي عَرَفَ

ص: 245

جِهَةَ الدَّلَالَةِ لَكِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا لَيْسَتْ دَلَالَةً صَحِيحَةً بِأَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ الْأُصُولِ مَا يَرُدُّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صَوَابًا أَوْ خَطَأً مِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ لَيْسَ بِحُجَّةِ وَأَنَّ الْمَفْهُومَ لَيْسَ بِحُجَّةِ وَأَنَّ الْعُمُومَ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ مَقْصُورٍ عَلَى سَبَبِهِ أَوْ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجَرَّدَ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ؛ أَوْ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ أَوْ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ لَا عُمُومَ لَهُ أَوْ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَنْفِيَّةَ لَا تَنْفِي ذَوَاتِهَا وَلَا جَمِيعَ أَحْكَامِهَا أَوْ أَنَّ الْمُقْتَضِي لَا عُمُومَ لَهُ؛ فَلَا يَدَّعِي الْعُمُومَ فِي الْمُضْمَرَاتِ وَالْمَعَانِي إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَّسِعُ الْقَوْلُ فِيهِ فَإِنَّ شَطْرَ أُصُولِ الْفِقْهِ تَدْخُلُ مَسَائِلُ الْخِلَافِ مِنْهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ وَإِنْ كَانَتْ الْأُصُولُ الْمُجَرَّدَةُ لَمْ تُحِطْ بِجَمِيعِ الدَّلَالَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا وَتُدْخِلْ فِيهِ أَفْرَادَ أَجْنَاسِ الدَّلَالَاتِ: هَلْ هِيَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ أَمْ لَا؟ مِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْمُعَيَّنَ مُجْمَلٌ بِأَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا لَا دَلَالَةَ تُعَيِّنُ أَحَدَ مَعْنَيَيْهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.

السَّبَبُ الثَّامِنُ: اعْتِقَادُهُ أَنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ قَدْ عَارَضَهَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُرَادَةً مِثْلَ مُعَارَضَةِ الْعَامِّ بِخَاصِّ أَوْ الْمُطْلَقِ بِمُقَيَّدِ أَوْ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ بِمَا يَنْفِي الْوُجُوبَ أَوْ الْحَقِيقَةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَجَازِ إلَى أَنْوَاعِ الْمُعَارَضَاتِ. وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّ تَعَارُضَ دَلَالَاتِ الْأَقْوَالِ وَتَرْجِيحَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بَحْرٌ خِضَمٌّ.

ص: 246

السَّبَبُ التَّاسِعُ: اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ؛ أَوْ نَسْخِهِ؛ أَوْ تَأْوِيلِهِ إنْ كَانَ قَابِلًا لِلتَّأْوِيلِ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارَضًا بِالِاتِّفَاقِ مِثْلَ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ آخَرَ أَوْ مِثْلَ إجْمَاعٍ وَهَذَا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ هَذَا الْمُعَارِضَ رَاجِحٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيَتَعَيَّنُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَتَارَةً يُعَيِّنُ أَحَدَهَا بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ؛ أَوْ أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ. ثُمَّ قَدْ يَغْلَطُ فِي النَّسْخِ فَيَعْتَقِدُ الْمُتَأَخِّرَ مُتَقَدِّمًا وَقَدْ يَغْلَطُ فِي التَّأْوِيلِ بِأَنْ يَحْمِلَ الْحَدِيثَ عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ أَوْ هُنَاكَ مَا يَدْفَعُهُ وَإِذَا عَارَضَهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَقَدْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْمُعَارِضُ دَالًّا وَقَدْ لَا يَكُونُ الْحَدِيثُ الْمُعَارِضُ فِي قُوَّةِ الْأَوَّلِ إسْنَادًا أَوْ مَتْنًا وَتَجِيءُ هُنَا الْأَسْبَابُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَغَيْرُهَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَالْإِجْمَاعُ الْمُدَّعِي فِي الْغَالِبِ إنَّمَا هُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْمُخَالِفِ. وَقَدْ وَجَدْنَا مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ مَنْ صَارُوا إلَى الْقَوْلِ بِأَشْيَاءَ مُتَمَسَّكُهُمْ فِيهَا عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْمُخَالِفِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ الْعَالِمُ أَنْ يَبْتَدِئَ قَوْلًا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ قَائِلًا؛ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ النَّاسَ قَدْ قَالُوا خِلَافَهُ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُعَلِّقُ الْقَوْلَ فَيَقُولُ: إنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعٌ فَهُوَ أَحَقُّ مَا يَتْبَعُ وَإِلَّا فَالْقَوْلُ عِنْدِي كَذَا وَكَذَا

ص: 247

وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَجَازَ شَهَادَةَ الْعَبْدِ. وَقَبُولُهَا مَحْفُوظٌ عَنْ عَلِيٍّ وَأَنَسٍ وشريح وَغَيْرِهِمْ وَيَقُولُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُعْتَقَ بَعْضُهُ لَا يَرِثُ وَتَوْرِيثُهُ مَحْفُوظٌ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَفِيهِ حَدِيثٌ حَسَنٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَيَقُولُ آخَرُ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ وَإِيجَابُهَا مَحْفُوظٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ غَايَةَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَعْلَمَ قَوْلَ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمْ فِي بِلَادِهِ وَأَقْوَالَ جَمَاعَاتٍ غَيْرِهِمْ كَمَا تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ لَا يَعْلَمُ إلَّا قَوْلَ الْمَدَنِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يَعْلَمُ إلَّا قَوْلَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ وَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِهِ قَائِلًا وَمَا زَالَ يَقْرَعُ سَمْعَهُ خِلَافُهُ فَهَذَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَصِيرَ إلَى حَدِيثٍ يُخَالِفُ هَذَا؛ لِخَوْفِهِ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِلَافًا لِلْإِجْمَاعِ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعُ أَعْظَمُ الْحُجَجِ. وَهَذَا عُذْرُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَتْرُكُونَهُ وَبَعْضُهُمْ مَعْذُورٌ فِيهِ حَقِيقَةً؛ وَبَعْضُهُمْ مَعْذُورٌ فِيهِ وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَعْذُورِ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَسْبَابِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ.

السَّبَبُ الْعَاشِرُ: مُعَارَضَتُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ نَسْخِهِ أَوْ تَأْوِيلِهِ

ص: 248

مِمَّا لَا يَعْتَقِدُهُ غَيْرُهُ أَوْ جِنْسُهُ مُعَارِضٌ؛ أَوْ لَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَارِضًا رَاجِحًا؛ كَمُعَارَضَةِ كَثِيرٍ مِنْ الْكُوفِيِّينَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ مِنْ الْعُمُومِ وَنَحْوُهُ مُقَدَّمٌ عَلَى نَصِّ الْحَدِيثِ ثُمَّ قَدْ يَعْتَقِدُ مَا لَيْسَ بِظَاهِرِ ظَاهِرًا لِمَا فِي دَلَالَاتِ الْقَوْلِ مِنْ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ. وَلِهَذَا رَدُّوا حَدِيثَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ يَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ وَلَوْ كَانَ فِيهِ ذَلِكَ فَالسُّنَّةُ هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِلْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ وَلِأَحْمَدَ فِيهَا رِسَالَتُهُ الْمَشْهُورَةُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ الِاسْتِغْنَاءَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ عَنْ تَفْسِيرِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَوْرَدَ فِيهَا مِنْ الدَّلَائِلِ مَا يَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ ذِكْرِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ دَفْعُ الْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ الْكِتَابِ أَوْ تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقِهِ أَوْ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ وَاعْتِقَادُ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ كَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ نَسْخٌ وَأَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ نَسْخٌ وَكَمُعَارَضَةِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَدَنِيِّينَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْخَبَرِ وَأَنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْخَبَرِ كَمُخَالَفَةِ أَحَادِيثَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ قَدْ يُثْبِتُونَ

ص: 249

أَنَّ الْمَدَنِيِّينَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّهُمْ لَوْ أَجْمَعُوا وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ لَكَانَتْ الْحُجَّةُ فِي الْخَبَرِ. وَكَمُعَارَضَةِ قَوْمٍ مِنْ الْبَلَدَيْنِ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ لَا تُنْقَضُ بِمِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُعَارَضَاتِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُعَارِضُ مُصِيبًا أَوْ مُخْطِئًا. فَهَذِهِ الْأَسْبَابُ الْعَشَرَةُ ظَاهِرَةٌ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالِمِ حُجَّةٌ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ لَمْ نَطَّلِعْ نَحْنُ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ مَدَارِكَ الْعِلْمِ وَاسِعَةٌ وَلَمْ نَطَّلِعْ نَحْنُ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي بَوَاطِنِ الْعُلَمَاءِ وَالْعَالِمُ قَدْ يُبْدِي حُجَّتَهُ وَقَدْ لَا يُبْدِيهَا وَإِذَا أَبْدَاهَا فَقَدْ تَبْلُغُنَا وَقَدْ لَا تَبْلُغُ وَإِذَا بَلَغَتْنَا فَقَدْ نُدْرِكُ مَوْضِعَ احْتِجَاجِهِ وَقَدْ لَا نُدْرِكُهُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْحُجَّةُ صَوَابًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمْ لَا لَكِنْ نَحْنُ وَإِنْ جَوَّزْنَا هَذَا فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَعْدِلَ عَنْ قَوْلٍ ظَهَرَتْ حُجَّتُهُ بِحَدِيثِ صَحِيحٍ وَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ إلَى قَوْلٍ آخَرَ قَالَهُ عَالِمٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَا يَدْفَعُ بِهِ هَذِهِ الْحُجَّةَ وَإِنْ كَانَ أَعْلَم؛ إذْ تَطَرُّقُ الْخَطَأِ إلَى آرَاءِ الْعُلَمَاءِ أَكْثَرُ مِنْ تَطَرُّقِهِ إلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ بِخِلَافِ رَأْيِ الْعَالِمِ.

ص: 250

وَالدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ خَطَأً إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ دَلِيلٌ آخَرُ وَرَأْيُ الْعَالِمِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْعَمَلُ بِهَذَا التَّجْوِيزِ جَائِزًا لَمَا بَقِيَ فِي أَيْدِينَا شَيْءٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا مِثْلُ هَذَا لَكِنَّ الْغَرَضَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا فِي تَرْكِهِ لَهُ وَنَحْنُ مَعْذُورُونَ فِي تَرْكِنَا لِهَذَا التَّرْكِ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} الْآيَةَ وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُعَارِضَ الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لِرَجُلِ سَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَهُ فِيهَا بِحَدِيثِ فَقَالَ لَهُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقُولُونَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟ وَإِذَا كَانَ التَّرْكُ يَكُونُ لِبَعْضِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ؛ فَإِذَا جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِيهِ تَحْلِيلٌ أَوْ تَحْرِيمٌ أَوْ حُكْمٌ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ التَّارِكَ لَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ وَصَفْنَا أَسْبَابَ تَرْكِهِمْ يُعَاقَبُ؛ لِكَوْنِهِ حَلَّلَ الْحَرَامَ أَوْ حَرَّمَ الْحَلَالَ؛ أَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْحَدِيثِ وَعِيدٌ عَلَى فِعْلٍ: مِنْ لَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ عَذَابٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ الَّذِي أَبَاحَ

ص: 251

هَذَا أَوْ فَعَلَهُ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْوَعِيدِ. وَهَذَا مِمَّا لَا نَعْلَمُ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِيهِ خِلَافًا إلَّا شَيْئًا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ مِثْلَ المريسي وَأَضْرَابِهِ: أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْمُخْطِئَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ يُعَاقَبُ عَلَى خَطَئِهِ وَهَذَا لِأَنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ لِمَنْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ مَشْرُوطٌ بِعِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ؛ أَوْ بِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ؛ فَإِنَّ مَنْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ أَوْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَفَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ غَيْرَ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهَا لَمْ يَأْثَمْ وَلَمْ يُحَدَّ وَإِنْ لَمْ يَسْتَنِدْ فِي اسْتِحْلَالِهِ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ. فَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ الْمُحَرِّمُ وَاسْتَنَدَ فِي الْإِبَاحَةِ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا؛ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا مَأْجُورًا مَحْمُودًا لِأَجْلِ اجْتِهَادِهِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} إلَى قَوْلِهِ {وَعِلْمًا} فَاخْتَصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ؛ وَأَثْنَى عَلَيْهِمَا بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ العاص رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ} فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَعَ خَطَئِهِ لَهُ أَجْرٌ؛ وَذَلِكَ لِأَجْلِ اجْتِهَادِهِ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ؛ لِأَنَّ دَرْكَ الصَّوَابِ فِي جَمِيعِ أَعْيَانِ الْأَحْكَامِ إمَّا مُتَعَذَّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ عَامَ الْخَنْدَقِ: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَتْهُمْ صَلَاةُ

ص: 252

الْعَصْرِ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُرَدْ مِنَّا هَذَا؛ فَصَلُّوا فِي الطَّرِيقِ. فَلَمْ يَعِبْ وَاحِدَةً مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ} فَالْأَوَّلُونَ تَمَسَّكُوا بِعُمُومِ الْخِطَابِ فَجَعَلُوا صُورَةَ الْفَوَاتِ دَاخِلَةً فِي الْعُمُومِ وَالْآخَرُونَ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ الدَّلِيلِ مَا يُوجِبُ خُرُوجَ هَذِهِ الصُّورَةِ عَنْ الْعُمُومِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْقَوْمِ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ اخْتِلَافًا مَشْهُورًا: هَلْ يُخَصُّ الْعُمُومُ بِالْقِيَاسِ؟ وَمَعَ هَذَا فَاَلَّذِينَ صَلَّوْا فِي الطَّرِيقِ كَانُوا أَصْوَبَ. وَكَذَلِكَ {بِلَالٌ رضي الله عنه لَمَّا بَاعَ الصَّاعَيْنِ بِالصَّاعِ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَدِّهِ} وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَى ذَلِكَ حُكْمَ آكِلِ الرِّبَا مِنْ التَّفْسِيقِ وَاللَّعْنِ وَالتَّغْلِيظِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ. وَكَذَلِكَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} مَعْنَاهُ الْحِبَالُ الْبِيضُ وَالسُّودُ فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَجْعَلُ عِقَالَيْنِ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ وَيَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ {فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَدِيٍّ: إنَّ وِسَادَكَ إذًا لَعَرِيضٌ إنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ} فَأَشَارَ إلَى عَدَمِ فِقْهِهِ لِمَعْنَى الْكَلَامِ وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ ذَمَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ بِخِلَافِ {الَّذِينَ أَفْتَوْا الْمَشْجُوجَ فِي الْبَرْدِ بِوُجُوبِ الْغَسْلِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: قَتَلُوهُ

ص: 253

قَتَلَهُمْ اللَّهُ هَلَّا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا إنَّمَا شِفَاءُ الْعَيِّ السُّؤَالُ} فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَخْطَئُوا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ؛ إذْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَكَذَلِكَ {لَمْ يُوجِبْ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَوَدًا وَلَا دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً لَمَّا قَتَلَ الَّذِي قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فِي غَزْوَةِ الْحَرِقَاتِ} فَإِنَّهُ كَانَ مُعْتَقِدًا جَوَازَ قَتْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ لَيْسَ بِصَحِيحِ مَعَ أَنَّ قَتْلَهُ حَرَامٌ. وَعَمِلَ بِذَلِكَ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَا اسْتَبَاحَهُ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ دِمَاءِ أَهْلِ الْعَدْلِ بِتَأْوِيلِ سَائِغٍ لَمْ يُضْمَنْ بِقَوَدِ وَلَا دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ؛ وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُمْ وَقِتَالُهُمْ مُحَرَّمًا. وَهَذَا الشَّرْطُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي لُحُوقِ الْوَعِيدِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُذْكَرَ فِي كُلِّ خِطَابٍ؛ لِاسْتِقْرَارِ الْعِلْمِ بِهِ فِي الْقُلُوبِ كَمَا أَنَّ الْوَعْدَ عَلَى الْعَمَلِ مَشْرُوطٌ بِإِخْلَاصِ الْعَمَل لِلَّهِ؛ وَبِعَدَمِ حُبُوطِ الْعَمَلِ بِالرِّدَّةِ ثُمَّ إنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يُذْكَرُ فِي كُلِّ حَدِيثٍ فِيهِ وَعْدٌ. ثُمَّ حَيْثُ قُدِّرَ قِيَامُ الْمُوجِبِ لِلْوَعِيدِ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ لِمَانِعِ وَمَوَانِعُ لُحُوقِ الْوَعِيدِ مُتَعَدِّدَةٌ: مِنْهَا التَّوْبَةُ وَمِنْهَا الِاسْتِغْفَارُ وَمِنْهَا الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ لِلسَّيِّئَاتِ وَمِنْهَا بَلَاءُ الدُّنْيَا وَمَصَائِبُهَا وَمِنْهَا شَفَاعَةُ

ص: 254

شَفِيعٍ مُطَاعٍ وَمِنْهَا رَحْمَةُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ. فَإِذَا عُدِمَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ كُلُّهَا وَلَنْ تُعْدَمَ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ عَتَا وَتَمَرَّدَ وَشَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ الْبَعِيرِ عَلَى أَهْلِهِ فَهُنَالِكَ يَلْحَقُ الْوَعِيدُ بِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْوَعِيدِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ سَبَبٌ فِي هَذَا الْعَذَابِ فَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ وَقُبْحُهُ أَمَّا أَنَّ كَلَّ شَخْصٍ قَامَ بِهِ ذَلِكَ السَّبَبُ يَجِبُ وُقُوعُ ذَلِكَ الْمُسَبَّبِ بِهِ فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا؛ لِتَوَقُّفِ ذَلِكَ الْمُسَبَّبِ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ وَزَوَالِ جَمِيعِ الْمَوَانِعِ. وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِحَدِيثِ فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ تَرْكًا جَائِزًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَالتَّرْكِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ؛ وَلَا قَصَّرَ فِي الطَّلَبِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى الْفُتْيَا أَوْ الْحُكْمِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ فَهَذَا لَا يَشُكُّ مُسْلِمٌ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَلْحَقُهُ مِنْ مَعَرَّةِ التَّرْكِ شَيْءٌ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَرْكًا غَيْرَ جَائِزٍ فَهَذَا لَا يَكَادُ يَصْدُرُ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنْ قَدْ يَخَافُ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَاصِرًا فِي دَرْكِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ: فَيَقُولُ مَعَ عَدَمِ أَسْبَابِ الْقَوْلِ وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهَا نَظَرٌ وَاجْتِهَادٌ أَوْ يُقَصِّرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَيَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ النَّظَرُ نِهَايَتَهُ مَعَ كَوْنِهِ مُتَمَسِّكًا بِحُجَّةِ أَوْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ عَادَةٌ أَوْ غَرَضٌ يَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ لِيَنْظُرَ فِيمَا يُعَارِضُ مَا عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُلْ إلَّا

ص: 255

بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّ الْحَدَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ قَدْ لَا يَنْضَبِطُ لِلْمُجْتَهِدِ. وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ يَخَافُونَ مِثْلَ هَذَا خَشْيَةَ أَلَّا يَكُونَ الِاجْتِهَادُ الْمُعْتَبَرُ قَدْ وُجِدَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْمَخْصُوصَةِ فَهَذِهِ ذُنُوبٌ؛ لَكِنَّ لُحُوقَ عُقُوبَةِ الذَّنْبِ بِصَاحِبِهِ إنَّمَا تُنَالُ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ وَقَدْ يَمْحُوهَا الِاسْتِغْفَارُ وَالْإِحْسَانُ وَالْبَلَاءُ وَالشَّفَاعَةُ وَالرَّحْمَةُ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا مَنْ يَغْلِبُهُ الْهَوَى وَيَصْرَعُهُ حَتَّى يَنْصُرَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ أَوْ مَنْ يَجْزِمُ بِصَوَابِ قَوْلٍ أَوْ خَطَئِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنْهُ بِدَلَائِلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا؛ فَإِنَّ هَذَيْنِ فِي النَّارِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ وَأَمَّا اللَّذَانِ فِي النَّارِ فَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ} وَالْمَفْتُونُ كَذَلِكَ. لَكِنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ لِلشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ أَيْضًا لَهُ مَوَانِعُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فَلَوْ فُرِضَ وُقُوعُ بَعْضِ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْأَعْيَانِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَحْمُودِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ - مَعَ أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ أَوْ غَيْرُ وَاقِعٍ - لَمْ يَعْدَمْ أَحَدُهُمْ أَحَدَ هَذِهِ الْأَسْبَابِ؛ وَلَوْ وَقَعَ لَمْ يَقْدَحْ فِي إمَامَتِهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنَّا لَا نَعْتَقِدُ فِي الْقَوْمِ الْعِصْمَةَ بَلْ تَجُوزُ عَلَيْهِمْ الذُّنُوبُ وَنَرْجُو لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ؛ لِمَا اخْتَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ

ص: 256

وَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُصِرِّينَ عَلَى ذَنْبٍ وَلَيْسُوا بِأَعْلَى دَرَجَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَالْقَوْلُ فِيهِمْ كَذَلِكَ فِيمَا اجْتَهَدُوا فِيهِ مِنْ الْفَتَاوَى وَالْقَضَايَا وَالدِّمَاءِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ التَّارِكَ الْمَوْصُوفَ مَعْذُورٌ بَلْ مَأْجُورٌ لَا يَمْنَعُنَا أَنْ نَتَّبِعَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي لَا نَعْلَمُ لَهَا مُعَارِضًا يَدْفَعُهَا وَأَنْ نَعْتَقِدَ وُجُوبَ الْعَمَلِ عَلَى الْأُمَّةِ وَوُجُوبَ تَبْلِيغِهَا. وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ. ثُمَّ هِيَ مُنْقَسِمَةٌ إلَى: مَا دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ؛ بِأَنْ يَكُونَ قَطْعِيَّ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ وَهُوَ مَا تَيَقَّنَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ وَتَيَقَّنَّا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تِلْكَ الصُّورَةَ. وَإِلَى مَا دَلَالَتُهُ ظَاهِرَةٌ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ مُوجَبِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا؛ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنَّمَا قَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ هَلْ هُوَ قَطْعِيُّ السَّنَدِ أَوْ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ؟ وَهَلْ هُوَ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ أَوْ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ؟ مِثْلَ اخْتِلَافِهِمْ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ أَوْ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَعِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ. وَكَذَلِكَ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا مِنْ أُنَاسٍ

ص: 257

مَخْصُوصِينَ قَدْ تُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ لِمَنْ كَانَ عَالِمًا بِتِلْكَ الْجِهَاتِ؛ وَبِحَالِ أُولَئِكَ الْمُخْبِرِينَ؛ وَبِقَرَائِنَ وضمائم تَحْتَفُّ بِالْخَبَرِ وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ لَا يَحْصُلُ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْهُ فِي ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ الْجَهَابِذَةُ فِيهِ الْمُتَبَحِّرُونَ فِي مَعْرِفَتِهِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ الْيَقِينُ التَّامُّ بِأَخْبَارٍ؛ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَدْ لَا يَظُنُّ صِدْقَهَا فَضْلًا عَنْ الْعِلْمِ بِصِدْقِهَا وَمَبْنَى هَذَا عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ الْمُفِيدَ لِلْعِلْمِ يُفِيدُهُ مِنْ كَثْرَةِ الْمُخْبِرِينَ تَارَةً وَمِنْ صِفَاتِ الْمُخْبِرِينَ أُخْرَى وَمِنْ نَفْسِ الْإِخْبَارِ بِهِ أُخْرَى وَمِنْ نَفْسِ إدْرَاكِ الْمُخْبِرِ لَهُ أُخْرَى وَمِنْ الْأَمْرِ الْمُخْبَرِ بِهِ أُخْرَى فَرُبَّ عَدَدٍ قَلِيلٍ أَفَادَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الدِّيَانَةِ وَالْحِفْظِ الَّذِي يُؤْمَنُ مَعَهُ كَذِبُهُمْ أَوْ خَطَؤُهُمْ وَأَضْعَافُ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنْ غَيْرِهِمْ قَدْ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ. هَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَطَوَائِفَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ كُلَّ عَدَدٍ أَفَادَ الْعِلْمَ خَبَرُهُمْ بِقَضِيَّةِ أَفَادَ خَبَرُ مِثْلِ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْعِلْمَ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَيَانِ ذَلِكَ. فَأَمَّا تَأْثِيرُ الْقَرَائِنِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْمُخْبِرِينَ فِي الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ فَلَمْ نَذْكُرْهُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْقَرَائِنَ قَدْ تُفِيدُ الْعِلْمَ لَوْ تَجَرَّدَتْ عَنْ الْخَبَرِ وَإِذَا كَانَتْ

ص: 258

بِنَفْسِهَا قَدْ تُفِيدُ الْعِلْمَ لَمْ تُجْعَلْ تَابِعَةً لِلْخَبَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا لَمْ يُجْعَلْ الْخَبَرُ تَابِعًا لَهَا بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا طَرِيقٌ إلَى الْعِلْمِ تَارَةً وَإِلَى الظَّنِّ أُخْرَى وَإِنْ اتَّفَقَ اجْتِمَاعُ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِهِ مِنْهُمَا أَوْ اجْتِمَاعُ مُوجَبِ الْعِلْمِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَمُوجَبُ الظَّنِّ مِنْ الْآخَرِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ بِالْأَخْبَارِ أَعْلَمَ قَدْ يَقْطَعُ بِصِدْقِ أَخْبَارٍ لَا يَقْطَعُ بِصِدْقِهَا مَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ وَتَارَةً يَخْتَلِفُونَ فِي كَوْنِ الدَّلَالَةِ قَطْعِيَّةً لِاخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ: هَلْ هُوَ نَصٌّ أَوْ ظَاهِرٌ؟ وَإِذَا كَانَ ظَاهِرًا فَهَلْ فِيهِ مَا يَنْفِي الِاحْتِمَالَ الْمَرْجُوحَ أَوْ لَا؟ وَهَذَا أَيْضًا بَابٌ وَاسِعٌ فَقَدْ يَقْطَعُ قَوْمٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِدَلَالَةِ أَحَادِيثَ لَا يَقْطَعُ بِهَا غَيْرُهُمْ إمَّا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى أَوْ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْمَعْنَى الْآخَرَ يَمْنَعُ حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الظَّاهِرُ فَهَذَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَضَمَّنَ حُكْمًا عِلْمِيًّا مِثْلَ الْوَعِيدِ وَنَحْوِهِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إذَا تَضَمَّنَ وَعِيدًا عَلَى فِعْلٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ فِي الْوَعِيدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَتْنُ قَطْعِيًّا لَكِنَّ الدَّلَالَةَ ظَاهِرَةٌ وَعَلَى هَذَا حَمَلُوا قَوْلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَبْلِغِي

ص: 259

زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ قَالُوا: فَعَائِشَةُ ذَكَرَتْ الْوَعِيدَ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَالِمَةً بِهِ وَنَحْنُ نَعْمَلُ بِخَبَرِهَا فِي التَّحْرِيمِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَقُولُ بِهَذَا الْوَعِيدِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا ثَبَتَ عِنْدَنَا بِخَبَرِ وَاحِدٍ. وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْوَعِيدَ مِنْ الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ؛ فَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفِعْلَ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي حُكْمِهِ لَمْ يَلْحَقْ فَاعِلَهُ الْوَعِيدُ. فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يُحْتَجُّ بِأَحَادِيثِ الْوَعِيدِ فِي تَحْرِيمِ الْأَفْعَالِ مُطْلَقًا وَلَا يَثْبُتُ بِهَا الْوَعِيدُ إلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّلَالَةُ قَطْعِيَّةً وَمِثْلُهُ احْتِجَاجُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ بِالْقِرَاءَاتِ الَّتِي صَحَّتْ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَعَ كَوْنِهَا لَيْسَتْ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ رضي الله عنه فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ عَمَلًا وَعِلْمًا وَهِيَ خَبَرُ وَاحِدٍ صَحِيحٌ فَاحْتَجُّوا بِهَا فِي إثْبَاتِ الْعَمَلِ وَلَمْ يُثْبِتُوهَا قُرْآنًا لِأَنَّهَا مِنْ الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ إلَّا بِيَقِينِ. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ إلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ حُجَّةٌ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْوَعِيدِ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ مَا زَالُوا يُثْبِتُونَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْوَعِيدَ كَمَا يُثْبِتُونَ بِهَا الْعَمَلَ وَيُصَرِّحُونَ بِلُحُوقِ الْوَعِيدِ الَّذِي فِيهَا لِلْفَاعِلِ فِي الْجُمْلَةِ وَهَذَا مُنْتَشِرٌ عَنْهُمْ فِي أَحَادِيثِهِمْ وَفَتَاوِيهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَعِيدَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِالْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ تَارَةً

ص: 260

وَبِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ أُخْرَى؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَطْلُوبُ الْيَقِينَ التَّامَّ بِالْوَعِيدِ بَلْ الْمَطْلُوبُ الِاعْتِقَادُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْيَقِينِ وَالظَّنِّ الْغَالِبِ كَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اعْتِقَادِ الْإِنْسَانِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا وَأَوْعَدَ فَاعِلَهُ بِالْعُقُوبَةِ الْمُجْمَلَةِ وَاعْتِقَادِهِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ وَأَوْعَدَهُ عَلَيْهِ بِعُقُوبَةِ مُعَيَّنَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إخْبَارٌ عَنْ اللَّهِ فَكَمَا جَازَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْأَوَّلِ بِمُطْلَقِ الدَّلِيلِ فَكَذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالثَّانِي بَلْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْعَمَلُ بِهَا فِي الْوَعِيدِ أَوْكَدُ؛ كَانَ صَحِيحًا.

وَلِهَذَا كَانُوا يُسَهِّلُونَ فِي أَسَانِيدِ أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَا لَا يُسَهِّلُونَ فِي أَسَانِيدِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْوَعِيدِ يَحْمِلُ النُّفُوسَ عَلَى التَّرْكِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْوَعِيدُ حَقًّا كَانَ الْإِنْسَانُ قَدْ نَجَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْوَعِيدُ حَقًّا بَلْ عُقُوبَةُ الْفِعْلِ أَخَفُّ مِنْ ذَلِكَ الْوَعِيدِ لَمْ يَضُرَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَرَكَ ذَلِكَ الْفِعْلَ خَطَؤُهُ فِي اعْتِقَادِهِ زِيَادَةَ الْعُقُوبَةِ لِأَنَّهُ إنْ اعْتَقَدَ نَقْصَ الْعُقُوبَةِ فَقَدْ يُخْطِئُ أَيْضًا وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَعْتَقِدْ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا فَقَدْ يُخْطِئُ فَهَذَا الْخَطَأُ قَدْ يُهَوِّنُ الْفِعْلَ عِنْدَهُ فَيَقَعُ فِيهِ فَيَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الزَّائِدَةَ إنْ كَانَتْ ثَابِتَةً أَوْ يَقُومُ بِهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ. فَإِذًا الْخَطَأُ فِي الِاعْتِقَادِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ تَقْدِيرِ اعْتِقَادِ الْوَعِيدِ وَتَقْدِيرِ عَدَمِهِ سَوَاءٌ وَالنَّجَاةُ مِنْ الْعَذَابِ عَلَى تَقْدِيرِ اعْتِقَادِ

ص: 261

الْوَعِيدِ أَقْرَبُ فَيَكُونُ هَذَا التَّقْدِيرُ أَوْلَى. وَبِهَذَا الدَّلِيلِ رَجَّحَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ الدَّلِيلَ الْحَاظِرَ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُبِيحِ وَسَلَكَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ دَلِيلَ الِاحْتِيَاطِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ بِنَاءً عَلَى هَذَا وَأَمَّا الِاحْتِيَاطُ فِي الْفِعْلِ فَكَالْمُجْمَعِ عَلَى حُسْنِهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فِي الْجُمْلَةِ فَإِذَا كَانَ خَوْفُهُ مِنْ الْخَطَإِ بِنَفْيِ اعْتِقَادِ الْوَعِيدِ مُقَابِلًا لِخَوْفِهِ مِنْ الْخَطَإِ فِي عَدَمِ هَذَا الِاعْتِقَادِ: بَقِيَ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِاعْتِقَادِهِ وَالنَّجَاةُ الْحَاصِلَةُ فِي اعْتِقَادِهِ دَلِيلَيْنِ سَالِمَيْنِ عَنْ الْمُعَارِضِ. وَلَيْسَ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ عَدَمُ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ عَلَى الْوَعِيدِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِهِ كَعَدَمِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ عَلَى الْقِرَاءَاتِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا فِي الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَمَنْ قَطَعَ بِنَفْيِ شَيْءٍ مِنْ الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى وُجُودِهَا كَمَا هُوَ طَرِيقَةُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فَهُوَ مُخْطِئٌ خَطَأً بَيِّنًا لَكِنْ إذَا عَلِمْنَا أَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الدَّلِيلِ وَعَلِمْنَا عَدَمَ الدَّلِيلِ قَطَعْنَا بِعَدَمِ الشَّيْءِ الْمُسْتَلْزِمِ لِأَنَّ عَدَمَ اللَّازِمِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْمَلْزُومِ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الدَّوَاعِيَ مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى نَقْلِ كِتَابِ اللَّهِ وَدِينِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأُمَّةِ كِتْمَانُ مَا يُحْتَاجُ إلَى نَقْلِهِ حُجَّةً عَامَّةً فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ نَقْلًا عَامًّا صَلَاةً سَادِسَةً وَلَا سُورَةً أُخْرَى عَلِمْنَا يَقِينًا عَدَمَ ذَلِكَ.

ص: 262

وَبَابُ الْوَعِيدِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ فِي كُلِّ وَعِيدٍ عَلَى فِعْلٍ أَنْ يُنْقَلَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا كَمَا لَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْوَعِيدِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا فِي مُقْتَضَاهَا: بِاعْتِقَادِ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُتَوَعَّدٌ بِذَلِكَ الْوَعِيدِ لَكِنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ بِهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى شُرُوطٍ؛ وَلَهُ مَوَانِعُ. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَظْهَرُ بِأَمْثِلَةِ مِنْهَا أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ} وَصَحَّ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ {قَالَ لِمَنْ بَاعَ صَاعَيْنِ بِصَاعِ يَدًا بِيَدِ: أُوهِ عَيْنُ الرِّبَا} كَمَا قَالَ: {الْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إلَّا هَاءً وَهَاءً} الْحَدِيثَ وَهَذَا يُوجِبُ دُخُولَ نَوْعَيْ الرِّبَا: رِبَا الْفَضْلِ وَرِبَا النسأ فِي الْحَدِيثِ. ثُمَّ إنَّ الَّذِينَ بَلَغَهُمْ {قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ} فَاسْتَحَلُّوا بَيْعَ الصَّاعَيْنِ بِالصَّاعِ يَدًا بِيَدِ؛ مِثْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه وَأَصْحَابِهِ: أَبِي الشَّعْثَاءِ؛ وَعَطَاءٍ؛ وطاوس؛ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ؛ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَعْيَانِ الْمَكِّيِّينَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ صَفْوَةِ الْأُمَّةِ عِلْمًا وَعَمَلًا: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ أَوْ مَنْ قَلَّدَهُ بِحَيْثُ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ: تَبْلُغُهُمْ لَعْنَةُ آكِلِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ تَأْوِيلًا سَائِغًا فِي الْجُمْلَةِ.

ص: 263

وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ فُضَلَاءِ الْمَدَنِيِّينَ مِنْ إتْيَانِ الْمُحَاشِ مَعَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} أَفَيَسْتَحِلُّ مُسْلِمٌ أَنْ يَقُولَ إنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا كَانَا كَافِرَيْنِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَكَذَلِكَ {قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً: عَاصِرَ الْخَمْرِ وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا} . وَثَبَتَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهُ قَالَ: {كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ خَمْرٌ} وَقَالَ: {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ} . وَخَطَبَ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى مِنْبَرِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا مَا كَانُوا يَشْرَبُونَهُ فِي الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَرَابٌ إلَّا الْفَضِيخُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ خَمْرِ الْأَعْنَابِ شَيْءٌ. وَقَدْ كَانَ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ الْأُمَّةِ عِلْمًا وَعَمَلًا مِنْ الْكُوفِيِّينَ يَعْتَقِدُونَ أَنْ لَا خَمْرَ إلَّا مِنْ الْعِنَبِ وَأَنَّ مَا سِوَى الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ لَا يَحْرُمُ مِنْ نَبِيذِهِ إلَّا مِقْدَارُ مَا يُسْكِرُ وَيَشْرَبُونَ مَا يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَؤُلَاءِ مُنْدَرِجُونَ تَحْتَ الْوَعِيدِ لِمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ الْعُذْرِ الَّذِي تَأَوَّلُوا بِهِ أَوْ لِمَوَانِعَ أُخَرَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الشَّرَابَ الَّذِي شَرِبُوهُ لَيْسَ مِنْ الْخَمْرِ الْمَلْعُونِ شَارِبُهَا فَإِنَّ سَبَبَ الْقَوْلِ الْعَامِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ خَمْرٌ مِنْ الْعِنَبِ ثُمَّ {إنَّ النَّبِيَّ

ص: 264

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لَعَنَ الْبَائِعَ لِلْخَمْرِ} وَقَدْ بَاعَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ خَمْرًا حَتَّى بَلَغَ عُمَرَ فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا} وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّ بَيْعَهَا مُحَرَّمٌ وَلَمْ يَمْنَعْ عُمَرَ رضي الله عنه عِلْمُهُ بِعَدَمِ عِلْمِهِ أَنْ يُبَيِّنَ جَزَاءَ هَذَا الذَّنْبِ؛ لِيَتَنَاهَى هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْعِلْمِ بِهِ. وَقَدْ لَعَنَ الْعَاصِرَ وَالْمُعْتَصِرَ؛ وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يُجَوِّزُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْصِرَ لِغَيْرِهِ عِنَبًا وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ مِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا فَهَذَا نَصٌّ فِي لَعْنِ الْعَاصِرِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَعْذُورَ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهُ لِمَانِعِ. وَكَذَلِكَ لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ صِحَاحٍ ثُمَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَكْرَهُهُ فَقَطْ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إنَّ الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ} وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَكْرَهُهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم {إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ} يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي تَحْرِيمِ قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ

ص: 265

بِغَيْرِ حَقٍّ ثُمَّ إنَّا نَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَمَلِ وصفين لَيْسُوا فِي النَّارِ؛ لِأَنَّ لَهُمَا عُذْرًا وَتَأْوِيلًا فِي الْقِتَالِ وَحَسَنَاتٍ مَنَعَتْ الْمُقْتَضِي أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُك فَضْلِي كَمَا مَنَعْت فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاك وَرَجُلٌ بَايَعَ إمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إلَّا لِدُنْيَا إنْ أَعْطَاهُ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ سَخِطَ وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ كَاذِبًا: لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ} فَهَذَا وَعِيدٌ عَظِيمٌ لِمَنْ مَنَعَ فَضْلَ مَائِهِ مَعَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ يُجَوِّزُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَمْنَعَ فَضْلَ مَائِهِ. فَلَا يَمْنَعُنَا هَذَا الْخِلَافُ أَنْ نَعْتَقِدَ تَحْرِيمَ هَذَا مُحْتَجِّينَ بِالْحَدِيثِ وَلَا يَمْنَعُنَا مَجِيءُ الْحَدِيثِ أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ الْمُتَأَوِّلَ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ لَا يَلْحَقُهُ هَذَا الْوَعِيدُ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم {لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ} . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَعَنْ أَصْحَابِهِ مَعَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ صَحَّحُوا نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ مُطْلَقًا. وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَهُ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْعَقْدِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَعْذَارٌ مَعْرُوفَةٌ؛ فَإِنَّ قِيَاسَ الْأُصُولِ عِنْدَ الْأَوَّلِ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ؛ كَمَا لَا يَبْطُلُ بِجَهَالَةِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَقِيَاسُ الْأُصُولِ عِنْدَ الثَّانِي أَنَّ الْعُقُودَ الْمُجَرَّدَةَ عَنْ شَرْطٍ مُقْتَرِنٍ لَا تُغَيِّرُ

ص: 266

أَحْكَامَ الْعُقُودِ؛ وَلَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْحَدِيثُ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ. هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ فَإِنَّ كُتُبَهُمْ الْمُتَقَدِّمَةَ لَمْ تَتَضَمَّنْهُ وَلَوْ بَلَغَهُمْ لَذَكَرُوهُ آخِذِينَ بِهِ أَوْ مُجِيبِينَ عَنْهُ؛ أَوْ بَلَغَهُمْ وَتَأَوَّلُوهُ؛ أَوْ اعْتَقَدُوا نَسْخَهُ؛ أَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ مَا يُعَارِضُهُ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ لَا يُصِيبُهُ هَذَا الْوَعِيدُ لَوْ أَنَّهُ فَعَلَ التَّحْلِيلَ مُعْتَقِدًا حِلَّهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَا يَمْنَعُنَا ذَلِكَ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ التَّحْلِيلَ سَبَبٌ لِهَذَا الْوَعِيدِ وَإِنْ تَخَلَّفَ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ. وَكَذَلِكَ اسْتِلْحَاقُ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه زِيَادَ بْنَ أَبِيهِ الْمَوْلُودَ عَلَى فِرَاشِ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ؛ لِكَوْنِ أَبِي سُفْيَانَ كَانَ يَقُولُ: إنَّهُ مِنْ نُطْفَتِهِ مَعَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ: {مَنْ اُدُّعِيَ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ} وَقَالَ: {مَنْ اُدُّعِيَ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا} حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَضَى أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَهُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ انْتَسَبَ إلَى غَيْرِ الْأَبِ الَّذِي هُوَ صَاحِبُ الْفِرَاشِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَيَّنَ أَحَدٌ دُونَ الصَّحَابَةِ فَضْلًا عَنْ الصَّحَابَةِ فَيُقَالُ: إنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لَاحِقٌ بِهِ لِإِمْكَانِ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَاعْتَقَدُوا

ص: 267

أَنَّ الْوَلَدَ لِمَنْ أَحْبَلَ أُمَّهُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ هُوَ الْمُحْبِلُ لِسُمَيَّةَ أُمِّ زِيَادٍ فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ قَدْ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ لَا سِيَّمَا قَبْلَ انْتِشَارِ السُّنَّةِ مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ هَكَذَا؛ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَانِعِ الْمَانِعَةِ هَذَا الْمُقْتَضِي لِلْوَعِيدِ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُ: مِنْ حَسَنَاتٍ تَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ بِكِتَابِ أَوْ سُنَّةٍ إذَا كَانَ بَعْضُ الْأُمَّةِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ أَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ فَاسْتَحَلُّوهَا أَوْ عَارَضَ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ عِنْدَهُمْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى رَأَوْا رُجْحَانَهَا عَلَيْهَا مُجْتَهِدِينَ فِي ذَلِكَ التَّرْجِيحِ بِحَسَبِ عَقْلِهِمْ وَعِلْمِهِمْ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ لَهُ أَحْكَامٌ مِنْ التَّأْثِيمِ وَالذَّمِّ وَالْعُقُوبَةِ وَالْفِسْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَكِنْ لَهَا شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ فَقَدْ يَكُونُ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ مُنْتَفِيَةٌ لِفَوَاتِ شَرْطِهَا أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ؛ أَوْ يَكُونُ التَّحْرِيمُ مُنْتَفِيًا فِي حَقِّ ذَلِكَ الشَّخْصِ مَعَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا رَدَدْنَا الْكَلَامَ لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ -: أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهُ بِاجْتِهَادِ سَائِغٍ مُخْطِئٌ مَعْذُورٌ مَأْجُورٌ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ الَّذِي فَعَلَهُ الْمُتَأَوِّلُ بِعَيْنِهِ حَرَامًا لَكِنْ لَا يَتَرَتَّبُ أَثَرُ التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ لِعَفْوِ اللَّهِ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا.

ص: 268

وَالثَّانِي: فِي حَقِّهِ لَيْسَ بِحَرَامِ لِعَدَمِ بُلُوغِ دَلِيلِ التَّحْرِيمِ لَهُ؛ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَتَكُونُ نَفْسُ حَرَكَةِ ذَلِكَ الشَّخْصِ لَيْسَتْ حَرَامًا. وَالْخِلَافُ مُتَقَارِبٌ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالِاخْتِلَافِ فِي الْعِبَارَةِ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ إذَا صَادَفَتْ مَحَلَّ خِلَافٍ إذْ الْعُلَمَاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ فِي تَحْرِيمِ الْفِعْلِ الْمُتَوَعَّدِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مَحَلَّ وِفَاقٍ أَوْ خِلَافٍ بَلْ أَكْثَرُ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي مَوَارِدِ الْخِلَافِ لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الْوَعِيدِ إذَا لَمْ تَكُنْ قَطْعِيَّةً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُلْتُمْ إنَّ أَحَادِيثَ الْوَعِيدِ لَا تَتَنَاوَلُ مَحَلَّ الْخِلَافِ؛ وَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُ مَحَلَّ الْوِفَاقِ وَكُلُّ فِعْلٍ لُعِنَ فَاعِلُهُ أَوْ تُوُعِّدَ بِغَضَبِ أَوْ عِقَابٍ حُمِلَ عَلَى فِعْلٍ اُتُّفِقَ عَلَى تَحْرِيمِهِ لِئَلَّا يَدْخُلَ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْوَعِيدِ إذَا فَعَلَ مَا اعْتَقَدَ تَحْلِيلَهُ بَلْ الْمُعْتَقِدُ أَبْلَغُ مِنْ الْفَاعِلِ؛ إذْ هُوَ الْآمِرُ لَهُ بِالْفِعْلِ فَيَكُونُ قَدْ أَلْحَقَ بِهِ وَعِيدَ اللَّعْنِ أَوْ الْغَضَبِ بِطَرِيقِ الِاسْتِلْزَامِ؟ ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا: أَنَّ جِنْسَ التَّحْرِيمِ إمَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي مَحَلِّ خِلَافٍ

ص: 269

أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي مَحَلِّ خِلَافٍ قَطُّ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ حَرَامًا إلَّا مَا أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَكُلُّ مَا اُخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِهِ يَكُونُ حَلَالًا وَهَذَا مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَهُوَ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا وَلَوْ فِي صُورَةٍ فَالْمُسْتَحِلُّ لِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ إمَّا أَنْ يَلْحَقَهُ ذَمَّ مَنْ حَلَّلَ الْحَرَامَ أَوْ فَعَلَهُ وَعُقُوبَتُهُ أَوْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ يَلْحَقُهُ؛ أَوْ قِيلَ: إنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ: فَكَذَلِكَ التَّحْرِيمُ الثَّابِتُ فِي حَدِيثِ الْوَعِيدِ اتِّفَاقًا وَالْوَعِيدُ الثَّابِتُ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّفْصِيلِ بَلْ الْوَعِيدُ إنَّمَا جَاءَ عَلَى الْفَاعِلِ وَعُقُوبَةُ مُحَلِّلِ الْحَرَامِ فِي الْأَصْلِ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ فَاعِلِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا فِي صُورَةِ الْخِلَافِ وَلَا يَلْحَقُ الْمُحَلِّلَ الْمُجْتَهِدَ عُقُوبَةُ ذَلِكَ الْإِحْلَالِ لِلْحَرَامِ؛ لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا فِيهِ؛ فَلِأَنْ لَا يَلْحَقَ الْفَاعِلَ وَعِيدُ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَكَمَا لَمْ يَلْزَمْ دُخُولُ الْمُجْتَهِدِ تَحْتَ حُكْمِ هَذَا التَّحْرِيمِ مِنْ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: لَمْ يَلْزَمْ دُخُولُهُ تَحْتَ حُكْمِهِ مِنْ الْوَعِيدِ؛ إذْ لَيْسَ الْوَعِيدُ إلَّا نَوْعًا مِنْ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ فَإِنْ جَاز دُخُولُهُ تَحْتَ هَذَا الْجِنْسِ فَمَا كَانَ الْجَوَابُ عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِهِ كَانَ جَوَابًا عَنْ الْبَعْضِ الْآخَرِ وَلَا يُغْنِي الْفَرْقُ بِقِلَّةِ الذَّمِّ وَكَثْرَتِهِ؛ أَوْ شِدَّةِ الْعُقُوبَةِ وَخِفَّتِهَا؛ فَإِنَّ الْمَحْذُورَ فِي قَلِيلِ الذَّمِّ

ص: 270

وَالْعِقَابِ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَالْمَحْذُورِ فِي كَثِيرِهِ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْحَقُهُ قَلِيلُ ذَلِكَ وَلَا كَثِيرُهُ بَلْ يَلْحَقُهُ ضِدُّ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ.

الثَّانِي: أَنَّ كَوْنَ حُكْمِ الْفِعْلِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ أُمُورٌ خَارِجَةٌ عَنْ الْفِعْلِ وَصِفَاتِهِ وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ إضَافِيَّةٌ بِحَسَبِ مَا عَرَضَ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ. وَاللَّفْظُ الْعَامُّ إنْ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ فَلَا بُدَّ مِنْ نَصْبِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ إمَّا مُقْتَرِنٍ بِالْخِطَابِ عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ وَإِمَّا مُوَسِّعٍ فِي تَأْخِيرِهِ إلَى حِينِ الْحَاجَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا مُحْتَاجِينَ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْخِطَابِ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ فِي لَعْنَةِ آكِلِ الرِّبَا وَالْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِمَا الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ - وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَكَلُّمِ الْأُمَّةِ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ - لَكَانَ قَدْ أَخَّرَ بَيَانَ كَلَامِهِ إلَى أَنْ تَكَلَّمَ جَمِيعُ الْأُمَّةِ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. (الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إنَّمَا خُوطِبَتْ الْأُمَّةُ بِهِ لِتَعْرِفَ الْحَرَامَ فَتَجْتَنِبَهُ وَيَسْتَنِدُونَ فِي إجْمَاعِهِمْ إلَيْهِ؛ وَيَحْتَجُّونَ فِي نِزَاعِهِمْ بِهِ فَلَوْ كَانَتْ الصُّورَةُ الْمُرَادَةُ هِيَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَقَطْ لَكَانَ الْعِلْمُ بِالْمُرَادِ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجْمَاعِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ فَلَا يَكُونُ مُسْتَنَدًا لِلْإِجْمَاعِ لِأَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فَيَمْتَنِعُ تَأَخُّرُهُ

ص: 271

عَنْهُ فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى الدُّورِ الْبَاطِلِ فَإِنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ حِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُهُمْ الِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ عَلَى صُورَةٍ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّهَا مُرَادَةٌ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مُرَادَةٌ حَتَّى يَجْتَمِعُوا فَصَارَ الِاسْتِدْلَالُ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ وَالْإِجْمَاعُ مَوْقُوفًا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ قَبْلَهُ إذَا كَانَ الْحَدِيثُ هُوَ مُسْتَنَدُهُمْ فَيَكُونُ الشَّيْءُ مَوْقُوفًا عَلَى نَفْسِهِ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُهُ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ لِأَنَّهُ لَمْ يُرَدْ وَهَذَا تَعْطِيلٌ لِلْحَدِيثِ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا تَغْلِيظٌ لِلْفِعْلِ أَفَادَنَا تَحْرِيمَ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا. الرَّابِعُ أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَحْتَجَّ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ فَإِذًا الصَّدْرُ الْأَوَّلُ لَا يُجَوِّزُ أَنْ يَحْتَجُّوا بِهَا؛ بَلْ وَلَا يُجَوِّزُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَا مَنْ يَسْمَعُهَا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ إذَا سَمِعَ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ وَوَجَدَ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ قَدْ عَمِلُوا بِهِ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مُعَارِضٌ: أَنْ لَا يَعْمَلَ بِهِ حَتَّى يَبْحَثَ عَنْهُ هَلْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ مَنْ يُخَالِفُهُ؟ كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ فِي مَسْأَلَةٍ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ وَإِذًا يَبْطُلُ الِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمُجَرَّدِ خِلَافِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فَيَكُونُ قَوْلُ الْوَاحِدِ مُبْطِلًا لِكَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُوَافَقَتُهُ مُحَقِّقَةً لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ قَدْ أَخْطَأَ صَارَ خَطَؤُهُ

ص: 272

مُبْطِلًا لِكَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ؛ فَإِنَّهُ إنْ قِيلَ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْإِجْمَاعِ: صَارَتْ دَلَالَةُ النُّصُوصِ مَوْقُوفَةً عَلَى الْإِجْمَاعِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَبْقَى لِلنُّصُوصِ دَلَالَةٌ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ إنَّمَا هُوَ الْإِجْمَاعُ وَالنَّصُّ عَدِيمُ التَّأْثِيرِ. فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَجُّ بِهِ إذْ لَا يُعْلَمُ وُجُودُ الْخِلَافِ فَيَكُونُ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ مُبْطِلًا لِدَلَالَةِ النَّصِّ وَهَذَا أَيْضًا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَبُطْلَانُهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. (الْخَامِسُ: أَنَّهُ إمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ فِي شُمُولِ الْخِطَابِ اعْتِقَادُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ يُكْتَفَى بِاعْتِقَادِ الْعُلَمَاءِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى التَّحْرِيمِ بِأَحَادِيثِ الْوَعِيدِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ - حَتَّى النَّاشِئِينَ بِالْبَوَادِي الْبَعِيدَةِ وَالدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُدَّةِ الْقَرِيبَةِ - قَدْ اعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ بَلْ وَلَا عَاقِلٌ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِهَذَا الشَّرْطِ مُتَعَذَّرٌ. وَإِنْ قِيلَ: يُكْتَفَى بِاعْتِقَادِ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا اشْتَرَطْت إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ حَذَرًا مِنْ أَنْ يَشْمَلَ الْوَعِيدُ لِبَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِيمَنْ لَمْ يَسْمَعْ دَلِيلَ التَّحْرِيمِ مِنْ الْعَامَّةِ فَإِنَّ

ص: 273

مَحْذُورَ شُمُولِ اللَّعْنَةِ لِهَذَا كَمَحْذُورِ شُمُولِ اللَّعْنَةِ لِهَذَا وَلَا يُنَجِّي مِنْ هَذَا الْإِلْزَامِ أَنْ يُقَالَ: ذَلِكَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَّةِ وَفُضَلَاءِ الصِّدِّيقِينَ وَهَذَا مِنْ أَطْرَافِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ افْتِرَاقَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَمْنَعُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَمَا غَفَرَ لِلْمُجْتَهِدِ إذَا أَخْطَأَ غَفَرَ لِلْجَاهِلِ إذَا أَخْطَأَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ التَّعَلُّمُ بَلْ الْمَفْسَدَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِفِعْلِ وَاحِدٍ مِنْ الْعَامَّةِ مُحَرَّمًا لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ مَعْرِفَةُ تَحْرِيمِهِ؛ أَقَلُّ بِكَثِيرِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْ إحْلَالِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ لِمَا قَدْ حَرَّمَهُ الشَّارِعُ وَهُوَ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ مَعْرِفَةُ تَحْرِيمِهِ. وَلِهَذَا قِيلَ: احْذَرُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ فَإِنَّهُ إذَا زَلَّ زَلَّ بِزَلَّتِهِ عَالَمٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَيْلٌ لِلْعَالِمِ مِنْ الْأَتْبَاعِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا مَعْفُوًّا عَنْهُ مَعَ عِظَمِ الْمَفْسَدَةِ النَّاشِئَةِ مِنْ فِعْلِهِ: فَلِأَنْ يُعْفَى عَنْ الْآخَرِ مَعَ خِفَّةِ مَفْسَدَةِ فِعْلِهِ أَوْلَى. نَعَمْ يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ وَهُوَ أَنَّ هَذَا اجْتَهَدَ فَقَالَ بِاجْتِهَادِ وَلَهُ مِنْ نَشْرِ الْعِلْمِ وَإِحْيَاءِ السُّنَّةِ مَا تَنْغَمِرُ فِيهِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَأَثَابَ الْمُجْتَهِدَ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَأَثَابَ الْعَالِمَ عَلَى عِلْمِهِ ثَوَابًا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ ذَلِكَ الْجَاهِلُ فَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الْعَفْوِ مُفْتَرِقَانِ فِي الثَّوَابِ وَوُقُوعُ الْعُقُوبَةِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ مُمْتَنِعٌ جَلِيلًا كَانَ أَوْ حَقِيرًا فَلَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِ هَذَا الْمُمْتَنِعِ مِنْ الْحَدِيثِ بِطَرِيقِ يَشْمَلُ الْقِسْمَيْنِ.

ص: 274

السَّادِسُ أَنَّ مِنْ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ مَا هُوَ نَصٌّ فِي صُورَةِ الْخِلَافِ مِثْلَ لَعْنَةِ الْمُحَلَّلِ لَهُ فَإِنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ هَذَا لَا يَأْثَمُ بِحَالِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ رُكْنًا فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِحَالِ حَتَّى يُقَالَ: لُعِنَ لِاعْتِقَادِهِ وُجُوبَ الْوَفَاءِ بِالتَّحْلِيلِ. فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ وَإِنْ بَطَلَ الشَّرْطُ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لِلثَّانِي: جُرِّدَ الثَّانِي عَنْ الْإِثْمِ بَلْ وَكَذَلِكَ الْمُحَلِّلُ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَلْعُونًا عَلَى التَّحْلِيلِ أَوْ عَلَى اعْتِقَادِهِ وُجُوبَ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ الْمَقْرُونِ بِالْعَقْدِ فَقَطْ أَوْ عَلَى مَجْمُوعِهِمَا؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ أَوْ الثَّالِثَ حَصَلَ الْغَرَضُ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلَّعْنَةِ سَوَاءٌ حَصَلَ هُنَاكَ تَحْلِيلٌ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ هُوَ سَبَبَ اللَّعْنَةِ؛ وَسَبَبُ اللَّعْنَةِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ وَهَذَا بَاطِلٌ. ثُمَّ هَذَا الْمُعْتَقِدُ وُجُوبَ الْوَفَاءِ إنْ كَانَ جَاهِلًا فَلَا لَعْنَةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ فَمُحَالٌ أَنْ يَعْتَقِدَ الْوُجُوبَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَاغِمًا لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونَ كَافِرًا فَيَعُودُ مَعْنَى الْحَدِيثِ إلَى لَعْنَةِ الْكُفَّارِ وَالْكُفْرُ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِإِنْكَارِ هَذَا الْحُكْمِ الْجُزْئِيِّ دُونَ غَيْرِهِ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ فِي حُكْمِهِ بِأَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ بَاطِلٌ. ثُمَّ هَذَا كَلَامٌ عَامٌّ عُمُومًا لَفْظِيًّا وَمَعْنَوِيًّا وَهُوَ عُمُومٌ مُبْتَدَأٌ وَمِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الصُّوَرِ النَّادِرَةِ؛ إذْ الْكَلَامُ يَعُودُ لُكْنَةً

ص: 275

وَعَيًّا كَتَأْوِيلِ مَنْ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ: {أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ مِنْ غَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا} عَلَى الْمُكَاتَبَةِ. وَبَيَانُ نُدُورِهِ: أَنَّ الْمُسْلِمَ الْجَاهِلَ لَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ وَالْمُسْلِمَ الْعَالِمَ بِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لَا يَشْتَرِطُهُ مُعْتَقِدًا وُجُوبَ الْوَفَاءِ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَالْكَافِرُ لَا يَنْكِحُ نِكَاحَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا وَصُدُورُ هَذَا النِّكَاحِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَنْدَرِ النَّادِرِ وَلَوْ قِيلَ إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الصُّورَةِ لَا تَكَادُ تَخْطُرُ بِبَالِ الْمُتَكَلِّمِ لَكَانَ الْقَائِلُ صَادِقًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قُصِدَ بِهِ الْمُحَلِّلُ الْقَاصِدُ وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ وَكَذَلِكَ الْوَعِيدُ الْخَاصُّ مِنْ اللَّعْنَةِ وَالنَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ مَنْصُوصًا فِي مَوَاضِعَ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ فِيهَا مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَزِيَارَةُ النِّسَاءِ رَخَّصَ فِيهَا بَعْضُهُمْ وَكَرِهَهَا بَعْضُهُمْ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا. وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {لَعَنَ اللَّهُ الَّذِينَ يَأْتُونَ النِّسَاءَ فِي مُحَاشِهِنَّ} وَحَدِيثُ أَنَسٍ رضي الله عنه {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ} .

ص: 276

وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَفِيهِمْ مَنْ مَنَعَ فَضْلَ مَائِهِ وَقَدْ لَعَنَ بَائِعَ الْخَمْرِ وَقَدْ بَاعَهَا بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ جَرَّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَقَالَ: {ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ} مَعَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ الْجَرَّ وَالْإِسْبَالَ لِلْخُيَلَاءِ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم {لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ والمستوصلة} وَهُوَ مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ. وَفِي وَصْلِ الشَّعْرِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّ الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ} . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ. (السَّابِعُ: أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْعُمُومِ قَائِمٌ؛ وَالْمُعَارِضَ الْمَذْكُورَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ يُقَالَ: حَمْلُهُ عَلَى صُوَرِ الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ يَسْتَلْزِمُ دُخُولَ بَعْضِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ فِيهِ فَيُقَالُ: إذَا كَانَ التَّخْصِيصُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَتَكْثِيرُهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْعُمُومِ

ص: 277

مَنْ كَانَ مَعْذُورًا بِجَهْلِ أَوْ اجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ. مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ شَامِلٌ لِغَيْرِ الْمَعْذُورِينَ كَمَا هُوَ شَامِلٌ لِصُوَرِ الْوِفَاقِ فَإِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ أَقَلُّ؛ فَيَكُونُ أَوْلَى.

الثَّامِنُ: أَنَّا إذَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى هَذَا كَانَ قَدْ تَضَمَّنَ ذِكْرَ سَبَبِ اللَّعْنِ وَيَبْقَى الْمُسْتَثْنَى قَدْ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهُ لِمَانِعِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ وُعِدَ وَأُوعِدَ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ تَخَلُّفِ الْوَعْدِ أَوْ الْوَعِيدِ فِي حَقِّهِ لِمُعَارِضِ فَيَكُونُ الْكَلَامُ جَارِيًا عَلَى مِنْهَاجِ الصَّوَابِ. أَمَّا إذَا جَعَلْنَا اللَّعْنَ عَلَى فِعْلِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ سَبَبِ اللَّعْنِ هُوَ اعْتِقَادُ الْمُخَالِفِ لِلْإِجْمَاعِ: كَانَ سَبَبُ اللَّعْنِ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْعُمُومَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّخْصِيصِ أَيْضًا فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ التَّخْصِيصِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْتِزَامُهُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى لِمُوَافَقَةِ وَجْهِ الْكَلَامِ وَخُلُوِّهِ عَنْ الْإِضْمَارِ.

التَّاسِعُ: أَنَّ الْمُوجِبَ لِهَذَا إنَّمَا هُوَ نَفْيُ تَنَاوُلِ اللَّعْنَةِ لِلْمَعْذُورِ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ أَحَادِيثَ الْوَعِيدِ إنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهَا بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ سَبَبٌ لِتِلْكَ اللَّعْنَةِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ هَذَا الْفِعْلُ سَبَبُ اللَّعْنِ فَلَوْ قِيلَ: هَذَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَحَقُّقُ الْحُكْمِ فِي حَقِّ كُلِّ شَخْصٍ؛ لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْهُ قِيَامُ السَّبَبِ إذَا لَمْ يَتْبَعْهُ الْحُكْمُ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ وَقَدْ قَرَّرْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ

ص: 278

الذَّمَّ لَا يَلْحَقُ الْمُجْتَهِدَ حَتَّى إنَّا نَقُولُ: إنَّ مُحَلِّلَ الْحَرَامِ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ فَاعِلِهِ وَمَعَ هَذَا فَالْمَعْذُورُ مَعْذُورٌ.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ الْمُعَاقَبُ فَإِنَّ فَاعِلَ هَذَا الْحَرَامِ إمَّا مُجْتَهِدٌ أَوْ مُقَلِّدٌ لَهُ وَكِلَاهُمَا خَارِجٌ عَنْ الْعُقُوبَةِ؟ . قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُقْتَضٍ لِلْعُقُوبَةِ سَوَاءٌ وُجِدَ مَنْ يَفْعَلُهُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ لَا فَاعِلٌ إلَّا وَقَدْ انْتَفَى فِيهِ شَرْطُ الْعُقُوبَةِ؛ أَوْ قَدْ قَامَ بِهِ مَا يَمْنَعُهَا: لَمْ يَقْدَحْ هَذَا فِي كَوْنِهِ مُحَرَّمًا بَلْ نَعْلَمُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لِيَجْتَنِبَهُ مَنْ يَتَبَيَّنُ لَهُ التَّحْرِيمُ وَيَكُونُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِمَنْ فَعَلَهُ قِيَامُ عُذْرٍ لَهُ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الصَّغَائِرَ مُحَرَّمَةٌ وَإِنْ كَانَتْ تَقَعُ مُكَفِّرَةً بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا حَرَامٌ - وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعْذَرُ مَنْ يَفْعَلُهَا مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا - فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُنَا أَنْ نَعْتَقِدَ تَحْرِيمَهَا. الثَّانِي: أَنَّ بَيَانَ الْحُكْمِ سَبَبٌ لِزَوَالِ الشُّبْهَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ لُحُوقِ الْعِقَابِ؛ فَإِنَّ الْعُذْرَ الْحَاصِلَ بِالِاعْتِقَادِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بَقَاءَهُ بَلْ الْمَطْلُوبُ زَوَالُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَوْلَا هَذَا لَمَا وَجَبَ بَيَانُ الْعِلْمِ وَلَكَانَ تَرْكُ

ص: 279

النَّاسِ عَلَى جَهْلِهِمْ خَيْرًا لَهُمْ وَلَكَانَ تَرْكُ دَلَائِلِ الْمَسَائِلِ الْمُشْتَبِهَةِ خَيْرًا مِنْ بَيَانِهَا. الثَّالِثُ: أَنَّ بَيَانَ الْحُكْمِ وَالْوَعِيدِ سَبَبٌ لِثَبَاتِ الْمُجْتَنِبِ عَلَى اجْتِنَابِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَانْتَشَرَ الْعَمَلُ بِهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الْعُذْرَ لَا يَكُونُ عُذْرًا إلَّا مَعَ الْعَجْزِ عَنْ إزَالَتِهِ وَإِلَّا فَمَتَى أَمْكَنَ الْإِنْسَانُ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ فَقَصَّرَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا. الْخَامِسُ: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي النَّاسِ مَنْ يَفْعَلُهُ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ اجْتِهَادًا يُبِيحُهُ؛ وَلَا مُقَلِّدًا تَقْلِيدًا يُبِيحُهُ فَهَذَا الضَّرْبُ قَدْ قَامَ فِيهِ سَبَبُ الْوَعِيدِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْمَانِعِ الْخَاصِّ فَيَتَعَرَّضُ لِلْوَعِيدِ وَيَلْحَقُهُ؛ إلَّا أَنْ يَقُومَ فِيهِ مَانِعٌ آخَرُ مِنْ تَوْبَةٍ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ هَذَا مُضْطَرِبٌ؛ قَدْ يَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنَّ اجْتِهَادَهُ أَوْ تَقْلِيدَهُ مُبِيحٌ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ وَيَكُونُ مُصِيبًا فِي ذَلِكَ تَارَةً وَمُخْطِئًا أُخْرَى لَكِنْ مَتَى تَحَرَّى الْحَقَّ وَلَمْ يَصُدَّهُ عَنْهُ اتِّبَاعُ الْهَوَى فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. (الْعَاشِرُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ إبْقَاءُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى مُقْتَضَيَاتِهَا مُسْتَلْزِمًا لِدُخُولِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ تَحْتَ الْوَعِيدِ؛ وَإِذَا كَانَ لَازِمًا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ بَقِيَ الْحَدِيثُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ.

ص: 280

بَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَئِمَّةِ صَرَّحُوا بِأَنَّ فَاعِلَ الصُّورَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مَلْعُونٌ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ تَزَوَّجَهَا لِيَحِلَّهَا وَلَمْ تَعْلَمْ بِذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَلَا زَوْجُهَا فَقَالَ: هَذَا سِفَاحٌ وَلَيْسَ بِنِكَاحِ {لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ} . وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ؛ وَعَنْ غَيْرِهِ؛ مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا أَرَادَ الْإِحْلَالَ فَهُوَ مُحَلِّلٌ وَهُوَ مَلْعُونٌ وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ مِنْ صُوَرِ الْخِلَافِ فِي الْخَمْرِ وَالرِّبَا وَغَيْرِهِمَا. فَإِنْ كَانَتْ اللَّعْنَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْوَعِيدِ الَّذِي جَاءَ لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا مَحَلَّ الْوِفَاقِ: فَيَكُونُ هَؤُلَاءِ قَدْ لَعَنُوا مَنْ لَا يَجُوزُ لَعْنُهُ؛ فَيَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْوَعِيدِ الَّذِي جَاءَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ مِثْلَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {لَعْنُ الْمُسْلِمِ كَقَتْلِهِ} وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه {سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ؛ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: {إنَّ الطَّعَّانِينَ وَاللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ} . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ {لَا يَنْبَغِي لِصَدِيقِ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا} رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا بِاللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ

ص: 281

وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: {مَا مِنْ رَجُلٍ يَلْعَنُ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلِ إلَّا حَارَتْ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ} . فَهَذَا الْوَعِيدُ الَّذِي قَدْ جَاءَ فِي اللَّعْنِ - حَتَّى قِيلَ: إنَّ مَنْ لَعَنَ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلِ كَانَ هُوَ الْمَلْعُونَ وَإِنَّ هَذَا اللَّعْنَ فُسُوقٌ؛ وَأَنَّهُ مُخْرِجٌ عَنْ الصديقية وَالشَّفَاعَةِ وَالشَّهَادَةِ - يَتَنَاوَلُ مَنْ لَعَنَ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَاعِلُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ دَاخِلًا فِي النَّصِّ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا فَيَكُونُ لَاعِنُهُ مُسْتَوْجِبًا لِهَذَا الْوَعِيدِ فَيَكُونُ أُولَئِكَ الْمُجْتَهِدُونَ الَّذِينَ رَأَوْا دُخُولَ مَحَلِّ الْخِلَافِ فِي الْحَدِيثِ مُسْتَوْجِبِينَ لِهَذَا الْوَعِيدِ فَإِذَا كَانَ الْمَحْذُورُ ثَابِتًا عَلَى تَقْدِيرِ إخْرَاجِ مَحَلِّ الْخِلَافِ وَتَقْدِيرِ بَقَائِهِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحْذُورِ وَلَا مَانِعَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ الْمَحْذُورُ لَيْسَ ثَابِتًا عَلَى وَاحِدٍ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يَلْزَمُ مَحْذُورٌ أَلْبَتَّةَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ التَّلَازُمُ؛ وَعُلِمَ أَنَّ دُخُولَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْوُجُودِ مُسْتَلْزِمٌ لِدُخُولِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْعَدَمِ: فَالثَّابِتُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا وُجُودُ الْمَلْزُومِ وَاللَّازِمِ وَهُوَ دُخُولُهُمْ جَمِيعًا أَوْ عَدَمُ اللَّازِمِ وَالْمَلْزُومِ وَهُوَ عَدَمُ دُخُولِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ إذَا وُجِدَ الْمَلْزُومُ وُجِدَ اللَّازِمُ؛ وَإِذَا عُدِمَ اللَّازِمُ عُدِمَ الْمَلْزُومُ. وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي إبْطَالِ السُّؤَالِ؛ لَكِنَّ الَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْوَاقِعَ عَدَمُ دُخُولِهِمْ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ وَذَلِكَ أَنَّ الدُّخُولَ تَحْتَ الْوَعِيدِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْعُذْرِ فِي الْفِعْلِ وَأَمَّا الْمَعْذُورُ عُذْرًا شَرْعِيًّا فَلَا

ص: 282

يَتَنَاوَلُهُ الْوَعِيدُ بِحَالِ وَالْمُجْتَهِدُ مَعْذُورٌ بَلْ مَأْجُورٌ فَيَنْتَفِي شَرْطُ الدُّخُولِ فِي حَقِّهِ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا سَوَاءٌ اعْتَقَدَ بَقَاءَ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ أَنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا يُعْذَرُ فِيهِ وَهَذَا إلْزَامٌ مُفْحِمٌ لَا مَحِيدَ عَنْهُ إلَّا إلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ السَّائِلُ: أَنَا أُسَلِّمُ أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ مَنْ يَعْتَقِدُ دُخُولَ مَوْرِدِ الْخِلَافِ فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ وَيُوعَدُ عَلَى مَوْرِدِ الْخِلَافِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ فَيَلْعَنُ مَثَلًا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَكِنْ هُوَ مُخْطِئٌ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ خَطَأً يُعْذَرُ فِيهِ وَيُؤْجَرُ فَلَا يَدْخُلُ فِي وَعِيدٍ مَنْ لَعَنَ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَعِيدَ هُوَ عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَى لَعْنٍ مُحَرَّمٍ بِالِاتِّفَاقِ فَمَنْ لَعَنَ لَعْنًا مُحَرَّمًا بِالِاتِّفَاقِ تَعَرَّضَ لِلْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ عَلَى اللَّعْنِ وَإِذَا كَانَ اللَّعْنُ مِنْ مَوَارِدِ الِاخْتِلَافِ لَمْ يَدْخُلْ فِي أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ كَمَا أَنَّ الْفِعْلَ الْمُخْتَلَفَ فِي حِلِّهِ وَلَعْنِ فَاعِلِهِ لَا يَدْخُلُ فِي أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ فَكَمَا أَخْرَجْت مَحَلَّ الْخِلَافِ مِنْ الْوَعِيدِ الْأَوَّلِ أُخْرِجُ مَحَلَّ الْخِلَافِ مِنْ الْوَعِيدِ الثَّانِي. وَأَعْتَقِدُ أَنَّ أَحَادِيثَ الْوَعِيدِ فِي كِلَا الطَّرَفَيْنِ لَمْ تَشْمَلْ مَحَلَّ الْخِلَافِ لَا فِي جَوَازِ الْفِعْلِ وَلَا فِي جَوَازِ لَعْنَةِ فَاعِلِهِ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ جَوَازَ الْفِعْلِ أَوْ عَدَمَ جَوَازِهِ فَإِنِّي عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا أُجَوِّزُ لَعْنَةَ فَاعِلِهِ وَلَا أُجَوِّزُ لَعْنَةَ مَنْ لَعَنَ فَاعِلَهُ وَلَا أَعْتَقِدُ الْفَاعِلَ وَلَا اللَّاعِنَ دَاخِلًا فِي حَدِيثِ وَعِيدٍ وَلَا أُغَلِّظُ عَلَى اللَّاعِنِ إغْلَاظَ مَنْ يَرَاهُ مُتَعَرِّضًا لِلْوَعِيدِ بَلْ

ص: 283

لَعْنُهُ لِمَنْ فَعَلَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ عِنْدِي مِنْ جُمْلَةِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَأَنَا أَعْتَقِدُ خَطَأَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا قَدْ أَعْتَقِدُ خَطَأَ الْمُبِيحِ فَإِنَّ الْمَقَالَاتِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ. وَالثَّانِي: الْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ وَلُحُوقِ الْوَعِيدِ. وَالثَّالِثُ: الْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ الْخَالِي مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ. وَأَنَا قَدْ أَخْتَارُ هَذَا الْقَوْلَ الثَّالِثَ: لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى تَحْرِيمِ الْفِعْلِ وَعَلَى تَحْرِيمِ لَعْنَةِ فَاعِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مَعَ اعْتِقَادِي أَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي تَوَعُّدِ الْفَاعِلِ وَتَوَعُّدِ اللَّاعِنِ لَمْ يَشْمَلْ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ. فَيُقَالُ لِلسَّائِلِ: إنْ جَوَّزْت أَنْ تَكُونَ لَعْنَةُ هَذَا الْفَاعِلِ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ جَازَ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهَا بِالظَّاهِرِ الْمَنْصُوصِ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا أَمَانَ مِنْ إرَادَةِ مَحَلِّ الْخِلَافِ مِنْ حَدِيثِ الْوَعِيدِ وَالْمُقْتَضِي لِإِرَادَتِهِ قَائِمٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ؛ وَإِنْ لَمْ تُجَوِّزْ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ كَانَ لَعْنُهُ مُحَرَّمًا تَحْرِيمًا قَطْعِيًّا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ لَعَنَ مُجْتَهِدًا لَعْنًا مُحَرَّمًا تَحْرِيمًا قَطْعِيًّا كَانَ دَاخِلًا فِي الْوَعِيدِ الْوَارِدِ لِلَّاعِنِ وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا كَمَنْ لَعَنَ بَعْضَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فَثَبَتَ أَنَّ الدَّوْرَ لَازِمٌ سَوَاءٌ قَطَعْت بِتَحْرِيمِ لَعْنَةِ فَاعِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ أَوْ سَوَّغْت الِاخْتِلَافَ فِيهِ وَذَلِكَ الِاعْتِقَادُ الَّذِي ذَكَرْته لَا يَدْفَعُ الِاسْتِدْلَالَ بِنُصُوصِ الْوَعِيدِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَهَذَا بَيِّنٌ.

ص: 284

وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: لَيْسَ مَقْصُودُنَا بِهَذَا الْوَجْهِ تَحْقِيقَ تَنَاوُلِ الْوَعِيدِ لِمَحَلِّ الْخِلَافِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْقِيقُ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ الْوَعِيدِ عَلَى مَحَلِّ الْخِلَافِ وَالْحَدِيثُ أَفَادَ حُكْمَيْنِ: التَّحْرِيمَ وَالْوَعِيدَ وَمَا ذَكَرْته إنَّمَا يَتَعَرَّضُ لِنَفْيِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْوَعِيدِ فَقَطْ وَالْمَقْصُودُ هُنَا إنَّمَا هُوَ بَيَانُ دَلَالَتِهِ عَلَى التَّحْرِيمِ فَإِذَا الْتَزَمْت أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُتَوَعِّدَةَ لِلَاعِنِ لَا تَتَنَاوَلُ لَعْنًا مُخْتَلَفًا فِيهِ: لَمْ يَبْقَ فِي اللَّعْنِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ اللَّعْنِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا كَانَ جَائِزًا.، أَوْ يُقَالُ: فَإِذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ لَمْ يَجُزْ اعْتِقَادُ تَحْرِيمِهِ وَالْمُقْتَضِي لِجَوَازِهِ قَائِمٌ وَهِيَ الْأَحَادِيثُ اللَّاعِنَةُ لِمَنْ فَعَلَ هَذَا وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ لَعْنَتِهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِ لَعْنَتِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لِجَوَازِ لَعْنَتِهِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ. وَهَذَا يُبْطِلُ السُّؤَالَ: فَقَدْ دَارَ الْأَمْرُ عَلَى السَّائِلِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا الدَّوْرُ الْآخَرُ لِأَنَّ عَامَّةَ النُّصُوصِ الْمُحَرِّمَةِ لِلَّعْنِ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْوَعِيدِ فَإِنْ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِدْلَالُ بِنُصُوصِ الْوَعِيدِ عَلَى مَحَلِّ الْخِلَافِ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى لَعْنٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ قَالَ: أَنَا أَسْتَدِلُّ عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ اللَّعْنَةِ بِالْإِجْمَاعِ. قِيلَ لَهُ: الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَحْرِيمِ لَعْنَةِ مُعَيَّنٍ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ

ص: 285

أَمَّا لَعْنَةُ الْمَوْصُوفِ فَقَدْ عَرَفْت الْخِلَافَ فِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لَعْنَةَ الْمَوْصُوفِ لَا تَسْتَلْزِمُ إصَابَةَ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ إلَّا إذَا وُجِدَتْ الشُّرُوطُ وَارْتَفَعَتْ الْمَوَانِعُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَنْعِ حَمْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى مَحَلِّ الْوِفَاقِ تَرِدُ هُنَا وَهِيَ تُبْطِلُ هَذَا السُّؤَالَ هُنَا كَمَا أَبْطَلَتْ أَصْلَ السُّؤَالِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ جَعْلِ الدَّلِيلِ مُقَدِّمَةً مِنْ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلٍ آخَرَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا مَعَ التَّطْوِيلِ إنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ وَاحِدٌ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ الْمَحْذُورَ الَّذِي ظَنُّوهُ هُوَ لَازِمٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يَكُونُ مَحْذُورًا فَيَكُونُ دَلِيلٌ وَاحِدٌ قَدْ دَلَّ عَلَى إرَادَةِ مَحَلِّ الْخِلَافِ مِنْ النُّصُوصِ؛ وَعَلَى أَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ بِمُسْتَنْكَرِ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ عَلَى مَطْلُوبِ مُقَدِّمَةٍ فِي دَلِيلِ مَطْلُوبٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبَانِ مُتَلَازِمَيْنِ. (الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِأَحَادِيثِ الْوَعِيدِ فِيمَا اقْتَضَتْهُ مِنْ التَّحْرِيمِ فَإِنَّمَا خَالَفَ بَعْضُهُمْ فِي الْعَمَلِ بِآحَادِهَا فِي الْوَعِيدِ خَاصَّةً فَأَمَّا فِي التَّحْرِيمِ فَلَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ مُعْتَدٌّ مُحْتَسَبٌ وَمَا زَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ فِي خِطَابِهِمْ وَكِتَابِهِمْ يَحْتَجُّونَ بِهَا فِي مَوَارِدِ الْخِلَافِ وَغَيْرِهِ بَلْ إذَا كَانَ فِي الْحَدِيثِ وَعِيدٌ كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي اقْتِضَاءِ التَّحْرِيمِ عَلَى مَا تَعْرِفُهُ

ص: 286

الْقُلُوبُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا التَّنْبِيهُ عَلَى رُجْحَانِ قَوْلِ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا فِي الْحُكْمِ وَاعْتِقَادِ الْوَعِيدِ وَأَنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ؛ وَعَلَى هَذَا فَلَا يُقْبَلُ سُؤَالٌ يُخَالِفُ الْجَمَاعَةَ.

الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ نُصُوصَ الْوَعِيدِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَالْقَوْلَ بِمُوجِبِهَا وَاجِبٌ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيَّنَ شَخْصٌ مِنْ الْأَشْخَاصِ فَيُقَالَ: هَذَا مَلْعُونٌ وَمَغْضُوبٌ عَلَيْهِ أَوْ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّارِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ لِذَلِكَ الشَّخْصِ فَضَائِلُ وَحَسَنَاتٌ؛ فَإِنَّ مَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ تَجُوزُ عَلَيْهِمْ الصَّغَائِرُ وَالْكَبَائِرُ مَعَ إمْكَانِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّخْصُ صِدِّيقًا أَوْ شَهِيدًا أَوْ صَالِحًا؛ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مُوجَبَ الذَّنْبِ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ بِتَوْبَةِ أَوْ اسْتِغْفَارٍ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ أَوْ لِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. فَإِذَا قُلْنَا بِمُوجَبِ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} وقَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقَوْله تَعَالَى {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الْوَعِيدِ. أَوْ قُلْنَا بِمُوجَبِ قَوْلِهِ

ص: 287

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَعَنَ اللَّهُ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ عَقَّ وَالِدَيْهِ أَوْ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ} أَوْ {لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ} أَوْ {لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ} أَوْ {لَعَنَ اللَّهُ لَاوِيَ الصَّدَقَةِ وَالْمُعْتَدِيَ فِيهَا} أَوْ {مَنْ أَحْدَثَ فِي الْمَدِينَةِ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أَوْ {مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَوْ {لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ} وَ {مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا} أَوْ {مَنْ اُدُّعِيَ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ} أَوْ {مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ} أَوْ {مَنْ اسْتَحَلَّ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِ كَاذِبَةٍ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} أَوْ {لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ. لَمْ يَجُزْ أَنْ نُعَيِّنَ شَخْصًا مِمَّنْ فَعَلَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَنَقُولَ: هَذَا الْمُعَيَّنُ قَدْ أَصَابَهُ هَذَا الْوَعِيدُ؛ لِإِمْكَانِ التَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُسْقِطَاتِ الْعُقُوبَةِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَقُولَ: هَذَا يَسْتَلْزِمُ لَعْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَعْنَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَوْ لَعْنَ الصِّدِّيقِينَ أَوْ الصَّالِحِينَ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: الصِّدِّيقُ وَالصَّالِحُ متى صَدَرَتْ مِنْهُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَانِعٍ يَمْنَعُ لُحُوقَ الْوَعِيدِ بِهِ مَعَ قِيَامِ سَبَبِهِ فَفِعْلُ هَذِهِ الْأُمُورِ مِمَّنْ يَحْسِبُ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ بِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ امْتَنَعَ لُحُوقُ الْوَعِيدِ بِهِمْ لِمَانِعِ كَمَا امْتَنَعَ لُحُوقُ الْوَعِيدِ بِهِ لِتَوْبَةِ

ص: 288

أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السَّبِيلَ هِيَ الَّتِي يَجِبُ سُلُوكُهَا؛ فَإِنَّ مَا سِوَاهَا طَرِيقَانِ خَبِيثَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَوْلُ بِلُحُوقِ الْوَعِيد لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ بِعَيْنِهِ وَدَعْوَى أَنَّ هَذَا عَمَلٌ بِمُوجَبِ النُّصُوصِ، وَهَذَا أَقْبَحُ مِنْ قَوْلِ الْخَوَارِجِ الْمُكَفِّرِينَ بِالذُّنُوبِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَفَسَادُهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ وَأَدِلَّتُهُ مَعْلُومَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الثَّانِي: تَرْكُ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِمُوجَبِ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ظَنًّا أَنَّ الْقَوْلَ بِمُوجَبِهَا مُسْتَلْزِمٌ لِلطَّعْنِ فِيمَا خَالَفَهَا. وَهَذَا التَّرْكُ يَجُرُّ إلَى الضَّلَالِ وَاللُّحُوقِ بِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ {الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَمْ يَعْبُدُوهُمْ وَلَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ فَاتَّبَعُوهُمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَاتَّبَعُوهُمْ} وَيُفْضِي إلَى طَاعَةِ الْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَيُفْضِي إلَى قُبْحِ الْعَاقِبَةِ وَسُوءِ التَّأْوِيلِ الْمَفْهُومِ مِنْ فَحْوَى قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} .

ص: 289

ثُمَّ إنَّ الْعُلَمَاءَ يَخْتَلِفُونَ كَثِيرًا؛ فَإِنْ كَانَ كُلُّ خَبَرٍ فِيهِ تَغْلِيظٌ خَالَفَهُ مُخَالِفٌ تُرِكَ الْقَوْلُ بِمَا فِيهِ مِنْ التَّغْلِيظِ أَوْ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ مُطْلَقًا لَزِمَ مِنْ هَذَا مِنْ الْمَحْذُورِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ: مِنْ الْكُفْرِ وَالْمُرُوقِ مِنْ الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَحْذُورُ مِنْ هَذَا أَعْظَمَ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ دُونَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ نُؤْمِنَ بِالْكِتَابِ وَنَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا جَمِيعِهِ وَلَا نُؤْمِنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَنَكْفُرَ بِبَعْضِ وَتَلِينَ قُلُوبُنَا لِاتِّبَاعِ بَعْضِ السُّنَّةِ وَتَنْفِرَ عَنْ قَبُولِ بَعْضِهَا بِحَسَبِ الْعَادَاتِ وَالْأَهْوَاءِ فَإِنَّ هَذَا خُرُوجٌ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إلَى صِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ. وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فِي خَيْرٍ وَعَافِيَةٍ لَنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَأَصْحَابِهِ الْمُنْتَخَبِينَ وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

ص: 290

وَسُئِلَ:

عَنْ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْمَشَايِخِ وَالْإِمَامِ أَحْمَد أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَئِمَّةِ فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

أَمَّا تَرْجِيحُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ عَلَى بَعْضٍ؛ مِثْلَ مَنْ يُرَجِّحُ إمَامَهُ الَّذِي تَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِهِ؛ أَوْ يُرَجِّحُ شَيْخَهُ الَّذِي اقْتَدَى بِهِ عَلَى غَيْرِهِ؛ كَمَنْ يُرَجِّحُ الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَادِرِ أَوْ الشَّيْخَ أَبَا مَدْيَنَ؛ أَوْ أَحْمَد أَوْ غَيْرَهُمْ: فَهَذَا الْبَابُ أَكْثَرُ النَّاسِ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ بِالظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ مَرَاتِبِ الْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ وَلَا يَقْصِدُونَ اتِّبَاعَ الْحَقِّ الْمُطْلَقِ بَلْ كُلُّ إنْسَانٍ تَهْوَى نَفْسُهُ أَنْ يُرَجِّحَ مَتْبُوعَهُ فَيُرَجِّحَهُ بِظَنِّ يَظُنُّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بُرْهَانٌ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى تَحَاجِّهِمْ وَقِتَالِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ وَهَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ

ص: 291

أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُرْقَةِ. فَمَا دَخَلَ فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ مِنْ التَّعَصُّبِ وَالتَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّكَلُّمِ بِغَيْرِ عِلْمٍ: فَإِنَّهُ يَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَدْخُلَ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَأَمَّا مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ فَضْلُ إمَامٍ عَلَى إمَامٍ أَوْ شَيْخٍ عَلَى شَيْخٍ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ كَمَا تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ التَّرْجِيعُ فِي الْأَذَانِ أَوْ تَرْكُهُ؟ أَوْ إفْرَادُ الْإِقَامَةِ أَوْ تَثْنِيَتُهَا؟ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ بِغَلَسِ أَوْ الْإِسْفَارُ بِهَا؟ وَالْقُنُوتُ فِي الْفَجْرِ أَوْ تَرْكُهُ؟ وَالْجَهْرُ بِالتَّسْمِيَةِ؛ أَوْ الْمُخَافَتَةُ بِهَا؛ أَوْ تَرْكُ قِرَاءَتِهَا؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَهَذِهِ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فَكُلٌّ مِنْهُمْ أَقَرَّ الْآخَرَ عَلَى اجْتِهَادِهِ مَنْ كَانَ فِيهَا أَصَابَ الْحَقَّ فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنْ كَانَ قَدْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ فَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ مَالِكٍ وَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ أَحْمَد

ص: 292

لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلَا أَحَدَ فِي الْإِسْلَامِ يُجِيبُ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ بِجَوَابِ عَامٍّ: أَنَّ فُلَانًا أَفْضَلُ مِنْ فُلَانٍ فَيُقْبَلُ مِنْهُ هَذَا الْجَوَابَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُرَجِّحُ مَتْبُوعَهَا فَلَا تَقْبَلُ جَوَابَ مَنْ يُجِيبُ بِمَا يُخَالِفُهَا فِيهِ كَمَا أَنَّ مَنْ يُرَجِّحُ قَوْلًا أَوْ عَمَلًا لَا يَقْبَلُ قَوْلَ مَنْ يُفْتِي بِخِلَافِ ذَلِكَ لَكِنْ إنْ كَانَ الرَّجُلُ مُقَلِّدًا فَلْيَكُنْ مُقَلِّدًا لِمَنْ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا اجْتَهَدَ وَاتَّبَعَ مَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَّبِعَ هَوَاهُ وَلَا يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ تَعَالَى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} وَقَالَ تَعَالَى {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} وَمَا مِنْ إمَامٍ إلَّا لَهُ مَسَائِلُ يَتَرَجَّحُ فِيهَا قَوْلُهُ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ وَلَا يَعْرِفُ هَذَا التَّفَاضُلَ إلَّا مَنْ خَاضَ فِي تَفَاصِيلِ الْعِلْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 293

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

عَنْ " صِحَّةِ أُصُولِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ " وَمَنْزِلَةِ مَالِكٍ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ مَذْهَبُهُمْ فِي الْإِمَامَةِ وَالدِّيَانَةِ؛ وَضَبْطِهِ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الثِّقَةِ وَالْخِبْرَةِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْصَارِ؟

فَأَجَابَ رضي الله عنه:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ - دَارِ السُّنَّةِ وَدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ النُّصْرَةِ إذْ فِيهَا سَنَّ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم سُنَنَ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعَهُ وَإِلَيْهَا هَاجَرَ الْمُهَاجِرُونَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِهَا كَانَ الْأَنْصَارُ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ - مَذْهَبُهُمْ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ أَصَحُّ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْمَدَائِنِ الْإِسْلَامِيَّةِ شَرْقًا وَغَرْبًا؛ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ. وَهَذِهِ الْأَعْصَارُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أَعْصَارُ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ؛ الَّتِي

ص: 294

قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ وُجُوهٍ: {خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ؛ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ؛ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ} فَذَكَرَ ابْنُ حِبَّانَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ بِلَا نِزَاعٍ وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الشَّكُّ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ بَعْدَ قَرْنِهِ وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِهَا بِالْجَزْمِ بِإِثْبَاتِ الْقَرْنِ الثَّالِثِ بَعْدَ قَرْنِهِ فَتَكُونُ أَرْبَعَةً. وَقَدْ جَزَمَ بِذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ البستي وَنَحْوُهُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي طَبَقَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ. أَمَّا أَحَادِيثُ الثَّلَاثَةِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِينَ يَلُونَنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: {سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ؛ ثُمَّ الثَّانِي؛ ثُمَّ الثَّالِثُ} . وَأَمَّا الشَّكُّ فِي الرَّابِعِ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي؛ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ؛ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ: فَلَا أَدْرِي أَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا: ثُمَّ

ص: 295

يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ؛ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ؛ وَيُنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ. وَفِي لَفْظٍ: خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ؛ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ؛ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ: وَيَحْلِفُونَ وَلَا يُسْتَحْلَفُونَ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ؛ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: أَذَكَرَ الثَّالِثَ أَمْ لَا؟ - ثُمَّ يَخْلُفُ قَوْمٌ يُحِبُّونَ السمانة يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا} . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: " يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا " قَدْ فَهِمَ مِنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَهَا الْمَشْهُودُ لَهُ وَحَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا كَانَ عَالِمًا؛ جَمْعًا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ: الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا} وَحَمَلُوا الثَّانِيَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهَا الْمَشْهُودُ لَهُ فَيَعْرِفَهُ بِهَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الذَّمَّ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لِمَنْ يَشْهَدُ بِالْبَاطِلِ كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ ثُمَّ يَفْشُو فِيهِمْ الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ ذَلِكَ بِالْخِيَانَةِ وَبِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ وَهَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثَةُ هِيَ آيَةُ الْمُنَافِقِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْهُ

ص: 296

صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ: وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ} فَذَمَّهُمْ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَفْشُو فِيهِمْ مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يُسَارِعُونَ إلَى الْكَذِبِ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ شَرٌّ مِمَّنْ لَا يَكْذِبُ حَتَّى يُسْأَلَ أَنْ يَكْذِبَ. وَأَمَّا مَا فِيهِ ذِكْرُ الْقَرْنِ الرَّابِعِ فَمِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى أَصْحَابَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى أَصْحَابَ أَصْحَابِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيُفْتَحُ لَهُمْ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ} وَلِذَلِكَ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَقَالَ فِيهَا كُلِّهَا: صَحِبَ وَلَمْ يَقُلْ رَأَى.

ص: 297

وَلِمُسْلِمِ مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى: {يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُبْعَثُ فِيهِمْ الْبَعْثُ فَيَقُولُونَ: اُنْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ فِيكُمْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيُوجَدُ الرَّجُلُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ بِهِ ثُمَّ يُبْعَثُ الْبَعْثُ الثَّانِي فَيَقُولُونَ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يُبْعَثُ الْبَعْثُ الثَّالِثُ فَيَقُولُونَ: اُنْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ثُمَّ يَكُونُ الْبَعْثُ الرَّابِعُ فَيُقَالُ: اُنْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ فِيكُمْ أَحَدًا رَأَى مَنْ رَأَى أَحَدًا رَأَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيُوجَدُ الرَّجُلُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ بِهِ} . وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا يَدُلُّ عَلَى شَيْئَيْنِ: عَلَى أَنَّ صَاحِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مَنْ رَآهُ مُؤْمِنًا بِهِ وَإِنْ قَلَّتْ صُحْبَتُهُ؛ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةً أَوْ شَهْرًا أَوْ يَوْمًا أَوْ رَآهُ مُؤْمِنًا بِهِ فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ لَهُ مِنْ الصُّحْبَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الصُّحْبَةِ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ يُقَالُ: صَحِبَهُ شَهْرًا؛ وَسَاعَةً. وَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ حُكْمَ الصُّحْبَةِ يَتَعَلَّقُ بِمَنْ رَآهُ مُؤْمِنًا بِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ هَذَا. وَفِي الطَّرِيقِ الثَّانِي لِمُسْلِمِ ذَكَرَ أَرْبَعَةَ قُرُونٍ وَمَنْ أَثْبَتَ هَذِهِ

ص: 298

الزِّيَادَةَ قَالَ: هَذِهِ مِنْ ثِقَةٍ. وَتَرْكُ ذِكْرِهَا فِي بَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ لَا يَنْفِي وُجُودَهَا كَمَا أَنَّهُ لَمَّا شَكَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَذَكَرَ الثَّالِثَ؟ لَمْ يَقْدَحْ فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي ثَبَتَ فِيهَا الْقَرْنُ الثَّالِثُ. وَمَنْ أَنْكَرَهَا قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الصَّحِيحِ: أَخْبَرَ أَنَّهُ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ؛ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ فَيَكُونُ مَا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ ذُكِرَ بِذَمِّ. وَقَدْ يُقَالُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ الْكَذِبُ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ. وَمَعَ هَذَا فَيَكُونُ فِيهِ مَنْ يُفْتَحُ بِهِ لِاتِّصَالِ الرُّؤْيَةِ.

وَفِي الْقُرُونِ الَّتِي أَثْنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَصَحَّ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْمَدَائِنِ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَسَّوْنَ بِأَثَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الْأَمْصَارِ وَكَانَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ دُونَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَاتِّبَاعِهَا حَتَّى أَنَّهُمْ لَا يَفْتَقِرُونَ إلَى نَوْعٍ مِنْ سِيَاسَةِ الْمُلُوكِ وَأَنَّ افْتِقَارَ الْعُلَمَاءِ وَمَقَاصِدِ الْعِبَادِ أَكْثَرُ مِنْ افْتِقَارِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ حَيْثُ كَانُوا أَغْنَى مِنْ غَيْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَى الْعِلْمِ بِهَا وَاتِّبَاعِهَا كُلُّ أَحَدٍ. وَلِهَذَا لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إلَى أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ مَدِينَةٍ مِنْ الْمَدَائِنِ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا غَيْرُ الْمَدِينَةِ لَا فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ وَلَا فِيمَا

ص: 299

بَعْدَهَا لَا إجْمَاعَ أَهْلِ مَكَّةَ؛ وَلَا الشَّامِ؛ وَلَا الْعِرَاقِ؛ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ حَكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فَقَدْ غَلِطَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمَدِينَةُ فَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي إجْمَاعِ أَهْلِهَا وَاشْتُهِرَ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِهَا حُجَّةٌ وَإِنْ كَانَ بَقِيَّةُ الْأَئِمَّةِ يُنَازِعُونَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي إجْمَاعِهِمْ فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ الْمُفَضَّلَةِ وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِهَا لَيْسَ بِحُجَّةِ إذْ كَانَ حِينَئِذٍ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْعُلَمَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا لَا سِيَّمَا مِنْ حِينِ ظَهَرَ فِيهَا الرَّفْضُ فَإِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِمَذْهَبِهِمْ الْقَدِيمِ مُنْتَسِبِينَ إلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ إلَى أَوَائِلِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ قَدِمَ إلَيْهِمْ مِنْ رَافِضَةِ الْمَشْرِقِ مِنْ أَهْلِ قاشان وَغَيْرِهِمْ مَنْ أَفْسَدَ مَذْهَبَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ لَا سِيَّمَا الْمُنْتَسِبُونَ مِنْهُمْ إلَى الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ بِكُتُبِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبَذَلَ لَهُمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً فَكَثُرَتْ الْبِدْعَةُ فِيهَا مِنْ حِينَئِذٍ. فَأَمَّا الْأَعْصَارُ الثَّلَاثَةُ الْمُفَضَّلَةُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بِدْعَةٌ ظَاهِرَةٌ أَلْبَتَّةَ وَلَا خَرَجَ مِنْهَا بِدْعَةٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ أَلْبَتَّةَ كَمَا خَرَجَ مِنْ سَائِرِ الْأَمْصَارِ فَإِنَّ الْأَمْصَارَ الْكِبَارَ الَّتِي سَكَنَهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

ص: 300

تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَخَرَجَ مِنْهَا الْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ خَمْسَةٌ: الْحَرَمَانِ وَالْعِرَاقَانِ وَالشَّامُ؛ مِنْهَا خَرَجَ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ وَالْفِقْهُ وَالْعِبَادَةُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْإِسْلَامِ. وَخَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْأَمْصَارِ بِدَعُ أُصُولِيَّةِ غَيْرِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ. فَالْكُوفَةُ خَرَجَ مِنْهَا التَّشَيُّعُ وَالْإِرْجَاءُ وَانْتَشَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا. وَالْبَصْرَةُ خَرَجَ مِنْهَا الْقَدَرُ وَالِاعْتِزَالُ وَالنُّسُكُ الْفَاسِدُ وَانْتَشَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا. وَالشَّامُ كَانَ بِهَا النُّصُبُ وَالْقَدَرُ.

وَأَمَّا التَّجَهُّمُ فَإِنَّمَا ظَهَرَ مِنْ نَاحِيَةِ خُرَاسَانَ وَهُوَ شَرُّ الْبِدَعِ. وَكَانَ ظُهُورُ الْبِدَعِ بِحَسَبِ الْبُعْدِ عَنْ الدَّارِ النَّبَوِيَّةِ فَلَمَّا حَدَثَتْ الْفُرْقَةُ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ ظَهَرَتْ بِدْعَةُ الحرورية وَتَقَدَّمَ بِعُقُوبَتِهَا الشِّيعَةُ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الْغَالِيَةِ حَيْثُ حَرَقَهُمْ عَلِيٌّ بِالنَّارِ وَالْمُفَضَّلَةُ حَيْثُ تَقَدَّمَ بِجَلْدِهِمْ ثَمَانِينَ والسبائية حَيْثُ تَوَعَّدَهُمْ وَطَلَبَ أَنْ يُعَاقَبَ ابْنُ سَبَأٍ بِالْقَتْلِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَهَرَبَ مِنْهُ. ثُمَّ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ حَدَثَتْ الْقَدَرِيَّةُ فِي آخِرِ عَصْرِ ابْنِ عُمَرَ

ص: 301

وَابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَجَابِرٍ؛ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَحَدَثَتْ الْمُرْجِئَةُ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْجَهْمِيَّة فَإِنَّمَا حَدَثُوا فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَنْذَرَ بِهِمْ وَكَانَ ظُهُورُ جَهْمٍ بِخُرَاسَانَ فِي خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَقَدْ قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ شَيْخَهُمْ الْجَعْدَ بْنَ دِرْهَمٍ قَبْلَ ذَلِكَ ضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ عُلُوًّا كَبِيرًا ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ بَلَغَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ وَأَمْثَالَهُ مِنْ التَّابِعِينَ فَشَكَرُوا ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمَدِينَةُ النَّبَوِيَّةُ فَكَانَتْ سَلِيمَةً مِنْ ظُهُورِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَإِنْ كَانَ بِهَا مَنْ هُوَ مُضْمِرٌ لِذَلِكَ فَكَانَ عِنْدَهُمْ مُهَانًا مَذْمُومًا؛ إذْ كَانَ بِهَا قَوْمٌ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَكِنْ كَانُوا مَذْمُومِينَ مَقْهُورِينَ بِخِلَافِ التَّشَيُّعِ وَالْإِرْجَاءِ بِالْكُوفَةِ وَالِاعْتِزَالِ وَبِدَعِ النُّسَّاكِ بِالْبَصْرَةِ وَالنُّصُبِ بِالشَّامِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ ظَاهِرًا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ

ص: 302

الدَّجَّالَ لَا يَدْخُلُهَا} وَفِي الْحِكَايَةِ الْمَعْرُوفَةِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ وَهُوَ رَأْسُ الْمُعْتَزِلَةِ مَرَّ بِمَنْ كَانَ يُنَاجِي سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ سُفْيَانُ فَقَالَ عَمْرُو لِذَلِكَ الرَّجُلِ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَوْ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ: لَوْ عَلِمْت بِذَلِكَ لَدَعَوْته إلَى رَأْيِي وَلَكِنْ ظَنَنْته مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَدَنِيِّينَ الَّذِينَ يَجِيئُونَك مِنْ فَوْقٍ وَلَمْ يَزَلْ الْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ بِهَا ظَاهِرًا إلَى زَمَنِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَهُمْ أَهْلُ الْقَرْنِ الرَّابِعِ؛ حَيْثُ أَخَذَ ذَلِكَ الْقَرْنُ عَنْ مَالِكٍ وَأَهْلِ طَبَقَتِهِ كَالثَّوْرِيِّ؛ وَالْأَوْزَاعِي؛ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ؛ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ؛ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ؛ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة؛ وَأَمْثَالِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ أَخَذُوا عَنْ طَوَائِفَ مِنْ التَّابِعِينَ وَأُولَئِكَ أَخَذُوا عَمَّنْ أَدْرَكُوا مِنْ الصَّحَابَةِ.

وَالْكَلَامُ فِي إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ.

وَالتَّحْقِيقُ فِي " مَسْأَلَةِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ " أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَمِنْهُ مَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَمِنْهُ مَا لَا يَقُولُ بِهِ إلَّا بَعْضُهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ. " الْأُولَى " مَا يَجْرِي مَجْرَى النَّقْلِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ص: 303

مِثْلُ نَقْلِهِمْ لِمِقْدَارِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ؛ وَكَتَرْكِ صَدَقَةِ الْخَضْرَاوَاتِ وَالْأَحْبَاسِ فَهَذَا مِمَّا هُوَ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. أَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَأَصْحَابُهُمَا فَهَذَا حُجَّةٌ عِنْدَهُمْ بِلَا نِزَاعٍ كَمَا هُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ. وَذَلِكَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله وَهُوَ أَجَلُّ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ قَاضِي الْقُضَاةِ - لَمَّا اجْتَمَعَ بِمَالِكِ وَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَأَجَابَهُ مَالِكٌ بِنَقْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُتَوَاتِرِ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إلَى قَوْلِهِ وَقَالَ: لَوْ رَأَى صَاحِبِي مِثْلَ مَا رَأَيْت لَرَجَعَ مِثْلَ مَا رَجَعْت. فَقَدْ نَقَلَ أَبُو يُوسُفَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا النَّقْلِ حُجَّةٌ عِنْدَ صَاحِبِهِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا هُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ غَيْرِهِ لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا النَّقْلُ كَمَا لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَمْ يَبْلُغْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَثِيرٌ مِنْ الْحَدِيثِ فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ عِلْمُهُ. وَكَانَ رُجُوعُ أَبِي يُوسُفَ إلَى هَذَا النَّقْلِ كَرُجُوعِهِ إلَى أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ اتَّبَعَهَا هُوَ وَصَاحِبُهُ مُحَمَّدٌ وَتَرَكَا قَوْلَ شَيْخِهِمَا؛ لِعِلْمِهِمَا بِأَنَّ شَيْخَهُمَا كَانَ يَقُولُ: إنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ أَيْضًا حُجَّةٌ إنْ صَحَّتْ لَكِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ. وَمَنْ ظَنَّ بِأَبِي حَنِيفَةَ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُونَ مُخَالَفَةَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِقِيَاسِ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ عَلَيْهِمْ وَتَكَلَّمَ إمَّا بِظَنِّ وَإِمَّا بِهَوَى فَهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ يَعْمَلُ بِحَدِيثِ التوضي بِالنَّبِيذِ فِي

ص: 304

السَّفَرِ مُخَالَفَةً لِلْقِيَاسِ وَبِحَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ؛ لِاعْتِقَادِهِ صِحَّتَهُمَا وَإِنْ كَانَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ لَمْ يُصَحِّحُوهُمَا. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي رِسَالَةِ " رَفْعِ الْمَلَامِ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ " وَبَيَّنَّا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ لَا يُخَالِفُ حَدِيثًا صَحِيحًا بِغَيْرِ عُذْرٍ بَلْ لَهُمْ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ عُذْرًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ؛ أَوْ بَلَغَهُ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَثِقْ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ دَلَالَتَهُ عَلَى الْحُكْمِ؛ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ قَدْ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ كَالنَّاسِخِ؛ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّاسِخِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَالْأَعْذَارُ يَكُونُ الْعَالِمُ فِي بَعْضِهَا مُصِيبًا فَيَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ وَيَكُونُ فِي بَعْضِهَا مُخْطِئًا بَعْدَ اجْتِهَادِهِ فَيُثَابُ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ؛: لِقَوْلِهِ تَعَالَى {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ وَقَالَ: قَدْ فَعَلْت} وَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي قَضِيَّةٍ وَأَنَّهُ فَهَّمَهَا أَحَدَهُمَا؛ وَلَمْ يَعِبْ الْآخَرَ؛ بَلْ أَثْنَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ آتَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا فَقَالَ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} .

ص: 305

وَهَذِهِ الْحُكُومَةُ تَتَضَمَّنُ مَسْأَلَتَيْنِ تَنَازَعَ فِيهِمَا الْعُلَمَاءُ: مَسْأَلَةُ نَفْشِ الدَّوَابِّ فِي الْحَرْثِ بِاللَّيْلِ وَهُوَ مَضْمُونٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَجْعَلْهُ مَضْمُونًا. وَالثَّانِي ضَمَانٌ بِالْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا. وَالْمَأْثُورُ عَنْ أَكْثَرِ السَّلَفِ فِي نَحْوِ ذَلِكَ يَقْتَضِي الضَّمَانَ بِالْمِثْلِ إذَا أَمْكَنَ كَمَا قَضَى بِهِ سُلَيْمَانُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَضْمَنُونَ ذَلِكَ إلَّا بِالْقِيمَةِ كَالْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِي يَجْرِي مَجْرَى النَّقْلِ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ مَالِكٌ لِأَبِي يُوسُفَ - لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ الصَّاعِ وَالْمُدِّ وَأَمَرَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِإِحْضَارِ صِيعَانِهِمْ وَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ إسْنَادَهَا عَنْ أَسْلَافِهِمْ - أَتَرَى هَؤُلَاءِ يَا أَبَا يُوسُفَ يَكْذِبُونَ؟ قَالَ: لَا وَاَللَّهِ مَا يَكْذِبُونَ فَأَنَا حَرَّرْت هَذِهِ الصِّيعَانَ فَوَجَدْتهَا خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثٍ بِأَرْطَالِكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ. فَقَالَ: رَجَعْت إلَى قَوْلِك يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَلَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْت لَرَجَعَ كَمَا رَجَعْت. وَسَأَلَهُ عَنْ صَدَقَةِ الْخَضْرَاوَاتِ فَقَالَ: هَذِهِ مباقيل أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا صَدَقَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَبِي بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ رضي الله عنهما يَعْنِي: وَهِيَ تَنْبُتُ فِيهَا الْخَضْرَاوَاتُ. وَسَأَلَهُ عَنْ الْإِحْبَاسِ فَقَالَ: هَذَا حَبْسُ فُلَانٍ وَهَذَا حَبْسُ فُلَانٍ يُذْكَرُ لِبَيَانِ الصَّحَابَةِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا:

ص: 306

قَدْ رَجَعْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَلَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْت لَرَجَعَ كَمَا رَجَعْت. وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَافَقَا بَقِيَّةَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَفِي أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ كَمَذْهَبِ هَؤُلَاءِ وَأَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُ لَازِمٌ كَمَذْهَبِ هَؤُلَاءِ. وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ: أَرْطَالُكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْقَرَضَتْ الدَّوْلَةُ الْأُمَوِيَّةُ وَجَاءَتْ دَوْلَةُ وَلَدِ الْعَبَّاسِ قَرِيبًا؛ فَقَامَ أَخُوهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمُلَقَّبُ بِالْمَنْصُورِ فَبَنَى بَغْدَادَ فَجَعَلَهَا دَارَ مُلْكِهِ وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ يَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ حِينَئِذٍ كَانُوا أَعْنَى بِدِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِمَالِكِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ قَالَ: نَظَرْت فِي هَذَا الْأَمْرِ فَوَجَدْت أَهْلَ الْعِرَاقِ أَهْلَ كَذِبٍ وَتَدْلِيسٍ؛ - أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ - وَوَجَدْت أَهْلَ الشَّامِ إنَّمَا هُمْ أَهْلُ غَزْوٍ وَجِهَادٍ وَوَجَدْت هَذَا الْأَمْرَ فِيكُمْ. وَيُقَالُ: إنَّهُ قَالَ لِمَالِكِ: أَنْتَ أَعْلَمُ أَهْلِ الْحِجَازِ؛ أَوْ كَمَا قَالَ. فَطَلَبَ أَبُو جَعْفَرٍ عُلَمَاءَ الْحِجَازِ أَنْ يَذْهَبُوا إلَى الْعِرَاقِ وَيَنْشُرُوا الْعِلْمَ فِيهِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ؛ وَيَحْيَى بْنُ

ص: 307

سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ؛ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ وَحَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الجمحي؛ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الماجشون وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ. وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَخْتَلِفُ فِي مَجَالِسِ هَؤُلَاءِ وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ الْحَدِيثَ وَأَكْثَرُ عَمَّنْ قَدِمَ مِنْ الْحِجَازِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ فِي أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَبُو يُوسُفَ أَعْلَمُهُمْ بِالْحَدِيثِ؛ وَزُفَرُ أطردهم لِلْقِيَاسِ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللؤلؤي أَكْثَرُهُمْ تَفْرِيعًا وَمُحَمَّدٌ أَعْلَمُهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْحِسَابِ؛ وَرُبَّمَا قِيلَ أَكْثَرُهُمْ تَفْرِيعًا فَلَمَّا صَارَتْ الْعِرَاقُ دَارَ الْمُلْكِ وَاحْتَاجَ النَّاسُ إلَى تَعْرِيفِ أَهْلِهَا بِالسُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ غُيِّرَ الْمِكْيَالُ الشَّرْعِيُّ بِرِطْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَكَانَ رِطْلُهُمْ بِالْحِنْطَةِ الثَّقِيلَةِ وَالْعَدَسِ إذْ ذَاكَ تِسْعِينَ مِثْقَالًا: مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةَ أَسْبَاعِ الدِّرْهَمِ. فَهَذَا هُوَ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

" الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ " الْعَمَلُ الْقَدِيمُ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ بْنِ عفان فَهَذَا حُجَّةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى: إذَا رَأَيْت قُدَمَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى شَيْءٍ فَلَا تَتَوَقَّفْ فِي قَلْبِك رَيْبًا أَنَّهُ الْحَقُّ. وَكَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ مَا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ فَهُوَ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا وَقَالَ أَحْمَد: كُلُّ بَيْعَةٍ كَانَتْ فِي الْمَدِينَةِ فَهِيَ خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ وَكَذَلِكَ بَيْعَةُ عَلِيٍّ كانت بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَبَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُعْقَدْ بِالْمَدِينَةِ بَيْعَةٌ.

ص: 308

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} . وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ سَفِينَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ يَصِيرُ مُلْكًا عَضُوضًا} . فَالْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ حُجَّةٌ وَمَا يُعْلَمُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ عَمَلٌ قَدِيمٌ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَ " الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ " إذَا تَعَارَضَ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلَانِ كَحَدِيثَيْنِ وَقِيَاسَيْنِ جُهِلَ أَيُّهُمَا أَرْجَحُ وَأَحَدُهُمَا يَعْمَلُ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؛ فَفِيهِ نِزَاعٌ. فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُرَجِّحُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُرَجِّحُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَلِأَصْحَابِ أَحْمَد وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ - أَنَّهُ لَا يُرَجِّحُ وَالثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ - أَنَّهُ يُرَجِّحُ بِهِ قِيلَ: هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد. وَمِنْ كَلَامِهِ قَالَ: إذَا رَأَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ حَدِيثًا وَعَمِلُوا بِهِ فَهُوَ الْغَايَةُ. وَكَانَ يُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ

ص: 309

الْمَدِينَةِ وَيُقَدِّمُهُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ تَقْرِيرًا كَثِيرًا وَكَانَ يَدُلُّ الْمُسْتَفْتِي عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيَدُلُّ الْمُسْتَفْتِي عَلَى إسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَنَحْوِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَيَدُلُّهُ عَلَى حَلَقَةِ الْمَدَنِيِّينَ حَلَقَةِ أَبِي مُصْعَبٍ الزُّهْرِيِّ وَنَحْوِهِ. وَأَبُو مُصْعَبٍ هُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ مَاتَ بَعْدَ أَحْمَد بِسَنَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ أَحْمَد يَكْرَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا يَرُدُّ عَلَى أَهْلِ الرَّأْيِ وَيَقُولُ: إنَّهُمْ اتَّبَعُوا الْآثَارَ. فَهَذِهِ مَذَاهِبُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ تُوَافِقُ مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي التَّرْجِيحِ لِأَقْوَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

وَأَمَّا " الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ " فَهِيَ الْعَمَلُ الْمُتَأَخِّرُ بِالْمَدِينَةِ فَهَذَا هَلْ هُوَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ أَمْ لَا؟ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ النَّاسِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ. هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفَاضِلُ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي كِتَابِهِ " أُصُولِ الْفِقْهِ " وَغَيْرُهُ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ إجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَرُبَّمَا جَعَلَهُ حُجَّةً بَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَيْسَ مَعَهُ لِلْأَئِمَّةِ نَصٌّ وَلَا دَلِيلٌ بَلْ هُمْ أَهْلُ تَقْلِيدٍ. قُلْت: وَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِ مَالِكٍ مَا يُوجِبُ جَعْلَ هَذَا حُجَّةً وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ إنَّمَا يَذْكُرُ الْأَصْلَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ يَحْكِي مَذْهَبَهُمْ وَتَارَةً

ص: 310

يَقُولُ: الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا يَصِيرُ إلَى الْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ وَتَارَةً لَا يَذْكُرُ. وَلَوْ كَانَ مَالِكٌ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَأَخِّرَ حُجَّةٌ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ اتِّبَاعُهَا وَإِنْ خَالَفَتْ النُّصُوصَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِذَلِكَ حَدَّ الْإِمْكَانِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُلْزِمَهُمْ اتِّبَاعَ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَعَارُضَ فِيهَا وَبِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ الرَّشِيدُ أَوْ غَيْرُهُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مُوَطَّئِهِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَرَّقُوا فِي الْأَمْصَارِ وَإِنَّمَا جَمَعْت عِلْمَ أَهْلِ بَلَدِي أَوْ كَمَا قَالَ. وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَفَاوَتَ فِيهِ مَذَاهِبُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: أَصَحُّ أَقْوَالِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ رِوَايَةً وَرَأْيًا وَأَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ حُجَّةً قَاطِعَةً وَتَارَةً حُجَّةً قَوِيَّةً وَتَارَةً مُرَجِّحًا لِلدَّلِيلِ إذْ لَيْسَتْ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ لِشَيْءِ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ هُمْ خِيَارُ الصَّحَابَةِ إذْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا أَحَدٌ قَبْلَ الْفِتْنَةِ إلَّا وَأَقَامَ بِهَا مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا فُتِحَ الشَّامُ وَالْعِرَاقُ وَغَيْرُهُمَا أَرْسَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إلَى الْأَمْصَارِ مَنْ يُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَذَهَبَ إلَى الْعِرَاقِ عَبْدُ اللَّهِ

ص: 311

بْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَذَهَبَ إلَى الشَّامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وعبادة بْنُ الصَّامِتِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ وَأَمْثَالُهُمْ. وَبَقِيَ عِنْدَهُ مِثْلُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَمِثْلُ أبي بْنِ كَعْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مسلمة وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - وَهُوَ أَعْلَمُ مَنْ كَانَ بِالْعِرَاقِ مِنْ الصَّحَابَةِ إذْ ذَاكَ - يُفْتِي بِالْفُتْيَا ثُمَّ يَأْتِي الْمَدِينَةَ فَيَسْأَلُ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَيَرُدُّونَهُ عَنْ قَوْلِهِ فَيَرْجِعُ إلَيْهِمْ كَمَا جَرَى فِي مَسْأَلَةِ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ لَمَّا ظَنَّ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ الشَّرْطَ فِيهَا وَفِي الرَّبِيبَةِ وَأَنَّهُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ حَلَّتْ أُمُّهَا كَمَا تَحُلُّ ابْنَتُهَا فَلَمَّا جَاءَ إلَى الْمَدِينَةِ وَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ أَخْبَرَهُ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ أَنَّ الشَّرْطَ فِي الرَّبِيبَةِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ. فَرَجَعَ إلَى قَوْلِهِمْ وَأَمَرَ الرَّجُلَ بِفِرَاقِ امْرَأَتِهِ بَعْدَ مَا حَمَلَتْ. وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِيمَا يَعْمَلُونَ: إمَّا أَنْ يَكُونَ سُنَّةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَإِمَّا أَنْ يَرْجِعُوا إلَى قَضَايَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَيُقَالُ: إنَّ مَالِكًا أَخَذَ جُلَّ الْمُوَطَّأِ عَنْ رَبِيعَةَ وَرَبِيعَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ؛ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ؛ وَعُمَرُ مُحَدِّثٌ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ

ص: 312

قَالَ: {كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ} وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ} . وَكَانَ عُمَرُ يُشَاوِرُ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ: كَعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ؛ وَسَعْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ وَهُمْ أَهْلُ الشُّورَى؛ وَلِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ اُنْظُرُوا مَا قَضَى بِهِ عُمَرُ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يُشَاوَرُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا كَانَ يَقْضِي أَوْ يُفْتِي بِهِ عُمَرُ وَيُشَاوِرُ فِيهِ هَؤُلَاءِ أَرْجَحُ مِمَّا يَقْضِي أَوْ يُفْتِي بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ أَوْ نَحْوُهُ؛ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. وَكَانَ عُمَرُ فِي مَسَائِلِ الدِّينِ وَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ إنَّمَا يَتْبَعُ مَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يُشَاوِرُ عَلِيًّا وَغَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى كَمَا شَاوَرَهُ فِي الْمُطَلَّقَةِ الْمُعْتَدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ فِي الْمَرَضِ إذَا مَاتَ زَوْجُهَا: هَلْ تَرِثُ؟ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَحَصَلَتْ الْفِتْنَةُ وَالْفُرْقَةُ وَانْتَقَلَ عَلِيٌّ إلَى الْعِرَاقِ هُوَ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ مَنْ هُوَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ وَلَكِنْ كَانَ بِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي أَيُّوبَ؛ وَمُحَمَّدِ بْنِ مسلمة؛ وَأَمْثَالِهِمْ مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِمَّنْ مَعَ عَلِيٍّ مِنْ الصَّحَابَةِ. فَ‌

‌أَعْلَمُ مَنْ كَانَ بِالْكُوفَةِ

مِنْ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلِيٌّ كَانَ

ص: 313

بِالْمَدِينَةِ إذْ كَانَ بِهَا عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ نَائِبُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَلِيًّا مَعَ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ عِلْمًا وَفَضْلًا مِنْ جَمِيعِ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَلِهَذَا كَانَ الشَّافِعِيُّ يُنَاظِرُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي الْفِقْهِ مُحْتَجًّا عَلَى الْمُنَاظَرِ بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ فَصَنَّفَ الشَّافِعِيُّ " كِتَابَ اخْتِلَافِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ " يُبَيِّنُ فِيهِ مَا تَرَكَهُ الْمُنَاظِرُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قَوْلِهِمَا. وَجَاءَ بَعْدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي فَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا صَنَّفَ الشَّافِعِيُّ قَالَ: إنَّكُمْ وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ تَتْرُكُونَ قَوْلَيْهِمَا لِمَا هُوَ رَاجِحٌ مِنْ قَوْلَيْهِمَا وَكَذَلِكَ غَيْرُكُمْ يَتْرُكُ ذَلِكَ لِمَا هُوَ رَاجِحٌ مِنْهُ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ: أَنَّ سَائِرَ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرِ الْكُوفَةِ كَانُوا مُنْقَادِينَ لِعِلْمِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ أَكْفَاءَهُمْ فِي الْعِلْمِ كَأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ مِثْلَ الأوزاعي وَمَنْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ الشَّامِيِّينَ وَمِثْلَ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَمَنْ قَبْلُ وَمَنْ بَعْدُ مِنْ الْمِصْرِيِّينَ وَأَنَّ تَعْظِيمَهُمْ لِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَاتِّبَاعَهُمْ لِمَذَاهِبِهِمْ الْقَدِيمَةِ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ. وَكَذَلِكَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ كَأَيُّوبِ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ؛ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ؛ وَأَمْثَالِهِمْ. وَلِهَذَا ظَهَرَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْصَارِ فَإِنَّ أَهْلَ مِصْرَ صَارُوا نُصْرَةً لِقَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ أَجِلَّاءُ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْمِصْرِيِّينَ كَابْنِ وَهْبٍ؛ وَابْنِ الْقَاسِمِ؛ وَأَشْهَبَ: وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ. وَالشَّامِيُّونَ

ص: 314

مِثْلُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ؛ وَمَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ؛ وَأَمْثَالِهِمْ؛ لَهُمْ رِوَايَاتٌ مَعْرُوفَةٌ عَنْ مَالِكٍ. وَأَمَّا أَهْلُ الْعِرَاقِ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ؛ وَمِثْلِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إسْحَاقَ الْقَاضِي وَأَمْثَالِهِمْ؛ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ؛ وَكَانُوا قُضَاةَ الْقُضَاةِ وَإِسْمَاعِيلُ وَنَحْوُهُ كَانُوا مِنْ أَجَلِّ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ بَعْدَ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ يَدَّعُونَ مُكَافَأَةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَمَّا قَبْلَ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ فَقَدْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمُنْقَادِينَ لَهُمْ لَا يُعْرَفُ قَبْلَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَوْ غَيْرِهَا يَدَّعِي أَنَّ أَهْلَ مَدِينَتِهِ أَعْلَمُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَتَفَرَّقَتْ الْأُمَّةُ وَصَارُوا شِيَعًا ظَهَرَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَنْ يُسَاوِي بِعُلَمَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَوَجْهُ الشُّبْهَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ ضَعُفَ أَمْرُ الْمَدِينَةِ لِخُرُوجِ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ مِنْهَا وَقَوِيَ أَمْرُ أَهْلِ الْعِرَاقِ لِحُصُولِ عَلِيٍّ فِيهَا لَكِنْ مَا فِيهِ الْكَلَامُ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ قَدْ اسْتَقَرَّ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَعَ سَائِرِ الْأَمْصَارِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ وَحَدِيثِهِمْ بَعْدَ الْفُرْقَةِ قَالَ عُبَيْدَةُ السلماني قَاضِي عَلِيٍّ رضي الله عنه رَأْيُك مَعَ عُمَرَ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ رَأْيِك وَحْدَك فِي الْفُرْقَةِ.

ص: 315

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ بِالْكُوفَةِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالتَّفَرُّقِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا؛ الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا؛ الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا؛ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ} وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ: إمَّا رِوَايَةٌ وَإِمَّا رَأْيٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَصَحُّ أَهْلِ الْمُدُنِ رِوَايَةً وَرَأْيًا. وَأَمَّا حَدِيثُهُمْ فَأَصَحُّ الْأَحَادِيثِ وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِأَحَادِيثَ عَلَى أَنَّ أَصَحَّ الْأَحَادِيثِ أَحَادِيثُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ أَحَادِيثُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَمَّا أَحَادِيثُ أَهْلِ الشَّامِ فَهِيَ دُونَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ الْإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ وَضَبْطِ الْأَلْفَاظِ مَا لِهَؤُلَاءِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ - يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ؛ وَمَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ؛ وَالشَّامِ - مَنْ يُعْرَفُ بِالْكَذِبِ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ يَضْبُطُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَضْبُطُ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ فَلَمْ يَكُنْ الْكَذِبُ فِي أَهْلِ بَلَدٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِيهِمْ فَفِي زَمَنِ التَّابِعِينَ كَانَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ مَعْرُوفُونَ بِالْكَذِبِ لَا سِيَّمَا الشِّيعَةَ فَإِنَّهُمْ أَكْثَرُ الطَّوَائِفِ كَذِبًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ وَلِأَجْلِ هَذَا يُذْكَرُ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْتَجُّونَ بِعَامَّةِ أَحَادِيثِ أَهْلِ الْعِرَاقِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ فِيهِمْ كَذَّابِينَ وَلَمْ يَكُونُوا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ فَأَمَّا إذَا عَلِمُوا صِدْقَ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهِ كَمَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ أَيُّوبَ السختياني وَهُوَ عِرَاقِيٌّ فَقِيلَ

ص: 316

لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: مَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ أَحَدٍ إلَّا وَأَيُّوبُ أَفْضَلُ مِنْهُ أَوْ نَحْوُ هَذَا. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إذَا رَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثًا لَا يُحْتَجُّ بِهِ فَقَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ وَإِلَّا فَلَا ثُمَّ إنَّ الشَّافِعِيَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنَّا فَإِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَأَخْبِرْنِي بِهِ حَتَّى أَذْهَبَ إلَيْهِ شَامِيًّا كَانَ أَوْ بَصْرِيًّا أَوْ كُوفِيًّا وَلَمْ يَقُلْ مَكِّيًّا أَوْ مَدَنِيًّا لِأَنَّهُ كَانَ يَحْتَجُّ بِهَذَا قَبْلُ. وَأَمَّا عُلَمَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ كشعبة وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَأَصْحَابِ الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ فَكَانُوا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الثِّقَاتِ الْحُفَّاظِ وَغَيْرِهِمْ فَيَعْلَمُونَ مَنْ بِالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ مِنْ الثِّقَاتِ الَّذِينَ لَا رَيْبَ فِيهِمْ وَأَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَلَا يَسْتَرِيبُ عَالِمٌ فِي مِثْلِ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كعلقمة؛ وَالْأَسْوَدِ؛ وَعُبَيْدَةَ السلماني؛ وَالْحَارِثِ التيمي وشريح الْقَاضِي ثُمَّ مِثْلِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي؛ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَوْثَقِ النَّاسِ وَأَحْفَظِهِمْ فَلِهَذَا صَارَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقِينَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا صَحَّحَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ مِنْ أَيِّ مِصْرٍ كَانَ وَصَنَّفَ أَبُو دَاوُد السجستاني مفاريد أَهْلِ الْأَمْصَارِ يَذْكُرُ فِيهِ مَا انْفَرَدَ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ.

ص: 317

وَأَمَّا الْفِقْهُ وَالرَّأْيُ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فِي أُصُولِ الدِّينِ وَلَمَّا حَدَثَ الْكَلَامُ فِي الرَّأْيِ فِي أَوَائِلِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ وَفَرَّعَ لَهُمْ رَبِيعَةُ بْنُ هُرْمُزَ فُرُوعًا كَمَا فَرَّعَ عُثْمَانُ البتي وَأَمْثَالُهُ بِالْبَصْرَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَمْثَالُهُ بِالْكُوفَةِ وَصَارَ فِي النَّاسِ مَنْ يَقْبَلُ ذَلِكَ وَفِيهِمْ مَنْ يَرُدُّ وَصَارَ الرَّادُّونَ لِذَلِكَ مِثْلَ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَأَبِي الزِّنَادِ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَة وَأَمْثَالِهِمْ؛ فَإِنْ رَدُّوا مَا رَدُّوا مِنْ الرَّأْيِ الْمُحْدَثِ بِالْمَدِينَةِ فَهُمْ لِلرَّأْيِ الْمُحْدَثِ بِالْعِرَاقِ أَشَدُّ رَدًّا فَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِيمَا لَا يُحْمَدُ وَهُمْ فَوْقَهُمْ فِيمَا يَحْمَدُونَهُ وَبِهَذَا يَظْهَرُ الرُّجْحَانُ. وَأَمَّا مَا قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إسْرَائِيلَ مُعْتَدِلًا حَتَّى فَشَا فِيهِمْ الْمُوَلَّدُونَ: أَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ فَقَالُوا فِيهِمْ بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَة: فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَا مَا حَدَثَ مِنْ الرَّأْيِ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْمُوَلَّدِينَ أَبْنَاءِ سَبَايَا الْأُمَمِ وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ وَبِالْبَصْرَةِ وَبِالْكُوفَةِ وَاَلَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ أَحْمَد عِنْدَ هَذَا مِمَّنْ بِالْعِرَاقِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَلَمَّا قَالَ مَالِكٌ رضي الله عنه عَنْ إحْدَى الدَّوْلَتَيْنِ إنَّهُمْ كَانُوا أَتْبَعَ لِلسُّنَنِ مِنْ الدَّوْلَةِ الْأُخْرَى قَالَ ذَلِكَ لِأَجْلِ مَا ظَهَرَ بِمُقَارَبَتِهَا مِنْ الْحَدَثَانِ لِأَنَّ أُولَئِكَ أَوْلَى بِالْخِلَافَةِ نَسَبًا وَقَرْنًا.

ص: 318

وَقَدْ كَانَ الْمَنْصُورُ وَالْمَهْدِيُّ وَالرَّشِيدُ - وَهُمْ سَادَاتُ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ - يُرَجِّحُونَ عُلَمَاءَ الْحِجَازِ وَقَوْلَهُمْ عَلَى عُلَمَاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ كَمَا كَانَ خُلَفَاءُ بَنِي أُمَيَّةَ يُرَجِّحُونَ أَهْلَ الْحِجَازِ عَلَى عُلَمَاءِ أَهْلِ الشَّامِ وَلَمَّا كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَسْلُكْ هَذَا السَّبِيلَ بَلْ عَدَلَ إلَى الْآرَاءِ الْمَشْرِقِيَّةِ كَثُرَتْ الْأَحْدَاثُ فِيهِمْ وَضَعُفَتْ الْخِلَافَةُ. ثُمَّ إنَّ بَغْدَادَ إنَّمَا صَارَ فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَا صَارَ وَتَرَجَّحَتْ عَلَى غَيْرِهَا بَعْدَ مَوْتِ مَالِكٍ وَأَمْثَالِهِ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحِجَازِ؛ وَسَكَنَهَا مَنْ أَفْشَى السُّنَّةَ بِهَا وَأَظْهَرَ حَقَائِقَ الْإِسْلَامِ مِثْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ ظَهَرَتْ بِهَا السُّنَّةُ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَكَثُرَ ذَلِكَ فِيهَا وَانْتَشَرَ مِنْهَا إلَى الْأَمْصَارِ وَانْتَشَرَ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَصَارَ فِي الْمَشْرِقِ مِثْلُ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَصَارَ إلَى الْمَغْرِبِ مِنْ عِلْمِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا نُقِلَ إلَيْهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ فَصَارَ فِي بَغْدَادَ وَخُرَاسَانَ وَالْمَغْرِبِ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَا يَكُونُ مِثْلُهُ إذْ ذَاكَ بِالْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ. أَمَّا أَحْوَالُ الْحِجَازِ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ عَصْرِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ مَنْ يُفَضَّلُ عَلَى عُلَمَاءِ الْمَشْرِقِ وَالْعِرَاقِ وَالْمَغْرِبِ.

ص: 319

وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ وَلَوْ اسْتَقْصَيْنَا فَضْلَ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَصِحَّةَ أُصُولِهِمْ لَطَالَ الْكَلَامُ. إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ؛ فَلَا رَيْبَ عِنْدَ أَحَدٍ أَنَّ مَالِكًا رضي الله عنه أَقْوَمُ النَّاسِ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ رِوَايَةً وَرَأْيًا؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِهِ وَلَا بَعْدَهُ أَقْوَمُ بِذَلِكَ مِنْهُ كَانَ لَهُ مِنْ الْمَكَانَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ - الْخَاصِّ مِنْهُمْ وَالْعَامِّ - مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ بِالْعِلْمِ أَدْنَى إلْمَامٍ وَقَدْ جَمَعَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ أَخْبَارَ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ فَبَلَغُوا أَلْفًا وسبعمائة أَوْ نَحْوَهَا وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّصَلَ إلَى الْخَطِيبِ حَدِيثُهُمْ بَعْدَ قَرِيبٍ مِنْ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ فَكَيْفَ بِمَنْ انْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ أَوْ لَمْ يَتَّصِلْ إلَيْهِ خَبَرُهُمْ فَإِنَّ الْخَطِيبَ تُوُفِّيَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَعَصْرُهُ وَعَصْرُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْبَيْهَقِي وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَاحِدٌ وَمَالِكٌ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ وَتُوُفِّيَ أَبُو حَنِيفَةَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ وَتُوُفِّيَ الشَّافِعِيُّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ وَتُوُفِّيَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ كِتَابٌ أَكْثَرُ صَوَابًا بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ مِنْ مُوَطَّأِ مَالِكٍ. وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه. وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْقُرْآنِ كِتَابٌ أَصَحُّ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مَعَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ عَلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ

ص: 320

أَصَحُّ مِنْ مُسْلِمٍ وَمَنْ رَجَّحَ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ رَجَّحَهُ بِجَمْعِهِ أَلْفَاظَ أَحَادِيثَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ جَمْعَ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا مُسْلِمٌ أَوْ الرِّجَالَ الَّذِينَ انْفَرَدَ بِهِمْ أَصَحُّ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الْبُخَارِيُّ وَمِنْ الرِّجَالِ الَّذِينَ انْفَرَدَ بِهِمْ؛ فَهَذَا غَلَطٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ عَالِمٌ كَمَا لَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَعْلَمُ مِنْ مُسْلِمٍ بِالْحَدِيثِ وَالْعِلَلِ وَالتَّارِيخِ وَأَنَّهُ أَفْقَهُ مِنْهُ؛ إذْ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد أَفْقَهُ أَهْلِ الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَتَّفِقُ لِبَعْضِ مَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى بَعْضِ مَا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فَهَذَا قَلِيلٌ وَالْغَالِبُ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْقُرْآنِ كِتَابٌ أَصَحُّ مِنْ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَانِ الْكِتَابَانِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَرَّدَ فِيهِمَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الْمُسْنَدَ وَلَمْ يَكُنْ الْقَصْدُ بِتَصْنِيفِهِمَا ذِكْرَ آثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا سَائِرِ الْحَدِيثِ مِنْ الْحَسَنِ وَالْمُرْسَلِ وَشِبْهِ ذَلِكَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا جُرِّدَ فِيهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمُسْنَدُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ أَصَحُّ الْكُتُبِ؛ لِأَنَّهُ أَصَحُّ مَنْقُولًا عَنْ الْمَعْصُومِ مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ. وَأَمَّا الْمُوَطَّأُ وَنَحْوُهُ فَإِنَّهُ صُنِّفَ عَلَى طَرِيقَةِ الْعُلَمَاءِ الْمُصَنِّفِينَ إذْ ذَاكَ فَإِنَّ النَّاسَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَكْتُبُونَ الْقُرْآنَ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَاهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا عَنْهُ غَيْرَ

ص: 321

الْقُرْآنِ وَقَالَ: {مَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ} ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ حَيْثُ {أَذِنَ فِي الْكِتَابَةِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَقَالَ: اُكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ} وَكَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ كِتَابًا قَالُوا: وَكَانَ النَّهْيُ أَوَّلًا خَوْفًا مِنْ اشْتِبَاهِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِهِ ثُمَّ أَذِنَ لَمَّا أُمِنَ ذَلِكَ فَكَانَ النَّاسُ يَكْتُبُونَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَكْتُبُونَ وَكَتَبُوا أَيْضًا غَيْرَهُ. وَلَمْ يَكُونُوا يُصَنِّفُونَ ذَلِكَ فِي كُتُبٍ مُصَنَّفَةٍ إلَى زَمَنِ تَابِعِ التَّابِعِينَ فَصُنِّفَ الْعِلْمُ فَأَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ ابْنُ جريج شَيْئًا فِي التَّفْسِيرِ وَشَيْئًا فِي الْأَمْوَاتِ. وَصَنَّفَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَمَعْمَرٌ وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ يُصَنِّفُونَ مَا فِي الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَهَذِهِ هِيَ كَانَتْ كُتُبَ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ بَعْدَ الْقُرْآنِ فَصَنَّفَ مَالِكٌ الْمُوَطَّأَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَصَنَّفَ بَعْدُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ؛ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ؛ وَوَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ فَهَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي كَانُوا يَعُدُّونَهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ هِيَ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا الشَّافِعِيُّ رحمه الله فَقَالَ: لَيْسَ بَعْدَ الْقُرْآنِ كِتَابٌ أَكْثَرُ صَوَابًا مِنْ مُوَطَّأِ مَالِكٍ فَإِنَّ حَدِيثَهُ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ نُظَرَائِهِ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد لَمَّا سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَرَأْيِهِ

ص: 322

وَحَدِيثِ غَيْرِهِ وَرَأْيِهِمْ؟ رَجَّحَ حَدِيثَ مَالِكٍ وَرَأْيَهُ عَلَى حَدِيثِ أُولَئِكَ وَرَأْيِهِمْ. وَهَذَا يُصَدِّقُ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَلَا يَجِدُونَ عَالِمًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ} فَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ كَابْنِ جريج وَابْنِ عُيَيْنَة وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ مَالِكٌ. وَاَلَّذِينَ نَازَعُوا فِي هَذَا لَهُمْ مَأْخَذَانِ: أَحَدُهُمَا: الطَّعْنُ فِي الْحَدِيثِ فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ مَالِكٍ كَالْعُمَرِيِّ الزَّاهِدِ وَنَحْوِهِ. فَيُقَالُ: مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَأَنَّهُ مَالِكٌ أَمْرٌ متقرر لِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا وَبِالتَّوَاتُرِ لِمَنْ كَانَ غَائِبًا؛ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ مَالِكٍ أَحَدٌ ضَرَبَ إلَيْهِ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ أَكْثَرُ مِنْ مَالِكٍ. وَهَذَا يُقَرَّرُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِطَلَبِ تَقْدِيمِهِ عَلَى مِثْلِ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَالِكًا تَأَخَّرَ مَوْتُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فَإِنَّهُ

ص: 323

تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَاتُوا قَبْلَ ذَلِكَ. فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَّةِ أَعْلَمُ مِنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ وَهَذَا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا رُحِلَ إلَى أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ مَا رُحِلَ إلَى مَالِكٍ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ رُحِلَ إلَيْهِ مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَرَحَلَ إلَيْهِ النَّاسُ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ وَالْمُلُوكِ وَالْعَامَّةِ وَانْتَشَرَ مُوَطَّؤُهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى لَا يُعْرَفَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ كِتَابٌ بَعْدَ الْقُرْآنِ كَانَ أَكْثَرَ انْتِشَارًا مِنْ الْمُوَطَّأِ وَأَخَذَ الْمُوَطَّأَ عَنْهُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِنْ أَصْغَرِ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَمْثَالُهُمَا وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إذَا حَدَّثَ بِالْعِرَاقِ عَنْ مَالِكٍ وَالْحِجَازِيِّينَ تَمْتَلِئُ دَارُهُ وَإِذَا حَدَّثَ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقِلُّ النَّاسُ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ عِلْمَ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ.

وَ‌

‌أَجَلُّ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ الْعِلْمَ

اثْنَانِ مَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَة. وَمَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ مَالِكًا أَجَلُّ مِنْ ابْنِ عُيَيْنَة حَتَّى إنَّهُ كَانَ يَقُولُ:

إنِّي وَمَالِكًا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَابْنُ اللَّبُونِ إذَا مَا لَزَّ فِي قَرْنٍ

لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبَزْلِ القناعيس

وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الَّذِي ضُرِبَتْ إلَيْهِ أَكْبَادُ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ هُوَ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا زَاهِدًا آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ

ص: 324

نَاهِيًا عَنْ الْمُنْكَرِ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ النَّاسَ احْتَاجُوا إلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ وَلَا رَحَلُوا إلَيْهِ فِيهِ. وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَمْرًا يَسْتَشِيرُ مَالِكًا وَيَسْتَفْتِيهِ كَمَا نُقِلَ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُ لَمَّا كَتَبَ إلَيْهِ مِنْ الْعِرَاقِ أَنْ يَتَوَلَّى الْخِلَافَةَ فَقَالَ: حَتَّى أُشَاوِرَ مَالِكًا فَلَمَّا اسْتَشَارَهُ أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ هَذَا لَا يَتْرُكُهُ وَلَدُ الْعَبَّاسِ حَتَّى تُرَاقَ فِيهِ دِمَاءٌ كَثِيرَةٌ وَذَكَرَ لَهُ مَا ذَكَرَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - لَمَّا قِيلَ لَهُ: وَلِّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ - أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَا يَدَعُونَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تُرَاقَ فِيهِ دِمَاءٌ كَثِيرَةٌ. وَهَذِهِ عُلُومُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفُتْيَا وَغَيْرِهَا مِنْ الْعُلُومِ؛ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا عَنْ الْعُمَرِيِّ الزَّاهِدِ مِنْهَا مَا يُذْكَرُ فَكَيْفَ يُقْرَنُ هَذَا بِمَالِكِ فِي الْعِلْمِ وَرِحْلَةِ النَّاسِ إلَيْهِ؟ . ثُمَّ هَذِهِ كُتُبُ الصَّحِيحِ الَّتِي أَجَلُّ مَا فِيهَا كِتَابُ الْبُخَارِيِّ أَوَّلُ مَا يَسْتَفْتِحُ الْبَابَ بِحَدِيثِ مَالِكٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَابِ شَيْءٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ لَا يُقَدِّمُ عَلَى حَدِيثِهِ غَيْرَهُ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ ضَرَبُوا أَكْبَادَ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَلَمْ يَجِدُوا عَالِمًا أَعْلَمَ مِنْ مَالِكٍ فِي وَقْتِهِ. وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مَعَ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ: إمَّا مُوَافِقٌ؛ وَإِمَّا مُنَازِعٌ فَالْمُوَافِقُ لَهُمْ عَضُدٌ وَنَصِيرٌ وَالْمُنَازِعُ لَهُمْ مُعَظِّمٌ لَهُمْ مُبَجِّلٌ لَهُمْ

ص: 325

عَارِفٌ بِمِقْدَارِهِمْ. وَمَا تَجِدُ مَنْ يَسْتَخِفُّ بِأَقْوَالِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ إلَّا مَنْ لَيْسَ مَعْدُودًا مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ مَالِكًا هُوَ الْقَائِمُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ أَظْهَرُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مِنْ رُجْحَانِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَمْصَارِ؛ فَإِنَّ مُوَطَّأَهُ مَشْحُونٌ: إمَّا بِحَدِيثِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ وَإِمَّا بِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: إمَّا قَدِيمًا؛ وَإِمَّا حَدِيثًا. وَإِمَّا مَسْأَلَةٌ تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَغَيْرُهُمْ فَيَخْتَارُ فِيهَا قَوْلًا وَيَقُولُ: هَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْت. فَأَمَّا بِآثَارِ مَعْرُوفَةٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَنْ هُوَ أَتْبَعُ لِمَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ مَالِكٍ فَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ. وَلَسْنَا نُنْكِرُ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى مَالِكٍ مُخَالَفَتَهُ أَوَّلًا لِأَحَادِيثِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدراوردي أَنَّهُ قَالَ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ تَقْدِيرِ الْمَهْرِ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ: تعرقت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَيْ: صِرْت فِيهَا إلَى قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ يُقَدِّرُونَ أَقَلَّ الْمَهْرِ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ لَكِنَّ النِّصَابَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. وَأَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فَالنِّصَابُ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ؛ أَوْ رُبُعُ دِينَارٍ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ. فَيُقَالُ: أَوَّلًا: إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ وَإِنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوَافِقَهُمْ

ص: 326

وَهَذَا مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ يَعِيبُونَ الرَّجُلَ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ لَمَّا اسْتَفْتَاهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَكَمَا قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ لِرَبِيعَةَ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ عَقْلِ أَصَابِعِ الْمَرْأَةِ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَمِثْلُ هَذَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ قَلِيلٌ جِدًّا وَمَا مِنْ عَالِمٍ إلَّا وَلَهُ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ ابْنُ خويز منداد فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ كُتُبِ الرَّأْيِ وَالْإِجَارَةِ عَلَيْهَا: لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ رَأْيِ صَاحِبِنَا مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ؛ لَكِنَّهُ أَقَلُّ خَطَأً مِنْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَأَكْثَرُهُ نَجِدُ مَالِكًا قَدْ قَالَ بِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَإِنَّمَا تَرَكَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَمَسْأَلَةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ. وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ رَوَوْا عَنْ مَالِكٍ الرَّفْعَ مُوَافِقًا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ؛ لَكِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ وَنَحْوَهُ مِنْ الْبَصْرِيِّينَ هَمّ الَّذِينَ قَالُوا بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُدَوَّنَةَ ابْنِ الْقَاسِمِ أَصْلُهَا مَسَائِلُ أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ الَّتِي فَرَّعَهَا أَهْلُ الْعِرَاقِ ثُمَّ سَأَلَ عَنْهَا أَسَدٌ ابْنَ الْقَاسِمِ. فَأَجَابَهُ بِالنَّقْلِ عَنْ مَالِكٍ وَتَارَةً بِالْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِهِ ثُمَّ أَصْلُهَا فِي رِوَايَةِ سحنون فَلِهَذَا يَقَعُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْقَاسِمِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَيْلِ إلَى أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. ثُمَّ اتَّفَقَ أَنَّهُ لَمَّا انْتَشَرَ مَذْهَبُ مَالِكٍ بِالْأَنْدَلُسِ وَكَانَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى

ص: 327

عَامِلَ الْأَنْدَلُسِ وَالْوُلَاةُ يَسْتَشِيرُونَهُ فَكَانُوا يَأْمُرُونَ الْقُضَاةَ أَنْ لَا يَقْضُوا إلَّا بِرِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ ثُمَّ رِوَايَةِ غَيْرِهِ فَانْتَشَرَتْ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لِأَجْلِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَقَدْ تَكُونُ مَرْجُوحَةً فِي الْمَذْهَبِ وَعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى صَارُوا يَتْرُكُونَ رِوَايَةَ الْمُوَطَّأِ الَّذِي هُوَ مُتَوَاتِرٌ عَنْ مَالِكٍ وَمَا زَالَ يُحَدِّثُ بِهِ إلَى أَنْ مَاتَ لِرِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ فَمِثْلُ هَذَا إنْ كَانَ فِيهِ عَيْبٌ فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ لَا عَلَى مَالِكٍ وَيُمْكِنُ الْمُتَّبِعُ لِمَذْهَبِهِ أَنْ يَتْبَعَ السُّنَّةَ فِي عَامَّةِ الْأُمُورِ؛ إذْ قَلَّ مِنْ سُنَّةٍ إلَّا وَلَهُ قَوْلٌ يُوَافِقُهَا بِخِلَافِ كَثِيرٍ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْكُوفَةِ؛ فَإِنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يُخَالِفُونَ السُّنَّةَ وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدُوا ذَلِكَ.

ثُمَّ مَنْ تَدَبَّرَ أُصُولَ الْإِسْلَامِ وَقَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ وَجَدَ‌

‌ أُصُولَ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَصَحَّ الْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ

وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا حَتَّى إنَّ الشَّافِعِيَّ لَمَّا نَاظَرَ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ حِينَ رَجَّحَ مُحَمَّدٌ لِصَاحِبِهِ عَلَى صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ: بِالْإِنْصَافِ أَوْ بِالْمُكَابَرَةِ؟ قَالَ لَهُ: بِالْإِنْصَافِ فَقَالَ: نَاشَدْتُك اللَّهَ صَاحِبُنَا أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَمْ صَاحِبُكُمْ؟ فَقَالَ: بَلْ صَاحِبُكُمْ فَقَالَ صَاحِبُنَا أَعْلَمُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ صَاحِبُكُمْ؟ فَقَالَ: بَلْ صَاحِبُكُمْ فَقَالَ: صَاحِبُنَا أَعْلَمُ بِأَقْوَالِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ

ص: 328

صَاحِبُكُمْ؟ فَقَالَ: بَلْ صَاحِبُكُمْ فَقَالَ: مَا بَقِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إلَّا الْقِيَاسُ؛ وَنَحْنُ نَقُولُ بِالْقِيَاسِ وَلَكِنْ مَنْ كَانَ بِالْأُصُولِ أَعْلَمَ كَانَ قِيَاسُهُ أَصَحَّ. وَقَالُوا لِلْإِمَامِ أَحْمَد: مَنْ أَعْلَمُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَالِكٌ أَمْ سُفْيَانُ؟ فَقَالَ: بَلْ مَالِكٌ. فَقِيلَ لَهُ: أَيُّمَا أَعْلَمُ بِآثَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَالِكٌ أَمْ سُفْيَانُ؟ فَقَالَ: بَلْ مَالِكٌ. فَقِيلَ لَهُ: أَيُّمَا أَزْهَدُ مَالِكٌ أَمْ سُفْيَانُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ لَكُمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ أَعْلَمُ أَهْلِ الْعِرَاقِ ذَلِكَ الْوَقْتَ بِالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ؛ وَالثَّوْرِيَّ؛ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى؛ وَالْحَسَنَ بْنَ صَالِحِ بْنِ حي؛ وَشَرِيكَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِي الْقَاضِي: كَانُوا مُتَقَارِبِينَ فِي الْعَصْرِ وَهُمْ أَئِمَّةُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَتَفَقَّهُ أَوَّلًا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الْقَاضِي ثُمَّ إنَّهُ اجْتَمَعَ بِأَبِي حَنِيفَةَ فَرَأَى أَنَّهُ أَفْقَهُ مِنْهُ فَلَزِمَهُ وَصَنَّفَ كِتَابَ " اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى " وَأَخَذَهُ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَنَقَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَذَكَرَ فِيهِ اخْتِيَارَهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِكِتَابِ " اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ ".

ص: 329

وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ أَعْلَمُ هَذِهِ الطَّبَقَةِ فِي الْحَدِيثِ مَعَ تَقَدُّمِهِ فِي الْفِقْهِ وَالزُّهْدِ وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ مَا أَنْكَرُوا مِنْ الرَّأْيِ الْمُحْدَثِ بِالْكُوفَةِ لَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ عَلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بَلْ سُفْيَانُ عِنْدَهُمْ أَمَامُ الْعِرَاقِ فَتَفْضِيلُ أَحْمَد لِمَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى مَذْهَبِ سُفْيَانَ تَفْضِيلٌ لَهُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي عِلْمِهِ وَعِلْمِ مَالِكٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ مَا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّ أَحْمَد يُقَدِّمُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَلَى هَذِهِ الطَّبَقَةِ كُلِّهَا وَهُوَ يُعَظِّمُ سُفْيَانَ غَايَةَ التَّعْظِيمِ وَلَكِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعُلَمَائِهَا أَقْرَبُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَعُلَمَائِهَا. وَأَحْمَد كَانَ مُعْتَدِلًا عَالِمًا بِالْأُمُورِ يُعْطِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ يُحِبُّ الشَّافِعِيَّ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيَدْعُو لَهُ وَيَذُبُّ عَنْهُ عِنْدَ مَنْ يَطْعَنُ فِي الشَّافِعِيِّ؛ أَوْ مَنْ يَنْسُبُهُ إلَى بِدْعَةٍ وَيَذْكُرُ تَعْظِيمَهُ لِلسُّنَّةِ وَاتِّبَاعَهُ لَهَا وَمَعْرِفَتَهُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ كَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ؛ وَالْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ وَيُثْبِتُ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَمُنَاظَرَتَهُ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَنْ خَالَفَهُ بِالرَّأْيِ وَغَيْرَهُ. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: سَمَّوْنِي بِبَغْدَادَ نَاصِرَ الْحَدِيثِ. وَمَنَاقِبُ الشَّافِعِيِّ وَاجْتِهَادُهُ فِي اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَاجْتِهَادُهُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا وَهُوَ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَكَانَ قَدْ تَفَقَّهَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكِّيِّينَ أَصْحَابُ ابْنُ جريج

ص: 330

كَمُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزِّنْجِيِّ؛ وَسَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ الْقَدَّاحِ ثُمَّ رَحَلَ إلَى مَالِكٍ وَأَخَذَ عَنْهُ الْمُوَطَّأَ وَكَمَّلَ أُصُولَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ أَجَلُّ عِلْمًا وَفِقْهًا وَقَدْرًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى عَهْدِ مَالِكٍ ثُمَّ اتَّفَقَتْ لَهُ مِحْنَةٌ ذَهَبَ فِيهَا إلَى الْعِرَاقِ فَاجْتَمَعَ بِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَكَتَبَ كُتُبَهُ وَنَاظَرَهُ وَعَرَفَ أُصُولَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَخَذَ مِنْ الْحَدِيثِ مَا أَخَذَهُ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ ثُمَّ ذَهَبَ إلَى الْحِجَازِ. ثُمَّ قَدِمَ إلَى الْعِرَاقِ مَرَّةً ثَانِيَةً وَفِيهَا صَنَّفَ كِتَابَهُ الْقَدِيمَ الْمَعْرُوفَ بِ " الْحُجَّةِ " وَاجْتَمَعَ بِهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي هَذِهِ الْقَدْمَةِ بِالْعِرَاقِ وَاجْتَمَعَ بِهِ بِمَكَّةَ وَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَتَنَاظَرَا بِحُضُورِ أَحْمَد رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. وَلَمْ يَجْتَمِعْ بِأَبِي يُوسُفَ وَلَا بالأوزاعي وَغَيْرِهِمَا فَمَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الرِّحْلَةِ الْمُضَافَةِ إلَيْهِ فَهُوَ كَاذِبٌ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الرِّحْلَةَ فِيهَا مِنْ الْأَكَاذِيبِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَالِكٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى عَالِمٍ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ كَذِبِ الْقِصَاصِ وَلَمْ يَكُنْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ سَعَيَا فِي أَذَى الشَّافِعِيِّ قَطُّ وَلَا كَانَ حَالُ مَالِكٍ مَعَهُ مَا ذَكَرَ فِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ الْكَاذِبَةِ. ثُمَّ رَجَعَ الشَّافِعِيُّ إلَى مِصْرَ وَصَنَّفَ كِتَابَهُ الْجَدِيدَ وَهُوَ فِي خِطَابِهِ وَكِتَابُهُ يُنْسَبُ إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحِجَازِ فَيَقُولُ: قَالَ: بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ يَعْنِي: أَهْلَ الْمَدِينَةِ؛ أَوْ بَعْضَ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَالِكِ وَيَقُولُ فِي

ص: 331

أَثْنَاءِ كَلَامِهِ: وَخَالَفْنَا بَعْضَ الْمَشْرِقِيِّينَ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ عِنْدَ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَاحِدًا مِنْهُمْ يُنْسَبُ إلَى أَصْحَابِهِمْ وَاخْتَارَ سُكْنَى مِصْرَ إذْ ذَاكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ يُشْبِهُهُمْ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ كَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَمْثَالِهِ وَكَانَ أَهْلُ الْغَرْبِ بَعْضُهُمْ عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى مَذْهَبِ الأوزاعي وَأَهْلِ الشَّامِ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَدِينَةِ مُتَقَارِبٌ لَكِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَجَلُّ عِنْدَ الْجَمِيعِ. ثُمَّ إنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه لَمَّا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْعِلْمِ وَرَأَى مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ وَإِنْ خَالَفَ قَوْلَ أَصْحَابِ الْمَدَنِيِّينَ؛ قَامَ بِمَا رَآهُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَصَنَّفَ الْإِمْلَاءَ عَلَى مَسَائِلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَظْهَرَ خِلَافَ مَالِكٍ فِيمَا خَالَفَهُ فِيهِ وَقَدْ أَحْسَنَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا فَعَلَ وَقَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ كَرِهَ ذَلِكَ مَنْ كَرِهَهُ وَآذَوْهُ وَجَرَتْ مِحْنَةٌ مِصْرِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ. وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هُمَا صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَهُمَا مُخْتَصَّانِ بِهِ كَاخْتِصَاصِ الشَّافِعِيِّ بِمَالِكِ وَلَعَلَّ خِلَافَهُمَا لَهُ يُقَارِبُ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ لِمَالِكِ وَكُلُّ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلدَّلِيلِ وَقِيَامًا بِالْوَاجِبِ. وَالشَّافِعِيُّ رضي الله عنه قَرَّرَ أُصُولَ أَصْحَابِهِ وَالْكِتَابَ

ص: 332

وَالسُّنَّةَ وَكَانَ كَثِيرَ الِاتِّبَاعِ لِمَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَكَمِ يَقُولُ لِابْنِهِ مُحَمَّدٍ: يَا بُنَيَّ الْزَمْ هَذَا الرَّجُلَ فَإِنَّهُ صَاحِبُ حُجَجٍ فَمَا بَيْنَك وَبَيْنَ أَنْ تَقُولَ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَيُضْحَكُ مِنْك إلَّا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مِصْرَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: فَلَمَّا صِرْت إلَى الْعِرَاقِ جَلَسْت إلَى حَلَقَةٍ فِيهَا ابْنُ أَبِي دَاوُد فَقُلْت: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَ: وَمَنْ ابْنُ الْقَاسِمِ؟ فَقُلْت: رَجُلٌ مُفْتٍ يَقُولُ مِنْ مِصْرَ إلَى أَقْصَى الْغَرْبِ وَأَظُنُّهُ قَالَ: قُلْت: رَحِمَ اللَّهُ أَبِي. وَكَانَ مَقْصُودُ أَبِيهِ: اُطْلُبْ الْحُجَّةَ لِقَوْلِ أَصْحَابِك وَلَا تَتَّبِعْ فَالتَّقْلِيدُ إنَّمَا يُقْبَلُ حَيْثُ يَعْظُمُ الْمُقَلِّدُ بِخِلَافِ الْحُجَّةِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ أَنْ يَقُولَ بِمُوجِبِ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَاَللَّهُ يَخُصُّ هَذَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مَا لَا يَخُصُّ بِهِ هَذَا وَقَدْ يَكُونُ هَذَا هُوَ الْمَخْصُوصَ بِمَزِيدِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ فِي نَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ أَوْ بَابٍ مِنْهُ أَوْ مَسْأَلَةٍ وَهَذَا هُوَ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ فِي نَوْعٍ آخَرَ.

لَكِنَّ جُمْلَةَ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ رَاجِحَةٌ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ وَذَلِكَ يَظْهَرُ بِقَوَاعِدَ جَامِعَةٍ: مِنْهَا: قَاعِدَةُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّجَاسَاتِ فِي الْمِيَاهِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا

ص: 333

لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} فَاَللَّهُ تَعَالَى أَحَلَّ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ وَالْخَبَائِثُ نَوْعَانِ: مَا خُبْثُهُ لِعَيْنِهِ لِمَعْنَى قَامَ بِهِ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. وَمَا خُبْثُهُ لِكَسْبِهِ كَالْمَأْخُوذِ ظُلْمًا؛ أَوْ بِعَقْدِ مُحَرَّمٍ كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكُلُّ مَا حَرُمَ مُلَابَسَتُهُ كَالنَّجَاسَاتِ حَرُمَ أَكْلُهُ وَلَيْسَ كُلُّ مَا حَرُمَ أَكْلُهُ حَرُمَتْ مُلَابَسَتُهُ كَالسُّمُومِ وَاَللَّهُ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْنَا أَشْيَاءَ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ مِنْ الْمَلَابِسِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْأَشْرِبَةِ أَشَدُّ مِنْ مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَسَائِرَ الْأَمْصَارِ وَفُقَهَاءَ الْحَدِيثِ يُحَرِّمُونَ كُلَّ مُسْكِرٍ وَإِنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَحَرَامٌ وَإِنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ وَلَمْ يَتَنَازَعْ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَا أَوَّلُهُمْ وَلَا آخِرُهُمْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الثِّمَارِ أَوْ الْحُبُوبِ؛ أَوْ الْعَسَلِ أَوْ لَبَنِ الْخَيْلِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْكُوفِيُّونَ لَا خَمْرَ عِنْدَهُمْ إلَّا مَا اشْتَدَّ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ فَإِنْ طُبِخَ قَبْلَ الِاشْتِدَادِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ حَلَّ وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ مُحَرَّمٌ إذَا كَانَ مُسْكِرًا نِيئًا فَإِنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ حَلَّ وَإِنْ أَسْكَرَ وَسَائِرُ الْأَنْبِذَةِ

ص: 334

تَحُلُّ وَإِنْ أَسْكَرَتْ لَكِنْ يُحَرِّمُونَ الْمُسْكِرَ مِنْهَا. وَأَمَّا الْأَطْعِمَةُ فَأَهْلُ الْكُوفَةِ أَشَدُّ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ فَإِنَّهُمْ مَعَ تَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ؛ وَتَحْرِيمِ اللَّحْمِ حَتَّى يُحَرِّمُونَ الضَّبَّ وَالضَّبُعَ وَالْخَيْلَ تَحْرُمُ عِنْدَهُمْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَمَالِكٌ يُحَرِّمُ تَحْرِيمًا جَازِمًا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فَذَوَاتُ الْأَنْيَابِ إمَّا أَنْ يُحَرِّمَهَا تَحْرِيمًا دُونَ ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ يَكْرَهَهَا فِي الْمَشْهُورِ وَرُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَةُ ذَوَاتِ الْمَخَالِبِ وَالطَّيْرُ لَا يُحَرِّمُ مِنْهَا شَيْئًا وَلَا يَكْرَهُهُ وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ عَلَى مَرَاتِبَ وَالْخَيْلُ يَكْرَهُهَا وَرُوِيَتْ الْإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ أَيْضًا. وَمَنْ تَدَبَّرَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ فَإِنَّ بَابَ الْأَشْرِبَةِ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا يَعْلَمُ مَنْ عَلِمَهَا أَنَّهَا مِنْ أَبْلَغِ الْمُتَوَاتِرَاتِ بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ وَالْأَوْعِيَةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى عَالِمٍ بِالسُّنَّةِ وَأَمَّا الْأَطْعِمَةُ فَإِنَّهُ وَإِنْ قِيلَ: إنَّ مَالِكًا خَالَفَ أَحَادِيثَ صَحِيحَةً فِي التَّحْرِيمِ فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي خَالَفَهَا مَنْ حَرَّمَ الضَّبَّ وَغَيْرَهُ تُقَاوِمُ ذَلِكَ أَوْ تَرْبُو عَلَيْهِ ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ قَلِيلَةٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَادِيثِ الْأَشْرِبَةِ.

ص: 335

وَأَيْضًا فَمَالِكٌ مَعَهُ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنْ السَّلَفِ كَابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَعَائِشَةَ؛ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ مَعَ مَا تَأَوَّلَهُ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَمُبِيحُ الْأَشْرِبَةِ لَيْسَ مَعَهُ لَا نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ بَلْ قَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَالْقِيَاسِ. وَأَيْضًا فَتَحْرِيمُ جِنْسِ الْخَمْرِ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ اللُّحُومِ الْخَبِيثَةِ فَإِنَّهَا يَجِبُ اجْتِنَابُهَا مُطْلَقًا وَيَجِبُ عَلَى مَنْ شَرِبَهَا الْحَدُّ وَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهَا. وَأَيْضًا فَمَالِكٌ جَوَّزَ إتْلَافَ عَيْنِهَا اتِّبَاعًا لِمَا جَاءَ مِنْ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ وَمَنَعَ مِنْ تَخْلِيلِهَا وَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ مِنْ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَلَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ الشَّارِعِ لِلْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ أَشَدَّ مِنْ تَحْرِيمِهِ لِلْأَطْعِمَةِ: كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ مُوَافَقَةَ الشَّارِعِ أَصَحَّ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اسْتَحَلَّتْ الْغِنَاءَ حَتَّى صَارَ يُحْكَى ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ قَالَ عِيسَى بْنُ إسْحَاقَ الطَّبَّاعُ: سُئِلَ مَالِكٌ عَمًّا يَتَرَخَّصُ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الْغِنَاءِ؟ فَقَالَ: إنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الْفُسَّاقُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَخَفُّ مِمَّا اسْتَحَلَّهُ مَنْ اسْتَحَلَّ الْأَشْرِبَةَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي تَحْرِيمِ الْغِنَاءِ مِنْ النُّصُوصِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي تَحْرِيمِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ فَعُلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ.

ص: 336

ثُمَّ إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمَسَائِلِ مَسْأَلَةُ اخْتِلَاطِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ لِعَيْنِهِ كَاخْتِلَاطِ النَّجَاسَاتِ بِالْمَاءِ وَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ فَأَهْلُ الْكُوفَةِ يُحَرِّمُونَ كُلَّ مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ثُمَّ يُقَدِّرُونَ مَا لَا تَصِلُ إلَيْهِ النَّجَاسَةُ بِمَا لَا تَصِلُ إلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَيُقَدِّرُونَهُ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْبِئْرَ إذَا وَقَعَتْ فِيهَا النَّجَاسَةُ لَمْ تَطْهُرْ؛ بَلْ تَطُمُّ. وَالْفُقَهَاءُ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: تُنْزَحُ إمَّا دِلَاءٌ مُقَدَّرَةٌ مِنْهَا؛ وَإِمَّا جَمِيعُهَا عَلَى مَا قَدْ عُرِفَ لِأَجْلِ قَوْلِهِمْ يَنْجُسُ الْمَاءُ وَالْمَائِعُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ. وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ بِعَكْسِ ذَلِكَ فَلَا يَنْجُسُ الْمَاءُ عِنْدَهُمْ إلَّا إذَا تَغَيَّرَ لَكِنْ لَهُمْ فِي قَلِيلِ الْمَاءِ هَلْ يَتَنَجَّسُ بِقَلِيلِ النَّجَاسَةِ؟ قَوْلَانِ. وَمَذْهَبُ أَحْمَد قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ لَكِنْ هَذَانِ يُقَدِّرَانِ الْقَلِيلَ بِمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ دُونَ مَالِكٍ. وَعَنْ مَالِكٍ فِي الْأَطْعِمَةِ خِلَافٌ؛ وَكَذَلِكَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد نِزَاعٌ فِي سَائِرِ الْمَائِعَاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ اسْمَ الْمَاءِ بَاقٍ وَالِاسْمُ الَّذِي بِهِ أُبِيحَ قَبْلَ الْوُقُوعِ بَاقٍ وَقَدْ دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بِئْرِ بضاعة وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ وَلَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ الْأَحَادِيثَ لَيْسَ بِصَرِيحِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ فِيهِ وَهُوَ حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَخُصُّ الْبَوْلَ بِالْحُكْمِ.

ص: 337

وَخَصَّ بَعْضُهُمْ أَنْ يُبَالَ فِيهِ دُونَ أَنْ يَجْرِيَ إلَيْهِ الْبَوْلُ. وَقَدْ يَخُصُّ ذَلِكَ بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ. وَقَدْ يُقَالُ: النَّهْيُ عَنْ الْبَوْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّنْجِيسَ؛ بَلْ قَدْ يُنْهَى عَنْهُ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى التَّنْجِيسِ إذَا كَثُرَ. يُقَرِّرُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَنَازُعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ لَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْمِيَاهِ بَلْ مَاءُ الْبَحْرِ مُسْتَثْنًى بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ الْمَصَانِعُ الْكِبَارُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ نَزْحُهَا وَلَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهَا بِتَحَرُّكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ لَا يُنَجِّسُهُ الْبَوْلُ بِالِاتِّفَاقِ. وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الصَّرِيحُ لَا يُعَارِضُهُ حَدِيثٌ فِي هَذَا الْإِجْمَالِ وَالِاحْتِمَالِ. وَكَذَلِكَ تَنَجُّسُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَنَحْوِهِ: مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي طَهَارَتِهِ ثَابِتٌ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَحَدِيثِ صَبِّ وُضُوئِهِ عَلَى جَابِرٍ وَقَوْلِهِ: {الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ بَوْلُ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يُطْعَمْ مَذْهَبُ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ لَهُمْ فِيهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعَارِضُهَا شَيْءٌ.

ص: 338

وَكَذَلِكَ‌

‌ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَعْيَانِ النَّجَاسَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي الْعِبَادَاتِ

أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَسِيرَةِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ إنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِنَجَاسَةِ الْبَوْلِ وَالرَّوْثِ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَعَلَى ذَلِكَ بِضْعُ عَشْرَةِ حُجَّةً مِنْ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ وَالِاعْتِبَارِ ذَكَرْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَيْسَ مَعَ الْمُنَجَّسِ إلَّا لَفْظٌ يُظَنُّ عُمُومُهُ وَلَيْسَ بِعَامِّ أَوْ قِيَاسٌ يُظَنُّ مُسَاوَاةُ الْفَرْعِ فِيهِ لِلْأَصْلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَتْ النَّجَاسَاتُ مِنْ الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَةِ لِأَعْيَانِهَا وَمَذْهَبُهُمْ فِي ذَلِكَ أُخِذَ مِنْ مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ كَمَا فِي الْأَطْعِمَةِ: كَانَ مَا يُنَجِّسُونَهُ أُولَئِكَ أَعْظَمَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ: خَالَفَ حَدِيثَ الْوُلُوغِ وَنَحْوَهُ فِي النَّجَاسَاتِ فَهُوَ كَمَا يُقَالُ: إنَّهُ خَالَفَ حَدِيثَ سُبَاعِ الطَّيْرِ وَنَحْوَهُ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا أَقَلُّ مُخَالَفَةً لِلنُّصُوصِ مِمَّنْ يُنَجِّسُ رَوْثَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَبَوْلَهُ أَوْ بَعْضَ ذَلِكَ أَوْ يَكْرَهُ سُؤْرَ الْهِرَّةِ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ طَاهِرَةٌ إلَّا بَوْلَ الْإِنْسِيِّ وَعَذِرَتَهُ وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَبْعَدَ فِي الْحُجَّةِ مِنْ قَوْلِ مَنْ يُنَجِّسُ الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ. وَمَنْ تَدَبَّرَ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ عَالِمًا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ

ص: 339

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَيَّنَ لَهُ قَطْعًا أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُنْتَظِمَ لِلتَّيْسِيرِ فِي هَذَا الْبَابِ أَشْبَهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَذْهَبِ الْمُنْتَظِمِ لِلتَّعْسِيرِ وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَمَّا بَالَ الْأَعْرَابِيُّ فِي الْمَسْجِدِ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّبِّ عَلَى بَوْلِهِ قَالَ: {إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ} . وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَنْ خَالَفَهُمْ يَقُولُ: إنَّهُ يُغْسَلُ وَلَا يُجْزِئُ الصَّبُّ وَرَوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مُرْسَلًا لَا يَصِحُّ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ الْمُحَرَّمُ لِكَسْبِهِ؛ كَالْمَأْخُوذِ ظُلْمًا بِأَنْوَاعِ الْغَصْبِ مِنْ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْقَهْرِ؛ وَكَالْمَأْخُوذِ بِالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ؛ وَكَالْمَأْخُوذِ عِوَضًا عَنْ عَيْنٍ أَوْ نَفْعٍ مُحَرَّمٍ؛ كَثَمَنِ الْخَمْرِ وَالدَّمِ؛ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ؛ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ: فَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ أَعْدَلِ الْمَذَاهِبِ فَإِنَّ تَحْرِيمَ الظُّلْمِ وَمَا يَسْتَلْزِمُ الظُّلْمَ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَبَائِثَ مِنْ الْمَطَاعِمِ إذْ هِيَ تُغَذِّي تَغْذِيَةً خَبِيثَةً تُوجِبُ لِلْإِنْسَانِ الظُّلْمَ كَمَا إذَا اغْتَذَى مِنْ الْخِنْزِيرِ وَالدَّمِ وَالسِّبَاعِ؛ فَإِنَّ الْمُغَذِّيَ شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذَى بِهِ فَيَصِيرُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ بِحَسَبِ مَا اغْتَذَى مِنْهُ.

ص: 340

وَإِبَاحَتُهَا لِلْمُضْطَرِّ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ بَقَاءِ النَّفْسِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَفْعِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ عَارِضٌ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَعَ الْحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ أَثَرًا يَضُرُّ. وَأَمَّا الظُّلْمُ فَمُحَرَّمٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَحَرَّمَهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ مُحَرَّمًا عَلَى عِبَادِهِ. وَحَرَّمَ الرِّبَا لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلظُّلْمِ فَإِنَّهُ أَخْذُ فَضْلٍ بِلَا مُقَابِلٍ لَهُ وَتَحْرِيمُ الرِّبَا أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ الَّذِي هُوَ الْقِمَارُ؛ لِأَنَّ الْمُرَابِيَ قَدْ أَخَذَ فَضْلًا مُحَقَّقًا مِنْ مُحْتَاجٍ وَأَمَّا الْمُقَامِرُ فَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ فَضْلٌ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ لَهُ وَقَدْ يَقْمُرُ هَذَا هَذَا وَقَدْ يَكُونُ بِالْعَكْسِ.

{وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ؛ وَعَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ نَوْعُ مُقَامَرَةٍ وَأَرْخَصَ فِي ذَلِكَ فِيمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَيَدْخُلُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ كَمَا أَرْخَصَ فِي ابْتِيَاعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُبْقَاةً إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَجْزَائِهَا لَمْ يُخْلَقْ وَكَمَا أَرْخَصَ فِي ابْتِيَاعِ النَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ مَعَ جَدِيدِهِ إذَا اشْتَرَطَهُ الْمُبْتَاعُ وَهُوَ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ وَهَذَا جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الشَّجَرِ الَّذِي فِيهِ ثَمَرٌ ظَاهِرٌ وَجَعَلَ لِلْبَائِعِ ثَمَرَةَ النَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْهَا الْمُشْتَرِي فَتَكُونُ الشَّجَرَةُ لِلْمُشْتَرِي وَالْبَائِعُ يَنْتَفِعُ بِهَا بِإِبْقَاءِ ثَمَرِهِ عَلَيْهَا إلَى حِينِ الْجِذَاذِ.

ص: 341

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ وَقَالَ: {إنْ بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَخِيك شَيْئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟} . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَشْبَهُ بِالسُّنَّةِ وَالْعَدْلِ مِنْ مَذْهَبِ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ مُخَالِفَهُمْ جَعَلَ الْبَيْعَ إذَا وَقَعَ عَلَى مَوْجُودٍ جَازَ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ بَدَا صَلَاحُهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَدَا صَلَاحُهُ وَجَعَلَ مُوجِبَ كُلِّ عَقْدٍ قَبْضَ الْمَبِيعِ عَقِبَهُ وَلَمْ يُجِزْ تَأْخِيرَ الْقَبْضِ فَقَالَ: إنَّهُ إذَا اشْتَرَى الثَّمَرَ بَادِيًا صَلَاحُهُ أَوْ غَيْرَ بَادٍ صَلَاحُهُ جَازَ وَمُوجَبُ الْعَقْدِ الْقَطْعُ فِي الْحَالِ لَا يَسُوغُ لَهُ تَأْخِيرُ الثَّمَرِ إلَى تَكَمُّلِ صَلَاحِهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَهُ. وَجَعَلُوا ذَلِكَ الْقَبْضَ قَبْضًا نَاقِلًا لِلضَّمَانِ إلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ وَطَرَدُوا ذَلِكَ فَقَالُوا: إذَا بَاعَ عَيْنًا مُؤَجَّرَةً لَمْ يَصِحَّ لِتَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ وَقَالُوا: إذَا اسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ: كَظَهْرِ الْبَعِيرِ وَسُكْنَى الدَّارِ لَمْ يَجُزْ وَذَلِكَ كُلُّهُ فَرْعٌ عَلَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ. وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ خَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَاتَّبَعُوا النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ وَهُوَ مُوَافَقَةُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الْعَادِلِ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الْعَقْدُ مُوجِبٌ الْقَبْضَ عَقِبَهُ؛ يُقَالُ لَهُ: مُوجَبُ الْعَقْدِ إمَّا أَنْ يُتَلَقَّى مِنْ الشَّارِعِ؛ أَوْ مِنْ قَصْدِ الْعَاقِدِ وَالشَّارِعُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا

ص: 342

يُوجِبُ مُوجَبَ الْعَقْدِ مُطْلَقًا وَأَمَّا الْمُتَعَاقِدَانِ فَهُمَا تَحْتَ مَا تَرَاضَيَا بِهِ وَيَعْقِدَانِ الْعَقْدَ عَلَيْهِ فَتَارَةً يَعْقِدَانِ عَلَى أَنْ يَتَقَابَضَا عَقِبَهُ وَتَارَةً عَلَى أَنْ يَتَأَخَّرَ الْقَبْضُ كَمَا فِي الثَّمَرِ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْحُلُولَ؛ وَلَهُمَا تَأْجِيلُهُ إذَا كَانَ لَهُمَا فِي التَّأْجِيلِ مَصْلَحَةٌ فَكَذَلِكَ الْأَعْيَانُ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْعَيْنُ الْمَبِيعَةُ فِيهَا مَنْفَعَةٌ لِلْبَائِعِ أَوْ غَيْرِهِ كَالشَّجَرِ الَّذِي ثَمَرُهُ ظَاهِرٌ وَكَالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ وَكَالْعَيْنِ الَّتِي اسْتَثْنَى الْبَائِعُ نَفْعَهَا مُدَّةً لَمْ يَكُنْ مُوجَبُ هَذَا الْعَقْدِ أَنْ يَقْتَضِيَ الْمُشْتَرِي مَا لَيْسَ لَهُ؛ وَمَا لَمْ يَمْلِكْهُ إذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بَعْضَ الْعَيْنِ دُونَ بَعْضٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا دُونَ مَنْفَعَتِهَا. ثُمَّ سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّ الْمُشْتَرِيَ يَقْبِضُ الْعَيْنَ أَوْ قِيلَ: لَا يَقْبِضُهَا بِحَالِ: لَا يَضُرُّ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْقَبْضَ فِي الْبَيْعِ لَيْسَ هُوَ مِنْ تَمَامِ الْعَقْدِ كَمَا هُوَ فِي الرَّهْنِ بَلْ الْمِلْكُ يَحْصُلُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِلْمُشْتَرِي تَابِعًا وَيَكُونُ نَمَاءُ الْمَبِيعِ لَهُ بِلَا نِزَاعٍ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَلَكِنَّ أَثَرَ الْقَبْضِ إمَّا فِي الضَّمَانِ وَإِمَّا فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ. وَقَدْ ثَبَتَ {عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي} . وَلِهَذَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ تَعْلِيقَ الضَّمَانِ بِالتَّمْكِينِ مِنْ الْقَبْضِ أَحْسَنُ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِنَفْسِ الْقَبْضِ وَبِهَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ فَفِي الثِّمَارِ الَّتِي أَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْجِذَاذِ

ص: 343

وَكَانَ مَعْذُورًا فَإِذَا تَلِفَتْ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ؛ وَلِهَذَا الَّتِي تَلِفَتْ بَعْدَ تَفْرِيطِهِ فِي الْقَبْضِ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِهِ وَالْعَبْدُ وَالدَّابَّةُ الَّتِي تَمَكَّنَ مِنْ قَبْضِهَا تَكُونُ مِنْ ضَمَانِهِ عَلَى حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ. وَمَنْ جَعَلَ التَّصَرُّفَ تَابِعًا لِلضَّمَانِ فَقَدْ غَلِطَ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ إذَا تَلِفَتْ قَبْلَ تَمَكُّنِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ اسْتِيفَائِهَا كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ وَمَعَ هَذَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا بِمِثْلِ الْأُجْرَةِ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي إيجَارِهَا بِأَكْثَرَ مِنْ الْأُجْرَةِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ رِبْحًا فِيمَا لَا يُضْمَنُ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّهَا إذَا تَلِفَتْ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِهِ وَلَكِنْ إذَا تَلِفَتْ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَكُنْ مِنْ ضَمَانِهِ. وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ أَيْضًا؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نَبْتَاعُ الطَّعَامَ جُزَافًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَهَى أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ إلَى رِحَالِنَا} . وَابْنُ عُمَرَ هُوَ الْقَائِلُ: {مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي} . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الطَّعَامِ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَنْقُلَهُ وَغَلَّةُ الثِّمَارِ وَالْمَنَافِعُ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا وَلَوْ تَلِفَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهَا كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ وَالْبَائِعِ وَالْمَنَافِعُ لَا يُمْكِنُ التَّصَرُّفُ فِيهَا إلَّا بَعْدَ

ص: 344

اسْتِيفَائِهَا وَكَذَلِكَ الثِّمَارُ لَا تُبَاعُ عَلَى الْأَشْجَارِ بَعْدَ الْجِذَاذِ بِخِلَافِ الطَّعَامِ الْمَنْقُولِ. وَالسُّنَّةُ فِي هَذَا الْبَابِ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْقَادِرِ عَلَى الْقَبْضِ وَغَيْرِ الْقَادِرِ فِي الضَّمَانِ وَالتَّصَرُّفِ فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ كُلِّهِ وَقَوْلُهُمْ أَعْدَلُ مِنْ قَوْلِ مَنْ يُخَالِفُ السُّنَّةَ. وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ مِثْلَ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ: مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَهَا مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ تُوصَفْ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ بَيْعَهَا مَعَ الْوَصْفِ؛ وَمَالِكٌ جَوَّزَ بَيْعَهَا مَعَ الصِّفَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَهَذَا أَعْدَلُ. وَالْعُقُودُ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَوْجَبَ فِيهَا الْأَلْفَاظَ وَتَعَاقَبَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ جَعَلُوا الْمَرْجِعَ فِي الْعُقُودِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ فَمَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ وَمَا عَدُّوهُ إجَارَةً فَهُوَ إجَارَةٌ وَمَا عَدُّوهُ هِبَةً فَهُوَ هِبَةٌ وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَعْدَلُ فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ مِنْهَا مَا لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَمِنْهَا مَا لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ. وَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ لَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ بَلْ يَرْجِعُ إلَى الْعُرْفِ كَالْقَبْضِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ فِي هَذَا الْبَابِ لَمْ يَحُدَّهَا الشَّارِعُ وَلَا لَهَا حَدٌّ فِي اللُّغَةِ؛ بَلْ يَتَنَوَّعُ ذَلِكَ

ص: 345

بِحَسَبِ عَادَاتِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ فَمَا عَدُّوهُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ وَمَا عَدُّوهُ هِبَةً فَهُوَ هِبَةٌ وَمَا عَدُّوهُ إجَارَةً فَهُوَ إجَارَةٌ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ مَالِكًا يُجَوِّزُ بَيْعَ الْمُغَيَّبِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَاللِّفْتِ وَبَيْعِ المقاثي جُمْلَةً كَمَا يُجَوِّزُ هُوَ وَالْجُمْهُورُ بَيْعَ الْبَاقِلَاءِ وَنَحْوَهُ فِي قِشْرِهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنِ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم وَإِلَى هَذَا التَّارِيخِ وَلَا تَقُومُ مَصْلَحَةُ النَّاسِ بِدُونِ هَذَا وَمَا يُظَنُّ أَنَّ هَذَا نَوْعُ غَرَرٍ فَمِثْلُهُ جَائِزٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْبُيُوعِ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ وَالْحَاجَةِ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ يُبِيحُ ذَلِكَ فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَا؟ وَكَذَلِكَ مَا يُجَوِّزُ مَالِكٌ مِنْ مَنْفَعَةِ الشَّجَرِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ مِثْلَ أَنْ يَكْرِيَ أَرْضًا أَوْ دَارًا فِيهَا شَجَرَةٌ أَوْ شَجَرَتَانِ هُوَ أَشْبَهُ بِالْأُصُولِ مِنْ قَوْلِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ. وَقَدْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مُطْلَقًا وَجَوَّزُوا ضَمَانَ الْحَدِيقَةِ الَّتِي فِيهَا أَرْضٌ وَشَجَرٌ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا قَبِلَ الْحَدِيقَةَ مِنْ أسيد بْنِ الحضير ثُلُثًا وَقَضَى بِمَا تَسَلَّفَهُ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِذِكْرِ الرِّبَا؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْقِمَارِ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ مُحَقَّقٌ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى لَمَّا جَعَلَ خَلْقَهُ نَوْعَيْنِ غَنِيًّا وَفَقِيرًا

ص: 346

أَوْجَبَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ الزَّكَاةَ حَقًّا لِلْفُقَرَاءِ وَمَنَعَ الْأَغْنِيَاءَ عَنْ الرِّبَا الَّذِي يَضُرُّ الْفُقَرَاءَ وَقَالَ تَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} فَالظَّالِمُونَ يَمْنَعُونَ الزَّكَاةَ وَيَأْكُلُونَ الرِّبَا وَأَمَّا الْقِمَارُ فَكُلٌّ مِنْ الْمُتَقَامِرَيْنِ قَدْ يَقْمُرُ الْآخَرَ وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْمُورُ هُوَ الْغَنِيَّ أَوْ يَكُونَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ فَحَرَّمَهُ اللَّهُ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مِنْ ظُلْمِ الْمُحْتَاجِ وَضَرَرِهِ مَا فِي الرِّبَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ ظُلْمَ الْمُحْتَاجِ أَعْظَمُ مِنْ ظُلْمِ غَيْرِ الْمُحْتَاجِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ حَرَّمُوا الرِّبَا وَمَنَعُوا التَّحَيُّلَ عَلَى اسْتِحْلَالِهِ وَسَدُّوا الذَّرِيعَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ يُسَوِّغُ الِاحْتِيَالَ عَلَى أَخْذِهِ؟ بَلْ يَدُلُّ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا يَظْهَرُ بِذِكْرِ مَثَلًا رِبَا الْفَضْلِ وَرِبَا النسأ.

أَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَاتَّفَقَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاعُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ بِجِنْسِهِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ؛ إذْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمِثْلِ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَظُلْمٌ فَإِذَا أَرَادَ الْمَدِينُ أَنْ يَبِيعَ مِائَةَ دِينَارٍ مَكْسُورٍ

ص: 347

وَزْنُهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا؛ يُسَوِّغُ لَهُ مُبِيحُ الْحِيَلِ أَنْ يُضِيفَ إلَى ذَلِكَ رَغِيفَ خُبْزٍ أَوْ مَنْدِيلٍ يُوضَعُ فِيهِ مِائَةُ دِينَارٍ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَسْهُلُ عَلَى كُلِّ مُرْبٍ فِعْلُهُ: لَمْ يَكُنْ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا فَائِدَةٌ وَلَا فِيهِ حِكْمَةٌ وَلَا يَشَاءُ مُرْبٍ أَنْ يَبِيعَ نَوْعًا مِنْ هَذَا بِأَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ إلَّا أَمْكَنَهُ أَنْ يَضُمَّ إلَى الْقَلِيلِ مَا لَا قَدْرَ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ. وَكَذَلِكَ إذَا سُوِّغَ لَهُمَا أَنْ يَتَوَاطَآ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهُ بِعَرْضِ لَا قَصْدَ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ ثُمَّ يَبْتَاعُهُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ الْكَثِيرِ أَمْكَنَ طَالِبَ الرِّبَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ هُوَ دُونَ الرَّسُولِ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ وَأَذِنَ أَنْ يُفْعَلَ بِطَرِيقِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَكَانَ هَذَا عَيْبًا وَسَفَهًا؛ فَإِنَّ الْفَسَادَ بَاقٍ وَلَكِنْ زَادَهُمْ غِشًّا وَإِنْ كَانَ فِيهِ كُلْفَةٌ فَقَدْ كَلَّفَهُمْ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَكَيْفَ يُظَنُّ هَذَا بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم؟ بَلْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُلُوكَ لَوْ نَهَوْا عَمَّا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاحْتَالَ الْمَنْهِيُّ عَلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّرِيقِ لَعَدُّوهُ لَاعِبًا مُسْتَهْزِئًا بِأَوَامِرِهِمْ وَقَدْ عَذَّبَ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الَّذِينَ احْتَالُوا عَلَى أَلَّا يَتَصَدَّقُوا وَعَذَّبَ اللَّهُ الْقَرْيَةَ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ لَمَّا اسْتَحَلُّوا الْمُحَرَّمَ بِالْحِيلَةِ بِأَنْ مَسَخَهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَعَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَا تَرْكَبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ بِأَدْنَى الْحِيَلِ} .

ص: 348

وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى " قَاعِدَةِ إبْطَالِ الْحِيَلِ وَسَدِّ الذَّرَائِعِ " فِي كِتَابٍ كَبِيرٍ مُفْرَدٍ وَقَرَّرْنَا فِيهِ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَكَذَلِكَ رِبَا النسأ فَإِنَّ أَهْلَ ثَقِيفٍ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِي إلَى الْغَرِيمِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَيَقُولُ: أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي؟ فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ وَإِلَّا زَادَهُ الْمَدِينُ فِي الْمَاءِ وَزَادَهُ الطَّالِبُ فِي الْأَجَلِ فَيُضَاعِفُ الْمَالَ فِي الْمُدَّةِ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ. وَهَذَا هُوَ الرِّبَا الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَفِيهِ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَالظُّلْمُ وَالضَّرَرُ فِيهِ ظَاهِرٌ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَحَلَّ الْبَيْعَ وَأَحَلَّ التِّجَارَةَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَالْمُبْتَاعُ يَبْتَاعُ مَا يَسْتَنْفِعُ بِهِ كَطَعَامِ وَلِبَاسٍ وَمَسْكَنٍ وَمَرْكَبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالتَّاجِرُ يَشْتَرِي مَا يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ لِيَرْبَحَ فِيهِ وَأَمَّا آخِذُ الرِّبَا فَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنْ يَأْخُذَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ فَيَلْزَمُ الْآخَرُ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ بِلَا فَائِدَةٍ حَصَلَتْ لَهُ لَمْ يَبِعْ وَلَمْ يَتَّجِرْ وَالْمُرْبِي آكِلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ بِظُلْمِهِ وَلَمْ يَنْفَعْ النَّاسَ لَا بِتِجَارَةِ وَلَا غَيْرِهَا؛ بَلْ يُنْفِقُ دَرَاهِمَهُ بِزِيَادَةِ بِلَا مَنْفَعَةٍ حَصَلَتْ لَهُ وَلَا لِلنَّاسِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا مَقْصُودَهُمَا فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَوَصَّلُوا إلَيْهِ حَصَلَ الْفَسَادُ وَالظُّلْمُ مِثْلَ أَنْ تَوَاطَآ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ ثُمَّ يَبْتَاعَهُ فَهَذِهِ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ وَفِي

ص: 349

السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا} مِثْلَ أَنْ يُدْخِلَ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا يَبْتَاعُ مِنْهُ أَحَدُهُمَا مَا لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ لِيَبِيعَهُ آكِلُ الرِّبَا لِمُوكِلِهِ فِي الرِّبَا ثُمَّ الْمُوكِلُ يَرُدُّهُ إلَى الْمُحَلِّلِ بِمَا نَقَصَ مِنْ الثَّمَنِ. وَقَدْ ثَبَتَ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ} {وَلَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ} . وَمِثْلَ أَنْ يَضُمَّا إلَى الرِّبَا نَوْعَ قَرْضٍ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنُ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك.} ثُمَّ {إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ} وَهُوَ: اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ وَالْحَبِّ بِخَرْصِ وَكَمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنْ الطَّعَامِ لَا يُعْلَمُ كَيْلُهَا بِالطَّعَامِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّسَاوِي فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ وَالْخَرْصُ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُ المكال إنَّمَا هُوَ حَزْرٌ وَحَدْسٌ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ. ثُمَّ إنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا يَبْتَاعُهَا أَهْلُهَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا فَيَجُوزُ ابْتِيَاعُ الرِّبَوِيِّ هُنَا بِخَرْصِهِ وَأَقَامَ الْخَرْصَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَقَامَ الْكَيْلِ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ كَمَا أَنَّهُ فِي الْعِلْمِ بِالزَّكَاةِ وَفِي الْمُقَاسَمَةِ أَقَامَ الْخَرْصَ مَقَامَ الْكَيْلِ فَكَانَ يَخْرُصُ الثِّمَارَ عَلَى أَهْلِهَا يُحْصِي الزَّكَاةَ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يُقَاسِمُ أَهْلَ خَيْبَرَ خَرْصًا بِأَمْرِ النَّبِيِّ

ص: 350

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ التَّقْدِيرُ بِالْكَيْلِ فُعِلَ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ كَانَ الْخَرْصُ قَائِمًا مَقَامَهُ لِلْحَاجَةِ كَسَائِرِ الْأَبْدَالِ فِي الْمَعْلُومِ وَالْعَلَامَةِ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَقُومُ مَقَامَ النَّصِّ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالتَّقْوِيمَ يَقُومُ مَقَامَ الْمِثْلِ وَعَدَمِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمِثْلِ وَالثَّمَنِ الْمُسَمَّى. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْقَافَةُ الَّتِي هِيَ اسْتِدْلَالٌ بِالشَّبَهِ عَلَى النَّسَبِ إذَا تَعَذَّرَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْقَرَائِنِ؛ إذْ الْوَلَدُ يُشْبِهُ وَالِدَهُ فِي الْخَرْصِ وَالْقَافَةُ وَالتَّقْوِيمُ أَبْدَالٌ فِي الْعِلْمِ كَالْقِيَاسِ مَعَ النَّصِّ وَكَذَلِكَ الْعَدْلُ فِي الْعَمَلِ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْعَدْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} .

وَاَللَّهُ قَدْ شَرَعَ الْقِصَاصَ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَقَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الْآيَةَ فَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ مَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا عُدْوَانًا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ؛ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُهُ بِحَقِّ اللَّهِ

ص: 351

كَمَا إذَا رَضَخَ رَأْسَهُ كَمَا {رَضَخَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَأْسَ الْيَهُودِيِّ الَّذِي رَضَخَ رَأْسَ الْجَارِيَةِ} كَانَ ذَلِكَ أَتَمَّ فِي الْعَدْلِ بِمَنْ قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ فِي عُنُقِهِ وَإِذَا تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ عُدِلَ إلَى الدِّيَةِ وَكَانَتْ الدِّيَةُ بَدَلًا لِتَعَذُّرِ الْمِثْلِ. وَإِذَا أَتْلَفَ لَهُ مَالًا؛ كَمَا لَوْ تَلِفَتْ تَحْتَ يَدِهِ الْعَارِيَةُ: فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ وَإِنْ تَعَذَّرَ الْمِثْلُ كَانَتْ الْقِيمَةُ - وَهِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ - بَدَلًا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمِثْلِ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ أَوْجَبَ الْمِثْلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ أَقْرَبَ إلَى الْعَدْلِ مِمَّنْ أَوْجَبَ الْقِيمَةَ مِنْ غَيْرِ الْمِثْلِ وَفِي هَذَا كَانَتْ قِصَّةُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا: التَّنْبِيهُ. وَحِينَئِذٍ فَتَجْوِيزُ الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ بَيْعِهَا بِالْكَيْلِ مُوَافِقٌ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ مَعَ ثُبُوتِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَالِكٌ جَوَّزَ الْخَرْصَ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ وَهَذَا عَيْنُ الْفِقْهِ الصَّحِيحِ. وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: أَنَّهُ يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ فِي الصُّورَةِ كَمَا مَضَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ وَأَقْضِيَةُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ فِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشِ

ص: 352

وَقَضَتْ الصَّحَابَةُ فِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةِ وَفِي الظَّبْيِ بِشَاةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَمَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ إنَّمَا يُوجِبُ الْقِيمَةَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ وَأَنَّهُ يَشْتَرِي بِالْقِيمَةِ الْأَنْعَامَ وَالْقِيمَةُ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ.

فَصْلٌ:

وَلَمَّا كَانَ الْمُحَرَّمُ نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ لِعَيْنِهِ وَنَوْعٌ لِكَسْبِهِ؛ فَالْكَسْبُ الَّذِي هُوَ مُعَامَلَةُ النَّاسِ نَوْعَانِ: مُعَاوَضَةٌ؛ وَمُشَارَكَةٌ. فَالْمُبَايَعَةُ وَالْمُؤَاجَرَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ هِيَ الْمُعَاوَضَةُ. وَأَمَّا الْمُشَارَكَةُ فَمِثْلُ مُشَارَكَةِ الْعَنَانِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُشَارَكَاتِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمُشَارَكَاتِ مِنْ أَصَحِّ الْمَذَاهِبِ وَأَعْدَلِهَا؛ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ شَرِكَةَ الْعَنَانِ وَالْأَبْدَانِ وَغَيْرَهُمَا وَيُجَوِّزُ الْمُضَارَبَةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ. وَالشَّافِعِيُّ لَا يُجَوِّزُ مِنْ الشَّرِكَةِ إلَّا مَا كَانَ تَبَعًا لِشَرِكَةِ الْمِلْكِ؛ فَإِنَّ الشَّرِكَةَ نَوْعَانِ: شَرِكَةٌ فِي الْأَمْلَاكِ؛ وَشَرِكَةٌ فِي الْعُقُودِ. فَأَمَّا شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ كَاشْتِرَاكِ الْوَرَثَةِ فِي الْمِيرَاثِ فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى عَقْدٍ وَلَكِنْ إذَا

ص: 353

اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي عَقْدٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَحْصُلُ بِعَقْدِ وَلَا تَحْصُلُ الْقِسْمَةُ بِعَقْدِ. وَأَحْمَد تَحْصُلُ الشَّرِكَةُ عِنْدَهُ بِالْعَقْدِ وَالْقِسْمَةُ بِالْعَقْدِ فَيُجَوِّزُ شَرِكَةَ الْعَنَانِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَالَيْنِ وَعَدَمِ الِاخْتِلَاطِ وَإِذَا تَحَاسَبَ الشَّرِيكَانِ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ إفْرَازٍ كَانَ ذَلِكَ قِسْمَةً حَتَّى لَوْ خَسِرَ الْمَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تُجْبَرْ الْوَضِيعَةُ بِالرِّبْحِ. وَالشَّافِعِيُّ لَا يُجَوِّزُ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ وَلَا الْوُجُوهِ وَلَا الشَّرِكَةَ بِدُونِ خَلْطِ الْمَالَيْنِ وَلَا أَنْ يَشْتَرِطَ لِأَحَدِهِمَا رِبْحًا زَائِدًا عَلَى نَصِيبِ الْآخَرِ مِنْ مَالِهِ إذْ لَا تَأْثِيرَ عِنْدَهُ لِلْعَقْدِ وَجَوَّزَ الْمُضَارَبَةَ وَبَعْضَ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةَ تَبَعًا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ لَا لِوَفْقِ الْقِيَاسِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ نَفْسُهُ فَلَا يُجَوِّزُ مُسَاقَاةً وَلَا مُزَارَعَةً؛ لِأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمُؤَاجَرَةِ وَالْمُؤَاجَرَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ بِالْأُجْرَةِ. وَمَالِكٌ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْسَعُ مِنْهُمَا حَيْثُ جَوَّزَ الْمُسَاقَاةَ عَلَى جَمِيعِ الثِّمَارِ مَعَ تَجْوِيزِ الْأَنْوَاعِ مِنْ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي هِيَ شَرِكَةُ الْعَنَانِ وَالْأَبْدَانِ لَكِنَّهُ لَمْ يُجَوِّزْ الْمُزَارَعَةَ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ مُوَافَقَةً لِلْكُوفِيِّينَ. وَأَمَّا قُدَمَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هُمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَكَانُوا

ص: 354

يُجَوِّزُونَ هَذَا كُلَّهُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ؛ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ؛ وَمُحَمَّدٍ؛ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ. وَالشُّبْهَةُ الَّتِي مَنَعَتْ أُولَئِكَ الْمُعَامَلَةَ: أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ إجَارَةٌ وَالْإِجَارَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ بِقَدْرِ الْأُجْرَةِ ثُمَّ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْمُضَارَبَةَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ؛ إذْ الدَّرَاهِمُ لَا تُؤَجَّرُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ مِنْ نَفْسِ الْمُشَارَكَاتِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَقْصِدُ اسْتِيفَاءَ الْعَمَلِ كَمَا يَقْصِدُ اسْتِيفَاءَ عَمَلِ الْخَيَّاطِ وَالْخَبَّازِ وَالطَّبَّاخِ وَنَحْوِهِمْ وَأَمَّا فِي هَذَا الْبَابِ فَلَيْسَ الْعَمَلُ هُوَ الْمَقْصُودَ بَلْ هَذَا يَبْذُلُ نَفْعَ بَدَنِهِ وَهَذَا يَبْذُلُ نَفْعَ مَالِهِ لِيَشْتَرِكَا فِيمَا رَزَقَ اللَّهُ مِنْ رِبْحٍ فَإِمَّا يَغْنَمَانِ جَمِيعًا أَوْ يَغْرَمَانِ جَمِيعًا وَعَلَى هَذَا {عَامَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ أَنْ يَعْمُرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ} . وَاَلَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كِرَاءِ الْمُزَارَعَةِ فِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَغَيْرِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّيْثُ وَغَيْرُهُ؛ فَإِنَّهُ {نَهَى أَنْ يُكْرَى بِمَا تُنْبِتُ الماذيانات وَالْجَدَاوِلُ وَشَيْءٌ مِنْ التِّبْنِ} فَرُبَّمَا غَلَّ هَذَا وَلَمْ يَغُلَّ هَذَا فَنَهَى أَنْ يُعَيِّنَ الْمَالِكُ زَرْعَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا كَمَا نَهَى فِي الْمُضَارَبَةِ أَنْ يُعَيِّنَ الْعَامِلُ مِقْدَارًا مِنْ الرِّبْحِ وَرِبْحَ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ

ص: 355

لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْعَدْلَ فِي الْمُشَارَكَةِ. وَأَصْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَصَحُّ مِنْ أَصْلِ غَيْرِهِمْ الَّذِي يُوجِبُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَمَلٍ وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ وَقَدْ تَكُونُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِنْ الْمَالِ وَرِبْحِهِ: فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ فِي الْفَاسِدِ نَظِيرَ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الصَّحِيحِ فَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ ثَمَنًا وَأُجْرَةً وَجَبَ فِي الْفَاسِدِ قِسْطٌ مِنْ الرِّبْحِ كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْفَاسِدِ قِسْطًا مِنْ الرِّبْحِ وَكَذَلِكَ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَغَيْرِهِمَا. وَمَا يَضْعُفُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ قَوْلِ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ فِيهِ أَضْعَفُ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ مِنْ الرَّأْيِ الْمُحْدَثِ الَّذِي عَلِمَ بِهِ مَنْ عَابَهُ مِنْ السَّلَفِ وَأَمَّا مَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَالْعَمَلُ فَهُوَ الْعَدْلُ. وَمَنْ تَدَبَّرَ الْأُصُولَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَالْمُضَارَبَةَ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ؛ فَإِنَّ الْمُؤَاجَرَةَ مُخَاطَرَةٌ وَالْمُسْتَأْجِرَ قَدْ يَنْتَفِعُ وَقَدْ لَا يَنْتَفِعُ بِخِلَافِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْغُنْمِ وَالْغُرْمِ فَلَيْسَ فِيهَا مِنْ الْمُخَاطَرَةِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مَا فِي الْمُؤَاجَرَةِ.

ص: 356

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فَإِنَّ أَصْلَ الدِّينِ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ عَابَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَأَنَّهُمْ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مِنْ قَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ} الْآيَةَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ وَمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الشِّرْكِ وَذَمَّهُمْ عَلَى احْتِجَاجِهِمْ عَلَى بِدَعِهِمْ بِالْقَدَرِ قَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} الْآيَةَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَا حَرَّمُوهُ وَمَا شَرَعُوهُ وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} الْآيَةَ وَقَالَ:

ص: 357

{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} الْآيَةَ فَبَيَّنَ لَهُمْ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَمَا حَرَّمَهُ هُوَ وَقَالَ ذَمًّا لَهُمْ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ} الْآيَةَ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُحَرِّمَ إلَّا مَا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِتَحْرِيمِهِ وَإِلَّا فَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّحْرِيمِ. سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْأَعْيَانُ وَالْأَفْعَالُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْرَعَ دِينًا وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى وُجُوبِهِ وَاسْتِحْبَابِهِ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْظَمُ النَّاسِ اعْتِصَامًا بِهَذَا الْأَصْلِ؛ فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ أَهْلِ الْمَدَائِنِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَرَاهِيَةً لِلْبِدَعِ وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى مَا حَرَّمَهُ غَيْرُهُمْ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَهُمْ لَا يُحَرِّمُونَهُ. وَأَمَّا الدِّينُ فَهُمْ أَشَدُّ أَهْلِ الْمَدَائِنِ اتِّبَاعًا لِلْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَبْعَدُهُمْ عَنْ الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ. وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ مِنْهَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ اسْتَحَبُّوا لِلْمُتَوَضِّئِ وَالْمُغْتَسِلِ وَالْمُصَلِّي وَنَحْوِهِمْ أَنْ يَتَلَفَّظُوا بِالنِّيَّةِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَقَالُوا: إنَّ التَّلَفُّظَ بِهَا أَقْوَى مِنْ مُجَرَّدِ قَصْدِهَا بِالْقَصْدِ وَإِنْ كَانَ التَّلَفُّظُ بِهَا لَمْ يُوجِبْهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ لَمْ يَسْتَحِبُّوا شَيْئًا مِنْ

ص: 358

ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَلِأَصْحَابِ أَحْمَد وَجْهَانِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَصْحَابُهُ بَلْ كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَلَا يَقُولُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَذَلِكَ فِي تَعْلِيمِهِ لِلصَّحَابَةِ إنَّمَا عَلَّمَهُمْ الِافْتِتَاحَ بِالتَّكْبِيرِ فَهَذِهِ بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ وَهِيَ أَيْضًا غَلَطٌ فِي الْقَصْدِ فَإِنَّ الْقَصْدَ إلَى الْفِعْلِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ فِي النَّفْسِ فَالتَّلَفُّظُ بِهِ مِنْ بَابِ الْعَبَثِ كَتَلَفُّظِ الْآكِلِ بِنِيَّةِ الْأَكْلِ؛ وَالشَّارِبِ بِنِيَّةِ الشُّرْبِ؛ وَالنَّاكِحِ بِنِيَّةِ النِّكَاحِ؛ وَالْمُسَافِرِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ؛ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.

وَمِنْ ذَلِكَ " صِفَاتُ الْعِبَادَاتِ " فَإِنَّ مَالِكًا وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا يُجَوِّزُونَ تَغْيِيرَ صِفَةِ الْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ فَلَا يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِغَيْرِ التَّكْبِيرِ الْمَشْرُوعِ؛ وَهُوَ قَوْلُ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَمَا أَنَّ هَذَا التَّكْبِيرَ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الْأَذَانِ وَالْأَعْيَادِ وَلَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ الْمَقْصُودِ الْمَنْصُوصِ فِي الزَّكَاةِ إلَى مَا يَخْتَارُ الْمَالِكُ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالْقِيمَةِ. وَهُمْ فِي مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ حَيْثُ يَسْتَحِبُّونَ تَقْدِيمَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَيَجْعَلُونَ وَقْتَ الْعَصْرِ إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَهُوَ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَيَجْعَلُونَ وَقْتَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الْمَغْرِبِ مُشْتَرِكًا لِلْمَعْذُورِ كَالْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ وَالْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ

ص: 359

وَيُجَوِّزُونَ الْجَمْعَ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي جَدَّ بِهِ السَّيْرُ؛ وَالْمَرِيضِ؛ وَفِي الْمَطَرِ. وَهُمْ فِي صَلَاةِ السَّفَرِ مُعْتَدِلُونَ؛ فَإِنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَجْعَلُ الْإِتْمَامَ أَفْضَلَ مِنْ الْقَصْرِ أَوْ يَجْعَلُ الْقَصْرَ أَفْضَلَ لَكِنْ لَا يَكْرَهُ الْإِتْمَامَ بَلْ يَرَى أَنَّهُ الْأَظْهَرُ وَأَنَّهُ لَا يَقْصُرُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْإِتْمَامَ غَيْرَ جَائِزٍ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْقَصْرُ وَإِذَا رَبَّعَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَيَجْعَلُونَ الْقَصْرَ سُنَّةً رَاتِبَةً وَالْجَمْعَ رُخْصَةً عَارِضَةً. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَشْبَهُ الْأَقْوَالِ بِالسُّنَّةِ. وَكَذَلِكَ فِي " السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ " يَجْعَلُونَ الْوِتْرَ رَكْعَةً وَاحِدَةً وَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا شَفْعٌ. وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا وِتْرَ إلَّا كَالْمَغْرِبِ. مَعَ أَنَّ تَجْوِيزَ كِلَيْهِمَا أَصَحُّ؛ لَكِنَّ الْفَصْلَ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصْلِ. فَقَوْلُهُمْ أَرْجَحُ مِنْ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ مُطْلَقًا وَلَا يَرَوْنَ لِلْجُمُعَةِ قَبْلَهَا سُنَّةً رَاتِبَةً خِلَافًا لِمَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْكُوفِيِّينَ. وَمَالِكٌ لَا يُوَقِّتُ مَعَ الْفَرَائِضِ شَيْئًا وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ وَقَّتَ أَشْيَاءَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ فَقَوْلُ مَالِكٍ أَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ. وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَ الْجَمْعَ وَالْقَصْرَ لِلْحَاجِّ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَالْقَصْرَ

ص: 360

بِمِنَى سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهِمْ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَا رَيْبٍ وَهَذَا الْقَوْلُ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ إلَّا لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَأَضْعَفُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ إلَّا لِمَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ؛ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ لِلْجَمْعِ أَسْبَابًا غَيْرَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ؛ وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ كَمَا يَجُوزُ فِي الطَّوِيلِ أَقْوَى مِنْ قَوْلِ مَنْ لَا يُجَوِّزْهُ إلَّا فِي الطَّوِيلِ لَا فِي الْقَصِيرِ. وَظَنَّ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِمِنَى ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ} وَهَذَا بَاطِلٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا الَّذِي فِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَمَّا صَلَّى فِي مَكَّةَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَكَذَلِكَ قَدْ نَقَلُوا هَذَا عَنْ عُمَرَ. وَيُرْوَى أَنَّ الرَّشِيدَ لَمَّا حَجَّ أَمَرَ أَبَا يُوسُفَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ: أَتَقُولُ لَنَا هَذَا وَمِنْ عِنْدَنَا خَرَجَتْ السُّنَّةُ؟ وَقَالَ: هَذَا مِنْ فِقْهِك تَكَلَّمَ وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ.

ص: 361

وَهَذَا الْمَكِّيُّ وَافَقَ أَبَا يُوسُفَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ لَا يَقْصُرُونَ لَكِنْ مِنْ قِلَّةِ فِقْهِهِ تَكَلَّمَ وَتَكَلُّمُ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَيُبْطِلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَوْ كَانَ الْمَكِّيُّ عَالِمًا بِالسُّنَّةِ لَقَالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ بَلْ قَدْ صَلَّى صلى الله عليه وسلم بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَكَذَلِكَ صَلَّوْا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَأْمُرُوا مَنْ خَلْفَهُمْ مِنْ الْمَكِّيِّينَ بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ فِيهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

وَمِنْ ذَلِكَ " صَلَاةُ الْكُسُوفِ " فَإِنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَتْ السُّنَنُ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ صَلَّاهَا بِرُكُوعَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَاتَّبَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ هَذِهِ السُّنَّةَ وَخَفِيَتْ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ حَيْثُ مَنَعُوا ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ " صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ " فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ} وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَ أَنْ يُصَلِّيَ لِلِاسْتِسْقَاءِ وَخَفِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ.

وَمِنْ ذَلِكَ تَكْبِيرَاتُ الْعِيدِ الزَّوَائِدُ؛ فَإِنَّ غَالِبَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ تُوَافِقُ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْأُولَى سَبْعٌ بِتَكْبِيرَاتِ الِافْتِتَاحِ وَالْإِحْرَامِ وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسٌ.

ص: 362

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ هَلْ تُدْرَكُ بِرَكْعَةِ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ؟ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا إنَّمَا تُدْرَكُ بِرَكْعَةِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ: {مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ} وَقَالَ: {مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ} فَمَالِكٌ يَقُولُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ: إنَّمَا تُدْرَكُ بِرَكْعَةِ وَكَذَلِكَ إدْرَاكُ الصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ إدْرَاكُ الْوَقْتِ كَالْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ وَالْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يُعَلِّقُ الْإِدْرَاكَ فِي الْجَمِيعِ بِمِقْدَارِ التَّكْبِيرَةِ حَتَّى فِي الْجُمُعَة يَقُولُ: إذَا أَدْرَكَ مِنْهَا مِقْدَارَ تَكْبِيرَةٍ فَقَدْ أَدْرَكَهَا. وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد يُوَافِقَانِ مَالِكًا فِي الْجُمُعَةِ وَيَخْتَلِفُ قَوْلُهُمَا فِي غَيْرِهَا وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِمَا يُوَافِقُونَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي الْبَاقِي. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَ مَنْ وَافَقَ مَالِكًا فِي الْجَمِيعِ أَصَحُّ نَصًّا وَقِيَاسًا. وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى مَالِكٍ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ الصَّلَاةِ} وَلَيْسَ فِي هَذَا حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّجْدَةِ الرَّكْعَةُ كَمَا {قَالَ ابْنُ عُمَرَ: حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَهَا} وَنَظَائِرُهَا مُتَعَدِّدَةٌ.

ص: 363

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا صَلَّى نَاسِيًا لِجَنَابَتِهِ وَحَدَثِهِ ثُمَّ عَلِمَ أَعَادَ هُوَ وَلَمْ يُعِدْ الْمَأْمُومُ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعِيدُ الْجَمِيعُ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد وَالْمَنْصُوصُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ جَرَتْ لِأَبِي يُوسُفَ؛ فَإِنَّ الْخَلِيفَةَ اسْتَخْلَفَهُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا فَأَعَادَ وَلَمْ يَأْمُرْ النَّاسَ بِالْإِعَادَةِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: رُبَّمَا ضَاقَ عَلَيْنَا الشَّيْءُ فَأَخَذْنَا بِقَوْلِ إخْوَانِنَا الْمَدَنِيِّينَ مَعَ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فِيهَا خِلَافٌ كَثِيرٌ؛ لِكَوْنِ الْإِمَامَةِ شَرْطًا فِيهَا. وَطَرَدَ مَالِكٌ هَذَا الْأَصْلَ أَيْضًا فِي سَائِرِ خَطَأِ الْإِمَامِ فَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِاجْتِهَادِهِ فَتَرَكَ مَا يَعْتَقِدُ الْمَأْمُومُ وُجُوبَهُ مِثْلَ: أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ لَا يَرَى وُجُوبَ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ أَوْ لَا يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ الدَّمِ أَوْ مِنْ الْقَهْقَهَةِ؛ أَوْ مِنْ مَسِّ النِّسَاءِ وَالْمَأْمُومُ يَرَى وُجُوبَ ذَلِكَ: فَمَذْهَبُ مَالِكٍ صِحَّةُ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ. وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا يَصِحُّ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هُوَ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي

ص: 364

صِحَّتِهِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ} وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ صَلَّى بِاجْتِهَادِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنَفِّذُ حُكْمَهُ إذَا حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ؟ فالائتمام بِهِ أَوْلَى. وَالْمُنَازِعُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَهَذَا غَلَطٌ؛ فَإِنَّ الْإِمَامَ صَلَّى بِاجْتِهَادِهِ أَوْ تَقْلِيدِهِ وَأَنَّهُ إنْ كَانَ مُصِيبًا فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّهُ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ مَا زَالَ يُصَلِّي خَلْفَ بَعْضٍ مَعَ وُجُودِ مِثْلِ ذَلِكَ فَمَا زَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَمْثَالُهُ يُصَلُّونَ خَلْفَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ لَا يَقْرَءُونَ الْبَسْمَلَةَ سِرًّا وَلَا جَهْرًا. وَمِنْ الْمَأْثُورِ أَنَّ الرَّشِيدَ احْتَجَمَ فَاسْتَفْتَى مَالِكًا فَأَفْتَاهُ بِأَنَّهُ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ فَصَلَّى خَلْفَهُ أَبُو يُوسُفَ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد أَنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَقِيلَ لِأَبِي يُوسُفَ: أَتُصَلِّي خَلْفَهُ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْأَئِمَّةِ لِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالرَّافِضَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ هَذَا

ص: 365

فَأَفْتَى بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ؛ فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يَتَوَضَّأُ أُصَلِّي خَلْفَهُ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَلَا تُصَلِّي خَلْفَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَمَالِكٌ يَرَى أَنَّ كَلَامَ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ فِي الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا عَلَى حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ؛ وَحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ لَمَّا شَمَّتَ الْعَاطِسَ؛ وَحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ فِي الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالُوا: حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَ بَعْدَ خَيْبَرَ؛ إذْ قَدْ شَهِدَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا أَسْلَمَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَامَ خَيْبَرَ وَتَحْرِيمُ الْكَلَامِ كَانَ قَبْلَ رُجُوعِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ الْحَبَشَةِ وَابْنُ مَسْعُودٍ شَهِدَ بَدْرًا. وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّنْبِيهِ بِالْقُرْآنِ وَالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ التَّوَسُّعِ مَا يُوَافِقُ السُّنَّةَ بِخِلَافِ الْكُوفِيِّينَ: فَإِنَّهُمْ ضَيَّقُوا فِي هَذَا الْبَابِ تَضْيِيقًا كَثِيرًا وَجَعَلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْكَلَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

ص: 366

وَمِنْ ذَلِكَ فِي الطَّهَارَةِ أَنَّ مَالِكًا رَأَى الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَلَمْسِ النِّسَاءِ لِشَهْوَةِ دُونَ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْسِ النِّسَاءِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَدُونَ الْخَارِجِ النَّادِرِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ وَالْخَارِجِ النَّجِسِ مِنْ غَيْرِهِمَا. وَأَبُو حَنِيفَةَ رَآهَا مِنْ الْقَهْقَهَةِ وَالْخَارِجِ النَّجِسِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ مُطْلَقًا وَلَا يَرَاهَا مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَادِيثَ نَقْضِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ أَثْبَتُ وَأَعْرَفُ مِنْ أَحَادِيثِ الْقَهْقَهَةِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ مِنْهَا فِي السُّنَنِ شَيْئًا وَهِيَ مَرَاسِيلُ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْهَبْ إلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ؛ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا شَيْءٌ. وَالْوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ فِيهِ طَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ تَعَبُّدًا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَلَا يَكُونُ بَعِيدًا عَنْ الْأُصُولِ كَالْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَجْعَلُهُ تَعَبُّدًا؛ فَهُوَ حِينَئِذٍ أَظْهَرُ وَأَقْوَى. وَأَمَّا لَمْسُ النِّسَاءِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا وُضُوءَ مِنْهُ بِحَالِ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ - وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ

ص: 367

أَحْمَد -: أَنَّهُ إنْ كَانَ بِشَهْوَةِ نَقَضَ الْوُضُوءَ وَإِلَّا فَلَا وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ بِكُلِّ حَالٍ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلَ مَالِكٍ هُمَا الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ فِي السَّلَفِ وَأَمَّا إيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْ لَمْسِ النِّسَاءِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَقَوْلٌ شَاذٌّ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي أَثَرٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا هُوَ مُوَافِقٌ لِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ اللَّمْسَ الْعَارِيَ عَنْ شَهْوَةٍ لَا يُؤَثِّرُ لَا فِي الْإِحْرَامِ وَلَا فِي الِاعْتِكَافِ كَمَا يُؤَثِّرُ فِيهِمَا اللَّمْسُ مَعَ الشَّهْوَةِ وَلَا يُكْرَهُ لِصَائِمِ وَلَا يُوجِبُ مُصَاهَرَةً وَلَا يُؤَثِّرُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ فَمَنْ جَعَلَهُ مُفْسِدًا لِلطَّهَارَةِ فَقَدْ خَالَفَ الْأُصُولَ وقَوْله تَعَالَى {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} إنْ أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ فَقَطْ كَمَا قَالَهُ عُمَرُ وَغَيْرُهُ فَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ لَامَسْتُمْ فِي الْوُضُوءِ كَقَوْلِهِ فِي الِاعْتِكَافِ: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَالْمُبَاشَرَةُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا تُؤَثِّرُ هُنَاكَ؛ فَكَذَلِكَ هُنَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} . هَذَا مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَا زَالَ الرِّجَالُ يَمَسُّونَ النِّسَاءَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَوْ كَانَ الْوُضُوءُ مِنْ ذَلِكَ وَاجِبًا لَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ وَلَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُنْقَلُ وَيُؤْثَرُ.

ص: 368

وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ احْتَجَّ مَنْ احْتَجَّ عَلَى مَالِكٍ فِي مَسْأَلَةِ الْمَنِيِّ أَنَّ النَّاسَ لَا يَزَالُونَ يَحْتَلِمُونَ فِي الْمَنَامِ فَتُصِيبُ الْجَنَابَةُ أَبْدَانَهُمْ وَثِيَابَهُمْ فَلَوْ كَانَ الْغُسْلُ وَاجِبًا لَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِغَسْلِ مَا أَصَابَهُ مِنْ مَنِيٍّ لَا فِي بَدَنِهِ وَلَا فِي ثِيَابِهِ وَقَدْ أَمَرَ الْحَائِضَ أَنْ تَغْسِلَ دَمَ الْحَيْضِ مِنْ ثَوْبِهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ إصَابَةَ الْجَنَابَةِ ثِيَابَ النَّاسِ أَكْثَرُ مِنْ إصَابَةِ دَمِ الْحَيْضِ ثِيَابَ النِّسَاءِ فَكَيْفَ يُبَيِّنُ هَذَا لِلْحَائِضِ وَيَتْرُكُ بَيَانَ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْعَامِّ؟ مَعَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ وَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَغْسِلُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَثَبَتَ عَنْهَا أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهَا كَانَتْ تَفْرُكُهُ فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا أَيْضًا أَنَّ الْغُسْلَ يَكُونُ لِقَذَارَتِهِ كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: أَمِطْهُ عَنْك وَلَوْ بإذخرة فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ. فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ مُسْتَقِيمَةً فَمِثْلُهَا يُقَالُ فِي الْوُضُوءِ مِنْ لَمْسِ النِّسَاءِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَلَمْسِهِنَّ لِشَهْوَةِ فِي التوضي مِنْهُ اجْتِهَادٌ وَتَنَازُعٌ قَدِيمٌ وَأَمَّا لَمْسُهُنَّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَكَمَا تَرَى. وَكَذَلِكَ الِاغْتِسَالُ مِنْ الْجَنَابَةِ؛ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد بَلْ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْهُ: اتِّبَاعُ السُّنَّةِ فِيهِ؛ فَإِنَّ مَنْ نَقَلَ غُسْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم كَعَائِشَةَ وَمَيْمُونَةَ لَمْ يَنْقُلْ أَنَّهُ غَسَلَ بَدَنَهُ

ص: 369

كُلَّهُ ثَلَاثًا بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَتَخْلِيلِ أُصُولِ الشَّعْرِ حَثَا حَثْيَةً عَلَى شِقِّ رَأْسِهِ وَأَنَّهُ أَفَاضَ الْمَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى سَائِرِ بَدَنِهِ. وَاَلَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الثَّلَاثَ إنَّمَا ذَكَرُوهُ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ وَالسُّنَّةُ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ السُّنَّةُ فِي الْغُسْلِ التَّثْلِيثَ لَمْ يَكْفِهِ ذَلِكَ فَإِنَّ سَائِرَ الْأَعْضَاءِ فَوْقَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ.

وَمِنْ ذَلِكَ التَّيَمُّمُ؛ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَجِبُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ يَتَيَمَّمُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ. وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَهُوَ يُشْبِهُ الْآثَارَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالْمَأْثُورَةَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَلِهَذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَشْهُورُ فِيهِمَا عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُوجِبُونَ الزَّكَاةَ فِي مَالِ الْخَلِيطَيْنِ؛ كَمَالُ الْمَالِكِ الْوَاحِدِ وَيَجْعَلُونَ فِي الْإِبِلِ إذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةً فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتِ لَبُونٍ؛ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِكِتَابَ النَّبِيِّ

ص: 370

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّدَقَةِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَامَّةُ كُتُبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَاَلَّتِي كَانَتْ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَآلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهَا تُوَافِقُ هَذَا. وَمَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْكُوفِيِّينَ يَسْتَأْنِفُ الْفَرِيضَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَحْصُلُ لِلْخَلْطَةِ تَأْثِيرٌ وَمَعَهُمْ آثَارُ الِاسْتِئْنَافِ؛ لَكِنْ لَا تُقَاوِمُ هَذَا وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَهُوَ مَنْسُوخٌ كَمَا نُسِخَ مَا رُوِيَ فِي الْبَقَرِ أَنَّهَا تُزَكَّى بِالْغَنَمِ. وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ لَا وَقْصَ إلَّا فِي الْمَاشِيَةِ فَفِي النَّقْدَيْنِ مَا زَادَ فَبِحَسَبِهِ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ فِي الْآثَارِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَجْعَلُ الْوَقْصَ تَابِعًا لِلنِّصَابِ فَفِي النَّقْدَيْنِ عِنْدَهُ لَا زَكَاةَ فِي الْوَقْصِ كَمَا فِي الْمَاشِيَةِ. وَأَمَّا الْمُعَشَّرَاتُ فَعِنْدَهُ لَا وَقْصَ فِيهَا وَلَا نِصَابَ بَلْ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ فِي الْخَضْرَاوَاتِ لَكِنَّ صَاحِبَاهُ وَافَقَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ؛ لِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ. وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ} وَبِمَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ تَرْكِ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ مَعَ مَا رُوِيَ عَنْهُ: {لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ} . وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ الرِّكَازَ الَّذِي قَالَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم {وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ} لَا يَدْخُلُ الْمَعْدِنُ بَلْ الْمَعْدِنُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ

ص: 371

كَمَا أُخِذَتْ مِنْ مَعَادِنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ فَإِنَّ الْمُوَطَّأَ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَتَدَبَّرَ تَرَاجِمَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ الْآثَارِ وَتَرْتِيبَهُ عَلِمَ قَوْلَ مَنْ خَالَفَهَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَقَصَدَ بِذَلِكَ التَّرْتِيبِ وَالْآثَارِ بَيَانَ السُّنَّةِ وَالرَّدَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا وَمَنْ كَانَ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ أَعْلَمَ كَانَ أَعْلَمَ بِمِقْدَارِ الْمُوَطَّأِ؛ وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ: كِتَابٌ جَمَعْته فِي كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ تَأْخُذُونَهُ فِي كَذَا وَكَذَا يَوْمًا كَيْفَ تَفْقَهُونَ مَا فِيهِ؟ أَوْ كَلَامًا يُشْبِهُ هَذَا. وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يَجْعَلُونَ الرِّكَازَ اسْمًا يَتَنَاوَلُ الْمَعَادِنَ وَدَفْنَ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَكَذَلِكَ أُمُورُ الْمَنَاسِكِ فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا يَرَوْنَ لِلْقَارِنِ أَنْ يَطُوفَ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا وَلَا يَسْعَى إلَّا سَعْيًا وَاحِدًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلَّهَا تُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ. وَمَنْ صَارَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ إلَى أَنْ يَطُوفَ أَوَّلًا ثُمَّ يَسْعَى لِلْعُمْرَةِ ثُمَّ يَطُوفَ ثَانِيًا وَيَسْعَى لِلْحَجِّ فَمُتَمَسِّكٌ بِآثَارِ مَنْقُولَةٍ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَهَذَا إنْ صَحَّ لَا يُعَارِضُ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى الْقِرَانَ أَفْضَلَ؛ وَمَالِكٌ يَرَى الْإِفْرَادَ

ص: 372

أَفْضَلَ وَعُلَمَاءُ الْحَدِيثِ لَا يَرْتَابُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. قِيلَ: هَذِهِ الْمَسَائِلُ كَثُرَ نِزَاعُ النَّاسِ فِيهَا وَاضْطَرَبَ عَلَيْهِمْ مَا نُقِلَ فِيهَا وَمَا مِنْ طَائِفَةٍ إلَّا وَقَدْ قَالَتْ فِيهَا قَوْلًا مَرْجُوحًا وَالتَّحْقِيقُ الثَّابِتُ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَجَّ بِأَصْحَابِهِ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلَمَّا لَمْ يَحْلِلْ تَوَقَّفُوا فَقَالَ: لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً} وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ. فَاَلَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ وَإِنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ أَفْضَلُ لَهُ هَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سُفْرَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَمَّا إذَا سَافَرَ لِلْحَجِّ سُفْرَةً وَلِلْعُمْرَةِ سُفْرَةً فَالْإِفْرَادُ أَفْضَلُ لَهُ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ إذَا سَافَرَ لِكُلِّ مِنْهُمَا سُفْرَةً وَالْقِرَانُ الَّذِي فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ بِطَوَافِ وَاحِدٍ وَبِسَعْيٍ وَاحِدٍ لَمْ يَقْرِنْ بِطَوَافَيْنِ وسعيين كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ يَظُنُّهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُفْرِدْ الْحَجَّ كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَلَا اعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إلَّا عَائِشَةُ لِأَجْلِ عُمْرَتِهَا الَّتِي حَاضَتْ فِيهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ

ص: 373

صَحَّ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ: إحْدَاهُنَّ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَمْ يَحِلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إحْرَامِهِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد. وَمَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْمُحْصَرَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ صُدُّوا عَنْ الْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَطَائِفَةٌ مِمَّنْ مَعَهُ لَمْ يَعْتَمِرُوا وَجَمِيعُ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ كَانُوا أَكْثَرَ مَنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَهُمْ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ مَاتَ قَبْلَ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ. وَمَذْهَبُهُمْ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِأَحَدِ بَلْ يُكْرَهُ أَنْ يَحْرِمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ الْمَكَانِيِّ وَالْكُوفِيُّونَ يَسْتَحِبُّونَ الْإِحْرَامَ قَبْلَهُ. وَقَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُوَافِقُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرٍ قَبْلَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ: عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ وَكِلَاهُمَا أَحْرَمَ فِيهِمَا مِنْ ذِي الحليفة وَاعْتَمَرَ عَامَ حنين مِنْ الْجِعْرَانَةِ ثُمَّ حِجَّةَ الْوَدَاعِ وَأَحْرَمَ فِيهَا مِنْ ذِي الحليفة وَلَمْ يُحْرِمْ مِنْ الْمَدِينَةِ قَطُّ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُدَاوِمَ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ وَخُلَفَاؤُهُ

ص: 374

كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ نَهَوْا عَنْ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ. وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ؟ فَقَالَ: أَخَافُ عَلَيْهِ مِنْ الْفِتْنَةِ فَقَالَ: قَالَ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} فَقَالَ السَّائِلُ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا هِيَ زِيَادَةُ امْتِثَالٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَظُنَّ أَنَّك خَصَصْت بِفِعْلِ لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَوْ كَمَا قَالَ. وَكَانَ يَقُولُ: لَنْ يُصْلِحَ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا أَوْ كُلَّمَا جَاءَنَا رَجُلٌ أَجْدَلُ مِنْ رَجُلٍ تَرَكْنَا مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ بِجَدَلِ هَذَا؟ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إنْ وَطِئَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ فَسَدَ حَجُّهُ وَمَنْ وَطِئَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ دُونَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْوَطْءَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ لَا يُفْسِدُ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْوَطْءَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ لَا يُوجِبُ إحْرَامًا ثَانِيًا. وَاتَّبَعَ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَهُ فِي مُوَطَّئِهِ؛ لَكِنْ لَمْ يُسَمِّ مَنْ نَقَلَهُ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ إذْ الرَّاوِي لَهُ عِكْرِمَةُ لَمَّا بَلَغَهُ فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَعْدٍ وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَمَّهُ تَوْثِيقَ عِكْرِمَةَ وَلِهَذَا رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ خَالَفَ حَدِيثَ ضباعة بِنْتِ الزُّبَيْرِ فِي اشْتِرَاطِهَا

ص: 375

التَّحَلُّلَ إذَا حَبَسَهَا حَابِسٌ {وَحَدِيثَ عَائِشَةَ فِي تَطْيِيبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ إحْرَامِهِ وَقَبْلَ طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ} {وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَنَّهُ مَا زَالَ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ} وَغَيْرَ ذَلِكَ؟ قِيلَ: إذَا قِيسَ هَذَا بِمَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَنَحْوُهُ كَانَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مَعَ أَنَّهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ اتَّبَعَ فِيهَا آثَارًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ عِنْدَ تَنَازُعِ الصَّحَابَةِ الرَّدَّ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ بَعْضُ السُّنَّةِ فَاتَّبَعَ عُمَرَ وَابْنَ عُمَرَ وَنَحْوَهُمَا كَانَ أَرْجَحَ مِمَّا خَفِيَ عَنْهُ أَكْثَرُ مِمَّا خَفِيَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَفٌ مِثْلُ سَلَفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

وَمِنْ ذَلِكَ حَرَمُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ قَدْ تَوَاتَرَتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ بِإِثْبَاتِ حَرَمِهَا بَلْ صَحَّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ جَعَلَ جَزَاءَ مَنْ عَضَدَ بِهَا شَجَرًا أَنَّ سَلَبَهُ لِوَاجِدِهِ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهَا حَرَامٌ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ نِزَاعٌ وَمَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ لَمْ تَبْلُغْهُ هَذِهِ السُّنَنُ؛ وَلَكِنَّ بَعْضَ أَتْبَاعِهِمْ أَخَذَ يُعَارِضُ ذَلِكَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عُمَيْرٍ؛ وَحَدِيثِ الْوَحْشِ؛ وَهَذِهِ لَوْ كَانَتْ تُقَاوِمُ ذَلِكَ فِي الصِّحَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُعَارَضَ بِهَا لَكِنَّ تِلْكَ مُتَوَاتِرَاتٌ وَحَدِيثُ أَبِي عُمَيْرٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ

ص: 376

الصَّيْدَ صِيدَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ ثُمَّ أُدْخِلَ إلَيْهَا كَذَلِكَ حَدِيثُ الْوَحْشِ إنْ صَحَّ. وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُمَا مُتَعَارِضَانِ فَكَانَ مِثْلَ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ لِأَنَّ أَحَادِيثَ الْحَرَمِ رَوَاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَنَحْوُهُ مِمَّنْ صُحْبَتُهُ مُتَأَخِّرَةٌ؛ وَأَمَّا دُخُولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ فَكَانَ مِنْ أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ أَوْ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ أَحَدُهُمَا نَاقِلٌ عَنْ الْأَصْلِ وَالْآخَرُ نَافٍ مُبْقٍ لِحُكْمِ الْأَصْلِ كَانَ النَّاقِلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إذَا قُدِّمَ النَّاقِلُ لَمْ يَلْزَمْ تَعْيِينُ الْحُكْمِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِذَا قُدِّمَ الْمُبْقِي تَغَيَّرَ الْحُكْمُ مَرَّتَيْنِ. فَلَوْ قِيلَ: إنَّ حَدِيثَ أَبِي عُمَيْرٍ بَعْدَ أَحَادِيثِ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ لَكَانَ قَدْ حَرَّمَهُ ثُمَّ أَحَلَّهُ وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ إلَّا كَوْنُهُ قَدْ حَرَّمَهُ بَعْدَ التَّحْلِيلِ وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الْمُنَاكَحُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنِكَاحِ الشِّغَارِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ مِمَّنْ لَمْ يُبْطِلْ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ} ،

ص: 377

وَثَبَتَ عَنْ أَصْحَابِهِ كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ نَهَوْا عَنْ التَّحْلِيلِ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ الرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِأُصُولِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. فَإِنَّ مِنْ أُصُولِهِمْ أَنَّ القصود فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ كَمَا يَجْعَلُونَ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ كَالشَّرْطِ الْمُقَارَنِ وَيَجْعَلُونَ الشَّرْطَ الْعُرْفِيَّ كَالشَّرْطِ اللَّفْظِيِّ. وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأُصُولِ أَبْطَلُوا نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ وَخُلْعَ الْيَمِينِ الَّذِي يُفْعَلُ حِيلَةً لِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَأَبْطَلُوا الْحِيَلَ الَّتِي يُسْتَحَلَّ بِهَا الرِّبَا وَأَمْثَالَ ذَلِكَ. وَمَنْ نَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ. وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَلْغَى النِّيَّاتِ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ وَجَعَلَ الْقَصْدَ الْحَسَنَ كَالْقَصْدِ السَّيِّئِ وَسَوَّغَ إظْهَارَ أَعْمَالٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَلَا قَصْدٍ بَلْ هِيَ نَوْعٌ مِنْ النِّفَاقِ وَالْمَكْرِ كَمَا قَالَ أَيُّوبُ السختياني يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ لَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ. وَالْبُخَارِيُّ قَدْ أَوْرَدَ فِي صَحِيحِهِ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْحِيَلِ وَمَا زَالَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي الْكِتَابِ الْمُفْرَدِ. وَنِكَاحُ الشِّغَارِ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ

ص: 378

وَجْهٍ النَّهْيُ عَنْهُ وَلَكِنْ مَنْ صَحَّحَهُ مِنْ الْكُوفِيِّينَ رَأَى أَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِيهِ إلَّا عَدَمُ إعْلَامِ الْمَهْرِ وَالنِّكَاحُ يَصِحُّ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُبْطِلُونَ لَهُ لَهُمْ مَأْخَذَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَأْخَذَهُ جَعْلُ بُضْعِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مَهْرَ الْأُخْرَى فَيَلْزَمُ التَّشْرِيكُ فِي الْبُضْعِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد. وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يُبْطِلُونَهُ إلَّا أَنْ يُسَمَّى مَهْرًا؛ لِأَنَّهُ مَعَ تَسْمِيَتِهِ انْتَفَى التَّشْرِيكُ فِي الْبُضْعِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُبْطِلُهُ إلَّا بِقَوْلِ: وَبُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مَهْرٌ لِلْأُخْرَى؛ لِكَوْنِهِ إذَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ جَعْلُ الْبُضْعِ مَهْرًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يُبْطِلُهُ مُطْلَقًا كَمَا جَاءَ عَنْهُ بِذَلِكَ حَدِيثٌ مُصَرِّحٌ بِهِ فِي السُّنَنِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّ بُطْلَانَهُ لِاشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمَهْرِ وَفَرْقٌ بَيْنَ السُّكُوتِ عَنْ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ وَبَيْنَ اشْتِرَاطِ الْمَهْرِ؛ فَإِنَّ هَذَا النِّكَاحَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى هَذَا فَلَوْ سَمَّى الْمَهْرَ بِمَا يَعْلَمَانِ تَحْرِيمَهُ كَخَمْرِ وَخِنْزِيرٍ بَطَلَ النِّكَاحُ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَأَشْبَهُ بِقِيَاسِ الْأُصُولِ.

وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْحَامِلِ أَوْ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ الزِّنَا بَاطِلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ

ص: 379

وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْآثَارِ وَالْقِيَاسِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الْمَاءُ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ. وَقَدْ خَالَفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فَجَوَّزَ الْعَقْدَ دُونَ الْوَطْءِ وَالشَّافِعِيُّ جَوَّزَهُمَا. وَأَحْمَد وَافَقَهُ وَزَادَ عَلَيْهِ؛ فَلَمْ يُجَوِّزْ نِكَاحَ الزَّانِيَةِ حَتَّى تَتُوبَ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ. وَأَمَّا مَنْ ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَطْءُ فَفَسَادُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ تَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ كَاَلَّتِي تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا؛ أَوْ الَّتِي وُطِئَتْ بِشُبْهَةِ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ لَا يَتَدَاخَلَانِ؛ بَلْ تَعْتَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَأَبُو حَنِيفَةَ قَالَ بِتَدَاخُلِهِمَا. وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي: هَلْ تَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ؟ وَهُوَ الَّذِي يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ مَنْ يُصِيبُهَا ثُمَّ تَعُودُ إلَى الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّهَا تَعُودُ عَلَى مَا بَقِيَ عِنْدَ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكَابِرِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَمْثَالِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَإِنَّمَا قَالَ لَا تَعُودُ عَلَى مَا بَقِيَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.

ص: 380

وَكَذَلِكَ فِي الْإِيلَاءِ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يُوقَفُ إمَّا أَنْ يَفِيَ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ. وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْأُصُولُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ عَزْمَ الطَّلَاقِ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ فَإِذَا انْقَضَتْ وَلَمْ يَفِ طَلُقَتْ وَغَايَةُ مَا يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إنْ صَحَّ عَنْهُ.

وَمَسْأَلَةُ الرَّجْعَةِ بِالْفِعْلِ كَمَا إذَا طَلَّقَهَا: فَهَلْ يَكُونُ الْوَطْءُ رَجْعَةً؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: يَكُونُ رَجْعَةً كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّالِثُ: يَكُونُ رَجْعَةً مَعَ النِّيَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ مَالِكٍ وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ وَالْأَحْكَامُ فَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْقَوَدَ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ وَكَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ بَلْ بَالَغَ مَالِكٌ حَتَّى أَنْكَرَ الْخَطَأَ شِبْهَ

ص: 381

الْعَمْدِ وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ لِهَجْرِ الشِّبْهِ لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ مِنْ الْخَطَأِ امْتَازَ بِمَزِيدِ حُكْمٍ فَلَيْسَ هُوَ قِسْمًا مِنْ الْخَطَأِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ وَالذِّمِّيِّ وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ لِلنَّاسِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: يُقْتَلُ بِهِ بِكُلِّ حَالٍ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَالثَّانِي: لَا يُقْتَلُ بِهِ بِحَالِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَالثَّالِثُ: لَا يُقْتَلُ بِهِ إلَّا فِي الْمُحَارَبَةِ؛ فَإِنَّ الْقَتْلَ فِيهَا حَدٌّ لِعُمُومِ الْمَصْلَحَةِ فَلَا تَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمُكَافَأَةُ بَلْ يُقْتَلُ فِيهِ الْحُرُّ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ عَبْدًا وَالْمُسْلِمُ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ ذِمِّيًّا. وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِأَحْمَدَ وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمُحَارَبِينَ وَغَيْرِهِمْ إجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الرَّدْءِ وَالْمُبَاشِرِ كَمَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ. وَمَنْ نَازَعَهُ فِي هَذَا سَلَّمَ أَنَّ الْمُشْتَرِكِينَ فِي الْقَتْلِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَوَدُ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ كَمَا قَالَ عُمَرُ لَوْ تَمَالَأَ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتهمْ بِهِ فَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ مُبَاشِرِينَ فَلَا نِزَاعَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ مُبَاشِرٍ لَكِنَّهُ مُتَسَبِّبٌ سَبَبًا يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ غَالِبًا: كَالْمُكْرَهِ وَشَاهِدِ الزُّورِ إذَا رَجَعَ وَالْحَاكِمِ الْجَائِرِ إذَا رَجَعَ: فَقَدْ سَلَّمَ لَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْقَوَدَ يَجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ

ص: 382

فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ رَجَعَا وَقَالَا: أَخْطَأْنَا قَالَ: " لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْت أَيْدِيَكُمَا " فَدَلَّ عَلَى قَطْعِ الْأَيْدِي بِالْيَدِ وَعَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى شَاهِدِ الزُّورِ. وَالْكُوفِيُّونَ يُخَالِفُونَ فِي هَذَيْنِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه جَعَلَ رَقَبَةَ الْمُحَارَبِينَ بَيْنَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْمُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مُشْتَرِكِينَ فِي الْعُقُوبَةِ أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَفْظًا وَمَعْنًى مِمَّنْ لَمْ يُوجِبْ الْعُقُوبَةَ إلَّا عَلَى نَفْسِ الْمُبَاشِرِ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَتَّبِعُونَ مَا خَطَبَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ: الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مَنْ زَنَى مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إذَا أُحْصِنَّ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ. كَذَلِكَ يَحُدُّونَ فِي الْخَمْرِ بِمَا إذَا وُجِدَ سكرانا أَوْ تَقَيَّأَ؛ أَوْ وُجِدَتْ مِنْهُ الرَّائِحَةُ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَرَوْنَ الْحَدَّ إلَّا بِإِقْرَارِ أَوْ بَيِّنَةٍ عَلَى الْفِعْلِ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ شُبْهَةٌ وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَوَّلَ أَشْبَهُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 383

وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَهُوَ حِفْظٌ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِحِفْظِهَا وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا كَالشُّبْهَةِ فِي الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ وَالْخَطَأَ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَ " الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةَ " مَشْرُوعَةٌ حَيْثُ مَضَتْ بِهَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ كَمَا أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ حَيْثُ مَضَتْ بِهَا السُّنَّةُ وَقَدْ أَنْكَرَ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةَ مَنْ أَنْكَرَهَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ وَادَّعَوْا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَمِنْ أَيْنَ يَأْتُونَ عَلَى نَسْخِهَا بِحُجَّةِ؟ وَهَذَا يَفْعَلُونَهُ كَثِيرًا إذَا رَأَوْا حَدِيثًا صَحِيحًا يُخَالِفُ قَوْلَهُمْ وَأَمَّا عُلَمَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعُلَمَاءُ الْحَدِيثِ فَرَأَوْا السُّنَنَ وَالْآثَارَ قَدْ جَاءَتْ بِالْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ كَمَا جَاءَتْ بِالْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ: مِثْلَ كَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ وَشَقِّ ظُرُوفِهَا وَتَحْرِيقِ حَانُوتِ الْخَمَّارِ كَمَا صَنَعَ مُوسَى بِالْعِجْلِ وَصَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْأَصْنَامِ وَكَمَا أَمَرَ عليه السلام عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو بِتَحْرِيقِ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ وَكَمَا أَمَرَهُمْ عليه السلام بِكَسْرِ الْقُدُورِ الَّتِي فِيهَا لَحْمُ الْحُمُرِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فِي غَسْلِهَا وَكَمَا ضُعِّفَ الْقَوَدُ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ غُرْمُ الضَّالَّةِ الْمَكْتُومَةِ وَضِعْفَ ثَمَنِ دِيَةِ الذِّمِّيِّ الْمَقْتُولِ عَمْدًا. وَكَذَلِكَ مَذْهَبُهُمْ فِي " الْعُقُودِ وَالدِّيَاتِ " مِنْ أَصَحِّ الْمَذَاهِبِ فَمِنْ

ص: 384

ذَلِكَ دِيَةُ الذِّمِّيِّ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: دِيَتُهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: دِيَتُهُ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا قِيلَ؛ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ دِيَتَهُ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ: أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ ذَلِكَ الْعَاقِلَةُ تَحْمِلُ جَمِيعَ الدِّيَةِ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ أَوْ تَحْمِلُ الْمُقَدَّرَاتِ كَدِيَةِ الْمُوضِحَةِ وَالْأَصَابِعِ فَمَا فَوْقَهَا كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْ تَحْمِلُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَهَذَا الثَّالِثُ هُوَ الْمَأْثُورُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَفِي الثُّلُثِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد. وَيُذْكَرُ أَنَّهُ تَنَاظَرَ مَدَنِيٌّ وَكُوفِيٌّ فَقَالَ الْمَدَنِيُّ لِلْكُوفِيِّ: قَدْ بُورِكَ لَكُمْ فِي الرُّبُعِ كَمَا تَقُولُ: يُمْسَحُ رُبُعُ الرَّأْسِ وَيُعْفَى عَنْ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ عَنْ رُبُعِ الْمَحَلِّ وَكَمَا تَقُولُونَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ الْكُوفِيُّ: وَأَنْتُمْ بُورِكَ لَكُمْ فِي الثُّلُثِ كَمَا تَقُولُونَ: إذَا نَذَرَ صَدَقَةَ مَالِهِ أَجْزَأَهُ الثُّلُثُ؛ وَكَمَا تَقُولُونَ: الْعَاقِلَةُ تَحْمِلُ مَا فَوْقَ الثُّلُثِ وَعَقْلُ الْمَرْأَةِ كَعَقْلِ الرَّجُلِ إلَى الثُّلُثِ فَإِذَا زَادَتْ كَانَتْ عَلَى النِّصْفِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَهَذَا صَحِيحٌ؛ وَلَكِنْ يُقَالُ لِلْكُوفِيِّ: لَيْسَ فِي الرُّبُعِ أَصْلٌ لَا

ص: 385

فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَإِنَّمَا قَالُوا: الْإِنْسَانُ لَهُ أَرْبَعُ جَوَانِبَ وَيُقَالُ: رَأَيْت الْإِنْسَانَ إذَا رَأَيْت أَحَدَ جَوَانِبِهِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ فَيُقَامُ الرُّبُعُ مَقَامَ الْجَمِيعِ. وَأَمَّا الثُّلُثُ فَلَهُ أَصْلٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَرِيضَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ لَا أَكْثَرَ كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا عَادَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَكَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ فِي الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةً مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَجَزَّأَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَكَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي لُبَابَةَ " يَجْزِيك الثُّلُثُ " وَكَمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ وَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْقُرْعَةُ فِيهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسِتَّةُ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا هَذَا الْحَدِيثُ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يستهموا عَلَيْهِ} . وَمِنْهَا: {إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ} وَمِنْهَا أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يستهمون عَلَى الْمُهَاجِرِينَ لَمَّا هَاجَرُوا إلَيْهِمْ وَمِنْهَا فِي الْمُتَدَاعِيَيْنِ اللَّذَيْنِ أَمَرَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِينِ حَبَّا أَمْ كَرِهَا وَمِنْهَا فِي {اللَّذَيْنِ

ص: 386

اخْتَصَمَا فِي مَوَارِيثَ دُرِسَتْ فَقَالَ لَهُمَا: تَوَخَّيَا الْحَقَّ وَاسْتَهِمَا وَلْيَحْلِلْ كُلٌّ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ} . وَالْقُرْعَةُ يَقُولُ بِهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَمَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْكُوفِيِّينَ لَا يَقُولُ بِهَا بَلْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: الْقُرْعَةُ قِمَارٌ وَجَعَلُوهَا مِنْ الْمَيْسِرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقُرْعَةِ الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْمَيْسِرِ الَّذِي حَرَّمَهُ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ؛ فَإِنَّ الْقُرْعَةَ إنَّمَا تَكُونُ مَعَ اسْتِوَاءِ الْحُقُوقِ وَعَدَمِ إمْكَانِ تَعْيِينِ وَاحِدٍ وَعَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ مُعَيَّنًا كَالْمُشْتَرَكِينَ إذَا عُدِمَ الْمَقْسُومُ فَيُعَيَّنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِالْقَرْعَةِ وَكَالْعَبِيدِ الَّذِينَ جَزَّأَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ وَكَالنِّسَاءِ اللَّاتِي يُرِيدُ السَّفَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَهَذَا لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْقُرْعَةِ أَنَّهُ يُقْرَعُ فِيهِ. وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ الْمُعَيَّنُ مُسْتَحَقًّا فِي الْبَاطِنِ كَقِصَّةِ يُونُسَ والمتداعيين وَكَالْقُرْعَةِ فِيمَا إذَا أَعْتَقَ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ أُنْسِيَهُ وَفِيمَا إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ ثُمَّ أُنْسِيَهَا أَوْ مَاتَ: أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الْقُرْعَةُ فِيهَا نِزَاعٌ وَأَحْمَد يُجَوِّزُ ذَلِكَ دُونَ الشَّافِعِيِّ.

ص: 387

فَصْلٌ:

وَمَذْهَبُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ أَنَّهُمْ يُرَجِّحُونَ جَانِبَ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَيَجْعَلُونَ الْيَمِينَ فِي جَانِبِهِ فَيَقْضُونَ بِالشَّاهِدِ وَيَمِينِ الطَّالِبِ فِي الْحُقُوقِ وَفِي الْقَسَامَةِ يَبْدَءُونَ بِتَحْلِيفِ الْمُدَّعِينَ فَإِنْ حَلَفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا اسْتَحَقُّوا الدَّمَ. وَالْكُوفِيُّونَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ إلَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا يُحَلِّفُونَ الْمُدَّعِي لَا فِي قَسَامَةٍ وَلَا فِي غَيْرِهَا وَلَا يَقْضُونَ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ وَلَا يَرَوْنَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي. وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّحِيحَةَ تُوَافِقُ مَذْهَبَ الْمَدَنِيِّينَ؛ فَإِنَّ حَدِيثَ الْقَسَامَةِ صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِيهِ وَقَدْ {قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْأَنْصَارِ: تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ} وَكَانَ الشَّافِعِيُّ وَنَحْوُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ إذَا نَاظَرُوا عُلَمَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَأَبِي الزِّنَادِ وَغَيْرِهِ فِي الْقَسَامَةِ؛ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِالسُّنَّةِ الَّتِي لَا مَنْدُوحَةَ لَأَحَدٍ عَنْ قَبُولِهَا وَيَقُولُونَ لَهُمْ: إنَّ السُّنَّةَ وَوُجُوهَ الْحَقِّ لَتَأْتِي عَلَى خِلَافِ الرَّأْيِ: فَلَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِنْ قَبُولِهَا. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ مَرْوِيٍّ بِإِسْنَادِ.

ص: 388

وَكَذَلِكَ ‌

" مَسْأَلَةُ الْحُكْمِ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ "

فِيهَا أَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَكَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ مِمَّا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد لَمَّا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَرَى أَنَّ مَنْ حَكَمَ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ نُقِضَ حُكْمُهُ انْتَصَرَ لِهَذِهِ السُّنَّةِ الْعُلَمَاءُ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ. فَمَالِكٌ بَحَثَ فِيهَا فِي مُوَطَّئِهِ بَحْثًا لَا يُعَدُّ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " بَحَثَ فِيهَا نَحْوَ عَشْرِ أَوْرَاقٍ وَكَذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ. وَلَيْسَ مَعَ الْكُوفِيِّينَ إلَّا مَا يَرْوُونَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ} . وَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ فِي السُّنَنِ وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَاهُ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْأَحَادِيثِ وَلَكِنْ فِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ} وَهَذَا اللَّفْظُ إمَّا أَنْ يُقَالَ: لَا عُمُومَ فِيهِ؛ بَلْ اللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ وَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذْ لَيْسَ مَعَ الْمُدَّعِي إلَّا مُجَرَّدُ الدَّعْوَى كَمَا قَالَ: لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ وَمَنْ يُحَلِّفُ الْمُدَّعِيَ لَا يُحَلِّفُهُ مَعَ مُجَرَّدِ الدَّعْوَى بَلْ إنَّمَا يُحَلِّفُهُ إذَا قَامَتْ حُجَّةٌ يَرْجَحُ بِهَا جَانِبُهُ كَالشَّاهِدِ فِي الْحُقُوقِ وَالْإِرْثِ فِي الْقَسَامَةِ إنْ قِيلَ: هُوَ عَامٌّ فَالْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ. وَاحْتِجَاجُهُمْ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الشَّاهِدَيْنِ وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ

ص: 389

ضَعِيفٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ دُونَ الْحُكْمِ بِهَا؛ وَلَوْ كَانَ فِي الْحُكْمِ فَالْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ الْمُجَرَّدَةِ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى ذَلِكَ وَمَنْ حَلَفَ مَعَ الشَّاهِدِ لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الشَّهَادَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ. ثُمَّ الْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يُحْكَمُ بِلَا شَهَادَةٍ أَصْلًا بَلْ بِالنُّكُولِ أَوْ الرَّدِّ وَأَنَّهُ يُحْكَمُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ فِي مَوَاضِعَ فَكَيْفَ يُحْكَمُ مَعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُخَالِفِ لِلْقُرْآنِ؟ فَكَيْفَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ؟ ثُمَّ مَالِكٌ يُوجِبُ الْقَوَدَ فِي الْقَسَامَةِ وَيُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا الْتَعَنَ الرَّجُلُ وَلَمْ تَلْتَعِنْ الْمَرْأَةُ وَالشَّافِعِيُّ يُقِيمُ الْحَدَّ وَلَا يَقْتُلُ مِنْ الْقَسَامَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَأَحْمَد يُوَافِقُ عَلَى الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ دُونَ حَدِّ الْمَرْأَةِ بَلْ يَحْبِسُهَا إذَا لَمْ تَلْتَعِنْ وَيُخَلِّيهَا. وَظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُوَافِقُ قَوْلَ مَالِكٍ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَ‌

‌ قَتْلَ اللُّوطِيِّ

الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ؛ مُحْصَنَيْنِ كَانَا أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَاتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَمَنْ قَالَ لَا قَتْلَ عَلَيْهِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ فَلَا سُنَّةَ مَعَهُ وَلَا أَثَرَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ قَالَ رَبِيعَةُ لِلْكُوفِيِّ الَّذِي نَاظَرَهُ أَيُجْعَلُ مَا لَا يَحِلُّ بِحَالِ كَمَا يُبَاحُ بِحَالِ

ص: 390

دُونَ حَالٍ؟ وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِذَلِكَ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَى فِي التُّهَمِ كَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ يُرَاعُونَ فِيهَا حَالَ الْمُتَّهَمِ: هَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ أَمْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ؟ وَيَرَوْنَ عُقُوبَةَ مَنْ ظَهَرَتْ التُّهْمَةُ فِي حَقِّهِ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ صَنَّفَ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ذَكَرُوا فِي عُقُوبَةِ مِثْلَ هَذَا هَلْ يُعَاقِبُهُ الْوَالِي وَالْقَاضِي أَمْ يُعَاقِبُهُ الْوَالِي؟ قَوْلَانِ. وَكَمَا يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ مَنْ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ سَوَاءٌ كَانَ وَالِيًا أَوْ قَاضِيًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَدْ غَلِطَ وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْوِلَايَةِ لِكَوْنِ هَذَا وَلِيٍّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ دُونَ هَذَا فَهَذَا مُتَوَجِّهٌ. وَهَذَا كَمَا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ خِطَابِ بَعْضِ أَتْبَاعِ الْكُوفِيِّينَ وَفِي تَصَانِيفِهِمْ إذَا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ مُحْتَجٌّ بِمَنْ قَتَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَمَرَ بِقَتْلِهِ؛ كَقَتْلِهِ الْيَهُودِيَّ الَّذِي رَضَّ رَأْسَ الْجَارِيَةِ وَكَإِهْدَارِهِ لِدَمِ السَّابَّةِ الَّتِي سَبَّتْهُ وَكَانَتْ مُعَاهَدَةً وَكَأَمْرِهِ بِقَتْلِ اللُّوطِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالُوا: هَذَا يَعْمَلُهُ سِيَاسَةً فَيُقَالُ. لَهُمْ: هَذِهِ السِّيَاسَةُ: إنْ قُلْتُمْ هِيَ مَشْرُوعَةٌ لَنَا فَهِيَ حَقٌّ؛ وَهِيَ سِيَاسَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِنْ قُلْتُمْ: لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً لَنَا فَهَذِهِ مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ. ثُمَّ قَوْلُ الْقَائِلِ بَعْدَ هَذَا سِيَاسَةٌ: إمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ النَّاسَ

ص: 391

يُسَاسُونَ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ أَمْ هَذِهِ السِّيَاسَةُ مِنْ غَيْرِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ فَذَلِكَ مِنْ الدِّينِ وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي فَهُوَ الْخَطَأُ. وَلَكِنَّ مَنْشَأَ هَذَا الْخَطَأِ أَنَّ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ فِيهِ تَقْصِيرٌ عَنْ مَعْرِفَةِ سِيَاسَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسِيَاسَةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَتْ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا مَاتَ نَبِيٌّ قَامَ نَبِيٌّ. وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ يَكْثُرُونَ؛ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: أَوْفُوا بَيْعَةَ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلَ وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ} فَلَمَّا صَارَتْ الْخِلَافَةُ فِي وَلَدِ الْعَبَّاسِ وَاحْتَاجُوا إلَى سِيَاسَةِ النَّاسِ وَتَقَلَّدَ لَهُمْ الْقَضَاءَ مَنْ تَقَلَّدَهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ وَلَمْ يَكُنْ مَا مَعَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ كَافِيًا فِي السِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ: احْتَاجُوا حِينَئِذٍ إلَى وَضْعِ وِلَايَةِ الْمَظَالِمِ وَجَعَلُوا وِلَايَةَ حَرْبٍ غَيْرَ وِلَايَةِ شَرْعٍ وَتَعَاظَمَ الْأَمْرُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى صَارَ يُقَالُ: الشَّرْعُ وَالسِّيَاسَةُ وَهَذَا يَدْعُو خَصْمَهُ إلَى الشَّرْعِ وَهَذَا يَدْعُو إلَى السِّيَاسَةِ سَوَّغَ حَاكِمًا أَنْ يَحْكُمَ بِالشَّرْعِ وَالْآخَرُ بِالسِّيَاسَةِ. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ انْتَسَبُوا إلَى الشَّرْعِ قَصَّرُوا فِي مَعْرِفَةِ السُّنَّةِ فَصَارَتْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ إذَا حَكَمُوا ضَيَّعُوا الْحُقُوقَ وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ حَتَّى تُسْفَكَ الدِّمَاءُ وَتُؤْخَذَ الْأَمْوَالُ وَتُسْتَبَاحَ الْمُحَرَّمَاتُ؟ وَاَلَّذِينَ انْتَسَبُوا إلَى السِّيَاسَةِ صَارُوا يَسُوسُونَ بِنَوْعِ مِنْ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ

ص: 392

بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَخَيْرُهُمْ الَّذِي يَحْكُمُ بِلَا هَوًى وَتَحَرَّى الْعَدْلَ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَحْكُمُونَ بِالْهَوَى وَيُحَابُونَ الْقَوِيَّ وَمَنْ يَرْشُوهُمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ كَانَتْ الْأَمْصَارُ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَكُونُ فِيهَا مِنْ الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا مِنْ جَعْلِ صَاحِبِ الْحَرْبِ مُتَّبِعًا لِصَاحِبِ الْكِتَابِ مَا لَا يَكُونُ فِي الْأَمْصَارِ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ حَيْثُ يَكُونُ فِي هَذِهِ وَالِي الْحَرْبِ غَيْرَ مُتَّبِعٍ لِصَاحِبِ الْعِلْمِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ} الْآيَةَ فَقِوَامُ الدِّينِ بِكِتَابِ يَهْدِي وَسَيْفٍ يَنْصُرُ {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} .

وَدِينُ الْإِسْلَامِ: أَنْ يَكُونَ السَّيْفُ تَابِعًا لِلْكِتَابِ. فَإِذَا ظَهَرَ الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَانَ السَّيْفُ تَابِعًا لِذَلِكَ كَانَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ قَائِمًا وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَوْلَى الْأَمْصَارِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. أَمَّا عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَأَمَّا بَعْدَهُمْ فَهُمْ فِي ذَلِكَ أَرْجَح مِنْ غَيْرِهِمْ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ فِيهِ تَقْصِيرٌ وَكَانَ السَّيْفُ تَارَةً يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَتَارَةً يُخَالِفُهُ: كَانَ دِينُ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَنْ اهْتَدَى إلَيْهَا وَإِلَى أَمْثَالِهَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ أُصُولَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَصَحُّ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا.

ص: 393

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ‌

‌ الْقِتَالَ فِي الْفِتْنَةِ الْكُبْرَى.

كَانَ الصَّحَابَةُ فِيهَا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ قَاتَلَتْ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ وَفِرْقَةٌ قَاتَلَتْ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ وَفِرْقَةٌ قَعَدَتْ وَالْفُقَهَاءُ الْيَوْمَ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْقِتَالَ مِنْ نَاحِيَةِ عَلِيٍّ - مِثْلَ أَكْثَرِ الْمُصَنِّفِينَ - لِقِتَالِ الْبُغَاةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْإِمْسَاكَ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ تُوَافِقُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُصَنِّفُونَ لِعَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَذْكُرُونَ فِيهِ تَرْكَ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَالْإِمْسَاكَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ.

ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَ قِتَالَ مَنْ خَرَجَ عَنْ الشَّرِيعَةِ كالحرورية وَغَيْرِهِمْ. وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ. وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ خَرَّجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ بَعْضَهَا. وَقَالَ فِيهِ: {يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَقَدْ ثَبَتَ اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ عَلَى

ص: 394

قِتَالِهِمْ وَقَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَذَكَرَ فِيهِمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَضَمِّنَةَ لِقِتَالِهِمْ وَفَرِحَ بِقَتْلِهِمْ وَسَجَدَ لِلَّهِ شُكْرًا لَمَّا رَأَى أَبَاهُمْ مَقْتُولًا وَهُوَ ذُو الثدية بِخِلَافِ مَا جَرَى يَوْمَ الْجَمَلِ وصفين؛ فَإِنَّ عَلِيًّا لَمْ يَفْرَحْ بِذَلِكَ بَلْ ظَهَرَ مِنْهُ مِنْ التَّأَلُّمِ وَالنَّدَمِ مَا ظَهَرَ وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ سُنَّةً بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُ قَاتَلَ بِاجْتِهَادِهِ. فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ اتَّبَعُوا السُّنَّةَ فِي قِتَالِ الْمَارِقِينَ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَتَرَكَ الْقِتَالَ فِي الْفِتْنَةِ وَعَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِخِلَافِ مَنْ سَوَّى بَيْنَ قِتَالِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بَلْ سَوَّى بَيْنَ قِتَالِ هَؤُلَاءِ وَقِتَالِ الصِّدِّيقِ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ فَجَعَلَ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ مِنْ بَابِ الْبُغَاةِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ؛ فَإِنَّ هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا. وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالسُّنَّةِ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَاتَّبَعُوا النَّصَّ الصَّحِيحَ وَالْقِيَاسَ الْمُسْتَقِيمَ الْعَادِلَ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ مِنْ الْعَدْلِ وَهُوَ: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُتَخَالِفَيْنِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَحَقُّ النَّاسِ بِاتِّبَاعِ النَّصِّ الصَّحِيحِ وَالْقِيَاسِ الْعَادِلِ. وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ؛ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ

ص: 395

مِنْ الْقَوَاعِدِ الْكِبَارِ فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا هَذَا جَوَابُ فُتْيَا نَبَّهْنَا فِيهِ تَنْبِيهًا عَلَى جُمَلٍ يُعْرَفُ بِهَا بَعْضُ فَضَائِلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ هَذَا مِنْ الدِّينِ لَا سِيَّمَا إذَا جَهِلَ النَّاسُ مِقْدَارَ عِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ فَبَيَانُ هَذَا يُشْبِهُ بَيَانَ عِلْمِ الصَّحَابَةِ وَدِينِهِمْ إذَا جَهِلَ ذَلِكَ مَنْ جَهِلَهُ فَكَمَا أَنَّ بَيَانَ السُّنَّةِ وَفَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَتَقْدِيمِهِمْ الصِّدِّيقَ وَالْفَارُوقَ مِنْ أَعْظَمِ أُمُورِ الدِّينِ عِنْدَ ظُهُورِ بِدَعِ الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ فَكَذَلِكَ بَيَانُ السُّنَّةِ؛ وَمَذَاهِبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ وَتَرْجِيحُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ؛ أَعْظَمُ أُمُورِ الدِّينِ عِنْدَ ظُهُورِ بِدَعِ الْجُهَّالِ الْمُتَّبِعِينَ لِلظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوَفِّقُنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

ص: 396

وَقَالَ:

فَصْلٌ:

وَأَمَّا " نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ " فَهَذَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيُّ؛ وَلَا أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ؛ وَيُجَوِّزُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثِ} وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا نَسَخَهُ آيَةُ الْمَوَارِيثِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْفَرَائِضِ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْفَرَائِضَ الْمُقَدَّرَةَ حُدُودُهُ وَنَهَى عَنْ تَعَدِّيهَا: كَانَ فِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ أَحَدٌ عَلَى مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثِ} وَإِلَّا فَهَذَا الْحَدِيثُ وَحْدَهُ إنَّمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَنَحْوُهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ لَيْسَ

ص: 397

فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ مُجَرَّدَ خَبَرٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ الصِّحَّةِ نَاسِخًا لِلْقُرْآنِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ نُسِخَ بِسُنَّةِ بِلَا قُرْآنٍ وَقَدْ ذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {خُذُوا عَنِّي؛ خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ} . وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ النَّسْخِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَدَّ الْحُكْمَ إلَى غَايَةٍ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ تِلْكَ الْغَايَةَ لَكِنَّ الْغَايَةَ هُنَا مَجْهُولَةٌ فَصَارَ هَذَا يُقَالُ: إنَّهُ نَسْخٌ بِخِلَافِ الْغَايَةِ الْبَيِّنَةِ فِي نَفْسِ الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} فَإِنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى نَسْخًا بِلَا رَيْبٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَلْدَ الزَّانِي ثَابِتٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ الرَّجْمُ كَانَ قَدْ أُنْزِلَ فِيهِ قُرْآنٌ يُتْلَى ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ وَهُوَ

ص: 398

قَوْلُهُ: وَالشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَمَّا يُدَّعَى مِنْ نَسْخِ قَوْلِهِ: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} الْآيَةَ؛ فَإِنَّ هَذَا إنْ قَدَرَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَقَدْ نَسَخَهُ قُرْآنٌ جَاءَ بَعْدَهُ؛ ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَد وَسَائِرَ الْأَئِمَّةِ يُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمُحْكَمَةِ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ نَسْخًا لِبَعْضِ آيِ الْقُرْآنِ لَكِنْ يَقُولُونَ: إنَّمَا نُسِخَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ لَا بِمُجَرَّدِ السُّنَّةِ وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وَيَرَوْنَ مِنْ تَمَامِ حُرْمَةِ الْقُرْآنِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْسَخْهُ إلَّا بِقُرْآنِ.

ص: 399

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة رضي الله عنه:

فَصْلٌ:

قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الآمدي فِي أَحْكَامِهِ: " الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ": اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي اشْتِمَالِ اللُّغَةِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْمَجَازِيَّةِ؛ فَنَفَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إسْحَاقَ وَمَنْ تَابَعَهُ؛ - يَعْنِي أَبَا إسْحَاقَ الإسفراييني - وَأَثْبَتَهُ الْبَاقُونَ وَهُوَ الْحَقُّ. قُلْت الْكَلَامُ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي تَحْرِيرِ هَذَا النَّقْلِ؛ وَالثَّانِي فِي النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الْقَوْلَيْنِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُقَالُ: إنْ أَرَادَ بِالْبَاقِينَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ كُلَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي

ص: 400

أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَتَقْسِيمِهَا إلَى: الْكِتَابِ؛ وَالسُّنَّةِ؛ وَالْإِجْمَاعِ؛ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ؛ وَالْكَلَامِ فِي وَجْهِ دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ: أَمْرٌ مَعْرُوفٌ مِنْ زَمَنِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ كَانُوا أَقْعَدَ بِهَذَا الْفَنِّ وَغَيْرِهِ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ الدِّينِيَّةِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إلَى شريح: اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ - وَفِي لَفْظٍ - فَبِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ؛ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَإِنْ شِئْت أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَك. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحَدِيثُ مُعَاذٍ مِنْ أَشْهَرِ الْأَحَادِيثِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ. وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ بِالْأُصُولِيِّ مَنْ يَعْرِفُ " أُصُولَ الْفِقْهِ " وَهِيَ أَدِلَّةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ؛ بِحَيْثُ يُمَيِّزُ بَيْنَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ وَيَعْرِفُ مَرَاتِبَ الْأَدِلَّةِ؛ فَيُقَدِّمُ الرَّاجِحَ مِنْهَا - وَهَذَا هُوَ مَوْضُوعُ أُصُولِ الْفِقْهِ؛ فَإِنَّ مَوْضُوعَهُ مَعْرِفَةُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَمَرْتَبَتِهِ - فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ أُصُولِيٌّ؛ إذْ مَعْرِفَةُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَمَرْتَبَتِهِ بَعْضُ مَا يَعْرِفُهُ الْمُجْتَهِدُ وَلَا يَكْفِي فِي كَوْنِهِ مُجْتَهِدًا أَنْ يَعْرِفَ جِنْسَ الْأَدِلَّةِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ أَعْيَانَ الْأَدِلَّةِ وَمَنْ عَرَفَ أَعْيَانَهَا وَمَيَّزَ بَيْنَ أَعْيَانِ

ص: 401

الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا كَانَ بِجِنْسِهَا أَعْرَفَ كَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ أَشْخَاصِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهَا فَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ نَوْعِهَا لَازِمٌ لِذَلِكَ؛ إذْ يَمْتَنِعُ تَمْيِيزُ الْأَشْخَاصِ بِدُونِ تَمْيِيزِ الْأَنْوَاعِ. وَأَيْضًا فَالْأُصُولِيُّونَ يَذْكُرُونَ فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ مَذَاهِبَ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَالِكِ؛ وَالشَّافِعِيِّ؛ وَالْأَوْزَاعِي؛ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ ودَاوُد وَمَذْهَبِ أَتْبَاعِهِمْ بَلْ هَؤُلَاءِ وَنَحْوُهُمْ هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ؛ إذْ كَانُوا يَعْرِفُونَهَا بِأَعْيَانِهَا وَيَسْتَعْمِلُونَ الْأُصُولَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ الَّذِينَ يُجَرِّدُونَ الْكَلَامَ فِي أُصُولٍ مُقَدَّرَةٍ بَعْضُهَا وُجِدَ وَبَعْضُهَا لَا يُوجَدُ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ أَعْيَانِهَا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ كَانَ مَا يَقُولُونَهُ حَقًّا فَهُوَ قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ أَوْ عَدِيمُهَا؛ إذْ كَانَ تَكَلُّمًا فِي أَدِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا تَحَقُّقَ لَهَا فِي الْأَعْيَانِ كَمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْفِقْهِ فِيمَا يُقَدِّرُهُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ حُكْمَ الْأَفْعَالِ الْمُحَقَّقَةِ مِنْهُ فَكَيْفَ وَأَكْثَرُ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْمُقَدَّرَاتِ فَهُوَ كَلَامٌ بَاطِلٌ وَإِذَا كَانَ اسْمُ الْأُصُولِيِّينَ يَتَنَاوَلُ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَشْهُورِينَ الْمَتْبُوعِينَ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ وَالثَّوْرِيِّ؛ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ جَرَّدَ الْكَلَامَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الْمُعَيَّنَةِ كَمَا فَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَمَنْ بَعْدَهُمَا وَكَمَا فَعَلَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَنَحْوُهُ وَكَمَا فَعَلَهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ

ص: 402

الْفِقْهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين: فَمَعْلُومٌ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ جَرَّدَ الْكَلَامَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ هُوَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ لَمْ يُقَسِّمْ الْكَلَامَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ بَلْ لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِهِ مَعَ كَثْرَةِ اسْتِدْلَالِهِ وَتَوَسُّعِهِ وَمَعْرِفَتِهِ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ أَنَّهُ سَمَّى شَيْئًا مِنْهُ مَجَازًا وَلَا ذَكَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ ذَلِكَ؛ لَا فِي الرِّسَالَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا.

وَحِينَئِذٍ فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَشْهُورِينَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَعُلَمَاءِ السَّلَفِ قَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ كَمَا فَعَلَهُ طَائِفَة مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ جَهْلِهِ وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِكَلَامِ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَسَلَفِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَدْ يَظُنُّ طَائِفَة أُخْرَى أَنَّ هَذَا مِمَّا أُخِذَ مِنْ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ تَوْقِيفًا وَأَنَّهُمْ قَالُوا: هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ كَمَا ظَنَّ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَكَانَ هَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ بِكَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَمَا يَظُنُّ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ كالرَّازِي وَالْآمِدِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ: هُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَلَا يَعْرِفُ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ الْمُوَافِقِ لِطَرِيقِ أَئِمَّتِهِمْ فَهَذَا أَيْضًا مِنْ جَهْلِهِ وَقِلَّةِ عِلْمِهِ. وَإِنْ قَالَ النَّاقِلُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ: مُرَادِي بِذَلِكَ أَكْثَرُ الْمُصَنِّفِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَأَصْحَابِ

ص: 403

الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ قَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ. قِيلَ لَهُ: لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ وَشَابَهَهُمْ وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ ذَكَرُوا هَذَا التَّقْسِيمَ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِ كَذَلِكَ. ثُمَّ يُقَالُ: لَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اشْتَغَلُوا بِتَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَلِهَذَا لَا يَذْكُرُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي يَحْكِي فِيهَا أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِينَ مِمَّنْ صَنَّفَ كِتَابًا وَذَكَرَ فِيهِ اخْتِلَافَ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُشْتَغِلِينَ بِتَلَقِّي الْأَحْكَامِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالْمَعْنَى الْمَمْدُوحِ مِنْ اسْمِ الْأُصُولِيِّ فَلَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَسَّمَ الْكَلَامَ إلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَإِنْ أَرَادَ مَنْ عُرِفَ بِهَذَا التَّقْسِيمِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَتَهُمْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْفُقَهَاءِ. قِيلَ لَهُ: لَا رَيْبَ أَنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ قَسَّمُوا هَذَا التَّقْسِيمَ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِمْ إمَامٌ فِي فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْإِسْلَامِ لَا التَّفْسِيرِ وَلَا الْحَدِيثِ وَلَا الْفِقْهِ وَلَا اللُّغَةِ وَلَا النَّحْوِ بَلْ أَئِمَّةُ النُّحَاةِ أَهْلُ اللُّغَةِ كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاءِ وَأَمْثَالِهِمْ وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَأَبِي

ص: 404

زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَالْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو الشيباني وَغَيْرِهِمْ: لَمْ يُقَسِّمُوا تَقْسِيمَ هَؤُلَاءِ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا " الْمَقَامُ الثَّانِي " فَفِي أَدِلَّةِ الْقَوْلَيْنِ.

قَالَ الآمدي: حُجَّةُ الْمُثْبِتِينَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إطْلَاقُ أَهْلِ اللُّغَةِ اسْمَ الْأَسَدِ عَلَى الْإِنْسَانِ الشُّجَاعِ؛ وَالْحِمَارِ عَلَى الْإِنْسَانِ الْبَلِيدِ وَقَوْلُهُمْ ظَهَرَ الطَّرِيقُ وَمَتْنُهَا وَفُلَانٌ عَلَى جَنَاحِ السَّفَرِ؛ وَشَابَتْ لُمَّةُ اللَّيْلِ؛ وَقَامَتْ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ؛ وَكَبِدِ السَّمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَإِطْلَاقُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لُغَةُ مِمَّا لَا يُنْكِرُ إلَّا عَنْ عِنَادٍ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْأَسْمَاءُ حَقِيقَةٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَوْ مَجَازِيَّةٌ؛ لِاسْتِحَالَةِ خُلُوِّ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ عَنْهَا مَا سِوَى الْوَضْعِ الْأَوَّلِ كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ: بِكَوْنِهَا حَقِيقَةً فِيهَا؛ لِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِيمَا سِوَاهُ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ حَقِيقَةٌ فِي السَّبُعِ؛ وَالْحِمَارِ فِي الْبَهِيمَةِ وَالظَّهْرِ وَالْمَتْنِ وَالسَّاقِ وَالْكَبِدِ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ بِالْحَيَوَانِ؛ وَاللُّمَّةِ فِي الشَّعْرِ إذَا جَاوَزَ الْأُذُنَ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ حَقِيقَةً فِيمَا ذَكَرَ مِنْ الصُّوَرِ

ص: 405

لَكَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا وَلَوْ كَانَ مُشْتَرِكًا لَمَا سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إطْلَاقِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ ضَرُورَةُ التَّسَاوِي فِي الْأَدِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّابِقَ إلَى الْفَهْمِ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْأَسَدِ إنَّمَا هُوَ السَّبُعُ وَمِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْحِمَارِ إنَّمَا هُوَ الْبَهِيمَةُ وَكَذَلِكَ فِي بَاقِي الصُّوَرِ كَيْفَ وَأَنَّ أَهْلَ الْأَعْصَارِ لَمْ تَزَلْ تَتَنَاقَلُ فِي أَقْوَالِهَا وَكُتُبِهَا عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ تَسْمِيَةُ هَذَا حَقِيقَةً وَهَذَا مَجَازًا؟ فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَفْظٌ مَجَازِيٌّ فَإِمَّا أَنْ يُقَيَّدَ مَعْنَاهُ بِقَرِينَةٍ: أَوْ لَا يُقَيَّدَ بِقَرِينَةٍ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مَعَ الْقَرِينَةِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَكَانَ مَعَ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ أَيْضًا حَقِيقَةٌ؛ إذْ لَا مَعْنَى لِلْحَقِيقَةِ إلَّا مَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا بِالْإِفَادَةِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَا مِنْ صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ إلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهَا بِاللَّفْظِ الْحَقِيقِيِّ الْخَاصِّ بِهَا فَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمَجَازِيِّ فِيهَا مَعَ افْتِقَارِهِ إلَى الْقَرِينَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بَعِيدٌ عَنْ أَهْلِ الْحِكْمَةِ وَالْبَلَاغَةِ فِي وَضْعِهِمْ. قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُفِيدُ عِنْدَ عَدَمِ الشُّهْرَةِ إلَّا بِقَرِينَةٍ وَلَا مَعْنَى لِلْمَجَازِ سِوَى هَذَا النَّوْعِ فِي ذَلِكَ اللَّفْظِيِّ. كَيْفَ وَأَنَّ الْمَجَازَ وَالْحَقِيقَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ؛ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ صِفَةً لِلْمَجْمُوعِ.

ص: 406

وَجَوَابٌ ثَانٍ: أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمَجَازِيِّ دُونَ الْحَقِيقَةِ قَدْ يَكُونُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْخِفَّةِ عَلَى اللِّسَانِ: أَوْ لِمُسَاعَدَتِهِ عَلَى وَزْنِ الْكَلَامِ نَظْمًا وَنَثْرًا؛ أَوْ لِلْمُطَابَقَةِ وَالْمُجَانَسَةِ وَالسَّجْعِ؛ وَقَصْدِ التَّعْظِيمِ وَالْعُدُولِ عَنْ الْحَقِيقِيِّ لِلتَّحْقِيرِ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الْكَلَامِ. هَذَا كَلَامُ أَبِي الْحَسَنِ الآمدي فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ؛ وَهُوَ أَجَلُّ كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ النَّاصِرِينَ لِهَذَا الْفَرْقِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ مَا ذَكَرْته مِنْ الِاسْتِعْمَالِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ لَكِنْ قَوْلُك إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إمَّا أَنْ تَكُونَ حَقِيقِيَّةً أَوْ مَجَازِيَّةً: إنَّمَا يَصِحُّ إذَا ثَبَتَ انْقِسَامُ الْكَلَامِ إلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَإِلَّا فَمَنْ يُنَازِعُك - وَيَقُولُ لَك: لَمْ تَذْكُرْ حَدًّا فَاصِلًا مَعْقُولًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ يَتَمَيَّزُ بِهِ هَذَا عَنْ هَذَا؛ وَأَنَا أُطَالِبُك بِذِكْرِ هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ. أَوْ يَقُولُ: لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ثَابِتٌ. أَوْ يَقُولُ: أَنَا لَا أُثْبِتُ انْقِسَامَ الْكَلَامِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ إمَّا لِمَانِعِ عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. أَوْ يَقُولُ: لَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي انْقِسَامُ الْكَلَامِ إلَى هَذَا وَهَذَا؛ وَجَوَازُ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ: لَيْسَ لَك أَنْ تَحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِك: إمَّا أَنْ تَكُونَ حَقِيقِيَّةً أَوْ مَجَازِيَّةً؛ إذْ دُخُولُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ فَرْعُ ثُبُوتِ

ص: 407

التَّقْسِيمِ فَلَوْ أَثْبَتَ التَّقْسِيمَ بِهَذَا كَانَ دَوْرًا؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذِهِ مِنْ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ إلَّا إذَا أَثْبَتَ أَنَّ هُنَاكَ قِسْمَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا وَأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ شَيْءٌ مِنْ أَحَدِهِمَا شَيْئًا مِنْ الْآخَرِ؟ وَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ؛ فَكَيْفَ تَجْعَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ مُقَدِّمَةً فِي إثْبَاتِ نَفْسِهِ وَتُصَادِرُ عَلَى الْمَطْلُوبِ؟ فَإِنَّ ذَلِكَ أَثْبَتَ الشَّيْءَ بِنَفْسِهِ فَلَمْ تَذْكُرْ دَلِيلًا وَهَذَا أَثْبَتَ الْأَصْلَ بِفَرْعِهِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إلَّا بِهِ فَهَذَا التَّطْوِيلُ أَثْبَتَ غَايَةَ الْمُصَادَرَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: مِنْ النَّاسِ الْقَائِلِينَ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْكَلَامِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا فَوَصَفَ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ: كَأَلْفَاظِ الْعُمُومِ الْمَخْصُوصَةِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ قَالَ: هِيَ حَقِيقَةٌ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا بَقِيَ وَهِيَ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ سَلْبِ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا أَخْرَجَ. وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ: الْكَلَامُ إمَّا حَقِيقَةٌ؛ وَإِمَّا مَجَازٌ وَإِمَّا حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّك أَنْتَ وَطَائِفَةٌ كالرَّازِي وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَابْنِ الْحَاجِبِ يَقُولُونَ: إنَّ الْأَلْفَاظَ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا وَبَعْدَ وَضْعِهَا لَيْسَتْ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا أَوْ الْمَجَازُ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَحِينَئِذٍ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كَقَوْلِهِمْ: ظَهْرُ الطَّرِيقِ؛ وَجَنَاحُ السَّفَرِ؛ وَنَحْوِهَا: إنْ لَمْ يُثْبِتُوا أَنَّهَا وُضِعَتْ لِمَعْنَى ثُمَّ اُسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا مَجَازٌ وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ

ص: 408

لِأَحَدِ إلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَنْقُلَ عَنْ الْعَرَبِ أَنَّهَا وَضَعَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِغَيْرِ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيهَا. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ قَالُوا: جَنَاحُ الطَّائِرِ وَظَهْرُ الْإِنْسَانِ وَتَكَلَّمُوا بِلَفْظِ الظَّهْرِ وَالْجَنَاحِ وَأَرَادُوا بِهِ ظَهْرَ الْإِنْسَانِ وَجَنَاحَ الطَّائِرِ. قِيلَ لَهُمْ: هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ وَضَعُوا جَنَاحَ السَّفَرِ وَظَهْرَ الطَّرِيقِ بَلْ هَذَا اُسْتُعْمِلَ مُضَافًا إلَى غَيْرِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ ذَاكَ؛ إنْ كَانَ ذَلِكَ مُضَافًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُضَافًا فَالْمُضَافُ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْمُعَرَّفِ الَّذِي لَيْسَ بِمُضَافِ؛ فَاللَّفْظُ الْمُعَرَّفُ وَالْمُضَافُ إلَى شَيْءٍ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ اللَّفْظِ الْمُضَافِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ فَإِذَا قَالَ: الْجَنَاحُ وَالظَّهْرُ؛ وَقِيلَ: جَنَاحُ الطَّائِرِ وَظَهْرُ الْإِنْسَانِ: فَلَيْسَ هَذَا وَهَذَا مِثْلَ لَفْظِ جَنَاحِ السَّفَرِ وَظَهْرِ الطَّرِيقِ؛ وَجَنَاحِ الذُّلِّ. كَذَلِكَ إذَا قِيلَ: رَأْسُ الطَّرِيقِ وَظَهْرُهُ وَوَسَطُهُ وَأَعْلَاهُ وَأَسْفَلُهُ كَانَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالطَّرِيقِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُمَاثِلًا كَرَأْسِ الْإِنْسَانِ وَظَهْرِهِ وَوَسَطِهِ وَأَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ وَكَذَلِكَ أَسْفَلُ الْجَبَلِ وَأَعْلَاهُ هُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَسْمَاءِ الْمُضَافَةِ يَتَمَيَّزُ مَعْنَاهُ بِالْإِضَافَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُرَكَّبَ تَرْكِيبَ مَزْجٍ أَوْ إسْنَادٍ أَوْ إضَافَةٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ لُغَتِهِمْ كَاللَّفْظِ الْمُجَرَّدِ عَنْ ذَلِكَ لَا فِي الْإِعْرَابِ وَلَا فِي الْمَعْنَى. بَلْ يُفَرِّقُونَ

ص: 409

بَيْنَهُمَا فِي النِّدَاءِ وَالنَّفْيِ فَيَقُولُونَ: يَا زَيْدُ وَيَا عَمْرُو بِالضَّمِّ كَقَوْلِهِ: يَا آدَمَ وَيَا نُوحُ وَيَقُولُونَ فِي الْمُضَافِ وَمَا أَشْبَهَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ يَا غُلَامَ زَيْدٍ كَقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ وَيَا أَهْلَ يَثْرِبَ وَيَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فِي الْمُضَافِ الْمَنْصُوبِ وَكَذَلِكَ فِي تَرْكِيبِ الْمَزْجِ فَلَيْسَ قَوْلُهُمْ: خَمْسَةٌ كَقَوْلِهِمْ: خَمْسَةَ عَشَرَ بَلْ بِالتَّرْكِيبِ يُغَيَّرُ الْمَعْنَى. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ: الْخَمْسَةُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَمْسَةِ؛ وَخَمْسَةَ عَشَرَ مَجَازٌ: كَانَ جَاهِلًا؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْخَمْسَةِ مَوْجُودًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّهَا رُكِّبَتْ تَرْكِيبًا آخَرَ وَجِنْسُ هَذَا التَّرْكِيبِ مَوْضُوعٌ كَمَا أَنَّ جِنْسَ الْإِضَافَةِ مَوْضُوعٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: جَنَاحُ السَّفَرِ وَالذُّلِّ وَظَهْرُ الطَّرِيقِ تَرْكِيبٌ آخَرُ أُضِيفَ فِيهِ الِاسْمُ إلَى غَيْرِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلَيْسَ هَذَا كَالْمُجَرَّدِ مِثْلَ الْخَمْسَةِ؛ وَلَا كَالْمَقْرُونِ بِغَيْرِهِ كَلَفْظِ الْخَمْسَةِ وَالْعِشْرِينَ وَهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ: وَهُوَ أَنَّهُ سَوَاءٌ ثَبَتَ وَضْعٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ؛ أَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْوَضْعِ هُوَ مَا عُرِفَ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ: فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ هَذَا اللَّفْظُ الْمُضَافُ لَمْ يُوضَعْ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ إلَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ غَيْرُهُ بَلْ وَلَا يَحْتَمِل سِوَاهُ وَلَا يَحْتَاجُ فِي فَهْمِ الْمُرَادِ بِهِ إلَّا قَرِينَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ غَيْرُ مَا ذُكِرَ

ص: 410

فِي الْإِضَافَةِ بَلْ دَلَالَةُ الْإِضَافَةِ عَلَى مَعْنَاهُ كَدَلَالَةِ سَائِرُ الْأَلْفَاظِ الْمُضَافَةِ فَكُلُّ لَفْظٍ أُضِيفَ إلَى لَفْظٍ دَلَّ عَلَى مَعْنًى يَخْتَصُّ ذَلِكَ الْمُضَافُ إلَيْهِ فَكَمَا إذَا قِيلَ: يَدُ زَيْدٍ وَرَأْسُهُ؛ وَعِلْمُهُ وَدِينُهُ؛ وَقَوْلُهُ وَحُكْمُهُ وَخَبَرُهُ: دَلَّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دِينُ زَيْدٍ مِثْلَ دِينِ عَمْرٍو؛ بَلْ دِينُ هَذَا الْكُفْرُ وَدِينُ هَذَا الْإِسْلَامُ وَلَا حُكْمُهُ مِثْلُ حُكْمِهِ؛ بَلْ هَذَا الْحُكْمُ بِالْجَوْرِ وَهَذَا الْحُكْمُ بِالْعَدْلِ وَلَا خَبَرُهُ مِثْلُ خَبَرِهِ؛ بَلْ خَبَرُ هَذَا صِدْقٌ وَخَبَرُ هَذَا كَذِبٌ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: لَوْنُ هَذَا وَلَوْنُ هَذَا كَانَ لَوْنُ كَلٍّ مِنْهُمَا يَخْتَصُّ بِهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا أَسْوَدَ وَهَذَا أَبْيَضَ. فَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ الْمُضَافُ وَاحِدًا مَعَ اخْتِلَافِ الْحَقَائِقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَإِنَّمَا يُمَيِّزُ اللَّوْنُ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِإِضَافَتِهِ إلَى مَا يُمَيِّزُهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ الْكَوْنِ وَالدِّينِ وَالْخَبَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَعُمُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ؛ فَكَانَتْ عَامَّةً؛ وَتُسَمَّى مُتَوَاطِئَةً؛ بِخِلَافِ لَفْظِ الرَّأْسِ وَالظَّهْرِ وَالْجَنَاحِ فَإِنَّهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنَّمَا تَنْصَرِفُ إلَى أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ. قِيلَ: فَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ: أَلَيْسَتْ بِالْإِضَافَةِ اخْتَصَّتْ؟ فَكَانَتْ عَامَّةً مُطْلَقَةً ثُمَّ تَخَصَّصَتْ بِالْإِضَافَةِ أَوْ التَّعْرِيفِ فَهِيَ مِنْ بَابِ اللَّفْظِ الْعَامِّ إذَا خُصَّ بِإِضَافَةِ أَوْ تَعْرِيفٍ. وَتَخْصِيصُهُ بِذَلِكَ كَتَخْصِيصِهِ بِالصِّفَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ؛ وَالْبَدَلِ وَالْغَايَةِ كَمَا يُقَالُ: اللَّوْنُ الْأَحْمَرُ وَالْخَبَرُ الصَّادِقُ

ص: 411

أَوْ قِيلَ: أَلْفٌ إلَّا خَمْسِينَ فَقَدْ تَغَيَّرَتْ دَلَالَتُهَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ. ثُمَّ إنَّهُ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ اللَّفْظُ الْمُعَيَّنُ فِي غَيْرِ مَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ أَوَّلًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ: {رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ؛ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ: وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَقَالَ: {وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ} قَدْ أَضَافَ الرَّأْسَ إلَى الْأَمْرِ: وَهَذَا اللَّفْظُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي رَأْسِ الْحَيَوَانِ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا: رَأْسُ الْمَالِ؛ وَالشَّرِيكَانِ يَقْتَسِمَانِ مَا يَفْضُلُ بَعْدَ رَأْسِ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ بَعْدَ رَأْسِ الْمَالِ فَلَفْظُ رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي رَأْسِ الْحَيَوَانِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ رَأْسِ الْعَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ جِنْسًا أَوْ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُمْ: تِلْكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ قَطُّ مُطْلَقًا لَا يَكُونُ إلَّا مُقَيَّدًا؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا تَقَيَّدَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ إمَّا فِي جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ أَوْ فِعْلِيَّةٍ مِنْ مُتَكَلِّمٍ مَعْرُوفٍ قَدْ عُرِفَتْ عَادَاتُهُ بِخِطَابِهِ؛ وَهَذِهِ قُيُودٌ يَتَبَيَّنُ الْمُرَادُ بِهَا.

ص: 412

الثَّانِي: أَنَّ تَجْرِيدَهُ عَنْ الْقُيُودِ الْخَاصَّةِ قَيْدٌ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: لِلْأَمْرِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا وَلِلْعُمُومِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهِ عَامًّا فَنَفْسُ التَّكَلُّمِ بِاللَّفْظِ مُجَرَّدًا قَيْدٌ: وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِي دَلَالَتِهِ الْإِمْسَاكُ عَنْ قُيُودٍ خَاصَّةٍ فَالْإِمْسَاكُ عَنْ الْقُيُودِ الْخَاصَّةِ قَيْدٌ كَمَا أَنَّ الِاسْمَ الَّذِي يُتَكَلَّمُ بِهِ لِقَصْدِ الْإِسْنَادِ إلَيْهِ مَعَ تَجْرِيدِهِ عَنْ الْعَوَامِلِ اللَّفْظِيَّةِ فِيهِ هُوَ الْمُبْتَدَأُ الَّذِي يُرْفَعُ وَسِرُّ ذَلِكَ تَجْرِيدُهُ عَنْ الْعَوَامِلِ اللَّفْظِيَّةِ فَهَذَا التَّجْرِيدُ قَيْدٌ فِي رَفْعِهِ كَمَا أَنَّ تَقْيِيدَهُ بِلَفْظِ مِثْلَ: " كَانَ " وَ " إنَّ " وَ " ظَنَنْت ": يُوجِبُ لَهُ حُكْمًا آخَرَ. وَلِهَذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلَامِ لَهُ حَالَانِ: تَارَةً يَسْكُتُ وَيَقْطَعُ الْكَلَامَ وَيَكُونُ مُرَادُهُ مَعْنًى. وَتَارَةً يَصِلُ ذَلِكَ الْكَلَامَ بِكَلَامِ آخَرَ بِغَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ إذَا جُرِّدَ فَيَكُونُ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ لَهُ حَالَانِ: حَالٌ يَقْرِنُهُ الْمُتَكَلِّمُ بِالسُّكُوتِ وَالْإِمْسَاكِ وَتَرْكِ الصِّلَةِ. وَحَالٌ يَقْرِنُهُ بِزِيَادَةِ لَفْظٍ آخَرَ. وَمِنْ عَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّهُ إذَا أَمْسَكَ أَرَادَ مَعْنًى آخَرَ؛ وَإِذَا وَصَلَ أَرَادَ مَعْنًى آخَرَ وَفِي كِلَا الْحَالَيْنِ قَدْ تَبَيَّنَ مُرَادُهُ وَقَرَنَ لَفْظَهُ بِمَا يُبَيِّنُ مُرَادَهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّفْظَ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَعْنَى: وَالدَّلَالَاتُ تَارَةً تَكُونُ وُجُودِيَّةً وَتَارَةً تَكُونُ عَدَمِيَّةً؛ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي تَدُلُّ بِنَفْسِهَا الَّتِي قَدْ

ص: 413

تُسَمَّى الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ؛ وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي تَدُلُّ بِقَصْدِ الدَّالِّ وَإِرَادَتِهِ؛ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ أَوْ الْوَضْعِيَّةَ أَوْ الْإِرَادِيَّةَ. وَهِيَ فِي كِلَا الْقِسْمَيْنِ كَثِيرًا مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ وُجُودَهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ اللَّازِمِ لَهُ وَعَدَمُ اللَّازِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ كَمَا يَدُلُّ عَدَمُ ذَاتٍ مِنْ الذَّوَاتِ عَلَى عَدَمِ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهَا وَعَدَمُ كُلِّ شَرْطٍ مَعْنَوِيٍّ عَلَى عَدَمِ مَشْرُوطِهِ كَمَا يَدُلُّ عَدَمُ الْحَيَاةِ عَلَى عَدَمِ الْعِلْمِ وَعَدَمُ الْفَسَادِ عَلَى عَدَم إلَهِيَّةِ سِوَى اللَّهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الثَّانِي الَّذِي يَدُلُّ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ. فَكَمَا أَنَّ حُرُوفَ الْهِجَاءِ إذَا كَتَبُوهَا يُعَلِّمُونَ بَعْضَهَا بِنُقْطَةِ وَبَعْضَهَا بِعَدَمِ نُقْطَةٍ؛ كَالْجِيمِ وَالْحَاءِ وَالْخَاءِ فَتِلْكَ عَلَامَتُهَا نُقْطَةٌ مِنْ أَسْفَلَ وَالْخَاءُ عَلَامَتُهَا نُقْطَةٌ مِنْ فَوْقٍ وَالْحَاءُ عَلَامَتُهَا عَدَمُ النُّقْطَةِ. وَكَذَلِكَ الرَّاءُ وَالزَّايُ؛ وَالسِّينُ وَالشِّينُ؛ وَالصَّادُ؛ وَالضَّادُ؛ وَالطَّاءُ؛ وَالظَّاءُ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي حُرُوفِ الْمَعَانِي: عَلَامَتُهَا عَدَمُ عَلَامَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ فَكَذَلِكَ الْأَلْفَاظُ إذَا قَالَ لَهُ: عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَسَكَتَ: كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَلْفًا وَازِنَةً فَإِذَا قَالَ: أَلْفٌ زَائِفَةٌ أَوْ نَاقِصَةٌ؛ وَإِلَّا خَمْسِينَ: كَانَ وَصْلُهُ لِذَلِكَ بِالصِّفَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ دَلِيلًا نَاقَضَ الدَّلِيلَ الْأَوَّلَ. وَهُنَا أَلْفٌ مُتَّصِلَةٌ بِلَفْظِ: وَهُنَاكَ أَلْفٌ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ الصِّلَةِ وَالِانْقِطَاعُ فِيهَا غَيْرُ الدَّلَالَةِ فَلَيْسَتْ الدَّلَالَةُ هِيَ نَفْسَ اللَّفْظِ بَلْ اللَّفْظُ مَعَ

ص: 414

الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ. وَسَوَاءٌ قِيلَ: إنَّ تَرْكَ الزِّيَادَةِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَوْ قِيلَ: إنَّهُ عَدَمِيٌّ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَقُولُونَ: التَّرْكُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يَقُومُ بِذَاتِ التَّارِكِ وَذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ وَطَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ عَدَمِيٌّ وَيُسَمَّوْنَ الذِّمِّيَّةَ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْعَبْدُ يُذَمُّ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلْهُ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ يَقْصِدُ الدَّلَالَةَ بِاللَّفْظِ وَحْدَهُ لَا بِاللَّفْظِ مَعَ الْمَعْنَى وَكَوْنُهُ وَحْدَهُ قَيْدٌ فِي الدَّلَالَةِ وَهَذَا الْقَيْدُ مُنْتَفٍ إذَا كَانَ مَعَهُ لَفْظٌ آخَرُ. ثُمَّ الْعَادَةُ فِي اللَّفْظِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُقَيَّدَةِ نَقْصٌ مِنْ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ وَلِهَذَا يُقَالُ: الزِّيَادَةُ فِي الْحَدِّ نَقْصٌ فِي الْمَحْدُودِ وَكُلَّمَا زَادَتْ قُيُودُ اللَّفْظِ الْعَامِّ نَقَصَ مَعْنَاهُ؛ فَإِذَا قَالَ: الْإِنْسَانُ؛ وَالْحَيَوَانُ: كَانَ مَعْنَى هَذَا أَعَمَّ مِنْ مَعْنَى الْإِنْسَانِ الْعَرَبِيِّ؛ وَالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِكَوْنِهَا حَقِيقَةً فِيهَا؛ لِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِيمَا سِوَاهَا بِالِاتِّفَاقِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ حَقِيقَةٌ فِي السَّبُعِ؛ وَالْحِمَارِ فِي الْبَهِيمَةِ؛ وَالظَّهْرِ وَالْمَتْنِ وَالسَّاقِ وَالْكَلْكَلِ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ بِالْحَيَوَانِ وَلَوْ كَانَتْ حَقِيقَةً فِيمَا ذَكَرَ كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا وَلَوْ كَانَ مُشْتَرِكًا لَمَا سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هَذَا الْبَعْضُ دُونَ بَعْضٍ ضَرُورَةَ التَّسَاوِي فِي الدَّلَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ.

ص: 415

يُقَالُ لَهُ: قَوْلُك: لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِيمَا ذَكَرَ كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا مَا تَعْنِي بِالْمُشْتَرَكِ؟ إنْ عَنَيْت‌

‌ الِاشْتِرَاكَ

الْخَاصَّ - وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى مَعْنَيَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ - فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُنَازِعُ فِي وُجُودِ مَعْنَى هَذَا فِي اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي تَسْتَنِدُ إلَى وَضْعٍ وَاحِدٍ؛ وَيَقُولُ: إنَّمَا يَقَعُ هَذَا فِي مَوْضِعَيْنِ كَمَا يُسَمِّي هَذَا ابْنَهُ بِاسْمِ وَيُسَمِّي آخَرُ ابْنَهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ. وَهُمْ لَا يَقُولُونَ: إنَّ تَسْمِيَةَ الْكَوْكَبِ سُهَيْلًا وَالْمُشْتَرِيَ وَقَلْبَ الْأَسَدِ وَالنَّسْرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ بِاعْتِبَارِ وَضْعٍ ثَانٍ سَمَّاهَا مَنْ سَمَّاهَا مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا بِأَسْمَاءِ مَنْقُولَةٍ كَالْأَعْلَامِ الْمَنْقُولَةِ كَمَا يُسَمِّي الرَّجُلُ ابْنَهُ كَلْبًا وَأَسَدًا وَنَمِرًا وَبَحْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَاقِلٌ لَكِنْ مَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا وَضْعٌ ثَانٍ وَهَذَا لَا يُغَيِّرُهُ دَلَالَةُ الْأَعْلَامِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا وَالْعَلَامَةِ الْمُمَيَّزَةِ فِي الْمَجَازِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى بِالِاسْمِ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ اتِّصَافُ الْمُسَمَّى: إمَّا التَّفَاؤُلُ بِمَعْنَاهَا؛ وَإِمَّا دَفْعُ الْعَيْنِ عَنْهُ؛ وَإِمَّا تَسْمِيَتُهُ بِاسْمِ مَحْبُوبٍ لَهُ مِنْ أَبٍ أَوْ أُسْتَاذٍ؛ أَوْ مُمَيَّزٍ؛ أَوْ يَكُونُ فِيهِ مَعْنًى مَحْمُودٌ كَعَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدٍ وَأَحْمَد لَكِنْ بِكُلِّ حَالٍ هَذَا وَضْعٌ ثَانٍ لِهَذَا وَاللَّفْظُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِيرُ بِهِ مُشْتَرَكًا وَلِهَذَا اُحْتِيجَ فِي الْأَعْلَامِ إلَى التَّمْيِيزِ بِاسْمِ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ مَعَ الْأَبِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ التَّمْيِيزُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَإِنْ حَصَلَ التَّمْيِيزُ بِذَلِكَ اكْتَفَى بِهِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ

ص: 416

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابَةِ الصُّلْحِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ حَيْثُ كَتَبَ: {هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو} بَعْدَ أَنْ امْتَنَعَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَكْتُبُوا مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم مُتَمَيِّزٌ بِصِفَةِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ عِنْدَ اللَّهِ فَلَمَّا غَيَّرَ تَمْيِيزَهُ بِوَصْفِهِ الَّذِي يُوجِبُ تَصْدِيقَهُ وَالْإِيمَانَ بِهِ وَافَقَهُمْ عَلَى التَّمْيِيزِ بِاسْمِ أَبِيهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: مَا مِنْ لَفْظٍ عَلَى مَعْنَيَيْنِ فِي اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ إلَّا وَبَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَلْ وَيَلْتَزِمُ ذَلِكَ فِي الْحُرُوفِ فَيَجْعَلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَعَانِي مُنَاسَبَةً تَكُونُ بَاعِثَةً لِلْمُتَكَلِّمِ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِذَلِكَ اللَّفْظِ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ: إنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ أَحَدٍ وَإِنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِلَّفْظِ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: لَوْ كَانَ اللَّفْظُ يُنَاسِبُ الْمَعْنَى لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ فَإِنَّ الْأُمُورَ الِاخْتِيَارِيَّةَ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ يُوجَدُ فِيهَا مُنَاسَبَاتٌ وَتَكُونُ دَاعِيَةً لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وَإِنْ كَانَتْ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ. وَالْأُمُورُ الطَّبِيعِيَّةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِاخْتِيَارِ حَيَوَانٍ تَخْتَلِفُ أَيْضًا فَالْحَرُّ وَالْبَرْدُ وَالسَّوَادُ وَالْبَيَاضُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ طَبَائِعِ الْبِلَادِ وَالْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَرْكَبِ والمنكح وَغَيْرِ ذَلِكَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَادَاتِ النَّاسِ

ص: 417

مَعَ أَنَّهَا أُمُورٌ اخْتِيَارِيَّةٌ وَلَهَا مُنَاسَبَاتٌ فَتُنَاسِبُ أَهْلَ مَكَانٍ وَزَمَانٍ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا تُنَاسِبُ أَهْلَ زَمَانٍ آخَرَ كَمَا يَخْتَارُ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ فِي الشِّتَاءِ وَالْبِلَادِ الْبَارِدَةِ مَا لَا يَخْتَارُونَهُ فِي الصَّيْفِ وَالْبِلَادِ الْحَارَّةِ مَعَ وُجُودِ الْمُنَاسَبَةِ الدَّاعِيَةِ لَهُمْ؛ إذْ كَانُوا يَخْتَارُونَ فِي الْحَرِّ مِنْ الْمَأْكَلِ الْخَفِيفِ وَالْفَاكِهَةِ مَا يَخِفُّ هَضْمُهُ لِبَرْدِ بَوَاطِنِهِمْ وَضَعْفِ الْقُوَى الْهَاضِمَةِ وَفِي الشِّتَاءِ وَالْبِلَادِ الْبَارِدَةِ. يَخْتَارُونَ مِنْ الْمَآكِلِ الْغَلِيظَةِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ لِقُوَّةِ الْحَرَارَةِ الْهَاضِمَةِ فِي بَوَاطِنِهِمْ أَوْ كَانَ زَمَنَ الشِّتَاءِ تَسْخُنُ فِيهِ الْأَجْوَافُ وَتَبْرُدُ الظَّوَاهِرُ مِنْ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ وَالشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِكَوْنِ الْهَوَاءِ يَبْرُدُ فِي الشِّتَاءِ وَشَبِيهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ فَيَنْجَذِبُ إلَيْهِ الْبَرْدُ فَتَسْخُنُ الْأَجْوَافُ وَفِي الْحَرِّ يَسْخُنُ الْهَوَاءُ فَتَنْجَذِبُ إلَيْهِ الْحَرَارَةُ فَتَبْرُدُ الْأَجْوَافُ فَتَكُونُ الْيَنَابِيعُ فِي الصَّيْفِ بَارِدَةً لِبَرْدِ جَوْفِ الْأَرْضِ وَفِي الشِّتَاءِ تَسْخُنُ لِسُخُونَةِ جَوْفِ الْأَرْضِ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ بَشَرًا مِنْ النَّاسِ لَيْسَ عَبَّادَ بْنَ سُلَيْمَانَ وَحْدَهُ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْبَيَانِ يُثْبِتُونَ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي وَيُقَسِّمُونَ الِاشْتِقَاقَ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ:

الِاشْتِقَاقُ الْأَصْغَرُ: وَهُوَ اتِّفَاقُ اللَّفْظَيْنِ فِي الْحُرُوفِ وَالتَّرْتِيبِ: مِثْلَ عِلْمٍ وَعَالِمٍ وَعَلِيمٍ.

وَالثَّانِي الِاشْتِقَاقُ الْأَوْسَطُ: وَهُوَ اتِّفَاقُهُمَا فِي الْحُرُوفِ دُونَ التَّرْتِيبِ

ص: 418

مِثْلَ سُمِّيَ وَوُسِمَ؛ وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ إنَّ الِاسْمَ مُشْتَقٌّ مِنْ السِّمَةِ صَحِيحٌ إذَا أُرِيدَ بِهِ هَذَا الِاشْتِقَاقُ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الِاتِّفَاقُ فِي الْحُرُوفِ وَتَرْتِيبِهَا فَالصَّحِيحُ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ السُّمُوِّ: فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي الْفِعْلِ سَمَّاهُ وَلَا يُقَالُ: وَسَمَهُ وَيُقَالُ فِي التَّصْغِيرِ: سمي وَلَا يُقَالُ: وسيم. وَيُقَالُ فِي جَمْعِهِ: أَسْمَاءٌ وَلَا يُقَالُ أوسام. وَأَمَّا الِاشْتِقَاقُ الثَّالِثُ: فَاتِّفَاقُهُمَا فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ دُونَ بَعْضٍ لَكِنْ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَّفِقَا فِي جِنْسِ الْبَاقِي مِثْلَ أَنْ يَكُونَ حُرُوفَ حَلْقٍ كَمَا يُقَالُ: حَزَرَ؛ وَعَزَرَ؛ وَأَزَرَ فَالْمَادَّةُ تَقْتَضِي الْقُوَّةَ وَالْحَاءُ وَالْعَيْنُ وَالْهَمْزَةُ جِنْسُهَا وَاحِدٌ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ. وَمِنْهُ الْمُعَاقَبَةُ بَيْنَ الْحُرُوفِ الْمُعْتَلِّ وَالْمُضَعَّفِ كَمَا يُقَالُ: تَقَضَّى الْبَازِي؛ وَتَقَضَّضَ. وَمِنْهُ يُقَالُ: السُّرِّيَّةُ مُشْتَقٌّ مِنْ السِّرِّ وَهُوَ النِّكَاحُ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ: الْعَامَّةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْعَمَى. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الضَّمَانُ مُشْتَقٌّ مِنْ ضَمِّ إحْدَى الذِّمَّتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى. وَإِذَا قِيلَ: هَذَا اللَّفْظُ مُشْتَقٌّ مِنْ هَذَا فَهَذَا يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ

ص: 419

كَوْنِ أَحَدِهِمَا أَصْلًا وَالْآخَرِ فَرْعًا فَيَكُونُ الِاشْتِقَاقُ مَنْ جِنْسٍ آخَرَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. وَيُرَادُ بِالِاشْتِقَاقِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُقَدَّمًا عَلَى الْآخَرِ أَصْلًا لَهُ كَمَا يَكُونُ الْأَبُ أَصْلًا لِوَلَدِهِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ فَإِذَا قِيلَ: الْفِعْلُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمَصْدَرِ؛ أَوْ الْمَصْدَرُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْفِعْلِ: فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ: قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ؛ وَالْكُوفِيِّينَ صَحِيحٌ. وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَإِذَا أُرِيدَ التَّرْتِيبُ الْعَقْلِيُّ فَقَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَصَحُّ فَإِنَّ الْمَصْدَرَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَدَثِ فَقَطْ؛ وَالْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ وَإِنْ أُرِيدَ التَّرْتِيبُ الْوُجُودِيُّ - وَهُوَ تَقَدُّمُ وُجُودِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ - فَهَذَا لَا يَنْضَبِطُ فَقَدْ يَكُونُونَ تَكَلَّمُوا بِالْفِعْلِ قَبْلَ الْمَصْدَرِ؛ وَقَدْ يَكُونُونَ تَكَلَّمُوا بِالْمَصْدَرِ قَبْلَ الْفِعْلِ وَقَدْ تَكَلَّمُوا بِأَفْعَالِ لَا مَصَادِرَ لَهَا مِثْلَ بُدٍّ وَبِمَصَادِرَ لَا أَفْعَالَ لَهَا مِثْلَ " وَيْحٍ " وَ " وَيْلٍ " وَقَدْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ اسْتِعْمَالُ فِعْلٍ وَمَصْدَرِ فِعْلٍ آخَرَ كَمَا فِي الْحُبِّ؛ فَإِنَّ فِعْلَهُ الْمَشْهُورَ هُوَ الرُّبَاعِيُّ يُقَالُ: أَحَبَّ يُحِبُّ وَمَصْدَرُهُ الْمَشْهُورُ هُوَ الْحُبُّ دُونَ الْإِحْبَابِ وَفَى اسْمِ الْفَاعِلِ قَالُوا: مُحِبٌّ وَلَمْ يَقُولُوا: حَابٍّ وَفِي الْمَفْعُولِ قَالُوا: مَحْبُوبٌ وَلَمْ يَقُولُوا: مُحِبٌّ إلَّا فِي الْفَاعِلِ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: أَحَبَّهُ إحْبَابًا كَمَا يُقَالُ: أَعْلَمَهُ إعْلَامًا.

ص: 420

وَهَذَا أَيْضًا لَهُ أَسْبَابٌ يَعْرِفُهَا النُّحَاةُ وَأَهْلُ التَّصْرِيفِ: إمَّا كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ: وَإِمَّا نَقْلُ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ؛ وَإِمَّا غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَهْلُ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ؛ إذْ كَانَتْ أَقْوَى الْحَرَكَاتِ هِيَ الضَّمَّةَ؛ وَأَخَفُّهَا الْفَتْحَةَ؛ وَالْكَسْرَةُ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَهُمَا؛ فَجَاءَتْ اللُّغَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُعْرَبَةِ وَالْمَبْنِيَّةِ فَمَا كَانَ مِنْ الْمُعْرَبَاتِ عُمْدَةٌ فِي الْكَلَامِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ: كَانَ لَهُ الْمَرْفُوعُ؛ كَالْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ الْقَائِمِ مَقَامَهُ وَمَا كَانَ فَضْلَةً كَانَ لَهُ النَّصْبُ؛ كَالْمَفْعُولِ وَالْحَالِ وَالتَّمْيِيز. وَمَا كَانَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِ يُضَافُ إلَيْهِ الْعُمْدَةُ تَارَةً وَالْفَضْلَةُ تَارَةً: كَانَ لَهُ الْجَرُّ وَهُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ فِي الْمَبْنِيَّاتِ؛ مِثْلَ مَا يَقُولُونَ فِي أَيْنَ وَكَيْفَ: بُنِيَتْ عَلَى الْفَتْحِ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَجْلِ الْيَاءِ. وَكَذَلِكَ فِي حَرَكَاتِ الْأَلْفَاظِ الْمَبْنِيَّةِ الْأَقْوَى لَهُ الضَّمُّ وَمَا دُونَهُ لَهُ الْفَتْحُ؛ فَيَقُولُونَ: كَرِهَ الشَّيْءَ وَالْكَرَاهِيَةُ يَقُولُونَ فِيهَا: كَرْهًا بِالْفَتْحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} وَقَالَ: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} . وَكَذَلِكَ الْكَسْرُ مَعَ الْفَتْحِ فَيَقُولُونَ فِي الشَّيْءِ الْمَذْبُوحِ وَالْمَنْهُوبِ: ذِبْحٌ ونهب بِالْكَسْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ {أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بنهب إبِلٍ} وَفِي الْمَثَلِ السَّائِرِ: " أَسْمَعُ جَعْجَعَةً وَلَا أَرَى طِحْنًا " بِالْكَسْرِ؛ أَيْ: وَلَا أَرَى

ص: 421

طَحِينًا وَمَنْ قَالَ بِالْفَتْحِ أَرَادَ الْفِعْلَ كَمَا أَنَّ الذَّبْحَ وَالنَّهْبَ هُوَ الْفِعْلُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُغَلِّطُ هَذَا الْقَائِلَ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَأَمْثَالُهَا هِيَ مَعْرُوفَةٌ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ لِمَنْ عَرَفَهَا مَعْرُوفَةٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّجْرِبَةِ تَارَةً وَبِالْقِيَاسِ أُخْرَى كَمَا تَفْعَلُ الْأَطِبَّاءُ فِي طَبَائِعِ الْأَجْسَامِ وَكَمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالتَّجْرِبَةِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ ثُمَّ قَدْ قِيلَ: تَعْرِفُ مَا لَمْ تُجَرِّبْ بِالْقِيَاسِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَهَا أَسْبَابٌ وَمُنَاسَبَاتٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ النُّظَّارِ فَذَلِكَ لَا يُتَكَلَّمُ مَعَهُ فِي خُصُوصِ مُنَاسَبَاتِ هَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قُوَّةٌ يَحْصُلُ بِهَا الْفِعْلُ وَلَا سَبَبٌ يَخُصُّ أَحَدَ الْمُتَشَابِهَيْنِ؛ بَلْ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ مَحْضَ مَشِيئَةِ الْخَالِقِ تُخَصِّصُ مِثْلًا عَنْ مِثْلٍ بِلَا سَبَبٍ وَلَا لِحِكْمَةِ فَهَذَا يَقُولُ: كَوْنُ اللَّفْظِ دَالًّا عَلَى الْمَعْنَى إنْ كَانَ بِقَوْلِ اللَّهِ فَهَذَا لِمُجَرَّدِ الِاقْتِرَانِ الْعَادِيِّ؛ وَتَخْصِيصُ الرَّبِّ عِنْدَهُ لَيْسَ لِسَبَبِ وَلَا لِحِكْمَةِ بَلْ نَفْسُ الْإِرَادَةِ تُخَصِّصُ مِثْلًا عَنْ مِثْلٍ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا سَبَبٍ. وَإِنْ كَانَ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ فَقَدْ يَكُونُ السَّبَبُ خُطُورَ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي قَلْبِ الْوَاضِعِ دُونَ غَيْرِهِ. وَبَسْطُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْحُجَّةَ الَّتِي

ص: 422

احْتَجَّ بِهَا عَلَى إثْبَاتِ الْمَجَازِ وَهِيَ قَوْلُهُ: إنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إنْ كَانَتْ حَقِيقَةً لَزِمَ أَنْ تَكُونَ مُشْتَرَكَةً: هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ بَاطِلٌ. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ تُمْنَعُ الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى؛ وَقَدْ تُمْنَعُ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ؛ وَقَدْ تُمْنَعُ الْمُقَدِّمَتَانِ جَمِيعًا؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ: إنَّمَا يَصِحُّ إذَا سَلِمَ لَهُ أَنَّ فِي اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ بِاعْتِبَارِ اصْطِلَاحٍ وَاحِدٍ أَلْفَاظًا تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ مُتَبَايِنَةٍ مِنْ غَيْرِ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَالْقَائِلُونَ بِالِاشْتِرَاكِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ أَلْفَاظٌ بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَبَيْنَهَا قَدْرٌ مُمَيَّزٌ وَهَذَا يَكُونُ مَعَ تَمَاثُلِ الْأَلْفَاظِ تَارَةً؛ وَمَعَ اخْتِلَافِهَا أُخْرَى؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يَتَّحِدُ وَيَتَعَدَّدُ مَعْنَاهُ فَقَدْ يَتَعَدَّدُ وَيَتَّحِدُ مَعْنَاهُ كَالْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُ التَّرَادُفَ الْمَحْضَ فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ اللَّفْظَانِ مُتَّفِقَيْنِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنًى وَيَمْتَازُ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ كَمَا إذَا قِيلَ فِي السَّيْفِ: إنَّهُ سَيْفٌ وَصَارِمٌ وَمُهَنَّدٌ فَلَفْظُ السَّيْفِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مُجَرَّدًا وَلَفْظُ الصَّارِمِ فِي الْأَصْلِ يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ الصَّرْمِ عَلَيْهِ وَالْمُهَنَّدُ يَدُلُّ عَلَى النِّسْبَةِ إلَى الْهِنْدِ وَإِنْ كَانَ يُعْرَفُ الِاسْتِعْمَالُ مِنْ نَقْلِ الْوَصْفِيَّةِ إلَى الِاسْمِيَّةِ فَصَارَ هَذَا اللَّفْظُ يُطْلَقُ عَلَى

ص: 423

ذَاتِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لَكِنْ مَعَ مُرَاعَاةِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هَذِهِ الْأَسْمَاءُ لَيْسَتْ مُتَرَادِفَةً لِاخْتِصَاصِ بَعْضِهَا بِمَزِيدِ مَعْنًى. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَهَا مُتَرَادِفَةً بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الذَّاتِ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: هِيَ مِنْ الْمُتَبَايِنَةِ كَلَفْظِ الرَّجُلِ وَالْأَسَدِ فَقَالَ لَهُمْ هَؤُلَاءِ: لَيْسَتْ كَالْمُتَبَايِنَةِ. وَالْإِنْصَافُ: أَنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الذَّاتِ مُتَنَوِّعَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّفَاتِ فَهِيَ قِسْمٌ آخَرُ قَدْ يُسَمَّى الْمُتَكَافِئَةَ. وَأَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى وَأَسْمَاءُ رَسُولِهِ وَكِتَابِهِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. فَإِنَّك إذَا قُلْت: إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ؛ حَكِيمٌ؛ غَفُورٌ؛ رَحِيمٌ؛ عَلِيمٌ؛ قَدِيرٌ: فَكُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ سبحانه وتعالى كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ تَخُصُّهُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْعِزَّةِ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْحِكْمَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمَغْفِرَةِ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إنَّ لِي خَمْسَةَ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ؛ وَأَنَا أَحْمَد؛ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ؛ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي؛ وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ} .

ص: 424

وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي أَنْكَرَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِتَسْمِيَتِهِمْ أَوْثَانَهُمْ بِهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: {إنْ هِيَ إلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} فَإِنَّهُمْ سَمَّوْهَا آلِهَةً فَأَثْبَتُوا لَهَا صِفَةَ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَهَا أَنْ تُعْبَدَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِسُلْطَانِ - وَهُوَ الْحُجَّةُ - وَكَوْنُ الشَّيْءِ مَعْبُودًا تَارَةً يُرَادُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ فَهَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِكِتَابٍ مُنَزَّلٍ وَتَارَةً يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْخَلْقِ الْمُقْتَضِي لِاسْتِحْقَاقِ الْعُبُودِيَّةِ؛ فَهَذَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ ثُبُوتُهُ وَانْتِفَاؤُهُ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَقَالَ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إلَّا غُرُورًا} فَطَالَبَهُمْ بِحُجَّةِ عَقْلِيَّةٍ عيانية وَبِحُجَّةِ سَمْعِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فَقَالَ: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} ثُمَّ قَالَ: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} كَمَا قَالَ هُنَاكَ: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} ثُمَّ قَالَ: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ

ص: 425

مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ.} فَالْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ؛ وَالْأَثَارَةُ مَا يُؤْثَرُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ بِالرِّوَايَةِ وَالْإِسْنَادِ. وَقَدْ يُقَيَّدُ فِي الْكُتُبِ؛ فَلِهَذَا فُسِّرَ بِالرِّوَايَةِ وَفُسِّرَ بِالْخَطِّ. وَهَذَا مُطَالَبَةٌ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ فَيُجْعَلَ شَفِيعًا أَوْ يُتَقَرَّبَ بِعِبَادَتِهِ إلَى اللَّهِ وَبَيَانُ أَنَّهُ لَا عِبَادَةَ أَصْلًا إلَّا بِأَمْرِ مِنْ اللَّهِ؛ فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إلَيْهِ ثُمَّ إذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} . وَالسُّلْطَانُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِذَلِكَ: الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ كَمَا قَالَ: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} .

ص: 426

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْفَاظِ مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ وَاحِدًا كَالْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ - وَهِيَ الْمُتَرَادِفَةُ - وَمِنْهَا مَا تَتَبَايَنُ مَعَانِيهَا كَلَفْظِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمِنْهَا مَا يَتَّفِقُ مِنْ وَجْهٍ وَيَخْتَلِفُ مِنْ وَجْهٍ كَلَفْظِ الصَّارِمِ وَالْمُهَنَّدِ وَهَذَا قِسْمٌ ثَالِثٌ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى هَذَا مُبَايِنًا لِمَعْنَى ذَاكَ كَمُبَايَنَةِ السَّمَاءِ لِلْأَرْضِ وَلَا هُوَ مُمَاثِلًا لَهَا كَمُمَاثَلَةِ لَفْظِ الْجُلُوسِ لِلْقُعُودِ: فَكَذَلِكَ الْأَسْمَاءُ الْمُتَّفِقَةُ اللَّفْظُ قَدْ يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَّفِقًا وَهِيَ الْمُتَوَاطِئَةُ وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَبَايِنًا وَهِيَ الْمُشْتَرِكَةُ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا كَلَفْظِ سُهَيْلٍ الْمَقُولِ عَلَى الْكَوْكَبِ وَعَلَى الرَّجُلِ وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَّفِقًا مِنْ وَجْهٍ مُخْتَلِفًا مَنْ وَجْهٍ فَهَذَا قِسْمٌ ثَالِثٌ لَيْسَ هُوَ كَالْمُشْتَرَكِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا وَلَا هُوَ كَالْمُتَّفِقَةِ الْمُتَوَاطِئَةِ فَيَكُونُ بَيْنَهَا اتِّفَاقٌ هُوَ اشْتِرَاكٌ مَعْنَوِيٌّ مِنْ وَجْهٍ وَافْتِرَاقٌ هُوَ اخْتِلَافٌ مَعْنَوِيٌّ مِنْ وَجْهٍ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا إذَا خُصَّ كُلُّ لَفْظٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُخْتَصِّ. وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كَثِيرَةٌ فِي الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ؛ أَوْ هِيَ أَكْثَرُ الْأَلْفَاظِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ كُلُّ مُتَكَلِّمٍ؛ فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُقَالُ: إنَّهَا مُتَوَاطِئَةٌ كَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ؛ مِثْلَ لَفْظِ الرَّسُولِ وَالْوَالِي وَالْقَاضِي؛ وَالرَّجُلِ؛ وَالْمَرْأَةِ وَالْإِمَامِ وَالْبَيْتِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ: قَدْ يُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى الْعَامُّ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ مِمَّا يَقْتَرِنُ بِهَا تَعْرِيفُ الْإِضَافَةِ أَوْ اللَّامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إنَّا أَرْسَلْنَا إلَيْكُمْ رَسُولًا

ص: 427

شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} فَلَفْظُ الرَّسُولِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَفْظٌ وَاحِدٌ مَقْرُونٌ بِاللَّامِ لَكِنْ يَنْصَرِفُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إلَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَمَّا قَالَ هُنَا: {كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} كَانَ اللَّامُ لِتَعْرِيفِ رَسُولِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عليه السلام. وَلَمَّا قَالَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} كَانَ اللَّامُ لِتَعْرِيفِ الرَّسُولِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ الْمَأْمُورِينَ بِأَمْرِهِ الْمُنْتَهِينَ بِنَهْيِهِ وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مَجَازٌ فِي أَحَدِهِمَا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُشْتَرَكٌ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا مَحْضًا كَلَفْظِ الْمُشْتَرِي لِلْمُبْتَاعِ وَالْكَوْكَبِ وَسُهَيْلٍ لِلْكَوْكَبِ وَالرَّجُلِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُتَوَاطِئٌ دَلَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَقَطْ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ مُحَمَّدٌ وَفِي الْآخَرِ مُوسَى مَعَ أَنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ وَاحِدٌ. وَلَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ تَكَلَّمَ بِهِ فِي سِيَاقِ كَلَامٍ مِنْ مَدْلُولِ لَامِ التَّعْرِيفِ وَهَكَذَا جَمِيعُ أَسْمَاءِ الْمَعَارِفِ؛ فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ نَوْعَانِ: مَعْرِفَةٌ؛ وَنَكِرَةٌ.

ص: 428

وَالْمَعَارِفُ مِثْلُ: الْمُضْمَرَاتِ؛ وَأَسْمَاءُ الْإِشَارَةِ مِثْلُ: أَنَا وَأَنْتَ؛ وَهُوَ وَمِثْلُ: هَذَا؛ وَذَاكَ. وَالْأَسْمَاءُ الْمَوْصُولَةُ مِثْلُ: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} . وَأَسْمَاءُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّامِ كَالرَّسُولِ. وَالْأَسْمَاءُ الْأَعْلَامُ مِثْلُ: إبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ: وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ؛ وَيُوسُفُ وَمِثْلُ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَالْمُضَافُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} وَقَوْلِهِ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} وَمِثْلُ: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} . وَمِثْلُ الْمُنَادَى الْمُعَيَّنِ مِثْلَ قَوْلِ يُوسُفَ: {يَا أَبَتِ إنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} وَقَوْلُ ابْنَةِ صَاحِبِ مَدْيَنَ: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} فَإِنَّ لَفْظَ الْأَبِ هُنَاكَ أُرِيدَ بِهِ يَعْقُوبُ وَهُنَا أُرِيدَ بِهِ صَاحِبُ مَدْيَنَ الَّذِي تَزَوَّجَ مُوسَى ابْنَتَهُ وَلَيْسَ هُوَ شُعَيْبًا كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الغالطين بَلْ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ لَيْسَ شُعَيْبًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْمَعَارِفَ - وَهِيَ أَصْنَافٌ - كُلُّ

ص: 429

نَوْعٍ مِنْهَا لَفْظُهُ وَاحِدٌ كَلَفْظِ أَنَا وَأَنْتَ؛ وَلَفْظِ هَذَا وَذَاكَ وَمَعَ هَذَا فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَدُلُّ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَيَّنِ وَالْمُخَاطَبِ وَالْغَائِبِ الْمُعَيَّنِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هِيَ مُشْتَرَكَةٌ كَلَفْظِ سُهَيْلٍ وَلَا مُتَوَاطِئَةٌ كَلَفْظِ الْإِنْسَانِ بَلْ بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَقَدْرٌ مُمَيَّزٌ فَبِاعْتِبَارِ الْمُشْتَرَكِ تُشْبِهُ الْمُتَوَاطِئَةَ وَبِاعْتِبَارِ الْمُمَيَّزِ تُشْبِهُ الْمُشْتَرَكَةَ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا وَهِيَ لَا تُسْتَعْمَلُ قَطُّ إلَّا مَعَ مَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِمَّا تُعَيِّنُ الْمُضْمَرَ وَالْمُشَارَ إلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَصَارَتْ دَلَالَتُهَا مُؤَلَّفَةً مِنْ لَفْظِهَا وَمِنْ قَرِينَةٍ تَقْتَرِنُ بِهَا تُعَيِّنُ الْمَعْرُوفَ وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ: إنَّ هَذِهِ مَجَازٌ مَعَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ قَطُّ إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ تُبَيِّنُ تَعْيِينَ الْمَعْرُوفِ الْمُرَادِ. فَإِذَا قِيلَ: لَفْظُ أَنَا؛ قِيلَ: يَدُلُّ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ مُطْلَقًا وَلَكِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ أَحَدٌ قَطُّ مُطْلَقًا؛ إذْ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ مُتَكَلِّمٌ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ مُشْتَرَكٌ بَلْ كُلُّ مُتَكَلِّمٍ هُوَ مُعَيَّنٌ مُتَمَيِّزٌ عَنْ غَيْرِهِ فَإِذَا طُلِبَ مَعْرِفَةُ مَدْلُولِهَا وَمَعْنَاهَا قِيلَ: مَنْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا؟ وَمَنْ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِأَنْتَ وَإِيَّاكَ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ فَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا هُوَ اللَّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا} وَنَحْوِ ذَلِكَ: كَانَ هَذَا اللَّفْظُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اسْمًا لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ وَلَا يُمْكِنُ مَخْلُوقٌ أَنْ يَقُولَ: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}

ص: 430

وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ قَالَ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} وَذَكَرَ عَنْ صَاحِبِ يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي} وَأَخْبَرَ عَنْ عِفْرِيتٍ مِنْ الْجِنِّ أَنَّهُ قَالَ: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} وَعَنْ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَّهُ قَالَ: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ} فَلَفْظُ أَنَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٌ لَيْسَ هُوَ مَدْلُولَهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ أَنَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ: إنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُشْتَرَكٌ وَلَا مَجَازٌ مَعَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ إلَّا بِقَرِينَةٍ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ.

فَصْلٌ:

إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَيُقَالُ لَهُ: هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي ذَكَرْتهَا مِثْلَ لَفْظِ الظَّهْرِ؛ وَالْمَتْنِ وَالسَّاقِ؛ وَالْكَبِدِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَقْرُونَةً بِمَا يُبَيِّنُ الْمُضَافَ إلَيْهِ وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ الْمُرَادُ. فَقَوْلُك: ظَهْرُ الطَّرِيقِ وَمَتْنُهَا: لَيْسَ هُوَ كَقَوْلِك: ظَهْرُ الْإِنْسَانِ وَمَتْنُهُ بَلْ وَلَا كَقَوْلِك: ظَهْرُ الْفَرَسِ وَمَتْنُهُ وَلَا كَقَوْلِك: ظَهْرُ الْجَبَلِ.

ص: 431

وَكَذَلِكَ كَبِدُ السَّمَاءِ لَيْسَ مِثْلَ كَبِدِ الْقَوْسِ وَلَا هَذَانِ مِثْلَ لَفْظِ كَبِدِ الْإِنْسَانِ.

وَكَذَلِكَ لَفْظُ السَّيْفِ فِي {قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّ خَالِدًا سَيْفٌ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ} لَيْسَ مِثْلَ لَفْظِ السَّيْفِ فِي قَوْلِهِ: {مَنْ جَاءَكُمْ وَأَمْرُكُمْ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ} فَكُلٌّ مِنْ لَفْظِ السَّيْفِ هَاهُنَا وَهَاهُنَا مَقْرُونٌ بِمَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ. نَعَمْ قَدْ يُقَالُ: التَّشَابُهُ بَيْنَ مَعْنَى الرَّسُولِ وَالرَّسُولِ أَتَمُّ مِنْ التَّشَابُهِ بَيْنَ مَعْنَى الْكَبِدِ وَالْكَبِدِ وَالسَّيْفِ وَالسَّيْفِ. فَيُقَالُ: هَذَا الْقَدْرُ الْفَارِقُ دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْمُخْتَصُّ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} وَفِي قَوْلِهِ: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} وَقَوْلِهِ: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ لَيْسَ مُمَاثِلًا فِي الْحَقِيقَةِ لِبَيْتِهِ وَلَا لِبَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا لِبَيْتِ فِي الْجَنَّةِ؛ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْبَيْتِ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمِيعِ بِلَا نِزَاعٍ إذْ كَانَ الْمُخَصِّصُ هُوَ الْإِضَافَةَ فِي بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ وَبَيْتِ النَّبِيِّ دَلَّ عَلَى سُكْنَى صَاحِبِ الْبَيْتِ فِيهِ وَبَيْتُ اللَّهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سَاكِنٌ فِيهِ لَكِنَّ إضَافَةَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ بَلْ بَيْتُهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ لِذِكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ فَهُوَ كَمَعْرِفَتِهِ بِالْقُلُوبِ وَذِكْرِهِ بِاللِّسَانِ وَكُلُّ مَوْجُودٍ فَلَهُ وُجُودٌ عَيْنِيٌّ؛ وَعِلْمِيٌّ؛ وَلَفْظِيٌّ؛ وَرَسْمِيٌّ. وَاسْمُ اللَّهِ يُرَادُ بِهِ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَكَلَامِ اللَّهِ.

ص: 432

فَإِذَا قَالَ: {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا} فَهُوَ اللَّهُ نَفْسُهُ وَإِذَا قَالَ: {لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ؛ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا؛ وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ؛ وَبِي يَبْطِشُ؛ وَبِي يَمْشِي} وَقَوْلُهُ: {عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي فَيَقُولُ: رَبِّي كَيْفَ أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ} فَاَلَّذِي فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَثَلِ الْأَعْلَى؛ وَالْمِثَالُ الْعِلْمِيُّ وَيُقَالُ: أَنْتَ فِي قَلْبِي كَمَا قِيلَ:

مِثَالُك فِي عَيْنِي؛ وَذِكْرُك فِي فَمِي

وَمَثْوَاك فِي قَلْبِي؛ فَأَيْنَ تَغِيبُ؟

وَيُقَالُ: سَاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُرُهُ

لَسْت أَنْسَاهُ فَأَذْكُرُهُ

وَمَا يُنْقَلُ {عَنْ دَاوُد عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ تَحُلُّ قُلُوبَ الصَّالِحِينَ} فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ أَنَّ نَفْسَ الْمَذْكُورِ الْمَعْلُومِ الْمَحْبُوبِ؛ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 433

يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ} فَقَوْلُهُ: " بِي " أَرَادَ أَنَّهَا تَتَحَرَّكُ بِاسْمِهِ لَمْ تَتَحَرَّكْ بِذَاتِهِ وَلَا مَا فِي الْقَلْبِ هُنَا ذَاتُهُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ {أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ: اللَّهُ سَطْرٌ؛ وَرَسُولُ سَطْرٌ؛ وَمُحَمَّدٌ سَطْرٌ} فَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ بِلَفْظِ اللَّهِ هُوَ النَّقْشُ الْمَنْقُوشُ فِي الْخَاتَمِ الْمُطَابِقُ لِلَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ بِالْقَلْبِ الْمُطَابِقِ لِلْمَوْجُودِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. فَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْعَائِدَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ مَوْضِعٍ اقْتَرَنَ بِهَا مَا بَيَّنَ الْمُرَادَ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْتِبَاسٌ فَكَذَلِكَ لَفْظُ بَيْتِهِ. وَقُلْنَا: الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ فِيهَا مَا بُنِيَ لِلْقُلُوبِ وَالْأَلْسِنَةِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَالْأَنْوَارِ الَّتِي يَجْعَلُهَا فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ثُمَّ قَالَ: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} إلَى قَوْلِهِ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا النُّورَ فِي هَذِهِ الْقُلُوبِ وَفِي هَذِهِ الْبُيُوتِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: " إنَّ الْمَسَاجِدَ تُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ كَمَا تُضِيءُ الْكَوَاكِبُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ ". وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَقَوْلُ الْقَائِلِ: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ حَقِيقَةً

ص: 434

فِيمَا ذَكَرَ لَكَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا يُقَالُ لَهُ: مَا تَعْنِي بِاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ؟ تَعْنِي بِهِ مَا هُوَ الِاشْتِرَاكُ اللَّفْظِيُّ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِك؟ حَيْثُ قُلْت فِي تَقْسِيمِ الْأَلْفَاظِ: الِاسْمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا؛ أَوْ مُتَعَدِّدًا. فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَمَفْهُومُهُ يَنْقَسِمُ عَلَى وُجُوهٍ. الْقِسْمَةُ الْأُولَى: إنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَفْهُومِهِ: أَوْ لَا يَصِحُّ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ طَلَبِيٌّ. وَذَكَرَ تَمَامَهُ بِكَلَامِ بَعْضُهُ حَقٌّ؛ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ اتَّبَعَ فِيهِ الْمَنْطِقِيِّينَ. ثُمَّ قَالَ: أَمَّا إنْ كَانَ مَفْهُومُهُ غَيْرَ صَالِحٍ لِاشْتِرَاكِ كَثِيرِينَ فِيهِ فَهُوَ الْجُزْئِيُّ وَذَكَرَ أَنَّهُ الْعِلْمُ خَاصَّةً؛ وَقَسَّمَهُ تَقْسِيمَ النُّحَاةِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا إنْ كَانَ الِاسْمُ وَاحِدًا وَالْمُسَمَّى مُخْتَلِفًا: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا عَلَى الْكُلِّ حَقِيقَةً بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ؛ أَوْ هُوَ مُسْتَعَارٌ فِي بَعْضِهَا. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ الْمُشْتَرَكُ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمُسَمَّيَاتُ مُتَبَايِنَةً كَالْجُونِ لِلسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ أَوْ غَيْرَ مُتَبَايِنَةٍ كَمَا إذَا أَطْلَقْنَا اسْمَ الْأَسْوَدِ عَلَى شَخْصٍ بِطَرِيقِ الْعِلْمِيَّةِ وَبِطَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ مِنْ السَّوَادِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ مَجَازٌ. فَإِنْ أَرَدْت هَذَا فَالْمُشْتَرَكُ هُوَ الِاسْمُ الْوَاحِدُ الَّذِي يَخْتَلِفُ مُسَمَّاهُ وَيَكُونُ مَوْضُوعًا عَلَى الْكُلِّ حَقِيقَةً بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ وَتَقْسِيمُ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى وَاحِدًا وَيَكُونُ كُلِّيًّا وَجُزْئِيًّا كَمَا ذَكَرْته. وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ لَك: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إذَا كَانَتْ حَقِيقَةً فِيمَا ذَكَرَ مِنْ الصُّوَرِ كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ إنَّمَا

ص: 435

يَصِحُّ فِي وَاحِدٍ يَكُونُ مَعْنَاهُ إمَّا وَاحِدًا وَإِمَّا مُتَعَدِّدًا وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَوْرِدَ النِّزَاعِ دَاخِلٌ فِيمَا ذَكَرْته فَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا إذَا كَانَ اللَّفْظُ وَاحِدًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ هُوَ لَفْظُ ظَهْرِ الطَّرِيقِ وَمَتْنِهَا وَجَنَاحِ السَّفَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ لَهُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ؛ لَيْسَ مَعْنَاهُ مُتَعَدِّدًا مُخْتَلِفًا: بَلْ حَيْثُ وُجِدَ هَذَا اللَّفْظُ كَانَ مَعْنَاهُ وَاحِدًا كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ. فَإِنْ قُلْت: لَكِنَّ لَفْظَ الظَّهْرِ وَالْمَتْنِ وَالْجَنَاحِ يُوجَدُ لَهُ مَعْنًى غَيْرُ هَذَا. قِيلَ: لَفْظُ ظَهْرِ الطَّرِيقِ وَجَنَاحِهَا لَيْسَ هُوَ لَفْظَ ظَهْرِ الْإِنْسَانِ وَجَنَاحِ الطَّائِرِ وَلَا أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ وَلَفْظُ الظَّهْرِ وَالطَّرِيقِ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْرُوفٍ يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ وَهُوَ ظَهْرُ الْإِنْسَانِ مَثَلًا؛ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ لَفْظِ ظَهْرِ الطَّرِيقِ بَلْ هَذَا اللَّفْظُ مُغَايِرٌ لِهَذَا اللَّفْظِ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: اللَّفْظُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ بَلْ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَنَّ لَفْظَ الظَّهْرِ يُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانِ حَقِيقَةً بِالِاتِّفَاقِ وَمَعَ هَذَا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ قَدْ لَا يَسْبِقُ إلَى ذِهْنِهِمْ إلَّا ظَهْرُ الْإِنْسَانِ لَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ ظَهْرُ الْكَلْبِ؛ وَلَا ظَهْرُ الثَّعْلَبِ وَالذِّئْبِ وَبَنَاتِ عِرْسٍ وَظَهْرُ النَّمْلَةِ وَالْقَمْلَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَهْرَ الْإِنْسَانِ هُوَ الَّذِي يَتَصَوَّرُونَهُ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ كَثِيرًا فِي عَامَّةِ كَلَامِهِمْ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ؛ يَنْصَرِفُ إلَى الظَّهْرِ الْمَعْرُوفِ.

ص: 436

وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَيْمَانُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَنْصَرِفُ إلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُ بِلُغَتِهِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ حَقِيقَةً أَيْضًا كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ رُءُوسُ الْأَنْعَامِ: أَوْ رُءُوسُ الْغَنَمِ؛ أَوْ الرَّأْسُ الَّذِي يُؤْكَلُ فِي الْعَادَةِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْبَيْضِ؛ يُرَادُ بِهِ الْبَيْضُ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ. فَأَمَّا رَأْسُ النَّمْلِ وَالْبَرَاغِيثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ وَلَا يَدْخُلُ بَيْضُ السَّمَكِ فِي الْيَمِينِ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةً إذَا قِيلَ: بَيْضُ النَّمْلِ وَبَيْضُ السَّمَكِ بِالْإِضَافَةِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: بِعْتُك بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ: انْصَرَفَ الْإِطْلَاقُ إلَى مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ مُسَمَّى هَذَا اللَّفْظِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَقْدِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ حَتَّى إنَّهُ فِي الْمَكَانِ الْوَاحِدِ يَكُونُ لَفْظُ الدِّينَارِ يُرَادُ بِهِ فِي ثَمَنِ بَعْضِ السِّلَعِ الذَّهَبُ الْخَالِصُ؛ وَفِي سِلْعَةٍ أُخْرَى ذَهَبٌ مَغْشُوشٌ؛ وَفِي سِلْعَةٍ أُخْرَى مِقْدَارٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ فَيُحْمَلُ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ عَلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُتَبَايِعَانِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ بِمَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ نَفْسُ اللَّفْظِ مُتَغَايِرًا كَلَفْظِ ظَهْرِ الْإِنْسَانِ؛ وَظَهْرِ الطَّرِيقِ؛ وَرَأْسِ الْإِنْسَانِ وَرَأْسِ الدَّرْبِ؛ وَرَأْسِ الْمَالِ؛ أَوْ رَأْسِ الْعَيْنِ؛ أَوْ قُيِّدَ أَحَدُهُمَا بِالتَّعْرِيفِ كَلَفْظِ الظَّهْر؛ وَقُيِّدَ الْآخَرُ بِالْإِضَافَةِ؛ وَكَانَ اللَّامُ يُوجِبُ إرَادَةَ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ؛ وَالْإِضَافَةُ تُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ. فَالْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ لَيْسَ هُوَ الْمُعَرَّفَ بِالْإِضَافَةِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى.

ص: 437

وَقَدْ يَكُونُ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَمَعَ هَذَا يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى كَمَا فِي لَفْظِ الرَّسُولِ؛ لِأَنَّ جُزْءَ الدَّلَالَةِ مَعْرِفَةُ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: فَكَيْفَ يَكُونُ تَعْرِيفُ الْإِضَافَةِ مَعَ تَعْرِيفِ اللَّامِ؟ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ظَهْرِ الْإِنْسَانِ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اخْتِلَافِ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِكًا لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ لَا يَكُونُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ مُشْتَرِكٌ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا مَقْرُونًا بِمَا يُبَيِّنُ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ قِيلَ: إمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا لَازِمًا؛ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا بَطَلَ السُّؤَالُ؛ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا الْتَزَمْنَا قَوْلَ مَنْ يَنْفِي الِاشْتِرَاكَ إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَمَا يَلْتَزِمُ قَوْلَ مَنْ يَنْفِي الْمَجَازَ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَمْنَعُونَ ثُبُوتَ الِاشْتِرَاكِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِهِ؟ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ادَّعَوْهُ وَصَاحِبِ الْكِتَابِ أَبِي الْحَسَنِ الآمدي يَعْتَرِفُ بِضِعْفِ أَدِلَّةِ مُثْبِتِيهِ وَقَدْ ذَكَرَ لِنَفْسِهِ دَلِيلًا هُوَ أَضْعَفُ مِمَّا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: فِي مَسَائِلِهِ

ص: 438

" الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ": اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ: هَلْ لَهُ وُجُودٌ فِي اللُّغَةِ؟ فَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ وَنَفَاهُ آخَرُونَ. قَالَ: وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ وُقُوعِهِ أَمَّا الخطابي الْعَقْلِيُّ فَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ وَاضِعٍ وَاحِدٍ وَأَنْ يَتَّفِقَ وَضْعُ قَبِيلَةٍ لِلِاسْمِ عَلَى مَعْنَاهُ وَوَضْعُ أُخْرَى لَهُ بِإِزَاءِ مَعْنًى آخَرَ مِنْ غَيْرِ شُعُورِ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِمَا وُضِعَتْ الْأُخْرَى ثُمَّ يَشْتَهِرُ الْوَضْعَانِ لِخَفَاءِ سَبَبِهِ قَالَ: وَهُوَ الْأَشْبَهُ. قَالَ وَأَمَّا بَيَانُ الْوُقُوعِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْأَلْفَاظُ الْمُشْتَرِكَةُ وَاقِعَةً فِي اللُّغَةِ مَعَ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ؛ وَالْأَسْمَاءُ مُتَنَاهِيَةٌ ضَرُورَةُ تَرْكِيبِهَا مِنْ الْحُرُوفِ الْمُتَنَاهِيَةِ لَخَلَتْ أَكْثَرُ الْمُسَمَّيَاتِ عَنْ أَلْفَاظِ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا. وَهُوَ مُمْتَنِعٌ قَالَ: وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَسْمَاءَ إنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً مِنْ الْحُرُوفِ الْمُتَنَاهِيَةِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيَةً إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَحْصُلُ مِنْ تَضَاعُفِ التَّرْكِيبَاتِ مُتَنَاهِيَةً فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسَمَّيَاتِ الْمُتَضَادَّةَ وَالْمُخْتَلِفَةَ - وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا -: غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ غَيْرَ أَنَّ وَضْعَ الْأَسْمَاءِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا مَشْرُوطٌ بِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ مَقْصُودًا بِالْوَضْعِ وَمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ فِيهِ ذَلِكَ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ؛ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْوَضْعُ. وَلِهَذَا يَأْتِي كَثِيرٌ مِنْ الْمَعَانِي لَمْ تَضَعْ الْعَرَبُ بِإِزَائِهَا أَلْفَاظًا تَدُلُّ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ وَلَا التَّفْضِيلِ كَأَنْوَاعِ الرَّوَائِحِ وَكَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ.

ص: 439

قَالَ: وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: أَطْلَقَ أَهْلُ اللُّغَةِ اسْمَ " الْقُرْءِ " عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ؛ وَهُمَا ضِدَّانِ؛ فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الِاسْمِ الْمُشْتَرِكِ فِي اللُّغَةِ. قَالَ: وَلِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ مُشْتَرِكًا غَيْرُ مَنْقُولٍ عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ بَلْ غَايَةُ الْمَوْضُوعِ اتِّحَادُ الِاسْمِ وَتَعَدُّدُ الْمُسَمَّى وَلَعَلَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى وَاحِدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا لَا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ حَقِيقَتِهِمَا أَوْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازٌ فِي الْأُخْرَى وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا مَوْضِعُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى إمَّا بِالنَّظَرِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ نَفْيِ التَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ وَإِمَّا بِالنَّظَرِ إلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي فَلِأَنَّ التَّجَوُّزَ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِرَاكِ كَمَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. قَالَ: وَالْأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ اتِّفَاقُ إجْمَاعِ الْكُلِّ عَلَى إطْلَاقِ اسْمِ الْوُجُودِ عَلَى الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ حَقِيقَةً وَلَوْ كَانَ مَجَازًا فِي أَحَدِهِمَا لَصَحَّ نَفْيُهُ إذْ هِيَ أَمَارَةُ الْمَجَازِ؛ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَعِنْدَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْوُجُودِ دَالًّا عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ؛ أَوْ عَلَى حَقِيقَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى ذَاتِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَاتَ الرَّبِّ مُخَالِفَةٌ بِذَاتِهَا لِمَا سِوَاهَا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ الْحَادِثَةِ؛ وَإِلَّا لَوَجَبَ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا شَارَكَهَا فِي مَعْنَاهَا فِي الْوُجُوبِ؛ ضَرُورَةُ التَّسَاوِي فِي مَفْهُومِ الذَّاتِ؛ وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُ اسْمِ الْوُجُودِ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ - تَعَالَى -

ص: 440

فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَفْهُومُ مِنْهَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ اسْمِ الْوُجُودِ فِي الْحَوَادِثِ؛ وَإِمَّا خِلَافُهُ. فَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّى الْوُجُودِ فِي الْوُجُودِ وَاجِبًا لِذَاتِهِ؛ ضَرُورَةَ أَنَّ وُجُودَ الْبَارِي وَاجِبٌ لِذَاتِهِ؛ أَوْ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الرَّبِّ مُمْكِنًا؛ ضَرُورَةَ إمْكَانِ وُجُودِ مَا سِوَى اللَّهِ؛ وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَزِمَ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ؛ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَهَذَا فِي دَلِيلِهِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ؛ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: عَلَى أَنَّ اسْمَ الْوُجُودِ حَقِيقَةٌ فِي الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ؛ وَأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الِاشْتِرَاكَ. وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ قَطْعًا. وَالْأُولَى فِيهَا نِزَاعٌ؛ خِلَافُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ. فَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنَّ كُلَّ اسْمٍ تَسَمَّى بِهِ الْمَخْلُوقُ لَا يُسَمَّى بِهِ الْخَالِقُ إلَّا مَجَازًا حَتَّى لَفْظِ الشَّيْءِ وَهُوَ قَوْلُ جَهْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْبَاطِنِيَّةِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُسَمُّونَهُ مَوْجُودًا وَلَا شَيْئًا؛ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ عَكَسَ وَقَالَ: بَلْ كُلَّمَا يُسَمَّى بِهِ الرَّبُّ فَهُوَ حَقِيقَةٌ؛ وَمَجَازٌ فِي غَيْرِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ النَّاشِي مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ.

ص: 441

وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا؛ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ قَالُوا: إنَّهُ مُتَوَاطِئٌ التَّوَاطُؤَ الْعَامَّ؛ أَوْ مُشَكِّكًا إنْ جَعَلَ الْمُشَكِّكَ نَوْعًا آخَرَ؛ وَهُوَ غَيْرُ التَّوَاطُؤِ الْخَاصِّ الَّذِي تَتَمَاثَلُ مَعَانِيهِ فِي مَوَارِدِ أَلْفَاظِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُشْتَرَكًا شِرْذِمَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُعْرَفُ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ طَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ وَلَا نُظَّارٍ مَشْهُورِينَ. وَمَنْ حَكَى ذَلِكَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ كَمَا حَكَاهُ الرَّازِيَّ فَقَدْ غَلِطَ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَ الرَّجُلِ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ: أَنَّ الْوُجُودَ اسْمٌ عَامٌّ يَنْقَسِمُ إلَى: قَدِيمٍ؛ وَحَادِثٍ وَلَكِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُ مَاهِيَّتِه وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ فَظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا كَمَا احْتَجَّ بِهِ الآمدي وَذَلِكَ غَلَطٌ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ يَتَبَيَّنُ بِالْكَلَامِ عَلَى حُجَّتِهِ. وَقَوْلُهُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْوُجُودِ دَالًّا عَلَى الذَّاتِ؛ أَوْ عَلَى صِفَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى الذَّاتِ. يُقَالُ لَهُ: أَتُرِيدُ بِهِ لَفْظَ الْوُجُودِ الْعَامِّ الْمُنْقَسِمِ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ؛ أَمْ لَفْظَ الْوُجُودِ الْخَاصِّ؟ كَمَا يُقَالُ: وُجُودُ الْوَاجِبِ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا الرَّبُّ وَغَيْرُهُ - بَلْ كُلُّ

ص: 442

مُسَمَّيَيْنِ - تَارَةً تُعْتَبَرُ مُطْلَقَةً عَامَّةً تَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ؛ وَتَارَةً تُعْتَبَرُ مُقَيَّدَةً بِهَذَا الْمُسَمَّى. وَلَفْظُ الْحَيِّ وَالْعَلِيمِ؛ وَالْقَدِيرِ؛ وَالسَّمِيعِ؛ وَالْبَصِيرِ وَالْمَوْجُودِ؛ وَالشَّيْءِ؛ وَالذَّاتِ: إذَا كَانَ عَامًّا يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَإِذَا قِيلَ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ: لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ كَمَا إذَا قِيلَ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} لَمْ يَدْخُلْ الْخَالِقُ فِي اسْمِ هَذَا الْحَيِّ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ؛ وَالْكَلَامُ؛ وَالِاسْتِوَاءُ؛ وَالنُّزُولُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: تَارَةً يُذْكَرُ مُطْلَقًا عَامًّا: وَتَارَةً يُقَالُ: عِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ؛ وَكَلَامُهُ؛ وَنُزُولُهُ؛ وَاسْتِوَاؤُهُ: فَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْخَالِقِ؛ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ الْمَخْلُوقُ. كَمَا إذَا قِيلَ: عِلْمُ الْمَخْلُوقِ وَقُدْرَتُهُ: وَكَلَامُهُ؛ وَنُزُولُهُ؛ وَاسْتِوَاؤُهُ فَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ وَلَا يَشْرَكُهُ فِيهِ الْخَالِقُ. فَالْإِضَافَةُ أَوْ التَّعْرِيفُ خَصَّصَ وَمَيَّزَ وَقَطَعَ الِاشْتِرَاكَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ لَفْظُ الْوُجُودِ مُطْلَقًا وَقِيلَ: وُجُودُ الْوَاجِبِ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ. فَإِذَا قِيلَ: وُجُودُ الْعَبْدِ وَذَاتُهُ وَمَاهِيَّتُه وَحَقِيقَتُهُ كَانَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِهِ دَالًّا عَلَى ذَاتِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَاتِهِ.

ص: 443

وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: وُجُودُ الرَّبِّ وَنَفْسِهِ؛ وَذَاتُهُ؛ وَمَاهِيَّتُه وَحَقِيقَتُهُ: كَانَ دَالًّا عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ: وَهُوَ نَفْسُهُ الْمُتَّصِفَةُ بِصِفَاتِهِ. فَقَوْلُهُ: اسْمُ الْوُجُودِ إمَّا أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ؛ أَوْ صِفَةٍ زَائِدَةٍ. يُقَالُ لَهُ: إنْ أَرَدْت لَفْظَ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَالْمُمْكِنَ؛ فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ وَلَا عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالْمُمْكِنِ؛ بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ وَالْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ إنَّمَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا فِي الذِّهْنِ وَاللَّفْظِ وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ هُوَ نَفْسُهُ كُلِّيٌّ مَعَ كَوْنِهِ فِي الْخَارِجِ. وَهَذَا كَمَا إذَا قِيلَ: الذَّاتُ وَالنَّفْسُ: بِحَيْثُ يَعُمُّ الْوَاجِبَ وَالْمُمْكِنَ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ الْكُلِّيِّ لَا عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا كَمَا إذَا قِيلَ: الْوُجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى: وَاجِبٍ؛ وَمُمْكِنٍ. وَالذَّاتُ تَنْقَسِمُ إلَى: وَاجِبٍ: وَمُمْكِنٍ. وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَمَّا إنْ أُرِيدَ بِالْوُجُودِ مَا يَعُمُّهُمَا جَمِيعًا كَمَا إذَا قِيلَ: الْوُجُودُ كُلُّهُ وَاجِبُهُ وَمُمْكِنُهُ؛ أَوْ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ فَهُنَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِكُلِّ مِنْهُمَا كَمَا إذَا قِيلَ: وُجُودُ الْوَاجِبِ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ. فَفِي الْجُمْلَةِ اللَّفْظُ: إمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ فَقَطْ كَالْوُجُودِ الْمُنْقَسِمِ أَوْ عَلَى الْمُمَيَّزِ فَقَطْ كَقَوْلِ: وُجُودِ الْوَاجِبِ: وَقَوْلِ: وُجُودِ الْمُمْكِنِ

ص: 444

أَوْ عَلَيْهِمَا كَقَوْلِك: الْوُجُودُ كُلُّهُ وَاجِبُهُ وَمُمْكِنُهُ؛ وَالْوُجُودُ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ. وَقَوْلُهُ: إذَا كَانَ دَالًّا عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ فَذَاتُهُ مُخَالِفَةٌ لِمَا سِوَاهَا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ يُقَالُ: لَفْظُ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الْمُنْقَسِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ وَأَمَّا لَفْظُ الْوُجُودِ الْخَاصِّ لِوُجُودِ الرَّبِّ أَوْ الْعَامِّ كَقَوْلِنَا: الْوُجُودُ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِذَاتِ الرَّبِّ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِذَاتِ غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ لَفْظَ ذَاتِ الرَّبِّ وَذَاتِ الْعَبْدِ تَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ وَبِالْعَبْدِ: وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةُ هَذَا مُخَالِفًا لِحَقِيقَةِ هَذَا فَكَذَلِكَ لَفْظُ الْوُجُودِ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا مَعَ اخْتِلَافِ حَقِيقَةِ الْمَوْجُودَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ حَقِيقَةُ هَذَا الْوُجُودِ يُخَالِفُ حَقِيقَةَ هَذَا الْوُجُودِ كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا. قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ مِنْهُ نَشَأَ غَلَطُ هَذَا وَأَمْثَالِهِ: وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ تَتَّفِقُ فِي أَسْمَاءٍ عَامَّةٍ تُتَنَاوَلُ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ وَالتَّشْكِيكِ كَلَفْظِ اللَّوْنِ؛ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ وَالْحُمْرَةَ مَعَ اخْتِلَافِ حَقَائِقِ الْأَلْوَانِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ الصِّفَةِ وَالْعَرَضِ وَالْمَعْنَى يَتَنَاوَلُ الْعِلْمَ؛ وَالْقُدْرَةَ؛ وَالْحَيَاةَ وَالطَّعْمَ؛ وَاللَّوْنَ: وَالرِّيحَ مَعَ اخْتِلَافِ حَقَائِقِ الْأَلْوَانِ.

ص: 445

وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْحَيَوَانِ يَتَنَاوَلُ الْإِنْسَانَ وَالْبَهِيمَةَ مَعَ اخْتِلَافِ حَقَائِقِهِمَا فَلَفْظُ الْوُجُودِ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ قَدْ تَشْتَرِكُ فِي مَعْنًى عَامٍّ يَشْمَلُهَا؛ وَيَكُونُ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى كَلَفْظِ اللَّوْنِ ثُمَّ بِالتَّخْصِيصِ يَتَنَاوَلُ مَا يَخْتَصُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ كَمَا يُقَالُ: لَوْنُ الْأَسْوَدِ وَلَوْنُ الْأَبْيَضِ وَقِيلَ: وُجُودُ الرَّبِّ وَوُجُودُ الْعَبْدِ وَلَوْ تَكَلَّمَ بِالِاسْمِ الْعَامِّ الْمُتَنَاوِلِ لِأَفْرَادِهِ كَمَا إذَا قِيلَ: اللَّوْنُ أَوْ الْأَلْوَانُ؛ أَوْ الْحَيَوَانُ؛ وَالْعَرَضُ؛ أَوْ الْوُجُودُ: يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَتْ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً؛ لِشُمُولِ اللَّفْظِ لَهَا كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ وَإِنْ كَانَتْ أَفْرَادُهَا تَخْتَلِفُ بِاعْتِبَارِ آخَرَ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ الْعَامِّ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: إنْ كَانَ مَدْلُولُ اسْمِ الْوُجُودِ صِفَةً فَإِنْ كَانَ الْمَفْهُومُ وَاحِدًا فِي الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ: لَزِمَ كَوْنُ الْوَاجِبِ مُمْكِنًا وَالْمُمْكِنِ وَاجِبًا وَإِلَّا لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ. يُقَالُ لَهُ: أَتَعْنِي مَدْلُولَ الِاسْمِ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ أَوْ الْمُقَيَّدَ الْمُضَافَ؟ كَمَا إذَا قِيلَ: وُجُودُ الْوَاجِبِ؛ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ؟ فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ فَالْمَفْهُومُ وَاحِدٌ وَلَا يَلْزَمُ تَمَاثُلُهُمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ وَإِنْ كَانَ مَا فِي الذِّهْنِ مِنْ مَعْنَى الْوُجُودِ مُمَاثِلًا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي الْخَارِجِ مِنْهُ مُتَمَاثِلًا

ص: 446

وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يُطَابِقَ الِاثْنَيْنِ وَيَعُمَّهُمَا فَقَطْ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ الْمُشَكِّكَةِ إذَا قِيلَ: السَّوَادُ شَارَكَ سَوَادَ الْقَارِ وَالْحِبْرِ مَعَ عَدَمِ تَمَاثُلِهِمَا وَإِذَا قِيلَ: الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ وَالنَّاقِصَ وَكَذَلِكَ اسْمُ الْحَيِّ يَتَنَاوَلُ حَيَاةَ الْمَلَائِكَةِ وَحَيَاةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَحَيَاةَ الذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ مَعَ عَدَمِ تَمَاثُلِهِمَا فَكَيْفَ يَكُونُ وُجُودُ الرَّبِّ أَوْ عِلْمُهُ أَوْ قُدْرَتُهُ مُمَاثِلًا لِوُجُودِ الْمَخْلُوقِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ؟ إذْ يَشْمَلُهَا اسْمُ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْعِلْمِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْقُدْرَةِ الْمُطْلَقَةِ. وَإِنْ قَالَ: بَلْ أَعْنِي بِهِ الْوُجُودَ الْمُقَيَّدَ مِثْلَ قَوْلِنَا: وُجُودُ الْوَاجِبِ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ. قِيلَ: هُنَا الْمَفْهُومُ يَخْتَلِفُ؛ لِاخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِلَفْظِ قَيَّدَ بِهِ الْوُجُودَ وَهُوَ الْإِضَافَةُ فَهَذِهِ الْإِضَافَةُ الْمُقَيَّدَةُ تَمْنَعُ التَّمَاثُلَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الِاشْتِرَاكُ اللَّفْظِيُّ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ هُنَا يَحْصُلُ فِي نَفْسِ لَفْظِ الْوُجُودِ بَلْ الْإِضَافَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى اللَّفْظِ وَالْإِضَافَةُ أَوْ التَّعْرِيفُ كَقَوْلِنَا: وُجُودُ الرَّبِّ أَوْ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ وَوُجُودُ الْمَخْلُوقِ؛ أَوْ الْوُجُودُ الْمُمْكِنُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَهَذَا الَّذِي احْتَجَّ بِهِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِيمَا يُسَمَّى بِهِ الرَّبُّ وَالْعَبْدُ يَلْزَمُ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ الَّتِي

ص: 447

احْتَجَّ بِهَا عَلَى الْمَجَازِ حَيْثُ قَالَ: إنْ كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ؛ وَهُوَ غَلَطٌ؛ فَإِنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَى خُصُوصِ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى خُصُوصِ ذَاكَ بَلْ الزَّائِدُ عَلَى اللَّفْظِ. فَإِذَا قِيلَ: وُجُودُ الرَّبِّ وَوُجُودُ الْعَبْدِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ ظَهْرِ الْإِنْسَانِ وَظَهْرِ الْفَرَسِ كَمَا تَقُولُ ظَهْرَ الْإِنْسَانِ وَظَهْرَ الطَّرِيقِ يَعْنِي جَمِيعَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الدَّالِّ عَلَى مَا يُخَالِفُ بِهِ هَذَا هُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِكُلِّ مَوْضِعٍ لَا مُجَرَّدَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ بَلْ الْمُشْتَرَكُ يَدُلُّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ. وَالْمُخْتَصُّ يَدُلُّ عَلَى الْمُخْتَصِّ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ بَيْنَ الظَّهْرَيْنِ جِهَةَ اتِّفَاقٍ وَافْتِرَاقٍ وَكَذَلِكَ بَيْن الْوُجُودَيْنِ جِهَةُ اتِّفَاقٍ وَافْتِرَاقٍ وَهُوَ الَّذِي يَعْنِي بِهِ الِاشْتِرَاكَ وَالِامْتِيَازَ لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا؛ وَذَلِكَ غَلَطٌ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مُخْتَصٌّ بِالْخَارِجِ وَلَكِنَّ الذِّهْنَ يَأْخُذُ مِنْهُمَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا وَيُقَالُ: هُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الْوُجُودِ والحيوانية والإنسانية كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} وَقَالَ: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} فَالْعَذَابُ الَّذِي يُصِيبُ الْآخَرَ هُوَ نَظِيرُهُ وَهُوَ مِنْ جِنْسِهِ اشْتِرَاكًا فِي جِنْسِ الْعَذَابِ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ وَلَكِنْ اشْتَرَكَا فِي الْعَذَابِ الْخَاصِّ. بِمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ مِنْهُ نَصِيبٌ كَالْمُشْتَرَكِينَ فِي الْعَقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ص: 448

الْجَوَابُ السَّادِسُ: أَنْ يُقَالَ: مَنَعَ " الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ " قَوْلُهُ: لَوْ كَانَ مُشْتَرِكًا لَمَا سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إطْلَاقِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ ضَرُورَةَ التَّسَاوِي فِي الدَّلَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّابِقَ إلَى الْفَهْمِ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْأَسَدِ إنَّمَا هُوَ السَّبُعُ وَمِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْحِمَارِ إنَّمَا هُوَ الْبَهِيمَةُ وَكَذَلِكَ مَا فِي الضَّرُورَةِ. فَيُقَالُ: إطْلَاقُ لَفْظِ الْأَسَدِ وَالْحِمَارِ الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُتَكَلِّمُ أَوْ الْمُخَاطَبُ وَإِذَا كَانَ الْمُعَرَّفُ هُوَ الْبَهِيمَةَ انْصَرَفَ إلَيْهَا وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ مُعَرَّفًا يُوجِبُ انْصِرَافَهُ إلَى الْبَلِيدِ وَالشُّجَاعِ وَلَا يَكُونُ حَقِيقَةً أَيْضًا كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: لَاهَا اللَّهَ إذًا لَا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أَسَدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يُعْطِيَك سَلْبَهُ. وَكَمَا أُشِيرَ إلَى شَخْصٍ وَقِيلَ: هَذَا الْأَسَدُ أَوْ إلَى بَلِيدٍ وَقِيلَ: هَذَا الْحِمَارُ. فَالتَّعْرِيفُ هُنَا عَيَّنَهُ وَقَطَعَ إرَادَةَ غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ لَفْظَ الرُّءُوسِ وَالْبَيْضِ وَالْبُيُوتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَنْصَرِفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى الرُّءُوسِ وَالْبَيْضِ الَّذِي يُؤْكَلُ فِي الْعَادَةِ؛ وَالْبُيُوتِ إلَى مَسَاكِنِ النَّاسِ ثُمَّ إذَا قِيلَ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ وَبَيْضُ النَّمْلِ وَرُءُوسُ الْجَرَادِ كَانَ أَيْضًا حَقِيقَةً بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. الْجَوَابُ السَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: أَنْتَ جَعَلْت دَلِيلَ الْحَقِيقَةِ أَنْ يَسْبِقَ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ فَاعْتَبَرْت فِي الْمُسْتَمِعِ السَّابِقِ إلَى فَهْمِهِ؛

ص: 449

وَفِي الْمُتَكَلِّمِ إطْلَاقَ لَفْظِهِ وَهَذَا لَا ضَابِطَ لَهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْبِقُ إلَى فَهْمِ الْمُسْتَمِعِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَإِذَا قَالَ: ظَهْرُ الطَّرِيقِ وَمَتْنُهَا لَمْ يَسْبِقْ إلَى فَهْمِهِ ظَهْرُ الْحَيَوَانِ أَلْبَتَّةَ بَلْ مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُ إرَادَتُهُ. الْجَوَابُ الثَّامِنُ: قَوْلُك: مِنْ إطْلَاقِ جَمِيعِ اللَّفْظِ: كَلَامٌ مُجْمَلٌ؛ فَإِنْ أَرَدْت كَوْنَ اللَّفْظِ مُطْلَقًا عَنْ الْقُيُودِ فَهَذَا لَا يُوجَدُ قَطُّ؛ فَإِنَّ النَّظَرَ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي كَلَامِ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ: كَلَامُ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَالْجِنِّ وَسَائِرِ بَنِي آدَمَ وَالْأُمَمِ لَا يُوجَدُ إلَّا مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ إمَّا فِي ضِمْنِ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ أَوْ فِعْلِيَّةٍ وَلَا يُوجَدُ إلَّا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ إلَّا إذَا عُرِفَتْ عَادَةُ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فَهُنَا لَفْظٌ مُقَيَّدٌ مَقْرُونٌ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَمُتَكَلِّمٌ قَدْ عُرِفَتْ عَادَتُهُ وَمُسْتَمِعٌ قَدْ عَرَفَ عَادَةَ الْمُتَكَلِّمِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ فَهَذِهِ الْقُيُودُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كَلَامٍ يُفْهَمُ مَعْنَاهُ فَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ مُطْلَقًا عَنْهُ. فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدٍ دُونَ قَيْدٍ لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ. فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ: يَرْجِعُ إلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ اللَّفْظِ. الْجَوَابُ التَّاسِعُ: أَنْ يُقَالَ لَهُ: اُذْكُرْ أَيَّ قَيْدٍ شِئْت وَفَرِّقْ بَيْنَ مُقَيِّدٍ وَمُقَيَّدٍ؛ فَلَا يَذْكُرُ شَيْئًا إلَّا اُنْتُقِضَ وَأُبَيِّنُ لَك مِنْ الْحُدُودِ الَّتِي تَذْكُرُهَا فَارِقَةً بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَنَّ مَا جَعَلْته حَقِيقَةً تَجْعَلُهُ مَجَازًا وَمَا

ص: 450

جَعَلْته مَجَازًا تَجْعَلُهُ حَقِيقَةً وَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ الْفَارِقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ مَنْ لَا يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُمْكِنَهُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ؛ فَإِنَّ التَّعْبِيرَ فَرْعُ التَّصَوُّرِ فَمَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَقُولُ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا إلَّا كَانَ خَطَأً.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا حُجَّتُهُ الثَّانِيَةُ، فَقَوْلُهُ: كَيْفَ وَأَنَّ أَهْلَ الْأَعْصَارِ لَمْ تَزَلْ تَتَنَاقَلُ فِي أَقْوَالِهَا وَكُتُبِهَا عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ تَسْمِيَةَ هَذَا حَقِيقَةً وَهَذَا مَجَازًا فَيُقَالُ: هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ قَطْعًا فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ. وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ مِنْ أَهْلِ الْوَضْعِ وَلَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ نَقَلَ لُغَتَهُمْ بَلْ وَلَا ذَكَرَ هَذَا أَحَدٌ عَنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ وَبَيَّنُوا مَعَانِيَهُ وَمَا يَدُلُّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَلَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَالَ: هَذَا اللَّفْظُ حَقِيقَةٌ؛ وَهَذَا مَجَازٌ وَلَا مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ لَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ وَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ وَلَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَصْحَابُهُ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ وَلَا مُجَاهِدٌ وَلَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَلَا عِكْرِمَةُ وَلَا الضَّحَّاكُ وَلَا طاوس وَلَا السدي وَلَا قتادة وَلَا غَيْرُ هَؤُلَاءِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ كَالْأَئِمَّةِ

ص: 451

الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا الثَّوْرِيُّ وَلَا الأوزاعي وَلَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَلَا غَيْرُهُ. وَإِنَّمَا وُجِدَ فِي كَلَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ لَكِنْ بِمَعْنَى آخَرَ كَمَا أَنَّهُ وُجِدَ فِي كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى بِمَعْنَى آخَرَ. وَلَمْ يُوجَدْ أَيْضًا تَقْسِيمُ الْكَلَامِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ كَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَأَبِي عَمْرٍو الشيباني وَأَبِي زَيْدٍ؛ وَالْأَصْمَعِيِّ؛ وَالْخَلِيلِ؛ وَسِيبَوَيْهِ؛ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ؛ وَلَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ عَنْ الْعَرَبِ. وَهَذَا يَعْلَمُهُ بِالِاضْطِرَارِ مَنْ طَلَبَ عِلْمَ ذَلِكَ كَمَا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنَّهَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِاصْطِلَاحِ النُّحَاةِ الَّتِي قَسَّمَتْ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ: فَاعِلًا وَاللَّفْظَ الْآخَرَ مَفْعُولًا؛ وَلَفْظًا ثَالِثًا مَصْدَرًا؛ وَقَسَّمَتْ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ: مُعْرَبًا؛ وَبَعْضَهَا مَبْنِيًّا. لَكِنْ يُعْلَمُ أَنَّ هَذَا اصْطِلَاحُ النُّحَاةِ لَكِنَّهُ اصْطِلَاحٌ مُسْتَقِيمُ الْمَعْنَى بِخِلَافِ مَنْ اصْطَلَحَ عَلَى لَفْظِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ؛ فَإِنَّهُ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ وَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ فِي هَذَا الْمَعْنَى: إذْ لَيْسَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَرْقٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَتَّى يَخُصَّ هَذَا بِلَفْظِ وَهَذَا بِلَفْظِ بَلْ أَيُّ مَعْنًى خَصُّوا بِهِ اسْمَ الْحَقِيقَةِ وُجِدَ فِيمَا سَمَّوْهُ مَجَازًا وَأَيُّ مَعْنًى خَصُّوا بِهِ اسْمَ الْمَجَازِ يُوجَدُ فِيمَا سَمَّوْهُ حَقِيقَةً وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمَا يُمَيِّزُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ. وَلَيْسُوا مُطَالَبِينَ بِمَا يُقَالُ: إنَّ حَدَّ الْحَقِيقِيِّ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجِنْسِ

ص: 452

وَالْفَصْلِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ حَقًّا لَمْ يُطَالَبُوا بِهِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ بَاطِلًا؟ بَلْ الْمَطْلُوبُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِّ اللَّفْظِيِّ كَمَا يُمَيَّزُ بَيْنَ مُسَمَّى الِاسْمِ الْمُعْرَبِ وَالْمَبْنِيِّ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ؛ وَيُمَيَّزُ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ فَيُطَالَبُونَ بِمَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا سَمَّوْهُ حَقِيقَةً وَمَا سَمَّوْهُ مَجَازًا وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إذْ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ نَوْعَانِ يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ حَتَّى يُسَمَّى هَذَا حَقِيقَةً وَهَذَا مَجَازًا. وَهَذَا بَحْثٌ عَقْلِيٌّ غَيْرُ الْبَحْثِ اللَّفْظِيِّ؛ فَإِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ النِّزَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ. قَدْ ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ وَالْفَرْقَ مَنْقُولٌ عَنْ الْعَرَبِ وَغَلِطُوا فِي ذَلِكَ كَمَا يَغْلَطُ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ وَالْفَرْقَ يُوجَدُ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَأَنَّ هَذَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ هَذَا غَلَطٌ يُشْبِهُ أَنَّ الْوَاحِدَ تَرَبَّى عَلَى اصْطِلَاحٍ اصْطَلَحَهُ طَائِفَةٌ فَيَظُنُّ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَانَ هَذَا اصْطِلَاحَهُمْ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْعَرَبَ قَسَّمَتْ هَذَا التَّقْسِيمَ أَوْ أَنَّ هَذَا أُخِذَ عَنْهَا تَوْقِيفٌ كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَغَلَطُهُ أَظْهَرُ وَقَدْ وُجِدَ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمْ.

ص: 453

وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا دَعْوَى تَوَاتُرِ هَذَا عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ وَعَنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ لَمْ يَزَلْ يَتَنَاقَلُ فِي أَقْوَالِهَا وَكُتُبِهَا عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ تَسْمِيَةُ هَذَا حَقِيقَةً وَهَذَا مَجَازًا وَهَذَا التَّوَاتُرُ الَّذِي ادَّعَاهُ لَا يُمْكِنُهُ وَلَا غَيْرُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِخَبَرِ وَاحِدٍ فَضْلًا عَنْ هَذَا التَّوَاتُرِ الَّذِي ادَّعَاهُ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا حُجَّةُ الْنُّفَاةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَفْظٌ مَجَازِيٌّ فَإِمَّا أَنْ يُقَيَّدَ مَعْنَاهُ بِقَرِينَةٍ؛ أَوْ لَا يُقَيَّدَ بِقَرِينَةٍ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مَعَ الْقَرِينَةِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ فَكَانَ مَعَ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةً فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ أَيْضًا حَقِيقَةٌ؛ إذْ لَا مَعْنَى لِلْحَقِيقَةِ إلَّا مَا يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِالْإِفَادَةِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ. ثُمَّ قَالَ: قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُفِيدُ عِنْدَ عَدَمِ الشُّهْرَةِ إلَّا بِقَرِينَةٍ وَلَا مَعْنَى لِلْمَجَازِ إلَّا هَذَا وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ لَفْظِيٌّ كَيْفَ وَأَنَّ الْمَجَازَ وَالْحَقِيقَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ؟ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ صِفَةً لِلْمَجْمُوعِ. فَيُقَالُ: هُوَ قَدْ سَلَّمَ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ فَيُقَالُ: إذَا كَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَهَذَا التَّفْرِيقُ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ؛ وَلَا أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ؛ وَلَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ؛ وَلَا السَّلَفُ: كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْأَلْفَاظِ الْمَوْجُودَةِ الَّتِي تَكَلَّمُوا بِهَا وَنَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ أَوْلَى مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِاصْطِلَاحِ

ص: 454

حَادِثٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ وَإِذَا كَانَ فِيهِ مَفَاسِدُ كَانَ يَنْبَغِي تَرْكُهُ لَوْ كَانَ الْفَرْقُ مَعْقُولًا فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْفَرْقُ غَيْرَ مَعْقُولٍ وَفِيهِ مَفَاسِدُ شَرْعِيَّةٌ وَهُوَ إحْدَاثٌ فِي اللُّغَةِ كَانَ بَاطِلًا عَقْلًا وَشَرْعًا وَلُغَةً. أَمَّا الْعَقْلُ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ فِيهِ هَذَا عَنْ هَذَا وَأَمَّا الشَّرْعُ فَإِنَّ فِيهِ مَفَاسِدَ يُوجِبُ الشَّرْعُ إزَالَتَهَا وَأَمَّا اللُّغَةُ فَلِأَنَّ تَغْيِيرَ الْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ غَيْرُ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ بَلْ مَعَ وُجُودِ الْمَفْسَدَةِ. فَإِنْ قِيلَ: وَمَا الْمَفَاسِدُ؟ قِيلَ: مِنْ الْمَفَاسِدِ أَنَّ لَفْظَ الْمَجَازِ الْمُقَابِلِ لِلْحَقِيقَةِ سَوَاءٌ جُعِلَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ أَوْ مِنْ عَوَارِضِ الِاسْتِعْمَالِ يُفْهِمُ وَيُوهِمُ نَقْصَ دَرَجَةِ الْمَجَازِ عَنْ دَرَجَةِ الْحَقِيقَةِ لَا سِيَّمَا وَمِنْ عَلَامَاتِ الْمَجَازِ صِحَّةُ إطْلَاقِ نَفْيِهِ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِرَحِيمِ وَلَا بِرَحْمَنِ؛ لَا حَقِيقَةً بَلْ مَجَازٌ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُطْلِقُونَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ وَقَالَ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ كَمَا ذَكَرَ هَذَا الآمدي مِنْ أَنَّ الْعُمُومَ الْمَخْصُوصَ مَجَازٌ وَقَالَ مِنْ جِهَةِ مُنَازِعِهِ: فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قَالَ: " لَا إلَهَ " تَامَّةٌ مُطْلَقَةٌ يَكُونُ كُفْرًا وَلَوْ اقْتَرَنَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ. وَهُوَ قَوْلُهُ: " إلَّا اللَّهُ " كَانَ إيمَانًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتَ طَالِقٌ كَانَتْ مُطَلَّقَةً بِتَنْجِيزِ الطَّلَاقِ وَلَوْ اقْتَرَنَ بِهِ الشَّرْطُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ: كَانَ

ص: 455

تَعْلِيقًا مَعَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَالشَّرْطَ لَهُ مَعْنًى. وَلَوْلَا الدَّلَالَةُ وَالْوَضْعُ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ التَّغْيِيرَ فِي الْوَضْعِ بَلْ غَايَتُهُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَمَّا اقْتَضَاهُ مِنْ جِهَةِ إطْلَاقِهِ إلَى غَيْرِهِ بِالْقَرِينَةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِي " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " إذَا كَانَتْ مِنْ مَوْرِدِ النِّزَاعِ فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ كُلَّ عَامٍّ خُصَّ وَلَوْ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَانَ مَجَازًا؛ فَيَكُونُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " عِنْدَهُ مَجَازًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ فِي الشَّرْعِ وَقَائِلُهُ إلَى أَنْ يُسْتَتَابَ - فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ - أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى أَنْ يُجْعَلَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ هَذَا الْقَائِلُ مُفْتَرٍ عَلَى اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِلَفْظِ " لَا إلَهَ " مُجَرَّدًا وَلَا كَانُوا نَافِينَ لِلصَّانِعِ حَتَّى يَقُولُوا: " لَا إلَهَ " بَلْ كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قَالَ تَعَالَى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ} وَلِهَذَا قَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} . وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ يُثْبِتُ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ وَيَعِيبُ عَلَيْهِمْ الشِّرْكَ وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَوَّلُ مَا دَعَا الْخَلْقَ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَقَالَ {أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ} وَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يَكُونُوا يُنَازِعُونَهُ فِي

ص: 456

الْإِثْبَاتِ بَلْ فِي النَّفْيِ فَكَانَ الرَّسُولُ وَالْمُشْرِكُونَ مُتَّفِقِينَ عَلَى إثْبَاتِ إلَهِيَّةِ اللَّهِ كَانَ الرَّسُولُ يَنْفِي إلَهِيَّةَ مَا سِوَى اللَّهِ وَهُمْ يُثْبِتُونَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ لَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ: بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ إلَّا لِإِثْبَاتِ إلَهِيَّةِ اللَّهِ وَلِنَفْيِ إلَهِيَّةِ مَا سِوَاهُ وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يُثْبِتُونَ إلَهِيَّةَ مَا سِوَاهُ مَعَ إلَهِيَّتِهِ أَمَّا الْآلِهَةُ مُطْلَقًا بِهَذَا الْمَعْنَى فَلَمْ يَكُونُوا مِمَّا يَعْتَقِدُونَهُ حَتَّى يُعَبِّرُوا عَنْهُ فَكَيْفَ يُقَالُ: هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي وَضَعُوا لَهُ هَذَا اللَّفْظَ فِي أَصْلِ لُغَتِهِمْ؟ .

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا نُسَلِّمُ تَغْيِيرَ الدَّلَالَةِ بَلْ غَايَتُهُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَمَّا اقْتَضَاهُ مِنْ جِهَةِ إطْلَاقِهِ إلَى غَيْرِهِ بِالْقَرِينَةِ. فَيُقَالُ لَهُ: وَهَذِهِ مَغْلَطَةٌ؛ فَإِنَّهُ فِي حَالِ الْقَيْدِ لَمْ يَكُنْ مُطْلَقًا وَهُوَ لَا يَقْتَضِي النَّفْيَ الْعَامَّ إذَا كَانَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ فَأَمَّا مَعَ الْقَيْدِ فَقَوْلُهُ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " اللَّفْظُ مُطْلَقًا فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّهُ صُرِفَ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيهِ لَوْ كَانَ مُطْلَقًا؟ فَلَوْ كَانَ مُطْلَقًا لَكَانَ يَقْتَضِي النَّفْيَ الْعَامَّ فَبِالتَّقْيِيدِ زَالَ الْإِطْلَاقُ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ وَهَذَا مَعْنَى تَغْيِيرِ الدَّلَالَةِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ دَلَالَةٌ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بَطَلَتْ وَصَارَتْ لَهُ دَلَالَةٌ أُخْرَى عِنْدَ التَّقْيِيدِ وَالِاسْتِثْنَاءِ فَخَرَجَ مِنْ اللَّفْظِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ فِي اللَّفْظِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ وَعِنْدَ أَهْلِ الْوَقْفِ فَخَرَجَ مِنْ اللَّفْظِ مَا لَوْلَاهُ لَصَلَحَ أَنْ يَدْخُلَ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَا يَخْرُجُ مِنْ اللَّفْظِ مَا دَخَلَ بَلْ مَا لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ لَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ

ص: 457

يَمْنَعُ ذَلِكَ الِاقْتِضَاءَ فَلَمْ يَبْقَ اللَّفْظُ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ مُقْتَضِيًا لِنَفْيِ الْمُسْتَثْنِي أَلْبَتَّةَ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مُقْتَضِيًا بِقَوْلِهِ صَرْفُهُ عَنْ مُقْتَضَاهُ مِنْ جِهَةِ إطْلَاقِهِ لَيْسَ بِسَدِيدِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُقْتَضِيًا مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ اسْتِثْنَاءٌ وَلَا يُصْرَفُ شَيْءٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُطْلَقًا بَلْ مُقَيَّدًا بِالِاسْتِثْنَاءِ فَلَيْسَ هُنَاكَ إطْلَاقٌ يَكُونُ لَهُ اقْتِضَاءٌ وَلَا هُنَاكَ لَفْظٌ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُسْتَثْنَى وَلَا هُنَاكَ مُسْتَثْنًى مَنْفِيٌّ. وَأَيْضًا مِنْ مَفَاسِدِ هَذَا جَعْلُ عَامَّةِ الْقُرْآنِ مَجَازًا كَمَا صَنَّفَ بَعْضُهُمْ مَجَازَاتِ الْقِرَاءَاتِ وَكَمَا يُكْثِرُونَ مِنْ تَسْمِيَةِ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَجَازًا وَذَلِكَ يُفْهَمُ وَيُوهِمُ الْمَعَانِيَ الْفَاسِدَةَ هَذَا إذَا كَانَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعَانِي صَحِيحًا فَكَيْفَ وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ مَا لَيْسَ بِمَجَازِ مَجَازًا؟ وَيَنْفُونَ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَعَانِي الثَّابِتَةِ وَيُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ كَمَا وُجِدَ ذَلِكَ لِلْمُتَوَسِّعِينَ فِي الْمَجَازِ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ. وَأَمَّا‌

‌ قَوْلُهُ: كَيْفَ وَالْمَجَازُ وَالْحَقِيقَةُ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ؟

. فَيُقَالُ: أَوَّلًا لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَكُمْ بَلْ كَثِيرًا مَا تَجْعَلُونَ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ اسْمًا لِلْمَعْنَى فَتَقُولُونَ: حَقِيقَةُ هَذَا اللَّفْظِ كَذَا وَمَجَازُهُ كَذَا؛ وَتَقُولُونَ حَقِيقَةُ هَذَا اللَّفْظِ فَتَجْعَلُونَهُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ تَارَةً وَمِنْ

ص: 458

عَوَارِضِ الْمَعْنَى أُخْرَى وَقَدْ تَجْعَلُونَهُ مِنْ عَوَارِضِ الِاسْتِعْمَالِ فَيُقَالُ: اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَقِيقَةٌ وَفِي هَذَا مَجَازٌ. ثُمَّ يُقَالُ: لَا ضَابِطَ لِهَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ مَنْ يَجْعَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي بَعْضِ مَعْنَاهُ حَقِيقَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ مَجَازًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا جَمِيعًا كَمَا قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْعُمُومِ وَالْأَمْرُ إذَا أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ: هُوَ مِمَّا يُبَيِّنُ تَنَاقُضَ هَذَا الْأَصْلِ. ثُمَّ يُقَالُ: هَبْ أَنَّ هَذَا مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ: فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ عَوَارِضِ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ مَعْنَاهُ فَقَوْلُك: هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ صِفَةً لِلْمَجْمُوعِ: بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَدُلّ قَطُّ إلَّا بِقَرَائِنَ مَعْنَوِيَّةٍ وَهُوَ كَوْنُ الْمُتَكَلِّمِ عَاقِلًا لَهُ عَادَةً بِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى؛ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِعَادَتِهِ وَالْمُسْتَمِعُ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَهَذِهِ كُلُّهَا قَرَائِنُ مَعْنَوِيَّةٌ تُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ إلَّا مَعَهَا. فَدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ مَعَ تَجَرُّدِهِ عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ الْعَقْلِيَّةِ: غَلَطٌ. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: أَنْتَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ: فَإِنَّ

ص: 459

الْعَامِلَ الْمَخْصُوصَ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ وَالْبَدَلِ إنَّمَا اقْتَرَنَ بِهِ قَرَائِنُ لَفْظِيَّةٌ؛ وَقَدْ جَعَلْته مَجَازًا وَأَيْضًا فَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إنَّ خَالِدًا سَيْفٌ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ} وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه لَا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أَسَدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَمَا مَثَّلْت بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: ظَهْرِ الطَّرِيقِ؛ وَمَتْنِهِ هِيَ قَرَائِنُ لَفْظِيَّةٌ بِهَا عُرِفَ الْمَعْنَى وَهُوَ عِنْدَك مَجَازٌ. الثَّالِثُ: أَنْ نَقُولَ: اُذْكُرْ لَنَا ضَابِطًا مِنْ الْقَرَائِنِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ حَقِيقَةً وَالْقَرَائِنِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مَجَازًا فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ لَا سَبِيلَ لَك إلَيْهِ؛ لِبُطْلَانِ الْفَرْقِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى قَرِينَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ فَلَوْ قِيلَ لَك: الْحَقِيقَةُ اسْمٌ لِنَفْسِ اللَّفْظِ لَكَانَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْقَرِينَةُ لَفْظِيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً وَلَفْظُ الْحَقِيقَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ اسْمُ اللَّفْظِ لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مَا يَدْفَعُ ذَلِكَ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَك: أَنَا أَجْعَلُ لَك لَفْظَ الْحَقِيقَةِ اسْمًا لِلَّفْظِ وَلِمَا اقْتَرَنَ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ لَك جَوَابٌ عَنْ هَذَا إلَّا أَنْ يَقُولَ: أَنَا أَجْعَلُهُ اسْمًا لِلَّفْظِ وَالْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ دُونَ الْمَعْنَوِيَّةِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ مَعَك إلَّا مُجَرَّدُ تَحَكُّمٍ قَابَلْت بِهِ تَحَكُّمًا وَلَيْسَ تَحَكُّمُك أَوْلَى

ص: 460

فَكَيْفَ تَجْعَلُ ذَلِكَ حُجَّةً مَعْنَوِيَّةً عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ خَصْمِك؟ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ " بِالْوَجْهِ السَّادِسِ ": وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُك: كَيْفَ وَأَنَّ الْمَجَازَ وَالْحَقِيقَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ صِفَةً لِلْمَجْمُوعِ؟ لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ حِكَايَةِ اللَّفْظِ الَّذِي ابْتَدَعْته فَإِذَا قَالَ لَك الْمُنَازِعُ: بَلْ الْحَقِيقَةُ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الدَّالِّ مِنْ اللَّفْظِ وَالْقَرِينَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَانَ قَدْ قَابَلَ اصْطِلَاحَك بِاصْطِلَاحِهِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ مِنْ اصْطِلَاحِك حَيْثُ سَمَّى جَمِيعَ الْبَيَانِ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ عِبَادَهُ حَقِيقَةً وَأَنْتَ جَعَلْت كَثِيرًا مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَهُ مَجَازًا. فَإِنْ قُلْت: فَهَذَا النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ قِيلَ لَك: فَهَذَا جَوَابُك الْأَوَّلُ؛ وَهُوَ قَوْلُك: النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ لَفْظِيٌّ. قَوْلُهُ: لِي بَعْدَ هَذَا جَوَابٌ آخَرُ؛ وَهُوَ قَوْلُك: كَيْفَ وَأَنَّ الْمَجَازَ وَالْحَقِيقَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ؟ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ صِفَةً لِلْمَجْمُوعِ يَقْتَضِي أَنَّك ذَكَرْت جَوَابًا ثَانِيًا غَيْرَ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا إعَادَةُ مَعْنَى ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ هُوَ أَنَّا اصْطَلَحْنَا عَلَى أَنْ يُسَمَّى بِالْحَقِيقَةِ اللَّفْظُ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَك إلَّا اعْتِرَافُك بِأَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ فَلَوْ كَانَ الِاصْطِلَاحُ مُسْتَقِيمًا: لَمْ يَكُنْ نفاة الْمَجَازِ الَّذِينَ سَمَّوْا جَمِيعَ الْكَلَامِ حَقِيقَةً إذَا كَانَ قَدْ بَيَّنَ بِهِ الْمُرَادَ: بِأَنْقَصَ

ص: 461

حَالًا مِمَّنْ سَمَّى مَا هُوَ مِنْ خِيَارِ الْكَلَامِ وَأَحْسَنِهِ وَأَتَمِّهِ بَيَانًا: مَجَازًا وَجَعَلَهُ فَرْعًا فِي اللُّغَةِ لَا أَصْلًا؛ وَوَضْعًا حَادِثًا غَيَّرَ بِهِ الْوَضْعَ الْمُتَقَدِّمَ؛ وَجَعَلَهُ تَابِعًا لِغَيْرِهِ لَا مَتْبُوعًا.

فَصْلٌ:

وَقَدْ ذَكَرَ نُفَاةِ الْمَجَازِ حُجَّةً ضَعِيفَةً وَهِيَ قَوْلُهُمْ: وَأَيْضًا مَا مِنْ صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ إلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهَا بِاللَّفْظِ الْحَقِيقِيِّ الْخَاصِّ بِهَا فَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمَجَازِيِّ فِيهَا مَعَ افْتِقَارِهِ إلَى الْقَرِينَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بَعِيدٌ عَنْ أَهْلِ الْحِكْمَةِ وَالْبَلَاغَةِ فِي وَضْعِهِمْ. وَقَدْ أَجَابَ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمَجَازِيِّ دُونَ الْحَقِيقَةِ قَدْ يَكُونُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْخِفَّةِ عَلَى اللِّسَانِ؛ أَوْ لِمُسَاغَتِهِ فِي وَزْنِ الْكَلَامِ لَفْظًا وَنَثْرًا وَالْمُطَابَقَةِ؛ وَالْمُجَانَسَةِ؛ وَالسَّجْعِ وَقَصْدِ التَّعْظِيمِ وَالْعُدُولِ عَنْ الْحَقِيقِيِّ لِلتَّحْقِيقِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ الْكَلَامِ. فَيُقَالُ: هَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ وَالْمُحْتَجُّ بِهَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُسَلِّمَ لَهَا انْقِسَامَ الْكَلَامِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ لَكِنَّهُ يُوجِبُ اسْتِعْمَالَ الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ: لَيْسَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ؛ بَلْ الْمَوَاضِعُ الَّتِي سَمَّوْهَا

ص: 462

مَجَازًا إذَا ثَبَتَ اسْتِعْمَالُهَا فِي اللُّغَةِ فَهِيَ كُلُّهَا حَقِيقَةٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَالتَّعْبِيرُ لِبَعْضِ الْحَقَائِقِ يَكُونُ أَحْسَنَ وَأَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ وَمَرَاتِبُ الْبَيَانِ وَالْبَلَاغَةِ مُتَفَاوِتَةٌ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِطَرِيقَةِ الْحَقِيقَةِ وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْحَقِيقَةَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} هُوَ سُؤَالُ الْجُدْرَانِ؛ فَهُوَ جَاهِلٌ. وَهَذَا الْبَحْثُ يُشْبِهُ بَحْثَ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ يُنْكِرُونَ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي حَالٍ فِي مَعْنًى وَفِي حَالٍ أُخْرَى فِي مَعْنًى آخَرَ كَمَا يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْقَرْيَةِ تَارَةً فِي السُّكَّانِ وَتَارَةً فِي الْمَسَاكِنِ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ لَا يَعْنِي بِهِ إلَّا الْمَسَاكِنَ؛ وَهَذَا غَلَطٌ وَافَقُوا فِيهِ أُولَئِكَ لَكِنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ: هُنَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَاسْأَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ. وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: بَلْ الْمُرَادُ وَاسْأَلْ الْجُدْرَانَ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْيَةِ نَفْسُ النَّاسِ الْمُشْتَرِكِينَ السَّاكِنِينَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلَفْظُ الْقَرْيَةِ هُنَا أُرِيدَ بِهِ هَؤُلَاءِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} وَقَوْلُهُ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ.

ص: 463

‌فَصْلٌ:

وَتَمَامُ هَذَا بِالْكَلَامِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ

فَإِنَّهُ قَالَ: يُعْتَذَرُ عَنْ قَوْلِهِ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} وَالْأَنْهَارُ غَيْرُ جَارِيَةٍ. فَيُقَالُ: النَّهْرُ كَالْقَرْيَةِ وَالْمِيزَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُرَادُ بِهِ الْحَالُّ وَيُرَادُ بِهِ الْمَحَلُّ فَإِذَا قِيلَ: حَفَرَ النَّهْرَ؛ أُرِيدَ بِهِ الْمَحَلُّ وَإِذَا قِيلَ: جَرَى النَّهْرُ؛ أُرِيدَ بِهِ الْحَالُّ. وَعَنْ قَوْلِهِ: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} وَهُوَ غَيْرُ مُشْتَعِلٍ كَاشْتِعَالِ النَّارِ فَهَذَا مُسَلَّمٌ؛ لَكِنْ يُقَالُ: لَفْظُ الِاشْتِعَالِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي هَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْبَيَاضِ الَّذِي سَرَى مِنْ السَّوَادِ سَرَيَانَ الشُّعْلَةِ مِنْ النَّارِ وَهَذَا تَشْبِيهٌ وَاسْتِعَارَةٌ لَكِنَّ قَوْلَهُ: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ} اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظُ الِاشْتِعَالِ مُقَيَّدًا بِالرَّأْسِ لَمْ يَحْتَمِلْ اللَّفْظَ فِي اشْتِعَالِ الْحَطَبِ وَهَذَا اللَّفْظُ - وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} - لَمْ يُسْتَعْمَلْ قَطُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ بَلْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ إلَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَضْعُ يُغَيِّرُ بَعْدَ وَضْعٍ اشْتَعَلَتْ النَّارُ فَلَا يَضُرُّ وَإِنْ قُصِدَ بِهِ تَشْبِيهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِهَذَا الْمَعْنَى فَلَا يَضُرُّ بَلْ هَذَا شَأْنُ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ لَا بُدَّ أَنْ

ص: 464

يَكُونَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ تَشْتَبِهُ فِيهِ تِلْكَ الْأَفْرَادُ. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ اسْتِعَارَةً فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعِيرُوا ذَلِكَ اللَّفْظَ بِعَيْنِهِ بَلْ رَكَّبُوا لَفْظَ اشْتَعَلَ مَعَ الرَّأْسِ تَرْكِيبًا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ وَلَا أَرَادُوا بِهِ غَيْرَ هَذَا الْمَعْنَى قَطُّ. وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا: لَمْ يَشْتَعِلْ الرَّأْسُ شَيْبًا بَلْ يُقَالُ: لَيْسَ اشْتِعَالُ الرَّأْسِ مِثْلَ اشْتِعَالِ الْحَطَبِ وَإِنْ أَشْبَهَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. قَالَ: وَعَنْ قَوْلِهِ: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} وَالذُّلُّ لَا جَنَاحَ لَهُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: لَا رَيْبَ أَنَّ الذُّلَّ لَيْسَ لَهُ جَنَاحٌ مِثْلَ جَنَاحِ الطَّائِرِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلطَّائِرِ جَنَاحٌ مِثْلَ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ وَلَا جَنَاحُ الذُّلِّ مِثْلَ جَنَاحِ السَّفَرِ لَكِنَّ جَنَاحَ الْإِنْسَانِ جَانِبُهُ كَمَا أَنَّ جَنَاحَ الطَّيْرِ جَانِبُهُ وَالْوَلَدُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَخْفِضَ جَانِبَهُ لِأَبَوَيْهِ؛ وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ لَهُمَا لَا عَلَى وَجْهِ الْخَفْضِ الَّذِي لَا ذُلَّ مَعَهُ وَقَدْ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وَلَمْ يَقُلْ: جَنَاحَ الذُّلِّ فَالرَّسُولُ أُمِرَ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ وَهُوَ جَانِبُهُ وَالْوَلَدُ أُمِرَ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ ذُلًّا فَلَا بُدَّ مَعَ خَفْضِ جَنَاحِهِ أَنْ يَذِلَّ لِأَبَوَيْهِ بِخِلَافِ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالذُّلِّ فَاقْتِرَانُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى اقْتِرَانِ مَعَانِيهِ وَإِعْطَاءِ كُلِّ مَعْنًى حَقَّهُ.

ص: 465

ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ كَمَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {مِنَ الرَّحْمَةِ} فَهُوَ جَنَاحُ ذُلٍّ مِنْ الرَّحْمَةِ لَا جَنَاحُ ذُلٍّ مِنْ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ: إذْ الْأَوَّلُ مَحْمُودٌ وَالثَّانِي مَذْمُومٌ. قَالَ: وَقَوْلُهُ: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وَالْأَشْهُرُ لَيْسَتْ هِيَ الْحَجَّ؟ فَيُقَالُ: مَعْلُومٌ أَنَّ أَوْقَاتَ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ نَفْسَ الْأَفْعَالِ هِيَ الزَّمَانُ وَلَا يَفْهَمُ هَذَا أَحَدٌ مِنْ اللَّفْظِ وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ: فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ الْحَسَنَةِ فِي خِطَابِهَا أَنَّهُمْ يَحْذِفُونَ مِنْ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ الْمَذْكُورُ دَلِيلًا عَلَيْهِ اخْتِصَارًا كَمَا أَنَّهُمْ يُورِدُونَ الْكَلَامَ بِزِيَادَةِ تَكُونُ مُبَالَغَةً فِي تَحْقِيقِ الْمَعْنَى. فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ لَكِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ فِي اللَّفْظِ إذْ كَانَ قَوْلُهُ: قُلْنَا: (أَنِ اضْرِبْ) ؛ فَانْفَلَقَ: دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ ضَرَبَ فَانْفَلَقَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَنْ آمَنَ} تَقْدِيرُهُ بِرَّ مَنْ آمَنَ أَوْ صَاحِبْ مَنْ آمَنَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} أَيْ: أَوْقَاتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ فَالْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا مَجَازًا وَقَوْلُ الْقَائِلِ: نَفْسُ الْحَجِّ لَيْسَ بِأَشْهُرِ؛ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا مَدْلُولَ الْكَلَامِ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَدْلُولُهُ عِنْدَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ أَوْ سَمِعَهُ: أَنَّ أَوْقَاتَ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ.

ص: 466

قَالَ: وَقَوْلُهُ: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} وَالصَّلَوَاتُ لَا تَنْهَدِمُ؟ فَيُقَالُ: قَدْ قِيلَ: إنَّ الصَّلَوَاتِ اسْمٌ لِمَعَابِدِ الْيَهُودِ يُسَمُّونَهَا صَلَوَاتٍ بِاسْمِ مَا يُفْعَلُ فِيهَا كَنَظَائِرِهِ؛ وَهُوَ إنَّمَا اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَكَانِ مَقْرُونًا بِقَوْلِهِ: {لَهُدِّمَتْ} وَالْهَدْمُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمَكَانِ فَاسْتَعْمَلَهُ مَعَ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْمَكَانِ.

قَالَ: وَقَوْلُهُ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} ؟ فَنَقُولُ: لَفْظُ الْغَائِطِ فِي الْقُرْآنِ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ: الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ مِنْ الْأَرْضِ؛ وَكَانُوا يَنْتَابُونَ الْأَمَاكِنَ الْمُنْخَفِضَةَ لِذَلِكَ وَهُوَ الْغَائِطُ كَمَا يُسَمَّى خَلَاءٌ لِقَصْدِ قَاضِي الْحَاجَةِ الْمَوْضِعَ الْخَالِيَ وَيُسَمَّى مِرْحَاضًا لِأَجْلِ الرَّحْضِ بِالْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْمَجِيءُ مِنْ الْغَائِطِ اسْمٌ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَجِيءُ مِنْ الْغَائِطِ إذَا قَضَى حَاجَتَهُ فَصَارَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً يُفْهَمُ مِنْهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ التَّغَوُّطُ فَقَدْ يُسَمُّونَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِنْسَانِ غَائِطًا تَسْمِيَةً لِلْحَالِّ بِاسْمِ مَحَلِّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: جَرَى الْمِيزَابُ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ: مُرْنَ أَزْوَاجَكُمْ يَغْسِلْنَ عَنْهُنَّ أَثَرَ الْغَائِطِ. وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ؛ بَلْ الْمَجِيءُ مِنْ الْغَائِطِ يَتَضَمَّنُ التَّغَوُّطَ فَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْعَمَلِ

ص: 467

الظَّاهِرِ الْمُسْتَلْزِمِ الْأَمْرَ الْمَسْتُورَ وَكِلَاهُمَا مُرَادٌ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ يُذْكَرُ الْمَلْزُومُ لِيُفْهَمَ مِنْهُ لَازِمُهُ الْمَدْلُولُ. وَكِلَاهُمَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا وَسِيلَةٌ إلَى الْآخَرِ كَقَوْلِ إحْدَى النِّسْوَةِ فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: {زَوْجِي عَظِيمُ الرَّمَادِ طَوِيلُ النِّجَادِ قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنْ الناد} . فَإِنَّ عِظَمَ الرَّمَادِ يَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ الطَّبْخِ الْمُسْتَلْزِمَ فِي عَادَتِهِمْ لِكَثْرَةِ الضَّيْفِ؛ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْكَرَمِ. وَطُولَ النِّجَادِ يَسْتَلْزِمُ طُولَ الْقَامَةِ وَقُرْبَ الْبَيْتِ مِنْ النَّادِّ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَهُ بِحُجَّةِ النَّادِّ إلَى بَيْتِهِ وَالنَّادُّ اسْمٌ لِلْحَالِّ وَالْمَحَلِّ أَيْضًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} وَقَوْلُهُ: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} فَهُنَا هُوَ الْمَحَلُّ وَفِي تِلْكَ هُوَ الْحَالُّ وَهُمْ الْقَوْمُ الَّذِينَ يَنْتَدُونَ وَمِنْهُ " دَارُ النَّدْوَةِ ". وَأَصْلُهُ مِنْ مُنَادَاةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ بِخِلَافِ النِّجَاءِ فَإِنَّهُمْ الَّذِينَ يَتَنَاجَوْنَ قَالَ الشَّعْبِيُّ: إذَا كَثُرَتْ الْحَلَقَةُ فَهِيَ إمَّا نِدَاءٌ وَإِمَّا نِجَاءٌ قَالَ تَعَالَى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} فَنَادَاهُ. وَنَاجَاهُ.

وَقَالَ: قَوْلُهُ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ؟ فَيُقَالُ: قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ

ص: 468

وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ} فَلَيْسَ مَفْهُومُ اللَّفْظِ أَنَّهُ شُعَاعُ الشَّمْسِ وَالنَّارِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا ظَنَّ بَعْضُ الغالطين أَنَّ هَذَا مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَالنُّورُ يُرَادُ بِهِ الْمُسْتَنِيرُ الْمُنِيرُ لِغَيْرِهِ بِهَدْيِهِ فَيَدْخُلُ فِي هَذَا أَنْتَ الْهَادِي لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ نُورُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ وَإِذَا كَانَ كَوْنُهُ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَيِّمَهَا لَا يُنَاقِضُ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَعَلَ بَعْضَ عِبَادِهِ يَرُبُّ بَعْضًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَيَفْهَمُهُ؛ فَكَذَلِكَ كَوْنُهُ {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مُنِيرُهَا لَا يُنَاقِضُ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ مُنِيرًا لِبَعْضِ. وَاسْمُ النُّورِ إذَا تَضَمَّنَ صِفَتَهُ وَفِعْلَهُ كَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى النُّورِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْقَمَرَ نُورًا كَانَ مُتَّصِفًا بِالنُّورِ وَكَانَ مُنِيرًا عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَالْخَالِقُ أَوْلَى بِصِفَةِ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ.

قَالَ: وَقَوْلُهُ: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} قَالَ: وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِعُدْوَانِ؟ فَيُقَالُ: الْعُدْوَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ لَكِنْ إنْ كَانَ بِطَرِيقِ الظُّلْمِ كَانَ مُحَرَّمًا وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِصَاصِ كَانَ عَدْلًا مُبَاحًا فَلَفْظُ الْعُدْوَانِ فِي

ص: 469

مِثْلِ هَذَا هُوَ تَعَدِّي الْحَدِّ الْفَاصِلِ لَكِنْ لَمَّا اعْتَدَى صَاحِبُهُ جَازَ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ وَالِاعْتِدَاءُ الْأَوَّلُ ظُلْمٌ وَالثَّانِي مُبَاحٌ وَلَفْظُ عَدْلٍ مُبَاحٌ. وَلَفْظُ الِاعْتِدَاءِ هُنَا مُقَيَّدٌ بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ بِخِلَافِ الْعُدْوَانِ ابْتِدَاءً فَإِنَّهُ ظُلْمٌ فَإِذَا لَمْ يُقَيَّدْ بِالْجَزَاءِ فُهِمَ مِنْهُ الِابْتِدَاءُ: إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ مَا يُقَابِلُهُ.

قَالَ: وَقَوْلُهُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} ؟ فَيُقَالُ: السَّيِّئَةُ اسْمٌ لِمَا سَبَقَ صَاحِبُهَا فَإِنْ فُعِلَتْ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْعَدْلِ وَالْقِصَاصِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِمَا فُعِلَ مَعَهُ مِنْ السَّيِّئَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَسْبِقُ الْفَاعِلَ حَتَّى يُنْهَى عَنْهَا بَلْ تَسْبِقُ الْمُجَازَى بِهَا وَلَفْظُ السَّيِّئَةِ وَالْحَسَنَةِ يُرَادُ بِهِ الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ؛ وَيُرَادُ بِهِ النِّعْمَةُ وَالْمُصِيبَةُ كَقَوْلِهِ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَقَوْلِهِ: {إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} ؟ وَقَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ} لَمْ يُرِدْ بِهِ كُلَّ مَنْ عَمِلَ ذَنْبًا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ جَزَاءُ مَنْ أَسَاءَ إلَى غَيْرِهِ بِظُلْمِ فَهِيَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمُصَابِ فَجَزَاؤُهَا أَنْ يُصَابَ الْمُسِيءُ بِسَيِّئَةٍ مِثْلِهَا كَأَنَّهُ قِيلَ: جَزَاءُ مَنْ أَسَاءَ إلَيْك أَنْ تُسِيءَ إلَيْهِ مِثْلَ مَا أَسَاءَ إلَيْك وَهَذِهِ سَيِّئَةٌ حَقِيقَةً.

ص: 470

أَمَّا الِاسْتِهْزَاءُ وَالْمَكْرُ بِأَنْ يُظْهِرَ الْإِنْسَانُ الْخَيْرَ وَالْمُرَادُ شَرٌّ فَهَذَا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ جَحْدِ الْحَقِّ وَظُلْمِ الْخَلْقِ فَهُوَ ذَنْبٌ مُحَرَّمٌ وَأَمَّا إذَا كَانَ جَزَاءً عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِمِثْلِ فِعْلِهِ كَانَ عَدْلًا حَسَنًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} كَمَا قَالَ: {إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} {وَأَكِيدُ كَيْدًا} وَقَالَ: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} . وَكَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُعْتَدِي بِمِثْلِ فِعْلِهِ؛ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَهَذَا مِنْ الْعَدْلِ الْحَسَنِ وَهُوَ مَكْرٌ وَكَيْدٌ إذَا كَانَ يُظْهِرُ لَهُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ.

قَالَ: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} فَهَذَا اللَّفْظُ أَصْلُهُ أَنَّ الْمُحَارِبِينَ يُوقِدُونَ نَارًا يَجْتَمِعُ إلَيْهَا أَعْوَانُهُمْ وَيَنْصُرُونَ وَلِيَّهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَلَا تَتِمُّ مُحَارَبَتُهُمْ إلَّا بِهَا فَإِذَا طفئت لَمْ يَجْتَمِعْ أَمْرُهُمْ ثُمَّ صَارَ هَذَا كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْأَمْثَالُ فِي كُلِّ مُحَارِبٍ بَطَلَ كَيْدُهُ كَمَا يُقَالُ: يَدَاك أَوْكَتَا وَفُوك نَفَخَ وَمَعْنَاهُ أَنْتَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِك. وَكَمَا يُقَالُ: الصَّيْفَ ضَيَّعْت اللَّبَنَ مَعْنَاهُ: فَرَّطْت وَقْتَ الْإِمْكَانِ. وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كَانَ لَهَا مَعْنًى خَاصٌّ نُقِلَتْ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ إلَى مَعْنًى

ص: 471

أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ وَصَارَ يُفْهَمُ مِنْهَا ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهَا خُصُوصُ مَعْنَاهَا الْأَوَّلِ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي نَقَلَهَا أَهْلُ الْعُرْفِ إلَى أَعَمَّ مِنْ مَعْنَاهَا مِثْلَ لَفْظِ الرَّقَبَةِ وَالرَّأْسِ فِي قَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ هَذَا مِنْ بَابِ دَلَالَةِ اللُّزُومِ فَإِنَّ تَحْرِيرَ الْعُنُقِ يَسْتَلْزِمُ تَحْرِيرَ سَائِر الْبَدَنِ؛ وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ إذَا قَالَ: يَدُك حُرٌّ إنْ دَخَلْت الدَّارَ؛ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ: هَلْ يُعْتَقُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ السِّرَايَةِ أَوْ مِنْ بَابِ الْعِبَادَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعِبَادَةِ وَمَعْنَاهُ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ فَعَلْت كَذَا وَالْحَقِيقَةُ الْحَرْفِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ مَعْلُومَةٌ فِي اللُّغَةِ. قَالَ: إلَى مَا لَا يُحْصَى ذِكْرُهُ مِنْ الْمَجَازَاتِ؟ وَقَالُوا: مَا يُذْكَرُ مِنْ هَذَا الْبَابِ إمَّا أَنْ يَكُونَ النِّزَاعُ فِي مَعْنَاهُ أَوْ الْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالنِّزَاعُ فِي تَسْمِيَتِهِ مَجَازًا وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا حُجَّةَ لَك فِيهِ؛ كَقَوْلِهِ: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ} قِيلَ: أَرَادَ بِالسَّمَاءِ الْمَطَرَ أَيْ: يَا مَطَرُ انْقَطِعْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْإِقْلَاعُ الْإِمْسَاكُ أَيْ: يَا سَمَاءُ امْسِكِي عَنْ الْإِمْطَارِ. وَكَثِيرًا مَا يَأْتِي الْمُدَّعِي إلَى أَلْفَاظٍ لَهَا مَعَانٍ مَعْرُوفَةٍ فَيَدَّعِي اسْتِعْمَالَهَا

ص: 472

فِي غَيْرِ تِلْكَ الْمَعَانِي بِلَا حُجَّةٍ وَيَقُولُ: هَذَا مَجَازٌ فَهَذَا لَا يُقْبَلُ وَمَنْ قَسَّمَ الْكَلَامَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَهَذَا يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ: يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ إذَا عُرِفَ مَعْنَى اللَّفْظِ وَقِيلَ: هَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَجَازٌ قِيلَ: بَلْ الْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ لِلَّفْظِ مَدْلُولَانِ حَقِيقِيٌّ وَمَجَازِيٌّ فَالْأَصْلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ؛ فَيَسْتَدِلُّ تَارَةً بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ عَلَى دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَتَارَةً بِاللَّفْظِ الْمَعْرُوفِ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ.

فَإِذَا قِيلَ فِي‌

‌ قَوْله تَعَالَى {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ}

إنَّ أَصْلَ الذَّوْقِ بِالْفَمِ. قِيلَ: ذَلِكَ ذَوْقُ الطَّعَامِ؛ فَالذَّوْقُ يَكُونُ لِلطَّعَامِ وَيَكُونُ لِجِنْسِ الْعَذَابِ كَمَا قَالَ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَقَوْلُهُ: {ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} وَقَوْلُهُ: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} فَقَوْلُهُ: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} صَرِيحٌ فِي ذَوْقِ مَسِّ الْعَذَابِ لَا يَحْتَمِلُ ذَوْقَ الطَّعَامِ. ثُمَّ الْجُوعُ وَالْخَوْفُ إذَا لَبِسَ الْبَدَنَ كَانَ أَعْظَمَ فِي الْأَلَمِ؛ بِخِلَافِ الْقَلِيلِ مِنْهُ فَإِذَا قَالَ: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَدُلُّ عَلَى لَبْسِهِ لِصَاحِبِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِهِ فَهَذِهِ الْمَعَانِي تَدُلُّ عَلَيْهَا هَذِهِ الْأَلْفَاظُ دُونَ مَا إذَا قِيلَ جَاعَتْ وَخَافَتْ؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جِنْسِ لَا عَلَى عِظَمِ كَيْفِيَّتِهِ وَكَمِّيَّتِهِ فَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْبَيَانِ وَالْجَمِيعُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ اللَّفْظُ فِي مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ ذَوْقُ لِبَاسِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ لَيْسَ

ص: 473

هُوَ ذَوْقُ الطَّعَامِ وَذَوْقُ الْجُوعِ لَيْسَ هُوَ ذَوْقُ لِبَاسِ الْجُوعِ. وَلِهَذَا كَانَ تَحْرِيرُ هَذَا الْبَابِ هُوَ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ الْإِنْسَانُ بَعْضَ قَدَرَ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظٌ إلَّا مَقْرُونٌ بِمَا يُبَيِّنُ بِهِ الْمُرَادَ. وَمَنْ غَلِطَ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ فَمِنْ قُصُورِهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ؛ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: {يَشْرَبُ بِهَا} أَنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ كَانَ مِنْ قِبَلِهِ عَلِمَهُ؛ فَإِنَّ الشَّارِبَ قَدْ يَشْرَبُ وَلَا يُرْوَى فَإِذَا قِيلَ: يَشْرَبُ مِنْهَا: لَمْ يَدُلَّ عَلَى الرَّيِّ وَإِذَا ضُمِّنَ مَعْنَى الرَّيِّ فَقِيلَ: {يَشْرَبُ بِهَا} كَانَ دَلِيلًا عَلَى الشُّرْبِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الرَّيُّ وَهَذَا شُرْبٌ خَاصٌّ دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْبَاءِ. كَمَا دَلَّ لَفْظُ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} عَلَى إلْصَاقِ الْمَمْسُوحِ بِهِ بِالْعُضْوِ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ مَسْحَ الْوَجْهِ. فَمَنْ قَالَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ جَعَلَ الْمَعْنَى امْسَحُوا وُجُوهَكُمْ وَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ مَسْحِ الْوَجْهِ إلْصَاقُ الْمَمْسُوحِ مِنْ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ وَمَنْ قَرَأَ: {وَأَرْجُلَكُمْ} فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْوَجْهِ وَالْأَيْدِي؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: {إلَى الْكَعْبَيْنِ} وَلَوْ كَانَ عَطْفًا عَلَى الْمَحَلِّ لَفَسَدَ الْمَعْنَى وَكَانَ يَكُونُ فَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ. وَأَيْضًا فَكُلُّهُمْ قَرَءُوا قَوْلَهُ فِي التَّيَمُّمِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وَلَفْظُ الْآيَتَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَلَوْ كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْمَجْرُورِ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَحَلِّ لَقَرَءُوا أَيْدِيَكُمْ بِالنَّصْبِ فَلَمَّا لَمْ يَقْرَءُوهَا كَذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ:

ص: 474

{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} عُطِفَ عَلَى الْوُجُوهِ وَالْأَيْدِي.

قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ:

فَصْلٌ:

فِي أَسْئِلَتِهِمْ وَقَدْ تَكَلَّفُوا غَايَةَ التَّكْلِيفِ وَتَعَسَّفُوا غَايَةَ التَّعْسِيفِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ.

فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: إنَّ الْقَرْيَةَ هِيَ مُجْتَمَعُ النَّاسِ؛ مَأْخُوذٌ مِنْ قَرَيْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ؛ وَمَا قَرَأَتْ النَّاقَةُ فِي رَحِمِهَا فَالضِّيَافَةُ مُقْرِئٌ وَمُقْرٍ لِاجْتِمَاعِ الْأَضْيَافِ عِنْدَهُمْ وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ وَالْقِرَاءَةُ لِذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَجْمُوعَ كَلَامٍ فَكَذَلِكَ حَقِيقَةُ الِاجْتِمَاعِ إنَّمَا هُوَ لِلنَّاسِ دُونَ الْجُدْرَانِ فَمَا أَرَادَ إلَّا مَجْمَعَ النَّاسِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةُ الْقَرْيَةِ يُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} وقَوْله تَعَالَى {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الْمُجْتَمَعِ إلَى النَّاسِ دُونَ الْجُدْرَانِ وَالْعِيرُ اسْمٌ لِلْقَافِلَةِ. قَالُوا: وَالْأَبْنِيَةُ وَالْحَمِيرُ إذَا أَرَادَ اللَّهُ نُطْقَهَا أَنْطَقَهَا وَزَمَنُ النُّبُوَّاتِ وَقْتٌ لِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ. وَلَوْ سَأَلَهَا لَأَجَابَتْهُ عَنْ حَالِهِ مُعْجِزَةً لَهُ وَكَرَامَةً.

ص: 475

وقَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} إنَّمَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: {قَوْلَ الْحَقِّ} إلَى اسْمِهِ وَنِسْبَتِهِ إلَى أُمِّهِ وَذَلِكَ حَقِيقَةُ قَوْلِ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ صَاحِبُكُمْ أَحْمَد: اللَّهُ هُوَ اللَّهُ يَعْنِي: الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى. وقَوْله تَعَالَى {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} فَإِنَّهُ لَمَّا نُسِفَ بَعْدَ أَنْ بَرُدَ فِي الْبَحْرِ وَشَرِبُوا مِنْ الْمَاءِ كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْعِجْلِ فَلَا شَيْءَ مِمَّا ذَكَرْتُمْ إلَّا وَهُوَ حَقِيقَةٌ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: فَيُقَالُ: لِلْقَرْيَةِ مَا جُمِعَتْ وَاجْتَمَعَ فِيهَا لَا نَفْسَ الْمُجْتَمَعِ؛ فَلِهَذَا سُمِّيَ الْقُرْءُ وَالْأَقْرَاءُ لِزَمَانِ الْحَيْضِ أَوْ زَمَانِ الطُّهْرِ وَالتَّصْرِيَةِ وَالْمُصَرَّاةُ والصراة اسْمُ مَجْمَعِ اللَّبَنِ وَالْمَاءِ؛ لَا لِنَفْسِ اللَّبَنِ وَالْمَاءِ الْمُجْتَمِعِ وَالْقَارِي. الْجَامِعُ لِلْقَرْيِ وَالْمُقْرِي الْجَامِعُ لِلْأَضْيَافِ فَأَمَّا نَفْسُ الْأَضْيَافِ فَلَا وَالْقَافِلَةُ لَا تُسَمَّى عِيرًا إنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ بَهَائِم مَخْصُوصَةٍ؛ فَإِنَّ الْمُشَاةَ وَالرِّجَالَ لَا تُسَمَّى عِيرًا فَلَوْ كَانَ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْقَافِلَةِ لَكَانَ يَقَعُ عَلَى الرِّجَالِ كَمَا يَقَعُ عَلَى أَرْبَابِ الدَّوَابِّ؛ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ. وَقَوْلُهُمْ: لَوْ سَأَلَ لَأَجَابَ الْجِدَارُ: فَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَقَعُ بِحَسَبِ الِاخْتِيَارِ وَلَا يَكُونُ مُعْتَمِدًا عَلَى وُقُوعِهِ إلَّا عِنْدَ التَّحَدِّي بِهِ فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ بِالْهَاجِسِ وَعُمُومِ الْأَوْقَاتِ فَلَا.

ص: 476

وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ عِيسَى} يَرْجِعُ إلَى الِاسْمِ: فَإِنَّهُمْ إذَا حَمَلُوهُ عَلَى هَذَا كَانَ مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي هُوَ الِاسْمُ لَيْسَ بِمُضَافِ إلَيْهِ؛ وَلِذَا نَقُولُ: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} وَالِاسْمُ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ لَيْسَ بِابْنِ مَرْيَمَ وَإِنَّمَا ابْنُ مَرْيَمَ نَفْسُ الْجِسْمِ وَالرُّوحِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِمَا الِاسْمُ الَّذِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ الْآيَاتُ الْخَارِقَةُ الَّتِي جَعَلُوهُ لِأَجْلِ ظُهُورِهَا إلَهًا. وَقَوْلُهُمْ: الْمُرَادُ نَفْسُ ذَاتِ الْعِجْلِ لَمَّا نَسَفَهُ: فَإِذَا نُسِفَ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ عِجْلًا: بَلْ الْعِجْلُ حَقِيقَةُ الصُّورَةِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي خَارَتْ وَإِلَّا بُرَادَةُ الذَّهَبِ لَا تَصِلُ إلَّا الْقُلُوبَ وَغَايَةُ مَا تَصِلُ إلَى الْأَجْوَافِ: فَإِمَّا أَنْ يَسْبِقَهَا الطَّبْعُ فَيُحِيلَهَا إلَى أَنْ تَصِلَ إلَى الْقَلْبِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ سُحَالَةُ الذَّهَبِ إذَا حَصَلَتْ فِي الْمَعِدَةِ رَسَبَتْ بِحَيْثُ لَا تَرْتَقِي إلَى غَيْرِ مَحَلِّهَا فَضْلًا عَنْ أَنْ تَصِلَ إلَى الْقَلْبِ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَ الْعَرَبِ: أُشْرِبُوا: لَا يَرْجِعُ إلَى الشُّرْبِ إنَّمَا يَرْجِعُ إلَى الْأَسْبَابِ وَهُوَ: الإيساغ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الْحُبِّ لَا إلَى الذَّوَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَجْسَامُ؛ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ: أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْمَاءَ إذْ هُوَ مَشْرُوبٌ فَكَيْفَ يُقَالُ فِي الْعِجْلِ عَلَى أَنَّ إضَافَتَهُ نَفْسَهُ إلَى الْقَلْبِ إضَافَةٌ لَهُ إلَى مَحَلِّ الْحُبِّ؟ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي سِحَالَتِهِ إذَا تَنَاوَلُوهَا: هَذَا أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ مُوسَى وَمِنْ إلَهِ مُوسَى؛ لِمَا نَالَهُمْ مِنْ مَحَبَّتِهِ فِي قُلُوبِهِمْ.

ص: 477

قُلْت: أَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْقَرْيَةِ؛ فَالْقَرْيَةُ وَالنَّهْرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ اسْمٌ لِلْحَالِّ وَالْمَحَلِّ فَهُوَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الْمَسَاكِنَ وَسُكَّانَهَا ثُمَّ الْحُكْمُ قَدْ يَعُودُ إلَى السَّاكِنِ؛ وَقَدْ يَعُودُ إلَى الْمَسَاكِنِ؛ وَقَدْ يَعُودُ إلَيْهِمَا كَاسْمِ الْإِنْسَانِ؛ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ؛ وَقَدْ يَعُودُ الْحُكْمُ عَلَى أَحَدِهِمَا كَذَلِكَ الْكَلَامُ اسْمٌ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَقَدْ يَعُودُ الْحُكْمُ إلَى أَحَدِهِمَا. وَأَمَّا الِاشْتِقَاقُ فَهَذَا الْمَوْضِعُ غَلِطَ فِيهِ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ قَرَأَ بِالْهَمْزَةِ وَقَرَى يَقْرِي بِالْيَاءِ؛ فَإِنَّ الَّذِي بِمَعْنَى الْجَمْعِ هُوَ قَرَى يَقْرِي بِلَا هَمْزَةٍ وَمِنْهُ الْقَرْيَةُ وَالْقِرَاءَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمِنْهُ قَرَيْت الضَّيْفَ أَقْرِيهِ أَيْ: جَمَعْته وَضَمَمْته إلَيْك وَقَرَيْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ جَمَعْته وتقريت الْمِيَاهَ: تَتَبَّعْتهَا وقروت الْبِلَادَ وَقَرَيْتهَا وَاسْتَقْرَيْتهَا إذَا تَتَبَّعْتهَا تَخْرُجُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ وَمِنْهُ الِاسْتِقْرَاءُ؛ وَهُوَ: تَتَبُّعُ الشَّيْءِ أَجْمَعَهُ وَهَذَا غَيْرُ قَوْلِك: اسْتَقْرَأْته الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّ ذَاكَ مِنْ الْمَهْمُوزِ فَالْقَرْيَةُ هِيَ الْمَكَانُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ وَالْحُكْمُ يَعُودُ إلَى هَذَا تَارَةً وَإِلَى هَذَا أُخْرَى. وَأَمَّا قَرَأَ بِالْهَمْزِ فَمَعْنَاهُ الْإِظْهَارُ وَالْبَيَانُ وَالْقُرْءُ وَالْقِرَاءَةُ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مَا قَرَأْت النَّاقَةَ سَلًّا جَزُورٌ قَطُّ؛ أَيْ: مَا أَظْهَرَتْهُ وَأَخْرَجَتْهُ مِنْ رَحِمِهَا وَالْقَارِي: هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الْقُرْآنَ وَيُخْرِجُهُ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} فَفَرَّقَ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْقُرْآنِ

ص: 478

وَالْقُرْءُ: هُوَ الدَّمُ لِظُهُورِهِ وَخُرُوجِهِ وَكَذَلِكَ الْوَقْتُ؛ فَإِنَّ التَّوْقِيتَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَمْرِ الظَّاهِرِ. ثُمَّ الطُّهْرُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْقُرْءِ تَبَعًا كَمَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ فِي اسْمِ الْيَوْمِ {قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُسْتَحَاضَةِ: دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك} وَالطُّهْرُ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ حَيْضٌ هُوَ قُرْءٌ فَالْقُرْءُ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ. وَأَمَّا الطُّهْرُ الْمُجَرَّدُ فَلَا يُسَمَّى قُرْءًا؛ وَلِهَذَا إذَا طَلُقَتْ فِي أَثْنَاءِ حَيْضَةٍ لَمْ تَعْتَدَّ بِذَلِكَ قُرْءًا؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ وَإِذَا طَلُقَتْ فِي أَثْنَاءِ طُهْرٍ كَانَ الْقُرْءُ الْحَيْضَةَ مَعَ مَا تَقَدَّمَهَا مِنْ الطُّهْرِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضُ كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِتَرَبُّصِ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ؛ فَلَوْ كَانَ الْقُرْءُ هُوَ الطُّهْرُ لَكَانَتْ الْعِدَّةُ قُرْأَيْنِ وَبَعْضَ الثَّالِثِ فَإِنَّ النِّزَاعَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ؛ فَإِنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَصِغَارَ الصَّحَابَةِ إذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ حَلَّتْ فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَقَدْ مَضَى بَعْضُ الطُّهْرِ وَاَللَّهُ أَمَرَ أَنْ يُطَلِّقَ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ لَا فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ وَقَوْلُهُ: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} عَدَدٌ لَيْسَ هُوَ كَقَوْلِهِ: أَشْهُرٍ؛ فَإِنَّ ذَاكَ صِيغَةُ جَمْعٍ لَا عَدَدٌ فَلَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ لَا يَكْفِي بَعْضُ الثَّالِثِ.

ص: 479

وَأَمَّا قَوْلُك: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} فَفِيهِ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ: الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ قَدْ قِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الْحَقِّ: عِيسَى؛ كَمَا سُمِّيَ كَلِمَةَ اللَّهِ. وَقِيلَ: بَلْ الْمُرَادُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ الْحَقِّ؛ فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَهَذَا لَهُ نَظَائِرُ؛ كَقَوْلِهِ: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} الْآيَةَ {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} أَيْ: هَذَا الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ عِيسَى فَتَسْمِيَتُهُ قَوْلَ الْحَقِّ كَتَسْمِيَتِهِ كَلِمَةَ اللَّهِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ خَبَرًا وَبَدَلًا. وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ فَلَهُ نَظَائِرُ فَالْقَوْلُ فِي تَسْمِيَتِهِ مَجَازًا كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلُ الْحَقِّ إلَّا أَنَّهُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَدْخُلُ فِي هَذَا. وَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْحَقِّ اللَّهُ؛ وَالْمُرَادُ قَوْلُ اللَّهِ: فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَعْنًى صَحِيحًا فَعَادَةُ الْقُرْآنِ إذَا أُضِيفَ الْقَوْلُ إلَى اللَّهِ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُ اللَّهِ لَا يُقَالُ: قَوْلُ الْحَقِّ إلَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ الْقَوْلَ الْحَقَّ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} وَقَوْلُهُ: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} ثُمَّ مِثْلُ هَذَا إذَا أُضِيفَ فِيهِ الْمَوْصُوفُ إلَى الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} وَقَوْلِهِمْ: صَلَاةُ الْأُولَى وَدَارُ الْآخِرَةِ هُوَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ

ص: 480

نُحَاةِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ إضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إلَى صِفَتِهِ بِلَا حَذْفٍ وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ أَنَّ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: صَلَاةُ السَّاعَةِ الْأُولَى وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَلَا يَخْطِرُ بِالْبَالِ وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ: {الدَّارُ الْآخِرَةُ} وَقَالَ: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} . وَبِالْجُمْلَةِ فَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ وَلَيْسَ فِي هَذَا حُجَّةً لِمَنْ سَمَّى ذَلِكَ مَجَازًا إلَّا كَحُجَّتِهِ فِي نَظَائِرِهِ فَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْأَصْلِ.

‌قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَمِنْ أَدِلَّتِنَا قَوْله تَعَالَى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ فَلُغَةُ الْعَرَبِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ وَالْمَجَازِ وَهِيَ بَعْضُ طُرُقِ الْبَيَانِ وَالْفَصَاحَةِ فَلَوْ أَخَلَّ بِذَلِكَ لَمَا تَمَّتْ أَقْسَامُ الْكَلَامِ وَفَصَاحَتُهُ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ وَإِنَّمَا يَبِينُ تَعْجِيزُ الْقَوْمِ إذَا طَالَ وَجَمَعَ مِنْ اسْتِعَارَتِهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَلَا نَصَّ بِجَوَازِ الْأَلْفَاظِ إلَّا إذَا طَالَتْ؛ وَلِهَذَا لَا يَحْصُلُ التَّحَدِّي بِمِثْلِ بَيْتٍ وَلَا بِالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ وَلِهَذَا جَعَلَ حُكْمَ الْقَلِيلِ مِنْهُ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ احْتِرَامَ الطَّوِيلِ فَسَوَّغَ الشَّرْعُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ تِلَاوَتَهُ كُلَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا إعْجَازَ فِيهِ فَإِذَا أَتَى بِالْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ وَسَائِرِ ضُرُوبِ الْكَلَامِ وَأَقْسَامِهِ فَفَاقَ كَلَامُهُ الْجَامِعَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى تِلْكَ الْأَقْسَامِ: كَانَ الْإِعْجَازُ؛ وَظَهَرَ التَّعْجِيزُ لَهُمْ فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ.

ص: 481

قُلْت: مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ السُّورَةَ الْقَصِيرَةَ لَا إعْجَازَ فِيهَا مِمَّا يُنَازِعُهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَيَقُولُونَ: بَلْ السُّورَةُ مُعْجِزَةٌ بَلْ وَنَازَعَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ فِي الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْعِمَادِ - شَيْخُ جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ -: قَوْلُهُ إنَّمَا جَازَ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْيَسِيرِ مِنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ لَا إعْجَازَ فِيهِ: مَا أَرَاهُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مُحْتَرَمٌ وَإِنَّمَا سَاغَ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ بَعْضِ الْآيَةِ تَوْسِعَةً عَلَى الْمُكَلَّفِ وَنَظَرًا فِي تَحْصِيلِ الْمَثُوبَةِ وَالْحَرَجِ مَعَ قِيَامِ الْحُرْمَةِ كَمَا سَوَّغَ لَهُ الصَّلَاةَ مَعَ يَسِيرِ الدَّمِ مَعَ نَجَاسَتِهِ.

قُلْت: وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ‌

‌ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ:

فَحَقٌّ بَلْ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وَقَالَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ هَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ وَحِينَئِذٍ فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي فِيهِ لَيْسَتْ مَجَازًا وَنَظِيرُهَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مَجَازٌ فَقَدْ تَنَاقَضَ لَكِنَّ الْأَصْحَابَ الَّذِينَ قَالُوا: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَجَازًا؛ فَلَا يَلْزَمُهُمْ التَّنَاقُضُ. وَأَيْضًا فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَجَازًا غَيْرَ مَا يُوجَدُ نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ فِيهِ مِنْ الْمُبَالَغَةِ وَالْمُجَازَفَةِ مِنْ الْمَدْحِ وَالْهَجْوِ وَالْمُرَائِي وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يُصَانُ عَنْهُ كَلَامُ الْحَكِيمِ؛ فَضْلًا عَنْ كَلَامِ اللَّهِ: فَإِذَا كَانَ الْمُسَمِّي لَا يُسَمِّي مَجَازًا إلَّا مَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُسَمِّيَ

ص: 482

مَا فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا وَهَذَا لِأَنَّ تَسْمِيَةَ بَعْضِ الْكَلَامِ مَجَازًا إنَّمَا هُوَ أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ لَيْسَ أَمْرًا شَرْعِيًّا وَلَا لُغَوِيًّا وَلَا عَقْلِيًّا. وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُهُمْ يُسَمِّي بِالْمَجَازِ مَا اُسْتُعْمِلَ فِيمَا هُوَ مُبَايِنٌ لِمُسَمَّاهُ وَمَا اُسْتُعْمِلَ بَعْضُ مُسَمَّاهُ لَا يُسَمِّيهِ مَجَازًا فَلَا يُسَمُّونَ اسْتِعْمَالَ الْعَامِّ فِي بَعْضِ مَعْنَاهُ مَجَازًا وَلَا الْأَمْرَ إذَا أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ مَجَازًا وَهُوَ اصْطِلَاحُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَقَدْ لَا يَقُولُونَ: إنَّ ذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْجُمْلَةِ لَا يُسَمَّى غَيْرًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَلَا يُقَالُ: الْوَاحِدُ مِنْ الْعَشَرَةِ أَنَّهُ غَيْرُهَا وَلَا لِيَدِ الْإِنْسَان أَنَّهَا غَيْرُهُ وَلِأَنَّ الْمَجَازَ عِنْدَهُمْ مَا اُحْتِيجَ إلَى الْقَرِينَةِ فِي إثْبَاتِ الْمُرَادِ إلَّا فِي دَفْعِ مَا لَمْ يُرَدْ وَالْقَرِينَةُ فِي الْأَمْرِ تُخْرِجُ بَعْضَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَتُبْقِي الْبَاقِيَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِخِلَافِ الْقَرِينَةِ فِي الْأَسَدِ فَإِنَّهَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ لَا يَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْأَسَدِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَإِذَا كَانَ اصْطِلَاحُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَآخَرُونَ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمْ يُرِدْ بِاللَّفْظِ جَمِيعَ مَعْنَاهُ فَهُوَ مَجَازٌ عِنْدَهُمْ ثُمَّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْقَرِينَةِ الْمُنْفَصِلَةِ أَوْ الْمُسْتَقِلَّةِ؛ وَبَيْنَ مَا تَأَصَّلَتْ بِاللَّفْظِ؛ أَوْ كَانَتْ مِنْ لَفْظِهِ؛ أَوْ لَمْ تَسْتَقِلَّ؛ فَلَمْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ مَجَازًا لِئَلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَامَّةُ الْكَلَامِ مَجَازًا حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ: مَجَازًا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يُنَازِعُونَ

ص: 483

فِي أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ حَقٌّ وَإِنَّمَا كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى فَكَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَهُمْ فِي نَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ حَقِيقَةً إذْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَأَنَّ الْمَوْضُوعَ الْأَصْلُ هُوَ النَّفْيُ وَهُوَ نَفْيُ الْإِلَهِ مُطْلَقًا فَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَعْتَقِدْهُ أَحَدٌ مِنْ الْعَرَبِ بَلْ وَلَا لَهُمْ قَصْدٌ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ وَلَا وَضَعُوا لَهُ لَفْظًا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ إذْ كَانَ التَّعْبِيرُ هُوَ عَمَّا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْمَعَانِي وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَتَصَوَّرُوهُ إلَّا نَافِينَ لَهُ يَتَصَوَّرُوهُ مُثْبِتِينَ لَهُ وَنَفْيُ النَّفْيِ إثْبَاتٌ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَصَدُوا بِهِ فِي لُغَتِهِمْ كَانَ أَنْ يُبْعَثَ الرَّسُولُ لِنَفْيِ كُلِّ إلَهٍ وَأَنَّ هَذَا هُوَ مَوْضُوعُ اللَّفْظِ الَّذِي قَصَدُوهُ بِهِ أَوَّلًا وَقَوْلُهُمْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ: اسْتِعْمَالٌ لِذَلِكَ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ مَوْضُوعَ اللَّفْظِ عِنْدَهُمْ: فَكَذِبُهُ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ الشِّرْكِ فَكَيْفَ فِي حَالِ الْإِيمَانِ؟ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ جَمِيعَ التَّخْصِيصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ كَالصِّفَةِ؛ وَالشَّرْطِ؛ وَالْغَايَةِ؛ وَالْبَدَلِ؛ وَالِاسْتِثْنَاءِ: هُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لَكِنَّ أَكْثَرَ الْأَلْفَاظِ قَدْ اسْتَعْمَلُوهَا تَارَةً مُجَرَّدَةً عَنْ هَذِهِ التَّخْصِيصَاتِ وَتَارَةً مَقْرُونَةً بِهَا بِخِلَافِ قَوْلِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا قَطُّ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ اسْتَعْمَلُوهَا مُجَرَّدَةً عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ إذْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى بَاطِلًا عِنْدَهُمْ فَمَنْ جَعَلَ هَذَا حَقِيقَةً فِي لُغَتِهِمْ ظَهَرَ كَذِبُهُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَ اسْتِثْنَاءٍ وَاسْتِثْنَاءٍ تَنَاقَضَ وَخَالَفَ الْإِجْمَاعَ؛ وَذَلِكَ

ص: 484

لِأَنَّهُ بُنِيَ عَلَى أَصْلٍ فَاسِدٍ مُتَنَاقِضٍ وَالْقَوْلُ الْمُتَنَاقِضُ إذَا طَرَدَهُ صَاحِبُهُ وَأَلْزَمَ صَاحِبَهُ لَوَازِمَهُ ظَهَرَ مِنْ فَسَادِهِ وَقُبْحِهِ مَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا قَبْلَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَطْرُدْهُ تَنَاقَضَ وَظَهَرَ فَسَادُهُ فَيَلْزَمُ فَسَادُهُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ لِلْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ قَوْلٌ أَلْبَتَّةَ بَلْ كُلُّ أَقْوَالِهِمْ مُتَنَاقِضَةٌ وَحُدُودُهُمْ وَالْعَلَامَاتُ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَاسِدَةٌ؛ إذْ كَانَ أَصْلُ قَوْلِهِمْ بَاطِلًا فَابْتَدَعُوا فِي اللُّغَةِ تَقْسِيمًا وَتَعْبِيرًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَصَوَّرَ تَصَوُّرًا مُطَابِقًا وَلَا يُعَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَةِ سَدِيدَةٍ؛ بِخِلَافِ الْمَعْنَى الْمُسْتَقِيمِ فَإِنَّهُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْقَوْلِ السَّدِيدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} وَالسَّدِيدُ: السَّادُّ الصَّوَابُ الْمُطَابِقُ لِلْحَقِّ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَهُوَ الْعَدْلُ وَالصِّدْقُ بِخِلَافِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَيَجْعَلَهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ؛ بَلْ مُتَضَادَّيْنِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِسَدِيدِ. وَهَذَا يُبْسَطُ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} اسْأَلْ الْجُدْرَانَ؛ وَالْعِيرَ الْبَهَائِمَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا نُقِلَ عَنْهُمْ فَقَدَ أَخْطَئُوا. وَإِنْ جَعَلُوا اللَّفْظَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي مَعْنًى فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مَجَازًا وَفِيهِ لَيْسَ بِمَجَازِ فَقَدْ أَخْطَئُوا أَيْضًا. وَإِنْ قَصَدُوا أَنَّ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مِنْ الْمُبَالَغَاتِ وَالْمُجَازَفَاتِ وَالْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْهُ فَقَدْ أَصَابُوا فِي ذَلِكَ. وَإِذَا قَالُوا:

ص: 485

نَحْنُ نُسَمِّي تِلْكَ الْأُمُورَ مَجَازًا بِخِلَافِ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: فَهَذَا اصْطِلَاحٌ هُمْ فِيهِ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ مِمَّنْ جَعَلَ أَكْثَرَ كَلَامِ الْعَرَبِ مَجَازًا كَمَا يُحْكَى عَنْ ابْنِ جِنِّيٍّ أَنَّهُ قَالَ: قَوْلُ الْقَائِلِ: خَرَجَ زَيْدٌ: مَجَازٌ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْمَصْدَرُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ يَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْخُرُوجِ فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ زَيْدًا حَصَلَ مِنْهُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْخُرُوجِ؛ هَذَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ: فَإِنْ أُرِيدَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْخُرُوجِ فَهُوَ مَجَازٌ. فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَقُولُهُ مَنْ يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ وَابْنُ جِنِّيٍّ لَهُ فَضِيلَةٌ وَذَكَاءٌ؛ وَغَوْصٌ عَلَى الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ فِي سِرِّ الصِّنَاعَةِ وَالْخَصَائِصِ وَإِعْرَابِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا الْكَلَامُ إنْ كَانَ لَمْ يَقُلْهُ فَهُوَ أَشْبَهُ بِفَضِيلَتِهِ وَإِذَا قَالَهُ فَالْفَاضِلُ قَدْ يَقُولُ مَا لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الْمُطْلَقَةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ الْعُمُومِ بَلْ وَلَا بِقَيْدِ آخَرَ. فَإِذَا قِيلَ: خَرَجَ زَيْدٌ؛ وَقَامَ بَكْرٌ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَالْفِعْلُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ مُسَمَّى خُرُوجٍ؛ وَمُسَمَّى قِيَامٍ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَى نَوْعِ ذَلِكَ الْخُرُوجِ وَالْقِيَامِ وَلَا عَلَى قَدْرِهِ بَلْ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فَإِنَّهُ أَوْجَبَ رَقَبَةً وَاحِدَةً؛ لَمْ يُوجِبْ كُلَّ رَقَبَةٍ؛ وَهِيَ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ

ص: 486

الرِّقَابِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَأَيُّ رَقَبَةٍ أَعْتَقَهَا أَجْزَأَتْهُ. كَذَلِكَ إذَا قِيلَ خَرَجَ دَلَّ عَلَى وُجُودِ خُرُوجٍ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ قَلِيلًا؛ وَقَدْ يَكُونُ كَثِيرًا وَقَدْ يَكُونُ رَاكِبًا؛ وَقَدْ يَكُونُ مَاشِيًا؛ وَمَعَ هَذَا فَلَا يُتَنَاوَلُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ إلَّا خُرُوجٌ يُمْكِنُ مِنْ زَيْدٍ. وَإِمَّا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَقْتَضِي عُمُومَ كُلِّ مَا يُسَمَّى خُرُوجٌ فِي الْوُجُودِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ الْقَائِلُ إلَّا إذَا فَسَدَ تَصَوُّرُهُ وَكَانَ إلَى الْحَيَوَانِ أَقْرَبُ وَالظَّنُّ بِابْنِ جِنِّيٍّ أَنَّهُ لَا يَقُولُ هَذَا. ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي سَائِر اللُّغَاتِ فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ: إنَّ أَهْلَ اللُّغَاتِ جَمِيعَهُمْ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهُمَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ إنَّمَا وَضَعُوا تِلْكَ الْجُمْلَةَ الْفِعْلِيَّةَ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ فِي الْعَالَمِ وَأَنَّ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ عُدُولٌ بِاللَّفْظِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ؟ وَلَكِنْ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ أَصْلِ الْقَوْلِ بِالْمَجَازِ إذَا أَفْضَى إلَى أَنْ يُقَالَ: فِي الْوُجُودِ مِثْلُ هَذَا الْهَذَيَانِ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ تُوضَعُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. فَمَنْ قَالَ مِنْ نفاة الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ: إنَّا لَا نُسَمِّي مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مَجَازًا وَإِنَّمَا نُسَمِّي مَجَازًا مَا خَرَجَ عَنْ مِيزَانِ الْعَدْلِ مِثْلَ مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الشُّعَرَاءِ مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَدْحِ وَالْهَجْوِ

ص: 487

وَالْمَرَاثِي وَالْحَمَاسَةِ: فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ اصْطِلَاحًا صَحِيحًا فَهَذَا الِاصْطِلَاحُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِمَّنْ يَجْعَلُ أَكْثَرَ الْكَلَامِ مَجَازًا بَلْ وَمِمَّنْ يَجْعَلُ التَّخْصِيصَ الْمُتَّصِلَ كُلَّهُ مَجَازًا؛ فَيَجْعَلُ مِنْ الْمَجَازِ قَوْلَهُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} وَقَوْلَهُ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} وَقَوْلَهُ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَقَوْلَهُ: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} وَقَوْلَهُ: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} وَقَوْلَهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} " وَقَوْلَهُ: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} وَقَوْلَهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وَقَوْلَهُ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَقَوْلَهُ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} وَقَوْلَهُ: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَقَوْلَهُ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} وَقَوْلَهُ: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ} وَقَوْلَهُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وَقَوْلَهُ: {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} وَقَوْلَهُ: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} وَقَوْلَهُ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا

ص: 488

مُتَعَمِّدًا} وَقَوْلَهُ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} وَقَوْلَهُ: {أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} وَقَوْلَهُ: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ} وَقَوْلَهُ: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وَقَوْلَهُ: {إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وَقَوْلَهُ: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} وَقَوْلَهُ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وَقَوْلَهُ: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} وَقَوْلَهُ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ} وَقَوْلَهُ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وَأَمْثَالَ هَذَا مِمَّا لَا يُعَدُّ إلَّا بِكُلْفَةِ. فَمَنْ جَعَلَ هَذَا كُلَّهُ مَجَازًا وَأَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ هَذَا كُلَّهُ وَمَا أَشْبَهَهُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ اللَّفْظُ لَهُ أَوَّلًا: فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ وَلَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ الْكَلَامِ مَجَازًا؛ إذْ كَانَ هَذَا يَلْزَمُهُ فِي كُلِّ لَفْظٍ مُطْلَقٍ قُيِّدَ بِقَيْدِ وَالْكَلَامُ جُمْلَتَانِ: اسْمِيَّةٌ وَفِعْلِيَّةٌ وَالِاسْمِيَّةُ أَصْلُهَا الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ؛ فَيَلْزَمُ إذَا وُصِفَ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ أَوْ اُسْتُثْنِيَ مِنْهُ أَوْ قُيِّدَ بِحَالِ كَانَ مَجَازًا. وَيَلْزَمُهُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ كَانَ وَأَخَوَاتُهَا وَإِنَّ وَأَخَوَاتُهَا وَظَنَنْت وَأَخَوَاتُهَا فَغَيَّرَتْ مَعْنَاهُ وَإِعْرَابَهُ أَنْ يَصِيرَ مَجَازًا: فَإِنَّ دُخُولَ الْقَيْدِ عَلَيْهِ تَارَةً يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ؛ وَتَارَةً فِي وَسَطِهِ: وَتَارَةً فِي آخِرِهِ

ص: 489

لَا سِيَّمَا بَابِ ظَنَنْت؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَزَيْدًا مُنْطَلِقًا ظَنَنْت؛ وَلِهَذَا عِنْدَ التَّقْدِيمِ يَجِبُ الْإِعْمَالُ وَفِي التَّوَسُّطِ يَجُوزُ الْإِلْغَاءُ؛ وَفِي التَّأَخُّرِ يَحْسُنُ مَعَ جَوَازِ الْإِعْمَالِ؛ فَإِنَّهُ إذَا قُدِّمَ الْمَفْعُولُ ضَعُفَ الْعَمَلُ؛ وَلِهَذَا يُقَوُّونَهُ بِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ؛ كَمَا يُقَوُّونَهُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ لِكَوْنِهِ أَضْعَفَ مِنْ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} وَقَوْلِهِ: {إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} . وَيَلْزَمُهُ فِي الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ إذَا قُيِّدَتْ بِمَصْدَرِ مَوْصُوفٍ أَوْ مَعْدُودٍ أَوْ نَوْعٍ مِنْ الْمَصْدَرِ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا كَقَوْلِهِ: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَقَوْلِهِ: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا.} وَكَذَلِكَ ظَرْفُ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُقَيَّدُ بِهِ الْفِعْلُ مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ كَقَوْلِهِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وَقَوْلِهِ: {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} .

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ ابْنَ عَقِيلٍ مَعَ مُبَالَغَتِهِ هُنَا فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ: فَهُوَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَنْصُرُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ؛ لَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِ وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ

ص: 490

لَهُ مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ الْحَنْبَلِيِّينَ الَّذِينَ قَالُوا بِالْمَجَازِ فَقَالَ فِي فُنُونِهِ: جَرَتْ مَسْأَلَةٌ هَلْ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ؟ فَاسْتَدَلَّ حَنْبَلِيٌّ أَنَّ فِيهَا مَجَازًا بِأَنَّا وَجَدْنَا أَنَّ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا يَحْصُلُ نَفْيُهُ وَهُوَ تَسْمِيَةُ الرَّجُلِ الْمِقْدَامِ أَسَدًا؛ وَالْعَالِمِ وَالْكَرِيمِ الْوَاسِعِ الْعَطَاءِ وَالْجُودِ بَحْرًا. . . (1) فَنَقُولُ فِيهِ: لَيْسَ بِبَحْرِ وَلَا بِأَسَدِ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ نَقُولَ فِي السَّبُعِ الْمَخْصُوصِ وَالْبَحْرِ لَيْسَ بِأَسَدِ وَلَا بَحْرٍ فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي حَسُنَ نَفْيُ الِاسْمِ عَنْهُ أَنَّهُ مُسْتَعَارٌ كَمَا نَقُولُ فِي الْمُسْتَعِيرِ لِمَالِ غَيْرِهِ: لَيْسَ بِمَالِكِ لَهُ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ نَقُولَ فِي الْمَالِكِ لَيْسَ بِمَالِكِ لَهُ. قَالَ: اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مُعْتَرِضٌ أُصُولِيٌّ حَنْبَلِيٌّ فَقَالَ: الَّذِي عَوَّلْت عَلَيْهِ لَا أُسَلِّمُهُ وَلَا تَعْوِيلَ عَلَى الصُّورَةِ بَلْ عَلَى الْمُخَصَّصَةِ؛ فَإِنَّ قَوْلَنَا: حَيَوَانٌ: يَشْمَلُ السَّبُعَ وَالْإِنْسَانَ فَإِذَا قُلْنَا: سَبُعٌ وَأَسَدٌ: كَانَ هَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِقْدَامِ وَالْهُوَاشِ وَالتَّفَخُّمِ لِلصِّيَالِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ وَصُورَةِ السَّبُعِ وَالِاتِّفَاقُ وَاقِعٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ كَسَوَادِ الْحِبْرِ وَسَوَادِ الْقَارِ جَمِيعًا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي اسْمِ السَّوَادِ بِالْمَعْنَى وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي هِيَ هِبَةٌ تَجْمَعُ الْبَصَرَ اتِّسَاعُ الْحَدَقَةِ فَكَذَلِكَ اتِّسَاعُ الْجُودِ وَالْعِلْمِ وَاتِّسَاعُ الْمَاءِ جَمِيعًا يَجْمَعُهُ الِاتِّسَاعُ فَيُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَحْرًا لِلْمَعْنَى الَّذِي جَمَعَهُمَا وَهُوَ حَقِيقَةُ الِاتِّسَاعِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ الِاسْتِعَارَةَ لِأَحَدِهِمَا إلَّا إذَا ثَبَتَ سَبْقُ التَّسْمِيَةِ لِأَحَدِهِمَا؛ وَلَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْكَلَامَ

(1)

بياض بالأصل

ص: 491

قَدِيمٌ؛ وَالْقَدِيمُ لَا يَسْبِقُ بَعْضُهُ بَعْضًا؛ فَإِنَّ السَّابِقَ وَالْمَسْبُوقَ مِنْ صِفَاتِ بَعْضِهِ الْحَادِثِ مِنْ الزَّمَانِ. قُلْت: فَقَدْ جُعِلَ هَذَا اللَّفْظُ مُتَوَاطِئًا دَالًّا عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ وَلَكِنَّهُ يَخْتَصُّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِقَدْرِ مُتَمَيِّزٍ لِمَا امْتَازَ بِهِ مِنْ الْقَرِينَةِ كَمَا فِي مَا مَثَّلَهُ بِهِ مِنْ السَّوَادِ وَهَذَا بِعَيْنِهِ. يَرُدُّ عَلَيْهِ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ لِلْمَجَازِ.

قَالَ: وَمِنْ أَدِلَّةِ الْمَجَازِ مَا زَعَمَ الْمُسْتَدِلُّونَ لَهُ مِنْ أَجْوَدِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْنُّفَاةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} وقَوْله تَعَالَى {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} وَالصَّلَوَاتُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: إمَّا الْأَدْعِيَةُ وَإِمَّا الْأَفْعَالُ الْمَخْصُوصَةُ وَكِلَاهُمَا لَا يُوصَفُ بِالتَّهَدُّمِ وَالْجَمَادُ لَا يَتَّصِفُ بِالْإِرَادَةِ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ تَسْمِيَةُ الْمُصَلَّى صَلَاةً وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} أَعْضَاءُ السُّجُودِ. وَالْجِدَارُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إرَادَةٌ لَكِنَّهُ لَا يَسْتَحِيلُ مِنْ اللَّهِ فِعْلُ الْإِرَادَةِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ أَبْنِيَةٍ مَخْصُوصَةٍ. فَيُقَالُ: هَذَا دَعْوَى عَنْ الْوَضْعِ: إذْ لَا يُعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَصْلِ

ص: 492

إلَّا الدُّعَاءُ وَزِيدَ فِي الشَّرْعِ أَوْ نُقِلَ إلَى الْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ فَأَمَّا الْأَبْنِيَةُ فَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ نَقْلٍ عَنْ الْعَرَبِ وَإِنْ سُمِّيَتْ صَلَوَاتٍ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِعَارَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ الصَّلَوَاتِ. وَلَوْ خَلَقَ اللَّهُ فِي الْجِدَارِ إرَادَةً لَمْ يَكُنْ بِهَا مُرِيدًا كَمَا لَوْ خَلَقَ فِيهِ كَلَامًا لَمْ يَكُنْ بِهِ مُتَكَلِّمًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ الْمُرَادُ بِهَا عِيسَى نَفْسُهُ: فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَصْدَرَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَفْعُولِ بِهِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِمْ: هَذَا دِرْهَمُ ضَرْبُ الْأَمِيرِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ أَمْرًا وَالْمَقْدُورِ قُدْرَةً وَالْمَرْحُومِ بِهِ رَحْمَةً وَالْمَخْلُوقِ بِالْكَلِمَةِ كَلِمَةً لَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مَعَ مَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِمَّا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ كَقَوْلِهِ: {يَا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَلِمَةَ هُوَ الْمَسِيحُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَسِيحَ نَفْسَهُ لَيْسَ هُوَ الْكَلَامُ {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَبَيَّنَ لَمَّا تَعَجَّبَتْ مِنْ الْوَلَدِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ؛ إذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِمَّا يَخْلُقُهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {كُنْ فَيَكُونُ} وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: عِيسَى مَخْلُوقٌ بالكن؛ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الكن

ص: 493

وَلِهَذَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَقَدْ بَيَّنَ مُرَادَهُ أَنَّهُ خُلِقَ بكن لَا أَنَّهُ نَفْسُ كُنْ وَنَحْوِهَا مِنْ الْكَلَامِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْأَفْعَالَ أَزْمِنَةٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْخَبَرَ عَنْ زَمَانِ الْحَجِّ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهَا. {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} وَالْحَجُّ الْمَفْرُوضُ فِيهِنَّ لَيْسَ هُوَ الْأَشْهُرَ؛ فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ: {أَشْهُرٌ} لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْسَ الْفِعْلِ بَلْ بَيَّنَ مُرَادَهُ بِكَلَامِهِ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ أَزْمِنَةٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} لَمَّا قَالَ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ وَلَكِنَّ الْبِرَّ هُوَ التَّقْوَى فَلَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ إلَّا مَعَ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ مَعَ قَيْدٍ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ هُنَا؛ كَمَا هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَعَ قَيْدٍ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ هُنَاكَ وَبَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ اشْتِرَاكٌ وَبَيْنَهُمَا امْتِيَازٌ بِمَنْزِلَةِ‌

‌ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ

كَلَفْظِ الصَّارِمِ وَالْمُهَنَّدِ وَالسَّيْفِ؛ فَإِنَّهَا تَشْتَرِكُ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى الذَّاتِ فَهِيَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالْمُتَوَاطِئَةِ وَيَمْتَازُ كُلٌّ مِنْهَا بِدَلَالَتِهِ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ فَتُشْبِهُ الْمُتَبَايِنَةَ. وَأَسْمَاءُ اللَّهِ وَأَسْمَاءُ رَسُولِهِ وَكِتَابِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ.

ص: 494

وَكَذَلِكَ مَا يُعَرَّفُ بِاللَّامِ لَامِ الْعَهْدِ يَنْصَرِفُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُ إمَّا بِعُرْفِ مُتَقَدِّمٍ؛ وَإِمَّا بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ؛ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ هَذَا الْمُرَادِ لَيْسَ هُوَ ذَاكَ لَكِنْ بَيْنَهُمَا قَدَرَ مُشْتَرَكٌ وَقَدْرٌ فَارِقٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّا أَرْسَلْنَا إلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} وَقَالَ تَعَالَى {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} فَفِي الْمَوْضِعَيْنِ لَفْظُ الرَّسُولِ وَلَامُ التَّعْرِيفِ لَكِنَّ الْمَعْهُودَ الْمَعْرُوفَ هُنَاكَ هُوَ رَسُولُ فِرْعَوْنَ وَهُوَ مُوسَى عليه السلام وَالْمَعْرُوفُ الْمَعْهُودُ هُنَا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَكِلَاهُمَا حَقِيقَةٌ وَالِاسْمُ مُتَوَاطِئٌ وَهُوَ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَكِنَّ الْعَهْدَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ غَيْرُ الْعَهْدِ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ وَهَذَا أَحَدُ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَدُلُّ اللَّفْظُ: فَإِنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ لَا تَدُلُّ إلَّا مَعَ مَعْرِفَةِ الْمُخَاطَبِ بِالْمَعْهُودِ الْمَعْرُوفِ. وَكَذَلِكَ اسْمُ الْإِشَارَةِ؛ كَقَوْلِهِ: هَذَا وَهَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ: إنَّمَا يَدُلُّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى الْمُشَارِ إلَيْهِ هُنَاكَ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلَالَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ لَفْظِيَّةٍ تُبَيِّنُ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ غَيْرُ لَفْظِ الْإِشَارَةِ فَتِلْكَ الدَّلَالَةُ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ إلَّا بِهَا وَبِلَفْظِ الْإِشَارَةِ كَمَا أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ إلَّا بِهَا

ص: 495

وَبِالْمَعْهُودِ وَمِثْلُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ لَا يُقَالُ: إنَّهَا مَجَازٌ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ بَلْ وَالضَّمَائِرِ وَلَامِ الْعَهْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَجَازًا وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَإِنْ قَالَهُ جَاهِلٌ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ دَلَالَةَ الْأَلْفَاظِ وَظَنَّ أَنَّ الْحَقَائِقَ تَدُلُّ بِدُونِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ بَلْ لَا يَدُلُّ شَيْءٌ مِنْ الْأَلْفَاظِ إلَّا مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَبِحَالِ الْمُتَكَلِّمِ الَّذِي يَعْرِفُ عَادَتَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَإِلَّا فَنَفْسُ اسْتِمَاعِ اللَّفْظِ بِدُونِ الْمَعْرِفَةِ لِلْمُتَكَلِّمِ وَعَادَتُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ؛ إذَا كَانَتْ دَلَالَتُهَا دَلَالَةً قَصْدِيَّةً إرَادِيَّةً تَدُلُّ عَلَى مِمَّا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَدُلَّ بِهَا عَلَيْهِ لَا تَدُلُّ بِذَاتِهَا. فَلَا بُدَّ أَنْ تَعْرِفَ مَا يَجِبُ أَنْ يُرِيدَهُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا؛ وَلِهَذَا لَا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ؛ بَلْ بِالْعَقْلِ مَعَ السَّمْعِ. وَلِهَذَا كَانَتْ دَلَالَةُ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعَانِيهَا سَمْعِيَّةً عَقْلِيَّةً تُسَمَّى الْفِقْهُ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ لِمَنْ عَرَفَهَا: هُوَ يَفْقَهُ وَلِمَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا: لَا يَفْقَهُ. قَالَ تَعَالَى {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} وَقَالَ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} .

ص: 496

وَلِهَذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ: أَنْ يَفْقَهَ مُرَادَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. تَمَّ بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ وَحَبِيبِهِ وَأَفْضَلِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

ص: 497

وَقَالَ رحمه الله:

فَصْلٌ:

فِي أُصُولِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} إلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . وَفِي التَّشَهُّدِ: {التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ} وَهَذِهِ الْأُصُولُ الَّتِي أَمَرَ بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لشريح حَيْثُ قَالَ: اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَفِي رِوَايَةٍ فَبِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيُفْتِ بِمَا فِي كِتَابِ

ص: 498

اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوْجَبَ طَاعَتَهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ نِزَاعٌ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إلَّا إذَا كَانَ نِزَاعٌ. فَدَلَّ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ جِهَةِ وُجُوبِ طَاعَتِهِمْ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الرَّدَّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّمَا وَجَبَ عِنْدَ النِّزَاعِ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ النِّزَاعِ لَا يَجِبُ وَإِنْ جَازَ لِأَنَّ اتِّفَاقَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَرَ بِمُوَالَاتِهِمْ وَالْمُوَالَاةُ تَقْتَضِي الْمُوَافَقَةَ وَالْمُتَابَعَةَ كَمَا أَنَّ الْمُعَادَاةَ تَقْتَضِي الْمُخَالَفَةَ وَالْمُجَانَبَةَ فَمَنْ وَافَقْته مُطْلَقًا فَقَدْ وَالَيْته مُطْلَقًا وَمَنْ وَافَقْته فِي غَالِبِ الْأُمُورِ فَقَدْ وَالَيْته فِي غَالِبِهَا وَمَوْرِدُ النِّزَاعِ لَمْ تُوَالِهِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ تُعَادِهِ. فَأَمَّا الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَكَثِيرٌ جِدًّا كَقَوْلِهِ: " {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا} {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} وَ {يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} الْآيَةَ {فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}

ص: 499

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} . وَهَذَا كَثِيرٌ. وَأَمَّا السَّلَفُ فَآيَاتٌ أَحَدُهَا: مَا تَقَدَّمَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَأُولِي الْأَمْرِ} وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَالْمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلُهُ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وَلَوْ خَرَجَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْ الْحَقِّ وَالْهُدَى لَمَا كَانَتْ لَهُمْ الْعِزَّةُ إذْ ذَاكَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ وَالضَّلَالَ لَيْسَ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهِ الْعِزَّةُ وَالْعِزَّةُ مَشْرُوطَةٌ بِالْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} أَمَرَ بِسُؤَالِهِ الْهِدَايَةَ إلَى صِرَاطِهِمْ؛ وَقَالَ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الْآيَةَ وَفِيهَا الدَّلَالَةُ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ} وَالسَّلَفُ الْمُؤْمِنُونَ مُنِيبُونَ أَيْ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ سَبِيلِهِمْ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} وَالسَّلَفُ كَذَلِكَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} وَمَنْ خَرَجَ عَنْ إجْمَاعِهِمْ

ص: 500

فَقَدْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وَقَوْلُهُ: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وَقَالَ قَوْمُ عِيسَى: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} فِي آلِ عِمْرَانَ وَالْمَائِدَةِ لِأَنَّ لَنَا الشَّهَادَةَ وَلَهُمْ الْعِبَادَةُ بِلَا شَهَادَةٍ وَالْأُمَّةُ الْوَسَطُ الْعَدْلُ الْخِيَارُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ عَادِلِينَ كَالرَّسُولِ؛ وَلِهَذَا {قَالَ فِي الْجِنَازَةِ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَقَالَ: أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ} وَقَالَ: {تُوشِكُوا أَنْ تَعْلَمُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ} فَعُلِمَ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ مَقْبُولَةٌ فِيمَا يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَشْخَاصِ وَالْأَفْعَالِ؛ وَلَوْ كَانُوا قَدْ يَشْهَدُونَ بِمَا لَيْسَ بِحَقِّ لَمْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ مُطْلَقًا. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وَفِيهَا أَدِلَّةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: {خَيْرَ أُمَّةٍ} وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْمُرُوا بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَيَنْهَوْا عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ وَالصَّوَابُ فِي الْأَحْكَامِ مَعْرُوفٌ وَالْخَطَأُ مُنْكَرٌ.

ص: 501

وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وَمِنْهَا قَوْلُ الْخَلِيلِ {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} وَقَوْلُ يُوسُفَ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وَالرِّضْوَانُ لَا يَكُونُ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى ذَنْبٍ أَوْ خَطَأٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ الْعَفْوُ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} وَقَوْلُهُ: {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} فَإِنَّهُ يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الِاصْطِفَاءَ يَقْتَضِي التَّصْفِيَةَ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَعَ الِاتِّفَاقِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ وَالْخَطَأِ. وَالثَّانِي التَّسْلِيمُ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي سَلَامَتَهُمْ مِنْ الْعُيُوبِ كَمَا سَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى نُوحٍ وَعَلَى الْمَسِيحِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُدًى فِي كُلِّ شَيْءٍ وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} فَإِنَّهُ يَقْتَضِي إخْرَاجَهُمْ مِنْ كُلِّ ظُلْمَةٍ.

ص: 502

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة رحمه الله:

عَمَّا يَقَعُ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ لِمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَوْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِهِمْ وَرُبَّمَا كَانَ حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: تَطْهِيرُ الْمَاءِ إذَا وَقَعَ فِيهِ نَجَاسَةٌ خِلَافُ الْقِيَاسِ (*) بَلْ وَتَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالتَّوَضُّؤُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالسَّلَمُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْإِجَارَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْقَرْضُ وَصِحَّةُ صَوْمِ الْمُفْطِرِ نَاسِيًا وَالْمُضِيُّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ: فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ صَوَابٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُعَارِضُ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ النَّصَّ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَصْلُ هَذَا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ لَفْظَ الْقِيَاسِ لَفْظٌ مُجْمَلٌ يَدْخُلُ فِيهِ‌

‌ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ.

فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ

(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 171):

هنا أمران:

الأول: أن السائل هو ابن القيم رحمه الله كما ذكر ذلك في (إعلام الموقعين) حيث قال: (وسألت شيخنا قدس الله روحه عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم هذا خلاف القياس لما ثبت بالنص أو قول الصحابة أو بعضهم وربما كان مجمعا عليه كقولهم طهارة الماء إذا وقعت فيه نجاسة على خلاف القياس وتطهير النجاسة على خلاف القياس. . .).

الثاني: أن ابن القيم رحمه الله ذكر هذه الرسالة كاملة في الإعلام (1)، ويوجد - عند المقارنة - بينها وبين الرسالة في مجموع الفتاوى بعض الفروق والزيادات، وهي كثيرة.

(1)

تجد الرسالة هذه في الإعلام: 1/ 383 إلى 2/ 38، وفي بعض المواضع هناك يختلف ترتيب الكلام عنه في الفتاوى، فلا أدري إن كان ذلك من تصرف ابن القيم أو لا، مع العلم أن ابن القيم رحمه الله له زيادات من قوله خلال ذكره لهذه الرسالة، وله تتمة عليها بعد نهايتها: 2/ 38 وما بعدها.

ص: 504

الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ الْأَوَّلُ قِيَاسُ الطَّرْدِ وَالثَّانِي قِيَاسُ الْعَكْسِ وَهُوَ مِنْ الْعَدْلِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ. فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْعِلَّةُ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَوْجُودَةً فِي الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ فِي الْفَرْعِ يَمْنَعُ حُكْمَهَا وَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِهِ قَطُّ. وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ وَهُوَ: أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ فِي الشَّرْعِ فَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِهِ. وَحَيْثُ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ بِحُكْمِ يُفَارِقُ بِهِ نَظَائِرَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ النَّوْعُ بِوَصْفِ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ وَيَمْنَعُ مُسَاوَاتَهُ لِغَيْرِهِ لَكِنَّ الْوَصْفَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ قَدْ يَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ وَقَدْ لَا يَظْهَرُ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الْمُعْتَدِلِ أَنْ يَعْلَمَ صِحَّتَهُ كُلُّ أَحَدٍ فَمَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ الشَّرِيعَةِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ فَإِنَّمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَحَيْثُ عَلِمْنَا أَنَّ النَّصَّ جَاءَ بِخِلَافِ قِيَاسٍ: عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدٌ بِمَعْنَى أَنَّ صُورَةَ النَّصِّ امْتَازَتْ عَنْ تِلْكَ الصُّوَرِ الَّتِي يَظُنُّ أَنَّهَا مِثْلُهَا بِوَصْفِ أَوْجَبَ تَخْصِيصَ الشَّارِعِ لَهَا بِذَلِكَ الْحُكْمِ فَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ قِيَاسًا صَحِيحًا لَكِنْ فِيهَا مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَعْلَمُ فَسَادَهُ.

ص: 505

وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَمْثِلَةَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَ فِي السُّؤَالِ فَاَلَّذِينَ قَالُوا: الْمُضَارَبَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ: ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ مِنْ جِنْسِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا عَمَلٌ بِعِوَضِ وَالْإِجَارَةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِالْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ فَلَمَّا رَأَوْا الْعَمَلَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ غَيْرَ مَعْلُومٍ وَالرِّبْحُ فِيهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ قَالُوا: تُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَهَذَا مِنْ غَلَطِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَاتِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ الْخَاصَّةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِالْعِوَضَيْنِ وَالْمُشَارَكَاتُ جِنْسٌ غَيْرُ جِنْسِ الْمُعَاوَضَةِ وَإِنْ قِيلَ إنَّ فِيهَا شَوْبَ الْمُعَاوَضَةِ.

وَكَذَلِكَ‌

‌ الْمُقَاسَمَةُ

جِنْسٌ غَيْرُ جِنْسِ الْمُعَاوَضَةِ الْخَاصَّةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا شَوْبُ مُعَاوَضَةٍ حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا بَيْعٌ يُشْتَرَطُ فِيهَا شُرُوطُ الْبَيْعِ الْخَاصِّ.

وَإِيضَاحُ هَذَا: أَنَّ‌

‌ الْعَمَلَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَقْصُودًا مَعْلُومًا؛ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ. فَهَذِهِ الْإِجَارَةُ اللَّازِمَةُ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَقْصُودًا لَكِنَّهُ مَجْهُولٌ أَوْ غَرَرٌ فَهَذِهِ الْجَعَالَةُ وَهِيَ: عَقْدٌ جَائِزٌ لَيْسَ بِلَازِمِ فَإِذَا قَالَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَهُ مِائَةٌ فَقَدْ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ وَقَدْ لَا يَقْدِرُ وَقَدْ يَرُدُّهُ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَقَدْ

ص: 506

يَرُدُّهُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ؛ فَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً لَكِنْ هِيَ جَائِزَةٌ فَإِنْ عَمِلَ هَذَا الْعَمَلَ اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ وَإِلَّا فَلَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجُعْلُ فِيهَا إذَا حَصَلَ بِالْعَمَلِ جُزْءًا شَائِعًا؛ وَمَجْهُولًا جَهَالَةً لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَمِيرُ الْغَزْوِ: مَنْ دَلَّ عَلَى حِصْنٍ فَلَهُ ثُلُثُ مَا فِيهِ " وَيَقُولَ لِلسَّرِيَّةِ الَّتِي يَسْرِيهَا: لَك خُمُسُ مَا تَغْنَمِينَ أَوْ رُبُعُهُ. وَقَدْ‌

‌ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي سَلَبِ الْقَاتِلِ:

هَلْ هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِالشَّرْعِ؟ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَوْ بِالشَّرْطِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد فَمَنْ جَعَلَهُ مُسْتَحَقًّا بِالشَّرْطِ جَعَلَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إذَا جَعَلَ لِلطَّبِيبِ جُعْلًا عَلَى شِفَاءِ الْمَرِيضِ جَازَ كَمَا أَخَذَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ جُعِلَ لَهُمْ قَطِيعٌ عَلَى شِفَاءِ سَيِّدِ الْحَيِّ فَرَقَاهُ بَعْضُهُمْ حَتَّى بَرِئَ فَأَخَذُوا الْقَطِيعَ؛ فَإِنَّ الْجُعْلَ كَانَ عَلَى الشِّفَاءِ لَا عَلَى الْقِرَاءَةِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ طَبِيبًا إجَارَةً لَازِمَةً عَلَى الشِّفَاءِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الشِّفَاءَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ فَقَدْ يَشْفِيهِ اللَّهُ وَقَدْ لَا يَشْفِيهِ فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا تَجُوزُ فِيهِ الْجَعَالَةُ دُونَ الْإِجَارَةِ اللَّازِمَةِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: فَهُوَ مَا لَا يُقْصَدُ فِيهِ الْعَمَلُ؛ بَلْ الْمَقْصُودُ الْمَالُ وَهُوَ الْمُضَارَبَةُ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ فِي نَفْسِ عَمَلِ الْعَامِلِ كَمَا لِلْجَاعِلِ وَالْمُسْتَأْجِرِ قَصْدٌ فِي عَمَلِ الْعَامِلِ؛ وَلِهَذَا لَوْ عَمِلَ

ص: 507

مَا عَمِلَ وَلَمْ يَرْبَحْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ وَإِنْ سُمِّيَ هَذَا جَعَالَةً بِجُزْءِ مِمَّا يَحْصُلُ بِالْعَمَلِ كَانَ نِزَاعًا لَفْظِيًّا بَلْ هَذِهِ مُشَارَكَةٌ هَذَا بِنَفْعِ بَدَنِهِ وَهَذَا بِنَفْعِ مَالِهِ وَمَا قَسَّمَ اللَّهُ مِنْ الرِّبْحِ كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْإِشَاعَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ أَحَدَهُمَا بِرِبْحِ مُقَدَّرٍ؛ لِأَنَّ هَذَا يُخْرِجُهُمَا عَنْ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ فِي الشَّرِكَةِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَشْرُطُونَ لِرَبِّ الْمَالِ زَرْعَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا وَهُوَ مَا يَنْبُتُ عَلَى الماذيانات وَإِقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ: إنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ صلى الله عليه وسلم هُوَ أَمْرٌ إذَا نَظَرَ فِيهِ ذُو الْبَصَرِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ أَوْ كَانَ قَالَ. فَبَيَّنَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مُوجِبُ الْقِيَاسِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَوْ شُرِطَ فِي الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لَأَنَّ مَبْنَى الْمُشَارَكَاتِ عَلَى الْعَدْلِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فَإِذَا خُصَّ أَحَدُهُمَا بِرِبْحِ دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ هَذَا عَدْلًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِكُلِّ مِنْهُمَا جُزْءٌ شَائِعٌ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَفِي الْمَغْرَمِ فَإِنْ حَصَلَ رِبْحٌ اشْتَرَكَا فِي الْمَغْنَمِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ رِبْحٌ اشْتَرَكَا فِي الْحِرْمَانِ وَذَهَبَ نَفْعُ بَدَنِ هَذَا كَمَا ذَهَبَ نَفْعُ مَالِ هَذَا وَلِهَذَا كَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ ذَهَابِ نَفْعِ الْعَامِلِ.

ص: 508

وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ رِبْحُ الْمِثْلِ لَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ فَيُعْطَى الْعَامِلُ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ أَنْ يُعْطَاهُ مِثْلُهُ مِنْ الرِّبْحِ: إمَّا نِصْفُهُ وَإِمَّا ثُلُثُهُ وَإِمَّا ثُلُثَاهُ. فَإِمَّا أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا مُقَدَّرًا مَضْمُونًا فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ كَمَا يُعْطِيَ فِي الْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ فَهَذَا غَلَطٌ مِمَّنْ قَالَهُ. وَسَبَبُ الْغَلَطِ ظَنُّهُ أَنَّ هَذَا إجَارَةٌ فَأَعْطَاهُ فِي فَاسِدِهَا عِوَضَ الْمِثْلِ كَمَا يُعْطِيهِ فِي الْمُسَمَّى الصَّحِيحِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ غَلَطَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْعَامِلَ قَدْ يَعْمَلُ عَشْرَ سِنِينَ فَلَوْ أُعْطِيَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لَأُعْطِيَ أَضْعَافَ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَةِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ إنْ كَانَ هُنَاكَ رِبْحٌ فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ فِي الْفَاسِدَةِ أَضْعَافَ مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الصَّحِيحَةِ؟ وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أَبْطَلُوا الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ ظَنُّوا أَنَّهَا إجَارَةٌ بِعِوَضِ مَجْهُولٍ فَأَبْطَلُوهَا وَبَعْضُهُمْ صَحَّحَ مِنْهَا مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ كَالْمُسَاقَاةِ عَلَى الشَّجَرِ لِعَدَمِ إمْكَانِ إجَارَتِهَا بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ تُمْكِنُ إجَارَتُهَا. وَجَوَّزُوا مِنْ الْمُزَارَعَةِ مَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ إمَّا مُطْلَقًا؛ وَإِمَّا إذَا كَانَ الْبَيَاضُ الثُّلُثَ. وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ بُطْلَانُ الْمُزَارَعَةِ وَإِنَّمَا جُوِّزَتْ لِلْحَاجَةِ. وَمَنْ أَعْطَى النَّظَرَ حَقَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ أَبْعَدُ عَنْ الظُّلْمِ وَالْقِمَارِ مِنْ الْإِجَارَةِ بِأُجْرَةِ مُسَمَّاةٍ مَضْمُونَةٍ فِي الذِّمَّةِ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَقْصِدُ الِانْتِفَاعَ بِالزَّرْعِ النَّابِتِ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَمَقْصُودُهُ مِنْ

ص: 509

الزَّرْعِ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ كَانَ فِي هَذَا حُصُولُ أَحَدِ الْمُتَعَاوِضَيْنِ عَلَى مَقْصُودِهِ دُونَ الْآخَرِ. وَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ فَإِنْ حَصَلَ الزَّرْعُ اشْتَرَكَا فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ اشْتَرَكَا فِي الْحِرْمَانِ فَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِحُصُولِ مَقْصُودِهِ دُونَ الْآخَرِ فَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَأَبْعَدُ عَنْ الظُّلْمِ مِنْ الْإِجَارَةِ. وَالْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ جَمِيعِهَا هُوَ الْعَدْلُ؛ فَإِنَّهُ بُعِثَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتْ الْكُتُبُ قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وَالشَّارِعُ نَهَى عَنْ الرِّبَا لِمَا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ وَعَنْ الْمَيْسِرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْقُرْآنُ جَاءَ بِتَحْرِيمِ هَذَا وَهَذَا وَكِلَاهُمَا أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمُعَامَلَاتِ: كَبَيْعِ الْغَرَرِ وَبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَبَيْعِ السِّنِينَ وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَبَيْعِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: هِيَ دَاخِلَةٌ إمَّا فِي الرِّبَا وَإِمَّا فِي الْمَيْسِرِ فَالْإِجَارَةُ بِالْأُجْرَةِ الْمَجْهُولَةِ مِثْلَ أَنْ يَكْرِيَهُ الدَّارَ بِمَا يَكْسِبُهُ الْمُكْتَرِي فِي حَانُوتِهِ مِنْ الْمَالِ هُوَ مِنْ الْمَيْسِرِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَيْسِرِ بَلْ هُوَ مِنْ أَقْوَمِ الْعَدْلِ. وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْمُزَارَعَةَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ

ص: 510

أَحَقُّ بِالْجَوَازِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَلِهَذَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُزَارِعُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَكَذَلِكَ عَامَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يَعْمُرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَاَلَّذِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ قَاسُوا ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَقَالُوا فِي الْمُضَارَبَةِ: الْمَالُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْعَمَلُ مِنْ آخَرَ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْمُزَارَعَةِ وَجَعَلُوا الْبَذْرَ مِنْ رَبِّ الْمَالِ كَالْأَرْضِ. وَهَذَا الْقِيَاسُ مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَلِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَهُوَ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهِ وَيَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ فَهُوَ نَظِيرُ الْأَرْضِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَأَمَّا الْبَذْرُ الَّذِي لَا يَعُودُ نَظِيرُهُ إلَى صَاحِبِهِ بَلْ يَذْهَبُ كَمَا يَذْهَبُ نَفْعُ الْأَرْضِ فَإِلْحَاقُهُ بِالنَّفْعِ الذَّاهِبِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْأَصْلِ الْبَاقِي فَالْعَاقِدُ إذَا أَخْرَجَ الْبَذْرَ ذَهَبَ عَمَلُهُ وَبَذْرُهُ وَرَبُّ الْأَرْضِ ذَهَبَ نَفْعُ أَرْضِهِ وَبَذْرُ هَذَا كَأَرْضِ هَذَا فَمَنْ جَعَلَ الْبَذْرَ كَالْمَالِ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعِيدَ مِثْلَ الْبَذْرِ إلَى صَاحِبِهِ كَمَا قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ فَكَيْفَ وَلَوْ اشْتَرَطَ رَبُّ الْبَذْرِ نَظِيرَ عَوْدِ بَذْرِهِ إلَيْهِ لَمْ يُجَوِّزُوا ذَلِكَ.

ص: 511

وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى جِنْسِ قَوْلِ الْقَائِلِ: هَذَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا " الْحَوَالَةُ " فَمَنْ قَالَ: تُخَالِفُ الْقِيَاسَ قَالَ: إنَّهَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَامٌّ وَلَا إجْمَاعٌ. وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَالْكَالِئُ هُوَ الْمُؤَخَّرُ الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ بِالْمُؤَخَّرِ الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ وَهَذَا كَمَا لَوْ أَسْلَمَ شَيْئًا فِي شَيْءٍ فِي الذِّمَّةِ وَكِلَاهُمَا مُؤَخَّرٌ فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ بَيْعُ كَالِئٍ بِكَالِئِ. وَأَمَّا بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ فَيَنْقَسِمُ إلَى بَيْعِ وَاجِبٍ بِوَاجِبِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَيَنْقَسِمُ إلَى بَيْعِ سَاقِطٍ بِسَاقِطِ وَسَاقِطٍ بِوَاجِبِ. وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَوَالَةَ مِنْ جِنْسِ إيفَاءِ الْحَقِّ لَا مِنْ جِنْسِ الْبَيْعِ. فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ إذَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَدِينِ مَالَهُ كَانَ هَذَا اسْتِيفَاءً فَإِذَا أَحَالَهُ عَلَى غَيْرِهِ كَانَ قَدْ اسْتَوْفَى ذَلِكَ الدَّيْنَ عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ وَلِهَذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 512

الْحَوَالَةَ فِي مَعْرِضِ الْوَفَاءِ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ} فَأَمَرَ الْمَدِينَ بِالْوَفَاءِ وَنَهَاهُ عَنْ الْمَطْلِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ ظَالِمٌ إذَا مَطَلَ وَأَمَرَ الْغَرِيمَ بِقَبُولِ الْوَفَاءِ إذَا أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} أَمَرَ الْمُسْتَحِقَّ أَنْ يُطَالِبَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَمَرَ الْمَدِينَ أَنْ يُؤَدِّيَ بِإِحْسَانٍ. وَوَفَاءُ الدَّيْنِ لَيْسَ هُوَ الْبَيْعَ الْخَاصَّ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَوْبُ الْمُعَاوَضَةِ وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوَفَاءَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ بِسَبَبِ أَنَّ الْغَرِيمَ إذَا قَبَضَ الْوَفَاء صَارَ فِي ذِمَّتِهِ لِلْمَدِينِ مِثْلُهُ يتقاص مَا عَلَيْهِ بِمَالِهِ وَهَذَا تَكَلُّفٌ أَنْكَرَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَقَالُوا: بَلْ نَفْسُ الْمَالِ الَّذِي قَبَضَهُ يَحْصُلُ بِهِ الْوَفَاءُ وَلَا حَاجَةَ أَنْ نُقَدِّرَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَوْفِي دَيْنًا وَأُولَئِكَ قَصَدُوا أَنْ يَكُونَ وَفَاءُ الدَّيْنِ بِدَيْنٍ وَهَذَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ بَلْ الدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ الْمُطْلَقِ الْكُلِّيِّ وَالْمُعَيَّنُ مِنْ جِنْسِ الْمُعَيَّنِ فَمَنْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنٌ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُوَ الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ وَأَيُّ مُعَيَّنٍ اسْتَوْفَاهُ حَصَلَ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ الْمُطْلَقِ.

ص: 513

فَصْلٌ:

وَمَنْ قَالَ: الْقَرْضُ خِلَافُ الْقِيَاسِ قَالَ: لِأَنَّهُ بَيْعُ رِبَوِيٍّ بِجِنْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ. وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ الْقَرْضَ مِنْ جِنْسِ التَّبَرُّعِ بِالْمَنَافِعِ كَالْعَارِيَةِ وَلِهَذَا {سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنِيحَةً فَقَالَ: أَوْ مَنِيحَةُ ذَهَبٍ أَوْ مَنِيحَةُ وَرِقٍ} وَبَابُ الْعَارِيَةِ أَصْلُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ أَصْلَ الْمَالِ لِيَنْتَفِعَ بِمَا يَسْتَخْلِفُ مِنْهُ ثُمَّ يُعِيدَهُ إلَيْهِ فَتَارَةً يَنْتَفِعُ بِالْمَنَافِعِ كَمَا فِي عَارِيَةِ الْعَقَارِ وَتَارَةً يَمْنَحُهُ مَاشِيَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا ثُمَّ يُعِيدَهَا وَتَارَةً يُعِيرَهُ شَجَرَةً لِيَأْكُلَ ثَمَرَهَا ثُمَّ يُعِيدَهَا فَإِنَّ اللَّبَنَ وَالثَّمَرَ يُسْتَخْلَفُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الْمَنَافِعِ وَلِهَذَا كَانَ فِي الْوَقْفِ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ وَالْمُقْرِضُ يُقْرِضُهُ مَا يُقْرِضُهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ ثُمَّ يُعِيدَ لَهُ بِمِثْلِهِ فَإِنَّ إعَادَةَ الْمِثْلِ تَقُومُ مَقَامَ إعَادَةِ الْعَيْنِ وَلِهَذَا نُهِيَ أَنْ يَشْتَرِطَ زِيَادَةً عَلَى الْمِثْلِ كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي الْعَارِيَةِ أَنْ يَرُدَّ مَعَ الْأَصْلِ غَيْرَهُ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْبَيْعِ فَإِنَّ عَاقِلًا لَا يَبِيعُ دِرْهَمًا بِمِثْلِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إلَى أَجَلٍ وَلَا يُبَاعُ الشَّيْءُ بِجِنْسِهِ إلَى أَجَلٍ إلَّا مَعَ اخْتِلَافِ الصِّفَةِ أَوْ الْقَدْرِ كَمَا يُبَاعُ نَقْدٌ بِنَقْدِ آخَرَ وَصَحِيحٌ بِمَكْسُورِ وَنَحْوُ ذَلِكَ

ص: 514

وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِي الْقَرْضِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُقْرِضِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ السَّفْتَجَةِ وَلِهَذَا كَرِهَهَا مَنْ كَرِهَهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُكْرَهُ لِأَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَنْتَفِعُ بِهَا أَيْضًا فَفِيهَا مَنْفَعَةٌ لَهُمَا جَمِيعًا إذَا أَقْرَضَهُ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إزَالَةُ النَّجَاسَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالنِّكَاحُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَهُوَ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْإِنْسَانُ شَرِيفٌ وَالنِّكَاحُ فِيهِ ابْتِذَالُ الْمَرْأَةِ وَشَرَفُ الْإِنْسَانِ يُنَافِي الِابْتِذَالَ. وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ النِّكَاحَ مِنْ مَصْلَحَةِ شَخْصِ الْمَرْأَةِ وَنَوْعِ الْإِنْسَانِ وَالْقَدَرُ الَّذِي فِيهِ مِنْ كَوْنِ الذَّكَرِ يَقُومُ عَلَى الْأُنْثَى هُوَ مِنْ الْحِكْمَةِ الَّتِي بِهَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ جِنْسِ الْحَيَوَانِ فَضْلًا عَنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَمِثْلُ هَذَا الِابْتِذَالُ لَا يُنَافِي الْإِنْسَانِيَّةَ كَمَا لَا يُنَافِيهَا أَنْ يَتَغَوَّطَ الْإِنْسَانُ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَأَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَإِنْ كَانَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ ذَلِكَ أَكْمَلَ بَلْ مَا احْتَاجَ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَحَصَلَتْ لَهُ بِهِ مَصْلَحَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ وَالْمَرْأَةُ مُحْتَاجَةٌ إلَى النِّكَاحِ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ مَصْلَحَتِهَا فَكَيْفَ يُقَالُ: الْقِيَاسُ يَقْتَضِي مَنْعَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ؟ وَكَذَلِكَ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّ شُبْهَةَ مَنْ قَالَ: إنَّهَا تُخَالِفُ الْقِيَاسَ أَنَّ

ص: 515

الْمَاءَ إذَا لَاقَاهَا نَجُسَ الْمَاءُ ثُمَّ إذَا صُبَّ مَاءٌ آخَرُ لَاقَى الْأَوَّلَ. وَهَلُمَّ جَرَّا قَالُوا: فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنَّهَا تُنَجِّسُ الْمِيَاهَ الْمُتَلَاحِقَةَ وَالنَّجِسَ لَا يُزِيلُ النَّجَسَ. وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَ قُلْتُمْ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَاقَى النَّجَاسَةَ نَجُسَ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: لِأَنَّهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَذَلِكَ. قِيلَ: الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَمَنْ سَلَّمَ الْأَصْلَ قَالَ لَيْسَ جَعْلُ الْإِزَالَةِ مُخَالِفَةً لِلْقِيَاسِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ تَنَجُّسِ الْمَاءِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ بِأَنْ يُقَالَ: الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَاقَى نَجَاسَةً لَا يَنْجُسُ كَمَا أَنَّهُ إذَا لَاقَاهَا حَالَ الْإِزَالَةِ لَا يَنْجُسُ فَهَذَا الْقِيَاسُ أَصَحُّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَزُولُ بِالْمَاءِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا تَنَجُّسُ الْمَاءِ بِالْمُلَاقَاةِ فَمَوْرِدُ نِزَاعٍ فَكَيْفَ يُجْعَلُ مَوَاقِعُ النِّزَاعِ حُجَّةً عَلَى مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقَاسَ مَوَارِدُ النِّزَاعِ عَلَى مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ. ثُمَّ يُقَالُ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَعْقُولُ أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ النَّجَاسَةُ لَا يَنْجُسُ؛ فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ خَلْقِهِ وَهُوَ طَيِّبٌ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمَائِعَاتِ جَمِيعِهَا إذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ فَاسْتَحَالَتْ حَتَّى لَمَّ يَظْهَرُ طَعْمُهَا

ص: 516

وَلَا لَوْنُهَا وَلَا رِيحُهَا أَنْ لَا تَنْجُسَ فَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ: هَلْ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي نَجَاسَةَ الْمَاءِ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ أَوْ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالثَّانِي قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ هَذَا؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ هَذَا وَهُمْ أَهْلُ الْحِجَازِ وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ وَالنُّصُوصُ وَالْمَعْقُولُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ وَالطِّيبُ وَالْخُبْثُ بِاعْتِبَارِ صِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِالشَّيْءِ فَمَا دَامَ عَلَى حَالِهِ فَهُوَ طَيِّبٌ فَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَتْ قَطْرَةُ خَمْرٍ فِي جُبٍّ لَمْ يُجْلَدْ شَارِبُهُ. وَاَلَّذِينَ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْقِيَاسَ نَجَاسَةُ الْمَاءِ بِالْمُلَاقَاةِ فَرَّقُوا بَيْنَ مُلَاقَاتِهِ فِي الْإِزَالَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا بِفُرُوقِ. مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَاءُ هَاهُنَا وَارِدٌ عَلَى النَّجَاسَةِ وَهُنَاكَ وَرَدَتْ النَّجَاسَةُ عَلَيْهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّهُ لَوْ صُبَّ مَاءٌ فِي جُبٍّ نَجِسٍ يَنْجُسُ عِنْدَهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَاءُ إذَا كَانَ فِي مَوْرِدِ التَّطْهِيرِ لِإِزَالَةِ الْخَبَثِ أَوْ الْحَدَثِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ وَلَا الِاسْتِعْمَالِ إلَّا إذَا انْفَصَلَ وَأَمَّا قَبْلَ الِانْفِصَالِ فَلَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا وَلَا نَجِسًا. وَهَذَا حِكَايَةُ مَذْهَبٍ لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ.

ص: 517

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَاءُ فِي حَالِ الْإِزَالَةِ جَارٍ وَالْمَاءُ الْجَارِي لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهُوَ أَنَصُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَلَكِنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ تَارَةً تَكُونُ بِالْجَرَيَانِ وَتَارَةً تَكُونُ بِدُونِهِ كَمَا لَوْ صُبَّ الْمَاءُ عَلَى الثَّوْبِ فِي الطَّسْتِ. فَالصَّوَابُ أَنَّ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَالنَّجَاسَةُ لَا تَزُولُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ وَأَمَّا فِي حَالِ تَغَيُّرِهِ فَهُوَ نَجِسٌ لَكِنْ تُخَفَّفُ بِهِ النَّجَاسَةُ وَأَمَّا الْإِزَالَةُ فَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِالْمَاءِ الَّذِي لَيْسَ بِمُتَغَيِّرِ. وَهَذَا الْقِيَاسُ فِي الْمَاءِ هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمَائِعَاتِ كُلِّهَا أَنَّهَا لَا تَنْجُسُ إذَا اسْتَحَالَتْ النَّجَاسَةُ فِيهَا وَلَمْ يَبْقَ لَهَا فِيهَا أَثَرٌ؛ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَا مِنْ الْخَبَائِثِ. وَهَذَا الْقِيَاسُ هُوَ الْقِيَاسُ فِي قَلِيلِ الْمَاءِ وَكَثِيرِهِ؛ وَقَلِيلِ الْمَائِعِ وَكَثِيرِهِ فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى نَجَاسَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا نَقُولُ: إنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ بَلْ نَقُولُ: دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ مَا اسْتَحَالَتْ. وَلِهَذَا كَانَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْمِيَاهِ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد نَصَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَالْإِمَامِ أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ؛ وَأَبِي مُحَمَّدٍ بْنِ الْمَنِيِّ.

ص: 518

وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ بَاقٍ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ} فَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ جُنُبًا وَلَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ حُكْمُ الْجَنَابَةِ وَنَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ أَوْ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَصِيرُ نَجِسًا بِذَلِكَ بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهُ لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ الْبَوْلُ بَعْدَ الْبَوْلِ مِنْ إفْسَادِهِ أَوْ لِمَا يُؤَدِّي إلَى الْوَسْوَاسِ كَمَا {نَهَى عَنْ بَوْلِ الرَّجُلِ فِي مُسْتَحَمِّهِ وَقَالَ: عَامَّةُ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ} وَنَهْيُهُ عَنْ الِاغْتِسَالِ قَدْ جَاءَ فِيهِ أَنَّهُ نَهَى - عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ بَعْدَ الْبَوْلِ وَهَذَا يُشْبِهُ نَهْيَهُ عَنْ بَوْلِ الْإِنْسَانِ فِي مُسْتَحَمِّهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ {صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ} وَالتَّفْرِيقُ الْمَرْوِيُّ فِيهِ: " إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا؛ وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ " غَلَطٌ كَمَا بَيَّنَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ مِنْ غَلَطِ مَعْمَرٍ فِيهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَاوِيهِ أَفْتَى فِيمَا إذَا مَاتَتْ أَنْ تُلْقَى وَمَا حَوْلَهَا وَيُؤْكَلَ فَقِيلَ لَهُمَا: إنَّهَا قَدْ دَارَتْ فِيهِ فَقَالَ: إنَّمَا ذَاكَ لَمَّا كَانَتْ حَيَّةً؛ فَلَمَّا مَاتَتْ اسْتَقَرَّتْ. رَوَاهُ أَحْمَد فِي مَسَائِلِ ابْنِهِ صَالِحٍ. وَكَذَلِكَ الزُّهْرِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ أَفْتَى فِي الْجَامِدِ وَالْمَائِعِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ سَمْنًا كَانَ أَوْ زَيْتًا؛ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ: بِأَنْ تُلْقَى وَمَا قَرُبَ مِنْهَا وَيُؤْكَلَ الْبَاقِي؛

ص: 519

وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ فَكَيْفَ قَدْ يَكُونُ رَوَى فِيهِ الْفَرْقَ؟ وَحَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ إنْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: {إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ: لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِنَجَاسَتِهِ كَوْنُ الْخَبَثِ فِيهِ مَحْمُولًا فَمَتَى كَانَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ لَمْ يَكُنْ مَحْمُولًا فَمَنْطُوقُ الْحَدِيثِ وَتَعْلِيلُهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْقُلَّتَيْنِ بِالذِّكْرِ فَإِنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ؛ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ؛ وَذَلِكَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ فِي الْعَادَةِ فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيهِ خَبَثٌ فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ الْقَلِيلِ فَإِنَّهُ قَدْ يَحْمِلُ الْخَبَثَ وَقَدْ لَا يَحْمِلُهُ؛ فَإِنَّ الْكَثِيرَةَ تُعِينُ عَلَى إحَالَةِ الْخَبَثِ إلَى طَبْعِهِ؛ وَالْمَفْهُومُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْعُمُومُ فَلَيْسَ إذَا كَانَ الْقُلَّتَانِ لَا تَحْمِلُ الْخَبَثَ يَلْزَمُ أَنَّ مَا دُونَهَا يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ وَقَعَ جَوَابًا لِأُنَاسِ سَأَلُوهُ عَنْ مِيَاهٍ مُعَيَّنَةٍ؛ فَقَدْ يَكُونُ التَّخْصِيصُ لِأَنَّ هَذِهِ كَثِيرَةٌ لَا تَحْمِلُ الْخَبَثَ وَالْقُلَّتَانِ كَثِيرٌ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْكَثِيرُ إلَّا قُلَّتَيْنِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ هَذَا حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَذَكَرَهُ ابْتِدَاءً وَلِأَنَّ الْحُدُودَ الشَّرْعِيَّةَ تَكُونُ مَعْرُوفَةً كَنِصَابِ الذَّهَبِ وَالْمُعَشَّرَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْمَاءُ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ النَّجَاسَةُ لَا يُعْلَمُ كَيْلُهُ إلَّا خَرْصًا؛ وَلَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ فِي الْعَادَةِ فَكَيْفَ يَفْصِلُ بَيْنَ

ص: 520

الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِمَا يَتَعَذَّرُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى غَالِبِ النَّاسِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ وَقَدْ أَطْلَقَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ قَوْلَهُ: {الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ} وَ {الْمَاءُ لَا يُجْنِبُ} وَلَمْ يُقَدِّرْهُ مَعَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ وَمَنْطُوقُ هَذَا الْحَدِيثِ يُوَافِقُ تِلْكَ وَمَفْهُومُهُ إنَّمَا يَدُلُّ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِدَلَالَةِ الْمَفْهُومِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ لَا الِاخْتِصَاصَ بِالْحُكْمِ وَهَذَا لَا يُعْلَمُ هُنَا. وَحَدِيثُ الْأَمْرِ بِإِرَاقَةِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ؛ لِأَنَّ الْآنِيَةَ الَّتِي يَلَغُ فِيهَا الْكَلْبُ فِي الْعَادَةِ صَغِيرَةٌ وَلُعَابُهُ لَزِجٌ يَبْقَى فِي الْمَاءِ وَيَتَّصِلُ بِالْإِنَاءِ فَيُرَاقُ الْمَاءُ وَيُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ رِيقِهِ الَّذِي لَمْ يَسْتَحِلَّ بَعْدُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَلَغَ فِي إنَاءٍ كَبِيرٍ وَقَدْ نَقَلَ حَرْبٌ عَنْ أَحْمَد فِي كَلْبٍ وَلَغَ فِي جُبٍّ كَبِيرٍ فِيهِ زَيْتٌ فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهِ. وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ وَمُوَافَقَتِهِ.

فَصْلٌ:

وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ تَطْهِيرَ الْمَاءِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ هُوَ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ وَإِلَّا فَمَنْ كَانَ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ الْمَاءَ لَا

ص: 521

يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ فَالْقِيَاسُ عِنْدَهُ تَطْهِيرُهُ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةِ زَالَ بِزَوَالِهَا وَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ التَّغَيُّرَ فَإِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ زَالَتْ النَّجَاسَةُ كَمَا أَنَّ الْعِلَّةَ لَمَّا كَانَتْ فِي الْخَمْرِ الشِّدَّةُ الْمُضْطَرِبَةُ فَإِذَا زَالَتْ طَهُرَتْ. كَيْفَ وَالنَّجَاسَةُ فِي الْمَاءِ وَارِدَةٌ عَلَيْهِ كَنَجَاسَةِ الْأَرْضِ؟ وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى " مَسْأَلَةِ الِاسْتِحَالَةِ " وَفِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد قَوْلَانِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ أَصَحُّ فَإِنَّ النَّجَاسَةَ إذَا صَارَتْ مِلْحًا أَوْ رَمَادًا فَقَدْ تَبَدَّلَتْ الْحَقِيقَةُ وَتَبَدَّلَ الِاسْمُ وَالصِّفَةُ فَالنُّصُوصُ الْمُتَنَاوِلَةُ لِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَا تَتَنَاوَلُ الْمِلْحَ وَالرَّمَادَ وَالتُّرَابَ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَتْ تِلْكَ الْأَعْيَانُ خَبِيثَةً مَعْدُومٌ فِي هَذِهِ الْأَعْيَانِ فَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِأَنَّهَا خَبِيثَةٌ نَجِسَةٌ. وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْخَمْرِ قَالُوا: الْخَمْرُ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَطَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَيُقَالُ لَهُمْ: وَكَذَلِكَ الْبَوْلُ وَالدَّمُ وَالْعَذِرَةُ إنَّمَا نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَطْهُرَ بِالِاسْتِحَالَةِ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: التَّوَضُّؤُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَهَذَا إنَّمَا قَالَهُ لِأَنَّهَا لَحْمٌ وَاللَّحْمُ لَا يُتَوَضَّأُ مِنْهُ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ

ص: 522

فَرَّقَ بَيْنَ لَحْمِ الْغَنَمِ وَلَحْمِ الْإِبِلِ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ مَعَاطِنِ هَذِهِ وَمَبَارِكِ هَذِهِ فَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي هَذَا وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذَا فَدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ الْقِيَاسَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا {إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَأَصْحَابِ الْغَنَمِ فَقَالَ: {الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي الْفَدَادِينِ أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَالسَّكِينَةِ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ} {وَرُوِيَ فِي الْإِبِلِ: أَنَّهَا جِنٌّ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ وَرُوِيَ: عَلَى ذُرْوَةِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ} فَالْإِبِلُ فِيهَا قُوَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ وَالْغَاذِي شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذَى. وَلِهَذَا حَرُمَ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ: لِأَنَّهَا دَوَابُّ عَادِيَةٌ بِالِاغْتِذَاءِ بِهَا تَجْعَلُ فِي خُلُقِ الْإِنْسَانِ مِنْ الْعُدْوَانِ مَا يَضُرُّهُ فِي دِينِهِ فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَالْإِبِلُ إذَا أَكَلَ مِنْهَا تُبْقِي فِيهِ قُوَّةً شَيْطَانِيَّةً. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الْغَضَبُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ} فَإِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ إطْفَاءِ الْقُوَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ مَا يُزِيلُ الْمَفْسَدَةَ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْهَا فَإِنَّ الْفَسَادَ حَاصِلٌ مَعَهُ وَلِهَذَا يُقَالُ: إنَّ الْأَعْرَابَ بِأَكْلِهِمْ لُحُومَ الْإِبِلِ مَعَ عَدَمِ

ص: 523

الْوُضُوءِ مِنْهَا صَارَ فِيهِمْ مِنْ الْحِقْدِ مَا صَارَ. وَلِهَذَا {أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ} وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَدْ ثَبَتَ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ أَنَّهُ أَكَلَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ فَقِيلَ: إنَّ الْأَوَّلَ مَنْسُوخٌ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ ذَلِكَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى هَذَا بَلْ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَإِسْلَامُهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ تَارِيخِ بَعْضِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ كَحَدِيثِ السَّوِيقِ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرِ فَإِنَّهُ كَانَ قَبْلَ إسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقِيلَ: بَلْ الْأَمْرُ بِالتَّوَضُّؤِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ اسْتِحْبَابٌ كَالْأَمْرِ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ الْغَضَبِ وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. فَإِنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ التَّنَافِي وَالتَّارِيخِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ بِخِلَافِ حَمْلِ الْأَمْرِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فَإِنَّ لَهُ نَظَائِرَ كَثِيرَةً. وَكَذَلِكَ التَّوَضُّؤُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَمَسِّ النِّسَاءِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ؛ فَالتَّوَضُّؤُ مِمَّا يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ كَالتَّوَضُّؤِ مِنْ الْغَضَبِ وَمَا مَسَّتْهُ النَّارُ: هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ: فَإِنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالشَّيْطَانُ مِنْ النَّارِ وَأَمَّا لَحْمُ الْإِبِلِ فَقَدْ قِيلَ: التَّوَضُّؤُ مِنْهُ مُسْتَحَبٌّ لَكِنَّ تَفْرِيقَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَحْمِ الْغَنَمِ - مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَسَّتْهُ النَّارُ وَالْوُضُوءُ مِنْهُ مُسْتَحَبٌّ - دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَمَا فَوْقَ الِاسْتِحْبَابِ إلَّا الْإِيجَابُ وَلِأَنَّ الشَّيْطَنَةَ فِي الْإِبِلِ لَازِمَةٌ وَفِيمَا مَسَّتْهُ النَّارُ عَارِضَةٌ وَلِهَذَا نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِهَا لِلُزُومِ الشَّيْطَانِ لَهَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِهَا فِي السَّفَرِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ عَارِضٌ وَالْحُشُوشُ

ص: 524

مُحْتَضِرَةٌ فَهِيَ أَوْلَى بِالنَّهْيِ مِنْ أَعْطَانِ الْإِبِلِ. وَكَذَلِكَ الْحَمَّامُ بَيْتُ الشَّيْطَانِ وَفِي الْوُضُوءِ مِنْ اللُّحُومِ الْخَبِيثَةِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مِمَّا عُقِلَ مَعْنَاهُ فَيُعْدِي أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ؟ وَالْخَبَائِثُ الَّتِي أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ كَلُحُومِ السِّبَاعِ أَبْلَغُ فِي الشَّيْطَنَةِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ فَالْوُضُوءُ مِنْهَا أَوْلَى. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْوُضُوءِ مِنْ النَّجَاسَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ؛ كَالْفِصَادِ؛ وَالْحِجَامَةِ وَالْجَرْحِ وَالْقَيْء وَالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ النِّسَاءِ لِشَهْوَةِ وَغَيْرِ شَهْوَةٍ وَالتَّوَضُّؤِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَالتَّوَضُّؤِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فَبَعْضُ الصَّحَابَةِ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ كَسَعْدِ وَابْنِ عُمَرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ وَالْوُضُوءُ مِنْهُ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَد رِوَايَتَانِ وَإِيجَابُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَعَدَمُ الْإِيجَابِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَكَذَلِكَ مَسُّ النِّسَاءِ لِشَهْوَةِ إذَا قِيلَ بِاسْتِحْبَابِهِ فَهَذَا يَتَوَجَّهُ وَأَمَّا وُجُوبُ ذَلِكَ فَلَا يَقُومُ الدَّلِيلُ إلَّا عَلَى خِلَافِهِ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ قَطُّ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ النِّسَاءِ وَلَا مِنْ النَّجَاسَاتِ الْخَارِجَةِ؛ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} الْمُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ

ص: 525

لِوُجُوهِ مُتَعَدِّدَةٍ {وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْمُسْتَحَاضَةِ: إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ} تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْغُسْلِ لَا لِوُجُوبِ الْوُضُوءِ فَإِنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ لَا يَخْتَصُّ بِدَمِ الْعُرُوقِ بَلْ كَانَتْ قَدْ ظَنَّتْ أَنَّ ذَلِكَ الدَّمَ هُوَ دَمُ الْحَيْضِ الَّذِي يُوجِبُ الْغُسْلَ فَبَيَّنَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ دَمَ الْحَيْضِ الَّذِي يُوجِبُ الْغُسْلَ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرْشَحُ مِنْ الرَّحِمِ كَالْعَرَقِ وَإِنَّمَا هَذَا دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ فِي الرَّحِمِ وَدِمَاءُ الْعُرُوقِ لَا تُوجِبُ الْغُسْلَ وَهَذِهِ مَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَدَّعِي التَّنَاقُضَ فِي مَعَانِي الشَّرِيعَةِ أَوْ أَلْفَاظِهَا وَيَزْعُمُ أَنَّ الشَّارِعَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بَلْ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ بِالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فِي الْحُكْمِ إلَّا لِافْتِرَاقِ صِفَاتِهِمَا الْمُنَاسِبَةِ لِلْفَرْقِ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ شَيْئَيْنِ إلَّا لِتَمَاثُلِهِمَا فِي الصِّفَاتِ الْمُنَاسِبَةِ لِلتَّسْوِيَةِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَلَا النِّسَاءِ وَلَا خُرُوجِ النَّجَاسَاتِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وَلَا الْقَهْقَهَةِ وَلَا غُسْلِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعَ الْمُوجِبِينَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ بَلْ الْأَدِلَّةُ الرَّاجِحَةُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ لَكِنَّ الِاسْتِحْبَابَ مُتَوَجِّهٌ ظَاهِرٌ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ

ص: 526

مِنْ مَسِّ النِّسَاءِ لِشَهْوَةِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ وَنَحْوِهِمَا كَمَا فِي السُّنَنِ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَتَوَضَّأَ} وَالْفِعْلُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ الْحِجَامَةِ وَلَا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْوُضُوءِ إذَا جُرِحُوا مَعَ كَثْرَةِ الْجِرَاحَاتِ وَالصَّحَابَةُ نُقِلَ عَنْهُمْ فِعْلُ الْوُضُوءِ لَا إيجَابُهُ. وَكَذَلِكَ الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ ذَنْبٌ وَيُشْرَعُ لِكُلِّ مَنْ أَذْنَبَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَفِي اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْوُضُوءُ مِنْ الْحَدَثِ الدَّائِمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَفِيهِ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدّ صَحَّحَ بَعْضَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَقَوْلُ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُوجِبُونَ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَظْهَرُ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الْحِجَامَةُ فَإِنَّمَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْفِطْرَ مِنْهَا مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْفِطْرَ مِمَّا خَرَجَ لَا مِمَّا دَخَلَ وَهَؤُلَاءِ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ الْقَيْءُ وَالِاحْتِلَامُ وَدَمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.

ص: 527

وَأَمَّا مَنْ تَدَبَّرَ أُصُولَ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدَهُ فَإِنَّهُ رَأَى الشَّارِعَ لَمَّا أَمَرَ بِالصَّوْمِ أَمَرَ فِيهِ بِالِاعْتِدَالِ حَتَّى كَرِهَ الْوِصَالَ وَأَمَرَ بِتَعْجِيلِ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ وَجَعَلَ أَعْدَلَ الصِّيَامِ وَأَفْضَلَهُ صِيَامَ دَاوُد وَكَانَ مِنْ الْعَدْلِ أَنْ لَا يُخْرِجَ مِنْ الْإِنْسَانِ مَا هُوَ قِيَامُ قُوَّتِهِ فَالْقَيْءُ يُخْرِجُ الْغِذَاءَ وَالِاسْتِمْنَاءُ يُخْرِجُ الْمَنِيَّ وَالْحَيْضُ يُخْرِجُ الدَّمَ وَبِهَذِهِ الْأُمُورِ قِوَامُ الْبَدَنِ لَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَمَا لَا يُمْكِنُ فَالِاحْتِلَامُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَكَذَلِكَ مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَكَذَا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ بِخِلَافِ دَمِ الْحَيْضِ فَإِنَّ لَهُ وَقْتًا مُعَيَّنًا فَالْمُحْتَجِمُ أَخْرَجَ دَمَهُ وَكَذَلِكَ الْمُفْتَصِدُ بِخِلَافِ مَنْ خَرَجَ دَمُهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَالْمَجْرُوحِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَكَانَتْ الْحِجَامَةُ مِنْ جِنْسِ الْقَيْءِ وَالِاسْتِمْنَاءِ وَالْحَيْضِ وَكَانَ خُرُوجُ دَمِ الْجُرْحِ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِحَاضَةِ وَالِاحْتِلَامِ وَذَرْعِ الْقَيْءِ فَقَدْ تَنَاسَبَتْ الشَّرِيعَةُ وَتَشَابَهَتْ وَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ الْقِيَاسِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِالْكُحْلِ وَلَا بِالتَّقْطِيرِ فِي الْإِحْلِيلِ وَلَا بِابْتِلَاعِ مَا لَا يُغَذِّي كَالْحَصَاةِ وَلَكِنْ يُفْطِرُ بِالسَّعُوطِ لِقَوْلِهِ: {وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا} .

ص: 528

فَصْلٌ:

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: السَّلَمُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَقَوْلُهُمْ هَذَا مِنْ جِنْسِ مَا رَوَوْا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك} وَأَرْخَصَ فِي السَّلَمِ " وَهَذَا لَمْ يُرْوَ فِي الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: السَّلَمُ بَيْعُ الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ وَنَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ: إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَيْعُ عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ فَيَكُونُ قَدْ بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَيْعُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ وَهَذَا أَشْبَهُ؛ فَيَكُونُ قَدْ ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا لَا يَدْرِي هَلْ يَحْصُلُ أَوْ لَا يَحْصُلُ؟ وَهَذَا فِي السَّلَمِ الْحَالِّ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُوَفِّيهِ وَالْمُنَاسَبَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ. فَأَمَّا السَّلَمُ الْمُؤَجَّلُ فَإِنَّهُ دَيْنٌ مِنْ الدُّيُونِ وَهُوَ كَالِابْتِيَاعِ بِثَمَنِ مُؤَجَّلٍ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ مُؤَجَّلًا فِي الذِّمَّةِ وَكَوْنِ الْعِوَضِ الْآخَرِ مُؤَجَّلًا فِي الذِّمَّةِ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ

ص: 529

فِي الذِّمَّةِ حَلَالٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَإِبَاحَةُ هَذَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ لَا عَلَى خِلَافِهِ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَقَالَ مَنْ قَالَ: هِيَ خِلَافُ الْقِيَاسِ؛ لِكَوْنِهِ بَيْعَ مَالِهِ بِمَالِهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ بَاعَهُ نَفْسَهُ بِمَالِ فِي الذِّمَّةِ وَالسَّيِّدُ لَا حَقَّ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي بَدَنِهِ فَإِنَّ السَّيِّدَ حَقُّهُ مَالِيَّةُ الْعَبْدِ فِي إنْسَانِيَّتِهِ فَهُوَ مِنْ حَيْثُ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى إنْسَانٌ مُكَلَّفٌ فَيَلْزَمُهُ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ لِأَنَّهُ إنْسَانٌ وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ وَإِنَّمَا يُطَالَبُ الْعَبْدُ بِمَا فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَحِينَئِذٍ لَا مِلْكَ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ فَالْكِتَابَةُ: بَيْعُهُ نَفْسَهُ بِمَالِ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ إذَا اشْتَرَى نَفْسَهُ كَانَ كَسْبُهُ لَهُ وَنَفْعُهُ لَهُ وَهُوَ حَادِثٌ عَلَى مِلْكِهِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ لَكِنْ لَا يُعْتَقُ فِيهَا إلَّا بِالْإِذْنِ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ إلَّا بِأَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الْعِوَضَ فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِوَضُ وَعَجَزَ الْعَبْدُ عَنْهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْمَبِيعِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ. وَلِهَذَا يَقُولُ: إذَا عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ الثَّمَنِ لِإِفْلَاسِهِ كَانَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِي الْمَبِيع فَالْعَبْدُ الْمُكَاتَبُ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ فَعَجْزُهُ عَنْ أَدَاءِ الْعِوَضِ كَعَجْزِ الْمُشْتَرِي وَهَذَا الْقِيَاسُ فِي جَمِيعِ الْمُعَاوَضَاتِ إذَا عَجَزَ

ص: 530

الْمُعَاوِضُ عَمَّا عَلَيْهِ مِنْ الْعِوَضِ كَانَ لِلْآخَرِ الرُّجُوعُ فِي عِوَضِهِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ عَجْزُ الرَّجُلِ عَنْ الصَّدَاقِ وَعَجْزُ الزَّوْجِ عَنْ الْوَطْءِ وَطَرْدُهُ عَجْزُ الرَّجُلِ عَنْ الْعِوَضِ فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَاَلَّذِينَ قَالُوا: هِيَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ قَالُوا: إنَّهَا بَيْعُ مَعْدُومٍ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَعْدُومَةٌ حِينَ الْعَقْدِ وَبَيْعُ الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ. ثُمَّ إنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِإِجَارَةِ الظِّئْرِ لِلرَّضَاعِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّ إجَارَةَ الظِّئْرِ لِلرَّضَاعِ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعَ وَإِجَارَةُ الظِّئْرِ عَقْدٌ عَلَى اللَّبَنِ وَاللَّبَنُ مِنْ بَابِ الْأَعْيَانِ لَا مِنْ بَابِ الْمَنَافِعِ وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذَكَرَ إجَارَةٍ جَائِزَةٍ إلَّا هَذِهِ وَقَالُوا: هَذِهِ خِلَافُ الْقِيَاسِ وَالشَّيْءُ إنَّمَا يَكُونُ خِلَافَ الْقِيَاسِ إذَا كَانَ النَّصُّ قَدْ جَاءَ فِي مَوْضِعٍ بِحُكْمِ وَجَاءَ فِي مَوْضِعٍ يُشَابِهُ ذَلِكَ بِنَقِيضِهِ فَيُقَالُ: هَذَا خِلَافٌ لِقِيَاسِ ذَلِكَ النَّصِّ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْإِجَارَةِ الْبَاطِلَةِ حَتَّى يُقَالَ: الْقِيَاسُ يَقْتَضِي بُطْلَانَ هَذِهِ الْإِجَارَةِ بَلْ فِيهِ ذِكْرُ جَوَازِ هَذِهِ الْإِجَارَةِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ فَسَادِ إجَارَةٍ تُشْبِهُهَا بَلْ وَلَا فِي السُّنَّةِ بَيَانُ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ تُشْبِهُ هَذِهِ وَإِنَّمَا أَصْلُ قَوْلِهِمْ

ص: 531

ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِجَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْمَنَافِعِ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضٌ لَا عَلَى أَعْيَانٍ هِيَ أَجْسَامٌ وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَشْفَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ. وَلَمَّا اعْتَقَدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ إجَارَةَ الظِّئْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ صَارَ بَعْضُهُمْ يَحْتَالُ لِإِجْرَائِهَا عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ فَقَالُوا: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهَا هُوَ إلْقَامُ الثَّدْيِ أَوْ وَضْعُهُ فِي الْحِجْرِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ الَّتِي هِيَ مُقَدِّمَاتُ الرَّضَاعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ إنَّمَا هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَإِلَّا فَهِيَ بِمُجَرَّدِهَا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً وَلَا مَعْقُودًا عَلَيْهَا بَلْ وَلَا قِيمَةَ لَهَا أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ كَفَتْحِ الْبَابِ لِمَنْ اكْتَرَى دَارًا أَوْ حَانُوتًا أَوْ كَصُعُودِ الدَّابَّةِ لِمَنْ اكْتَرَى دَابَّةً وَمَقْصُودُ هَذَا هُوَ السُّكْنَى وَمَقْصُودُ هَذَا هُوَ الرُّكُوبُ وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَعْمَالُ مُقَدِّمَاتٌ وَوَسَائِلُ إلَى الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا إجَارَةَ الظِّئْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ طَرَدُوا ذَلِكَ فِي مِثْلِ مَاءِ الْبِئْرِ وَالْعُيُونِ الَّتِي تَنْبُعُ فِي الْأَرْضِ فَقَالُوا: أُدْخِلَتْ ضِمْنًا وَتَبَعًا فِي الْعَقْدِ حَتَّى إنَّ الْعَقْدَ إذَا وَقَعَ عَلَى نَفْسِ الْمَاءِ كَاَلَّذِي يَعْقِدُ عَلَى عَيْنٍ تَنْبُعُ لِيَسْقِيَ بِهَا بُسْتَانَه أَوْ لِيَسُوقَهَا إلَى مَكَانِهِ لِيَشْرَبَ مِنْهَا وَيَنْتَفِعَ بِمَائِهَا قَالُوا: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْإِجْرَاءُ فِي الْأَرْضِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَكَلَّفُونَهُ وَيُخْرِجُوا الْمَاءَ الْمَقْصُودَ بِالْعُقُودِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ.

ص: 532

وَنَحْنُ نُنَبِّهُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْإِجَارَةَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ إجَارَةَ الظِّئْرِ وَنَحْوَهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: قَوْلُهُمْ: الْإِجَارَةُ بَيْعُ مَعْدُومٍ وَبَيْعُ الْمَعْدُومِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ: مُقَدِّمَتَانِ مُجْمَلَتَانِ فِيهِمَا تَلْبِيسٌ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: الْإِجَارَةُ بَيْعٌ إنْ أَرَادُوا أَنَّهَا الْبَيْعُ الْخَاصُّ الَّذِي يُعْقَدُ عَلَى الْأَعْيَانِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ أَرَادُوا الْبَيْعَ الْعَامَّ الَّذِي هُوَ مُعَاوَضَةٌ إمَّا عَلَى عَيْنٍ وَإِمَّا عَلَى مَنْفَعَةٍ فَقَوْلُهُمْ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ لَا يَجُورُ إنَّمَا يَسْلَمُ - إنْ سَلِمَ - فِي الْأَعْيَانِ لَا فِي الْمَنَافِعِ وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْبَيْعِ يَحْتَمِلُ هَذَا وَهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِجَارَةِ: هَلْ تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إنْ عَرَفَا الْمَقْصُودَ انْعَقَدَتْ فَأَيُّ لَفْظٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ عَرَفَ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ مَقْصُودَهُمَا انْعَقَدَ بِهِ الْعَقْدُ وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَجِدْ فِي أَلْفَاظِ الْعُقُودِ حَدًّا بَلْ ذَكَرَهَا مُطْلَقَةً فَكَمَا تَنْعَقِدُ الْعُقُودُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَلْسُنِ الْعَجَمِيَّةِ فَهِيَ تَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ وَلِهَذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ. وَطَرَدَ هَذَا النِّكَاحَ فَإِنَّ أَصَحَّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظٍ

ص: 533

يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ بَلْ نُصُوصُهُ لَمْ تَدُلُّ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَأَمَّا الْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ فَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَأَتْبَاعِهِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَمُتَّبِعِيهِ. وَأَمَّا قُدَمَاءُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَجُمْهُورُهُمْ فَلَمْ يَقُولُوا بِهَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَعْتَقْت أَمَتِي وَجَعَلْت عِتْقَهَا صَدَاقَهَا انْعَقَدَ النِّكَاحُ وَلَيْسَ هُنَا لَفْظُ إنْكَاحٍ وَتَزْوِيجٍ وَلِهَذَا ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ: أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ النِّكَاحُ بِلَفْظِ. وَأَمَّا ابْنُ حَامِدٍ فَطَرَدَ قَوْلَهُ وَقَالَ: لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ: وَتَزَوَّجْتهَا وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى جَعَلَ هَذَا خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ فَجَوَّزَ النِّكَاحَ هُنَا بِدُونِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ. وَأُصُولُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَنُصُوصُهُ تُخَالِفُ هَذَا فَإِنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْعُقُودَ تَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فَهُوَ لَا يَرَى اخْتِصَاصَهَا بِالصِّيَغِ. وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ دَلَالَةِ الْحَالِ كَالصَّرِيحِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى إظْهَارِ النِّيَّةِ وَلِهَذَا قَالَ بِذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَالُوا: لِأَنَّ مَا سِوَى اللَّفْظَيْنِ كِنَايَةٌ؛ وَالْكِنَايَةُ لَا يَثْبُتُ

ص: 534

حُكْمُهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ وَالنِّيَّةُ بَاطِنٌ وَالنِّكَاحُ مُفْتَقِرٌ إلَى شَهَادَةٍ وَالشَّهَادَةُ إنَّمَا تَقَعُ عَلَى السَّمْعِ فَهَذَا أَصْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِينَ خَصُّوا عَقْدَ النِّكَاحِ بِاللَّفْظَيْنِ. وَابْنُ حَامِدٍ وَأَتْبَاعُهُ وَافَقُوهُمْ لَكِنَّ أُصُولَ أَحْمَدَ وَنُصُوصَهُ تُخَالِفُ هَذَا؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ بَاطِلَةٌ عَلَى أَصْلِهِ. أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: مَا سِوَى هَذَيْنِ كِنَايَةٌ فَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ كَانَتْ أَلْفَاظُ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ ثَابِتَةً بِعُرْفِ الشَّرْعِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كالخرقي وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ الصَّرِيحَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الطَّلَاقُ وَالْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ لِمَجِيءِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ. فَأَمَّا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا؛ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ حَامِدٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَلَا يُوَافِقُونَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الصَّرِيحُ هُوَ لَفْظُ الطَّلَاقِ فَقَطْ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ حَامِدٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ الصَّرِيحُ أَعَمُّ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَمَا يَذْكُرُ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: كِلَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ تَلِيهِ مُقَدِّمَةٌ بَاطِلَةٌ.

أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحَةٌ فِي خِطَابِ الشَّارِعِ فَلَيْسَ

ص: 535

كَذَلِكَ بَلْ لَفْظُ السَّرَاحِ وَالْفِرَاقِ فِي الْقُرْآنِ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} فَأَمَرَ بِتَسْرِيحِهِنَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ لَا رَجْعَةَ فِيهِ وَلَيْسَ التَّسْرِيحُ هُنَا تَطْلِيقًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} فَلَفْظُ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الطَّلَاقَ فَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ارْتِجَاعِهَا وَبَيْنَ تَخْلِيَةِ سَبِيلِهَا لَا يَحْتَاجُ إلَى طَلَاقٍ ثَانٍ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ اللَّفْظِ صَرِيحًا فِي خِطَابِ الشَّارِعِ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِي خِطَابِ كُلِّ مَنْ يَتَكَلَّمُ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ إنْ أَرَادَ بِهِ الْبَيْعَ الْخَاصَّ - وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْبَيْعِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ - فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ ذَاكَ إنَّمَا يَنْعَقِدُ عَلَى أَعْيَانٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ مَضْمُونَةٍ فِي الذِّمَّةِ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ عَلَى الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ: فَهَذَا صَحِيحٌ لَكِنَّ قَوْلَهُ؛ إنَّ الْمُعَاوَضَةَ الْعَامَّةَ لَا تَكُونُ عَلَى مَعْدُومِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٍ بَلْ دَعْوَى كَاذِبَةٍ فَإِنَّ الشَّارِعَ جَوَّزَ الْمُعَاوَضَةَ الْعَامَّةَ عَلَى الْمَعْدُومِ. وَإِنْ قَاسَ بَيْعَ الْمَنَافِعِ

ص: 536

عَلَى بَيْعِ الْأَعْيَانِ فَقَالَ: كَمَا أَنَّ بَيْعَ الْأَعْيَانِ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى مَوْجُودٍ فَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ - وَهَذِهِ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ - فَهَذَا الْقِيَاسُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ فَإِنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ يُمْكِنَ إثْبَاتُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ هُنَا مُتَعَذَّرٌ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهَا فِي حَالِ وُجُودِهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تُبَاعَ الْمَنَافِعُ فِي حَالِ وُجُودِهَا كَمَا تُبَاعُ الْأَعْيَانُ فِي حَالِ وُجُودِهَا. وَالشَّارِعُ أَمَرَ الْإِنْسَانَ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعَقْدَ عَلَى الْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ إلَى أَنْ تُخْلَقَ فَنَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ؛ وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ والملاقيح وَعَنْ الْمَجْرِ وَهُوَ الْحَمْلُ؛ وَهَذَا كُلُّهُ نَهْيٌ عَنْ بَيْعِ حَيَوَانٍ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ؛ وَعَنْ بَيْعِ حَبٍّ وَثَمَرٍ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ وَأَمَرَ بِتَأْخِيرِ بَيْعِهِ إلَى أَنْ يُخْلَقَ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ وَهُوَ: مَنْعُ بَيْعِهِ فِي الْحَالِ وَإِجَارَتُهُ فِي حَالٍ يَمْتَنِعُ مِثْلُهُ فِي الْمَنَافِعِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُبَاعَ إلَّا هَكَذَا فَمَا بَقِيَ حُكْمُ الْأَصْلِ مُسَاوِيًا لِحُكْمِ الْفَرْعِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: فَأَنَا أَقِيسُهُ عَلَى بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْمَعْدُومَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هُنَا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: يُمْكِنُ بَيْعُهُ فِي حَالِ وُجُودِهِ وَحَالِ عَدَمِهِ فَنَهَى الشَّارِعُ عَنْ بَيْعِهِ إلَّا إذَا وُجِدَ. وَالشَّيْءُ الْآخَرُ: لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ إلَّا فِي حَالِ عَدَمِهِ فَالشَّارِعُ لَمَّا نَهَى عَنْ بَيْعِ ذَاكَ حَالَ عَدَمِهِ فَلَا بُدَّ إذَا

ص: 537

قِسْت عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ ثَابِتَةً فِي الْفَرْعِ فَلِمَ قُلْت: إنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ مَعْدُومًا؟ وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ فِي حَالِ عَدَمِهِ مَعَ إمْكَانِ تَأْخِيرِ بَيْعِهِ إلَى حَالِ وُجُودِهِ؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْعِلَّةُ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ خَاصٍّ وَهُوَ مَعْدُومٌ يُمْكِنُ بَيْعُهُ بَعْدَ وُجُودِهِ وَأَنْتَ إنْ لَمْ تُبَيِّنْ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ كَانَ قِيَاسُك فَاسِدًا وَهَذَا سُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ كَافٍ فِي وَقْفِ قِيَاسِك. لَكِنْ نُبَيِّنُ فَسَادَهُ فَنَقُولُ: مَا ذَكَرْنَاهُ عِلَّةٌ مُطَّرِدَةٌ وَمَا ذَكَرْته عِلَّةٌ مُنْتَقَضَةٌ؛ فَإِنَّك إذَا عَلَّلْت الْمَنْعَ بِمُجَرَّدِ الْعَدَمِ اُنْتُقِضَتْ عِلَّتُك بِبَعْضِ الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ وَإِذَا عَلَّلْته بِعَدَمِ مَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُ بَيْعِهِ إلَى حَالِ وُجُودِهِ؛ أَوْ بِعَدَمِ هُوَ غَرَرٌ اطَّرَدَتْ الْعِلَّةُ وَأَيْضًا فَالْمُنَاسَبَةُ تَشْهَدُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ حَالُ وُجُودٍ وَعَدَمٍ كَانَ بَيْعُهُ حَالَ الْعَدَمِ فِيهِ مُخَاطَرَةٌ وَقِمَارٌ وَبِهَا عَلَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَنْعَ حَيْثُ قَالَ: {أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟} بِخِلَافِ مَا لَيْسَ لَهُ إلَّا حَالٌ وَاحِدَةٌ وَالْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مُخَاطَرَةً فَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ. وَمِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَفْسَدَةُ قُدِّمَ أَرْجَحُهُمَا فَهُوَ إنَّمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَاطَرَةِ الَّتِي تَضُرُّ بِأَحَدِهِمَا وَفِي

ص: 538

الْمَنْعِ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الْبَيْعِ ضَرَرٌ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الضَّرَرِ الْيَسِيرِ بِوُقُوعِهِمْ فِي الضَّرَرِ الْكَثِيرِ بَلْ يُدْفَعُ أَعْظَمُ الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا وَلِهَذَا لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ الْمُزَابَنَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ نَوْعِ رِبَا أَوْ مُخَاطَرَةٍ فِيهَا ضَرَرٌ أَبَاحَهَا لَهُمْ فِي الْعَرَايَا لِلْحَاجَةِ لِأَنَّ ضَرَرَ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ أَشَدُّ وَكَذَلِكَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْمَيْتَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ خُبْثِ التَّغْذِيَةِ أَبَاحَهَا لَهُمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْمَوْتِ أَشَدُّ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا كُلُّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؟ قِيلَ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْفَرْعَ اُخْتُصَّ بِوَصْفِ أَوْجَبَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ فَكُلُّ فَرْقٍ صَحِيحٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ اسْتَوَيَا فِي الْمُقْتَضِي وَالْمَانِعِ وَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا. فَفِي الْجُمْلَةِ: الشَّيْءُ إذَا شَابَهَ غَيْرَهُ فِي وَصْفٍ وَفَارَقَهُ فِي وَصْفٍ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْفَارِقِ مُخَالِفًا لِاسْتِوَائِهِمَا بِاعْتِبَارِ الْجَامِعِ لَكِنَّ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ طَرْدًا وَعَكْسًا وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَأَمَّا التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ مَعَ افْتِرَاقِهِمَا فِيمَا يُوجِبُ الْحُكْمَ وَيَمْنَعُهُ فَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ. وَالشَّرْعُ دَائِمًا يُبْطِلُ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ كَقِيَاسِ إبْلِيسَ وَقِيَاسِ

ص: 539

الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} وَاَلَّذِينَ قَاسُوا الْمَيِّتَ عَلَى الْمُذَكَّى وَقَالُوا: أَتَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهُ؟ فَجَعَلُوا الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ كَوْنَهُ قَتْلَ آدَمِيٍّ وَقِيَاسِ الَّذِينَ قَاسُوا الْمَسِيحَ عَلَى أَصْنَامِهِمْ فَقَالُوا: لَمَّا كَانَتْ آلِهَتُنَا تَدْخُلُ النَّارَ لِأَنَّهَا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ الْمَسِيحُ النَّارَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} وَهَذَا كَانَ وَجْهَ مُخَاصَمَةِ ابْنِ الزبعرى لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} فَإِنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ لَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يَعْبُدُوا الْمَسِيحَ وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا تَعْبُدُونَ} الْأَصْنَامَ فَالْآيَةُ لَمْ تَتَنَاوَلْ الْمَسِيحَ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ الْمَسِيحَ وَلَكِنْ أُخِّرَ بَيَانُ تَخْصِيصِهَا غَلَطٌ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَكَانَتْ حُجَّةُ الْمُشْرِكِينَ مُتَوَجِّهَةً؛ فَإِنَّ مَنْ خَاطَبَ بِلَفْظِ الْعَامِّ يَتَنَاوَلُ حَقًّا وَبَاطِلًا لَمْ يُبَيِّنْ مُرَادَهُ تَوَجَّهَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} أَيْ: هُمْ ضَرَبُوهُ مَثَلًا كَمَا قَالَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلًا} أَيْ: جَعَلُوهُ مَثَلًا لِآلِهَتِهِمْ فَقَاسُوا الْآلِهَةَ عَلَيْهِ وَأَوْرَدُوهُ مَوْرِدَ الْمُعَارَضَةِ

ص: 540

فَقَالُوا: إذَا دَخَلَتْ آلِهَتُنَا النَّارَ لِكَوْنِهَا مَعْبُودَةً فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْمَسِيحِ فَيَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَهُوَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ فَهِيَ لَا تَدْخُلُ النَّارَ وَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْعِلَّةَ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ مَعْبُودًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْعِلَّةُ أَنَّهُ مَعْبُودٌ لَيْسَ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ أَوْ مَعْبُودٌ لَا ظُلْمَ فِي إدْخَالِهِ النَّارَ. فَالْمَسِيحُ وَالْعُزَيْرُ وَالْمَلَائِكَةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِكَرَامَةِ اللَّهِ بِوَعْدِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ فَلَا يُعَذَّبُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَالْمَقْصُودُ بِإِلْقَاءِ الْأَصْنَامِ فِي النَّارِ إهَانَةُ عَابِدِيهَا وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَهُمْ الْكَرَامَةُ دُونَ الْإِهَانَةِ فَهَذَا الْفَارِقُ بَيَّنَ فَسَادَ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْجَامِعِ. وَالْأَقْيِسَةُ الْفَاسِدَةُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الشَّرِيعَةَ تَأْتِي بِخِلَافِ مِثْلِ هَذَا الْقِيَاسِ فَقَدْ أَصَابَ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَاشْتِمَالِهَا عَلَى الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ. وَمَنْ لَمْ يُخَالِفْ مِثْلَ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ بَلْ سَوَّى بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ لَزِمَهُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ كُلِّ مَوْجُودَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ فَيُسَوِّي بَيْنَ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَبَيْنَ بَعْضِ

ص: 541

الْمَخْلُوقِينَ فَيَكُونُ مِنْ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ وَيُشْرِكُونَ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: {تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ وَمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ أَيْ: بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَقَايِيسِ الَّتِي يَشْتَبِهُ فِيهَا الشَّيْءُ بِمَا يُفَارِقُهُ كَأَقْيِسَةِ الْمُشْرِكِينَ. وَمَنْ كَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِكَلَامِ النَّاسِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ رَأَى عَامَّةَ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يُسَوَّى فِيهَا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ مَا يُوجِبُ أَعْظَمَ الْمُخَالَفَةِ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِكَلَامِهِمْ فِي وُجُودِ الرَّبِّ وَوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ فَإِنَّ فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ مَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِجَارَةِ بِنَاءً عَلَى تَسْلِيمِ قَوْلِهِمْ: إنَّ بَيْعَ الْأَعْيَانِ الْمَعْدُومَةِ لَا يَجُوزُ. وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ نَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ؛ بَلْ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ‌

‌ بَيْعَ الْمَعْدُومِ

ص: 542

لَا يَجُوزُ لَا لَفْظٌ عَامٌّ وَلَا مَعْنًى عَامٌّ وَإِنَّمَا فِيهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَعْدُومَةٌ كَمَا فِيهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَوْجُودَةٌ وَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ فِي الْمَنْعِ لَا الْوُجُودَ وَلَا الْعَدَمَ بَلْ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ} وَالْغَرَرُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بَلْ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ هُوَ غَرَرٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فَإِنَّ مُوجَبَ الْبَيْعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ وَالْبَائِعُ عَاجِزٌ عَنْهُ وَالْمُشْتَرِي إنَّمَا يَشْتَرِيهِ مُخَاطَرَةً وَمُقَامَرَةً فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَخْذُهُ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَمَرَ الْبَائِعَ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَخْذُهُ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَمَرَ الْمُشْتَرِيَ. وَهَكَذَا الْمَعْدُومُ الَّذِي هُوَ غَرَرٌ نَهَى عَنْ بَيْعِهِ لِكَوْنِهِ غَرَرًا لَا لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا كَمَا إذَا بَاعَ مَا يَحْمِلُ هَذَا الْحَيَوَانُ أَوْ مَا يَحْمِلُ هَذَا الْبُسْتَانُ فَقَدْ يَحْمِلُ وَقَدْ لَا يَحْمِلُ وَإِذَا حَمَلَ فَالْمَحْمُولُ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ وَلَا وَصْفُهُ فَهَذَا مِنْ الْقِمَارِ وَهُوَ مِنْ الْمَيْسِرِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَمِثْلُ هَذَا إذَا أَكْرَاهُ دَوَابَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا؛ أَوْ عَقَارًا لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ بَلْ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ فَإِنَّهُ إجَارَةُ غَرَرٍ.

ص: 543

الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ نَقُولَ: بَلْ الشَّارِعُ صَحَّحَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ {أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ} {وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ} وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ ظُهُورِ الصَّلَاحِ وَعَدَمِ ظُهُورِهِ فَأَحَلَّ أَحَدَهُمَا وَحَرَّمَ الْآخَرَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَبْلَ ظُهُورِ الصَّلَاحِ لَوْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ كَمَا يَشْتَرِي الْحِصْرِمَ لِيَقْطَعَ حِصْرِمًا جَازَ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ إذَا بِيعَ عَلَى أَنَّهُ بَاقٍ؛ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ جَوَّزَهُ بَعْدَ ظُهُورِ الصَّلَاحِ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى الْبَقَاءِ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ. وَمَنْ جَوَّزَ بَيْعَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ؛ وَنَهَى عَنْهُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ أَوْ مُطْلَقًا: لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ لِظُهُورِ الصَّلَاحِ فَائِدَةٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَا أَذِنَ فِيهِ. وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ: مُوجَبُ الْعَقْدِ التَّسْلِيمُ عَقِيبَهُ فَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ. فَيُقَالُ لَهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا مُوجِبُ الْعَقْدِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ بِالْعَقْدِ أَوْ مَا أَوْجَبَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فَلَا الشَّارِعُ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ بَيْعٍ مُسْتَحِقٍّ التَّسْلِيمَ عَقِبَ الْعَقْدِ وَلَا الْعَاقِدَانِ الْتَزَمَا ذَلِكَ بَلْ تَارَةً يَعْقِدَانِ الْعَقْدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَمَا إذَا بَاعَ مُعَيَّنًا بِدَيْنِ حَالٍّ وَتَارَةً يَشْتَرِطَانِ تَأْخِيرَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ

ص: 544

كَمَا فِي السَّلَمِ؛ وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْيَانِ. وَقَدْ يَكُونُ لِلْبَائِعِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ فِي تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ كَمَا كَانَ لِجَابِرِ حِينَ بَاعَ بَعِيرَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ عَاقِدٍ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَا لَهُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ كَمَا إذَا بَاعَ عَقَارًا وَاسْتَثْنَى سُكْنَاهُ مُدَّةً أَوْ دَوَابَّهُ وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهَا أَوْ وَهَبَ مِلْكًا وَاسْتَثْنَى مَنْفَعَتَهُ أَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ وَاسْتَثْنَى خِدْمَتَهُ مُدَّةً؛ أَوْ مَا دَامَ السَّيِّدُ أَوْ وَقَفَ عَيْنًا وَاسْتَثْنَى غَلَّتَهَا لِنَفْسِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ. وَهَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ قَالَ: لَا بُدَّ إذَا اسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ مِنْ أَنْ يُسَلِّمَ الْعَيْنَ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَأْخُذَهَا لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْقَبْضِ عَقِبَ الْعَقْدِ. وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ إلَّا لِمُدَّةِ تَلِي الْعَقْدَ وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا إلَى مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ أَحْيَانًا جَعَلُوهُ لَازِمًا لَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ وَهُوَ مِنْ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ. وَعَلَى هَذَا بَنَوْا إذَا بَاعَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ لِكَوْنِ الْمَنْفَعَةِ لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ فَلَا يَحْصُلُ التَّسْلِيمُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا مُسْتَثْنًى بِالشَّرْعِ بِخِلَافِ الْمُسْتَثْنَى بِالشَّرْطِ. وَلَوْ بَاعَ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ صَحَّ بِاتِّفَاقِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مَنْفَعَةُ

ص: 545

الْبُضْعِ لِلزَّوْجِ وَقَدْ فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ هَذَا كُلَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ الضَّعِيفِ وَهُوَ أَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ عَقِبَهُ وَالشَّرْعُ لَمْ يَدُلّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ؛ بَلْ الْقَبْضُ فِي الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ كَالْقَبْضِ فِي الدَّيْنِ تَارَةً يَكُونُ مُوجَبُ الْعَقْدِ قَبْضَهُ عَقِبَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَتَارَةً يَكُونُ مُوجَبُ الْعَقْدِ تَأْخِيرَ التَّسْلِيمِ لِمَصْلَحَةِ مِنْ الْمَصَالِحِ. وَعَلَى هَذَا فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَوَّزَ بَيْعَ الثَّمَرِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مُسْتَحِقٌّ الْإِبْقَاءَ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ وَعَلَى الْبَائِعِ السَّقْيُ وَالْخِدْمَةُ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَا هُوَ مَعْدُومٌ لَمْ يُخْلَقْ وَهَذَا إذَا قُبِضَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ فَقَبْضُهُ يُبِيحُ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَبْضُهُ لَا يُوجِبُ انْتِقَالَ الضَّمَانِ إلَيْهِ بَلْ إذَا تَلِفَ الثَّمَرُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ: أَحْمَدَ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلٌ مُعَلَّقٌ لِلشَّافِعِيِّ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنْ بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَخِيك شَيْئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟} وَلَيْسَ مَعَ الْمُنَازِعِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَبْضٍ جَوَّزَ التَّصَرُّفَ يَنْقُلُ الضَّمَانَ وَمَا لَمْ يُجَوِّزْ

ص: 546

التَّصَرُّفَ لَمْ يَنْقُلْ الضَّمَانَ؛ بَلْ قَبْضُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ يُجَوِّزُ التَّصَرُّفَ وَلَا يَنْقُلُ الضَّمَانَ.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ‌

‌ بَيْعُ المقاثي

؛ فَإِنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَهَا إلَّا لُقَطَةً لُقَطَةً لِأَنَّهُ بَيْعُ مَعْدُومٍ وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: إذَا بِيعَتْ بِعُرُوقِهَا كَانَ كَبَيْعِ أَصْلِ الشَّجَرِ مَعَ الثَّمَرِ وَذَلِكَ يَجُوزُ قَبْلَ ظُهُورِ صَلَاحِهِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: {مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ} فَإِذَا اشْتَرَطَ الثَّمَرَ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ وَهُنَا جَازَ بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ؛ وَلِهَذَا تَكُونُ خِدْمَتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الشَّجَرِ هُوَ الْأَصْلُ وَالْمَقْصُودُ فِي المقاثي هُوَ الثَّمَرُ فَلَا يُقَاسُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ المقاثي كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. وَهَذَا أَصَحُّ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهَا إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إذْ لَا تَتَمَيَّزُ لُقَطَةٌ عَنْ لُقَطَةٍ وَمَا لَا يُبَاعُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ لَا يُنْهَى عَنْ بَيْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ الَّتِي يُمْكِنُ تَأْخِيرُ بَيْعِهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا فَلَمْ تَدْخُلْ المقاثي فِي نَهْيِهِ وَلِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَدْخَلُوا ضَمَانَ الْبَسَاتِينِ فِي نَهْيِهِ فَقَالُوا: إذَا ضَمِنَ الْحَدِيقَةَ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى تُثْمِرَ بِشَيْءِ مَعْلُومٍ كَانَ هَذَا بَيْعًا

ص: 547

لِلثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ؛ فَلَا يَجُوزُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِ هَذَا وَلَيْسَ كَمَا قَالَ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَبِلَ حَدِيقَةَ أسيد بْنِ حضير ثَلَاثَ سِنِينَ وَيَسْتَلِفُ الضَّمَانَ فَقَضَى بِهِ دَيْنًا كَانَ عَلَى أسيد؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَصِيَّهُ وَقَدْ جَوَّزَ ابْنُ عَقِيلٍ ضَمَانَهَا مَعَ الْأَرَاضِي الْمُؤَجَّرَةِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ إفْرَادُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ وَجَوَّزَ مَالِكٌ ذَلِكَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ وَقَضِيَّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِمَّا يَشْتَهِرُ مِثْلُهَا فِي الْعَادَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَنْكَرَهُ فَالصَّوَابُ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إذْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالضَّمَانِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ؟ ثُمَّ إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا جَازَ هَذَا مَعَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَقْصُودُهُ الْحَبُّ لَكِنَّ مَقْصُودَهُ ذَلِكَ بِعَمَلِهِ هُوَ لَا بِعَمَلِ الْبَائِعِ وَكَذَلِكَ الَّذِي يَسْتَأْجِرُ الْبُسْتَانَ لِيَخْدِمَ شَجَرَهُ وَيَسْقِيَهَا حَتَّى تُثْمِرَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي الَّذِي يَشْتَرِي ثَمَرًا وَعَلَى الْبَائِعِ مَئُونَةُ خِدْمَتِهَا وَسَقْيِهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ أَعْيَانٌ وَالْإِجَارَةُ لَا تَكُونُ عَلَى الْأَعْيَانِ. قِيلَ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَعْيَانَ هُنَا حَصَلَتْ بِعَمَلِهِ هُوَ مِنْ الْأَصْلِ الْمُسْتَأْجَرِ

ص: 548

كَمَا حَصَلَ الْحَبُّ بِعَمَلِهِ الْمُؤَجَّرِ فِي أَرْضٍ وَإِذَا قِيلَ: الْحَبُّ حَصَلَ مِنْ بَذْرِهِ وَالثَّمَرُ حَصَلَ مِنْ شَجَرِ الْمُؤَجِّرِ: كَانَ هَذَا فَرْقًا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ كَالْمُزَارَعَةِ؟ وَالْمُسَاقِي يَسْتَحِقُّ جُزْءًا مِنْ الثَّمَرَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ أَصْلِ الْمَالِكِ؛ وَالْمُزَارِعُ يَسْتَحِقُّ جُزْءًا مِنْ الزَّرْعِ النَّابِتِ فِي أَرْضِ الْمَالِكِ وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ؛ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُ كَمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَالْبَذْرُ يَتْلَفُ لَا يَعُودُ إلَى صَاحِبِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} فَالْأَرْضُ وَالنَّخْلُ وَالْمَاءُ كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَحَقُّوا بِعَمَلِهِمْ جُزْءًا مِنْ الثَّمَرِ كَمَا اسْتَحَقُّوا جُزْءًا مِنْ الزَّرْعِ؛ وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُمْ وَالشَّجَرُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَإِذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ الَّتِي يَكُونُ النَّمَاءُ مُشْتَرَكًا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْإِجَارَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّ اسْتِئْجَارَ الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهِ مِنْ النِّزَاعِ مَا فِي الْمُزَارَعَةِ فَإِذَا كَانَتْ إجَارَتُهَا أجوز مِنْ الْمُزَارَعَةِ فَإِجَارَةُ الشَّجَرِ أجوز مِنْ الْمُسَاقَاةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: هَذَا كَإِجَارَةِ الظِّئْرِ وَالْبِئْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا هُوَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَصْلِ الثَّانِي فِي الْإِجَارَةِ فَنَقُولُ: قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ إجَارَةَ الظِّئْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ إنَّمَا هُوَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ

ص: 549

الْإِجَارَةَ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى مَنَافِعِ أَعْرَاضٍ لَا تُسْتَحَقُّ بِهَا أَعْيَانٌ وَهَذَا الْقَدْرُ لَمْ يَدُلّ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ بَلْ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأُصُولُ أَنَّ الْأَعْيَانَ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهَا حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَنَافِعِ كَالثَّمَرِ وَالشَّجَرِ؛ وَاللَّبَنِ فِي الْحَيَوَانِ؛ وَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فِي الْوَقْفِ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْفَائِدَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ بَاقِيًا وَأَنْ تَكُونَ الْفَائِدَةُ تَحْدُثُ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَائِدَةُ الْوَقْفِ مَنْفَعَةً كَالسُّكْنَى وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ثَمَرَةً كَوَقْفِ الشَّجَرِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَبَنًا كَوَقْفِ الْمَاشِيَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِلَبَنِهَا. وَكَذَلِكَ " بَابُ التَّبَرُّعَاتِ " فَإِنَّ الْعَارِيَةَ وَالْعُرْيَةَ وَالْمِنْحَةَ هِيَ إعْطَاءُ الْعَيْنِ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا فَالْمِنْحَةُ إعْطَاءُ الْمَاشِيَةِ لِمَنْ يَشْرَبُ لَبَنَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا وَالْعُرْيَةُ إعْطَاءُ الشَّجَرَةِ لِمَنْ يَأْكُلُ ثَمَرَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا وَالسُّكْنَى إعْطَاءُ الدَّارِ لِمَنْ يَسْكُنُهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ تَارَةً تَكْرِيهِ الْعَيْنَ لِلْمَنْفَعَةِ الَّتِي لَيْسَتْ أَعْيَانًا كَالسُّكْنَى وَالرُّكُوبِ وَتَارَةً لِلْعَيْنِ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ كَلَبَنِ الظِّئْرِ وَنَقْعِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ فَإِنَّ الْمَاءَ وَاللَّبَنَ لَمَّا كَانَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ كَانَ كَالْمَنْفَعَةِ وَالْمُسَوِّغُ لِلْإِجَارَةِ هُوَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ حَدَثٌ وَالْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ شَيْئًا فَشَيْئًا سَوَاءٌ كَانَ الْحَادِثُ عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً إذْ كَوْنُهُ

ص: 550

جِسْمًا أَوْ مَعْنًى قَائِمًا بِالْجِسْمِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي جِهَةِ الْجَوَازِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُقْتَضِي لِلْجَوَازِ بَلْ هَذَا أَحَقُّ بِالْجَوَازِ؛ فَإِنَّ الْأَجْسَامَ أَكْمَلُ مِنْ صِفَاتِهَا؛ وَلَا يُمْكِنُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إلَّا كَذَلِكَ. وَطُرِدَ هَذَا أَكْثَرُ فِي الظِّئْرِ مِنْ الْحَيَوَانِ لِلْإِرْضَاعِ ثُمَّ الظِّئْرُ تَارَةً تُسْتَأْجَرُ بِأُجْرَةِ مُقَدَّرَةٍ وَتَارَةً بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا وَتَارَةً يَكُونُ طَعَامُهَا وَكِسْوَتُهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأُجْرَةِ. وَأَمَّا الْمَاشِيَةُ إذَا عَقَدَ عَلَى لَبَنِهَا بِعِوَضِ فَتَارَةً يَشْتَرِي لَبَنَهَا مَعَ أَنَّ عَلْفَهَا وَخِدْمَتَهَا عَلَى الْمَالِكِ وَتَارَةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَهَذَا الثَّانِي يُشْبِهُ ضَمَانَ الْبَسَاتِينِ وَهُوَ بِالْإِجَارَةِ أَشْبَهُ لِأَنَّ اللَّبَنَ تَسْقِيهِ الطِّفْلَ فَيَذْهَبُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ فَهُوَ كَاسْتِئْجَارِ الْعَيْنِ يَسْتَقِي بِمَائِهَا أَرْضَهُ بِخِلَافِ مَنْ يَقْبِضُ اللَّبَنَ فَإِنَّهُ هُنَا قَبَضَ الْعَيْنَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا وَتَسْمِيَةُ هَذَا بَيْعًا وَهَذَا إجَارَةً نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَالِاعْتِبَارُ بِالْمَقَاصِدِ. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَجْعَلُ اخْتِلَافَ الْعِبَارَاتِ مُؤَثِّرًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ حَتَّى إنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُصَحِّحُ الْعَقْدَ بِلَفْظِ دُونَ لَفْظٍ كَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ إنَّ السَّلَمَ الْحَالَّ لَا يَجُوزُ وَإِذَا كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ جَازَ: وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْمُزَارَعَةَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ لَا تَجُوزُ وَإِذَا عَقَدَهُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ جَازَ وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَد وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ

ص: 551

فِي الْعُقُودِ بِمَقَاصِدِهَا وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا فَتَجْوِيزُهُ بِعِبَارَةِ دُونَ عِبَارَةٍ كَتَجْوِيزِهِ بِلُغَةِ دُونَ لُغَةٍ نَعَمْ إذَا كَانَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ يَقْتَضِي حُكْمًا لَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ فَهَذَا لَهُ حُكْمٌ آخَرُ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يُقَالُ: إنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ أَوْ مُخَالِفُهُ وَإِنَّ الشَّارِعَ إذَا سَوَّى بَيْنَ شَيْئَيْنِ كَمَا سَوَّى بَيْنَ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الرَّضَاعِ وَالْخِدْمَةِ فَالْفَارِقُ بَيْنَهُمَا عَدَمُ التَّأْثِيرِ وَهُوَ كَوْنُ هَذَا عَيْنًا وَهَذَا مَنْفَعَةً وَإِذَا فَرَّقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا لَيْسَ هُوَ وَحْدَهُ مَنَاطَ الْحُكْمِ بَلْ لِلْفَارِقِ تَأْثِيرٌ.

فَصْلٌ:

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: حَمْلُ الْعَقْلِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. فَيُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ مَضْمُونًا كَانَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِي الْعَقْلِ: هَلْ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ابْتِدَاءً أَوْ تَحَمُّلًا؟ كَمَا تَنَازَعُوا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْغَيْرِ؛ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ: هَلْ تَجِبُ ابْتِدَاءً أَوْ تَحَمُّلًا؟ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَنِي لَوْ أَخْرَجَهَا الَّذِي يُخْرِجُ عَنْهُ بِدُونِ إذْنِ

ص: 552

الْمُخَاطَبِ بِهَا فَمَنْ قَالَ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُخَاطَبِ تَحَمُّلًا قَالَ: تُجْزِئُ. وَمَنْ قَالَ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً قَالَ: هِيَ كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْ الْغَيْرِ. وَلِذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي الْعَقْلِ إذَا لَمْ تَكُنْ عَاقِلَةً: هَلْ تَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْقَاتِلِ أَمْ لَا؟ وَالْعَقْلُ فَارَقَ غَيْرَهُ مِنْ الْحُقُوقِ فِي أَسْبَابٍ اقْتَضَتْ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ مَالٌ كَثِيرٌ وَالْعَاقِلَةُ إنَّمَا تَحْمِلُ الْخَطَأَ لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ بِلَا نِزَاعٍ وَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ نِزَاعٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَا تَحْمِلُهُ وَالْخَطَأُ مِمَّا يُعْذَرُ فِيهِ الْإِنْسَانُ؛ فَإِيجَابُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ تَعَمَّدَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابِ بَدَلِ الْمَقْتُولِ. فَالشَّارِعُ أَوْجَبَ عَلَى مَنْ عَلَيْهِمْ مُوَالَاةُ الْقَاتِلِ وَنَصْرُهُ أَنْ يُعِينُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا كَإِيجَابِ النَّفَقَاتِ الَّتِي تَجِبُ لِلْقَرِيبِ؛ أَوْ تَجِبُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَإِيجَابِ فِكَاكِ الْأَسِيرِ مِنْ بَلَدِ الْعَدُوِّ؛ فَإِنَّ هَذَا أَسِيرٌ بِالدِّيَةِ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ وَهِيَ لَمْ تَجِبْ بِاخْتِيَارِ مُسْتَحِقِّهَا وَلَا بِاخْتِيَارِهِ كَالدُّيُونِ الَّتِي تَجِبُ بِالْقَرْضِ وَالْبَيْعِ وَلَيْسَتْ أَيْضًا قَلِيلَةً فِي الْغَالِبِ كَإِبْدَالِ الْمُتْلَفَاتِ فَإِنَّ إتْلَافَ مَالٍ كَثِيرٍ بِقَدْرِ الدِّيَةِ خَطَأً نَادِرٌ جِدًّا بِخِلَافِ قَتْلِ النَّفْسِ خَطَأً فَمَا سَبَبُهُ الْعَمْدُ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَالْمُتْلِفُ ظَالِمٌ مُسْتَحِقٌّ فِيهِ لِلْعُقُوبَةِ وَمَا سَبَبُهُ الْخَطَأُ فِي الْأَمْوَالِ فَقَلِيلٌ فِي الْعَادَةِ؛ بِخِلَافِ الدِّيَةِ.

ص: 553

وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ إلَّا مَالَهُ قَدَرَ كَثِيرٌ فَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ الثُّلُثِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا دُونَ السِّنِّ وَالْمُوضِحَةِ فَكَانَ إيجَابُهَا مِنْ جِنْسِ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى الْمُحْتَاجِينَ كَبَنِي السَّبِيلِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْأَقَارِبِ الْمُحْتَاجِينَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أُصُولِ الشَّرَائِعِ الَّتِي بِهَا قِيَامُ مَصْلَحَةِ الْعَالَمِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَسَّمَ خَلْقَهُ إلَى غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ وَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إلَّا بِسَدِّ خُلَّةِ الْفُقَرَاءِ وَحَرَّمَ الرِّبَا الَّذِي يَضُرُّ الْفُقَرَاءَ؛ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالصَّدَقَةِ مِنْ جِنْسِ النَّهْيِ عَنْ الرِّبَا؛ وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} وَفِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي آخِرِ الْبَقَرَةِ أَحْكَامَ الْأَمْوَالِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: عَدْلٌ؛ وَفَضْلٌ؛ وَظُلْمٌ؛ فَالْعَدْلُ: الْبَيْعُ؛ وَالظُّلْمُ: الرِّبَا؛ وَالْفَضْلُ: الصَّدَقَةُ. فَمَدَحَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَذَكَرَ ثَوَابَهُمْ وَذَمَّ الْمُرْبِينَ وَبَيَّنَ عِقَابَهُمْ وَأَبَاحَ الْبَيْعَ وَالتَّدَايُنَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى؛ فَالْعَقْلُ مِنْ جِنْسِ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْحُقُوقِ لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ كَحَقِّ الْمُسْلِمِ؛ وَحَقِّ ذِي الرَّحِمِ وَحَقِّ الْجَارِ؛ وَحَقِّ الْمَمْلُوكِ وَالزَّوْجَةِ.

ص: 554

فَصْلٌ:

وَالْأَحْكَامُ الَّتِي يُقَالُ: إنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَنَوْعٌ مُتَنَازَعٌ فِيهِ. فَمَا لَا نِزَاعَ فِي حُكْمِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا هَلْ يُقَاسُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَيُحْكَى هَذَا عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُقَاسُ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا. وَقَالُوا: إنَّمَا يُنْظَرُ إلَى شُرُوطِ الْقِيَاسِ فَمَا عُلِمَتْ عِلَّتُهُ أَلْحَقْنَا بِهِ مَا شَارَكَهُ فِي الْعِلَّةِ سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ أَوْ لَمْ يُقَلْ وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ انْتِفَاءُ الْفَارِقِ فِيهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَالْجَمْعُ بِدَلِيلِ الْعِلَّةِ كَالْجَمْعِ بِالْعِلَّةِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يُقَمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَرْعَ كَالْأَصْلِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الْقِيَاسُ سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ أَوْ خِلَافِهِ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْعَرَايَا يُلْحَقُ بِهَا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا.

ص: 555

وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ بَلْ مَا قِيلَ: إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ: فَلَا بُدَّ مِنْ اتِّصَافِهِ بِوَصْفِ امْتَازَ بِهِ عَنْ الْأُمُورِ الَّتِي خَالَفَهَا وَاقْتَضَى مُفَارَقَتَهُ لَهَا فِي الْحُكْمِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَذَلِكَ الْوَصْفُ إنْ شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ فَحُكْمُهُ كَحُكْمِهِ وَإِلَّا كَانَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُفَارِقَةِ لَهُ. وَأَمَّا الْمُتَنَازَعُ فِيهِ فَمِثْلُ مَا يَأْتِي حَدِيثٌ بِخِلَافِ أَمْرٍ فَيَقُولُ الْقَائِلُونَ: هَذَا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ أَوْ بِخِلَافِ قِيَاسِ الْأُصُولِ وَهَذَا لَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْ أَشْهَرِهَا الْمُصَرَّاةُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {لَا تُصِرُّوا الْإِبِلَ وَلَا الْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَ مُصَرَّاةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ} وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذَا يُخَالِفُ قِيَاسَ الْأُصُولِ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا: أَنَّهُ رَدُّ الْمَبِيع بِلَا عَيْبٍ وَلَا خُلْفَ فِي صِفَةٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ فَاللَّبَنُ الَّذِي يَحْدُثُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ وَهُنَا قَدْ ضَمِنَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّ اللَّبَنَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِمِثْلِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ مِنْ النَّقْدِ وَهُنَا ضَمِنَهُ بِالتَّمْرِ.

ص: 556

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَالَ الْمَضْمُونَ يُضْمَنُ بِقَدْرِهِ لَا بِقَدْرِ بَدَلِهِ بِالشَّرْعِ وَهُنَا قُدِّرَ بِالشَّرْعِ. فَقَالَ الْمُتَّبِعُونَ لِلْحَدِيثِ: بَلْ مَا ذَكَرْتُمُوهُ خَطَأٌ وَالْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِلْأُصُولِ وَلَوْ خَالَفَهَا لَكَانَ هُوَ أَصْلًا كَمَا أَنَّ غَيْرَهُ أَصْلٌ فَلَا تُضْرَبُ الْأُصُولُ بَعْضُهَا بِبَعْضِ بَلْ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا كُلُّهَا فَإِنَّهَا كُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. أَمَّا قَوْلُهُمْ: رَدٌّ بِلَا عَيْبٍ وَلَا فَوَاتُ صِفَةٍ فَلَيْسَ فِي الْأُصُولِ مَا يُوجِبُ انْحِصَارَ الرَّدِّ فِي هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ بَلْ التَّدْلِيسُ نَوْعٌ ثَبَتَ بِهِ الرَّدُّ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْخُلْفِ فِي الصِّفَةِ فَإِنَّ الْبَيْعَ تَارَةً تَظْهَرُ صِفَاتُهُ بِالْقَوْلِ وَتَارَةً بِالْفِعْلِ فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَى صِفَةٍ وَكَانَ عَلَى خِلَافِهَا فَهُوَ تَدْلِيسٌ وَقَدْ {أَثْبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْخِيَارَ لِلرُّكْبَانِ إذَا تَلَقَّوْا وَاشْتَرَى مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَهْبِطُوا السُّوقَ وَيَعْلَمُوا السِّعْرَ} وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَاحِدٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَلَكِنْ فِيهِ نَوْعُ تَدْلِيسٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ} فَأَوَّلًا حَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ أَصَحُّ مِنْهُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْخَرَاجَ مَا يَحْدُثُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَفْظُ الْخَرَاجِ اسْمٌ لِلْغَلَّةِ: مِثْلَ كَسْبِ الْعَبْدِ وَأَمَّا اللَّبَنُ وَنَحْوُهُ فَمُلْحَقٌ بِذَلِكَ وَهُنَا كَانَ اللَّبَنُ مَوْجُودًا فِي الضَّرْعِ فَصَارَ جُزْءًا مِنْ الْمَبِيعِ وَلَمْ يُجْعَلْ الصَّاعُ عِوَضًا عَمَّا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ بَلْ عِوَضًا عَنْ

ص: 557

اللَّبَنِ الْمَوْجُودِ فِي الضَّرْعِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَأَمَّا تَضْمِينُ اللَّبَنِ بِغَيْرِهِ وَتَقْدِيرِهِ بِالشَّرْعِ فَلِأَنَّ اللَّبَنَ الْمَضْمُونَ اخْتَلَطَ بِاللَّبَنِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَتَعَذَّرَتْ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ فَلِهَذَا قَدَّرَ الشَّارِعُ الْبَدَلَ قَطْعًا لِلنِّزَاعِ وَقَدَّرَ بِغَيْرِ الْجِنْسِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْجِنْسِ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْ أَقَلَّ فَيُفْضِي إلَى الرِّبَا بِخِلَافِ غَيْرِ الْجِنْسِ فَإِنَّهُ كَأَنَّهُ ابْتَاعَ لِذَلِكَ اللَّبَنِ الَّذِي تَعَذَّرَتْ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ بِالصَّاعِ مِنْ التَّمْرِ وَالتَّمْرُ كَانَ طَعَامَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مَكِيلٌ مَطْعُومٌ يُقْتَاتُ بِهِ كَمَا أَنَّ اللَّبَنَ مَكِيلٌ مُقْتَاتٌ وَهُوَ أَيْضًا يُقْتَاتُ بِهِ بِلَا صَنْعَةٍ بِخِلَافِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَاتُ بِهِ إلَّا بِصَنْعَةِ فَهُوَ أَقْرَبُ الْأَجْنَاسِ الَّتِي كَانُوا يَقْتَاتُونَ بِهَا إلَى اللَّبَنِ. وَلِهَذَا كَانَ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ أَنَّ جَمِيعَ الْأَمْصَارِ يَضْمَنُونَ ذَلِكَ بِصَاعِ مِنْ تَمْرٍ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَقْتَاتُ التَّمْرَ فَهَذَا مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ كَأَمْرِهِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِصَاعِ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إنَّ أَمْرَهُ لِلْمُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ بِالْإِعَادَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقِفُ وَحْدَهُ وَالْمَرْأَةُ تَقِفُ خَلْفَ الرِّجَالِ وَحْدَهَا كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يُسَنُّ فِي حَقِّهِ التَّقَدُّمُ بِالِاتِّفَاقِ وَالْمُؤْتَمُّونَ يُسَنُّ فِي حَقِّهِمْ الِاصْطِفَافُ بِالِاتِّفَاقِ فَكَيْفَ يُشَبَّهُ هَذَا بِهَذَا

ص: 558

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُؤْتَمُّ بِهِ فَإِذَا كَانَ إمَامُهُمْ رَأَوْهُ وَكَانَ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ أَكْمَلَ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَقِفُ وَحْدَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا فَالسُّنَّةُ فِي حَقِّهَا الِاصْطِفَافُ؛ لَكِنَّ قَضِيَّةَ الْمَرْأَةِ تَدُلُّ عَلَى شَيْئَيْنِ. تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ خَلْفَ الصَّفِّ مَنْ يَقُومُ مَعَهُ وَتَعَذَّرَ الدُّخُولُ فِي الصَّفِّ صَلَّى وَحْدَهُ لِلْحَاجَةِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ تَسْقُطُ لِلْحَاجَةِ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُصَافَّ غَيْرَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ سَقَطَ لِلْحَاجَةِ؛ كَمَا سَقَطَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ لِلْحَاجَةِ فِي مِثْلِ صَلَاةِ الْخَوْفِ مُحَافَظَةً عَلَى الْجَمَاعَةِ. وَطُرِدَ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْجَمَاعَةِ إلَّا قُدَّامَ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي هُنَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ أَمَامَهُ وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَإِنْ كَانُوا لَا يُجَوِّزُونَ التَّقَدُّمَ عَلَى الْإِمَامِ إذَا أَمْكَنَ تَرْكُ التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ. وَفِي الْجُمْلَةِ: فَلَيْسَتْ الْمُصَافَّةُ أَوْجَبَ مِنْ غَيْرِهَا فَإِذَا سَقَطَ غَيْرُهَا لِلْعُذْرِ فِي الْجَمَاعَةِ فَهِيَ أَوْلَى بِالسُّقُوطِ. وَمِنْ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ أَنْ‌

‌ الْمَعْجُوزَ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ سَاقِطُ الْوُجُوبِ

وَأَنَّ الْمُضْطَرَّ إلَيْهِ بِلَا مَعْصِيَةٍ غَيْرُ مَحْظُورٍ فَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ

ص: 559

الْعَبْدُ وَلَمْ يُحَرِّمْ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ الْعَبْدُ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِيهِ: {إنَّ الرَّهْنَ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَحْلِبُ النَّفَقَةُ} إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ الرَّهْنَ إذَا كَانَ حَيَوَانًا فَهُوَ مُحْتَرَمٌ فِي نَفْسِهِ وَلِمَالِكِهِ فِيهِ حَقٌّ؛ وَلِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ حَقٌّ وَإِذَا كَانَ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلَمْ يَرْكَبْ وَلَمْ يَحْلِبْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهُ بَاطِلَةً وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ اللَّبَنَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنْفَعَةِ فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمُرْتَهِنُ مَنْفَعَتَهُ وَعَوَّضَ عَنْهَا نَفَقَتَهُ كَانَ فِي هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ وَبَيْنَ الْحَقَّيْنِ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَى صَاحِبِهِ وَالْمُرْتَهِنُ إذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَدَّى عَنْهُ وَاجِبًا وَلَهُ فِيهِ حَقٌّ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِهِ وَالْمَنْفَعَةُ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا فَأَخْذُهَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذْهَبَ عَلَى صَاحِبِهَا وَتَذْهَبَ بَاطِلًا. وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا بِغَيْرِ إذْنِهِ كَالدَّيْنِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَإِذَا أَنْفَقَ نَفَقَةً تَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ عَبْدِهِ؛ فَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد قَالَ: لَا يَرْجِعُ؛ وَفَرَّقُوا بَيْنَ النَّفَقَةِ وَالدَّيْنِ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا وَقَالُوا: الْجَمِيعُ وَاجِبٌ وَلَوْ افْتَدَاهُ

ص: 560

مِنْ الْأَسْرِ كَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالْفِدَاءِ وَلَيْسَتْ دَيْنًا وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فَأَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بِمُجَرَّدِ الْإِرْضَاعِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنَ الْأَبِ وَكَذَلِكَ قَالَ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فَأَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنًا وَنَفَقَةُ الْحَيَوَانِ وَاجِبَةٌ عَلَى رَبِّهِ وَالْمُرْتَهِنُ وَالْمُسْتَأْجِرُ لَهُ فِيهِ حَقٌّ فَإِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى رَبِّهِ كَانَ أَحَقَّ بِالرُّجُوعِ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الرَّاهِنَ قَالَ: لَمْ آذَنْ لَك فِي النَّفَقَةِ قَالَ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْك وَأَنَا أَسْتَحِقُّ أَنْ أُطَالِبَك بِهَا لِحِفْظِ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ. وَإِذَا كَانَ الْمُنْفِقُ قَدْ رَضِيَ بِأَنْ يَعْتَاضَ بِمَنْفَعَةِ الرَّهْنِ الَّتِي لَا يُطَالِبُهُ بِنَظِيرِ النَّفَقَةِ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ إلَى صَاحِبِهِ فَهَذَا خَيْرٌ مَحْضٌ مَعَ الرَّاهِنِ وَكَذَلِكَ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُؤْتَمَنَ عَلَى حَيَوَانِ الْغَيْرِ كَالْمُودَعِ وَالشَّرِيكِ وَالْوَكِيلِ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَاعْتَاضَ بِمَنْفَعَةِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا إحْسَانٌ إلَى صَاحِبِهِ إذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. وَمِمَّا يُقَالُ: إنَّهُ أَبْعَدُ الْأَحَادِيثِ عَنْ الْقِيَاسِ: الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ الْحَسَنِ؛ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ حريث؛ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ

ص: 561

إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ لَهُ وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا وَقَدْ رُوِيَ فِي لَفْظٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ وَمِثْلُهَا مِنْ مَالِهِ لِسَيِّدَتِهَا} وَهَذَا الْحَدِيثُ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي إسْنَادِهِ لَكِنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا هُوَ دُونَهُ فِي الْقُوَّةِ وَلَكِنْ لِإِشْكَالِهِ قَوِيَ عِنْدَهُمْ تَضْعِيفُهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَسْتَقِيمُ عَلَى الْقِيَاسِ مَعَ ثَلَاثَةِ أُصُولٍ هِيَ صَحِيحَةٌ كُلٌّ مِنْهَا قَوْلُ طَائِفَة مِنْ الْفُقَهَاءِ: أَحَدُهَا: أَنَّ‌

‌ مَنْ غَيَّرَ مَالَ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يُفَوِّتُ مَقْصُودَهُ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ إيَّاهُ بِمِثْلِهِ

وَهَذَا كَمَا إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ بِمَا أَزَالَ اسْمَهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. أَحَدُهَا: إنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ وَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ النَّقْصِ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ بِذَلِكَ وَيَضْمَنُهُ لِصَاحِبِهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ: يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِهِ وَتَضْمِينِ النَّقْصِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا؛ فَإِنْ فَوَّتَ صِفَاتِهِ الْمَعْنَوِيَّةَ مِثْلَ

ص: 562

أَنْ يُنْسِيَهُ صِنَاعَتَهُ: أَوْ يُضْعِفَ قُوَّتَهُ؛ أَوْ يُفْسِدَ عَقْلَهُ وَدِينَهُ: فَهَذَا أَيْضًا يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ تَضْمِينِ النَّقْصِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ وَلَوْ قَطَعَ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْقَاضِي. فَعِنْدَ مَالِكٍ يَضْمَنُهَا بِالْبَدَلِ وَيَمْلِكُهَا لِتَعَذُّرِ مَقْصُودِهَا عَلَى الْمَالِكِ فِي الْعَادَةِ؛ أَوْ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ وَكَذَلِكَ السُّلْطَانُ إذَا قَطَعَ آذَانَ فَرَسِهِ وَذَنَبَهَا. الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْمُتْلَفَاتِ تُضْمَنُ بِالْجِنْسِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ حَتَّى الْحَيَوَانِ كَمَا أَنَّهُ فِي الْقَرْضِ يَجِبُ فِيهِ رَدُّ الْمِثْلِ وَإِذَا اقْتَرَضَ حَيَوَانًا رَدَّ مِثْلَهُ كَمَا {اقْتَرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكْرًا وَرَدَّ خَيْرًا مِنْهُ} وَكَذَلِكَ فِي الْمَغْرُورِ يُضْمَنُ وَلَدُهُ بِمِثْلِهِمْ كَمَا قَضَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَثْنَى رَأْسَ الْمَبِيع وَلَمْ يَذْبَحْهُ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَضَوْا بِشِرَائِهِ أَيْ: بِرَأْسِ مِثْلِهِ فِي الْقِيمَةِ وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَقِصَّةُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عليهما السلام مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الْمَاشِيَةَ كَانَتْ قَدْ أَتْلَفَتْ حَرْثَ الْقَوْمِ وَهُوَ بُسْتَانُهُمْ قَالُوا: وَكَانَ عَيْنًا وَالْحَرْثُ اسْمٌ لِلشَّجَرِ وَالزَّرْعِ فَقَضَى دَاوُد بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ كَأَنَّهُ ضَمَّنَهُمْ ذَلِكَ بِالْقِيمَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ إلَّا الْغَنَمُ فَأَعْطَاهُمْ الْغَنَمَ بِالْقِيمَةِ. وَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَحَكَمَ بِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَاشِيَةِ يَقُومُونَ عَلَى الْحَرْثِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ فَضَمَّنَهُمْ إيَّاهُ بِالْمِثْلِ وَأَعْطَاهُمْ الْمَاشِيَةَ يَأْخُذُونَ مَنْفَعَتَهَا عِوَضًا

ص: 563

عَنْ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي فَاتَتْ مِنْ حِينِ تَلَفِ الْحَرْثِ إلَى أَنْ يَعُودَ وَبِذَلِكَ أَفْتَى الزُّهْرِيُّ لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيمَنْ كَانَ أَتْلَفَ لَهُ شَجَرًا فَقَالَ: يَغْرِسُهُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ وَقِيلَ: رَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ قَالَا: عَلَيْهِ الْقِيمَةُ فَغَلَّظَ الزُّهْرِيُّ الْقَوْلَ فِيهِمَا. وَهَذَا مُوجَبُ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ الْمُتْلَفِ بِالْمِثْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ قَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وَقَالَ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَقَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وَقَالَ: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} فَإِذَا أَتْلَفَ نَقْدًا أَوْ حُبُوبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ أَمْكَنَ ضَمَانُهَا بِالْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ الْمُتْلَفُ ثِيَابًا أَوْ آنِيَةً أَوْ حَيَوَانًا فَهُنَا مِثْلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ. فَالْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: إمَّا أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ دَرَاهِمُ مُخَالِفَةٌ لِلْمُتْلَفِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ لَكِنَّهَا تُسَاوِيهِ فِي الْمَالِيَّةِ وَإِمَّا أَنْ يَضْمَنَهُ بِثِيَابِ مِنْ جِنْسِ ثِيَابِ الْمِثْلِ أَوْ آنِيَةٍ مِنْ جِنْسِ آنِيَتِهِ أَوْ حَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِ حَيَوَانِهِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمَعَ كَوْنِ قِيمَتِهِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَهُنَا الْمَالِيَّةُ مُسَاوِيَةٌ كَمَا فِي النَّقْدِ وَامْتَازَ هَذَا بِالْمُشَارَكَةِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ فَكَانَ ذَلِكَ أَمْثَلَ مِنْ هَذَا وَمَا كَانَ أَمْثَلَ فَهُوَ أَعْدَلُ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ إذَا تَعَذَّرَ الْمِثْلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

وَنَظِيرُ هَذَا مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ مِنْ الْقِصَاصِ فِي اللَّطْمَةِ

ص: 564

وَالضَّرْبَةِ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِي الَّتِي شَرَحَهَا الجوزجاني فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْمُتَرْجِمِ فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ: الْمُسَاوَاةُ متعذرة فِي ذَلِكَ فَيَرْجِعُ إلَى التَّعْزِيرِ؛ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ هُوَ مُوجَبُ الْقِيَاسِ فَإِنَّ التَّعْزِيرَ عِقَابٌ غَيْرُ مُقَدَّرِ الْجِنْسِ وَلَا الصِّفَةِ وَلَا الْقَدْرِ وَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْوَالِي وَمِنْ الْمَعْلُومِ الْأَمْرُ بِضَرْبِ يُقَارِبُ ضَرْبَهُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مُسَاوٍ لَهُ: أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَالْمُمَاثَلَةُ مِنْ عُقُوبَةٍ تُخَالِفُهُ فِي الْجِنْسِ وَالْوَصْفِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ أَصْلًا.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُمَاثِلَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَعَذَّرٌ حَتَّى فِي الْمَكِيلَاتِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا؛ فَإِنَّهُ إذَا أَتْلَفَ صَاعًا مِنْ بُرٍّ فَضَمِنَ بِصَاعِ مِنْ بُرٍّ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ أَحَدَ الصَّاعَيْنِ فِيهِ مِنْ الْحَبِّ مَا هُوَ مِثْلُ الْآخَرِ بَلْ قَدْ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} فَإِنَّ تَحْدِيدَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ مِمَّا قَدْ يَعْجِزُ عَنْهُ الْبَشَرُ وَلِهَذَا يُقَالُ: هَذَا أَمْثَلُ مِنْ هَذَا إذَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْمُمَاثَلَةِ مِنْهُ؛ إذَا لَمْ تَحْصُلْ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

الْأَصْلُ الثَّالِثُ:‌

‌ مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ.

وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ آثَارٌ مَرْفُوعَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا

ص: 565

الْمَوْضِعِ. فَهَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِهَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الثَّابِتَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْقِيَاسِ الْعَادِلِ فَإِذَا طَاوَعَتْهُ فَقَدْ أَفْسَدَهَا عَلَى سَيِّدِهَا؛ فَإِنَّهَا مَعَ الْمُطَاوَعَةِ تَبْقَى زَانِيَةً: وَذَلِكَ يُنْقِصُ قِيمَتَهَا وَلَا يُمَكِّنُ سَيِّدَهَا مِنْ اسْتِخْدَامِهَا كَمَا كَانَتْ تُمْكِنُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِبُغْضِهِ لَهَا وَلِطَمَعِ الْجَارِيَةِ فِي السَّيِّدِ؛ وَلِاسْتِشْرَافِ السَّيِّدِ إلَيْهَا لَا سِيَّمَا وَيَعْسُرُ عَلَى سَيِّدِهَا فَلَا يُطِيعُهَا كَمَا كَانَتْ تُطِيعُهُ وَإِذَا تَصَرَّفَ بِالْمَالِ بِمَا يُنْقِصُ قِيمَتَهُ كَانَ لِصَاحِبِهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْمِثْلِ فَقَضَى لَهَا بِالْمِثْلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَوْ رَضِيَتْ أَنْ تَبْقَى مِلْكًا لَهَا وَتُغَرِّمَهُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمَقْضِيُّ بِهِ مَا أُبِيحَ لَهَا وَلَكِنْ مُوجَبُ هَذَا أَنَّ الْأَمَةَ إذَا أَفْسَدَهَا رَجُلٌ عَلَى أَهْلِهَا حَتَّى طَاوَعَتْ عَلَى الزِّنَا فَلِأَهْلِهَا أَنْ يُطَالِبُوهُ بِبَدَلِهَا وَوَجَبَ مِثْلُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِثْلَ يَجِبُ فِي كُلِّ مَضْمُونٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَأَمَّا إذَا اسْتَكْرَهَهَا فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُثْلَةِ؛ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْوَطْءِ مُثْلَةٌ فَإِنَّ الْوَطْءَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ. وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ مَنْ اسْتَكْرَهَ عَبْدَهُ عَلَى التلوط بِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ عَقْرٍ أَوْ عُقُوبَةٍ لَا تَجْرِي مَجْرَى مَنْفَعَةِ الْخِدْمَةِ فَهِيَ لَمَّا صَارَتْ لَهُ بِإِفْسَادِهَا عَلَى سَيِّدِهَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ مِثْلَهَا كَمَا فِي الْمُطَاوَعَةِ وَأَعْتَقَهَا عَلَيْهِ كَوْنُهُ مَثَّلَ بِهَا. وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا إذَا اسْتَكْرَهَ عَبْدَهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلَوْ اسْتَكْرَهَ أَمَةَ الْغَيْرِ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَتَقَتْ وَضَمِنَهَا

ص: 566

بِمِثْلِهَا إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ أَمَةِ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ شَرْعِيٌّ وَإِلَّا فَمُوجَبُ الْقِيَاسِ التَّسْوِيَةُ وَأَمَّا قَوْلُهُ عز وجل {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَهَذَا النَّهْيُ عَنْ إكْرَاهِهِنَّ عَلَى كَسْبِ الْمَالِ بِالْبِغَاءِ كَمَا نُقِلَ أَنَّ ابْنَ أَبِي الْمُنَافِقِ كَانَ لَهُ مِنْ الْإِمَاءِ مَا يُكْرِهُهُنَّ عَلَى الْبِغَاءِ وَلَيْسَ هُوَ اسْتِكْرَاهًا لِلْأَمَةِ عَلَى أَنْ يَزْنِيَ هُوَ بِهَا فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّمْثِيلِ بِهَا وَذَاكَ إلْزَامٌ لَهَا بِأَنْ تَذْهَبَ فَتَزْنِي بِنَفْسِهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْعِتْقُ بِالْمُثْلَةِ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ ثُمَّ شُرِعَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَدَقِّ الْأُمُورِ فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَهَذَا الَّذِي ظَهَرَ فِي تَوْجِيهِهِ وَتَخَرُّجِهِ عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا عَرَفْت حَدِيثًا صَحِيحًا إلَّا وَيُمْكِنُ تَخَرُّجُهُ عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ وَقَدْ تَدَبَّرْت مَا أَمْكَنَنِي مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَمَا رَأَيْت قِيَاسًا صَحِيحًا يُخَالِفُ حَدِيثًا صَحِيحًا كَمَا أَنَّ الْمَعْقُولَ الصَّرِيحَ لَا يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ؛ بَلْ مَتَى رَأَيْت قِيَاسًا يُخَالِفُ أَثَرًا فَلَا بُدَّ مِنْ ضَعْفِ أَحَدِهِمَا لَكِنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ صَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِمَّا يَخْفَى كَثِيرٌ مِنْهُ عَلَى أَفَاضِلِ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ؛ فَإِنَّ إدْرَاكَ الصِّفَاتِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى وَجْهِهَا

ص: 567

وَمَعْرِفَةَ الْحُكْمِ وَالْمَعَانِي الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الشَّرِيعَةُ مِنْ أَشْرَفِ الْعُلُومِ فَمِنْهُ الْجَلِيُّ الَّذِي يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَمِنْهُ الدَّقِيقُ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَوَّاصُهُمْ؛ فَلِهَذَا صَارَ قِيَاسُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ يُرَدُّ مُخَالِفًا لِلنُّصُوصِ؛ لِخَفَاءِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ عَلَيْهِمْ كَمَا يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مَا فِي النُّصُوصِ مِنْ الدَّلَائِلِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمُضِيَّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَعَلَى مَنْ شَرَعَ فِيهِمَا أَنْ يَمْضِيَ فِيهِمَا وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِالدُّخُولِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ: هَلْ تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ؟ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ أَنْ يَمْضِيَ إلَى حِينِ يَتَحَلَّلُ وَأَنْ لَا يَطَأَ فِي الْحَجِّ فَإِذَا وَطِئَ فِي الْحَجِّ لَمْ يَمْنَعْ وَطْؤُهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ إتْمَامِ الْحَجِّ. وَنَظِيرُ هَذَا الصِّيَامُ فِي رَمَضَانَ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} فَإِذَا أَفْطَرَ لَمْ يُسْقِطُ عَنْهُ فِطْرُهُ مَا وَجَبَ مِنْ الْإِتْمَامِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامُ صَوْمِ رَمَضَانَ وَإِنْ أَفْسَدَهُ وَهَذَا لِأَنَّ الصِّيَامَ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَهُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ كَمَا لِلْحَجِّ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ

ص: 568

وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَمَا بَعْدَهُ وَمَكَانٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنًى فَلَا يُمْكِنُهُ إحْلَالُ الْحَجِّ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى مَكَانِهِ كَمَا لَا يُمْكِنُهُ إحْلَالُ الصِّيَامِ اللَّهُمَّ إلَّا إذَا كَانَ مَعْذُورًا كَالْمُحْصَرِ فَهَذَا كَالْمَعْذُورِ فِي الْفِطْرِ وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ إذَا أَفْسَدَهَا فَإِنَّهُ يَبْتَدِيهَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ وَالْحَجُّ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُهُ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الْأَكْلُ نَاسِيًا؛ فَاَلَّذِينَ قَالُوا: هُوَ خِلَافُ الْقِيَاسِ قَالُوا: هُوَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ وَمَنْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ نَاسِيًا لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ كَمَا لَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ نَاسِيًا أَوْ تَرَكَ نِيَّةَ الصِّيَامِ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ عِبَادَتُهُ إلَّا مِنْ فِعْلِ مَحْظُورٍ وَلَكِنْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ يَقُولُ: الْقِيَاسُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ عِبَادَتُهُ؛ لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ {قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: قَدْ فَعَلْت} وَهَذَا مِمَّا لَا يَتَنَازَعُ فِيهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ النَّاسِيَ لَا يَأْثَمُ. لَكِنْ يَتَنَازَعُونَ فِي بُطْلَانِ عِبَادَتِهِ فَيَقُولُ الْقَائِلُ إذَا لَمْ يَأْثَمْ لَمْ يَكُنْ قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ مُحَرَّمًا لَمْ تَبْطُلْ عِبَادَتُهُ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ إنَّمَا تَبْطُلُ بِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ فَإِذَا كَانَ مَا فَعَلَهُ مِنْ بَابِ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ نَاسٍ فِيهِ لَمْ تَبْطُلْ عِبَادَتُهُ. وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ: الْقِيَاسُ أَنْ

ص: 569

لَا تَبْطُلَ الصَّلَاةُ بِالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا وَكَذَلِكَ يَقُولُ: الْقِيَاسُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ نَاسِيًا لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الصَّيْدُ هُوَ مِنْ بَابِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ كَدِيَةِ الْمَقْتُولِ؛ بِخِلَافِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّرَفُّهِ وَكَذَلِكَ الْحَلْقُ وَالتَّقْلِيمُ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ بَابِ التَّرَفُّهِ لَا مِنْ بَابِ مُتْلَفٍ لَهُ قِيمَةٌ فَإِنَّهُ لَا قِيمَةَ لِذَلِكَ؛ فَلِهَذَا كَانَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ أَنْ لَا كَفَّارَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ. وَطَرْدُ هَذَا أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا لَا يَحْنَثُ؛ سَوَاءٌ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ أَوْ غَيْرِهِمَا لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَاسِيًا لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يُخَالِفْ وَالْحِنْثُ فِي الْأَيْمَانِ كَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَكَذَلِكَ مَنْ بَاشَرَ النَّجَاسَةَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ فِعْلِ الْمَحْظُورِ؛ بِخِلَافِ تَرْكِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَأْمُورِ. فَإِنْ قِيلَ: التَّرْكُ فِي الصَّوْمِ مَأْمُورٌ بِهِ؛ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ؛ بِخِلَافِ التَّرْكِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ. قِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الصَّوْمِ وَاجِبَةٌ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أُثِيبَ؛

ص: 570

لِأَنَّ الثَّوَابَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ النِّيَّةِ وَتِلْكَ الْأُمُورُ إذَا قَصَدَ تَرْكَهَا لِلَّهِ أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَخْطِرْ بِقَلْبِهِ قَصْدُ تَرْكِهَا لَمْ يُثَبْ وَلَمْ يُعَاقَبْ وَلَوْ كَانَ نَاوِيًا تَرْكَهَا لِلَّهِ وَفَعَلَهُ نَاسِيًا لَمْ يَقْدَحْ نِسْيَانُهُ فِي أَجْرِهِ بَلْ يُثَابُ عَلَى قَصْدِ تَرْكِهَا لِلَّهِ وَإِنْ فَعَلَهَا نَاسِيًا كَذَلِكَ الصَّوْمُ فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ النَّاسِي لَا يُضَافُ إلَيْهِ بَلْ فَعَلَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ} فَأَضَافَ إطْعَامَهُ وَإِسْقَاءَهُ إلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْصِدْهُ وَمَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى اللَّهِ لَا يُنْهَى عَنْهُ الْعَبْدُ فَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْ فِعْلِهِ وَالْأَفْعَالُ الَّتِي لَيْسَتْ اخْتِيَارِيَّةً لَا تَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ فَفِعْلُ النَّاسِي كَفِعْلِ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّائِمَ إذَا احْتَلَمَ فِي مَنَامِهِ لَمْ يُفْطِرْ؛ وَلَوْ اسْتَمْنَى بِاخْتِيَارِهِ أَفْطَرَ وَلَوْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ وَلَوْ اسْتَدْعَى الْقَيْءَ أَفْطَرَ. فَلَوْ كَانَ مَا يُوجَدُ بِغَيْرِ قَصْدِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا يُوجَدُ بِقَصْدِهِ لَأَفْطَرَ بِهَذَا وَهَذَا. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُخْطِئُ يُفْطِرُ مِثْلَ مَنْ يَأْكُلُ يَظُنُّ بَقَاءَ اللَّيْلِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ طَلَعَ الْفَجْرُ؛ أَوْ يَأْكُلُ يَظُنُّ غُرُوبَ الشَّمْسِ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغْرُبْ.

ص: 571

قِيلَ: هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ قَالُوا: هَذَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ وَقَاسُوا ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يَقْضِي فِي مَسْأَلَةِ الْغُرُوبِ دُونَ الطُّلُوعِ؛ كَمَا لَوْ اسْتَمَرَّ الشَّكُّ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: لَا يُفْطِرُ فِي الْجَمِيعِ قَالُوا: حُجَّتُنَا أَقْوَى وَدَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى قَوْلِنَا أَظْهَرُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فَجَمَعَ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَاتِ الْحَجَّ وَالصَّلَاةَ مُخْطِئًا كَمَنْ فَعَلَهَا نَاسِيًا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ أَفْطَرُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ وَلَكِنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ وَأَبُوهُ أَعْلَمُ مِنْهُ وَكَانَ يَقُولُ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ {كَانُوا يَأْكُلُونَ حَتَّى يَظْهَرَ لِأَحَدِهِمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَحَدِهِمْ: إنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ إنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ} وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِقَضَاءِ وَهَؤُلَاءِ جَهِلُوا الْحُكْمَ فَكَانُوا مُخْطِئِينَ. وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ النَّهَارُ فَقَالَ: لَا نَقْضِي فَإِنَّا لَمْ نَتَجَانَفْ لِإِثْمِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: نَقْضِي؛ وَلَكِنَّ

ص: 572

إسْنَادَ الْأَوَّلِ أَثْبَتُ وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْخَطْبُ يَسِيرٌ. فَتَأَوَّلَ ذَلِكَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ خِفَّةَ أَمْرِ الْقَضَاءِ لَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى أَثَرًا وَنَظَرًا وَأَشْبَهُ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي النَّاسِي أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَالْأَصْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا لَمْ يَكُنْ قَدْ فَعَلَ مَنْهِيًّا عَنْهُ؛ فَلَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَطْءِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي إحْرَامٍ أَوْ صِيَامٍ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِيمَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَاَلَّذِي يَلْتَزِمُهُ إنَّمَا كَانَ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِخِلَافِهِمْ فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ بَلْ وَلِلنَّصِّ الصَّرِيحِ. وَاَلَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّهُ حُجَّةٌ مَا كَانَ مِنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّذِي سَنُّوهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ خَالَفَهُمْ فِيهِ فَهَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ حُجَّةٌ بَلْ إجْمَاعٌ. وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ

ص: 573

الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} . مِثَالُ ذَلِكَ حَبْسُ عُمْرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما للأرضين الْمَفْتُوحَةِ وَتَرْكُ قِسْمَتِهَا عَلَى الْغَانِمِينَ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ قَالَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَسَمَ خَيْبَرَ وَقَالَ: إنَّ الْإِمَامَ إذَا حَبَسَهَا نُقِضَ حُكْمُهُ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ وَجُرْأَةٌ عَلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ؛ فَإِنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خَيْبَرَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مَا فَعَلَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ ذَلِكَ لَكَانَ فِعْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ؛ فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ؛ بَلْ تَوَاتَرَ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ؟ فَإِنَّهُ قَدِمَ حِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَنَزَلَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُصَالِحُهُ وَلَا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ أَحَدًا يُصَالِحُهُمْ بَلْ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ فَأَخَذَهُ الْعَبَّاسُ وَقَدِمَ بِهِ كَالْأَسِيرِ وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْعَبَّاسُ أَمَّنَهُ فَصَارَ مُسْتَأْمَنًا ثُمَّ أَسْلَمَ فَصَارَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْقِدَ عَقْدَ صُلْحِ الْكُفَّارِ بَعْدَ إسْلَامِهِ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْهُمْ؟ مِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّقَ الْأَمَانَ بِأَسْبَابِ كَقَوْلِهِ: {مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ

ص: 574

فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ} فَأَمَّنَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُ فَلَوْ كَانُوا مُعَاهَدِينَ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ وَأَيْضًا فَسَمَّاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طُلَقَاءَ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَهُمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا يُطْلَقُ الْأَسِيرُ فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَطْلَقَهُمْ مِنْ الْأَسْرِ كثمامة بْنِ أَثَالٍ وَغَيْرِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَذِنَ فِي قَتْلِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: {إنَّ مَكَّةَ لَمْ تَحِلّ لِأَحَدِ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدِ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} وَدَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ لَمْ يَدْخُلْهَا بِإِحْرَامِ فَلَوْ كَانُوا قَدْ صَالَحُوهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُحِلَّ لَهُ شَيْءٌ كَمَا لَوْ صَالَحَ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ الْحِلِّ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُحِلَّتْ فَكَيْفَ يَحِلُّ لَهُ الْبَلَدُ الْحَرَامُ وَأَهْلُهُ مُسَالِمُونَ لَهُ صُلْحٌ مَعَهُ؟ وَأَيْضًا فَقَدْ قَاتَلُوا خَالِدًا وَقَتَلَ طَائِفَة مِنْهُمْ. وَفِي الْجُمْلَةِ: مَنْ تَدَبَّرَ الْآثَارَ الْمَنْقُولَةَ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَمَعَ هَذَا فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُقَسِّمْ أَرْضَهَا كَمَا لَمْ يَسْتَرِقّ رِجَالَهَا فَفَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً وَقَسَمَهَا وَفَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً وَلَمْ يَقْسِمْهَا فَعُلِمَ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ. وَالْأَقْوَالُ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثَةٌ: إمَّا وُجُوبُ قَسْمِ الْعَقَارِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ؛ وَإِمَّا تَحْرِيمُ قَسْمِهِ وَوُجُوبُ تَحْبِيسِهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ؛ وَإِمَّا التَّخْيِيرُ

ص: 575

بَيْنَهُمَا كَقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ: الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَعَنْهُ كَالْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. وَمِنْ أَشْكَلِ مَا أَشْكَلَ عَلَى الْفُقَهَاءِ مِنْ أَحْكَامِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ: امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَمَّا أَجَّلَ امْرَأَتَهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ ثُمَّ قَدِمَ الْمَفْقُودُ خَيَّرَهُ عُمَرُ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ مَهْرِهَا وَهَذَا مِمَّا اتَّبَعَهُ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا طَائِفَة مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ فَقَالُوا: هَذَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى نِكَاحِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ نَقُولَ: الْفُرْقَةُ تَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَهِيَ زَوْجَةُ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالثَّانِي قَوْلُ مَالِكٍ. وَآخَرُونَ أَسْرَفُوا فِي إنْكَارِ هَذَا حَتَّى قَالُوا: لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِقَوْلِ عُمَرَ لَنُقِضَ حُكْمُهُ؛ لِبُعْدِهِ عَنْ الْقِيَاسِ. وَآخَرُونَ أَخَذُوا بِبَعْضِ قَوْلِ عُمَرَ وَتَرَكُوا بَعْضَهُ فَقَالُوا: إذَا تَزَوَّجَتْ فَهِيَ زَوْجَةُ الثَّانِي وَإِذَا دَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَهِيَ زَوْجَتُهُ وَلَا تُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ. وَمَنْ خَالَفَ عُمَرَ لَمْ يَهْتَدِ إلَى مَا اهْتَدَى إلَيْهِ عُمَرُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الْخِبْرَةِ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ مِثْلُ خِبْرَةِ عُمَرَ؛ فَإِنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى

ص: 576

أَصْلٍ وَهُوَ وَقْفُ الْعُقُودِ إذَا تَصَرَّفَ الرَّجُلُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ: هَلْ يَقَعُ تَصَرُّفُهُ مَرْدُودًا أَوْ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد: أَحَدُهُمَا: الرَّدُّ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى تَفْصِيلٍ عَنْهُ وَالرَّدُّ مُطْلَقًا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهَذَا فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ إذَا كَانَ مَعْذُورًا لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ وَحَاجَتِهِ إلَى التَّصَرُّفِ وَقَفَ عَلَى الْإِجَازَةِ بِلَا نِزَاعٍ وَإِنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِئْذَانُ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى التَّصَرُّفِ فَفِيهِ النِّزَاعُ فَالْأَوَّلُ مِثْلُ مَنْ عِنْدَهُ أَمْوَالٌ لَا يَعْرِفُ أَصْحَابَهَا كالغصوب وَالْعَوَارِيِّ وَنَحْوِهِمَا إذَا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَيَئِسَ مِنْهَا؛ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِك وَأَحْمَد أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُمْ فَإِنْ ظَهَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَانُوا مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَبَيْنَ التَّضْمِينِ وَهَذَا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي اللُّقْطَةِ؛ فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ يَأْخُذُهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا ثُمَّ إنْ جَاءَ صَاحِبُهَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إمْضَاءِ تَصَرُّفِهِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِهَا فَهُوَ تَصَرُّفٌ مَوْقُوفٌ؛ لَكِنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِئْذَانُ وَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّصَرُّفِ. وَكَذَلِكَ الْمُوصِي بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَصِيَّتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ

ص: 577

عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَإِنَّمَا يُخَيَّرُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ فَفِي الْمَفْقُودِ الْمُنْقَطِعِ خَبَرُهُ إنْ قِيلَ: إنَّ امْرَأَتَهُ تَبْقَى إلَى أَنْ يُعْلَمَ خَبَرُهُ: بَقِيَتْ لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ إلَى أَنْ تَصِيرَ عَجُوزًا وَتَمُوتَ وَلَمْ تَعْلَمْ خَبَرَهُ وَالشَّرِيعَةُ لَمْ تَأْتِ بِمِثْلِ هَذَا. فَلَمَّا أُجِّلَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ وَلَمْ يَنْكَشِفْ خَبَرُهُ حُكِمَ بِمَوْتِهِ ظَاهِرًا. وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ يَسُوغُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا لِلْحَاجَةِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِ مَوْتَهُ وَإِلَّا فَلَوْ عَلِمَ حَيَاتَهُ لَمْ يَكُنْ مَفْقُودًا كَمَا سَاغَ التَّصَرُّفُ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهَا فَإِذَا قَدِمَ الرَّجُلُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا كَمَا إذَا ظَهَرَ صَاحِبُ الْمَالِ وَالْإِمَامُ قَدْ تَصَرَّفَ فِي زَوْجَتِهِ بِالتَّفْرِيقِ فَيَبْقَى هَذَا التَّفْرِيقُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ فَإِنْ شَاءَ أَجَازَ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ وَإِذَا أَجَازَهُ صَارَ كَالتَّفْرِيقِ الْمَأْذُونِ فِيهِ. وَلَوْ أَذِنَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فَفَرَّقَ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِلَا رَيْبٍ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ نِكَاحُ الْأَوَّلِ صَحِيحًا. وَإِنْ لَمْ يُجِزْ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ كَانَ التَّفْرِيقُ بَاطِلًا مِنْ حِينِ اخْتَارَ امْرَأَتَهُ لَا مَا قَبْلَ ذَلِكَ بَلْ الْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ كَمَا فِي اللُّقْطَةِ فَإِنَّهُ إذَا ظَهَرَ مَالِكُهَا لَمْ يُبْطِلْ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَتَكُونُ بَاقِيَةً عَلَى نِكَاحِهِ مِنْ حِينِ اخْتَارَهَا؛ فَتَكُونُ زَوْجَتَهُ فَيَكُونُ الْقَادِمُ مُخَيَّرًا بَيْنَ إجَازَةِ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ وَرَدِّهِ وَإِذَا أَجَازَهُ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُضْعَ عَنْ مِلْكِهِ.

وَخُرُوجُ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كَمَالِكِ

ص: 578

وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَنَصِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْمُسَمَّى كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: هُوَ مَضْمُونٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَالنِّزَاعُ بَيْنَهُمْ فِيمَا إذَا شَهِدَ شُهُودٌ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَرَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ فَقِيلَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ: بِنَاءً عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ اخْتَارَهَا مُتَأَخِّرُو أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَصْحَابِهِ وَقِيلَ: عَلَيْهِمْ مَهْرُ الْمِثْلِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَقِيلَ: عَلَيْهِمْ الْمُسَمَّى وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَهُوَ أَشْهَرُ فِي نُصُوصِ أَحْمَد وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا إذَا أَفْسَدَ نِكَاحَ امْرَأَتِهِ بِرَضَاعِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمُسَمَّى وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دَلَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} وَقَوْلِهِ: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} وَهَذَا الْمُسَمَّى دُونَ مَهْرِ الْمِثْلِ وَكَذَلِكَ {أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَوْجَ الْمُخْتَلَعَةِ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَاهَا} وَلَمْ يَأْمُرْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَهُوَ إنَّمَا يَأْمُرُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ بِالْعَدْلِ وَهُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَقِصَّةُ عُمَرَ تَنْبَنِي عَلَى هَذَا. وَالْقَوْلُ بِوَقْفِ الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَاجَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ثَبَتَ

ص: 579

ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ ذَلِكَ مِثْلَ قِصَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي صَدَقَتِهِ عَنْ سَيِّدِ الْجَارِيَةِ الَّتِي ابْتَاعَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ لَمَّا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهُ وَكَتَصَدُّقِ الْغَالِّ بِالْمَالِ الْمَغْلُولِ لَمَّا تَعَذَّرَ قِسْمَتُهُ بَيْنَ الْجَيْشِ؛ وَإِقْرَارِ مُعَاوِيَةَ عَلَى ذَلِكَ. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَضَايَا مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ بِوَقْفِ الْعُقُودِ مُطْلَقًا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْحُجَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إضْرَارًا أَصْلًا بَلْ صَلَاحٌ بِلَا فَسَادٍ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَرَى أَنْ يَشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ أَوْ يَبِيعَ لَهُ أَوْ يَسْتَأْجِرَ لَهُ أَوْ يُوجِبَ لَهُ ثُمَّ يُشَاوِرَهُ فَإِنْ رَضِيَ وَإِلَّا فَلَمْ يُصِبْهُ مَا يَضُرُّهُ وَكَذَلِكَ فِي تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ فَالْقَوْلُ بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَمَسْأَلَةُ الْمَفْقُودِ هِيَ مِمَّا يَقِفُ فِيهَا تَعْرِيفُ الْإِمَامِ عَلَى إذْنِ الزَّوْجِ إذَا جَاءَ كَمَا يَقِفُ تَصَرُّفُ الْمُلْتَقِطِ عَلَى إذْنِ الْمَالِكِ إذَا جَاءَ وَالْقَوْلُ بِرَدِّ الْمَهْرِ إلَيْهِ لِخُرُوجِ امْرَأَتِهِ مِنْ مِلْكِهِ وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الْمَهْرِ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ: هَلْ هُوَ مَا أَعْطَاهَا هُوَ أَوْ مَا أَعْطَاهَا الثَّانِي؟ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ بِمَهْرِهِ هُوَ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ وَأَمَّا الْمَهْرُ الَّذِي أَصْدَقَهَا الثَّانِي فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ. وَإِذَا ضَمِنَ الْأَوَّلُ لِلثَّانِيَ الْمَهْرَ فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ:

ص: 580

إحْدَاهُمَا: يَرْجِعُ لِأَنَّهَا الَّتِي أَخَذَتْهُ وَالثَّانِي قَدْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ الَّذِي عَلَيْهِ فَلَا يَضْمَنُ مَهْرَيْنِ؛ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا لَمَّا اخْتَارَتْ فِرَاقَ الْأَوَّلِ وَنِكَاحَ الثَّانِي فَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ الْمَهْرَ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْهَا. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَالْأَوَّلُ يَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ لِخُرُوجِ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِهِ فَكَانَ عَلَى الثَّانِي مَهْرَانِ. وَهَذَا الْمَأْثُورُ عَنْ عُمَرَ فِي " مَسْأَلَةِ الْمَفْقُودِ " هُوَ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَقْوَالِ عَنْ الْقِيَاسِ حَتَّى قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ مَا قَالَ وَهُوَ مَعَ هَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَجْرَاهَا عَلَى الْقِيَاسِ وَكُلُّ قَوْلٍ قِيلَ سِوَاهُ فَهُوَ خَطَأٌ فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا تُعَادُ إلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ لَا يَخْتَارُهَا وَلَا يُرِيدُهَا وَقَدْ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا تَفْرِيقًا سَائِغًا فِي الشَّرْعِ وَأَجَازَ هُوَ ذَلِكَ التَّفْرِيقَ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدَهُ فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ لِلزَّوْجِ فَإِذَا أَجَازَ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ زَالَ الْمَحْذُورُ. وَأَمَّا كَوْنُهَا زَوْجَةَ الثَّانِي بِكُلِّ حَالٍ مَعَ ظُهُورِ زَوْجِهَا وَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا فَعَلَ فَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَمْ يُفَارِقْ امْرَأَتَهُ وَإِنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَهُوَ يَطْلُبُ امْرَأَتَهُ فَكَيْفَ يُحَالُ بَيْنَهُمَا؟ وَهُوَ لَوْ طَلَبَ مَالَهُ أَوْ بَدَلَهُ رُدَّ إلَيْهِ فَكَيْفَ لَا تُرَدُّ إلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَأَهْلُهُ

ص: 581

أَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ وَإِنْ قِيلَ: تَعَلَّقَ حَقُّ الثَّانِي بِهَا قِيلَ: حَقُّهُ سَابِقٌ عَلَى حَقِّ الثَّانِي وَقَدْ ظَهَرَ انْتِقَاضُ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ اسْتَحَقَّ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ وَمَا الْمُوجِبُ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الثَّانِي دُونَ حَقِّ الْأَوَّلِ. فَالصَّوَابُ مَا قَضَى بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَإِذَا ظَهَرَ صَوَابُ الصَّحَابَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي خَالَفَهُمْ فِيهَا مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَلَأَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ مَعَهُمْ فِيمَا وَافَقَهُمْ فِيهِ هَؤُلَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَقَدْ تَأَمَّلْت مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا شَاءَ اللَّهُ فَرَأَيْت الصَّحَابَةَ أَفْقَهَ الْأُمَّةِ وَأَعْلَمَهَا وَاعْتُبِرَ هَذَا بِمَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بِالنَّذْرِ وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَسَائِلِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنْت فِيمَا كَتَبْته أَنَّ الْمَنْقُولَ فِيهَا عَنْ الصَّحَابَةِ هُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ قَضَاءً وَقِيَاسًا وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ وَكُلُّ قَوْلٍ سِوَى ذَلِكَ تَنَاقُضٌ فِي الْقِيَاسِ مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ. وَكَذَلِكَ فِي مَسَائِلِ غَيْرِ هَذِهِ مِثْلَ مَسْأَلَةِ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ وَمَسْأَلَةِ مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ. وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْمَسَائِلِ لَمْ أَجِدْ أَجْوَدَ الْأَقْوَالِ فِيهَا إلَّا الْأَقْوَالَ الْمَنْقُولَةَ عَنْ الصَّحَابَةِ.

ص: 582

وَإِلَى سَاعَتِي هَذِهِ مَا عَلِمْت قَوْلًا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ إلَّا وَكَانَ الْقِيَاسُ مَعَهُ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِصَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِأَسْرَارِ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدِهِ؛ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَحَاسِنِ الَّتِي تَفُوقُ التَّعْدَادَ؛ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ؛ وَمَا فِيهَا مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالرَّحْمَةِ السَّابِغَةِ؛ وَالْعَدْلِ التَّامِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

وَسُئِلَ رحمه الله: (*)

هَلْ يَسُوغُ تَقْلِيدُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ: كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَقَدْ قَالَ عَنْهُمْ رَجُلٌ - أَعْنِي هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ الْمَذْكُورِينَ - هَؤُلَاءِ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِمْ. فَصَاحِبُ هَذَا الْكَلَامِ مَا حُكْمُهُ؟.

فَأَجَابَ: وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ الْمَذْكُورُونَ فَمِنْ سَادَاتِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الثَّوْرِيَّ إمَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَهُوَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ أَجَلّ مِنْ أَقْرَانِهِ كَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَلَهُ مَذْهَبٌ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ بِأَرْضِ خُرَاسَانَ. وَالْأَوْزَاعِيُّ إمَامُ أَهْلِ الشَّامِ وَمَا زَالُوا عَلَى مَذْهَبِهِ إلَى الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ بَلْ أَهْلُ الْمَغْرِبِ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ إلَيْهِمْ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ هُوَ شَيْخُ أَبِي حَنِيفَةَ.

(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 172):

هنا أمران:

الأول: أن هذا الجواب مستل من سؤال أطول مذكور في: 23/ 393 - 400.

الثاني: أن أصل السؤال كان عن صلاة الفذ خلف الصف، وهذا ما يبين بعض ما يلتبس هنا، كقوله: 20/ 584: (ومع هذا فهذا القول هو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهما. ومذهبه باق إلى اليوم وهو مذهب داود بن على وأصحابه. ومذهبهم باق إلى اليوم فلم يجمع الناس اليوم على خلاف هذا القول ; بل القائلون به كثير في المشرق والمغرب).

فالإشارة في قوله (فهذا الفعل) يعود إلى إبطال صلاة المنفرد خلف الصف.

ص: 583

وَمَعَ هَذَا فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمَا. وَمَذْهَبُهُ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ. وَمَذْهَبُهُمْ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ فَلَمْ يَجْمَعْ النَّاسُ الْيَوْمَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ؛ بَلْ الْقَائِلُونَ بِهِ كَثِيرٌ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرْقٌ فِي الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ بَيْنَ شَخْصٍ وَشَخْصٍ. فَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِي وَالثَّوْرِيُّ: هَؤُلَاءِ أَئِمَّةٌ فِي زَمَانِهِمْ وَتَقْلِيدُ كُلٍّ مِنْهُمْ كَتَقْلِيدِ الْآخَرِ؛ لَا يَقُولُ مُسْلِمٌ إنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ هَذَا دُونَ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَقْلِيدِ أَحَدِ هَؤُلَاءِ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّمَا يَمْنَعُهُ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَنْ يَعْرِفُ مَذَاهِبَهُمْ وَتَقْلِيدُ الْمَيِّتِ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ. فَمَنْ مَنَعَهُ قَالَ هَؤُلَاءِ مَوْتَى وَمَنْ سَوَّغَهُ قَالَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَحْيَاءِ مَنْ يَعْرِفُ قَوْلَ الْمَيِّتِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: الْإِجْمَاعُ الْيَوْمَ قَدْ انْعَقَدَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ وَيَنْبَنِي ذَلِكَ عَلَى مَسْأَلَةٍ مَعْرُوفَةٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ مَثَلًا أَوْ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ إذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ أَوْ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِهِمَا فَهَلْ يَكُونُ هَذَا إجْمَاعًا يَرْفَعُ ذَلِكَ الْخِلَافَ؟ وَفِي الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ مَعَ إجْمَاعِ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي لَا يَسُوغُ الْأَخْذُ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ وَاعْتَقَدَ أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ يُرَكَّبُ مِنْ هَذَيْنِ

ص: 584

الِاعْتِقَادَيْنِ الْمَنْعُ. وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْخِلَافَ الْقَدِيمَ حُكْمُهُ بَاقٍ؛ لِأَنَّ الْأَقْوَالَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ قَائِلِهَا: فَإِنَّهُ يَسُوغُ الذَّهَابُ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لِلْمُجْتَهِدِ الَّذِي وَافَقَ اجْتِهَادَهُ وَأَمَّا التَّقْلِيدُ فَيَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ وَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أَيْضًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي يَقُولُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ أَوْ غَيْرُهُمْ قَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبَاقِيَةُ مَذَاهِبُهُمْ فَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُ مُؤَيَّدٌ بِمُوَافَقَةِ هَؤُلَاءِ وَيَعْتَضِدُ بِهِ وَيُقَابِلُ بِهَؤُلَاءِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ أَقْرَانِهِمْ: فَيُقَابِلُ بِالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا؛ إذْ الْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِي وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ قَوْلُ هَذَا هُوَ صَوَابٌ دُونَ هَذَا إلَّا بِحُجَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْعِشْرْينَ

ص: 585