المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الْجُزْءُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ كِتَابُ الْفِقْهِ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ: الْطَّهَارَةُ بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌بَابُ الْمِيَاهِ وَقَالَ - مجموع الفتاوى - جـ ٢١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

الْجُزْءُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ

كِتَابُ الْفِقْهِ

الْجُزْءُ الْأَوَّلُ: الْطَّهَارَةُ

بسم الله الرحمن الرحيم

‌بَابُ الْمِيَاهِ

وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْقُدْوَةُ رَبَّانِيُّ الْأُمَّةِ وَمُحْيِي السُّنَّةِ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ؛ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامِ الْمُهْتَدِينَ وَعَلَى آلِهِ أَجْمَعِينَ.

فَصْلٌ:

أَمَّا الْعِبَادَاتُ: فَأَعْظَمُهَا الصَّلَاةُ. وَالنَّاسُ: إمَّا أَنْ يَبْتَدِئُوا مَسَائِلَهَا بِالطُّهُورِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ} كَمَا رَتَّبَهُ أَكْثَرُهُمْ وَإِمَّا بِالْمَوَاقِيتِ الَّتِي تَجِبُ بِهَا الصَّلَاةُ كَمَا فَعَلَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ.

ص: 5

فَأَمَّا الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ فَنَوْعَانِ: مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ - فِي اللِّبَاسِ وَنَحْوِهِ - تَابِعَانِ لِلْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ. وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ الْجَامِعِ: وَسَطٌ بَيْنَ مَذْهَبِ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْحِجَازِيِّينَ فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ - مَالِكًا وَغَيْرَهُ - يُحَرِّمُونَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ كُلَّ مُسْكِرٍ كَمَا صَحَّتْ بِذَلِكَ النُّصُوصُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَلَيْسُوا فِي الْأَطْعِمَةِ كَذَلِكَ بَلْ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ فِيهَا عَدَمُ التَّحْرِيمِ فَيُبِيحُونَ الطُّيُورَ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَاتِ الْمَخَالِبِ وَيَكْرَهُونَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَفِي تَحْرِيمِهَا عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ. وَكَذَلِكَ فِي الْحَشَرَاتِ عَنْهُ: هَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ؟ رِوَايَتَانِ. وَكَذَلِكَ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ أَشَدَّ مِنْ كَرَاهَةِ السِّبَاعِ وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ بِالسُّنَّةِ دُونَ تَحْرِيمِ الْحَمِيرِ وَالْخَيْلُ أَيْضًا يَكْرَهُهَا لَكِنْ دُونَ كَرَاهَةِ السِّبَاعِ. وَأَهْلُ الْكُوفَةِ فِي بَاب الْأَشْرِبَةِ مُخَالِفُونَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلِسَائِرِ النَّاسِ لَيْسَتْ الْخَمْرُ عِنْدَهُمْ إلَّا مِنْ الْعِنَبِ وَلَا يُحَرِّمُونَ الْقَلِيلَ مِنْ الْمُسْكِرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَمْرًا مِنْ الْعِنَبِ أَوْ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ أَوْ الزَّبِيبِ النِّيءِ أَوْ يَكُونَ مِنْ مَطْبُوخِ عَصِيرِ الْعِنَبِ إذَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلْثَاهُ. وَهُمْ فِي

ص: 6

الْأَطْعِمَةِ فِي غَايَةِ التَّحْرِيمِ حَتَّى حَرَّمُوا الْخَيْلَ وَالضِّبَابَ وَقِيلَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَكْرَهُ الضَّبَّ وَالضِّبَاعَ وَنَحْوَهَا. فَأَخَذَ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي الْأَشْرِبَةِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ مُوَافَقَةً لِلسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فِي التَّحْرِيمِ وَزَادُوا عَلَيْهِمْ فِي مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ. وَصَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَد كِتَابًا كَبِيرًا فِي الْأَشْرِبَةِ مَا عَلِمْت أَحَدًا صَنَّفَ أَكْبَرَ مِنْهُ وَكِتَابًا أَصْغَرَ مِنْهُ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ فِي الْعِرَاقِ هَذِهِ السُّنَّةَ حَتَّى إنَّهُ دَخَلَ بَعْضُهُمْ بَغْدَادَ فَقَالَ: هَلْ فِيهَا مَنْ يُحَرِّمُ النَّبِيذَ؟ فَقَالُوا: لَا إلَّا أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَأَخَذَ فِيهِ بِعَامَّةِ السُّنَّةِ حَتَّى إنَّهُ حَرَّمَ الْعَصِيرَ وَالنَّبِيذَ بَعْدَ ثَلَاثٍ. وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ شِدَّةُ مُتَابَعَةٍ لِلسُّنَّةِ الْمَأْثُورَةِ فِي ذَلِكَ. لِأَنَّ الثَّلَاثَ مَظِنَّةُ ظُهُورِ الشِّدَّةِ غَالِبًا. وَالْحِكْمَةُ هُنَا: مِمَّا تَخْفَى فَأُقِيمَتْ الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْحِكْمَةِ حَتَّى إنَّهُ كَرِهَ الْخَلِيطَيْنِ إمَّا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ أَوْ تَحْرِيمٍ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَحَتَّى اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ: هَلْ هُوَ مُبَاحٌ؛ أَوْ مُحَرَّمٌ؛ أَوْ مَكْرُوهٌ؟ لِأَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَأَحَادِيثَ النَّسْخِ قَلِيلَةٌ. فَاخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ: هَلْ تُنْسَخُ تِلْكَ الْأَخْبَارُ الْمُسْتَفِيضَةُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا أَخْبَارُ آحَادٍ وَلَمْ يُخَرِّجْ الْبُخَارِيُّ مِنْهَا شَيْئًا؟

ص: 7

وَأَخَذُوا فِي الْأَطْعِمَةِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ؛ لِصِحَّةِ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ؛ وَتَحْرِيمِ لُحُومِ الْحُمُرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْكَرَ عَلَى مَنْ تَمَسَّكَ فِي هَذَا الْبَابِ بِعَدَمِ وُجُودِ نَصِّ التَّحْرِيمِ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ: {لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْت بِهِ أَوْ نَهَيْت عَنْهُ فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هَذَا الْقُرْآنُ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ أَحْلَلْنَاهُ؛ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ. أَلَا وَإِنِّي أُوتِيت الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى} وَهَذَا الْمَعْنَى مَحْفُوظٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.

وَعَلِمُوا أَنَّ مَا حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا هُوَ زِيَادَةُ تَحْرِيمٍ لَيْسَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ إلَّا الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَعَدَمُ التَّحْرِيمِ لَيْسَ تَحْلِيلًا وَإِنَّمَا هُوَ بَقَاءٌ لِلْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ وَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ كَمَا ظَنَّهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهَا مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا وَإِنَّمَا سُورَةُ الْمَائِدَةِ هِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِيهَا: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} فَعُلِمَ أَنَّ عَدَمَ التَّحْرِيمِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ لَيْسَ تَحْلِيلًا وَإِنَّمَا هُوَ عَفْوٌ. فَتَحْرِيمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَافِعٌ

ص: 8

لِلْعَفْوِ لَيْسَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ. لَكِنْ لَمْ يُوَافِقْ أَهْلُ الْحَدِيثِ الْكُوفِيِّينَ عَلَى جَمِيعِ مَا حَرَّمُوهُ بَلْ أَحَلُّوا الْخَيْلَ لِصِحَّةِ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَحْلِيلِهَا يَوْمَ خَيْبَرَ وَبِأَنَّهُمْ ذَبَحُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا وَأَكَلُوا لَحْمَهُ. وَأَحَلُّوا الضَّبَّ لِصِحَّةِ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ قَالَ: {لَا أُحَرِّمُهُ} وَبِأَنَّهُ أُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ أَكَلَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ فِيهِ الرُّخْصَةُ. فَنَقَصُوا عَمَّا حَرَّمَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ كَمَا زَادُوا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْأَشْرِبَةِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ أَكْثَرُ مِنْ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَطْعِمَةِ. وَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ سَلَفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي اسْتِحْلَالِ مَا أَحَلُّوهُ أَكْثَرُ مِنْ سَلَفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي اسْتِحْلَالِ الْمُسْكِرِ. وَالْمَفَاسِدُ النَّاشِئَةُ مِنْ الْمُسْكِرِ: أَعْظَمُ مِنْ مَفَاسِدِ خَبَائِثِ الْأَطْعِمَةِ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ الْخَمْرُ " أُمَّ الْخَبَائِثِ " كَمَا سَمَّاهَا عُثْمَانُ بْنُ عفان رضي الله عنه وَغَيْرُهُ وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِجَلْدِ شَارِبِهَا وَفَعَلَهُ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ دُونَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَحُدَّ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا مَا بَلَغَنَا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بَلْ قَدْ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 9

بِقَتْلِ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا صَحَّ عَنْهُ - عَنْ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ وَأَمَرَ بِشَقِّ ظُرُوفِهَا وَكَسْرِ دِنَانِهَا وَإِنْ كَانَ قَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ مِنْ أَحْمَد: هَلْ هَذَا بَاقٍ أَوْ مَنْسُوخٌ؟ وَلَمَّا كَانَ اللَّهُ سبحانه وتعالى إنَّمَا حَرَّمَ الْخَبَائِثَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ: إمَّا فِي الْعُقُولِ؛ أَوْ الْأَخْلَاقِ؛ أَوْ غَيْرِهَا: ظَهَرَ عَلَى الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا بَعْضَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ أَوْ الْأَشْرِبَةِ مِنْ النَّقْصِ بِقَدْرِ مَا فِيهَا مِنْ الْمَفْسَدَةِ وَلَوْلَا التَّأْوِيلُ لَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ.

ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَغَيْرَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ زَادُوا فِي مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ عَلَى غَيْرِهِمْ؛ بِأَنْ أَمَرُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِمَّا يُزِيلُ ضَرَرَ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ مِثْلَ: لُحُومِ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا حَلَالٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَكِنْ فِيهَا مِنْ الْقُوَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: {إنَّهَا جِنٌّ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ} " وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: {الْغَضَبُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ} فَأَمَرَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ الْأَمْرِ الْعَارِضِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَأَكْلُ لَحْمِهَا يُورِثُ قُوَّةً شَيْطَانِيَّةً تَزُولُ بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِهَا كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَالْبَرَاءِ بْنِ

ص: 10

عَازِبٍ وأسيد بْنِ الحضير وَذِي الْغُرَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَقَالَ مَرَّةً: {تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلَا تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ وَصَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ} فَمَنْ تَوَضَّأَ مِنْ لُحُومِهَا انْدَفَعَ عَنْهُ مَا يُصِيبُ الْمُدْمِنِينَ لِأَكْلِهَا مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ كَالْأَعْرَابِ: مِنْ الْحِقْدِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ؛ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ الْمُخَرَّجِ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: {إنَّ الْغِلْظَةَ وَقَسْوَةَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَإِنَّ السَّكِينَةَ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ} . وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَد: هَلْ يُتَوَضَّأُ مِنْ سَائِرِ اللُّحُومِ الْمُحَرَّمَةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُخْتَصٌّ بِهَا أَوْ أَنَّ الْمُحَرَّمَ أَوْلَى بِالتَّوَضُّؤِ مِنْهُ مِنْ الْمُبَاحِ الَّذِي فِيهِ نَوْعُ مَضَرَّةٍ. وَسَائِرُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَافَقُوا أَحْمَد عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَعَلِمُوا أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِتَرْكِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ فَقَدْ أَبْعَدَ؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ فِي الْحَدِيثِ بَيْنَ اللَّحْمَيْنِ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهُمَا لَا الْجَامِعُ. وَكَذَلِكَ قَالُوا بِمَا اقْتَضَاهُ الْحَدِيثُ: مِنْ أَنَّهُ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ نِيئًا وَمَطْبُوخًا وَلِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ بَعْدَ النَّسْخِ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي لَحْمِ الْغَنَمِ: {وَإِنْ شِئْت فَلَا تَتَوَضَّأْ} وَلِأَنَّ النَّسْخَ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِالتَّرْكِ

ص: 11

مِنْ لَحْمِ غَنَمٍ فَلَا عُمُومَ لَهُ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ جَابِرٍ: {كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ: تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ} فَإِنَّهُ رَآهُ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ رَآهُ أَكَلَ لَحْمَ غَنَمٍ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صِيغَةٌ عَامَّةٌ فِي ذَلِكَ وَلَوْ نَقَلَهَا لَكَانَ فِيهِ نَسْخٌ لِلْخَاصِّ بِالْعَامِّ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ شُمُولُهُ لِذَلِكَ الْخَاصِّ عَيْنًا وَهُوَ أَصْلٌ لَا يَقُولُ بِهِ أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ. هَذَا مَعَ أَنَّ أَحَادِيثَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بَلْ قَدْ قِيلَ: إنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ وَلَكِنَّ أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد: أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْهَا مُسْتَحَبٌّ؛ لَيْسَ بِوَاجِبِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: لَا يُسْتَحَبُّ.

فَلَمَّا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِتَجَنُّبِ الْخَبَائِثِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالتَّطَهُّرِ مِنْهَا: كَذَلِكَ جَاءَتْ بِتَجَنُّبِ الْخَبَائِثِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالتَّطَهُّرِ مِنْهَا. حَتَّى قَالَ صلى الله عليه وسلم {إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخَرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ} وَقَالَ: {إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ؟} فَعَلَّلَ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ بِمَبِيتِ الشَّيْطَانِ عَلَى خَيْشُومِهِ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلطَّهَارَةِ مِنْ غَيْرِ النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّبَبَ لِغَسْلِ يَدِ الْقَائِمِ مَنْ نَوْمِ اللَّيْلِ.

ص: 12

وَكَذَلِكَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ؛ وَقَالَ: " إنَّهَا جِنٌّ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ " كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ} وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ: {أَنَّ الْحَمَّامَ بَيْتُ الشَّيْطَانِ} وَثَبَتَ عَنْهُ: أَنَّهُ لَمَّا ارْتَحَلَ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي نَامُوا فِيهِ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ قَالَ: {إنَّهُ مَكَانٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ} . فَعَلَّلَ صلى الله عليه وسلم الْأَمَاكِنَ بِالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ كَمَا يُعَلَّلُ بِالْأَجْسَامِ الْخَبِيثَةِ وَبِهَذَا يَقُولُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَمَذْهَبُهُ الظَّاهِرُ عَنْهُ: أَنَّ مَا كَانَ مَأْوًى لِلشَّيَاطِينِ - كَالْمَعَاطِنِ وَالْحَمَّامَاتِ - حَرُمَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ. وَمَا عَرَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ - كَالْمَكَانِ الَّذِي نَامُوا فِيهِ عَنْ الصَّلَاةِ - كُرِهَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ. وَالْفُقَهَاءُ الَّذِينَ لَمْ يَنْهَوْا عَنْ ذَلِكَ: إمَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا هَذِهِ النُّصُوصَ سَمَاعًا تَثْبُتُ بِهِ عِنْدَهُمْ؛ أَوْ سَمِعُوهَا وَلَمْ يَعْرِفُوا الْعِلَّةَ: فَاسْتَبْعَدُوا ذَلِكَ عَنْ الْقِيَاسِ فَتَأَوَّلُوهُ. وَأَمَّا مَنْ نَقَلَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَوْ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ خِلَافَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ؛ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَضَّئُونَ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ: فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ ذَلِكَ لِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ: " أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَضَّئُونَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ " وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: أَنَّ أَكْلَ مَا مَسَّ النَّارَ لَيْسَ هُوَ سَبَبًا عِنْدَهُمْ لِوُجُوبِ

ص: 13

الْوُضُوءِ وَاَلَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ لَيْسَ سَبَبُهُ مَسَّ النَّارِ كَمَا يُقَالُ: كَانَ فُلَانٌ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ. وَإِنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ إذَا خَرَجَ مِنْهُ مَذْيٌ. وَمِنْ تَمَامِ هَذَا: أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِمَا: أَنَّهُ {يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ وَالْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ} وَفَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ: بِأَنَّ {الْأَسْوَدَ شَيْطَانٌ} وَصَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ الشَّيْطَانَ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ صَلَاتِي فَأَخَذْته فَأَرَدْت أَنْ أَرْبُطَهُ إلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ} - الْحَدِيثَ فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ. فَهَذَا أَيْضًا يَقْتَضِي أَنَّ مُرُورَ الشَّيْطَانِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ؛ فَلِذَلِكَ أَخَذَ أَحْمَد بِذَلِكَ فِي الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ؛ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ؛ لِأَنَّهُ عَارَضَ هَذَا الْحَدِيثَ حَدِيثُ عَائِشَةَ لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَهِيَ فِي قِبْلَتِهِ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لَمَّا اجْتَازَ عَلَى أَتَانِهِ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ بِمِنًى مَعَ أَنَّ الْمُتَوَجَّهَ: أَنَّ الْجَمِيعَ يَقْطَعُ وَأَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَارِّ وَاللَّابِثِ كَمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الرَّجُلِ فِي كَرَاهَةِ مُرُورِهِ دُونَ لُبْثِهِ فِي الْقِبْلَةِ إذَا اسْتَدْبَرَهُ الْمُصَلِّي وَلَمْ يَكُنْ مُتَحَدِّثًا

ص: 14

وَأَنَّ مُرُورَهُ يُنْقِصُ ثَوَابَ الصَّلَاةِ دُونَ اللُّبْثِ. وَاخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي الشَّيْطَانِ الْجِنِّيِّ إذَا عُلِمَ بِمُرُورِهِ: هَلْ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ؟ وَالْأَوْجَهُ: أَنَّهُ يَقْطَعُهَا بِتَعْلِيلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {يَقْطَعَ صَلَاتِي} لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ فِي الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ مِنْ الْجِنِّ وَشَيَاطِينِ الدَّوَابِّ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ فِي أَمْكِنَتِهِمْ وَمَمَرِّهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ: قَوِيَّةٌ فِي الدَّلِيلِ نَصًّا وَقِيَاسًا وَلِذَلِكَ أَخَذَ بِهَا فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَلَكِنَّ مَدْرَكَ عِلْمِهَا أَثَرًا هُوَ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ. وَمُدْرِكُهُ قِيَاسًا: هُوَ فِي بَاطِنِ الشَّرِيعَةِ وَظَاهِرِهَا دُونَ التَّفَقُّهِ فِي ظَاهِرِهَا فَقَطْ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَئِمَّةِ مَنْ اسْتَعْمَلَ هَذِهِ السُّنَنَ الصَّحِيحَةَ النَّافِعَةَ لَكَانَ وَصْمَةً عَلَى الْأُمَّةِ تَرْكُ مِثْلِ ذَلِكَ وَالْأَخْذُ بِمَا لَيْسَ بِمِثْلِهِ لَا أَثَرًا وَلَا رَأْيًا. وَلَقَدْ كَانَ أَحْمَد رحمه الله يَعْجَبُ مِمَّنْ يَدَعُ حَدِيثَ {الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ} مَعَ صِحَّتِهِ الَّتِي لَا شَكَّ فِيهَا وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ لَهُ وَيَتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ مَعَ تَعَارُضِ الْأَحَادِيثِ فِيهِ وَأَنَّ أَسَانِيدَهَا لَيْسَتْ كَأَحَادِيثِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلِذَلِكَ أَعْرَضَ عَنْهَا الشَّيْخَانِ: الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَإِنْ كَانَ أَحْمَد عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْهُ يُرَجِّحُ أَحَادِيثَ الْوُضُوءِ

ص: 15

مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ لَكِنَّ غَرَضَهُ: أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ أَقْوَى فِي الْحُجَّةِ مِنْ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ. وَقَدْ ذَكَرْت مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَظْهَرُ فِي الْقِيَاسِ مِنْهُ فَإِنَّ تَأْثِيرَ الْمُخَالَطَةِ أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِ الْمُلَامَسَةِ وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ نَجِسٍ مُحَرَّمَ الْأَكْلِ وَلَيْسَ كُلُّ مُحَرَّمِ الْأَكْلِ نَجِسًا. وَكَانَ أَحْمَد يَعْجَبُ أَيْضًا مِمَّنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَيَتَوَضَّأُ مِنْ الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ الْقِيَاسِ وَالْأَثَرِ وَالْأَثَرُ فِيهِ مُرْسَلٌ قَدْ ضَعَّفَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ الصَّحَابَةِ مَا يُخَالِفُهُ. وَاَلَّذِينَ خَالَفُوا أَحَادِيثَ الْقَطْعِ لِلصَّلَاةِ لَمْ يُعَارِضُوهَا إلَّا بِتَضْعِيفِ بَعْضِهِمْ وَهُوَ تَضْعِيفُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْحَدِيثَ كَمَا ذَكَرَ أَصْحَابُهُ أَوْ بِأَنْ عَارَضُوهَا بِرِوَايَاتِ ضَعِيفَةٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ} أَوْ بِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ مُخْتَلِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. أَوْ بِرَأْيٍ ضَعِيفٍ لَوْ صَحَّ لَمْ يُقَاوِمْ هَذِهِ الْحُجَّةَ خُصُوصًا مَذْهَبُ أَحْمَد. فَهَذَا أَصْلٌ فِي الْخَبَائِثِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ.

وَأَصْلٌ آخَرُ وَهُوَ: أَنَّ الْكُوفِيِّينَ قَدْ عُرِفَ تَخْفِيفُهُمْ فِي الْعَفْوِ

ص: 16

عَنْ النَّجَاسَةِ فَيَعْفُونَ مِنْ الْمُغَلَّظَةِ: عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ البغلي وَمِنْ الْمُخَفَّفَةِ: عَنْ رُبُعِ الْمَحَلِّ الْمُتَنَجِّسِ. وَالشَّافِعِيُّ بِإِزَائِهِمْ فِي ذَلِكَ فَلَا يَعْفُو عَنْ النَّجَاسَاتِ إلَّا عَنْ أَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ؛ وَوَنِيمِ الذُّبَابِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَعْفُو عَنْ دَمٍ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ إلَّا عَنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَنَحْوِهِ مَعَ أَنَّهُ يُنَجِّسُ أَرْوَاثَ الْبَهَائِمِ وَأَبْوَالَهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ فِي النَّجَاسَاتِ نَوْعًا وَقَدْرًا أَشَدُّ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَمَالِكٌ مُتَوَسِّطٌ فِي نَوْعِ النَّجَاسَةِ وَفِي قَدْرِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ بِنَجَاسَةِ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَيَعْفُو عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ وَغَيْرِهِ. وَأَحْمَد كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مُتَوَسِّطٌ فِي النَّجَاسَاتِ فَلَا يُنَجِّسُ الْأَرْوَاثَ وَالْأَبْوَالَ وَيَعْفُو عَنْ الْيَسِيرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ الَّتِي يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا حَتَّى إنَّهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ يَعْفُو عَنْ يَسِيرِ رَوْثِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَبَوْلِ الْخُفَّاشِ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بَلْ يَعْفُو فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْيَسِيرِ مِنْ الرَّوْثِ وَالْبَوْلِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُوجِبُ اجْتِنَابَ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ عَنْهُ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَلَوْ صَلَّى بِهَا جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ؛ كَقَوْلِ مَالِكٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ

ص: 17

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْأَذَى الَّذِي فِيهِمَا وَلَمْ يَسْتَقْبِلْ الصَّلَاةَ وَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ فَوَجَدَ فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً أَمَرَ بِغَسْلِهَا وَلَمْ يُعِدْ الصَّلَاةَ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: تَجِبُ الْإِعَادَةُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَأَصْلٌ آخَرُ فِي إزَالَتِهَا فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: تُزَالُ بِكُلِّ مُزِيلٍ مِنْ الْمَائِعَاتِ وَالْجَامِدَاتِ. وَالشَّافِعِيُّ لَا يَرَى إزَالَتَهَا إلَّا بِالْمَاءِ حَتَّى مَا يُصِيبُ أَسْفَلَ الْخُفِّ وَالْحِذَاءِ وَالذَّيْلِ: لَا يُجْزِئُ فِيهِ إلَّا الْغَسْلُ بِالْمَاءِ؛ وَحَتَّى نَجَاسَةَ الْأَرْضِ. وَمَذْهَبُ أَحْمَد فِيهِ مُتَوَسِّطٌ؛ فَكُلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ قَالَ بِهِ: يَجُوزُ - فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - مَسْحُهَا بِالتُّرَابِ وَنَحْوِهِ مِنْ النَّعْلِ وَنَحْوِهِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ. كَمَا يَجُوزُ مَسْحُهَا مِنْ السَّبِيلَيْنِ؛ فَإِنَّ السَّبِيلَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ كَأَسْفَلِ الْخُفِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الثِّيَابِ فِي تَكَرُّرِ النَّجَاسَةِ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي أَسْفَلِ الذَّيْلِ: هَلْ هُوَ كَأَسْفَلِ الْخُفِّ؟ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَاسْتِوَاؤُهَا لِلْأَثَرِ فِي ذَلِكَ. وَالْقِيَاسُ: إزَالَتُهَا عَنْ الْأَرْضِ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ. . . (1) يَجِبُ التَّوَسُّطُ فِيهِ. فَإِنَّ التَّشْدِيدَ فِي النَّجَاسَاتِ جِنْسًا وَقَدَرًا هُوَ دِينُ الْيَهُودِ وَالتَّسَاهُلُ

(1)

بياض بالأصل

ص: 18

هُوَ دِينُ النَّصَارَى وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْوَسَطُ. فَكُلُّ قَوْلٍ يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. وَأَصْلٌ آخَرُ: وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ كَاخْتِلَاطِ الْمَائِعِ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ فَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ فِيهِ مِنْ الشِّدَّةِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ. وَسِرُّ قَوْلِهِمْ: إلْحَاقُ الْمَاءِ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ؛ وَأَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي مَائِعٍ لَمْ يَكُنْ اسْتِعْمَالُهُ إلَّا بِاسْتِعْمَالِ الْخَبَثِ فَيَحْرُمُ الْجَمِيعُ مَعَ أَنَّ تَنْجِيسَ الْمَائِعِ غَيْرَ الْمَاءِ الْآثَارُ فِيهِ قَلِيلَةٌ. وَبِإِزَائِهِمْ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ فَإِنَّهُمْ - فِي الْمَشْهُورِ - لَا يُنَجِّسُونَ الْمَاءَ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَلَا يَمْنَعُونَ مِنْ الْمُسْتَعْمَلِ وَلَا غَيْرِهِ مُبَالَغَةً فِي طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ مَعَ فَرْقِهِمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ. وَلِأَحْمَدَ قَوْلٌ كَمَذْهَبِهِمْ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ التَّوَسُّطُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ.

ص: 19

وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْمَائِعَاتِ غَيْرَ الْمَاءِ: هَلْ يَلْحَقُ بِالْمَاءِ؛ أَوْ لَا يَلْحَقُ بِهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَاءِ وَغَيْرِ الْمَاءِ كَخَلِّ الْعِنَبِ؟ عَلَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ.

وَفِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِنْ التَّوَسُّطِ - أَثَرًا وَنَظَرًا - مَا لَا خَفَاءَ بِهِ مَعَ أَنَّ قَوْلَ أَحْمَد الْمُوَافِقَ لِقَوْلِ مَالِكٍ رَاجِحٌ فِي الدَّلِيلِ.

وَأَصْلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ لِلنَّاسِ فِي أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ الَّتِي لَا رُطُوبَةَ فِيهَا - كَالشَّعْرِ وَالظُّفْرِ وَالرِّيشِ - مَذَاهِبُ: هَلْ هُوَ طَاهِرٌ؛ أَوْ نَجِسٌ؟ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: نَجَاسَتُهَا مُطْلَقًا. كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَد؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ الْمَيْتَةِ. وَالثَّانِي: طَهَارَتُهَا مُطْلَقًا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِلنَّجَاسَةِ هُوَ الرُّطُوبَاتُ وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ الدَّمُ؛ وَلِهَذَا حُكِمَ بِطِهَارَةِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ فَمَا لَا رُطُوبَةَ فِيهِ مِنْ الْأَجْزَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ. وَالثَّالِثُ: نَجَاسَةُ مَا كَانَ فِيهِ حِسٌّ كَالْعَظْمِ؛ إلْحَاقًا لَهُ بِاللَّحْمِ الْيَابِسِ وَعَدَمُ نَجَاسَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا النَّمَاءُ كَالشَّعْرِ؛ إلْحَاقًا لَهُ بِالنَّبَاتِ.

وَأَصْلٌ آخَرُ: وَهُوَ طَهَارَةُ الْأَحْدَاثِ الَّتِي هِيَ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ. فَإِنَّ مَذْهَبَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ. اسْتَعْمَلُوا فِيهَا مِنْ السُّنَنِ مَا لَا يُوجَدُ لِغَيْرِهِمْ

ص: 20

وَيَكْفِي الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ اللِّبَاسِ وَالْحَوَائِلِ. فَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَد " كِتَابَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ " وَذَكَرَ فِيهِ مِنْ النُّصُوصِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْجَوْرَبَيْنِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ بَلْ عَلَى خُمُرِ النِّسَاءِ - كَمَا كَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرُهَا تَفْعَلُهُ. وَعَلَى الْقَلَانِسِ - كَمَا كَانَ أَبُو مُوسَى وَأَنَسٌ يَفْعَلَانِهِ: مَا إذَا تَأَمَّلَهُ الْعَالِمُ عَلِمَ فَضْلَ عِلْمِ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى غَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي ذَلِكَ اقْتِضَاءً ظَاهِرًا وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ عَنْهُ مَنْ تَوَقَّفَ مِنْ الْفُقَهَاءِ: لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِمَا بَلَغَهُمْ مِنْ الْأَثَرِ وَجَبُنُوا عَنْ الْقِيَاسِ وَرَعًا. وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ أَحْمَد فِيمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَأَحَادِيثِ الْمَسْحِ عَلَى الْعَمَائِمِ وَالْجَوْرَبَيْنِ وَالتَّوْقِيتِ فِي الْمَسْحِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَخُمُرِ النِّسَاءِ وَكَالْقَلَانِسِ الدَّنِيَّاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الرُّخْصَةِ الَّتِي تُشْبِهُ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ وَتُوَافِقُ الْآثَارَ الثَّابِتَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَأَوَّلَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ تَأْوِيلًا - مِثْلُ كَوْنِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ مَعَ بَعْضِ الرَّأْسِ هُوَ الْمُجْزِئَ وَنَحْوِ ذَلِكَ - لَمْ يَقِفْ عَلَى مَجْمُوعِ الْأَخْبَارِ وَإِلَّا فَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَجْمُوعِهَا أَفَادَتْهُ عِلْمًا يَقِينًا بِخِلَافِ ذَلِكَ.

ص: 21

وَأَصْلٌ آخَرُ فِي التَّيَمُّمِ: فَإِنَّ أَصَحَّ حَدِيثٍ فِيهِ: حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه الْمُصَرِّحُ بِأَنَّهُ يُجْزِئُ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَلَيْسَ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ يُعَارِضُهُ مِنْ جِنْسِهِ وَقَدْ أَخَذَ بِهِ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ. وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: يَجِبُ ضَرْبَتَانِ وَإِلَى الْمَرْفِقَيْنِ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ أَوْ ضَرْبَتَانِ إلَى الْكُوعَيْنِ. وَأَصْلٌ آخَرُ: فِي الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ فَإِنَّ مَسَائِلَ الِاسْتِحَاضَةِ مِنْ أَشْكَلِ أَبْوَابِ الطَّهَارَةِ. وَفِي الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثُ سُنَنٍ: سُنَّةٌ فِي الْمُعْتَادَةِ: أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى عَادَتِهَا وَسُنَّةٌ فِي الْمُمَيِّزَةِ: أَنَّهَا تَعْمَلُ بِالتَّمْيِيزِ وَسُنَّةٌ فِي الْمُتَحَيِّرَةِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا عَادَةٌ وَلَا تُمَيِّزُ: بِأَنَّهَا تَتَحَيَّضُ غَالِبَ عَادَاتِ النِّسَاءِ: سِتًّا أَوْ سَبْعًا وَأَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إنْ شَاءَتْ. فَأَمَّا السُّنَّتَانِ الأولتان فَفِي الصَّحِيحِ وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَحَدِيثُ حمنة بِنْتِ جَحْشٍ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ: وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَكَذَلِكَ قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ فِي سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ بَعْضَ مَعْنَاهُ. وَقَدْ اسْتَعْمَلَ أَحْمَد هَذِهِ السُّنَنَ الثَّلَاثَ فِي الْمُعْتَادَةِ الْمُمَيِّزَةِ وَالْمُتَحَيِّرَةِ. فَإِنْ اجْتَمَعَتْ الْعَادَةُ وَالتَّمْيِيزُ قُدِّمَ الْعَادَةُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا جَاءَ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ.

ص: 22

فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَعْتَبِرُ الْعَادَةَ إنْ كَانَتْ وَلَا يَعْتَبِرُ التَّمْيِيزَ وَلَا الْغَالِبَ. بَلْ إنْ لَمْ تَكُنْ عَادَةٌ إنْ كَانَتْ مُبْتَدِئَةً حَيَّضَهَا حَيْضَةَ الْأَكْثَرِ وَإِلَّا حَيْضَةَ الْأَقَلِّ. وَمَالِكٌ يَعْتَبِرُ التَّمْيِيزَ وَلَا يَعْتَبِرُ الْعَادَةَ وَلَا الْأَغْلَبَ فَإِنْ لَمْ يَعْتَبِرْ الْعَادَةَ وَلَا الْأَغْلَبَ فَلَا يُحَيِّضُهَا بَلْ تُصَلِّي أَبَدًا إلَّا فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَهَلْ تُحَيَّضُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ؛ أَوْ عَادَتَهَا وَتَسْتَظْهِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَالشَّافِعِيُّ يَسْتَعْمِلُ التَّمْيِيزَ وَالْعَادَةَ دُونَ الْأَغْلَبِ؛ فَإِنْ اجْتَمَعَ قَدَّمَ التَّمْيِيزَ وَإِنْ عَدِمَ صَلَّتْ أَبَدًا. وَاسْتَعْمَلَ مِنْ الِاحْتِيَاطِ فِي الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ عِلْمًا وَعَمَلًا. فَالسُّنَنُ الثَّلَاثُ الَّتِي جَاءَتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ الْفِقْهِيَّةِ: اسْتَعْمَلَهَا فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَوَافَقَهُمْ فِي كُلٍّ مِنْهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ.

ص: 23

وَسُئِلَ:

عَنْ مَسَائِلَ كَثِيرٍ وُقُوعُهَا؛ وَيَحْصُلُ الِابْتِلَاءُ بِهَا؛ وَيَحْصُلُ الضِّيقُ وَالْحَرَجُ وَالْعَمَلُ بِهَا عَلَى رَأْيِ إمَامٍ بِعَيْنِهِ؟ : مِنْهَا مَسْأَلَةُ الْمِيَاهِ الْيَسِيرَةِ وَوُقُوعُ النَّجَاسَةِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ وَتَغْيِيرُهَا بِالطَّاهِرَاتِ؟ .

فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمَّا مَسْأَلَةُ تَغَيُّرِ الْمَاءِ الْيَسِيرِ أَوْ الْكَثِيرِ بِالطَّاهِرَاتِ: كَالْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ وَالسِّدْرِ والخطمي وَالتُّرَابِ وَالْعَجِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يُغَيِّرُ الْمَاءَ مِثْلَ الْإِنَاءِ إذَا كَانَ فِيهِ أَثَرُ سِدْرٍ أَوْ خطمي وَوُضِعَ فِيهِ مَاءٌ فَتَغَيَّرَ بِهِ مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الْمَاءِ: فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ الَّتِي اخْتَارَهَا الخرقي وَالْقَاضِي وَأَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَاءِ مُطْلَقٍ فَلَا يَدْخُلُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} . ثُمَّ إنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا أَنْوَاعًا بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمَا كَانَ مِنْ التَّغَيُّرِ حَاصِلًا بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ أَوْ بِمَا يَشُقُّ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ: فَهُوَ طَهُورٌ

ص: 24

بِاتِّفَاقِهِمْ. وَمَا تَغَيَّرَ بِالْأَدْهَانِ وَالْكَافُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَفِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا. وَمَا كَانَ تَغَيُّرُهُ يَسِيرًا: فَهَلْ يُعْفَى عَنْهُ أَوْ لَا يُعْفَى عَنْهُ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الرَّائِحَةِ وَغَيْرِهَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُتَغَيِّرِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَغَيْرِهِ وَلَا بِمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ؛ وَلَا بِمَا لَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَمَا دَامَ يُسَمَّى مَاءً وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ أَجْزَاءُ غَيْرِهِ كَانَ طَهُورًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ وَهِيَ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا فِي أَكْثَرِ أَجْوِبَتِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وَقَوْلُهُ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ كُلَّ مَا هُوَ مَاءٌ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْمُتَغَيِّرَ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْمَاءِ؟ . قِيلَ: تَنَاوُلُ الِاسْمِ لِمُسَمَّاهُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ التَّغَيُّرِ الْأَصْلِيِّ وَالطَّارِئِ وَلَا بَيْنَ التَّغَيُّرِ الَّذِي يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَاَلَّذِي لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى

ص: 25

اسْتِعْمَالِ هَذَا الْمُتَغَيِّرِ دُونَ هَذَا فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ وَعُمُومِ الِاسْمِ وَخُصُوصِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا؟ وَلِهَذَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ مَاءٍ أَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ: لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا؛ بَلْ إنْ دَخَلَ هَذَا دَخَلَ هَذَا وَإِنْ خَرَجَ هَذَا خَرَجَ هَذَا فَلَمَّا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى دُخُولِ الْمُتَغَيِّرِ تَغَيُّرًا أَصْلِيًّا أَوْ حَادِثًا بِمَا يَشُقُّ صَوْنُهُ عَنْهُ: عُلِمَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ: {هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ} وَالْبَحْرُ مُتَغَيِّرُ الطَّعْمِ تَغَيُّرًا شَدِيدًا لِشِدَّةِ مُلُوحَتِهِ. فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ مَاءَهُ طَهُورٌ - مَعَ هَذَا التَّغَيُّرِ - كَانَ مَا هُوَ أَخَفُّ مُلُوحَةً مِنْهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ طَهُورًا وَإِنْ كَانَ الْمِلْحُ وُضِعَ فِيهِ قَصْدًا؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْمِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ ضَعْفُ حُجَّةِ الْمَانِعِينَ؛ فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَقَى مَاءً أَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ مَاءٍ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ مَاءَ الْبَحْرِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَةِ فَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلَهُ فِي الصِّفَةِ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم {أَمَرَ بِغَسْلِ الْمُحَرَّمِ بِمَاءِ وَسِدْرٍ} {وَأَمَرَ بِغَسْلِ ابْنَتِهِ بِمَاءِ وَسِدْرٍ} {وَأَمَرَ الَّذِي أَسْلَمَ أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءِ وَسِدْرٍ} وَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ السِّدْرَ لَا بُدَّ أَنْ يُغَيِّرَ الْمَاءَ فَلَوْ كَانَ التَّغَيُّرُ يُفْسِدُ الْمَاءَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ.

ص: 26

وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ هَذَا تَغَيُّرٌ فِي مَحَلِّ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا يُؤَثِّرُ: تَفْرِيقٌ بِوَصْفِ غَيْرِ مُؤَثِّرٍ لَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ؛ فَإِنَّ الْمُتَغَيِّرَ إنْ كَانَ يُسَمَّى مَاءً مُطْلَقًا وَهُوَ عَلَى الْبَدَنِ فَيُسَمَّى مَاءً مُطْلَقًا وَهُوَ فِي الْإِنَاءِ. وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ مَاءً مُطْلَقًا فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يُسَمَّ مُطْلَقًا فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يُفَرِّقُونَ فِي التَّسْمِيَةِ بَيْنَ مَحَلٍّ وَمَحَلٍّ. وَأَمَّا الشَّرْعُ: فَإِنَّ هَذَا فَرْقٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. وَالْقِيَاسُ عَلَيْهِ إذَا جُمِعَ أَوْ فُرِّقَ: أَنْ يُبَيَّنَ أَنَّ مَا جَعَلَهُ مَنَاطَ الْحُكْمِ جَمْعًا أَوْ فَرْقًا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ وَإِلَّا فَمَنْ عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِأَوْصَافِ جَمْعًا وَفَرْقًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ: كَانَ وَاضِعًا لِشَرْعِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ شَارِعًا فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. وَلِهَذَا كَانَ عَلَى الْقَائِسِ أَنْ يُبَيِّنَ تَأْثِيرَ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي جَعَلَهُ مَنَاطَ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ مِنْ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ هُوَ عِلَّةَ الْحُكْمِ. وَكَذَلِكَ فِي الْوَصْفِ الَّذِي فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ تَأْثِيرَهُ بِطَرِيقِ مِنْ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم {تَوَضَّأَ مِنْ قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ} وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ: لَا بُدَّ فِي الْعَادَةِ مِنْ تَغَيُّرِ الْمَاءِ بِذَلِكَ لَا سِيَّمَا فِي

ص: 27

آخِرِ الْأَمْرِ إذَا قَلَّ الْمَاءُ وَانْحَلَّ الْعَجِينُ. فَإِنْ قِيلَ: ذَلِكَ التَّغَيُّرُ كَانَ يَسِيرًا؟ قِيلَ: وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ فَإِنَّهُ إنْ سَوَّى بَيْنِ التَّغَيُّرِ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ مُطْلَقًا كَانَ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ؛ وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا حَدٌّ مُنْضَبِطٌ لَا بُلْغَةٌ وَلَا شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ وَلَا عُرْفٌ وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِفَرْقِ غَيْرِ مَعْلُومٍ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ صَحِيحًا. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمَانِعِينَ مُضْطَرِبُونَ اضْطِرَابًا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ أَصْلِ قَوْلِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْكَافُورِ وَالدُّهْنِ وَغَيْرِهِ وَيَقُولُ: إنَّ هَذَا التَّغَيُّرَ عَنْ مُجَاوَرَةٍ لَا عَنْ مُخَالَطَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ نَحْنُ نَجِدُ فِي الْمَاءِ أَثَرَ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَرَقِ الرَّبِيعِيِّ وَالْخَرِيفِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْمِلْحَيْنِ: الْجَبَلِيِّ وَالْمَائِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا. وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ دَلِيلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ لَا مِنْ نَصٍّ وَلَا قِيَاسٍ وَلَا إجْمَاعٍ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ الْأَصْلُ الَّذِي تَفَرَّعَتْ عَلَيْهِ مَأْخُوذًا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} وَهَذَا بِخِلَافِ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ

ص: 28

اللَّهِ فَإِنَّهُ مَحْفُوظٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْقَوْلِ. وَأَيْضًا. فَإِنَّ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ مُوَافِقٌ لِلْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ؛ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِالظَّوَاهِرِ وَالْمَعَانِي؛ فَإِنَّ تَنَاوُلَ اسْمِ الْمَاءِ لِمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ كَتَنَاوُلِهِ لِمَوَارِدِ النِّزَاعِ فِي اللُّغَةِ وَصِفَاتُ هَذَا كَصِفَاتِ هَذَا فِي الْجِنْسِ فَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ. وَأَيْضًا. فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ الْمَانِعِينَ: يَلْزَمُ مُخَالَفَةُ الْأَصْلِ وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ؛ إذْ كَانَ يَقْتَضِي الْقِيَاسُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنْ الْمُتَغَيِّرَاتِ فِي طَهَارَتَيْ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ لَكِنْ اُسْتُثْنِيَ الْمُتَغَيِّرُ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَبِمَا يَشُقُّ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ فَكَانَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِحْسَانٍ تُرِكَ لَهُ الْقِيَاسُ وَتَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: يَكُونُ رُخْصَةً ثَابِتَةً عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ بَيْنَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ؛ فَيَكُونُ هَذَا أَقْوَى.

ص: 29

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الْمَاءُ إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَاتِ: فَإِنَّهُ يَنْجُسُ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فَفِيهِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ: أَحَدُهَا: لَا يَنْجُسُ. وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَرِوَايَةُ الْمَدَنِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَنَصَرَهَا ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُفْرَدَاتِ؛ وَابْنُ الْبَنَّاءِ وَغَيْرُهُمَا. وَالثَّانِي: يَنْجُسُ قَلِيلُ الْمَاءِ بِقَلِيلِ النَّجَاسَةِ. وَهِيَ رِوَايَةُ الْبَصْرِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى - اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ - الْفَرْقُ بَيْنَ الْقُلَّتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. فَمَالِكٌ لَا يَحُدُّ الْكَثِيرَ بِالْقُلَّتَيْنِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد يَحُدَّانِ الْكَثِيرَ بِالْقُلَّتَيْنِ. وَالرَّابِعُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ الْمَائِعَةِ وَغَيْرِهِمَا فَالْأَوَّلُ يُنَجِّسُ

ص: 30

مِنْهُ مَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ دُونَ مَا لَمْ يُمْكِنْ نَزْحُهُ بِخِلَافِ الثَّانِي؛ فَإِنَّهُ لَا يُنَجِّسُ الْقُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا. وَهَذَا أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد وَاخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْمَاءَ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا؛ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ لَكِنْ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ لَا يُنَجِّسُهُ. ثُمَّ حَدُّوا مَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ: بِمَا لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحْرِيكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ. ثُمَّ تَنَازَعُوا: هَلْ يُحَدُّ بِحَرَكَةِ الْمُتَوَضِّئِ أَوْ الْمُغْتَسِلِ؟ وَقَدَّرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِمَسْجِدِهِ فَوَجَدُوهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ. وَتَنَازَعُوا فِي الْآبَارِ إذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ: هَلْ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا؟ فَزَعَمَ المزني: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا بِالنَّزْحِ وَلَهُمْ فِي تَقْدِيرِ الدِّلَاءِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ. وَالسَّادِسُ: قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ الَّذِينَ يُنَجِّسُونَ مَا بَالَ فِيهِ الْبَائِلُ دُونَ مَا أُلْقِيَ فِيهِ الْبَوْلُ وَلَا يُنَجِّسُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ.

ص: 31

وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى: أَنَّ اخْتِلَاطَ الْخَبِيثِ وَهُوَ النَّجَاسَةُ بِالْمَاءِ: هَلْ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْجَمِيعِ أَمْ يُقَالُ: بَلْ قَدْ اسْتَحَالَ فِي الْمَاءِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ؟ فَالْمُنَجِّسُونَ ذَهَبُوا إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ ثُمَّ مَنْ اسْتَثْنَى الْكَثِيرَ قَالَ: هَذَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ فَجَعَلُوا ذَلِكَ مَوْضِعَ اسْتِحْسَانٍ كَمَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَأَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَبَنَوْا الْأَمْرَ عَلَى وُصُولِ النَّجَاسَةِ وَعَدَمِ وُصُولِهَا وَقَدَّرُوهُ بِالْحَرَكَةِ أَوْ بِالْمِسَاحَةِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ دُونَ الْعُمْقِ. وَالصَّوَابُ: هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَأَنَّهُ متى عُلِمَ أَنَّ النَّجَاسَةَ قَدْ اسْتَحَالَتْ فَالْمَاءُ طَاهِرٌ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَكَذَلِكَ فِي الْمَائِعَاتِ كُلِّهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثِ وَالْخَبِيثُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الطَّيِّبِ بِصِفَاتِهِ فَإِذَا كَانَتْ صِفَاتُ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ صِفَاتِ الطَّيِّبِ دُونَ الْخَبِيثِ: وَجَبَ دُخُولُهُ فِي الْحَلَالِ دُونَ الْحَرَامِ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: أَنَتَوَضَّأُ مَنْ بِئْرِ بضاعة؟ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ

ص: 32

وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ فَقَالَ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ} قَالَ أَحْمَد: حَدِيثُ بِئْرِ بضاعة صَحِيحٌ. وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ} وَهَذَا اللَّفْظُ عَامٌّ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ. وَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّمَا حُرِّمَ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّ جِرْمَ النَّجَاسَةِ بَاقٍ فَفِي اسْتِعْمَالِهِ اسْتِعْمَالُهَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَالَتْ النَّجَاسَةُ فَإِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ وَلَيْسَ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ قَائِمَةٌ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ خَمْرٌ فِي مَاءٍ وَاسْتَحَالَتْ ثُمَّ شَرِبَهَا شَارِبٌ لَمْ يَكُنْ شَارِبًا لِلْخَمْرِ؛ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدُّ الْخَمْرِ؛ إذْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ طَعْمِهَا وَلَوْنِهَا وَرِيحِهَا وَلَوْ صُبَّ لَبَنُ امْرَأَةٍ فِي مَاءٍ وَاسْتَحَالَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ وَشَرِبَ طِفْلٌ ذَلِكَ الْمَاءَ: لَمْ يَصِرْ ابْنَهَا مِنْ الرِّضَاعَةِ بِذَلِكَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ هَذَا بَاقٍ عَلَى أَوْصَافِ خِلْقَتِهِ؛ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ لَا طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ وَلَا رِيحُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ {نَهَى عَنْ الْبَوْلِ

ص: 33

فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَعَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ} ؟ قِيلَ: نَهْيُهُ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْجُسُ بِمُجَرَّدِ الْبَوْلِ؛ إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ نَهْيُهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْبَوْلَ ذَرِيعَةٌ إلَى تَنْجِيسِهِ؛ فَإِنَّهُ إذَا بَالَ هَذَا ثُمَّ بَالَ هَذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِالْبَوْلِ فَكَانَ نَهْيُهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. أَوْ يُقَالُ: إنَّهُ مَكْرُوهٌ بِمُجَرَّدِ الطَّبْعِ لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ يُنَجِّسُهُ. وَأَيْضًا فَيَدُلُّ نَهْيُهُ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ أَنَّهُ يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُلَّتَيْنِ: أَتُجَوِّزُ بَوْلَهُ فِيمَا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ؟ إنْ جَوَّزْته فَقَدْ خَالَفْت ظَاهِرَ النَّصِّ؛ وَإِنْ حَرَّمْته فَقَدْ نَقَضْت دَلِيلَك. وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ وَمَا لَا يُمْكِنُ: أَتُسَوِّغُ لِلْحُجَّاجِ أَنْ يَبُولُوا فِي الْمَصَانِعِ الْمَبْنِيَّةِ بِطَرِيقِ مَكَّةَ؟ إنْ جَوَّزْته خَالَفْت ظَاهِرَ النَّصِّ؛ فَإِنَّ هَذَا مَاءٌ دَائِمٌ وَالْحَدِيثُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَإِلَّا نَقَضْت قَوْلَك. وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِلْمُقَدَّرِ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ: إذَا كَانَ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ غَدِيرٌ مُسْتَطِيلٌ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ رَقِيقٍ أَتُسَوِّغُ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الْبَوْلَ فِيهِ؟ فَإِنْ سَوَّغْته خَالَفْت ظَاهِرَ النَّصِّ؛ وَإِلَّا نَقَضْت قَوْلَك فَإِذَا كَانَ النَّصُّ

ص: 34

بَلْ وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِيمَا يُنَجِّسُهُ الْبَوْلُ؛ بَلْ تَقْدِيرُ الْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ: كَانَ هَذَا الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مُسْتَقِلًّا بِالنَّهْيِ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيلُ النَّهْيِ بِالنَّجَاسَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِيهِ لِأَنَّ الْبَوْلَ يُنَجِّسُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْبَوْلِ فِيهِ وَبَيْنَ صَبِّ الْبَوْلِ فَقَوْلُهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ؛ فَإِنَّ صَبَّ الْبَوْلِ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ مِنْ مُجَرَّدِ الْبَوْلِ؛ إذْ الْإِنْسَانُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَبُولَ وَأَمَّا صَبُّ الْأَبْوَالِ فِي الْمِيَاهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَفِي حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ فَقَالَ: {إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ} وَفِي لَفْظٍ {لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ} ؟ قِيلَ: حَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ فِيهِ كَلَامٌ قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَبُيِّنَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ لَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

ص: 35

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ الْمَاءِ الْكَثِيرِ إذَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ بِمُكْثِهِ؛ أَوْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَطَعْمُهُ لَا الرَّائِحَةُ: فَهَلْ يَكُونُ طَهُورًا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا مَا تَغَيَّرَ بِمُكْثِهِ وَمَقَرِّهِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا النَّهْرُ الْجَارِي: فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ بِنَجَاسَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا فَإِنْ خَالَطَهُ مَا يُغَيِّرُهُ مِنْ طَاهِرٍ وَنَجِسٍ وَشَكَّ فِي التَّغَيُّرِ: هَلْ هُوَ بِطَاهِرِ أَوْ نَجِسٍ؟ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَتِهِ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ. وَالْأَغْلَبُ أَنَّ هَذِهِ الْأَنْهَارَ الْكِبَارَ لَا تَتَغَيَّرُ بِهَذِهِ الْقِنَى الَّتِي عَلَيْهَا لَكِنْ إذَا تَبَيَّنَ تَغَيُّرُهُ بِالنَّجَاسَةِ فَهُوَ نَجِسٌ وَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا بِغَيْرِ نَجِسٍ فَفِي طَهُورِيَّتِهِ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 36

وَسُئِلَ:

عَنْ بِئْرٍ كَثِيرِ الْمَاءِ وَقَعَ فِيهِ كَلْبٌ وَمَاتَ وَبَقِيَ فِيهِ حَتَّى انهرى جِلْدُهُ وَشَعْرُهُ وَلَمْ يُغَيِّرْ مِنْ الْمَاءِ وَصْفًا قَطُّ لَا طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ وَلَا رَائِحَةٌ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، هُوَ طَاهِرٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ - كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ؛ وَهُمَا نَحْوُ الْقِرْبَتَيْنِ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؟ وَشَعْرُ الْكَلْبِ فِي طَهَارَتِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ؛ وَنَجِسٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ. فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ فِي الدَّلْوِ الصَّاعِدِ شَيْئًا مِنْ شَعْرِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَتِهِ بِلَا رَيْبٍ. وَقَدْ ثَبَتَ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بضاعة وَهِيَ بِئْرٌ تُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ؛ وَلُحُومُ الْكِلَابِ؛ وَعُذَرُ النَّاسِ؟ فَقَالَ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ} وَبِئْرُ بضاعة وَاقِعَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي شَرْقِيِّ الْمَدِينَةِ؛ بَاقِيَةٌ إلَى الْيَوْمِ وَمَنْ قَالَ:

ص: 37

إنَّهَا كَانَتْ جَارِيَةً: فَقَدْ أَخْطَأَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ عَيْنٌ جَارِيَةٌ بَلْ الزَّرْقَاءُ وَعُيُونُ حَمْزَةَ حَدَّثَتَا بَعْدَ مَوْتِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

عَنْ بِئْرٍ وَقَعَ فِيهِ كَلْبٌ أَوْ خِنْزِيرٌ أَوْ جَمَلٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ ثُمَّ مَاتَ فِيهَا؛ وَذَهَبَ شَعْرُهُ وَجِلْدُهُ وَلَحْمُهُ؛ وَهُوَ فَوْقُ الْقُلَّتَيْنِ؛ فَكَيْفَ يُصْنَعُ بِهِ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَيُّ بِئْرٍ وَقَعَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ أَوْ غَيْرُهُ إنْ كَانَ الْمَاءُ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ فَهُوَ طَاهِرٌ؛ فَإِنْ كانت عَيْنُ النَّجَاسَةِ بَاقِيَةً نُزِحَتْ مِنْهُ وَأُلْقِيَتْ وَسَائِرُ الْمَاءِ طَاهِرٌ وَشَعْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ إذَا بَقِيَ فِي الْمَاءِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ: فَإِنَّهُ طَاهِرٌ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِمْ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَد وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الشَّعْرِ وَالرِّيشِ وَالْوَبَرِ وَالصُّوفِ طَاهِرٌ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى جِلْدِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ جِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَى حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ. هَذَا

ص: 38

أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ لِلْعُلَمَاءِ؛ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَاءُ قَدْ تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهُ حَتَّى يَطِيبَ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَاءُ لَمْ يُنْزَحْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ فَإِنَّهُ {قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّك تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بضاعة وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ؛ وَلُحُومُ الْكِلَابِ؛ وَالنَّتْنُ؟ فَقَالَ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ} . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ بِئْرٍ سَقَطَتْ فِيهِ دَجَاجَةٌ ثُمَّ مَاتَتْ: هَلْ يَنْجُسُ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَاءُ لَمْ يَنْجُسْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ الْبِئْرِ تَكُونُ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ فَيَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ بِالزِّبْلِ؛ فَيَصِيرُ أَصْفَرَ؛

ص: 39

وَهُوَ رَوْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ وَرُبَّمَا صَارَ فِيهِ اللُّحْمَةُ: هَلْ يَنْجُسُ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إنْ كَانَ الزِّبْلُ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَهُوَ طَاهِرٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الدَّلَائِلُ الشَّرْعِيَّةُ الْكَثِيرَةُ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ وَذُكِرَ فِيهِ بِضْعَةَ عَشَرَ حُجَّةً. وَأَمَّا مَا تَيَقَّنَ أَنَّ تَغَيُّرَهُ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ يَنْجُسُ وَإِنْ شَكَّ: هَلْ الرَّوْثُ رَوْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ رَوْثُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ الْمَاءِ الْجَارِي إذَا كَانَ مُزَبَّلًا: هَلْ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا لَمْ يُتَيَقَّنْ أَنَّهُ مُزَبَّلٌ بِزِبْلِ نَجَّسَ جَازَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا وَجَازَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا فَجَازَ الْوُضُوءُ بِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.

ص: 40

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ الْقُلَّتَيْنِ: هَلْ حَدِيثُهُ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ قُلَّةُ الْجَبَلِ؛ وَفِي سُؤْرِ الْهِرَّةِ إذَا أَكَلَتْ نَجَاسَةً ثُمَّ شَرِبَتْ مِنْ مَاءٍ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ: هَلْ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَدْ صَحَّ عَنْ {النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّك تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بضاعة وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ؛ وَلُحُومُ الْكِلَابِ؛ وَالنَّتْنُ؟ فَقَالَ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ} وَبِئْرُ بضاعة بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا هِيَ بِئْرٌ لَيْسَتْ جَارِيَةً وَمَا يُذْكَرُ عَنْ الواقدي مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ: أَمْرٌ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ الواقدي لَا يُحْتَجُّ بِهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَاءٌ جَارٍ وَعَيْنُ الزَّرْقَاءِ وَعُيُونُ حَمْزَةَ مُحْدَثَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِئْرُ بضاعة بَاقِيَةٌ إلَى الْيَوْمِ فِي شَرْقِيِّ الْمَدِينَةِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ يُحْتَجُّ بِهِ وَقَدْ أَجَابُوا عَنْ كَلَامِ مَنْ طَعَنَ فِيهِ وَصَنَّفَ أَبُو عَبْدِ

ص: 41

اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ المقدسي جُزْءًا رَدَّ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا لَفْظُ الْقُلَّةِ فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ الْجَرَّةُ الْكَبِيرَةُ كَالْحَبِّ وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُمَثِّلُ بِهِمَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ فِي سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى: {وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ} وَهِيَ قِلَالٌ مَعْرُوفَةُ الصِّفَةِ وَالْمِقْدَارِ؛ فَإِنَّ التَّمْثِيلَ لَا يَكُونُ بِمُخْتَلِفِ مُتَفَاوِتٍ. وَهَذَا مِمَّا يُبْطِلُ كَوْنَ الْمُرَادِ قُلَّةَ الْجَبَلِ لِأَنَّ قِلَالَ الْجِبَالِ فِيهَا الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ وَفِيهَا الْمُرْتَفِعُ كَثِيرًا وَفِيهَا مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ مَاءٌ يَصِلُ إلَى قِلَالِ الْجَبَلِ إلَّا مَاءُ الطُّوفَانِ فَحَمْلُ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِثْلِ هَذَا يُشْبِهُ الِاسْتِهْزَاءَ بِكَلَامِهِ. وَمِنْ عَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُقَدِّرُ الْمُقَدَّرَاتِ بِأَوْعِيَتِهَا كَمَا قَالَ: {لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ} وَالْوَسْقُ حِمْلُ الْجَمَلِ وَكَمَا كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ وَذَلِكَ مِنْ أَوْعِيَةِ الْمَاءِ وَهَكَذَا تَقْدِيرُ الْمَاءِ بِالْقِلَالِ مُنَاسِبٌ فَإِنَّ الْقُلَّةَ وِعَاءُ الْمَاءِ. وَأَمَّا الْهِرَّةُ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ} .

ص: 42

وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا أَكَلَتْ فَأْرَةً وَنَحْوَهَا ثُمَّ وَلَغَتْ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. قِيلَ: إنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ مُطْلَقًا. وَقِيلَ نَجِسٌ مُطْلَقًا حَتَّى تُعْلَمَ طَهَارَةُ فَمِهَا. وَقِيلَ: إنْ غَابَتْ غَيْبَةً يُمْكِنُ فِيهَا وُرُودُهَا عَلَى مَا يُطَهِّرُ فَمَهَا كَانَ طَاهِرًا وَإِلَّا فَلَا. وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا. وَقِيلَ إنْ طَالَ الْفَصْلُ كَانَ طَاهِرًا جَعْلًا لِرِيقِهَا مُطَهِّرًا لِفَمِهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَهُوَ أَقْوَى الْأَقْوَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ غَمَسَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا مِنْ قِيَامِهِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ: فَهَلْ هَذَا الْمَاءُ يَكُونُ طَهُورًا؟ وَمَا الْحِكْمَةُ فِي غَسْلِ الْيَدِ إذَا بَاتَتْ طَاهِرَةً؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا مَصِيرُهُ مُسْتَعْمَلًا لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَ كُلَّ وَاحِدَةٍ طَائِفَة مِنْ أَصْحَابِهِ فَالْمَنْعُ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَأَكْثَرِ أَتْبَاعِهِ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ. وَالثَّانِيَةُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَهِيَ اخْتِيَارُ الخرقي وَأَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ

ص: 43

قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فِي غَسْلِ الْيَدِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ خَوْفَ نَجَاسَةٍ تَكُونُ عَلَى الْيَدِ؛ مِثْلَ مُرُورِ يَدِهِ مَوْضِعَ الِاسْتِجْمَارِ مَعَ الْعَرَقِ؛ أَوْ عَلَى زَبْلَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَبُّدٌ وَلَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنْ مَبِيتِ يَدِهِ مُلَامِسَةً لِلشَّيْطَانِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ} فَأَمَرَ بِالْغَسْلِ مُعَلِّلًا بِمَبِيتِ الشَّيْطَانِ عَلَى خَيْشُومِهِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْغَسْلِ عَنْ النَّجَاسَةِ وَالْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ. وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ؟} " يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ؛ فَتَكُونُ هَذِهِ الْعِلَّةُ مِنْ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ الَّتِي شَهِدَ لَهَا النَّصُّ بِالِاعْتِبَارِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 44

وَقَالَ رضي الله عنه:

فَصْلٌ:

وَأَمَّا نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم {أَنْ يَغْمِسَ الْقَائِمُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا} فَهُوَ لَا يَقْتَضِي تَنْجِيسَ الْمَاءِ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ قَدْ يَكُونُ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ أَثَرًا وَأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى التَّأْثِيرِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّنْجِيسِ. وَأَيْضًا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: {إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ} فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْغَسْلَ لَيْسَ مُسَبَّبًا عَنْ النَّجَاسَةِ بَلْ هُوَ مُعَلَّلٌ بِمَبِيتِ الشَّيْطَانِ عَلَى خَيْشُومِهِ. وَالْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ: {فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ} يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ فَتَكُونُ هَذِهِ الْعِلَّةُ مِنْ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ الَّتِي شَهِدَ لَهَا النَّصُّ بِالِاعْتِبَارِ. وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ بَعْدَ الْبَوْلِ فَهَذَا إنْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ

ص: 45

صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَنَهْيِهِ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمُسْتَحَمِّ وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ} فَإِنَّهُ إذَا بَالَ فِي الْمُسْتَحَمِّ ثُمَّ اغْتَسَلَ حَصَلَ لَهُ وَسْوَاسٌ وَرُبَّمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَوْلِ فَعَادَ عَلَيْهِ رَشَاشُهُ وَكَذَلِكَ إذَا بَالَ فِي الْمَاءِ ثُمَّ اغْتَسَلَ فِيهِ فَقَدْ يَغْتَسِلُ قَبْلَ الِاسْتِحَالَةِ مَعَ بَقَاءِ أَجْزَاءِ الْبَوْلِ؛ فَنُهِيَ عَنْهُ لِذَلِكَ. وَنَهْيُهُ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ إنْ صَحَّ يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَهَذَا قَدْ يَكُونُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْذِيرِ الْمَاءِ عَلَى غَيْرِهِ؛ لَا لِأَجْلِ نَجَاسَتِهِ وَلَا لِصَيْرُورَتِهِ مُسْتَعْمَلًا؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ الْمَاءَ لَا يَجْنُبُ} .

وَسُئِلَ أَيْضًا رحمه الله:

عَنْ الْمَاءِ إذَا غَمَسَ الرَّجُلُ يَدَهُ فِيهِ: هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

لَا يَنْجُسُ بِذَلِكَ بَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَالِكِ؛ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ وَالشَّافِعِيِّ؛ وَأَحْمَد؛ وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 46

وَسُئِلَ:

عَنْ الرَّجُلِ يَغْتَسِلُ إلَى جَانِبِ الْحَوْضِ أَوْ الْجُرْنِ فِي الْحَمَّامِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ نَاقِصٌ؛ ثُمَّ يَرْجِعُ بَعْضُ الْمَاءِ مِنْ عَلَى بَدَنِهِ إلَى الْجُرْنِ: هَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا أَمْ لَا؟ وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ إذَا وَضَعَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ أَوْ الْجُرْنِ: هَلْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا أَمْ لَا؟ وَعَنْ مِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي إذَا اغْتَسَلَ فِيهِ الْجُنُبُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؟ وَعَنْ الطَّاسَةِ الَّتِي تُحَطُّ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ جَارٍ عَلَيْهَا؛ ثُمَّ يَغْتَرِفُ بِهَا مِنْ الْجُرْنِ النَّاقِصِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُغْسَلَ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا يَطِيرُ مِنْ بَدَنِ الْمُغْتَسِلِ أَوْ الْمُتَوَضِّئِ مِنْ الرَّشَاشِ فِي إنَاءِ الطَّهَارَةِ لَا يَجْعَلُهُ مُسْتَعْمَلًا. وَكَذَلِكَ غَمْسُ الْجُنُبِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ وَالْجُرْنِ النَّاقِصِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا. وَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَاءِ الَّذِي إذَا اغْتَسَلَ فِيهِ الْجُنُبُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا: إذَا كَانَ كَثِيرًا مِقْدَارَ قُلَّتَيْنِ.

ص: 47

وَأَمَّا الطَّاسَةُ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ طَاهِرٌ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ؛ فَالْأَصْلُ فِي الْأَرْضِ الطَّهَارَةُ حَتَّى تُعْلَمَ نَجَاسَتُهَا؛ لَا سِيَّمَا مَا بَيْنَ يَدَيْ الْحِيَاضِ الْفَائِضَةِ فِي الْحَمَّامَاتِ؛ فَإِنَّ الْمَاءَ يَجْرِي عَلَيْهَا كَثِيرًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ تُدْرِكُهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي مَدْرَسَةٍ؛ فَيَجِدُ فِي الْمَدَارِسِ بِرَكًا فِيهَا مَاءٌ لَهُ مُدَّةٌ كَثِيرَةٌ وَمِثْلُ مَاءِ الْحَمَّامِ الَّذِي فِي الْحَوْضِ: فَهَلْ يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ وَالطَّهَارَةُ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ؛ وَأُمِّ سَلَمَةَ؛ وَمَيْمُونَةَ؛ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم:{أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَزَوْجَتُهُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَقُولَ لَهَا: أَبْقِي لِي وَتَقُولَ هِيَ: أَبْقِ لِي} . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ {قَالَ: كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَغْتَسِلُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ وَلَمْ

ص: 48

يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَاءٌ جَارٍ وَلَا حَمَّامٌ} . فَإِذَا كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ جَمِيعًا وَيَغْتَسِلُونَ جَمِيعًا مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ بِقَدْرِ الْفَرْقِ وَهُوَ بِضْعَةَ عَشَرَ رِطْلًا بِالْمِصْرِيِّ أَوْ أَقَلُّ وَلَيْسَ لَهُمْ يَنْبُوعٌ وَلَا أُنْبُوبٌ فَتَوَضُّؤُهُمْ وَاغْتِسَالُهُمْ جَمِيعًا مِنْ حَوْضِ الْحَمَّامِ أَوْلَى وَأَحْرَى فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْحَوْضُ نَاقِصًا وَالْأُنْبُوبُ مَسْدُودًا؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْأُنْبُوبُ مَفْتُوحًا؟ وَسَوَاءٌ فَاضَ أَوْ لَمْ يَفِضْ. وَكَذَلِكَ بِرَكُ الْمَدَارِسِ وَمَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ حَتَّى يَنْفَرِدَ وَحْدَهُ بِالِاغْتِسَالِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لَلسُّنَّةِ.

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْبُرُونَ إلَى الْحَمَّامِ؛ فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَغْتَسِلُوا مِنْ الْجَنَابَةِ وَقَفَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى الطَّهُورِ وَحْدَهُ؛ وَلَا يَغْتَسِلُ أَحَدٌ مَعَهُ حَتَّى يَفْرُغَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ؛ فَهَلْ إذَا اغْتَسَلَ مَعَهُ غَيْرُهُ لَا يَطْهُرُ؟ وَإِنْ تَطَهَّرَ مِنْ بَقِيَّةِ أَحْوَاضِ الْحَمَّامِ فَهَلْ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ بَائِنًا فِيهَا؟ وَهَلْ الْمَاءُ الَّذِي يَتَقَاطَرُ مِنْ عَلَى بَدَنِ الْجُنُبِ مِنْ الْجِمَاعِ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ؟ وَهَلْ مَاءُ الْحَمَّامِ عِنْدَ كَوْنِهِ مُسْخَنًا بِالنَّجَاسَةِ نَجِسٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ الزُّنْبُورُ الَّذِي

ص: 49

يَكُونُ فِي الْحَمَّامِ أَيَّامَ الشِّتَاءِ هُوَ مِنْ دُخَانِ النَّجَاسَةِ يَتَنَجَّسُ بِهِ الرَّجُلُ إذَا اغْتَسَلَ وَجَسَدُهُ مَبْلُولٌ أَمْ لَا؟ وَالْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي فِي أَرْضِ الْحَمَّامِ مِنْ اغْتِسَالِ النَّاسِ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟ أَفْتُونَا لِيَزُولَ الْوَسْوَاسُ.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ يَغْتَرِفَانِ جَمِيعًا} . وَفِي رِوَايَةٍ: إنَّهَا {كَانَتْ تَقُولُ: دَعْ لِي وَيَقُولُ هُوَ: دَعِي لِي} مِنْ قِلَّةِ الْمَاءِ. وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَغَيْرُ عَائِشَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ مِثْلَ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ وَأُمِّ سَلَمَةَ} . وَثَبَتَ عَنْ {عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ قَدْرَ الْفَرَقِ} . وَالْفَرَقُ بِالرِّطْلِ الْعِرَاقِيِّ الْقَدِيمِ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا؛ وَبِالرِّطْلِ الْمِصْرِيِّ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ رِطْلًا. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ {النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ} . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ {قَالَ: كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّئُونَ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ} . وَهَذِهِ السُّنَنُ الثَّابِتَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا بِمَدِينَتِهِ عَلَى عَهْدِهِ دَلَّتْ عَلَى أُمُورٍ.

ص: 50

أَحَدُهَا هُوَ اشْتِرَاكُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الِاغْتِسَالِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَغْتَسِلُ بِسُؤْرِ الْآخَرِ. وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنِهِمْ أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ أَوْ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ إذَا تَوَضَّئُوا وَاغْتَسَلُوا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ جَاز كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسُّنَنِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ. وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا انْفَرَدَتْ الْمَرْأَةُ بِالِاغْتِسَالِ أَوْ خَلَتْ بِهِ: هَلْ يُنْهَى الرَّجُلُ عَنْ التَّطَهُّرِ بِسُؤْرِهَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: أَحَدُهَا: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ مُطْلَقًا. وَالثَّانِي: يُكْرَهُ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: يُنْهَى عَنْهُ إذَا خَلَتْ بِهِ؛ دُونَ مَا انْفَرَدَتْ بِهِ وَلَمْ تَخْلُ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ فِي السُّنَنِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَأَمَّا اغْتِسَالُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يَتَنَازَعْ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِهِ وَإِذَا جَازَ اغْتِسَالُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا فَاغْتِسَالُ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ جَمِيعًا أَوْ النِّسَاءُ دُونَ الرِّجَالِ جَمِيعًا: أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ. فَمَنْ كَرِهَ أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَهُ غَيْرُهُ؛ أَوْ رَأَى أَنَّ طُهْرَهُ لَا يَتِمُّ حَتَّى يَغْتَسِلَ وَحْدَهُ: فَقَدْ خَرَجَ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَفَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ.

ص: 51

يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْآنِيَةَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَزْوَاجُهُ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَغْتَسِلُونَ مِنْهَا كَانَتْ آنِيَةً صَغِيرَةً وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَادَّةٌ لَا أُنْبُوبٌ وَلَا غَيْرُهُ وَلَمْ يَكُنْ يَفِيضُ. فَإِذَا كَانَ تَطَهُّرُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا مِنْ تِلْكَ الْآنِيَةِ جَائِزًا فَكَيْفَ بِهَذِهِ الْحِيَاضِ الَّتِي فِي الْحَمَّامَاتِ وَغَيْرِ الْحَمَّامَاتِ؛ الَّتِي يَكُونُ الْحَوْضُ أَكْبَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ؟ فَإِنَّ الْقُلَّتَيْنِ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ: أَنَّهُمَا خَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ الْقَدِيمِ فَيَكُونُ هَذَا الرِّطْلُ الْمِصْرِيُّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِعَشَرَاتِ مِنْ الْأَرْطَالِ؛ فَإِنَّ الرِّطْلَ الْعِرَاقِيَّ الْقَدِيمَ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَهَذَا الرِّطْلُ الْمِصْرِيُّ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بخمسة عَشَرَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةِ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أُوقِيَّةٍ وَرُبْعٍ مِصْرِيَّةً فَالْخَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ؛ وَخَمْسَةٌ وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا؛ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ؛ وَذَلِكَ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ الَّذِي هُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ: مِائَةٌ وَسَبْعَةُ أَرْطَالٍ وَسُبْعُ رِطْلٍ. وَهَذَا الرِّطْلُ الْمِصْرِيُّ أَرْبَعُمِائَةِ رِطْلٍ وَسِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ رِطْلًا وَكَسْرُ أُوقِيَّةٍ وَمِسَاحَةُ الْقُلَّتَيْنِ ذِرَاعٌ وَرُبْعٌ فِي ذِرَاعٍ وَرُبْعٍ طُولًا وَعَرْضًا وَعُمْقًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَالِبَ هَذِهِ الْحِيَاضِ الَّتِي فِي الْحَمَّامَاتِ الْمِصْرِيَّةِ وَغَيْرِ الْحَمَّامَاتِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْمِقْدَارِ بِكَثِيرِ؛ فَإِنَّ الْقُلَّةَ نَحْوٌ مِنْ هَذِهِ الْقِرَبِ الْكَائِنَةِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ بِالشَّامِ وَمِصْرَ فَالْقُلَّتَانِ قِرْبَتَانِ بِهَذِهِ الْقِرَبِ وَهَذَا كُلُّهُ تَقْرِيبٌ بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّ تَحْدِيدَ الْقُلَّتَيْنِ إنَّمَا هُوَ بِالتَّقْرِيبِ عَلَى أَصْوَبِ الْقَوْلَيْنِ

ص: 52

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْحِيَاضَ فِيهَا أَضْعَافُ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَطَهَّرُ هُوَ وَأَزْوَاجُهُ مِنْ تِلْكَ الْآنِيَةِ: فَكَيْفَ بِالتَّطَهُّرِ مِنْ هَذِهِ الْحِيَاضِ؟ .

الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَهُّرُ مِنْ هَذِهِ الْحِيَاضِ سَوَاءٌ كَانَتْ فَائِضَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْأُنْبُوبُ تَصُبُّ فِيهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَاءُ بَائِنًا فِيهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ فَإِنَّهَا طَاهِرَةٌ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ طَهَارَتِهَا وَهِيَ بِكُلِّ حَالٍ أَكْثَرُ مَاءً مِنْ تِلْكَ الْآنِيَةِ الصِّغَارِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَتَطَهَّرُونَ مِنْهَا؛ وَلَمْ تَكُنْ فَائِضَةً وَلَا كَانَ بِهَا مَادَّةٌ مِنْ أُنْبُوبٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَمَنْ انْتَظَرَ الْحَوْضَ حَتَّى يَفِيضَ؛ وَلَمْ يَغْتَسِلْ إلَّا وَحْدَهُ؛ وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ دِينًا: فَهُوَ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ؛ مُسْتَحِقٌّ لِلتَّعْزِيرِ الَّذِي يُرْدِعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ أَنْ يُشَرِّعُوا فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَيَعْبُدُونَ اللَّهَ بِاعْتِقَادَاتِ فَاسِدَةٍ وَأَعْمَالٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ وَلَا مُسْتَحَبَّةٍ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: الِاقْتِصَادُ فِي صَبِّ الْمَاءِ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ} وَالصَّاعُ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ وَأَمَّا أَهْلُ الْحِجَازِ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ - كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ

ص: 53

فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ. وَحِكَايَةُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ مِقْدَارِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ؟ فَأَمَرَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَنْ يَأْتُوهُ بِصِيعَانِهِمْ حَتَّى اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ فَلَمَّا حَضَرَ أَبُو يُوسُفَ قَالَ مَالِكٌ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ: مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا الصَّاعُ؟ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّي بِهِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ الْآخَرُ: حَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ أُمِّهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُؤَدِّي بِهِ يَعْنِي: صَدَقَةَ حَدِيقَتِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ الْآخَرُ نَحْوَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْآخَرُ نَحْوَ ذَلِكَ. فَقَالَ مَالِكٌ لَأَبَى يُوسُفَ: أَتَرَى هَؤُلَاءِ يَكْذِبُونَ؟ قَالَ: لَا وَاَللَّهِ مَا يَكْذِبُ هَؤُلَاءِ قَالَ مَالِكٌ: فَأَنَا حَرَّرْت هَذَا بِرِطْلِكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ فَوَجَدْته خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلْثًا فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لِمَالِكِ: قَدْ رَجَعْت إلَى قَوْلِك يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَلَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْت لَرَجَعَ كَمَا رَجَعْت. فَهَذَا النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِمِقْدَارِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ. وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ - كَابْنِ قُتَيْبَةَ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي تَعْلِيقِهِ؛ وَجَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ - إلَى أَنَّ صَاعَ الطَّعَامِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ؛ وَصَاعَ الْمَاءِ ثَمَانِيَةٌ: وَاحْتَجُّوا بِحُجَجِ: مِنْهَا خَبَرُ {عَائِشَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْفَرَقِ} وَالْفَرَقُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا بِالْعِرَاقِيِّ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الصَّاعَ وَالْمُدَّ فِي الطَّعَامِ وَالْمَاءِ

ص: 54

وَاحِدٌ وَهُوَ أَظْهَرُ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مِقْدَارَ طَهُورِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَسْلِ مَا بَيْنَ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ عِرَاقِيَّةٍ إلَى خَمْسَةٍ وَثُلُثٍ وَالْوُضُوءُ رُبُعُ ذَلِكَ وَهَذَا بِالرِّطْلِ الْمِصْرِيِّ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاَلَّذِي يُكْثِرُ صَبَّ الْمَاءِ حَتَّى يَغْتَسِلَ بِقِنْطَارِ مَاءٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ: مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لَلسُّنَّةِ وَمَنْ تَدَيَّنَ بِهِ عُوقِبَ عُقُوبَةً تَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ ذَلِكَ كَسَائِرِ الْمُتَدَيِّنِينَ بِالْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لَلسُّنَّةِ وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يُفْعَلُ نَحْوُ هَذَا لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ يَكُونُ نَجِسًا أَوْ مُسْتَعْمَلًا؛ بِأَنْ تَكُونَ الْآنِيَةُ مِثْلَ الطَّاسَةِ اللَّاصِقَةِ بِالْأَرْضِ قَدْ تَنَجَّسَتْ بِمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ النَّجَاسَةِ؛ ثُمَّ غُرِفَ بِهَا مِنْهُ أَوْ بِأَنَّ الْجُنُبَ غَمَسَ يَدَهُ فِيهِ فَصَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا أَوْ قَطَرَ عَلَيْهِ مِنْ عَرَقِ سَقْفِ الْحَمَّامِ النَّجِسِ. أَوْ الْمُحْتَمِلِ لِلنَّجَاسَةِ أَوْ غَمَسَ بَعْضُ الدَّاخِلِينَ أَعْضَاءَهُ فِيهِ وَهِيَ نَجِسَةٌ فَنَجَّسَتْهُ؛ فَلِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ نَجِسًا أَوْ مُسْتَعْمَلًا احْتَطْنَا لِدِينِنَا وَعَدَلْنَا إلَى الْمَاءِ الطَّهُورِ بِيَقِينِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك} وَلِقَوْلِهِ: {مَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ} .

ص: 55

قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاحْتِيَاطَ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ فِي أُمُورِ الْمِيَاهِ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا وَلَا مَشْرُوعًا بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ السُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ بَلْ الْمَشْرُوعُ أَنْ يُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى النَّجَاسَةِ نَجَّسْنَاهُ؛ وَإِلَّا فَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْتَنَبَ اسْتِعْمَالُهُ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ وَأَمَّا إذَا قَامَتْ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ فَذَاكَ مَقَامٌ آخَرُ. وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ: أَنَّهُ مَا زَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ يَتَوَضَّئُونَ وَيَغْتَسِلُونَ وَيَشْرَبُونَ مِنْ الْمِيَاهِ الَّتِي فِي الْآنِيَةِ وَالدِّلَاءِ الصِّغَارِ وَالْحِيَاضِ وَغَيْرِهَا مَعَ وُجُودِ هَذَا الِاحْتِمَالِ بَلْ كُلُّ احْتِمَالٍ لَا يَسْتَنِدُ إلَى أَمَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ: مُحَرَّمٌ لِوَصْفِهِ؛ وَمُحَرَّمٌ لِكَسْبِهِ. فَالْمُحَرَّمُ لِكَسْبِهِ كَالظُّلْمِ وَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ؛ وَالْمُحَرَّمُ لِوَصْفِهِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. وَالْأَوَّلُ أَشَدُّ تَحْرِيمًا وَالتَّوَرُّعَ فِيهِ مَشْهُورٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَحْتَرِزُونَ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ مِنْ الشُّبُهَاتِ النَّاشِئَةِ مِنْ الْمَكَاسِبِ الْخَبِيثَةِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّمَا حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ وَصْفِ الْخَبَثِ وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ لَنَا طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ إمْكَانِ أَنْ لَا يُذَكُّوهُ التَّذْكِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَوْ يُسَمُّوا عَلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ وَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ سَمَّوْا عَلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ حُرِّمَ ذَلِكَ

ص: 56

فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يَأْتُونَ بِاللَّحْمِ وَلَا يُدْرَى أَسَمَّوْا عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا}

وَأَمَّا الْمَاءُ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ طَهُورٌ وَلَكِنْ إذَا خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ وَظَهَرَتْ فِيهِ صَارَ اسْتِعْمَالُهُ اسْتِعْمَالًا لِذَلِكَ الْخَبِيثِ فَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ لِمَا خَالَطَهُ مِنْ الْخَبِيثِ لَا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ خَبِيثٌ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَا أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى مُخَالَطَةِ الْخَبِيثِ لَهُ كَانَ هَذَا التَّقْدِيرُ وَالِاحْتِمَالُ مَعَ طِيبِ الْمَاءِ وَعَدَمِ التَّغْيِيرِ فِيهِ: مِنْ بَابِ الْحَرَجِ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ عَنْ شَرِيعَتِنَا وَمِنْ بَابِ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الْمَرْفُوعَةِ عَنَّا. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه تَوَضَّأَ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ مَعَ قِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَمَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَصَاحِبٌ لَهُ بِمِيزَابِ فَقَالَ صَاحِبُهُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ مَاؤُك طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرْهُ. فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إذَا سَقَطَ عَلَيْهِ مَاءٌ مِنْ مِيزَابٍ وَنَحْوِهِ وَلَا أَمَارَةَ تَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ لَمْ يَلْزَمْ السُّؤَالُ عَنْهُ بَلْ يُكْرَهُ وَإِنْ سَأَلَ: فَهَلْ يَلْزَمُ رَدُّ الْجَوَابِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَقَدْ اسْتَحَبَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ السُّؤَالَ وَهُوَ ضَعِيفٌ.

ص: 57

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ هُنَا مُنْتَفِيَةٌ؛ أَوْ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا وَالِالْتِفَاتُ إلَيْهَا حَرَجٌ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَوَسْوَسَةٌ يَأْتِي بِهَا الشَّيْطَانُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الطَّاسَاتِ وَغَيْرَهَا مِنْ الْآنِيَةِ الَّتِي يَدْخُلُ بِهَا النَّاسُ الْحَمَّامَاتِ: طَاهِرَةٌ فِي الْأَصْلِ وَاحْتِمَالُ نَجَاسَتِهَا أَضْعَفُ مِنْ احْتِمَالِ نَجَاسَةِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي فِي حَوَانِيتِ الْبَاعَةِ فَإِذَا كَانَتْ آنِيَةُ الْأَدْهَانِ وَالْأَلْبَانِ وَالْخُلُولِ وَالْعَجِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَائِعَاتِ وَالْجَامِدَاتِ وَالرَّطْبَةِ: مَحْكُومًا بِطَهَارَتِهَا؛ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ فِيهَا إلَى هَذَا الْوَسْوَاسِ: فَكَيْفَ بِطَاسَاتِ النَّاسِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهَا تَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ: فَنَعَمْ. وَمَا عِنْدَ الْحِيَاضِ مِنْ الْأَرْضِ طَاهِرٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الطَّهَارَةُ وَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنْ الْمِيَاهِ وَالسِّدْرِ والخطمي وَالْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: طَاهِرٌ وَأَبْدَانُ الْجُنُبِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ طَاهِرَةٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ {أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ؛ قَالَ: فَانْخَنَسْت مِنْهُ؛ فَاغْتَسَلْت ثُمَّ أَتَيْته فَقَالَ: أَيْنَ كُنْت؟ فَقُلْت: إنِّي كُنْت جُنُبًا؛ فَكَرِهْت أَنْ أُجَالِسَك وَأَنَا جُنُبٌ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ} . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ: أَنَّ بَدَنَ الْجُنُبِ طَاهِرٌ وَعَرَقُهُ طَاهِرٌ وَالثَّوْبَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ عَرَقُهُ طَاهِرٌ؛ وَلَوْ سَقَطَ الْجُنُبُ

ص: 58

فِي دُهْنٍ أَوْ مَائِعٍ لَمْ يُنَجِّسْهُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ بَلْ وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ عَرَقُهَا طَاهِرٌ وَثَوْبُهَا الَّذِي يَكُونُ فِيهِ عَرَقُهَا طَاهِرٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ {النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَذِنَ لِلْحَائِضِ أَنْ تُصَلِّيَ فِي ثَوْبِهَا الَّذِي تَحِيضُ فِيهِ وَأَنَّهَا إذَا رَأَتْ فِيهِ دَمًا أَزَالَتْهُ وَصَلَّتْ فِيهِ} . فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَمِنْ أَيْنَ يَنْجُسُ ذَلِكَ الْبَلَاطُ؟ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ إنَّهُ قَدْ يَبُولُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُغْتَسِلِينَ؛ أَوْ يَبْقَى عَلَيْهِ؛ أَوْ يَكُونُ عَلَى بَدَنِ بَعْضِ الْمُغْتَسِلِينَ نَجَاسَةٌ يَطَأُ بِهَا الْأَرْضَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَجَوَابُ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا قَلِيلٌ نَادِرٌ؛ وَلَيْسَ هَذَا الْمُتَيَقَّنُ مِنْ كُلِّ بُقْعَةٍ. الثَّانِي: أَنَّ غَالِبَ مَنْ تَقَعُ مِنْهُ نَجَاسَةٌ يَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ الَّذِي يُزِيلُهَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا أَصَابَ ذَلِكَ الْبَلَاطَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا: فَإِنَّ الْمَاءَ الَّذِي يَفِيضُ مِنْ الْحَوْضِ وَاَلَّذِي يَصُبُّهُ النَّاسُ: يُطَهِّرُ تِلْكَ الْبُقْعَةَ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ تَطْهِيرَهَا؛ فَإِنَّ الْقَصْدَ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ لَيْسَ بِشَرْطِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ذَكَرُوا وَجْهًا ضَعِيفًا فِي ذَلِكَ؛ لِيَطْرُدُوا قِيَاسَهُمْ فِي مُنَاظَرَةِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ. كَمَا أَنَّ زُفَرَ نَفَى وُجُوبَ النِّيَّةِ فِي

ص: 59

التَّيَمُّمِ طَرْدًا لِقِيَاسِهِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُطْرَحٌ. وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَاءَ الْمَطَرِ يُطَهِّرُ الْأَرْضَ الَّتِي يُصِيبُهَا وَغَالِبُ الْمَاءِ الَّذِي يُصَبُّ عَلَى الْأَرْضِ لَيْسَ بِمُسْتَعْمَلِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمَاءِ الَّذِي يَصُبُّهُ النَّاسُ لَا يَكُونُ عَنْ جَنَابَةٍ وَلَا يَكُونُ مُتَغَيِّرًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّ الْحَوْضَ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ مُحَقَّقَةٌ؛ أَوْ انْغَمَسَ فِيهِ جُنُبٌ: فَهَذَا مَاءٌ كَثِيرٌ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بضاعة وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ؛ وَلُحُومُ الْكَلْبِ؛ وَالنَّتْنُ؟ فَقَالَ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ} . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: حَدِيثُ بِئْرِ بضاعة صَحِيحٌ. وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ؟ فَقَالَ: إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ} وَفِي لَفْظٍ {لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ} . وَبِئْرُ بضاعة بِئْرٌ كَسَائِرِ الْآبَارِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ إلَى الْآنَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ النَّاحِيَةِ الشَّرْقِيَّةِ وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا كَانَتْ عَيْنًا جَارِيَةً فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا بَيِّنًا؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ عَيْنٌ جَارِيَةٌ أَصْلًا وَلَمْ يَكُنْ بِهَا إلَّا الْآبَارُ مِنْهَا يَتَوَضَّؤُونَ وَيَغْتَسِلُونَ

ص: 60

وَيَشْرَبُونَ مِثْلُ بِئْرِ أَرِيسَ الَّتِي بقُبَاء؛ أَوْ الْبِئْرُ الَّتِي ببيرحاء حَدِيقَةُ أَبِي طَلْحَةَ وَالْبِئْرُ الَّتِي اشْتَرَاهَا عُثْمَانُ وَحَبَسَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرُ هَذِهِ الْآبَارِ وَكَانَ سَقْيُهُمْ لِلنَّخْلِ وَالزَّرْعِ مِنْ الْآبَارِ بِالنَّوَاضِحِ وَالسَّوَانِي وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَمَا يَأْتِي مِنْ السُّيُولِ فَأَمَّا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ. وَهَذِهِ الْعُيُونُ الَّتِي تُسَمَّى عُيُونَ حَمْزَةَ إنَّمَا أَحْدَثَهَا مُعَاوِيَةُ فِي خِلَافَتِهِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِنَقْلِ الشُّهَدَاءِ مِنْ مَوْضِعِهَا فَصَارُوا ينبشونهم وَهُمْ رِطَابٌ لَمْ يُنْتِنُوا حَتَّى أَصَابَتْ الْمِسْحَاةُ رِجْلَ أَحَدِهِمْ فَانْبَعَثَتْ دَمًا وَكَذَلِكَ عَيْنُ الزَّرْقَاءِ مُحْدَثَةٌ؛ لَكِنْ لَا أَدْرِي مَتَى حَدَثَتْ؟ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْعَالِمِينَ بِالْمَدِينَةِ وَأَحْوَالِهَا وَإِنَّمَا يُنَازِعُ فِي مِثْلِ هَذَا بَعْضُ أَتْبَاعِ عُلَمَاءِ الْعِرَاقِ؛ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ خِبْرَةٌ بِأَحْوَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَدِينَتِهِ وَسِيرَتِهِ. وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ مِنْ تِلْكَ الْبِئْرِ الَّتِي يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ: فَكَيْفَ يُشْرَعُ لَنَا أَنْ نَتَنَزَّهَ عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ يَتَنَزَّهُ عَمَّا يَفْعَلُهُ وَقَالَ: {مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ أَشْيَاءَ أَتَرَخَّصُ فِيهَا؟ وَاَللَّهِ إنِّي لِأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ} .

ص: 61

وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: نَتَنَزَّهُ عَنْ هَذَا لِأَجْلِ الْخِلَافِ فِيهِ؛ فَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَنْ يَقُولُ الْمَاءُ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ نَجَّسَتْهُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا تَبْلُغُهُ النَّجَاسَةُ؛ وَيُقَدِّرُونَهُ بِمَا لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحَرُّكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَهَلْ الْعِبْرَةُ بِحَرَكَةِ الْمُتَوَضِّئِ أَوْ بِحَرَكَةِ الْمُغْتَسِلِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ. وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ} ثُمَّ يَقُولُونَ: إذَا تَنَجَّسَتْ الْبِئْرُ فَإِنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهَا دِلَاءٌ مُقَدَّرَةٌ فِي بَعْضِ النَّجَاسَاتِ وَفِي بَعْضِهَا تُنْزَحُ الْبِئْرُ كُلُّهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ مُتَكَلِّمِيهِمْ إلَى أَنَّ الْبِئْرَ تُطَمُّ فَهَذَا الِاخْتِلَافُ يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْمَاءِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ؟ قِيلَ لِهَذَا الْقَائِلِ: الِاخْتِلَافُ إنَّمَا يُورِثُ شُبْهَةً إذَا لَمْ تَتَبَيَّنْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْخَصَ فِي شَيْءٍ؛ وَقَدْ كَرِهَ أَنْ نَتَنَزَّهَ عَمَّا تَرَخَّصَ فِيهِ؛ وَقَالَ لَنَا: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ} رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ خُزَيْمَة فِي صَحِيحِهِ: فَإِنْ تَنَزَّهْنَا عَنْهُ عَصَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ نُرْضِيَهُ وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُغْضِبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِشُبْهَةِ وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ كَمَا كَانَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ لَكُنَّا نَكْرَهُ لِمَنْ أَرْسَلَ هَدْيًا أَنْ يَسْتَبِيحَ

ص: 62

مَا يَسْتَبِيحُهُ الْحَلَّالُ لِخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَكِنَّا نَسْتَحِبُّ لِلْجُنُبِ إذَا صَامَ أَنْ يَغْتَسِلَ لِخِلَافِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَلَكِنَّا نَكْرَهُ تَطَيُّبُ الْمُحْرِمِ قَبْلَ الطَّوَافِ لِخِلَافِ عُمَرَ وَابْنِهِ وَمَالِكٍ. وَكُنَّا نَكْرَهُ لَهُ أَنْ يُلَبِّيَ إلَى أَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ لِخِلَافِ مَالِك وَغَيْرِهِ. وَمِثْلُ هَذَا وَاسِعٌ لَا يَنْضَبِطُ. وَأَمَّا مَنْ خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ رضي الله عنهم فَهُمْ مُجْتَهِدُونَ قَالُوا بِمَبْلَغِ عِلْمِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ وَهُمْ إذَا أَصَابُوا فَلَهُمْ أَجْرَانِ وَإِذَا أَخْطَئُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ وَالْخَطَأُ مَحْطُوطٌ عَنْهُمْ فَهُمْ مَعْذُورُونَ لِاجْتِهَادِهِمْ؛ وَلِأَنَّ السُّنَّةَ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ وَمَنْ انْتَهَى إلَى مَا عُلِمَ فَقَدْ أَحْسَنَ. فَأَمَّا مَنْ تَبْلُغُهُ السُّنَّةُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَتَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةُ الْحَالِ: فَلَمْ يَبْقَ لَهُ عُذْرٌ فِي أَنْ يَتَنَزَّهَ عَمَّا تَرَخَّصَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَرْغَبُ عَنْ سُنَّتِهِ لِأَجْلِ اجْتِهَادِ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ {أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَقْوَامًا يَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ. وَيَقُولُ الْآخَرُ: فَأَنَا أَقُومُ وَلَا أَنَامُ. وَيَقُولُ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. وَيَقُولُ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ فَقَالَ: بَلْ أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنَامُ؛ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي} .

ص: 63

وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ وَتَرْكِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ: أَفْضَلُ مِنْ هَذَا وَهُمْ فِي هَذَا إذَا كَانُوا مُجْتَهِدِينَ مَعْذُورُونَ. وَمَنْ عَلِمَ السُّنَّةَ فَرَغِبَ عَنْهَا لِأَجْلِ اعْتِقَادِ: أَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ إلَى هَذَا أَفْضَلُ؛ وَأَنَّ هَذَا الْهَدْيَ أَفْضَلُ مِنْ هَدْيِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا بَلْ هُوَ تَحْتَ الْوَعِيدِ النَّبَوِيِّ بِقَوْلِهِ: {مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي} . وَفِي الْجُمْلَةِ (بَابٌ الِاجْتِهَادُ وَالتَّأْوِيلُ بَابٌ وَاسِعٌ يَئُولُ بِصَاحِبِهِ إلَى أَنْ يَعْتَقِدَ الْحَرَامَ حَلَالًا كَمَنْ تَأَوَّلَ فِي رِبَا الْفَضْلِ وَالْأَنْبِذَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا وَحُشُوشِ النِّسَاءِ وَإِلَى أَنْ يَعْتَقِدَ الْحَلَالَ حَرَامًا مِثْلُ بَعْضِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ مِثْلُ الضَّبِّ وَغَيْرِهِ بَلْ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ قَتْلِ الْمَعْصُومِ أَوْ بِالْعَكْسِ. فَأَصْحَابُ الِاجْتِهَادِ وَإِنْ عُذِرُوا وَعُرِفَتْ مَرَاتِبُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ: فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا تَبَيَّنَ مِنْ السُّنَّةِ وَالْهَدْيِ لِأَجْلِ تَأْوِيلِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ قَدْ يَغْمِسُ يَدَهُ فِيهِ أَوْ يَنْغَمِسُ فِيهِ الْجُنُبُ. فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَنَّ هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ النَّجَاسَةُ: فَكَيْفَ تُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَنَابَةُ؟ وَقَدْ أَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ {نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَنْ يَبُولَ الرَّجُلُ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ} بِأَجْوِبَةِ.

ص: 64

أَحَدُهَا: أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الِاغْتِسَالِ وَعَنْ الْبَوْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُفْضِي إلَى الْإِكْثَارِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَتَغَيَّرَ الْمَاءُ وَإِذَا بَالَ ثُمَّ اغْتَسَلَ فَقَدْ يُصِيبُهُ الْبَوْلُ قَبْلَ اسْتِحَالَتِهِ. وَهَذَا جَوَابُ مَنْ يَقُولُ: الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ؛ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ اخْتَارَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ صَاحِبُ التَّعْلِيقَةِ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ؛ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. وَهَذَا جَوَابُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد. الثَّالِثُ: أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْبَوْلِ وَالْبَوْلُ أَغْلَظُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ؛ وَصِيَانَةُ الْمَاءِ مِنْهُ مُمْكِنَةٌ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فَلَمَّا غَلُظَ - وَصِيَانَةُ الْمَاءِ عَنْهُ مُمْكِنَةٌ - فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَعْسُرُ صِيَانَةُ الْمَاءِ عَنْهُ؛ وَهُوَ دُونُهُ. وَهَذَا جَوَابُ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ؛ وَاخْتِيَارُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ. الْجَوَابُ الرَّابِعُ: أَنَّا نَفْرِضُ أَنَّ الْمَاءَ قَلِيلٌ؛ وَأَنَّ الْمُغْتَسِلِينَ غَمَسُوا فِيهِ أَيْدِيَهُمْ: فَهَذَا بِعَيْنِهِ صُورَةُ النُّصُوصِ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَزْوَاجِهِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ.

وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْمَاءَ الْمُتَطَهَّرَ بِهِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إذَا غَمَسَ الْجُنُبُ يَدَهُ فِيهِ: هَلْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ.

ص: 65

وَهُوَ نَظِيرُ غَمْسِ الْمُتَوَضِّئِ يَدَهُ بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ التَّرْتِيبَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ: الْفَرْقُ بِهِ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ الْغُسْلَ أَوْ لَا يَنْوِيَهُ؛ فَإِنْ نَوَى مُجَرَّدَ الْغُسْلِ صَارَ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ نَوَى مُجَرَّدَ الِاغْتِرَافِ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ أَطْلَقَ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ {النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ اغْتَرَفَ مِنْ الْإِنَاءِ بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ} كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ اغْتَرَفَ مِنْهُ فِي الْجَنَابَةِ وَلَمْ يُحَرِّجْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَلْ قَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ أَكْثَرَ تَوَضُّؤِ الْمُسْلِمِينَ وَاغْتِسَالِهِمْ عَلَى عَهْدِهِ كَانَ مِنْ الْآنِيَةِ الصِّغَارِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَغْمِسُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ جَمِيعًا فَمَنْ جَعَلَ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا بِذَلِكَ فَقَدْ ضَيَّقَ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَنَحْنُ نَحْتَرِزُ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ قَوْلِ مَنْ يُنَجِّسُ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ. قِيلَ: هَذَا أَبْعَدُ عَنْ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ نَجَاسَةٌ حِسِّيَّةٌ كَنَجَاسَةِ الدَّمِ وَنَحْوِهِ - وَإِنْ كَانَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - فَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا؛ مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَدِلَّةِ الْجَلِيَّةِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَوَارِدِ الظُّنُونِ بَلْ هِيَ قَطْعِيَّةٌ بِلَا رَيْبٍ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ {النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَصَبَّ وَضُوءَهُ عَلَى جَابِرٍ} وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ كَمَا يَأْخُذُونَ

ص: 66

نُخَامَتَهُ وَكَمَا اقْتَسَمُوا شَعْرَهُ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فَمَنْ نَجَّسَ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَجَّسَ شُعُورَ الْآدَمِيِّينَ بَلْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَجَّسَ الْبُصَاقَ كَمَا يُرْوَى عَنْ سَلْمَانَ. وَأَيْضًا فَبَدَنُ الْجُنُبِ طَاهِرٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَاءُ الطَّاهِرُ إذَا لَاقَى مَحَلًّا طَاهِرًا لَمْ يَنْجُسْ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِتَسْمِيَةِ ذَلِكَ طَهَارَةً؛ وَأَنَّهَا ضِدُّ النَّجَاسَةِ: فَضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ أَنَّ كُلَّ طَهَارَةٍ فَضِدُّهَا النَّجَاسَةُ؛ فَإِنَّ الطَّهَارَةَ تَنْقَسِمُ إلَى: طَهَارَةِ خَبَثٍ وَحَدَثٍ طَهَارَةً عَيْنِيَّةً وَحُكْمِيَّةً. الثَّانِي: أَنَّا نُسَلِّمُ ذَلِكَ وَنَقُولُ: النَّجَاسَةُ أَنْوَاعٌ كَالطَّهَارَةِ فَيُرَادُ بِالطَّهَارَةِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ كَمَا يُرَادُ بِالنَّجَاسَةِ ضِدُّ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وَهَذِهِ النَّجَاسَةُ لَا تُفْسِدُ الْمَاءَ بِدَلِيلِ أَنَّ سُؤْرَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ طَاهِرٌ وَآنِيَتُهُمْ الَّتِي يَصْنَعُونَ فِيهَا الْمَائِعَاتِ وَيَغْمِسُونَ فِيهَا أَيْدِيَهُمْ طَاهِرَةٌ وَقَدْ {أَهْدَى الْيَهُودِيُّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَاةً مَشْوِيَّةً وَأَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً} مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ بَاشَرُوهَا. {وَقَدْ أَجَابَ صلى الله عليه وسلم يَهُودِيًّا إلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ} .

ص: 67

وَالثَّانِي: يُرَادُ بِالطَّهَارَةِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْحَدَثِ وَضِدُّ هَذِهِ نَجَاسَةُ الْحَدَثِ كَمَا قَالَ أَحْمَد فِي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ لَمَّا سُئِلَ عَنْ نَحْوِ ذَلِكَ: إنَّهُ أَنْجَسُ الْمَاءِ. فَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَرَادَ نَجَاسَةَ الْجُنُبِ؛ فَذَكَرَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْهُ. وَإِنَّمَا أَرَادَ أَحْمَد نَجَاسَةَ الْحَدَثِ وَأَحْمَد رضي الله عنه لَا يُخَالِفُ سُنَّةً ظَاهِرَةً مَعْلُومَةً لَهُ قَطُّ وَالسُّنَّةُ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ تَخْفَى عَلَى أَقَلِّ أَتْبَاعِهِ لَكِنْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: اغْسِلْ بَدَنَك مِنْهُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ؛ فَإِنَّ غَسْلَ الْبَدَنِ مِنْ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ لَا يَجِبُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَكِنْ ذَكَرُوا عَنْ أَحْمَد رحمه الله فِي اسْتِحْبَابِ غَسْلِ الْبَدَنِ مِنْهُ: رِوَايَتَيْنِ. الرِّوَايَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّ هَذَا عَمَلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُونُوا يَغْسِلُونَ ثِيَابَهُمْ بِمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ الْوُضُوءِ. الثَّالِثُ: يُرَادُ بِالطَّهَارَةِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْأَعْيَانِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي هِيَ نَجِسَةٌ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ النَّجَاسَةِ بِالْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ الْخَبِيثَةِ؛ كَالدَّمِ وَالْمَاءِ الْمُنَجَّسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّتْ النُّصُوصُ وَالْإِجْمَاعُ الْقَدِيمُ وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ عَلَى بُطْلَانِهِ. وَعَلَى هَذَا فَجَمِيعُ هَذِهِ الْمِيَاهِ الَّتِي فِي الْحِيَاضِ؛ وَالْبِرَكِ الَّتِي فِي الْحَمَّامَاتِ وَالطُّرُقَاتِ وَعَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَفِي الْمَدَارِسِ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ: لَا يُكْرَهُ التَّطَهُّرُ بِشَيْءِ مِنْهَا وَإِنْ سَقَطَ فِيهَا

ص: 68

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ أَمْرٍ ثَبَتَتْ فِيهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالرُّخْصَةِ لِأَجْلِ شُبْهَةٍ وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ جَوَابُ السَّائِلِ عَنْ الْمَاءِ الَّذِي يَقْطُرُ مِنْ بَدَنِ الْجُنُبِ بِجِمَاعِ أَوْ غَيْرِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ وَأَنَّ التَّنَزُّهَ عَنْهُ أَوْ عَنْ مُلَامَسَتِهِ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي فِي ذَلِكَ بِدْعَةٌ مُخَالِفَةٌ لَلسُّنَّةِ وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْجُنُبَ لَوْ مَسَّ مُغْتَسِلًا لَمْ يُقْدَحْ فِي صِحَّةِ غُسْلِهِ.

وَأَمَّا الْمُسْخَنُ بِالنَّجَاسَةِ فَلَيْسَ بِنَجِسِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا يُنَجِّسُهُ وَأَمَّا كَرَاهَتُهُ فَفِيهَا نِزَاعٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُمَا. وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ لَهَا مَأْخَذَانِ: أَحَدُهُمَا: احْتِمَالُ وُصُولِ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إلَى الْمَاءِ؛ فَيَبْقَى مَشْكُوكًا فِي طِهَارَتِهِ شَكًّا مُسْتَنِدًا إلَى أَمَارَةٍ ظَاهِرَةٍ فَعَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ مَتَى كَانَ بَيْنَ الْوَقُودِ وَالْمَاءِ حَاجِزٌ حَصِينٌ كَمِيَاهِ الْحَمَّامَاتِ لَمْ يُكْرَهْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَيَقَّنَ أَنَّ الْمَاءَ لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ النَّجَاسَةُ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد كَالشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا.

ص: 69

وَالثَّانِي: أَنَّ سَبَبَ الْكَرَاهَةِ كَوْنُهُ سُخِّنَ بِإِيقَادِ النَّجَاسَةِ؛ وَاسْتِعْمَالُ النَّجَاسَةِ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ؛ وَالْحَاصِلُ بِالْمَكْرُوهِ مَكْرُوهٌ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا إنَّمَا الْكَرَاهَةُ إذَا كَانَ التَّسْخِينُ حَصَلَ بِالنَّجَاسَةِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ غَالِبُ الْوَقُودِ طَاهِرًا أَوْ شَكَّ فِيهِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ. وَأَمَّا دُخَانُ النَّجَاسَةِ: فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْعَيْنَ النَّجِسَةَ الْخَبِيثَةَ إذَا اسْتَحَالَتْ حَتَّى صَارَتْ طَيِّبَةً كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْيَانِ الطَّيِّبَةِ - مِثْلَ أَنْ يَصِيرَ مَا يَقَعُ فِي الْمَلَّاحَةِ مِنْ دَمٍ وَمَيْتَةٍ وَخِنْزِيرٍ مِلْحًا طَيِّبًا كَغَيْرِهَا مِنْ الْمِلْحِ أَوْ يَصِيرُ الْوَقُودُ رَمَادًا وخرسفا وقصرملا وَنَحْوَ ذَلِكَ - فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَطْهُرُ. كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ؛ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِ أَحْمَد؛ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: أَنَّهُ طَاهِرٌ؛ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؛ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَمَذْهَبِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهَا تَطْهُرُ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَمْ تَتَنَاوَلْهَا نُصُوصُ التَّحْرِيمِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى؛ فَلَيْسَتْ مُحَرَّمَةً وَلَا فِي مَعْنَى الْمُحَرَّمِ فَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهَا بَلْ تَتَنَاوَلُهَا نُصُوصُ الْحِلِّ؛ فَإِنَّهَا مِنْ الطَّيِّبَاتِ. وَهِيَ أَيْضًا فِي مَعْنَى مَا اتَّفَقَ عَلَى حِلِّهِ

ص: 70

فَالنَّصُّ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي تَحْلِيلَهَا.

وَأَيْضًا فَقَدْ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى الْخَمْرِ إذَا صَارَتْ خَلًّا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى صَارَتْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاسْتِحَالَةُ هَذِهِ الْأَعْيَانِ أَعْظَمُ مِنْ اسْتِحَالَةِ الْخَمْرِ وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا قَالُوا: الْخَمْرُ نُجِّسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَطَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ بِخِلَافِ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. وَهَذَا الْفَرْقُ ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ نُجِّسَتْ أَيْضًا بِالِاسْتِحَالَةِ. فَإِنَّ الدَّمَ مُسْتَحِيلٌ عَنْ أَعْيَانٍ طَاهِرَةٍ وَكَذَلِكَ الْعَذِرَةُ وَالْبَوْلُ وَالْحَيَوَانُ النَّجِسُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ مَادَّةٍ طَاهِرَةٍ مَخْلُوقَةٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَبَائِثَ لِمَا قَامَ بِهَا مِنْ وَصْفِ الْخَبَثِ كَمَا أَنَّهُ أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ لِمَا قَامَ بِهَا مِنْ وَصْفِ الطِّيبِ وَهَذِهِ الْأَعْيَانُ الْمُتَنَازَعُ فِيهَا لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ وَصْفِ الْخَبَثِ وَإِنَّمَا فِيهَا وَصْفُ الطِّيبِ. فَإِذَا عُرِفَ هَذَا: فَعَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فَالدُّخَانُ وَالْبُخَارُ الْمُسْتَحِيلُ عَنْ النَّجَاسَةِ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ أَجْزَاءٌ هَوَائِيَّةٌ وَنَارِيَّةٌ وَمَائِيَّةٌ؛ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ وَصْفِ الْخَبَثِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْفَى مِنْ ذَلِكَ عَمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ كَمَا يُعْفَى عَمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. وَمَنْ حَكَمَ بِنَجَاسَةِ

ص: 71

ذَلِكَ وَلَمْ يَعْفُ عَمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَقَوْلُهُ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ. هَذَا إذَا كَانَ الْوَقُودُ نَجِسًا. فَأَمَّا الطَّاهِرُ كَالْخَشَبِ وَالْقَصَبِ وَالشَّوْكِ فَلَا يُؤَثِّرُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ أَرْوَاثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ؛ فَإِنَّهَا طَاهِرَةٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ مِمَّا يَفِيضُ وَيَنْزِلُ مِنْ أَبْدَانِ الْمُغْتَسِلِينَ غُسْلَ النَّظَافَةِ وَغُسْلَ الْجَنَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنْ الْغُسْلِ كَالسِّدْرِ والخطمي وَالْأُشْنَانِ مَا فِيهِ إلَّا إذَا عُلِمَ فِي بَعْضِهِ بَوْلٌ أَوْ قَيْءٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النَّجَاسَاتِ: فَذَلِكَ الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَتْهُ هَذِهِ النَّجَاسَاتُ لَهُ حُكْمُهُ. وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُهُ بِلَا نِزَاعٍ لَا سِيَّمَا وَهَذِهِ الْمِيَاهُ جَارِيَةٌ بِلَا رَيْبٍ بَلْ مَاءُ الْحَمَّامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إذَا كَانَ الْحَوْضُ فَائِضًا فَإِنَّهُ جَارٍ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَكُونُ فِي الْأَنْهَارِ مِنْ حُفْرَةٍ وَنَحْوِهَا؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَاءَ وَإِنْ كَانَ الْجَرَيَانُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِنَّهُ يُسْتَخْلَفُ شَيْئًا فَشَيْئًا؛ وَيَذْهَبُ وَيَأْتِي مَا بَعْدَهُ؛ لَكِنْ يُبْطِئُ ذَهَابُهُ بِخِلَافِ الَّذِي يَجْرِي جَمِيعُهُ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَاءِ الْجَارِي عَلَى قَوْلَيْنِ:

ص: 72

أَحَدُهُمَا: لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ تَشْدِيدِهِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنَصُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَاخْتِيَارُ مُحَقِّقِي أَصْحَابِهِ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ؛ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد: أَنَّهُ كَالدَّائِمِ فَتُعْتَبَرُ الْجَرْيَةُ. وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ الدَّائِمِ وَالْجَارِي فِي نَهْيِهِ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ وَالْبَوْلِ فِيهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَلِأَنَّ الْجَارِيَ إذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ النَّجَاسَةُ فَلَا وَجْهَ لِنَجَاسَتِهِ. وَقَوْلُهُ: {إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ} إنَّمَا دَلَّ عَلَى مَا دُونَهُمَا بِالْمَفْهُومِ وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا دُونُ الْقُلَّتَيْنِ يَحْمِلُ الْخَبَثَ بَلْ إذَا فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ دَائِمٍ وَجَارٍ أَوْ إذَا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَحْمِلُ الْخَبَثَ كَانَ الْحَدَثُ مَعْمُولًا بِهِ. فَإِذَا كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينِ وَلَيْسَ فِي نَجَاسَتِهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ وَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى طَهَارَتِهِ مَعَ بَقَاءِ صِفَاتِهِ وَإِذَا كَانَ حَوْضُ الْحَمَّامِ الْفَائِضِ إذَا كَانَ قَلِيلًا وَوَقَعَ فِيهِ بَوْلٌ أَوْ دَمٌ أَوْ عَذِرَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ: لِمَ يُنَجِّسْهُ عَلَى الصَّحِيحِ فَكَيْفَ بِالْمَاءِ الَّذِي جَمِيعُهُ يَجْرِي عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ؟ فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ لَمْ يَنْجُسْ.

ص: 73

وَهَذَا يَتَّضِحُ بِمَسْأَلَةِ أُخْرَى؛ وَهُوَ: أَنَّ الْأَرْضَ وَإِنْ كَانَتْ تُرَابًا أَوْ غَيْرَ تُرَابٍ إذَا وَقَعَتْ عَلَيْهَا نَجَاسَةٌ مِنْ بَوْلٍ أَوْ عَذِرَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا: فَإِنَّهُ إذَا صُبَّ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى زَالَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ: فَالْمَاءُ وَالْأَرْضُ طَاهِرَانِ وَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ الْمَاءُ فِي مَذْهَبِ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ فَكَيْفَ بِالْبَلَاطِ؟ وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ السَّطْحَ إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَأَصَابَهُ مَاءُ الْمَطَرِ حَتَّى أَزَالَ عَيْنَهَا كَانَ مَا يَنْزِلُ مِنْ الميازيب طَاهِرًا؛ فَكَيْفَ بِأَرْضِ الْحَمَّامِ؟ فَإِذَا كَانَ بِهَا بَوْلٌ أَوْ قَيْءٌ فَصُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ حَتَّى ذَهَبَتْ عَيْنُهُ: كَانَ الْمَاءُ وَالْأَرْضُ طَاهِرَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ الْمَاءُ؛ فَكَيْفَ إذَا جَرَى وَزَالَ عَنْ مَكَانِهِ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَذَكَرْنَا بِضْعَةَ عَشَرَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا عَلَى طَهَارَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثِهِ فَإِذَا كَانَتْ طَاهِرَةً فَكَيْفَ بِالْمُسْتَحِيلِ مِنْهَا أَيْضًا؟ وَطَهَارَةُ هَذِهِ الْأَرْوَاثِ بَيِّنَةٌ فِي السُّنَّةِ فَلَا يُجْعَلُ الْخِلَافُ فِيهَا شُبْهَةً يُسْتَحَبُّ لِأَجْلِهِ اتِّقَاءُ مَا خَالَطَتْهُ؛ إذْ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُلَابِسُونَهَا. وَأَمَّا رَوْثُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ: فَهَذِهِ نَجِسَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى طَهَارَتِهَا؛ وَأَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ مِنْ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ إلَّا بَوْلُ الْآدَمِيِّ وَعَذِرَتُهُ؛ لَكِنْ عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ إذَا شَكَّ فِي الرَّوْثَةِ: هَلْ هِيَ مِنْ رَوْثِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ

ص: 74

مِنْ رَوْثِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ؟ فَفِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد: أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَرْوَاثِ النَّجَاسَةُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ: يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ. وَدَعْوَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَرْوَاثِ النَّجَاسَةُ مَمْنُوعٌ؛ فَلَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ لَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَمَنْ ادَّعَى أَصْلًا بِلَا نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ فَقَدْ أَبْطَلَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا الْقِيَاسُ فَرَوْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ؛ فَكَيْفَ يُدَّعَى أَنَّ الْأَصْلَ نَجَاسَةُ الْأَرْوَاثِ؟ إذَا عُرِفَ ذَلِكَ. فَإِنَّ تَيَقُّنَ أَنَّ الْوَقُودَ نَجِسٌ فَالدُّخَانُ مِنْ مَسَائِلِ الِاسْتِحَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا إذَا تَيَقَّنَ طَهَارَتَهُ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ. وَإِنْ شَكَّ: هَلْ فِيهِ نَجَسٌ؟ فَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّ فِيهِ رَوْثًا وَشَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ فَالصَّحِيحُ الْحُكْمُ بِطَهَارَتِهِ. وَإِنْ عَلِمَ اشْتِمَالَهُ عَلَى طَاهِرٍ وَنَجِسٍ وَقُلْنَا بِنَجَاسَةِ الْمُسْتَحِيلِ عَنْهُ: كَانَ لَهُ حُكْمُهُ فِيمَا يُصِيبُ بَدَنَ الْمُغْتَسِلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الطَّاهِرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّجِسِ فَلَا يَنْجُسُ بِالشَّكِّ كَمَا لَوْ أَصَابَهُ بَعْضُ رَمَادٍ مِثْلَ هَذَا الْوَقُودِ فَإِنَّا لَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَةِ الْبَدَنِ بِذَلِكَ وَإِنْ تَيَقَّنَّا أَنَّ فِي الْوَقُودِ نَجَسًا؛ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّمَادُ غَيْرَ نَجِسٍ وَالْبَدَنُ طَاهِرٌ بِيَقِينِ فَلَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ. وَهَذَا إذَا لَمْ يَخْتَلِطْ الرَّمَادُ النَّجِسُ بِالطَّاهِرِ؛ أَوْ الْبُخَارُ النَّجِسُ بِالطَّاهِرِ.

ص: 75

فَأَمَّا إذَا اخْتَلَطَا بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ: فَمَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ يَكُونُ مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ وَلَكِنَّ الْوَقُودَ فِي مَقَرِّهِ لَا يَكُونُ مُخْتَلِطًا بَلْ رَمَادُ كُلِّ نَجَاسَةٍ يَبْقَى فِي حَيِّزِهَا.

فَإِنْ قِيلَ: لَوْ اشْتَبَهَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ كَاشْتِبَاهِ أُخْتِهِ بِأَجْنَبِيَّةٍ أَوْ الْمَيْتَةِ بِالْمُذَكَّاةِ اجْتَنَبَهُمَا جَمِيعًا. وَلَوْ اشْتَبَهَ الْمَاءُ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ: فَقِيلَ: يَتَحَرَّى لِلطَّهَارَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ النَّجِسُ نَجِسَ الْأَصْلِ بِأَنْ يَكُونَ بَوْلًا كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. وَقِيلَ: لَا يَتَحَرَّى؛ بَلْ يَجْتَنِبُهُمَا كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَوْلًا وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقِيلَ: يَتَحَرَّى إذَا كَانَتْ الْآنِيَةُ أَكْبَرَ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد. وَفِي تَقْدِيرِ الْكَبِيرِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ فَهُنَا أَيْضًا اشْتَبَهَتْ الْأَعْيَانُ النَّجِسَةُ بِالطَّاهِرَةِ فَاشْتَبَهَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ. قِيلَ: هَذَا صَحِيحٌ وَلَكِنَّ مَسْأَلَتَنَا لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَبَهَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ اجْتَنَبَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَعْمَلَهُمَا لَزِمَ اسْتِعْمَالُ الْحَرَامِ قَطْعًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَاطِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ كَالنَّجَاسَةِ إذَا ظَهَرَتْ فِي الْمَاءِ وَإِنْ اسْتَعْمَلَ أَحَدَهُمَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ كَانَ تَرْجِيحًا بِلَا مُرَجِّحٍ؛ وَهُمَا مُسْتَوَيَانِ فِي الْحُكْمِ فَلَيْسَ اسْتِعْمَالُ هَذَا بِأَوْلَى مِنْ هَذَا؛ فَيُجْتَنَبَانِ جَمِيعًا.

ص: 76

وَأَمَّا اشْتِبَاهُ الْمَاءِ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ فَإِنَّمَا نَشَأَ فِيهِ النِّزَاعُ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ بِالطَّهُورِ وَاجِبَةٌ؛ وَبِالنَّجِسِ حَرَامٌ فَقَدْ اشْتَبَهَ وَاجِبٌ بِحَرَامِ. وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا التَّحَرِّيَ قَالُوا: اسْتِعْمَالُ النَّجِسِ حَرَامٌ. وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الطَّهُورِ فَإِنَّمَا يَجِبُ مَعَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ؛ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ هُنَا؛ وَلِهَذَا تَنَازَعُوا: هَلْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُعْدَمَ الطَّهُورُ بِخَلْطٍ أَوْ إِرَاقَةٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ؛ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ كَالْعَجْزِ. وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله إنَّمَا جَوَّزَ التَّحَرِّيَ إذَا كَانَ الْأَصْلُ فِيهِمَا الطَّهَارَةَ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ قَدْ اسْتَعْمَلَ مَا أَصْلُهُ طَاهِرٌ وَقَدْ شَكَّ فِي تَنَجُّسِهِ فَيَبْقَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ. وَاَلَّذِينَ نَازَعُوهُ قَالُوا: مَا صَارَ نَجِسًا بِالتَّغَيُّرِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ نَجِسِ الْأَصْلِ؛ وَقَدْ زَالَ الِاسْتِصْحَابُ بِيَقِينِ النَّجَاسَةِ كَمَا لَوْ حَرُمَتْ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ بِرِضَاعِ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِمَا؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَكُونُ مُحَرَّمَةَ الْأَصْلِ عِنْدَهُ وَمَسْأَلَةُ اشْتِبَاهِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ ذَاتُ فُرُوعٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَأَمَّا إذَا اشْتَبَهَ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ وَقُلْنَا: يَتَحَرَّى؛ أَوْ لَا يَتَحَرَّى: فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ عَلَى بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ طَعَامِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا يُنَجِّسُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ وَمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِي نَجَاسَتِهِ وَنَحْنُ مُنِعْنَا مِنْ اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ. فَأَمَّا تَنَجُّسُ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ نَعَمْ لَوْ أَصَابَا ثَوْبَيْنِ حُكِمَ بِنَجَاسَةِ أَحَدِهِمَا وَلَوْ أَصَابَا بَدَنَيْنِ فَهَلْ يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ أَحَدِهِمَا؟

ص: 77

هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا إذَا تَيَقَّنَ الرَّجُلَانِ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَحْدَثَ أَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَهَارَةٌ وَلَا طَلَاقٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد؛ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي رَجُلَيْنِ لَا فِي وَاحِدٍ؛ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ حُكْمَ الْأَصْلِ فِي نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ أَقْوَى؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِيجَابِ أَوْ التَّحْرِيمِ يَثْبُتُ قَطْعًا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا فَلَا وَجْهَ لِرَفْعِهِ عَنْهُمَا جَمِيعًا. وَسِرُّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ إذَا اشْتَبَهَ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ فَاجْتِنَابُهُمَا جَمِيعًا وَاجِبٌ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ لِفِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَاجْتِنَابُ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ تَحْلِيلَهُ دُونَ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ؛ وَلِهَذَا لَمَّا رَخَّصَ مَنْ رَخَّصَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَضَّدَهُ بِالتَّحَرِّي؛ أَوْ بِهِ وَاسْتِصْحَابِهِ الْحَلَالَ. فَأَمَّا مَا كَانَ حَلَالًا بِيَقِينِ وَلَمْ يُخَالِطْهُ مَا حُكِمَ بِأَنَّهُ نَجِسٌ فَكَيْفَ يَنْجُسُ؟ وَلِهَذَا لَوْ تَيَقَّنَ أَنَّ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ بُقْعَةٌ نَجِسَةٌ وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْنَهَا؛ وَصَلَّى فِي مَكَانٍ مِنْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ الْمُتَنَجِّسُ: صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ نَجِسٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ طِينِ الشَّوَارِعِ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَتِهِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ طِينِ الشَّوَارِعِ

ص: 78

نَجِسٌ، وَلَا يُفَرَّقُ فِي هَذَا بَيْنَ الْعَدَدِ الْمُنْحَصِرِ وَغَيْرِ الْمُنْحَصِرِ؛ وَبَيْنَ الْقُلَّتَيْنِ وَالْكَثِيرِ؛ كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اشْتِبَاهِ الْأُخْتِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ اشْتَبَهَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ وَهُنَا شَكَّ فِي طريان التَّحْرِيمِ عَلَى الْحَلَالِ. وَإِذَا شَكَّ فِي النَّجَاسَةِ: هَلْ أَصَابَتْ الثَّوْبَ أَوْ الْبَدَنَ؟ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَأْمُرُ بِنَضَحِهِ؛ وَيَجْعَلُ حُكْمَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ النَّضْحَ؛ كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ. فَإِذَا احْتَاطَ وَنَضَحَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ كَانَ حَسَنًا كَمَا رُوِيَ فِي نَضْحِ أَنَسٍ لِلْحَصِيرِ الَّذِي اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ وَنَضْحِ عُمَرَ ثَوْبَهُ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ أُنَاسٍ فِي مَفَازَةٍ وَمَعَهُمْ قَلِيلُ مَاءٍ فَوَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ وَهُمْ فِي مَفَازَةٍ مُعْطِشَةٍ فَمَا الْحُكْمُ فِيهِ؟

فَأَجَابَ: يَجُوزُ لَهُمْ حَبْسُهُ لِأَجْلِ شُرْبِهِ إذَا عَطِشُوا وَلَمْ يَجِدُوا مَاءً طَيِّبًا؛ فَإِنَّ الْخَبَائِثَ جَمِيعًا تُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَلَهُ أَنْ يَشْرَبَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مَا يَرْوِيهِ كَالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ وَالْأَبْوَالِ الَّتِي تَرْوِيهِ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَنْ شُرْبِ

ص: 79

الْخَمْرِ؛ قَالُوا: لِأَنَّهَا تَزِيدُهُ عَطَشًا. وَأَمَّا التَّوَضُّؤُ بِمَاءِ الْوُلُوغِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ بَلْ يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى التَّيَمُّمِ. وَيَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ مَا يُقِيمُ بِهِ نَفْسَهُ فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ أَوْ الْمَاءِ النَّجِسِ فَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ: دَخَلَ النَّارَ وَلَوْ وَجَدَ غَيْرَهُ مُضْطَرًّا إلَى مَا مَعَهُ مِنْ الْمَاءِ الطَّيِّبِ أَوْ النَّجِسِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْقِيَهُ إيَّاهُ وَيَعْدِلَ إلَى التَّيَمُّمِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ أَوْ حَدَثٌ صَغِيرٌ وَمَنْ اغْتَسَلَ وَتَوَضَّأَ وَهُنَاكَ مُضْطَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ أَوْ الذِّمَّةِ أَوْ دَوَابِّهِمْ الْمَعْصُومَةِ فَلَمْ يَسْقِهِ: كَانَ آثِمًا عَاصِيًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 80

‌بَابٌ الْآنِيَةُ

‌سُئِلَ عَنْ أَوَانِي النُّحَاسِ الْمُطَعَّمَةِ بِالْفِضَّةِ

- كَالطَّاسَاتِ وَغَيْرِهَا - هَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَمْ لَا؟.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالْفِضَّةِ مِنْ الْآنِيَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنْ الْآلَاتِ - سَوَاءٌ سُمِّيَ الْوَاحِدُ مِنْ ذَلِكَ إنَاءً أَوْ لَمْ يُسَمَّ - وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُضَبَّبِ كَالْمَبَاخِرِ وَالْمَجَامِرِ وَالطُّشُوتِ والشمعدانات وَأَمْثَالِ ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَتْ الضَّبَّةُ يَسِيرَةً لِحَاجَةِ مِثْلَ تَشْعِيبِ الْقَدَحِ وَشُعَيْرَةِ السِّكِّينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُبَاشَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ: فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِالْحَاجَةِ هنا: أَنْ يَحْتَاجَ إلَى تِلْكَ الصُّورَةِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّشْعِيبِ وَالشُّعَيْرَةِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى كَوْنِهَا مِنْ فِضَّةٍ بَلْ هَذَا يُسَمُّونَهُ فِي مِثْلِ هَذَا ضَرُورَةً وَالضَّرُورَةُ تُبِيحُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مُفْرَدًا وَتَبَعًا حَتَّى لَوْ احْتَاجَ إلَى شَدِّ أَسْنَانِهِ بِالذَّهَبِ؛ أَوْ اتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ: جَازَ - كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ - مَعَ أَنَّهُ ذَهَبٌ وَمَعَ أَنَّهُ مُفْرَدٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَشْرَبُهُ إلَّا فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ جَاز لَهُ

ص: 81

شُرْبُهُ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا يَقِيهِ الْبَرْدَ أَوْ يَقِيهِ السِّلَاحَ أَوْ يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ إلَّا ثَوْبًا مِنْ حَرِيرٍ مَنْسُوجٍ بِذَهَبِ أَوْ فِضَّةٍ جَاز لَهُ لُبْسُهُ؛ فَإِنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَعَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَطَاعِمِ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَلَابِسِ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْخَبَائِثِ بِالْمُمَازَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ لِلْبَدَنِ أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِهَا بِالْمُلَابَسَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلظَّاهِرِ وَلِهَذَا كَانَتْ النَّجَاسَاتُ الَّتِي تَحْرُمُ مُلَابَسَتُهَا يَحْرُمُ أَكْلُهَا وَيَحْرُمُ مِنْ أَكْلِ السُّمُومِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَضَرَّاتِ مَا لَيْسَ بِنَجِسِ وَلَا يَحْرُمُ مُبَاشَرَتُهَا.

ثُمَّ‌

‌ مَا حُرِّمَ لِخُبْثِ جِنْسِهِ أَشَدُّ مِمَّا حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّرَفِ

وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ؛ فَإِنَّ هَذَا يُحَرِّمُ الْقَدْرَ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْهُ وَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ؛ كَمَا أُبِيحَ لِلنِّسَاءِ لُبْسُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ لِحَاجَتِهِنَّ إلَى التَّزَيُّنِ؛ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ وَأُبِيحَ لِلرَّجُلِ مِنْ ذَلِكَ الْيَسِيرُ كَالْعِلْمِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ جَوَازُ التَّدَاوِي بِهَذَا الضَّرْبِ دُونَ الْأَوَّلِ كَمَا {رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ مِنْ حَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا} . وَنَهَى عَنْ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَقَالَ: {إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ} وَنَهَى عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ؛ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ لِأَجْلِ التَّدَاوِي بِهَا وَقَالَ: {إنَّ نَقْنَقَتَهَا تَسْبِيحٌ} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا} وَلِهَذَا اُسْتُدِلَّ بِإِذْنِهِ للعرنيين فِي التَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَةِ النَّجِسَةِ؛ لِنَهْيِهِ عَنْ التَّدَاوِي بِمِثْلِ

ص: 82

ذَلِكَ؛ وَلِكَوْنِهِ لَمْ يَأْمُرْ بِغَسْلِ مَا يُصِيبُ الْأَبْدَانَ وَالثِّيَابَ وَالْآنِيَةَ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ الْقَائِلُونَ بِطَهَارَةِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ شُرْبِهَا لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ؛ وَفِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ: فَذَاكَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْقَذَارَةِ الْمُلْحَقِ لَهَا بِالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْمَنِيِّ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْتَقْذَرَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ الَّتِي يُشْرَعُ النَّظَافَةُ مِنْهَا كَمَا يُشْرَعُ نَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ؛ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ؛ وَإِحْفَاءُ الشَّارِبِ. وَلِهَذَا أَيْضًا كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مُحَرَّمًا فِي بَابِ الْآنِيَةِ وَالْمَنْقُولَاتِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَآنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ عَلَى الصِّنْفَيْنِ بِخِلَافِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَلِبَاسِ الْحَرِيرِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ. وَبَابُ الْخَبَائِثِ بِالْعَكْسِ؛ فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ فِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فِيمَا يَنْفَصِلُ عَنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مَا لَا يُبَاحُ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ كَمَا يُبَاحُ إطْفَاءُ الْحَرِيقِ بِالْخَمْرِ وَإِطْعَامُ الْمَيْتَةِ لِلْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ؛ وَإِلْبَاسُ الدَّابَّةِ الثَّوْبَ النَّجِسَ؛ وَكَذَلِكَ الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهَذَا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْخَبَائِثِ فِيهَا يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ وَكَذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمُنْفَصِلَةِ بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ فَإِنَّ هَذَا غَايَةُ السَّرَفِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ غَلَطُ مَنْ رَخَّصَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي إلْبَاسِ دَابَّتِهِ الثَّوْبَ الْحَرِيرَ؛ قِيَاسًا عَلَى إلْبَاسِ الثَّوْبِ النَّجِسِ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُجَوِّزُ افْتِرَاشَ الْحَرِيرِ وَوَطْأَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُصَوَّرَاتِ؛ أَوْ

ص: 83

مَنْ يُبِيحُ تَحْلِيَةَ دَابَّتِهِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ يُبِيحُ إلْبَاسَهَا الثَّوْبَ النَّجِسَ فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ تَحْرِيمُ افْتِرَاشِ الْحَرِيرِ كَمَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ لِبَاسِهِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ حَرَّمَ افْتِرَاشَهُ عَلَى النِّسَاءِ - كَمَا هُوَ قَوْلُ المراوزة مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ مِنْ قَوْلِ مَنْ أَبَاحَهُ لِلرِّجَالِ؛ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الِافْتِرَاشَ كَاللِّبَاسِ يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الِافْتِرَاشَ لِبَاسٌ كَمَا قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ. إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ التَّزَيُّنِ عَلَى الْبَدَنِ إبَاحَةُ الْمُنْفَصِلِ؛ كَمَا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ: الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَإِذَا تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ حَاجَةً وَمَا يُسَمُّونَهُ ضَرُورَةً: فَيَسِيرُ الْفِضَّةِ التَّابِعُ يُبَاحُ عِنْدَهُمْ لِلْحَاجَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: {إنَّ قَدَحَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا انْكَسَرَ شُعِّبَ بِالْفِضَّةِ} سَوَاءٌ كَانَ الشَّاعِبُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ كَانَ هُوَ أَنَسًا. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْيَسِيرُ لِلزِّينَةِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: التَّحْرِيمُ وَالْإِبَاحَةُ وَالْكَرَاهَةُ. قِيلَ: وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يُبَاحُ مِنْ ذَلِكَ

ص: 84

مَا لَا يُبَاشَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فَيُنْهَى عَنْ الضَّبَّةِ فِي مَوْضِعِ الشُّرْبِ دُونَ غَيْرِهِ وَلِهَذَا كُرِهَ حَلْقَةُ الذَّهَبِ فِي الْإِنَاءِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ وَهُوَ أَوْلَى مَا اُتُّبِعَ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْهُ مَرْفُوعًا: {مِنْ شُرْبٍ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ} فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَلِهَذَا كَانَ الْمُبَاحُ مِنْ الضَّبَّةِ إنَّمَا يُبَاحُ لَنَا اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ؟ قِيلَ: يُكْرَهُ. وَقِيلَ: يَحْرُمُ؛ وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَحْمَد الْحَلْقَةَ فِي الْإِنَاءِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. وَالْكَرَاهَةُ مِنْهُ: هَلْ تُحْمَلُ عَلَى التَّنْزِيهِ أَوْ التَّحْرِيمِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِهِ. وَهَذَا الْمَنْعُ هُوَ مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ فَإِنَّ تَحْرِيمَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ اقْتَضَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ اقْتَضَى النَّهْيَ عَنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ لَوْلَا مَا وَرَدَ مِنْ اسْتِثْنَاءِ مَوْضِعِ إصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَكَلَامِ سَائِرِ النَّاسِ بَيْنَ بَابِ النَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ وَبَابِ الْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ فَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ نَهَى عَنْ بَعْضِهِ وَإِذَا أَمَرَ بِشَيْءِ كَانَ أَمْرًا بِجَمِيعِهِ.

ص: 85

وَلِهَذَا كَانَ النِّكَاحُ حَيْثُ أَمَرَ بِهِ كَانَ أَمْرًا بِمَجْمُوعِهِ وَهُوَ الْعَقْدُ وَالْوَطْءُ وَكَذَلِكَ إذَا أُبِيحَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} {يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ} . وَحَيْثُ حُرِّمَ النِّكَاحُ كَانَ تَحْرِيمًا لِأَبْعَاضِهِ حَتَّى يَحْرُمَ الْعَقْدُ مُفْرَدًا وَالْوَطْءُ مُفْرَدًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الْآيَةَ إلَى آخِرِهَا وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {لَا يَنْكِحْ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ} وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا فَرَّقَ مَالِكٌ وَأَحْمَد - فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ - بَيْنَ مَنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ: أَنَّهُ لَا يَبَرُّ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ: أَنَّهُ يَحْنَثُ. وَإِذَا كَانَ تَحْرِيمُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ وَآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى الزَّوْجَيْنِ يَقْتَضِي شُمُولَ التَّحْرِيمِ لِأَبْعَاضِ ذَلِكَ: بَقِيَ اتِّخَاذُ الْيَسِيرِ لِحَاجَةِ أَوْ مُطْلَقًا فَالِاتِّخَاذُ الْيَسِيرُ فِيهِ تَفْصِيلٌ؛ وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ اتِّخَاذِ الْآنِيَةِ بِدُونِ اسْتِعْمَالِهَا فَرَخَّصَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ؛ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي قَوْلٍ؛ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْهُمَا تَحْرِيمَهُ؛ إذْ الْأَصْلُ أَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ حَرُمَ اتِّخَاذُهُ كَآلَاتِ الْمَلَاهِي.

ص: 86

وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ التَّابِعَةُ كَثِيرَةً فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَفِي تَحْدِيدِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ؛ وَالتَّرْخِيصِ فِي لُبْسِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ أَوْ تَحْلِيَةِ السِّلَاحِ مِنْ الْفِضَّةِ؛ وَهَذَا فِيهِ إبَاحَةُ يَسِيرِ الْفِضَّةِ مُفْرَدًا؛ لَكِنْ فِي اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي وَذَلِكَ يُبَاحُ فِيهِ مَا لَا يُبَاحُ فِي بَاب الْآنِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا غَلِطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد؛ حَيْثُ حَكَى قَوْلًا بِإِبَاحَةِ يَسِيرِ الذَّهَبِ تَبَعًا فِي الْآنِيَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو بَكْرٍ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي بَابِ اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي؛ كَعَلَمِ الذَّهَبِ وَنَحْوِهِ. وَفِي يَسِيرِ الذَّهَبِ فِي (بَابِ اللِّبَاسِ) عَنْ أَحْمَد أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: الرُّخْصَةُ مُطْلَقًا؛ لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ {نَهَى عَنْ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا} وَلَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ. وَالثَّانِي: الرُّخْصَةُ فِي السِّلَاحِ فَقَطْ. وَالثَّالِثُ: فِي السَّيْفِ خَاصَّةً وَفِيهِ وَجْهٌ بِتَحْرِيمِهِ مُطْلَقًا؛ لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ {لَا يُبَاحُ الذَّهَبُ وَلَا خَرِيصَةٌ} وَالْخَرِيصَةُ عَيْنُ الْجَرَادَةِ لَكِنَّ هَذَا قَدْ يُحْمَلُ عَلَى الذَّهَبِ الْمُفْرَدِ دُونَ التَّابِعِ؛ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا

ص: 87

مُحَرَّمٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ لَبِسَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ. وَلِهَذَا فَرَّقَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بَيْنَ يَسِيرِ الْحَرِيرِ مُفْرَدًا كَالتِّكَّةِ فَنَهَى عَنْهُ؛ وَبَيَّنَ يَسِيرَهُ تَبَعًا كَالْعَلَمِ؛ إذْ الِاسْتِثْنَاءُ وَقَعَ فِي هَذَا النَّوْعِ فَقَطْ. فَكَمَا يُفَرَّقُ فِي الرُّخْصَةِ بَيْنَ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ: فَيُفَرَّقُ بَيْنَ التَّابِعِ وَالْمُفْرَدِ وَيُحْمَلُ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ " إلَّا مُقَطَّعًا " عَلَى التَّابِعِ لِغَيْرِهِ وَإِذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ قَدْ رُخِّصَ مِنْهَا فِي بَابِ اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي فِي الْيَسِيرِ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا: فَاَلَّذِينَ رَخَّصُوا فِي الْيَسِيرِ أَوْ الْكَثِيرِ التَّابِعِ فِي الْآنِيَةِ أَلْحَقُوهَا بِالْحَرِيرِ الَّذِي أُبِيحَ يَسِيرُهُ تَبَعًا لِلرِّجَالِ فِي الْفِضَّةِ الَّتِي أُبِيحَ يَسِيرُهَا مُفْرَدًا أَوَّلًا؛ وَلِهَذَا أُبِيحَ - فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد - حِلْيَةُ الْمِنْطَقَةِ مِنْ الْفِضَّةِ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِنْ لِبَاسِ الْحَرْبِ كَالْخُوذَةِ؛ وَالْجَوْشَنِ؛ وَالرَّانّ؛ وَحَمَائِلِ السَّيْفِ. وَأَمَّا تَحْلِيَةُ السَّيْفِ بِالْفِضَّةِ فَلَيْسَ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا قَالُوا: الرُّخْصَةُ وَقَعَتْ فِي بَابِ اللِّبَاسِ دُونَ بَاب الْآنِيَةِ؛ وَبَابُ اللِّبَاسِ أَوْسَعُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ هَذَا أَقْوَى؛ إذْ لَا أَثَرَ فِي هَذِهِ الرُّخْصَةِ وَالْقِيَاسُ كَمَا تَرَى.

ص: 88

وَأَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ فَهَذَا دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ؛ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْفِضَّةِ مُنْتَفٍ هَاهُنَا لَكِنْ فِي يَسِيرِ الذَّهَبِ فِي الْآنِيَةِ وَجْهٌ لِلرُّخْصَةِ فِيهِ. وَأَمَّا التَّوَضُّؤُ وَالِاغْتِسَالُ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ: فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد لَكِنَّهُ مُرَكَّبٌ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بَلْ أَشْهُرُهُمَا عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ؛ وَاللِّبَاسِ الْمُحَرَّمِ كَالْحَرِيرِ وَالْمَغْصُوبِ وَالْحَجِّ بِالْمَالِ الْحَرَامِ؛ وَذَبْحِ الشَّاةِ بِالسِّكِّينِ الْمُحَرَّمَةِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ أَدَاءُ وَاجِبٍ وَاسْتِحْلَالُ مَحْظُورٍ فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يُصَحِّحُ فِيهَا الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ وَيُبِيحَ الذَّبْحَ: فَإِنَّهُ يُصَحِّحُ الطَّهَارَةَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَأَمَّا عَلَى الْمَنْعِ فَلِأَصْحَابِهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: الصِّحَّةُ. كَمَا هُوَ قَوْلُ الخرقي وَغَيْرِهِ.وَالثَّانِي: الْبُطْلَانُ. كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ؛ طَرْدًا لِقِيَاسِ الْبَابِ. وَاَلَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ الخرقي أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَحْمَد: فَرَّقُوا بِفَرْقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَا مُنْفَصِلٌ عَنْ الْعِبَادَةِ؛ فَإِنَّ الْإِنَاءَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْمُتَطَهِّرِ بِخِلَافِ لَابِسِ الْمُحَرَّمِ وَآكِلِهِ وَالْجَالِسِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ مُبَاشِرٌ لَهُ قَالُوا: فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ذَهَبَ إلَى الْجُمْعَةِ بِدَابَّةٍ مَغْصُوبَةٍ. وَضَعَّفَ آخَرُونَ هَذَا الْفَرْقَ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَغْمِسَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ الْمُحَرَّمِ وَبَيْنَ أَنْ

ص: 89

يَغْتَرِفَ مِنْهُ وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الشَّارِبَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ وَهُوَ حِينَ انْصِبَابِ الْمَاءِ فِي بَطْنِهِ يَكُونُ قَدْ انْفَصَلَ عَنْ الْإِنَاءِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي - وَهُوَ أَفْقَهُ -: قَالُوا: التَّحْرِيمُ إذَا كَانَ فِي رُكْنِ الْعِبَادَةِ وَشَرْطِهَا أَثَّرَ فِيهَا كَمَا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فِي اللِّبَاسِ أَوْ الْبُقْعَةِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا لَمْ يُؤَثِّرْ وَالْإِنَاءُ فِي الطَّهَارَةِ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا فَلِهَذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ جُلُودِ الْحُمُرِ؛ وَجِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ

وَالْمَيْتَةِ: هَلْ تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا طَهَارَةُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ فَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.

ص: 90

وَالثَّانِي: لَا تَطْهُرُ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَلِهَذَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْمَدْبُوغِ فِي الْمَاءِ دُونَ الْمَائِعَاتِ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ بِذَلِكَ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد أَيْضًا اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى هِيَ آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ كَمَا نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَد بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ ابْنِ عكيم ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ بِآخِرَةٍ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: هِيَ مِنْ الْمَيْتَةِ وَلَمْ يَصِحَّ فِي الدِّبَاغِ شَيْءٌ وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِ الْبُخَارِيُّ ذِكْرَ الدِّبَاغِ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ وَطَعَنَ هَؤُلَاءِ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ إذْ كَانُوا أَئِمَّةً لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ اجْتِهَادٌ. وَقَالُوا: رَوَى ابْنُ عُيَيْنَة الدِّبَاغَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَالزُّهْرِيُّ كَانَ يُجَوِّزُ اسْتِعْمَالَ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِلَا دِبَاغٍ وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ ذِكْرُ الدِّبَاغِ وَتَكَلَّمُوا فِي ابْنِ وَعْلَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: أَحَادِيثُ الدِّبَاغِ مَنْسُوخَةٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عكيم وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا كَتَبَ إلَى جُهَيْنَةَ: {كُنْت رَخَّصْت فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا أَتَاكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِ وَلَا عَصَبٍ} . فَكِلَا هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ مَأْثُورَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد نَفْسِهِ فِي جَوَابِهِ وَمُنَاظَرَاتِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى الْمَشْهُورَةِ.

ص: 91

وَقَدْ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالدِّبَاغِ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشَاةِ مَيِّتَةٍ فَقَالَ: هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا مَيِّتَةٌ. قَالَ: إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا} . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ: {أَلَا أَخَذُوا إهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ} . وَعَنْ {سَوْدَةَ بِنْتِ زمعة زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ فَدَبَغْنَا مِسْكَهَا فَمَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا} . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: {إذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ} . قُلْت: وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ {عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ: إنَّا نَكُونُ بِالْمَغْرِبِ وَمَعَنَا الْبَرْبَرُ وَالْمَجُوسُ نُؤْتَى بِالْكَبْشِ قَدْ ذَبَحُوهُ وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ وَنُؤْتَى بِالسِّقَاءِ يَجْعَلُونَ فِيهِ الدَّلُوكَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: دِبَاغُهُ طَهُورُهُ} . وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَتْ} . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنِّسَائِيّ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: {سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ؟ فَقَالَ: دِبَاغُهَا طَهُورُهَا} . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي. وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ رضي الله عنه {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِبَيْتِ بِفِنَائِهِ قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَاسْتَقَى فَقِيلَ: إنَّهَا

ص: 92

مَيْتَةٌ فَقَالَ: ذَكَاةُ الْأَدِيمِ دِبَاغُهُ} . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي. وَأَمَّا حَدِيثُ بْنِ عكيم فَقَدْ طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ بِكَوْنِ حَامِلِهِ مَجْهُولًا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَسُوغُ رَدُّ الْحَدِيثِ بِهِ. قَالَ {عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عكيم: أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرِ أَوْ شَهْرَيْنِ: أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِ وَلَا عَصَبٍ} . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد. وَقَالَ: مَا أَصْلَحَ إسْنَادَهُ. وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي. وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِهَابَ اسْمٌ لِلْجِلْدِ قَبْلَ الدِّبَاغِ كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ شميل وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَأَمَّا بَعْدَ الدَّبْغِ فَإِنَّمَا هُوَ أَدِيمٌ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْ اسْتِعْمَالِهَا قَبْلَ الدَّبْغِ. فَقَالَ الْمَانِعُونَ: هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: {كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي أَرْضِ جُهَيْنَةَ إنِّي كُنْت رَخَّصْت لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِ وَلَا عَصَبٍ} . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ فَضَالَةَ بْنِ مُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ الْمِصْرِيِّ. وَقَدْ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيَّ لَكِنْ هُوَ شَدِيدٌ فِي التَّزْكِيَةِ. وَإِذَا كَانَ النَّهْيُ بَعْدَ الرُّخْصَةِ فَالرُّخْصَةُ إنَّمَا كَانَتْ فِي الْمَدْبُوغِ. وَتَحْقِيقُ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: حَدِيثُ ابْنِ عكيم لَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَدْبُوغِ. وَأَمَّا الرُّخْصَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهَا كَانَتْ لِلْمَدْبُوغِ

ص: 93

وَغَيْرِهِ وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ - مِنْهُمْ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ - إلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ الْمُطْلَقِ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ وَقَوْلِهِ: {إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا} فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ ثُمَّ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْجِلْدَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زمعة فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك وَسَلَّمَ مَاتَتْ فُلَانَةُ. تَعْنِي: الشَّاةَ. فَقَالَ: فَلَوْلَا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا فَقَالَتْ: آخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا قَالَ: {لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} وَإِنَّكُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ إنْ تَدْبُغُوهُ تَنْتَفِعُوا بِهِ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهَا فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا فَدَبَغَتْهُ فَاِتَّخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا} . فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْجِلْدَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الدِّبَاغَ لِإِبْقَاءِ الْجِلْدِ وَحِفْظِهِ لَا لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِي الْحِلِّ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الرُّخْصَةُ لِجُهَيْنَةَ فِي هَذَا وَالنَّسْخُ عَنْ هَذَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ فِي سُورَتَيْنِ مَكِّيَّتَيْنِ: الْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ. ثُمَّ فِي سُورَتَيْنِ مَدَنِيَّتَيْنِ: الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ وَالْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا كَمَا رُوِيَ {الْمَائِدَةُ آخِرُ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا} وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا مِنْ التَّحْرِيمِ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي غَيْرِهَا وَحَرَّمَ النَّبِيُّ

ص: 94

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْيَاءَ مِثْلَ: أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ. وَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي اسْتَنَدَتْ إلَيْهَا الرُّخْصَةُ الْمُطْلَقَةُ: فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ الِانْتِفَاعِ بِالْعَصَبِ وَالْإِهَابِ قَبْلَ الدِّبَاغِ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَأَمَّا بَعْدَ الدِّبَاغِ فَلَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ قَطُّ بَلْ بَيَّنَ أَنَّ دِبَاغَهُ طَهُورُهُ وَذَكَاتُهُ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ بِدُونِ الدِّبَاغِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلِلنَّاسِ فِيمَا يُطَهِّرُهُ الدِّبَاغُ أَقْوَالٌ: قِيلَ: إنَّهُ يُطَهِّرُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْحَمِيرَ. كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ودَاوُد. وَقِيلَ: يُطَهِّرُ كُلَّ شَيْءٍ سِوَى الْحَمِيرِ. كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: يُطَهِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْكَلْبَ وَالْحَمِيرَ. كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد عَلَى الْقَوْلِ بِتَطْهِيرِ الدِّبَاغِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِهِ - وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ - أَنَّهُ إنَّمَا يُطَهِّرُ مَا يُبَاحُ بِالذَّكَاةِ فَلَا يُطَهِّرُ جُلُودَ السِّبَاعِ. وَمَأْخَذُ التَّرَدُّدِ: أَنَّ الدِّبَاغَ هَلْ هُوَ كَالْحَيَاةِ فَيُطَهِّرُ مَا كَانَ طَاهِرًا. فِي الْحَيَاةِ أَوْ هُوَ كَالذَّكَاةِ فَيُطَهِّرُ مَا طَهُرَ بِالذَّكَاةِ؟ وَالثَّانِي أَرْجَحُ.

ص: 95

وَدَلِيلُ ذَلِكَ: نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ كَمَا رُوِيَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ عُمَيْرٍ الذهلي أَنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ} . رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي. زَادَ التِّرْمِذِيُّ " أَنْ تُفْرَشَ ". وَعَنْ خَالِدِ بْنِ معدان قَالَ: {وَفَدَ الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كرب عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: أَنْشُدُك بِاَللَّهِ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي. وَهَذَا لَفْظُهُ. وَعَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ {نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ} . رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه. وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي عَنْ مُعَاوِيَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جِلْدُ نَمِرٍ} . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

عَنْ عِظَامِ الْمَيْتَةِ وَحَافِرِهَا؛ وَقَرْنِهَا؛ وَظُفْرِهَا؛ وَشَعْرِهَا؛ وَرِيشِهَا؛ وَإِنْفَحَتِهَا: هَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ نَجِسٌ أَمْ طَاهِرٌ أَمْ الْبَعْضُ مِنْهُ طَاهِرٌ وَالْبَعْضُ نَجِسٌ؟

فَأَجَابَ: أَمَّا عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَقَرْنُهَا؛ وَظُفْرُهَا؛ وَمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ

ص: 96

ذَلِكَ كَالْحَافِرِ وَنَحْوِهِ وَشَعْرِهَا وَرِيشِهَا؛ وَوَبَرِهَا: فَفِي هَذَيْنَ النَّوْعَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: نَجَاسَةُ الْجَمِيعِ. كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ؛ وَذَلِكَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِظَامَ وَنَحْوَهَا نَجِسَةٌ وَالشُّعُورَ وَنَحْوَهَا طَاهِرَةٌ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْجَمِيعَ طَاهِرٌ. كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الطَّهَارَةُ؛ وَلَا دَلِيلَ عَلَى النَّجَاسَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ هِيَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَيْسَتْ مِنْ الْخَبَائِثِ فَتَدْخُلُ فِي آيَةِ التَّحْلِيلِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الْخَبَائِثِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَهَذِهِ الْأَعْيَانُ لَا تَدْخُلُ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى: أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} لَا يَدْخُلُ فِيهَا الشُّعُورُ وَمَا أَشْبَهَهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَيِّتَ ضِدُّ الْحَيِّ وَالْحَيَاةُ نَوْعَانِ:

ص: 97

حَيَاةُ الْحَيَوَانِ وَحَيَاةُ النَّبَاتِ فَحَيَاةُ الْحَيَوَانِ خَاصَّتُهَا الْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ الْإِرَادِيَّةُ وَحَيَاةُ النَّبَاتِ خَاصَّتُهَا النُّمُوُّ وَالِاغْتِذَاءُ. وَقَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إنَّمَا هُوَ بِمَا فَارَقَتْهُ الْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ دُونَ النَّبَاتِيَّةِ؛ فَإِنَّ الشَّجَرَ وَالزَّرْعَ إذَا يَبِسَ لَمْ يَنْجُسْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وَقَالَ: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} فَمَوْتُ الْأَرْضِ لَا يُوجِبُ نَجَاسَتَهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا الْمَيْتَةُ الْمُحَرَّمَةُ: مَا فَارَقَهَا الْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ الْإِرَادِيَّةُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالشَّعْرُ حَيَاتُهُ مَنْ جِنْسِ حَيَاةِ النَّبَاتِ؛ لَا مِنْ جِنْسِ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ؛ فَإِنَّهُ يَنْمُو وَيَغْتَذِي وَيَطُولُ كَالزَّرْعِ وَلَيْسَ فِيهِ حِسٌّ وَلَا يَتَحَرَّكُ بِإِرَادَتِهِ فَلَا تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ حَتَّى يَمُوتَ بِمُفَارَقَتِهَا فَلَا وَجْهَ لِتَنْجِيسِهِ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الشَّعْرُ جُزْءًا مِنْ الْحَيَوَانِ لَمَا أُبِيحَ أَخْذُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يُحِبُّونَ أَسْنِمَةَ الْإِبِلِ وَأَلْيَاتِ الْغَنَمِ؟ فَقَالَ مَا أُبِينَ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيِّتٌ} . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَلَوْ كَانَ حُكْمُ الشَّعْرِ حُكْمَ السَّنَامِ وَالْأَلْيَةِ لَمَا جَازَ قَطْعُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَلَا كَانَ طَاهِرًا حَلَالًا. فَلَمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ إذَا جُزَّ مِنْ الْحَيَوَانِ كَانَ طَاهِرًا حَلَالًا: عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَ اللَّحْمِ.

ص: 98

وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى شَعْرَهُ لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ لِلْمُسْلِمِينَ} {وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَسْتَنْجِي وَيَسْتَجْمِرُ} . فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ الشَّعْرِ وَالْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً بَيِّنًا. وَأَمَّا الْعِظَامُ وَنَحْوُهَا: فَإِذَا قِيلَ: إنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْمَيْتَةِ لِأَنَّهَا تُحِسُّ وَتَأْلَمُ. قِيلَ لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ: أَنْتُمْ لَمْ تَأْخُذُوا بِعُمُومِ اللَّفْظِ؛ فَإِنَّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ كَالذُّبَابِ وَالْعَقْرَبِ وَالْخُنْفُسَاءِ لَا يُنَجِّسُ عِنْدَكُمْ وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مَعَ أَنَّهَا مَيِّتَةٌ مَوْتًا حَيَوَانِيًّا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ؛ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءٌ وَفِي الْآخَرِ شِفَاءٌ} . وَمَنْ نَجَّسَ هَذَا قَالَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: إنَّهُ لَا يُنَجِّسُ الْمَائِعَاتِ الْوَاقِعَ فِيهَا لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: عُلِمَ أَنَّ عِلَّةَ نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ إنَّمَا هُوَ احْتِبَاسُ الدَّمِ فِيهَا فَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ لَيْسَ فِيهِ دَمٌ سَائِلٌ فَإِذَا مَاتَ لَمْ يَحْتَبِسْ فِيهِ الدَّمُ؛ فَلَا يُنَجِّسُ. فَالْعَظْمُ وَنَحْوُهُ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنْجِيسِ مِنْ هَذَا؛ فَإِنَّ الْعَظْمَ لَيْسَ فِيهِ دَمٌ سَائِلٌ وَلَا كَانَ مُتَحَرِّكًا بِالْإِرَادَةِ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ. فَإِذَا كَانَ الْحَيَوَانُ الْكَامِلُ الْحَسَّاسُ الْمُتَحَرِّكُ بِالْإِرَادَةِ لَا يُنَجِّسُ لِكَوْنِهِ لَيْسَ فِيهِ دَمٌ سَائِلٌ: فَكَيْفَ يُنَجِّسُ الْعَظْمُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ دَمٌ سَائِلٌ؟

ص: 99

وَمِمَّا يُبَيِّنُ صِحَّةَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الدَّمَ الْمَسْفُوحَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} فَإِذَا عُفِيَ عَنْ الدَّمِ غَيْرِ الْمَسْفُوحِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الدَّمِ: عُلِمَ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - فَرَّقَ بَيْنَ الدَّمِ الَّذِي يَسِيلُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَضَعُونَ اللَّحْمَ فِي الْمَرَقِ وَخُطُوطُ الدَّمِ فِي الْقُدُورِ بَيِّنٌ وَيَأْكُلُونَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ وَلَوْلَا هَذَا لَاسْتَخْرَجُوا الدَّمَ مِنْ الْعُرُوقِ كَمَا يَفْعَلُ الْيَهُودُ وَاَللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ بِسَبَبِ غَيْرِ جَارِحٍ مُحَدَّدٍ فَحَرَّمَ الْمُنْخَنِقَةَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَالْمُتَرَدِّيَةَ وَالنَّطِيحَةَ {وَحَرَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا صِيدَ بِعَرْضِ الْمِعْرَاضِ وَقَالَ: إنَّهُ وَقِيذٌ} دُونَ مَا صِيدَ بِحَدِّهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إنَّمَا هُوَ سَفْحُ الدَّمِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ التَّنْجِيسِ هُوَ احْتِقَانُ الدَّمِ وَاحْتِبَاسُهُ وَإِذَا سُفِحَ بِوَجْهِ خَبِيثٍ بِأَنْ يُذْكَرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ كَانَ الْخُبْثُ هُنَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ التَّحْرِيمَ يَكُونُ تَارَةً لِوُجُودِ الدَّمِ وَتَارَةً لِفَسَادِ التَّذْكِيَةِ كَذَكَاةِ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالذَّكَاةِ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَظْمُ وَالْقَرْنُ وَالظُّفْرُ وَالظِّلْفُ وَغَيْرُ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ دَمٌ مَسْفُوحٌ فَلَا وَجْهَ لِتَنْجِيسِهِ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ قَالَ الزُّهْرِيُّ كَانَ خِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَمْتَشِطُونَ بِأَمْشَاطِ مِنْ عِظَامِ الْفِيلِ وَقَدْ

ص: 100

رُوِيَ فِي الْعَاجِ حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ لَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ؛ فَإِنَّا لَا نَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ {النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ: هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ قَالُوا: إنَّهَا مَيِّتَةٌ؟ قَالَ: إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا} . وَلَيْسَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ذِكْرُ الدِّبَاغِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ عَامَّةُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ وَلَكِنْ ذَكَرَهُ ابْنُ عُيَيْنَة وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَقَدْ طَعَنَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي ذَلِكَ وَأَشَارَ إلَى غَلَطِ ابْنِ عُيَيْنَة فِيهِ وَذَكَرَ أَنَّ الزُّهْرِيَّ وَغَيْرَهُ كَانُوا يُبِيحُونَ الِانْتِفَاعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ بِلَا دِبَاغٍ لِأَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَحِينَئِذٍ فَهَذَا النَّصُّ يَقْتَضِي جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدَّبْغِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لَكِنْ إذَا قِيلَ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ الِانْتِفَاعَ بِالْجُلُودِ حَتَّى تُدْبَغَ أَوْ قِيلَ: إنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ: لَمْ يَلْزَمْ تَحْرِيمُ الْعِظَامِ وَنَحْوُهَا لِأَنَّ الْجِلْدَ جُزْءٌ مِنْ الْمَيْتَةِ فِيهِ الدَّمُ كَمَا فِي سَائِرِ أَجْزَائِهَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ دِبَاغَهُ ذَكَاتَهُ؛ لِأَنَّ الدِّبَاغَ يُنَشِّفُ رُطُوبَاتِهِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ التَّنْجِيسِ هُوَ الرُّطُوبَاتُ وَالْعَظْمُ لَيْسَ فِيهِ رُطُوبَةٌ سَائِلَةٌ وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَجِفُّ وَيَيْبَسُ وَهُوَ يَبْقَى وَيُحْفَظُ أَكْثَرَ مِنْ الْجِلْدِ فَهُوَ أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ مِنْ الْجِلْدِ. وَالْعُلَمَاءُ تَنَازَعُوا فِي الدِّبَاغِ: هَلْ يَطْهُرُ؟

ص: 101

فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا: أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ: أَنَّهُ يَطْهُرُ. وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ رَجَعَ أَحْمَد كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَد بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ. وَحَدِيثُ ابْنِ عكيم يَدُلُّ عَلَى أَنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَاهُمْ أَنْ يَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِ أَوْ عَصَبٍ} بَعْدَ أَنْ كَانَ أَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لَكِنَّ هَذَا قَدْ يَكُونُ قَبْلَ الدِّبَاغِ فَيَكُونُ قَدْ أَرْخَصَ فَإِنَّ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ الصَّحِيحَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ رَخَّصَ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ فَيَكُونُ قَدْ أَرْخَصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ثُمَّ لَمَّا نَهَى عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: إنَّ الْإِهَابَ اسْمٌ لِمَا لَمْ يُدْبَغْ وَلِهَذَا قَرَنَ مَعَهُ الْعَصَبَ وَالْعَصَبُ لَا يُدْبَغُ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا لَبَنُ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتِهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ طَاهِرٌ. كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد.

ص: 102

وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَجِسٌ. كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد. وَعَلَى هَذَا النِّزَاعِ انْبَنَى نِزَاعُهُمْ فِي جُبْنِ الْمَجُوسِ فَإِنَّ ذَبَائِحَ الْمَجُوسِ حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقَدْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَإِذَا صَنَعُوا جُبْنًا - وَالْجُبْنُ يُصْنَعُ بِالْإِنْفَحَةِ - كَانَ فِيهِ هَذَانِ الْقَوْلَانِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ جُبْنَهُمْ حَلَالٌ وَأَنَّ إنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ وَلَبَنَهَا طَاهِرٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا فَتَحُوا بِلَادَ الْعِرَاقِ أَكَلُوا جُبْنَ الْمَجُوسِ وَكَانَ هَذَا ظَاهِرًا شَائِعًا بَيْنَهُمْ وَمَا يُنْقَلُ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ كَرَاهَةِ ذَلِكَ فَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ مِنْ نَقْلِ بَعْضِ الْحِجَازِيِّينَ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَأَهْلُ الْعِرَاقِ كَانُوا أَعْلَمَ بِهَذَا فَإِنَّ الْمَجُوسَ كَانُوا بِبِلَادِهِمْ وَلَمْ يَكُونُوا بِأَرْضِ الْحِجَازِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ كَانَ هُوَ نَائِبَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى الْمَدَائِنِ وَكَانَ يَدْعُو الْفُرْسَ إلَى الْإِسْلَامِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ؟ فَقَالَ: الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عفى عَنْهُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ السُّؤَالُ عَنْ جُبْنِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ

ص: 103

بَيِّنٌ وَإِنَّمَا كَانَ السُّؤَالُ عَنْ جُبْنِ الْمَجُوسِ: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَلْمَانَ كَانَ يُفْتِي بِحِلِّهَا وَإِذَا كَانَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْقَطَعَ النِّزَاعُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَيْضًا فَاللَّبَنُ وَالْإِنْفَحَةُ لَمْ يَمُوتَا وَإِنَّمَا نَجَّسَهُمَا مَنْ نَجَّسَهُمَا لِكَوْنِهِمَا فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ فَيَكُونُ مَائِعًا فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ فَالتَّنْجِيسُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمَائِعَ لَاقَى وِعَاءً نَجِسًا وَعَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ نَجِسًا. فَيُقَالُ أَوَّلًا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَائِعَ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السُّنَّةَ دَلَّتْ عَلَى طَهَارَتِهِ لَا عَلَى نَجَاسَتِهِ. وَيُقَالُ ثَانِيًا: إنَّ الْمُلَاقَاةَ فِي الْبَاطِنِ لَا حُكْمَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} وَلِهَذَا يَجُوزُ حَمْلُ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ مَا فِي بَطْنِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 104

‌بَابٌ الِاسْتِنْجَاءُ

سُئِلَ رحمه الله عَمَّنْ قَالَ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {غَرِّبُوا وَلَا تُشَرِّقُوا} وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: {شَرِّقُوا وَلَا تُغَرِّبُوا} ؟ .

فَأَجَابَ: الْحَدِيثَانِ كَذِبٌ وَلَكِنْ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطِ وَلَا بَوْلٍ وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا} . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ} وَهَذَا خِطَابٌ مِنْهُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ كَأَهْلِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ وَأَمَّا مِصْرُ فَقِبْلَتُهُمْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْجَنُوبِ مِنْ مَطْلِعِ الشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 105

وَسُئِلَ عَنْ:

الِاسْتِنْجَاءِ هَلْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ وَيَمْشِيَ وَيَتَنَحْنَحَ وَيَسْتَجْمِرَ بِالْأَحْجَارِ وَغَيْرِهَا بَعْدَ كُلِّ قَلِيلٍ فِي ذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ: فَهَلْ فَعَلَ هَذَا السَّلَفُ رضي الله عنهم. أَوْ هُوَ بِدْعَةٌ أَوْ هُوَ مُبَاحٌ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، التَّنَحْنُحُ بَعْدَ الْبَوْلِ وَالْمَشْيُ وَالطَّفْرُ إلَى فَوْقٍ وَالصُّعُودُ فِي السُّلَّمِ وَالتَّعَلُّقُ فِي الْحَبْلِ وَتَفْتِيشُ الذَّكَرِ بِإِسَالَتِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ: كُلُّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ وَكَذَلِكَ نَتْرُ الذَّكَرِ بِدْعَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ لَمْ يُشَرِّعْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَكَذَلِكَ سَلْتُ الْبَوْلِ بِدْعَةٌ لَمْ يُشَرِّعْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ ضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَالْبَوْلُ يَخْرُجُ بِطَبْعِهِ وَإِذَا فَرَغَ انْقَطَعَ بِطَبْعِهِ وَهُوَ كَمَا قِيلَ: كَالضَّرْعِ إنْ تَرَكْته قَرَّ وَإِنْ حَلَبْته دَرَّ.

ص: 106

وَكُلَّمَا فَتَحَ الْإِنْسَانُ ذَكَرَهُ فَقَدْ يَخْرُجُ مِنْهُ وَلَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ. وَقَدْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ وَهُوَ وَسْوَاسٌ وَقَدْ يُحِسُّ مَنْ يَجِدُهُ بَرْدًا لِمُلَاقَاةِ رَأْسِ الذَّكَرِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَمْ يَخْرُجْ. وَالْبَوْلُ يَكُونُ وَاقِفًا مَحْبُوسًا فِي رَأْسِ الْإِحْلِيلِ لَا يَقْطُرُ فَإِذَا عَصَرَ الذَّكَرَ أَوْ الْفَرْجَ أَوْ الثُّقْبَ بِحَجَرِ أَوْ أُصْبُعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ خَرَجَتْ الرُّطُوبَةُ فَهَذَا أَيْضًا بِدْعَةٌ وَذَلِكَ الْبَوْلُ الْوَاقِفُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لَا بِحَجَرِ وَلَا أُصْبُعٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ بَلْ كُلَّمَا أَخْرَجَهُ جَاءَ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ يَرْشَحُ دَائِمًا. وَالِاسْتِجْمَارُ بِالْحَجَرِ كَافٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى غَسْلِ الذَّكَرِ بِالْمَاءِ وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ اسْتَنْجَى أَنْ يَنْضَحَ عَلَى فَرْجِهِ مَاءً فَإِذَا أَحَسَّ بِرُطُوبَتِهِ قَالَ: هَذَا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ. وَأَمَّا مَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ - وَهُوَ أَنْ يَجْرِيَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَا يَنْقَطِعُ - فَهَذَا يَتَّخِذُ حِفَاظًا يَمْنَعُهُ فَإِنْ كَانَ الْبَوْلُ يَنْقَطِعُ مِقْدَارَ مَا يَتَطَهَّرُ وَيُصَلِّي وَإِلَّا صَلَّى وَإِنْ جَرَى الْبَوْلُ - كَالْمُسْتَحَاضَةِ - تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 107

‌بَابٌ السِّوَاكُ

سُئِلَ رحمه الله:

عَنْ السِّوَاكِ، هَلْ هُوَ بِالْيَدِ الْيُسْرَى أَوْلَى مِنْهُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى أَوْ بِالْعَكْسِ؟ وَهَلْ يَسُوغُ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ يَسْتَاكُ بِالْيُسْرَى؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْأَفْضَلُ أَنْ يُسْتَاكَ بِالْيُسْرَى؛ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ الْكَوْسَجِ ذَكَرَهُ عَنْهُ فِي مَسَائِلِهِ وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ خَالَفَ فِي ذَلِكَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِيَاكَ مِنْ بَابِ إمَاطَةِ الْأَذَى فَهُوَ كَالِاسْتِنْثَارِ وَالِامْتِخَاطِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ إزَالَةُ الْأَذَى وَذَلِكَ بِالْيُسْرَى كَمَا أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَاتِ كَالِاسْتِجْمَارِ وَنَحْوِهِ بِالْيُسْرَى وَإِزَالَةُ الْأَذَى وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا بِالْيُسْرَى. وَالْأَفْعَالُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْعُضْوَيْنِ. وَالثَّانِي: مُخْتَصٌّ بِأَحَدِهِمَا. وَقَدْ اسْتَقَرَّتْ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي تَشْتَرِكُ فِيهَا

ص: 108

الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى: تُقَدَّمُ فِيهَا الْيُمْنَى إذَا كَانَتْ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ؛ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالِابْتِدَاءِ بِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ فِي السِّوَاكِ؛ وَنَتْفِ الْإِبِطِ؛ وَكَاللِّبَاسِ؛ وَالِانْتِعَالِ وَالتَّرَجُّلِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْمَنْزِلِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْخَلَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَتُقَدَّمُ الْيُسْرَى فِي ضِدِّ ذَلِكَ كَدُخُولِ الْخَلَاءِ وَخَلْعِ النَّعْلِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا: إنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ كَانَ بِالْيَمِينِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُصَافَحَةِ؛ وَمُنَاوَلَةِ الْكُتُبِ وَتَنَاوُلِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ ضِدَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْيُسْرَى كَالِاسْتِجْمَارِ وَمَسِّ الذَّكَرِ وَالِاسْتِنْثَارِ وَالِامْتِخَاطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: السِّوَاكُ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ تُشْرَعُ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَسَخٌ وَمَا كَانَ عِبَادَةً مَقْصُودَةً كَانَ بِالْيَمِينِ. قِيلَ: كُلٌّ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ الِاسْتِيَاكَ إنَّمَا شُرِعَ لِإِزَالَةِ مَا فِي دَاخِلِ الْفَمِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ وَلِهَذَا شُرِعَ عِنْدَ الْأَسْبَابِ الْمُغَيِّرَةِ لَهُ كَالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَعِنْدَ الْعِبَادَةِ الَّتِي يُشْرَعُ لَهَا تَطْهِيرٌ كَالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَلَمَّا كَانَ الْفَمُ فِي مَظِنَّةِ التَّغَيُّرِ شُرِعَ عِنْدَ

ص: 109

الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ كَمَا شُرِعَ غَسْلُ الْيَدِ لِلْمُتَوَضِّئِ قَبْلَ وُضُوئِهِ؛ لِأَنَّهَا آلَةٌ لِصَبِّ الْمَاءِ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا تَحَقَّقَ نَظَافَتُهَا: هَلْ يُسْتَحَبُّ غَسْلُهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ. وَمَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ - كَالْمَعْرُوفِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - يُسْتَحَبُّ عَلَى النَّادِرِ بَلْ الْغَالِبِ وَإِزَالَةِ الشَّكِّ بِالْيَقِينِ. وَقَدْ يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي السِّوَاكِ إذَا قِيلَ بِاسْتِحْبَابِهِ مَعَ نَظَافَةِ الْفَمِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّ غَسْلَ الْيَدِ قَبْلَ الْمَضْمَضَةِ الْمَقْصُودُ بِهَا النَّظَافَةُ فَهَذَا تَوْجِيهُ الْمَنْعِ لِلْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ بِالْيُمْنَى؟ وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا بَلْ قَدْ يُقَالُ: الْعِبَادَاتُ تُفْعَلُ بِمَا يُنَاسِبُهَا وَيُقَدَّمُ فِيهَا مَا يُنَاسِبُهَا. ثُمَّ قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ: إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ لَا تُعْقَلُ عِلَّتُهُ: فَلَيْسَ هَذَا بِصَوَابِ لِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ مَعْقُولٌ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ رَمْيِ الْجِمَارِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ النِّيَّةِ كَالطَّهَارَةِ وَأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ مَعَ تَيَقُّنِ النَّظَافَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَهَذَا الْوَصْفُ إذَا سَلِمَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ كَوْنَهَا بِالْيُمْنَى إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ كَوْنَهَا مَنَوِيَّةً أَوْ مَشْرُوعَةً مَعَ تَيَقُّنِ النَّظَافَةِ

ص: 110

لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ تَخْتَصُّ بِهَا الْيُمْنَى بَلْ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهَا مَعَ هَذَا الْوَصْفِ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ مِنْ أَجْلِ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةِ؟ وَيُسْتَحَبُّ الْقُرْبُ فِيهِ مِنْ الْبَيْتِ؛ وَمَعَ هَذَا فَالْجَانِبُ الْأَيْسَرُ فِيهِ أَقْرَبُ إلَى الْبَيْتِ لِكَوْنِ الْحَرَكَةِ الدَّوْرِيَّةِ تَعْتَمِدُ فِيهَا الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَلَمَّا كَانَ الْإِكْرَامُ فِي ذَلِكَ لِلْخَارِجِ جُعِلَ لِلْيَمِينِ وَلَمْ يُنْقَلْ إذَا كَانَتْ مَقْصُودَةً فَيَنْبَغِي تَقْدِيمُ الْيُمْنَى فِيهَا إلَى الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ إكْرَامَ الْيَمِينِ فِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْخَارِجَةَ. وَكَذَلِكَ الِاسْتِنْثَارُ جَعْلُهُ بِالْيُسْرَى إكْرَامٌ لِلْيَمِينِ وَصِيَانَةٌ لَهَا وَكَذَلِكَ السِّوَاكُ. ثُمَّ إذَا قِيلَ: هُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْأَذَى وَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ مَشْرُوعٌ فِيهِ الْعُدُولُ عَنْ الْيُمْنَى إلَى الْيُسْرَى أَعْظَمُ فِي إكْرَامِ الْيَمِينِ بِدُونِ ذَلِكَ: لَمْ يُمْنَعْ أَنْ يَكُونَ إزَالَةُ الْأَذَى فِيهِ ثَابِتَةً مَقْصُودَةً كَالِاسْتِجْمَارِ بِالثَّلَاثِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُهُ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْحَجَرَ الثَّالِثَ مَعَ حُصُولِ الْإِنْقَاءِ بِمَا دُونَهُ. وَكَذَلِكَ التَّثْلِيثُ وَالتَّسْبِيعُ فِي غَسْلِ النَّجَاسَاتِ حَيْثُ وَجَبَ وَعِنْدَ مَنْ يُوجِبُهُ يَأْمُرُ بِهِ وَإِنْ حَصَلَتْ الْإِزَالَةُ بِمَا دُونَهُ. وَكَذَلِكَ التَّثْلِيثُ فِي الْوُضُوءِ مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ تَنَظَّفَ الْعُضْوُ بِمَا دُونَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ مَقْصُودَةٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ وَالْحَجَرِ.

ص: 111

فَكَذَلِكَ إمَاطَةُ الْأَذَى مِنْ الْفَمِ مَقْصُودَةٌ بِالسِّوَاكِ قَطْعًا وَإِنْ شُرِعَ مَعَ عَدَمِهِ تَحْقِيقًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ؛ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ بِالْيُسْرَى كَمَا أَنَّ الْحَجَرَ الثَّالِثَ فِي الِاسْتِجْمَارِ يَكُونُ بِالْيُسْرَى وَالْمَرَّةَ السَّابِعَةَ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ تَكُونُ بِالْيُسْرَى وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ فِي الْأَصْلِ إزَالَةَ الْأَذَى وَإِنْ قِيلَ: يُشْرَعُ مَعَ عَدَمِهِ تَكْمِيلًا لِلْمَقْصُودِ بِهِ وَإِزَالَةً لِلشَّكِّ بِالْيَقِينِ إلْحَاقًا لِلنَّادِرِ بِالْغَالِبِ؛ وَلِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ قَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً فَعُلِّقَ الْحُكْمُ فِيهَا بِالْمَظِنَّةِ إذْ زَوَالُ الْأَذَى بِالْكُلِّيَّةِ قَدْ يَظُنُّهُ الظَّانُّ مِنْ غَيْرِ تَيَقُّنٍ وَيَعْسُرُ الْيَقِينُ فِي ذَلِكَ فَأُقِيمَتْ الْمَظِنَّةُ فِيهِ مَقَامَ الْحِكْمَةِ فَجُعِلَ مَشْرُوعًا لِلْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ مَعَ عَدَمِ النَّظَرِ إلَى التَّغَيُّرِ وَعَدَمِهِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ حُصُولُ التَّغَيُّرِ. فَهَذَا إذَا قِيلَ بِهِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَذَلِكَ لَا يُخْرِجُ جِنْسَ هَذَا الْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْأَذَى وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً مَقْصُودَةً تُشْرَعُ فِيهَا النِّيَّةُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ بِالْيُسْرَى كَالِاسْتِنْثَارِ وَالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ وَمُبَاشَرَةِ مَحَلِّ الْوُلُوغِ بِالدَّلْكِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ صَبِّ الْمَاءِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُتَوَضِّئُ يَسْتَنْشِقُ بِالْيُمْنَى وَيَسْتَنْثِرُ بِالْيُسْرَى وَالْمُسْتَنْجِي يَصُبُّ الْمَاءَ بِالْيَمِينِ وَيُدَلِّكُ بِالْيُسْرَى. وَكَذَلِكَ الْمُغْتَسِلُ وَالْمُتَوَضِّئُ مِنْ الْمَاءِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الْإِنَاءِ فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى الْيُسْرَى مَعَ أَنَّ

ص: 112

مُبَاشَرَةَ الْعَوْرَةِ فِي الْغُسْلِ بِالْيُسْرَى وَهَكَذَا غَاسِلُ مَوْرِدِ النَّجَاسَةِ يَصُبُّ بِالْيُمْنَى وَإِذَا احْتَاجَ إلَى مُبَاشَرَةِ الْمَحَلِّ بَاشَرَهُ بِالْيُسْرَى وَشَوَاهِدُ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا عَلَى ذَلِكَ مُتَظَاهِرَةٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ الْخِتَانِ: مَتَى يَكُونُ؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا الْخِتَانُ فَمَتَى شَاءَ اخْتَتَنَ لَكِنْ إذَا رَاهَقَ الْبُلُوغَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَتِنَ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُ لِئَلَّا يَبْلُغَ إلَّا وَهُوَ مَخْتُونٌ. وَأَمَّا الْخِتَانُ فِي السَّابِعِ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد: قِيلَ: لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ خَتَنَ إسْحَاقَ فِي السَّابِعِ. وَقِيلَ: يُكْرَهُ لِأَنَّهُ عَمَلُ الْيَهُودِ فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ وَلَيْسَ مُطَهَّرًا هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ وَمَنْ تَرَكَ الْخِتَانَ كَيْفَ حُكْمُهُ؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ ضَرَرَ الْخِتَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَتِنَ فَإِنَّ

ص: 113

ذَلِكَ مَشْرُوعٌ مُؤَكَّدٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَقَدْ اخْتَتَنَ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عليه السلام بَعْدَ ثَمَانِينَ مِنْ عُمْرِهِ وَيُرْجَعُ فِي الضَّرَرِ إلَى الْأَطِبَّاءِ الثِّقَاتِ وَإِذَا كَانَ يَضُرُّهُ فِي الصَّيْفِ أَخَّرَهُ إلَى زَمَانِ الْخَرِيفِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ:

هَلْ تَخْتَتِنُ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَعَمْ تَخْتَتِنُ وَخِتَانُهَا أَنْ تَقْطَعَ أَعْلَى الْجِلْدَةِ الَّتِي كَعُرْفِ الدِّيكِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْخَافِضَةِ - وَهِيَ الْخَاتِنَةُ -:{أَشِمِّي وَلَا تُنْهِكِي فَإِنَّهُ أَبْهَى لِلْوَجْهِ وَأَحْظَى لَهَا عِنْدَ الزَّوْجِ} يَعْنِي: لَا تُبَالِغِي فِي الْقَطْعِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِخِتَانِ الرَّجُلِ تَطْهِيرُهُ مِنْ النَّجَاسَةِ الْمُحْتَقِنَةِ فِي الْقُلْفَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ خِتَانِ الْمَرْأَةِ تَعْدِيلُ شَهْوَتِهَا فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ قلفاء كَانَتْ مُغْتَلِمَةً شَدِيدَةَ الشَّهْوَةِ. وَلِهَذَا يُقَالُ فِي الْمُشَاتَمَةِ: يَا ابْنَ القلفاء فَإِنَّ القلفاء تَتَطَلَّعُ إلَى الرِّجَالِ أَكْثَرَ وَلِهَذَا يُوجَدُ مِنْ الْفَوَاحِشِ فِي نِسَاءِ التتر وَنِسَاءِ الْإِفْرِنْجِ مَا لَا يُوجَدُ فِي نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا حَصَلَتْ الْمُبَالَغَةُ فِي الْخِتَانِ ضَعُفَتْ الشَّهْوَةُ فَلَا يَكْمُلُ مَقْصُودُ الرَّجُلِ فَإِذَا قُطِعَ مِنْ غَيْرِ مُبَالِغَةٍ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِاعْتِدَالِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 114

وَسُئِلَ:

إذَا مَاتَ الصَّبِيُّ وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ: هَلْ يُخْتَنُ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ .

فَأَجَابَ: وَلَا يُخْتَنُ أَحَدٌ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَسُئِلَ:

كَمْ مِقْدَارُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ حَتَّى يَحْلِقَ عَانَتَهُ؟ .

فَأَجَابَ: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لَهُمْ فِي حَلْقِ الْعَانَةِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: أَلَّا يَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا} وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؟ .

مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ فِي أَقْوَامٍ يَحْلِقُونَ رُءُوسَهُمْ عَلَى أَيْدِي الْأَشْيَاخِ؛ وَعِنْدَ الْقُبُورِ الَّتِي

ص: 115

يُعَظِّمُونَهَا وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ قُرْبَةً وَعِبَادَةً: فَهَلْ هَذَا سُنَّةٌ أَوْ بِدْعَةٌ؟ وَهَلْ حَلْقُ الرَّأْسِ مُطْلَقًا سُنَّةٌ أَوْ بِدْعَةٌ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟ .

فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، حَلْقُ الرَّأْسِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهُمَا: حَلْقُهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَهُوَ مَشْرُوعٌ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ قَالَ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجِّهِ وَفِي عُمَرِهِ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْهُمْ مَنْ حَلَقَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَّرَ. وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم {اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ} . وَقَدْ أَمَرَ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنْ يُقَصِّرُوا رُءُوسَهُمْ لِلْعُمْرَةِ إذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ؛ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ ثُمَّ يَحْلِقُوا إذَا قَضَوْا الْحَجَّ. فَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْصِيرِ أَوَّلًا وَبَيْنَ الْحَلْقِ ثَانِيًا.

ص: 116

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: حَلْقُ الرَّأْسِ لِلْحَاجَةِ مِثْلُ أَنْ يَحْلِقَهُ لِلتَّدَاوِي فَهَذَا أَيْضًا جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ رَخَّصَ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ حَلْقُ رَأْسِهِ أَنْ يَحْلِقَهُ إذَا كَانَ بِهِ أَذًى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ حَدِيثُ {كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ لَمَّا مَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ - وَالْقُمَّلُ يَنْهَالُ مِنْ رَأْسِهِ - فَقَالَ: أَيُؤْذِيك هَوَامُّك؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: احْلِقْ رَأْسَك وَانْسُكْ شَاةً؛ أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ أَوْ أَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ} وَهَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ؛ مُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: حَلْقُهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ وَالتَّدَيُّنِ وَالزُّهْدِ؛ مِنْ غَيْرِ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ مِثْلَ مَا يَأْمُرُ بَعْضُ النَّاسِ التَّائِبَ إذَا تَابَ بِحَلْقِ رَأْسِهِ وَمِثْلَ أَنْ يُجْعَلَ حَلْقُ الرَّأْسِ شِعَارَ أَهْلِ النُّسُكِ وَالدِّينِ؛ أَوْ مِنْ تَمَامِ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ أَوْ يُجْعَلَ مَنْ يَحْلِقُ رَأْسَهُ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَمْ يَحْلِقْهُ أَوْ أدين أَوْ أَزْهَدَ أَوْ أَنْ يُقَصَّرَ مِنْ شِعْرِ التَّائِبِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَشْيَخَةِ إذَا توب أَحَدًا: أَنْ يَقُصَّ بَعْضَ شَعْرِهِ وَيُعَيِّنُ الشَّيْخُ صَاحِبَ مِقَصٍّ وَسَجَّادَةٍ؛ فَيَجْعَلُ صَلَاتَهُ عَلَى السَّجَّادَةِ وَقَصَّهُ رُءُوسَ النَّاسِ مِنْ تَمَامِ الْمَشْيَخَةِ الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا أَنْ يَكُونَ قُدْوَةً يتوب

ص: 117

التَّائِبِينَ: فَهَذَا بِدْعَةٌ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهَا وَلَا رَسُولُهُ؛ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ؛ وَلَا فَعَلَهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا شُيُوخِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ لَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِثْلُ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ؛ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ؛ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَأَحْمَد بْنِ أَبِي الْحِوَارِيِّ؛ وَالسَّرِيِّ السقطي؛ والْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ يَقُصُّونَ شَعْرَ أَحَدٍ إذَا تَابَ وَلَا يَأْمُرُونَ التَّائِبَ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ. وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَمْ يَكُنْ يَأْمُرُهُمْ بِحَلْقِ رُءُوسِهِمْ إذَا أَسْلَمُوا وَلَا قَصَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَأْسَ أَحَدٍ. وَلَا كَانَ يُصَلِّي عَلَى سَجَّادَةٍ بَلْ كَانَ يُصَلِّي إمَامًا بِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ يُصَلِّي عَلَى مَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَقْعُدُ عَلَى مَا يَقْعُدُونَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا عَنْهُمْ بِشَيْءِ يَقْعُدُ عَلَيْهِ لَا سَجَّادَةٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَكِنْ يَسْجُدُ أَحْيَانًا عَلَى الْخَمِيرَةِ - وَهِيَ شَيْءٌ يُصْنَعُ مِنْ الْخُوصِ صَغِيرٌ - يَسْجُدُ عَلَيْهَا أَحْيَانًا لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَمْ يَكُنْ مَفْرُوشًا بَلْ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الرَّمْلِ وَالْحَصَى وَكَانَ أَكْثَرَ الْأَوْقَاتِ يَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى يَبِينَ الطِّينُ فِي جَبْهَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. وَمَنْ اعْتَقَدَ الْبِدَعَ الَّتِي لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً: قُرْبَةً وَطَاعَةً

ص: 118

وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ وَجَعَلَهَا مِنْ تَمَامِ الدِّينِ وَمِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ التَّائِبُ وَالزَّاهِدُ وَالْعَابِدُ فَهُوَ ضَالٌّ خَارِجٌ عَنْ سَبِيلِ الرَّحْمَنِ مُتَّبِعٌ لِخُطُوَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ: أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ فِي غَيْرِ النُّسُكِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ وَالتَّدَيُّنِ: فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُبَاحٌ. وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى غُلَامًا قَدْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ فَقَالَ: احْلِقُوهُ كُلَّهُ أَوْ دَعُوهُ كُلَّهُ} {وَأُتِيَ بِأَوْلَادِ صِغَارٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَحَلَقَ رُءُوسَهُمْ} . وَلِأَنَّهُ نَهَى عَنْ الْقَزَعِ وَالْقَزَعُ: حَلْقُ الْبَعْضِ: فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ حَلْقِ الْجَمِيعِ. وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ: حَلْقُ الرَّأْسِ شِعَارُ أَهْلِ الْبِدَعِ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ كَانُوا يَحْلِقُونَ رُءُوسَهُمْ وَبَعْضُ الْخَوَارِجِ يَعُدُّونَ حَلْقَ الرَّأْسِ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ وَالنُّسُكِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَانَ يَقْسِمُ جَاءَهُ رَجُلٌ عَامَ الْفَتْحِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ} .

ص: 119

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ جُنْدِيٍّ يُقَلِّعُ بَيَاضَ لِحْيَتِهِ: فَهَلْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إثْمٌ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَتْفُ الشَّيْبِ مَكْرُوهٌ لِلْجُنْدِيِّ وَغَيْرِهِ فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم {نَهَى عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ وَقَالَ: إنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ} .

وَسُئِلَ:

عَنْ الرَّجُلِ إذَا كَانَ جُنُبًا وَقَصَّ ظُفْرَهُ أَوْ شَارِبَهُ أَوْ مَشَطَ رَأْسَهُ هَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ؟ فَقَدْ أَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى هَذَا وَقَالَ: إذَا قَصَّ الْجُنُبُ شَعْرَهُ أَوْ ظُفْرَهُ فَإِنَّهُ تَعُودُ إلَيْهِ أَجْزَاؤُهُ فِي الْآخِرَةِ فَيَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهِ قِسْطٌ مِنْ الْجَنَابَةِ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَى كُلِّ شَعْرَةٍ قِسْطٌ مِنْ الْجَنَابَةِ: فَهَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ

ص: 120

وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما {: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ الْجُنُبَ قَالَ: إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ} . وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ: {حَيًّا وَلَا مَيِّتًا} . وَمَا أَعْلَمُ عَلَى كَرَاهِيَةِ إزَالَةِ شَعْرِ الْجُنُبِ وَظُفْرِهِ دَلِيلًا شَرْعِيًّا بَلْ قَدْ {قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي أَسْلَمَ: أَلْقِ عَنْك شَعْرَ الْكُفْرِ وَاخْتَتِنْ} فَأَمَرَ الَّذِي أَسْلَمَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِتَأْخِيرِ الِاخْتِتَانِ. وَإِزَالَةِ الشَّعْرِ عَنْ الِاغْتِسَالِ فَإِطْلَاقُ كَلَامِهِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْأَمْرَيْنِ. وَكَذَلِكَ تُؤْمَرُ الْحَائِضُ بِالِامْتِشَاطِ فِي غُسْلِهَا مَعَ أَنَّ الِامْتِشَاطَ يَذْهَبُ بِبَعْضِ الشَّعْرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 121

‌بَابٌ الْوُضُوءُ

سُئِلَ رحمه الله:

عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ: مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَوْجَبَ جَمِيعَ الرَّأْسِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ رُبُعَ الرَّأْسِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَعْضُ شَعْرِهِ يُجْزِئُ: فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ؟ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا وُضُوءَهُ لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ بَعْضِ رَأْسِهِ وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - كالقدوري فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ وَغَيْرِهِ - أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ: إنَّمَا هُوَ بَعْضُ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ عَامَ تَبُوكَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ} . وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى جَوَازِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ وَهُوَ

ص: 122

مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد. وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى وُجُوبِ مَسْحِ جَمِيعِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} لَفْظُ الْمَسْحِ فِي الْآيَتَيْنِ وَحَرْفُ الْبَاءِ فِي الْآيَتَيْنِ: فَإِذَا كَانَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ لَا تَدُلُّ عَلَى مَسْحِ الْبَعْضِ مَعَ أَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ وَهُوَ مَسْحٌ بِالتُّرَابِ لَا يُشْرَعُ فِيهِ تَكْرَارٌ: فَكَيْفَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ آيَةُ الْوُضُوءِ مَعَ كَوْنِ الْوُضُوءِ هُوَ الْأَصْلَ وَالْمَسْحُ فِيهِ بِالْمَاءِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ التَّكْرَارُ؟ هَذَا لَا يَقُولُهُ مَنْ يَعْقِلُ مَا يَقُولُ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مَنْ قَالَ بِإِجْزَاءِ الْبَعْضِ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ دَالَّةٌ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ: فَهُوَ خَطَأٌ أَخْطَأَهُ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَعَلَى اللُّغَةِ وَعَلَى دَلَالَةِ الْقُرْآنِ. وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ وَهِيَ لَا تَدْخُلُ إلَّا لِفَائِدَةٍ: فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ أَفَادَتْ قَدْرًا زَائِدًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: يَشْرَبُ مِنْهَا لَمْ تَدُلَّ عَلَى الرِّيِّ فَضُمِّنَ يَشْرَبُ مَعْنَى يُرْوَى فَقِيلَ: {يَشْرَبُ بِهَا} فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ شُرْبٌ يَحْصُلُ مَعَهُ الرِّيُّ. وَبَابُ تَضْمِينِ الْفِعْلِ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ حَتَّى يَتَعَدَّى بِتَعْدِيَتِهِ - كَقَوْلِهِ: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} وَقَوْلِهِ {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ

ص: 123

الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} وَقَوْلِهِ: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ - كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ يُغْنِي عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ النُّحَاةِ عَمَّا يَتَكَلَّفُهُ الْكُوفِيُّونَ مِنْ دَعْوَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُرُوفِ. وَكَذَلِكَ الْمَسْحُ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ لَوْ قَالَ: فَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ أَوْ وُجُوهَكُمْ: لَمْ تَدُلَّ عَلَى مَا يَلْتَصِقُ بِالْمَسْحِ فَإِنَّك تَقُولُ: مَسَحْت رَأْسَ فُلَانٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِك بَلَلٌ. فَإِذَا قِيلَ: فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَبِوُجُوهِكُمْ ضُمِّنَ الْمَسْحُ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ فَأَفَادَ أَنَّكُمْ تُلْصِقُونَ بِرُءُوسِكُمْ وَبِوُجُوهِكُمْ شَيْئًا بِهَذَا الْمَسْحِ وَهَذَا يُفِيدُ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَلْتَصِقَ الصَّعِيدُ بِالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَلِهَذَا قَالَ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} . وَإِنَّمَا مَأْخَذُ مَنْ جَوَّزَ الْبَعْضُ: الْحَدِيثَ. ثُمَّ تَنَازَعُوا: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُجْزِئُ قَدْرُ النَّاصِيَةِ كَرِوَايَةِ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلِ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُجْزِئُ الْأَكْثَرُ. كَرِوَايَةِ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلِ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُجْزِئُ الرُّبْعُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: قَدْرُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ. وَهُمَا قَوْلَانِ لِلْحَنَفِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ أَوْ بَعْضُهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: شَعْرَةٌ أَوْ بَعْضُهَا. وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَأَمَّا الَّذِينَ أَوْجَبُوا الِاسْتِيعَابَ - كَمَالِكِ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ مِنْ

ص: 124

مَذْهَبِهِمَا - فَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَإِذَا سَلَّمَ لَهُمْ مُنَازِعُوهُمْ وُجُوبَ الِاسْتِيعَابِ فِي مَسْحِ التَّيَمُّمِ: كَانَ فِي مَسْحِ الْوُضُوءِ أَوْلَى وَأَحْرَى لَفْظًا وَمَعْنًى وَلَا يُقَالُ: التَّيَمُّمُ وَجَبَ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ الْوَجْهِ وَاسْتِيعَابُهُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فِي حُكْمِهِ لَا فِي وَصْفِهِ؛ وَلِهَذَا الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَلَا يَجِبُ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ مَعَ وُجُوبِهِ فِي الرِّجْلَيْنِ وَأَيْضًا لِلسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ مِنْ عَمَلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فَعِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ وَإِذَا مَسَحَ عِنْدَهُ بِنَاصِيَتِهِ وَكَمَّلَ الْبَاقِيَ بِعِمَامَتِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِلَا رَيْبٍ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَا جَوَابَ لَهُ عَنْ الْحَدِيثِ إلَّا أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا لَا يُمْكِنُهُ كَشْفُ الرَّأْسِ فَتَيَمَّمَ عَلَى الْعِمَامَةِ لِلْعُذْرِ. وَمَنْ فَعَلَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ الْمَسْحِ بِنَاصِيَتِهِ وَعِمَامَتِهِ أَجْزَأَهُ مَعَ الْعُذْرِ بِلَا نِزَاعٍ وَأَجْزَأَهُ بِدُونِ الْعُذْرِ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ وَمَسْحُ الرَّأْسِ مَرَّةً مَرَّةً يَكْفِي بِالِاتِّفَاقِ كَمَا يَكْفِي تَطْهِيرُ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ مَرَّةً.

وَتَنَازَعُوا فِي مَسْحِهِ ثَلَاثًا: هَلْ يُسْتَحَبُّ؟ فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ.

ص: 125

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: يُسْتَحَبُّ؛ لِمَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَهَذَا عَامٌّ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد: أَنَّهُ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَسُنَّ فِيهِ الثَّلَاثُ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلِهَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد السجستاني: أَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَسَحَ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا رَوَاهُ مِنْ مَسْحِهِ ثَلَاثًا فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً وَهَذَا الْمُفَصَّلُ يَقْضِي عَلَى الْمُجْمَلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا} كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا: مِثْلَ مَا يَقُولُ} كَانَ هَذَا مُجْمَلًا وَفَسَّرَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ {أَنَّهُ يَقُولُ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ} فَإِنَّ الْخَاصَّ الْمُفَسَّرَ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ الْمُجْمَلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا مَسْحٌ وَالْمَسْحُ لَا يُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ كَمَسْحِ الْخُفِّ وَالْمَسْحِ فِي التَّيَمُّمِ وَمَسْحِ الْجَبِيرَةِ وَإِلْحَاقُ الْمَسْحِ بِالْمَسْحِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ إذَا كُرِّرَ كَانَ كَالْغَسْلِ. وَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ أَنَّهُ يَمْسَحُ بَعْضَ رَأْسِهِ بَلْ بَعْضَ شَعْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ مَسْحِهِ بَعْضَ رَأْسِهِ فَإِنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَمِنْ جِهَةِ تَكْرَارِهِ فَإِنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَمَنْ يَسْتَحِبُّ التَّكْرَارَ - كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي قَوْلٍ - لَا يَقُولُونَ:

ص: 126

امْسَحْ الْبَعْضَ وَكَرِّرْهُ بَلْ يَقُولُونَ: امْسَحْ الْجَمِيعَ وَكَرِّرْ الْمَسْحَ. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْلَى مِنْ مَسْحِ بَعْضِهِ ثَلَاثًا بَلْ إذَا قِيلَ: إنَّ مَسْحَ الْبَعْضِ يُجْزِئُ وَأَخَذَ رَجُلٌ بِالرُّخْصَةِ كَيْفَ يُكَرِّرُ الْمَسْحَ. ثُمَّ الْمُسْلِمُونَ مُتَنَازِعُونَ فِي جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْبَعْضِ وَفِي اسْتِحْبَابِ تَكْرَارِ الْمَسْحِ: فَكَيْفَ يُعْدَلُ إلَى فِعْلٍ لَا يُجْزِئُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ وَلَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ وَيُتْرَكُ فِعْلٌ يُجْزِئُ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ وَهُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

هَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى عُنُقِهِ فِي الْوُضُوءِ أَوْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم؟.

فَأَجَابَ: لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى عُنُقِهِ فِي الْوُضُوءِ بَلْ وَلَا رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ بَلْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي فِيهَا صِفَةُ وَضَوْءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَمْسَحُ عَلَى عُنُقِهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمْ وَمَنْ اسْتَحَبَّهُ فَاعْتَمَدَ فِيهِ عَلَى أَثَرٍ يُرْوَى عَنْ

ص: 127

أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَوْ حَدِيثٍ يَضْعُفُ نَقْلُهُ: {أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ حَتَّى بَلَغَ الْقَذَالَ} وَمِثْلَ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ عُمْدَةً وَلَا يُعَارِضُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ وَمَنْ تَرَكَ مَسْحَ الْعُنُقِ فَوُضُوءُهُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ فِي الْوُضُوءِ مَنْقُولٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَقْلًا مُتَوَاتِرًا مَنْقُولٌ عَمَلُهُ بِذَلِكَ وَأَمْرُهُ بِهِ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ: {وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ} وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: {وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنْ النَّارِ} . فَمَنْ تَوَضَّأَ كَمَا تَتَوَضَّأُ الْمُبْتَدِعَةُ - فَلَمْ يَغْسِلْ بَاطِنَ قَدَمَيْهِ وَلَا عَقِبَهُ بَلْ مَسَحَ ظَهْرَهُمَا - فَالْوَيْلُ لِعَقِبِهِ وَبَاطِنِ قَدَمَيْهِ مِنْ النَّارِ. وَتَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَنُقِلَ عَنْهُ الْمَسْحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي قَدَمَيْهِ نَعْلَانِ يَشُقُّ نَزْعُهُمَا. وَأَمَّا مَسْحُ الْقَدَمَيْنِ مَعَ ظُهُورِهِمَا جَمِيعًا فَلَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِلسُّنَّةِ فَظَاهِرٌ

ص: 128

مُتَوَاتِرٌ. وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِلْقُرْآنِ فَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} فِيهِ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ: النَّصْبُ وَالْخَفْضُ. فَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالْمَعْنَى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْخَفْضِ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ وَامْسَحُوا أَرْجُلَكُمْ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ؛ لِأَوْجُهِ: أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ قَالُوا: عَادَ الْأَمْرُ إلَى الْغَسْلِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَطْفًا عَلَى الرُّءُوسِ لَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مَسْحَ الْأَرْجُلِ لَا الْمَسْحَ بِهَا وَاَللَّهُ إنَّمَا أَمَرَ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ بِالْمَسْحِ بِالْعُضْوِ لَا مَسْحِ الْعُضْوِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} وَقَالَ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وَلَمْ يَقْرَأْ الْقُرَّاءُ الْمَعْرُوفُونَ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ وَأَيْدِيَكُمْ بِالنَّصْبِ كَمَا قَرَءُوا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ فَلَوْ كَانَ عَطْفًا لَكَانَ الْمَوْضِعَانِ سَوَاءً؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} وَقَوْلَهُ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} يَقْتَضِي إلْصَاقَ الْمَمْسُوحِ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ وَهَذَا يَقْتَضِي إيصَالَ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ إلَى أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ. وَإِذَا قِيلَ: امْسَحْ رَأْسَك وَرِجْلَك: لَمْ يَقْتَضِ إيصَالَ الْمَاءِ إلَى الْعُضْوِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْبَاءَ حَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى لَا زَائِدَةٌ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ:

ص: 129

مُعَاوِيَ إنَّنَا بَشَرٌ فَاسْجَحْ

فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا

فَإِنَّ الْبَاءَ هُنَا مُؤَكِّدَةٌ فَلَوْ حُذِفَتْ لَمْ يَخْتَلَّ الْمَعْنَى وَالْبَاءُ فِي آيَةِ الطَّهَارَةِ إذَا حُذِفَتْ اخْتَلَّ الْمَعْنَى فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى مَحَلِّ الْمَجْرُورِ بِهَا بَلْ عَلَى لَفْظِ الْمَجْرُورِ بِهَا أَوْ مَا قَبْلَهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَطْفًا عَلَى الْمَحَلِّ لَقُرِئَ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَامْسَحُوا أَيْدِيَكُمْ: فَكَانَ فِي الْآيَةِ مَا يُبَيِّنُ فَسَادَ مَذْهَبِ الشَّارِحِ بِأَنَّهُ قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ بِالنَّصْبِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَيْنِ سَوَاءٌ فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى الْجَرِّ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ مَعَ إمْكَانِ الْعَطْفِ عَلَى الْمَحَلِّ لَوْ كَانَ صَوَابًا: عُلِمَ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى اللَّفْظِ وَلَمْ يَكُنْ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ مَنْصُوبٌ مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّفْظِ كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ: {وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} وَلَمْ يَقُلْ: إلَى الْكِعَابِ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْمَحَلِّ كَالْقَوْلِ الْآخَرِ؛ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ فِي كُلِّ رِجْلَيْنِ كَعْبَيْنِ؛ وَفِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبٌ وَاحِدٌ: لَقِيلَ: إلَى الْكَعْبِ كَمَا قِيلَ: {إلَى الْمَرَافِقِ} لَمَّا كَانَ فِي كُلِّ يَدٍ مِرْفَقٌ وَحِينَئِذٍ فَالْكَعْبَانِ هُمَا الْعَظَمَات النَّاتِئَانِ فِي جَانِبَيْ السَّاقِ؛ لَيْسَ هُوَ مَعْقِدَ الشِّرَاكِ مَجْمَعَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَرَى الْمَسْحَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تبارك وتعالى إنَّمَا أَمَرَ بِطَهَارَةِ الرِّجْلَيْنِ إلَى الْكَعْبَيْنِ النَّاتِئَيْنِ؛

ص: 130

وَالْمَاسِحُ يَمْسَحُ إلَى مَجْمَعِ الْقَدَمِ وَالسَّاقِ: عُلِمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْآيَتَيْنِ وَالتَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ: إمَّا وَاجِبٌ؛ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ مُؤَكَّدُ الِاسْتِحْبَابِ فَإِذَا فَصَلَ مَمْسُوحٌ بَيْنَ مَغْسُولَيْنِ وَقُطِعَ النَّظِيرُ عَنْ النَّظِيرِ: دَلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَشْرُوعِ فِي الْوُضُوءِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ وَهِيَ قَدْ جَاءَتْ بِالْغَسْلِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ التَّيَمُّمَ جُعِلَ بَدَلًا عَنْ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ فَحُذِفَ شَطْرُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَخُفِّفَ الشَّطْرُ الثَّانِي؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حُذِفَ مَا كَانَ مَمْسُوحًا وَمُسِحَ مَا كَانَ مَغْسُولًا. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى - وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ وَأَرْجُلِكُمْ بِالْخَفْضِ - فَهِيَ لَا تُخَالِفُ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ؛ إذْ الْقِرَاءَتَانِ كَالْآيَتَيْنِ وَالسُّنَّةُ الثَّابِتَةُ لَا تُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ بَلْ تُوَافِقُهُ وَتُصَدِّقُهُ؛ وَلَكِنْ تُفَسِّرُهُ وَتُبَيِّنُهُ لِمَنْ قَصُرَ فَهْمُهُ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ فِيهِ دَلَالَاتٌ خَفِيَّةٌ تَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ وَفِيهِ مَوَاضِعُ ذُكِرَتْ مُجْمَلَةً تُفَسِّرُهَا السُّنَّةُ وَتُبَيِّنُهَا.

ص: 131

وَالْمَسْحُ اسْمُ جِنْسٍ يَدُلُّ عَلَى إلْصَاقِ الْمَمْسُوحِ بِهِ بِالْمَمْسُوحِ وَلَا يَدُلُّ لَفْظُهُ عَلَى جَرَيَانِهِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَغَيْرُهُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: تَمَسَّحْت لِلصَّلَاةِ. فَتُسَمِّي الْوُضُوءَ كُلَّهُ مَسْحًا وَلَكِنْ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ إذَا كَانَ الِاسْمُ عَامًّا تَحْتَهُ نَوْعَانِ: خَصُّوا أَحَدَ نَوْعَيْهِ بِاسْمِ خَاصٍّ. وَأَبْقَوْا الِاسْمَ الْعَامَّ لِلنَّوْعِ الْآخَرِ كَمَا فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ عَامٌ لِلْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الدَّوَابِّ لَكِنْ لِلْإِنْسَانِ اسْم يَخُصُّهُ فَصَارُوا يُطْلِقُونَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْحَيَوَانِ؛ وَلَفْظُ ذَوِي الْأَرْحَامِ يَتَنَاوَلُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ؛ لَكِنْ لِلْوَارِثِ بِفَرْضِ أَوْ تَعْصِيبٍ اسْمٌ يَخُصُّهُ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمُؤْمِنِ يَتَنَاوَلُ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ؛ وَمَنْ آمَنَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ: فَصَارَ لِهَذَا النَّوْعِ اسْمٌ يَخُصُّهُ وَهُوَ الْكَافِرُ وَأُبْقِيَ اسْمُ الْإِيمَانِ مُخْتَصًّا بِالْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْبِشَارَةِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. ثُمَّ إنَّهُ مَعَ الْقَرِينَةِ تَارَةً وَمَعَ الْإِطْلَاقِ أُخْرَى يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ الْعَامُّ فِي مَعْنَيَيْنِ: كَمَا إذَا أَوْصَى لِذَوِي رَحِمِهِ؛ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ أَقَارِبَهُ مِنْ مِثْلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الْوُضُوءِ: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ يَقْتَضِي إيجَابَ مُسَمَّى الْمَسْحِ بَيْنَهُمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَسْحِ الْخَاصِّ الْخَالِي عَنْ الْإِسَالَةِ؛ وَالْمَسْحِ الَّذِي مَعَهُ إسَالَةٌ: يُسَمَّى مَسْحًا؛ فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الْآيَةِ مَا يَمْنَعُ كَوْنَ الرِّجْلِ

ص: 132

يَكُونُ الْمَسْحُ بِهَا هُوَ الْمَسْحَ الَّذِي مَعَهُ إسَالَةٌ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {إلَى الْكَعْبَيْنِ} فَأَمَرَ بِمَسْحِهِمَا إلَى الْكَعْبَيْنِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَسْحَ الْخَاصَّ هُوَ إسَالَةُ الْمَاءِ مَعَ الْغَسْلِ فَهُمَا نَوْعَانِ: لِلْمَسْحِ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ إيصَالُ الْمَاءِ وَمِنْ لُغَتِهِمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنْ يُكْتَفَى بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ كَقَوْلِهِمْ:

عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا

وَالْمَاءُ سُقِي لَا عُلِف وَقَوْلِهِ:

وَرَأَيْت زَوْجَك فِي الْوَغَى

مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا

وَالرُّمْحُ لَا يُتَقَلَّدُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ} إلَى قَوْلِهِ: وَحُورٍ عِينٍ فَكَذَلِكَ اكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْغَسْلَ وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {إلَى الْكَعْبَيْنِ} وَالْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى مَعَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ. وَمَنْ يَقُولُ: يُمْسَحَانِ بِلَا إسَالَةٍ: يَمْسَحُهُمَا إلَى الْكِعَابِ لَا إلَى الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِرَاءَتَيْنِ كَمَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَلَيْسَ مَعَهُ لَا ظَاهِرٌ وَلَا بَاطِنٌ وَلَا سُنَّةٌ مَعْرُوفَةٌ وَإِنَّمَا هُوَ غَلَطٌ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ وَجَهْلٌ بِمَعْنَاهُ وَبِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ. وَذِكْرُ الْمَسْحِ بِالرِّجْلِ مِمَّا يُشْعِرُ بِأَنَّ الرِّجْلَ يُمْسَحُ بِهَا بِخِلَافِ الْوَجْهِ وَالْيَدِ فَإِنَّهُ لَا يُمْسَحُ بِهِمَا بِحَالِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ

ص: 133

مَا لَمْ يَجِئْ مِثْلُهُ فِي الْوَجْهِ وَالْيَدِ وَلَكِنْ دَلَّتْ السُّنَّةُ مَعَ دِلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَسْحِ بِالرِّجْلَيْنِ. وَمَنْ مَسَحَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَلِلْقُرْآنِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَعْمَلَ بِذَلِكَ مَعَ إمْكَانِ الْغَسْلِ وَالرِّجْلُ إذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً وَجَبَ غَسْلُهَا وَإِذَا كَانَتْ فِي الْخُفِّ كَانَ حُكْمُهَا كَمَا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ. كَمَا فِي آيَةِ الْفَرَائِضِ فَإِنَّ السُّنَّةَ بَيَّنَتْ حَالَ الْوَارِثِ إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ قَاتِلًا. وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ص: 134

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة رحمه الله:

فَصْلٌ:

الْمُوَالَاةُ فِي الْوُضُوءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: الْوُجُوبُ مُطْلَقًا كَمَا يَذْكُرُهُ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَد ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ [مَالِك](1).

وَالثَّانِي: عَدَمُ الْوُجُوبِ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد وَالْقَوْلُ الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ.

وَالثَّالِثُ: الْوُجُوبُ إلَّا إذَا تَرَكَهَا لِعُذْرِ مِثْلُ عَدَمِ تَمَامِ الْمَاءِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ [أَحْمَد](2).

قُلْت: هَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ هُوَ الْأَظْهَرُ وَالْأَشْبَهُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ

(1)

بياض بالأصل والمثبت من كتاب الفقه على المذاهب الأربعة 1/ 58

(2)

بياض بالأصل والمثبت من كتاب الفقه على المذاهب الأربعة 1/ 62

ص: 135

وَبِأُصُولِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَدِلَّةَ الْوُجُوبِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْمُفَرِّطَ لَا تَتَنَاوَلُ الْعَاجِزَ عَنْ الْمُوَالَاةِ فَالْحَدِيثُ الَّذِي هُوَ عُمْدَةُ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ معدان عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرَ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ} . فَهَذِهِ قَضِيَّةُ عَيْنٍ وَالْمَأْمُورُ بِالْإِعَادَةِ مُفَرِّطٌ لِأَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى غَسْلِ تِلْكَ اللَّمْعَةِ كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى غَسْلِ غَيْرِهَا وَإِنَّمَا بِإِهْمَالِهَا وَعَدَمِ تَعَاهُدِهِ لِجَمِيعِ الْوُضُوءِ بَقِيَتْ اللُّمْعَةُ نَظِيرَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ فَنَادَاهُمْ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: {وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ} . وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ: {أَنَّ رَجُلًا تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ عَلَى قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَك فَرَجَعَ ثُمَّ صَلَّى} . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَالْقَدَمُ كَثِيرًا مَا يُفَرِّطُ الْمُتَوَضِّئُ بِتَرْكِ اسْتِيعَابِهَا حَتَّى قَدْ اعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ أَنَّهَا لَا تُغْسَلُ بَلْ فَرْضُهَا مَسْحُ ظَهْرِهَا عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الشِّيعَةِ وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَسْلِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ لَمْ يُوجِبُوا الْمُوَالَاةَ عُمْدَتُهُمْ فِي الْأَمْرِ حَدِيثٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: {أَنَّهُ تَوَضَّأَ [فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ دُعِيَ لِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا](1).

(1)

بياض بالأصل، والمثبت من الموطأ 1/ 36 (43)

قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 173):

وهذا الحديث المستدل به هو ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر: " أنه بال في السوق ثم توضأ فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ثم دعي لجنازة ليصلي عليها حين دخل المسجد فمسح على خفيه ثم صلى عليها ".

ص: 136

مُوَالَاةً لِفَقْدِ تَمَامِ الْمَاءِ} وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وَاَلَّذِي لَمْ يُمْكِنْهُ الْمُوَالَاةُ - لِقِلَّةِ الْمَاءِ أَوْ انْصِبَابِهِ أَوْ اغْتِصَابِهِ مِنْهُ بَعْدَ تَحْصِيلِهِ أَوْ لِكَوْنِ الْمَنْبَعِ أَوْ الْمَكَانِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ هُوَ وَغَيْرُهُ - كَالْأُنْبُوبِ أَوْ الْبِئْرِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ الْمَاءُ إلَّا مُتَفَرِّقًا تَفَرُّقًا كَثِيرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ -: لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ إلَّا هَكَذَا بِأَنْ يَغْسِلَ مَا أَمْكَنَهُ بِالْمَاءِ الْحَاضِرِ. وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ غَسَلَ الْبَاقِيَ بِمَاءِ حَصَّلَهُ فَقَدْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَفَعَلَ مَا اسْتَطَاعَ مِمَّا أُمِرَ بِهِ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ عَنْ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ لِعَدَمِ الْمَاءِ لَسَقَطَ عَنْهُ وَلَكَانَ فَرْضُهُ التَّيَمُّمَ وَلَوْ قَدَرَ عَلَى غَسْلِ بَعْضِهَا فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ: يَتَيَمَّمُ فَقَطْ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ. وَقِيلَ: يَسْتَعْمِلُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَيَتَيَمَّمُ لِلْبَاقِي. وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: بَلْ يَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ فِي الْغُسْلِ دُونَ الْوُضُوءِ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ دُونَ الْغُسْلِ.

ص: 137

قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ: فَيَنْتَفِعُ بِاسْتِعْمَالِ الْبَعْضِ فِي الْغُسْلِ دُونَ التَّيَمُّمِ. وَضَعَّفُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ طَهَارَةٌ نَافِعَةٌ عِنْدَ الْعَجْزِ فِي الْوُضُوءِ كَمَا هِيَ نَافِعَةٌ فِي الْغُسْلِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ إعَادَةُ مَا غَسَلَهُ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا صَلَّاهُ بِالتَّيَمُّمِ وَكَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا غَسَلَ فِي الْغُسْلِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَصْحَابِ أَحْمَد مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ كَمَا أُمِرَ وَمَنْ كَانَ مُمْتَثِلًا الْأَمْرَ أَجْزَأَ مِنْهُ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. يُوضِحُ هَذَا أَنَّهُ فِي حَالِ الْعَجْزِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِغَسْلِ الْعُضْوِ الثَّانِي وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِتَحْصِيلِ الطَّهُورِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ غَسْلِهِ أَوْ بِتَأَخُّرِهِ إلَى الْقُدْرَةِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى غَسْلِ الْعُضْوِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُسْتَطَاعُ مِنْ الْمَأْمُورِ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى غَسْلِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ أَوْ بَعْضِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ دُونَ بَعْضٍ فَإِنَّ عَلَيْهِ غَسْلَهُ كَالْمَقْطُوعِ يَدُهُ مِنْ بَعْضِ الذِّرَاعِ. وَطَرْدُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ لَوْ كَانَ بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ مَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ مِنْ جُرْحٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَغَسَلَ الصَّحِيحَ ثُمَّ قُدِّرَ أَنَّ الْأَلَمَ زَالَ وَقَدْ نَشِفَ ذَلِكَ الْعُضْوُ: فَإِنَّهُ إذَا غَسَلَ الْبَاقِيَ فَقَدْ فَعَلَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ.

ص: 138

وَأَيْضًا فَالتَّرْتِيبُ وَاجِبٌ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ثُمَّ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ لِعُذْرِ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ - كَالْحَيْضِ - فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ الْوَاجِبَ. وَمَذْهَبُ أَحْمَد فِي هَذَا أَوْسَعُ مِنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ: فَعِنْدَهُ إذَا قَطَعَ التَّتَابُعَ لِعُذْرِ شَرْعِيٍّ لَا يُمْكِنُ مَعَ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ - مِثْلُ أَنْ يَتَخَلَّلَ الشَّهْرَيْنِ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ يَوْمِ الْفِطْرِ أَوْ يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ أَيَّامِ مِنًى أَوْ مَرَضٌ أَوْ نِفَاسٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ التَّتَابُعَ الْوَاجِبَ وَلَوْ أَفْطَرَ لِعُذْرِ مُبِيحٍ كَالسَّفَرِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ. فَالْوُضُوءُ أَوْلَى إذَا تَرَكَ التَّتَابُعَ فِيهِ لِعُذْرِ شَرْعِيٍّ وَإِنْ أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ. وَأَيْضًا فَالْمُوَالَاةُ وَاجِبَةٌ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ قَالُوا: إنَّهُ لَوْ قَرَأَ بَعْضَهَا وَسَكَتَ سُكُوتًا طَوِيلًا لِغَيْرِ عُذْرٍ: كَانَ عَلَيْهِ إعَادَةُ قِرَاءَتِهَا. وَلَوْ كَانَ السُّكُوتُ لِأَجْلِ اسْتِمَاعِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ أَوْ لَوْ فَصَلَ بِذِكْرِ مَشْرُوعٍ - كَالتَّأْمِينِ وَنَحْوِهِ - لَمْ تَبْطُلْ الْمُوَالَاةُ بَلْ يُتِمُّ قِرَاءَتَهَا وَلَا يَبْتَدِئُهَا وَمَسْأَلَةُ الْوُضُوءِ كَذَلِكَ سَوَاءٌ فَإِنَّهُ فَرَّقَ الْوُضُوءَ لِعُذْرِ شَرْعِيٍّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي الْكَلَامِ أَوْكَدُ مِنْ الْمُوَالَاةِ فِي الْأَفْعَالِ. وَأَيْضًا فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي الْعُقُودِ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَاجِبَةٌ بِحَيْثُ لَوْ تَأَخَّرَ الْقَبُولُ عَنْ الْإِيجَابِ - حَتَّى

ص: 139

خَرَجَا مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ إلَى غَيْرِهِ أَوْ تَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا - فَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابٍ ثَانٍ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى أَنَّهُ إذَا أُوجِبَ النِّكَاحُ لِغَائِبِ وَذَهَبَ إلَيْهِ الرَّسُولُ فَقَبِلَ فِي مَجْلِسِ الْبَلَاغِ: أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ فَظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ مِنْهُ ثَانٍ: بِأَنَّهُ يَصِحُّ تَرَاخِي الْقَبُولِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا وَطُولِ الْفَصْلِ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي مِثْلِ الْهِدَايَةِ وَالْمُقْنِعِ وَالْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهَا: أَنَّهُ يَصِحُّ فِي النِّكَاحِ وَلَوْ بَعْدَ الْمَجْلِسِ. وَذَلِكَ خَطَأٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْجَدُّ - فِيمَا أَظُنُّ - فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ ظَاهِرٌ وَيَذْهَبُ إلَى الْفَرْقِ: غَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِ. وَهَذَا التَّفْرِيقُ مِنْ أَحْسَنِ الْأَقْوَالِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي الْوُضُوءِ كَذَلِكَ لَكِنِّي لَمْ أَتَأَمَّلْ بَعْدُ نَصَّهُ فِي الْوُضُوءِ. فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يُحْكَى عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَيَكُونُ مَنْصُوصُهُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ وَيَكُونُ هُوَ الصَّوَابَ كَمَسْأَلَةِ إخْرَاجِ الْقِيَمِ وَمَسْأَلَةِ قَتْلِ الْمُوصِي. وَأَيْضًا فَالْمُوَالَاةُ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أَوْكَدُ مِنْهُ فِي الْوُضُوءِ وَمَعَ هَذَا فَتَفْرِيقُ الطَّوَافِ لِمَكْتُوبَةٍ تُقَامُ أَوْ جِنَازَةٍ تُحْضَرُ ثُمَّ يَبْنِي عَلَى الطَّوَافِ وَلَا يَسْتَأْنِفُ: فَالْوُضُوءُ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا فَلَوْ تَوَضَّأَ بَعْدَ

ص: 140

الْوُضُوءِ ثُمَّ عَرَضَ أَمْرٌ وَاجِبٌ يَمْنَعُهُ عَنْ الْإِتْمَامِ - كَإِنْقَاذِ غَرِيقٍ أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلَهُ - ثُمَّ أَتَمَّ وُضُوءَهُ كَالطَّوَافِ وَأَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ عَرَضَ لَهُ مَرَضٌ مَنَعَهُ مِنْ إتْمَامِ الْوُضُوءِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ تُفَرِّقُ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهَا بَيْنَ الْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ؛ وَالْمُفَرِّطِ؛ وَالْمُعْتَدِي؛ وَمَنْ لَيْسَ بِمُفَرِّطٍ وَلَا مُعْتَدٍ. وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مُعْتَمِدٌ وَهُوَ الْوَسَطُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ وَبِهِ يَظْهَرُ الْعَدْلُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ.

وَقَدْ تَأَمَّلْت مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَبَايَنُ فِيهَا النِّزَاعُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا حَتَّى تَصِيرَ مُشَابِهَةً لِمَسَائِلِ الْأَهْوَاءِ؛ وَمَا يَتَعَصَّبُ لَهُ الطَّوَائِفُ مِنْ الْأَقْوَالِ؛ كَمَسَائِلِ الطَّرَائِقِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَبَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ وَغَيْرِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ: فَوَجَدْت كَثِيرًا مِنْهَا يَعُودُ الصَّوَابُ فِيهِ إلَى الْوَسَطِ؛ كَمَسْأَلَةِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ وَمَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ؛ وَإِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ؛ وَالصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ؛ وَالْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ؛ وَمَسْأَلَةِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ وَتَبْيِيتِهَا؛ وَبَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ وَاجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ وَمَسَائِلِ الشَّرِكَةِ: كَشَرِكَةِ الْأَبْدَانِ وَالْوُجُوهِ وَالْمُفَاوَضَةِ وَمَسْأَلَةِ صِفَةِ الْقَاضِي. وَكَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي تُسَمَّى

ص: 141

مَسَائِلَ الْأُصُولِ: أَوْ أُصُولَ الدِّينِ؛ أَوْ أُصُولَ الْكَلَامِ؛ يَقَعُ فِيهَا اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ. وَقَدْ قَرَّرْنَا أَيْضًا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ وَبَيْنَ الْمُنَافِقِ الزِّنْدِيقِ الْمُؤْمِنِ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عُفِيَ لَهُمْ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ ثُمَّ غَالِبُ الْخِلَافِ الْمُتَبَايِنِ فِيهَا يَعُودُ الْحَقُّ فِيهِ إلَى الْقَوْلِ الْوَسَطِ فِي مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ؛ وَمَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْعَدْلِ؛ وَمَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ؛ وَمَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. وَمَسَائِلِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ؛ وَمَسَائِلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْخُرُوجِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَمَذَاهِبِهِمْ أَوْ مُوَافَقَتِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ؛ فَأَمْرُهُمْ وَنَهْيُهُمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالْفِتَنِ. وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ. وَأَيْضًا فَعُمْدَةُ الْقِيَاسِ فِي مَسْأَلَةِ التَّرْتِيبِ وَالْمُوَالَاةِ إنَّمَا هُوَ قِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ يَجِبُ فِيهَا التَّرْتِيبُ؛ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ السُّجُودِ عَلَى الرُّكُوعِ. وَتَجِبُ فِيهَا الْمُوَالَاةُ؛ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ أَبْعَاضِهَا بِمَا يُنَافِيهَا؛ وَالصَّلَاةُ مَعَ هَذَا عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ مُتَّصِلَةُ الْأَجْزَاءِ؛ لَيْسَ بَيْنَ أَجْزَائِهَا فَصْلٌ أَصْلًا حَتَّى يُمْكِنَ فِي ذَلِكَ الْمُتَابَعَةُ أَوْ التَّفْرِيقُ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ إذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِعُذْرِ كَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ لِضَرُورَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: {أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى بَعْدَ صَلَاةِ رَكْعَةٍ تَذْهَبُ وِجَاهَ الْعَدُوِّ؛ فَإِذَا صَلَّتْ الثَّانِيَةَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ ذَهَبَتْ أَيْضًا إلَى وِجَاهِ الْعَدُوِّ ثُمَّ رَجَعَتْ

ص: 142

الْأُولَى إلَى مَوْقِفِهَا فَأَتَمَّتْ الصَّلَاةَ ثُمَّ الثَّانِيَةَ} وَالصِّفَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَهِيَ جَائِزَةٌ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمُخْتَارَةُ فِي الْخَوْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ إذْ لَيْسَ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِصَلَاةِ الْأَمْنِ إلَّا فِي اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ وَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ؛ وَهَذَانِ يَجُوزَانِ لِلْعُذْرِ كَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ - كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ؛ وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ - يَقُولُ: إنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى إذَا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِكَلَامِ عَمْدٍ وَنَحْوِهِ وَهَذَا مَأْثُورٌ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَفِيهِ حَدِيثَانِ مُرْسَلَانِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُرْسَلُ إذَا عَمِلَ بِهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ يَحْتَجُّ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَيْضًا فَإِذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ سَاهِيًا - كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ؛ وَفَصَلَ بَيْنَ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ بِالْقِيَامِ إلَى الْخَشَبَةِ وَالِاتِّكَاءِ عَلَيْهَا؛ وَتَشْبِيكِ أَصَابِعِهِ؛ وَوَضْعِ خَدِّهِ عَلَيْهَا؛ وَالْكَلَامِ مِنْهُ وَمِنْ الْمُنَبِّهِ لَهُ السَّائِلِ لَهُ الْمُخْبِرِ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ؛ وَالْمُجِيبِينَ لَهُ الْمُوَافِقِينَ لِلْمُنَبِّهِ - ثُمَّ أَتَمَّ الصَّلَاةَ: لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّفْرِيقُ وَالْفَصْلُ مَانِعًا مِنْ الْإِتْمَامِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا لَأَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِلَا نِزَاعٍ فَإِذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ إلَّا مُتَّصِلَةً لَا يَسْتَوِي تَفْرِيقُهَا فِي حَالِ الْعُذْرِ وَعَدَمِهِ: فَكَيْفَ يَسْتَوِي تَفْرِيقُ الْوُضُوءِ فِي حَالِ الْعُذْرِ وَعَدَمِهِ؟ مَعَ أَنَّ الْوُضُوءَ

ص: 143

أَفْعَالٌ مُنْفَصِلَةٌ لَا يَجِبُ اتِّصَالُهَا بِالِاتِّفَاقِ وَلَيْسَ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: إذَا عَمِلَ عَمَلًا كَثِيرًا لِعُذْرِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ؛ وَالسَّاهِي إذَا سَلَّمَ فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ حِينَئِذٍ الْحَدِيثَ أَوْ الْكَلَامَ الْمُبْطِلَ؛ أَوْ الْعَمَلَ الْكَثِيرَ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ اسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ كَشَفَ الْعَوْرَةَ: بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَلَوْ كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِذَلِكَ فَلَا يَكُونُ هَذَا تَرْكًا لِلْمُوَالَاةِ الْوَاجِبَةِ لِأَنَّهُ يُقَالُ: بَلْ هَذَا مِنْ أَوْكَدِ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ وَالْفَصْلَ الطَّوِيلَ الْمَعْفُوَّ لَهُ عَنْهُ - مِثْلُ الذَّهَابِ إلَى الْعَدُوِّ ثُمَّ الرُّجُوعُ إلَى مَوْقِفِهِ وَمِثْلَ قِيَامِ الْمُسَلِّمِ سَهْوًا إلَى نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ وَاتِّكَائِهِ عَلَيْهِ - لَيْسَ هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَلَا الْمُسْتَحَبَّةِ وَلَا دَاخِلًا فِي ذَلِكَ كَمَا يَدْخُلُ مَا يَدْخُلُ فِي تَطْوِيلِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقُعُودِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَإِذَا أَطَالَهَا أَوْ أَدْخَلَ فِيهَا مَا لَا يُشْرَعُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ: لَمْ يَمْنَعْ أَنْ تَكُونَ هِيَ مِنْ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا تِلْكَ فَلَيْسَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا أُمِرَ الْمُصَلِّي بِالْعَمَلِ الْكَثِيرِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لِأَجْلِ الْجِهَادِ وَغُفِرَ لَهُ عَنْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ السَّهْوِ لِأَنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ فَصَارَ الْفَصْلُ بَيْنَ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ الْمُتَابِعِ تَارَةً بِفِعْلِ يُوجِبُ تَغْيِيرَهَا وَتَارَةً بِفِعْلِ لَا جُنَاحَ عَلَى فَاعِلِهِ

ص: 144

لِكَوْنِهِ لَيْسَ مُكَلَّفًا بِتَرْكِهِ يُشْبِهُهُ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّيَامِ الْمُتَتَابِعِ: تَارَةً بِصَوْمِ أَوْ فِطْرٍ وَاجِبٍ وَتَارَةً بِحَيْضِ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ يَعْجِزُ مَعَهُ عَنْ الصَّوْمِ. وَلِهَذَا طَرَدَ أَحْمَد ذَلِكَ؛ وَلَوْ وَقَعَ هَذَا التَّفْرِيقُ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِالِاتِّفَاقِ فَالْوُضُوءُ أَوْلَى أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَ تَفْرِيقِهِ لِعُذْرِ وَلِغَيْرِ عُذْرٍ. وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّلَاةَ إلَّا بِمَا يُعْفَى عَنْهُ فِيهِ فَإِذَا أَتَى بِمَا يُنَافِيهَا - مِنْ كَلَامٍ عَمْدٍ أَوْ عَمَلٍ كَثِيرٍ؛ أَوْ اسْتِدْبَارِ قِبْلَةٍ لِغَيْرِ عُذْرٍ - كَانَ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ أَبْعَاضِهَا وَفَرَّقَ بَيْنَهَا بِمَا يُنَافِيهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ كَمَا لَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَسَلَّمَ عَمْدًا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ بَلْ يَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ وَلَوْ سَلَّمَ سَهْوًا بَنَى عَلَى الْأَوَّلِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُ إنَّمَا هُوَ خَارِجٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَزَائِدٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ إلَّا قَطْعُ الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوِتْرِ بِثَلَاثِ مُتَّصِلَةٍ وَثَلَاثٍ يُفْصَلُ فِيهَا بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ: إلَّا بِمُجَرَّدِ الْفَصْلِ؟ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: يُفْصَلُ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ بِتَسْلِيمَةٍ؛ أَوْ لَا يُفْصَلُ بِتَسْلِيمَةٍ. فَمِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَنْ لَا يُسَوِّغُ الْفَصْلَ كَالْمَغْرِبِ. وَيَجْعَلُ وَتْرَ اللَّيْلِ لَا يَكُونُ إلَّا كَوِتْرِ النَّهَارِ مُتَّصِلًا غَيْرَ مُنْفَصِلٍ. وَمِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ مَنْ لَا يُسَوِّغُ إلَّا الْفَصْلَ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {صَلَاةُ اللَّيْلِ

ص: 145

مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِرَكْعَةِ} . وَفُقَهَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَخْتَارُونَ الْفَصْلَ لِصِحَّةِ الْآثَارِ وَكَثْرَتِهَا بِهِ وَإِنْ جَوَّزُوا الْوَصْلَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ بَيْنَ صُورَتَيْ الْوِتْرِ فَرْقًا: إلَّا كَوْنَ هَذَا مُتَّصِلًا وَهَذَا مُنْفَصِلًا. وَهَذَا هُوَ الْمُوَالَاةُ وَالتَّفْرِيقُ؛ فَتُبَيِّنُ أَنَّ السَّلَامَ الْعَمْدَ إنَّمَا أَبْطَلَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَنَحْوَهَا مِمَّا سُنَّتُهُ الِاتِّصَالُ: لِأَجْلِ تَفْرِيقِ بَعْضِ الصَّلَاةِ عَنْ بَعْضٍ وَهُوَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ وَكُلُّ مَا يُنَافِي الصَّلَاةَ مِنْ فِعْلٍ أَوْ عَمَلٍ كَثِيرٍ؛ أَوْ تَعَمُّدِ كَلَامٍ وَتَرْكِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا - مِنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَوْ سَتْرِ عَوْرَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ مَعَ مُنَافَاتِهِ بِفَرْقِ بَيْنَ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا كَمَا يَخْرُجُ بِالسَّلَامِ؛ وَلِهَذَا ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا بِكُلِّ مَا يُنَافِيهَا كَمَا يَخْرُجُ بِالسَّلَامِ لَكِنَّ فُقَهَاءَ الْحَدِيثِ وَأَهْلَ الْحِجَازِ مَنَعُوا ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ} وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا إلَّا بِالْمَشْرُوعِ؛ وَلَا يَخْرُجُ إلَّا بِالْمَشْرُوعِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْكَلَامَ فِي هَذَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ يُجَوِّزُ الْوِتْرَ بِثَلَاثِ مَفْصُولَةٍ - كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد

ص: 146

وَغَيْرِهِمَا - يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ الَّتِي لَهَا اسْمٌ وَاحِدٌ يَفْصِلُ بَيْنَ أَبْعَاضِهَا بِالسَّلَامِ الْعَمْدِ كَالْوِتْرِ وَالضُّحَى وَقِيَامِ رَمَضَانَ وَالْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَاخْتِيَارُهُمْ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ أَنْ تَكُونَ مَثْنَى مَثْنَى: إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ أَحْمَد مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا الْفَصْلُ: كَالْوِتْرِ بِخَمْسِ أَوْ سَبْعٍ أَوْ تِسْعٍ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ فِيهَا مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِعْلُهُ وَيَقُولُونَ: أَدْنَى الْوِتْرِ ثَلَاثٌ مَفْصُولَةٌ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَائِشَةَ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ مِنْ اللَّيْلِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَفْصِلُ بَيْن كُلِّ رَكْعَتَيْنِ} فَسُمَّتْ الْجَمِيعُ وِتْرًا مَعَ الْفَصْلِ. وَقَدْ يُنَازِعُهُمْ فِي هَذَا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ إذْ الْمَسْنُونُ عِنْدَهُمْ فِي الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ الْوَصْلُ وَكَذَلِكَ فِي الْوِتْرِ بِثَلَاثِ وَكَذَلِكَ إذَا جَاءَ ذِكْرُ صَلَاةِ أَرْبَعٍ أَوْ ثَمَانٍ: يَجْعَلُونَهَا بِتَسْلِيمَةٍ. الثَّانِي: إذَا تَكَلَّمَ بَعْدَ سَلَامِهِ مِنْ الصَّلَاةِ سَهْوًا كَمَا فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ فَقَدْ عُلِمَ مَا فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ وَالْمُنَازِعُ يَقُولُ: هُوَ مَنْسُوخٌ كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد: كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْكَلَامَ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ بَعْدَ السَّلَامِ سَهْوًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مُحْكَمٌ وَهُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي

ص: 147

عَامَّةِ أَجْوِبَتِهِ فَإِنَّهُ أَخَذَ بِهِ وَتَفَقَّهَ فِيهِ وَلَمْ يَتْرُكْ الْأَخْذَ بِهِ وَلَا قَالَ هُوَ مَنْسُوخٌ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَشْهُورَ بِرِوَايَتِهِ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّاهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: وَذَكَرَ فِيهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ الصَّلَاةَ وَهُوَ إنَّمَا سَلَّمَ وَرَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَصَلَّى خَلْفَهُ مِنْ عَامِ خَيْبَرَ وَالْقَضِيَّةُ كَانَتْ فِي مَسْجِدِهِ وَذَلِكَ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ خَيْبَرَ بِيَقِينِ وَهَذَا يَقِينٌ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْت عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْك فِي الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: إنَّ فِي الصَّلَاةِ شَغْلًا} . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْكَلَامَ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَا خِلَافٍ وَهُوَ الَّذِي أَجْهَزَ عَلَى أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ قَبْلَ بَدْرٍ سَوَاءٌ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَجَعَ مِنْ الْحَبَشَةِ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ هَاجَرَ أَوْ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ إلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ هَذَا قَدْ تُنُوزِعَ فِيهِ: فَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ تَحْرِيمُ الْكَلَامِ بِمَكَّةَ وَهُوَ مُقَيَّدٌ كَمَا فِي

ص: 148

مُسْنَدِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى النَّجَاشِيِّ وَنَحْنُ ثَمَانُونَ رَجُلًا وَمَعَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ} فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي دُخُولِهِمْ عَلَى النَّجَاشِيِّ وَفِي آخِرِهِ: فَجَاءَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَبَادَرَ فَشَهِدَ بَدْرًا. وَلِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمُشْتَبِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ يَقُولُهَا مَنْ يَقُولُهَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ: أَحَدُهَا - وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَطَائِفَةٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ - أَنَّ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْكَلَامِ وَظَنُّوا أَنَّ قَضِيَّتَهُ كَانَتْ قَبْلَ بَدْرٍ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْقَضِيَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ قَالُوا: وَتَحْرِيمُ الْكَلَامِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: إنْ كُنَّا لَنَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ حَتَّى نَزَلَتْ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ} وَلَيْسَ لِلْبُخَارِيِّ: وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: {كُنَّا نَتَكَلَّمُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ} . وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ مِنْ صِغَارِ الْأَنْصَارِ وَهُوَ صَاحِبُ الْإِذْنِ الَّذِي وَفَّى

ص: 149

اللَّهُ بِإِذْنِهِ لَمَّا بَلَّغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَ ابْنِ أبي مِنْ الْمُنَافِقِينَ ({لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} وَكَذَّبَهُ مَنْ كَذَّبَهُ وَلَامَهُ مَنْ لَامَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ} فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {هَذَا الَّذِي وَفَّى اللَّهُ بِإِذْنِهِ} وَهُوَ لَمْ يُصَلِّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَذَكَرَ أَنَّ النَّسْخَ حَصَلَ بِآيَةِ الْمُحَافَظَةِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ قَدْ يُقَالُ: إنَّهَا إنَّمَا نَزَلَتْ عَامَ الْخَنْدَقِ لَمَّا شَغَلَهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى قَالَ: {مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ} - كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ - فَقَالَ هَؤُلَاءِ: إذَا كَانَتْ قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ قَبْلَ بَدْرٍ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ قَدْ حُرِّمَ أَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ إنَّمَا حُرِّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ بَعْدَ عَامِ الْخَنْدَقِ الَّتِي هِيَ بَعْدَ بَدْرٍ بِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ: كَانَ مَنْسُوخًا. وَأَقْصَى مَا يُقَالُ: إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَعْدَهُ فَلَا يَبْقَى فِيهِ حُجَّةٌ. وَنَجِدُ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ - مِمَّنْ يُخَالِفُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ غَيْرِهِمْ - يَقُولُ: هَذَا مَنْسُوخٌ وَقَدْ اتَّخَذُوا هَذَا مَجْنَةً (1)؛ كُلُّ حَدِيثٍ لَا يُوَافِقُ مَذْهَبَهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ مَنْسُوخٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَلَا يُثْبِتُوا مَا الَّذِي نَسَخَهُ.

(1)

في المطبوعة: " محنة " والصواب ما أثبتناه

ص: 150

وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِالْعَمَلِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ - يَقُولُونَ: هَذَا مَنْسُوخٌ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ: إنَّ وُجُودَ عِلْمِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِخِلَافِهِ دَلِيلُ نَسْخِهِ وَهَذَا كَثِيرٌ. وَمَا ذَكَرُوهُ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ هُوَ مِنْ أَبْلَغِ مَا قَرَّرُوهُ وَادَّعَوْا أَنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ الْخَنْدَقِ أَوْ نَحْوَهُ وَيَقُولُونَ فِي الْقُنُوتِ إنَّهُ مَنْسُوخٌ وَفِي دُعَائِهِ لِمُعَيَّنِ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ وَإِنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ} حَتَّى يُبَالِغُوا فِيمَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ كَالتَّنْبِيهِ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ شَهْرًا إذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ يَقُولُ فِي قُنُوتِهِ: اللَّهُمَّ نَجِّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ} قَالَ {أَبُو هُرَيْرَةَ: ثُمَّ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ بَعْدُ فَقُلْت: أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ قَالَ: فَقِيلَ: أَوَمَا تَرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا} ؟ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْفِقْهِ فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يُصَلِّ خَلْفَ

ص: 151

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا بَعْدَ خَيْبَرَ وَخَيْبَرُ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَتْ الْهُدْنَةُ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ: عَلَى أَنْ لَا يَدَعَ أَحَدًا مِنْهُمْ يُهَاجِرُ إلَيْهِ وَلَا يَرُدُّ إلَيْهِ مَنْ ذَهَبَ مُرْتَدًّا مِنْهُ إلَيْهِمْ فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ كَانُوا مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ الَّذِينَ قَهَرَهُمْ أَهْلُوهُمْ وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ وَهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ أَشْرَفُ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ وَبَنُو مَخْزُومٍ كَانُوا هُمْ الَّذِينَ يُنَادَوْنَ عَبْدَ مَنَافٍ وَالْمُحَاسَدَةُ الَّتِي بَيْنَهُمْ هِيَ إحْدَى مَا مَنَعَتْ أَشْرَافَهُمْ - كَالْوَلِيدِ وَأَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِمَا - مِنْ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا قَدِمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ مَنْ قَدِمَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَلَحِقُوا بِسَيْفِ الْبَحْرِ عَلَى السَّاحِلِ - كَأَبِي بَصِيرٍ وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو - فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُجِرْهُمْ بِالشَّرْطِ فَصَارُوا بِأَيْدِي أَنْفُسِهِمْ بِالسَّاحِلِ يَقْطَعُونَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى أَرْسَلَ أَهْلُ مَكَّةَ حِينَئِذٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الْمُقَامِ عِنْدَهُ لِيَأْمَنُوا قَطْعَهُمْ فَقَدِمُوا حِينَئِذٍ أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفُونَ فَتَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْقُنُوتَ. وَهَذَا الْقُنُوتُ بَعْدَ الْقُنُوتِ الَّذِي رَوَاهُ أَنَسٌ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رعل وذكوان وَعُصَيَّةَ ثُمَّ تَرَكَهُ} فَإِنَّ ذَلِكَ الْقُنُوتَ كَانَ فِي أَوَائِلِ الْأَمْرِ لَمَّا أَرْسَلَ الْقُرَّاءَ السَّبْعِينَ: أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَذَلِكَ مُتَقَدِّمٌ قَبْلَ الْخَنْدَقِ الَّتِي هِيَ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا

ص: 152

ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَهُ لِلْقُنُوتِ لَمْ يَكُنْ تَرْكَ نَسْخٍ؛ إذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَنَتَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا قَنَتَ لِسَبَبِ فَلَمَّا زَالَ السَّبَبُ تَرَكَ الْقُنُوتَ كَمَا بَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ لَمَّا قَدِمُوا. وَلَيْسَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ثُمَّ تَرَكَهُ} أَنَّهُ تَرَكَ الدُّعَاءَ فَقَطْ كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ ظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُدَاوِمًا عَلَى الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ بَعْدَ الرُّكُوعِ أَوْ قَبْلَهُ بَلْ ثَبَتَ فِي أَحَادِيثِ أَنَسٍ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ: {أَنَّهُ لَمْ يَقْنُتْ بَعْدَ الرُّكُوعِ إلَّا شَهْرًا} وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَتْرُوكَ كَانَ الْقُنُوتَ. وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ مِنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ عَلِمَ عِلْمًا يَقِينًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُدَاوِمْ عَلَى الْقُنُوتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ لَا الْفَجْرِ وَلَا غَيْرِهَا؛ وَلِهَذَا لَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ؛ بَلْ أَنْكَرُوهُ. وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَرْفًا وَاحِدًا مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهِ فِي الْقُنُوتِ الرَّاتِبِ وَإِنَّمَا الْمَنْقُولُ عَنْهُ مَا يَدْعُو بِهِ فِي الْعَارِضِ: كَالدُّعَاءِ لِقَوْمِ وَعَلَى قَوْمٍ فَأَمَّا مَا يَدْعُو بِهِ مَنْ يَسْتَحِبُّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى قُنُوتِ الْفَجْرِ مِنْ قَوْلِ: {اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْت} فَهَذَا إنَّمَا فِي السُّنَنِ أَنَّهُ عَلَّمَهُ لِلْحَسَنِ يَدْعُو بِهِ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ.

ص: 153

ثُمَّ مِنْ الْعَجَبِ. أَنَّهُ لَا يَسْتَحِبُّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ فِي الْوِتْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ وَيُدَاوِمُ عَلَيْهِ فِي الْفَجْرِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَهُ فِي الْفَجْرِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالْيَقِينِ الضَّرُورِيِّ أَنَّ الْقُنُوتَ لَوْ كَانَ مِمَّا دَاوَمَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُهْمَلُ؛ وَلَتَوَفَّرَتْ دَوَاعِي الصَّحَابَةِ ثُمَّ التَّابِعِينَ عَلَى نَقْلِهِ: فَإِنَّهُمْ لَمْ يُهْمِلُوا شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ الَّتِي كَانَ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا إلَّا نَقَلُوهُ؛ بَلْ نَقَلُوا مَا لَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَيْهِ: كَالدُّعَاءِ فِي الْقُنُوتِ لِمُعَيَّنِ وَعَلَى مُعَيَّنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَدَعْوَى هَذَا أَيْضًا هِيَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مِمَّا يَدَّعِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي النَّصِّ الْجَلِيِّ عَلَى مُعَيَّنٍ فِي الْإِمَامَةِ؛ أَوْ مِنْ زِيَادَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُصَنِّفُونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ بَيَانِ مَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْكَذِبِ وَمَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْكِتْمَانِ فَإِذَا تَكَلَّمُوا فِي الْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ الَّتِي يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ كَذِبًا مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ: تَكَلَّمُوا فِيمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَخْبَارِ لِلْعَادَةِ الْعَامَّةِ أَوْ الْخَاصَّةِ أَوْ لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى حِفْظِ هَذَا الدِّينِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ.

وَأَمَّا الدُّعَاءُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ - كَمَا يَتَّخِذُهُ مَنْ يَتَّخِذُهُ سُنَّةً رَاتِبَةً فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ - فَهَذَا إنَّمَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهِ لَمَّا كَانَ يُجَاهِدُ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالشَّامِ وَكَانَ يَدْعُو بِهِ فِي الْمَكْتُوبَةِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ

ص: 154

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْنُتُ أَحْيَانًا يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الْكَافِرِينَ وَيَذْكُرُ قَبَائِلَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَهُ كمضر؛ ورعل وذكوان؛ وَعُصَيَّةَ وَعُمَرُ لَمَّا قَاتَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ قَنَتَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَكْتُوبَةِ؛ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقْنُتَ عِنْدَ النَّازِلَةِ وَيَدْعُوَ فِيهَا بِمَا يُنَاسِبُ أُولَئِكَ الْقَوْمَ الْمُحَارِبِينَ. فَأَمَّا أَنْ يَتَّخِذَ قُنُوتَ عُمَرَ فِي الْمَكْتُوبَةِ سُنَّةً فِي الْوِتْرِ وَقُنُوتَ الْحَسَنِ فِي الْوِتْرِ سُنَّةً فِي الْمَكْتُوبَةِ رَاتِبَةً فَهُوَ كَمَا تَرَاهُ وَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ دَعَا لِأَقْوَامِ سَمَّاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ بَعْدَ خَيْبَرَ وَذَلِكَ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ اقْتَضَى مَا يُقَالُ فِي تَأَخُّرِ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ تَأَخَّرَ إلَى عَامِ الْخَنْدَقِ وَخَيْبَرُ بَعْدَ الْخَنْدَقِ بِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ؛ فَإِنَّ خَيْبَرَ كَانَتْ بِالِاتِّفَاقِ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْحُدَيْبِيَةُ كَانَتْ بِالِاتِّفَاقِ سَنَةَ سِتٍّ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا إنَّمَا اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فَلَمَّا صَالَحَهُمْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ فَكَانَتْ غَزْوَةُ الْغَابَةِ غَزْوَةُ ذِي قَرَدَ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ لَمَّا جَعَلَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ وَالْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّعِ لَمَّا أَغَارَتْ فَزَارَةُ عَلَى لِقَاحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ خَيْبَرُ عَقِبَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ سِتٍّ وَأَوَائِلِ سَبْعٍ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْخَنْدَقُ فَقَبْلَ ذَلِكَ: إمَّا فِي أَوَائِلِ خَمْسٍ أَوْ أَوَاخِرِ أَرْبَعٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: عُرِضْت عَلَى النَّبِيِّ

ص: 155

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي وَعُرِضْت عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي} . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى النَّسْخِ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ {سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ الْفَجْرِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا بَعْدَ مَا يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} } فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ اللَّعْنَةِ لَهُمْ؛ لِكَوْنِهِ لَيْسَ لَهُ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ لِجَوَازِ تَوْبَتِهِمْ وَهَذَا إذَا كَانَ نَهْيًا فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ وَالْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ فِي الدُّعَاءِ الْجَائِزِ خَارِجَ الصَّلَاةِ: كَالدُّعَاءِ لِمُعَيَّنِينَ مُسْتَضْعَفِينَ وَالدُّعَاءِ عَلَى مُعَيَّنِينَ مِنْ الْكُفَّارِ بِالنُّصْرَةِ عَلَيْهِمْ؛ لَا بِاللَّعْنَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ - مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ -: إنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ كَانَ بِمَكَّةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّسْخَ ثَبَتَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ قَالَ: وَبَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ خَرَجُوا إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ إسْلَامُ أَهْلِ مَكَّةَ فَأَقْبَلُوا لَمَّا بَلَغَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إسْلَامُ أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِي كَانَ بَاطِلًا فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا بِجِوَارِ أَوْ مُسْتَخْفِيًا فَكَانَ مَنْ قَدِمَ

ص: 156

مِنْهُمْ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ شَهِدَ مَعَهُ بَدْرًا وَأُحُدًا فَذَكَرَ مِنْهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ. وَهَؤُلَاءِ يُجِيبُونَ عَنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ نَهَى عَنْهُ مُتَقَدِّمًا ثُمَّ أَذِنَ فِيهِ؛ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ. الثَّانِي: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَمَنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ انْتَهَوْا. فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ لِوُجُوهِ قَاطِعَةٍ: مِنْهَا: أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ صَحِيحٌ صَرِيحٌ وَقَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْحَبَشَةِ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا كَانَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبُوا إلَى الْحَبَشَةِ؛ وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: {إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشَغْلًا} وَفِي رِوَايَةٍ: {إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ} .

ص: 157

الثَّانِي: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَصْحَبْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُصَلِّ خَلْفَهُ إلَّا بَعْدَ عَامِ خَيْبَرَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ أَشْهَرُ مَنْ رَوَى حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى تِلْكَ الصَّلَاةَ بِهِمْ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ قَالَ {صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ} فَعُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قَبْلَ عَامِ خَيْبَرَ بَلْ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ: فَكَيْفَ تَكُونُ قَبْلَ بَدْرٍ؟ بَلْ خَيْبَرُ بَعْدَ الْخَنْدَقِ فَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يُحَرَّمْ إلَّا عَامَ الْخَنْدَقِ لَكَانَ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مَنْسُوخًا. الثَّالِثُ: أَنَّ مِنْ رُوَاةِ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ قَالُوا: وَإِسْلَامُ عِمْرَانَ كَانَ بَعْدَ بَدْرٍ وَقَدْ رَوَى نَحْوًا مِنْهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ خَدِيج وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهْرَيْنِ وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ قَالُوا: وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ وَابْنُ عُمَرَ قَبْلَ بَدْرٍ كَانَ صَغِيرًا؛ فَإِنَّهُ عَامَ أُحُدٍ كَانَ ابْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَا يَكَادُ ابْنُ عُمَرَ يَرْوِي مَا كَانَ حِينَئِذٍ مِمَّا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ كَمَا لَمْ يَرْوِ حَدِيثَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوَهُ.

ص: 158

الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُمْ: ذُو الْيَدَيْنِ قُتِلَ بِبَدْرٍ غَلَطٌ قَالُوا: فَإِنَّ الْمَقْتُولَ بِبَدْرِ هُوَ ذُو الشِّمَالَيْنِ هُوَ ابْنُ عَمْرٍو مِنْ نضلة بْنِ عبسان: حَلِيفٌ لِبَنِي زُهْرَةَ مِنْ خُزَاعَةَ قُتِلَ بِبَدْرِ وَأَمَّا ذُو الْيَدَيْنِ فَاسْمُهُ الْخِرْبَاقُ وَيُكَنَّى أَبَا الْعُرْيَانِ بَقِيَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَوَى حَدِيثَهُ فِي السَّهْوِ كَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ عَنْ نَصْرِ بْنِ مُعَدِّي بْنِ سُلَيْمَانَ ثِقَةٌ قَالَ: أَتَيْت مَطَرًا لِأَسْأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ فَأَتَيْته فَسَأَلْته؛ فَإِذَا هُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يُنْفِذُ الْحَدِيثَ مِنْ الْكِبَرِ فَقَالَ ابْنُهُ شُعَيْبٌ: بَلَى يَا أَبَتِ حَدَّثْتنِي: أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ لَقِيَك بِذِي خَشَبٍ فَحَدَّثَك {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ وَهِيَ الْعَصْرُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا: قَصُرَتْ الصَّلَاةُ - وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - فَقَالَ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت؟ فَقَالَ: مَا قَصُرَتْ الصَّلَاةُ وَلَا نَسِيت ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالَا: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَابَ النَّاسُ؛ وَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ؛ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ} . وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ معدي بْنِ سُلَيْمَانَ؛ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ مَطَرٍ وَمَطَرٌ جَاءَ مَنْ يُصَدِّقُهُ بِمَقَالَتِهِ. وَهَذَا السِّيَاقُ مُوَافِقٌ لِسِيَاقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ فِي: أَنَّ السَّلَامَ كَانَ مِنْ

ص: 159

رَكْعَتَيْنِ وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ أَنَّهُ مِنْ ثَلَاثٍ وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ رَافِعٍ؛ وَفِيهِ الْجَزْمُ بِأَنَّهَا الْعَصْرُ كَمَا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ وَغَيْرِهِ وَهَلْ كَانَتْ الْقِصَّةُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ مُحْكَمٌ: ثَبَتَ بِهِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَالْفِعَالِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَهُنَا أَقْوَالٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: فَعَنْهُ أَنَّ كَلَامَ النَّاسِ وَالْمُخْطِئُ لَا يُبْطِلُ؛ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَقْوَى الْأَقْوَالِ وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ {مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِي لَمَّا شَمَّتَ الْعَاطِسَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا سَمِعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ} وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ وَهَذَا كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ. وَفِي الْجَاهِلِ لِأَصْحَابِ أَحْمَد طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالنَّاسِي. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَإِنْ بَطَلَتْ صَلَاةُ النَّاسِي؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالنَّاسِخِ. وَهَذَا الْفَرْقُ ضَعِيفٌ هُنَا؛ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَنْ تَمَسَّكَ بِالْمَنْسُوخِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ كَمَا كَانَ أَهْلُ قُبَاء وَأَمَّا هُنَا فَلَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ الْمَنْسُوخُ

ص: 160

بِحَالِ فَالنَّهْيُ فِي حَقِّهِ حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ لَكِنْ هَلْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخِطَابِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِأَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَثْبُتُ مُطْلَقًا. وَالثَّانِي: لَا يَثْبُتُ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْحُكْمِ النَّاسِخِ وَالْحُكْمِ الْمُبْتَدَأِ. وَعَلَى هَذَا يُقَالُ: الْجَاهِلُ لَمْ يَبْلُغْهُ حُكْمُ الْخِطَابِ وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ: أَلَا تَرَى مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَإِنَّهُ يُعِيدُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ فُرُوضِهَا نِسْيَانًا ثُمَّ ذَكَرَ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ صَلَّى بِلَا وُضُوءٍ أَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ أَوْ الرُّكُوعَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعِيدُ. وَأَمَّا مَنْ نَسِيَ وَاجِبًا كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ فَإِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَهُ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ: أَشْهَرُهُمَا تَبْطُلُ. وَلَوْ نَسِيَهُ مُطْلَقًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ فَهُنَا قَدْ أَثَّرَ النِّسْيَانُ فِي سُقُوطِ الْوَاجِبِ مُطْلَقًا.

وَأَمَّا الْجَاهِلُ فَلَوْ صَلَّى غَيْرَ عَالِمٍ بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ أَوْ صَلَّى فِي مَبَارِكِهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِالنَّهْيِ ثُمَّ بَلَغَهُ: فَفِي الْإِعَادَةِ رِوَايَتَانِ لَكِنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْحُجَّةِ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

ص: 161

وَمِمَّا يُقَرِّرُ هَذَا فِي كَلَامِ الْجَاهِلِ فِي الصَّلَاةِ أَحَادِيثُ: مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثُ التَّشَهُّدِ الْمُسْتَفِيضِ: {أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وميكائيل السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ. فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ} وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي قَالُوا ذَلِكَ فِيهَا مَعَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى لِلَّهِ بِالسَّلَامِ بَلْ هُوَ الْمَدْعُوُّ وَلَمَّا كَانُوا جُهَّالًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا وَقَالَ: " لَقَدْ تَحَجَّرْت وَاسِعًا " يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ. وَهَذَا الدُّعَاءُ حَرَامٌ فَإِنَّهُ سُؤَالُ اللَّهِ أَنْ لَا يَرْحَمَ مِنْ خَلْقِهِ غَيْرَهُمَا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ - لَمَّا صَلَّى بِهِمْ أَبُو مُوسَى - أَقَرَنْت الصَّلَاةَ بِالْبِرِّ وَالزَّكَاةِ؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: يَا حطان لَعَلَّك قُلْتهَا؟ فَقُلْت: مَا قُلْتهَا وَلَقَدْ خَشِيت أَنْ تَبْكَعَنِي بِهَا وَلَمْ يَأْمُرْنِي أَبُو مُوسَى بِالْإِعَادَةِ. وَعَلَى هَذَا فَكَلَامُ الْعَامِدِ فِي مَصْلَحَتِهَا فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد: إحْدَاهُمَا: يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

ص: 162

وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: أَنَّ الْكَلَامَ يُبْطِلُ إلَّا إذَا كَانَ لِمَصْلَحَتِهَا سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا. وَفِيهِ رِوَايَةٌ رَابِعَةٌ: إلَّا لِمَصْلَحَتِهَا سَهْوًا وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّي. وَفِيهِ رِوَايَةٌ خَامِسَةٌ: تَبْطُلُ إلَّا صَلَاةَ إمَامٍ تَكَلَّمَ لِمَصْلَحَتِهَا؛ سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا. وَمَنْشَأُ التَّرَدُّدِ أَنَّهُ يُكَلِّمُ ذَا الْيَدَيْنِ ابْتِدَاءً؛ وَتَكَلَّمَ جَوَابًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: بَلَى قَدْ نَسِيت: بَعْدَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ} وَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ وَبِقَوْلِهِ: {أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟} وَتَكَلَّمَ الْمُخَاطَبُونَ بِتَصْدِيقِ ذِي الْيَدَيْنِ فَقِيلَ: إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ ذُو الْيَدَيْنِ سُؤَالُهُ لَهُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ سَلَامِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ اتِّبَاعًا لَهُ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَسِيَ بَلْ جُوِّزَ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ قَصُرَتْ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصَّحَابَةِ لَوْ عَلِمُوا أَنَّهُ نَسِيَ وَأَنَّ مُتَابَعَةَ النَّاسِي فِي السَّلَامِ لَا تَجُوزُ: لَسَبَّحُوا بِهِ؛ لَكِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِجَمِيعِ الْأَمْرَيْنِ قَطْعًا بَلْ جَوَّزُوا أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا بَلْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَ الْمُتَابَعَةِ لَهُ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ. فَقِيلَ لِهَؤُلَاءِ: فَالْمُصَلُّونَ أَجَابُوهُ بِتَصْدِيقِ ذِي الْيَدَيْنِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا

ص: 163

لَمْ تَقْصُرْ وَأَنَّهُ نَسِيَ فَظَنَّ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَوَابَهُ وَاجِبٌ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعْيدِ بْنِ الْمُعَلَّى وَظَنَّ آخَرُونَ أَنَّ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ فَجَوَّزُوا الْكَلَامَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ عَمْدًا وَظَنَّ آخَرُونَ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ سَهْوًا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ الصَّلَاةِ؛ وَأَنَّ مَنْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ لَا يَتَكَلَّمُ. ثُمَّ قَالَ آخَرُونَ: هَذَا الْكَلَامُ وَكَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَذِي الْيَدَيْنِ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ سَهْوًا: فَإِنَّمَا كَانَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صُلْبِ الصَّلَاةِ عَالِمًا أَنَّهُ فِي صَلَاتِهِ بِنَحْوِ هَذَا سَهْوًا وَعَمْدًا لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ: هَلْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ هَذَا؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. فَمَنْ لَمْ يُسَوِّ بَيْنَهُمَا قَالَ: هَذِهِ الْحَالُ لَمْ يَكُونُوا فِي صَلَاةٍ لِخُرُوجِهِمْ مِنْهَا سَهْوًا؛ وَإِنْ كَانُوا فِي حُكْمِهَا كَمَا ذَكَرْنَا؛ فَلِهَذَا شَاعَ هَذَا. وَمَنْ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا قَالَ: سَائِرُ مَحْظُورَاتِ الصَّلَاةِ هِيَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ كَمَا هِيَ فِي الصَّلَاةِ نَفْسِهَا؛ فَإِنَّ التَّفْرِيقَ هُنَا إنَّمَا جَازَ لِعُذْرِ السَّهْوِ فَلَا يُفِيدُ فِعْلَ شَيْءٍ مِمَّا يُنَافِي الصَّلَاةَ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا تَعَمَّدَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ: بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَبْطُلُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ صَلَّى الصَّلَاةَ وَتَرَكَ مَنَافِيَهَا؛ فَإِذَا عُفِيَ عَنْهُ فِي أَحَدِهِمَا لِعُذْرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ فِي الْآخَرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ كَمَا لَوْ زَادَ الْفِعْلَ عَمْدًا فَإِنَّهُ بَعْدَ

ص: 164

الذِّكْرِ لَوْ أَطَالَ الْفَصْلَ عَمْدًا: لَمْ يَكُنْ لَهُ الْبِنَاءُ بَلْ يَبْتَدِئُ الصَّلَاةَ؛ وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَ مَنَافِيَهَا سَهْوًا - مِنْ كَلَامٍ أَوْ عَمَلٍ كَثِيرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ - لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُفَرِّقَهَا عَمْدًا. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا كُلِّهِ وُجُوبُ الْمُوَالَاةِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا فِي حَالِ الْعُذْرِ الْمُسَوِّغِ لِذَلِكَ فَالْوُضُوءُ أَوْلَى بِذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي الْغُسْلِ؟ قِيلَ: الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَحْمَد: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. وَعُمْدَةُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَى يَدِهِ لُمْعَةً لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَعَصَرَ عَلَيْهَا شَعْرَهُ} . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اغْتَسَلَ مِنْ جَنَابَةٍ فَرَأَى لُمْعَةٌ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَقَالَ: بِجُمَّتِهِ فَبَلَّهَا عَلَيْهَا} رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَلِيٍّ السروجي. وَقَدْ ضَعَّفَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ حَدِيثَهُ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَه عَنْ عَلِيٍّ قَالَ {: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي اغْتَسَلْت مِنْ الْجَنَابَةِ فَصَلَّيْت الْفَجْرَ ثُمَّ أَصْبَحْت فَرَأَيْت مَوْضِعًا قَدْرَ الظُّفْرِ لَمْ يُصِبْهُ مَاءٌ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ كُنْت مَسَحْت عَلَيْهِ بِيَدِك أَجْزَأَك} . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ {أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الرَّجُلِ يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ فَيُخْطِئُ بَعْضَ جَسَدِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 165

يَغْسِلُ ذَلِكَ الْمَكَانَ ثُمَّ يُصَلِّي} رَوَاهُ البيهقي مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الأشجعي قَالَ الْبُخَارِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يُخْطِئُ كَثِيرًا. وَقَالَ الدارقطني: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَالْفَرْقُ الْمَعْنَوِيُّ: أَنَّ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ مُتَعَدِّدَةٌ يَجِبُ فِيهَا التَّرْتِيبُ عِنْدَهُمْ: فَوَجَبَتْ فِيهَا الْمُوَالَاةُ وَالْبَدَنُ فِي الْغُسْلِ كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ: لَا يَجِبُ فِيهِ تَرْتِيبٌ فَلَا يَجِبُ فِيهِ مُوَالَاةٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّ حُكْمَ الْوُضُوءِ يَتَعَدَّى مَحَلَّهُ؛ فَإِنَّهُ يَغْسِلُ أَرْبَعَةَ أَعْضَاءٍ فَيُطَهِّرُ جَمِيعَ الْبَدَنِ وَأَمَّا الْجَنَابَةُ فَتُشْبِهُ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ: لَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ مَحَلَّهُ فَكُلَّمَا غَسَلَ شَيْئًا ارْتَفَعَ عَنْهُ الْجَنَابَةُ كَمَا تَرْتَفِعُ النَّجَاسَةُ عَنْ مَحَلِّ الْغُسْلِ فَإِذَا غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لَمْ يَرْتَفِعْ شَيْءٌ مِنْ الْحَدَثِ لَا عَنْهُ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِهِ. وَقَدْ يُقَالُ: هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمُوَالَاةِ؛ فَإِنَّ وُجُوبَ الْمُوَالَاةِ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَقْوَى مِنْ وُجُوبِهَا فِي الِاثْنَيْنِ؛ بِخِلَافِ التَّرْتِيبِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مُخْتَلِفَيْنِ؛ إذْ الْمُتَمَاثِلَاتُ - كَالطَّوَّافَاتِ وَالسَّعَيَاتِ - لَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَرْتِيبٌ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ التَّرْتِيبُ عِنْدَ أَحْمَد وَمَالِكٍ فِي الرَّكَعَاتِ بَلْ مَنْ نَسِيَ رُكْنًا مِنْ رَكْعَةٍ فَلَمْ يَذْكُرْ حَتَّى قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ: قَامَتْ مَقَامَهَا وَغُسْلُ الْجَنَابَةِ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ: الِاتِّصَالُ فِيهَا أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْوُضُوءِ وَهِيَ عِبَادَةٌ فِي نَفْسِهَا

ص: 166

تُعْتَبَرُ لَهَا النِّيَّةُ؛ بِخِلَافِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ لَهَا النِّيَّةُ إلَّا فِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: الْتَزَمُوهُ فِي الْخِلَافِ الْجَدَلِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَمَنْ تَبِعَهُ وَلَيْسَ بِشَيْءِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُوَالَاةُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ. وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَصَرَ عَلَى اللُّمْعَةِ بَعْدَ جَفَافِهَا فِي الزَّمَنِ الْمُعْتَدِلِ وَأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ: فَالْفَرْقُ أَنَّ تَارِكَ اللُّمْعَةِ فِي الرِّجْلِ مُفَرِّطٌ بِخِلَافِ الْمُغْتَسِلِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرَى بَدَنَهُ كَمَا يَرَى رِجْلَيْهِ فَاللُّمْعَةُ إذَا كَانَتْ فِي ظَهْرِهِ أَوْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ وَلَا يُمْكِنُهُ مَسُّهُ كَانَ مَعْذُورًا فِي تَرْكِهَا فَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ فِيهِ الْمُوَالَاةُ بِخِلَافِ مَا لَا يُعْذَرُ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا فَلَوْ قِيلَ بِسُقُوطِ التَّرْتِيبِ بِالْعُذْرِ لَتَوَجَّهَ. وَقَدْ يَخْرُجُ حَدِيثُ تَأْخِيرِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ عَنْ غَسْلِ الْوَجْهِ - وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَنْصُوصَتَيْنِ - عَلَى هَذَا وَأَنَّ تَارِكَهُمَا لَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَهُمَا فَكَانَ مَعْذُورًا بِالتَّرْكِ فَلَمْ يَجِبْ التَّرْتِيبُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُعْذَرْ كَمُنَكِّسِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ وَلَكِنَّ نَظِيرَهُ حَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ: إذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْوُضُوءَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَغَسَلَهُمَا فَقَطْ أَوْ مَنْ تَرَكَ غَسْلَ وَجْهِهِ أَوْ يَدَيْهِ لِجُرْحِ أَوْ مَرَضٍ وَغَسَلَ سَائِرَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ قَبْلَ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ: فَهُنَا إذَا قِيلَ: يَغْسِلُ مَا تَرَكَ أَوَّلًا وَلَا يَضُرُّهُ تَرْكُ التَّرْتِيبِ: كَانَ مُتَوَجِّهًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 167

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ يَغْسِلُ أَطْرَافَهُ فَوْقَ الْخَمْسِ مَرَّاتٍ وَإِذَا أَتَى الْمَسْجِدَ يَبْسُطُ سَجَّادَتَهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ؟ إلَى آخِرِ السُّؤَالِ.

فَأَجَابَ:

مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْوَسْوَسَةِ فِي الطَّهَارَةِ مِثْلُ غَسْلِ الْعُضْوِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى حُصْرِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: هُوَ أَيْضًا بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا وَلَا طَاعَةً وَلَا قُرْبَةً. وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ امْتَنَعَ عُزِّرَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يُعَزِّرُ النَّاسَ عَلَى الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً فَعَلُوهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ فَعَلَهُ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم {وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ} كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَضَرَبَ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ لِكَوْنِهَا بِدْعَةً مَذْمُومَةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ: أَوْلَى وَأَحْرَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 168

وَسُئِلَ:

أَيُّمَا أَفْضَلُ: الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْوُضُوءِ أَمْ تَرْكُ الْمُدَاوَمَةِ؟ .

فَأَجَابَ: أَمَّا الْوُضُوءُ عِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ فَفِيهِ حَدِيثُ بِلَالٍ الْمَعْرُوفُ عَنْ بريدة بْنِ حصيب قَالَ: {أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا بِلَالًا فَقَالَ: يَا بِلَالُ بِمَ سَبَقْتنِي إلَى الْجَنَّةِ؟ مَا دَخَلْت الْجَنَّةَ قَطُّ إلَّا سَمِعْت خَشْخَشَتَك أَمَامِي دَخَلْت الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ فَسَمِعْت خَشْخَشَتَك أَمَامِي فَأَتَيْت عَلَى قَصْرٍ مُرَبَّعٍ مُشْرِفٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْت: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِرَجُلِ عَرَبِيٍّ. فَقُلْت: أَنَا عَرَبِيٌّ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِرَجُلِ مِنْ قُرَيْشٍ. قُلْت: أَنَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ بِلَالٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَذَّنْت قَطُّ إلَّا صَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ وَمَا أَصَابَنِي حَدَثٌ قَطُّ إلَّا تَوَضَّأْت عِنْدَهَا فَرَأَيْت أَنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهِمَا} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ

ص: 169

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ مِنْ الْغَائِطِ فَأُتِيَ بِطَعَامِ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَتَوَضَّأُ؟ قَالَ: لَمْ أُصَلِّ فَأَتَوَضَّأَ} فَإِنَّ هَذَا يَنْفِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ وَيَنْفِي أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالْوُضُوءِ لِأَجْلِ مُجَرَّدِ الْأَكْلِ وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا اسْتَحَبَّ الْوُضُوءَ لِلْأَكْلِ. وَهَلْ يُكْرَهُ أَوْ يُسْتَحَبُّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد. فَمَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ احْتَجَّ بِحَدِيثِ {سَلْمَانَ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَرَأْت فِي التَّوْرَاةِ إنَّ: مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ} . وَمِنْ كَرِهَهُ قَالَ: لِأَنَّ هَذَا خِلَافُ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَضَّئُونَ قَبْلَ الْأَكْلِ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ. وَأَمَّا حَدِيثُ سَلْمَانَ فَقَدْ ضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ. وَقَدْ يُقَالُ: كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مُوَافِقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءِ وَلِهَذَا كَانَ يُسْدِلُ شَعْرَهُ مُوَافَقَةً لَهُمْ ثُمَّ فَرَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلِهَذَا صَامَ عَاشُورَاءَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ ثُمَّ إنَّهُ قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ: {لَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ} يَعْنِي: مَعَ الْعَاشِرِ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ.

ص: 170

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إنَّكُمْ تَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ} وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُصَلِّينَ فَبِمَ يُعْرَفُ غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ التَّارِكِينَ وَالصِّبْيَانِ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُعْرَفُ مَنْ كَانَ أَغَرَّ مُحَجَّلًا وَهُمْ الَّذِينَ يَتَوَضَّؤُونَ لِلصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْأَطْفَالُ فَهُمْ تَبَعٌ لِلرَّجُلِ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ قَطُّ وَلَمْ يُصَلِّ: فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

ص: 171

‌بَابٌ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ

سُئِلَ رحمه الله عَنْ:

أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ: هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ غَيْرَ مُخَرَّقٍ حَتَّى لَا يَظْهَرَ شَيْءٌ مِنْ الْقَدَمِ؟ وَهَلْ لِلتَّخْرِيقِ حَدٌّ؟ وَمَا الْقَوْلُ الرَّاجِحُ بِالدَّلِيلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} فَإِنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ؟ .

الْجَوَابُ

فَأَجَابَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى مَا فِيهِ خَرْقٌ يَسِيرٌ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي حَدِّ ذَلِكَ وَاخْتَارَ هَذَا بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ إلَّا عَلَى مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ مَحَلِّ الْغَسْلِ. قَالُوا: لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ بَعْضُ الْقَدَمِ كَانَ فَرْضُ مَا ظَهَرَ الْغَسْلَ؛ وَفَرْضُ مَا بَطَنَ الْمَسْحَ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْغَسْلِ

ص: 172

وَالْمَسْحِ أَيْ: بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَغْسِلَ الْقَدَمَيْنِ وَإِمَّا أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ قِيَاسُ أَصْلِ أَحْمَد وَنُصُوصِهِ فِي الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الْعَوْرَةِ وَعَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُطْلَقًا قَوْلًا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلًا كَقَوْلِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ: {أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا كُنَّا سَفَرًا - أَوْ مُسَافِرِينَ - أَنْ لَا نَنْزِعَ أَخِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ لَا نَنْزِعُ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ} رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ؛ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أُمَّتَهُ أَنْ لَا يَنْزِعُوا أَخِفَافَهُمْ فِي السَّفَرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالنَّوْمِ؛ وَلَكِنْ يَنْزِعُوهَا مِنْ الْجَنَابَةِ. وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ لِأَصْحَابِهِ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى التَّسَاخِينِ وَالْعَصَائِبِ؛ وَالتَّسَاخِينُ هِيَ الْخُفَّانِ فَإِنَّهَا تُسَخِّنُ الرِّجْلَ وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ وَتَلَقَّى أَصْحَابُهُ عَنْهُ ذَلِكَ فَأَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَنَقَلُوا أَيْضًا أَمْرَهُ مُطْلَقًا: كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ شريح بْنِ هَانِئٍ قَالَ: أَتَيْت عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ فَقَالَتْ عَلَيْك بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ فَاسْأَلْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: {جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ

ص: 173

لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ} . أَيْ: جَعَلَ لَهُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَأَطْلَقَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخِفَافَ فِي الْعَادَةِ لَا يَخْلُو كَثِيرٌ مِنْهَا عَنْ فَتْقٍ أَوْ خَرْقٍ لَا سِيَّمَا مَعَ تَقَادُمِ عَهْدِهَا وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقُرَّاءَ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمْ تَجْدِيدُ ذَلِكَ. {وَلَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ} وَهَذَا كَمَا أَنَّ ثِيَابَهُمْ كَانَ يَكْثُرُ فِيهَا الْفَتْقُ وَالْخَرْقُ حَتَّى يَحْتَاجَ لِتَرْقِيعِ: فَكَذَلِكَ الْخِفَافُ. وَالْعَادَةُ فِي الْفَتْقِ الْيَسِيرِ فِي الثَّوْبِ وَالْخُفِّ أَنَّهُ لَا يُرَقَّعُ وَإِنَّمَا يُرَقَّعُ الْكَثِيرُ وَكَانَ أَحَدُهُمْ يُصَلِّي فِي الثَّوْبِ الضَّيِّقِ حَتَّى إنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَجَدُوا تَقَلَّصَ الثَّوْبُ فَظَهَرَ بَعْضُ الْعَوْرَةِ وَكَانَ النِّسَاءُ نُهِينَ عَنْ أَنْ يَرْفَعْنَ رُءُوسَهُنَّ حَتَّى يَرْفَعَ الرِّجَالُ رُءُوسَهُمْ لِئَلَّا يَرَيْنَ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ مَنْ ضِيقِ الْأُزُرِ مَعَ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِ الصَّلَاةِ؛ بِخِلَافِ سَتْرِ الرِّجْلَيْنِ بِالْخُفِّ فَلَمَّا أَطْلَقَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم الْأَمْرَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخِفَافِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ؛ وَلَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً مِنْ الْعُيُوبِ: وَجَبَ حَمْلُ أَمْرِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَيَّدَ كَلَامُهُ إلَّا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ. وَكَانَ مُقْتَضَى لَفْظِهِ أَنَّ كُلَّ خُفٍّ يَلْبَسُهُ النَّاسُ وَيَمْشُونَ فِيهِ: فَلَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَفْتُوقًا أَوْ مَخْرُوقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ لِمِقْدَارِ ذَلِكَ فَإِنَّ التَّحْدِيدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَحُدُّهُ بِالرُّبُعِ كَمَا يُحَدُّ مِثْلَ

ص: 174

ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ قَالُوا: لِأَنَّهُ يُقَالُ رَأَيْت الْإِنْسَانَ إذَا رَأَيْت أَحَدَ جَوَانِبِهِ الْأَرْبَعِ فَالرُّبُعُ يَقُومُ مَقَامَ الْجَمِيعِ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ يُنَازِعُونَ فِي هَذَا وَيَقُولُونَ: التَّحْدِيدُ بِالرُّبُعِ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَأَيْضًا فَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ بَلَّغُوا سُنَّتَهُ وَعَمِلُوا بِهَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَقْيِيدُ الْخُفِّ بِشَيْءِ مِنْ الْقُيُودِ بَلْ أَطْلَقُوا الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْخِفَافِ وَأَحْوَالِهَا فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ فَهِمُوا عَنْ نَبِيِّهِمْ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُطْلَقًا. وَأَيْضًا فَكَثِيرٌ مِنْ خِفَافِ النَّاسِ لَا يَخْلُو مِنْ فَتْقٍ أَوْ خَرْقٍ يَظْهَرُ مِنْهُ بَعْضُ الْقَدَمِ؛ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا بَطَلَ مَقْصُودُ الرُّخْصَةِ لَا سِيَّمَا وَاَلَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى لُبْسِ ذَلِكَ هُمْ الْمُحْتَاجُونَ؛ وَهُمْ أَحَقُّ بِالرُّخْصَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُحْتَاجِينَ؛ فَإِنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ هُوَ الْحَاجَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ: {أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ} بَيَّنَ أَنَّ فِيكُمْ مَنْ لَا يَجِدُ إلَّا ثَوْبًا وَاحِدًا فَلَوْ أَوْجَبَ الثَّوْبَيْنِ لَمَا أَمْكَنَ هَؤُلَاءِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ. ثُمَّ إنَّهُ أَطْلَقَ الرُّخْصَةَ فَكَذَلِكَ هُنَا لَيْسَ كُلُّ إنْسَانٍ يَجِدُ خُفًّا سَلِيمًا فَلَوْ لَمْ يُرَخِّصْ إلَّا لِهَذَا لَزِمَ الْمَحَاوِيجَ خَلْعُ خِفَافِهِمْ وَكَانَ إلْزَامُ غَيْرِهِمْ بِالْخَلْعِ أَوْلَى. ثُمَّ إذَا كَانَ إلَى الْحَاجَةِ فَالرُّخْصَةُ عَامَّةٌ.وَكُلُّ مَنْ

ص: 175

لَبِسَ خُفًّا وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ فَلَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا وَسَوَاءٌ كَانَ الْخُفُّ سَلِيمًا أَوْ مَقْطُوعًا؛ فَإِنَّهُ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَجِبُ فِعْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى - كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ - حَتَّى تُشْتَرَطُ فِيهِ السَّلَامَةُ مِنْ الْعُيُوبِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُنَازِعِ: إنَّ فَرْضَ مَا ظَهَرَ الْغَسْلُ وَمَا بَطَنَ الْمَسْحُ. فَهَذَا خَطَأٌ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا بَطَنَ مِنْ الْقَدَمِ يُمْسَحُ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يُلَاقِيهِ مِنْ الْخُفِّ بَلْ إذَا مَسَحَ ظَهْرَ الْقَدَمِ أَجْزَأَهُ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يَسْتَحِبُّ مَسْحَ أَسْفَلِهِ وَهُوَ إنَّمَا يَمْسَحُ خُطَطًا بِالْأَصَابِعِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ جَمِيعَ الْخُفِّ كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ الْجَبِيرَةَ فَإِنَّ مَسْحَ الْجَبِيرَةِ يَقُومُ مَقَامَ غَسْلِ نَفْسِ الْعُضْوِ فَإِنَّهَا لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ نَزْعُهَا إلَّا بِضَرَرِ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْجِلْدِ وَشَعْرِ الرَّأْسِ وَظُفْرِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ بِخِلَافِ الْخُفِّ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ نَزْعُهُ وَغَسْلُ الْقَدَمِ وَلِهَذَا كَانَ مَسْحُ الْجَبِيرَةِ وَاجِبًا وَمَسْحُ الْخُفَّيْنِ جَائِزًا إنْ شَاءَ مَسَحَ وَإِنْ شَاءَ خَلَعَ. وَلِهَذَا فَارَقَ مَسْحُ الْجَبِيرَةِ الْخُفَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا وَاجِبٌ وَذَلِكَ جَائِزٌ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا يَجُوزُ فِي الطَّهَارَتَيْنِ: الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إلَّا ذَلِكَ وَمَسْحُ الْخُفَّيْنِ لَا يَكُونُ فِي الْكُبْرَى بَلْ عَلَيْهِ أَنْ

ص: 176

يَغْسِلَ الْقَدَمَيْنِ كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يُوَصِّلَ الْمَاءَ إلَى جِلْدِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَفِي الْوُضُوءِ يُجْزِئُهُ الْمَسْحُ عَلَى ظَاهِرِ شَعْرِ الرَّأْسِ وَغَسْلُ ظَاهِرِ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ: فَكَذَلِكَ الْخِفَافُ يُمْسَحُ عَلَيْهَا فِي الصُّغْرَى؛ فَإِنَّهُ لَمَّا احْتَاجَ إلَى لُبْسِهَا صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ مَا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ مِنْ الشَّعْرِ الَّذِي يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى بَاطِنِهِ وَلَكِنْ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَالْغَسْلُ لَا يَتَكَرَّرُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْجَبِيرَةَ يُمْسَحَ عَلَيْهَا إلَى أَنْ يَحِلَّهَا؛ لَيْسَ فِيهَا تَوْقِيتٌ؛ فَإِنَّ مَسْحَهَا لِلضَّرُورَةِ. بِخِلَافِ الْخُفِّ فَإِنَّ مَسْحَهُ مُوَقَّتٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ فَإِنَّ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ لَوْ كَانَ فِي خَلْعِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ ضَرَرٌ - مِثْلُ: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ مَتَى خَلَعَ خُفَّيْهِ تَضَرَّرَ كَمَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الثُّلُوجِ وَغَيْرِهَا؛ أَوْ كَانَ فِي رُفْقَةٍ مَتَى خَلَعَ وَغَسَلَ لَمْ يَنْتَظِرُوهُ فَيَنْقَطِعُ عَنْهُمْ فَلَا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ؛ أَوْ يَخَافُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ؛ أَوْ كَانَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَاتَهُ وَاجِبٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَهُنَا قِيلَ: إنَّهُ يَتَيَمَّمُ: وَقِيلَ: إنَّهُ يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا لِلضَّرُورَةِ. وَهَذَا أَقْوَى لِأَنَّ لُبْسَهُمَا هُنَا صَارَ كَلُبْسِ الْجَبِيرَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَأَحَادِيثُ التَّوْقِيتِ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْمَسْحِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ وَلَيْسَ فِيهَا النَّهْيُ عَنْ الزِّيَادَةِ إلَّا بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ؛ فَإِذَا كَانَ يَخْلَعُ بَعْدَ الْوَقْتِ عِنْدَ إمْكَانِ ذَلِكَ عُمِلَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ.

ص: 177

وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ لَمَّا خَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ إلَى الْمَدِينَةِ يُبَشِّرُ النَّاس بِفَتْحِ دِمَشْقَ وَمَسَحَ أُسْبُوعًا بِلَا خَلْعٍ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَصَبْت السُّنَّةَ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَلَيْسَ الْخُفُّ كَالْجَبِيرَةِ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَوْعَبُ بِالْمَسْحِ بِحَالِ؛ وَيُخْلَعُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى؛ وَلَا بُدَّ مِنْ لُبْسِهِ عَلَى طَهَارَةٍ. لَكِنَّ الْمَقْصُودَ: أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ خَلْعُهُ فَالْمَسْحُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ خَلْعُهُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى فَقَدْ صَارَ كَالْجَبِيرَةِ يَمْسَحُ عَلَيْهِ كُلَّهُ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى رِجْلِهِ جَبِيرَةٌ يَسْتَوْعِبُهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ فِيمَا يُغَطِّي مَوْضِعَ الْغَسْلِ؛ وَذَاكَ مَسْحٌ بِالتُّرَابِ فِي عُضْوَيْنِ آخَرَيْنِ: فَكَانَ هَذَا الْبَدَلُ أَقْرَبَ إلَى الْأَصْلِ مِنْ التَّيَمُّمِ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ جَرِيحًا وَأَمْكَنَهُ مَسْحُ جِرَاحِهِ بِالْمَاءِ دُونَ الْغَسْلِ: فَهَلْ يَمْسَحُ بِالْمَاءِ أَوْ يَتَيَمَّمُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَمَسْحُهُمَا بِالْمَاءِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ مَسْحُ الْجَبِيرَةِ وَمَسْحُ الْخُفِّ وَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ فَلِأَنْ يَكُونَ مَسْحُ الْعُضْوِ بِالْمَاءِ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. الرَّابِعُ: أَنَّ الْجَبِيرَةَ يَسْتَوْعِبُهَا بِالْمَسْحِ كَمَا يَسْتَوْعِبُ الْجِلْدَ؛ لِأَنَّ مَسْحَهَا كَغَسْلِهِ وَهَذَا أَقْوَى عَلَى قَوْلِ مَنْ يُوجِبُ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ.

ص: 178

الْخَامِسُ: أَنَّ الْجَبِيرَةَ يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَإِنْ شَدَّهَا عَلَى حَدَثٍ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد؛ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَمَنْ قَالَ: لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا إلَّا إذَا لَبِسَهَا عَلَى طَهَارَةٍ لَيْسَ مَعَهُ إلَّا قِيَاسُهَا عَلَى الْخُفَّيْنِ وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَمَسْحُهَا كَمَسْحِ الْجِلْدَةِ وَمَسْحُ الشَّعْرِ؛ لَيْسَ كَمَسْحِ الْخُفَّيْنِ وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَد مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ عِنْدَهُ بِجِلْدَةِ الْإِنْسَانِ لَا بِالْخُفَّيْنِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يَجْعَلُهَا كَالْخُفَّيْنِ وَيَجْعَلُ الْبُرْءَ كَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ فَيَقُولُ بِبُطْلَانِ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ كَمَا قَالُوا فِي الْخُفِّ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ: أَنَّهَا إذَا سَقَطَتْ سُقُوطَ بُرْءٍ كَانَ بِمَنْزِلَةِ حَلْقِ شَعْرِ الرَّأْسِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَبِمَنْزِلَةِ كَشْطِ الْجِلْدِ لَا يُوجِبُ إعَادَةَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ عَلَيْهَا إذَا كَانَ قَدْ مَسَحَ عَلَيْهَا مِنْ الْجَنَابَةِ وَكَذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ لَا يَجِبُ غَسْلُ الْمَحَلِّ وَلَا إعَادَةُ الْوُضُوءِ كَمَا قِيلَ: إنَّهُ يَجِبُ فِي خَلْعِ الْخُفِّ وَالطَّهَارَةِ وَجَبَتْ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِيَكُونَ إذَا أَحْدَثَ يَتَعَلَّقُ الْحَدَثُ بِالْخُفَّيْنِ؛ فَيَكُونُ مَسْحُهُمَا كَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَلَّقَ الْحَدَثُ بِالْقَدَمِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ. ثُمَّ قِيلَ: إنَّ الْمَسْحَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ عَنْ الرِّجْلِ فَإِذَا خَلَعَهَا كَانَ كَأَنَّهُ لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا فَيَغْسِلُهَا عِنْدَ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ الْمُوَالَاةَ وَمَنْ يَشْتَرِطُ الْمُوَالَاةَ يُعِيدُ الْوُضُوءَ. وَقِيلَ: بَلْ حَدَثُهُ ارْتَفَعَ رَفْعًا مُؤَقَّتًا

ص: 179

إلَى حِينِ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَخَلْعِ الْخُفِّ لَكِنْ لَمَّا خَلَعَهُ انْقَضَتْ الطَّهَارَةُ فِيهِ وَالطَّهَارَةُ الصُّغْرَى لَا تَتَبَعَّضُ لَا فِي ثُبُوتِهَا وَلَا فِي زَوَالِهَا. فَإِنَّ حُكْمَهَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ مَحَلِّهَا فَإِنَّهَا غَسْلُ أَعْضَاءٍ أَرْبَعَةٍ وَالْبَدَنُ كُلُّهُ يَصِيرُ طَاهِرًا فَإِذَا غُسِلَ عُضْوٌ أَوْ عُضْوَانِ لَمْ يَرْتَفِعْ الْحَدَثُ حَتَّى يَغْسِلَ الْأَرْبَعَةَ وَإِذَا انْتَقَضَ الْوُضُوءُ فِي عُضْوٍ انْتَقَضَ فِي الْجَمِيعِ. وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ: إنَّهُ يُعِيدُ الْوُضُوءَ وَمِثْلُ هَذَا مُنْتَفٍ فِي الْجَبِيرَةِ فَإِنَّ الْجَبِيرَةَ يَمْسَحُ عَلَيْهَا فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَلَا يُجْزِئُ فِيهَا الْبَدَلُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهَا كَالْمَسْحِ عَلَى الْجِلْدِ وَالشَّعْرِ. وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ إذَا سَقَطَتْ لِبُرْءِ بَطَلَتْ الطَّهَارَةُ أَوْ غَسَلَ مَحَلَّهَا وَإِذَا سَقَطَتْ لِغَيْرِ بُرْءٍ: فَعَلَى وَجْهَيْنِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوهَا مُؤَقَّتَةً بِالْبُرْءِ وَجَعَلُوا سُقُوطَهَا بِالْبُرْءِ كَانْقِطَاعِ مُدَّةِ الْمَسْحِ. وَأَمَّا إذَا سَقَطَتْ قَبْلَ الْبُرْءِ فَقِيلَ: هِيَ كَمَا لَوْ خَلَعَ الْخُفَّ قَبْلَ الْمُدَّةِ. وَقِيلَ: لَا تَبْطُلُ الطَّهَارَةُ هُنَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ غَسْلُهَا قَبْلَ الْبُرْءِ بِخِلَافِ الرِّجْلِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُهَا إذَا خُلِعَ الْخُفُّ فَلِهَذَا فَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخُفِّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ غَسْلُهَا بَقِيَتْ الطَّهَارَةُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْبُرْءِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُ مَحَلِّهَا.

ص: 180

وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْبُرْءَ كَالْوَقْتِ فِي الْخُفَّيْنِ ضَعِيفٌ فَإِنَّ طَهَارَةَ الْجَبِيرَةِ لَا تَوْقِيتَ فِيهَا أَصْلًا حَتَّى يُقَالَ: إذَا انْقَضَى الْوَقْتُ بَطَلَتْ الطَّهَارَةُ. بِخِلَافِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَإِنَّهُ مُوَقَّتٌ وَنَزْعُهَا مُشَبَّهٌ بِخَلْعِ الْخُفِّ وَهُوَ أَيْضًا تَشْبِيهٌ فَاسِدٌ فَإِنَّهُ إنْ شُبِّهَ بِخَلْعِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ظَهَرَ الْفَرْقُ وَإِنَّمَا يُشْبِهُ هَذَا نَزْعَهَا قَبْلَ الْبُرْءِ وَفِيهِ الْوَجْهَانِ وَإِنْ شُبِّهَ بِخَلْعِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَوُجُودُ الْخَلْعِ كَعَدَمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَهُ بِخَلْعِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِخِلَافِ الْجَبِيرَةِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا وَقْتًا بَلْ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ مَا يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ مِنْ جِلْدٍ وَشَعْرٍ وَظُفْرٍ وَذَاكَ إذَا احْتَاجَ الرَّجُلُ إلَى إزَالَتِهِ أَزَالَهُ وَلَمْ تَبْطُلْ طَهَارَتُهُ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إلَى بُطْلَانِهَا وَأَنَّهُ يُطَهِّرُ مَوْضِعَهُ وَهَذَا مُشْبِهٌ قَوْلَ مَنْ قَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْجَبِيرَةِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: خَلْعُ الْخُفِّ لَا يُبْطِلُ الطَّهَارَةَ. وَالْقَوْلُ الْوَسَطُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَإِلْحَاقُ الْجَبِيرَةِ بِمَا يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَوْلَى كَالْوَسَخِ الَّذِي عَلَى يَدِهِ وَالْحِنَّاءِ وَالْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ وَاجِبٌ لَا يُمْكِنُهُ تَخْيِيرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَسْلِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا إذَا شَدَّهَا وَهُوَ مُحْدِثٌ نُقِلَ إلَى التَّيَمُّمِ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ طَهَارَةَ الْمَسْحِ بِالْمَاءِ فِي مَحَلِّ الْغَسْلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ طِهَارَةِ الْمَسْحِ بِالتُّرَابِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْغَسْلِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ

ص: 181

أَوْلَى مِنْ التُّرَابِ وَمَا كَانَ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ مِمَّا يَكُونُ فِي غَيْرِهِ. فَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَعَلَى الْجَبِيرَةِ وَعَلَى نَفْسِ الْعُضْوِ: كُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ التَّيَمُّمِ حَيْثُ كَانَ وَلِأَنَّهُ إذَا شَدَّهَا عَلَى حَدَثِ مَسَحَ عَلَيْهَا فِي الْجَنَابَةِ فَفِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى أَوْلَى. وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا مِنْ الْجَنَابَةِ حَتَّى يَشُدَّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ: كَانَ هَذَا قَوْلًا بِلَا أَصْلٍ يُقَاسُ عَلَيْهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَإِنْ قِيلَ: بَلْ إذَا شَدَّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ مِنْ الْجَنَابَةِ مَسَحَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَدَّهَا وَهُوَ جُنُبٌ. قِيلَ: هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى شَدِّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَإِنَّهُ قَدْ يَجْنُبُ - وَالْمَاءُ يَضُرُّ جِرَاحَهُ وَيَضُرُّ الْعَظْمَ الْمَكْسُورَ وَيَضُرُّ الْفِصَادَ - فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ أَنْ يَشُدَّهُ بَعْدَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ يَمْسَحُ عَلَيْهَا. وَهَذِهِ مِنْ أَحْسَنِ الْمَسَائِلِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مَسْحَ الْخُفِّ لَا يُسْتَوْعَبُ فِيهِ الْخُفُّ بَلْ يَجْزِي فِيهِ مَسْحُ بَعْضِهِ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا بَطَنَ مِنْ الْقَدَمِ مُسِحَ مَا يَلِيهِ مِنْ الْخُفِّ بَلْ إذَا مَسَحَ ظَهْرَ الْقَدَمِ كَانَ هَذَا الْمَسْحُ مُجْزِئًا عَنْ بَاطِنِ الْقَدَمِ وَعَنْ الْعَقِبِ.

ص: 182

وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ الْخَرْقُ فِي مَوْضِعٍ وَمَسَحَ مَوْضِعًا آخَرَ: كَانَ ذَلِكَ مَسْحًا مُجْزِئًا عَنْ غَسْلِ جَمِيعِ الْقَدَمِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْخَرْقُ فِي مُؤَخِّرِ الْخُفِّ وَأَسْفَلِهِ فَإِنَّ مَسْحَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا يَجِبُ بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ وَلَوْ كَانَ الْخَرْقُ فِي الْمُقَدِّمِ فَالْمَسْحُ خُطُوطٌ بَيْنَ الْأَصَابِعِ. فَإِنْ قِيلَ: مُرَادُنَا أَنَّ مَا بَطَنَ يَجْزِي عَنْهُ الْمَسْحُ وَمَا ظَهَرَ يَجِبُ غَسْلُهُ. قِيلَ هَذَا: دَعْوَى مَحَلِّ النِّزَاعِ فَلَا تَكُونُ حُجَّةً فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ الْخُفِّ الْمُخَرَّقِ فَرْضُهُ غَسْلُهُ فَهَذَا رَأْسُ الْمَسْأَلَةِ فَمَنْ احْتَجَّ بِهِ كَانَ مُثْبِتًا لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ. وَإِنْ قَالُوا بِأَنَّ الْمَسْحَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَسْتُورٍ أَوْ مُغَطًّى وَنَحْوَ ذَلِكَ: كَانَتْ هَذِهِ كُلُّهَا عِبَارَاتٍ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ دَعْوَى رَأْسِ الْمَسْأَلَةِ بِلَا حُجَّةٍ أَصْلًا. وَالشَّارِعُ أَمَرَنَا بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُقَيِّدْهُ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي: أَنَّهُ لَا يُقَيَّدُ.

وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَدْ اشْتَرَطَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ شَرْطَيْنِ: هَذَا أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا لِمَحَلِّ الْفَرْضِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ ضَعْفُ هَذَا الشَّرْطِ.

ص: 183

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ. وَقَدْ اشْتَرَطَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِشَدِّهِ بِشَيْءِ يَسِيرٍ أَوْ خَيْطٍ مُتَّصِلٍ بِهِ أَوْ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ: لَمْ يُمْسَحْ وَإِنْ ثَبَتَ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ لَا يَسْتُرُ جَمِيعَ الْمَحَلِّ إلَّا بِالشَّدِّ - كالزربول الطَّوِيلِ الْمَشْقُوقِ: يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ لَكِنْ لَا يَسْتُرُ إلَى الْكَعْبَيْنِ إلَّا بِالشَّدِّ - فَفِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَيْهِ. وَهَذَا الشَّرْطُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ أَحْمَد بَلْ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتَا بِأَنْفُسِهِمَا بَلْ بِنَعْلَيْنِ تَحْتَهُمَا وَأَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ مَا لَمْ يَخْلَعْ النَّعْلَيْنِ. فَإِذَا كَانَ أَحْمَد لَا يَشْتَرِطُ فِي الْجَوْرَبَيْنِ أَنْ يَثْبُتَا بِأَنْفُسِهِمَا بَلْ إذَا ثَبَتَا بِالنَّعْلَيْنِ جَازِ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا: فَغَيْرُهُمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَهُنَا قَدْ ثَبَتَا بِالنَّعْلَيْنِ وَهُمَا مُنْفَصِلَانِ عَنْ الْجَوْرَبَيْنِ. فَإِذَا ثَبَتَ الْجَوْرَبَانِ بِشَدِّهِمَا بِخُيُوطِهِمَا كَانَ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْجَوْرَبَيْنِ: فالزربول الَّذِي لَا يَثْبُتُ إلَّا بِسَيْرِ يَشُدُّهُ بِهِ مُتَّصِلًا بِهِ أَوْ مُنْفَصِلًا عَنْهُ أَوْلَى بِالْمَسْحِ عَلَيْهِ مِنْ الْجَوْرَبَيْنِ. وَهَكَذَا مَا يُلْبَسُ عَلَى الرِّجْلِ مِنْ فَرْوٍ وَقُطْنٍ وَغَيْرِهِمَا: إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِشَدِّهِمَا بِخَيْطِ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ مَسَحَ عَلَيْهِمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى اللَّفَائِفِ وَهُوَ: أَنْ

ص: 184

يُلَفَّ عَلَى الرِّجْلِ لَفَائِفُ مِنْ الْبُرْدِ أَوْ خَوْفَ الْحِفَاءِ أَوْ مِنْ جِرَاحٍ بِهِمَا وَنَحْوَ ذَلِكَ. قِيلَ: فِي هَذَا وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الْحَلْوَانِيّ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى اللَّفَائِفِ وَهِيَ بِالْمَسْحِ أَوْلَى مِنْ الْخُفِّ وَالْجَوْرَبِ فَإِنَّ تِلْكَ اللَّفَائِفَ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ لِلْحَاجَةِ فِي الْعَادَةِ وَفِي نَوْعِهَا ضَرَرٌ: إمَّا إصَابَةُ الْبَرْدِ وَإِمَّا التَّأَذِّي بِالْحِفَاءِ وَإِمَّا التَّأَذِّي بِالْجُرْحِ. فَإِذَا جَازَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْجَوْرَبَيْنِ فَعَلَى اللَّفَائِفِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَمَنْ ادَّعَى فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إجْمَاعًا فَلَيْسَ مَعَهُ إلَّا عَدَمُ الْعِلْمِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْقُلَ الْمَنْعَ عَنْ عَشَرَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ فَضْلًا عَنْ الْإِجْمَاعِ. وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ خَفِيٌّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ حَتَّى إنَّ طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ أَنْكَرُوهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْبَيْتِ أَنْكَرُوهُ مُطْلَقًا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ؛ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ جَوَازُهُ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ. وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَد كِتَابًا كَبِيرًا فِي " الْأَشْرِبَةِ " فِي تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا عَنْ الصَّحَابَةِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: هَذَا صَحَّ فِيهِ الْخِلَافُ عَنْ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِ الْمُسْكِرِ. وَمَالِكٌ مَعَ سِعَةِ عِلْمِهِ وَعُلُوِّ

ص: 185

قَدْرِهِ قَالَ فِي " كِتَابِ السِّرِّ ": لَأَقُولَنَّ قَوْلًا لَمْ أَقُلْهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي عَلَانِيَةٍ. وَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ مَضْمُونُهُ إنْكَارُهُ: إمَّا مُطْلَقًا؛ وَإِمَّا فِي الْحَضَرِ. وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: هَذَا ضَعْفٌ لَهُ حَيْثُ لَمْ يَقُلْهُ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَانِيَةً. وَاَلَّذِينَ جَوَّزُوهُ مَنَعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مِنْ الْمَسْحِ عَلَى الجرموقين الْمَلْبُوسَيْنِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَالثَّلَاثَةُ مَنَعُوا الْمَسْحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ: فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مِمَّا هَابَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ حَيْثُ كَانَ الْغَسْلُ هُوَ الْفَرْضَ الظَّاهِرَ الْمَعْلُومَ؛ فَصَارُوا يُجَوِّزُونَ الْمَسْحَ حَيْثُ يَظْهَرُ ظُهُورًا لَا حِيلَةَ فِيهِ وَلَا يَطْرُدُونَ فِيهِ قِيَاسًا صَحِيحًا وَلَا يَتَمَسَّكُونَ بِظَاهِرِ النَّصِّ الْمُبِيحِ وَإِلَّا فَمَنْ تَدَبَّرَ أَلْفَاظَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الْقِيَاسَ حَقَّهُ: عَلِمَ أَنَّ الرُّخْصَةَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاسِعَةٌ؛ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَمِنْ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا.

وَقَدْ كَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا فَهَلْ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِدُونِ إذْنِهِ وَكَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَمْسَحَانِ عَلَى الْقَلَانِسِ؛ وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَد هَذَا وَهَذَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ وَجَوَّزَ أَيْضًا الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ؛ لَكِنْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ رَأَى أَنَّ الْعِمَامَةَ الَّتِي لَيْسَتْ مُحَنَّكَةً الْمُتَقَطِّعَةَ: كَانَ أَحْمَد يَكْرَهُ لُبْسَهَا. وَكَذَا مَالِكٌ يَكْرَهُ لُبْسَهَا أَيْضًا لِمَا جَاءَ

ص: 186

فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ؛ وَشَرَطَ فِي الْمَسْحِ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ مُحَنَّكَةً. وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي وَأَتْبَاعُهُ وَذَكَرُوا فِيهَا - إذَا كَانَ لَهَا ذُؤَابَةٌ - وَجْهَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد: إذَا كَانَ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يُجَوِّزُ الْمَسْحَ عَلَى الْقَلَانِسِ الدَّنِيَّاتِ - وَهِيَ الْقَلَانِسُ الْكِبَارُ - فَلَأَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ عَلَى الْعِمَامَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَالسَّلَفُ كَانُوا يُحَنِّكُونَ عَمَائِمَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ وَيُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَرْبُطُوا الْعَمَائِمَ بِالتَّحْنِيكِ وَإِلَّا سَقَطَتْ وَلَمْ يُمْكِنْ مَعَهَا طَرْدُ الْخَيْلِ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ أَحْمَد عَنْ أَهْلِ الشَّامِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَافِظُونَ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَنِهِ هُمْ الْمُجَاهِدِينَ. وَذَكَرَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه بِإِسْنَادِهِ أَنَّ أَوْلَادَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانُوا يَلْبَسُونَ الْعَمَائِمَ بِلَا تَحْنِيكٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْحِجَازِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ لَا يُجَاهِدُونَ. وَرَخَّصَ إسْحَاقُ وَغَيْرُهُ فِي لُبْسِهَا بِلَا تَحْنِيكٍ وَالْجُنْدُ الْمُقَاتِلَةُ لَمَّا احْتَاجُوا إلَى رَبْطِ عَمَائِمِهِمْ صَارُوا يَرْبُطُونَهَا: إمَّا بِكَلَالِيبَ؛ وَإِمَّا بِعِصَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا مَعْنَاهُ مَعْنَى التَّحْنِيكِ كَمَا أَنَّ مِنْ السَّلَفِ مَنْ كَانَ يَرْبُطُ وَسَطَهُ بِطَرَفِ عِمَامَتِهِ وَالْمَنَاطِقُ يَحْصُلُ بِهَا هَذَا الْمَقْصُودُ. وَفِي نَزْعِ الْعِمَامَةِ الْمَرْبُوطَةِ بِعِصَابَةِ وَكَلَالِيبَ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَا فِي نَزْعِ الْمُحَنَّكَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وُجُوهٍ

ص: 187

صَحِيحَةٍ لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْفَرْضُ سَقَطَ بِمَسْحِ مَا بَدَا مِنْ الرَّأْسِ؛ وَالْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ مُسْتَحَبٌّ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ الْفَرْضُ سَقَطَ بِمَسْحِ الْعِمَامَةِ وَمَسْحِ مَا بَدَا مِنْ الرَّأْسِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ. وَهَلْ هُوَ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ؛ أَوْ لَيْسَ بِوَاجِبِ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَد الْمَشْهُورُ عَنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ إنَّمَا كَانَ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ لِأَجْلِ الضَّرَرِ وَهُوَ مَا إذَا حَصَلَ بِكَشْفِ الرَّأْسِ ضَرَرٌ مِنْ بَرْدٍ وَمَرَضٍ؛ فَيَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ كَمَا جَاءَ: أَنَّهُمْ كَانُوا فِي سَرِيَّةٍ فَشَكَوْا الْبَرْدَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى التَّسَاخِينِ وَالْعَصَائِبِ - وَالْعَصَائِبُ هِيَ الْعَمَائِمُ - وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبِلَادَ الْبَارِدَةَ يَحْتَاجُ فِيهَا مَنْ يَمْسَحُ التَّسَاخِينَ وَالْعَصَائِبَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ فَأَهْلُ الشَّامِ وَالرُّومِ وَنَحْوِ هَذِهِ الْبِلَادِ أَحَقُّ بِالرُّخْصَةِ فِي هَذَا وَهَذَا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْمَاشُونَ فِي الْأَرْضِ الْحَزِنَةِ وَالْوَعِرَةِ أَحَقُّ بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ مِنْ الْمَاشِينَ فِي الْأَرْضِ السَّهْلَةِ وَخِفَافُ هَؤُلَاءِ فِي الْعَادَةِ لَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهَا الْحَجَرُ؛ فَهُمْ بِرُخْصَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخِفَافِ الْمُخَرَّقَةِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ.

ص: 188

ثُمَّ الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ يَقُولُ: إذَا ظَهَرَ بَعْضُ الْقَدَمِ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ فَقَدْ يَظْهَرُ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ الْقَدَمِ كَمَوْضِعِ الْخَرَزِ - وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْخِفَافِ - فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ الْمَسْحِ عَلَيْهَا ضَيَّقُوا تَضْيِيقًا يَظْهَرُ خِلَافُهُ لِلشَّرِيعَةِ بِلَا حُجَّةٍ مَعَهُمْ أَصْلًا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ حَتَّى يَقُولُوا: فَرْضُهُ الْغَسْلُ وَإِنْ قَالُوا: هَذَا يُعْفَى عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ضَابِطٌ فِيمَا يَمْنَعُ وَفِيمَا لَا يُمْنَعُ. وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُمْ: إذَا ظَهَرَ بَعْضُ الْقَدَمِ إنْ أَرَادُوا ظُهُورَهُ لِلْبَصَرِ فَأَبْصَارُ النَّاسِ مَعَ اخْتِلَافِ إدْرَاكِهَا قَدْ يَظْهَرُ لَهَا مِنْ الْقَدَمِ مَا لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ وَإِنْ أَرَادُوا مَا يَظْهَرُ وَيُمْكِنُ مَسُّهُ بِالْيَدِ فَقَدْ يُمْكِنُ غَسْلُهُ بِلَا مَسٍّ. وَإِنْ قَالُوا: مَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ فَالْإِمْكَانُ يَخْتَلِفُ قَدْ يُمْكِنُ مَعَ الْجُرْحِ وَلَا يُمْكِنُ بِدُونِهِ فَإِنَّ سَمَّ الْخِيَاطِ يُمْكِنُ غَسْلُهُ إذَا وَضَعَ الْقَدَمَ فِي مَغْمَزِهِ وَصَبَرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَاءُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ لَا يَتَيَقَّنُ وُصُولَ الْمَاءِ عَلَيْهِ إلَّا بِخَضْخَضَةِ وَنَحْوِهَا وَلَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ كَمَا يَغْسِلُ الْقَدَمَ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَد أَقْوَى؛ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ إذَا لُبِسَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ وَإِنْ ظَهَرَ مِنْ جَوَانِبِ الرَّأْسِ مَا يَمْسَحُ عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ مَسْحُ ذَلِكَ. وَهَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى النَّاصِيَةِ مَعَ ذَلِكَ؟ فِيهِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ. فَلَمْ

ص: 189

يَشْتَرِطْ فِي الْمَمْسُوحِ أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا لِجَمِيعِ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَأَوْجَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالشَّافِعِيُّ أَيْضًا يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ كَمَا يَسْتَحِبُّهُ أَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: فَعُلِمَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي اللِّبَاسِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ سَوَاءٌ سَتَرَ جَمِيعَ مَحَلِّ الْفَرْضِ أَوْ لَمْ يَسْتُرْهُ. وَالْخِفَافُ قَدْ اُعْتِيدَ فِيهَا أَنْ تُلْبَسَ مَعَ الْفَتْقِ وَالْخَرْقِ وَظُهُورِ بَعْضِ الرِّجْلِ؛ وَأَمَّا مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ فَذَاكَ لَيْسَ بِخُفِّ أَصْلًا وَلِهَذَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّعْلَيْنِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنُبَيِّنُ نَسْخَ الْأَمْرِ بِالْقَطْعِ؛ وَأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِهِ حِينَ لَمْ يُشْرَعْ الْبَدَلُ أَيْضًا.

فَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دَلِيلِهِمْ - وَهُوَ قَوْلُهُمْ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ - مَمْنُوعٌ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد؛ فَإِنَّ عِنْدَهُمَا يُجْمَعُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالْغَسْلِ فِيمَا إذَا أَمْكَنَ غَسْلُ بَعْضِ الْبَدَنِ دُونَ الْبَعْضِ؛ لِكَوْنِ الْبَاقِي جَرِيحًا؛ أَوْ كَوْنِ الْمَاءِ قَلِيلًا وَيُجْمَعُ بَيْنَ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ مَعَ الْعِمَامَةِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ تَبُوكَ؛ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ مَسْحَ الْخُفَّيْنِ كَمَا أَوْجَبَ غَسْلَ جَمِيعِ الْبَدَنِ: أَمْكَنَ أَنْ يَغْسِلَ مَا ظَهَرَ وَيَمْسَحَ مَا بَطَنَ؛ كَمَا يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْجَبِيرَةِ؛ فَإِنَّهُ إذَا رَبَطَهَا عَلَى بَعْضِ مَكَانِ مَسْحِ الْجَبِيرَةِ وَغَسَلَ أَوْ مَسَحَ مَا بَيْنَهُمَا فَجَمَعَ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ سُقُوطَ غَسْلِ مَا ظَهَرَ

ص: 190

مِنْ الْقَدَمِ لَمْ يُمْكِنْ لِأَنَّهُ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ؛ بَلْ لِأَنَّ مَسْحَ ظَهْرِ الْخُفِّ وَلَوْ خَطًّا بِالْأَصَابِعِ يُجْزِئُ عَنْ جَمِيعِ الْقَدَمِ فَلَا يَجِبُ غَسْلُ شَيْءٍ مِنْهُ لَا مَا ظَهَرَ وَلَا مَا بَطَنَ كَمَا أَمَرَ صَاحِبُ الشَّمْسِ لِأُمَّتِهِ إذْ أَمَرَهُمْ إذَا كَانُوا مُسَافِرِينَ أَنْ لَا يَنْزِعُوا خِفَافَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ لَا مِنْ غَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ وَلَا نَوْمٍ فَأَيُّ خُفٍّ كَانَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ دَخَلَ فِي مُطْلَقِ النَّصِّ؟ . كَمَا أَنَّ {قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ} هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ بِذَلِكَ لَمَّا كَانَ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ قَدْ شُرِعَتْ رُخْصَةُ الْبَدَلِ. فَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ لَا فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ إذَا لَمْ يَجِدُوا الْإِزَارَ وَلَا فِي لُبْسِ الْخُفِّ مُطْلَقًا. ثُمَّ إنَّهُ فِي عَرَفَاتٍ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: {السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ وَالْخِفَافُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ} هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَحَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَرَوَاهُ جَابِرٌ وَحَدِيثُهُ فِي مُسْلِمٍ فَأَرْخَصَ لَهُمْ بِعَرَفَاتِ فِي الْبَدَلِ فَأَجَازَ لَهُمْ لُبْسَ السَّرَاوِيلِ إذَا لَمْ يَجِدُوا الْإِزَارَ بِلَا فَتْقٍ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فَمَنْ اشْتَرَطَ فَتْقَهُ خَالَفَ النَّصَّ. وَأَجَازَ لَهُمْ حِينَئِذٍ لُبْسَ الْخُفَّيْنِ

ص: 191

إذَا لَمْ يَجِدُوا النَّعْلَيْنِ بِلَا قَطْعٍ فَمَنْ اشْتَرَطَ الْقَطْعَ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ فَإِنَّ السَّرَاوِيلَ الْمَفْتُوقَ وَالْخُفَّ الْمَقْطُوعَ لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى السَّرَاوِيلِ وَالْخُفِّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَمَا أَنَّ الْقَمِيصَ إذَا فُتِقَ وَصَارَ قَطْعًا لَمْ يُسَمَّ سَرَاوِيلَ وَكَذَلِكَ الْبُرْنُسُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. فَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْقَطْعِ أَوَّلًا لِأَنَّ رُخْصَةَ الْبَدَلِ لَمْ تَكُنْ شُرِعَتْ فَأَمَرَهُمْ بِالْقَطْعِ حِينَئِذٍ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ يَصِيرُ كَالنَّعْلَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِخُفِّ. وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي إذْنِهِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُلْبَسُ تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ مِنْ مَدَاسٍ وَجُمْجُمٍ وَغَيْرِهِمَا كَالْخُفِّ الْمَقْطُوعِ تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ فَتَكُونُ إبَاحَتُهُ أَصْلِيَّةً كَمَا تُبَاحُ النَّعْلَانِ لَا أَنَّهُ أُبِيحَ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ وَإِنَّمَا الْمُبَاحُ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ هُوَ الْخُفُّ الْمُطْلَقُ وَالسَّرَاوِيلُ.

وَدَلَّتْ نُصُوصُهُ الْكَرِيمَةُ وَأَلْفَاظُهُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي هِيَ مَصَابِيحُ الْهُدَى عَلَى أُمُورٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى مَعْرِفَتِهَا قَدْ تَنَازَعَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ: مِنْهَا: أَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لِلْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ يَلْبَسُ الْخُفَّ: إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مَعَ الْقَطْعِ: كَانَ ذَلِكَ إذْنًا فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى خُفًّا سَوَاءٌ كَانَ سَلِيمًا أَوْ مَعِيبًا. وَكَذَلِكَ لَمَّا أَذِنَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ كَانَ ذَلِكَ إذْنًا فِي كُلِّ خُفٍّ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ قِيَاسَ حُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ حَتَّى يُقَالَ: ذَاكَ أَبَاحَ لَهُ لُبْسَهُ وَهَذَا أَبَاحَ الْمَسْحَ عَلَيْهِ بَلْ الْمَقْصُودُ أَنَّ لَفْظَ الْخُفِّ فِي كَلَامِهِ يَتَنَاوَلُ هَذَا بِالْإِجْمَاعِ. فَعُلِمَ أَنَّ لَفْظَ

ص: 192

الْخُفِّ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا فَمَنْ ادَّعَى فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّهُ أَرَادَ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْخِفَافِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ. وَإِذَا كَانَ الْخُفُّ فِي لَفْظِهِ مُطْلَقًا - حَيْثُ أَبَاحَ لُبْسَهُ لِلْمُحْرِمِ وَكُلُّ خُفٍّ جَازَ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُهُ وَإِنْ قَطَعَهُ - جَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَقْطَعْهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَلَا مَا يُشْبِهُ النَّعْلَيْنِ - مِنْ خُفٍّ مَقْطُوعٍ أَوْ جُمْجُمٍ أَوْ مَدَاسٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ يَلْبَسُ أَيَّ خُفٍّ شَاءَ وَلَا يَقْطَعُهُ. هَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ بِذَلِكَ فِي عَرَفَاتٍ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ لُبْسِ الْخُفِّ مُطْلَقًا وَبَعْدَ أَمْرِهِ مَنْ لَمْ يَجِدْ أَنْ يَقْطَعَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِعَرَفَاتِ بِقَطْعٍ؛ مَعَ أَنَّ الَّذِينَ حَضَرُوا بِعَرَفَاتِ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا كَلَامَهُ بِالْمَدِينَةِ بَلْ حَضَرَ مِنْ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ وَالْبَوَادِي وَغَيْرِهَا خَلْقٌ عَظِيمٌ حَجُّوا مَعَهُ لَمْ يَشْهَدُوا جَوَابَهُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بَلْ أَكْثَرُ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ لَمْ يَشْهَدُوا ذَلِكَ الْجَوَابَ. وَذَلِكَ الْجَوَابُ لَمْ يَذْكُرْهُ ابْتِدَاءً لِتَعْلِيمِ جَمِيعِ النَّاسِ بَلْ {سَأَلَهُ سَائِلٌ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ: إلَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ} وَابْنُ عُمَرَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ إلَّا هَذَا كَمَا أَنَّهُ فِي الْمَوَاقِيتِ لِمَ

ص: 193

يَسْمَعُ إلَّا ثَلَاثَ مَوَاقِيتَ قَوْلُهُ: {أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الحليفة وَأَهْلُ الشَّامِ الْجُحْفَةُ وَأَهْلُ نَجْدٍ قَرْنٌ} قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَذَكَرَ لِي - وَلَمْ أَسْمَعْ - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ يلملم وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ لَهُ صَحِيحٌ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَابْنُ عَبَّاسٍ أَخْبَرَ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ يلملم وَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الحليفة وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يلملم. وَقَالَ: هُنَّ لَهُنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ} فَكَانَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ الْعِلْمِ بِهَذِهِ السُّنَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ. وَفِي حَدِيثِهِ ذِكْرُ أَرْبَعِ مَوَاقِيتَ وَذِكْرُ أَحْكَامِ النَّاسِ كُلِّهِمْ إذَا مَرُّوا عَلَيْهَا أَوْ أَحْرَمُوا مِنْ دُونِهَا. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُبَلِّغُ الدِّينَ بِحَسَبِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَدْ أَسْلَمُوا وَأَسْلَمَ أَهْلُ نَجْدٍ وَأَسْلَمَ مَنْ كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ وَقَّتَ الثَّلَاثَ وَأَهْلُ الْيَمَنِ إنَّمَا أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَلِهَذَا لَمْ يَرَ أَكْثَرُهُمْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَلْ كَانُوا مُخَضْرَمِينَ فَلَمَّا أَسْلَمُوا وَقَّتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: {أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ قُلُوبًا وَأَلْيَنُ أَفْئِدَةً الْإِيمَانُ يَمَانِيٌّ وَالْفِقْهُ يَمَانِيٌّ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ}

ص: 194

ثُمَّ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ {أَنَّهُ لَمَّا فُتِحَتْ أَطْرَافُ الْعِرَاقِ وَقَّتَ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ} كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ هَذَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ لَكِنْ قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ فِيهِ: أَحْسَبُهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَطَعَ بِهِ غَيْرُهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فَكَانَ مَا سَمِعَهُ هَؤُلَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا سَمِعَهُ غَيْرُهُمْ. وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ فِي تَرْخِيصِهِ فِي الْخُفِّ وَالسَّرَاوِيلِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ بِعَرَفَاتِ يَقُولُ: السَّرَاوِيلَاتُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ وَالْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ: {مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ} . فَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بَيِّنٌ فِيهِ فِي عَرَفَاتٍ - وَهُوَ أَعْظَمُ مَجْمَعٍ كَانَ لَهُ - أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ. وَلَمْ يَأْمُرْ بِقَطْعِ وَلَا فَتْقٍ وَأَكْثَرُ الْحَاضِرِينَ بِعَرَفَاتِ لَمْ يَشْهَدُوا خُطْبَتَهُ وَمَا سَمِعُوا أَمْرَهُ بِقَطْعِ الْخُفَّيْنِ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الشَّرْعَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ بِعَرَفَاتِ لَمْ يَكُنْ شُرِعَ بَعْدُ بِالْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ بِالْمَدِينَةِ إنَّمَا أَرْخَصَ فِي لُبْسِ النَّعْلَيْنِ وَمَا يُشْبِهُهُمَا مِنْ الْمَقْطُوعِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ عَدِمَ مَا يُشَبِّهُ بِهِ الْخُفَّيْنِ يَلْبَسُ الْخُفَّ.

ص: 195

الثَّالِثُ: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَلْبَسُ سَرَاوِيلَ بِلَا فَتْقٍ. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. الرَّابِعُ: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْطُوعَ كَالنَّعْلَيْنِ يَجُوزُ لُبْسُهُمَا مُطْلَقًا وَلُبْسُ مَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ جُمْجُمٍ وَمَدَاسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَبِهِ كَانَ يُفْتِي جَدِّي أَبُو الْبَرَكَاتِ رحمه الله فِي آخِرِ عُمْرِهِ لَمَّا حَجَّ. وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ الْمَقْطُوعَ لُبْسُهُ أَصْلٌ لَا بَدَلَ لَهُ فَيَجُوزُ لُبْسُهُ مُطْلَقًا. وَهَذَا فَهْمٌ صَحِيحٌ مِنْهُ دُونَ فَهْمِ مَنْ فَهِمَ أَنَّهُ بَدَلٌ. وَالثَّلَاثَةُ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْخَصَ فِي الْبَدَلِ وَهُوَ الْخُفُّ وَلُبْسِ السَّرَاوِيلَ فَمَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ إذَا عَدِمَ الْأَصْلَ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَهَذَا فَهْمٌ صَحِيحٌ. وَأَحْمَد فَهِمَ مِنْ النَّصِّ الْمُتَأَخِّرِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ الْبَدَلَانِ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِلْقَطْعِ الْمُتَقَدِّمِ. وَهَذَا فَهْمٌ صَحِيحٌ. وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا فَأَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى كُلِّ مَنْ لَبِسَ خُفًّا أَوْ سَرَاوِيلَ إذَا لَمْ يَفْتُقْهُ وَإِنْ عَدِمَ كَمَا قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ.

ص: 196

وَزَادَ أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هِيَ لِلْحَاجَةِ وَالْمُحْرِمُ إذَا احْتَاجَ إلَى مَحْظُورٍ فَعَلَهُ وَافْتَدَى. وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَقَالُوا: مَنْ لَبِسَ الْبَدَلَ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ كَمَا أَبَاحَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتِ وَلَمْ يَأْمُرْ مَعَهُ بِفِدْيَةِ وَلَا فَتْقٍ قَالُوا: وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى لُبْسِ مَا يَسْتُرُونَ بِهِ عَوْرَاتِهِمْ وَمَا يَلْبَسُونَهُ فِي أَرْجُلِهِمْ فَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ عَامَّةٌ وَمَا احْتَاجَ إلَيْهِ الْعُمُومُ لَمْ يُحْظَرْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فِيهِ فِدْيَةٌ بِخِلَافِ مَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِمَرَضِ أَوْ بَرْدٍ وَمِنْ ذَلِكَ حَاجَةٌ لِعَارِضِ؛ وَلِهَذَا أَرْخَصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلنِّسَاءِ فِي اللِّبَاسِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ وَنَهَى الْمُحْرِمَةَ عَنْ النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا كَانَتْ مُحْتَاجَةً إلَى سَتْرِ بَدَنِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِي سَتْرِهِ فِدْيَةٌ. وَكَذَلِكَ حَاجَةُ الرِّجَالِ إلَى السَّرَاوِيلِ وَالْخِفَافِ إذَا لَمْ يَجِدُوا الْإِزَارَ وَالنِّعَالَ وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه لَمَّا لَمْ يَسْمَعْ إلَّا حَدِيثَ الْقَطْعِ أَخَذَ بِعُمُومِهِ فَكَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ بِقَطْعِ الْخِفَافِ حَتَّى أَخْبَرُوهُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ فِي لُبْسِ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ: {لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ} أَخَذَ بِعُمُومِهِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَكَانَ يَأْمُرُ الْحَائِضَ أَنْ لَا تَنْفِرَ حَتَّى تَطُوفَ. وَكَذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى أَخْبَرُوهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ

ص: 197

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْحُيَّضِ أَنْ يَنْفِرْنَ بِلَا وَدَاعٍ. وَتَنَاظَرَ فِي ذَلِكَ زَيْدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ لَمَّا سَمِعَا نَهْيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ أَخْذًا بِالْعُمُومِ فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَأْمُرُ النَّاسَ بِمَنْعِ نِسَائِهِمْ مِنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَنْهَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَيَنْزِعُ خُيُوطَ الْحَرِيرِ مِنْ الثَّوْبِ. وَغَيْرُهُمَا سَمِعَ الرُّخْصَةَ لِلْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِرْخَاصُ لِلنِّسَاءِ وَلِلرِّجَالِ فِي الْيَسِيرِ وَفِيمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِلتَّدَاوِي وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاجَةٌ عَامَّةٌ.

وَهَكَذَا اجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ رضي الله عنهم فِي النُّصُوصِ: يَسْمَعُ أَحَدُهُمْ النَّصَّ الْمُطْلَقَ فَيَأْخُذُ بِهِ وَلَا يَبْلُغُهُ مَا يَبْلُغُ مِثْلَهُ مِنْ تَقْيِيدِهِ وَتَخْصِيصِهِ وَاَللَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى النَّاسِ فِي الْإِحْرَامِ وَلَا غَيْرِهِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ حَاجَةً عَامَّةً وَلَا أَمْرَ مَعَ هَذِهِ الرُّخْصَةِ فِي الْحَاجَةِ الْعَامَّةِ أَنْ يُفْسِدَ الْإِنْسَانُ خُفَّهُ أَوْ سَرَاوِيلَهُ بِقَطْعِ أَوْ فَتْقٍ كَمَا أَفْتَى بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ سَمِعَ السُّنَّةَ الْمُتَأَخِّرَةَ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْقَطْعِ أَوَّلًا لِيَصِيرَ الْمَقْطُوعُ كَالنَّعْلِ فَأَمَرَ بِالْقَطْعِ قَبْلَ أَنْ يُشْرَعَ الْبَدَلُ؛ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ يَجُوزُ لُبْسُهُ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا قَالَ: " لِمَنْ لَمْ يَجِدْ " لِأَنَّ الْقَطْعَ مَعَ وُجُودِ النَّعْلِ إفْسَادٌ لِلْخُفِّ وَإِفْسَادُ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ: مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا عَدِمَ الْخُفَّ فَلِهَذَا جُعِلَ بَدَلًا فِي هَذِهِ الْحَالِ لِأَجْلِ فَسَادِ الْمَالِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ

ص: 198

يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ} هَذِهِ رِوَايَةُ أَنَسٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: {رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ؟ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ؟ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ - قَالَ هَكَذَا - وَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ وَوَضَعَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} فَأَمَرَ بِالْبُصَاقِ فِي الثَّوْبِ إذَا تَعَذَّرَ لَا لِأَنَّ الْبُصَاقَ فِي الثَّوْبِ بَدَلٌ شَرْعِيٌّ لَكِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يُلَوِّثُ الثَّوْبَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وَفِي الِاسْتِجْمَارِ أَمَرَ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ تُرَابٍ لِأَنَّ التُّرَابَ لَا يَتَمَكَّنُ بِهِ كَمَا يَتَمَكَّنُ بِالْحَجَرِ لَا لِأَنَّهُ بَدَلٌ شَرْعِيٌّ. وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فَدَلَّتْ نُصُوصُهُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَوْسِعَةُ شَرِيعَتِهِ الْحَنِيفِيَّةِ وَأَنَّهُ مَا جَعَلَ عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ حَرَجٍ. وَكُلُّ قَوْلٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُهُ قَالَتْ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ رضي الله عنهم فَلَمْ تُجْمِعْ الْأُمَّةُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - عَلَى رَدِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إذْ كَانُوا لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ وَإِذَا رَدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ تَبَيَّنَ كَمَالُ دِينِهِ وَتَصْدِيقُ بَعْضِهِ لِبَعْضِ. وَأَنَّ مَنْ أَفْتَى مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِخِلَافِ ذَلِكَ - مَعَ اجْتِهَادِهِ وَتَقْوَاهُ لِلَّهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ - فَهُوَ مَأْجُورٌ فِي ذَلِكَ لَا إثْمَ عَلَيْهِ وَإِنْ

ص: 199

كَانَ الَّذِي أَصَابَ الْحَقَّ فَيَعْرِفُهُ لَهُ أَجْرَانِ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ كَالْمُجْتَهِدِينَ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ. وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ كَثِيرَ الْحَجِّ وَكَانَ يُفْتِي النَّاسَ فِي الْمَنَاسِكِ كَثِيرًا وَكَانَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ قَدْ احْتَاجَ إلَيْهِ النَّاسُ وَإِلَى عِلْمِهِ وَدِينِهِ؛ إذْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَاتَ قَبْلَهُ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْتِي بِحَسَبِ مَا سَمِعَهُ وَفَهِمَهُ؛ فَلِهَذَا يُوجَدُ فِي مَسَائِلِهِ أَقْوَالٌ فِيهَا ضِيقٌ لِوَرَعِهِ وَدِينِهِ رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ وَكَانَ قَدْ رَجَعَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهَا: كَمَا رَجَعَ عَنْ أَمْرِ النِّسَاءِ بِقَطْعِ الْخُفَّيْنِ وَعَنْ الْحَائِضِ أَمَرَ أَنْ لَا تَنْفِرَ حَتَّى تُوَدِّعَ وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَكَانَ يَأْمُرُ الرِّجَالَ بِالْقَطْعِ إذْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْخَبَرُ النَّاسِخُ. وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَكَانَ يُبِيحُ لِلرِّجَالِ لُبْسَ الْخُفِّ بِلَا قَطْعٍ إذَا لَمْ يَجِدُوا النَّعْلَيْنِ لِمَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتِ. وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَنْهَى الْمُحْرِمَ مِنْ الطِّيبِ حَتَّى يَطُوفَ اتِّبَاعًا لِعُمَرِ. وَأَمَّا سَعْدُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ فَبَلَغَتْهُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهُ تَطَيَّبَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحَلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَأَخَذُوا بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ إذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ يَرَى إحْرَامَهُ قَدْ انْقَطَعَ فَلَمَّا مَاتَ ابْنُهُ كَفَّنَهُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ

ص: 200

كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ. وَابْنُ عَبَّاسٍ عَلِمَ حَدِيثَ {الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اغْسِلُوهُ بِمَاءِ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا} فَأَخَذَ بِذَلِكَ وَقَالَ: الْإِحْرَامُ بَاقٍ يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ إذَا مَاتَ مَا يَجْتَنِبُهُ غَيْرُهُ وَعَلَى ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ. وَكَذَلِكَ الشَّهِيدُ. رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَغْسِيلِهِ؟ فَقَالَ: غُسِّلَ عُمَرُ وَهُوَ شَهِيدٌ. وَالْأَكْثَرُونَ بَلَغَهُمْ سُنَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَقَوْلُهُ: {زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا: اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ} وَالْحَدِيثُ فِي الصِّحَاحِ فَأَخَذُوا بِذَلِكَ فِي شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَثَّ. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ يَعْقِدُ الْإِزَارَ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ. وَكَرِهَ ابْنُ عُمَرَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَعْقِدَ الرِّدَاءَ كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ إذَا عَقَدَ عُقْدَةً صَارَ يُشْبِهُ الْقَمِيصَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ يَدَانِ. وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ فَكَرِهُوهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ فَيُوجِبُونَ الْفِدْيَةَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ. وَأَمَّا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ فَلَا يُوجِبُونَ الْفِدْيَةَ وَهَذَا أَقْرَبُ. وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَرَاهَةَ عَقْدِ الرِّدَاءِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يُلْتَحَفُ وَلَا يَثْبُتُ بِالْعَادَةِ إلَّا بِالْعَقْدِ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ مِثْلُ الْخِلَالِ وَرَبْطِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى حَقْوِهِ

ص: 201

وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَهْلُ الْحِجَازِ أَرْضُهُمْ لَيْسَتْ بَارِدَةً فَكَانُوا يَعْتَادُونَ لُبْسَ الْأُزُرِ وَالْأَرْدِيَةِ وَلُبْسُ السَّرَاوِيلِ قَلِيلٌ فِيهِمْ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ قَطُّ مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَغَيْرُهُ بِخِلَافِ أَهْلِ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى الْأُزُرِ وَالْأَرْدِيَةِ لَمْ يَكْفِهِمْ ذَلِكَ بَلْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْقَمِيصِ وَالْخِفَافِ وَالْفِرَاءِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: يُسْتَحَبُّ مَعَ الرِّدَاءِ الْإِزَارُ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْفَخِذَيْنِ. وَيُسْتَحَبُّ مَعَ الْقَمِيصِ السَّرَاوِيلُ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ وَمَعَ الْقَمِيصِ لَا يَظْهَرُ تَقَاطِيعُ الْخَلْقِ وَالْقَمِيصُ فَوْقَ السَّرَاوِيلِ يَسْتُرُ بِخِلَافِ الرِّدَاءِ فَوْقَ السَّرَاوِيلِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتُرُ تَقَاطِيعَ الْخَلْقِ. وَأَمَّا الرِّدَاءُ فَوْقَ السَّرَاوِيلِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَحِبُّهُ تَشَبُّهًا بِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَحِبُّهُ لِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ عَادَتَهُمْ الْمَعْرُوفَةَ لُبْسُهُ مَعَ الْإِزَارِ. وَمَنْ اعْتَادَ الرِّدَاءَ ثَبَّتَ عَلَى جَسَدِهِ بِعَطْفِ أَحَدِ طَرَفَيْهِ وَإِذَا حَجَّ مَنْ لَمْ يَتَعَوَّدْ لُبْسَهُ وَكَانَ رِدَاؤُهُ صَغِيرًا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِعَقْدِهِ؛ وَكَانَتْ حَاجَتُهُمْ إلَى عَقْدِهِ كَحَاجَةِ مَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ إلَى الْخُفَّيْنِ. فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى سَتْرِ الْبَدَنِ قَدْ تَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى سَتْرِ الْقَدَمَيْنِ؛ وَالتَّحَفِّي فِي الْمَشْيِ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. وَأَمَّا إظْهَارُ بَدَنِهِ لِلْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالرِّيحِ وَالشَّمْسِ فَهَذَا يَضُرُّ غَالِبَ النَّاسِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْمُصَلِّيَ بِسَتْرِ ذَلِكَ

ص: 202

فَقَالَ: {لَا يُصَلِّيَنَّ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ} وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ حَافِيًا: فَعُلِمَ أَنَّ سَتْرَ هَذَا إلَى اللَّهِ أَحَبُّ مِنْ سَتْرِ الْقَدَمَيْنِ بِالنَّعْلَيْنِ؛ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ الْعَامَّةِ رُخِّصَ فِيهِ فِي الْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ فَلَأَنْ يُرَخَّصَ فِي هَذَا بِطْرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَخَّصَ فِي لُبْسِ الْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ وَنَحْوِهِمَا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الرِّدَاءَ. قِيلَ: الْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِأَنْ يَلْتَحِفَ بِذَلِكَ عَرْضًا مَعَ رَبْطِهِ وَعَقْدِ طَرَفَيْهِ فَيَكُونُ كَالرِّدَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّبْطُ فَإِنَّ طَرَفَيْ الْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ وَنَحْوِهِمَا لَا يَثْبُتُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ. وَكَذَلِكَ الْأَرْدِيَةُ الصِّغَارُ. فَمَا وَجَدَهُ الْمُحْرِمُ مِنْ قَمِيصٍ وَمَا يُشْبِهُهُ كَالْجُبَّةِ؛ وَمِنْ بُرْنُسٍ وَمَا يُشْبِهُهُ مِنْ ثِيَابٍ مُقَطَّعَةٍ: أَمْكَنَهُ أَنْ يَرْتَدِيَ بِهَا إذَا رَبَطَهَا؛ فَيَجِبُ أَنْ يُرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ مَحْظُورًا؛ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَكْرُوهًا؛ فَعِنْدَ الْحَاجَةِ تَزُولُ الْكَرَاهَةُ كَمَا رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْهِمْيَانَ لِحِفْظِ مَالِهِ وَيَعْقِدَ طَرَفَيْهِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِالْعَقْدِ؛ وَهُوَ إلَى سَتْرِ مَنْكِبَيْهِ أَحْوَجُ: فَرُخِّصَ لَهُ عَقْدُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِلَا رَيْبٍ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَذْكُرْ فِيمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَمَا يُنْهَى عَنْهُ لَفْظًا عَامًّا يَتَنَاوَلُ عَقْدَ الرِّدَاءِ بَلْ سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ فَقَالَ: {لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ

ص: 203

وَلَا الْخِفَافَ إلَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ} الْحَدِيثَ. فَنَهَى عَنْ خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الثِّيَابِ الَّتِي تُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ وَهِيَ الْقَمِيصُ وَفِي مَعْنَاهُ الْجُبَّةُ وَأَشْبَاهُهَا؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ تَحْرِيمُ هَذِهِ الْخَمْسَةِ فَقَطْ؛ بَلْ أَرَادَ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَجْنَاسَ وَنَبَّهَ عَلَى كُلِّ جِنْسٍ بِنَوْعِ مِنْهَا. وَذَكَرَ مَا احْتَاجَ الْمُخَاطَبُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ؛ وَهُوَ مَا كَانُوا يَلْبَسُونَهُ غَالِبًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: مَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ سُئِلَ قَبْلَ ذَلِكَ عَمَّنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ فَقَالَ: {انْزِعْ عَنْك الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْك أَثَرَ الْخَلُوقِ؛ وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا كُنْت صَانِعًا فِي حَجِّك} . وَكَانَ هَذَا فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ: فَعُلِمَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْجُبَّةِ كَانَ مَشْرُوعًا قَبْلَ هَذَا وَلَمْ يَذْكُرْهَا بِلَفْظِهَا فِي الْحَدِيثِ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ: {وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ} وَفِي مُسْلِمٍ {وَوَجْهَهُ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا} فَنَهَاهُمْ عَنْ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُقَرِّبُوهُ طِيبًا؛ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُحْرِمَ يُنْهَى عَنْ هَذَا وَهَذَا. وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْعَمَائِمِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ وَعَمَّا يُشْبِهُهُ فِي تَخْمِيرِ الرَّأْسِ؛ فَذَكَرَ مَا يُخَمِّرُ الرَّأْسَ وَمَا يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ كَالْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ؛ وَمَا يُلْبَسُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا وَهُوَ الْبُرْنُسُ وَذَكَرَ مَا يُلْبَسُ فِي النِّصْفِ الْأَسْفَلِ مِنْ الْبَدَنِ

ص: 204

وَهُوَ السَّرَاوِيلُ وَالثِّيَابُ؛ وَالتُّبَّانُ فِي مَعْنَاهُ. وَكَذَلِكَ مَا يُلْبَسُ فِي الرِّجْلَيْنِ وَهُوَ الْخُفُّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الجرموق وَالْجَوْرَبَ فِي مَعْنَاهُ فَهَذَا يُنْهَى عَنْهُ الْمُحْرِمُ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ الَّذِي جَازَ لَا لُبْسُهُ فَإِنَّ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ أُمِرَ بِالْمَسْحِ عَلَيْهِ.

وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالِاسْتِجْمَارِ بِالْأَحْجَارِ لَمْ يَخْتَصَّ الْحَجَرَ إلَّا لِأَنَّهُ كَانَ الْمَوْجُودَ غَالِبًا؛ لَا لِأَنَّ الِاسْتِجْمَارَ بِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ؛ بَلْ الصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي جَوَازِ الِاسْتِجْمَارِ بِغَيْرِهِ كَمَا هُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد لِنَهْيِهِ عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالرَّوْثِ وَالرُّمَّةِ وَقَالَ: {إنَّهُمَا طَعَامُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ} فَلَمَّا نَهَى عَنْ هَذَيْنِ تَعْلِيلًا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ عُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْحَجَرِ وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ بِصَاعِ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ؛ هُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِكَوْنِهِ كَانَ قُوتًا لِلنَّاسِ فَأَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ يُخْرِجُونَ مِنْ قُوتِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ كَاَلَّذِينَ يَقْتَاتُونَ الرُّزَّ أَوْ الذُّرَةَ؛ يُخْرِجُونَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَلَيْسَ نَهْيُهُ عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالرَّوْثِ وَالرُّمَّةِ إذْنًا فِي الِاسْتِجْمَارِ بِكُلِّ شَيْءٍ بَلْ الِاسْتِجْمَارُ بِطَعَامِ الْآدَمِيِّينَ وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ أَوْلَى بِالنَّهْيِ عَنْهُ مِنْ

ص: 205

طَعَامِ الْجِنِّ وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّوْنَ الِاسْتِجْمَارَ بِمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ طَعَامِ الْإِنْسِ وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ مَنْ يَفْعَلُهُ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ. وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَصْنَافُ الْخَمْسَةُ نَهَى عَنْهَا وَقَدْ سُئِلَ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ وَظَاهِرُ لَفْظِهِ أَنَّهُ أَذِنَ فِيمَا سِوَاهَا؛ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ لَا عَمَّا لَا يَلْبَسُ؛ فَلَوْ لَمْ يُفِدْ كَلَامُهُ الْإِذْنَ فِيمَا سِوَاهَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَجَابَ السَّائِلَ لَكِنْ كَانَ الْمَلْبُوسُ الْمُعْتَادُ عِنْدَهُمْ مِمَّا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ هَذِهِ الْخَمْسَةَ - وَالْقَوْمُ لَهُمْ عَقْلٌ وَفِقْهٌ - فَيَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ الْقَمِيصِ وَهُوَ طَاقٌ وَاحِدٌ فَلَأَنْ يَنْهَى عَنْ الْمُبَطَّنَةِ؛ وَعَنْ الْجُبَّةِ الْمَحْشُوَّةِ؛ وَعَنْ الْفَرْوَةِ الَّتِي هِيَ كَالْقَمِيصِ؛ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ: بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ فِيهَا مَا فِي الْقَمِيصِ وَزِيَادَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ فِيهَا مَعَ نَهْيِهِ عَنْ الْقَمِيصِ. وَكَذَلِكَ التُّبَّانُ أَبْلَغُ مِنْ السَّرَاوِيلِ وَالْعِمَامَةِ تُلْبَسُ فِي الْعَادَةِ فَوْقَ غَيْرِهَا: إمَّا قَلَنْسُوَةٌ أَوْ كلثة أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَإِذَا نَهَى عَنْ الْعِمَامَةِ الَّتِي لَا تُبَاشِرُ الرَّأْسَ فَنَهْيُهُ عَنْ الْقَلَنْسُوَةِ والكلثة وَنَحْوِهَا مِمَّا يُبَاشِرُ الرَّأْسَ: أَوْلَى؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى تَخْمِيرِ الرَّأْسِ وَالْمُحْرِمُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ. وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - حَدِيثِ الْمُبَاهَاةِ -: {إنَّهُ

ص: 206

يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَيُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ فَيَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟} وَشَعَثُ الرَّأْسِ وَاغْبِرَارُهُ لَا يَكُونُ مَعَ تَخْمِيرِهِ؛ فَإِنَّ الْمُخَمَّرَ لَا يُصِيبُهُ الْغُبَارُ وَلَا يُشَعَّثُ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَغَيْرِهِمَا؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ يَحْصُلُ لَهُ نَوْعُ مُتْعَةٍ بِذَلِكَ يُؤْمَرُ بِالْحَلْقِ فَلَا يُقَصِّرُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْقُعُودِ فِي ظِلٍّ أَوْ سَقْفٍ أَوْ خَيْمَةٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ ثَوْبٍ يُظَلَّلُ بِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الشَّعَثَ وَلَا الِاغْبِرَارَ وَلَيْسَ فِيهِ تَخْمِيرُ الرَّأْسِ. وَإِنَّمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ يَسْتَظِلُّ بِالْمَحْمَلِ؛ لِأَنَّهُ مُلَازِمٌ لِلرَّاكِبِ كَمَا تُلَازِمُهُ الْعِمَامَةُ لَكِنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ فَمَنْ نَهَى عَنْهُ اعْتَبَرَ مُلَازَمَتَهُ لَهُ وَمَنْ رَخَّصَ فِيهِ اعْتَبَرَ انْفِصَالَهُ عَنْهُ. فَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ الَّذِي لَا يُلَازِمُ فَهَذَا يُبَاحُ بِالْإِجْمَاعِ. وَالْمُتَّصِلُ الْمُلَازِمُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.

وَمَنْ لَمْ يَلْحَظْ الْمَعَانِيَ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يَفْهَمُ تَنْبِيهَ الْخِطَابِ وَفَحْوَاهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ؛ كَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ قَوْلَهُ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} لَا يُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ الضَّرْبِ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ دَاوُد؛ وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ بَلْ وَكَذَلِكَ قِيَاسُ الْأَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ لَكِنْ عُرِفَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ بِهَذَا فَإِنْكَارُهُ مِنْ بِدَعِ الظَّاهِرِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُمْ بِهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ فَمَا زَالَ السَّلَفُ يَحْتَجُّونَ بِمِثْلِ هَذَا وَهَذَا.

ص: 207

كَمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ - كَرَّرَهَا ثَلَاثًا - قَالُوا: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ} فَإِذَا كَانَ هَذَا بِمُجَرَّدِ الْخَوْفِ مِنْ بَوَائِقِهِ: فَكَيْفَ مَنْ فَعَلَ الْبَوَائِقَ مَعَ عَدَمِ أَمْنِ جَارِهِ مِنْهُ؟ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ {أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يُطْعَمَ مَعَك قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَارَ لَا يَعْرِفُ هَذَا فِي الْعَادَةِ: فَهَذَا أَوْلَى بِسَلْبِ الْإِيمَانِ مِمَّنْ لَا تُؤْمَنُ بَوَائِقُهُ وَلَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ هَذَا. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يُؤْمِنُونَ فَاَلَّذِينَ لَا يُحَكِّمُونَهُ وَيَرُدُّونَ حُكْمَهُ وَيَجِدُوا حَرَجًا مِمَّا قَضَى؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ غَيْرَهُ أَصَحُّ مِنْهُ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمِ سَدِيدٍ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فَإِذَا كَانَ بِمُوَادَّةِ الْمُحَادِّ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فَأَنْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إذَا حَادَّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَكَذَلِكَ إذَا نُهِيَ الرَّجُلُ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِالْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ لِأَنَّهُمَا طَعَامُ الْجِنِّ وَعَلَفُ دَوَابِّهِمْ: فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ نَهْيَهُ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِطَعَامِ الْإِنْسِ وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ أَوْلَى

ص: 208

وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إذَا نُهِيَ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ مَعَ الْإِمْلَاقِ: فَنَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ مَعَ الْغِنَى وَالْيَسَارِ أَوْلَى وَأَحْرَى. فَالتَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ قَدْ يَكُونُ لِلْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهِ؛ وَقَدْ يَكُونُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ. فَتَخْصِيصُ الْقَمِيصِ دُونَ الْجُبَاب؛ وَالْعَمَائِمِ دُون الْقَلَانِسِ؛ وَالسَّرَاوِيلَاتِ دُونَ التَّبَابِينِ: هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ لَا لِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ فَقَدْ أُذِنَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِصَبِّ ذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ - مَعَ مَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَاطِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ وَسَرَيَانِ ذَلِكَ لَكِنْ قَصَدَ بِهِ تَعْجِيلَ التَّطْهِيرِ - لَا لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَزُولُ بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ بَلْ الشَّمْسُ وَالرِّيحُ وَالِاسْتِحَالَةُ تُزِيلُ النَّجَاسَةَ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوءًا كَامِلًا ثُمَّ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ جَازَ لَهُ الْمَسْحُ بِلَا نِزَاعٍ وَلَوْ غَسَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَأَدْخَلَهَا الْخُفَّ ثُمَّ فَعَلَ بِالْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد: إحْدَاهُمَا: يَجُوزُ الْمَسْحُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.

ص: 209

وَالثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. قَالَ هَؤُلَاءِ: لِأَنَّ الْوَاجِبَ ابْتِدَاءُ اللُّبْسِ عَلَى الطَّهَارَةِ؛ فَلَوْ لَبِسَهُمَا وَتَوَضَّأَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ فِيهِمَا: لَمْ يَجُزْ لَهُ الْمَسْحُ حَتَّى يَخْلَعَ مَا لَبِسَ قَبْلَ تَمَامِ طُهْرِهِمَا فَيَلْبَسُهُ بَعْدَهُ. وَكَذَلِكَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ قَالُوا: يَخْلَعُ الرِّجْلَ الْأُولَى ثُمَّ يُدْخِلُهَا فِي الْخُفِّ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: {إنِّي أَدْخَلْت الْقَدَمَيْنِ الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ} قَالُوا: وَهَذَا أَدْخَلَهُمَا وَلَيْسَتَا طَاهِرَتَيْنِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ بِلَا شَكٍّ. وَإِذَا جَازَ الْمَسْحُ لِمَنْ تَوَضَّأَ خَارِجًا ثُمَّ لَبِسَهُمَا فَلِأَنْ يَجُوزَ لِمَنْ تَوَضَّأَ فِيهِمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّ هَذَا فِعْلُ الطَّهَارَةِ فِيهِمَا وَاسْتَدَامَهَا فِيهِمَا وَذَلِكَ فِعْلُ الطَّهَارَةِ خَارِجًا عَنْهُمَا وَإِدْخَالُ هَذَا قَدَمَيْهِ الْخُفَّ مَعَ الْحَدَثِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ لَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ. وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالطَّهَارَةِ الْمَوْجُودَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ كَمَسِّ الْمُصْحَفِ مَعَ الْحَدَثِ.

وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {إنِّي أَدْخَلْتُهُمَا الْخُفَّ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ} حَقٌّ؛ فَإِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا عِلَّةٌ لِجَوَازِ الْمَسْحِ فَكُلُّ مَنْ أَدْخَلَهُمَا طَاهِرَتَيْنِ فَلَهُ الْمَسْحُ. وَهُوَ لَمْ يَقُلْ: إنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ يَمْسَحْ لَكِنَّ دِلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَالتَّعْلِيلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ حِكْمَةُ التَّخْصِيصِ: هَلْ بَعْضُ الْمَسْكُوتِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ إدْخَالِهِمَا طَاهِرَتَيْنِ هُوَ الْمُعْتَادُ؛ وَلَيْسَ غَسْلُهُمَا فِي الْخُفَّيْنِ مُعْتَادًا؛ وَإِلَّا فَإِذَا غَسَلَهُمَا

ص: 210

فِي الْخُفِّ فَهُوَ أَبْلَغُ؛ وَإِلَّا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي نَزْعِ الْخُفِّ ثُمَّ لُبْسِهِ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ شَيْءٍ فِيهِ مَنْفَعَةٌ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا عَبَثٌ مَحْضٌ يُنَزَّهُ الشَّارِعُ عَنْ الْأَمْرِ بِهِ؟ وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: أَدْخِلْ مَالِي وَأَهْلِي إلَى بَيْتِي - وَكَانَ فِي بَيْتِهِ بَعْضُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ - هَلْ يُؤْمَرُ بِأَنْ يُخْرِجَهُ ثُمَّ يُدْخِلَهُ وَيُوسُفُ لَمَّا قَالَ لِأَهْلِهِ: {ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ} وَقَالَ مُوسَى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ كَانَ بِمِصْرِ بَعْضُهُمْ أَوْ كَانَ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بَعْضٌ؛ أَوْ كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ قَدْ دَخَلَ الْحَرَمَ قَبْلَ ذَلِكَ: هَلْ كَانَ هَؤُلَاءِ يُؤْمَرُونَ بِالْخُرُوجِ ثُمَّ الدُّخُولِ؟ فَإِذَا قِيلَ: هَذَا لَمْ يَقَعْ. قِيلَ: وَكَذَلِكَ غَسْلُ الرَّجُلِ قَدَمَيْهِ فِي الْخُفِّ لَيْسَ وَاقِعًا فِي الْعَادَةِ فَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ إذَا فَعَلَ يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجٍ وَإِدْخَالٍ. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ بَاب الْأَوْلَى.

وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا اسْتَجْمَرَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ اسْتَجْمَرَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ كَالرَّوْثِ وَالرُّمَّةِ وَبِالْيَمِينِ: هَلْ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا اسْتَجْمَرَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَعَلَيْهِ تَكْمِيلُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَأَمَّا إذَا اسْتَجْمَرَ بِالْعَظْمِ وَالْيَمِينِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا وَالْإِعَادَةُ لَا فَائِدَةَ فِيهَا وَلَكِنْ قَدْ يُؤْمَرُ بِتَنْظِيفِ

ص: 211

الْعَظْمِ مِمَّا لَوَّثَهُ بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ عِنْدَهُ خَمْرٌ فَأُمِرَ بِإِتْلَافِهَا فَأَرَاقَهَا فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ إتْلَافِهَا لَكِنْ هُوَ آثِمٌ بِتَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ فَيُؤْمَرُ بِتَطْهِيرِهِ بِخِلَافِ الِاسْتِجْمَارِ بِتَمَامِ الثَّلَاثِ فَإِنَّ فِيهِ فِعْلَ تَمَامِ الْمَأْمُورِ وَتَحْصِيلَ الْمَقْصُودِ.

وَسُئِلَ:

عَنْ الْخُفِّ إذَا كَانَ فِيهِ خَرْقٌ يَسِيرٌ: هَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

وَأَمَّا الْخُفُّ إذَا كَانَ فِيهِ خَرْقٌ يَسِيرٌ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ. فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد قَالُوا: لِأَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ الْقَدَمِ فَرْضُهُ الْغَسْلُ وَمَا اسْتَتَرَ فَرْضُهُ الْمَسْحُ وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ فَإِنَّ الرُّخْصَةَ عَامَّةٌ وَلَفْظُ الْخُفِّ يَتَنَاوَلُ مَا فِيهِ مِنْ الْخَرْقُ وَمَا لَا خَرْقَ فِيهِ لَا سِيَّمَا وَالصَّحَابَةُ كَانَ فِيهِمْ فُقَرَاءُ كَثِيرُونَ وَكَانُوا يُسَافِرُونَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ خِفَافِهِمْ خُرُوقٌ وَالْمُسَافِرُونَ قَدْ يَتَخَرَّقُ خُفُّ أَحَدِهِمْ وَلَا

ص: 212

يُمْكِنُهُ إصْلَاحُهُ فِي السَّفَرِ فَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهِ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الرُّخْصَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَعْفُونَ عَنْ ظُهُورِ يَسِيرِ الْعَوْرَةِ وَعَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ الَّتِي يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا: فَالْخَرْقُ الْيَسِيرُ فِي الْخُفِّ كَذَلِكَ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ مَا ظَهَرَ فَرْضُهُ الْغَسْلُ: مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْمَاسِحَ عَلَى الْخُفِّ لَا يَسْتَوْعِبُهُ بِالْمَسْحِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ بَلْ يَمْسَحُ أَعْلَاهُ دُون أَسْفَلِهِ وَعَقِبَهُ وَذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ غَسْلِ الرِّجْلِ فَمَسْحُ بَعْضِ الْخُفِّ كَافٍ عَمَّا يُحَاذِي الْمَمْسُوحَ وَمَا لَا يُحَاذِيهِ فَإِذَا كَانَ الْخَرْقُ فِي الْعَقِبِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَلَا مَسْحُهُ وَلَوْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ لَا يَجِبُ مَسْحُ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ ظَهْرِ الْقَدَمِ وَ (بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مِمَّا جَاءَتْ السُّنَّةُ فِيهِ بِالرُّخْصَةِ حَتَّى جَاءَتْ بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَوَارِبِ وَالْعَمَائِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاقَضَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْ التَّوْسِعَةِ بِالْحَرَجِ وَالتَّضْيِيقِ.

وَ‌

‌سُئِلَ:

هَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبِ

كَالْخُفِّ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَكُونُ الْخَرْقُ الَّذِي فِيهِ الطَّعْنُ مَانِعًا مِنْ الْمَسْحِ فَقَدْ يَصِفُ بَشَرَةَ شَيْءٍ مِنْ مَحَلِّ

ص: 213

الْفَرْضِ؟ وَإِذَا كَانَ فِي الْخُفِّ خَرْقٌ بِقَدْرِ النِّصْفِ أَوْ أَكْثَرَ هَلْ يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

نَعَمْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ إذَا كَانَ يَمْشِي فِيهِمَا سَوَاءٌ كَانَتْ مُجَلَّدَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ. فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. فَفِي السُّنَنِ: أَنَّ النَّبِيَّ {مَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْهِ وَنَعْلَيْهِ} . وَهَذَا الْحَدِيثُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ إنَّمَا هُوَ كَوْنُ هَذَا مِنْ صُوفٍ وَهَذَا مِنْ جُلُودٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفَرْقِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الشَّرِيعَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جُلُودًا أَوْ قُطْنًا أَوْ كَتَّانًا أَوْ صُوفًا كَمَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ سَوَادِ اللِّبَاسِ فِي الْإِحْرَامِ وَبَيَاضِهِ وَمَحْظُورِهِ وَمُبَاحِهِ وَغَايَتُهُ أَنَّ الْجِلْدَ أَبْقَى مِنْ الصُّوفِ: فَهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ كَمَا لَا تَأْثِيرَ لِكَوْنِ الْجِلْدِ قَوِيًّا بَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى مَا يَبْقَى وَمَا لَا يَبْقَى. وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَسْحِ عَلَى هَذَا كَالْحَاجَةِ إلَى الْمَسْحِ عَلَى هَذَا سَوَاءٌ وَمَعَ التَّسَاوِي فِي الْحِكْمَةِ وَالْحَاجَةِ يَكُونُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَهَذَا خِلَافُ الْعَدْلِ وَالِاعْتِبَارِ الصَّحِيحِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ كُتُبَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَمَنْ فَرَّقَ بِكَوْنِ هَذَا يَنْفُذُ الْمَاءُ مِنْهُ وَهَذَا لَا يَنْفُذُ مِنْهُ: فَقَدْ ذَكَرَ فَرْقًا طَرْدِيًّا عَدِيمَ التَّأْثِيرِ.

ص: 214

وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: يَصِلُ الْمَاءُ إلَى الصُّوفِ أَكْثَرَ مِنْ الْجِلْدِ فَيَكُونُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ أَوْلَى لِلُصُوقِ الطَّهُورِ بِهِ أَكْثَرَ: كَانَ هَذَا الْوَصْفُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ وَأَقْرَبَ إلَى الْأَوْصَافِ الْمُؤَثِّرَةِ وَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ. وَخُرُوقُ الطَّعْنِ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْمَسْحِ وَلَوْ لَمْ تَسْتُرْ الْجَوَارِبُ إلَّا بِالشَّدِّ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهَا عَلَى الصَّحِيحِ وَكَذَلِكَ الزربول الطَّوِيلُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ وَلَا يَسْتُرُ إلَّا بِالشَّدِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ رحمه الله:

لَمَّا ذَهَبْت عَلَى الْبَرِيدِ وَجَدَّ بِنَا السَّيْرُ وَقَدْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ فَلَمْ يُمْكِنْ النَّزْعُ وَالْوُضُوءُ إلَّا بِانْقِطَاعِ عَنْ الرُّفْقَةِ أَوْ حَبْسِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَرَّرُونَ بِالْوُقُوفِ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّي عَدَمُ التَّوْقِيتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا قُلْنَا فِي الْجَبِيرَةِ وَنَزَّلْت حَدِيثَ عُمَرَ وَقَوْلَهُ: لعقبة بْنِ عَامِرٍ: {أَصَبْت السُّنَّةَ} عَلَيَّ هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الْآثَارِ ثُمَّ رَأَيْتُهُ مُصَرَّحًا بِهِ فِي مَغَازِي ابْنِ عَائِدٍ أَنَّهُ كَانَ قَدْ ذَهَبَ عَلَى الْبَرِيدِ كَمَا ذَهَبْت لَمَّا فُتِحَتْ دِمَشْقُ ذَهَبَ بَشِيرًا بِالْفَتْحِ مِنْ يَوْمِ الْجُمْعَةِ إلى يَوْمِ الْجُمْعَةِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مُنْذُ كَمْ لَمْ تَنْزِعْ خُفَّيْك؟ فَقَالَ: مُنْذُ يَوْمِ الْجُمْعَةِ قَالَ: أَصَبْت فَحَمِدْت اللَّهَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ.

ص: 215

وَهَذَا أَظُنُّهُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَهُوَ: أَنَّهُ إذَا كَانَ يَتَضَرَّرُ بِنَزْعِ الْخُفِّ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْجَبِيرَةِ. وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: أَنَّهُ إذَا خَافَ الضَّرَرَ بِالنَّزْعِ تَيَمَّمَ وَلَمْ يَمْسَحْ. وَهَذَا كَالرِّوَايَتَيْنِ لَنَا إذَا كَانَ جُرْحُهُ بَارِزًا يُمْكِنُهُ مَسْحُهُ بِالْمَاءِ دُونَ غَسْلِهِ فَهَلْ يَمْسَحُهُ أَوْ يَتَيَمَّمُ لَهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَالصَّحِيحُ الْمَسْحُ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَسْحِ بِالْمَاءِ أَوْلَى مِنْ طَهَارَةِ الْمَسْحِ بِالتُّرَابِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ الْمَسْحُ عَلَى حَائِلِ الْعُضْوِ فَعَلَيْهِ أَوْلَى. وَذَلِكَ أَنَّ طَهَارَةَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ طَهَارَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ وَطَهَارَةُ الْجَبِيرَةِ طَهَارَةٌ اضْطِرَارِيَّةٌ فَمَاسِحُ الْخُفِّ لَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ وُقِّتَ لَهُ الْمَسْحُ وَمَاسِحُ الْجَبِيرَةِ لَمَّا كَانَ مُضْطَرًّا إلَى مَسْحِهَا لَمْ يُوَقَّتْ وَجَازَ فِي الْكُبْرَى فَالْخُفُّ الَّذِي يَتَضَرَّرُ بِنَزْعِهِ جَبِيرَةٌ. وَضَرَرُهُ يَكُونُ بِأَشْيَاءَ: إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي ثَلْجٍ وَبَرْدٍ عَظِيمٍ: إذَا نَزَعَهُ يَنَالُ رِجْلَيْهِ ضَرَرٌ أَوْ يَكُونُ الْمَاءُ بَارِدًا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ غَسْلُهُمَا فَإِنْ نَزَعَهُمَا تَيَمَّمَ فَمَسْحُهُمَا خَيْرٌ مِنْ التَّيَمُّمِ. أَوْ يَكُونُ خَائِفًا إذَا نَزَعَهُمَا وَتَوَضَّأَ: مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ أَوْ انْقِطَاعٍ عَنْ الرُّفْقَةِ فِي مَكَانٍ لَا يُمْكِنُهُ السَّيْرُ وَحْدَهُ؛ فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ لَهُ تَرْكُ طَهَارَةِ الْمَاءِ إلَى التَّيَمُّمِ؛ فَلَأَنْ يَجُوزَ تَرْكُ طَهَارَةِ الْغَسْلِ إلَى الْمَسْحِ أَوْلَى. وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ إذَا كَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ وَمَعَهُ قَلِيلٌ يَكْفِي لِطَهَارَةِ الْمَسْحِ لَا لِطِهَارَةِ الْغَسْلِ فَإِنْ نَزَعَهُمَا تَيَمَّمَ فَالْمَسْحُ عَلَيْهِمَا خَيْرٌ مِنْ التَّيَمُّمِ.

ص: 216

وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ {: يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ} مَنْطُوقُهُ إبَاحَةُ الْمَسْحِ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ بَلْ يَكْفِي أَنْ لَا يَكُونَ الْمَسْكُوتُ كَالْمَنْطُوقِ فَإِذَا خَالَفَهُ فِي صُورَةٍ حَصَلَتْ الْمُخَالَفَةُ فَإِذَا كَانَ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا يُبَاحُ مُطْلَقًا بَلْ يُحْظَرُ تَارَةً وَيُبَاحُ أُخْرَى حَصَلَ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ وَهَذَا وَاضِحٌ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ نَافِعَةٌ جِدًّا. فَإِنَّهُ مَنْ بَاشَرَ الْأَسْفَارَ فِي الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا: رَأَى أَنَّهُ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا يُمْكِنُ نَزْعُ الْخُفَّيْنِ وَالْوُضُوءُ إلَّا بِضَرَرِ يُبَاحُ التَّيَمُّمُ بِدُونِهِ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَا لَوْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْعَدُوُّ بِإِزَائِهِ فَفَائِدَةُ النَّزْعِ الْوُضُوءُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فَحَيْثُ يَسْقُطُ الْوُضُوءُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ يَسْقُطُ النَّزْعُ وَقَدْ يَكُونُ الْوُضُوءُ وَاجِبًا لَوْ كَانَا بَارِزَتَيْنِ لَكِنْ مَعَ اسْتِتَارِهِمَا يَحْتَاجُ إلَى قَلْعِهِمَا وَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ ثُمَّ لُبْسُهُمَا ثَانِيًا إذَا لَمْ تَتِمَّ مَصْلَحَتُهُ إلَّا بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَمَرَّ فَإِنَّ طَهَارَتَهُ بَاقِيَةٌ وَبِخِلَافِ مَا إذَا تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا: فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ لَا يَضُرُّهُ. فَفِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَا يتوقت إذَا كَانَ الْوُضُوءُ سَاقِطًا فَيَنْتَقِلُ إلَى التَّيَمُّمِ فَإِنَّ الْمَسْحَ الْمُسْتَمِرَّ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ وَإِذَا كَانَ فِي النَّزْعِ وَاللُّبْسِ ضَرَرٌ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ: فَلَأَنْ يُبِيحُ الْمَسْحَ أَوْلَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 217

وَسُئِلَ رضي الله عنه:

عَنْ قَلْعِ الْجَبِيرَةِ بَعْدَ الْوُضُوءِ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ كَمَا أَنَّهُ لَا يُعِيدُ الْغُسْلَ. لِأَنَّ الْجَبِيرَةَ كَالْجُزْءِ مِنْ الْعُضْوِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ الْمَسْحِ فَوْقَ الْعِصَابَةِ؟

.

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إنْ خَافَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْبَرْدِ وَنَحْوِهِ مَسَحَتْ عَلَى خِمَارِهَا؛ فَإِنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَمْسَحُ خِمَارَهَا وَيَنْبَغِي أَنْ تَمْسَحَ مَعَ هَذَا بَعْضَ شَعْرِهَا وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِهَا حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.

ص: 218

‌بَابٌ نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ

سُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنْ ذَكَرِهِ قَيْحٌ لَا يَنْقَطِعُ: فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ مَعَ خُرُوجِ ذَلِكَ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

فَأَجَابَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُبْطِلَ الصَّلَاةَ بَلْ يُصَلِّي بِحَسَبِ إمْكَانِهِ. فَإِنْ لَمْ تَنْقَطِعْ النَّجَاسَةُ قَدْرَ مَا يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي: صَلَّى بِحَسَبِ حَالِهِ بَعْدَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَإِنْ خَرَجَتْ النَّجَاسَةُ فِي الصَّلَاةِ لَكِنْ يَتَّخِذُ حِفَاظًا يَمْنَعُ مِنْ انْتِشَارِ النَّجَاسَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَمَّا إذَا تَوَضَّأَ وَقَامَ يُصَلِّي وَأَحَسَّ بِالنُّقْطَةِ فِي صَلَاتِهِ: فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا؟ .

ص: 219

فَأَجَابَ: مُجَرَّدُ الْإِحْسَاسِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ؛ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ {أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَجِدْ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا} . وَأَمَّا إذَا تَيَقَّنَ خُرُوجَ الْبَوْلِ إلَى ظَاهِرِ الذَّكَرِ فَقَدْ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ وَعَلَيْهِ الِاسْتِنْجَاءُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ إذَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ أَيْضًا رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ كُلَّمَا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ يَحْدُثُ لَهُ رِيَاحٌ كَثِيرَةٌ؛ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ يَتَوَضَّأُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَوْ أَكْثَرَ؛ إلَى حِينِ يَقْضِي الصَّلَاةَ يَزُولُ عَنْهُ الْعَارِضُ؛ ثُمَّ لَا يَعُودُ إلَيْهِ إلَّا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا سَبَبُ ذَلِكَ؟ : هَلْ هُوَ مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى الطَّهَارَةِ؟ وَقَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِ كَثْرَةُ الْوُضُوءِ وَمَا يَعْلَمُ هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ صَاحِبِ الْأَعْذَارِ أَمْ لَا لِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يُعَاوِدُهُ إلَّا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ؟ وَمَا تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ؟ .

ص: 220

فَأَجَابَ رضي الله عنه:

نَعَمْ، حُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْأَعْذَارِ: مِثْلِ الِاسْتِحَاضَةِ وَسَلَسِ الْبَوْلِ؛ وَالْمَذْيِ؛ وَالْجُرْحِ الَّذِي لَا يَرْقَأُ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ حِفْظُ الطَّهَارَةِ مِقْدَارَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي وَلَا يَضُرُّهُ مَا خَرَجَ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَنْتَقِضُ وَضَوْءُهُ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَأَكْثَرُ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَأَمْثَالُهُمَا مِثْلُ مَنْ بِهِ رِيحٌ يَخْرُجُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ؛ وَكُلُّ مَنْ بِهِ حَدَثٌ نَادِرٌ. فَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ ذَلِكَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِالْحَدَثِ الْمُعْتَادِ. وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ - كَأَبِي حَنِيفَةَ؛ وَالشَّافِعِيِّ؛ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ - يَقُولُونَ: إنَّهُ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ. رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ؛ فَلِهَذَا كَانَ أَظْهَرَ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ.

وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ فِي الصَّلَاةِ دَائِمًا فَهَذَا لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ كَانَتْ تُصَلِّي وَالدَّمُ يَقْطُرُ مِنْهَا؛ فَيُوضَعُ لَهَا طَسْتٌ يَقْطُرُ فِيهِ الدَّمُ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه صَلَّى وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا. وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ.

ص: 221

وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي خُرُوجِ النَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ - كَالْجُرْحِ وَالْفِصَادِ وَالْحِجَامَةِ وَالرُّعَافِ وَالْقَيْءِ: فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ: لَا يَنْقُضُ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد: يَنْقُضُ. لَكِنَّ أَحْمَد يَقُولُ: إذَا كَانَ كَثِيرًا. وَتَنَازَعُوا فِي مَسِّ النِّسَاءِ وَمَسِّ الذَّكَرِ: هَلْ يَنْقُضُ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَنْقُضُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: يَنْقُضُ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسِّ لِشَهْوَةِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ هَلْ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي مَسِّ الذَّكَرِ؟ وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد؛ وَعَنْهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَرِوَايَتَانِ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ: هَلْ يَجِبُ أَمْ لَا؟ وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ: فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ تَنْقُضُ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تَنْقُضُ: فَهَلْ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَالْأَظْهَرُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ: أَنَّهَا لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ. وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْهَا. فَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْهَا صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَمَنْ تَوَضَّأَ مِنْهَا فَهُوَ أَفْضَلُ. وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَكِنْ كُلُّهُمْ يَأْمُرُ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَلَكِنْ إنْ كَانَتْ مِنْ الدَّمِ أَكْثَرَ مِنْ رُبُعِ

ص: 222

الْمَحَلِّ فَهَذِهِ تَجِبُ إزَالَتُهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْأُمَّةِ وَمَعَ هَذَا إنْ كَانَ الْجُرْحُ لَا يَرْقَأُ مِثْلَ مَا أَصَابَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِاتِّفَاقِهِمْ؛ سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ؛ أَوْ قِيلَ: لَا يَنْقُضُ سَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقَالَ النَّبِيُّ {: إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وَكُلُّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا؛ بَلْ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لَكِنْ يَجُوزُ لَهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِعُذْرِ؛ حَتَّى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ وَأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا اسْتَحَبَّ النَّبِيُّ لِلْمُسْتَحَاضَةِ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِغُسْلِ وَاحِدٍ فَهَذَا لِلْمَعْذُورِ سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِطَهَارَةِ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ: جَازَ لَهُ الْجَمْعُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَلِكَ يَجْمَعُ الْمَرِيضُ بِطَهَارَةِ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتْ الطَّهَارَةُ لِكُلِّ صَلَاةٍ تَزِيدُ فِي مَرَضِهِ. وَلَا بُدَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ: إمَّا بِطَهَارَةِ إنْ أَمْكَنَهُ وَإِلَّا بِالتَّيَمُّمِ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ إمَّا لِمَرَضِ وَإِمَّا لِشِدَّةِ الْبَرْدِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا؛ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ

ص: 223

الْعُلَمَاءِ. وَإِذَا تَيَمَّمَ فِي السَّفَرِ لِعَدَمِ الْمَاءِ لَمْ يُعِدْ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ إذَا صَلَّى قَاعِدًا أَوْ صَلَّى عَلَى جَنْبٍ لَمْ يُعِدْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ: كَاَلَّذِي تَنْكَسِرُ بِهِ السَّفِينَةُ؛ أَوْ يَأْخُذُ الْقُطَّاعُ ثِيَابَهُ: فَإِنَّهُ يُصَلِّي عريانا وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ: لَا يُعِيدُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ أَخْطَأَ مَعَ اجْتِهَادِهِ لَمْ يُعِدْ أَيْضًا عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ: كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُعِيدُ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّيَمُّمِ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ: هَلْ يُعِيدُ؟ وَفِيمَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ: هَلْ يُعِيدُ؟ وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَالصَّحِيحُ فِي جَمِيعِ هَذَا النَّوْعِ: أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ بَلْ يُصَلِّي كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ؛ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ مَرَّتَيْنِ مُطْلَقًا بَلْ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ إذَا ذَكَرَ بِوُضُوءِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ: كَمَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ {قَالَ:

ص: 224

مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا} . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا جَعَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَرَجٍ فِي دِينِهِمْ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ بِهِمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمْ الْعُسْرَ. وَمَسْأَلَةُ هَذَا السَّائِلِ أَوْلَى بِالرُّخْصَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ يُصَلِّي الْخَمْسَ لَا يَقْطَعُهَا وَلَمْ يَحْضُرْ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ؛ وَذَكَرَ أَنَّ عَدَمَ حُضُورِهِ لَهَا أَنَّهُ يَجِدُ رِيحًا فِي جَوْفِهِ تَمْنَعُهُ عَنْ انْتِظَارِ الْجُمْعَةِ وَبَيْنَ مَنْزِلِهِ وَالْمَكَانِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمْعَةُ قَدْرُ مِيلَيْنِ أَوْ دُونَهُمَا: فَهَلْ الْعُذْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ كَافٍ فِي تَرْكِ الْجُمْعَةِ مَعَ قُرْبِ مَنْزِلِهِ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

فَأَجَابَ:

بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمْعَةَ؛ وَيَتَأَخَّرَ بِحَيْثُ يَحْضُرُ وَيُصَلِّي مَعَ بَقَاءِ وُضُوئِهِ. وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الْحُضُورُ إلَّا مَعَ خُرُوجِ الرِّيحِ فَلْيَشْهَدْهَا وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 225

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ بِهِ قُرُوحٌ فِي بَعْضِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَيَخْرُجُ مِنْ تِلْكَ الْقُرُوحِ قَيْحٌ يَنْتَشِرُ عَلَى مَحَلِّ الْفَرْضِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْقُرُوحِ؛ وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ ذَلِكَ إلَّا إذَا أَزَالَهُ عَنْ الْقُرُوحِ أَيْضًا وَهُوَ يَجِدُ الْمَشَقَّةَ فِي إزَالَتِهَا؛ وَالْأَطِبَّاءُ لَا يَرَوْنَ فِي إزَالَتِهَا مَضَرَّةً عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْقُرُوحِ؛ غَيْرَ أَنَّهُ هُوَ يَجِدُ الْأَلَمَ وَالْمَشَقَّةَ فِي إزَالَةِ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَكْرَارِ الْوُضُوءِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إزَالَةُ ذَلِكَ لِيَصِلَ الْمَاءُ إلَى مَا تَسَتَّرَ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ مَعَ غَلَبَةِ ظَنِّهِ بَعْدَ تِلْكَ الْقُرُوحِ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا كَانَتْ إزَالَتُهُ تُوجِبُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ أَوْ تَأَخُّرَ الْبُرْءِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إزَالَتُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ هَذَا وَلَا هَذَا أَزَالَهُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ جِنْسِ الْوَسَخِ الَّذِي عَلَى الْعَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُزِيلَ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 226

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ يَرَى أَنَّ الْقَيْءَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ {قَاءَ مَرَّةً وَتَوَضَّأَ} وَرَوَى حَدِيثًا آخَرَ: {أَنَّهُ قَاءَ مَرَّةً فَغَسَلَ فَمَهُ وَقَالَ: هَكَذَا الْوُضُوءُ مِنْ الْقَيْءِ} فَهَلْ يُعْمَلُ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَمْ الثَّانِي؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَمَا سَمِعْت بِهِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ فِي السُّنَنِ لَكِنْ لَفْظُهُ: {أَنَّهُ قَاءَ فَأَفْطَرَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لثوبان فَقَالَ: صَدَقَ أَنَا صَبَبْت لَهُ وَضُوءَهُ} . وَلَفْظُ الْوُضُوءِ لَمْ يَجِئْ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ إلَّا وَالْمُرَادُ بِهِ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ وَلَمْ يَرِدْ لَفْظُ الْوُضُوءِ بِمَعْنَى غَسْلِ الْيَدِ وَالْفَمِ إلَّا فِي لُغَةِ الْيَهُودِ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ {أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ: إنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ فَقَالَ؛ مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ} . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 227

وَسُئِلَ عَنْ الرُّعَافِ:

هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ: إذَا تَوَضَّأَ مِنْهُ فَهُوَ أَفْضَلُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.

وَسُئِلَ:

هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ النَّوْمُ جَالِسًا أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ جَالِسًا مُحْتَبِيًا بِيَدَيْهِ فَنَعَسَ وَانْفَلَتَتْ حَبْوَتُهُ وَسَقَطْت يَدُهُ عَلَى الْأَرْضِ وَمَالَ لَكِنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ جَنْبُهُ إلَى الْأَرْضِ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا النَّوْمُ الْيَسِيرُ مِنْ الْمُتَمَكِّنِ بِمَقْعَدَتِهِ فَهَذَا لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّ النَّوْمَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِحَدَثِ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ مَظِنَّةُ الْحَدَثِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ:{الْعَيْنُ وِكَاءُ السه فَإِذَا نَامَتْ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ} وَفِي

ص: 228

رِوَايَةٍ: {فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ} . وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ {كَانَ يَنَامُ حَتَّى يَنْفُخَ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ} لِأَنَّهُ كَانَ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ فَكَانَ يَقْظَانَ. فَلَوْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ لَشَعَرَ بِهِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثِ فِي نَفْسِهِ؛ إذْ لَوْ كَانَ حَدَثًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَرْقٌ بَيْنَ النَّبِيِّ وَغَيْرِهِ كَمَا فِي الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحْدَاثِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيَّ {كَانَ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ حَتَّى كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ يَخْفُقُونَ بِرُءُوسِهِمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ} . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ جِنْسَ النَّوْمِ لَيْسَ بِنَاقِضِ؛ إذْ لَوْ كَانَ نَاقِضًا لَانْتَقَضَ بِهَذَا النَّوْمِ الَّذِي تَخْفُقُ فِيهِ رُءُوسُهُمْ. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ: يَنْقُضُ مَا سِوَى نَوْمِ الْقَاعِدِ مُطْلَقًا. كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ. وَقِيلَ: لَا يَنْقُضُ نَوْمُ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ وَيَنْقُضُ نَوْمُ الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ؛

ص: 229

لِأَنَّ الْقَائِمَ وَالْقَاعِدَ لَا يَنْفَرِجُ فِيهِمَا مَخْرَجُ الْحَدَثِ كَمَا يَنْفَرِجُ مِنْ الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ. وَقِيلَ: لَا يَنْقُضُ نَوْمُ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ بِخِلَافِ الْمُضْطَجِعِ وَغَيْرِهِ. كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ. لَكِنَّ مَذْهَبَ أَحْمَد التَّقْيِيدُ بِالنَّوْمِ الْيَسِيرِ. وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ: حَدِيثٌ فِي السُّنَنِ: {لَيْسَ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا لَكِنْ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا} فَإِنَّهُ إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ فَيَخْرُجُ الْحَدَثُ بِخِلَافِ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ مُتَمَاسِكَةٌ غَيْرُ مُسْتَرْخِيَةٍ فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ يَقْتَضِي خُرُوجَ الْخَارِجِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَكُونُ يَسِيرًا فِي الْعَادَةِ؛ إذْ لَوْ اسْتَثْقَلَ لَسَقَطَ. وَالْقَاعِدُ إذَا سَقَطَتْ يَدَاهُ إلَى الْأَرْضِ فِيهِ قَوْلَانِ. وَالْأَظْهَرُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ إذَا شَكَّ الْمُتَوَضِّئُ: هَلْ نَوْمُهُ مِمَّا يَنْقُضُ أَوْ لَيْسَ مِمَّا يَنْقُضُ؟ فَإِنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ ثَابِتَةٌ بِيَقِينِ فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 230

وَسُئِلَ:

هَلْ لَمْسُ كُلِّ ذَكَرٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْحَيَوَانِ؟ وَهَلْ بَاطِنُ الْكَفِّ هُوَ مَا دُونَ بَاطِنِ الْأَصَابِعِ؟ .

فَأَجَابَ:

لَمْسُ فَرْجِ الْحَيَوَانِ غَيْرُ الْإِنْسَانِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجْهَيْنِ. وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي مَسِّ فَرْجِ الْإِنْسَانِ خَاصَّةً. وَبَطْنُ الْكَفِّ يَتَنَاوَلُ الْبَاطِنَ كُلَّهُ بَطْنَ الرَّاحَةِ وَالْأَصَابِعِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَنْقُضُ بِحَالِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ وَقَعَتْ يَدُهُ بِبَاطِنِ كَفِّهِ وَأَصَابِعِهِ عَلَى ذَكَرِهِ: فَهَلْ يَنْتَقِضُ وُضُوؤُهُ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ.

ص: 231

وَسُئِلَ:

عَمَّا إذَا قَبَّلَ زَوْجَتَهُ أَوْ ضَمَّهَا فَأَمْذَى: هَلْ يَلْزَمُهُ وُضُوءٌ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ: أَمَّا الْوُضُوءُ فَيَنْتَقِضُ بِذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْوُضُوءُ لَكِنْ يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ.

وَسُئِلَ:

عَنْ لَمْسِ النِّسَاءِ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا نَقْضُ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ النِّسَاءِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: طَرَفَانِ وَوَسَطٌ. أَضْعَفُهَا: أَنَّهُ يَنْقُضُ اللَّمْسُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِشَهْوَةِ إذَا كَانَ الْمَلْمُوسُ مَظِنَّةً لِلشَّهْوَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى: أَوْ لَمَسْتُمْ.

ص: 232

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّمْسَ لَا يَنْقُضُ بِحَالِ وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةِ. كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يَذْكُرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد؛ لَكِنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ: أَنَّ اللَّمْسَ إنْ كَانَ لِشَهْوَةِ نَقَضَ وَإِلَّا فَلَا. وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ مُتَوَجِّهٌ إلَّا هَذَا الْقَوْلُ أَوْ الَّذِي قَبْلَهُ. فَأَمَّا تَعْلِيقُ النَّقْضِ بِمُجَرَّدِ اللَّمْسِ فَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ وَخِلَافُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَخِلَافُ الْآثَارِ. وَلَيْسَ مَعَ قَائِلِهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ. فَإِنْ كَانَ اللَّمْسُ فِي قَوْله تَعَالَى أَوْ لَمَسْتُمْ النِّسَاءَ إذَا أُرِيدَ بِهِ اللَّمْسُ بِالْيَدِ وَالْقُبْلَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ -: فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ حَيْثُ ذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَا كَانَ لِشَهْوَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي آيَةِ الِاعْتِكَافِ: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَمُبَاشَرَةُ الْمُعْتَكِفِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ لِشَهْوَةِ. وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمُ - الَّذِي هُوَ أَشَدُّ - لَوْ بَاشَرَ الْمَرْأَةَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بِهِ دَمٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} وَقَوْلُهُ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} فَإِنَّهُ لَوْ مَسَّهَا مَسِيسًا خَالِيًا مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَجِبْ بِهِ عِدَّةٌ وَلَا يَسْتَقِرُّ بِهِ مَهْرٌ؛ وَلَا تَنْتَشِرُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ: بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بِخِلَافِ مَا لَوْ مَسَّ الْمَرْأَةَ لِشَهْوَةِ

ص: 233

وَلَمْ يَخْلُ بِهَا وَلَمْ يَطَأْهَا: فَفِي اسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ بِذَلِكَ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ لَمَسْتُمْ النِّسَاءَ يَتَنَاوَلُ اللَّمْسَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِشَهْوَةِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ اللُّغَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ بَلْ وَعَنْ لُغَةِ النَّاسِ فِي عُرْفِهِمْ فَإِنَّهُ إذَا ذُكِرَ الْمَسُّ الَّذِي يُقْرَنُ فِيهِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عُلِمَ أَنَّهُ مَسُّ الشَّهْوَةِ كَمَا أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ الْوَطْءُ الْمَقْرُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عُلِمَ أَنَّهُ الْوَطْءُ بِالْفَرْجِ لَا بِالْقَدَمِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ: إنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِلَمْسِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا؛ بَلْ بِصِنْفِ مِنْ النِّسَاءِ وَهُوَ مَا كَانَ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ. فَأَمَّا مَسُّ مَنْ لَا يَكُونُ مَظِنَّةً - كَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالصَّغِيرَةِ - فَلَا يُنْقَضُ بِهَا. فَقَدْ تَرَكَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الظَّاهِرِ وَاشْتَرَطَ شَرْطًا لَا أَصْلَ لَهُ بِنَصِّ وَلَا قِيَاسٍ؛ فَإِنَّ الْأُصُولَ الْمَنْصُوصَةَ تُفَرِّقُ بَيْنَ اللَّمْسِ لِشَهْوَةِ وَاللَّمْسِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَلْمُوسُ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ أَوْ لَا يَكُونَ وَهَذَا هُوَ الْمَسُّ الْمُؤَثِّرُ فِي الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا؛ كَالْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَلَا الْقِيَاسُ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ. وَأَمَّا مَنْ عَلَّقَ النَّقْضَ بِالشَّهْوَةِ فَالظَّاهِرُ الْمَعْرُوفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ دَلِيلٌ

ص: 234

لَهُ؛ وَقِيَاسُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ دَلِيلٌ. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّمْسَ نَاقِضًا بِحَالِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ اللَّمْسَ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَفِي السُّنَنِ: أَنَّ النَّبِيَّ {قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ؛} لَكِنْ تُكُلِّمَ فِيهِ. وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَسَّ النَّاسِ نِسَاءَهُمْ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَمَسُّ امْرَأَتَهُ؛ فَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لَكَانَ النَّبِيُّ بَيَّنَهُ لِأُمَّتِهِ؛ وَلَكَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِمُجَرَّدِ مُلَاقَاةِ يَدِهِ لِامْرَأَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ: فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ بَاطِلٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ مَسِّ النِّسَاءِ: هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ بِحَالِ. كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ.

ص: 235

وَالثَّانِي: أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ شَهْوَةٌ نَقَضَ وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَالثَّالِثُ: يَنْقُضُ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِشَهْوَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَعَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ كَالْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ قَوْلُ مَالِكٍ. وَالصَّحِيحُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَحَدُ قَوْلَيْنِ؛ إمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ عَدَمُ النَّقْضِ مُطْلَقًا؛ وَإِمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ النَّقْضُ إذَا كَانَ بِشَهْوَةِ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْوُضُوءِ مِنْ مُجَرَّدِ مَسِّ الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا رَوَى أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْ ذَلِكَ؛ مَعَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ غَالِبٌ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ فِيهِ أَحَدٌ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ يُنَاوِلُ امْرَأَتَهُ شَيْئًا وَتَأْخُذُهُ بِيَدِهَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ ابْتِلَاءُ النَّاسِ بِهِ فَلَوْ كَانَ الْوُضُوءُ مِنْ ذَلِكَ وَاجِبًا لَكَانَ النَّبِيُّ يَأْمُرُ بِذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَيَشِيعُ ذَلِكَ وَلَوْ فَعَلَ لَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُ وَلَوْ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ أَمَرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ - مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ - عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ

ص: 236

وَأَيْضًا فَلَوْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ لَكَانُوا يَنْقُلُونَهُ وَيَأْمُرُونَ بِهِ. وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ مُجَرَّدِ الْمَسِّ الْعَارِي عَنْ شَهْوَةٍ بَلْ تَنَازَعَ الصَّحَابَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ: الْجِمَاعُ وَيَقُولُونَ: اللَّهُ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يُكَنِّي بِمَا يَشَاءُ عَمَّا شَاءَ. وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. وَقَدْ تَنَازَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَالْعَرَبُ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْمَوَالِي هَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ أَوْ مَا دُونَهُ؟ فَقَالَتْ الْعَرَبُ: هُوَ الْجِمَاعُ. وَقَالَتْ: الْمَوَالِي هُوَ مَا دُونَهُ. وَتَحَاكَمُوا إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَصَوَّبَ الْعَرَبَ وَخَطَّأَ الْمَوَالِيَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: قُبْلَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَمَسُّهَا بِيَدِهِ مِنْ الْمُلَامَسَةِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ؛ لِكَوْنِهِمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ؛ فَيَتَأَوَّلَانِ الْآيَةَ عَلَى نَقْضِ الْوُضُوءِ. وَلَكِنْ قَدْ صُرِّحَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْجُنُبَ يَتَيَمَّمُ. وَقَدْ نَاظَرَ أَبُو مُوسَى ابْنَ مَسْعُودٍ بِالْآيَةِ فَلَمْ يُجِبْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِشَيْءِ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عَدَمِ اسْتِحْضَارِهِ لِمُوجَبِ الْآيَةِ.

ص: 237

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ الْأَكَابِرَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا النَّبِيَّ لَوْ كَانُوا يَتَوَضَّؤُونَ مَنْ مَسِّ نِسَائِهِمْ مُطْلَقًا؛ وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ: لَكَانَ هَذَا مِمَّا يَعْلَمُهُ بَعْضُ الصِّغَارِ؛ كَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَبَعْضُ التَّابِعِينَ فَإِذَا لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ صَاحِبٌ وَلَا تَابِعٌ: كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ الْقَوْمُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَالْآيَةُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْجِمَاعَ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ كَانَ أُرِيدَ بِهَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْجِمَاعِ فَيُقَالُ: حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مَسَّ النِّسَاءِ وَمُبَاشَرَتَهُنَّ وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَلَا يُرِيدُ بِهِ إلَّا مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ وَأَمَّا اللَّمْسُ الْعَارِي عَنْ ذَلِكَ فَلَا يُعَلِّقُ اللَّهُ بِهِ حُكْمًا مِنْ الْأَحْكَامِ أَصْلًا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فَنَهَى الْعَاكِفَ عَنْ مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ مَعَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَوْ مَسَّ امْرَأَتَهُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ {: أَنَّهُ كَانَ يُدْنِي رَأْسَهُ إلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَتُرَجِّلُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ مَسِّهِ لَهَا وَمَسِّهَا لَهُ. وَأَيْضًا فَالْإِحْرَامُ أَشَدُّ مِنْ الِاعْتِكَافِ وَلَوْ مَسَّتْهُ الْمَرْأَةُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَأْثَمْ بِذَلِكَ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ دَمٌ. وَهَذَا الْوَجْهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ ظَاهِرِ الْخِطَابِ؛ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَالِاعْتِبَارِ؛ فَإِنَّ خِطَابَ اللَّهِ تَعَالَى

ص: 238

فِي الْقُرْآنِ بِذِكْرِ اللَّمْسِ وَالْمَسِّ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلنِّسَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: لَا يَتَنَاوَلُ مَا تَجَرَّدَ عَنْ شَهْوَةٍ أَصْلًا وَلَمْ يَتَنَازَعْ الْمُسْلِمُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ وَالنِّزَاعُ فِيهَا مُتَأَخِّرٌ؛ فَيَكُونُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ قَاضِيًا عَلَى مَا تَنَازَعَ فِيهِ مُتَأَخِّرُوهُمْ. وَأَمَّا طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ فَإِنَّ اللَّمْسَ الْمُجَرَّدَ لَمْ يُعَلِّقْ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَا جَعَلَهُ مُوجِبًا لِأَمْرِ وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي عِبَادَةٍ وَلَا اعْتِكَافٍ وَلَا إحْرَامٍ؛ وَلَا صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ؛ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَلَا جَعَلَهُ يَنْشُرُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ؛ وَلَا يُثْبِتُ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ بَلْ هَذَا فِي الشَّرْعِ كَمَا لَوْ مَسَّ الْمَرْأَةَ مِنْ وَرَاءِ ثَوْبِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسِّ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ سَبَبًا لِإِيجَابِ شَيْءٍ وَلَا تَحْرِيمِ شَيْءٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ إيجَابُ الْوُضُوءِ بِهَذَا مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُسْتَقِرَّةِ مُخَالِفًا لِلْمَنْقُولِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَكَانَ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ؛ بَلْ الْمَعْلُومُ مِنْ السُّنَّةِ مُخَالَفَتُهُ بَلْ هَذَا أَضْعَفُ مِمَّنْ جَعَلَ الْمَنِيَّ نَجِسًا فَإِنَّ الْقَوْلَ بِنَجَاسَةِ الْمَنِيِّ ضَعِيفٌ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِغَسْلِ مَا يُصِيبُ بَدَنَهُ أَوْ ثِيَابَهُ مِنْ الْمَنِيِّ مَعَ كَثْرَةِ مَا كَانَ يُصِيبُ النَّاسَ مِنْ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ؛ وَقَدْ أَمَرَ الْحَائِضَ أَنْ تَغْسِلَ مَا أَصَابَ ثَوْبَهَا مِنْ الدَّمِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِإِصَابَةِ الْمَنِيِّ لِلرِّجَالِ؛ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ بَلْ كَانَ يَغْسِلُ وَيَمْسَحُ تَقَذُّرًا

ص: 239

كَمَا كَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها تَارَةً تَغْسِلُهُ وَتَارَةً تَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِهِ. وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولَانِ: أَمِطْهُ عَنْك وَلَوْ بإذخرة فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَكَانَتْ عَمْرَةُ تَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِهِ فَإِنْ كَانَ فِي اعْتِقَادِهِ نَجَاسَةُ الْمَنِيِّ فَهَذَا نِزَاعٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالسُّنَّةُ تَفْصِلُ بَيْنَهُمْ. فَإِذَا كَانَتْ نَجَاسَةُ الْمَنِيِّ ضَعِيفَةً فِي السُّنَّةِ لِكَوْنِ النَّبِيِّ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ لَكِنَّ هَذَا أَضْعَفُ لِكَوْنِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَحْكِ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُجَرَّدَ اللَّمْسِ الْعَارِي عَنْ الشَّهْوَةِ نَاقِضًا وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي اللَّمْسِ الْمُعْتَادِ لِلشَّهْوَةِ كَالْقُبْلَةِ وَالْغَمْزِ بِالْيَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْ جِنْسِ اللَّمْسِ كَمَسِّ النِّسَاءِ وَمَسِّ الذَّكَرِ إنْ لَمْ يُعَلَّلْ بِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ تَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ وَإِلَّا كَانَ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ فَأَمَّا إذَا عُلِّلَ بِتَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ كَانَ مُنَاسِبًا لِلْأُصُولِ وَهُنَا لِلْفُقَهَاءِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ خُرُوجِ النَّاقِضِ فَأُقِيمَتْ الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ. وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ الْمَظِنَّةَ إنَّمَا تُقَامُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ إذَا كَانَتْ الْحِكْمَةُ خَفِيَّةً وَكَانَتْ الْمَظِنَّةُ تُفْضِي إلَيْهَا غَالِبًا؛ وَكِلَاهُمَا مَعْدُومٌ؛ فَإِنَّ الْخَارِجَ لَوْ خَرَجَ لَعَلِمَ بِهِ الرَّجُلُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَسَّ الذَّكَرِ لَا يُوجِبُ خُرُوجَ شَيْءٍ فِي الْعَادَةِ أَصْلًا؛ فَإِنَّ الْمَنِيَّ إنَّمَا يَخْرُجُ بِالِاسْتِمْنَاءِ

ص: 240

وَذَلِكَ يُوجِبُ الْغُسْلَ وَالْمَذْيُ يَخْرُجُ عَقِيبَ تَفَكُّرٍ وَنَظَرٍ وَمَسِّ الْمَرْأَةِ لَا الذَّكَرِ؛ فَإِذَا كَانُوا لَا يُوجِبُونَ الْوُضُوءَ بِالنَّظَرِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ إفْضَاءً إلَى خُرُوجِ الْمَنِيِّ: فَبِمَسِّ الذَّكَرِ أَوْلَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: اللَّمْسُ سَبَبُ تَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ كَمَا فِي مَسِّ الْمَرْأَةِ وَتَحْرِيكُ الشَّهْوَةِ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ كَمَا يُتَوَضَّأُ مِنْ الْغَضَبِ وَأَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ الشَّيْطَانِ الَّذِي يُطْفَأُ بِالْوُضُوءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّمَا يَتَوَضَّأُ إذَا انْتَشَرَ انْتِشَارًا شَدِيدًا. وَكَذَلِكَ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: يَتَوَضَّأُ إذَا انْتَشَرَ لَكِنَّ هَذَا الْوُضُوءَ مِنْ اللَّمْسِ: هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ؛ فَإِنَّ مَسْأَلَةَ الذَّكَرِ لَهَا مَوْضِعٌ أُخَرُ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا مَسْأَلَةُ مَسِّ النِّسَاءِ. وَالْأَظْهَرُ أَيْضًا أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ وَهَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَبِهَذَا تَجْتَمِعُ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ بِحَمْلِ الْأَمْرِ بِهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لَيْسَ فِيهِ نَسْخُ قَوْلِهِ: {وَهَلْ هُوَ إلَّا بَضْعَةٌ مِنْك؟} وَحَمْلُ الْأَمْرُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ أَوْلَى مِنْ النَّسْخِ. وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ مُسْتَحَبٌّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي

ص: 241

مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَبِذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ أَمْرِهِ وَبَيْنَ تَرْكِهِ. فَأَمَّا النَّسْخُ فَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ بَلْ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ. وَكَذَلِكَ خُرُوجُ النَّجَاسَاتِ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ غَيْرَ السَّبِيلَيْنِ كَالْوُضُوءِ مِنْ الْقَيْءِ وَالرُّعَافِ وَالْحِجَامَةِ وَالْفِصَادِ وَالْجِرَاحِ: مُسْتَحَبٌّ كَمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ وَالصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ تَوَضَّئُوا مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْوَاجِبُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ مِنْ الْقَهْقَهَةِ مُسْتَحَبٌّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ فِي أَمْرِ الَّذِينَ قَهْقَهُوا بِالْوُضُوءِ: وَجْهُهُ أَنَّهُمْ أَذْنَبُوا بِالضَّحِكِ وَمُسْتَحَبٌّ لِكُلِّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَمَا جَاءَ فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إلَّا غَفَرَ لَهُ} . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ الرَّجُلِ يَمَسُّ الْمَرْأَةَ: هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

إنْ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْمَسِّ فَحَسَنٌ وَإِنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.

ص: 242

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله: (*)

إذَا مَسَّ يَدَ الصَّبِيِّ الْأَمْرَدِ: فَهَلْ هُوَ مَنْ جِنْسِ النِّسَاءِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ؟ وَمَا جَاءَ فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ الْحَسَنِ؟ وَهَلْ هَذَا الَّذِي يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ لِلشَّرِيعَةِ: إنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الصَّبِيِّ الْأَمْرَدِ عِبَادَةٌ وَإِذَا قَالَ لَهُمْ: أَحَدٌ هَذَا النَّظَرُ حَرَامٌ يَقُولُ: أَنَا إذَا نَظَرْت إلَى هَذَا أَقُولُ: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَهُ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ؟.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَمَسِّ النِّسَاءِ لِشَهْوَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَإِنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ يُفْسِدُ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَفْسُدُ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ: كَالصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَيُوجِبُ الْغُسْلَ

قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 174):

هنا أمور:

الأول: أن هذه الفتوى سبق أن ذكرت في: 15/ 410 - 427.

الثاني: أن النسخة التي نقلت عنه الفتوى هنا غير نسخة الفتوى هناك، وذلك لوجود الفروق بين النسختين، والنسخة هنا أصح منها هناك.

الثالث: يوجد هنا بعض التصحيفات والسقط، ومن ذلك:

1 -

21/ 243: (أحدهما: أنه كمس النساء لشهوة ينقض الوضوء. وهو المشهور من مذهب مالك، ذكره القاضى أبو يعلى في شرح المذهب).

سقط بعد ذلك قوله (وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي) كما في 15/ 411.

2 -

21/ 248: (وما ذاك لأنه دل على عظمة الخالق عنده)، والأظهر:(وما ذاك لأنه أدل) كما في 15/ 416.

3 -

21/ 250: (وعلى هذا [نظر] من لايميل قلبه إلى المرد). سقط ما بين المعقوفتين كما في: 15/ 418.

4 -

21/ 253: (ثم النظر يؤكد المحبة)، والأظهر:(ثم النظر يولد المحبة) كما في 15/ 421.

5 -

21/ 253: (وهذا إنما يبتلى به أهل الإعراض عن الإخلاص للَّه كما قال تعالى في حق يوسف: " كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ "). سقط بعد قوله الإخلاص لله: (الذين فيهم نوع من الشرك، وإلا فأهل الإخلاص كما قال تعالى. . .) كما في 15/ 421.

6 -

21/ 254: (وللمعشوق من الشفاء في مصالحه)، صواب العبارة (أو للمعشوق من السعي في مصالحه) كما في 15/ 422.

7 -

21/ 255: (مما يقتضي حلول نفس ذاته في مخلوقاته أو اتحاده بها، [فيقولون] في جميع المخلوقات نظير ما قالته النصارى في المسيح خاصة). سقط ما بين المعقوفتين كما في: 15/ 423.

ص: 243

كَمَا يُوجِبُهُ هَذَا فَتَكُونُ مُقَدِّمَاتُ هَذَا فِي بَاب الْعِبَادَاتِ كَمُقَدِّمَاتِ هَذَا. فَلَوْ مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ كَمَا لَوْ مَسَّ أَجْنَبِيَّةً لِشَهْوَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا مَسَّهُ لِشَهْوَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ مَسَّ الْمَرْأَةَ لِشَهْوَةِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ. وَاَلَّذِي لَمْ يَنْقُضْ الْوُضُوءَ بِمَسِّهِ يَقُولُ: إنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مَحَلًّا لِذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُ: لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ لِذَلِكَ وَأَنَّ الْفَاحِشَةَ اللُّوطِيَّةَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي بَابِ الْوَطْءِ؛ فَإِنْ وَطِئَ فِي الدُّبُرِ تَعَلَّقَ بِهِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَإِنْ كَانَ الدُّبُرُ لَمْ يُخْلَقْ مَحَلًّا لِلْوَطْءِ مَعَ أَنَّ نُفْرَةَ الطِّبَاعِ عَنْ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ أَعْظَمُ مَنْ نُفْرَتِهَا عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَنَقْضُ الْوُضُوءِ بِالْمَسِّ يُرَاعَى فِيهِ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَسُّ لِشَهْوَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا كَمَا يُرَاعَى مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَحَيْثُ وُجِدَ اللَّمْسُ لِشَهْوَةِ تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ حَتَّى لَوْ مَسَّ أُمَّهُ وَأُخْتَه وَبِنْتَه لِشَهْوَةِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ: فَكَذَلِكَ الْأَمْرَدُ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ فَيَعْتَبِرُ الْمَظِنَّةَ وَهُوَ: أَنَّ النِّسَاءَ مَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ سَوَاءٌ بِشَهْوَةِ أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ لَمْسُ الْمَحَارِمِ لَكِنْ لَوْ لَمَسَ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لِشَهْوَةِ فَقَدْ وُجِدَتْ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ؛ وَكَذَلِكَ إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ.

ص: 244

وَالتَّلَذُّذُ بِمَسِّ الْأَمْرَدِ كَمُصَافَحَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَحْرُمُ التَّلَذُّذُ بِمَسِّ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ التَّلَذُّذِ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ اللُّوطِيِّ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الزِّنَا بِالْأَجْنَبِيَّةِ فَيَجِبُ قَتْلُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَسَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا لِلْآخَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ وَعَمِلَ بِهِ أَصْحَابُهُ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ وَقَتْلُهُ بِالرَّجْمِ كَمَا قَتَلَ اللَّهُ قَوْمَ لُوطٍ بِالرَّجْمِ وَبِذَلِكَ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ فِي قَتْلِ الزَّانِي: أَنَّهُ يُرْجَمُ فَرَجَمَ النَّبِيُّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ والغامدية واليهوديين؛ وَالْمَرْأَةَ الَّتِي أَرْسَلَ إلَيْهَا أنيسا وَقَالَ: {اذْهَبْ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا} فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا. وَالنَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ لِشَهْوَةِ كَالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِالشَّهْوَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّهْوَةُ شَهْوَةَ الْوَطْءِ أَوْ شَهْوَةَ التَّلَذُّذِ بِالنَّظَرِ فَلَوْ نَظَرَ إلَى أُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَابْنَتِهِ يَتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا كَمَا يَتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ: كَانَ مَعْلُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ هَذَا حَرَامٌ فَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ عِبَادَةٌ كَقَوْلِهِ: إنَّ النَّظَرَ إلَى وُجُوهِ النِّسَاءِ أَوْ النَّظَرِ إلَى وُجُوهِ مَحَارِمِ الرَّجُلِ - كَبِنْتِ الرَّجُلِ

ص: 245

وَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ - عِبَادَةٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَعَلَ هَذَا النَّظَرَ الْمُحَرَّمَ عِبَادَةً كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ الْفَوَاحِشَ عِبَادَةً قَالَ تَعَالَى {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي صُوَرِ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالدِّلَالَةِ عَلَى الْخَالِقِ مَنْ جِنْسِ مَا فِي صُورَةِ الْمُرْدِ: فَهَلْ يَقُولُ مُسْلِمٌ: إنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَنْظُرَ بِهَذَا الْوَجْهِ إلَى صُوَرِ نِسَاءِ الْعَالَمِ وَصُوَرِ مَحَارِمِهِ وَيَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ؟ بَلْ مَنْ جَعَلَ مِثْلَ هَذَا النَّظَرَ عِبَادَةً فَإِنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ إعَانَةَ طَالِبِ الْفَوَاحِشِ عِبَادَةً؛ أَوْ جَعَلَ تَنَاوُلَ يَسِيرِ الْخَمْرِ عِبَادَةً؛ أَوْ جَعَلَ السُّكْرَ بِالْحَشِيشَةِ عِبَادَةً. فَمَنْ جَعَلَ الْمُعَاوَنَةَ عَلَى الْفَاحِشَةِ بِقِيَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا عِبَادَةً أَوْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ تَحْرِيمَهَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ عِبَادَةً: فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَهُوَ مُضَاهٍ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَفَاحِشَةُ أُولَئِكَ إنَّمَا كَانَتْ طَوَافَهُمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا نَطُوفُ فِي الثِّيَابِ الَّتِي عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً عَلَى وَجْهِ اجْتِنَابِ ثِيَابِ الْمَعْصِيَةِ وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُمْ مَا ذُكِرَ فَكَيْفَ بِمَنْ يَجْعَلُ جِنْسَ الْفَاحِشَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشَّهْوَةِ عِبَادَةً؟

ص: 246

وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِ‌

‌غَضِّ الْبَصَرِ

وَهُوَ نَوْعَانِ: غَضُّ الْبَصَرِ عَنْ الْعَوْرَةِ وَغَضُّهَا عَنْ مَحَلِّ الشَّهْوَةِ. فَالْأَوَّلُ كَغَضِّ الرَّجُلِ بَصَرَهُ عَنْ عَوْرَةِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ {: لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا تَنْظُرُ الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ} وَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ {لمعاوية بْنِ حَيْدَةَ: احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك قُلْت: فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا مَعَ قَوْمِهِ؟ قَالَ: إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا قُلْت: فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ} . وَيَجُوزُ أَنْ يَكْشِفَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ كَمَا يَكْشِفُ عِنْدَ التَّخَلِّي وَكَذَلِكَ إذَا اغْتَسَلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ بِجَنْبِ مَا يَسْتُرُهُ فَلَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ عريانا كَمَا اغْتَسَلَ مُوسَى عريانا وَأَيُّوبُ وَكَمَا فِي اغْتِسَالِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ وَاغْتِسَالِهِ فِي حَدِيث مَيْمُونَةَ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ النَّظَرِ: كَالنَّظَرِ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَهَذَا أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ أَشَدُّ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَعَلَى صَاحِبِهَا الْحَدُّ. وَتِلْكَ الْمُحَرَّمَاتُ إذَا تَنَاوَلَهَا غَيْرُ مُسْتَحِلٍّ لَهَا كَانَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ لَا تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ كَمَا تَشْتَهِي الْخَمْرَ وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ لَا يُشْتَهَى كَمَا يُشْتَهَى النَّظَرُ إلَى

ص: 247

النِّسَاءِ وَنَحْوِهِنَّ؛ وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى الْأَمْرَدِ بِشَهْوَةِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لِشَهْوَةِ وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ يُسَبَّحُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَخْلُوقَاتِهِ كُلِّهَا وَلَيْسَ خَلْقُ الْأَمْرَدِ بِأَعْجَبَ فِي قُدْرَتِهِ مَنْ خَلْقِ ذِي اللِّحْيَةِ وَلَا خَلْقُ النِّسَاءِ بِأَعْجَبَ فِي قُدْرَتِهِ مَنْ خَلْقِ الرِّجَالِ؛ بَلْ تَخْصِيصُ الْإِنْسَانِ التَّسْبِيحَ بِحَالِ نَظَرِهِ إلَى الْأَمْرَدِ دُونَ غَيْرِهِ: كَتَخْصِيصِهِ التَّسْبِيحَ بِنَظَرِهِ إلَى الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ وَمَا ذَاكَ لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى عَظَمَةِ الْخَالِقِ عِنْدَهُ وَلَكِنْ لِأَنَّ الْجَمَالَ يُغَيِّرُ قَلْبَهُ وَعَقْلَهُ وَقَدْ يُذْهِلُهُ مَا رَآهُ فَيَكُونُ تَسْبِيحُهُ بِمَا يَحْصُلُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْهَوَى. كَمَا أَنَّ النِّسْوَةَ لَمَّا رَأَيْنَ يُوسُفَ {أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إنْ هَذَا إلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ} وَإِذَا كَانَ اللَّهُ لَا يَنْظُرُ إلَى الصُّوَرِ وَالْأَمْوَالِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ: فَكَيْفَ يُفَضَّلُ الشَّخْصُ بِمَا لَمْ يُفَضِّلْهُ اللَّهُ بِهِ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ

ص: 248

هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تُعْجِبُ النَّاظِرَ أَجْسَامُهُمْ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْبَهَاءِ وَالرِّوَاءِ وَالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ - وَلَيْسُوا مِمَّنْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِشَهْوَةِ - قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا ذَكَرَ: فَكَيْفَ بِمَنْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِشَهْوَةِ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى؛ وَهُنَا الِاعْتِبَارُ بِقَلْبِهِ وَعَمَلِهِ لَا بِصُورَتِهِ وَقَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الصُّورَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُصَوِّرِ فَهَذَا حَسَنٌ. وَقَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اسْتِحْسَانِ خَلْقِهِ كَمَا يُنْظَرُ إلَى الْجَبَلِ وَالْبَهَائِمِ وَكَمَا يُنْظَرُ إلَى الْأَشْجَارِ: فَهَذَا أَيْضًا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ اسْتِحْسَانِ الدُّنْيَا وَالرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ فَهُوَ مَذْمُومٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} وَأَمَّا إنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُنْقِصُ الدِّينَ وَإِنَّمَا فِيهِ رَاحَةُ النَّفْسِ فَقَطْ - كَالنَّظَرِ إلَى الْأَزْهَارِ - فَهَذَا مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْحَقِّ. وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَتَى كَانَ مَعَهُ شَهْوَةٌ كَانَ حَرَامًا بِلَا رَيْبٍ سَوَاءٌ كَانَتْ شَهْوَةَ تَمَتُّعٍ بِنَظَرِ الشَّهْوَةِ أَوْ كَانَ نَظَرًا بِشَهْوَةِ الْوَطْءِ وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ نَظَرِهِ الْأَشْجَارَ وَالْأَزْهَارَ وَمَا يَجِدُهُ عِنْدَ نَظَرِهِ النسوان والمردان؛ فَلِهَذَا الْفَرْقَانِ افْتَرَقَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فَصَارَ النَّظَرُ إلَى الْمُرْدِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:

ص: 249

أَحَدُهَا: مَا يُقْرَنُ بِهِ الشَّهْوَةُ فَهُوَ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَالثَّانِي: مَا يُجْزَمُ أَنَّهُ لَا شَهْوَةَ مَعَهُ: كَنَظَرِ الرَّجُلِ الْوَرِعِ إلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ وَابْنَتِهِ الْحَسَنَةِ وَأُمِّهِ؛ فَهَذَا لَا يُقْرَنُ بِهِ شَهْوَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مَنْ أَفْجَرِ النَّاسِ وَمَتَى اقْتَرَنَتْ بِهِ الشَّهْوَةُ حَرُمَ. وَعَلَى هَذَا مَنْ لَا يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَى الْمُرْدِ - كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ؛ وَكَالْأُمَمِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْفَاحِشَةَ؛ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَبَيْنَ نَظَرِهِ إلَى ابْنِهِ وَابْنِ جَارِهِ وَصَبِيٍّ أَجْنَبِيٍّ وَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ الشَّهْوَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدْ ذَلِكَ وَهُوَ سَلِيمُ الْقَلْبِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَتْ الْإِمَاءُ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ يَمْشِينَ فِي الطُّرُقَاتِ وَهُنَّ مُتَكَشِّفَاتِ الرُّءُوسِ وَتَخْدِمُ الرِّجَالَ مَعَ سَلَامَةِ الْقُلُوبِ فَلَوْ أَرَادَ الرِّجُلُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِمَاءَ التُّرْكِيَّاتِ الْحِسَانَ يَمْشِينَ بَيْنَ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ وَالْأَوْقَاتِ كَمَا كَانَ أُولَئِكَ الْإِمَاءُ يَمْشِينَ: كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْفَسَادِ. وَكَذَلِكَ الْمُرْدُ الْحِسَانُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَخْرُجُوا فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ الَّتِي يُخَافُ فِيهَا الْفِتْنَةُ بِهِمْ إلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَلَا يُمَكَّنُ الْأَمْرَدُ الْحَسَنُ مِنْ التَّبَرُّجِ وَلَا مِنْ الْجُلُوسِ فِي الْحَمَّامِ بَيْنَ الْأَجَانِبِ وَلَا مِنْ رَقْصِهِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ فِتْنَةٌ لِلنَّاسِ وَالنَّظَرُ إلَيْهِ: كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ النَّظَرِ وَهُوَ:

ص: 250

النَّظَرُ إلَيْهِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَكِنْ مَعَ خَوْفِ ثَوَرَانِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد: أَصَحُّهُمَا - وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ثَوَرَانِهَا فَلَا يَحْرُمُ بِالشَّكِّ بَلْ قَدْ يُكْرَهُ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا أَنَّ الرَّاجِحَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَتْ الشَّهْوَةُ مُنْتَفِيَةً لَكِنْ لِأَنَّهُ يَخَافُ ثَوَرَانَهَا؛ وَلِهَذَا حَرُمَتْ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ فَإِنَّ الذَّرِيعَةَ إلَى الْفَسَادِ يَجِبُ سَدُّهَا إذَا لَمْ يُعَارِضْهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّظَرُ الَّذِي يُفْضِي إلَى الْفِتْنَةِ مُحَرَّمًا إلَّا إذَا كَانَ لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ مِثْلَ نَظَرِ الْخَاطِبِ وَالطَّبِيبِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ لِلْحَاجَةِ لَكِنْ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ. وَأَمَّا النَّظَرُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ إلَى مَحَلِّ الْفِتْنَةِ فَلَا يَجُوزُ. وَمَنْ كَرَّرَ النَّظَرَ إلَى الْأَمْرَدِ وَنَحْوِهِ أَوْ أَدَامَهُ وَقَالَ: إنِّي لَا أَنْظُرُ لِشَهْوَةِ: كَذَبَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ دَاعٍ يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى النَّظَرِ لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ إلَّا لِمَا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ مِنْ اللَّذَّةِ بِذَلِكَ وَأَمَّا نَظْرَةُ الْفَجْأَةِ فَهِيَ عَفْوٌ إذَا صَرَفَ بَصَرَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ:

ص: 251

اصْرِفْ بَصَرَك} وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ {قَالَ لِعَلِيِّ: يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الثَّانِيَةُ} . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمَسْنَدِ وَغَيْرِهِ: {النَّظَرُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ} وَفِيهِ: {مَنْ نَظَرَ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ ثُمَّ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْهَا أَوْرَثَ اللَّهُ قَلْبَهُ حَلَاوَةَ عِبَادَةٍ يَجِدُهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} - أَوْ كَمَا قَالَ - وَلِهَذَا يُقَالُ: إنَّ غَضَّ الْبَصَرِ عَنْ الصُّورَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْ النَّظَرِ إلَيْهَا - كَالْمَرْأَةِ وَالْأَمْرَدِ الْحَسَنِ - يُورِثُ ذَلِكَ ثَلَاثَ فَوَائِدَ جَلِيلَةَ الْقَدْرِ: إحْدَاهَا: حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ وَلَذَّتُهُ الَّتِي هِيَ أَحْلَى وَأَطْيَبُ مِمَا تَرَكَهُ لِلَّهِ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ وَالنَّفْسُ تُحِبُّ النَّظَرَ إلَى هَذِهِ الصُّوَرِ لَا سِيَّمَا نُفُوسُ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ وَالصَّفَا فَإِنَّهُ يَبْقَى فِيهَا رِقَّةٌ تُجْتَذَبُ بِسَبَبِهَا إلَى الصُّوَرِ حَتَّى تَبْقَى تَجْذِبُ أَحَدَهُمْ وَتَصْرَعُهُ كَمَا يَصْرَعُهُ السَّبُعُ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: مَا أَنَا عَلَى الشَّابِّ التَّائِبِ مِنْ سَبُعٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ بِأَخْوَفَ عَلَيْهِ مِنْ حَدَثٍ جَمِيلٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّقُوا النَّظَرَ إلَى أَوْلَادِ الْمُلُوكِ فَإِنَّ لَهُمْ فِتْنَةً كَفِتْنَةِ الْعَذَارَى. وَمَا زَالَ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ - كَشُيُوخِ الْهُدَى وَشُيُوخِ الطَّرِيقِ - يُوصُونَ بِتَرْكِ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ حَتَّى يُرْوَى عَنْ فَتْحٍ الموصلي أَنَّهُ قَالَ:

ص: 252

صَحِبْت ثَلَاثِينَ مِنْ الْأَبْدَالِ كُلُّهُمْ يُوصِينِي عِنْدَ فِرَاقِهِ بِتَرْكِ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا سَقَطَ عَبْدٌ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ إلَّا بِصُحْبَةِ هَؤُلَاءِ الْأَنَّتَانِ. ثُمَّ النَّظَرُ يُؤَكِّدُ الْمَحَبَّةَ فَيَكُونُ عِلَاقَةً لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ؛ ثُمَّ صَبَابَةً لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ إلَيْهِ؛ ثُمَّ غَرَامًا لِلُزُومِهِ لِلْقَلْبِ كَالْغَرِيمِ الْمُلَازِمِ لِغَرِيمِهِ؛ ثُمَّ عِشْقًا إلَى أَنْ يَصِيرَ تتيما وَالْمُتَيَّمُ الْمُعَبَّدُ وَتَيَّمَ اللَّهُ عَبْدَ اللَّهِ فَيَبْقَى الْقَلْبُ عَبْدًا لِمَنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَخًا بَلْ وَلَا خَادِمًا وَهَذَا إنَّمَا يُبْتَلَى بِهِ أَهْلُ الْأَعْرَاضِ عَنْ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فَامْرَأَةُ الْعَزِيزِ كَانَتْ مُشْرِكَةً فَوَقَعَتْ مَعَ تَزَوُّجِهَا فِيمَا وَقَعَتْ فِيهِ مِنْ السُّوءِ وَيُوسُفُ مَعَ عُزُوبَتِهِ وَمُرَاوَدَتِهَا لَهُ وَاسْتِعَانَتِهَا عَلَيْهِ بِالنِّسْوَةِ وَعُقُوبَتِهَا لَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى الْعِفَّةِ: عَصَمَهُ اللَّهُ بِإِخْلَاصِهِ لِلَّهِ؛ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} قَالَ تَعَالَى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وَالْغَيُّ هُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى. وَهَذَا الْبَابُ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ اتِّبَاعِ الْهَوَى. وَمَنْ أَمَرَ بِعِشْقِ الصُّوَرِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ كَابْنِ سِينَا وَذَوِيهِ أَوْ مِنْ الْفُرْسِ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِهِمْ؛ أَوْ مِنْ جُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ: فَإِنَّهُمْ أَهْلُ ضَلَالٍ وَغَيٍّ فَهُمْ مَعَ مُشَارَكَةِ الْيَهُودِ فِي الْغَيِّ وَالنَّصَارَى فِي الضَّلَالِ زَادُوا عَلَى الْأُمَّتَيْنِ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ

ص: 253

هَذَا وَإِنْ ظُنَّ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْعَاشِقِ كَتَطْلِيقِ نَفْسِهِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِ وَلِلْمَعْشُوقِ مِنْ الشِّفَاءِ فِي مَصَالِحِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَتَأْدِيبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: فَمَضَرَّةُ ذَلِكَ أَضْعَافُ مَنْفَعَتِهِ. وَأَيْنَ إثْمُ ذَلِكَ مِنْ مَنْفَعَتِهِ؟ وَإِنَّمَا هَذَا كَمَا يُقَالُ: إنَّ فِي الزِّنَا مَنْفَعَةً لِكُلِّ مِنْهُمَا بِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّلَذُّذِ وَالسُّرُورِ وَيَحْصُلُ لَهَا مِنْ الْجُعْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَمَا يُقَالُ: إنَّ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ مَنَافِعُ بَدَنِيَّةٌ وَنَفْسِيَّةٌ. وَقَدْ قَالَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: {قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} وَهَذَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ دَعْ مَا قَالَهُ عِنْدَ التَّحْرِيمِ وَبَعْدَهُ. وَبَابُ التَّعَلُّقِ بِالصُّوَرِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْفَوَاحِشِ وَبَاطِنُهُ مِنْ بَاطِنِ الْفَوَاحِشِ وَهُوَ مِنْ بَاطِنِ الْإِثْمِ قَالَ تَعَالَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وَقَدْ قَالَ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . وَلَيْسَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الدِّينِ نِزَاعٌ فِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُسْتَحَبِّ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ فَمَنْ جَعَلَهُ مَمْدُوحًا وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ بَلْ وَعَمَّا عَلَيْهِ عُقَلَاءُ بَنِي آدَمَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَهُوَ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وَقَدْ قَالَ

ص: 254

تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} . وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ إلَى الْمُرْدِ ظَانًّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى الْجَمَالِ الْإِلَهِيِّ وَجَعَلَ هَذَا طَرِيقًا لَهُ إلَى اللَّهِ - كَمَا يَفْعَلُهُ طَوَائِفُ مِنْ الْمُدَّعِينَ لِلْمَعْرِفَةِ - فَقَوْلُهُ هَذَا أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ قَوْلِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَمِنْ كُفْرِ قَوْمِ لُوطٍ فَهَؤُلَاءِ مِنْ شَرِّ الزَّنَادِقَةِ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ بِإِجْمَاعِ كُلِّ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ قَالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ اللَّهَ مَوْجُودًا فِي نَفْسِ الْأَصْنَامِ وَحَالًّا فِيهَا؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ بِظُهُورِهِ وَتَجَلِّيهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَيْهِ وَآيَاتٌ لَهُمْ؛ بَلْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ ظَهَرَ فِيهَا وَتَجَلَّى فِيهَا وَيُشَبِّهُونَ ذَلِكَ بِظُهُورِ الْمَاءِ فِي الزُّجَاجَةِ؛ وَالزُّبْدِ فِي اللَّبَنِ؛ وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ وَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي حُلُولَ نَفْسِ ذَاتِهِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ أَوْ اتِّحَادَهُ بِهَا فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ نَظِيرَ مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ خَاصَّةً يَجْعَلُونَ الْمُرْدَ مَظَاهِرَ الْجَمَالِ فَيُقَرِّرُونَ هَذَا الشِّرْكَ الْأَعْظَمَ طَرِيقًا إلَى اسْتِحْلَالِ الْفَوَاحِشِ بَلْ إلَى اسْتِحْلَالِ كُلِّ مُحَرَّمٍ كَمَا قِيلَ لِأَفْضَلِ مُتَأَخِّرِيهِمْ - التِّلْمِسَانِيّ -: إذَا كَانَ قَوْلُكُمْ بِأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ هُوَ الْحَقَّ. فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ أُمِّي وَأُخْتِي

ص: 255

وَابْنَتِي: تَكُونُ هَذِهِ حَلَالًا وَهَذِهِ حَرَامًا؟ فَقَالَ الْجَمِيعُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ لَكِنْ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا: حَرَامٌ. فَقُلْنَا: حَرَامٌ عَلَيْكُمْ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْحُلُولِيَّةِ والاتحادية مَنْ يَخُصُّ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ بِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ: إمَّا بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ كَالْمَسِيحِ؛ أَوْ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ كَقَوْلِ الْغَالِيَةِ فِي عَلِيٍّ؛ أَوْ بِبَعْضِ الشُّيُوخِ كَالْحَلَّاجِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ؛ أَوْ بِبَعْضِ الْمُلُوكِ؛ أَوْ بِبَعْضِ الصُّوَرِ كَصُوَرِ الْمُرْدِ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَنْظُرُ إلَى صِفَاتِ خَالِقِي وَأَشْهَدُهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَالْكُفْرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَوْ قَالَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامَ فِي نَبِيٍّ كَرِيمٍ لَكَانَ كَافِرًا: فَكَيْفَ إذَا قَالَهُ فِي صَبِيٍّ أَمْرَدَ؟ فَقَبَّحَ اللَّهُ طَائِفَةً يَكُونُ مَعْبُودُهَا مِنْ جِنْسِ مَوْطُوئِهَا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فَإِذَا كَانَ مَنْ اتَّخَذَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ كُفَّارًا: فَكَيْفَ بِمَنْ اتَّخَذَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ أَرْبَابًا مَعَ قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ فِيهَا أَوْ مُتَّحِدٌ بِهَا؟ فَوُجُودُهَا وَجُودُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ؟ . وَأَمَّا الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ فِي غَضِّ الْبَصَرِ فَهُوَ: أَنَّهُ يُورِثُ نُورَ الْقَلْبِ وَالْفِرَاسَةِ قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: {لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}

ص: 256

فَالتَّعَلُّقُ فِي الصُّوَرِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْلِ وَعَمَى الْبَصِيرَةِ وَسُكْرَ الْقَلْبِ بَلْ جُنُونَهُ كَمَا قِيلَ:

سكران: سُكْرُ هَوًى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ

فَمَتَى إفَاقَةُ مَنْ بِهِ سكران؟

وَقِيلَ:

قَالُوا جُنِنْت بِمَنْ تَهْوَى؟ فَقُلْت لَهُمْ

الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ

الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ

وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ

وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ آيَةَ النُّورِ عَقِيب آيَاتِ غَضِّ الْبَصَرِ فَقَالَ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَكَانَ شاه بْنُ شُجَاعٍ الكرماني لَا تُخْطِئُ لَهُ فِرَاسَةٌ وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ عَمَّرَ ظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَبَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ؛ وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ؛ وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ؛ وَذَكَرَ خَصْلَةً خَامِسَةً وَهِيَ أَكْلُ الْحَلَالِ: لَمْ تُخْطِئْ لَهُ فِرَاسَةٌ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْزِي الْعَبْدَ عَلَى عَمَلِهِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ فَغَضُّ بَصَرِهِ عَمَّا حَرُمَ يُعَوِّضُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِهِ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ؛ فَيُطْلِقُ نُورَ بَصِيرَتِهِ وَيَفْتَحُ عَلَيْهِ

ص: 257

بَابَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْكُشُوفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَنَالُ بِبَصِيرَةِ الْقَلْبِ. وَالْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قُوَّةُ الْقَلْبِ وَثَبَاتُهُ وَشَجَاعَتُهُ فَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ سُلْطَانَ النُّصْرَةِ مَعَ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ. وَفِي الْأَثَرِ: " الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرُقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ " وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي الْمُتَّبِعِ لِهَوَاهُ مِنْ الذُّلِّ - ذُلِّ النَّفْسِ وَضَعْفِهَا وَمَهَانَتِهَا - مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِمَنْ عَصَاهُ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْعِزَّةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَالذِّلَّةَ لِمَنْ عَصَاهُ قَالَ تَعَالَى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وَلِهَذَا كَانَ فِي كَلَامِ الشُّيُوخِ: النَّاسُ يَطْلُبُونَ الْعِزَّ مِنْ أَبْوَابِ الْمُلُوكِ وَلَا يَجِدُونَهُ إلَّا فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: وَإِنْ هَمْلَجَتْ بِهِمْ الْبَرَاذِينُ وَطَقْطَقْت بِهِمْ الْبِغَالُ فَإِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ فِي رِقَابِهِمْ يَأْبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ. وَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ وَالَاهُ فِيمَا أَطَاعَهُ فِيهِ وَمَنْ عَصَاهُ فَفِيهِ قِسْطٌ مِنْ فِعْلِ مَنْ عَادَاهُ بِمَعَاصِيهِ. وَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ: {أَنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْت وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْت.} وَالصُّوفِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ عِنْدَ الْأُمَّةِ الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَحِبُّونَ مِثْلَ هَذَا؛ بَلْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَلَهُمْ فِي الْكَلَامِ فِي ذَمِّ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ وَفِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْحُلُولِ وَبَيَانِ مُبَايَنَةِ الْخَالِقِ لِلْمَخْلُوقِ؛

ص: 258

مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَهُ مِنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ مِمَّنْ هُوَ عَاصٍ أَوْ فَاسِقٌ أَوْ كَافِرٌ؛ فَتَظَاهَرَ بِدَعْوَى الْوِلَايَةِ لِلَّهِ وَتَحْقِيقِ الْإِيمَانِ وَالْعِرْفَانِ وَهُوَ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْعَدَاوَةِ لِلَّهِ وَأَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبُهْتَانِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَجْعَلُ لِأَعْدَائِهِ الصَّفْقَةَ الْخَاسِرَةَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 259

وَسُئِلَ:

عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ: هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا. وَهَلْ حَدِيثُهُ مَنْسُوخٌ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه {أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: إنْ شِئْت فَتَوَضَّأْ وَإِنْ شِئْت فَلَا تَتَوَضَّأْ. قَالَ: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ . قَالَ: نَعَمْ تَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ. قَالَ: أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ . قَالَ: نَعَمْ قَالَ أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: لَا} . وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ. قَالَ أَحْمَد فِيهِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ: حَدِيثُ الْبَرَاءِ وَحَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ. وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: {تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلَا تَوَضَّؤُوا مِنْ

ص: 260

لُحُومِ الْغَنَمِ؛ وَصَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ} . وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ أَصَحُّ وَأَبْعَدُ عَنْ الْمُعَارِضِ مِنْ أَحَادِيثِ مَسِّ الذَّكَرِ وَأَحَادِيثِ الْقَهْقَهَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِ جَابِرٍ: كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ لَحْمِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ إذْ كِلَاهُمَا فِي مَسِّ النَّارِ سَوَاءٌ فَلَمَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَأَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ هَذَا وَخَيَّرَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ الْآخَرِ. عُلِمَ بُطْلَانُ هَذَا التَّعْلِيلِ. وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ مَسَّ النَّارِ فَنَسْخُ التَّوَضُّؤِ مِنْ ذَلِكَ لِأَمْرِ لَا يُوجِبُ نَسْخَ التَّوَضُّؤِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى بَلْ يُقَالُ: كَانَتْ لُحُومُ الْإِبِلِ أَوَّلًا يُتَوَضَّأُ مِنْهَا كَمَا يُتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ وَغَيْرِهَا. ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْأَمْرُ الْعَامُّ الْمُشْتَرَكُ. فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ لَحْمُ الْإِبِلِ فَلَوْ كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ لَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا فَكَيْفَ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ. يُؤَيِّدُ ذَلِكَ " الْوَجْهُ الثَّانِي " وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ كَانَ بَعْدَ نَسْخِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ فَإِنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ وَقَدْ أَمَرَ فِيهِ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ بَعْدَ النَّسْخِ.

ص: 261

الثَّالِثُ: أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْوُضُوءِ وَفِي الصَّلَاةِ فِي الْمَعَاطِنِ أَيْضًا وَهَذَا التَّفْرِيقُ ثَابِتٌ مُحْكَمٌ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ نَصٌّ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ فَدَعْوَى النَّسْخِ بَاطِلٌ بَلْ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ يُوجِبُ الْعَمَلَ فِيهِ بِالْوُضُوءِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.

الرَّابِعُ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْوُضُوءَ مِنْهُ نِيئًا وَمَطْبُوخًا وَذَلِكَ يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَنْسُوخًا.

الْخَامِسُ أَنَّهُ لَوْ أَتَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَصٌّ عَامٌّ بِقَوْلِهِ: لَا وُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لَمْ يَجُزْ جَعْلُهُ نَاسِخًا لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ قَبْلَهُ وَإِذَا تَعَارَضَ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ وَلَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ يَنْسَخُهُ بَلْ إمَّا أَنْ يُقَالَ الْخَاصُّ هُوَ الْمُقَدَّمُ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَإِمَّا أَنْ يُتَوَقَّفَ؛ بَلْ لَوْ عُلِمَ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ الْخَاصِّ لَكَانَ الْخَاصُّ مُقَدَّمًا. (الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْخَاصَّ بَعْدَ الْعَامِّ فَإِنْ كَانَ نَسْخٌ كَانَ الْخَاصُّ

ص: 262

نَاسِخًا. وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَاصَّ الْمُتَأَخِّرَ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ فَعُلِمَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ مِثْلُ هَذَا الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ؛ لَوْ كَانَ هُنَا لَفْظٌ عَامٌّ. كَيْفَ وَلَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ عَامٌّ يَنْسَخُ الْوُضُوءَ مِنْ كُلِّ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ. وَإِنَّمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح {أَنَّهُ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ} وَكَذَلِكَ {أُتِيَ بِالسَّوِيقِ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ لَمْ يَتَوَضَّأْ} وَهَذَا فِعْلٌ لَا عُمُومَ لَهُ فَإِنَّ التَّوَضُّؤَ مِنْ لَحْمِ الْغَنَمِ لَا يَجِبُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ. وَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ دَلِيلُ ذَلِكَ. وَأَمَّا جَابِرٌ فَإِنَّمَا نَقَلَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ} وَهَذَا نَقْلٌ لِفِعْلِهِ لَا لِقَوْلِهِ. فَإِذَا شَاهَدُوهُ قَدْ أَكَلَ لَحْمَ غَنَمٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ صَحَّ أَنْ يُقَالَ التَّرْكُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ وَالتَّرْكُ الْعَامُّ لَا يُحَاطُ بِهِ إلَّا بِدَوَامِ مُعَاشَرَتِهِ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْهُ التَّرْكُ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ. ثُمَّ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لَا يُوجِبُ تَرْكَهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَلَحْمُ الْإِبِلِ لَمْ يُتَوَضَّأْ مِنْهُ لِأَجْلِ مَسِّ النَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ بَلْ الْمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهِ وَيَتَنَاوَلُهُ نِيئًا وَمَطْبُوخًا فَبَيْنَ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ وَالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ. هَذَا أَعَمُّ مِنْ وَجْهٍ وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ. وَقَدْ يَتَّفِقُ الْوَجْهَانِ فَيَكُونُ لِلْحُكْمِ عِلَّتَانِ وَقَدْ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ التَّوَضُّؤِ مِنْ خُرُوجِ

ص: 263

النَّجَاسَةِ مَعَ الْوُضُوءِ مِنْ الْقُبْلَةِ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَبِّلُ فَيُمْذِي وَقَدْ يُقَبِّلُ فَلَا يُمْذِي وَقَدْ يُمْذِي مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ. فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ مِنْ مَسِّ النِّسَاءِ لَمْ يَنْفِ الْوُضُوءَ مِنْ الْمَذْيِ وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ وَهَذَا بَيِّنٌ. وَأَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْوُضُوءُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ غَسْلُ الْيَدِ أَوْ الْيَدِ وَالْفَمِ فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ. (أَحَدُهَا أَنَّ الْوُضُوءَ فِي كَلَامِ رَسُولِنَا صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرِدْ بِهِ قَطُّ إلَّا وُضُوءُ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي لُغَةِ الْيَهُودِ. كَمَا رُوِيَ: {أَنَّ سَلْمَانَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ. فَقَالَ: مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ} . فَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ تُنُوزِعَ فِي صِحَّتِهِ وَإِذَا كَانَ صَحِيحًا فَقَدْ أَجَابَ سَلْمَانُ بِاللُّغَةِ الَّتِي خَاطَبَهُ بِهَا لُغَةِ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَأَمَّا اللُّغَةُ الَّتِي خَاطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَا أَهْلَ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَرِدْ فِيهَا الْوُضُوءُ إلَّا فِي الْوُضُوءِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ.

الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ اللَّحْمَيْنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَسْلَ الْيَدِ وَالْفَمِ مِنْ الْغَمْرِ مَشْرُوعٌ مُطْلَقًا بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ مِنْ لَبَنٍ

ص: 264

شَرِبَهُ. وَقَالَ: {إنَّ لَهُ دَسَمًا} . وَقَالَ: {مَنْ بَاتَ وَبِيَدِهِ غَمْرٌ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ} فَإِذَا كَانَ قَدْ شَرَعَ ذَلِكَ مِنْ اللَّبَنِ وَالْغَمْرِ فَكَيْفَ لَا يُشَرِّعُهُ مِنْ لَحْمِ الْغَنَمِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ: إنْ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ امْتَنَعَ حَمْلُهُ عَلَى غَسْلِ الْيَدِ وَالْفَمِ وَإِنْ كَانَ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ امْتَنَعَ رَفْعُ الِاسْتِحْبَابِ عَنْ لَحْمِ الْغَنَمِ وَالْحَدِيثُ فِيهِ أَنَّهُ رَفَعَ عَنْ لَحْمِ الْغَنَمِ مَا أَثْبَتَهُ لِلَحْمِ الْإِبِلِ. وَهَذَا يُبْطِلُ كَوْنَهُ غَسَلَ الْيَدَ سَوَاءٌ كَانَ حُكْمُ الْحَدِيثِ إيجَابًا أَوْ اسْتِحْبَابًا.

الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ قَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِهَا مُفَرِّقًا بَيْنَ ذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا يُفْهَمُ مِنْهُ وُضُوءُ الصَّلَاةِ قَطْعًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْوُضُوءِ قُدْرَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ: فَهَلْ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ فِي اللَّوْحِ وَيَقْرَؤُهُ إنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ وَغَيْرِ وُضُوءٍ. أَمْ لَا؟ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} تَطْهِيرُ الْقَلْبِ وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ وَقَالَ: بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَجُوزُ

ص: 265

لَهُ أَنْ يَمَسَّ اللَّوْحَ أَوْ الْمُصْحَفَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَبَدًا فَهَلْ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ خِلَافٌ فِي هَذَا أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إذَا قَرَأَ فِي الْمُصْحَفِ أَوْ اللَّوْحِ وَلَمْ يَمَسَّهُ جَازَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ طَهُورٍ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ فِي اللَّوْحِ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

هَلْ يَجُوزُ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ إلَّا طَاهِرٌ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: {أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ} . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: لَا شَكَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَهُ لَهُ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا. وَلَا يُعْلَمُ لَهُمَا مَنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.

ص: 266

وَسُئِلَ:

عَنْ الْإِنْسَانِ إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ وَحَمَلَ الْمُصْحَفَ بِأَكْمَامِهِ لِيَقْرَأَ بِهِ وَيَرْفَعَهُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ هَلْ يُكْرَهُ ذَلِكَ؟ .

فَأَجَابَ: وَأَمَّا إذَا حَمَلَ الْإِنْسَانُ الْمُصْحَفَ بِكُمِّهِ فَلَا بَأْسَ وَلَكِنْ لَا يَمَسُّهُ بِيَدَيْهِ.

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ مَعَهُ مُصْحَفٌ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ كَيْفَ يَحْمِلُهُ؟ .

فَأَجَابَ:

وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مُصْحَفٌ فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ بَيْنَ قُمَاشِهِ وَفِي خَرْجِهِ وَحَمْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْقُمَاشُ لِرَجُلِ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ وَإِنْ كَانَ الْقُمَاشُ فَوْقَهُ أَوْ تَحْتَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 267

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

عَمَّا تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَتَانِ: الْغُسْلُ وَالْوُضُوءُ؟ .

فَأَجَابَ:

ذَلِكَ وَاجِبٌ لِلصَّلَاةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا وَاخْتُلِفَ فِي الطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ. وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ هَلْ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الصَّلَاةِ الَّتِي تَجِبُ لَهَا الطَّهَارَةُ؟ . وَأَمَّا الِاعْتِكَافُ فَمَا عَلِمْت أَحَدًا قَالَ إنَّهُ يَجِبُ لَهُ الْوُضُوءُ وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْحَائِضَ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَفِيهَا خِلَافٌ شَاذٌّ. فَمَذْهَبُ الْأَرْبَعَةِ تَجِبُ الطَّهَارَتَانِ لِهَذَا كُلِّهِ إلَّا الطَّوَافَ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ نِزَاعٌ. وَالْأَرْبَعَةُ أَيْضًا لَا يُجَوِّزُونَ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَلَا اللُّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى وُضُوءٍ وَتَنَازَعُوا فِي قِرَاءَةِ الْحَائِضِ وَفِي قِرَاءَةِ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ. وَفِي هَذَا نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ

ص: 268

الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ كَمَا قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: يَجُوزُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَاللُّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ هَذَا مَذْهَبُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ وَابْنِ حَزْمٍ. وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ. وَأَمَّا مَذْهَبُهُمْ فِيمَا تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَتَانِ؟ فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا لِصَلَاةِ: هِيَ رَكْعَتَانِ أَوْ رَكْعَةُ الْوِتْرِ أَوْ رَكْعَةٌ فِي الْخَوْفِ أَوْ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَلَا تَجِبُ عِنْدَهُ الطَّهَارَةُ لِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَيَجُوزُ عِنْدَهُ لِلْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ وَالْحَائِضِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالسُّجُودُ فِيهِ وَمَسُّ الْمُصْحَفِ قَالَ: لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ خَيْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا فَمَنْ ادَّعَى مَنْعَ هَؤُلَاءِ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَأَمَّا الطَّوَافُ فَلَا يَجُوزُ لِلْحَائِضِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الْحَدَثُ فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الْمَنَاسِكِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّخَعِي وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: أَنَّهُ يَجُوزُ الطَّوَافُ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ هَذَا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ أَوْ بَعْضِهِمْ. وَأَمَّا مَعَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ؛ لَكِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِيهِ لَا فَرْضٌ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.

ص: 269

وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رُكْنٌ فِيهِ. وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ أَنَّ مَسَّ الْمُصْحَفِ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ صَلَاةُ جِنَازَةٍ وَيَجُوزُ لَهُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ. فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ ثَابِتَةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا الطَّوَافُ فَلَا أَعْرِفُ السَّاعَةَ فِيهِ نَقْلًا خَاصًّا عَنْ الصَّحَابَةِ لَكِنْ إذَا جَازَ سُجُودُ التِّلَاوَةِ مَعَ الْحَدَثِ فَالطَّوَافُ أَوْلَى كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنْ التَّابِعِينَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " بَابِ سَجْدَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ " وَالْمُشْرِكُ نَجِسٌ لَيْسَ لَهُ وُضُوءٌ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ يَسْجُدُ عَلَى وُضُوءٍ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: الصَّوَابُ إثْبَاتُ غَيْرٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. ذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ. حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ يَعْنِي عُبَيْدَ بْنَ الْحَسَنِ - عَنْ رَجُلٍ زَعَمَ أَنَّهُ نَسِيَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَنْزِلُ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَيُهَرِيق الْمَاءَ ثُمَّ يَرْكَبُ فَيَقْرَأُ السَّجْدَةَ فَيَسْجُدُ وَمَا يَتَوَضَّأُ. وَذُكِرَ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ زَكَرِيَّا عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي الرَّجُلِ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ قَالَ: يَسْجُدُ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَائِضِ تَسْمَعُ السَّجْدَةَ فَقَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو قلابة وَالزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ

ص: 270

وقتادة: لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَسْجُدَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان قَالَ تُومِئُ بِرَأْسِهَا. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَالَ تُومِئُ وَتَقُولُ: لَك سَجَدْت. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ (ذَكَرَ مَنْ سَمِعَ السَّجْدَةَ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَتَوَضَّأُ وَيَسْجُدُ هَكَذَا قَالَ النَّخَعِي وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ النَّخَعِي قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيَسْجُدُ وَرَوَيْنَا عَنْ الشَّعْبِيِّ قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّهُ يَسْجُدُ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ تُومِئُ الْحَائِضُ بِالسُّجُودِ وَقَالَ سَعِيدٌ: وَتَقُولُ: رَبِّ لَك سَجَدْت وَعَنْ الشَّعْبِيِّ جَوَازُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ. وَأَمَّا (صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ} ". وَقَالَ: {صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ} " وَقَالَ: {صَلُّوا عَلَى النَّجَاشِيِّ} " سَمَّاهَا صَلَاةً وَلَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ وَلَا يُتَكَلَّمُ فِيهَا وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يُصَلِّي إلَّا طَاهِرًا وَلَا يُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبِهَا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ.

ص: 271

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: عَرَضَ الْبُخَارِيُّ لِلرَّدِّ عَلَى الشَّعْبِيِّ فَإِنَّهُ أَجَازَ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ قَالَ: لِأَنَّهَا دُعَاءٌ لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودَ وَالْفُقَهَاءُ مُجْمِعُونَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى شُذُوذِهِ وَأَجْمَعُوا أَنَّهَا لَا تُصَلَّى إلَّا إلَى الْقِبْلَةِ وَلَوْ كانت دُعَاءً كَمَا زَعَمَ الشَّعْبِيُّ لَجَازَتْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ. قَالَ: وَاحْتِجَاجُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ حَسَنٌ. قُلْت: فَالنِّزَاعُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَفِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ. قِيلَ: هُمَا جَمِيعًا لَيْسَا صَلَاةً كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ وَقِيلَ: هُمَا جَمِيعًا صَلَاةٌ تَجِبُ لَهُمَا الطَّهَارَةُ. وَالْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَالْقِيَاسُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْجِنَازَةِ وَالسُّجُودِ الْمُجَرَّدِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ} . وَهَذَا قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} الْآيَةَ وَقَدْ حَرَّمَ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَنَابَةِ وَالسُّكْرِ فِي قَوْلِهِ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ

ص: 272

وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} . وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَجِبُ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جريج: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى حَاجَتَهُ مِنْ الْخَلَاءِ فَقُرِّبَ لَهُ طَعَامٌ فَأَكَلَ وَلَمْ يَمَسَّ مَاءً} . قَالَ ابْنُ جريج وَزَادَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: إنَّك لَمْ تَتَوَضَّأْ. قَالَ: {مَا أَرَدْت صَلَاةً فَأَتَوَضَّأَ} قَالَ عَمْرُو: سَمِعْته مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ. وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الْوُضُوءَ لِلطَّوَافِ لَيْسَ مَعَهُمْ حُجَّةٌ أَصْلًا فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ؛ وَلَا ضَعِيفٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ لِلطَّوَافِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَدْ حَجَّ مَعَهُ خَلَائِقُ عَظِيمَةٌ وَقَدْ اعْتَمَرَ عُمَرًا مُتَعَدِّدَةً وَالنَّاسُ يَعْتَمِرُونَ مَعَهُ فَلَوْ كَانَ الْوُضُوءُ فَرْضًا لِلطَّوَافِ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيَانًا عَامًّا وَلَوْ بَيَّنَهُ لَنَقَلَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُ وَلَمْ يُهْمِلُوهُ وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ لَمَّا طَافَ تَوَضَّأَ} . وَهَذَا وَحْدَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقَدْ قَالَ إنِّي كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلَّا عَلَى طُهْرٍ فَيَتَيَمَّمُ لِرَدِّ السَّلَامِ.

ص: 273

وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ {لَمَّا خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ وَأَكَلَ وَهُوَ مُحْدِثٌ قِيلَ لَهُ: أَلَا تَتَوَضَّأُ؟ قَالَ: مَا أَرَدْت صَلَاةً فَأَتَوَضَّأَ} . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ إلَّا إذَا أَرَادَ صَلَاةً وَأَنَّ وُضُوءَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِوَاجِبِ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم {: مَا أَرَدْت صَلَاةً فَأَتَوَضَّأَ} لَيْسَ إنْكَارًا لِلْوُضُوءِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ لَكِنْ إنْكَارٌ لِإِيجَابِ الْوُضُوءِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ بَعْضَ الْحَاضِرِينَ قَالَ لَهُ: أَلَا تَتَوَضَّأُ؟ فَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ ظَنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ لِلْأَكْلِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم {مَا أَرَدْت صَلَاةً فَأَتَوَضَّأَ} فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ إنَّمَا فَرَضَ اللَّهُ الْوُضُوءَ عَلَى مَنْ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى: {الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ فَمَنْ تَكَلَّمَ فَلَا يَتَكَلَّمْ إلَّا بِخَيْرِ} قَدْ رَوَاهُ النَّسَائِي وَهُوَ يُرْوَى مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ لَا يُصَحِّحُونَهُ إلَّا مَوْقُوفًا وَيَجْعَلُونَهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يُثْبِتُونَ رَفْعَهُ وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الطَّوَافَ نَوْعٌ مِنْ الصَّلَاةِ: كَصَلَاةِ الْعِيدِ وَالْجَنَائِزِ؛ وَلَا أَنَّهُ مِثْلُ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا فَإِنَّ الطَّوَافَ يُبَاحُ فِيهِ الْكَلَامُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَلَا تَسْلِيمَ فِيهِ وَلَا يُبْطِلُهُ الضَّحِكُ وَالْقَهْقَهَةُ وَلَا تَجِبُ فِيهِ الْقِرَاءَةُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْجِنَازَةِ فَإِنَّ الْجِنَازَةَ فِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ فَتُفْتَحُ بِالتَّكْبِيرِ وَتُخْتَمُ بِالتَّسْلِيمِ.

ص: 274

وَهَذَا حَدُّ الصَّلَاةِ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا بِالْوُضُوءِ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم {مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ} وَالطَّوَافُ لَيْسَ لَهُ تَحْرِيمٌ وَلَا تَحْلِيلٌ وَإِنْ كَبَّرَ فِي أَوَّلِهِ فَكَمَا يُكَبِّرُ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَعِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَحْرِيمًا وَلِهَذَا يُكَبِّرُ كُلَّمَا حَاذَى الرُّكْنَ وَالصَّلَاةُ لَهَا تَحْرِيمٌ؛ لِأَنَّهُ بِتَكْبِيرِهَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُصَلِّي مَا كَانَ حَلَالًا لَهُ مِنْ الْكَلَامِ أَوْ الْأَكْلِ أَوْ الضَّحِكِ أَوْ الشُّرْبِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَالطَّوَافُ لَا يُحَرِّمُ شَيْئًا بَلْ كُلُّ مَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الطَّوَافِ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ مُبَاحٌ فِي الطَّوَافِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ عَنْ مَقْصُودِ الطَّوَافِ كَمَا يُكْرَهُ فِي عَرَفَةَ وَعِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ وَلَا يُعْرَفُ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ [فِي](1) أَنَّ الطَّوَافَ لَا يَبْطُلُ بِالْكَلَامِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْقَهْقَهَةِ كَمَا لَا يَبْطُلُ غَيْرُهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ بِذَلِكَ وَكَمَا لَا يَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ بِذَلِكَ. وَالِاعْتِكَافُ يُسْتَحَبُّ لَهُ طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَلَا يَجِبُ فَلَوْ قَعَدَ الْمُعْتَكِفُ وَهُوَ مُحْدِثٌ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَحْرُمْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا فَإِنَّ هَذَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ الْجُمْهُورُ كَمَنْعِهِمْ الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ مِنْ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ لَا لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ؛ وَلِهَذَا إذَا خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ لِلِاغْتِسَالِ كَانَ حُكْمُ اعْتِكَافِهِ عَلَيْهِ فِي حَالِ خُرُوجِهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مُبَاشَرَةُ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ. وَمَنْ جَوَّزَ لَهُ اللُّبْثَ مَعَ الْوُضُوءِ جَوَّزَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَتَوَضَّأَ

(1)

ما بين معقوفتين غير موجود في المطبوع

أسامة بن الزهراء - منسق الكتاب للموسوعة الشاملة

ص: 275

وَيَلْبَثَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ. وَاَلَّذِي ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى الْحَائِضَ عَنْ الطَّوَافِ وَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ فَأَمَرَ أَنْ يُنَادِيَ: {أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عريان} . وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ وَكَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَيَقُولُونَ: ثِيَابٌ عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا فَلَا نَطُوفُ فِيهَا إلَّا الْحَمْسَ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا. وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وَقَوْلُهُ {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} مِثْلَ طَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ.} وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ يَجِبُ مُطْلَقًا خُصُوصًا إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالنَّاسُ يَرَوْنَهُ فَلَمْ يَجِبْ ذَلِكَ لِخُصُوصِ الطَّوَافِ؛ لَكِنَّ الِاسْتِتَارَ فِي حَالِ الطَّوَافِ أَوْكَدُ لِكَثْرَةِ مَنْ يَرَاهُ وَقْتَ الطَّوَافِ فَيَنْبَغِي النَّظَرُ فِي مَعْرِفَةِ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَهُوَ أَنْ يُعْرَفَ مُسَمَّى الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يَقْبَلُهَا اللَّهُ إلَّا بِطُهُورِ الَّتِي أُمِرَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَيْهَا. وَقَدْ فَسَّرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ} . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَتَانِ:

ص: 276

إحْدَاهُمَا: أَنَّ الصَّلَاةَ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ فَمَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُهُ التَّكْبِيرَ وَتَحْلِيلُهُ التَّسْلِيمَ لَمْ يَكُنْ مِنْ الصَّلَاةِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ هِيَ الصَّلَاةُ الَّتِي مِفْتَاحُهَا الطُّهُورُ فَكُلُّ صَلَاةٍ مِفْتَاحُهَا الطُّهُورُ فَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ فَمَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُهُ التَّكْبِيرَ وَتَحْلِيلُهُ التَّسْلِيمَ فَلَيْسَ مِفْتَاحُهُ الطَّهُورَ فَدَخَلَتْ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فِي هَذَا فَإِنَّ مِفْتَاحَهَا الطُّهُورُ وَتَحْرِيمَهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلَهَا التَّسْلِيمُ. وَأَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ: فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ فِيهِ تَسْلِيمًا وَلَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يَعْرِفُونَ فِيهِ التَّسْلِيمَ. وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ لَا يُسَلِّمُ فِيهِ؛ لِعَدَمِ وُرُودِ الْأَثَرِ بِذَلِكَ. وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يُسَلِّمُ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِنَصِّ بَلْ بِالْقِيَاسِ وَكَذَلِكَ مَنْ رَأَى فِيهِ تَسْلِيمًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَيْسَ مَعَهُ نَصٌّ؛ بَلْ الْقِيَاسُ أَوْ قَوْلُ بَعْضِ التَّابِعِينَ. وَقَدْ تَكَلَّمَ الْخَطَّابِيَّ عَلَى حَدِيثِ نَافِعٍ عَنْ {ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا مَعَهُ} . قَالَ: فِيهِ بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُكَبِّرَ

ص: 277

لِلسُّجُودِ وَعَلَى هَذَا مَذَاهِبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ يُكَبِّرُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ قَالَ: وَكَانَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ يَقُولَانِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ. وَعَنْ ابْنِ سِيرِين وَعَطَاءٍ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ يُسَلِّمُ. وَبِهِ قَالَ إسْحَاقُ بْن رَاهَوَيْه. قَالَ: وَاحْتَجَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ. وَكَانَ أَحْمَدُ لَا يَعْرِفُ - وَفِي لَفْظٍ - لَا يَرَى التَّسْلِيمَ فِي هَذَا. قُلْت: وَهَذِهِ الْحُجَّةُ إنَّمَا تَسْتَقِيمُ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الصَّلَاةِ لَكِنْ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِهَذَا عَلَى مَنْ يُسَلِّمُ أَنَّهَا صَلَاةٌ فَيَتَنَاقَضُ قَوْلُهُ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَلَيْسَ فِيهِ التَّكْبِيرُ. قَالَ: {كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِيهَا السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ حَتْي مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَوْضِعَ جَبْهَتِهِ. وَفِي لَفْظٍ - حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا لِجَبْهَتِهِ} . فَابْنُ عُمَرَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَذْكُرْ تَسْلِيمًا وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لِأَصْحَابِهِ أَنَّ السُّجُودَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى وُضُوءٍ لَكَانَ هَذَا مِمَّا يَعْلَمُهُ عَامَّتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ

ص: 278

كَانُوا يَسْجُدُونَ مَعَهُ وَكَانَ هَذَا شَائِعًا فِي الصَّحَابَةِ فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَوْجَبَ الطَّهَارَةَ لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ أَعْلَمِهِمْ وَأَفْقَهِهِمْ وأتبعهم لِلسُّنَّةِ وَقَدْ بَقِيَ إلَى آخِرِ الْأَمْرِ وَيَسْجُدُ لِلتِّلَاوَةِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ كَانَ هُوَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ أَنَّ الطَّهَارَةَ وَاجِبَةٌ لَهَا. وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا أَوْجَبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَكَانَ ذَلِكَ شَائِعًا بَيْنَهُمْ كَشِيَاعِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَابْنُ عُمَرَ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْجَبَ الطَّهَارَةَ فِيهَا وَلَكِنَّ سُجُودَهَا عَلَى الطَّهَارَةِ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ يُكْرَهُ سُجُودَهَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ مُسَلِّمٌ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَيَمَّمَ وَقَالَ كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلَّا عَلَى طُهْرٍ فَالسُّجُودُ أَوْكَدُ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ. لَكِنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ إذَا قَرَأَ وَهُوَ مُحْدِثٌ يَحْرُمْ عَلَيْهِ السُّجُودُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْجُدَ لِلَّهِ إلَّا بِطَهَارَةِ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَمَا ذُكِرَ أَيْضًا يَدُلُّ: عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْكِتَابِ} وَالطَّوَافُ وَالسُّجُودُ لَا يُقْرَأُ فِيهِمَا بِأُمِّ الْكِتَابِ وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم {إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ} وَالْكَلَامُ يَجُوزُ فِي الطَّوَافِ

ص: 279

وَالطَّوَافُ أَيْضًا لَيْسَ فِيهِ تَسْلِيمٌ لَكِنْ يُفْتَتَحُ بِالتَّكْبِيرِ كَمَا يُسْجَدُ لِلتِّلَاوَةِ بِالتَّكْبِيرِ وَمُجَرَّدُ الِافْتِتَاحِ بِالتَّكْبِيرِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُفْتَتَحُ صَلَاةً. فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءِ بِيَدِهِ وَكَبَّرَ} . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ: أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَعِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ؛ وَلِأَنَّ الطَّوَافَ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. (وَأَمَّا الْحَائِضُ: فَقَدْ قِيلَ إنَّمَا مُنِعَتْ مِنْ الطَّوَافِ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ كَمَا تُمْنَعُ مِنْ الِاعْتِكَافِ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فَأَمَرَ بِتَطْهِيرِهِ فَتُمْنَعُ مِنْهُ الْحَائِضُ مِنْ الطَّوَافِ وَغَيْرِ الطَّوَافِ. وَهَذَا مِنْ سِرِّ قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الطَّهَارَةَ وَاجِبَةً فِيهِ وَيَقُولُ إذَا طَافَتْ وَهِيَ حَائِضٌ عَصَتْ بِدُخُولِ الْمَسْجِدِ مَعَ الْحَيْضِ وَلَا يَجْعَلُ طَهَارَتَهَا لِلطَّوَافِ كَطِهَارَتِهَا لِلصَّلَاةِ بَلْ يَجْعَلُهُ مِنْ جِنْسِ مَنْعِهَا أَنْ تَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ؛ وَلِهَذَا لَمْ تُمْنَعْ الْحَائِضُ مِنْ سَائِرِ الْمَنَاسِكِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ} وَقَالَ لِعَائِشَةَ: {افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ} . وَلَمَّا قِيلَ لَهُ عَنْ صَفِيَّةَ: أَنَّهَا حَائِضٌ قَالَ: {أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ . قِيلَ لَهُ: إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ قَالَ: فَلَا إذًا} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ص: 280

وَقَدْ اعْتَرَضَ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى احْتِجَاجِ الْبُخَارِيِّ بِجَوَازِ السُّجُودِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ النَّجْمَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ} وَهَذَا السُّجُودُ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ النَّجْمَ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا قَالَ: فَرَأَيْته بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا} . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ هَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ سُجُودَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ وَإِنَّمَا كَانَ لِمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} فَقَالَ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ قَدْ تُرْتَجَى فَسَجَدُوا لَمَّا سَمِعُوا مِنْ تَعْظِيمِ آلِهَتِهِمْ. فَلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ ذَلِكَ أَشْفَقَ وَحَزِنَ لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَأْنِيسًا لَهُ وَتَسْلِيَةً عَمَّا عَرَضَ لَهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ إذَا تَلَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ. فَلَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ سُجُودِ الْمُشْرِكِينَ جَوَازُ السُّجُودِ عَلَى غَيْرِ

ص: 281

وُضُوءٍ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ نَجَسٌ لَا يَصِحُّ لَهُ وُضُوءٌ وَلَا سُجُودٌ إلَّا بَعْدَ عِقْدِ الْإِسْلَامِ. فَيُقَالُ: هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا سَجَدُوا لَمَّا قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} {وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} فَسَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ امْتِثَالًا لِهَذَا الْأَمْرِ وَهُوَ السُّجُودُ لِلَّهِ وَالْمُشْرِكُونَ تَابَعُوهُ فِي السُّجُودِ لِلَّهِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّمَنِّي إذَا كَانَ صَحِيحًا فَإِنَّهُ هُوَ كَانَ سَبَبَ مُوَافَقَتِهِمْ لَهُ فِي السُّجُودِ لِلَّهِ وَلِهَذَا لَمَّا جَرَى هَذَا بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ بِالْحَبَشَةِ ذَلِكَ فَرَجَعَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ إلَى مَكَّةَ وَالْمُشْرِكُونَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَتَعْظِيمَهُ وَلَكِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فَكَانَ هَذَا السُّجُودُ مِنْ عِبَادَتِهِمْ لِلَّهِ وَقَدْ قَالَ: سَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا سُجُودَ إلَّا بَعْدَ عَقْدِ الْإِسْلَامِ فَسُجُودُ الْكَافِرِ بِمَنْزِلَةِ دُعَائِهِ لِلَّهِ وَذِكْرِهِ لَهُ وَبِمَنْزِلَةِ صَدَقَتِهِ وَبِمَنْزِلَةِ حَجِّهِمْ لِلَّهِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ فَالْكُفَّارُ قَدْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَمَا فَعَلُوهُ مِنْ خَيْرٍ أُثِيبُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ مَاتُوا عَلَى الْإِيمَانِ فَهَلْ

ص: 282

يُثَابُونَ عَلَى مَا فَعَلُوهُ فِي الْكُفْرِ. فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ يُثَابُونَ عَلَى ذَلِكَ {لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: أَسْلَمْت عَلَى مَا أَسْلَفْت مِنْ خَيْرٍ} وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَهُمْ صَلَاةٌ وَسُجُودٌ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إذَا مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ. وَأَيْضًا فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ عَنْ سُجُودِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} وَذَلِكَ سُجُودٌ مَعَ إيمَانِهِمْ وَهُوَ مِمَّا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَأَدْخَلَهُمْ بِهِ الْجَنَّةَ وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى طَهَارَةٍ. وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بِنَسْخِهِ. وَلَوْ قُرِئَ الْقُرْآنُ عَلَى كُفَّارٍ فَسَجَدُوا لِلَّهِ سُجُودَ إيمَانٍ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَوْ رَأَوْا آيَةً مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ فَسَجَدُوا لِلَّهِ مُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ لَنَفَعَهُمْ ذَلِكَ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ السُّجُودَ يُشْرَعُ مُنْفَرِدًا عَنْ الصَّلَاةِ كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَسُجُودِ الشُّكْرِ وَكَالسُّجُودِ عِنْدَ الْآيَاتِ فَإِنَّ {ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُ بَعْضِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ سَجَدَ وَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا إذَا رَأَيْنَا آيَةً أَنْ نَسْجُدَ} .

ص: 283

وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي السُّجُودِ الْمُطْلَقِ لِغَيْرِ سَبَبٍ هَلْ هُوَ عِبَادَةٌ أَمْ لَا؟ وَمَنْ سَوَّغَهُ يَقُولُ: هُوَ خُضُوعٌ لِلَّهِ وَالسُّجُودُ هُوَ الْخُضُوعُ قَالَ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ السُّجُودُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْخُضُوعُ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا رُكَّعًا مُنْحَنِينَ فَإِنَّ الدُّخُولَ مَعَ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ لَيْسَ سُجُودُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَضْعَ جِبَاهِهَا عَلَى الْأَرْضِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ لَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ: {إنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. فَعُلِمَ أَنَّ السُّجُودَ اسْمُ جِنْسٍ وَهُوَ كَمَالُ الْخُضُوعِ لِلَّهِ وَأَعَزُّ مَا فِي الْإِنْسَانِ وَجْهُهُ فَوَضْعُهُ عَلَى الْأَرْضِ لِلَّهِ غَايَةُ خُضُوعِهِ بِبَدَنِهِ وَهُوَ غَايَةُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} فَصَارَ مِنْ جِنْسِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُشْرَعُ خَارِجَ الصَّلَاةِ كَالتَّسْبِيحِ؛ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الطَّهَارَةُ.

ص: 284

وَيَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ فِعْلُ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَا يُفْعَلُ إلَّا فِي الصَّلَاةِ كَالرُّكُوعِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا جُزْءًا مِنْ الصَّلَاةِ. وَأَفْضَلُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ السُّجُودُ وَأَفْضَلُ أَقْوَالِهَا الْقِرَاءَةُ وَكِلَاهُمَا مَشْرُوعٌ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَيُسِّرَتْ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ لَكِنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فَاشْتُرِطَ لَهَا أَفْضَلُ الْأَحْوَالِ. وَاشْتُرِطَ لِلْفَرْضِ مَا لَمْ يُشْتَرَطْ لِلنَّفْلِ. مِنْ الْقِيَامِ وَالِاسْتِقْبَالِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَجَازَ التَّطَوُّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ كَمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ {كَانَ يَتَطَوَّعُ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ} . وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ صَلَاةٌ بِلَا قِيَامٍ وَلَا اسْتِقْبَالٍ لِلْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِلْمُتَطَوِّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَّا كَذَلِكَ فَلَوْ نُهِيَ عَنْ التَّطَوُّعِ أَفْضَى إلَى تَفْوِيتِ عِبَادَةِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا كَذَلِكَ؛ بِخِلَافِ الْفَرْضِ. فَإِنَّهُ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْزِلَ لَهُ وَلَا يَقْطَعُهُ ذَلِكَ عَنْ سَفَرِهِ. وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ النُّزُولُ لِقِتَالِ أَوْ مَرَضٍ أَوْ وَحْلٍ صَلَّى عَلَى الدَّابَّةِ أَيْضًا. وَرُخِّصَ فِي التَّطَوُّعِ جَالِسًا؛ لَكِنْ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فَإِنَّ الِاسْتِقْبَالَ يُمْكِنُهُ مَعَ الْجُلُوسِ. فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِخِلَافِ تَكْلِيفِهِ الْقِيَامَ فَإِنَّهُ قَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّطَوُّعِ وَكَانَ ذَلِكَ تَيْسِيرًا لِلصَّلَاةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَأَوْجَبَ اللَّهُ فِي الْفَرْضِ مَا لَا يَجِبُ فِي النَّفْلِ.

ص: 285

وَكَذَلِكَ السُّجُودُ دُونَ صَلَاةِ النَّفْلِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهُ قَاعِدًا وَإِنْ كَانَ الْقِيَامُ أَفْضَلَ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَكْمَلُ مِنْ النَّفْلِ مِنْ وَجْهٍ فَاشْتُرِطَ لَهَا الْقِيَامُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَذَّرُ وَصَلَاةُ النَّافِلَةِ فِيهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ فَهِيَ أَكْمَلُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ هُوَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَا فِيهَا مِنْ الذِّكْرِ دُعَاءً. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْعُلَمَاءُ: هَلْ فِيهَا قِرَاءَةٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ وَلَمْ يُوَقِّتْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا دُعَاءً بِعَيْنِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يتوقت فِيهَا وُجُوبُ شَيْءٍ مِنْ الْأَذْكَارِ وَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا سُنَّةً كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَالنَّاسُ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ: قِيلَ: تُكْرَهُ. وَقِيلَ: تَجِبُ. وَالْأَشْبَهُ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ لَا تُكْرَهُ وَلَا تَجِبُ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا قُرْآنٌ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ فَلَوْ كَانَتْ الْفَاتِحَةُ وَاجِبَةً فِيهَا كَمَا تَجِبُ فِي الصَّلَاةِ التَّامَّةِ لَشُرِعَ فِيهَا قِرَاءَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْفَاتِحَةِ. وَلِأَنَّ الْفَاتِحَةَ نِصْفُهَا ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَنِصْفُهَا دُعَاءٌ لِلْمُصَلِّي نَفْسِهِ لَا دُعَاءٌ لِلْمَيِّتِ وَالْوَاجِبُ فِيهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ وَمَا كَانَ تَتِمَّةً كَذَلِكَ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ فِيهَا سَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً لِنَقْصِهَا عَنْ الصَّلَاةِ التَّامَّةِ. وَقَوْلُهُ: {مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَا يَقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ}

ص: 286

يُقَالُ الصَّلَاةُ الْمُطْلَقَةُ هِيَ الَّتِي فِيهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ بِدَلِيلِ مَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةً. وَهَذِهِ صَلَاةٌ تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ} لَكِنَّهَا تُقَيَّدُ. يُقَالُ: صَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَيُقَالُ صَلُّوا عَلَى الْمَيِّتِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} . وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ قَدْ بَيَّنَهَا الشَّارِعُ إنَّهَا دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} تِلْكَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهَا الدُّعَاءُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ تَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلٌ وَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَلَا يُمْنَعُ فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ. وَالسُّجُودُ الْمُجَرَّدُ لَا يُسَمَّى صَلَاةً لَا مُطْلَقًا وَلَا مُقَيَّدًا؛ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ صَلَاةُ التِّلَاوَةِ وَلَا صَلَاةُ الشُّكْرِ فَلِهَذَا لَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ: {لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ} " وَقَوْلِهِ: {لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ} فَإِنَّ السُّجُودَ مَقْصُودُهُ الْخُضُوعُ وَالذُّلُّ لَهُ. وَقِيلَ لِسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري: أَيَسْجُدُ الْقَلْبُ؟ قَالَ: نَعَمْ سَجْدَةً لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْهَا أَبَدًا. وَمُسَمَّى الصَّلَاةِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الدُّعَاءِ فَلَا يَكُونُ مُصَلِّيًا إلَّا بِدُعَاءِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ وَالصَّلَاةُ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قُرْآنٍ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إنِّي نُهِيت أَنْ

ص: 287

أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا} فَالسُّجُودُ لَا يَكُونُ فِيهِ قُرْآنٌ وَصَلَاةُ التَّقَرُّبِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قُرْآنٍ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الَّتِي مَقْصُودُهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ فَإِنَّهَا بِقُرْآنِ أَكْمَلُ وَلَكِنَّ مَقْصُودَهَا يَحْصُلُ بِغَيْرِ قُرْآنٍ. وَأَمَّا مَسُّ الْمُصْحَفِ: فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ لَهُ الْوُضُوءُ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ: سَعْدٍ وَسَلْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ. وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ} . وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ وَقَدْ أَقَرَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى السُّجُودِ لِلَّهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ السُّجُودَ لِلَّهِ خُضُوعٌ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} وَأَمَّا كَلَامُهُ فَلَهُ حُرْمَةٌ عَظِيمَةٌ؛ وَلِهَذَا يُنْهَى أَنْ يُقْرَأَ الْقُرْآنُ فِي حَال الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِذَا نُهِيَ أَنْ يُقْرَأَ فِي السُّجُودِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الْمُصْحَفُ مِثْلَ السُّجُودِ وَحُرْمَةُ الْمُصْحَفِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهُ الْمُحْدِثُ وَيَدْخُلَهُ الْكَافِرُ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ يَدْخُلُونَهُ. وَاخْتُلِفَ فِي نَسْخِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمُصْحَفِ فَلَا يَلْزَمُ إذَا جَازَ الطَّوَافُ مَعَ الْحَدَثِ أَنْ يَجُوزَ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ أَعْظَمُ. وَعَلَى هَذَا فَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَسَعِيدٍ مِنْ أَنَّ الْحَائِضَ تُومِئُ بِالسُّجُودِ هُوَ لِأَنَّ حَدَثَ الْحَائِضِ أَغْلَظُ وَالرُّكُوعُ هُوَ

ص: 288

سُجُودٌ خَفِيفٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} قَالُوا: رُكَّعًا فَرُخِّصَ لَهَا فِي دُونِ كَمَالِ السُّجُودِ. وَأَمَّا احْتِجَاجُ ابْنِ حَزْمٍ عَلَى أَنَّ مَا دُونُ رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ بِصَلَاةِ بِقَوْلِهِ: {صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى} فَهَذَا يَرْوِيهِ الأزدي عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ خِلَافُ مَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ الْمَعْرُوفُونَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. فَإِنَّهُمْ رَوَوْا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَقَالَ: {صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خِفْت الْفَجْرَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ} وَلِهَذَا ضَعَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ حَدِيثَ الْبَارِقِيَّ. وَلَا يُقَالُ هَذِهِ زِيَادَةٌ مِنْ الثِّقَةِ؛ فَتَكُونُ مَقْبُولَةً لِوُجُوهِ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا مُتَكَلَّمٌ فِيهِ. الثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُخَالِفْ الْجُمْهُورَ وَإِلَّا فَإِذَا انْفَرَدَ عَنْ الْجُمْهُورِ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا إذَا لَمْ يُخَالِفْ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ذَكَرَ ابْنُ عُمَرَ: {أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَقَالَ: صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خِفْت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خِفْت الصُّبْحَ

ص: 289

فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَجُوزُ إذَا ذَكَرَ صَلَاةَ اللَّيْلِ مُنْفَرِدَةً كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسَّائِلُ إنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ قَدْ يُجِيبُ عَنْ أَعَمَّ مِمَّا سُئِلَ عَنْهُ - كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَحْرِ لَمَّا {قِيلَ لَهُ: إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ. الْحِلُّ مَيْتَتُهُ} - لَكِنْ يَكُونُ الْجَوَابُ مُنْتَظِمًا كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَهُنَاكَ إذَا ذُكِرَ النَّهَارُ لَمْ يَكُنْ الْجَوَابُ مُنْتَظِمًا؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِيهِ قَوْلُهُ: {فَإِذَا خِفْت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ} وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الْحَدِيثِ لَا رَيْبَ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَدْ ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسٍ آخَرَ كَلَامًا مُبْتَدَأً لِآخَرَ: إمَّا لِهَذَا السَّائِلِ وَإِمَّا لِغَيْرِهِ. قِيلَ: كُلُّ مَنْ رَوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ إنَّمَا رَوَاهُ هَكَذَا فَذَكَرُوا فِي أَوَّلِهِ السُّؤَالَ وَفِي آخِرِهِ الْوِتْرَ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا صَلَاةُ اللَّيْلِ وَهَذَا خَالَفَهُمْ فَلَمْ يَذْكُرْ مَا فِي أَوَّلِهِ وَلَا مَا فِي آخِرِهِ وَزَادَ فِي وَسَطِهِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ حَدِيثَهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَمَا أَشْبَهَهَا مَتَى تَأَمَّلَهَا اللَّبِيبُ عَلِمَ أَنَّهُ غَلِطَ فِي الْحَدِيثِ

ص: 290

وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ أَوْجَبَ رِيبَةً قَوِيَّةً تَمْنَعُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ عَلَى إثْبَاتِ مِثْلِ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْوِتْرَ رَكْعَةٌ وَهُوَ صَلَاةٌ وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَغَيْرِهَا فَعُلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ بَيَانَ مُسَمَّى الصَّلَاةِ وَتَحْدِيدَهَا فَإِنَّ الْحَدَّ يَطَّرِدُ وَيَنْعَكِسُ. فَإِنْ قِيلَ: قَصَدَ بَيَانَ مَا يَجُوزُ مِنْ الصَّلَاةِ. قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ جَائِزٌ وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ أَيْضًا جَائِزٌ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لَا عَلَى الِاسْمِ وَلَا عَلَى الْحُكْمِ. وَكُلُّ قَوْلٍ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمُتَأَخِّرُ عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ يَكُونُ خَطَأً كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ. وَأَمَّا سُجُودُ السَّهْوِ: فَقَدْ جَوَّزَهُ ابْنُ حَزْمٍ أَيْضًا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الضَّعِيفِ. وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ؛ لِأَنَّ هَذَا سَجْدَتَانِ يَقُومَانِ مَقَامَ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ الشَّكِّ: {إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ

ص: 291

فَلَمْ يَدْرِ ثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَإِنْ صَلَّى خَمْسًا شَفَعَتَا لَهُ صَلَاتَهُ وَإِلَّا كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ} . وَفِي لَفْظٍ {وَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَمَامًا كَانَتَا تَرْغِيمًا} . فَجَعَلَهُمَا كَالرَّكْعَةِ السَّادِسَةِ الَّتِي تَشْفَعُ الْخَامِسَةَ الْمَزِيدَةَ سَهْوًا. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الْمَكْتُوبَةِ وَفَعَلَهَا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ. وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا يَعْتَقِدُهُ قُرْبَةً بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ إنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ يُفْعَلَانِ: إمَّا قَبْلَ السَّلَامِ وَإِمَّا قَرِيبًا مِنْ السَّلَامِ فَهُمَا مُتَّصِلَانِ بِالصَّلَاةِ دَاخِلَانِ فِيهَا. فَهُمَا مِنْهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُمَا جبران لِلصَّلَاةِ فَكَانَتَا كَالْجُزْءِ مِنْ الصَّلَاةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ لَهُمَا تَحْلِيلًا وَتَحْرِيمًا فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ مِنْهُمَا وَيَتَشَهَّدُ فَصَارَتَا أَوْكَدَ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ. وَفِي الْجُمْلَةِ: سَجْدَتَا السَّهْوِ مَنْ جِنْسِ سَجْدَتَيْ الصَّلَاةِ لَا مِنْ جِنْسِ

ص: 292

سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ؛ وَلِهَذَا يُفْعَلَانِ إلَى الْكَعْبَةِ وَهَذَا عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمْ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ فَعَلَهَا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَلَا بِغَيْرِ وُضُوءٍ. كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ. وَإِذَا كَانَ السَّهْوُ فِي الْفَرِيضَةِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدهُمَا بِالْأَرْضِ كَالْفَرِيضَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُمَا عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ بِخِلَافِ سُجُودِ الشُّكْرِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ وَفِي اسْتِحْبَابِهِ نِزَاعٌ وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ فِي وُجُوبِهِ نِزَاعٌ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا بِالْإِجْمَاعِ فَسُجُودُ التِّلَاوَةِ سَبَبُهُ الْقِرَاءَةُ فَيَتْبَعُهَا. وَلَمَّا كَانَ الْمُحْدِثُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فَلَهُ أَنْ يَسْجُدَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ. وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ سَجَدُوا وَمَا كَانُوا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْرَأَ الْقُرْآنُ فِي حَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَعُلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ. وَقَوْلُهُ: {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} أَيْ مِنْ الْأَفْعَالِ فَلَمْ تَدْخُلْ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ. وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْأَقْرَبِ وَالْأَفْضَلِ:

ص: 293

فَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَ مِنْ السُّجُودِ وَإِنْ كَانَ فِي السُّجُودِ أَقْرَبَ: كَالْجِهَادِ فَإِنَّهُ سَنَامُ الْعَمَلِ. إلَّا أَنْ يُرَادَ السُّجُودُ الْعَامُّ وَهُوَ الْخُضُوعُ. فَهَذَا يَحْصُلُ لَهُ فِي حَالِ الْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ يَحْصُلُ لِلرَّجُلِ فِي حَالِ الْقِرَاءَةِ مِنْ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ مَا لَا يَحْصُلُ لَهُ فِي حَالِ السُّجُودِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ} وَقَوْلِهِ: {يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلْثُ اللَّيْلِ} وَقَوْلِهِ: {إنَّهُ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} فَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّنْ دَعَاهُ وَقَدْ يَكُونُ غَيْرُ الدَّاعِي أَفْضَلَ مِنْ الدَّاعِي. كَمَا قَالَ: {مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 294

‌بَابٌ الْغُسْلُ

سُئِلَ رحمه الله:

عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ: هَلْ هُوَ فَرْضٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدِ الصَّلَاةُ جُنُبًا وَلَا يُعِيدُ؟ .

فَأَجَابَ: الطَّهَارَةُ مِنْ الْجَنَابَةِ فَرْضٌ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُصَلِّيَ جُنُبًا وَلَا مُحْدِثًا حَتَّى يَتَطَهَّرَ وَمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِلَّ ذَلِكَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي كُفْرِهِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ الْغَلِيظَةِ لَكِنْ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ اغْتَسَلَ وَإِنْ كَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ وَيَخَافُ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ بِمَرَضِ أَوْ خَوْفِ بَرْدٍ تَيَمَّمَ وَصَلَّى. وَإِنْ تَعَذَّرَ الْغُسْلُ وَالتَّيَمُّمُ صَلَّى بِلَا غُسْلٍ وَلَا تَيَمُّمٍ فِي أَظْهَرِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 295

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ يُلَاعِبُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ بَعْدَ سَاعَةٍ يَبُولُ فَيُخْرِجُ شِبْهَ الْمَنِيِّ بِأَلَمِ وَعَصْرٍ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ؟ .

فَأَجَابَ:

الْمَنِيُّ الَّذِي يُوجِبُ الْغُسْلَ هُوَ الَّذِي يَخْرُجُ بِشَهْوَةِ وَهُوَ أَبْيَضُ غَلِيظٌ تُشْبِهُ رَائِحَتُهُ رَائِحَةَ الطَّلْعِ. فَأَمَّا الْمَنِيُّ الَّذِي يَخْرُجُ بِلَا شَهْوَةٍ إمَّا لِمَرَضِ أَوْ غَيْرِهِ فَهَذَا فَاسِدٌ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَأَحْمَد. كَمَا أَنَّ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ وَالْخَارِجُ عَقِيبَ الْبَوْلِ تَارَةً مَعَ أَلَمٍ أَوْ بِلَا أَلَمٍ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَا غُسْلَ فِيهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ امْرَأَةٍ قِيلَ لَهَا إذَا كَانَ عَلَيْك نَجَاسَةٌ مَنْ عُذَرِ النِّسَاءِ أَوْ مِنْ جَنَابَةٍ لَا تَتَوَضَّئِي إلَّا تَمْسَحِي بِالْمَاءِ مِنْ دَاخِلِ الْفَرْجِ فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ؟ .

ص: 296

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ غَسْلُ دَاخِلِ الْفَرْجِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ امْرَأَتَيْنِ تَبَاحَثَتَا فَقَالَتْ إحْدَاهُمَا: يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَدُسَّ إصْبَعَهَا وَتَغْسِلَ الرَّحِمَ مِنْ دَاخِلٍ. وَقَالَتْ الْأُخْرَى: لَا يَجِبُ إلَّا غَسْلُ الْفَرْجِ مَنْ ظَاهِرٍ فَأَيُّهُمَا عَلَى الصَّوَابِ؟.

فَأَجَابَ:

الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَإِنْ فَعَلَتْ جَازَ.

وَسُئِلَ: (*)

عَنْ امْرَأَةٍ تَضَعُ مَعَهَا دَوَاءً وَقْتَ الْمُجَامَعَةِ تَمْنَعُ بِذَلِكَ نُفُوذَ الْمَنِيِّ فِي مَجَارِي الْحَبَلِ فَهَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ حَلَالٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ إذَا بَقِيَ ذَلِكَ الدَّوَاءُ مَعَهَا بَعْدَ الْجِمَاعِ. وَلَمْ يَخْرُجْ يَجُوزُ لَهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ بَعْدَ الْغُسْلِ أَمْ لَا؟.

فَأَجَابَ:

أَمَّا صَوْمُهَا وَصَلَاتُهَا فَصَحِيحَةٌ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الدَّوَاءُ

قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 175):

كررت هذه الفتوى مرة أخرى في: 32/ 271، 272.

ص: 297

فِي جَوْفِهَا وَأَمَّا جَوَازُ ذَلِكَ فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَحْوَطُ أَنَّهُ لَا يُفْعَلُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

هَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَمَا قَدْرُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى هَذَا مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَهَلْ يُكَرِّرُ الصَّبَّ عَلَى وَجْهِهِ فِي الْوُضُوءِ؟ .

الْجَوَابُ

فَأَجَابَ:

الصَّاعُ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ: رِطْلٌ وَأُوقِيَّتَانِ تَقْرِيبًا وَالْمُدُّ رُبُع ذَلِكَ. وَهَذَا مَعَ الِاقْتِصَادِ وَالرِّفْقِ يَكْفِي غَالِبَ النَّاسِ وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الزِّيَادَةِ أَحْيَانًا لِحَاجَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. لَكِنْ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ قِلَّةُ وُلُوعِهِ بِالْمَاءِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَكْثِيرِ الِاغْتِرَافِ مَكْرُوهٌ بَلْ إذَا غَرَفَ الْمَاءَ يُرْسِلُهُ عَلَى وَجْهِهِ إرْسَالًا مِنْ أَعَالِي الْوَجْهِ إلَى أَسْفَلِهِ بِرِفْقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 298

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ اغْتَسَلَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ

فَهَلْ يَجْزِيهِ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْأَفْضَلُ أَنْ يَتَوَضَّأَ ثُمَّ يَغْسِلُ سَائِرَ بَدَنِهِ وَلَا يُعِيدُ الْوُضُوءَ. كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ. وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الِاغْتِسَالِ مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد: عَلَيْهِ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهَلْ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثَيْنِ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 299

وَقَالَ رحمه الله:

فَصْلٌ:

فِي الْحَمَّامِ قَدْ كَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَد بِنَاءَ الْحَمَّامِ وَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَكِرَائِهِ وَذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أُمُورٍ مُحَرَّمَةٍ كَثِيرًا. أَوْ غَالِبًا مِثْلَ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ وَمَسِّهَا وَالنَّظَرِ إلَيْهَا وَالدُّخُولِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إلَيْهَا كَنَهْيِ النِّسَاءِ وَقَدْ تَشْتَمِلُ عَلَى فِعْلِ فَوَاحِشَ كَبِيرَةٍ وَصَغِيرَةٍ بِالنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِي: {إنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي بَيْتًا قَالَ: بَيْتُك الْحَمَّامُ} . وَمِنْ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا تَصْوِيرُ الْحَيَوَانِ فِي حِيطَانِهَا وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قُلْت: قَدْ كَتَبْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ ذَلِكَ بِمَا إذَا لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهَا فَأَقُولُ هُنَا: إنَّ جَوَابَاتِ أَحْمَد وَنُصُوصَهُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِي نَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ خَرَّجَ كَلَامَهُ عَلَى الْحَمَّامَاتِ الَّتِي يَعْهَدُهَا فِي الْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَهِيَ جُمْهُورُ الْبِلَادِ الَّتِي انْتَابَهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ

ص: 300

إلَى خُرَاسَانَ وَلَمْ يَأْتِ إلَى غَيْرِ هَذِهِ الْبِلَادِ إلَّا مَرَّةً فِي مَجِيئِهِ إلَى دِمَشْقَ. وَهَذِهِ الْبِلَادُ الْمَذْكُورَةُ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الْحَرُّ وَأَهْلُهَا لَا يَحْتَاجُونَ إلَى الْحَمَّامِ غَالِبًا؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ الْحِجَازِ حَمَّامٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ. وَلَمْ يَدْخُلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَمَّامًا وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْحَمَّامَ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ. وَلَكِنْ عَلِيٌّ لَمَّا قَدِمَ الْعِرَاقَ كَانَ بِهَا حَمَّامَاتٌ وَقَدْ دَخَلَ الْحَمَّامَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَبُنِيَ بِالْجُحْفَةِ حَمَّامٌ دَخَلَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابُ أَحْمَد كَانَ مُطْلَقًا فِي نَفْسِهِ وَصُورَةُ الْحَاجَةِ لَمْ يَسْتَشْعِرْهَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا فَلَا يَكُونُ جَوَابُهُ مُتَنَاوِلًا لَهَا فَلَا يُحْكَى عَنْهُ فِيهَا كَرَاهَةٌ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِجَوَابِهِ الْمَنْعَ الْعَامَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا وَهَذَا أَبْعَدُ الْمَحَامِلِ الثَّلَاثَةِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُهُ فَإِنَّ أُصُولَهُ وَسَائِرَ نُصُوصِهِ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ تَأْبَى ذَلِكَ وَهُوَ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ وُصِفَ لَهُ الْحَمَّامُ. وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ اقْتِدَاءً بِابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَدْخُلُهَا وَيَقُولُ هِيَ: مِنْ رَقِيقِ الْعَيْشِ وَهَذَا مُمْكِنٌ فِي أَرْضٍ

ص: 301

يَسْتَغْنِي أَهْلُهَا عَنْ الْحَمَّامِ كَمَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ الْفِرَاءِ وَالْحَشَايَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ. وَالْكَلَامُ فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي تَفْصِيلِ حُكْمِ مَا ذُكِرَ مِنْ بِنَائِهَا وَبَيْعِهَا وَإِجَارَتِهَا وَالْأَقْسَامُ أَرْبَعَةٌ: فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يُحْتَاجُ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ مَحْظُورٍ أَوْ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا وَلَا مَحْظُورَ أَوْ يُحْتَاجُ إلَيْهَا مَعَ الْمَحْظُورِ أَوْ يَكُونُ هُنَاكَ مَحْظُورٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا رَيْبَ فِي الْجَوَازِ: مِثْلَ أَنْ يَبْنِيَ الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ حَمَّامًا فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ وَلَا يَفْعَلُ فِيهَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُنَا حَاجَةٌ. أَوْ مِثْلَ: أَنْ يُقَدَّرَ بِنَاءُ حَمَّامٍ عَامَّةً فِي بِلَادٍ بَارِدَةٍ وَصِيَانَتُهَا عَنْ كُلِّ مَحْظُورٍ فَإِنَّ الْبِنَاءَ وَالْبَيْعَ وَالْكِرَاءَ هُنَا بِمَنْزِلَةِ دُخُولِ الرَّجُلِ إلَى الْحَمَّامِ الْخَاصَّةِ أَوْ الْمُشْتَرِكَةِ مَعَ غَضِّ بَصَرِهِ وَحِفْظِ فَرْجِهِ وَقِيَامِهِ بِمَا يَجِبُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهَذَا لَا رَيْبَ فِي جَوَازِهِ وَقَدْ دَخَلَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَأَحَادِيثُ الرُّخْصَةِ فِيهَا مَشْهُورَةٌ. كَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخدري الَّذِي

ص: 302

رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ} وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدُوا فِي الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ. وَقَدْ أَرْسَلَهُ طَائِفَةٌ وَأَسْنَدَهُ آخَرُونَ وَحَكَمُوا لَهُ بِالثُّبُوتِ وَاسْتِثْنَاؤُهُ الْحَمَّامَ مِنْ الْأَرْضِ كَاسْتِثْنَائِهِ الْمَقْبَرَةَ فِي كَوْنِهَا مَسْجِدًا دَلِيلٌ عَلَى إقْرَارِهَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّهُ لَا يُنْهَى عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا مُطْلَقًا؛ إذْ لَوْ كَانَ يَجِبُ إزَالَتُهَا وَيَحْرُمُ بِنَاؤُهَا وَدُخُولُهَا لَمْ تُخَصَّ الصَّلَاةُ بِالْمَنْعِ. وَالنَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ قَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: كَأَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي: إنَّهُ يُعِيدُ. قِيلَ: لِأَنَّهُ مَحَلُّ الشَّيَاطِينِ وَفِيهِ وَجْهٌ. وَهُوَ التَّعْلِيلُ بِمَظِنَّةِ النَّجَاسَةِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمَنْعَ يَتَنَاوَلُ مَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ الْمُشَلَّحُ وَالْمُغْتَسَلُ وَالْأَنْدَرُ. وَقَدْ يُقَالُ: الْحَمَّامُ فَعَّالٌ مِنْ الْحَمِّ وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي فِيهِ الْهَوَاءُ الْحَارُّ وَالْمَاءُ الْحَارُّ يُتَعَرَّضْنَ فِيهِ. فَأَمَّا الْمُشَلَّحُ الَّذِي تُوضَعُ فِيهِ الثِّيَابُ وَهُوَ بَارِدٌ لَا يُغْتَسَلُ فِيهِ وَلَا يَقْعُدُ فِيهِ إلَّا الْمُتَلَبِّسُ فَلَيْسَ هُوَ مَكَانَ حَمَّامٍ وَالدُّخُولُ فِي الْمَنْعِ لَا يَصْلُحُ لَهُ تَعْلِيلٌ.

ص: 303

وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْبَرَةَ وَأَعْطَانَ الْإِبِلِ تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ لِعَدَمِ تَنَاوُلِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَإِنْ دَخَلَ فِي الْمَنْعِ إلَّا أَنَّهُ يُقَالُ: لَفْظُ الْحَمَّامِ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ وَلَا يُعْرَفُ حَمَّامٌ لَيْسَ فِيهَا هَذَا الْمَكَانُ (1).

وَتُخْلَعُ فِيهِ الثِّيَابُ هَذِهِ هِيَ الْحَمَّامَاتُ الْمَعْرُوفَةُ وَالْحَمَّامَاتُ الْمَوْجُودَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّتِي يَتَنَاوَلُهَا لَفْظُ الِاسْتِثْنَاءِ (2).

الشَّيَاطِين يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ. كَمَا أَنَّ صَحْنَ الْمَسْجِدِ هُوَ تَبَعٌ لِلْمَسْجِدِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي رَحَبَةِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ الرَّحَبَةَ الْخَارِجَةَ عَنْ سُورِ الْمَسْجِدِ غَيْرُ الرَّحَبَةِ الَّتِي هِيَ صَحْنٌ مَكْشُوفٌ بِجَانِبِ الْمَسْقُوفِ مِنْ الْمَسْجِدِ الْمُعَدِّ لِلصَّلَاةِ فَهَذَا الثَّانِي نِسْبَتُهُ إلَيْهِ تُشْبِهُ نِسْبَةَ خَارِجِ الْحَمَّامِ إلَى دَاخِلِهِ. وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَنَقُولُ: إنَّمَا تَكُونُ الْحُجَّةُ أَنْ لَوْ عُلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَاءَهُ أَمْكَنَهُمْ دُخُولُهُ فَلَمْ يَدْخُلُوهُ وَإِلَّا فَإِذَا اُحْتُمِلَ مَعَ الْإِمْكَانِ الدُّخُولُ وَعَدَمُهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ. وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهَا وَكَانَ يَقُولُ: هِيَ مِمَّا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنْ رَقِيقِ الْعَيْشِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا أَحْدَثَهُ النَّاسُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُضُولِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ وَبِهَذَا اقْتَدَى أَحْمَد. وَهَذَا تَرْكٌ لَهَا مِنْ

(1، 2) خرم بالأصل

ص: 304

بَابِ الزُّهْدِ فِي فُضُولِ الْمُبَاحِ. وَالزُّهْدُ الْمَشْرُوعُ هُوَ تَرْكُ الرَّغْبَةِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ دُخُولُ الْحَمَّامِ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي أَعْمَالِ الْآخِرَةِ كَانَ تَرْكُهُ زُهْدًا مَشْرُوعًا. وَلِتَرْكِهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ وَالْوَرَعُ الْمَشْرُوعُ هُوَ تَرْكُ مَا قَدْ يَضُرُّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَهَذَا مِنْهُ وَرَعٌ وَاجِبٌ كَتَرْكِ الْمُحَرَّمِ وَمِنْهُ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ تَرْكُ الْمُشْتَبِهَاتِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ مَا قَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا إذَا اشْتَمَلَ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ أَوْ تَعَمُّدِ النَّظَرِ إلَى عَوْرَةِ الْغَيْرِ أَوْ تَمَكُّنِ الْأَجْنَبِيِّ مِنْ مَسِّ عَوْرَتِهِ أَوْ مَسِّ عَوْرَةِ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ ظُلْمِ الحمامي بِمَنْعِ حَقِّهِ وَصَبِّ الْمَاءِ الزَّائِدِ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْمُعَاوَضَةُ أَوْ الْمُكْثِ فَوْقَ مَا يُقَابِلُ الْعِوَضَ الْمَبْذُولَ لَهُ بِدُونِ رِضَاهُ أَوْ فِعْلِ الْفَوَاحِشِ فِيهَا أَوْ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي تُفْعَلُ كَثِيرًا فِيهَا أَوْ تَفْوِيتِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ. وَمِنْهُ مَا قَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا مُحَرَّمًا أَوْ غَيْرَ مُحَرَّمٍ مِثْلَ صَبِّ الْمَاءِ الْكَثِيرِ وَاللُّبْثِ الطَّوِيلِ مَعَ الْمُعَاوَضَةِ عَنْهُمَا وَالْإِسْرَافِ فِي نَفَقَتِهَا وَالتَّعَرُّضِ لِلْمُحَرَّمِ مِنْ غَيْرِ وُقُوعٍ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ التَّمَتُّعُ

ص: 305

وَالتَّرَفُّهُ بِهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ وَلَا اسْتِعَانَةٍ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَدْ يَكُونُ دُخُولُهَا وَاجِبًا إذَا احْتَاجَ إلَى طِهَارَةٍ وَاجِبَةٍ لَا تُمْكِنُ إلَّا فِيهَا وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ فِعْلُ الْمُسْتَحَبِّ مِنْ الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا إلَّا فِيهَا مِثْلُ الْأَغْسَالِ الْمُسْتَحَبَّةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ فِعْلُهَا إلَّا فِيهَا وَمِثْلُ نَظَافَةِ الْبَدَنِ مِنْ الْأَوْسَاخِ الَّتِي لَا تُمْكِنُ إلَّا فِيهَا. فَإِنَّ نَظَافَةَ الْبَدَنِ مِنْ الْأَوْسَاخِ مُسْتَحَبَّةٌ. كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَالسِّوَاكُ وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ قَالَ مُصْعَبٌ: وَنَسِيت الْعَاشِرَةَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ} . قَالَ وَكِيعٌ: انْتِقَاصُ الْمَاءِ يَعْنِي الِاسْتِنْجَاءَ وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {مِنْ الْفِطْرَةِ - أَوْ قَالَ الْفِطْرَةُ - الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَالسِّوَاكُ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَالِاسْتِحْدَادُ وَالِاخْتِتَانُ وَالِانْتِضَاحُ} رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد. وَهَذَا لَفْظُهُ. وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه.

ص: 306

وَهَذِهِ الْخِصَالُ عَامَّتُهَا إنَّمَا هِيَ لِلنَّظَافَةِ مِنْ الدَّرَنِ فَإِنَّ الشَّارِبَ إذَا طَالَ يَعْلَقُ بِهِ الْوَسَخُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْفَمُ إذَا تَغَيَّرَ يُنَظِّفُهُ السِّوَاكُ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ يُنَظِّفَانِ الْفَمَ وَالْأَنْفَ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ يُنَظِّفُهَا مِمَّا يَجْتَمِعُ تَحْتَهَا مِنْ الْوَسَخِ وَلِهَذَا رُوِيَ {يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَيَّ وَرَفْغُهُ تَحْتَ أَظْفَارِهِ} يَعْنِي الْوَسَخَ الَّذِي يَحُكُّهُ بِأَظْفَارِهِ مِنْ أرفاغه. وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَهِيَ عُقَدُ الْأَصَابِعِ فَإِنَّ الْوَسَخَ يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا مَا لَا يَجْتَمِعُ بَيْنَ الْعُقَدِ وَكَذَلِكَ الْإِبِطُ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الشَّعْرِ عَرَقُ الْإِبِطِ وَكَذَلِكَ الْعَانَةُ إذَا طَالَتْ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: {وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} . فَهَذَا غَايَةُ مَا يُتْرَكُ الشَّعْرُ وَالظُّفْرُ الْمَأْمُورُ بِإِزَالَتِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {حَقٌّ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ: يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ} وَهَذَا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ هُوَ غُسْلٌ رَاتِبٌ مَسْنُونٌ لِلنَّظَافَةِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الْجُمْعَةَ. بِحَيْثُ يَفْعَلُهُ مَنْ لَا جُمْعَةَ عَلَيْهِ. وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ غُسْلُ يَوْمٍ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ}

ص: 307

رَوَاهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي. وَهَذَا لَفْظُهُ وَأَبُو حَاتِمٍ البستي. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فِي الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَمُتَعَدِّدَةٌ. وَذَاكَ يُعَلَّلُ بِاجْتِمَاعِ النَّاسِ بِدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَشُهُودِ الْمَلَائِكَةِ وَمَعَ الْعَبْدِ مَلَائِكَةٌ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ} وَعَنْ {قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ: أَنَّهُ أَسْلَمَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءِ وَسِدْرٍ} . رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي. وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَهَذَانِ غُسْلَانِ مُتَنَازَعٌ فِي وُجُوبِهِمَا حَتَّى فِي وُجُوبِ السِّدْرِ. فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِي " الْمُشْتَبِهِ " وُجُوبَ ذَلِكَ وَهُوَ خِلَافُ مَا حُكِيَ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالِاغْتِسَالِ بِمَاءِ وَسِدْرٍ - كَمَا أَمَرَ بِالسِّدْرِ فِي غَسْلِ الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَفِي غَسْلِ ابْنَتِهِ الْمُتَوَفَّاةِ. وَكَمَا أَمَرَ الْحَائِضَ أَيْضًا أَنْ تَأْخُذَ مَاءَهَا وَسِدْرَهَا - إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ التَّنْظِيفِ فَإِنَّ السِّدْرَ مَعَ الْمَاءِ يُنَظِّفُ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الِاغْتِسَالَ فِي الْحَمَّامِ أَتَمُّ تَنْظِيفًا فَإِنَّهَا تُحَلِّلُ الْوَسَخَ بِهَوَائِهَا الْحَارِّ وَمَائِهَا الْحَارِّ وَمَا كَانَ أَبْلَغَ فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ كَانَ أَحَبَّ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ.

ص: 308

وَأَيْضًا فَالرَّجُلُ إذَا شَعِثَ رَأْسُهُ وَاتَّسَخَ وَقَمِلَ وَتَوَسَّخَ بَدَنُهُ كَانَ ذَلِكَ مُؤْذِيًا لَهُ وَمُضِرًّا حَتَّى قَدْ جَعَلَ اللَّهُ هَذَا مِمَّا يُبِيحُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَهُ وَيَفْتَدِيَ. كَمَا قَالَ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ لَمَّا مَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ فِي الْإِحْلَالِ وَالْقَمْلُ يَتَهَافَتُ عَلَى رَأْسِهِ} وَقَدْ تَكُونُ إزَالَةُ هَذَا الْأَذَى وَالضَّرَرِ فِي غَيْرِ الْحَمَّامِ إمَّا مُتَعَذِّرَةً أَوْ مُتَعَسِّرَةً. فَالْحَمَّامُ لِمِثْلِ هَذَا مَشْرُوعَةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَقَدْ يَكُونُ بِهِ مِنْ الْمَرَضِ مَا يَنْفَعُهُ فِيهِ الْحَمَّامُ وَاسْتِعْمَالُ مِثْلِ ذَلِكَ: إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ وَإِمَّا جَائِزٌ. فَإِنَّهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَأَيْضًا فَالْحَمَّامُ قَدْ يُحَلِّلُ عَنْهُ مِنْ الْأَبْخِرَةِ وَالْأَوْسَاخِ وَيُوجِبُ لَهُ مِنْ الرَّاحَةِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ والمُسْتَحَبَّاتِ وَدُخُولُهَا حِينَئِذٍ بِهَذِهِ النِّيَّةِ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِعَانَةِ بِسَائِرِ مَا يَسْتَرِيحُ بِهِ كَالْمَنَامِ وَالطَّعَامِ. كَمَا قَالَ مُعَاذٌ لِأَبِي مُوسَى: إنِّي أَنَامُ وَأَقُومُ وَأَحْتَسِبُ نُوَمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي. وَنَظَائِرُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مُتَعَدِّدَةٌ. كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا.

ص: 309

الْقِسْمُ الثَّانِي: إذَا خَلَتْ عَنْ مَحْظُورٍ فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ أَوْ الْحَارَّةِ فَهُنَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ بِنَاؤُهَا وَقَدْ بُنِيَتْ الْحَمَّامَاتُ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ فِي الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ عَلَى عَهْدِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ وَأَقَرُّوهَا. وَأَحْمَد لَمْ يَقُلْ: إنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ وَلَكِنْ كَرِهَ ذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ غَالِبًا عَلَى مُبَاحٍ وَمَحْظُورٍ. وَفِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ كَانَ النَّاسُ أَتْقَى لِلَّهِ وَأَرْعَى لِحُدُودِهِ مِنْ أَنْ يَكْثُرَ فِيهَا الْمَحْظُورُ فَلَمْ تَكُنْ مَكْرُوهَةً إذْ ذَاكَ وَإِنْ وَقَعَ فِيهَا أَحْيَانًا مَحْظُورٌ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ وُقُوعِ الْمَحْظُورِ فِيمَا يُبْنَى مِنْ الْأَسْوَاقِ وَالدُّورِ الَّتِي لَمْ يُنْهَ عَنْهَا وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْحَاجَةِ وَالْمَحْظُورِ غَالِبًا: كَغَالِبِ الْحَمَّامَاتِ الَّتِي فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِأَهْلِ تِلْكَ الْأَمْصَارِ مِنْ الْحَمَّامِ وَلَا بُدَّ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَحْظُورٍ فَهُنَا أَيْضًا لَا تُطْلَقُ كَرَاهَةُ بِنَائِهَا وَبَيْعِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَهُ} . إنَّمَا يَقْتَضِي اتِّقَاءَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي يَشْتَبِهُ فِيهَا الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ بِخِلَافِ

ص: 310

مَا إذَا اشْتَبَهَ الْوَاجِبُ أَوْ الْمُسْتَحَبُّ بِالْمَحْظُورِ؛ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ وَابْنُ حَامِدٍ وَلِهَذَا سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد: عَنْ رَجُلٍ مَاتَ أَبُوهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ دُيُونٌ فِيهَا شُبْهَةٌ أَيَقْضِيهَا وَلَدُهُ؟ فَقَالَ: أَيَدَعُ ذِمَّةَ أَبِيهِ مَرْهُونَةً وَهَذَا جَوَابٌ سَدِيدٌ فَإِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ وَتَرْكُ الْوَاجِبِ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ فَلَا يُتْرَكُ لِمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِقَابٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِنْ الْأَغْسَالِ مَا هُوَ وَاجِبٌ: كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُؤَكَّدٌ قَدْ تُنُوزِعَ فِي وُجُوبِهِ كَغُسْلِ الْجُمْعَةِ. وَمِنْهَا مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَهَذِهِ الْأَغْسَالُ لَا تُمْكِنُ فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ إلَّا فِي حَمَّامٍ. وَإِنْ اغْتَسَلَ فِي غَيْرِ حَمَّامٍ خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ؛ أَوْ الْمَرَضُ. فَلَا يَجُوزُ الِاغْتِسَالُ فِي غَيْرِ حَمَّامٍ حِينَئِذٍ. وَلَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ إلَى التَّيَمُّمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ فِي الْحَمَّامِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ فِي ذَلِكَ كَرَاهَةً مِثْلَ كَوْنِ الْمَاءِ مُسْخَنًا بِالنَّجَاسَةِ عِنْدَ مَنْ يَكْرَهُهُ مُطْلَقًا أَوْ عِنْدَ مَنْ يَكْرَهُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمَاءِ وَالدُّخَانِ حَاجِزٌ حَصِينٌ كَمَا قَدْ تَنَازَعَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِكَرَاهَةِ الْمُسَخَّنِ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ بِكُلِّ حَالٍ يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ التَّطَهُّرَ مِنْ الْجَنَابَةِ بِالْمَاءِ وَاجِبٌ مَعَ الْقُدْرَةِ وَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى وَصْفٍ مَكْرُوهٍ فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَبْقَى مَكْرُوهًا.

ص: 311

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كُرِهَ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْجَوَازِ فَإِنَّهُ بِالْحَاجَةِ إلَيْهِ لِطَهَارَةِ وَاجِبَةٍ أَوْ شُرْبٍ وَاجِبٍ لَا يَبْقَى مَكْرُوهًا. وَلَكِنْ هَلْ يَبْقَى مَكْرُوهًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي طَهَارَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ هَذَا مَحَلُّ تَرَدُّدٍ؛ لِتَعَارُضِ مَفْسَدَةِ الْكَرَاهَةِ وَمَصْلَحَةِ الِاسْتِحْبَابِ. وَالتَّحْقِيقُ: تَرْجِيحُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً بِحَسَبِ رُجْحَانِ الْمَصْلَحَةِ تَارَةً وَالْمَفْسَدَةِ أُخْرَى. وَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَقَدْ يُقَالُ: بِنَاءُ الْحَمَّامِ وَاجِبٌ حِينَئِذٍ حَيْثُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ الْعَامِّ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّمَا يَجِبُ الِاغْتِسَالُ فِيهَا عِنْدَ وُجُودِهَا وَلَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا ابْتِدَاءً. كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ حَمْلُ الْمَاءِ مَعَهُ لِلطَّهَارَةِ وَلَا إعْدَادُ الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ فَإِذَا فُتِحَتْ مَدِينَةٌ وَفِيهَا حَمَّامٌ لَمْ يُهْدَمْ وَالْحَالُ هَذِهِ. كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ. وَكَذَلِكَ مَنْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ بِإِرْثِ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا مَنْ مَلَكَهَا بِاخْتِيَارِهِ فَالْكَلَامُ فِي مِلْكِهَا ابْتِدَاءً فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ بِنَائِهَا. وَعَلَى هَذَا؛ فَقَدْ يُقَالُ: نَحْنُ إنَّمَا نَكْرَهُ بِنَاءَهَا ابْتِدَاءً فَأَمَّا إذَا بَنَاهَا غَيْرُنَا فَلَا نَأْمُرُ بِهَدْمِهَا؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ وَكَلَامُ أَحْمَد الْمُتَقَدِّمُ إنَّمَا هُوَ فِي الْبِنَاءِ لَا فِي الْإِبْقَاءِ وَالِاسْتِدَامَةُ أَقْوَى مِنْ الِابْتِدَاءِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْإِحْرَامُ وَالْعِدَّةُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَلَا يَمْنَعُ دَوَامَهُ وَأَهْلُ

ص: 312

الذِّمَّةِ يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ مَعَابِدِهِمْ وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إبْقَائِهَا إذَا دَخَلَ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِمْ. وَإِذَا كَانَ الْمَكْرُوهُ الِابْتِدَاءَ فَالْجُنُبُ وَنَحْوُهُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْحَمَّامِ إذَا أَمْكَنَ فَهَذَا يُفِيدُ وُجُوبَ دُخُولِ الْحَمَّامِ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً وَاحْتِيجَ إلَيْهَا لِطَهَارَةِ وَاجِبَةٍ فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّهُ يَسُوغُ بِنَاؤُهَا ابْتِدَاءً لِذَلِكَ مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى مَحْظُورٍ؟ فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَأَمَّا مَا لَا يَتِمُّ الْوُجُوبُ إلَّا بِهِ فَلَيْسَ بِوَاجِبِ. - وَهُنَا الْوُجُوبُ عِنْدَ عَدَمِ بِنَائِهَا مُنْتَفٍ فَإِذَا تَوَقَّفْتُمْ فِي الْوُجُوبِ فَتَوَقَّفُوا فِي الْإِبَاحَةِ. . . (1).

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَشْتَمِلَ عَلَى الْمَحْظُورِ مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا: كَمَا فِي حَمَّامَاتِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ: فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ فَهَذَا مَحَلُّ نَصِّ أَحْمَد وَتَجَنُّبُ ابْنِ عُمَرَ.

الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي دُخُولِهَا

فَنَقُولُ: لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى كَرَاهَةِ دُخُولِهَا أَوْ عَدَمِ اسْتِحْبَابِهِ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَدْخُلْهَا وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَإِنَّ

(1)

بياض بالأصل

ص: 313

هَذَا إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لَوْ امْتَنَعُوا مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ وَقَصَدُوا اجْتِنَابَهَا أَوْ أَمْكَنَهُمْ دُخُولُهَا فَلَمْ يَدْخُلُوهَا وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِهِمْ حِينَئِذٍ حَمَّامٌ فَلَيْسَ إضَافَةُ عَدَمِ الدُّخُولِ إلَى وُجُودِ مَانِعِ الْكَرَاهَةِ أَوْ عَدَمِ مَا يَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ بِأَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى فَوَاتِ شَرْطِ الدُّخُولِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ وَالْإِمْكَانُ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي سَائِرِ الْأَرْضِ مِنْ الْقُوتِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَرَاكِبِ وَالْمَسَاكِنِ لَمْ يَكُنْ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْحِجَازِ فَلَمْ يَأْكُلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّعَامِ الْقُوتِ وَالْفَاكِهَةِ وَلَا لَبِسَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ اللِّبَاسِ. ثُمَّ إنَّ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَرْضِ أُخْرَى: كَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ وَخُرَاسَانَ وأرمينية وَأَذْرَبِيجَانَ وَالْمَغْرِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَطْعِمَةٌ وَثِيَابٌ مَجْلُوبَةٌ عِنْدَهُمْ أَوْ مَجْلُوبَةٌ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَظُنُّوا تَرْكَ الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ سُنَّةً؛ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْكُلْ مِثْلَهُ وَلَمْ يَلْبَسْ مِثْلَهُ؛ إذْ عَدَمُ الْفِعْلِ إنَّمَا هُوَ عَدَمُ دَلِيلٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ الْقَوْلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ مِنْ أَقْوَالِهِ: كَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَإِذْنِهِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى. . هِيَ أَقْوَى وَأَكْبَرُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ عَدَمُ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ.

ص: 314

وَكَذَلِكَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَيْضًا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَنَفْيُ الْحُكْمِ بِالِاسْتِحْبَابِ لِانْتِفَاءِ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلِ بَاقِي الْأَدِلَّةِ خَطَأٌ عَظِيمٌ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَلَمْ تَكُنْ الْبِغَالُ مَوْجُودَةً بِأَرْضِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَرْكَبْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً إلَّا الْبَغْلَةَ الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقَسُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وَمِثْلُهَا فِي الْقُرْآنِ: يَمْتَنُّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ بِنِعَمِهِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ بِأَرْضِ الْحِجَازِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِهِ} {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} . {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} {وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا} {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} . {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} . وَلَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ الْحِجَازِ زَيْتُونٌ وَلَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَكَلَ زَيْتُونًا. وَلَكِنْ لَعَلَّ الزَّيْتَ كَانَ يُجْلَبُ إلَيْهِمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} وَلَمْ يَكُنْ بِأَرْضِهِمْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَلَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهُمَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {كُلُوا الزَّيْتَ وَادْهُنُوا

ص: 315

بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْبَحْرِ: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} وَلَمْ يَرْكَبْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبَحْرَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ. {وَقَدْ أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ يَرْكَبُ الْبَحْرَ مِنْ أُمَّتِهِ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَأَنَّهُمْ مُلُوكٌ عَلَى الْأَسِرَّةِ - لِأُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ ملحان - وَقَالَتْ: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ: أَنْتِ مِنْهُمْ} . وَكَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَطْعَمُ مَا يَجِدُهُ فِي أَرْضِهِ وَيَلْبَسُ مَا يَجِدُهُ وَيَرْكَبُ مَا يَجِدُهُ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَمَنْ اسْتَعْمَلَ مَا يَجِدُهُ فِي أَرْضِهِ فَهُوَ الْمُتَّبِعُ لِلسُّنَّةِ. كَمَا أَنَّهُ حَجَّ الْبَيْتَ مِنْ مَدِينَتِهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ مِنْ مَدِينَةِ نَفْسِهِ فَهُوَ الْمُتَّبِعُ لِلسُّنَّةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَدِينَةُ تِلْكَ.

ص: 316

وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُجَاهِدُ مَنْ يَلِيهِ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فَمَنْ جَاهَدَ مَنْ يَلِيهِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَقَدْ اتَّبَعَ السُّنَّةَ وَإِنْ كَانَ نَوْعُ هَؤُلَاءِ غَيْرَ نَوْعِ أُولَئِكَ إذْ أُولَئِكَ كَانَ غَالِبُهُمْ عَرَبًا وَلَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ هُمْ عَلَيْهِ فَمَنْ جَاهَدَ سَائِرَ الْمُشْرِكِينَ: تُرْكَهُمْ وَهِنْدَهُمْ وَغَيْرَهُمْ فَقَدْ فَعَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ أَصْنَامُهُمْ لَيْسَتْ تِلْكَ الْأَصْنَامَ. وَمَنْ جَاهَدَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَقَدْ اتَّبَعَ السُّنَّةَ وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ نَوْعٍ آخَرَ غَيْرِ النَّوْعِ الَّذِينَ جَاهَدَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ جَاهَدَ يَهُودَ الْمَدِينَةِ: كقريظة وَالنَّضِيرِ وَبَنِيَّ قَيْنُقَاعَ وَيَهُودَ خَيْبَرَ؛ وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ؛ وَغَزَا نَصَارَى الشَّامِ عَرَبَهَا وَرُومَهَا عَامَ تَبُوكَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا قِتَالٌ وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَاتَلُوهُمْ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ. وَقَالَ: أَمِيرُكُمْ زَيْدٌ فَإِنْ قُتِلَ فَجَعْفَرٌ فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ. وَصَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَكَانُوا مَجُوسًا عَلَى الْجِزْيَةِ وَهُمْ أَهْلُ هَجْرَ وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ قَدِمَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ فَجَعَلَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَمَا ثَابَ حَتَّى قَسَمَهُ} وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَمَيَّزْنَا بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ وَبَيَّنَّا أَنَّ السُّنَّةَ هِيَ مَا قَامَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ سَوَاءٌ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ فُعِلَ

ص: 317

عَلَى زَمَانِهِ أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ وَلَمْ يُفْعَلْ عَلَى زَمَانِهِ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي حِينَئِذٍ لِفِعْلِهِ أَوْ وُجُودِ الْمَانِعِ مِنْهُ. فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ أَوْ اسْتَحَبَّهُ فَهُوَ سُنَّةٌ. كَمَا {أَمَرَ بِإِجْلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ} وَكَمَا جَمَعَ الصَّحَابَةُ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ وَكَمَا دَاوَمُوا عَلَى قِيَامِ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم {لَا تَكْتُبُوا عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ} فَشَرَعَ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ؛ وَأَمَّا كِتَابَةُ الْحَدِيثِ فَنَهَى عَنْهَا أَوَّلًا وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بِإِذْنِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنْ يَكْتُبَ عَنْهُ مَا سَمِعَهُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا وَبِإِذْنِهِ لِأَبِي شاه أَنْ يَكْتُبَ لَهُ خُطْبَتَهُ عَامَ الْفَتْحِ وَبِمَا كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مِنْ الْكِتَابِ الْكَبِيرِ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُ لَمَّا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى نَجْرَانَ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ: هُنَا أَنَّ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ مَشْرُوعَةٌ لَكِنْ لَمْ يَجْمَعْهُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ. لِأَنَّ نُزُولَهُ لَمْ يَكُنْ تَمَّ وَكَانَتْ الْآيَةُ قَدْ تُنْسَخُ بَعْدَ نُزُولِهَا فَلِوُجُودِ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ لَمْ يُمْكِنْ جَمْعُهُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ حَتَّى مَاتَ. وَكَذَلِكَ قِيَامُ رَمَضَانَ. قَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم {إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ} وَقَامَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ بِهِمْ لَيْلَتَيْنِ وَقَامَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ لَيَالِيَ وَكَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ عَلَى عَهْدِهِ فِي الْمَسْجِدِ فُرَادَى وَجَمَاعَاتٍ لَكِنْ لَمْ يُدَاوِمْ بِهِمْ عَلَى الْجَمَاعَةِ خَشْيَةَ أَنْ

ص: 318

تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أُمِنَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ. وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: {عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} فَمَا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ لَيْسَ بِدْعَةً شَرْعِيَّةً يُنْهَى عَنْهَا وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ بِدْعَةً لِكَوْنِهِ اُبْتُدِئَ. كَمَا قَالَ عُمَرُ: نِعْمَت الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي قَاعِدَةٍ.

فَصْلٌ:

الْمَاءُ الْجَارِي فِي أَرْضِ الْحَمَّامِ خَارِجًا مِنْهَا أَوْ نَازِلًا فِي بَلَالِيعِهَا لَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ بَلْ بِطَهَارَتِهِ إلَّا أَنْ تُعْلَمَ نَجَاسَةُ شَيْءٍ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ الْحَمَّامَ لَمْ يُنْهَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا لِكَوْنِهَا مَظِنَّةَ النَّجَاسَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ: إذَا غَسَلْنَا مَوْضِعًا مِنْهَا أَوْ تَيَقَّنَّا طَهَارَتَهُ جَازَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ.

ص: 319

وَأَمَّا عَلَى مَنْ قَالَ بِالنَّهْيِ مُطْلَقًا. كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ - وَقَدْ صَحَّحَهُ مَنْ صَحَّحَهُ مِنْ الْحُفَّاظِ وَبَيَّنُوا أَنَّ رِوَايَةَ مَنْ أَرْسَلَهُ لَا تُنَافِي الرِّوَايَةَ الْمُسْنَدَةَ الثَّابِتَةَ - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ} فَاسْتَثْنَى الْحَمَّامَ مُطْلَقًا فَيَتَنَاوَلُ الِاسْمُ مَا دَخَلَ فِي الْمُسَمَّى. فَلَهُمْ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّهْيَ تَعَبُّدٌ. لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ. كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. كَأَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَتْبَاعِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي بَيْتًا قَالَ: بَيْتُك الْحَمَّامُ قَالَ: اجْعَلْ لِي قُرْآنًا قَالَ: قُرْآنُك الشِّعْرُ قَالَ: اجْعَلْ لِي مُؤَذِّنًا قَالَ: مُؤَذِّنُك الْمِزْمَارُ} وَهَذَا التَّعْلِيلُ كَتَعْلِيلِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ بِنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {إنَّ عَلَى ذُرْوَةِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ وَإِنَّهَا جِنٌّ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ} إذْ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ هُنَاكَ بِالنَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ أَعْطَانِ الْإِبِلِ وَمَبَارِكِ الْغَنَمِ وَكِلَاهُمَا فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ سَوَاءٌ. كَمَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِهَا؛ بِأَنَّهُ لِأَجْلِ مَسِّ النَّارِ مَعَ تَفْرِيقِهِ بَيْنَ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلُحُومِ الْغَنَمِ وَكِلَاهُمَا فِي مَسِّ النَّارِ وَعَدِمِهِ سَوَاءٌ.

ص: 320

وَكَذَلِكَ تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ بِنَجَاسَةِ التُّرَابِ هُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمَقْبَرَةِ مُطْلَقًا وَعَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ. أَنَّ النَّهْيَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَظِنَّةِ الشِّرْكِ وَمُشَابَهَةِ الْمُشْرِكِينَ. وَأَيْضًا فَنَجَاسَةُ تُرَابِ الْمَقْبَرَةِ فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى " مَسْأَلَةِ الِاسْتِحَالَةِ " وَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ مَقْبَرَةً لِلْمُشْرِكِينَ وَفِيهِ نَخْلٌ وَخَرِبٌ. فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّخْلِ فَقُطِعَتْ وَجُعِلَتْ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ وَأَمَرَ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ وَأَمَرَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ فَهَذِهِ مَقْبَرَةٌ مَنْبُوشَةٌ كَانَ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ. ثُمَّ لَمَّا نَبَشَ الْمَوْتَى جُعِلَتْ مَسْجِدًا مَعَ بَقَاءِ مَا بَقِيَ فِيهَا مِنْ التُّرَابِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ التُّرَابُ نَجِسًا لَوَجَبَ أَنْ يَنْقُلَ مِنْ الْمَسْجِدِ التُّرَابَ النَّجِسَ لَا سِيَّمَا إذَا اخْتَلَطَ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْقُلَ مَا يَتَيَقَّنَ بِهِ زَوَالَ النَّجَاسَةِ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِاجْتِنَابِ ذَلِكَ التُّرَابِ وَلَا بِإِزَالَةِ مَا يُصِيبُ الْأَبْدَانَ وَالثِّيَابَ مِنْهُ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِظُهُورِ الْقُبُورِ لَا بِظَنِّ نَجَاسَةِ التُّرَابِ؛ وَأَيْضًا مَنْ عَلَّلَ ذَلِكَ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَكْرَهَ الصَّلَاةَ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ. كَمَا قَالَهُ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالْحَمَّامِ وَالْأَعْطَانِ وَلَمْ

ص: 321

يُحَرِّمْهَا. كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَكِنَّ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فَرَّقَتْ بَيْنَ مَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَمَبَارِكِ الْغَنَمِ؛ وَلِأَنَّهُ اسْتَثْنَى كَوْنَهَا مَسْجِدًا فَلَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِلسُّجُودِ؛ وَلِأَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ نَهْيًا مُؤَكَّدًا بِقَوْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ: {إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ} وَلِأَنَّهُ لَعَنَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} يَحْذَرُ مَا فَعَلُوا وَلِأَنَّهُ جَعَلَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ شِرَارَ الْخَلِيقَةِ بِقَوْلِهِ: {إنَّ أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِسُنَّتِهِ أَنَّ احْتِمَالَ نَجَاسَةِ الْأَرْضِ لَا يُوجِبُ كَرَاهَةَ الصَّلَاةِ فِيهَا بَلْ ثَبَتَ بِسُنَّتِهِ أَنَّ الْأَرْضَ تَطْهُرُ بِمَا يُصِيبُهَا مِنْ الشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَالِاسْتِحَالَةِ. كَمَا هُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ وَمَالِكٍ فِي قَوْلٍ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. فَإِنَّهُ ثَابِتٌ أَنَّ الْكِلَابَ كانت تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ {أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ} وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ} وَقَالَ: {إذَا أَتَى

ص: 322

أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ: فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذًى فَلْيُدَلِّكْهُمَا بِالتُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طُهُورٍ} فَإِذَا كَانَ قَدْ جَعَلَ التُّرَابَ يُطَهِّرُ أَسْفَلَ الْخُفِّ؛ فَلَأَنْ يُطَهِّرَ نَفْسَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ غَالِبَ طُرُقَاتِ النَّاسِ تَحْتَمِلُ مِنْ النَّجَاسَةِ نَحْوَ مَا تَحْتَمِلُهُ الْمَقْبَرَةُ وَالْحَمَّامُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ النَّهْيِ لَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ فِيهَا أَظْهَرُ. فَهَذِهِ السُّنَنُ تُبْطِلُ ذَلِكَ التَّعْلِيلَ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ التُّرَابَ مُطَهِّرٌ لِمَا يُلَاقِيهِ فِي الْعَادَةِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْكَلَامُ فِي الْمَاءِ الْجَارِي فِي الْحَمَّامِ فَنَقُولُ: إنَّ كَرَاهَةَ هَذَا الْمَاءِ وَتَوَقِّيَهُ وَغَسْلَ مَا يُصِيبُ الْبَدَنَ وَالثَّوْبَ مِنْهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِقْذَارِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةِ النَّجَاسَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَمَا يَغْسِلُ الْإِنْسَانُ بَدَنَهُ وَثِيَابَهُ مِنْ الْوَسَخِ وَالدَّنَسِ وَمِنْ الْوَحْلِ الَّذِي يُصِيبُهُ وَمِنْ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَمِنْ الْمَنِيِّ عَلَى الْقَوْلِ بِطَهَارَتِهِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَكُونُ فِي الْمِيَاهِ الْمُتَغَيِّرَةِ بِمَقَرِّهَا وَمُمَازِجِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا نَوْعٌ غَيْرُ النَّوْعِ الَّذِي نَتَكَلَّمُ فِيهِ الْآنَ.

ص: 323

وَأَمَّا اجْتِنَابُ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ تَنْجِيسِهِ فَحُجَّتُهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا الْمَاءَ فِي مَظِنَّةِ أَنْ تُخَالِطَهُ النَّجَاسَةُ وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي الْحَمَّامِ مِنْ الْقَيْءِ وَالْبَوْلِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ النَّجَاسَةَ الَّتِي قَدْ تَكُونُ فِي الْحَمَّامِ. فَأَمَّا الْعَذِرَةُ أَوْ الدَّمُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا تَكَادُ تَكُونُ فِي الْحَمَّامِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَادِرًا تَمَيَّزَ وَظَهَرَ. وَأَيْضًا فَقَدْ يُزَالُ بِهِ نَجَاسَةٌ تَكُونُ عَلَى الْبَدَنِ أَوْ الثِّيَابِ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ يَكُونُ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ إمَّا مِنْ تَخَلِّي وَإِمَّا مِنْ مَرَضٍ وَإِمَّا غَيْرِ ذَلِكَ فَيَغْسِلُهَا فِي الْحَمَّامِ. وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْآنِيَةِ قَدْ يَكُونُ نَجِسًا وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ مَا يُغْسَلُ فِيهَا مِنْ الثِّيَابِ نَجِسًا. وَأَيْضًا فَهَذَا الْمَاءُ كَثِيرًا مَا يَكُونُ فِيهِ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَهُوَ نَجِسٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَتِهِ فَهَذِهِ الْحُجَّةُ الْمُعْتَمَدَةُ. وَالْجَوَابُ عَنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: الْجَوَابُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: الْمَاءُ الْفَائِضُ مِنْ حِيَاضِ الْحَمَّامِ وَالْمَصْبُوبُ عَلَى أَبْدَانِ الْمُغْتَسِلِينَ أَوْ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ طَاهِرٌ بِيَقِينِ وَمَا ذُكِرَ مَشْكُوكٌ فِي إصَابَتِهِ لِهَذَا الْمَاءِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّهُ وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّ الْحَمَّامَ يَكُونُ فِيهِ

ص: 324

مِثْلُ هَذَا فَلَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّ هَذَا الْمَاءَ الْمُعَيَّنَ أَصَابَهُ هَذَا وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ هَذَا بِعَيْنِهِ وَارِدٌ فِي طِينِ الشَّوَارِعِ لِكَثْرَةِ مَا يُصِيبُهُ مِنْ أَبْوَالِ الدَّوَابِّ وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ: بِطَهَارَتِهِ بَلْ النَّجَاسَةُ فِي طِينِ الشَّوَارِعِ أَكْثَرُ وَأَثْبَتُ: فَإِنَّ الْحَمَّامَ وَإِنْ خَالَطَ بَعْضَ مِيَاهِهَا نَجَاسَةٌ فَإِنَّهُ يَنْدَفِعُ وَلَا يَثْبُتُ بِخِلَافِ طِينِ الشَّوَارِعِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّجَاسَةِ فَالظَّاهِرُ مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ وَذَلِكَ أَنَّا إذَا اعْتَبَرْنَا مَا تُلَاقِيهِ النَّجَاسَةُ فِي الْعَادَةِ وَمَا لَا تُلَاقِيهِ كَانَ مَا لَا تُلَاقِيهِ أَكْثَرَ بِكَثِيرِ. فَإِنَّ غَالِبَ الْمِيَاهِ الْجَارِيَةِ فِي أَرْضِ الْحَمَّامِ لَا يُلَاقِيهَا فِي الْعَادَةِ نَجَاسَةٌ وَإِذَا اتَّفَقَ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ لَمْ تَبْقَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ بَلْ مِنْ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ. وَلِهَذَا قُلْتُ: إنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ غَسْلُ ذَلِكَ تَنَجُّسًا فَإِنَّهُ وَسْوَاسٌ.

وَلَنَا فِيمَا إذَا شَكَّ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ هَلْ يُسْتَحَبُّ الْبَحْثُ عَنْ نَجَاسَتِهِ وَجْهَانِ: أَظْهَرُهُمَا لَا يُسْتَحَبُّ الْبَحْثُ لِحَدِيثِ عُمَرَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْغَائِبِ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْعِلْمِ فِي الصَّحِيحِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا وَلَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ - أَنَّ عَلَيْهِ

ص: 325

نَجَاسَةٌ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي اجْتِنَابِهَا فِي الصَّلَاةِ فَمَسْأَلَةُ إصَابَتِهَا لَنَا فِيهَا أَيْضًا وَجْهَانِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّا إذَا قَدَّرْنَا أَنَّ الْغَالِبَ التَّنَجُّسُ فَقَدْ يُعَارِضُ الْأَصْلَ وَالظَّاهِرَ وَفِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرًا مَا يَجِيءُ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا كَثِيَابِ الْكُفَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَكِنْ مَعَ مَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ - كَطِينِ الشَّوَارِعِ - يُرَجِّحُونَ الطَّهَارَةَ وَإِذَا قِيلَ بِالتَّنْجِيسِ فِي مِثْلِ هَذَا عُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ. الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ هَبْ أَنَّ هَذَا الْمَاءَ خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ لَكِنَّهُ مَاءٌ جَارٍ فَإِنَّهُ سَاحَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَالْمَاءُ الْجَارِي إذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ بِالنَّجَاسَةِ وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا نَصُّهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ شِدَّةِ قَوْلِهِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ. وَنَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَالِاغْتِسَالِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَارِيَ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ الْبَوْلُ فِيهِ وَالِاغْتِسَالُ فِيهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ طَاهِرٌ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ: وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

ص: 326

مَا يُوجِبُ تَنْجِيسَهُ. فَإِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ كَالدَّائِمِ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْقُلَّتَانِ فَإِذَا كَانَتْ الْجَرْيَةُ أَقَلَّ مِنْ قُلَّتَيْنِ نَجَّسَتْهُ كَمَا هُوَ الْجَدِيدُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد فَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا وَلَا أَثَرَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ. إلَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ} وَقِيَاسُ الْجَارِي عَلَى الدَّائِمِ وَكِلَاهُمَا لَا حُجَّةَ فِيهِ. أَمَّا الْحَدِيثُ فَمَنْطُوقُهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي مَفْهُومِهِ؛ وَدَلَالَةُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لَا تَقْتَضِي عُمُومَ مُخَالَفَةِ الْمَنْطُوقِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الْمَسْكُوتِ بَلْ تَقْتَضِي أَنَّ الْمَسْكُوتَ لَيْسَ كَالْمَنْطُوقِ فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا نَوْعُ فَرْقٍ ثَبَتَ أَنَّ تَخْصِيصَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالذِّكْرِ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْمِيمِ كَانَ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ. فَإِذَا قَالَ: إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ دَلَّ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ كَذَلِكَ فَإِذَا كَانَ مَا لَمْ يَبْلُغْ فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ الْمَاءِ الْجَارِي وَالدَّائِمِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ لَا سِيَّمَا وَالْحَدِيثُ وَرَدَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ عَنْ الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ. فَيَبْقَى قَوْلُهُ: {الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ} الْوَارِدُ فِي بِئْرِ بضاعة مُتَنَاوِلًا لِلْجَارِي. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجَارِيَ لَهُ قُوَّةُ دَفْعِ النَّجَاسَةِ عَنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ إذَا صُبَّ عَلَى الْأَرْضِ النَّجِسَةِ طَهَّرَهَا؛ وَلَمْ يَتَنَجَّسْ فَكَيْفَ لَا يَدْفَعُهَا عَنْ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ يُحِيلُ النَّجَاسَةَ بِجَرَيَانِهِ.

ص: 327

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِيَاسَ: هَلْ هُوَ تَنْجِيسُ الْمَاءِ بِمُخَالَطَةِ النَّجَاسَةِ؟ أَوْ عَدَمُ تَنْجِيسِهِ حَتَّى تَظْهَرَ النَّجَاسَةُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْأَصْحَابِ وَغَيْرِهِمْ. فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ: الْعَفْوُ عَمَّا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ: كَانَ لِلْمَشَقَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ حِفْظُهُ مِنْ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَالِبًا يَكُونُ فِي الْحِيَاضِ وَالْغُدْرَانِ وَالْآبَارِ؛ بِخِلَافِ الْقَلِيلِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الْأَوَانِي وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْجَارِي فَإِنَّ حِفْظَهُ مِنْ النَّجَاسَةِ أَصْعَبُ مِنْ حِفْظِ الدَّائِمِ الْكَثِيرِ. وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي وَأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ حَتَّى تَظْهَرَ النَّجَاسَةُ كَانَ التَّطْهِيرُ عَلَى قَوْلِهِ أَوْكَدَ فَإِنَّ الْقَلِيلَ الدَّائِمَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْمِلُ الْخَبَثَ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ. وَأَمَّا الْجَارِي فَإِنَّهُ بِقُوَّةِ جَرَيَانِهِ يُحِيلُ الْخَبَثَ فَلَا يَحْمِلُهُ كَمَا لَا يَحْمِلُهُ الْكَثِيرُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهَذِهِ الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ فِي حَمَّامٍ إذَا خَالَطَهَا بَوْلٌ أَوْ قَيْءٌ أَوْ غَيْرُهُمَا كَانَتْ نَجَاسَةً قَدْ خَالَطَتْ مَاءً جَارِيًا فَلَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَالْكَلَامُ فِيمَا لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ النَّجَاسَةُ. وَإِنْ قِيلَ: إنَّ مَاءَ الْحَمَّامِ يُخَالِطُهُ السِّدْرُ والخطمي وَالتُّرَابُ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُغْسَلُ بِهِ الرَّأْسُ وَالْأُشْنَانُ وَالصَّابُونُ وَالْحِنَّاءُ

ص: 328

وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الطَّاهِرَاتِ الَّتِي تَخْتَلِطُ بِهِ حَتَّى لَا تَظْهَرَ فِيهِ النَّجَاسَةُ. قِيلَ: إذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ ظَاهِرَةً فِيهِ وَجَازَ أَنْ لَا تَكُونَ ظَاهِرَةً فَالْأَصْلُ عَدَمُ ظُهُورِهَا وَإِذَا كَانَ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ تُخَالِطُهُ الطَّاهِرَاتُ وَرَأَيْنَاهُ مُتَغَيِّرًا أَحَلْنَا التَّغَيُّرَ عَلَى مُخَالَطَةِ الطَّاهِرَاتِ إذْ الْحُكْمُ الْحَادِثُ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ الْمَعْلُومِ لَا إلَى الْمُقَدَّرِ الْمَظْنُونِ. بَلْ قَدْ ثَبَتَ النَّصُّ بِذَلِكَ فِيمَا أَصْلُهُ الْحَظْرُ؛ كَالصَّيْدِ إذَا جُرِحَ وَغَابَ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ إبَاحَتُهُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَدْ زُهِقَ بِسَبَبِ آخَرَ أَصَابَهُ فَزُهُوقُهُ إلَى السَّبَبِ الْمَعْلُومِ وَهُوَ جَرْحُ الصَّائِدِ أَوْ كَلْبُهُ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي ثَبَتَ بِالنَّصِّ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ. الْأَصْلُ الثَّالِثُ: أَنْ نَقُولَ: هَبْ أَنَّ الْمَاءَ تَنَجَّسَ فَإِنَّهُ صَارَ نَجَاسَةً عَلَى الْأَرْضِ وَالنَّجَاسَةُ إذَا كَانَتْ عَلَى الْأَرْضِ بَوْلًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ بَوْلٍ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا إذَا لَمْ تَبْقَ عَيْنُهَا. كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ. حَيْثُ قَالَ: {لَا تزرموه} أَيْ لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بِوَلَهِ. {فَصُبُّوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ} وَقَالَ: {إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ} . وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ: إنَّ نَجَاسَةَ الْأَرْضِ وَالْبِرَكِ وَالْحِيَاضِ الْمَبْنِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ يُخَالِفُ النَّجَاسَةَ عَلَى الْمَنْقُولِ مِنْ الْأَبْدَانِ وَالثِّيَابِ وَالْآنِيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.

ص: 329

أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَدُ. لَا مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَلَا غَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الِانْفِصَالُ عَنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْغُسَالَةَ طَاهِرَةٌ قَبْلَ انْفِصَالِهَا عَنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ: مَا كَانَ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ مِنْ بَوْلٍ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ فَطَهُرَتْ الْأَرْضُ مَعَ طَهَارَةِ الْغُسَالَةِ وَإِذَا كَانَتْ غُسَالَةُ الْأَرْضِ طَاهِرَةً زَالَتْ الشُّبْهَةُ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهُ إنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ يَكُونُ مِنْ الْمَاءِ مَا تُزَالُ بِهِ نَجَاسَةٌ عَنْ الْبَدَنِ أَوْ آنِيَةٍ. أَوْ ثَوْبٍ. قِيلَ لَهُ: فَهَذِهِ إذَا كَانَتْ نَجِسَةً وَأَصَابَتْ الْأَرْضَ لَمْ تَكُنْ أَعْظَمَ مِنْ الْبَوْلِ الْمُصِيبِ الْأَرْضَ وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ النَّجَاسَةُ تَزُولُ مَعَ طَهَارَةِ الْغُسَالَةِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ فَهَذِهِ أَوْلَى وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ النَّجَاسَةُ مُنْتَفِيَةٌ وَمُرُورُ الْمَاءِ الْمُطَهِّرِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَاءُ الْمَارُّ مِمَّا لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ لِكَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا. أَوْ لِتَغَيُّرِهِ بِالطَّاهِرَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: لَيْسَ الْكَلَامُ فِي نَجَاسَةٍ مُعَيَّنَةٍ مُنْتَفِيَةٍ مَشْكُوكٍ فِي زَوَالِهَا وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا يُعْتَادُ.

ص: 330

وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالْعَادَاتِ: أَنَّ الْمَاءَ الْمُطَهِّرَ وَالْجَارِيَ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ أَكْثَرُ مِنْ النَّجَاسَاتِ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ. فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَاءُ قَدْ طَهَّرَ مَا مَرَّ عَلَيْهِ مِنْ نَجَسٍ فَإِنَّ اغْتِسَالَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ وَلَا نَجَسٍ فِي الْحَمَّامَاتِ أَكْثَرُ مِنْ اغْتِسَالِهِمْ مِنْ إحْدَى هَاتَيْنِ الطَّهَارَتَيْنِ وَهُمْ يَصُبُّونَ عَلَى أَبْدَانِهِمْ مِنْ الْمَاءِ الْقَرَاحِ الَّذِي يَنْفَصِلُ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَغَيُّرٌ يَسِيرٌ بِيَسِيرِ السِّدْرِ وَالْأُشْنَانِ فَهَذَا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُطَهِّرًا بَلْ الرَّاجِحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ - وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد - الَّتِي نَصَّهَا فِي أَكْثَرِ أَجْوِبَتِهِ: أَنَّ الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ بِالطَّاهِرِ كَالْحِمْصِ وَالْبَاقِلَاءِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ طَهُورًا مَا دَامَ اسْمُ الْمَاءِ يَتَنَاوَلُهُ كَالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ كَمَاءِ الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ وَمَا تَغَيَّرَ بِمَا يَشُقُّ صَوْنُهُ عَنْهُ مِنْ الطُّحْلُبِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّ شُمُولَ اسْمِ الْمَاءِ فِي اللُّغَةِ لِهَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ. فَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْمَاءِ فِي قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} يَتَنَاوَلُ أَحَدَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ فَقَدْ تَنَاوَلَ الْآخَرَيْنِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَنَاوِلٌ لِلْمُتَغَيِّرِ ابْتِدَاءً وَطَرْدًا لِمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَيَتَنَاوَلُ الثَّالِثَ إذْ الْفَرْقُ إنَّمَا يَعُودُ إلَى أَمْرٍ مَعْهُودٍ وَهُوَ أَنَّ هَذَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ وَهَذَا الْفَرْقُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي اللُّغَةِ وَيَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ لِمَعْنَاهُ وَشُمُولِ الِاسْمِ مُسَمَّاهُ فَيَحْتَاجُ الْمُفَرِّقُ إلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. وَقَدْ ثَبَتَ

ص: 331

بِالسُّنَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ: {اغْسِلُوهُ بِمَاءِ وَسِدْرٍ} وَكَذَلِكَ قَالَ لِلَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ: {اغْسِلْنَهَا بِمَاءِ وَسِدْرٍ} وَلِلَّذِي أَسْلَمَ: {اغْتَسِلْ بِمَاءِ وَسِدْرٍ} وَهَذَا فِيهِ كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَإِذَا تَبَيَّنَ مَا ذَكَرْنَاهُ ظَهَرَ عَظِيمُ الْبِدْعَةِ وَتَغْيِيرُ السُّنَّةِ وَالشِّرْعَةِ فِيمَا يَفْعَلُهُ طَوَائِفُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ فَرْطِ الْوَسْوَسَةِ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى صَارُوا إنَّمَا يَفْعَلُونَهُ مُضَاهِينَ لِلْيَهُودِ بَلْ لِلسَّامِرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا مِسَاسَ. وَبَابُ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ - الَّذِي مِنْهُ بَابُ التَّطْهِيرِ وَالتَّنْجِيسِ - دِينُ الْإِسْلَامِ فِيهِ وَسَطٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَا هُوَ وَسَطٌ فِي سَائِرِ الشَّرَائِعِ فَلَمْ يُشَدَّدْ عَلَيْنَا فِي أَمْرِ التَّحْرِيمِ وَالنَّجَاسَةِ كَمَا شُدِّدَ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٌ أُحِلَّتْ لَهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ بَلْ وُضِعَتْ عَنَّا الْآصَارُ وَالْأَغْلَالُ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ مِثْلَ قَرْضِ الثَّوْبِ وَمُجَانَبَةِ الْحَائِضِ فِي الْمُؤَاكَلَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَمْ تُحَلَّلْ لَنَا الْخَبَائِثُ كَمَا اسْتَحَلَّهَا النَّصَارَى؛ الَّذِينَ لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يُدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ فَلَا يَجْتَنِبُونَ نَجَاسَةً وَلَا يُحَرِّمُونَ خَبِيثًا بَلْ غَايَةُ أَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ طَهِّرْ قَلْبَك وَصَلِّ. وَالْيَهُودِيُّ إنَّمَا يَعْتَنِي بِطَهَارَةِ ظَاهِرِهِ

ص: 332

لَا قَلْبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} . وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّ اللَّهَ طَهَّرَ قُلُوبَهُمْ وَأَبْدَانَهُمْ مِنْ الْخَبَائِثِ وَأَمَّا الطَّيِّبَاتُ فَأَبَاحَهَا لَهُمْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى.

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ؟ وَمَا هُوَ الَّذِي يَفْعَلُهُ مِنْ آدَابِ الْحَمَّامِ؟ .

فَأَجَابَ:

لَا يَلْزَمُ الْمُتَطَهِّرَ كَشْفُ عَوْرَتِهِ لَا فِي الْخَلْوَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا إذَا طَهَّرَ جَمِيعَ بَدَنِهِ. لَكِنْ إنْ كَشَفَهَا فِي الْخَلْوَةِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ: كَالتَّطَهُّرِ وَالتَّخَلِّي جَازَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّ مُوسَى عليه السلام اغْتَسَلَ عريانا وَأَنَّ أَيُّوبَ عليه السلام اغْتَسَلَ عريانا} وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّ فَاطِمَةَ: كَانَتْ تَسْتُرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ بِثَوْبِ وَهُوَ يَغْتَسِلُ ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ} وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا صَلَاةُ الضُّحَى. وَيُقَالُ: إنَّهَا صَلَاةُ الْفَتْحِ وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا {أَنَّ مَيْمُونَةَ سَتَرَتْهُ فَاغْتَسَلَ} .

ص: 333

وَعَلَى دَاخِلِ الْحَمَّامِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ؛ فَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنْ نَظَرِهَا وَلَا لَمْسِهَا سَوَاءٌ كَانَ الْقَيِّمُ الَّذِي يَغْسِلُهُ أَوْ غَيْرُهُ وَلَا يَنْظُرْ إلَى عَوْرَةِ أَحَدٍ وَلَا يَلْمِسْهَا إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ مُدَاوَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَذَاكَ شَيْءٌ آخَرُ. وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} فَيَأْمُرُ بِتَغْطِيَةِ الْعَوْرَاتِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَكُونَ حَيْثُ لَا يَشْهَدُ مُنْكَرًا فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ إذْ شُهُودُ الْمُنْكَرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا إكْرَاهٍ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْرِفَ فِي صَبِّ الْمَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا وَهُوَ فِي الْحَمَّامِ يُنْهَى عَنْهُ لِحَقِّ الحمامي؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِيهَا مَالٌ مِنْ أَمْوَالِهِ لَهُ قِيمَةٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَلْزَمَ السُّنَّةَ فِي طَهَارَتِهِ؛ فَلَا يَجْفُو جَفَاءَ النَّصَارَى وَلَا يَغْلُو غُلُوَّ الْيَهُودِ. كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْوَسْوَسَةِ بَلْ حِيَاضُ الْحَمَّامِ طَاهِرَةٌ مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فَائِضَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْأُنْبُوبُ تَصُبُّ فِيهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ وَسَوَاءٌ بَاتَ الْمَاءُ أَوْ لَمْ يَبِتْ وَسَوَاءٌ تَطَهَّرَ مِنْهَا النَّاسُ أَوْ لَمْ يَتَطَهَّرُوا. فَإِذَا اغْتَسَلَ مِنْهَا جَمَاعَةٌ جَازَ ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَامْرَأَتُهُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ قَدْرَ

ص: 334

الْفَرَقِ} فَهَذَا إنَاءٌ صَغِيرٌ لَا يَفِيضُ وَلَا أُنْبُوبَ فِيهِ وَهُمَا يَغْتَسِلَانِ مِنْهُ جَمِيعًا وَفِي لَفْظٍ: {فَأَقُولُ: دَعْ لِي وَيَقُولُ: دَعِي لِي} . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: {أَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ} وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ. وَالصَّاعُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ يَكُونُ بِالرِّطْلِ الْمِصْرِيِّ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَرْطَالٍ نَحْوَ خَمْسَةٍ إلَّا رُبْعًا وَالْمُدُّ رُبُعُ ذَلِكَ. وَقِيلَ هُوَ نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةِ أَرْطَالٍ بِالْمِصْرِيِّ. وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقُولَ: الطَّاسَةُ إذَا وَقَعَتْ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ تَنَجَّسَتْ فَإِنَّ أَرْضَ الْحَمَّامِ الْأَصْلُ فِيهَا الطَّهَارَةُ وَمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ نَجَاسَةٍ كَبَوْلِ فَهُوَ يُصَبُّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَاءِ مَا يُزِيلُهُ وَهُوَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الطُّرُقَاتِ بِكَثِيرِ وَالْأَصْلُ فِيهَا الطَّهَارَةُ بَلْ كَمَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ عَلَى أَرْضِهَا نَجَاسَةٌ فَكَذَلِكَ يَتَيَقَّنُ أَنَّ الْمَاءَ يَعُمُّ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَلَا يَجْزِمْ عَلَى بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا أَنَّهَا نَجِسَةٌ إنْ لَمْ يَعْلَمْ حُصُولَ النَّجَاسَةِ فِيهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 335

مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ -:

فِيمَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ بِلَا مِئْزَرٍ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ: هَلْ يَحْرُمُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَيْضًا أَنْ يُلْزِمَ مُسْتَأْجِرَ الْحَمَّامِ أَنْ لَا يُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ دُخُولِ حَمَّامِهِ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ أَمْ لَا؟ وَفِيمَنْ يَقْعُدُ فِي الْحَمَّامِ وَقْتَ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ: هَلْ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا وَابْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ.

فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَقِيَّةُ السَّلَفِ الْكِرَامِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة:

الْحَمْدُ لِلَّهِ: نَعَمْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَقَدْ صَحَّ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى النَّاسَ عَنْ الْحَمَّامِ} وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ مِنْ ذُكُور أُمَّتِي فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرِ} وَفِي الْحَدِيثِ: {نَهَى النِّسَاءَ مِنْ الدُّخُولِ مُطْلَقًا إلَّا لِمَعْذِرَةِ} وَفِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ عَنْهُ الَّذِي اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقَشِيرِي أَنَّهُ قَالَ لَهُ: {احْفَظْ

ص: 336

عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك: أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك قَالَ: قُلْت: فَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ قَالَ: إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا قَالَ: قُلْت؛ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا قَالَ: فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ} أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ حَسَنٌ. وَابْنُ مَاجَه. وَعَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ وَإِلْزَامُ النَّاسِ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ أَحَدٌ الْحَمَّامَ مَعَ النَّاسِ إلَّا مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ وَإِلْزَامُ أَهْلِ الْحَمَّامِ بِأَنَّهُمْ لَا يُمَكِّنُونَ النَّاسَ مِنْ دُخُولِ حَمَّامَاتِهِمْ إلَّا مُسْتَوْرِي الْعَوْرَةِ وَمَنْ لَمْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَوُلَاةَ الْأَمْرِ مِنْ أَهْلِ الْحَمَّامِ وَالدَّاخِلِينَ: عُوقِبَ عُقُوبَةً بَلِيغَةً تُرْدِعهُ وَأَمْثَالَهُ مِنْ أَهْلِ الْفَوَاحِشِ الَّذِينَ لَا يَسْتَحْيُونَ لَا مِنْ اللَّهِ وَلَا مِنْ عِبَادِهِ؛ فَإِنَّ إظْهَارَ الْعَوْرَاتِ مِنْ الْفَوَاحِشِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} وَغَضُّ الْبَصَرِ وَاجِبٌ عَمَّا لَا يَحِلُّ التَّمَتُّعُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ: مِنْ النِّسْوَةِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَعَنْ الْعَوْرَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا لَذَّةٌ لِفُحْشِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ عَلَى دَاخِلِ الْحَمَّامِ أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ عَمَّنْ كَانَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ قَدْ عَصَى بِكَشْفِهَا وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ الْمَكْشُوفَ بِالِاسْتِتَارِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى النَّاسِ وَكَذَلِكَ حِفْظُ الْفُرُوجِ يَكُونُ عَنْ الِاسْتِمْتَاعِ

ص: 337

الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَعَنْ إظْهَارِهَا لِمَنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرَاهَا كَمَا يُنْهَى الرَّجُلُ عَنْ مَسِّ عَوْرَةِ غَيْرِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَأَنْ تُبَاشِرَ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَأَمَرَ بِالتَّفْرِيقِ فِي الْمَضَاجِعِ بَيْنَ الصِّبْيَانِ إذَا بَلَغُوا عَشْرَ سِنِينَ. كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: {احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك لَمَّا قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي؟ وَمَا نَذَرُ؟ . . فَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ قَالَ: إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا قَالَ: قُلْت: فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا قَالَ: فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ} فَأَمَرَ بِسَتْرِهَا فِي الْخَلْوَةِ. وَهَذَا وَاجِبٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا إذَا اغْتَسَلَ فِي مَكَانٍ خَالٍ بِجَنْبِ حَائِطٍ أَوْ شَجَرَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ أَوْ حَمَّامٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ كَشْفُهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّ مُوسَى اغْتَسَلَ عريانا} {وَأَنَّ أَيُّوبَ اغْتَسَلَ عريانا} {وَأَنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ تَسْتُرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِثَوْبِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ} . وَهَذَا كَشْفٌ لِلْحَاجَةِ بِمَنْزِلَةِ كَشْفِهَا عِنْدَ التَّخَلِّي وَالْجِمَاعِ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ وَلِهَذَا كَرِهَ الْعُلَمَاءُ لِلْمُتَخَلِّي أَنْ يَرْفَعَ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنْ الْأَرْضِ.

ص: 338

وَتَنَازَعُوا فِي نَظَرِ كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ إلَى عَوْرَةِ الْآخَرِ: هَلْ يُكْرَهُ أَوْ لَا يُكْرَهُ؟ أَمْ يُكْرَهُ وَقْتَ الْجِمَاعِ خَاصَّةً؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَقَدْ كَرِهَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ النُّزُولَ فِي الْمَاءِ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ وَرَوَوْا عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ: إنَّ لِلْمَاءِ سُكَّانًا. وَأَمَّا فَتْحُ الْحَمَّامِ وَقْتَ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ وَتَمْكِينُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دُخُولِهَا هَذَا الْوَقْتَ وَقُعُودِهِمْ فِيهَا تَارِكِينَ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّعْيِ إلَى الْجُمْعَةِ فَهَذَا أَيْضًا مُحَرَّمٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ بَعْدَ النِّدَاءِ إلَى الْجُمْعَةِ الْبَيْعَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ وَكَانَ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى مَا دُونَهُ مِنْ قُعُودٍ فِي الْحَمَّامِ أَوْ بُسْتَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَالْجُمْعَةُ فَرْضٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ وَلَيْسَ دُخُولُ الْحَمَّامِ مِنْ الْأَعْذَارِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ إنْ كَانَ لِتَنَعُّمِ كَانَ آثِمًا عَاصِيًا وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ أَمْكَنَهُ الِاغْتِسَالُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الِاغْتِسَالَ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الصَّلَاةِ. بَلْ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ أَمْرُ جَمِيعِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ بِهَا مَنْ أَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَالدُّورِ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ هَذَا الْوَاجِبِ عُوقِبَ عَلَى

ص: 339

ذَلِكَ عُقُوبَةً تَحْمِلُهُ وَأَمْثَالَهُ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ. فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ تَرْكِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَطْبَعَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونَنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ} وَقَالَ: {مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ} . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ أَمْرِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ بِهَا وَنَهْيِهِ عَمَّا يَمْنَعُهُ مِنْ الْجُمْعَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. كَتَبَهُ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة.

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ: يَحْرُمُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْحَمَّامِ وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَيَّدَهُ اللَّهُ مَنْعُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِطَرِيقَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَعَلَيْهِ أَيْضًا إلْزَامُ مُسْتَأْجِرِ الْحَمَّامِ بِأَنْ لَا يُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ دُخُولِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَمْنُوعِ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ مِمَّنْ خُوطِبَ بِأَدَاءِ الْجُمْعَةِ تَرْكُهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَيْسَ دُخُولُ الْحَمَّامِ بِمُجَرَّدِهِ عُذْرًا فِي تَرْكِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 340

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ تَرْكِ دُخُولِ الْحَمَّامِ؟

.

فَأَجَابَ: مَنْ تَرَكَ دُخُولَ الْحَمَّامِ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ دَخَلَهَا مَعَ كَشْفِ عَوْرَتِهِ وَالنَّظَرِ إلَى عَوْرَاتِ النَّاسِ أَوْ ظَلَمَ الحمامي فَهُوَ عَاصٍ مَذْمُومٌ وَمَنْ تَنَعَّمَ بِهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَهُوَ مَنْقُوصٌ مَرْجُوحٌ وَمَنْ تَرَكَهَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا حَتَّى يَكْثُرَ وَسَخُهُ وَقَمْلُهُ فَهُوَ جَاهِلٌ مَذْمُومٌ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ عَامِّيٍّ سُئِلَ عَنْ عُبُورِ الْحَمَّامِ؟ وَنَقَلَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَسْنَدَ الْحَدِيثَ إلَى كِتَابِ مُسْلِمٍ هَلْ صَحَّ هَذَا أَوْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

لَيْسَ لِأَحَدِ لَا فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَرَّمَ الْحَمَّامَ بَلْ الَّذِي فِي السُّنَنِ أَنَّهُ

ص: 341

قَالَ: {سَتَفْتَحُونَ أَرْضَ الْعَجَمِ وَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا الْحَمَّامَاتُ فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ ذُكُورِ أُمَّتِي فَلَا يَدْخُلْ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرِ وَمَنْ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ إنَاثِ أُمَّتِي فَلَا تَدْخُلْ الْحَمَّامَ إلَّا مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ} . وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَالْحَمَّامُ مَنْ دَخَلَهَا مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى عَوْرَةِ أَحَدٍ وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا يَمَسُّ عَوْرَتَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ فِيهَا مُحَرَّمًا وَأَنْصَفَ الحمامي فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَدْخُلُهَا لِلضَّرُورَةِ مَسْتُورَةَ الْعَوْرَةِ. وَهَلْ تَدْخُلُهَا إذَا تَعَوَّدَتْهَا وَشَقَّ عَلَيْهَا تَرْكُ الْعَادَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. أَحَدُهُمَا: لَهَا أَنْ تَدْخُلَهَا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. وَالثَّانِي: لَا تَدْخُلُهَا وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 342

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

أَيُّمَا أَفْضَلُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَنَامَ عَلَى وُضُوءٍ؟ أَوْ يُكْرَهُ لَهُ النَّوْمُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ النَّوْمُ فِي الْمَسْجِدِ إذَا تَوَضَّأَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْجُنُبُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوُضُوءُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يَنَامَ أَوْ يُعَاوِدَ الْوَطْءَ لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ النَّوْمُ إذَا لَمْ يَتَوَضَّأْ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ هَلْ يَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ؛ إذَا تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ} . وَيُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ عِنْدَ النَّوْمِ لِكُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلِ: {إذَا أَخَذْت مَضْجَعَك فَتَوَضَّأْ وُضُوءَك لِلصَّلَاةِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْلَمْت نَفَسِي إلَيْك وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك وَفَوَّضْت أَمْرِي إلَيْك وَأَلْجَأْت ظَهْرِي إلَيْك رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْك لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْك إلَّا إلَيْك آمَنْت بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت وَنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت} .

ص: 343

وَلَيْسَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَلْبَثَ فِي الْمَسْجِدِ لَكِنْ إذَا تَوَضَّأَ جَازَ لَهُ اللُّبْثُ فِيهِ عِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَاسْتَدَلَّ بِمَا ذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ: " أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ وَهُمْ جُنُبٌ ثُمَّ يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ. وَيَتَحَدَّثُونَ ". وَهَذَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْجُنُبَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ النَّوْمِ وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ ذَلِكَ كَرَاهَةَ أَنْ تُقْبَضَ رُوحُهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَلَا تَشْهَدُ الْمَلَائِكَةُ جِنَازَتَهُ فَإِنَّ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ} وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِنَهْيِهِ عَنْ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتُ الْمَلَائِكَةِ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ. وَقَالَ: {إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنَوْا آدَمَ} . فَلَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْجُنُبَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ النَّوْمِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ الْغَلِيظَةَ وَتَبْقَى مَرْتَبَةٌ بَيْنَ الْمُحْدِثِ وَبَيْنَ الْجُنُبِ لَمْ يُرَخَّصْ لَهُ فِيمَا يُرَخَّصُ فِيهِ لِلْمُحْدِثِ مِنْ الْقِرَاءَةِ؛ وَلَمْ يُمْنَعْ مِمَّا يُمْنَعُ مِنْهُ الْجُنُبُ مِنْ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ وُضُوءُهُ عِنْدَ النَّوْمِ يَقْتَضِي شُهُودَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَدْخُلُ الْمَكَانَ الَّذِي هُوَ فِيهِ إذَا تَوَضَّأَ؛ وَلِهَذَا يُجَوِّزُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد لِلْجُنُبِ الْمُرُورَ فِي الْمَسْجِدِ بِخِلَافِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ؛ فَعُلِمَ أَنَّ

ص: 344

مَنْعَهُ مِنْ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْ مَنْعِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي مَنْعِ الْكُفَّارِ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْمُسْلِمُونَ خَيْرٌ مِنْ الْكُفَّارِ وَلَوْ كَانُوا جُنُبًا فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا لَقِيَهُ وَهُوَ جُنُبٌ فَانْخَنَسَ مِنْهُ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: أَيْنَ كُنْت؟ قَالَ: إنِّي كُنْت جُنُبًا فَكَرِهْت أَنْ أُجَالِسَك إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ؛ إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ} . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} . فَلُبْثُ الْمُؤْمِنِ الْجُنُبِ إذَا تَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى مَنْ لُبْثِ الْكَافِرِ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَمَنْ مَنَعَ الْكَافِرَ لَمْ يَجِبْ أَنْ يُمْنَعَ الْمُؤْمِنُ الْمُتَوَضِّئُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ. وَإِذَا كَانَ الْجُنُبُ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ النَّوْمِ وَالْمَلَائِكَةُ تَشْهَدُ جِنَازَتَهُ حِينَئِذٍ عُلِمَ أَنَّ النَّوْمَ لَا يُبْطِلُ الطَّهَارَةَ الْحَاصِلَةَ بِذَلِكَ وَهُوَ تَخْفِيفُ الْجَنَابَةِ وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَيْثُ يَنَامُ غَيْرُهُ وَإِذَا كَانَ النَّوْمُ الْكَثِيرُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَذَاكَ هُوَ الْوُضُوءُ الَّذِي يَرْفَعُ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ وَوُضُوءُ الْجُنُبِ هُوَ تَخْفِيفُ الْجَنَابَةِ وَإِلَّا فَهَذَا الْوُضُوءُ لَا يُبِيحُ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ: مِنْ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ.

ص: 345

‌بَابٌ التَّيَمُّمُ

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة رحمه الله:

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ؛ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم تَسْلِيمًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .

ص: 346

وَالتَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْقَصْدُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} وَقَوْلُهُ: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

تَيَمَّمْت الْمَاءَ الَّذِي دُونَ ضَارِجٍ

يَمِيلُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عرمضها طَامِي

لَكِنْ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} كَانَ التَّيَمُّمُ الْمَأْمُورُ بِهِ: هُوَ تَيَمُّمَ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ لِلتَّمَسُّحِ بِهِ فَصَارَ لَفْظُ التَّيَمُّمِ إذَا أُطْلِقَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ انْصَرَفَ إلَى هَذَا التَّيَمُّمِ الْخَاصِّ وَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ التَّيَمُّمِ نَفْسُ مَسْحِ الْيَدَيْنِ وَالْوَجْهِ فَسُمِّيَ الْمَقْصُودُ بِالتَّيَمُّمِ تَيَمُّمًا. وَهَذَا التَّيَمُّمُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْآيَةِ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ وَمِمَّا فَضَّلَهُمْ اللَّهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي: نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا. فَأَيُّمَا رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي وَأُعْطِيت الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً} وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.

ص: 347

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {فُضِّلْت عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتِّ: أُعْطِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ} . وَلِمُسْلِمِ أَيْضًا عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {فُضِّلْت عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثِ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهْورًا إذَا لَمْ نَجِدْ الْمَاءَ} . وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحْت وَصَلَّيْت: وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ إنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ} . وقَوْله تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ كَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وَقَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَقَوْلِهِ: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} وَهَذِهِ تُسَمَّى مُطْلَقَةً وَهِيَ تُفِيدُ الْعُمُومَ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ أَيَّ صَعِيدٍ طَيِّبٍ اتَّفَقَ. وَالطَّيِّبُ هُوَ الطَّاهِرُ وَالتُّرَابُ الَّذِي يَنْبَعِثُ مُرَادٌ مِنْ النَّصِّ بِالْإِجْمَاعِ وَفِيمَا سِوَاهُ نِزَاعٌ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 348

وَقَوْلُهُ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} قَدْ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ عَلَى قِرَاءَةِ أَيْدِيكُمْ بِالْإِسْكَانِ؛ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْوُضُوءِ: {وَأَرْجُلَكُمْ} فَإِنَّ بَعْضَ السَّبْعَةِ قَرَءُوا: {وَأَرْجُلَكُمْ} بِالنَّصْبِ قَالُوا: إنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْمَغْسُولِ تَقْدِيرُهُ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ كَذَلِكَ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي: قَرَأَ عَلَيَّ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ: وَأَرْجُلِكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ بِالْخَفْضِ فَسَمِعَ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَكَانَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فَقَالَ: وَأَرْجُلَكُمْ يَعْنِي بِالنَّصْبِ وَقَالَ هَذَا مِنْ الْمُقَدَّمِ الْمُؤَخَّرِ فِي الْكَلَامِ. وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا بِالنَّصْبِ وَقَالَ عَادَ الْأَمْرُ إلَى الْغَسْلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَطْفًا عَلَى الْمَحَلِّ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ كَقَوْلِ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ:

مُعَاوِي إنَّنَا بَشَرٌ فَاسْجَحْ

فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا

فَإِنَّمَا يَسُوغُ فِي حَرْفِ التَّأْكِيدِ مِثْلُ الْمَبَانِي. وَأَمَّا حُرُوفُ الْمَعَانِي فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهَا وَالْبَاءُ هُنَا لِلْإِلْصَاقِ لَيْسَتْ لِلتَّوْكِيدِ وَلِهَذَا لَمْ يَقْرَأْ الْقُرَّاءُ هُنَا وَأَيْدِيَكُمْ كَمَا قَرَءُوا هُنَاكَ وَأَرْجُلَكُمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: فَامْسَحُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ أَوْ امْسَحُوا بِهَا لَكَانَ يُكْتَفَى بِمُجَرَّدِ الْمَسْحِ مِنْ غَيْرِ إيصَالٍ لِلطَّهُورِ إلَى الرَّأْسِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَلَمَّا كَانَتْ الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إلْصَاقِ الْمَمْسُوحِ بِهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى

ص: 349

اسْتِعْمَالِ الطَّهُورِ وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْبَاءُ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّبْعِيضِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَلَا قَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّ التَّبْعِيضَ يُسْتَفَادُ مِنْ الْبَاءِ؛ بَلْ أَنْكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ ذَلِكَ وَحَكَّمُوا كَلَامَ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي إنْكَارِ ذَلِكَ وَلَكِنَّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ اسْتَنَدَ إلَى دِلَالَةٍ أُخْرَى. وقَوْله تَعَالَى {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التُّرَابَ طَهُورٌ كَمَا صَرَّحَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا} وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَمَسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ} رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي. وَالتِّرْمِذِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ فِي السَّفَرِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى إلَى أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَعَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ وَكَذَلِكَ تَيَمُّمُ الْجُنُبِ: ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَجَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ

ص: 350

إلَى أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ فِي السَّفَرِ إلَى أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ فَإِذَا وَجَدَهُ كَانَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ إنْكَارُ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ وَرُوِيَ عَنْهُمَا الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ: كَعَلِيِّ وَعَمَّارٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَخَمْسَةُ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. مِنْهَا: حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ كِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَمِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَمِنْهَا: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ العاص وَحَدِيثُ الَّذِي شُجَّ فَأَفْتَوْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ هَلَّا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ} فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: {كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا بِالْوَضُوءِ فَتَوَضَّأَ وَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ إذَا هُوَ بِرَجُلِ مُعْتَزِلٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ قَالَ: مَا مَنَعَك يَا فُلَانُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ: وَلَا مَاءَ قَالَ: عَلَيْك بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيك} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: {بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْت فَلَمْ أَجِدْ الْمَاءَ فَتَمَرَّغْت فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ ثُمَّ أَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: إنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْك هَكَذَا ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ

ص: 351

ضَرْبَةً وَاحِدَةً ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ} وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ.

فَصْلٌ:

وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّيَمُّمِ: هَلْ يَرْفَعُ الْحَدَثَ رَفْعًا مُؤَقَّتًا إلَى حِينِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ؟ أَمْ الْحَدَثُ قَائِمٌ وَلَكِنَّهُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَ وُجُودِ الْحَدَثِ الْمَانِعِ؟ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ نَظَرِيَّةٌ. وَتَنَازَعُوا هَلْ يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ فَيَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ كَمَا يَتَوَضَّأُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنْ فُرُوضٍ وَنَوَافِلَ كَمَا يُصَلِّي بِالْمَاءِ وَلَا يَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ كَمَا لَا يَبْطُلُ الْوُضُوءُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ وَهُوَ نِزَاعٌ عَمَلِيٌّ. فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَقْتِ وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ كَالْمَاءِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ خُرُوجِهِ.

ص: 352

ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: يَتَيَمَّمُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَتَيَمَّمُ لِفِعْلِ كُلِّ فَرِيضَةٍ وَلَا يَجْمَعُ بِهِ فَرْضَيْنِ. وَغَلَا بَعْضُهُمْ فَقَالَ: وَيَتَيَمَّمُ لِكُلِّ نَافِلَةٍ وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْجُمْلَةِ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. قَالُوا: لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَالْحُكْمُ الْمُقَيَّدُ بِالضَّرُورَةِ مُقَدَّرٌ بِقَدْرِهَا فَإِذَا تَيَمَّمَ فِي وَقْتٍ يُسْتَغْنَى عَنْ التَّيَمُّمِ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ كُلَّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ بِالْوُضُوءِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ تَيَمَّمَ وَكَانَ ظَاهِرُ الْخِطَابِ يُوجِبُ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ الْوُضُوءَ وَالتَّيَمُّمَ؛ لَكِنْ لَمَّا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا بِوُضُوءِ وَاحِدٍ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: دَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهِ وَبَقِيَ التَّيَمُّمُ عَلَى ظَاهِرِ الْخِطَابِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِطَلَبِ الْمَاءِ عِنْد كُلِّ صَلَاةٍ وَذَلِكَ يُبْطِلُ تَيَمُّمَهُ. وَوَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَمْرِو بْنِ العاص وَابْنِ عُمَرَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ. وَلَنَا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: أَنَّ التُّرَابَ طَهُورٌ كَمَا أَنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فأمسه بَشَرَتَك فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ} فَجَعَلَهُ مُطَهِّرًا عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ مُطْلَقًا. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُطَهِّرٌ

ص: 353

لِلْمُتَيَمِّمِ وَإِذَا كَانَ قَدْ جَعَلَ الْمُتَيَمِّمَ مُطَهَّرًا كَمَا أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ مُطَهَّرٌ وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِوَقْتِ وَلَمْ يَقُلْ إنَّ خُرُوجَ الْوَقْتِ يُبْطِلُهُ كَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ يُبْطِلُهُ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَهُوَ مُوجَبُ الْأُصُولِ. فَإِنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنْ الْمَاءِ وَالْبَدَلُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فِي أَحْكَامِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمَاثِلًا لَهُ فِي صِفَتِهِ كَصِيَامِ الشَّهْرَيْنِ فَإِنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْإِعْتَاقِ وَصِيَامُ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِ فَإِنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ فِي التَّمَتُّعِ وَكَصِيَامِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ بَدَلٌ عَنْ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ وَالْبَدَلُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ وَهَذَا لَازِمٌ لِمَنْ يَقِيسُ التَّيَمُّمَ عَلَى الْمَاءِ فِي صِفَتِهِ فَيُوجِبُ الْمَسْحَ عَلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ مُطْلَقَةً كَمَا قَاسَ عَمَّارٌ لَمَّا تَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ فَمَسَحَ جَمِيعَ بَدَنِهِ كَمَا يَغْسِلُ جَمِيعَ بَدَنِهِ وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَادَ هَذَا الْقِيَاسِ وَأَنَّهُ يُجْزِئُكَ مِنْ الْجَنَابَةِ التَّيَمُّمُ الَّذِي يُجْزِئُكَ فِي الْوُضُوءِ وَهُوَ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا تَكُونُ صِفَتُهُ كَصِفَةِ الْمُبْدَلِ بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُهُ فَإِنَّ التَّيَمُّمَ مَسْحُ عُضْوَيْنِ وَهُمَا الْعُضْوَانِ الْمَغْسُولَانِ فِي الْوُضُوءِ وَسَقَطَ الْعُضْوَانِ الْمَمْسُوحَانِ وَالتَّيَمُّمُ عَنْ الْجَنَابَةِ يَكُونُ فِي هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ بِخِلَافِ الْغُسْلِ. وَالتَّيَمُّمُ لَيْسَ فِيهِ مَضْمَضَةٌ وَلَا اسْتِنْشَاقٌ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمُ

ص: 354

لَا يُسْتَحَبُّ فِيهِ تَثْنِيَةٌ وَلَا تَثْلِيثٌ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمُ يُفَارِقُ صِفَةَ الْوُضُوءِ مِنْ وُجُوهٍ وَلَكِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ فَيَجِبُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ كَسَائِرِ الْأَبْدَالِ فَهَذَا مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ. فَإِنْ قِيلَ: الْوُضُوءُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَالتَّيَمُّمُ لَا يَرْفَعُهُ؟ قِيلَ: عَنْ هَذَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ أَوْ لَا يَرْفَعُهُ فَإِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهُ طَهُورًا عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ يَقُومُ مَقَامَهُ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ مَا يَثْبُتُ لِلْمَاءِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: قَوْلُ الْقَائِلِ يَرْفَعُ الْحَدَثَ أَوْ لَا يَرْفَعُهُ لَيْسَ تَحْتَهُ نِزَاعٌ عَمَلِيٌّ وَإِنَّمَا هُوَ نِزَاعٌ اعْتِبَارِيٌّ لَفْظِيٌّ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ قَالُوا: لَوْ رَفَعَهُ لَمْ يُعِدْ إذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: يَرْفَعُ الْحَدَثَ إنَّمَا قَالُوا بِرَفْعِهِ رَفْعًا مُؤَقَّتًا إلَى حِينِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي حُكْمٍ عَمَلِيٍّ شَرْعِيٍّ وَلَكِنَّ تَنَازُعَهُمْ يَنْزِعُ إلَى قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَنَّ

ص: 355

الْمُنَاسَبَةَ هَلْ تَنْخَرِمُ بِالْمُعَارَضَةِ وَأَنَّ الْمَانِعَ الْمُعَارِضَ لِلْمُقْتَضِي هَلْ يَرْفَعُهُ أَمْ لَا يَرْفَعُهُ اقْتِضَاؤُهُ مَعَ بَقَاءِ ذَاتِهِ. وَكَشْفُ الْغِطَاءِ عَنْ هَيْئَةِ النِّزَاعِ أَنَّ لَفْظَ الْعِلَّةِ يُرَادُ بِهِ الْعِلَّةُ التَّامَّةُ وَهُوَ مَجْمُوعُ مَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِحَيْثُ إذَا وُجِدَ وُجِدَ الْحُكْمُ وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ؛ فَيَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْعِلَّةِ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ جَبْرُ الْعِلَّةِ وَشُرُوطُهَا وَعَدَمُ الْمَانِعِ. إمَّا لِكَوْنِ عَدَمِ الْمَانِعِ يَسْتَلْزِمُ وَصْفًا ثُبُوتِيًّا عَلَى رَأْيٍ وَإِمَّا لِكَوْنِ الْعَدَمِ قَدْ يَكُونُ جَبْرًا مِنْ الْمُقْتَضِي عَلَى رَأْيٍ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَتَى تَخَصَّصَتْ وَانْتَقَضَتْ فَوُجِدَ الْحُكْمُ بِدُونِهَا دَلَّ عَلَى فَسَادِهَا كَمَا لَوْ عَلَّلَ مُعَلِّلٌ قَصْرَ الصَّلَاةِ بِمُطْلَقِ الْعُذْرِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمَرِيضَ وَنَحْوَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ لَا يَقْصُرُونَ وَإِنَّمَا يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ خَاصَّةً فَالْقَصْرُ دَائِرٌ مَعَ السَّفَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَدَوَرَانُ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ وُجُودًا وَعَدَمًا دَلِيلٌ عَلَى الْمَدَارِ عَلَيْهِ لِلدَّائِرِ وَكَمَا لَوْ عَلَّلَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِمُجَرَّدِ مِلْكِ النِّصَابِ قِيلَ لَهُ: هَذَا يَنْتَقِضُ بِالْمِلْكِ قَبْلَ الْحَوْلِ. وَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ الْعِلَّةِ مَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى ثُبُوتِ شُرُوطٍ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ. وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ بِلَفْظِ السَّبَبِ فَيُقَالُ: الْأَسْبَابُ الْمُثْبِتَةُ لِلْإِرْثِ

ص: 356

ثَلَاثَةٌ: رَحِمٌ وَنِكَاحٌ وَوَلَاءٌ. وَعِنْد أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَثْبُتُ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَغَيْرِهَا فَالْعِلَّةُ هُنَا قَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْحُكْمُ الْمَانِعُ: كَالرِّقِّ وَالْقَتْلِ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ. فَإِذَا أُرِيدَ بِالْعِلَّةِ هَذَا الْمَعْنَى جَازَ تَخْصِيصُهَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ وَوُجُودِ مَانِعٍ. فَأَمَّا إنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْمُعَلِّلُ بَيْنَ صُورَةِ النَّقْضِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَرْقًا مُؤَثِّرًا بَطَلَ تَعْلِيلُهُ فَإِنَّ الْحُكْمَ اقْتَرَنَ بِالْوَصْفِ تَارَةً كَمَا فِي الْأَصْلِ وَتَخَلَّفَ عَنْهُ تَارَةً كَمَا فِي الْأَصْلِ وَيَخْتَلِفُ عَنْهُ تَارَةً كَمَا فِي صُورَةِ النَّقْضِ. وَالْمُسْتَدِلُّ إنْ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الْفَرْعَ مِثْلُ الْأَصْلِ دُونَ صُورَةِ النَّقْضِ فَلَمْ يَكُنْ إلْحَاقُهُ بِالْأَصْلِ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِصُورَةِ النَّقْضِ فِي انْتِفَائِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ مَوْجُودٌ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ وَقَدْ اقْتَرَنَ بِهِ الْحُكْمُ فِي الْوَاحِدَةِ دُونَ الْأُخْرَى وَشَكَكْنَا فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ. وَهَذَا كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ ثَلَاثَةٌ فِي الْقَتْلِ: فَقَتَلَ الْأَوْلِيَاءُ وَاحِدًا وَلَمْ يَقْتُلُوا آخَرَ إمَّا لِبَذْلِ الدِّيَةِ وَإِمَّا لِإِحْسَانِ كَانَ لَهُ عِنْدَهُمْ وَالثَّالِثُ لَمْ يُعْرَفْ أَهْوَ كَالْمَقْتُولِ أَوْ كَالْمَعْفُوِّ عَنْهُ فَإِنَّا لَا نُلْحِقُهُ بِأَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلِ يُبَيِّنُ مُسَاوَاتَهُ لَهُ دُونَ مُسَاوَاتِهِ لِلْآخَرِ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَالْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ مُتَنَازِعُونَ فِي اسْتِحْلَالِ الْمَيْتَةِ

ص: 357

عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَدْ اُسْتُحِلَّ الْمَحْظُورُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْحَاظِرِ وَهُوَ مَا فِيهَا مِنْ حَيْثُ التَّغْذِيَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الضَّرُورَةُ مَا أَزَالَتْ حُكْمَ السَّبَبِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ إزَالَةُ اقْتِضَاءٍ لِلْحَظْرِ فَلَمْ يَبْقَ فِي هَذِهِ الْحَالِ حَاظِرٌ إذْ يَمْتَنِعُ زَوَالُ الْحَظْرِ مَعَ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ التَّامِّ. وَفَصْلُ النِّزَاعِ: أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالسَّبَبِ الْحَاظِرِ: السَّبَبُ التَّامُّ وَهُوَ مَا يَسْتَلْزِمُ الْحَظْرَ فَهَذَا يَرْتَفِعُ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ فَإِنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ مُمْتَنِعٌ وَالْحِلُّ ثَابِتٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُ السَّبَبِ الْمُسْتَلْزِمِ لَهُ وَإِنْ أُرِيدَ بِالسَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِلْحَظْرِ لَوْلَا الْمُعَارِضُ الرَّاجِحُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ حَالَ الْحَظْرِ لَكِنَّ الْمُعَارِضَ الرَّاجِحَ أَزَالَ اقْتِضَاءَهُ لِلْحَظْرِ فَلَمْ يَبْقَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مُقْتَضِيًا فَإِذَا قُدِّرَ زَوَالُ الْمَخْمَصَةِ عَمِلَ السَّبَبُ عَمَلَهُ لِزَوَالِ الْمُعَارِضِ لَهُ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كَوْنِ التَّيَمُّمِ يَرْفَعُ الْحَدَثَ أَوْ لَا يَرْفَعُهُ فَإِنَّهُ فَرْعٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ رَفْعًا مُؤَقَّتًا إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ثُمَّ يَعُودُ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِمُمْتَنِعِ وَالشَّرْعُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ فَجَعَلَ التُّرَابَ طَهُورًا وَالْمَاءَ يَكُونُ طَهُورًا إذَا أَزَالَ الْحَدَثَ وَإِلَّا مَعَ وُجُودِ الْجَنَابَةِ

ص: 358

يَمْتَنِعُ حُصُولُ الطَّهَارَةِ فَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ إنَّمَا قَالَ: إنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ رَفْعًا مُؤَقَّتًا إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ثُمَّ يَعُودُ وَهَذَا مُمْكِنٌ لَيْسَ بِمُمْتَنِعِ وَالشَّرْعُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ فَجَعَلَ التُّرَابَ طَهُورًا وَإِنَّمَا يَكُونُ طَهُورًا إذَا أَزَالَ الْحَدَثَ وَإِلَّا فَمَعَ بَقَاءِ الْحَدَثِ لَا يَكُونُ طَهُورًا. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِرَافِعِ وَلَكِنَّهُ مُبِيحٌ وَالْحَدَثُ هُوَ الْمَانِعُ لِلصَّلَاةِ وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَانِعٌ تَامٌّ كَمَا يَكُونُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ فَهَذَا غالط فَإِنَّ الْمَانِعَ التَّامَّ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَنْعِ وَالْمُتَيَمِّمُ يَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ لَيْسَ بِمَمْنُوعِ مِنْهَا وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ مُمْتَنِعٌ. وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ قَائِمٌ وَلَكِنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُ لِوُجُودِ الطَّهَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ الرَّافِعَةِ لِمَنْعِهِ فَإِذَا حَصَلَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ حَصَلَ مَنْعُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَهَذَا صَحِيحٌ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: هُوَ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ. إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَرْفَعُهُ كَمَا يَرْفَعُهُ الْمَاءُ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِوُجُودِ سَبَبٍ آخَرَ كَانَ غالطا فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ: أَنَّهُ إذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ اسْتَعْمَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَجَدَّدْ بَعْدَ الْجَنَابَةِ الْأُولَى جَنَابَةٌ ثَانِيَةٌ بِخِلَافِ الْمَاءِ. وَإِنْ قَالَ: أُرِيدَ بِرَفْعِهِ أَنَّهُ رَفْعُ مَنْعِ الْمَانِعِ فَلَمْ يَبْقَ مَانِعًا إلَى حِينِ وُجُودِ الْمَاءِ. فَقَدْ أَصَابَ وَلَيْسَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ نِزَاعٌ شَرْعِيٌّ عَمَلِيٌّ.

ص: 359

وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ: عَلَى كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ لَمْ يَبْقَ الْحَدَثُ مَانِعًا مَعَ وُجُودِ طِهَارَةِ التَّيَمُّمِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَعَلَ التُّرَابَ طَهُورًا كَمَا جَعَلَ الْمَاءَ طَهُورًا لَكِنْ جَعَلَ طَهَارَتَهُ مُقَيَّدَةً إلَى أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي كَوْنِهِ مُطَهِّرًا شَرْطًا آخَرَ فَالْمُتَيَمِّمُ قَدْ صَارَ طَاهِرًا وَارْتَفَعَ مَنْعُ الْمَانِعِ لِلصَّلَاةِ إلَى أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ فَمَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ فَالْمَنْعُ زَائِلٌ إذَا لَمْ يَتَجَدَّدْ سَبَبٌ آخَرُ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ كَمَا يُوجِبُ طَهَارَةَ الْمَاءِ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ طَهُورًا قَبْلَ الْوَقْتِ وَبَعْدَ الْوَقْتِ وَفِي الْوَقْتِ كَمَا كَانَ الْمَاءُ طَهُورًا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ وَلَيْسَ بَيْنَ هَذَا فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ إلَّا إذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَمَنْ أَبْطَلَهُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَقَدْ خَالَفَ مُوجِبَ الدَّلِيلِ. وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ ذَلِكَ رُخْصَةً عَامَّةً لِأُمَّتِهِ. وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ التَّيَمُّمَ بِفَرْضِ أَوْ نَفْلٍ أَوْ تِلْكَ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا كَمَا لَمْ يَفْصِلْ فِي ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ فَيَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا وَالْوُضُوءُ قَبْلَ الْوَقْتِ فِيهِ نِزَاعٌ لَكِنَّ النِّزَاعَ فِي التَّيَمُّمِ أَشْهَرُ.

وَإِذَا دَلَّتْ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلَى جَوَازِ أَحَدِ الطَّهُورَيْنِ قَبْلَ الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ كِلَاهُمَا مُتَطَهِّرٌ فَعَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؛ وَلِهَذَا جَازَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ وَالْمُغْتَسِلِ بِالْمُتَيَمِّمِ كَمَا فَعَلَ عَمْرُو بْنُ العاص وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَمَا فَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَيْثُ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ ثُمَّ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ بِالتَّيَمُّمِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَمَذْهَبُ أَبِي

ص: 360

يُوسُفَ وَغَيْرِهِ. لَكِنْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ؛ لِنَقْصِ حَالِ الْمُتَيَمِّمِ. وَأَيْضًا كَانَ دُخُولُ الْوَقْتِ وَخُرُوجُهُ مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ سَبَبٍ حَادِثٍ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي بُطْلَانِ الطَّهَارَةِ الْوَاجِبَةِ إذْ كَانَ حَالُ الْمُتَطَهِّرِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ سَوَاءً. وَالشَّارِعُ حَكِيمٌ إنَّمَا يُثْبِتُ الْأَحْكَامَ وَيُبْطِلُهَا بِأَسْبَابِ تُنَاسِبُهَا فَكَمَا لَا يُبْطِلُ الطَّهَارَةَ بِالْأَمْكِنَةِ لَا يُبْطِلُ بِالْأَزْمِنَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَوْصَافِ الَّتِي لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي الشَّرْعِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَنْتَقِضُ بِطَهَارَةِ الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَذَوِي الْأَحْدَاثِ الدَّائِمَةِ. قِيلَ: أَمَّا طَهَارَةُ الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَلَيْسَتْ وَاجِبَةً بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمَسْحِ وَبَيْنَ الْخَلْعِ وَالْغَسْلِ؛ وَلِهَذَا وَقَّتَهَا الشَّارِعُ وَلَمْ يُوَقِّتْهَا لِدُخُولِ وَقْتِ صَلَاةٍ وَلَا خُرُوجِهَا وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ رُخْصَةً لَيْسَتْ بِعَزِيمَةِ حَدَّ لَهَا وَقْتًا مَحْدُودًا فِي الزَّمَنِ ثَلَاثًا لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ طَهَارَةُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ عَزِيمَةً لَمْ تَتَوَّقَتْ بَلْ يَمْسَحُ عَلَيْهَا إلَى أَنْ يَحِلَّهَا وَيَمْسَحُ فِي الطَّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى كَمَا يَتَيَمَّمُ عَنْ الْحَدَثَيْنِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ فَإِلْحَاقُ التَّيَمُّمِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

ص: 361

وَأَمَّا ذَوُو الْأَحْدَاثِ الدَّائِمَةِ: كَالْمُسْتَحَاضَةِ فَأُولَئِكَ وُجِدَ فِي حَقِّهِمْ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْحَدَثِ وَهُوَ خُرُوجُ الْخَارِجِ النَّجِسِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ وَلَكِنْ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ رَخَّصَ لَهُمْ الشَّارِعُ فِي الصَّلَاةِ مَعَهُ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ الرُّخْصَةُ مُؤَقَّتَةً؛ وَلِهَذَا لَوْ تَطَهَّرَتْ الْمُسْتَحَاضَةُ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ تَنْتَقِضْ طَهَارَتُهَا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا تَنْتَقِضُ إذَا خَرَجَ الْخَارِجُ فِي الْوَقْتِ فَإِنَّهَا تُصَلِّي بِهِ إلَى أَنْ يَخْرُجَ الْوَقْتُ ثُمَّ لَا تُصَلِّي لِوُجُودِ النَّاقِضِ لِلطَّهَارَةِ بِخِلَافِ الْمُتَيَمِّمِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ تَيَمُّمِهِ مَا يَنْقُضُ طَهَارَتَهُ. وَالتَّيَمُّمُ كَالْوُضُوءِ فَلَا يُبْطِلُ تَيَمُّمَهُ إلَّا مَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا وَقَوْلِ مَنْ وَافَقَنَا عَلَى التَّوْقِيتِ فِي مَسْحِ الْخُفَّيْنِ وَعَلَى انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ فَإِنَّ هَذَا مَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ: أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَنْقُضْ الطَّهَارَةَ بِهَذَا أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ هَذَا كَمَالِكِ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الْمُعَارَضَةُ بِهَذَا وَهَذَا؛ فَإِنَّهُ لَا يتوقت عِنْدَهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَالتَّيَمُّمُ أَوْلَى أَنْ لَا يتوقت. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْقَائِمَ إلَى الصَّلَاةِ مَأْمُورٌ بِإِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ. قِيلَ: نَعَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ لَكِنْ إذَا كَانَ قَدْ تَطَهَّرَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ

ص: 362

أَحْسَنَ وَأَتَى بِالْوَاجِبِ قَبْلَ هَذَا كَمَا لَوْ تَوَضَّأَ قَبْلَ هَذَا فَإِنَّ كَوْنَهُ عَلَى طَهَارَةٍ قَبْلَ الْوَقْتِ إلَى حِينِ الْوَقْتِ أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يَبْقَى مُحْدِثًا وَكَذَلِكَ الْمُتَيَمِّمُ إذَا كَانَ قَدْ أَحْسَنَ بِتَقْدِيمِ طَهَارَتِهِ لِكَوْنِهِ عَلَى طَهَارَةٍ قَبْلَ الْوَقْتِ أَحْسَنُ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّهَا طَهَارَةٌ حَتَّى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَيَمَّمَ وَرَدَّ عليه السلام وَقَالَ: كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلَّا عَلَى طُهْرٍ} . وَإِذَا كَانَ تَطَهَّرَ قَبْلَ الْوَقْتِ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ وَأَتَى بِأَفْضَلَ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ وَكَانَ كَالْمُتَطَهِّرِ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا وَكَمَنْ أَدَّى أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا وَكَمَنْ زَادَ عَلَى الْوَاجِبِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَهَذَا كُلُّهُ حَسَنٌ إذَا لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ خَامِسَةٍ فِي الصَّلَاةِ. وَالتَّيَمُّمُ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ حَسَنٌ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ وَلِهَذَا يَجُوزُ قَبْلَ الْوَقْتِ لِلنَّافِلَةِ وَلَمْسُ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَثَرِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَبَعْضُهُ ضَعِيفٌ وَبَعْضُهُ مُعَارِضٌ بِقَوْلِ غَيْرِهِ وَلَا إجْمَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} .

ص: 363

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الصَّعِيدُ: فَفِيهِ أَقْوَالٌ فَقِيلَ: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَقْ بِيَدِهِ؛ كَالزَّرْنِيخِ وَالنَّوْرِ وَالْجِصِّ وَكَالصَّخْرَةِ الْمَلْسَاءِ فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهَا كَالْمَعَادِنِ فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمُحَمَّدٌ يُوَافِقُهُ؛ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا لِقَوْلِهِ: (مِنْهُ. وَقِيلَ يَجُوزُ بِالْأَرْضِ وَبِمَا اتَّصَلَ بِهَا حَتَّى بِالشَّجَرِ كَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَلَهُ فِي الثَّلْجِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ الأوزاعي وَالثَّوْرِيِّ. وَقِيلَ يَجُوزُ بِالتُّرَابِ وَالرَّمْلِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ أَبِي يُوسُفَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ بِالرَّمْلِ عِنْدَ عَدَمِ التُّرَابِ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ إلَّا بِتُرَابِ طَاهِرٍ لَهُ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْيَدِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى.

ص: 364

وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِيمَا يَعْلَقُ بِالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالصَّخْرُ لَا يَعْلَقُ لَا بِالْوَجْهِ وَلَا بِالْيَدِ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ تُرَابُ الْحَرْثِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا طَهُورًا} قَالُوا: فَعَمَّ الْأَرْضَ بِحُكْمِ الْمَسْجِدِ وَخَصَّ تُرْبَتَهَا - وَهُوَ تُرَابُهَا - بِحُكْمِ الطَّهَارَةِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ اخْتَصَّتْ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ بِمَا هُوَ مَاءٌ فِي الْأَصْلِ فَكَذَلِكَ طَهَارَةُ التُّرَابِ تَخْتَصُّ بِمَا هُوَ تُرَابٌ فِي الْأَصْلِ وَهُمَا الْأَصْلَانِ اللَّذَانِ خُلِقَ مِنْهُمَا آدَمَ: الْمَاءُ. وَالتُّرَابُ. وَهُمَا الْعُنْصُرَانِ الْبَسِيطَانِ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْمَائِعَاتِ وَالْجَامِدَاتِ فَإِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ. وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {صَعِيدًا} قَالُوا: وَالصَّعِيدُ هُوَ الصَّاعِدُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ صَاعِدٍ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى. {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} وَقَوْلِهِ: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} . وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَخُصَّ الْحُكْمَ بِالتُّرَابِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ} وَفِي رِوَايَةٍ {فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ} فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُسْلِمَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ عِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ.

ص: 365

وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهَا تُرَابُ حَرْثٍ فَإِنْ لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ بِالرَّمْلِ كَانَ مُخَالِفًا لِهَذَا الْحَدِيثِ وَهَذِهِ حُجَّةُ مَنْ جَوَّزَ التَّيَمُّمَ بِالرَّمْلِ دُونَ غَيْرِهِ أَوْ قَرَنَ بِذَلِكَ السَّبْخَةَ؛ فَإِنَّ مِنْ الْأَرْضِ مَا يَكُونُ سَبْخَةً. وَاخْتِلَافُ التُّرَابِ بِذَلِكَ كَاخْتِلَافِهِ بِالْأَلْوَانِ بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ فَجَاءَ بَنُوهُ عَلَى قَدْرِ تِلْكَ الْقَبْضَةِ: جَاءَ مِنْهُمْ الْأَسْوَدُ وَالْأَبْيَضُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَجَاءَ مِنْهُمْ السَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَبَيْنَ ذَلِكَ} . وَآدَمُ إنَّمَا خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ وَالتُّرَابُ الطَّيِّبُ وَالْخَبِيثُ: الَّذِي يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَاَلَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إلَّا نَكِدًا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّيِّبِ الطَّاهِرُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَحْجَارِ وَالْأَشْجَارِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ التُّرَابِ وَلَا تَعْلَقُ بِالْيَدِ؛ بِخِلَافِ الزَّرْنِيخِ وَالنُّورَةِ فَإِنَّهَا مَعَادِنُ فِي الْأَرْضِ لَكِنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ كَمَا يَنْطَبِعُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالرَّصَاصُ وَالنُّحَاسُ.

ص: 366

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ مُفْتِي الْأَنَامِ الْمُجْتَهِدُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ: أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ -:

قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . هَذَا الْخِطَابُ يَقْتَضِي: أَنَّ كُلَّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْغُسْلِ. وَالْمَسْحِ. وَهُوَ الْوُضُوءُ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ: إلَى أَنَّ هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ.

ص: 367

وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ: إلَى أَنَّهُ يُوجِبُ الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ. فَأَمَّا الْأَوَّلُونَ: فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهَذَا: الْقَائِمُ مِنْ النَّوْمِ وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ. قَالُوا: الْآيَةُ أَوْجَبَتْ الْوُضُوءَ عَلَى النَّائِمِ بِهَذَا وَعَلَى الْمُتَغَوِّطِ بِقَوْلِهِ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} وَعَلَى لَامِسِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وَهَذَا هُوَ الْحَدَثُ الْمُعْتَادُ. وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلْوُضُوءِ عِنْدَهُمْ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: فِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. تَقْدِيرُهُ: إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ النَّوْمِ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ. فَيُقَالُ: أَمَّا تَنَاوُلُهَا لِلْقَائِمِ مِنْ النَّوْمِ الْمُعْتَادِ: فَظَاهِرُ لَفْظِهَا يَتَنَاوَلُهُ. وَأَمَّا كَوْنُهَا مُخْتَصَّةً بِهِ بِحَيْثُ لَا تَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا وَقَامَ إلَى الصَّلَاةِ - فَهَذَا ضَعِيفٌ. بَلْ هِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِهَذَا لَفْظًا وَمَعْنًى. وَغَالِبُ الصَّلَوَاتِ يَقُومُ النَّاسُ إلَيْهَا مِنْ يَقَظَةٍ: لَا مِنْ نَوْمٍ:

ص: 368

كَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَكَذَلِكَ الظُّهْرُ فِي الشِّتَاءِ؛ لَكِنَّ الْفَجْرَ يَقُومُونَ إلَيْهَا مِنْ نَوْمٍ. وَكَذَلِكَ الظُّهْرُ فِي الْقَائِلَةِ. وَالْآيَةُ تَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إذَا أَمَرَتْ الْآيَةُ الْقَائِمَ مِنْ النَّوْمِ - لِأَجْلِ الرِّيحِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ - فَأَمْرُهَا لِلْقَائِمِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ الرِّيحُ فِي الْيَقَظَةِ أَوْلَى وَأَحْرَى. فَتَكُونُ - عَلَى هَذَا - دِلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى الْيَقْظَانِ بِطَرِيقِ تَنْبِيهِ الْخِطَابِ وَفَحْوَاهُ. وَإِنْ قِيلَ: إنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ هَذَا بِطْرِيقِ الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ. فَهَذَانِ قَوْلَانِ مُتَوَجِّهَانِ. وَالْآيَةُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ عَامَّةٌ. وَتَعُمُّ أَيْضًا الْقِيَامَ إلَى النَّافِلَةِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْقِيَامَ إلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَمَتَى كانت عَامَّةً لِهَذَا كُلِّهِ: فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ أَوْ قَدْ أَحْدَثْتُمْ. فَإِنَّ الْمُتَوَضِّئَ لَيْسَ عَلَيْهِ وُضُوءٌ. وَكُلُّ هَذَا عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. وَيُوجِبُهُ الشَّافِعِيُّ فِي التَّيَمُّمِ فَإِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ يُخَالِفُ هَذَا.

ص: 369

فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا: كَانَ لَهُ قَوْلَانِ. وَمِنْ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَجْعَلُ هَذَا قَوْلَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْحُكْمِ. فَيَجْعَلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ اتِّفَاقًا عَلَى الْإِضْمَارِ كَمَا ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ. قَالَ: وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ مُحْدِثِينَ فَاغْسِلُوا فَصَارَ الْحَدَثُ مُضْمَرًا فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ. وَهَذَا قَوْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي مُوسَى وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم وَالْفُقَهَاءِ. قَالَ: وَالثَّانِي أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى إطْلَاقِهِ مِنْ غَيْرِ إضْمَارٍ فَيَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى كُلِّ مَنْ يُرِيدُ الصَّلَاةَ مُحْدِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْدِثٍ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنِ سِيرِين. وَنُقِلَ عَنْهُمْ: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. وَنُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَاجِبًا بِالسُّنَّةِ. وَهُوَ مَا رَوَى بريدة رضي الله عنه {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ الْفَتْحِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ. وَقَالَ: عَمْدًا فَعَلْته يَا عُمَرُ} . قُلْت: أَمَّا الْحُكْمُ - وَهُوَ أَنَّ مَنْ تَوَضَّأَ لِصَلَاةِ صَلَّى بِذَلِكَ

ص: 370

الْوُضُوءِ صَلَاةً أُخْرَى - فَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ شَاذٌّ. وَقَدْ عُلِمَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوجِبُ الْوُضُوءَ عَلَى مَنْ صَلَّى ثُمَّ قَامَ إلَى صَلَاةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ {أَنَّهُ صَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ عَرَفَةَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا جَمَعَ بِهِمْ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ} وَصَلَّى خَلْفَهُ أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ. وَلَمَّا سَلَّمَ مِنْ الظُّهْرِ. صَلَّى بِهِمْ الْعَصْرَ وَلَمْ يُحْدِثْ وُضُوءًا لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ وَلَا أَمَرَ النَّاسَ بِإِحْدَاثِ وُضُوءٍ وَلَا نَقَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّجْدِيدَ لَا يُسْتَحَبُّ مُطْلَقًا.

وَهَلْ يُسْتَحَبُّ التَّجْدِيدُ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْ الْخَمْسِ؟ فِيهِ نِزَاعٌ. وَفِيهِ عَنْ أَحْمَد رحمه الله رِوَايَتَانِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمَّا قَدِمَ مُزْدَلِفَةَ: {صَلَّى بِهِمْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمْعًا} مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ وُضُوءٍ لِلْعِشَاءِ. وَهُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَدْ قَامَ هُوَ وَهُمْ إلَى صَلَاةٍ بَعْدَ صَلَاةٍ. وَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ إقَامَةً. وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَحَادِيثِ الْجَمْعِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ رضي الله عنهم. كُلُّهَا تَقْتَضِي: أَنَّهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُ - صَلَّوْا الثَّانِيَةَ مِنْ الْمَجْمُوعَتَيْنِ بِطِهَارَةِ الْأُولَى لَمْ يُحْدِثُوا لَهَا وُضُوءًا.

ص: 371

وَكَذَلِكَ هُوَ صلى الله عليه وسلم قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ {أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ. فَيُصَلِّي بِهِ الْفَجْرَ} مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ حَتَّى يَغُطَّ. وَيَقُولُ {تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي} فَهَذَا أَمْرٌ مِنْ أَصَحِّ مَا يَكُونُ أَنَّهُ: كَانَ يَنَامُ ثُمَّ يُصَلِّي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ الَّذِي تَوَضَّأَ لِلنَّافِلَةِ يُصَلِّي بِهِ الْفَرِيضَةَ. فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ؟ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ. ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ. فَاشْتَغَلَ بِهِمْ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُحْدِثْ وُضُوءًا} . وَكَانَ يُصَلِّي تَارَةً الْفَرِيضَةَ ثُمَّ النَّافِلَةَ. وَتَارَةً النَّافِلَةَ ثُمَّ الْفَرِيضَةَ وَتَارَةً فَرِيضَةً ثُمَّ فَرِيضَةً. كُلُّ ذَلِكَ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ. وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ صَلَّوْا خَلْفَهُ فِي رَمَضَانَ بِاللَّيْلِ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِهِ يَتَوَضَّئُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ مَا لَمْ يُحْدِثُوا كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ - لَا بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ -: أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ.

ص: 372

فَالْقَوْلُ بِاسْتِحْبَابِ هَذَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ: فَمُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. وَالنَّقْلُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه بِخِلَافِ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ؛ بَلْ الثَّابِتُ عَنْهُ خِلَافُهُ. وَعَلِيٌّ رضي الله عنه أَجَلُّ مَنْ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا وَالْكَذِبُ عَلَى عَلِيٍّ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ: أَكْثَرُ مِنْهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رحمه الله مَعَ سِعَةِ عِلْمِهِ بِآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا نِزَاعٌ. وَقَالَ أَحْمَد بْنُ الْقَاسِمِ: سَأَلْت أَحْمَد عَمَّنْ صَلَّى أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ. مَا ظَنَنْت أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ هَذَا. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: {كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ. قُلْت: وَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: يُجْزِئُ أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ} وَهَذَا هُوَ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمُفَرِّقَةِ. وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ أَحْمَد ذَلِكَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَحْيَانًا يُصَلِّي صَلَوَاتٍ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ. كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بريدة رضي الله عنه قَالَ: {صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إنِّي

ص: 373

رَأَيْتُك صَنَعْت شَيْئًا لَمْ تَكُنْ صَنَعْته؟ قَالَ: عَمْدًا صَنَعْته يَا عُمَرُ} . وَالْقُرْآنُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ أَنْ يَتَوَضَّأَ مَرَّةً ثَانِيَةً مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} فَقَدْ أَمَرَ مَنْ جَاءَ مِنْ الْغَائِطِ وَلَمْ يَجِدْ الْمَاءَ: أَنْ يَتَيَمَّمَ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَجِيءَ مِنْ الْغَائِطِ يُوجِبُ التَّيَمُّمَ. فَلَوْ كَانَ الْوُضُوءُ وَاجِبًا عَلَى مَنْ جَاءَ مِنْ الْغَائِطِ وَمَنْ لَمْ يَجِئْ فَإِنَّ التَّيَمُّمَ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يُوجِبُونَ التَّيَمُّمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ. وَعَلَى هَذَا فَلَا تَأْثِيرَ لِلْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ. فَإِنَّهُ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ وَجَبَ الْوُضُوءُ أَوْ التَّيَمُّمُ وَإِنْ لَمْ يَجِئْ مِنْ الْغَائِطِ. وَلَوْ جَاءَ مِنْ الْغَائِطِ وَلَمْ يَقُمْ إلَى الصَّلَاةِ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وُضُوءٌ وَلَا تَيَمُّمٌ فَيَكُونُ ذِكْرُ الْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ عَبَثًا عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ. لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَكُونُونَ مُحْدِثِينَ فَإِنَّ الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ أَمْرٌ مُعْتَادٌ لَهُمْ وَكُلُّ بَنِي آدَمَ مُحْدِثٌ. وَالْأَصْلُ فِيهِمْ: الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ. فَإِنَّ أَحَدَهُمْ مِنْ حِينِ كَانَ طِفْلًا قَدْ اعْتَادَ ذَلِكَ فَلَا يَزَالُ مُحْدِثًا بِخِلَافِ الْجَنَابَةِ. فَإِنَّهَا إنَّمَا تَعْرِضُ لَهُمْ

ص: 374

عِنْدَ الْبُلُوغِ. وَالْأَصْلُ فِيهِمْ: عَدَمُ الْجَنَابَةِ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِمْ: عَدَمُ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى؛ فَلِهَذَا قَالَ: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فَأَمَرَهُمْ بِالطَّهَارَةِ الصُّغْرَى مُطْلَقًا. لِأَنَّ الْأَصْلَ: أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُحْدِثُونَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا. ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وَلَيْسَ مِنْهُمْ جُنُبٌ إلَّا مَنْ أَجْنَبَ. فَلِهَذَا فَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: الْآيَةُ اقْتَضَتْ وُجُوبَ الْوُضُوءِ إذَا قَامَ الْمُؤْمِنُ إلَى الصَّلَاةِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْوُضُوءِ. وَأَنَّهُ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ صَارَ وَاجِبًا حِينَئِذٍ وُجُوبًا مُضَيَّقًا. فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَدْ تَوَضَّأَ قَبْلَ ذَلِكَ: فَقَدْ أَدَّى هَذَا الْوَاجِبَ قَبْل تَضْيِيقِهِ كَمَا قَالَ: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ يُوجِبُ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ. وَحِينَئِذٍ يتضيق وَقْتُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَغِلَ عَنْهُ بِبَيْعِ وَلَا غَيْرِهِ. فَإِذَا سَعَى إلَيْهَا قَبْلَ النِّدَاءِ: فَقَدْ سَابَقَ إلَى الْخَيْرَاتِ وَسَعَى قَبْلَ تَضْيِيقِ الْوَقْتِ. فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ: إنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى بَيْتِهِ لِيَسْعَى عِنْدَ النِّدَاءِ؟ . وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ: إذَا كَانَ الْمُسْلِمُ قَدْ تَوَضَّأَ لِلظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ لِلْمَغْرِبِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ لِلْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِهِ وَهُوَ إنَّمَا يَقُومُ إلَى الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوَقْتِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ فَهُوَ

ص: 375

بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ السَّعْيَ إذَا أَتَى الْجُمُعَةَ قَبْلَ النِّدَاءِ. وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ نَبِيِّهِمْ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ لِلْفَجْرِ وَغَيْرِهَا قَبْلَ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَجِّلُهَا وَيُصَلِّيهَا إذَا تَوَارَتْ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ. وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَانَتْ بُيُوتُهُمْ بَعِيدَةً مِنْ الْمَسْجِدِ. فَهَؤُلَاءِ لَوْ لَمْ يَتَوَضَّئُوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ: لَمَا أَدْرَكُوا مَعَهُ أَوَّلَ الصَّلَاةِ بَلْ قَدْ تَفُوتُهُمْ جَمِيعًا لِبُعْدِ الْمَوَاضِعِ. وَهُوَ نَفْسُهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَلَا مَنْ حَضَرَ عِنْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا كَانَ يَأْمُرُ أَحَدًا بِتَجْدِيدِ الْوُضُوءِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ. وَهَذَا كُلُّهُ مَعْلُومٌ مَقْطُوعٌ بِهِ. وَمَا أَعْرِفُ فِي هَذَا خِلَافًا ثَابِتًا عَنْ الصَّحَابَةِ: أَنَّ مَنْ تَوَضَّأَ قَبْلَ الْوَقْتِ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ. وَلَا يُسْتَحَبُّ أَيْضًا لِمِثْلِ هَذَا تَجْدِيدُ وُضُوءٍ. وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ صَلَّى بِالْوُضُوءِ الْأَوَّلِ: هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّجْدِيدُ؟ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُصَلِّ بِهِ: فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ إعَادَةُ الْوُضُوءِ؛ بَلْ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ فِي مِثْلِ هَذَا بِدْعَةٌ مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَهُ إلَى هَذَا الْوَقْتِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا قَبْلَ الْقِيَامِ قَدْ أَدَّى هَذَا الْوَاجِبَ قَبْلَ تَضْيِيقِهِ كَالسَّاعِي إلَى الْجُمُعَة قَبْلَ النِّدَاءِ وَكَمَنْ قَضَى الدَّيْنَ قَبْلَ حُلُولِهِ؛ وَلِهَذَا

ص: 376

قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّ الصَّبِيَّ إذَا صَلَّى ثُمَّ بَلَغَ لَمْ يُعِدْ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ بِعَيْنِهَا سَابَقَ إلَيْهَا قَبْلَ وَقْتِهَا. وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى مِنْ إيجَابِ الْإِعَادَةِ. وَمَنْ أَوْجَبَهَا قَاسَهُ عَلَى الْحَجِّ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ. كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْوُضُوءِ: هُوَ بِعَيْنِهِ فِي التَّيَمُّمِ. وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ التَّيَمُّمَ كَالْوُضُوءِ فَهُوَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ. وَإِنْ تَيَمَّمَ قَبْلَ الْوَقْتِ وَتَيَمَّمَ لِلنَّافِلَةِ فَيُصَلِّي بِهِ الْفَرِيضَةَ وَغَيْرَهَا؛ كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ - وَهُوَ التَّيَمُّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ - هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. فَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَهِيَ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْوُضُوءِ. فَإِنْ كَانَ قَدْ تَوَضَّأَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَفَعَلَ الْوَاجِبَ قَبْلَ تَضْيِيقِهِ وَسَارَعَ إلَى الْخَيْرَاتِ كَمَنْ سَعَى إلَى الْجُمُعَةِ قَبْلَ النِّدَاءِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا إضْمَارٌ وَلَا تَخْصِيصٌ وَلَا تَدُلُّ عَلَى

ص: 377

وُجُوبِ الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ. بَلْ دَلَّتْ عَلَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالسُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ وُجُوبُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمُصَلِّي. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ} . وَهَذَا يُوَافِقُ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ. فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الطُّهُورِ وَمَنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ فَهُوَ عَلَى طُهُورٍ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْوُضُوءِ مَنْ كَانَ مُحْدِثًا. كَمَا قَالَ: {لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ} وَهُوَ إذَا تَوَضَّأَ ثُمَّ أَحْدَثَ: فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَمْرِهِ بِالْوُضُوءِ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ وَإِذَا كَانَ قَدْ تَوَضَّأَ فَقَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ. كَقَوْلِهِ: لَا تُصَلِّ إلَّا بِوُضُوءِ. أَوْ لَا تُصَلِّ حَتَّى تَتَوَضَّأَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. مِمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْوُضُوءِ لِجِنْسِ الصَّلَاةِ الشَّامِلِ لِأَنْوَاعِهَا وَأَعْيَانِهَا. لَيْسَ مَأْمُورًا لِكُلِّ نَوْعٍ أَوْ عَيْنٍ بِوُضُوءِ غَيْرِ وُضُوءِ الْآخَرِ. وَلَا فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. لَكِنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْوُضُوءِ عَلَى الْجِنْسِ كَمَنْ أَسْلَمَ

ص: 378

فَتَوَضَّأَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ الْغُرُوبِ أَوْ كَمَنْ أَحْدَثَ فَتَوَضَّأَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ. بِخِلَافِ الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ. فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ.

فَصْلٌ:

وقَوْله تَعَالَى {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَهُوَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الطَّهَارَةِ. وَقَالَ دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْنَا بِالْوُضُوءِ لِصَلَاةِ وَاحِدَةٍ. بَلْ أَمَرَ بِأَنْ يَتَوَضَّأَ كُلَّمَا صَلَّى: وَلَوْ صَلَّى صَلَاةً بِوُضُوءِ وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ: اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا: دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مِنْ لَفْظِ " الصَّلَاةِ " فَإِنَّ " الصَّلَاةَ " هُنَا اسْمُ جِنْسٍ. لَيْسَ الْمُرَادُ صَلَاةً وَاحِدَةً. فَقَدْ أَمَرَ إذَا قَامَ إلَى جِنْسِ الصَّلَاةِ أَنْ يَتَوَضَّأَ. وَالْجِنْسُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا يُصَلِّيهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَقْتَضِي عُمُومَ الْجِنْسِ فَمِنْ أَيْنَ التَّكْرَارُ؟ فَإِذَا

ص: 379

قَامَ إلَى أَيِّ صَلَاةٍ تَوَضَّأَ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ أَنَّهُ إذَا قَامَ إلَيْهَا يَوْمًا آخَرَ يَتَوَضَّأُ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الثَّانِي قَائِمٌ إلَى الصَّلَاةِ. فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْوُضُوءِ إذَا قَامَ إلَى مُسَمَّى الصَّلَاةِ؛ فَحَيْثُ وُجِدَ قِيَامٌ إلَى مُسَمَّى الصَّلَاةِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْوُضُوءِ مَتَى وُجِدَ ذَلِكَ. فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} فَالْمُرَادُ: جِنْسُ الدُّلُوكِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ لَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ طُلُوعٍ وَغُرُوبٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ طُلُوعًا وَاحِدًا فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَبْلَ كُلِّ طُلُوعٍ لَهَا وَقَبْلَ كُلِّ غُرُوبٍ. وَأَقِمْ الصَّلَاةَ عِنْدَ كُلِّ دُلُوكٍ وَكُلِّ صَلَاةٍ يَقُومُ إلَيْهَا مُتَوَضِّئًا لَهَا. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ: هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. قِيلَ: يَقْتَضِيهِ كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَقِيلٍ. وَقِيلَ: لَا يَقْتَضِيهِ كَقَوْلِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ. وَقِيلَ: إنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِسَبَبِ اقْتَضَى التَّكْرَارَ. وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد كَآيَةِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ.

ص: 380

فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ. قِيلَ: لِأَنَّ عِتْقَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ لَا يَتَكَرَّرُ. وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ نَفْسُهُ لَا يَتَكَرَّرُ. بَلْ الطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ حُكْمُهَا غَيْرُ حُكْمِ الْأُولَى. وَهُوَ مَحْدُودٌ بِثَلَاثِ. وَلَكِنْ إذَا قَالَ النَّاذِرُ: لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدًا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهُ وَإِذَا أَعْطَانِي مَالًا أَنْ أُزَكِّيَهُ أَوْ أَتَصَدَّقَ بِعُشْرِهِ: تَكَرَّرَ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ.

فَصْلٌ:

قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} الْآيَةَ. هَذَا مِمَّا أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ. فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ: " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ وَجَعَلُوا التَّقْدِيرَ: وَجَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ. وَلَامَسْتُمْ النِّسَاءَ. قَالُوا: لِأَنَّ مِنْ مُقْتَضَى " أَوْ " أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ مُوجِبًا لِلتَّيَمُّمِ؛ كَالْغَائِطِ وَالْمُلَامَسَةِ. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَعْنَى الْآيَةِ

ص: 381

فَإِنَّ " أَوْ " ضِدُّ الْوَاوِ: وَالْوَاوُ: لِلْجَمْعِ وَالتَّشْرِيكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَعْنَى: " أَوْ " فَلَا يُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بَلْ يَقْتَضِي إثْبَاتَ أَحَدِهِمَا. لَكِنْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ إبَاحَةِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ: جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِين؛ وَتَعَلَّمْ الْفِقْهَ أَوْ النَّحْوَ؛ وَمِنْهُ خِصَالُ الْكَفَّارَةِ يُخَيَّرُ بَيْنَهَا وَلَوْ فَعَلَ الْجَمِيعَ جَازَ. وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْحَصْرِ؛ يُقَالُ لِلْمَرِيضِ: كُلْ هَذَا أَوْ هَذَا. وَكَذَلِكَ فِي الْخَبَرِ: هِيَ لِإِثْبَاتِ أَحَدِهِمَا إمَّا مَعَ عَدَمِ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ. وَهُوَ الشَّكُّ أَوْ مَعَ عِلْمِهِ وَهُوَ الْإِيهَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} لَكِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ: هُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ أَنَّ خِطَابَهُ بِالتَّيَمُّمِ: لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ جَامَعَ. وَلَا يَنْبَغِي - عَلَى قَوْلِهِمْ - أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنْ لَا يُبَاحَ التَّيَمُّمُ إلَّا مَعَ هَذَيْنِ. بَلْ التَّقْدِيرُ: بِالِاحْتِلَامِ أَوْ حَدَثٍ بِلَا غَائِطٍ فَالتَّيَمُّمُ هُنَا أَوْلَى وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ كُلَّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ بِالْوُضُوءِ أَمَرَهُمْ إذَا كَانُوا جُنُبًا: أَنْ يَطَّهَّرُوا وَفِيهِمْ الْمُحْدِثُ بِغَيْرِ الْغَائِطِ كَالْقَائِمِ مِنْ النَّوْمِ وَاَلَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ. وَمِنْهُمْ الْجُنُبُ بِغَيْرِ جِمَاعٍ بَلْ بِاحْتِلَامِ. فَالْآيَةُ عَمَّتْ كُلَّ مُحْدِثٍ وَكُلَّ جُنُبٍ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} {فَتَيَمَّمُوا} فَأَبَاحَ التَّيَمُّمَ لِلْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ إذَا

ص: 382

كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً. وَالتَّيَمُّمُ رُخْصَةٌ. فَقَدْ يَظُنُّ الظَّانُّ: أَنَّهَا لَا تُبَاحُ إلَّا مَعَ خَفِيفِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ كَالرِّيحِ وَالِاحْتِلَامِ بِخِلَافِ الْغَائِطِ وَالْجِمَاعِ. فَإِنَّ التَّيَمُّمَ مَعَ ذَلِكَ وَالصَّلَاةَ مَعَهُ: مِمَّا تَسْتَعْظِمُهُ النُّفُوسُ وَتَهَابُهُ. فَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ كِبَارِ الصَّحَابَةِ تَيَمُّمَ الْجُنُبِ مُطْلَقًا. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَهَابُ الصَّلَاةَ مَعَ الْحَدَثِ بِالتَّيَمُّمِ إذْ كَانَ جَعْلُ التُّرَابِ طَهُورًا كَالْمَاءِ: هُوَ مِمَّا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتَهُ. وَمَنْ لَمْ يَسْتَحْكِمْ إيمَانُهُ: لَا يَسْتَجِيزُ ذَلِكَ. فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَّ التَّيَمُّمَ مَأْمُورٌ بِهِ مَعَ تَغْلِيظِ الْحَدَثِ بِالْغَائِطِ وَتَغْلِيظِ الْجَنَابَةِ بِالْجِمَاعِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ مُسَافِرِينَ أَوْ كَانَ - مَعَ ذَلِكَ - جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ. لَيْسَ الْمَقْصُودُ: أَنْ يُجْعَلَ الْغَائِطُ وَالْجِمَاعُ فِيمَا لَيْسَ مَعَهُ مَرَضٌ أَوْ سَفَرٌ. فَإِنَّهُ إذَا جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ وَلَيْسُوا مَرْضَى وَلَا مُسَافِرِينَ. فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وَبِقَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْمُقِيمِ. وَأَيْضًا فَتَخْصِيصُهُ الْمَجِيءَ مِنْ الْغَائِطِ وَالْجِمَاعِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا يَتَيَمَّمُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دُونَ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْ ذَلِكَ مِنْ خُرُوجِ الرِّيحِ وَمِنْ

ص: 383

الِاحْتِلَامِ. فَإِنَّ الرِّيحَ كَالنَّوْمِ وَالِاحْتِلَامُ يَكُونُ فِي الْمَنَامِ. فَهُنَاكَ يَحْصُلُ الْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ وَالْإِنْسَانُ نَائِمٌ. فَإِذَا كَانَ فِي تِلْكَ الْحَالِ يُؤْمَرُ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ وَهُوَ يَقْظَانُ: فَهُوَ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ. لِأَنَّ النَّائِمَ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ بِخِلَافِ الْيَقِظَانِ. وَلَكِنْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ تَجِبُ وَإِنْ حَصَلَ الْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَحَدَثِ النَّائِمِ وَاحْتِلَامِهِ. وَإِذَا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ طَهَارَةِ الْمَاءِ فِي الْحَالِ فَوُجُوبُهَا مَعَ الْحَدَثِ الَّذِي حَصَلَ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ يَقَظَتِهِ: أَوْلَى. وَهَذَا بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ. فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ إذَا أَبَاحَ التَّيَمُّمَ لِلْمَعْذُورِ الَّذِي أَحْدَثَ فِي النَّوْمِ بِاحْتِلَامِ أَوْ رِيحٍ: أَنْ يُبِيحَهُ لِمَنْ أَحْدَثَ بِاخْتِيَارِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} لِيُبَيِّنَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِهَذَيْنِ. وَإِنْ حَصَلَ حَدَثُهُمَا فِي الْيَقَظَةِ وَبِفِعْلِهِمَا وَإِنْ كَانَ غَلِيظًا. وَلَوْ كَانَتْ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ: كَانَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يُبَاحُ إلَّا بِوُجُودِ الشَّرْطَيْنِ - الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ - مَعَ الْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ وَالِاحْتِلَامِ. فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا يُبَاحَ مَعَ الِاحْتِلَامِ وَلَا مَعَ الْحَدَثِ بِلَا غَائِطٍ كَحَدَثِ النَّائِمِ وَمَنْ خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ. فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا عُلِّقَ بِشَرْطَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ مَعَ أَحَدِهِمَا. وَهَذَا لَيْسَ مُرَادًا قَطْعًا بَلْ هُوَ ضِدُّ

ص: 384

الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُبِيحَ مَعَ الْغَائِطِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالِاخْتِيَارِ فَمَعَ الْخَفِيفِ وَعَدَمِ الِاخْتِيَارِ أَوْلَى. فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَتَيَمَّمُوا. وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ. كَمَا يُقَالُ: وَإِنْ كُنْت مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ كُنْتُمْ أَيُّهَا الْقَائِمُونَ إلَى الصَّلَاةِ - وَأَنْتُمْ مَرْضَى أَوْ مُسَافِرِينَ - قَدْ جِئْتُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّهَا خِطَابٌ لِلْقَائِمِينَ مِنْ النَّوْمِ: إنَّ التَّقْدِيرَ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ أَوَّلًا فِعْلَهُمْ بِقَوْلِهِ: {إذَا قُمْتُمْ} {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} الثَّلَاثَةَ أَفْعَالٍ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} حَالٌ لَهُمْ. أَيْ كُنْتُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. كَقَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى حَالِ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ - إمَّا لِعَدَمِهِ أَوْ لِخَوْفِ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ - فَتَيَمَّمُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ النَّوْمِ. أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ. وَلَكِنَّ الَّذِي رَجَّحْنَاهُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {إذَا قُمْتُمْ} عَامٌّ: إمَّا لَفْظًا وَمَعْنًى. وَإِمَّا مَعْنًى.

ص: 385

وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى: إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَتَوَضَّئُوا أَوْ اغْتَسِلُوا إنْ كُنْتُمْ جُنُبًا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ مُسَافِرِينَ أَوْ فَعَلْتُمْ مَا هُوَ أَبْلَغُ فِي الْحَدَثِ - جِئْتُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ - إذْ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ مُسَافِرِينَ وَقَدْ قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ أَوْ فَعَلْتُمْ - مَعَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَالْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ - هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْمَجِيءَ مِنْ الْغَائِطِ وَالْجِمَاعَ. فَيَكُونُ قَدْ اجْتَمَعَ قِيَامُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَالْمَرَضُ وَالسَّفَرُ وَأَحَدُ هَذَيْنِ. فَالْقِيَامُ مُوجِبٌ لِلطَّهَارَةِ وَالْعُذْرُ مُبِيحٌ وَهَذَا الْقِيَامُ. فَإِذَا قُمْتُمْ وَجَبَ التَّيَمُّمُ إنْ كَانَ قِيَامًا مُجَرَّدًا. أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ. وَلَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْطِفُ قَوْلَهُ {أَوْ جَاءَ} {أَوْ لَامَسْتُمُ} عَلَى قَوْلِهِ {إذَا قُمْتُمْ} وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذَا قُمْتُمْ أَوْ جَاءَ أَوْ لَامَسْتُمْ. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِنَظْمِ الْآيَةِ. فَإِنَّ نَظْمَهَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي جَزَاءِ الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَإِنَّ الَّذِي قَالَهُ قَرِيبٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ: وَإِنْ كُنْتُمْ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ: جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ. فَهُوَ تَقْسِيمٌ مِنْ مُفْرَدٍ وَمُرَكَّبٍ. يَقُولُ: إنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ قَائِمِينَ إلَى الصَّلَاةِ فَقَطْ بِالْقِيَامِ

ص: 386

مِنْ النَّوْمِ أَوْ الْقُعُودِ الْمُعْتَادِ. أَوْ كُنْتُمْ - مَعَ هَذَا -: قَدْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} خِطَابٌ لِمَنْ قِيلَ لَهُمْ: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فَالْمَعْنَى يَا أَيُّهَا الْقَائِمُ إلَى الصَّلَاةِ تَوَضَّأْ. وَإِنْ كُنْت جُنُبًا فَاغْتَسِلْ. وَإِنْ كُنْت مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا تَيَمَّمْ. أَوْ كُنْت مَعَ هَذَا وَهَذَا مَعَ قِيَامِك إلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتَ مُحْدِثٌ أَوْ جُنُبٌ. وَمَعَ مَرَضِك وَسَفَرِك قَدْ جِئْت مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْت النِّسَاءَ: فَتَيَمَّمْ إنْ كُنْت مَعْذُورًا. وَإِيضَاحُ هَذَا: أَنَّهُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ الَّذِي يُخَصُّ بِالذِّكْرِ لِامْتِيَازِهِ. وَتَخْصِيصُهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ: إنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْعَامِّ ثُمَّ ذُكِرَ بِخُصُوصِهِ. وَيُقَالُ: بَلْ ذِكْرُهُ خَاصًّا يَمْنَعُ دُخُولَهُ فِي الْعَامِّ. وَهَذَا يَجِيءُ فِي الْعَطْفِ بِأَوْ وَأَمَّا بِالْوَاوِ: فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ} الْآيَةُ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ: {إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا فِي " أَوْ " فَفِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ

ص: 387

سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} وَقَوْلِهِ {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا} فَإِنَّ الْجَنَفَ هُوَ الْمَيْلُ عَنْ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ عَامِدًا. قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ " الْجَنَفُ " الْخَطَأُ وَ " الْإِثْمُ " الْعَمْدُ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: الْجَنَفُ: الْخُرُوجُ عَنْ الْحَقِّ. وَقَدْ يُسَمَّى " الْمُخْطِئُ الْعَامِدُ " إلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ عَلَّقُوا " الْجَنَفَ " عَلَى الْمُخْطِئِ وَ " الْإِثْمَ " عَلَى الْعَامِدِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} فَإِنَّ " الْكَفُورَ " هُوَ الْآثِمُ أَيْضًا. لَكِنَّهُ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ. وَقَدْ قِيلَ: هُمَا وَصْفَانِ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ وَهُوَ أَبْلَغُ. فَإِنَّ عَطْفَ الصِّفَةِ عَلَى الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفُ وَاحِدٌ كَقَوْلِهِ: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} وَقَوْلِهِ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} وَقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْآثِمُ الْمُذْنِبُ الظَّالِمُ وَالْكَفُورُ. هَذَا كُلُّهُ وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ مُخَيَّرٌ فِي أَنَّهُ يُعَرِّفُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يُطِيعَهُ بِأَيِّ وَصْفٍ كَانَ مِنْ هَذَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَهُوَ آثِمٌ وَهُوَ كَفُورٌ

ص: 388

وَلَمْ يَكُنْ لِلْأُمَّةِ مِنْ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ يَغْلِبُ الْإِثْمُ عَلَى الْمَعَاصِي. قَالَ: وَاللَّفْظُ إنَّمَا يَقْتَضِي نَهْيَ الْإِمَامِ عَنْ طَاعَةِ آثِمٍ مِنْ الْعُصَاةِ أَوْ كَفُورٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ فِيهَا تَخْيِيرٌ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَكَذَلِكَ قَالَ طَائِفَةٌ: مِنْهُمْ البغوي وَابْنُ الْجَوْزِيِّ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: أَيْ لَا تُطِعْ مَنْ أَثِمَ أَوْ كَفَرَ. وَدُخُولُ " أَوْ " يُوجِبُ أَنْ لَا تُطِيعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ. وَلَوْ قَالَ: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمَا آثِمًا أَوْ كَفُورًا لَمْ يَلْزَمْ النَّهْيُ إلَّا فِي حَالِ اجْتِمَاعِ الْوَصْفَيْنِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ " الْكَفُورَ " هُوَ الْجَاحِدُ لِلْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا. فَيَكُونُ هَذَا أَعَمُّ مِنْ وَجْهٍ وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ وَجْهِ التَّمَسُّكِ (1).

وقَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} مِنْ هَذَا الْبَابِ. فَإِنَّهُ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْمُحْدِثِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ثُمَّ قَالَ " وَإِنْ كُنْتُمْ - مَعَ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ - مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا "

(1)

بياض في الأصل

ص: 389

وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُحْدِثٍ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ جَاءَ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَمْ يَجِئْ كَالْمُسْتَيْقِظِ مَنْ نَوْمِهِ. وَالْمُسْتَيْقِظِ إذَا خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ. وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ جُنُبٍ سَوَاءٌ كَانَتْ جَنَابَتُهُ بِاحْتِلَامِ أَوْ جِمَاعٍ. فَقَالَ " وَإِنْ كُنْتُمْ مُحْدِثُونَ - جُنُبٌ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ - أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ " وَهَذَا نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ الْحَدَثِ {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وَهَذَا نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ الْجَنَابَةِ. ثُمَّ قَدْ يُقَالُ: " لَفْظُ الْجُنُبِ " يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ وَخُصَّ الْمُجَامِعُ بِالذِّكْرِ وَكَذَلِكَ " الْقَائِمُ إلَى الصَّلَاةِ " يَتَنَاوَلُ مَنْ جَاءَ مِنْ الْغَائِطِ وَمَنْ أَحْدَثَ بِدُونِ ذَلِكَ لَكِنْ خُصَّ الْجَائِي بِالذِّكْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا} فَالْآثِمُ هُوَ الْمُتَعَمِّدُ وَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ - وَإِنْ كَانَ دَخَلَ - لِيُبَيَّنَ حُكْمَهُ بِخُصُوصِهِ وَلِئَلَّا يُظَنَّ خُرُوجُهُ عَنْ اللَّفْظِ الْعَامِّ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ فَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ. وَالتَّقْدِيرُ: إنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَتَيَمَّمُوا. وَهَذَا مَعْنَى الْآيَةِ.

فَصْلٌ:

وَقَوْلُهُ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} ذَكَرَ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ. فَالْمَجِيءُ مِنْ الْغَائِطِ هُوَ مَجِيءٌ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ الْحَاجَةَ. وَكَانُوا

ص: 390

يَنْتَابُونَ الْأَمَاكِنَ الْمُنْخَفِضَةَ وَهِيَ الْغَائِطُ. وَهُوَ كَقَوْلِك: جَاءَ مِنْ الْمِرْحَاضِ. وَجَاءَ مِنْ الْكَنِيفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. هَذَا كُلُّهُ عِبَارَةٌ عَمَّنْ جَاءَ وَقَدْ قَضَى حَاجَتَهُ بِالْبَوْلِ أَوْ الْغَائِطِ. وَالرِّيحُ يَخْرُجُ مَعَهُمَا. وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ: هَلْ تَنْقُضُ الرِّيحُ لِكَوْنِهَا تَسْتَصْحِبُ جُزْءًا مِنْ الْغَائِطِ. فَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا نَوْعًا آخَرَ؟ أَوْ هِيَ لَا تَسْتَصْحِبُ جُزْءًا مِنْ الْغَائِطِ. بَلْ هِيَ نَفْسُهَا تَنْقُضُ. وَنَقْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ: {إذَا قُمْتُمْ} سَوَاءٌ كَانَ أُرِيدَ الْقِيَامُ مِنْ النَّوْمِ أَوْ مُطْلَقًا. فَإِنَّ الْقِيَامَ مِنْ النَّوْمِ: مُرَادٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وَهُوَ إنَّمَا نُقِضَ بِخُرُوجِ الرِّيحِ. هَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: أَنَّ النَّوْمَ نَفْسَهُ لَيْسَ بِنَاقِضِ وَلَكِنَّهُ مَظِنَّةُ خُرُوجِ الرِّيحِ. وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ النَّوْمَ نَفْسَهُ يَنْقُضُ وَنَقْضُ الْوُضُوءِ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ. وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ حَتَّى يَغُطَّ ثُمَّ يَقُومُ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ وَيَقُولُ: تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي} . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَلْبَهُ الَّذِي لَمْ يَنَمْ كَانَ يَعْرِفُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ وَلَوْ كَانَ النَّوْمُ نَفْسُهُ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالرِّيحِ: لَنَقَضَ كَسَائِرِ النَّوَاقِضِ. وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ حَتَّى

ص: 391

تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ. ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ وَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شُغِلَ عَنْ الْعِشَاءِ لَيْلَةً فَأَخَّرَهَا حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا. ثُمَّ رَقَدْنَا ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا. ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ اللَّيْلَةَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ غَيْرَكُمْ} . وَلِمُسْلِمِ عَنْهُ قَالَ {مَكَثْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. فَخَرَجَ عَلَيْنَا حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ بَعْضُهُ - وَلَا نَدْرِي أَيَّ شَيْءٍ شَغَلَهُ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - فَقَالَ حِينَ خَرَجَ: إنَّكُمْ لِتَنْتَظِرُونِ صَلَاةً مَا يَنْتَظِرُهَا أَهْلُ دِينٍ غَيْرَكُمْ وَلَوْلَا أَنْ يَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِي لَصَلَّيْت بِهِمْ هَذِهِ السَّاعَةَ. ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَلَّى} . وَلِمُسْلِمِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ {اعْتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ وَحَتَّى نَامَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى. فَقَالَ: إنَّهُ لَوَقْتُهَا؛ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي} . فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّهُمْ نَامُوا وَقَالَ فِي بَعْضِهَا " إنَّهُمْ

ص: 392

رَقَدُوا ثُمَّ اسْتَيْقَظُوا ثُمَّ رَقَدُوا ثُمَّ اسْتَيْقَظُوا " وَكَانَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ خَلْفَهُ جَمَاعَةً كَثِيرَةً وَقَدْ طَالَ انْتِظَارُهُمْ وَنَامُوا. وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ أَحَدًا لَا سُئِلَ وَلَا سَأَلَ النَّاسُ: هَلْ رَأَيْتُمْ رُؤْيَا؟ أَوْ هَلْ مَكَّنَ أَحَدُكُمْ مَقْعَدَتَهُ؟ أَوْ هَلْ كَانَ أَحَدُكُمْ مُسْتَنِدًا؟ وَهَلْ سَقَطَ شَيْءٌ مِنْ أَعْضَائِهِ عَلَى الْأَرْضِ؟ فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَسَأَلَهُمْ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا الِانْتِظَارِ بِاللَّيْلِ - مَعَ كَثْرَةِ الْجَمْعِ - يَقَعُ هَذَا كُلُّهُ. وَقَدْ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَهُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: {اعْتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ فَلَمْ يَخْرُجْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ حِينَ خَرَجَ عَلَيْهِمْ: مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ غَيْرَكُمْ. وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْشُوَ الْإِسْلَامُ فِي النَّاسِ} . وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي " بَابِ خُرُوجِ النِّسَاءِ إلَى الْمَسْجِدِ بِاللَّيْلِ وَالْغَلَسِ " وَفِي " بَابِ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ لِمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ " وَخَرَّجَهُ فِي " بَاب وُضُوءِ الصِّبْيَانِ وَحُضُورِهِمْ الْجَمَاعَةَ " وَقَالَ فِيهِ {إنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ غَيْرَكُمْ} .

ص: 393

وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ " نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ " يَعْنِي وَالنَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُنْتَظِرِينَ لِلصَّلَاةِ كَاَلَّذِي يَنْتَظِرُ الْجُمُعَةَ إذَا نَامَ أَيَّ نَوْمٍ كَانَ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ. فَإِنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِنَاقِضِ. وَإِنَّمَا النَّاقِضُ: الْحَدَثُ فَإِذَا نَامَ النَّوْمَ الْمُعْتَادَ الَّذِي يَخْتَارُهُ النَّاسُ فِي الْعَادَةِ - كَنَوْمِ اللَّيْلِ وَالْقَائِلَةِ - فَهَذَا يَخْرُجُ مِنْهُ الرِّيحُ فِي الْعَادَةِ وَهُوَ لَا يَدْرِي إذَا خَرَجَتْ فَلَمَّا كَانَتْ الْحِكْمَةُ خَفِيَّةً لَا نَعْلَمُ بِهَا: قَامَ دَلِيلُهَا مَقَامَهَا. وَهَذَا هُوَ النَّوْمُ الَّذِي يَحْصُلُ هَذَا فِيهِ فِي الْعَادَةِ. وَأَمَّا النَّوْمُ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ: هَلْ حَصَلَ مَعَهُ رِيحٌ أَمْ لَا؟ فَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. لِأَنَّ الطَّهَارَةَ ثَابِتَةٌ بِيَقِينِ فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ. وَلِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهَا لَكِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَصٌّ يُوجِبُ النَّقْضَ بِكُلِّ نَوْمٍ. فَإِنَّ قَوْلَهُ: {الْعَيْنُ وِكَاءُ السه فَإِذَا نَامَتْ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ} قَدْ رُوِيَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاوِيَةَ

ص: 394

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ: فَإِنَّمَا فِيهِ {إذَا نَامَتْ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ} وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ: أَنَّ النَّوْمَ الْمُعْتَادَ هُوَ الَّذِي يَسْتَطْلِقُ مِنْهُ الْوِكَاءُ. ثُمَّ نَفْسُ الِاسْتِطْلَاقِ لَا يَنْقُضُ. وَإِنَّمَا يَنْقُضُ مَا يَخْرُجُ مَعَ الِاسْتِطْلَاقِ. وَقَدْ يَسْتَرْخِي الْإِنْسَانُ حَتَّى يَنْطَلِقَ الْوِكَاءُ وَلَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ. وَإِنَّمَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ {أُمِرْنَا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا إذَا كُنَّا سَفَرًا - أَوْ مُسَافِرِينَ - ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ. لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ نَوْمٍ} فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ نَقْضِ النَّوْمِ. وَلَكِنْ فِيهِ: أَنَّ لَابِسَ الْخُفَّيْنِ لَا يَنْزِعُهُمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَا يَنْزِعُهُمَا مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالنَّوْمِ فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ نَزْعِهِمَا لِهَذِهِ الْأُمُورِ. وَهُوَ يَتَنَاوَلُ النَّوْمَ الَّذِي يَنْقُضُ. لَيْسَ فِيهِ: أَنَّ كُلَّ نَوْمٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. هَذَا إذَا كَانَ لَفْظُ " النَّوْمِ " مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَكَيْفَ إذَا كَانَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي؟ وَصَاحِبُ الشَّرِيعَةِ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ إذَا كَانُوا قُعُودًا أَوْ قِيَامًا فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا فَيَنْعَسُ أَحَدُهُمْ وَيَنَامُ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِالْوُضُوءِ فِي مِثْلِ هَذَا. أَمَّا الْوُضُوءُ مِنْ النَّوْمِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ النَّاسِ: فَهُوَ الَّذِي يَتَرَجَّحُ مَعَهُ فِي الْعَادَةِ خُرُوجُ الرِّيحِ وَأَمَّا مَا كَانَ قَدْ يَخْرُجُ مَعَهُ الرِّيحُ وَقَدْ لَا يَخْرُجُ: فَلَا يَنْقُضُ عَلَى أَصْلِ الْجُمْهُورِ. الَّذِينَ يَقُولُونَ: إذَا شَكَّ هَلْ يَنْقُضُ أَوْ لَا يَنْقُضُ؟ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ. بِنَاءً عَلَى يَقِينِ الطَّهَارَةِ.

ص: 395

فَصْلٌ:

وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَمَرَنَا بِالطَّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى وَبِالتَّيَمُّمِ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فَقَالَ: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} فَأَمَرَ بِالْوُضُوءِ. ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فَأَمَرَ بِالتَّطَهُّرِ مِنْ الْجَنَابَةِ كَمَا قَالَ فِي الْمَحِيضِ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} وَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ التَّطَهُّرَ هُوَ الِاغْتِسَالُ. وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْجُنُبِ إلَّا الِاغْتِسَالُ وَأَنَّهُ إذَا اغْتَسَلَ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْرَبَ الصَّلَاةَ. وَالْمُغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ كَمَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد: أَنَّ عَلَيْهِ نِيَّةَ رَفْعِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَكَذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْوُضُوءِ وَلَا تَرْتِيبٌ وَلَا مُوَالَاةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد. وَقِيلَ: لَا يَرْتَفِعُ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ إلَّا بِهِمَا. وَقِيلَ: لَا يَرْتَفِعُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد.

ص: 396

وَالْقُرْآنُ يَقْتَضِي: أَنَّ الِاغْتِسَالَ كَافٍ. وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ حَدَثٌ آخَرُ بَلْ صَارَ الْأَصْغَرُ جُزْءًا مِنْ الْأَكْبَرِ. كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْأَصْغَرِ جُزْءٌ مِنْ الْوَاجِبِ فِي الْأَكْبَرِ فَإِنَّ الْأَكْبَرَ يَتَضَمَّنُ غَسْلَ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأُمِّ عَطِيَّةَ وَاَللَّوَاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ: {اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءِ وَسِدْرٍ. وَابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا} . فَجَعَلَ غَسْلَ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ جُزْءًا مِنْ الْغُسْلِ لَكِنَّهُ يُقَدَّمُ كَمَا تُقَدَّمُ الْمَيَامِنُ. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ نَقَلُوا صِفَةَ غُسْلِهِ كَعَائِشَةَ رضي الله عنها ذَكَرَتْ {أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى شَعْرِهِ ثُمَّ عَلَى سَائِرِ بَدَنِهِ} وَلَا يَقْصِدُ غَسْلَ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ وَكَانَ لَا يَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ. فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ لَا يَغْسِلَانِ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ وَلَا يَنْوِيَانِ وُضُوءًا بَلْ يَتَطَهَّرَانِ وَيَغْتَسِلَانِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: {فَاطَّهَّرُوا} أَرَادَ بِهِ الِاغْتِسَالَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْحَيْضِ {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أَرَادَ بِهِ الِاغْتِسَالَ كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ:

ص: 397

مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد. وَأَنَّ مَنْ قَالَ: هُوَ غَسْلُ الْفَرْجِ. كَمَا قَالَهُ دَاوُد فَهُوَ ضَعِيفٌ.

فَصْلٌ:

قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} . فَقَوْلُهُ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ {عَلَى سَفَرٍ} لَا بِالْمَرَضِ. وَالْمَرِيضُ يَتَيَمَّمُ وَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ. وَالْمُسَافِرُ إنَّمَا يَتَيَمَّمُ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ. ذَكَرَ سبحانه وتعالى النَّوْعَيْنِ الْغَالِبَيْنِ: الَّذِي يَتَضَرَّرُ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَاَلَّذِي لَا يَجِدُهُ. وَقَوْلُهُ {عَلَى سَفَرٍ} يَعُمُّ السَّفَرَ الطَّوِيلَ وَالْقَصِيرَ كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْخَوْفِ: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} وَقَوْلِهِ فِي الْإِحْرَامِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ}

ص: 398

وَفِي الصِّيَامِ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَلَمْ يُوَقِّتْ اللَّهُ تَعَالَى وَقْتًا فِي الْمَرَضِ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ خَوْفُ الْهَلَاكِ. بَلْ مَنْ كَانَ الْوُضُوءُ يَزِيدُ مَرَضَهُ أَوْ يُؤَخِّرُ بُرْأَهُ يَتَيَمَّمُ. وَكَذَلِكَ فِي الصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ. وَمَنْ يَتَضَرَّرُ بِالْمَاءِ لِبَرْدِ فَهُوَ كَالْمَرِيضِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. لَكِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الضَّرَرَ الْعَامَّ وَهُوَ الْمَرَضُ. بِخِلَافِ الْبَرْدِ. فَإِنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ لِبَعْضِ النَّاسِ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْمَاءِ الْحَارِّ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْمُسَافِرَ الَّذِي لَا يَجِدُ الْمَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَاضِرَ. فَإِنَّ عَدَمَهُ فِي الْحَضَرِ نَادِرٌ. لَكِنْ قَدْ يُحْبَسُ الرَّجُلُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا مَا يَكْفِيهِ لِشُرْبِهِ. كَمَا أَنَّ الْمُسَافِرَ قَدْ لَا يَكُونُ مَعَهُ إلَّا مَا يَكْفِيهِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ دَوَابِّهِ. فَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَادِمُ الْمَاءِ فَيَتَيَمَّمُ.

فَصْلٌ:

وَقَوْلُهُ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} . ذَكَرَ أَعْظَمَ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ وَهُوَ قَضَاءُ الْحَاجَةِ. وَأَغْلَظَ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ وَهُوَ مُلَامَسَةُ النِّسَاءِ. وَأَمَرَ كُلًّا مِنْهُمَا إذَا كَانَ

ص: 399

مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا لَا يَجِدُ الْمَاءَ: أَنْ يَتَيَمَّمَ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ. وَقَدْ ثَبَتَ تَيَمُّمُ الْجُنُبِ فِي أَحَادِيثَ صِحَاحٍ وَحِسَانٍ كَحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنهما. وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ. وَحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَعَمْرِو بْنِ العاص وَصَاحِبِ الشَّجَّةِ رضي الله عنهم. وَهُوَ فِي السُّنَنِ. فَهَاتَانِ آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَخَمْسَةُ أَحَادِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ عُرِفَتْ مُنَاظَرَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنهما. وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ. إذَا عَرَفْتهَا تَعْرِفُ دِلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنْ الرَّجُلِ الْعَظِيمِ الْقَدْرِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وَلَا يُرَدُّ هَذَا النِّزَاعُ إلَّا إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ الْمَعْصُومِ الْمُبَلِّغِ عَنْ اللَّهِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى. الَّذِي هُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ.

ص: 400

فَصْلٌ:

وَنَذْكُرُ هَذَا عَلَى قَوْلِهِ: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} .

الْمُرَادُ بِهِ: الْجِمَاعُ. كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَغَيْرُهُ مِنْ الْعَرَبِ. وَهُوَ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَلَيْسَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ النِّسَاءِ لَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ دَائِمًا يَمَسُّونَ نِسَاءَهُمْ. وَمَا نَقَلَ مُسْلِمٌ وَاحِدٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ أَحَدًا بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ النِّسَاءِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَرَادَ مَا دُونَ الْجِمَاعِ وَإِنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ " بِالْيَدِ " وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ فِي الْمَسِّ بِشَهْوَةِ وَالْوُضُوءُ مِنْهُ حَسَنٌ مُسْتَحَبٌّ لِإِطْفَاءِ الشَّهْوَةِ كَمَا يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْ الْغَضَبِ لِإِطْفَائِهِ. وَأَمَّا وُجُوبُهُ: فَلَا. وَأَمَّا الْمَسُّ الْمُجَرَّدُ عَنْ الشَّهْوَةِ: فَمَا أَعْلَمُ لِلنَّقْضِ بِهِ أَصْلًا عَنْ السَّلَفِ. وقَوْله تَعَالَى {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} لَمْ يَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ الْوُضُوءَ

ص: 401

مِنْهُ بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ التَّيَمُّمَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ الْمُحْدِثَ الْقَائِمَ لِلصَّلَاةِ: بِالْوُضُوءِ. وَأَمَرَ الْجُنُبَ بِالِاغْتِسَالِ فَذَكَرَ الطَّهَارَةَ بِالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ النَّوْعَيْنِ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} بَيَانٌ لِتَيَمُّمِ هَذَا. وَقَوْلُهُ: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} لَمْ يَذْكُرْ وَاحِدًا مِنْهُمَا لِبَيَانِ طَهَارَةِ الْمَاءِ. إذَا كَانَ قَدْ عُرِفَ أَصْلَ هَذَا. فَقَوْلُهُ {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فَالْآيَةُ لَيْسَ فِيهَا إلَّا أَنَّ اللَّامِسَ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ يَتَيَمَّمُ. فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا مِنْ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ؟ يَأْمُرُ مَنْ مَسَّ الْمَرْأَةَ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ. فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِالتَّيَمُّمِ مَنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْوُضُوءِ؟ وَهُوَ إنَّمَا أَمَرَ بِالتَّيَمُّمِ مِنْ أَمْرِهِ بِالْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ. وَنَظِيرُ هَذَا يَطُولُ. وَمَنْ تَدَبَّرَ الْآيَةَ قَطَعَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ.

فَصْلٌ:

وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ: يُجَامِعُ أَهْلَهُ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَلَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ. وَكَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ. حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ.

ص: 402

فَصْلٌ:

وَقَوْلُهُ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} دَلِيلٌ عَلَى أَنْ التَّيَمُّمَ مُطَهِّرٌ كَالْمَاءِ سَوَاءٌ. وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ {الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ. فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فأمسه بَشَرَتَك فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ: قَالَ {جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا} . وَهُوَ صلى الله عليه وسلم جَعْلُ التُّرَابِ طَهُورًا فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَطَهَارَةِ الْجُنُبِ. كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ {إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقْلِبْ نَعْلَيْهِ فَلْيَنْظُرْ فِيهِمَا فَإِنْ كَانَ بِهِمَا أَذًى - أَوْ خَبَثٌ - فَلْيُدَلِّكْهُمَا بِالتُّرَابِ. فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ} وَقَالَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ

ص: 403

{ذَيْلُ الْمَرْأَةِ يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ} . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ مُطَهِّرٌ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ طَاهِرًا كَمَا يَجْعَلُ الْمَاءُ مُسْتَعْمِلَهُ فِي الطَّهَارَةِ طَاهِرًا إنْ لَمْ يَكُنْ جُنُبًا وَلَا مُحْدِثًا. فَمَنْ قَالَ: إنْ الْمُتَيَمِّمَ جُنُبٌ أَوْ مُحْدِثٌ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. بَلْ هُوَ مُتَطَهِّرٌ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْن العاص رضي الله عنه {أَصَلَّيْت بِأَصْحَابِك وَأَنْتَ جُنُبٌ} ؟ " اسْتِفْهَامٌ. أَيْ هَلْ فَعَلْت ذَلِكَ؟ فَأَخْبَرَهُ عَمْرٌو رضي الله عنه أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ بَلْ تَيَمَّمَ لِخَوْفِهِ: أَنْ يَقْتُلَهُ الْبَرْدُ. فَسَكَتَ عَنْهُ وَضَحِكَ. وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ هَذَا إنْكَارٌ عَلَيْهِ: أَنَّهُ صَلَّى مَعَ الْجَنَابَةِ. فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَنَابَةِ لَا تَجُوزُ. فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ مَا هُوَ مُنْكَرٌ فَلَمَّا أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ. دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ وَهُوَ جُنُبٌ. فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ احْتَجَّ بِهِ وَجَعَلَ الْمُتَيَمِّمَ جُنُبًا وَمُحْدِثًا. وَاَللَّهُ يَقُولُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فَلَمْ يُجِزْ اللَّهُ لَهُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَتَطَهَّرَ. وَالْمُتَيَمِّمُ قَدْ تَطَهَّرَ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَكَيْفَ يَكُونُ جُنُبًا

ص: 404

غَيْرَ مُتَطَهِّرٍ؟ لَكِنَّهَا طَهَارَةُ بَدَلٍ. فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ بَطَلَتْ هَذِهِ الطَّهَارَةُ وَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ حِينَئِذٍ. لِأَنَّ الْبَوْلَ الْمُتَقَدِّمَ جَعَلَهُ مُحْدِثًا. وَالصَّعِيدَ جَعَلَهُ مُطَهَّرًا إلَى أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ. فَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ فَهُوَ مُحْدِثٌ بِالسَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ لَا أَنَّ الْحَدَثَ كَانَ مُسْتَمِرًّا. ثُمَّ مَنْ قَالَ: التَّيَمُّمُ مُبِيحٌ لَا رَافِعٌ فَإِنَّ نِزَاعَهُ لَفْظِيٌّ. فَإِنَّهُ إنْ قَالَ: إنَّهُ يُبِيحُ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِطَهُورِ فَهُوَ يُخَالِفُ النُّصُوصَ. وَالْجَنَابَةُ مُحَرِّمَةٌ لِلصَّلَاةِ. فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْمُبِيحُ وَالْمُحَرِّمُ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ. وَالْمُتَيَمِّمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ الصَّلَاةِ. فَالْمَنْعُ ارْتَفَعَ بِالِاتِّفَاقِ وَحُكْمُ الْجَنَابَةِ الْمَنْعُ. فَإِذَا قِيلَ بِوُجُودِهِ بِدُونِ مُقْتَضَاهَا - وَهُوَ الْمَنْعُ - فَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ.

فَصْلٌ:

وَفِي الْآيَةِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَخَلِّيَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ فَرْجِهِ بِالْمَاءِ إنَّمَا يَجِبُ الْمَاءُ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ بِسَبِيلِهِ عَلَى أَنَّ إزَالَةَ النَّجْوِ وَالْخَبَثِ لَا يَتَعَيَّنُ لَهَا الْمَاءُ فَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ تَدُلُّ النُّصُوصُ؛ إذْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ فِيهَا تَارَةً بِالْمَاءِ وَتَارَةً بِغَيْرِ الْمَاءِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ.

ص: 405

إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا: التَّنْبِيهُ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ. فَإِنَّ قَوْلَهُ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} نَصٌّ فِي أَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ يُصَلِّي وَإِنْ تَغَوَّطَ. بِلَا غُسْلٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ {أَنَّهُ يَكْفِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ} وَأَمَّا مَعَ الْعُذْرِ: فَإِنَّهُ قَالَ: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ قَائِمٍ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ مَنْ جَاءَ مِنْ الْغَائِطِ كَمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ. فَلَوْ كَانَ غَسْلُ الْفَرْجَيْنِ بِالْمَاءِ وَاجِبًا عَلَى الْقَائِمِ إلَى الصَّلَاةِ: لَكَانَ وَاجِبًا كَوُجُوبِ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ. وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ وَالْمُتَيَمِّمَ مُتَطَهِّرٌ. وَالْفَرْجَانِ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالِاكْتِفَاءِ فِيهِمَا بِالِاسْتِجْمَارِ. وقَوْله تَعَالَى {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ مُسْتَحَبٌّ يُحِبُّهُ اللَّهُ لَا أَنَّهُ وَاجِبٌ. بَلْ لَمَّا كَانَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ - وَلَمْ يَذُمَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ أَقَرَّهُمْ. وَلَكِنْ خَصَّ هَؤُلَاءِ بِالْمَدْحِ - دَلَّ عَلَى جَوَازِ مَا فَعَلَهُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ. وَأَنَّ فِعْلَ هَؤُلَاءِ أَفْضَلُ وَأَنَّهُ مِمَّا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ.

ص: 406

‌فَصْلٌ:

التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ

وَالْعُقُودِ: النِّزَاعُ فِيهِ مَشْهُورٌ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: يَجِبُ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ. وَأَحْمَد قَدْ نَصَّ عَلَى وُجُوبِهِ نُصُوصًا مُتَعَدِّدَةً. وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُتَقَدِّمُونَ - كَالْقَاضِي وَمَنْ قَبْلَهُ - عَنْهُ نِزَاعًا. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَمْ أَرَ عَنْهُ فِيهِ خِلَافًا. قَالَ: وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ: رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَد: أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. قُلْت: هَذِهِ أُخِذَتْ مِنْ نَصِّهِ فِي الْقَبْضَةِ لِلِاسْتِنْشَاقِ فَلَوْ أَخَّرَ غَسْلَهَا إلَى مَا بَعْدَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ: فَفِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ. فَإِنَّهُ قَالَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: إنَّهُ لَوْ نَسِيَهُمَا حَتَّى صَلَّى: تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَأَعَادَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُعِدْ الْوُضُوءَ؛ لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ معديكرب {أَنَّهُ أُتِيَ بِوَضُوءٍ. فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ} .

ص: 407

فَغَيْرُ أَبِي الْخَطَّابِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا بِأَنَّ التَّرْتِيبَ إنَّمَا يَجِبُ فِيمَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ. وَهُمَا لَيْسَا فِي الْقُرْآنِ. وَأَبُو الْخَطَّابِ - وَمَنْ تَبِعَهُ - رَأَوْا هَذَا فَرْقًا ضَعِيفًا. فَإِنَّ الْأَنْفَ وَالْفَمَ لَوْ لَمْ يَكُونَا مِنْ الْوَجْهِ لَمَا وَجَبَ غَسْلُهُمَا. وَلِهَذَا خَرَّجَ الْأَصْحَابُ: أَنَّهُمَا مِنْ الْوَجْهِ. كَمَا قَالَ الخرقي وَغَيْرُهُ " وَالْفَمُ وَالْأَنْفُ مِنْ الْوَجْهِ " وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِهِمَا غَسْلَ الْوَجْهِ. يَبْدَأُ بِغَسْلِ مَا بَطَنَ مِنْهُ. وَقَدَّمَ الْمَضْمَضَةَ لِأَنَّ الْفَمَ أَقْرَبُ إلَى الظَّاهِرِ مِنْ الْأَنْفِ. وَلِهَذَا كَانَ الْأَمْرُ بِهِ أَوْكَدَ. وَجَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالْأَمْرِ بِهِ. ثُمَّ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ سَائِرَ الْوَجْهَ. فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهِمَا مَعَ النِّزَاعِ فَهُمَا كَسَائِرِ مَا نُوزِعَ فِيهِ. مِثْلُ الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ فَمَالِكٌ وَغَيْرُهُ يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ الْوَجْهِ. وَفِي النَّزْعَتَيْنِ وَالتَّحْذِيفِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. قِيلَ: هُمَا مِنْ الرَّأْسِ. وَقِيلَ: مِنْ الْوَجْهِ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ النَّزْعَتَيْنِ مِنْ الرَّأْسِ وَالتَّحْذِيفُ مِنْ الْوَجْهِ. فَلَوْ نَسِيَ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَا لَوْ نَسِيَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ. فَتَسْوِيَةُ أَبِي الْخَطَّابِ أَقْوَى.

ص: 408

وَعَلَى هَذَا: فَأَحْمَدُ إنَّمَا نَصَّ عَلَى مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ نَاسِيًا. وَلِهَذَا قِيلَ لَهُ: نَسِيَ الْمَضْمَضَةَ وَحْدَهَا؟ فَقَالَ: الِاسْتِنْشَاقُ عِنْدِي أَوْكَدُ. يَعْنِي إذَا نَسِيَ ذَلِكَ وَصَلَّى. قَالَ: يَغْسِلُهُمَا وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ وَالْإِعَادَةُ إذَا تَرَكَ الِاسْتِنْشَاقَ عِنْدَهُ أَوْكَدُ لِلْأَمْرِ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فَإِنَّ جَمِيعَ مَنْ نَقَلَ وُضُوءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرُوا: أَنَّهُ بَدَأَ بِهِمَا. وَهَذَا حَكَى فِعْلًا وَاحِدًا. فَلَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ كَانَ مُتَعَمِّدًا. وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ فِي تَأْخِيرِهِمَا عَمْدًا سُنَّةٌ بَلْ السُّنَّةُ فِي النِّسْيَانِ. فَإِنَّ النِّسْيَانَ مُتَيَقِّنٌ. فَإِنَّ الظَّاهِرَ: أَنَّهُ كَانَ نَاسِيًا إذَا قُدِّرَ الشَّكُّ. فَإِذَا جَازَ مَعَ التَّعَمُّدِ فَمَعَ النِّسْيَانِ أَوْلَى. فَالنَّاسِي مَعْذُورٌ بِكُلِّ حَالٍ. بِخِلَافِ الْمُتَعَمِّدِ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ. وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَعَمِّدِ لِتَنْكِيسِ الْوُضُوءِ وَبَيْنَ الْمَعْذُورِ بِنِسْيَانِ أَوْ جَهْلٍ. وَهُوَ أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ. وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِأُصُولِ الْمَذْهَبِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي الصُّورَةِ الَّتِي خَرَّجَ مِنْهَا أَبُو الْخَطَّابِ. فَمِنْ ذَلِكَ: إذَا أَخَلَّ بِالتَّرْتِيبِ بَيْنَ الذَّبْحِ وَالْحَلْقِ. فَإِنَّ الْجَاهِلَ يُعْذَرُ بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ. وَأَمَّا الْعَالِمُ الْمُتَعَمِّدُ: فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ

ص: 409

وَالسُّنَّةُ إنَّمَا جَاءَتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " كَانَ يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: {افْعَلْ وَلَا حَرَجَ} لِأَنَّهُمْ قَدَّمُوا وَأَخَّرُوا بِلَا عِلْمٍ. لَمْ يَتَعَمَّدُوا الْمُخَالَفَةَ لِلسُّنَّةِ. وَإِلَّا فَالْقُرْآنُ قَدْ جَاءَ بِالتَّرْتِيبِ لِقَوْلِهِ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إنِّي قَلَّدْت هَدْيِي وَلَبَّدْت رَأْسِي فَلَا أُحِلُّ وَأَحْلِقُ حَتَّى أَنْحَرَ} . وَقَوْلُهُ {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أَدَلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ مِنْ قَوْلِهِ: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} . لَكِنْ يُقَالُ: قَدْ فَرَّقُوا بِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ وَتِلْكَ عِبَادَاتٌ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. وَهَكَذَا فَرَّقَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ. فَقَالَ: ذَاكَ كُلُّهُ مِنْ الْحَجِّ: الدِّمَاءُ وَالذَّبْحُ وَالْحَلْقُ وَالطَّوَافُ. وَالْحَجُّ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ. وَلِهَذَا مَتَى وَطِئَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فَسَدَ الْحَجُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَهَلْ يَحْصُلُ كَالدَّمِ وَحْدَهُ أَوْ كَالدَّمِ وَالْحَلْقِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَمِنْهَا: إذَا نَسِيَ بَعْضَ آيَاتِ السُّورَةِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ. فَإِنَّهُ لَا يُعِيدُهَا وَلَا يُعِيدُ مَا بَعْدَهَا مَعَ أَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ تَنْكِيسَ آيَاتِ السُّورَةِ

ص: 410

وَقِرَاءَةُ الْمُؤَخَرِ قَبْلَ الْمُقَدَمِ لَمْ يَجُزْ بِالْاتِفَاقِ وَإِنَّمَا الْنِزَاعُ فِي تَرْتِيبِ السُّوَرِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَحَكَاهُ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ سُئِلَ عَنْ الْإِمَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَدَعُ الْآيَاتِ مِنَ الْسُورَةِ تُرَى لِمَنْ خَلْفَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا قَالَ نَعَمْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ قَدْ كَانُوا بِمَكَّةَ يُوكِلُونَ رَجُلًا يَكْتُبُ مَا تَرَكَ الِْإمَامُ مِنَ الْحُرُوفِ وَغَيْرِهَا فَإِذَا كَانَ لَيْلَةَ الْخَتْمَةِ أَعَادَهُ

قَالَ الْأَصْحَابُ كَأَبِي مُحَمَدٍ وَإِنَّمَا اسْتَحَبَ ذَلِكَ لِتَتِمَ الْخَتْمَةُ وَيَكْمُلَ الْثَوَابُ

فَقَدْ جَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَحْمَد وَأَصْحَابُهُ إِعَادَةَ الْمَنْسِي مِنَ الْآيَاتِ وَحْدَهُ يُكْمِلُ الْخَتْمَةَ وَالثَوَابَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَلَّ بِالْتَرْتِيبِ هُنَا فَإِنَّهُ لَمْ يَقْرَأ تَمَامَ الْسُورَةِ وَهَذَا مَأْثُورٌ عَنْ عَليٍ رضي الله عنه أَنَّهُ نَسِيَ آيَةً مِنْ سُورَةٍ ثُمَ فِي أَثْنَاءِ الْقِرَاءَةِ قَرَأَهَا وَعَادَ إِلَى مَوْضِعِهِ وَلَمْ يَشْعُرْ أَحَدٌ أَنَّهُ نّسِيَ إِلَا مَنْ كَانَ حَافِظاً

فَهَكَذَا مَنْ تَرَكَ غَسْلَ عُضْوٍ أَوْ بَعْضَهُ نِسْيَاناً يَغْسِلُهُ وَحْدَهُ وَلَا يُعِيدُ غَسْلَ مَا بَعْدَهُ فَيَكُونُ قَدْ غَسَلَهُ مَرَتَيْنِ فَإِنَّ هَذَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ.

وَهَذَا الْتَفْصِيلُ يُوَافِقُ مَا نُقِلَ عَنْ الْصَحَابَةِ وَالْأَكْثَرِينَ فَإِنَّ الْأَصْحَابَ وَغَيْرِهِمْ فَعَلُوا كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِر عَنْ عَليٍ وَمَكْحُولٍ وَالْنَخَعِيِّ

ص: 411

وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي فِيمَنْ نَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ فَرَأَى فِي لِحْيَتِهِ بَلَلًا. فَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ فَلَمْ يَأْمُرُوهُ بِإِعَادَةِ غَسْلِ رِجْلَيْهِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ " مَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْت " قَالَ أَحْمَد: إنَّمَا عَنَى بِهِ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ مَخْرَجَهُمَا مِنْ الْكِتَابِ وَاحِدٌ. ثُمَّ قَالَ أَحْمَد: حَدَّثَنِي جَرِيرٌ عَنْ قَابُوسَ عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ عَلِيًّا سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: أَحَدُنَا يَسْتَعْجِلُ فَيَغْسِلُ شَيْئًا قَبْلَ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: لَا حَتَّى يَكُونَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى " فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَد عَنْ عَلِيٍّ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ. وَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي صُورَةِ النِّسْيَانِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ يَسْقُطُ مَعَ النِّسْيَانِ وَيُعِيدُ الْمَنْسِيَّ فَقَطْ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّفْصِيلَ قَوْلُ عَلِيٍّ. رضي الله عنه وَقَدْ ذَكَرَ مَنْ أَسْقَطَهُ مُطْلَقًا: مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: " لَا بَأْسَ أَنَّ تَبْدَأَ بِرِجْلَيْك قَبْلَ يَدَيْك ". لَكِنْ قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ: لَا نَعْرِفُ لِهَذَا أَصْلًا؛ وَنَقَلُوا فِي الْوُجُوبِ

ص: 412

عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ. وَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ. وَصُورَةُ النِّسْيَانِ مُرَادَةٌ قَطْعًا. فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ أَوْ جَمِيعِهِمْ. وَالْأَمْرُ الْمُنْكَرُ: أَنْ تَتَعَمَّدَ تَنْكِيسَ الْوُضُوءِ. فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ. فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ جَائِزًا لَكَانَ قَدْ وَقَعَ أَحْيَانًا أَوْ تَبَيَّنَ جَوَازُهُ - كَمَا فِي تَرْتِيبِ التَّسْبِيحِ - لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {أَفْضَلُ الْكَلَامِ - بَعْدَ الْقُرْآنِ - أَرْبَعٌ. وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. لَا يَضُرُّك بِأَيَّتِهِنَّ بَدَأْت} . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ شَرْعًا وَمَذْهَبًا: أَنَّ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً صَلَّاهَا إذَا ذَكَرَهَا بِالنَّصِّ. وَقَدْ سَقَطَ التَّرْتِيبُ هُنَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد بِلَا خِلَافٍ وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ. وَلَكِنْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يُسْقِطُ. وَقَاسُوا ذَلِكَ عَلَى تَرْتِيبِ الطَّهَارَةِ.

ص: 413

وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا} نَصٌّ فِي أَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي أَيِّ وَقْتِ ذَكَرَ. وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ سَلَّمَ الْأَصْحَابُ: أَنَّ تَرْتِيبَ الْجَمْعِ لَا يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ. وَعُمُومُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهِ. فَلَوْ كَانَتْ الْمَنْسِيَّةُ هِيَ الْأُولَى مِنْ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ: أَعَادَهَا وَحْدَهَا بِمُوجِبِ النَّصِّ. وَمَنْ أَوْجَبَ إعَادَةَ الثَّانِيَةِ فَقَدْ خَالَفَ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي سَائِرِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ كَالْمَسْبُوقِ إذَا أَدْرَكَهُمْ فِي الثَّانِيَةِ: صَلَّاهَا مَعَهُمْ ثُمَّ صَلَّى الْأُولَى. كَمَا لَوْ أَدْرَكَ بَعْضَ الصَّلَاةِ. وَلَيْسَ تَرْتِيبُ صَلَاتِهِ عَلَى أَوَّلِ الصَّلَاةِ بِأَعْظَمَ مِنْ تَرْتِيبِ آخِرِ الصَّلَاةِ عَلَى أَوَّلِهَا. وَإِذَا كَانَ هَكَذَا سَقَطَ مَا أَدْرَكَ وَيَقْضِي مَا سَقَطَ؛ فَهَذَا فِي الصَّلَاتَيْنِ أَوْلَى؛ لَا سِيَّمَا وَهُوَ إذَا لَمْ يُدْرِكْ مِنْ الْمَغْرِبِ إلَّا تَشَهُّدًا تَشَهَّدَ ثَلَاثَ تَشَهُّدَاتٍ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَشْهُورِ فِي قِصَّةِ مَسْرُوقٍ وَحَدِيثِهِ. وَهَذَا أَصْلٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ يُعْتَبَرُ بِهِ نَظَائِرُهُ؛ وَهُوَ سُقُوطُ التَّرْتِيبِ عَنْ الْمَسْبُوقِ.

ص: 414

وَكَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَا يُرَتِّبُونَ. فَيُصَلُّونَ مَا فَاتَهُمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ مَعَ الْإِمَامِ. لَكِنْ نُسِخَ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَهُ مُعَاذٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {قَدْ سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ فَاتَّبِعُوهُ} . وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ: عَلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْقَضَاءِ بِالْحَمْدِ وَسُورَةٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ سَاجِدًا سَجَدَ مَعَهُ بِالنَّصِّ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. فَقَدْ سَجَدَ قَبْلَ الْقِيَامِ لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ. لَكِنَّهُ لَوْ فَعَلَ هَذَا عَمْدًا لَمْ يَجُزْ. فَلَوْ كَبَّرَ وَسَجَدَ ثُمَّ قَامَ: لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. لَكِنَّ هَذَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّكْعَةَ الْوَاحِدَةَ يَجِبُ فِيهَا التَّرْتِيبُ. فَإِنَّ هَذَا السُّجُودَ - وَلَوْ ضَمَّ إلَيْهِ بَعْدَ السَّلَامِ رُكُوعًا مُجَرَّدًا - لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ رَكْعَةً. بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِرَكْعَةِ بَعْدَهَا سَجْدَتَانِ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِالتَّرْتِيبِ وَالْمُوَالَاةِ. فَكَذَلِكَ إذَا نَسِيَ الرُّكُوعَ حَتَّى تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ. فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ: هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؟ وَالْمَنْصُوصُ إنْ لَمْ يُطِلْ الْفَصْلَ بَنَى عَلَى مَا مَضَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَغَيْرُهُ.

وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى سُقُوطِ الْمُوَالَاةِ وَالتَّرْتِيبِ فِي الصَّلَاةِ

ص: 415

مَعَ النِّسْيَانِ فَقَالَ مَكْحُولٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ - فِي الْمُصَلِّي: يَنْسَى سَجْدَةً أَوْ رَكْعَةً - يُصَلِّيهَا مَتَى مَا ذَكَرَهَا. وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. وَقَالَ الأوزاعي - لِرَجُلِ نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَذَكَرَهَا فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ - يَمْضِي فِي صَلَاتِهِ. فَإِذَا فَرَغَ سَجَدَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَحَادِيثُ سُجُودِ السَّهْوِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَلَوْ مَعَ طُولِ الْفَصْلِ. وَأَمَّا الْمَسْبُوقُ: فَالسُّجُودُ الَّذِي فَعَلَهُ مَعَ الْإِمَامِ: كَانَ لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرَةَ {زَادَك اللَّهُ حِرْصًا؛ وَلَا تَعُدْ} وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِالرَّكْعَةِ بَعْدَ السَّلَامِ فَلَا عُذْرَ لَهُ حَتَّى. . . (1) وَإِذَا نَسِيَ رُكْنًا مِنْ الْأُولَى حَتَّى شَرَعَ فِي الثَّانِيَةِ. فَفِيهَا قَوْلَانِ. مَالِكٌ وَأَحْمَد لَا يَقُولَانِ بِالتَّلْفِيقِ. بَلْ تَلْغُو الْمَنْسِيُّ رُكْنَهَا. وَتَقُومُ هَذِهِ مَقَامَهَا. وَلَكِنْ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بِالْقِرَاءَةِ أَوْ بِالرُّكُوعِ؟ فِيهِ نِزَاعٌ. وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: مَا فَعَلَهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ الْمَنْسِيِّ فَهُوَ لَغْوٌ. لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لَا أَنْ يَفْعَلَ نَظِيرَهُ فِي الثَّانِيَةِ. فَيَكُونُ هُوَ تَمَامَ الْأَوَّلِ

(1)

خرم في الأصل

ص: 416

كَمَا لَوْ سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ ثُمَّ ذَكَرَ. فَإِنَّ السَّلَامَ يَقَعُ لَغْوًا. فَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ يَقُولَانِ: هُوَ إنَّمَا يَقْصِدُ بِمَا فَعَلَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ. لَمْ يَقْصِدْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأُولَى وَهُوَ إذَا قَرَأَ أَوْ رَكَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ: أَمْكَنَ أَنْ يَجْعَلَهَا هِيَ الْأُولَى. فَإِنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الرَّكَعَاتِ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ؛ فَلَا وَجْهَ لِإِبْطَالِ هَذِهِ وَلَا يَكُونُ فَاعِلًا لَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ إلَّا إذَا جُعِلَتْ هَذِهِ ثَانِيَةً. فَإِذَا جُعِلَتْ الْأُولَى: كَانَ قَدْ فَعَلَهُ فِي مَحَلِّهِ. وَإِذَا قِيلَ: هُوَ قَصَدَ الثَّانِيَةَ قَبْلُ وَقَصَدَ بِالسُّجُودِ فِيهَا السُّجُودَ فِي الثَّانِيَةِ لِرِعَايَةِ تَرْتِيبِهِ فِي أَبْعَاضِ الرَّكْعَةِ بِأَنْ لَا يَجْعَلَ بَعْضَهَا فِي رَكْعَةٍ غَيْرَهَا: أَوْلَى مِنْ رِعَايَتِهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ. فَإِنَّ جَعْلَ الْأُولَى ثَانِيَةً يَجُوزُ لِلْعُذْرِ كَمَا فِي الْمَسْبُوقِ. وَأَمَّا جَعْلُ سُجُودِ الثَّانِيَةِ تَمَامًا لِلْأُولَى: فَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَكَانٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: سُقُوطُ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ بِالنِّسْيَانِ وَكَذَلِكَ سُقُوطُ الْمُوَالَاةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَكَذَلِكَ بِغَيْرِ النِّسْيَانِ مِنْ الْأَعْذَارِ مِثْلُ بُعْدِ الْمَاءِ. كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. فَإِنَّ الصَّلَاةَ نَفْسَهَا إذَا جَازَ فِيهَا عَدَمُ الْمُوَالَاةِ لِلْعُذْرِ؛ فَالْوُضُوءُ أَوْلَى. بِدَلِيلِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَحَادِيثِ سُجُودِ السَّهْوِ.

ص: 417

وَأَمَّا حَدِيثُ صَاحِبِ اللُّمْعَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ: فَمِثْلُ هَذَا لَا يُنْسَى. فَدَلَّ أَنَّهُ تَرَكَهَا تَفْرِيطًا. وَالْمُوَالَاةُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ: لَا تَجِبُ لِلْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ {رَأَى فِي بَدَنِهِ مَوْضِعًا لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ فَعَصَرَ عَلَيْهِ شَعْرَهُ} وَالْأَصْحَابُ فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ. فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ تَرْتِيبُهُ فَكَذَلِكَ الْمُوَالَاةُ. وَمَالِكٌ يُوجِبُ الْمُوَالَاةَ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ. وَأَمَّا فِي الْغُسْلِ: فَالْبَدَنُ كَعُضْوِ وَاحِدٍ. وَالْعُضْوُ الْوَاحِدُ لَا تَرْتِيبَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا تَعَمُّدُ تَفْرِيقِ الْغُسْلِ: فَهُوَ كَتَعَمُّدِ تَفْرِيقِ غَسْلِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ. لَكِنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ غُسْلَ الْجَنَابَةِ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لَا يَتَعَدَّى حُكْمُ الْمَاءِ مَحَلَّهُ؛ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ. فَإِنَّ حُكْمَهُ طَهَارَةُ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَالْمَغْسُولُ أَرْبَعَةُ أَعْضَاءٍ. وَهَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ. وَالْجُنُبُ إذَا وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ اسْتَعْمَلَهُ. وَأَمَّا الْمُتَوَضِّئُ: فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْأَصْحَابِ. وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ جَعَلَ الْوُضُوءَ يَتَفَرَّقُ لِلْعُذْرِ وَجَعَلَ مَا غُسِلَ يَحْصُلُ بِهِ بَعْضُ الطَّهَارَةِ. وَكَذَلِكَ الْمَاسِحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا خَلَعَهُمَا. هَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ أَوْ يُعِيدُ الْوُضُوءَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمَأْخَذَ هُوَ الْمُوَالَاةُ. وَقِيلَ: إنَّ الْمَأْخَذَ أَنَّ

ص: 418

الْوُضُوءَ لَا يُنْقَضُ. فَإِذَا عَادَ الْحَدَثُ إلَى الرَّجُلِ عَادَ إلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَهَذَا عِنْدَ الْعُذْرِ: فِيهِ نِزَاعٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ يَكُونُ التَّرْتِيبُ شَرْطًا لَا يَسْقُطُ بِجَهْلِ وَلَا نِسْيَانٍ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ شَاةُ لَحْمٍ} فَالذَّبْحُ لِلْأُضْحِيَّةِ: مَشْرُوطٌ بِالصَّلَاةِ قَبْلَهُ. وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ رضي الله عنه كَانَ جَاهِلًا. فَلَمْ يَعْذُرْهُ بِالْجَهْلِ. بَلْ أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الذَّبْحِ. بِخِلَافِ الَّذِينَ قَدَّمُوا فِي الْحَجِّ: الذَّبْحَ عَلَى الرَّمْيِ أَوْ الْحَلْقَ عَلَى مَا قَبْلَهُ. فَإِنَّهُ قَالَ {افْعَلْ وَلَا حَرَجَ} فَهَاتَانِ سُنَّتَانِ: سُنَّةٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ إذَا ذُبِحَتْ قَبْلَ الصَّلَاةِ: أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ. وَسُنَّةٌ فِي الْهَدْيِ إذَا ذَبَحَ قَبْلَ الرَّمْيِ جَهْلًا: أَجْزَأَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْهَدْيَ صَارَ نُسُكًا بِسَوْقِهِ إلَى الْحَرَمِ وَتَقْلِيدِهِ وَإِشْعَارِهِ. فَقَدْ بَلَغَ مَحَلَّهُ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ. فَإِذَا قَدَّمَ جَهْلًا: لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ هَدْيًا؛ وَأَمَّا الْأُضْحِيَّةُ: فَإِنَّهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ لَا تَتَمَيَّزُ عَنْ شَاةِ اللَّحْمِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هِيَ شَاةُ لَحْمٍ قَدَّمَهَا لِأَهْلِهِ} وَإِنَّمَا هِيَ نُسُكٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وَقَالَ: {إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} فَصَارَ فِعْلُهُ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ: كَالصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا.

ص: 419

فَهَذَا وَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ؛ وَقْتُهُ بَعْدَ فِعْلِ الصَّلَاةِ كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ: مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ. وَإِنَّمَا قَدَّرَ وَقْتَهَا بِمِقْدَارِ الصَّلَاةِ: الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد كالخرقي. وَفِي الْأُضْحِيَّةِ: يُشْتَرَطُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَذْبَحَ بَعْدَ الْإِمَامِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَالْحُجَّةُ فِيهِ: حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ فِي الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ الْإِمَامِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد: يَجِبُ فِيهِ دَمٌ. فَهَذَا عِنْدَ مَنْ يُوجِبُهُ بِمَنْزِلَةِ اتِّبَاعِ الْمَأْمُومِ الْإِمَامَ فِي الصَّلَاةِ.

فَصْلٌ:

وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ نَصِّهِ عَلَى قِرَاءَةِ مَا نَسِيَ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ فِي الْقِرَاءَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَد وَأَصْحَابُهُ: أَنْ مُوَالَاةَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ وَإِذَا تَرَكَهَا لِعُذْرِ نِسْيَانٍ قَالُوا - وَاللَّفْظُ لِأَبِي مُحَمَّدٍ - وَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ - أَيْ الْفَصْلُ - اسْتَأْنَفَ قِرَاءَتَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ

ص: 420

مَأْمُورًا بِهِ كَالْمَأْمُومِ يَشْرَعُ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ ثُمَّ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَيُنْصِتُ لَهُ. ثُمَّ إذَا سَكَتَ الْإِمَامُ: أَتَمَّ قِرَاءَتَهَا وَأَجْزَأَتْهُ. أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَد. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ السُّكُوتُ نِسْيَانًا أَوْ نُوَبًا أَوْ لِانْتِقَالِهِ إلَى غَيْرِهَا غَلَطًا: لَمْ تَبْطُلْ. فَإِذَا ذَكَرَ: أَتَى بِمَا بَقِيَ مِنْهَا. فَإِنْ تَمَادَى فِيمَا هُوَ فِيهِ - بَعْدَ ذِكْرِهَا - أَبْطَلَهَا. وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا. قَالَ وَإِنْ قَدَّمَ آيَةً مِنْهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا: أَبْطَلَهَا. وَإِنْ كَانَ غَلَطًا. رَجَعَ إلَى مَوْضِعِ الْغَلَطِ فَأَتَمَّهَا. فَلَمْ يُسْقِطُوا التَّرْتِيبَ بِالْعُذْرِ كَمَا أَسْقَطُوا الْمُوَالَاةَ. فَإِنَّ الْمُوَالَاةَ أَخَفُّ. فَإِنَّهُ لَوْ قَرَأَ بَعْضَ سُورَةٍ الْيَوْمَ وَبَعْضَهَا غَدًا: جَازَ. وَلَوْ نَكَّسَهَا: لَمْ يَجُزْ. وَيُفَرَّقُ فِي التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْكَلَامِ الْمُسْتَقِلِّ الَّذِي إذَا أَتَى بِهِ وَحْدَهُ كَانَ مِمَّا يَسُوغُ تِلَاوَتُهُ وَبَيْنَ مَا هُوَ مُرْتَبِطٌ بِغَيْرِهِ. فَلَوْ قَالَ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} لَمْ يَكُنْ هَذَا كَلَامًا مُفِيدًا حَتَّى يَقُولَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وَلَوْ قَالَ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ثُمَّ قَالَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كَانَ مُفِيدًا. لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَقَعُ فِيهِ أَحَدٌ. وَلَا يَبْتَدِئُ أَحَدٌ الْفَاتِحَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ لَا عَمْدًا وَلَا غَلَطًا. وَإِنَّمَا يَقَعُ الْغَلَطُ فِيمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّرْتِيبِ. فَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَ مَا ذَكَرُوهُ فِيمَا يُنْسَى مِنْ الْفَاتِحَةِ وَمَا يُنْسَى مِنْ الْخَتْمَةِ.

ص: 421

فَصْلٌ:

وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ التَّرْتِيبَ يَسْقُطُ إذَا احْتَاجَ إلَى التَّكْرَارِ بِلَا تَفْرِيطٍ مِنْ الْإِنْسَانِ: أَنَّ التَّيَمُّمَ يُجْزِئُ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ - حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنهما وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد بِلَا خِلَافٍ. وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى. وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبْزَى. فَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبْزَى {إنَّمَا كَانَ يَكْفِيك هَكَذَا. فَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا. ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ} وَكَذَلِكَ لِمُسْلِمِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى {إنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَنْ تَقُولَ هَكَذَا. وَضَرَبَ بِيَدَيْهِ إلَى الْأَرْضِ. فَنَفَضَ يَدَيْهِ. فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ} وَلِلْبُخَارِيِّ {وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً} . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ. فَقِيلَ: يُرَتِّبُ. فَيَمْسَحُ وَجْهَهُ بِبُطُونِ أَصَابِعِهِ وَظَاهِرِ يَدَيْهِ بِرَاحَتِهِ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ. بَلْ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ.

ص: 422

وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ: لَا يُؤَخِّرُ مَسْحَ الرَّاحَتَيْنِ إلَى مَا بَعْدَ الْوَجْهِ. بَلْ يَمْسَحُهُمَا: إمَّا قَبْلَ الْوَجْهِ وَإِمَّا مَعَ الْوَجْهِ وَظُهُورِ الْكَفَّيْنِ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: رَأَيْت التَّيَمُّمَ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ قَدْ أَسْقَطَ تَرْتِيبًا مُسْتَحَقًّا فِي الْوُضُوءِ. وَهُوَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ مَسَحَ بَاطِنَ يَدَيْهِ مَسَحَ وَجْهَهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى رضي الله عنهما قَالَ {إنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْك هَكَذَا. ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً. ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ} لَفْظُ الْبُخَارِيِّ {وَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ ضَرْبَةً عَلَى الْأَرْضِ. ثُمَّ نَفَضَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا ظَهْرَ كَفِّهِ بِشَمَالِهِ - أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ - ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ} . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَمْسَحْ الرَّاحَتَيْنِ بَعْدَ الْوَجْهِ. وَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ أَحْمَد: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ. وَأَمَّا ظُهُورُ الْكَفَّيْنِ: فَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ صَرِيحَةٌ فِي {أَنَّهُ مَرَّ عَلَى ظَهْرِ الْكَفِّ قَبْلَ الْوَجْهِ} وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى {وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَسَحَ ظَاهِرَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِرَاحَةِ الْيَدِ الْأُخْرَى. وَقَالَ فِيهَا {ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ قَبْلَ الْوَجْهِ} . وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَرْضُ الرَّاحَتَيْنِ سَقَطَ بِإِمْرَارِ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى ظَهْرِ

ص: 423

الْكَفِّ. وَهَذَا إنَّمَا يُوجِبُ سُقُوطَ فَرْضِ بَاطِنِ الرَّاحَةِ. وَأَمَّا بَاطِنُ الْأَصَابِعِ: فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ سَقَطَ مَعَ الْوَجْهِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ: فَبَاطِنُ الْيَدَيْنِ يُصِيبُهُمَا التُّرَابُ حِينَ يَضْرِبُ بِهِمَا الْأَرْضَ وَحِينَ يَمْسَحُ بِهِمَا الْوَجْهَ وَظَهْرَ الْكَفَّيْنِ. وَإِنْ مَسَحَ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى فَهُوَ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ. وَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا لَوَجَبَ أَنْ يَمْسَحَ بَاطِنَهُمَا بَعْدَ الْوَجْهِ. وَهَذَا لَا يُمْكِنُ مَعَ الْقَوْلِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَلَزِمَ تَكْرَارُ مَسْحِهِمَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. فَسَقَطَ لِذَلِكَ. فَإِنَّ التَّيَمُّمَ لَا يُشْرَعُ فِيهِ التَّكْرَارُ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ. فَإِنَّهُ - وَإِنْ غَسَلَ يَدَيْهِ ابْتِدَاءً وَأَخَذَ بِهِمَا الْمَاءَ لِوَجْهِهِ فَهُوَ - بَعْدَ الْوَجْهِ يَغْسِلُهُمَا إلَى الْمِرْفَقَيْنِ. وَهُوَ يَأْخُذُ الْمَاءَ - بِهِمَا. فَيَتَكَرَّرُ غَسْلُهُمَا؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ يُسْتَحَبُّ فِيهِ التَّكْرَارُ فِي الْجُمْلَةِ. لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ؛ وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يَغْسِلْ كَفَّيْهِ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ فَإِنَّهُ يَغْرِفُ بِهِمَا الْمَاءَ وَقَدْ قَالُوا: إذَا نَوَى الِاغْتِرَافَ لَمْ يَصِرْ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ نَوَى غَسْلَهُمَا فِيهِ: صَارَ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَفِيهِ وَجْهَانِ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ نَوَى غَسْلَهُمَا فِيهِ؛ لِمَجِيءِ السُّنَّةِ بِذَلِكَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ غَسْلَهُمَا بِنِيَّةِ الِاغْتِرَافِ لَا تَحْصُلُ بِهِ طَهَارَتُهُمَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلٍ آخَرَ.

ص: 424

وَالْأَقْوَى: أَنَّ هَذَا لَا يَجِبُ بَلْ غَسْلُهُمَا بِنِيَّةِ الِاغْتِرَافِ يُجْزِئُ عَنْ تَكْرَارِ غَسْلِهِمَا كَمَا فِي التَّيَمُّمِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَغْسِلُ ذِرَاعَيْهِ بِيَدَيْهِ؛ فَيَكُونُ هَذَا غَسْلًا لِبَاطِنِ الْيَدِ. وَلَوْ قِيلَ: بَلْ بَقِيَ غَسْلُهُمَا ابْتِدَاءً وَمَعَ الْوَجْهِ يَسْقُطُ فَرْضُهُمَا كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي التَّيَمُّمِ: لَكَانَ مُتَوَجِّهًا. فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْوُضُوءِ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} كَمَا قَالَ فِي التَّيَمُّمِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} فَفِي الْوُضُوءِ أَخَّرَ ذِكْرَ الْيَدِ. لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الْبُخَارِيُّ: تُبَيِّنُ أَنَّهُ مَسَحَ ظَهْرَ الْكَفَّيْنِ قَبْلَ الْوَجْهِ. وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ مُجْمَلَةٌ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَمَّا مَسَحَ لَمْ يَمْسَحْ الرَّاحَتَيْنِ بَعْدَ الْوَجْهِ فَكَذَلِكَ ظَهْرُ الْكَفَّيْنِ بَلْ مَسَحَ ظَهْرَهُمَا مَعَ بَطْنِهِمَا؛ لِأَنَّ مَسْحَهُمَا جُمْلَةً أَقْرَبُ إلَى التَّرْتِيبِ. فَإِنَّ مَسْحَ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ بَعْضَهُ مَعَ بَعْضٍ أَوْلَى مِنْ تَفْرِيقِ ذَلِكَ. وَأَيْضًا: فَتَكُونُ الرَّاحَتَانِ مَمْسُوحَتَيْنِ مَعَ ظَهْرِ الْكَفِّ. وَالِاعْتِدَادُ بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الِاعْتِدَادِ بِمَسْحِهِمَا مَعَ الْوَجْهِ. وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ - مِنْ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْأَصَابِعَ لِلْوَجْهِ وَبُطُونَ الرَّاحَتَيْنِ لِظُهُورِ الْكَفَّيْنِ - خِلَافُ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ.

ص: 425

وَلَيْسَ فِي كَلَامِ أَحْمَد مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَهُوَ مُتَعَسِّرٌ أَوْ مُتَعَذِّرٌ. وَهُوَ بِدْعَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرْعِ. وَبُطُونُ الْأَصَابِعِ لَا تَكَادُ تَسْتَوْعِبُ الْوَجْهَ. وَإِنَّمَا احْتَاجُوا إلَى هَذَا لِيَجْعَلُوا بَعْضَ التُّرَابِ لِظَاهِرِ الْكَفَّيْنِ بَعْدَ الْوَجْهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: كَمَا أَنَّ الرَّاحَتَيْنِ لَا يُمْسَحَانِ بَعْدَ الْوَجْهِ بِلَا نِزَاعٍ فَكَذَلِكَ ظَهْرُ الْكَفَّيْنِ. فَإِنَّهُمْ - وَإِنْ مَسَحُوا ظَهْرَ الْكَفَّيْنِ بِالرَّاحَتَيْنِ بِبُطُونِ الْأَصَابِعِ - مَسَحُوا مَعَ الْوَجْهِ: مَسَحَ بِالْيَدَيْنِ قَبْلَ الْوَجْهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ؛ وَلِهَذَا اخْتَارَ الْمَجْدُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهِ بَلْ يَجُوزُ مَسْحُ ظَهْرِ الْكَفَّيْنِ قَبْلَ الْوَجْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْسَحُ الْوَجْهَ وَظَاهِرَ الْكَفَّيْنِ بِذَلِكَ التُّرَابِ وَأَنَّ مَسْحَ ظَهْرِ الْكَفَّيْنِ بِمَا بَقِيَ فِي الْيَدَيْنِ مِنْ التُّرَابِ يَكْفِي لِظَهْرِ الْكَفَّيْنِ. فَإِنَّ أَلْفَاظَ الْحَدِيثِ كُلَّهَا تَتَعَلَّقُ بِأَنَّهُ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ وَمَسْحُ الْيَدَيْنِ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى: لَمْ يَجْعَلْ بَعْضَ بَاطِنِ الْيَدِ لِلْوَجْهِ وَبَعْضَهُ لِلْكَفَّيْنِ بَلْ بِبَاطِنِ الْيَدَيْنِ مَسَحَ وَجْهَهُ وَمَسَحَ كَفَّيْهِ وَمَسَحَ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى. وَأَجَابَ الْقَاضِي وَمَنْ وَافَقَهُ - مُتَابَعَةً لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - بِأَنَّهُ إذَا تَيَمَّمَ لِجُرْحِ فِي عُضْوٍ: يَكُونُ التَّيَمُّمُ فِيهِ عِنْدَ وُجُوبِ غَسْلِهِ فَيَفْصِلُ بِالتَّيَمُّمِ بَيْنَ أَبْعَاضِ الْوُضُوءِ هَذَا فِعْلٌ مُبْتَدَعٌ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ وَمَشَقَّةٌ لَا

ص: 426

تَأْتِي بِهَا الشَّرِيعَةُ. وَهَذَا وَنَحْوُهُ إسْرَافٌ فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. والْنُّفَاةِ يُجَوِّزُونَ التَّنْكِيسَ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا وَدِينُ اللَّهِ بَيْنَ الْغَالِي وَالْجَافِي. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَ‌

‌سُئِلَ:

هَلْ يَقُومُ التَّيَمُّمُ مَقَامَ الْوُضُوءِ

فِيمَا ذُكِرَ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

يَقُومُ التَّيَمُّمُ مَقَامَ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ. فَمَا يُبِيحُهُ الِاغْتِسَالُ وَالْوُضُوءُ مِنْ الْمَمْنُوعَاتِ يُبِيحُهُ التَّيَمُّمُ.

وَسُئِلَ أَيْضًا رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ قَدْ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ وَهُوَ فِي بُسْتَانٍ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا مَاءٌ بَارِدٌ وَيَخَافُ الضَّرَرَ عَلَى نَفْسِهِ بِاسْتِعْمَالِهِ وَالْحَمَّامُ بَعِيدٌ مِنْهُ؛ بِحَيْثُ إذَا وَصَلَ إلَى الْحَمَّامِ وَاغْتَسَلَ خَرَجَ الْوَقْتُ. فَهَلْ إذَا تَيَمَّمَ لِلْجَنَابَةِ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى فِي الْوَقْتِ يَلْزَمُهُ إعَادَةٌ؟ وَهَلْ يَأْثَمُ بِذَلِكَ؟ أَوْ يَأْثَمُ إذَا تَيَمَّمَ؟ . وَهَلْ التَّيَمُّمُ يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ؛ فَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِنَافِلَةِ وَيُصَلِّي بِهَا فَرِيضَةً أَوْ يُصَلِّي فَرِيضَتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ بِتَيَمُّمِ وَاحِدٍ؟ .

ص: 427

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي مَوَاقِيتِهَا وَلَيْسَ لِأَحَدِ قَطُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا لَا لِعُذْرِ وَلَا لِغَيْرِ عُذْرٍ. لَكِنَّ الْعُذْرَ يُبِيحُ لَهُ شَيْئَيْنِ: يُبِيحُ لَهُ تَرْكُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ وَيُبِيحُ لَهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. فَمَا عَجَزَ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} . {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} . وَقَالَ - لَمَّا ذَكَرَ آيَةَ الطَّهَارَةِ -: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ. وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . فَالْمَرِيضُ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: {صَلِّ قَائِمًا. فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا. فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ} . وَسَقَطَ عَنْهُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ أَوْ تَكْمِيلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَيَفْعَلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ تَطَهَّرَ وَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْمَاءِ أَوْ خَوْفِ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ تَيَمَّمَ. وَصَلَّى وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِمَا يَتْرُكُهُ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ لَا إعَادَةَ إذَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ بِاتِّفَاقِهِمْ وَلَوْ كَانَ فِي بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ

ص: 428

لَا يُمْكِنُهُ إزَالَتُهَا صَلَّى بِهَا وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ أَيْضًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبًا نَجِسًا فَقِيلَ يُصَلِّي عريانا وَقِيلَ يُصَلِّي وَيُعِيدُ وَقِيلَ يُصَلِّي فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ وَلَا يُعِيدُ وَهُوَ أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ. وَقِيلَ: يُعِيدُ فِي الْحَضَرِ وَقِيلَ: يُعِيدُ فِي السَّفَرِ وَقِيلَ: لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لَا فِي الْحَضَرِ وَلَا فِي السَّفَرِ. وَهُوَ أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ. فَالصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَى أَحَدٍ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ وَإِنَّمَا يُعِيدُ مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. مِثْلُ مَنْ تَرَكَهُ لِنِسْيَانِهِ أَوْ نَوْمِهِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ} وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ تَوَضَّأَ وَتَرَكَ لُمْعَةً لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ مِنْ قَدَمِهِ يُعِيدُ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ. وَمَا تَرَكَ لِجَهْلِهِ بِالْوَاجِبِ مِثْلُ مَنْ كَانَ يُصَلِّي بِلَا طُمَأْنِينَةٍ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَهَذَا قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ: هَلْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ. وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ فِي

ص: 429

صَلَاتِهِ: {اذْهَبْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا: فَعَلِّمْنِي مَا يَجْزِينِي فِي صَلَاتِي} فَعَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ بِالطُّمَأْنِينَةِ. وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا مَضَى قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ مَعَ قَوْلِهِ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا: وَلَكِنْ أَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ تِلْكَ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا بَاقٍ. فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي وَقْتِهَا وَأَمَّا مَا خَرَجَ وَقْتُهُ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَتِهِ مَعَ كَوْنِهِ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبَاتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنْ يَقْضِيَ مَا تَرَكَهُ مِنْ الصَّلَاةِ: لِأَجْلِ الْجَنَابَةِ. لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ يَجُوزُ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ. وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ قَالَتْ لَهُ: إنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً شَدِيدَةً مُنْكَرَةً تَمْنَعُنِي الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِقَضَاءِ مَا تَرَكَتْهُ. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أَكَلُوا فِي رَمَضَانَ حَتَّى تَبَيَّنَ لِأَحَدِهِمْ الْحِبَالُ الْبِيضُ مِنْ الْحِبَالِ السُّودِ أَكَلُوا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ فَهَؤُلَاءِ كَانُوا جُهَّالًا بِالْوُجُوبِ فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِقَضَاءِ مَا تَرَكُوهُ فِي حَالِ

ص: 430

الْجَهْلِ كَمَا لَا يُؤْمَرُ الْكَافِرُ بِقَضَاءِ مَا تَرَكَهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ وَجَاهِلِيَّتِهِ؛ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ الْوُجُوبَ وَتَرَكَ الْوَاجِبَ نِسْيَانًا. فَهَذَا أَمَرَهُ بِهِ إذَا ذَكَرَهُ. وَأَمَرَ النَّائِمَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ فَإِنَّهُ حِينَ النَّوْمِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالصَّلَاةِ فَلِهَذَا كَانَ النَّائِمُ إذَا اسْتَيْقَظَ قُرْبَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَتَوَضَّأُ وَيَغْتَسِلُ وَإِنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا وَالْوَقْتُ وَاسِعٌ مِثْلُ الَّذِي يَكُونُ نَائِمًا فِي بُسْتَانٍ أَوْ قَرْيَةٍ وَالْمَاءُ بَارِدٌ يَضُرُّهُ وَالْحَمَّامُ بَعِيدٌ مِنْهُ إنْ خَرَجَ إلَيْهِ ذَهَبَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الْمِصْرِ وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ دُخُولُ الْحَمَّامِ: إمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يُفْتَحْ أَوْ لِبُعْدِهَا عَنْهُ أَوْ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مَعَهُ مَا يُعْطِي الحمامي أُجْرَتَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ فَرْضٌ إذَا عَجَزَ عَنْ الْمَاءِ لِعَدَمِ أَوْ لِخَوْفِ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ وَلَا إعَادَةَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فَفِي كَثِيرٍ مِنْ الضَّرَرِ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ: كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ. وَبَعْضُ الضَّرَرِ تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَى أَحَدٍ صَلَّى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ كَمَا أَمَرَ.

ص: 431

فَمِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ فِي الْحَضَرِ وَمَنْ تَيَمَّمَ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا لِعُذْرِ نَادِرٍ غَيْرِ مُتَّصِلٍ فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عِنْدَ مَالِكٍ. وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَإِذَا فَوَّتَ الصَّلَاةَ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ بِأَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ. وَالنَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِذَلِكَ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ} وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَحَالِ الْمُسَايَفَةِ. كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ بِحَالِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ لَكِنْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِعُذْرِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. كَمَا جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بمزدلفة وَالْجَمْعُ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ فِي السَّفَرِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ وَأَنَّهُ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ ثَمَانِيًا جَمْعًا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَسَبْعًا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى. {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .

ص: 432

فَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَطَائِفَةِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حَرَجٌ فِي التَّفْرِيقِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْمَرِيضُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَقَالَ أَحْمَد: يَجْمَعُ إذَا كَانَ لَهُ شُغْلٌ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: إذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ يُبِيحُ لَهُ تَرْكُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ جَازَ الْجَمْعُ. فَمَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ: كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَا يَجُوزُ التَّفْوِيتُ بِأَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ وَصَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ. وَمَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ. وَكَذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ أَخَّرَهَا عَنْ الْوَقْتِ وَقَوْلُ مَنْ أَمَرَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَفْوِيتٍ أَرْجَحُ مِنْ قَوْلِ مَنْ أَمَرَ بِالتَّفْوِيتِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْجَمْعِ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا وَأَمَرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} هَذِهِ نَزَلَتْ

ص: 433

نَاسِخَةً لِتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {صَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا} . وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَوَاقِيتَ " خَمْسَةٌ " فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ وَهِيَ: " ثَلَاثَةٌ " فِي حَالِ الْعُذْرِ فَفِي حَالِ الْعُذْرِ إذَا جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ: بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَإِنَّمَا صَلَّى الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا لَمْ يُصَلِّ وَاحِدَةً بَعْدَ وَقْتِهَا؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ وَلَا يَنْوِيَ الْقَصْرَ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي نُصُوصِهِ الْمَعْرُوفَةِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ فِي آخِرِ النَّهَارِ صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَإِذَا طَهُرَتْ فِي آخِرِ اللَّيْلِ صَلَّتْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي حَالِ الْعُذْرِ فَإِذَا طَهُرَتْ فِي آخِرِ النَّهَارِ فَوَقْتُ الظُّهْرِ بَاقٍ فَتُصَلِّيهَا قَبْلَ الْعَصْرِ. وَإِذَا طَهُرَتْ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَوَقْتُ. الْمَغْرِبِ بَاقٍ فِي حَالِ الْعُذْرِ؛ فَتُصَلِّيهَا قَبْلَ الْعِشَاءِ. وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ الْمَوَاقِيتَ تَارَةً خَمْسًا وَيَذْكُرُهَا ثَلَاثًا تَارَةً

ص: 434

كَقَوْلِهِ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} الْآيَةَ. وَهُوَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} . وَالدُّلُوكُ هُوَ الزَّوَالُ وَغَسَقُ اللَّيْلِ هُوَ اجْتِمَاعُ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَهَذَا يَكُونُ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ. فَأَمَرَ اللَّهُ بِالصَّلَاةِ مِنْ الدُّلُوكِ إلَى الْغَسَقِ فَرَضَ فِي ذَلِكَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا كُلَّهُ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَمِنْ الدُّلُوكِ إلَى الْمَغْرِبِ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَمِنْ الْمَغْرِبِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقْتُ الصَّلَاةِ. وَقَالَ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} لِأَنَّ الْفَجْرَ خُصَّتْ بِطُولِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا وَلِهَذَا جُعِلَتْ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَلَا تُقْصَرُ وَلَا تُجْمَعُ إلَى غَيْرِهَا فَإِنَّهُ عَوَّضَ بِطُولِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا عَنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا التَّيَمُّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ وَلَا يُصَلِّي الْفَرْضَ بِالتَّيَمُّمِ لِلنَّافِلَةِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَالْحُكْمُ الْمُقَدَّرُ بِالضَّرُورَةِ مُقَدَّرٌ بِقَدْرِهَا. فَلَا يَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَلَا يَبْقَى بَعْدَهُ. وَهُوَ مُبِيحٌ لِلصَّلَاةِ لَا رَافِعٌ لِلْحَدَثِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ اسْتَعْمَلَهُ مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ حَدَثٍ فَعُلِمَ أَنَّ الْحَدَثَ كَانَ بَاقِيًا وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ.

ص: 435

فَلَا يَسْتَبِيحُ إلَّا مَا نَوَاهُ. فَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَقِيلَ: بَلْ التَّيَمُّمُ يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ مُطْلَقًا يَسْتَبِيحُ بِهِ كَمَا يُسْتَبَاحُ بِالْمَاءِ وَيَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ كَمَا يَتَوَضَّأُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَقْتِ كَمَا تَبْقَى طَهَارَةُ الْمَاءِ بَعْدَهُ. وَإِذَا تَيَمَّمَ لِنَافِلَةِ صَلَّى بِهِ الْفَرِيضَةَ كَمَا أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ لِنَافِلَةِ صَلَّى بِهِ الْفَرِيضَةَ. وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَالَ أَحْمَد: هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ التَّيَمُّمَ مُطَهِّرًا كَمَا جَعَلَ الْمَاءَ مُطَهِّرًا. فَقَالَ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الْآيَةَ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُطَهِّرَنَا بِالتُّرَابِ كَمَا يُطَهِّرُنَا بِالْمَاءِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِخَمْسِ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَأُحِلَّتْ لَنَا الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي. وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَفِي لَفْظٍ فَأَيُّمَا رَجُلٌ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ مِنْ أُمَّتِي فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ

ص: 436

وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً. وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثِ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا} . فَقَدْ بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْأَرْضَ لِأُمَّتِهِ طَهُورًا كَمَا جَعَلَ الْمَاءَ طَهُورًا. وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدْته الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ بَشَرَتَك فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورَ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ. فَمَنْ قَالَ إنَّ التُّرَابَ لَا يُطَهِّرُ مِنْ الْحَدَثِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. وَإِذَا كَانَ مُطَهِّرًا مِنْ الْحَدَثِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْحَدَثُ بَاقِيًا مَعَ أَنَّ اللَّهَ طَهَّرَ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّيَمُّمِ مِنْ الْحَدَثِ فَالتَّيَمُّمُ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ مُطَهِّرٌ لِصَاحِبِهِ لَكِنْ رَفْعٌ مُوَقَّتٌ إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْمَاءِ فَهُوَ مُطَهِّرٌ مَا دَامَ الْمَاءُ مُتَعَذِّرًا كَمَا أَنَّ الْمُلْتَقَطَ يَمْلِكُ اللُّقَطَةَ مَا دَامَ لَمْ يَأْتِهِ صَاحِبُهَا وَكَانَ مِلْكُ صَاحِبِهَا مِلْكًا مُوَقَّتًا إلَى ظُهُورِ الْمَالِكِ فَإِنَّهُ

ص: 437

كَانَ بَدَلًا عَنْ الْمَالِكِ فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ الْمُلْتَقِطِ إلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا. وَمَا ثَبَتَ بِنَصِّ أَوْ إجْمَاعٍ لَا يُطْلَبُ لَهُ نَظِيرٌ يُقَاسُ بِهِ وَإِنَّمَا يُطْلَبُ النَّظِيرُ لِمَا لَا نَعْلَمُهُ إلَّا بِالْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ. فَيَحْتَاجُ أَنْ نَعْتَبِرَهُ بِنَظِيرِ وَأَمَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَلَا نَطْلُبَ لِذَلِكَ نَظِيرًا مَعَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ يُوَافِقُ النَّصَّ. كَمَا قَالَ أَحْمَد الْقِيَاسُ أَنْ تَجْعَلَ التُّرَابَ كَالْمَاءِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ يَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ إنْ شَاءَ وَيُصَلِّي مَا لَمْ يُحْدِثْ أَوْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَإِذَا تَيَمَّمَ لِنَفْلِ صَلَّى بِهِ فَرِيضَةً. وَيَجْمَعُ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ بَيْنَ فَرْضَيْنِ وَيَقْضِي بِهِ الْفَائِتَ. وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ احْتَجُّوا بِآثَارِ مَنْقُولَةٍ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ لَا تَثْبُتُ. وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَلَوْ ثَبَتَتْ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهَا طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ. قِيلَ لَهُ: نَعَمْ وَالْإِنْسَانُ مُحْتَاجٌ أَنْ لَا يَزَالَ عَلَى طَهَارَةٍ فَيَتَطَهَّرُ قَبْلَ الْوَقْتِ؛ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى زِيَادَةِ الثَّوَابِ؛ وَلِهَذَا يُصَلِّي النَّافِلَةَ بِالتَّيَمُّمِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تَيَمَّمَ لِرَدِّ السَّلَامِ فِي الْحَضَرِ وَقَالَ: {إنِّي كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلَّا عَلَى طُهْرٍ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا تَارَةً وَوَاجِبًا أُخْرَى. أَيْ يَتَيَمَّمُ فِي وَقْتٍ لَا يَكُونُ التَّيَمُّمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ وَالتَّيَمُّمُ

ص: 438

قَبْلَ الْوَقْتِ مُسْتَحَبٌّ كَمَا أَنَّ الْوُضُوءَ قَبْلَ الْوَقْتِ مُسْتَحَبٌّ. وَأَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ مَا يَخَافُ فَوْتَهُ كَالْجِنَازَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يَخَافُ فَوْتَهُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِنْ تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ كَمَا أَنَّ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِنْ تَفْوِيتِهِ وَلِهَذَا يَتَيَمَّمُ لِلتَّطَوُّعِ مَنْ كَانَ لَهُ وِرْدٌ فِي اللَّيْلِ يُصَلِّيهِ وَقَدْ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ وَالْمَاءُ بَارِدٌ يَضُرُّهُ فَإِذَا تَيَمَّمَ وَصَلَّى التَّطَوُّعَ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ بِالتَّيَمُّمِ كَانَ خَيْرًا مِنْ تَفْوِيتِ ذَلِكَ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهُ حُكْمٌ مُقَيَّدٌ بِالضَّرُورَةِ. فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا. إنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ لَا يُفْعَلَ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمَاءِ فَهُوَ مُسْلِمٌ. وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إلَّا إذَا كَانَ التَّيَمُّمُ وَاجِبًا فَقَدْ غَلِطَ. فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ وَخِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَتَيَمَّمُ لِلْوَاجِبِ وَيَتَيَمَّمُ لِلْمُسْتَحَبِّ كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْمُسْتَحَبَّةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ الْمُسْتَحَبِّ. وَاَللَّهُ قَدْ جَعَلَهُ طَهُورًا لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُضَيِّقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَرَادَ رَفْعَ الْحَرَجِ عَنْ الْأُمَّةِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَجْعَلَ فِيهِ حَرَجًا. كَمَا فَعَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ. أَثْبَتُوا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ

ص: 439

وَلَا يَجِبُ فِيهِ تَرْتِيبُ؛ بَلْ إذَا مَسَحَ وَجْهَهُ بِبَاطِنِ رَاحَتَيْهِ أَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْ الْوَجْهِ وَالرَّاحَتَيْنِ ثُمَّ يَمْسَحُ ظُهُورَ الْكَفَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَمْسَحَ رَاحَتَيْهِ مَرَّتَيْنِ وَعَلَى هَذَا دَلَّتْ السُّنَّةُ. وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

عَنْ الرَّجُلِ إذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً أَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ لِمَرَضِ أَوْ يَخَافُ مِنْ الضَّرَرِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَهَلْ يَتَيَمَّمُ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

التَّيَمُّمُ جَائِزٌ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ وَخَافَ الْمَرَضَ بِاسْتِعْمَالِهِ كَمَا نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ الْمَرِيضِ وَذِكْرِ مَنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ. فَمَنْ كَانَ الْمَاءُ يَضُرُّهُ بِزِيَادَةِ فِي مَرَضِهِ لِأَجْلِ جُرْحٍ بِهِ أَوْ مَرَضٍ أَوْ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ سَوَاءٌ كَانَ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا وَيُصَلِّي. وَإِذَا جَازَ لَهُ الصَّلَاةُ جَازَ لَهُ الطَّوَافُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَمَسُّ الْمُصْحَفِ وَاللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ. وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ إذَا صَلَّى سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَضَرِ أَوْ فِي السَّفَرِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ

ص: 440

تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلَا عُدْوَانٍ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي الصِّيَامِ وَلَا الْحَجِّ. وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ مَرَّتَيْنِ وَلَا يَصُومَ شَهْرَيْنِ فِي عَامٍ وَلَا يَحُجَّ حجين. إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ تَفْرِيطٌ أَوْ عُدْوَانٌ. فَإِنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا وَكَذَلِكَ إذَا نَسِيَ بَعْضَ فَرَائِضِهَا: كَالطَّهَارَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْمَفْرُوضِ: كَمَنْ صَلَّى عريانا لِعَدَمِ السُّتْرَةِ أَوْ صَلَّى بِلَا قِرَاءَةٍ لِانْعِقَادِ لِسَانِهِ أَوْ لَمْ يُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ. لِمَرَضِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعُذْرِ النَّادِرِ وَالْمُعْتَادِ وَمَا يَدُومُ وَمَا لَا يَدُومُ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَنَّ الْعُرْيَانَ إذَا لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً صَلَّى وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. وَعَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ يُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: {صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ} وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ يُصْبِحُ جُنُبًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَدْخُلُ بِهِ الْحَمَّامَ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي بَيْتِهِ مِنْ أَجْلِ الْبَرْدِ. فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ

ص: 441

وَيَقْرَأَ الْقُرْآنَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؟ أَمْ لَا؟ . وَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ مَا يَرْهَنُهُ عَلَى أُجْرَةِ الْحَمَّامِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، يَجُوزُ لِلرَّجُلِ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا. فَإِذَا خَشِيَ إذَا اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ أَنْ يَضُرَّهُ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ فِي بَيْتٍ وَلَا حَمَّامٍ وَلَا غَيْرِهِمَا جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ وَلَا إعَادَةَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ أَمْكَنَهُ دُخُولُ الْحَمَّامِ بِجُعْلٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ إذَا كَانَ وَاجِدًا لِأُجْرَةِ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ إجْحَافٍ فِي مَالِهِ كَمَا يَجِبُ شِرَاءُ الْمَاءِ لِلطَّهَارَةِ وَإِذَا كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْهَنَ عِنْدَ الحمامي الطَّابِيَةَ وَالْمِيزَابَ وَيُوَفِّيَهُ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَهُ. وَإِنْ كَانَ فِي أَدَاءِ أُجْرَةِ الْحَمَّامِ ضَرَرٌ كَنَقْصِ نَفَقَةِ عِيَالِهِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ عَلَيْهِ غُسْلٌ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا يَدْخُلُ بِهِ الْحَمَّامَ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْمَاءُ الْبَارِدُ لِشِدَّةِ بَرْدِهِ ثُمَّ إنَّهُ تَيَمَّمَ وَصَلَّى الْفَرِيضَةَ وَلَهُ فِي الْجَامِعِ وَظِيفَةٌ فَقَرَأَ فِيهَا. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ دَخَلَ الْحَمَّامَ هَلْ يَأْثَمُ؟ أَمْ لَا؟ .

ص: 442

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا يَأْثَمُ بِذَلِكَ بَلْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ؛ فَإِنَّ مَنْ خَافَ إذَا اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ الْبَارِدَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ صُدَاعٌ أَوْ نَزْلَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَلَمْ يُمْكِنْ الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ - وَإِنْ كَانَ جُنُبًا - وَيُصَلِّي عِنْدَ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ: كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ وِرْدٌ بِاللَّيْلِ وَأَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ وَالْمَاءُ بَارِدٌ يَضُرُّهُ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وِرْدَهُ التَّطَوُّعُ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ وَلَا يُفَوِّتُ وِرْدَهُ لِتَعَذُّرِ الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ. وَهَلْ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْفَرِيضَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. هَذَا إذَا كَانَ فِي الْحَضَرِ. وَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ لَا يُعِيدَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَكُلُّ مَنْ جَازَتْ لَهُ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ جَازَتْ لَهُ الْقِرَاءَةُ وَاللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى أَحَدٍ صَلَّى عَلَى حَسَبِ

ص: 443

اسْتِطَاعَتِهِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْجَنَابَةُ مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ؛ لَكِنَّ فَاعِلَ الْحَرَامِ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ وَنَجَاسَةُ الذَّنْبِ. فَإِنْ تَابَ وَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ أَحَبَّهُ اللَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. وَإِنْ تَطَهَّرَ وَلَمْ يَتُبْ: تَطَهَّرَ مِنْ الْجَنَابَةِ وَلَمْ يَتَطَهَّرْ مِنْ نَجَاسَةِ الذَّنْبِ فَإِنَّ تِلْكَ لَا يُزِيلُهَا إلَّا التَّوْبَةُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يُعْطِي الحمامي جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ وَيُصَلِّي بِلَا رَيْبٍ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُنْظِرُهُ الْحَمَّامَيْ وَلَمْ يَجِدْ مَا يَرْهَنُهُ عِنْدَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ فَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ بِالْأُجْرَةِ الْمُؤَجَّلَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَادَةُ إظْهَارِ الحمامي لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي الْحَمَّامِ كَالْعَادَةِ وَإِنْ مَنْعَهُ الْحَمَّامَيْ مِنْ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ مِنْ أَنْ يُوَفِّيَهُ حَقَّهُ لِبُغْضِ الحمامي وَنَحْوِ ذَلِكَ. دَخَلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الحمامي وَأَعْطَاهُ أُجْرَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أُجْرَةٌ فَمَنَعَهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يُوَفِّهِ حَقَّهُ فِي الْحَالِ وَلَا هُوَ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ الْحَمَّامَيْ لِيُنْظِرَهُ فَهَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ إلَّا بِرِضَا الحمامي وَإِنْ طَابَتْ نَفْسُ الحمامي بِأَخْذِ مَاءٍ فِي الْإِنَاءِ وَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِأَنْ يَتَطَهَّرَ فِي دَهَالِيزِ أَبْوَابِ الْحَمَّامِ جَازَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا تَطِيبُ بِهِ نَفْسُ الحمامي دُونَ مَا لَا تَطِيبُ إلَّا بِعِوَضِ الْمِثْلِ. وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَاءَ الْبَارِدَ وَالْحَارَّ وَيُعْطِيَ الحمامي

ص: 444

أُجْرَةَ الدُّخُولِ إذَا كَانَ الْمَاءُ يُبْذَلُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِزِيَادَةِ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ لِنَفَقَتِهِ أَوْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ أَوْ وَفَاءِ دَيْنِهِ الَّذِي يُطَالَبُ بِهِ كَانَ صَرْفُ ذَلِكَ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ مُقَدَّمًا عَلَى صَرْفِ ذَلِكَ فِي عِوَضِ الْمَاءِ. كَمَا لَوْ احْتَاجَ إلَى الْمَاءِ لِشُرْبِ نَفْسِهِ أَوْ دَوَابِّهِ فَإِنَّهُ يَصْرِفُهُ فِي ذَلِكَ وَيَتَيَمَّمُ. وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ لَا تُجْحِفُ بِمَالِهِ فَفِي وُجُوبِ بَذْلِ الْعِوَضِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ الْمَرْأَةِ يُجَامِعُهَا بَعْلُهَا وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ لِعَدَمِ الْأُجْرَةِ وَغَيْرِهَا. فَهَلْ لَهَا أَنْ تَتَيَمَّمَ؟ وَهَلْ يُكْرَهُ لِبَعْلِهَا مُجَامَعَتُهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ. وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ وَلَمْ تَغْتَسِلْ وَتَخَافُ إنْ دَخَلَتْ الْحَمَّامَ أَنْ يَفُوتَهَا الْوَقْتُ فَهَلْ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ؟ أَوْ تُصَلِّيَ فِي الْحَمَّامِ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، الْجُنُبُ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً فَإِنَّهُ إذَا

ص: 445

عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ فَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ دُخُولُ الْحَمَّامِ لِعَدَمِ الْأُجْرَةِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ وَلَا يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ وَطْءُ امْرَأَتِهِ كَذَلِكَ بَلْ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا كَمَا لَهُ أَنْ يَطَأَهَا فِي السَّفَرِ وَيُصَلِّيَا بِالتَّيَمُّمِ. وَإِذَا أَمْكَنَ الرَّجُلُ أَوْ الْمَرْأَةُ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُصَلِّيَ خَارِجَ الْحَمَّامِ فَعَلَا ذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ: مِثْلَ أَنْ لَا يَسْتَيْقِظَ أَوَّلَ الْفَجْرِ وَإِنْ اشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْمَاءِ خَرَجَ الْوَقْتُ. وَإِنْ طَلَبَ حَطَبًا يُسَخِّنُ بِهِ الْمَاءَ أَوْ ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ فَاتَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي هُنَا بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد قَالُوا يَشْتَغِلُ بِتَحْصِيلِ الطَّهَارَةِ وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ. وَهَكَذَا قَالُوا فِي اشْتِغَالِهِ بِخِيَاطَةِ اللِّبَاسِ وَتَعَلُّمِ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ. فَإِنَّ قِيَاسَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْمُسَافِرَ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ بِالْوُضُوءِ وَأَنَّ الْعُرْيَانَ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ بِاللِّبَاسِ. وَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ. وَأَمَّا إذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ الْوَقْتِ أَوْ إنْ اشْتَغَلَ بِاسْتِقَاءِ الْمَاءِ مِنْ

ص: 446

الْبِئْرِ خَرَجَ الْوَقْتُ أَوْ إنْ ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ لِلْغُسْلِ خَرَجَ الْوَقْتُ فَهَذَا يَغْتَسِلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَمَالِكٌ رحمه الله يَقُولُ: بَلْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ مُحَافَظَةً عَلَى الْوَقْتِ وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: إذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ الْوَقْتِ فَهُوَ حِينَئِذٍ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ فَالطَّهَارَةُ وَالْوَقْتُ فِي حَقِّهِ مِنْ حِينَ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ مَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا} . فَالْوَقْتُ الْمَأْمُورُ بِالصَّلَاةِ فِيهِ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ إذَا اسْتَيْقَظَ لَا مَا قَبْلَ ذَلِكَ وَفِي حَقِّ النَّاسِي إذَا ذَكَرَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ الرَّجُلُ يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ إلَى الْحَمَّامِ لَكِنْ إنْ دَخَلَ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ حَتَّى يَفُوتَ الْوَقْتُ إمَّا لِكَوْنِهِ مَقْهُورًا مِثْلَ الْغُلَامِ الَّذِي لَا يُخَلِّيهِ سَيِّدُهُ يَخْرُجُ حَتَّى يُصَلِّيَ وَمِثْلُ الْمَرْأَةِ الَّتِي مَعَهَا أَوْلَادُهَا فَلَا يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ حَتَّى تَغْسِلَهُمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَحَدِ أُمُورٍ: إمَّا أَنْ يَغْتَسِلُوا وَيُصَلُّوا فِي الْحَمَّامِ فِي الْوَقْتِ وَإِمَّا أَنْ يُصَلُّوا خَارِجَ الْحَمَّامِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَإِمَّا أَنْ يُصَلُّوا بِالتَّيَمُّمِ خَارِجَ الْحَمَّامِ. وَبِكُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يُفْتِي طَائِفَةٌ؛ لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ بِالتَّيَمُّمِ خَارِجَ الْحَمَّامِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْحَمَّامِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَتَفْوِيتُ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْ هَذَيْنِ النَّهْيَيْنِ إلَّا بِالصَّلَاةِ

ص: 447

بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ خَارِجَ الْحَمَّامِ. وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الصَّلَاةُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ فِي الْوَقْتِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ بَعْدَ الْوَقْتِ إذَا اغْتَسَلَ أَوْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي مَكَانٍ طَاهِرٍ فِي الْوَقْتِ. فَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ كُلًّا مِنْ ذَيْنِك مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَتَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ حُبِسَ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ وَصَلَّى فِيهِ: هَلْ يُعِيدُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ بَلْ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إنْ كَانَ قَدْ صَلَّى فِي الْوَقْتِ كَمَا أُمِرَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الْعُذْرُ نَادِرًا أَوْ مُعْتَادًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى الْعَبْدِ الصَّلَاةَ الْمُعَيَّنَةَ مَرَّتَيْنِ إلَّا إذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ مِنْهُ إخْلَالٌ بِوَاجِبِ أَوْ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ. فَأَمَّا إذَا فَعَلَ الْوَاجِبَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَلَمْ يَأْمُرْهُ مَرَّتَيْنِ وَلَا أَمَرَ اللَّهُ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ وَيُعِيدَهَا؛ بَلْ حَيْثُ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ ابْتِدَاءً كَمَنْ صَلَّى بِلَا وُضُوءٍ نَاسِيًا فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِتِلْكَ الصَّلَاةِ بَلْ اعْتِقَادُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ خَطَأٌ مِنْهُ وَإِنَّمَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالطَّهَارَةِ فَإِذَا صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ كَانَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي تَوَضَّأَ وَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ مِنْ قَدَمِهِ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ. وَكَمَا أَمَرَ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ. وَكَمَا أَمَرَ

ص: 448

الْمُصَلِّيَ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ. فَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ الطَّهَارَةِ أَوْ السِّتَارَةِ أَوْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَوْ عَنْ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ أَوْ عَنْ إكْمَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْ عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ بَعْضِ وَاجِبَاتِهَا. فَإِنَّ هَذَا يَفْعَلُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .

وَسُئِلَ:

عَنْ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ بَعِيدَةً عَنْ الْحَمَّامِ وَحَصَلَ لَهَا جَنَابَةٌ وَتَخْشَى مِنْ الْغُسْلِ فِي الْبَيْتِ مِنْ الْبَرْدِ. هَلْ لَهَا أَنْ تَتَيَمَّمَ وَتُصَلِّيَ؟ وَإِذَا أَرَادَ زَوْجُهَا الْجِمَاعَ وَتَخَافُ مِنْ الْبَرْدِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا. هَلْ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ؟ أَوْ يَغْتَسِلَ مَعَ الْقُدْرَةِ. وَتَتَيَمَّمَ هِيَ؟ أَمْ يَتْرُكَ الْجِمَاعَ. فَإِذَا جَامَعَهَا وَأَرَادَتْ الدُّخُولَ إلَى الْحَمَّامِ لِلتَّطَهُّرِ هَلْ تَتَيَمَّمُ وَتَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ؟ أَوْ تُصَلِّي فِي الْحَمَّامِ بِالْغُسْلِ؟ وَهَلْ لَهَا إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ وَلَمْ تَغْتَسِلْ أَنْ تَتَيَمَّمَ وَيُجَامِعَهَا زَوْجُهَا أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَحْتَاجُ التَّيَمُّمُ لِلْجَنَابَةِ إلَى وُضُوءٍ

ص: 449

أَمْ لَا؟ وَإِذَا احْتَاجَ هَلْ يُقَدِّمُ الْوُضُوءَ أَمْ التَّيَمُّمَ؟ وَهَلْ يَحْتَاجُ التَّيَمُّمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ؟ أَمْ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِتَيَمُّمِ وَاحِدٍ؟ وَإِذَا طَهُرَتْ الْمَرْأَةُ آخِرَ النَّهَارِ - أَوْ آخِرَ اللَّيْلِ - وَعَجَزَتْ عَنْ الْغُسْلِ لِلْبَرْدِ وَغَيْرِهِ هَلْ تَتَيَمَّمُ وَتُصَلِّي؟ وَهَلْ تَقْضِي صَلَاةَ الْيَوْمِ الَّذِي طَهُرَتْ فِيهِ؟ أَوْ اللَّيْلَةَ؟ . وَمَنْ أَصَابَهُ جُرْحٌ أَوْ كَسْرٌ وَعَصَبَهُ هَلْ يَمْسَحُ عَلَى الْعِصَابَةِ أَمْ يَتَيَمَّمُ عَنْ الْوُضُوءِ لِلْمَجْرُوحِ؟ وَبَعْضُ الْأَعْضَاءِ يَعْجِزُ عَنْ إمْرَارِ الْمَاءِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْجُرْحِ أَوْ الْكَسْرِ وَهَلْ يَتْرُكُ الْجِمَاعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْ يَفْعَلُهُ وَيَتَيَمَّمُ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ مُدَّةَ الْمُدَاوَاةِ تَطُولُ فَيَطُولُ تَيَمُّمُهُ؟ وَهَلْ لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا مَنْعُ الزَّوْجِ مِنْ الْجِمَاعِ إذَا كَانَتْ لَا تَقْدِرُ عَلَى الْغُسْلِ؟ أَمْ تُطِيعُهُ وَتَتَيَمَّمُ؟ وَمَنْ وَجَدَ الْحَمَّامَ بَعِيدًا مَتَى وَصَلَ إلَيْهِ خَرَجَ الْوَقْتُ هَلْ يَتَيَمَّمُ أَمْ يَذْهَبُ إلَيْهِ وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ؟ وَمَنْ خَافَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ إذَا تَطَهَّرَ بِالْمَاءِ هَلْ يَتَيَمَّمُ لِيَحْصُلَ عَلَى الْجَمَاعَةِ أَمْ لَا؟ وَمَنْ مَعَهُ رُفْقَةٌ يُرِيدُونَ الْجَمْعَ فَهَلْ الْأَفْضَلُ لَهُ الْجَمْعُ مَعَهُمْ لِتَحْصِيلِ الْجَمَاعَةِ؛ أَمْ يُصَلِّي وَحْدَهُ فِي الْوَقْتِ؟ وَقَدْ يَكُونُ هُوَ إمَامَهُمْ فَأَيُّمَا أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ جَمْعًا أَمْ الصَّلَاةَ وَحْدَهُ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ؟ وَمَنْ كَانَ لَهُ صِنَاعَةٌ يَعْمَلُهَا هُوَ وَصُنَّاعٌ أُخَرُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فِي وَقْتِهَا وَيَبْطُلُ الصُّنَّاعُ هَلْ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ؟ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي حِرَاثَةٍ وَزِرَاعَةٍ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَاءِ هَلْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي؟ وَمَنْ يَتَيَمَّمُ

ص: 450

هَلْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ؟ وَيُصَلِّي وِرْدَهُ بِاللَّيْلِ؟ وَهَلْ لِلْمَرْأَةِ الْجُنُبِ أَوْ الْحَائِضِ أَنْ تَقْرَأَ عَلَى وَلَدِهَا الصَّغِيرِ؟ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ تُرَابًا هَلْ يَتَيَمَّمُ عَلَى الْبِسَاطِ أَوْ الْحَصِيرِ إذَا كَانَ فِيهِمَا غُبَارٌ؟ .

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مَنْ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ مِنْ احْتِلَامٍ أَوْ جِمَاعٍ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُصَلِّيَ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاغْتِسَالُ لِعَدَمِ الْمَاءِ أَوْ لِتَضَرُّرِهِ بِاسْتِعْمَالِهِ: مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا يَزِيدُ الِاغْتِسَالُ فِي مَرَضِهِ أَوْ يَكُونَ الْهَوَاءُ بَارِدًا وَإِنْ اغْتَسَلَ خَافَ أَنْ يَمْرَضَ بِصُدَاعِ أَوْ زُكَامٍ أَوْ نَزْلَةٍ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي. سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْنَعَ زَوْجَهَا مِنْ الْجِمَاعِ. بَلْ لَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا فَإِنْ قَدَرَتْ عَلَى الِاغْتِسَالِ وَإِلَّا تَيَمَّمَتْ. وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إنْ قَدَرَ عَلَى الِاغْتِسَالِ وَإِلَّا تَيَمَّمَ وَلَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا قَبْلَ دُخُولِ الْحَمَّامِ فَإِنْ قَدَرَتْ عَلَى أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ خَارِجَ الْحَمَّامِ فَعَلَتْ وَإِنْ خَافَتْ أَنْ تَفُوتَهَا الصَّلَاةُ اسْتَتَرَتْ فِي الْحَمَّامِ وَصَلَّتْ وَلَا تَفُوتُ الصَّلَاةُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِطِهَارَةِ كَامِلَةٍ بِالْمَاءِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالتَّيَمُّمِ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُسْتَحَاضَةَ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِغُسْلِ وَاحِدٍ وَجُعِلَ ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ التَّفْرِيقِ بِوُضُوءِ.

ص: 451

وَأَيْضًا فَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مَشْرُوعٌ لِحَاجَةِ دُنْيَوِيَّةٍ فَلَأَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا لِتَكْمِيلِ الصَّلَاةِ أَوْلَى وَالْجَامِعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مُصَلٍّ فِي الْوَقْتِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعِرْفِهِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ؛ لِأَجْلِ تَكْمِيلِ الْوُقُوفِ وَاتِّصَالِهِ؛ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْزِلَ فَيُصَلِّيَ فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِتَكْمِيلِ الْوُقُوفِ فَالْجَمْعُ لِتَكْمِيلِ الصَّلَاةِ أَوْلَى. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ لِلْمَطَرِ وَهُوَ نَفْسُهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَتَضَرَّرُ بِالْمَطَرِ بَلْ جُمِعَ لِتَحْصِيلِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْجَمْعُ لِتَحْصِيلِ الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِنْ التَّفْرِيقِ وَالِانْفِرَادِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ فَإِنَّ أَعْطَانَ الْإِبِلِ وَالْحَمَّامِ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِمَا وَالْجَمْعُ مَشْرُوعٌ. بَلْ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا} ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا نَامَ عَنْ الصَّلَاةِ انْتَقَلَ وَقَالَ: {هَذَا وَادٍ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ} فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ الْوَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِكَوْنِ الْبُقْعَةِ حَضَرَ فِيهَا الشَّيْطَانُ وَتِلْكَ الْبُقْعَةُ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا وَتَجُوزُ؛ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ الِانْتِقَالُ عَنْهَا وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ. وَالْحَمَّامُ وَأَعْطَانُ الْإِبِلِ مَسْكَنُ الشَّيَاطِينِ؛ وَلِهَذَا حَرَّمَ الصَّلَاةَ فِيهَا وَالْجُمَعُ مَشْرُوعٌ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فَإِذَا جَمَعَ لِئَلَّا يُصَلِّيَ فِي أَمَاكِنِ

ص: 452

الشَّيَاطِينِ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ وَالْمَرْأَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهَا الْجَمْعُ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ جَمَعَتْ بِطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ الْمَشْرُوعِ خَيْرٌ مِنْ التَّفْرِيقِ وَمِنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَمَاكِنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَإِذَا أَمْكَنَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ أَنْ يَتَوَضَّآ وَيَتَيَمَّمَا فَعَلَا فَإِنْ اقْتَصَرَا عَلَى التَّيَمُّمِ أَجْزَأَهُمَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ - بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ - بَلْ إمَّا هَذَا وَإِمَّا هَذَا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: بَلْ يَغْتَسِلُ بِالْمَاءِ مَا أَمْكَنَهُ وَيَتَيَمَّمُ لِلْبَاقِي. وَإِذَا تَوَضَّأَ وَتَيَمَّمَ فَسَوَاءٌ قَدَّمَ هَذَا أَوْ هَذَا لَكِنَّ تَقْدِيمَ الْوُضُوءِ أَحْسَنُ وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ بِتَيَمُّمِ وَاحِدٍ كَمَا يَجُوزُ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ وَغُسْلٍ وَاحِدٍ فِي أَظْهَرْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ. فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فأمسه بَشَرَتَك فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ} . وَالْمَرْأَةُ إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ فَإِنْ قَدَرَتْ عَلَى الِاغْتِسَالِ وَإِلَّا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ فَإِنْ طَهُرَتْ فِي آخِرِ النَّهَارِ صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ. وَإِنْ طَهُرَتْ فِي آخِرِ اللَّيْلِ صَلَّتْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَلَا يَقْضِي أَحَدٌ مَا صَلَّاهُ بِالتَّيَمُّمِ. وَإِذَا كَانَ الْجُرْحُ مَكْشُوفًا وَأَمْكَنَ مَسْحُهُ بِالْمَاءِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ التَّيَمُّمِ

ص: 453

وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعْصُوبًا أَوْ كُسِرَ عَظْمُهُ فَوَضَعَ عَلَيْهِ جَبِيرَةً فَمَسَحَ ذَلِكَ بِالْمَاءِ خَيْرٌ مِنْ التَّيَمُّمِ وَالْمَرِيضُ وَالْجَرِيحُ وَالْمَكْسُورُ إذَا أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ بِجِمَاعِ وَغَيْرِهِ وَالْمَاءُ يَضُرُّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي أَوْ يَمْسَحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ وَيَغْسِلُ سَائِرَ بَدَنِهِ إنْ أَمْكَنَهُ وَيُصَلِّي. وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنَّ تَمْنَعَ زَوْجَهَا الْجِمَاعَ بَلْ يُجَامِعُهَا. فَإِنْ قَدَرَتْ عَلَى الِاغْتِسَالِ وَإِلَّا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ. وَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ لَمْ يُجَامِعْهَا إلَّا بَعْدَ الِاغْتِسَالِ وَإِلَّا تَيَمَّمَتْ وَوَطِئَهَا زَوْجُهَا. وَيَتَيَمَّمُ الْوَاطِئُ حَيْثُ يَتَيَمَّمُ لِلصَّلَاةِ. وَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ كَطُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ إذَا اغْتَسَلَ أَنْ يُصَلِّيَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ؛ لِكَوْنِ الْمَاءِ بَعِيدًا أَوْ الْحَمَّامِ مَغْلُوقَةً أَوْ لِكَوْنِهِ فَقِيرًا وَلَيْسَ مَعَهُ أُجْرَةُ الْحَمَّامِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَفُوتَ الْوَقْتُ. وَأَمَّا إذَا اسْتَيْقَظَ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ الِاغْتِسَالِ فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا فَهَذَا يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّهِ مِنْ حِينِ اسْتَيْقَظَ بِخِلَافِ الْيَقِظَانِ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّهِ مِنْ حِينِ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَلَا بُدَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ الْوَقْتِ لِأَحَدِ أَصْلًا لَا بِعُذْرِ وَلَا بِغَيْرِ عُذْرٍ. لَكِنْ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ

ص: 454

فَيُصَلِّي الْمَرِيضُ بِحَسَبِ حَالِهِ فِي الْوَقْتِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: {صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ} فَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ قَاعِدًا وَلَا يُصَلِّي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ قَائِمًا وَكَذَلِكَ الْعُرَاةُ كَاَلَّذِينَ انْكَسَرَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ يُصَلُّونَ فِي الْوَقْتِ عُرَاةً وَلَا يُؤَخِّرُونَهَا لِيُصَلُّوا فِي الثِّيَابِ بَعْدَ الْوَقْتِ. وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ وَلَا يُؤَخِّرُهَا لِيُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ بِالْيَقِينِ. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ فِي بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ لَا يُمْكِنُهُ إزَالَتُهَا حَتَّى تَفُوتَ الصَّلَاةُ فَيُصَلِّي بِهَا فِي الْوَقْتِ وَلَا يُفَوِّتُ الصَّلَاةَ لِيُصَلِّيَ طَاهِرًا. وَكَذَلِكَ مَنْ حُبِسَ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ أَوْ كَانَ فِي حَمَّامٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا نُهِيَ عَنْ الصَّلَاة فِيهِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ حَتَّى تَفُوتَ الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ وَلَا يُفَوِّتُ الصَّلَاةَ لِيُصَلِّيَ فِي غَيْرِهِ. فَالصَّلَاةُ فِي الْوَقْتِ فَرْضٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالِاسْتِطَاعَةِ. وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً نَاقِصَةً حَتَّى الْخَائِفُ يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَا يُفَوِّتُهَا لِيُصَلِّيَ صَلَاةَ أَمْنٍ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ حَتَّى فِي حَالِ الْمُقَاتَلَةِ يُصَلِّي وَيُقَاتِلُ وَلَا يُفَوِّتُ الصَّلَاةَ لِيُصَلِّيَ بِلَا قِتَالٍ فَالصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ فِي الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً خَيْرٌ مِنْ تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَتْ كَامِلَةً؛

ص: 455

بَلْ الصَّلَاةُ بَعْدَ تَفْوِيتِ الْوَقْتِ عَمْدًا لَا تُقْبَلُ مِنْ صَاحِبِهَا وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إثْمُ التَّفْوِيتِ الْمُحَرَّمِ. وَلَوْ قَضَاهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا إذَا خَافَ فَوَاتَ الْجِنَازَةِ أَوْ الْعِيدِ أَوْ الْجُمُعَةِ فَفِي التَّيَمُّمِ نِزَاعٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا بِالتَّيَمُّمِ وَلَا يُفَوِّتُهَا وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ الْوَاجِبَةِ إلَّا بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا بِالتَّيَمُّمِ. وَمَذْهَبُ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِلْجِنَازَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعِيدَهَا بِوُضُوءِ فَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ عَلَى مَذْهَبِهِ تَعَذُّرُ الْإِعَادَةِ؛ بِخِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ إنَّمَا عَلَّلَ ذَلِكَ بِتَعَذُّرِ الْإِعَادَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْجِنَازَةِ وَبَيْنَ الْعِيدِ وَالْجُمْعَةِ. وَأَحْمَد لَا يُعَلِّلُ بِذَلِكَ فَكَيْفَ وَالْجُمْعَةُ لَا تُعَادُ وَإِنَّمَا تُصَلَّى ظُهْرًا. وَلَيْسَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ كَالْجُمْعَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ صَلَاةُ الْجُمُعَة الْوَاجِبَةِ إلَّا بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا بِالتَّيَمُّمِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ حَيْثُ يُشْرَعُ فِي الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا لَيْسَ بِمُفَوِّتِ وَلَا يُشْتَرَطُ لِلْقَصْرِ وَلَا لِلْجَمْعِ نِيَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِك وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ إحْدَى الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد؛ بَلْ عَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُهُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ.

ص: 456

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ يَجُوزُ لِعُذْرِ فَالْمُسَافِرُ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَالْمُسَافِرُونَ إذَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ النُّعَاسُ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ انْتِظَارُ الْعِشَاءِ جَمَعُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يَنَامُ فَصَلَاتُهُ بِهِمْ إمَامًا جَامِعًا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاته وَحْدَهُ غَيْرَ جَامِعٍ. وَالْحَرَّاثُ إذَا خَافَ إنْ طَلَبَ الْمَاءَ يُسْرَقُ مَالُهُ أَوْ يَتَعَطَّلُ عَمَلُهُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ. وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِوُضُوءِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَعْذَارِ الَّذِينَ يُبَاحُ لَهُمْ التَّيَمُّمُ: إذَا أَمْكَنَهُمْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِطَهَارَةِ الْمَاءِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا بِطِهَارَةِ التَّيَمُّمِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِمَنْ لَهُ عُذْرٌ كَالْمَطَرِ وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ؛ وَلِمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ: فَصَلَاتُهُمْ بِطِهَارَةِ كَامِلَةٍ جَمْعًا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِمْ بِطَهَارَةِ نَاقِصَةٍ مُفَرِّقًا بَيْنَهُمَا. وَالْمَرِيضُ أَيْضًا لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مَعَ الْجَمْعِ صَلَاته أَكْمَلُ. إمَّا لِكَمَالِ طَهَارَتِهِ وَإِمَّا لِإِمْكَانِ الْقِيَامِ وَلَوْ كَانَتْ الصَّلَاتَانِ سَوَاءً. لَكِنْ إذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا زَادَ مَرَضُهُ فَلَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.

ص: 457

وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: يَجُوزُ الْجَمْعُ إذَا كَانَ لِشُغْلٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: الشُّغْلُ الَّذِي يُبِيحُ تَرْكَ الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قدامة المقدسي: مُبَيِّنًا عَنْ هَؤُلَاءِ؛ وَهُوَ الْمَرِيضُ وَمَنْ لَهُ قَرِيبٌ يَخَافُ مَوْتَهُ وَمَنْ يُدَافِعُ أَحَدًا مِنْ الْأَخْبَثَيْنِ وَمَنْ يَحْضُرُهُ طَعَامٌ وَبِهِ حَاجَةٌ إلَيْهِ وَمَنْ يَخَافُ مِنْ سُلْطَانٍ يَأْخُذُهُ أَوْ غَرِيمٍ يُلَازِمُهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ يُعْطِيهِ وَالْمُسَافِرُ إذَا خَافَ فَوَاتَ الْقَافِلَةِ وَمَنْ يَخَافُ ضَرَرًا فِي مَالِهِ وَمَنْ يَرْجُو وُجُودَهُ وَمَنْ يَخَافُ مِنْ غَلَبَةِ النُّعَاسِ حَتَّى يَفُوتَهُ الْوَقْتُ وَمَنْ يَخَافُ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ. وَكَذَلِكَ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ إذَا كَانَ فِيهَا وَحْلٌ. فَهَؤُلَاءِ يُعْذَرُوا وَإِنْ تَرَكُوا الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَةَ كَذَا حَكَاهُ ابْنُ قدامة فِي " مُخْتَصَرِ الْهِدَايَةِ ". فَإِنَّهُ يُبِيحُ لَهُمْ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ عَلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى. وَالصُّنَّاعُ وَالْفَلَّاحُونَ إذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ الْخَاصِّ مَشَقَّةٌ عَلَيْهِمْ: مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ بَعِيدًا فِي فِعْلِ صَلَاةٍ وَإِذَا ذَهَبُوا إلَيْهِ وَتَطَهَّرُوا تَعَطَّلَ بَعْضُ الْعَمَلِ الَّذِي يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي الْوَقْتِ الْمُشْتَرَكِ فَيَجْمَعُوا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُؤَخِّرُوا الظُّهْرَ إلَى قَرِيبِ الْعَصْرِ فَيَجْمَعُوهَا وَيُصَلُّوهَا مَعَ الْعَصْرِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَمْعًا فِي آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَأَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ. وَيَجُوزُ مَعَ بُعْدِ الْمَاءِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ الْخَاصِّ. وَالْجَمْعُ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ أَفْضَلُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.

ص: 458

فَصْلٌ:

كُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ: مِنْ جُنُبٍ أَوْ مُحْدِثٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَيَمَسَّ الْمُصْحَفَ وَيُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ النَّافِلَةَ وَالْفَرِيضَةَ وَيَرْقِيَ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرَ ذَلِكَ. فَإِنَّ الصَّلَاةَ أَعْظَمُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فَمَنْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ بِالتَّيَمُّمِ أَوْلَى وَالْقِرَاءَةُ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَوْسَعُ مِنْهَا فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْمُحْدِثَ يَقْرَؤُهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ يَفْعَلُهُ بِطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ. وَإِذَا أَمْكَنَ الْجُنُبُ الْوُضُوءَ دُونَ الْغُسْلِ فَتَوَضَّأَ وَتَيَمَّمَ عَنْ الْغُسْلِ جَازَ وَإِنْ تَيَمَّمَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ فَفِيهِ قَوْلَانِ. قِيلَ: يَجْزِيهِ عَنْ الْغُسْلِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: لَا يَجْزِيهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ. وَإِذَا تَيَمَّمَ بِالتُّرَابِ الَّذِي تَحْتَ حَصِيرِ بَيْتِهِ جَازَ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ هُنَاكَ غُبَارٌ لَاصِقٌ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَتَيَمَّمَ بِذَلِكَ التُّرَابِ اللَّاصِقِ جَازَ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ لِلْقُرْآنِ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

ص: 459

قِيلَ: يَجُوزُ لِهَذَا وَلِهَذَا. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَيَجُوزُ لِلْحَائِضِ. إمَّا مُطْلَقًا أَوْ إذَا خَافَتْ النِّسْيَانَ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْحَائِضِ الْقُرْآنَ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ شَيْءٌ غَيْرَ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ {لَا تَقْرَأْ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ. وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ مَا يَرْوِيهِ عَنْ الْحِجَازِيِّينَ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ؛ بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ عَنْ الشَّامِيِّينَ وَلَمْ يَرْوِ هَذَا عَنْ نَافِعٍ أَحَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَحِضْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُنْ يَنْهَاهُنَّ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. كَمَا لَمْ يَكُنْ يَنْهَاهُنَّ عَنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ بَلْ أَمَرَ الْحُيَّضَ أَنْ يَخْرُجْنَ يَوْمَ الْعِيدِ فَيُكَبِّرُونَ بِتَكْبِيرِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَرَ الْحَائِضَ أَنْ تَقْضِيَ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ: تُلَبِّي وَهِيَ حَائِضٌ وَكَذَلِكَ بمزدلفة وَمِنًى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَشَاعِرِ. وَأَمَّا الْجُنُبُ فَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَشْهَدَ الْعِيدَ وَلَا يُصَلِّيَ وَلَا أَنْ يَقْضِيَ شَيْئًا مِنْ الْمَنَاسِكِ: لِأَنَّ الْجُنُبَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي

ص: 460

تَرْكِ الطَّهَارَةِ بِخِلَافِ الْحَائِضِ فَإِنَّ حَدَثَهَا قَائِمٌ لَا يُمْكِنُهَا مَعَ ذَلِكَ التَّطَهُّرُ. وَلِهَذَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لَيْسَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى حَتَّى يَطَّهَّرَ وَإِنْ كَانَتْ الطَّهَارَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي ذَلِكَ. لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَ الْحَائِضَ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ بِذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ مَعَ كَرَاهَةِ ذَلِكَ لِلْجُنُبِ. فَعُلِمَ أَنَّ الْحَائِضَ يُرَخَّصُ لَهَا فِيمَا لَا يُرَخَّصُ لِلْجُنُبِ فِيهِ؛ لِأَجْلِ الْعُذْرِ. وَإِنْ كَانَتْ عِدَّتُهَا أَغْلَظَ فَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لَمْ يَنْهَهَا الشَّارِعُ عَنْ ذَلِكَ. وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ نَهَى الْجُنُبَ لِأَنَّ الْجُنُبَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَيَقْرَأَ بِخِلَافِ الْحَائِضِ؛ تَبْقَى حَائِضًا أَيَّامًا فَيَفُوتُهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ تَفْوِيتَ عِبَادَةٍ تَحْتَاجُ إلَيْهَا مَعَ عَجْزِهَا عَنْ الطَّهَارَةِ وَلَيْسَتْ الْقِرَاءَةُ كَالصَّلَاةِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ يُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ مَعَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ وَالْقِرَاءَةُ تَجُوزُ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ بِالنَّصِّ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَالصَّلَاةُ يَجِبُ فِيهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَاللِّبَاسُ وَاجْتِنَابُ النَّجَاسَةِ وَالْقِرَاءَةُ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ {كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَهِيَ حَائِضٌ} وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا: {يَقُولُ اللَّهُ عز وجل لِلنَّبِيِّ

ص: 461

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي مُنَزِّلٌ عَلَيْك كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ} فَتَجُوزُ الْقِرَاءَةُ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمَاشِيًا وَمُضْطَجِعًا. وَرَاكِبًا.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ أَرْمَدَ فَلَحِقَتْهُ جَنَابَةٌ وَلَا يَقْدِرُ يَتَطَهَّرُ بِمَاءِ مُسَخَّنٍ وَلَا بَارِدٍ وَيَقْدِرُ عَلَى الْوُضُوءِ. فَمَا يَصْنَعُ؟ .

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا كَانَ بِهِ رَمَدٌ فَإِنَّهُ يَغْسِلُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ بَدَنِهِ. وَمَا يَضُرُّهُ الْمَاءُ - كَالْعَيْنِ وَمَا يُقَارِبُهَا - فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: يَتَيَمَّمُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَالثَّانِي: لَيْسَ عَلَيْهِ تَيَمُّمٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ لَكِنَّ غَسْلَ أَكْثَرِ الْبَدَنِ الَّذِي يُمْكِنُ غَسْلُهُ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ بَاشَرَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ فِي عَافِيَةٍ. فَهَلْ لَهُ أَنْ يَصْبِرَ بِالتَّطَهُّرِ إلَى أَنْ يتضاحى النَّهَارُ؟ أَمْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟ .

ص: 462

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ بَلْ عَلَيْهِ إنْ قَدَرَ عَلَى الِاغْتِسَالِ بِمَاءِ بَارِدٍ أَوْ حَارٍّ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ وَإِلَّا تَيَمَّمَ: فَإِنَّ التَّيَمُّمَ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِذَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لَكِنْ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الِاغْتِسَالِ اغْتَسَلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ امْرَأَةٍ بِهَا مَرَضٌ فِي عَيْنَيْهَا وَثِقَلٌ فِي جِسْمِهَا مِنْ الشَّحْمِ وَلَيْسَ لَهَا قُدْرَةٌ عَلَى الْحَمَّامِ؛ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَزَوْجُهَا لَمْ يَدَعْهَا تَطَّهَّرُ وَهِيَ تَطْلُبُ الصَّلَاةَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَغْسِلَ جِسْمَهَا الصَّحِيحَ؟ وَتَتَيَمَّمُ عَنْ رَأْسِهَا؟ .

فَأَجَابَ:

نَعَمْ، إذَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الِاغْتِسَالِ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ وَلَا الْحَارِّ فَعَلَيْهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ لَكِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهَا تَغْسِلُ مَا يُمْكِنُ وَتَتَيَمَّمُ لِلْبَاقِي. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ إنْ غَسَلَتْ الْأَكْثَرَ لَمْ تَتَيَمَّمْ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا غَسْلُ الْأَقَلِّ تَيَمَّمَتْ وَلَا غُسْلَ عَلَيْهَا.

ص: 463

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ سَافَرَ مَعَ رُفْقَةٍ وَهُوَ إمَامُهُمْ. ثُمَّ احْتَلَمَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْبَرْدِ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَقْتُلَهُ الْبَرْدُ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى بِهِمْ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةٌ؟ وَعَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الْأُولَى: أَنَّ تَيَمُّمَهُ جَائِزٌ وَصَلَاتَهُ جَائِزَةٌ وَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ فِي السُّنَنِ {عَنْ عَمْرِو بْنِ العاص أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ بِالتَّيَمُّمِ فِي السَّفَرِ وَإِنَّ ذَلِكَ ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم} وَكَذَلِكَ هَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ هَلْ يَؤُمُّ الْمُتَوَضِّئِينَ؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَؤُمُّهُمْ كَمَا أَمَّهُمْ عَمْرُو بْنُ العاص وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمَذْهَبُ أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّهُمْ.

ص: 464

الثَّالِثَةُ: فِي الْإِعَادَةِ فَالْمَأْمُومُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. بِالِاتِّفَاقِ مَعَ صِحَّةِ صَلَاتِهِ وَأَمَّا الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ إذَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ. فَقِيلَ: يُعِيدُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَقِيلَ: يُعِيدُ فِي الْحَضَرِ فَقَطْ دُونَ السَّفَرِ. كَقَوْلِ لَهُ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَد. وَقِيلَ: لَا يُعِيدُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَمْرَو بْنَ العاص بِإِعَادَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَعْذَارِ الْمُعْتَادَةِ وَغَيْرِ الْمُعْتَادَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ أَوْ الْخَوْفِ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ. فَهَلْ إذَا تَيَمَّمَ وَصَلَّى وَقَرَأَ وَمَسَّ الْمُصْحَفَ وَتَهَجَّدَ بِاللَّيْلِ إمَامًا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُعِيدُ الصَّلَاةَ أَمْ لَا؟ وَإِلَى كَمْ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا كَانَ خَائِفًا مِنْ الْبَرْدِ إنْ اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ يَمْرَضُ أَوْ كَانَ خَائِفًا إنْ اغْتَسَلَ أَنْ يُرْمَى بِمَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ وَيَتَضَرَّرَ بِذَلِكَ أَوْ كَانَ خَائِفًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ عَدُوٌّ أَوْ سَبُعٌ يَخَافُ ضَرَرَهُ إنْ قَصَدَ الْمَاءَ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي مِنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ الْأَصْغَرِ.

ص: 465

وَأَمَّا الْإِعَادَةُ: فَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّيَمُّمِ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ هَلْ يُعِيدُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ؟ أَوْ لَا يُعِيدُ فِيهِمَا؟ أَوْ يُعِيدُ فِي الْحَضَرِ فَقَطْ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. وَالْأَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِحَالِ. وَمَنْ جَازَتْ لَهُ الصَّلَاةُ جَازَتْ لَهُ الْقِرَاءَةُ وَمَسُّ الْمُصْحَفِ. وَالْمُتَيَمِّمُ يَؤُمُّ الْمُغْتَسِلَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ التَّيَمُّمِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ جِرَاحَةٌ وَتَوَضَّأَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ عِنْدَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ؟ أَمْ يُكْمِلُ وُضُوءَهُ إلَى آخِرِهِ؟ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَيَمَّمُ؟ وَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ مَشْدُودَةً: فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحِلَّ الْجِرَاحَ. وَيَغْسِلَ جَمِيعَ الصَّحِيحِ؟ أَمْ يَغْسِلَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَيَتْرُكَ الشَّدَّ عَلَى حَالِهِ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ هُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ التَّيَمُّمَ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ بَلْ هَذَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ إذَا قِيلَ: إنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَيَمُّمٍ وَلَكِنَّ مَذْهَبَ

ص: 466

الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَإِذَا جَبَرَهَا مَسَحَ عَلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَ جَبْرُهَا عَلَى وُضُوءٍ أَوْ غَيْرِ وُضُوءٍ. وَكَذَلِكَ إذَا شَدَّ عَلَيْهَا عِصَابَةً وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَيَمُّمٍ فِي ذَلِكَ هَذَا أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهِ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ جُنُبٍ وَهُوَ فِي بَيْتٍ مُبَلَّطٍ عَادِمٍ فِيهِ التُّرَابَ مَغْلُوقٍ عَلَيْهِ الْبَابُ وَلَمْ يَعْلَمْ مَتَى يَكُونُ الْخُرُوجُ مِنْهُ فَهَلْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ إلَى وُجُودِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَلَا عَلَى التَّمَسُّحِ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِلَا مَاءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. وَهَلْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَلَمْ يَأْمُرْ الْعَبْدَ بِصَلَاتَيْنِ وَإِذَا صَلَّى قَرَأَ الْقِرَاءَةَ الْوَاجِبَةَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 467

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ نَامٍ وَهُوَ جُنُبٌ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ إلَّا قريب طُلُوعِ الشَّمْسِ وَخَشِيَ مِنْ الْغُسْلِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فِي وَقْتِ الْبَرْدِ وَإِنْ سَخَّنَ الْمَاءَ خَرَجَ الْوَقْتُ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَوِّتَ الصَّلَاةَ إلَى حَيْثُ يَغْتَسِلُ أَوْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي.

فَأَجَابَ:

هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فَالْأَكْثَرُ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد يَأْمُرُونَهُ بِطَلَبِ الْمَاءِ وَإِنْ صَلَّى بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَمَالِكٌ يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ لِلْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إنْ اسْتَيْقَظَ فِي الْوَقْتِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ الْمَاءَ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُصَلِّي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِالْغُسْلِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَنَظَائِرِهَا وَبَيْنَ صُورَةِ السُّؤَالِ: بِأَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا خُوطِبَ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا} وَإِذَا كَانَ إنَّمَا أُمِرَ بِهَا بَعْدَ الِانْتِبَاهِ فَعَلَيْهِ فِعْلُهَا بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُ

ص: 468

مِنْ الِاغْتِسَالِ الْمُعْتَادِ فَيَكُونُ فِعْلُهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِعْلًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِالصَّلَاةِ فِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ أَجْنَبَ وَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَغْتَسِلَ فَخَافَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى وَبَعْدَ الصَّلَاةِ اغْتَسَلَ فَهَلْ تُجْزِئُ الصَّلَاةُ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا أَدْرَكَتْهُ الْجَنَابَةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْغُسْلَ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْتَيْقِظْ إلَّا وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا يُصَلِّي جُنُبًا وَبَعْضُهُمْ قَالَ: يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ الْجُنُبِ إذَا انْتَبَهَ مَنْ نَوْمِهِ وَهُوَ فِي الْحَضَرِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِقَلِيلِ هَلْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ؟ أَوْ يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ؟ .

ص: 469

فَأَجَابَ رحمه الله يَغْتَسِلُ وَلَا يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

إذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ جُنُبٌ وَيَخْشَى إنْ اشْتَغَلَ بِفِعْلِ الطَّهَارَةِ يَفُوتُهُ الْوَقْتُ فَهَلْ يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ مُسْتَيْقِظٌ وَالْمَاءُ بَعِيدٌ مِنْهُ يَخَافُ إنْ طَلَبَهُ أَنْ تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ أَوْ كَانَ الْوَقْتُ بَارِدًا يَخَافُ إنْ سَخَّنَهُ أَوْ ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ فَاتَتْ الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَإِنْ اسْتَيْقَظَ آخِرَ الْوَقْتِ وَخَافَ إنْ تَطَهَّرَ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي هُنَا بِالْوُضُوءِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنَّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ اخْتِلَافًا. كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ فَإِنَّهُ هُنَا إنَّمَا خُوطِبَ بِالصَّلَاةِ بَعْدَ اسْتِيقَاظِهِ وَمَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ صَلَّاهَا إذَا اسْتَيْقَظَ وَكَانَ ذَلِكَ وَقْتَهَا فِي حَقِّهِ.

ص: 470

وَسُئِلَ:

عَنْ أَقْوَامٍ خَرَجُوا مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ لِيُصَلُّوا الْجُمُعَةَ فِيهَا فَوَجَدُوا الصَّلَاةَ قَدْ أُقِيمَتْ وَبَعْضُهُمْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ لَوْ ذَهَبَ لِيَتَوَضَّأَ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ فَهَلْ يَتَيَمَّمُ؟ .

فَأَجَابَ:

هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ إذَا لَمْ تُمْكِنْهُمْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ إلَّا بِالتَّيَمُّمِ صَلَّوْا بِالتَّيَمُّمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ الْمُسَافِرِ يَصِلُ إلَى مَاءٍ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ فَإِنْ تَشَاغَلَ بِتَحْصِيلِهِ خَرَجَ الْوَقْتُ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا الْمُسَافِرُ إذَا وَصَلَ إلَى مَاءٍ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هُنَاكَ بِئْرٌ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْنَعَ لَهُ حَبْلًا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ أَوْ يُمْكِنُ حَفْرُ الْمَاءِ وَلَا يَحْفِرُ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ.

ص: 471

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: إنَّهُ يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لِاشْتِغَالِهِ بِتَحْصِيلِ الشَّرْطِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ أُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَالْمُسَافِرُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ الْمَاءَ حَتَّى يَفُوتَ الْوَقْتُ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَصِلَ إلَى الْمَاءِ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الِاغْتِسَالُ وَالصَّلَاةُ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ. بَلْ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ عَاصِيًا بِالِاتِّفَاقِ وَحِينَئِذٍ فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْمَاءِ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ فَغَرَضُهُ إنَّمَا هُوَ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ وَلَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ الَّذِي يَفُوتُهُ مَعَهُ الْوَقْتُ بِخِلَافِ الْمُسْتَيْقِظِ آخِرَ الْوَقْتِ وَالْمَاءُ حَاضِرٌ فَإِنَّ هَذَا مَأْمُورٌ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُصَلِّيَ وَوَقْتُهُ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ لَا مِنْ حِينِ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ يَقْظَانَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ عِنْدَ زَوَالِهَا إمَّا مُقِيمًا وَإِمَّا مُسَافِرًا فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّهِ مِنْ حِينَئِذٍ.

وَسُئِلَ:

عَنْ التَّيَمُّمِ: هَلْ يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ وَالْفَرِيضَةَ وَأَنْ يَقْتَصِرَ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يُحْدِثَ؟ أَمْ لَا؟ .

ص: 472

فَأَجَابَ:

نَعَمْ يَجُوزُ لَهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ كَمَا يُصَلِّيَ بِالْوُضُوءِ فَيُصَلِّي بِهِ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ وَيَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَلَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ إلَّا مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَالْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ الْحَاقِنِ، أَيُّمَا أَفْضَلُ: يُصَلِّي بِوُضُوءِ مُحْتَقِنًا أَوْ أَنْ يُحْدِثَ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِعَدَمِ الْمَاءِ؟ .

فَأَجَابَ:

صَلَاتُهُ بِالتَّيَمُّمِ بِلَا احْتِقَانٍ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ بِالْوُضُوءِ مَعَ الِاحْتِقَانِ فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَ الِاحْتِقَانِ مَكْرُوهَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا. وَفِي صِحَّتِهَا رِوَايَتَانِ. وَأَمَّا صَلَاتُهُ بِالتَّيَمُّمِ فَصَحِيحَةٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهَا بِالِاتِّفَاقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 473

‌بَابٌ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

فَصْلٌ:

وَأَمَّا إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد: أَحَدُهَا: الْمَنْعُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ كَمَا فِي طَهَارَةِ فَمِ الْهِرَّةِ بِرِيقِهَا وَطَهَارَةِ أَفْوَاهِ الصِّبْيَانِ بِأَرْيَاقِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالسُّنَّةُ قَدْ جَاءَتْ بِالْأَمْرِ بِالْمَاءِ فِي قَوْلِهِ لِأَسْمَاءِ: {حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ

ص: 474

ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ} وَقَوْلِهِ فِي آنِيَةِ الْمَجُوسِ: {ارْحَضُوهَا ثُمَّ اغْسِلُوهَا بِالْمَاءِ} . وَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ: {صُبُّوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ} فَأَمَرَ بِالْإِزَالَةِ بِالْمَاءِ فِي قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ وَلَمْ يَأْمُرْ أَمْرًا عَامًّا بِأَنْ تُزَالَ كُلُّ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ. وَقَدْ أَذِنَ فِي إزَالَتِهَا بِغَيْرِ الْمَاءِ فِي مَوَاضِعَ:

مِنْهَا الِاسْتِجْمَارُ بِالْحِجَارَةِ.

وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي النَّعْلَيْنِ: {ثُمَّ لِيُدَلِّكَهُمَا بِالتُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورًا} وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي الذَّيْلِ: {يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ} وَمِنْهَا أَنَّ الْكِلَابَ كَانَتْ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ لَمْ يَكُونُوا يَغْسِلُونَ ذَلِكَ.

وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي الْهِرِّ: {إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ} مَعَ أَنَّ الْهِرَّ فِي الْعَادَةِ يَأْكُلُ الْفَأْرَ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَنَاةٌ تَرِدُ عَلَيْهَا تُطَهِّرُ بِهَا أَفْوَاهَهَا بِالْمَاءِ بَلْ طَهَّرَهَا رِيقُهَا.

وَمِنْهَا أَنَّ الْخَمْرَ الْمُنْقَلِبَةَ بِنَفْسِهَا تَطْهُرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالرَّاجِحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّجَاسَةَ مَتَى زَالَتْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ زَالَ حُكْمُهَا فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةِ زَالَ بِزَوَالِهَا لَكِنْ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الْأَمْوَالِ كَمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهَا.

ص: 475

وَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا تَزُولُ إلَّا بِالْمَاءِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا تَعَبُّدٌ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَمَرَ بِالْمَاءِ فِي قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ لِتُعِينَهُ. لِأَنَّ إزَالَتَهَا بِالْأَشْرِبَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ إفْسَادٌ لَهَا. وَإِزَالَتُهَا بِالْجَامِدَاتِ كَانَتْ مُتَعَذِّرَةً كَغَسْلِ الثَّوْبِ وَالْإِنَاءِ وَالْأَرْضِ بِالْمَاءِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ مَاءُ وَرْدٍ وَخَلٍّ وَغَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِفْسَادِهِ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمَاءَ لَهُ مِنْ اللُّطْفِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ فَلَا يَلْحَقُ غَيْرُهُ بِهِ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ الْخَلُّ وَمَاءُ الْوَرْدِ وَغَيْرُهُمَا يُزِيلَانِ مَا فِي الْآنِيَةِ مِنْ النَّجَاسَةِ كَالْمَاءِ وَأَبْلَغُ وَالِاسْتِحَالَةُ لَهُ أَبْلَغُ فِي الْإِزَالَةِ مِنْ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ فَإِنَّ الْإِزَالَةَ بِالْمَاءِ قَدْ يَبْقَى مَعَهَا لَوْنُ النَّجَاسَةِ فَيُعْفَى عَنْهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {يَكْفِيك الْمَاءُ وَلَا يَضُرُّك أَثَرُهُ} وَغَيْرُ الْمَاءِ يُزِيلُ الطَّعْمَ وَاللَّوْنَ وَالرِّيحَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ؛ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَزُولَ بِالْمَاءِ لِتَنْجِيسِهِ بِالْمُلَاقَاةِ لَكِنْ رَخَّصَ فِي الْمَاءِ لِلْحَاجَةِ فَجَعَلَ الْإِزَالَةَ بِالْمَاءِ صُورَةَ اسْتِحْسَانٍ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا. وَكِلَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَةٌ. فَلَيْسَتْ إزَالَتُهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بَلْ الْقِيَاسُ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةِ زَالَ بِزَوَالِهَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ مَمْنُوعٌ وَمَنْ سَلَّمَهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَارِدِ

ص: 476

وَالْمَوْرُودِ عَلَيْهِ أَوْ بَيْنَ الْجَارِي وَالْوَاقِفِ. وَلَوْ قِيلَ: إنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَالصَّوَابُ أَنَّ مَا خَالَفَ الْقِيَاسَ يُقَاسُ عَلَيْهِ إذَا عُرِفَتْ عِلَّتُهُ: إذْ الِاعْتِبَارُ فِي الْقِيَاسِ بِالْجَامِعِ وَالْفَارِقِ. وَاعْتِبَارُ طَهَارَةِ الْخَبَثِ بِطَهَارَةِ الْحَدَثِ ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا؛ وَلِهَذَا لَمْ تَسْقُطْ بِالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ وَاشْتُرِطَ فِيهَا النِّيَّةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا طَهَارَةُ الْخَبَثِ فَإِنَّهَا مِنْ بَابِ التروك فَمَقْصُودُهَا اجْتِنَابُ الْخَبَثِ؛ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا فِعْلُ الْعَبْدِ وَلَا قَصْدُهُ بَلْ لَوْ زَالَتْ بِالْمَطَرِ النَّازِلِ مِنْ السَّمَاءِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ. وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: إنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهَا النِّيَّةُ فَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ السَّابِقِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِأَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ. وَإِنَّمَا قِيلَ مِثْلُ هَذَا مِنْ ضِيقِ الْمَجَالِ فِي الْمُنَاظَرَةِ فَإِنَّ الْمُنَازِعَ لَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ النِّيَّةِ قَاسَ طَهَارَةَ الْحَدَثِ عَلَى طَهَارَةِ الْخَبَثِ فَمَنَعُوا الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءِ. وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إذَا صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ لِلْأَذَى الَّذِي كَانَ

ص: 477

فِيهِمَا وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ الصَّلَاةَ. وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ لَمَّا وَجَدَ فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً أَمَرَهُمْ بِغَسْلِهِ وَلَمْ يُعِدْ الصَّلَاةَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ اجْتِنَابَ الْمَحْظُورِ إذَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " قَدْ فَعَلْت " رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَلِهَذَا كَانَ أَقْوَى الْأَقْوَالِ: أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ لَا يُبْطِلُ الْعِبَادَةَ كَالْكَلَامِ نَاسِيًا وَالْأَكْلِ نَاسِيًا وَالطِّيبِ نَاسِيًا وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَحِينَئِذٍ إذَا زَالَ الْخَبَثُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَلَكِنْ إنْ زَالَ بِفِعْلِ الْعَبْدِ وَنِيَّتِهِ أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا إذَا عَدِمَتْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَلَا نِيَّتِهِ زَالَتْ الْمَفْسَدَةُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوَابٌ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِقَابٌ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ اسْتِحَالَةِ النَّجَاسَةِ كَرَمَادِ السِّرْجِينِ النَّجِسِ وَالزِّبْلِ النَّجِسِ

ص: 478

تُصِيبُهُ الرِّيحُ وَالشَّمْسُ فَيَسْتَحِيلُ تُرَابًا. فَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

وَأَمَّا اسْتِحَالَةُ النَّجَاسَةِ، كَرَمَادِ السِّرْجِينِ النَّجِسِ وَالزِّبْلِ النَّجِسِ يَسْتَحِيلُ تُرَابًا فَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهَا قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد. أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ طَاهِرٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِمْ. وَذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الرَّاجِحُ. فَأَمَّا الْأَرْضُ إذَا أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ؛ فَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا تَطْهُرُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِالِاسْتِحَالَةِ. فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ " مَسْأَلَةِ الِاسْتِحَالَةِ " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَالصَّوَابُ الطَّهَارَةُ فِي الْجَمِيعِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَقَالَ رحمه الله:

فَصْلٌ:

وَأَمَّا طِينُ الشَّوَارِعِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ: وَهُوَ أَنَّ الْأَرْضَ إذَا أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ ثُمَّ ذَهَبَتْ بِالرِّيحِ أَوْ الشَّمْسِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. هَلْ تَطْهُرُ الْأَرْضُ؟

ص: 479

عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْفُقَهَاءِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَطْهُرُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ: وَلَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُصَلَّى عَلَيْهَا وَلَا يُتَيَمَّمُ بِهَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُتَيَمَّمُ بِهَا وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: {أَنَّ الْكِلَابَ كَانَتْ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ} وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لَوَجَبَ غَسْلُ ذَلِكَ. وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ {أَمَرَهُمْ أَنْ يَصُبُّوا عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ} فَإِنَّ هَذَا يَحْصُلُ بِهِ تَعْجِيلُ تَطْهِيرِ الْأَرْضِ وَهَذَا مَقْصُودٌ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُصَبَّ الْمَاءُ فَإِنَّ النَّجَاسَةَ تَبْقَى إلَى أَنْ تَسْتَحِيلَ. وَأَيْضًا فَفِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ فَإِنْ وَجَدَ بِهَا أَذًى فَلْيُدَلِّكْهُمَا بِالتُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ} وَفِي السُّنَنِ أَيْضًا: {أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَجُرُّ ذَيْلَهَا عَلَى الْمَكَانِ الْقَذِرِ ثُمَّ عَلَى الْمَكَانِ الطَّاهِرِ فَقَالَ: يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ} وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى الْأَخْذِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الثَّانِي وَنَصَّ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ عَلَى الْأَخْذِ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا. فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 480

قَدْ جَعَلَ التُّرَابَ يُطَهِّرُ أَسْفَلَ النَّعْلِ وَأَسْفَلَ الذَّيْلِ وَسَمَّاهُ طَهُورًا: فَلَأَنْ يُطَهِّرَ نَفْسَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. فَالنَّجَاسَةُ إذَا اسْتَحَالَتْ فِي التُّرَابِ فَصَارَتْ تُرَابًا لَمْ يَبْقَ نَجَاسَةً. وَأَيْضًا فَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا اسْتَحَالَتْ حَقِيقَةُ النَّجَاسَةِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ إذَا انْقَلَبَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ بِدُونِ قَصْدِ صَاحِبِهَا وَصَارَتْ خَلًّا أَنَّهَا تَطْهُرُ. وَلَهُمْ فِيهَا إذَا قَصَدَ التَّخْلِيلَ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا قَصَدَ تَخْلِيلَهَا لَا تَطْهُرُ بِحَالِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لِمَا صَحَّ مِنْ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَخْلِيلِهَا وَلِأَنَّ حَبْسَهَا مَعْصِيَةٌ وَالطَّهَارَةُ نِعْمَةٌ وَالْمَعْصِيَةُ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلنِّعْمَةِ. وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا صَارَتْ النَّجَاسَةُ مِلْحًا فِي الْمَلَّاحَةِ أَوْ صَارَتْ رَمَادًا أَوْ صَارَتْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَالصَّدِيدُ تُرَابًا: كَتُرَابِ الْمَقْبَرَةِ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ طَاهِرٌ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَجِسٌ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ طَاهِرٌ إذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ أَثَرِ النَّجَاسَةِ لَا طَعْمُهَا وَلَا لَوْنُهَا وَلَا رِيحُهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ وَذَلِكَ يَتْبَعُ صِفَاتِ الْأَعْيَانِ وَحَقَائِقَهَا

ص: 481

فَإِذَا كَانَتْ الْعَيْنُ مِلْحًا أَوْ خَلًّا دَخَلَتْ فِي الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ وَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْخَبَائِثِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَكَذَلِكَ التُّرَابُ وَالرَّمَادُ وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ فِي نُصُوصِ التَّحْرِيمِ. وَإِذَا لَمْ تَتَنَاوَلْهَا أَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ. لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى لَمْ يَجُزْ الْقَوْلُ بِتَنْجِيسِهِ وَتَحْرِيمِهِ فَيَكُونُ طَاهِرًا وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي غَيْرِ التُّرَابِ فَالتُّرَابُ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَحِينَئِذٍ فَطِينُ الشَّوَارِعِ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ بِهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فَهُوَ طَاهِرٌ وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِيهِ فَهَذَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ: فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كَانَ أَحَدُهُمْ يَخُوضُ فِي الْوَحْلِ ثُمَّ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيُصَلِّي وَلَا يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ حَكَاهُ مَالِكٌ عَنْهُمْ مُطْلَقًا وَذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الطِّينِ عَذِرَةٌ مُنْبَثَّةٌ لَعُفِيَ عَنْ ذَلِكَ وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ طِينِ الشَّوَارِعِ مَعَ تَيَقُّنِ نَجَاسَتِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 482

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ الْخَمْرَةِ: إذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا وَلَمْ يَعْلَمْ بِقَلْبِهَا هَلْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهَا؟ أَوْ يَبِيعَهَا؟ أَوْ إذَا عَلِمَ أَنَّهَا انْقَلَبَتْ هَلْ يَأْكُلُ مِنْهَا أَوْ يَبِيعُهَا؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا التَّخْلِيلُ فَفِيهِ نِزَاعٌ، قِيلَ يَجُوزُ تَخْلِيلُهَا كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ؛ لَكِنْ إذَا خُلِّلَتْ طَهُرَتْ كَمَا يُحْكَى عَنْ مَالِكٍ وَقِيلَ يَجُوزُ بِنَقْلِهَا مِنْ الشَّمْسِ إلَى الظِّلِّ وَكَشْفِ الْغِطَاءِ عَنْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ دُونَ أَنْ يُلْقَى فِيهَا شَيْءٌ. كَمَا هُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَقِيلَ لَا يَجُوزُ بِحَالِ. كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ خَمْرٍ لِيَتَامَى فَأَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا. فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُمْ فُقَرَاءُ فَقَالَ: سَيُغْنِيهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فَلَمَّا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا وَنَهَى عَنْ تَخْلِيلِهَا وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ. فَيَجِبُ أَنْ تُرَاقَ الْخَمْرَةُ وَلَا تُخَلَّلُ. هَذَا مَعَ كَوْنِهِمْ كَانُوا يَتَامَى وَمَعَ كَوْنِ تِلْكَ الْخَمْرَةِ كَانَتْ مُتَّخَذَةً قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَلَمْ يَكُونُوا عُصَاةً.

ص: 483

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَأُمِرُوا بِذَلِكَ كَمَا أُمِرُوا بِكَسْرِ الْآنِيَةِ وَشَقِّ الظُّرُوفِ لِيَمْتَنِعُوا عَنْهَا. قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُنْسَخُ إلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَمْ يَرِدْ بَعْدَ هَذَا نَصٌّ يَنْسَخُهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَمِلُوا بِهَذَا. كَمَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَأْكُلُوا خَلَّ خَمْرٍ إلَّا خَمْرًا بَدَأَ اللَّهُ بِفَسَادِهَا وَلَا جُنَاحَ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ خَلِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ ". فَهَذَا عُمَرُ يَنْهَى عَنْ خَلِّ الْخَمْرِ الَّتِي قَصَدَ إفْسَادَهَا وَيَأْذَنُ فِيمَا بَدَأَ اللَّهُ بِإِفْسَادِهَا وَيُرَخِّصُ فِي اشْتِرَاءِ خَلِّ الْخَمْرِ. مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُفْسِدُونَ خَمْرَهُمْ وَإِنَّمَا يَتَخَلَّلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ. وَفِي قَوْلِ عُمَرَ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ الصَّحَابَةُ كَانُوا أَطْوَعَ النَّاسِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِهَذَا لَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ الْخَمْرُ أَرَاقُوهَا فَإِذَا كَانُوا مَعَ هَذَا قَدْ نُهُوا عَنْ تَخْلِيلِهَا وَأُمِرُوا بِإِرَاقَتِهَا فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ أَوْلَى مِنْهُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ أَقَلُّ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُمْ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غَلَّظَ عَلَى النَّاسِ الْعُقُوبَةَ فِي شُرْبِ

ص: 484

الْخَمْرِ حَتَّى كَانَ يَنْفِي فِيهَا لِأَنَّ أَهْلَ زَمَانِهِ كَانُوا أَقَلَّ اجْتِنَابًا لَهَا مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَكَيْفَ يَكُونُ زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَا رَيْبَ أَنَّ أَهْلَهُ أَقَلُّ اجْتِنَابًا لِلْمَحَارِمِ فَكَيْفَ تُسَدُّ الذَّرِيعَةُ عَنْ أُولَئِكَ الْمُتَّقِينَ وَتُفْتَحُ لِغَيْرِهِمْ وَهُمْ أَقَلُّ تَقْوَى مِنْهُمْ. وَأَمَّا مَا يُرْوَى: " خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ " فَهَذَا الْكَلَامُ لَمْ يَقُلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ نَقَلَهُ عَنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ وَلَكِنْ هُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ فَإِنَّ خَلَّ الْخَمْرِ لَا يَكُونُ فِيهَا مَاءٌ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الَّذِي بَدَأَ اللَّهُ بِقَلْبِهِ. وَأَيْضًا فَكُلُّ خَمْرٍ يُعْمَلُ مِنْ الْعِنَبِ بِلَا مَاءٍ فَهُوَ مِثْلُ خَلِّ الْخَمْرِ. وَقَدْ وَصَفَ الْعُلَمَاءُ عَمَلَ الْخَلِّ: أَنَّهُ يُوضَعُ أَوَّلًا فِي الْعِنَبِ شَيْءٌ يُحَمِّضُهُ حَتَّى لَا يَسْتَحِيلَ أَوَّلًا خَمْرًا. وَلِهَذَا تَنَازَعُوا فِي خَمْرَةِ الْخِلَالِ: هَلْ يَجِبُ إرَاقَتُهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: أَظْهَرُهُمَا وُجُوبُ إرَاقَتِهَا كَغَيْرِهَا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ خَمْرَةٌ مُحْتَرَمَةٌ وَلَوْ كَانَ لِشَيْءِ مِنْ الْخَمْرِ حُرْمَةٌ لَكَانَتْ لِخَمْرِ الْيَتَامَى الَّتِي اُشْتُرِيَتْ لَهُمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهَا وَلَا يَكُونُ فِي بَيْتِ مُسْلِمٍ خَمْرٌ أَصْلًا وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِي التَّخْلِيلِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ اعْتَقَدَ أَنَّ التَّخْلِيلَ إصْلَاحٌ لَهَا كَدِبَاغِ الْجِلْدِ النَّجِسِ. وَبَعْضُهُمْ قَالَ: اقْتِنَاؤُهَا لَا يَجُوزُ: لَا لِتَخْلِيلِ وَلَا غَيْرِهِ. لَكِنْ

ص: 485

إذَا صَارَتْ خَلًّا فَكَيْفَ تَكُونُ نَجِسَةً وَبَعْضُهُمْ قَالَ: إذَا أُلْقِيَ فِيهَا شَيْءٌ تَنَجَّسَ أَوَّلًا ثُمَّ تَنَجَّسَتْ بِهِ ثَانِيًا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُلْقَ فِيهَا شَيْءٌ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ. وَأَمَّا أَهْلُ الْقَوْلِ الرَّاجِحِ فَقَالُوا: قَصْدُ الْمُخَلِّلِ لِتَخْلِيلِهَا هُوَ الْمُوجِبُ لِتَنْجِيسِهَا فَإِنَّهُ قَدْ نُهِيَ عَنْ اقْتِنَائِهَا وَأُمِرَ بِإِرَاقَتِهَا فَإِذَا قَصَدَ التَّخْلِيلَ كَانَ قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا. وَغَايَةُ مَا يَكُونُ تَخْلِيلُهَا كَتَذْكِيَةِ الْحَيَوَانِ وَالْعَيْنِ إذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً لَمْ تَصِرْ مُحَلَّلَةً بِالْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلنِّعْمَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْحَيَوَانُ مُحَرَّمًا قَبْلَ التَّذْكِيَةِ وَلَا يُبَاحُ إلَّا بِالتَّذْكِيَةِ فَلَوْ ذَكَّاهُ تَذْكِيَةً مُحَرَّمَةً مِثْلُ أَنْ يُذَكِّيَهُ فِي غَيْرِ الْحَلْقِ وَاللَّبَّة مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ. أَوَّلًا يَقْصِدُ ذَكَاتَهُ. أَوْ يَأْمُرُ وَثَنِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا بِتَذْكِيَتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ. وَكَذَلِكَ الصَّيْدُ إذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ لَمْ يَصِرْ ذَكِيًّا فَالْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ تَكُونُ طَاهِرَةً حَلَالًا فِي حَالٍ وَتَكُونُ حَرَامًا نَجِسَةً فِي حَالٍ. تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْفَاعِلِ: كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْوَثَنِيِّ. وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الذَّبِيحَةِ بِالْمُحَدَّدِ وَغَيْرِهِ. وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ وَغَيْرِهِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْعِتْقِ وَغَيْرِهِ. وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ قَصْدِ الْفَاعِلِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ مَا قُصِدَ تَذْكِيَتُهُ وَمَا قُصِدَ قَتْلُهُ. حَتَّى إنَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إذَا ذَكَّى الْحَلَالُ صَيْدًا أُبِيحَ لِلْحَلَالِ دُونَ الْمُحْرِمِ فَيَكُونُ حَلَالًا طَاهِرًا فِي حَقِّ هَذَا

ص: 486

حَرَامًا نَجِسًا فِي حَقِّ هَذَا وَانْقِلَابُ الْخَمْرِ إلَى الْخَلِّ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِثْلُ مَا كَانَ ذَلِكَ مَحْظُورًا فَإِذَا قَصَدَهُ الْإِنْسَانُ لَمْ يَصِرْ الْخَلُّ بِهِ حَلَالًا وَلَا طَاهِرًا كَمَا لَمْ يَصِرْ لَحْمُ الْحَيَوَانِ حَلَالًا طَاهِرًا بِتَذْكِيَةِ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ هُوَ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ مَتَى عُلِمَ أَنَّ صَاحِبَهَا قَدْ قَصَدَ تَخْلِيلَهَا لَمْ تُشْتَرَ مِنْهُ وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ جَازَ اشْتِرَاؤُهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ صَاحِبَ الْخَمْرِ لَا يَرْضَى أَنْ يُخَلِّلَهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 487

وَسُئِلَ:

عَنْ الزَّيْت إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ مِثْلُ الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا وَمَاتَتْ فِيهِ. هَلْ يَنْجُسُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قِيلَ يَنْجُسُ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُكَاثَرَ بِغَيْرِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ أَمْ لَا؟ . وَإِذَا قِيلَ تَجُوزُ الْمُكَاثَرَةُ هَلْ يَجُوزُ إلْقَاءُ الطَّاهِرِ عَلَى النَّجِسِ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ لَا فَرْقَ. وَإِذَا لَمْ تَجُزْ الْمُكَاثَرَةُ وَقِيلَ بِنَجَاسَتِهِ هَلْ لَهُمْ طَرِيقٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ مِثْلَ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ أَوْ غَسْلِهِ إذَا قِيلَ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَتْ الْمِيَاهُ النَّجِسَةُ الْيَسِيرَةُ تَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ هَلْ تَطْهُرُ سَائِرُ الْمَائِعَاتِ بِالْمُكَاثَرَةِ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَائِعَاتِ إذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ: فَهَلْ تَنْجُسُ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ؟ أَوْ تَكُونُ كَالْمَاءِ فَلَا تَنْجُسُ مُطْلَقًا إلَّا بِالتَّغَيُّرِ؟ أَوْ لَا يَنْجُسُ الْكَثِيرُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَمَا إذَا بَلَغَتْ قُلَّتَيْنِ. فِيهِ عَنْ أَحْمَد ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهُنَّ أَنَّهَا تَنْجُسُ وَلَوْ مَعَ الْكَثْرَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهَا كَالْمَاءِ. سَوَاءٌ كَانَتْ مَائِيَّةً أَوْ غَيْرَ مَائِيَّةٍ

ص: 488

وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: كَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ نَقَلَهُ المروذي عَنْ أَبِي ثَوْرٍ وَيُحْكَى ذَلِكَ لِأَحْمَد فَقَالَ: إنَّ أَبَا ثَوْرٍ شَبَّهَهُ بِالْمَاءِ ذَكَرَ ذَلِكَ الْخَلَّالُ فِي جَامِعِهِ عَنْ المروذي. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَ الْمَائِعَاتِ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْمَاءِ وَمَذْهَبُهُمْ فِي الْمَائِعَاتِ مَعْرُوفٌ فِيهِ. فَإِذَا كَانَتْ مُنْبَسِطَةً بِحَيْثُ لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهَا بِتَحَرُّكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ لَمْ تَنْجُسْ كَالْمَاءِ عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ: بِالْعَكْسِ. بِالْقُلَّتَيْنِ كَالشَّافِعِيِّ. وَالْقَوْلُ أَنَّهَا كَالْمَاءِ يُذْكَرُ قَوْلًا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ فِي يَسِيرِ النَّجَاسَةِ إذَا وَقَعَتْ فِي الطَّعَامِ الْكَثِيرِ رِوَايَتَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي نَافِعٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْحِبَابِ الَّتِي بِالشَّامِ لِلزَّيْتِ تَمُوتُ فِيهِ الْفَأْرَةُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ الزَّيْتَ قَالَ: وَلَيْسَ الزَّيْتُ كَالْمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الماجشون فِي الزَّيْتِ وَغَيْرِهِ تَقَعُ فِيهِ الْمَيْتَةُ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَوْصَافَهُ وَكَانَ كَثِيرًا لَمْ يَنْجُسْ؛ بِخِلَافِ مَوْتِهَا فِيهِ فَفَرَّقَ بَيْنَ مَوْتِهَا فِيهِ وَوُقُوعِهَا فِيهِ وَمَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَائِعَاتِ لَا تَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ إلَّا السَّمْنَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجَّسُ إلَّا إذَا بَالَ فِيهِ بَائِلٌ. وَالثَّالِثَةُ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَائِعِ الْمَائِيِّ. كَخَلِّ الْخَمْرِ وَغَيْرِ الْمَائِيِّ كَخَلِّ الْعِنَبِ فَيَلْحَقُ الْأَوَّلُ بِالْمَاءِ دُونَ الثَّانِي.

ص: 489

وَفِي الْجُمْلَةِ لِلْعُلَمَاءِ فِي الْمَائِعَاتِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا كَالْمَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنَجُّسِ مِنْ الْمَاءِ لِأَنَّهَا طَعَامٌ وَإِدَامٌ فَإِتْلَافُهَا فِيهِ فَسَادٌ وَلِأَنَّهَا أَشَدُّ إحَالَةً لِلنَّجَاسَةِ مِنْ الْمَاءِ أَوْ مُبَايِنَةٌ لَهَا مِنْ الْمَاءِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَاءَ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنَجُّسِ مِنْهَا لِأَنَّهُ طَهُورٌ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَذَكَرْنَا حُجَّةَ مَنْ قَالَ: بِالتَّنْجِيسِ وَأَنَّهُمْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ؛ وَبَيَّنَّا ضَعْفَ هَذَا الْحَدِيثِ. وَطَعَنَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِي وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيَّ وَالدَّارَقُطْنِي وَغَيْرُهُمْ فِيهِ وَأَنَّهُمْ بَيَّنُوا أَنَّهُ غَلِطَ فِيهِ مَعْمَرٌ عَلَى الزُّهْرِيِّ. قَالَ أَبُو دَاوُد: (بَابٌ فِي الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ {أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ} . وَقَالَ ثَنَا أَحْمَد بْنُ صَالِحٍ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ وَاللَّفْظُ لِلْحُسَيْنِ

ص: 490

قَالَا ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ} قَالَ الْحَسَنُ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ رُبَّمَا حَدَّثَ بِهِ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ أَبُو دَاوُد قَالَ أَحْمَد بْنُ صَالِحٍ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مردويه عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: " بَابٌ مَا جَاءَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ " حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبُو عَمَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ {أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ فَسُئِلَ عَنْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ} . قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَنْ مَيْمُونَةَ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَصَحُّ.

ص: 491

وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ وَهُوَ حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. قَالَ سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ يَقُولُ حَدِيثُ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا خَطَأٌ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ. قُلْت: وَحَدِيثُ مَعْمَرٍ هَذَا الَّذِي خَطَّأَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ إنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ هُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ. كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد رضي الله عنه فِي مَسْنَدِهِ وَغَيْرُهُ وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ مَعْمَرًا كَانَ يَرْوِيهِ أَحْيَانًا مِنْ الْوَجْهِ الْآخَرِ فَكَانَ يَضْطَرِبُ فِي إسْنَادِهِ. كَمَا اضْطَرَبَ فِي مَتْنِهِ. وَخَالَفَ فِيهِ الْحُفَّاظَ الثِّقَاتِ الَّذِينَ رَوَوْهُ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الَّذِي رَوَاهُ مَعْمَرٌ وَمَعْمَرٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْغَلَطِ وَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَلَا يُعْرَفُ مِنْهُ غَلَطٌ فَلِهَذَا بَيَّنَ الْبُخَارِيُّ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ مَا دَلَّ عَلَى خَطَأِ مَعْمَرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: " بَابٌ إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ أَوْ الذَّائِبِ " ثَنَا الحميدي ثَنَا سُفْيَانُ ثَنَا الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عتبة أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ عَنْ مَيْمُونَةَ: {أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ

ص: 492

فَمَاتَتْ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا - فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ} . قِيلَ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ مَعْمَرًا يُحَدِّثُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مَا سَمِعْت الزُّهْرِيَّ يَقُولُهُ إلَّا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ سَمِعْته مِنْهُ مِرَارًا. ثَنَا عبدان ثنا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الدَّابَّةِ تَمُوتُ فِي الزَّيْتِ أَوْ السَّمْنِ وَهُوَ جَامِدٌ أَوْ غَيْرُ جَامِدٍ - الْفَأْرَةُ أَوْ غَيْرُهَا - قَالَ: {بَلَغَنَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِفَأْرَةِ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ ثُمَّ أَكَلَ} - مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ كَمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَة. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ النَّاسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَة بِسَنَدِهِ وَلَفْظُهُ. وَأَمَّا مَعْمَرٌ فَاضْطَرَبَ فِيهِ فِي سَنَدِهِ وَلَفْظِهِ فَرَوَاهُ تَارَةً عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ فِيهِ {وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ} . وَقِيلَ عَنْهُ: {وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَاسْتَصْبِحُوا بِهِ} وَاضْطُرِبَ عَلَى مَعْمَرٍ فِيهِ وَظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ حَدِيثَ مَعْمَرٍ مَحْفُوظٌ فَعَمِلُوا بِهِ وَمِمَّنْ يُثْبِتُهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذهلي فِيمَا جَمَعَهُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ. وَكَذَلِكَ احْتَجَّ بِهِ أَحْمَد لَمَّا أَفْتَى بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْجَامِدِ

ص: 493

وَالْمَائِعِ وَكَانَ أَحْمَد يَحْتَجُّ أَحْيَانًا بِأَحَادِيثَ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهَا مَعْلُولَةٌ كَاحْتِجَاجِهِ بِقَوْلِهِ: {لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ} ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ مَعْلُولٌ فَاسْتَدَلَّ بِغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا فَعَلَّلُوا حَدِيثَ مَعْمَرٍ وَبَيَّنُوا غَلَطَهُ وَالصَّوَابُ مَعَهُمْ. فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هُنَا عَنْ ابْنِ عُيَيْنَة: أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْته مِنْ الزُّهْرِيِّ مِرَارًا لَا يَرْوِيهِ إلَّا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ إلَّا قَوْلُهُ: {أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ} وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ أَنَّ الزُّهْرِيَّ سُئِلَ عَنْ الدَّابَّةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ وَغَيْرِهِ فَأَفْتَى {بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِفَأْرَةِ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ} فَهَذِهِ فُتْيَا الزُّهْرِيِّ فِي الْجَامِدِ وَغَيْرِ الْجَامِدِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ رَوَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ يَحْتَجُّ عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِ النَّوْعَيْنِ بِالْحَدِيثِ وَرَوَاهُ بِالْمَعْنَى وَالزُّهْرِيُّ أَحْفَظُ أَهْلِ زَمَانِهِ حَتَّى يُقَالَ: إنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ غَلَطٌ فِي حَدِيثٍ وَلَا نِسْيَانٌ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ أَكْثَرُ حَدِيثًا مِنْهُ. وَيُقَالُ: إنَّهُ حَفِظَ عَلَى الْأُمَّةِ تِسْعِينَ سَنَةً لَمْ يَأْتِ بِهَا غَيْرُهُ وَقَدْ كَتَبَ عَنْهُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ كِتَابًا مِنْ حِفْظِهِ ثُمَّ اسْتَعَادَهُ مِنْهُ بَعْدَ عَامٍ فَلَمْ يَخُطَّ مِنْهُ حَرْفًا. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَدِيثِ إلَّا نِسْيَانُ الزُّهْرِيِّ أَوْ مَعْمَرٍ لَكَانَ نِسْبَةُ النِّسْيَانِ إلَى مَعْمَرٍ أَوْلَى بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ

ص: 494

بِالرِّجَالِ مَعَ كَثْرَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى نِسْيَانِ مَعْمَرٍ. وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ مَعْمَرًا كَثِيرُ الْغَلَطِ عَلَى الزُّهْرِيِّ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد رضي الله عنه فِيمَا حَدَّثَهُ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَمَانِ نِسْوَةً. فَقَالَ أَحْمَد: هَكَذَا حَدَّثَ بِهِ مَعْمَرٌ بِالْبَصْرَةِ وَحَدَّثَهُمْ بِالْبَصْرَةِ مَنْ حَفِظَهُ وَحَدَّثَ بِهِ بِالْيَمَنِ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِالِاسْتِقَامَةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيَّ مَا حَدَّثَ بِهِ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ بِالْبَصْرَةِ فَفِيهِ أَغَالِيطُ وَهُوَ صَالِحُ الْحَدِيثِ وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ الَّذِينَ رَوَوْا هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ هُمْ الْبَصْرِيُّونَ. كَعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ وَعَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى الشَّامِيِّ وَالِاضْطِرَابُ فِي الْمَتْنِ ظَاهِرٌ. فَإِنَّ هَذَا يَقُولُ: " إنْ كَانَ ذَائِبًا أَوْ مَائِعًا لَمْ يُؤْكَلْ " وَهَذَا يَقُولُ: " وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَنْتَفِعُوا بِهِ وَاسْتَصْبِحُوا بِهِ " وَهَذَا يَقُولُ " فَلَا تَقْرَبُوهُ " وَهَذَا يَقُولُ: " فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤْخَذَ وَمَا حَوْلَهَا فَتُطْرَحُ " فَأَطْلَقَ الْجَوَابَ. وَلَمْ يَذْكُرْ التَّفْصِيلَ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ مِنْ كِتَابٍ بِلَفْظِ مَضْبُوطٍ وَإِنَّمَا رَوَاهُ بِحَسَبِ مَا ظَنَّهُ مِنْ الْمَعْنَى فَغَلِطَ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ قَوْلُهُ: " وَإِنْ

ص: 495

كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ " فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ الْقَلِيلِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ كَالسَّمْنِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ السَّائِلِ سَمْنٌ فَوْقَ قُلَّتَيْنِ يَقَعُ فِيهِ فَأْرَةٌ حَتَّى يُقَالَ فِيهِ: تَرْكُ الاستفصال فِي حِكَايَةِ الْحَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ بَلْ السَّمْنُ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَوْعِيَتِهِمْ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ قَلِيلًا فَلَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ لَمْ يَدُلّ إلَّا عَلَى نَجَاسَةِ الْقَلِيلِ. فَإِنَّ الْمَائِعَاتِ الْكَثِيرَةَ إذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهَا لَا نَصٌّ صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ. وَعُمْدَةُ مَنْ يُنَجِّسُهُ يَظُنُّ أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ سَرَتْ فِيهِ كُلِّهِ فَنَجَّسَتْهُ. وَقَدْ عُرِفَ فَسَادُ هَذَا وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِطَرْدِهِ فَإِنَّ طَرْدَهُ يُوجِبُ نَجَاسَةَ الْبَحْرِ بَلْ الَّذِينَ قَالُوا؛ هَذَا الْأَصْلَ الْفَاسِدَ: مِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى مَا لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحَرُّكِ الْآخَرِ وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى فِي بَعْضِ النَّجَاسَاتِ مَا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى مَا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ وَعَلَّلَ بَعْضُهُمْ الْمُسْتَثْنَى بِمَشَقَّةِ التَّنْجِيسِ وَبَعْضُهُمْ بِعَدَمِ وُصُولِ النَّجَاسَةِ إلَى الْكَثِيرِ وَبَعْضُهُمْ بِتَعَذُّرِ التَّطْهِيرِ وَهَذِهِ الْعِلَلُ مَوْجُودَةٌ فِي الْكَثِيرِ مِنْ الْأَدْهَانِ: فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْحَبِّ الْعَظِيمِ قَنَاطِيرُ مُقَنْطَرَةٌ مِنْ الزَّيْتِ وَلَا يُمْكِنُهُمْ صِيَانَتُهُ عَنْ الْوَاقِعِ وَالدُّورُ وَالْحَوَانِيتُ مَمْلُوءَةٌ مِمَّا لَا يُمْكِنُ صِيَانَتُهُ كَالسُّكَّرِ وَغَيْرِهِ فَالْعُسْرُ وَالْحَرَجُ بِتَنْجِيسِ هَذَا عَظِيمٌ جِدًّا.

ص: 496

وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ بِتَنْجِيسِ الْكَثِيرِ أَثَرٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ. وَاخْتَلَفَ كَلَامُ أَحْمَد رحمه الله فِي تَنْجِيسِ الْكَثِيرِ. وَأَمَّا الْقَلِيلُ فَإِنَّهُ ظَنَّ صِحَّةَ حَدِيثِ مَعْمَرٍ فَأَخَذَ بِهِ. وَقَدْ اطَّلَعَ غَيْرُهُ عَلَى الْعِلَّةِ الْقَادِحَةِ فِيهِ وَلَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهَا لَمْ يَقُلْ بِهِ؛ وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَانَ يَأْخُذُ بِحَدِيثِ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ ضَعْفُهُ فَيَتْرُكُ الْأَخْذَ بِهِ وَقَدْ يَتْرُكُ الْأَخْذَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَتَبَيَّنَ صِحَّتُهُ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّتُهُ أَخَذَ بِهِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ رضي الله عنهم. وَلِظَنِّهِ صِحَّتَهُ عَدَلَ إلَيْهِ عَمَّا رَآهُ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. فَرَوَى صَالِحُ بْنُ أَحْمَد فِي مَسَائِلِهِ عَنْ أَبِيهِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ: ثَنَا أَبِي ثَنَا إسْمَاعِيلُ ثَنَا عُمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ قَالَ: تُؤْخَذُ الْفَأْرَةُ وَمَا حَوْلَهَا. قُلْت: يَا مَوْلَانَا فَإِنَّ أَثَرَهَا كَانَ فِي السَّمْنِ كُلِّهِ قَالَ: عَضِضْت بهن أَبِيك إنَّمَا كَانَ أَثَرُهَا بِالسَّمْنِ وَهِيَ حَيَّةٌ وَإِنَّمَا مَاتَتْ حَيْثُ وُجِدَتْ. ثنا أَبِي ثنا وَكِيعٌ ثَنَا النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ عَنْ جَرٍّ فِيهِ زَيْتٌ وَقَعَ فِيهِ جُرَذٌ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُذْهُ وَمَا حَوْلَهُ فَأَلْقِهِ وَكُلْهُ. قُلْت: أَلَيْسَ جَالَ فِي الْجَرِّ كُلَّهُ؟ قَالَ: إنَّهُ جَالَ وَفِيهِ الرُّوحُ فَاسْتَقَرَّ حَيْثُ مَاتَ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ صَالِحٍ قَالَ: ثَنَا أَبِي ثنا وَكِيعٌ ثنا سُفْيَانُ عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي

ص: 497

الْأَسْوَدِ الدؤلي. قَالَ: سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ؟ فَقَالَ: إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ لَحْمُهَا وَدَمُهَا. قُلْت: فَهَذِهِ فَتَاوَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالزُّهْرِيِّ مَعَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ هُوَ رَاوِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ ثُمَّ إنَّ قَوْلَ مَعْمَرٍ فِي الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فَلَا تَقْرَبُوهُ مَتْرُوكٌ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ فَإِنَّ جُمْهُورَهُمْ يُجَوِّزُونَ الِاسْتِصْبَاحَ بِهِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُجَوِّزُ بَيْعَهُ أَوْ تَطْهِيرَهُ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ: {فَلَا تَقْرَبُوهُ} . وَمَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ يَقُولُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ} احْتِرَازٌ عَنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْإِنَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَنَجَّسُ وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ بِمَاءِ يَتَنَجَّسُ فَإِنَّ الْهَوَاءَ وَنَحْوَهُ لَا يَتَنَجَّسُ وَلَيْسَ بِمَاءِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: إنَّ الْمَاءَ لَا يَجْنُبُ احْتِرَازٌ عَنْ الْبَدَنِ فَإِنَّهُ يَجْنُبُ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ بِمَاءِ يَجْنُبُ وَلَكِنْ خُصَّ الْمَاءُ بِالذِّكْرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ حُكْمِهِ فَإِنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ اغْتَسَلَتْ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَتَوَضَّأَ بِسُؤْرِهَا فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ جُنُبًا فَقَالَ: {إنَّ الْمَاءَ لَا يَجْنُبُ} مَعَ أَنَّ الثَّوْبَ لَا يَجْنُبُ وَالْأَرْضَ لَا تَجْنُبُ وَتَخْصِيصُ الْمَاءِ بِالذِّكْرِ لِمُفَارَقَةِ الْبَدَنِ لَا لِمُفَارَقَةِ كُلِّ شَيْءٍ وَكَذَلِكَ قَالُوا: لَهُ {أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بضاعة. وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى

ص: 498

فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ فَقَالَ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ} فَنَفَى عَنْهُ النَّجَاسَةَ لِلْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ كَمَا نَفَى عَنْهُ الْجَنَابَةَ لِلْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ. وَالنَّجَاسَاتُ مِنْ الْخَبَائِثِ فَالْمَاءُ إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ لِلْخَبِيثِ.

وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ: وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ فَهَلْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ تَنَجُّسُهُ لِاخْتِلَاطِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ إلَى حَيْثُ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى تَطْهِيرِهِ أَوْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ طَهَارَتُهُ إلَى أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ النَّجَاسَةُ الْخَبِيثَةُ الَّتِي يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا لِلْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْأَصْلُ النَّجَاسَةُ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بِنَاءً عَلَى أَنَّ اخْتِلَاطَ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ يُوجِبُ تَحْرِيمَهُمَا جَمِيعًا. ثُمَّ إنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ طَرَدُوا ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَاءُ يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحَرُّكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ. قَالُوا: لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَبْلُغُهُ إذَا بَلَغَتْهُ الْحَرَكَةُ وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ طَرْدُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا لَزِمَ تَنْجِيسُ الْبَحْرِ وَالْبَحْرُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَلَمْ يَطْرُدُوا ذَلِكَ فِيمَا

ص: 499

إذَا كَانَ الْمَاءُ عَمِيقًا. وَمِسَاحَتُهُ قَلِيلَةٌ ثُمَّ إذَا تَنَجَّسَ الْمَاءُ: فَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَطْهُرَ بِنَزْحِ فَيَجِبُ طَمُّ الْآبَارِ الْمُتَنَجِّسَةِ وَطَرَدَ هَذَا الْقِيَاسَ بِشْرٌ المريسي. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَقَالُوا: بِالتَّطْهِيرِ بِالنَّزْحِ اسْتِحْسَانًا إمَّا بِنَزْحِ الْبِئْرِ كُلِّهَا إذَا كَبُرَ الْحَيَوَانُ أَوْ تَفَسَّخَ وَإِمَّا بِنَزْحِ بَعْضِهَا إذَا صَغُرَ بِدِلَاءِ ذَكَرُوا عَدَدَهَا فَمَا أَمْكَنَ طَرْدُ ذَلِكَ الْقِيَاسِ. وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد قَالُوا: بِطَهَارَةِ مَا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ: لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْفَلَوَاتِ وَالْغُدْرَانِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ صِيَانَتُهَا عَنْ النَّجَاسَةِ فَجَعَلُوا طِهَارَةَ ذَلِكَ رُخْصَةً لِأَجْلِ الْحَاجَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد: إنَّ الْبَوْلَ وَالْعَذِرَةَ الرَّطْبَةَ لَا يَنْجُسُ بِهِمَا إلَّا مَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ تَرَكَ طَرْدَ الْقِيَاسِ. لِأَنَّ مَا يَتَعَذَّرُ نَزْحُهُ يَتَعَذَّرُ تَطْهِيرُهُ فَجُعِلَ تَعَذُّرُ التَّطْهِيرِ مَانِعًا مِنْ التَّنَجُّسِ. فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَغَيْرُهَا مِنْ مَقَالَاتِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْأَصْلِ: تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَطْرُدْهُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَنَّ كُلَّهُمْ خَالَفُوا فِيهِ الْقِيَاسَ رُخْصَةً وَأَبَاحُوا مَا تُخَالِطُهُ النَّجَاسَاتُ مِنْ الْمِيَاهِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ الْخَاصَّةِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: فَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُنَجَّسَ الْمَاءُ حَتَّى

ص: 500

يَتَغَيَّرَ كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ كَمَالِكِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْقَاضِي أَبِي خَازِمٍ مَعَ قَوْلِهِ: إنَّ الْقَلِيلَ يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ وَأَمَّا ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْمُنَى وَابْنُ الْمُظَفَّرِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَأَبُو نَصْرٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فَنَصَرُوا هَذَا أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَالرِّوَايَةِ الْمُوَافِقَةِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْمَحَاسِنِ الروياني وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَدِدْت أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمِيَاهِ كَانَ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَكَلَامُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مُوَافِقٌ لِهَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَغَيَّرَتْ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَنْجُسُ؟ وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ} ضَعِيفٌ؟ فَأَجَابَ: بِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ. وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ فَإِذَا ظَهَرَ فِي الْمَاءِ طَعْمُ الدَّمِ أَوْ الْمَيْتَةِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ لِذَلِكَ مُسْتَعْمِلًا لِهَذِهِ الْخَبَائِثِ وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُ التَّحْرِيمَ مُطْلَقًا لَمْ يَخُصَّ صُورَةَ التَّحْرِيمِ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ. وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَبَائِثَ الَّتِي هِيَ الدَّمُ وَالْمَيْتَةُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ فِي الْمَاءِ أَوْ غَيْرِهِ وَاسْتُهْلِكَتْ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ دَمٌ وَلَا مَيْتَةٌ وَلَا لَحْمُ خِنْزِيرٍ

ص: 501

أَصْلًا. كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ إذَا اُسْتُهْلِكَتْ فِي الْمَائِعِ لَمْ يَكُنْ الشَّارِبُ لَهَا شَارِبًا لِلْخَمْرِ وَالْخَمْرَةُ إذَا اسْتَحَالَتْ بِنَفْسِهَا وَصَارَتْ خَلًّا كَانَتْ طَاهِرَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ النَّجَاسَةَ إذَا اسْتَحَالَتْ طَهُرَتْ أَقْوَى. كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فَإِنَّ انْقِلَابَ النَّجَاسَةِ مِلْحًا وَرَمَادًا وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ كَانْقِلَابِهَا مَاءً فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَسْتَحِيلَ رَمَادًا أَوْ مِلْحًا أَوْ تُرَابًا أَوْ مَاءً أَوْ هَوَاءً وَنَحْوَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ. وَهَذِهِ الْأَدْهَانُ وَالْأَلْبَانُ وَالْأَشْرِبَةُ الْحُلْوَةُ وَالْحَامِضَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَالْخَبِيثَةِ قَدْ اُسْتُهْلِكَتْ وَاسْتَحَالَتْ فِيهَا فَكَيْفَ يَحْرُمُ الطَّيِّبُ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ الَّذِي قَالَ: إنَّهُ إذَا خَالَطَهُ الْخَبِيثُ وَاسْتُهْلِكَ فِيهِ وَاسْتَحَالَ قَدْ حَرُمَ؟ وَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ بِئْرِ بضاعة لَمَّا ذُكِرَ لَهُ أَنَّهَا يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ فَقَالَ: {الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ} وَقَالَ فِي حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ: {إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ} وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ: {لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. فَقَوْلُهُ: {لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ} بَيَّنَ أَنَّ تَنْجِيسَهُ بِأَنْ يَحْمِلَ الْخَبَثَ أَيْ بِأَنْ يَكُونَ الْخَبَثُ فِيهِ مَحْمُولًا وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ مَعَ اسْتِحَالَةِ الْخَبَثِ لَا يَنْجُسُ الْمَاءُ.

ص: 502

فَصْلٌ:

وَإِذَا عُرِفَ أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَالْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةِ زَالَ بِزَوَالِهَا؛ كَالْخَمْرِ لَمَّا كَانَ الْمُوجِبُ لِتَحْرِيمِهَا وَنَجَاسَتِهَا هِيَ الشِّدَّةَ الْمُطْرِبَةَ فَإِذَا زَالَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ طَهُرَتْ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا زَالَتْ بِقَصْدِ الْآدَمِيِّ عَلَى الصَّحِيحِ. كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه " لَا تَأْكُلُوا خَلَّ خَمْرٍ إلَّا خَمْرًا بَدَأَ اللَّهُ بِفَسَادِهَا " وَلَا جُنَاحَ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَشْتَرِيَ خَلَّ خَمْرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا فَسَادَهَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ اقْتِنَاءَ الْخَمْرِ مُحَرَّمٌ فَمَتَى قَصَدَ بِاقْتِنَائِهَا التَّخْلِيلَ كَانَ قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا وَالْفِعْلُ الْمُحَرَّمُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْحِلِّ وَالْإِبَاحَةِ وَأَمَّا إذَا اقْتَنَاهَا لِشُرْبِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا خَمْرًا فَهُوَ لَا يُرِيدُ تَخْلِيلَهَا وَإِذَا جَعَلَهَا اللَّهُ خَلًّا كَانَ مُعَاقَبَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَلَا يَكُونُ فِي حِلِّهَا وَطَهَارَتِهَا مَفْسَدَةٌ. وَأَمَّا سَائِرُ النَّجَاسَاتِ فَيَجُوزُ التَّعَمُّدُ لِإِفْسَادِهَا؛ لِأَنَّ إفْسَادَهَا لَيْسَ بِمُحَرَّمِ. كَمَا لَا يُحَدُّ شَارِبُهَا؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ لَا يُخَافُ عَلَيْهَا بِمُقَارَبَتِهَا الْمَحْظُورَ كَمَا يُخَافُ مِنْ مُقَارَبَةِ الْخَمْرِ؛ وَلِهَذَا جَوَّزَ الْجُمْهُورُ أَنْ تُدْبَغَ

ص: 503

جُلُودُ الْمَيْتَةِ وَجَوَّزُوا أَيْضًا إحَالَةَ النَّجَاسَةِ بِالنَّارِ وَغَيْرِهَا وَالْمَاءُ لِنَجَاسَتِهِ سَبَبَانِ: أَحَدُهُمَا: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ بِالنَّجَاسَةِ فَمَتَى كَانَ الْمُوجِبُ لِنَجَاسَتِهِ التَّغَيُّرَ فَزَالَ التَّغَيُّرُ كَانَ طَاهِرًا. كَالثَّوْبِ الْمُضَمَّخِ بِالدَّمِ إذَا غُسِلَ عَادَ طَاهِرًا. وَالثَّانِي: الْقُلَّةُ: فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا وَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَفِي نَجَاسَتِهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ أَنَّهُ يُنَجَّسُ مَا دُونُ الْقُلَّتَيْنِ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ يُسْتَثْنَى الْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ الْمَائِعَةُ فَيُجْعَلُ مَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ نَجِسًا بِوُقُوعِ ذَلِكَ فِيهِ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يُنَجَّسُ مَا وَصَلَتْ إلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ أَنَّهُ لَا يُنَجَّسُ وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ وَاخْتَارَ هَذَا الْأَوَّلَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ وَقَدْ نَصَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَمَا نَصَرَ الْأُولَى طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد لَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ قَالُوا: إنَّ قَلِيلَ الْمَاءِ يُنَجَّسُ بِقَلِيلِ النَّجَاسَةِ وَلَمْ يَحُدُّوا ذَلِكَ بِقُلَّتَيْنِ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ فَهَؤُلَاءِ لَا يُنَجِّسُونَ شَيْئًا إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَمَنْ سَوَّى بَيْنَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَقَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد قَالَ فِي الْمَائِعَاتِ كَذَلِكَ كَمَا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ. فَهَؤُلَاءِ لَا يُنَجِّسُونَ شَيْئًا مِنْ الْمَائِعَاتِ

ص: 504

إلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ؛ لَكِنْ عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَد اعْتِبَارُ الْقُلَّتَيْنِ فِي الْمَاءِ. وَكَذَلِكَ فِي الْمَائِعَاتِ إذَا سُوِّيَتْ بِهِ. فَنَقُولُ: إذَا وَقَعَ فِي الْمَائِعِ الْقَلِيلِ نَجَاسَةٌ فَصُبَّ عَلَيْهِ مَائِعٌ كَثِيرٌ فَيَكُونُ الْجَمِيعُ طَاهِرًا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا وَإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ قَلِيلٌ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَصَارَ الْجَمِيعُ كَثِيرًا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ فَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَاءِ أَنَّ الْجَمِيعَ طَاهِرٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ طَاهِرًا حَتَّى يَكُونَ الْمُضَافُ كَثِيرًا. وَالْمُكَاثَرَةُ الْمُعْتَبَرَةُ أَنْ يُصَبَّ الطَّاهِرُ عَلَى النَّجِسِ وَلَوْ صُبَّ النَّجِسُ عَلَى الطَّاهِرِ الْكَثِيرِ كَانَ كَمَا لَوْ صُبَّ الْمَاءُ النَّجِسُ عَلَى مَاءٍ كَثِيرٍ طَاهِرٍ أَيْضًا وَذَلِكَ مُطَهِّرٌ لَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا وَإِنْ صُبَّ الْقَلِيلُ الَّذِي لَاقَتْهُ النَّجَاسَةُ عَلَى قَلِيلٍ لَمْ تُلَاقِهِ النَّجَاسَةُ - وَكَانَ الْجَمِيعُ كَثِيرًا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ - كَانَ كَالْمَاءِ الْقَلِيلِ إذَا ضُمَّ إلَى الْقَلِيلِ وَفِي ذَلِكَ الْوَجْهَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنْجِيسِ مِنْ الْمَاءِ هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بَلْ لَوْ نُجِّسَ الْقَلِيلُ مِنْ الْمَاءِ لَمْ يَلْزَمْ تَنْجِيسُ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَطْعِمَةِ وَلِهَذَا أَمَرَ مَالِكٌ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ

ص: 505

الْكَلْبُ مِنْ الْمَاءِ الْقَلِيلِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَاسْتَعْظَمَ إرَاقَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا ثَمَنَ لَهُ فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ أَشْرِبَةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَطْعِمَتِهِمْ فَإِنَّ فِي نَجَاسَتِهَا مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ وَالضِّيقِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ يَعْتَبِرُونَ رَفْعَ الْحَرَجِ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِذَا لَمْ يُنَجِّسُوا الْمَاءَ الْكَثِيرَ رَفْعًا لِلْحَرَجِ. فَكَيْفَ يُنَجِّسُونَ نَظِيرَهُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ؟ وَالْحَرَجُ فِي هَذَا أَشَقُّ وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْمَائِعَاتِ الْكَثِيرَةِ لَا تَكَادُ تَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَاءُ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ غَيْرِهِ فَعَنْ نَفْسِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى بِخِلَافِ الْمَائِعَاتِ. قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا دَفَعَهَا عَنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُزِيلُهَا عَنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَتَنْتَقِلُ مَعَهُ فَلَا يَبْقَى عَلَى الْمَحَلِّ نَجَاسَةٌ وَأَمَّا إذَا وَقَعَتْ فِيهِ فَإِنَّمَا كَانَ طَاهِرًا لِاسْتِحَالَتِهَا فِيهِ لَا لِكَوْنِهِ أَزَالَهَا عَنْ نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ فِي الْإِزَالَةِ وَهِيَ كَالْمَاءِ فِي التَّنْجِيسِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِ الْمَاءِ يُزِيلُهَا إذَا زَالَتْ مَعَهُ أَنْ يُزِيلَهَا إذَا كَانَتْ فِيهِ.

وَنَظِيرُ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ الْغُسَالَةُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْ الْمَحَلِّ

ص: 506

وَتِلْكَ نَجِسَةٌ قَبْلَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ. وَفِيهَا بَعْدَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: هَلْ هِيَ طَاهِرَةٌ أَوْ مُطَهِّرَةٌ أَوْ نَجِسَةٌ؟ . وَأَبُو حَنِيفَةَ نَظَرَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: الْمَاءُ يُنَجَّسُ بِوُقُوعِهَا فِيهِ وَإِنْ كَانَ يُزِيلُهَا عَنْ غَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِذَا كَانَتْ النُّصُوصُ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهَا لَا تُنَجَّسُ بِمُجَرَّدِ الْوُقُوعِ مَعَ الْكَثْرَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ} وَقَوْلُهُ: {إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ} فَإِنَّهُ إذَا كَانَ طَهُورًا يُطَهَّرُ بِهِ غَيْرُهُ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُنَجَّسُ بِالْمُلَاقَاةِ. إذْ لَوْ نُجِّسَ بِهَا لَكَانَ إذَا صُبَّ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ يُنَجَّسُ بِمُلَاقَاتِهَا فَحِينَئِذٍ لَا يُنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ؛ لَكِنْ إنْ بَقِيَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ حَرَّمَتْ وَإِنْ اسْتَحَالَتْ زَالَتْ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْتِحَالَةَ النَّجَاسَةِ بِمُلَاقَاتِهِ لَهَا فِيهِ لَا يُنَجِّسُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ زَالَتْ كَمَا زَالَتْ عَنْ الْمَحَلِّ. فَإِنَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ يَدْفَعُهَا عَنْ نَفْسِهِ كَمَا يُزِيلُهَا عَنْ غَيْرِهِ فَقَدْ خَالَفَ الْمُشَاهَدَةَ وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي سَائِرِ الْمَائِعَاتِ مَنَّ الْأَشْرِبَةِ وَغَيْرِهَا. الْوَجْهُ الثَّانِي؛ أَنْ يُقَالَ غَايَةُ هَذَا أَنْ يَقْتَضِيَ أَنَّهُ يُمْكِنُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعِ وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ. وَأَحْمَد جَعَلَهُ لَازِمًا لِمَنْ قَالَ: إنَّ الْمَائِعَ لَا يُنَجَّسُ

ص: 507

بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ وَقَالَ: يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ تُزَالَ بِهِ النَّجَاسَةُ وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا دَفَعَهَا عَنْ نَفْسِهِ دَفَعَهَا عَنْ غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَاءِ فَيَلْزَمُ جَوَازُ إزَالَتِهِ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ مُزِيلٍ لِلْعَيْنِ قَلَّاعٍ لِلْأَثَرِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فَنَقُولُ بِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُ مِنْ دَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ دَفْعُهَا عَنْ غَيْرِهِ لِكَوْنِ الْإِحَالَةِ أَقْوَى مِنْ الْإِزَالَةِ فَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ أَنْ تَكُونَ الْمَائِعَاتُ كَالْمَاءِ فَإِذَا كَانَ الصَّحِيحُ فِي الْمَاءِ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مَعَ الْكَثْرَةِ - فَكَذَلِكَ الصَّوَابُ فِي الْمَائِعَاتِ. وَفِي الْجُمْلَةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ مُمْكِنٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَهَذَا مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ فِي مَسْأَلَةِ إزَالَةِ النَّجَاسَاتِ وَفِي مَسْأَلَةِ مُلَاقَاتِهَا لِلْمَائِعَاتِ الْمَاءِ وَغَيْرِ الْمَاءِ. وَمَنْ تَدَبَّرَ الْأُصُولَ الْمَنْصُوصَةَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا وَالْمَعَانِيَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْوَبُ الْأَقْوَالِ فَإِنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ بِدُونِ التَّغَيُّرِ بَعِيدٌ عَنْ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَالْأَقْيِسَةِ وَكَوْنُ حُكْمِ النَّجَاسَةِ يَبْقَى فِي مَوَارِدِهَا بَعْدَ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِمَائِعِ أَوْ غَيْرِ مَائِعٍ بَعِيدٌ عَنْ الْأُصُولِ وَمُوجِبُ الْقِيَاسِ. وَمَنْ كَانَ فَقِيهًا خَبِيرًا بِمَآخِذِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَزَالَ عَنْهُ الْهَوَى

ص: 508

تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ وَلَكِنْ إذَا كَانَ فِي اسْتِعْمَالِهَا فَسَادٌ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ: كَمَا يُنْهَى عَنْ ذَبْحِ الْخَيْلِ الَّتِي يُجَاهَدُ عَلَيْهَا وَالْإِبِلِ الَّتِي يُحَجُّ عَلَيْهَا. وَالْبَقَرُ الَّتِي يُحْرَثُ عَلَيْهَا. وَنَحْوِ ذَلِكَ. لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَاجَةِ إلَيْهَا لَا لِأَجْلِ الْخَبَثِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {لَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ فَنَفِدَتْ أَزْوَادُهُمْ فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي نَحْرِ الظَّهْرِ فَأَذِنَ لَهُمْ ثُمَّ أَتَى عُمَرُ فَسَأَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ الْأَزْوَادَ فَيَدْعُو اللَّهَ بِالْبَرَكَةِ فِيهَا وَيَبْقَى الظَّهْرُ فَفَعَلَ ذَلِكَ} فَنَهْيُهُ لَهُمْ عَنْ نَحْرِ الظَّهْرِ كَانَ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ لِلرُّكُوبِ؛ لَا لِأَنَّ الْإِبِلَ مُحَرَّمَةٌ. فَهَكَذَا يُنْهَى فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ عَنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِهَا كَمَا يُنْهَى عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِمَا لَهُ حُرْمَةٌ مِنْ طَعَامِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَعَلَفِ دَوَابِّ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِكَوْنِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهَا بَلْ لِحُرْمَتِهَا فَالْقَوْلُ فِي الْمَائِعَاتِ كَالْقَوْلِ فِي الْجَامِدَاتِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ إحَالَةُ الْمَائِعَاتِ لِلنَّجَاسَةِ إلَى طَبْعِهَا أَقْوَى مِنْ إحَالَةِ الْمَاءِ وَتَغَيُّرُ الْمَاءِ بِالنَّجَاسَاتِ أَسْرَعُ مِنْ تَغَيُّرِ الْمَائِعَاتِ فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ النَّجَاسَةِ لِاسْتِحَالَتِهَا إلَى طَبِيعَتِهِ فَالْمَائِعَاتُ أَوْلَى وَأَحْرَى. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الْمَاءِ وَالْمَائِعِ طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ وَلَا رِيحٌ فَلَا نُسَلِّمُ أَنْ يُقَالَ بِنَجَاسَتِهِ أَصْلًا كَمَا فِي الْخَمْرِ الْمُنْقَلِبَةِ أَوْ

ص: 509

أَبْلَغُ وَطُرِدَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الِاسْتِحَالَةِ. فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ مِنْ النَّجَاسَاتِ طَاهِرٌ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ دَفْعَ الْمَائِعَاتِ لِلنَّجَاسَةِ عَنْ نَفْسِهَا كَدَفْعِ الْمَاءِ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَاءِ بَلْ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي التُّرَابِ وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي النَّجَاسَةِ إذَا أَصَابَتْ الْأَرْضَ وَذَهَبَتْ بِالشَّمْسِ أَوْ الرِّيحِ أَوْ الِاسْتِحَالَةِ هَلْ تَطْهُرُ الْأَرْضُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَطْهُرُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الدَّلِيلِ. فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: {كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ} . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذًى فَلْيُدَلِّكْهُمَا فِي التُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ} . وَكَانَ الصَّحَابَةُ كَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ يَخُوضُونَ فِي الْوَحْلِ ثُمَّ يَدْخُلُونَ يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ وَلَا يَغْسِلُونَ أَقْدَامَهُمْ. وَأَوْكَدُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي ذُيُولِ النِّسَاءِ إذَا أَصَابَتْ أَرْضًا طَاهِرَةً بَعْدَ أَرْضٍ خَبِيثَةٍ: {تِلْكَ بِتِلْكَ} وَقَوْلُهُ. {يُطَهِّرُهُ

ص: 510

مَا بَعْدَهُ} وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشالنجي الَّتِي شَرَحَهَا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الجوزجاني وَهِيَ مِنْ أَجْلِ الْمَسَائِلِ. وَهَذَا لِأَنَّ الذُّيُولَ تَتَكَرَّرُ مُلَاقَاتُهَا لِلنَّجَاسَةِ فَصَارَتْ كَأَسْفَلِ الْخُفِّ وَمَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ. فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ جَعَلَ الْجَامِدَاتِ تُزِيلُ النَّجَاسَةَ عَنْ غَيْرِهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ. كَمَا فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ وَجَعَلَ الْجَامِدَ طَهُورًا عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَاءِ. وَإِذَا كَانَتْ الْجَامِدَاتُ لَا تَنْجُسُ بِمَا اسْتَحَالَ إلَيْهَا مِنْ النَّجَاسَةِ فَالْمَائِعَاتُ أَوْلَى وَأَحْرَى لِأَنَّ إحَالَتَهَا أَشَدُّ وَأَسْرَعُ وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَوَاضِعُ غَيْرُ هَذَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ الدُّهْنَ يَنْجُسُ بِمَا يَقَعُ فِيهِ: فَفِي جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَظْهَرُهُمَا: جَوَازُ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَفِي طَهَارَتِهِ بِالْغَسْلِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. أَحَدُهُمَا: يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ شريح وَأَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ شَعْبَانَ وَغَيْرُهُمْ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ. وَهَذَا النِّزَاعُ يَجْرِي فِي

ص: 511

الدُّهْنِ الْمُتَغَيِّرِ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ بِلَا رَيْبٍ فَفِي جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ هَذَا النِّزَاعُ. وَكَذَلِكَ فِي غَسْلِهِ هَذَا النِّزَاعُ. وَأَمَّا بَيْعُهُ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا مِنْ كَافِرٍ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَعَنْ أَحْمَد أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ كَافِرٍ إذَا أَعْلَمَ بِنَجَاسَتِهِ. كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَقَدْ خُرِّجَ قَوْلٌ لَهُ بِجَوَازِ بَيْعِهِ مِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ كَمَا فَعَلَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ أَحْمَد وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ جَوَازَ بَيْعِهِ عَلَى جَوَازِ تَطْهِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ تَطْهِيرُهُ صَارَ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ وَالْإِنَاءِ النَّجِسِ وَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وِفَاقًا. وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَهُمْ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ إذَا قَالُوا: بِجَوَازِ تَطْهِيرِهِ وَجْهَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُطْلَقًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الْمَائِعَاتُ: كَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَدْهَانِ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ وَغَيْرِهِمَا إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ مِثْلُ الْفَأْرَةِ الْمَيِّتَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ النَّجَاسَاتِ فَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ.

ص: 512

أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ حُكْمُ الْمَاءِ وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَيُذْكَرُ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَهَذَا هُوَ أَصْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَاسَ الْمَاءَ عَلَى الْمَائِعَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَائِعَاتِ تُنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهَا بِخِلَافِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَد. وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ: هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَائِعَاتِ الْمَائِيَّةِ وَغَيْرِهَا فَخَلُّ التَّمْرِ يَلْحَقُ بِالْمَاءِ وَخَلُّ الْعِنَبِ لَا يَلْحَقُ بِهِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ الزَّيْتُ كَثِيرًا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ قُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُنَجَّسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد فِي كَلْبٍ وَلَغَ فِي زَيْتٍ كَثِيرٍ. فَقَالَ: لَا يُنَجَّسُ. وَإِنْ كَانَ الْمَائِعُ قَلِيلًا انْبَنَى عَلَى النِّزَاعِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ. فَمَنْ قَالَ. إنَّ الْقَلِيلَ لَا يُنَجَّسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ قَالَ: ذَلِكَ فِي الزَّيْتِ وَغَيْرِهِ وَبِذَلِكَ أَفْتَى الزُّهْرِيُّ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْفَأْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الدَّوَابِّ. تَمُوتُ فِي سَمْنٍ أَوْ غَيْرِهِ مَنَّ الْأَدْهَانِ فَقَالَ: تُلْقَى وَمَا قَرُبَ مِنْهَا وَيُؤْكَلُ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَسَوَاءٌ كَانَ جَامِدًا أَوْ مَائِعًا. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ لِمَعْنًى سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.

ص: 513

وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمَائِعَ الْقَلِيلَ يَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ قَالَ: إنَّهُ كَالْمَاءِ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ كَمَا يَطْهُرُ الْمَاءُ بِالْمُكَاثَرَةِ فَإِذَا صُبَّ عَلَيْهِ زَيْتٌ كَثِيرٌ طَهُرَ الْجَمِيعُ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَائِعَاتِ لَا تُنَجَّسُ كَمَا لَا يُنَجَّسُ الْمَاءُ هُوَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ بَلْ هِيَ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنْجِيسِ مِنْ الْمَاءِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ وَالْأَطْعِمَةُ وَالْأَشْرِبَةُ - مِنْ الْأَدْهَانِ وَالْأَلْبَانِ وَالزَّيْتِ وَالْخُلُولِ وَالْأَطْعِمَةِ الْمَائِعَةِ - هِيَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ لَنَا فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا صِفَةُ الْخَبَثِ: لَا طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ وَلَا رِيحُهُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ: كَانَتْ عَلَى حَالِهَا فِي الطَّيِّبِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ مِنْ الْخَبِيثِ الْمُحَرَّمَةِ مَعَ أَنَّ صِفَاتِهَا صِفَاتُ الطَّيِّبِ لَا صِفَاتُ الْخَبَائِثِ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الطَّيِّبَاتِ وَالْخَبَائِثِ بِالصِّفَاتِ الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَهُمَا. وَلِأَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ حُرِّمَ هَذَا وَأُحِلَّ هَذَا وَإِذَا كَانَ هَذَا الْحَبُّ وَقَعَ فِيهِ قَطْرَةُ دَمٍ أَوْ قَطْرَةُ خَمْرٍ وَقَدْ اسْتَحَالَتْ وَاللَّبَنُ بَاقٍ عَلَى صِفَتِهِ وَالزَّيْتُ بَاقٍ عَلَى صِفَتِهِ لَمْ يَكُنْ لِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَجْهٌ فَإِنَّ تِلْكَ قَدْ اُسْتُهْلِكَتْ وَاسْتَحَالَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا حَقِيقَةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الدَّمِ وَالْخَمْرِ. وَإِنَّمَا كَانَتْ أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ مِنْ الْمَاءِ لِأَنَّ الشَّارِعَ رَخَّصَ فِي إرَاقَةِ الْمَاءِ وَإِتْلَافِهِ حَيْثُ لَمْ يُرَخِّصْ فِي إتْلَافِ الْمَائِعَاتِ كَالِاسْتِنْجَاءِ فَإِنَّهُ يُسْتَنْجَى بِالْمَاءِ دُونَ هَذِهِ وَكَذَلِكَ إزَالَةُ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ بِالْمَاءِ.

ص: 514

وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْمَائِعَاتِ فِي ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ: سَوَاءٌ قِيلَ تَزُولُ النَّجَاسَةُ أَوْ لَا تَزُولُ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّ الْمَاءَ يُرَاقُ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ وَلَا تُرَاقُ آنِيَةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَاءَ أَسْرَعُ تَغَيُّرًا بِالنَّجَاسَةِ مِنْ الْمِلْحِ وَالنَّجَاسَةُ أَشَدُّ اسْتِحَالَةً فِي غَيْرِ الْمَاءِ مِنْهَا فِي الْمَاءِ فَالْمَائِعَاتُ أَبْعَدُ عَنْ قَبُولِ التَّنْجِيسِ حِسًّا وَشَرْعًا مِنْ الْمَاءِ فَحَيْثُ لَا يُنَجَّسُ الْمَاءُ فَالْمَائِعَاتُ أَوْلَى أَنْ لَا تُنَجَّسَ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: {أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ} . فَأَجَابَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَوَابًا عَامًّا مُطْلَقًا بِأَنْ يُلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَأَنْ يَأْكُلُوا سَمْنَهُمْ وَلَمْ يستفصلهم هَلْ كَانَ مَائِعًا أَوْ جَامِدًا. وَتَرْكُ الاستفصال فِي حِكَايَةِ الْحَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ. مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى سَمْنِ الْحِجَازِ أَنْ يَكُونَ ذَائِبًا. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا ذَائِبًا وَالْغَالِبُ عَلَى السَّمْنِ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ الْقُلَّتَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَفْصِلْ هَلْ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ {إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ} . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ.

ص: 515

قِيلَ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ هِيَ الَّتِي اعْتَمَدَ عَلَيْهَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَائِعِ وَالْجَامِدِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهَا ثَابِتَةٌ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانُوا فِي ذَلِكَ مُجْتَهِدِينَ قَائِلِينَ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ. وَقَدْ ضَعَّفَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذهلي حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ وَصَحَّحَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ؛ لَكِنْ قَدْ تَبَيَّنَ لِغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَقَعَتْ خَطَأً فِي الْحَدِيثِ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَبَيَّنَ لَنَا وَلِغَيْرِنَا وَنَحْنُ جَازِمُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلِذَلِكَ رَجَعْنَا عَنْ الْإِفْتَاءِ بِهَا بَعْدَ أَنْ كُنَّا نُفْتِي بِهَا أَوَّلًا فَإِنَّ الرُّجُوعَ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ قَدْ بَيَّنُوا لَنَا أَنَّهَا بَاطِلَةٌ وَأَنَّ مَعْمَرًا غَلِطَ فِي رِوَايَتِهِ لَهَا عَنْ الزُّهْرِيِّ وَكَانَ مَعْمَرٌ كَثِيرَ الْغَلَطِ والأثبات مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ: كَمَالِكِ. وَيُونُسَ وَابْنِ عُيَيْنَة خَالَفُوهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ نَفْسُهُ اضْطَرَبَتْ رِوَايَتُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إسْنَادًا وَمَتْنًا فَجَعَلَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْن عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ وَرُوِيَ عَنْهُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ قَالَ: {إنْ كَانَ مَائِعًا فَاسْتَصْبِحُوا بِهِ. وَفِي بَعْضِهَا فَلَا تَقْرَبُوهُ} . وَالْبُخَارِيُّ بَيَّنَ غَلَطَهُ فِي هَذَا بِأَنْ ذَكَرَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ يُونُسَ مِنْ الزُّهْرِيِّ نَفْسِهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: إنْ كَانَ

ص: 516

جَامِدًا أَوْ مَائِعًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا تُلْقَى وَمَا قَرُبَ مِنْهَا وَيُؤْكَلُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: {أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ} فَالزُّهْرِيُّ الَّذِي مَدَارُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ قَدْ أَفْتَى فِي الْمَائِعِ وَالْجَامِدِ بِأَنْ تُلْقَى الْفَأْرَةُ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا وَيُؤْكَلَ وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ عَنْهُ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فَقَدْ غَلِطَ. وَأَيْضًا فَالْجُمُودُ والميعان أَمْرٌ لَا يَنْضَبِطُ بَلْ يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَطْعِمَةِ هَلْ تَلْحَقُ بِالْجَامِدِ أَوْ الْمَائِعِ. وَالشَّارِعُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ إلَّا بِفَصْلِ مُبَيِّنٍ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} . وَالْمُحَرَّمَاتُ مِمَّا يَتَّقُونَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ الْمُحَرَّمَاتِ بَيَانًا فَاصِلًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَلَالِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ الْخَمْرُ الَّتِي هِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ إذَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا حَلَّتْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَغَيْرُهَا مِنْ النَّجَاسَاتِ أَوْلَى أَنْ تَطْهُرَ بِالِانْقِلَابِ وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ قَطْرَةَ خَمْرٍ وَقَعَتْ فِي خَلِّ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَاسْتَحَالَتْ كَانَتْ أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْخَمْرُ لَمَّا نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ طَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهَا؟ وَالْخَمْرُ إذَا قُصِدَ تَخْلِيلُهَا لَمْ تَطْهُرْ.

ص: 517

قِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ: إنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ وَهِيَ طَاهِرَةٌ ثُمَّ تَسْتَحِيلُ دَمًا وَبَوْلًا وَغَائِطًا فَتَنْجُسُ. وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ يَكُونُ طَاهِرًا فَإِذَا مَاتَ احْتَبَسَتْ فِيهِ الْفَضَلَاتُ وَصَارَ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ خِلَافَ حَالِهِ فِي الْحَيَاةِ فَيَنْجُسُ وَلِهَذَا يَطْهُرُ الْجِلْدُ بَعْدَ الدِّبَاغِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّ الدِّبَاغَ كَالْحَيَاةِ أَوْ قِيلَ إنَّهُ كَالذَّكَاةِ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ وَالسُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ كَالذَّكَاةِ. وَأَمَّا مَا قُصِدَ تَخْلِيلُهُ: فَذَلِكَ لِأَنَّ حَبْسَ الْخَمْرِ حَرَامٌ سَوَاءٌ حُبِسَتْ لِقَصْدِ التَّخْلِيلِ أَوْ لَا. وَالطَّهَارَةُ نِعْمَةٌ فَلَا تَثْبُتُ النِّعْمَةُ بِالْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ.

وَسُئِلَ:

عَنْ الرَّجُلِ يُسَافِرُ فِي الشِّتَاءِ وَيُصِيبُهُ بَلَلُ الْمَطَرِ وَالنَّدَاوَةُ وَيَمَسُّ مقادم الدَّوَابِّ وَرِحَالَهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ - مِمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ عَلَى الْمُسَافِرِ - وَيُنْزِلُ مَنَازِلَ مُتَنَجِّسَةً يَفْرِشُ عَلَيْهَا فَرْشَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُسَافِرِ. فَهَلْ يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ؟ وَإِذَا عُفِيَ عَنْهُ فَهَلْ إذَا حَضَرَ فِي بَلْدَتِهِ

ص: 518

يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا لَامَسَ ثِيَابَهُ وَفَرْشَهُ وَفِرَاءَهُ؟ وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِتِلْكَ الْمَقَاوِدِ. وَآلَةُ الدَّوَابِّ لَا تَخْلُو مِنْ النَّجَاسَاتِ وَقَدْ تَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ الْمَقَاوِدُ رَطْبَةً مِنْ بَوْلٍ أَوْ بَلَلٍ. وَيُمْسِكُهَا بِيَدِهِ وَيَلْمِسُ بِيَدِهِ ثِيَابَهُ وَقَدْ تَكُونُ فِي الصَّيْفِ يَدُهُ عرقانة. فَهَلْ يُعْفَى عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ وَإِنْ عُفِيَ عَنْهُ فِي السَّفَرِ هَلْ يَكُونُ عَفْوًا لَهُ فِي الْحَضَرِ أَمْ يَجِبُ غَسْلُ مَا ذُكِرَ؟ فَإِنَّ الْكَثِيرَ مِنْ النَّاسِ لَا يَغْسِلُونَ وَالْأَقَلُّ مِنْ النَّاسِ يَعْتَنُونَ بِالْغَسْلِ؟ وَهَلْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَغْسِلُونَ مِنْ ذَلِكَ أَمْ يَتَجَاوَزُونَ؟ وَهَلْ يَكُونُ الْغَسْلُ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ السُّنَّةِ؟ وَالْغَرَضُ مُتَابَعَةُ الصَّحَابَةِ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ. وَفِي الرَّجُلِ إذَا مَسَّ ثَوْبَهُ الْقَصَّابُ أَوْ يَدَهُ وَعَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدَّسَمِ غَسَلَ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ. فَهَلْ هُوَ فِي ذَلِكَ مُصِيبٌ؟ أَوْ هَذَا وَسْوَاسٌ؟ وَفِي الرَّجُلِ أَيْضًا يُصَلِّي إلَى جَانِبِهِ قَصَّابٌ فِي الْمَسْجِدِ فَيَقُولُ مَكَانُ هَذَا الْقَصَّابِ غَيْرُ طَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الْقَصَّابِينَ لَا يَتَحَرَّزُونَ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ وَإِذَا صَافَحَهُ قَصَّابٌ غَسَلَ يَدَهُ؟ وَكَذَلِكَ إذَا مَسَّهُ الطَّوَّافُ بِاللَّحْمِ غَسَلَ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ. فَهَلْ هُوَ مُخْطِئٌ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟ وَمَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ. وَفِي الرَّجُلِ يَأْكُلُ الشَّرَائِحَ وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنَّ عُمَّالَهَا لَا يَغْسِلُونَ اللَّحْمَ فَهَلْ يَحْرُمُ أَكْلُهَا أَوْ يُكْرَهُ؟ لِكَوْنِ الْقَصَّابِينَ يَذْبَحُونَ بِسِكِّينِ

ص: 519

وَيَسْلُخُونَ بِهَا مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ؟ وَإِذَا عُفِيَ عَنْهُ فِي الْأَكْلِ: فَهَلْ يُعْفَى عَنْ الرَّجُلِ يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ وَيُصِيبُ ثَوْبَهُ وَبَدَنَهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَغْسِلُهُ وَالْمُرَادُ مَا لَوْ جَرَى بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ أَوْ فَعَلَ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟ .

فَأَجَابَ: أَمَّا مَقَاوِدُ الْخَيْلِ وَرِبَاطُهَا فَطَاهِرٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ لِأَنَّ الْخَيْلَ طَاهِرَةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَكِنَّ الْحَمِيرَ فِيهَا خِلَافٌ: هَلْ هِيَ طَاهِرَةٌ أَوْ نَجِسَةٌ؟ أَوْ مَشْكُوكٌ فِيهَا؟ وَالصَّحِيحُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ شَعْرَهَا طَاهِرٌ إذْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَعْرَ الْكَلْبِ طَاهِرٌ فَشَعْرُ الْحِمَارِ أَوْلَى. وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي رِيقِ الْحِمَارِ هَلْ يَلْحَقُ بِرِيقِ الْكَلْبِ أَوْ بِرِيقِ الْخَيْلِ وَأَمَّا مَقَاوِدُهَا وَبَرَاذِعُهَا فَمَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهَا وَغَايَةُ مَا فِيهَا أَنَّهُ قَدْ يُصِيبُهَا بَوْلُ الدَّوَابِّ وَرَوْثُهَا. وَبَوْلُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ طَاهِرٌ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يُنَجِّسُهُ وَهُمْ الْجُمْهُورُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: لَكِنْ هَلْ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد فَإِذَا عُفِيَ عَنْ يَسِيرِ بَوْلِهِ وَرَوْثِهِ كَانَ مَا يُصِيبُ الْمَقَاوِدَ وَغَيْرَهَا مَعْفُوًّا عَنْهُ وَهَذَا مَعَ تَيَقُّنِ النَّجَاسَةِ. وَأَمَّا مَعَ الشَّكِّ فَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الطَّهَارَةُ وَالِاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ وَسْوَاسٌ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا أَصَابَهُ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا وَيَجُوزُ أَنْ

ص: 520

يَكُونُ نَجِسًا لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ التَّجَنُّبُ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَا الِاحْتِيَاطِ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مَرَّ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ بِمِيزَابِ فَقَطَرَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْهُ مَاءٌ. فَقَالَ صَاحِبُهُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ مَاؤُك طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرْهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْعَفْوِ فَإِذَا فَرَشَ فِي الْخَانَاتِ وَغَيْرِهَا عَلَى رَوْثِ الْحَمِيرِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا رَوْثُ الْخَيْلِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ طَاهِرٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى عَفْوٍ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إذَا دَخَلَ الْحَضَرَ وَسَوَاءٌ كَانَتْ يَدُهُ رَطْبَةً مِنْ مَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ مِنْ الْمَقَاوِدِ. وَغَسْلُ الْمَقَاوِدِ بِدْعَةٌ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - بَلْ كَانُوا يَرْكَبُونَهَا. وَامْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} {وَكَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةٌ يَرْكَبُهَا} وَرُوِيَ عَنْهُ: {أَنَّهُ رَكِبَ الْحِمَارَ} وَمَا نُقِلَ أَنَّهُ أَمَرَ خُدَّامَ الدَّوَابِّ أَنْ يَحْتَرِزُوا مِنْ ذَلِكَ.

فَصْلٌ:

وَثَوْبُ الْقَصَّابِ وَبَدَنُهُ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَسَمٌ وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ مِنْ ذَلِكَ وَسُوسَةٌ وَبِدْعَةٌ وَمَكَانُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ طَاهِرٌ

ص: 521

وَغَايَةُ مَا يُصِيبُ الْقَصَّابَ أَنَّ الدَّمَ يُصِيبُهُ أَحْيَانًا فَاَلَّذِي يُمَاسُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَمٌ لَا يَضُرُّهُ وَلَوْ أَصَابَهُ دَمٌ يَسِيرٌ لَعُفِيَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الدَّمَ الْيَسِيرَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَنَجَاسَةُ الْقَصَّابِ لَيْسَتْ مِنْ نَجَاسَةِ الدَّسَمِ فَإِنَّ الدَّسَمَ طَاهِرٌ لَا نَجَاسَةَ فِيهِ وَيَسِيرُ الدَّمِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَغَسْلُ يَدِهِ مِنْ مُصَافَحَةِ الْقَصَّابِ أَوْ الطَّوَّافِ وَسْوَسَةٌ وَتَنَطُّعٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ تَوَضَّأَ مِنْ جَرَّةِ امْرَأَةٍ نَصْرَانِيَّةٍ وَقَدْ {كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ زَبِيبَةَ الْحَسَنِ وَقَدْ صَلَّى وَهُوَ حَامِلٌ أمامة ابْنَةَ ابْنَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا} وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْآثَارِ يُبَيِّنُ سِعَةَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ.

فَصْلٌ:

أَكْلُ الشَّوَى والشريح جَائِزٌ سَوَاءٌ غَسَلَ اللَّحْمَ أَوْ لَمْ يَغْسِلْ؛ بَلْ غَسْلُ لَحْمِ الذَّبِيحَةِ بِدْعَةٌ فَمَا زَالَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُونَ اللَّحْمَ فَيَطْبُخُونَهُ وَيَأْكُلُونَهُ بِغَيْرِ غَسْلِهِ وَكَانُوا يَرَوْنَ الدَّمَ فِي الْقِدْرِ خُطُوطًا؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ أَيْ الْمَصْبُوبَ الْمِهْرَاقَ فَأَمَّا مَا يَبْقَى فِي الْعُرُوقِ فَلَمْ يُحَرِّمْهُ. وَلَكِنْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتْبَعُوا الْعُرُوقَ كَمَا تَفْعَلُ الْيَهُودُ الَّذِينَ بِظُلْمِ مِنْهُمْ

ص: 522

حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا. وَسِكِّينُ الْقَصَّابِ يَذْبَحُ بِهَا وَيَسْلَخُ. فَلَا تَحْتَاجُ إلَى غَسْلٍ. فَإِنَّ غَسْلَ السَّكَاكِينِ الَّتِي يُذْبَحُ بِهَا بِدْعَةٌ وَكَذَلِكَ غَسْلُ السُّيُوفِ. وَإِنَّمَا كَانَ السَّلَفُ يَمْسَحُونَ ذَلِكَ مَسْحًا؛ وَلِهَذَا جَازَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَجْسَامِ الصَّقِيلَةِ كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ إذَا أَصَابَهَا نَجَاسَةٌ أَنْ تُمْسَحَ وَلَا تُغْسَلَ وَهَذَا فِيمَا لَا يُعْفَى عَنْهُ. فَأَمَّا مَا تَعَيَّنَ عَدَمُ نَجَسِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى غَسْلٍ وَلَا مَسْحٍ وَالْيَسِيرُ يُعْفَى عَنْهُ. وَمَا عُفِيَ عَنْهُ فَالْحَمْلُ وَالْمَشْيُ. بِلَا رَيْبٍ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَكْلُهُ جَازَ مُبَاشَرَتُهُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَلَيْسَ كُلُّ مَا جَازَتْ مُبَاشَرَتُهُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا جَازَ أَكْلُهُ كَالسُّمُومِ الْمُضِرَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْلُهَا وَلَوْ بَاشَرَهَا وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً تَجُوزُ مُبَاشَرَتُهَا فِي الصَّلَاةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ وَأَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَالْخَبِيثُ يَضُرُّ وَالطَّيِّبُ يَنْفَعُ وَمَا ضَرَّ فِي مُبَاشَرَةِ الظَّاهِرِ كَانَتْ مَضَرَّتُهُ بِمُمَازَجَةِ الْأَبْدَانِ إذَا أَكَلَ أَقْوَى وَأَقْوَى وَلَيْسَ كُلُّ مَا ضَرَّ بِالْمُمَازَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ يَضُرُّ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالْمُلَامَسَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَا عُفِيَ عَنْهُ فِي الْحَمْلِ كَدَمِ الْجُرْحِ وَالدَّمَامِيلِ وَمَا يَعْلَقُ بِالسِّكِّينِ مِنْ دَمِ الشَّاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا إذَا وَقَعَ فِي مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ فَقِيلَ إنَّهُ يُنَجِّسُهُ وَإِنَّمَا يُعْفَى عَنْهُ فِي الْمَائِعَاتِ. كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا حَرَّمَ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ وَقَدْ كَانَ

ص: 523

أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُدْخِلُ أَحَدُهُمْ أُصْبُعَهُ فِي خَيْشُومِهِ فَيُلَوِّثُ أَصَابِعَهُ بِالدَّمِ فَيَمْضِي فِي صَلَاتِهِ وَكَذَلِكَ كَانَتْ أَيْدِيهِمْ تُصِيبُ الدَّمَامِيلَ وَالْجِرَاحَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْمَائِعَاتِ حَتَّى يَغْسِلُوا أَيْدِيَهُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضَعُونَ اللَّحْمَ بِالْقِدْرِ فَيَبْقَى الدَّمُ فِي الْمَاءِ خُطُوطًا وَهَذَا لَا أَعْلَمُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا فِي الْعَفْوِ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ بِاتِّفَاقِهِمْ وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِ الدَّمِ فِي مَرَقِ الْقِدْرِ أَوْ مَائِعٍ آخَرَ وَكَوْنِهِ فِي السِّكِّينِ أَوْ غَيْرِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ سِتُّونَ قِنْطَارَ زَيْتٍ بِالدِّمَشْقِيِّ وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فِي بِئْرٍ وَاحِدَةٍ فَهَلْ يَنْجُسُ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ أَوْ اسْتِعْمَالُهُ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا يَنْجُسُ بِذَلِكَ بَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَحُكْمُ الْمَائِعَاتِ عِنْدَهُ حُكْمُ الْمَاءِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فَلَا يَنْجُسُ إذَا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ لَكِنْ تُلْقَى النَّجَاسَةُ وَمَا حَوْلَهَا وَقَدْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ حُكْمَ الْمَائِعَاتِ حُكْمُ الْمَاءِ طَائِفَةٌ

ص: 524

مِنْ الْعُلَمَاءِ: كَالزُّهْرِيِّ وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَإِنَّهُ سَوَّى بَيْنِ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ وَفِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد فِي الْإِزَالَةِ؛ لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَأَى مُجَرَّدَ الْوُصُولِ مُنَجِّسًا وَجُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ خَالَفُوا فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَرَوْا الْوُصُولَ مُنَجِّسًا مَعَ الْكَثْرَةِ. وَتَنَازَعُوا فِي الْقَلِيلِ. إذْ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ رَأَى أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ أَنَّ الْخَبِيثَ إذَا وَقَعَ فِي الطَّيِّبِ أَفْسَدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّمَا يُفْسِدُهُ إذَا كَانَ قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهُ فَأَمَّا إذَا اُسْتُهْلِكَ فِيهِ وَاسْتَحَالَ فَلَا وَجْهَ لِإِفْسَادِهِ كَمَا لَوْ انْقَلَبَتْ الْخَمْرَةُ خَلًّا بِغَيْرِ قَصْدِ آدَمِيٍّ فَإِنَّهَا طَاهِرَةٌ حَلَالٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ لَكِنَّ مَذْهَبَهُ فِي الْمَاءِ مَعْرُوفٌ وَعَلَى هَذَا أَدِلَّةٌ قَدْ بَسَطْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلَا دَلِيلَ عَلَى نَجَاسَتِهِ لَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ. وَعُمْدَةُ الَّذِينَ نَجَّسُوهُ. احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا

ص: 525

تَقْرَبُوهُ} وَهَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا يَدُلُّ لَوْ دَلَّ عَلَى نَجَاسَةِ السَّمْنِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْفَأْرَةُ فَكَيْفَ وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ؛ بَلْ بَاطِلٌ غَلِطَ فِيهِ مَعْمَرٌ عَلَى الزُّهْرِيِّ غَلَطًا مَعْرُوفًا عِنْدَ النُّقَّادِ الْجَهَابِذَةِ كَمَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ. وَمَنْ اعْتَقَدَ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ فَلَمْ يَعْلَمْ الْعِلَّةَ الْبَاطِنَةَ فِيهِ الَّتِي تُوجِبُ الْعِلْمَ بِبُطْلَانِهِ فَإِنَّ عِلْمَ الْعِلَلِ مِنْ خَوَاصِّ عِلْمِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَلِهَذَا بَيَّنَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مَا يُوجِبُ فَسَادَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَأَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ هُوَ عَلَى طَهَارَتِهِ أَدَلُّ مِنْهُ عَلَى النَّجَاسَةِ فَقَالَ: (بَابٌ: إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ أَوْ الذَّائِبِ: حَدَّثَنَا عبدان قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الدَّابَّةِ الَّتِي تَمُوتُ فِي الزَّيْتِ أَوْ السَّمْنِ وَهُوَ جَامِدٌ. أَوْ غَيْرُ جَامِدٍ الْفَأْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا قَالَ: {بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِفَأْرَةِ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ ثُمَّ أُكِلَ} . وَفِي حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَ: {سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ} فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ أَعْلَمِ الْأُمَّةِ بِالسُّنَّةِ فِي زَمَانِهِ أَنَّهُ أَفْتَى فِي الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ الْجَامِدِ وَغَيْرِ الْجَامِدِ إذَا مَاتَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ أَنَّهَا تُطْرَحُ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا.

ص: 526

وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ} وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ؛ بَلْ هَذَا بَاطِلٌ. فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ رضي الله عنه هَذَا لِيُبَيِّنَ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ رَوَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ هَذَا التَّفْصِيلَ فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَجَابَ بِالْعُمُومِ فِي الْجَامِدِ وَالذَّائِبِ مُسْتَدِلًّا بِهَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ لَا سِيَّمَا وَالسَّمْنُ بِالْحِجَازِ يَكُونُ ذَائِبًا أَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُ جَامِدًا؛ بَلْ قِيلَ: إنَّهُ لَا يَكُونُ بِالْحِجَازِ جَامِدًا بِحَالِ. فَإِطْلَاقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْجَوَابَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ يُوجِبُ الْعُمُومَ إذْ السُّؤَالُ كَالْمُعَادِ فِي الْجَوَابِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ وَتَرْكُ الاستفصال فِي حِكَايَةِ الْحَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ. هَذَا إذَا كَانَ السَّمْنُ بِالْحِجَازِ يَكُونُ جَامِدًا وَيَكُونُ ذَائِبًا فَأَمَّا إنْ كَانَ وُجُودُ الْجَامِدِ نَادِرًا أَوْ مَعْدُومًا كَانَ الْحَدِيثُ نَصًّا فِي أَنَّ السَّمْنَ الذَّائِبَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ فَإِنَّهَا تُلْقَى وَمَا حَوْلَهَا وَيُؤْكَلُ. وَبِذَلِكَ أَجَابَ الزُّهْرِيُّ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ قَلِيلُهُ وَلَا كَثِيرُهُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَائِلِ الصَّحِيحِ: التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَدَلَائِلِهَا وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا

ص: 527

فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَيْفَ وَفِي تَنْجِيسِ مِثْلِ ذَلِكَ وَتَحْرِيمِهِ مِنْ فَسَادِ الْأَطْعِمَةِ الْعَظِيمَةِ وَإِتْلَافِ الْأَمْوَالِ الْعَظِيمَةِ الْقَدْرِ مَا لَا تَأْتِي بِمِثْلِهِ الشَّرِيعَةُ الْجَامِعَةُ لِلْمَحَاسِنِ كُلِّهَا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ تَنْزِيهًا لَنَا عَنْ الْمَضَارِّ وَأَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ كُلَّهَا لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا شَيْئًا مِنْ الطَّيِّبَاتِ كَمَا حَرَّمَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ - بِظُلْمِهِمْ - طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ. وَمَنْ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ فِي مَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا وَاشْتِمَالِهَا عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَهْدِيهِ اللَّهُ إلَيْهِ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَاتُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

وَسُئِلَ:

عَنْ الزَّيْتِ إذَا كَانَ فِي بِئْرٍ وَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ: مِثْلُ الْفَأْرَةِ وَالْحَيَّةِ وَنَحْوِهِمَا وَمَاتَا فِيهِ. فَمَا الْحُكْمُ إذَا كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ؟ وَإِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الزَّيْتِ أَوْ اللَّبَنِ فَمَا الْحُكْمُ فِيهِ؟ .

فَأَجَابَ رحمه الله:

إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْقُلَّتَيْنِ فَهِيَ طَاهِرٌ عِنْد جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَمَذْهَبِ الْمَدَنِيِّينَ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ طَاهِرٌ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد

ص: 528

وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ الْمَائِعُ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ وَقَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلنَّجَاسَةِ فِيهِ أَثَرٌ بَلْ اُسْتُهْلِكَتْ فِيهِ وَلَمْ تُغَيِّرْ لَهُ لَوْنًا وَلَا طَعْمًا وَلَا رِيحًا فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَمَّا إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي اللَّبَنِ وَمُخِضَ اللَّبَنُ وَظَهَرَ فِيهِ زُبْدَةٌ: فَهَلْ يَحِلُّ تَطْهِيرُ الزُّبْدَةِ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

فَأَجَابَ:

اللَّبَنُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ هَلْ يَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ أَوْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَاءِ. هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَكَذَلِكَ مَالِكٌ لَهُ فِي النَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الطَّعَامِ الْكَثِيرِ هَلْ تُنَجِّسُهُ فِيهِ قَوْلَانِ. وَأَمَّا وُلُوغُ الْكَلْبِ فِي الطَّعَامِ فَلَا يُنَجِّسُهُ عِنْدَ مَالِكٍ فَهَذَا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَنْجُسْ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَنْجُسُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَصْحَابِهِ لَكِنْ عِنْدَ هَؤُلَاءِ هَلْ يَطْهُرُ

ص: 529

الدُّهْنُ بِالْغَسْلِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا. فَمَنْ قَالَ إنَّ الْأَدْهَانَ تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ قَالَ بِطَهَارَتِهِ بِالْغَسْلِ وَإِلَّا فَلَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ الْكَلْبِ إذَا وَلَغَ فِي اللَّبَنِ أَوْ غَيْرِهِ مَا الَّذِي يَجِبُ فِي ذَلِكَ؟ .

فَأَجَابَ:

وَأَمَّا الْكَلْبُ فَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ حَتَّى رِيقُهُ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَالثَّانِي: نَجِسٌ حَتَّى شَعْرُهُ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَالثَّالِثُ: شَعْرُهُ طَاهِرٌ وَرِيقُهُ نَجِسٌ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ. فَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَوْ الْبَدَنَ رُطُوبَةُ شَعْرِهِ لَمْ يَنْجُسْ بِذَلِكَ وَإِذَا وَلَغَ فِي الْمَاءِ أُرِيقَ الْمَاءُ.

ص: 530

وَإِنْ وَلَغَ فِي اللَّبَنِ وَنَحْوِهِ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ يُؤْكَلُ ذَلِكَ الطَّعَامُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُرَاقُ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَأَمَّا إنْ كَانَ اللَّبَنُ كَثِيرًا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

عَنْ الْجُبْنِ الْإِفْرِنْجِيِّ وَالْجُوخِ هَلْ هُمَا مَكْرُوهَانِ أَوْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ إنَّهُمَا نَجِسَانِ وَأَنَّ الْجُبْنَ يُدْهَنُ بِدُهْنِ الْخِنْزِيرِ وَكَذَلِكَ الْجُوخُ.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا الْجُبْنُ الْمَجْلُوبُ مِنْ بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ فَاَلَّذِينَ كَرِهُوهُ ذَكَرُوا لِذَلِكَ سَبَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُوضَعُ بَيْنَهُ شَحْمُ الْخِنْزِيرِ إذَا حُمِلَ فِي السُّفُنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يُذَكُّونَ مَا تُصْنَعُ مِنْهُ الْإِنْفَحَةُ بَلْ يَضْرِبُونَ رَأْسَ الْبَقَرِ وَلَا يُذَكُّونَهُ. فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَغَايَتُهُ أَنْ يُنَجَّسَ ظَاهِرُ الْجُبْنِ فَمَتَى كُشِطَ الْجُبْنُ أَوْ غُسِلَ طَهُرَ فَإِنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ

ص: 531

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ} فَإِذَا كَانَ مُلَاقَاةُ الْفَأْرَةِ لِلسَّمْنِ لَا تُوجِبُ نَجَاسَةَ جَمِيعِهِ فَكَيْفَ تَكُونُ مُلَاقَاةُ الشَّحْمِ النَّجِسِ لِلْجُبْنِ تُوجِبُ نَجَاسَةَ بَاطِنِهِ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا يَجِبُ إزَالَةُ ظَاهِرِهِ إذَا تَيَقَّنَ إصَابَةَ النَّجَاسَةِ لَهُ وَأَمَّا مَعَ الشَّكِّ فَلَا يَجِبُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يَعْقِرُونَهُ مِنْ الْأَنْعَامِ يَتْرُكُونَ ذَكَاتَهُ بَلْ قَدْ قِيلَ: إنَّهُمْ إنَّمَا يَفْعَلُونَ هَذَا بِالْبَقَرِ وَقِيلَ إنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ حَتَّى يَسْقُطَ ثُمَّ يُذَكُّونَهُ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ ذَبَائِحِهِمْ بَلْ إذَا اخْتَلَطَ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ فِي عَدَدٍ لَا يَنْحَصِرُ: كَاخْتِلَاطِ أُخْتِهِ بِأَهْلِ بَلَدٍ وَاخْتِلَاطِ الْمَيْتَةِ وَالْمَغْصُوبِ بِأَهْلِ بَلْدَةٍ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَحْرِيمَ مَا فِي الْبَلَدِ كَمَا إذَا اخْتَلَطَتْ الْأُخْتُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالْمُذَكَّى بِالْمَيِّتِ فَهَذَا الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ ذَبَائِحِهِمْ الْمَجْهُولَةِ الْحَالِ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْجُبْنُ مَصْنُوعًا مِنْ إنْفَحَةِ مَيْتَةٍ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ طَاهِرٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَرَامٌ نَجِسٌ: كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي

ص: 532

الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَالْخِلَافُ مَشْهُورٌ فِي لَبَنِ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتِهَا: هَلْ هُوَ طَاهِرٌ؟ أَمْ نَجِسٌ؟ وَالْمُطَهِّرُونَ احْتَجُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَكَلُوا جُبْنَ الْمَجُوسِ مَعَ كَوْنِ ذَبَائِحِهِمْ مَيِّتَةً وَمَنْ خَالَفَهُمْ نَازَعَهُمْ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَأَمَّا الْجُوخُ فَقَدْ حَكَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَدْهُنُونَهُ بِشَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ لَيْسَ يَفْعَلُ هَذَا بِهِ كُلَّهُ فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي عُمُومِ نَجَاسَةِ الْجُوخِ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ لِإِمْكَانِ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ لَمْ تُصِبْهَا؛ إذْ الْعَيْنُ طَاهِرَةٌ وَمَتَى شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا فَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ وَلَوْ تَيَقَّنَّا نَجَاسَةَ بَعْضِ أَشْخَاصِ نَوْعٍ دُونَ بَعْضٍ لَمْ نَحْكُمْ بِنَجَاسَةِ جَمِيعِ أَشْخَاصِهِ وَلَا بِنَجَاسَةِ مَا شَكَكْنَا فِي تَنَجُّسِهِ: وَلَكِنْ إذَا تَيَقَّنَ النَّجَاسَةَ أَوْ قَصَدَ قَاصِدٌ إزَالَةَ الشَّكِّ فَغَسَلَ الْجُوخَةَ يُطَهِّرُهَا فَإِنَّ ذَلِكَ صُوفٌ أَصَابَهُ دُهْنٌ نَجِسٌ وَإِصَابَةُ الْبَوْلِ وَالدَّمِ لِثَوْبِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ أَشَدُّ وَهُوَ بِهِ أَلْصَقُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {لِمَنْ أَصَابَ دَمُ الْحَيْضِ ثَوْبَهَا حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ} - وَفِي رِوَايَةٍ - {وَلَا يَضُرُّك أَثَرُهُ} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 533

وَسُئِلَ:

عَنْ مَرِيضٍ طُبِخَ لَهُ دَوَاءٌ فَوَجَدَ فِيهِ زِبْلَ الْفَأْرِ؟ .

فَأَجَابَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ هَلْ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ بَعْرِ الْفَأْرِ فَفِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ فَيُؤْكَلُ مَا ذَكَرَ وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ رحمه الله:

أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ كُنَّا فِي مَجْلِسِ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالنَّظَرِ فِي مَدَارِكِ الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ تَصْوِيرًا وَتَقْرِيرًا وَتَأْصِيلًا وَتَفْصِيلًا فَوَقَعَ الْكَلَامُ فِي شَرْحِ الْقَوْلِ فِي‌

‌ حُكْمِ مَنِيِّ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الدَّوَابِّ

الطَّاهِرَةِ وَفِي أَرْوَاثِ الْبَهَائِمِ الْمُبَاحَةِ: أَهِيَ طَاهِرَةٌ؟ أَمْ نَجِسَةٌ؟ عَلَى وَجْهٍ أَحَبَّ أَصْحَابُنَا تَقْيِيدَهُ وَمَا يُقَارِبُهُ مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ فَكَتَبْت لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَأَقُولُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَفَصْلَيْنِ. أَمَّا الْأَصْلُ:

ص: 534

فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي جَمِيعِ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهَا أَنْ تَكُونَ حَلَالًا مُطْلَقًا لِلْآدَمِيِّينَ وَأَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مُلَابَسَتُهَا وَمُبَاشَرَتُهَا وَمُمَاسَّتُهَا وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ وَمَقَالَةٌ عَامَّةٌ وَقَضِيَّةٌ فَاضِلَةٌ عَظِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ وَاسِعَةُ الْبَرَكَةِ يَفْزَعُ إلَيْهَا حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ فِيمَا لَا يُحْصَى مِنْ الْأَعْمَالِ وَحَوَادِثِ النَّاسِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا أَدِلَّةٌ عَشَرَةٌ - مِمَّا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ مِنْ الشَّرِيعَةِ - وَهِيَ: كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْظُومَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وَقَوْلِهِ: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} . ثُمَّ مَسَالِكُ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ وَمَنَاهِجُ الرَّأْيِ وَالِاسْتِبْصَارِ. الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: الْكِتَابُ وَهُوَ عِدَّةُ آيَاتٍ. الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ النَّاسِ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ لِلنَّاسِ مُضَافًا إلَيْهِمْ بِاللَّامِ وَاللَّامُ حَرْفُ الْإِضَافَةِ وَهِيَ تُوجِبُ اخْتِصَاصَ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقَهُ إيَّاهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَصْلُحُ لَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ مَوَارِدَ اسْتِعْمَالِهَا. كَقَوْلِهِمْ: الْمَالُ لِزَيْدِ وَالسَّرْجُ لِلدَّابَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَيَجِبُ إذًا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ مُمَلَّكِينَ مُمَكَّنِينَ لِجَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ

ص: 535

فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَخُصَّ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ وَهِيَ الْخَبَائِثُ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِفْسَادِ لَهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ أَوْ مَعَادِهِمْ فَيَبْقَى الْبَاقِي مُبَاحًا بِمُوجِبِ الْآيَةِ. الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} دَلَّتْ الْآيَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَبَّخَهُمْ وَعَنَّفَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُحِلَّهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْأَشْيَاءُ مُطْلَقَةً مُبَاحَةً لَمْ يَلْحَقْهُمْ ذَمٌّ وَلَا تَوْبِيخٌ إذْ لَوْ كَانَ حُكْمُهَا مَجْهُولًا أَوْ كَانَتْ مَحْظُورَةً لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وَالتَّفْصِيلُ التَّبْيِينُ فَبَيَّنَ أَنَّهُ بَيَّنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَمَا لَمْ يُبَيِّنْ تَحْرِيمَهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ. وَمَا لَيْسَ بِمُحَرَّمِ فَهُوَ حَلَالٌ إذْ لَيْسَ إلَّا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ. الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وَإِذَا كَانَ مَا فِي الْأَرْضِ مُسَخَّرًا لَنَا جَازَ اسْتِمْتَاعُنَا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

ص: 536

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} الْآيَةَ فَمَا لَمْ يَجِدْ تَحْرِيمَهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ وَمَا لَمْ يُحَرَّمْ فَهُوَ حِلٌّ وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ {إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} الْآيَةَ؛ لِأَنَّ حَرْفَ: (إنَّمَا يُوجِبُ حَصْرَ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي؛ فَيَجِبُ انْحِصَارُ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا ذُكِرَ وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمُحِيطِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. الصِّنْفُ الثَّانِي: السُّنَّةُ وَاَلَّذِي حَضَرَنِي مِنْهَا حَدِيثَانِ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ يَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ} . دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَحْرُمُ إلَّا بِتَحْرِيمِ خَاصٍّ لِقَوْلِهِ لَمْ يُحَرَّمْ وَدَلَّ أَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ الْمَسْأَلَةِ فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهَا بِدُونِ ذَلِكَ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً وَهُوَ الْمَقْصُودُ. الثَّانِي: رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: {سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ مِنْ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ فَقَالَ: الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ} . فَمِنْهُ دَلِيلَانِ:

ص: 537

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَفْتَى بِالْإِطْلَاقِ فِيهِ. الثَّانِي قَوْلُهُ: {وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ} نَصَّ فِي أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ وَتَسْمِيَتُهُ هَذَا عَفْوًا كَأَنَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ هُوَ الْإِذْنُ فِي التَّنَاوُلِ بِخِطَابِ خَاصٍّ وَالتَّحْرِيمُ الْمَنْعُ مِنْ التَّنَاوُلِ كَذَلِكَ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ لَمْ يُؤْذِنْ بِخِطَابِ يَخُصُّهُ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ فَيُرْجَعُ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ أَنْ لَا عِقَابَ إلَّا بَعْدَ الْإِرْسَالِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عِقَابٌ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا. وَفِي السُّنَّةِ دَلَائِلُ كَثِيرَةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. الصِّنْفُ الثَّالِثُ: اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَشَهَادَةُ شُهَدَاءِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ الَّذِينَ هُمْ عُدُولُ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ الْمَعْصُومِينَ مِنْ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى ضَلَالَةٍ الْمَفْرُوضِ اتِّبَاعُهُمْ. وَذَلِكَ أَنِّي لَسْت أَعْلَمُ خِلَافَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ السَّالِفَيْنِ: فِي أَنَّ مَا لَمْ يَجِئْ دَلِيلٌ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مَحْجُورٍ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ وَأَحْسَبُ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا كَالْيَقِينِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ فِي ذَلِكَ إجْمَاعٌ وَقَدْ عَلِمْت اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي الْأَعْيَانِ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ هَلْ الْأَصْلُ فِيهَا الْحَظْرُ أَوْ الْإِبَاحَةُ؟ أَوْ لَا يُدْرَى مَا الْحُكْمُ فِيهَا؟ أَوْ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهَا أَصْلًا؟ وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ دَلِيلٌ مُتَّبَعٌ وَأَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي أُصُولِ

ص: 538

الْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْأَعْيَانِ الثَّابِتَ لَهَا قَبْلَ الشَّرْعِ مُسْتَصْحَبٌ بَعْدَ الشَّرْعِ وَأَنَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الْحَظْرُ اسْتَصْحَبَ هَذَا الْحُكْمَ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْحِلِّ؟ ؟ . فَأَقُولُ هَذَا قَوْلٌ مُتَأَخِّرٌ لَمْ يُؤْثَرْ أَصْلُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّابِقِينَ. مِمَّنْ لَهُ قَدَمٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا بَعْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَقَدْ زَالَ حُكْمُ ذَلِكَ الْأَصْلِ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْتهَا وَلَسْت أُنْكِرُ أَنَّ بَعْضَ مَنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يُؤْتَ تَمْيِيزًا فِي مَظَانِّ الِاشْتِبَاهِ رُبَّمَا سَحَبَ ذَيْلَ مَا قَبْلَ الشَّرْعِ عَلَى مَا بَعْدَهُ إلَّا أَنَّ هَذَا غَلَطٌ قَبِيحٌ لَوْ نُبِّهَ لَهُ لَتَنَبَّهَ مِثْلُ الْغَلَطِ فِي الْحِسَابِ لَا يَهْتِكُ حَرِيمَ الْإِجْمَاعِ وَلَا يَثْلِمُ سُنَنَ الِاتِّبَاعِ. وَلَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ: هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ أَمْ مُمْتَنِعَةٌ؟ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَخْلُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ إذْ كَانَ آدَمَ نَبِيًّا مُكَلَّمًا حَسَبَ اخْتِلَافِهِمْ فِي جَوَازِ خُلُوِّ الْأَقْطَارِ عَنْ حُكْمٍ مَشْرُوعٍ وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ عِنْدَنَا جَوَازُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَضَهَا فِيمَنْ وُلِدَ بِجَزِيرَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يُبَيِّنُ لَك أَنْ لَا عَمَلَ بِهَا وَأَنَّهَا نَظَرٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ عَمَلٌ كَالْكَلَامِ فِي مَبْدَإِ اللُّغَاتِ وَشِبْهِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا رَادَّ لَهُ

ص: 539

أَنَّ قَبْلَ الشَّرْعِ لَا تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ فَإِذْ لَا تَحْرِيمَ يُسْتَصْحَبُ وَيُسْتَدَامُ فَيَبْقَى الْآنَ كَذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ خُلُوُّهَا عَنْ الْمَآثِمِ وَالْعُقُوبَاتِ. وَأَمَّا مَسْلَكُ الِاعْتِبَارِ بِالْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي الْأُصُولِ الْجَوَامِعِ فَمِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ نُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِهَا. أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَجَعَلَ فِيهَا لِلْإِنْسَانِ مَتَاعًا وَمَنْفَعَةً. وَمِنْهَا مَا قَدْ يُضْطَرُّ إلَيْهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ جَوَادٌ مَاجِدٌ كَرِيمٌ رَحِيمٌ غَنِيٌّ صَمَدٌ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يُعَاقِبُهُ وَلَا يُعَذِّبُهُ عَلَى مُجَرَّدِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا مَنْفَعَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ مَضَرَّةٍ فَكَانَتْ مُبَاحَةً كَسَائِرِ مَا نُصَّ عَلَى تَحْلِيلِهِ وَهَذَا الْوَصْفُ قَدْ دَلَّ عَلَى تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ النَّصُّ وَهُوَ قَوْلُهُ {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} . فَكُلُّ مَا نَفَعَ فَهُوَ طَيِّبٌ وَكُلُّ مَا ضَرَّ فَهُوَ خَبِيثٌ. وَالْمُنَاسَبَةُ الْوَاضِحَةُ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ أَنَّ النَّفْعَ يُنَاسِبُ التَّحْلِيلَ وَالضَّرَرَ يُنَاسِبُ التَّحْرِيمَ وَالدَّوَرَانَ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ يَدُورُ مَعَ الْمَضَارِّ: وُجُودًا فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَذَوَاتِ الْأَنْيَابِ وَالْمَخَالِبِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَضُرُّ بِأَنْفُسِ النَّاسِ وَعَدَمًا فِي الْأَنْعَامِ وَالْأَلْبَانِ وَغَيْرِهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا حُكْمٌ أَوْ لَا يَكُونَ

ص: 540

وَالْأَوَّلُ صَوَابٌ وَالثَّانِي بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَإِذَا كَانَ لَهَا حُكْمٌ فَالْوُجُوبُ وَالْكَرَاهَةُ وَالِاسْتِحْبَابُ مَعْلُومَةُ الْبُطْلَانِ بِالْكُلِّيَّةِ: لَمْ يَبْقَ إلَّا الْحِلُّ. وَالْحُرْمَةُ بَاطِلَةٌ لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهَا نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا لَمْ يَبْقَ إلَّا الْحِلُّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ: الْأَصْلُ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الطَّاهِرَ مَا حَلَّ مُلَابَسَتُهُ وَمُبَاشَرَتُهُ وَحَمْلُهُ فِي الصَّلَاةِ. وَالنَّجِسُ بِخِلَافِهِ وَأَكْثَرُ الْأَدِلَّةِ السَّالِفَةِ تَجْمَعُ جَمِيعَ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَشْيَاءِ: أَكْلًا وَشُرْبًا وَلُبْسًا وَمَسًّا وَغَيْرَ ذَلِكَ. فَثَبَتَ دُخُولُ الطَّهَارَةِ فِي الْحِلِّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَالْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ نَافِلَةٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ أَكْلِهَا وَشُرْبِهَا فَلِأَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مُلَابَسَتُهَا وَمُخَالَطَتُهَا الْخَلْقَ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّعَامَ يُخَالِطُ الْبَدَنَ وَيُمَازِجُهُ وَيَنْبُتُ مِنْهُ فَيَصِيرُ مَادَّةً وَعُنْصُرًا لَهُ فَإِذَا كَانَ خَبِيثًا صَارَ الْبَدَنُ خَبِيثًا فَيَسْتَوْجِبُ النَّارَ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {كُلُّ جِسْمٍ نَبَتَ مَنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ} . وَالْجَنَّةُ طَيِّبَةٌ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا طَيِّبٌ. وَأَمَّا مَا يُمَاسُّ الْبَدَنَ وَيُبَاشِرُهُ فَيُؤَثِّرُ أَيْضًا فِي الْبَدَنِ مِنْ ظَاهِرٍ كَتَأْثِيرِ الْأَخْبَاثِ فِي أَبْدَانِنَا وَفِي ثِيَابِنَا الْمُتَّصِلَةِ بِأَبْدَانِنَا: لَكِنَّ تَأْثِيرَهَا دُونَ تَأْثِيرِ الْمُخَالِطِ الْمُمَازِجِ. فَإِذَا ثَبَتَ حِلُّ مُخَالَطَةِ الشَّيْءِ وَمُمَازَجَتِهِ فَحِلُّ

ص: 541

مُلَابَسَتِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ أَوْلَى وَهَذَا قَاطِعٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ. وَطَرْدُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا حُرِّمَ مُبَاشَرَتُهُ وَمُلَابَسَتُهُ حُرِّمَ مُخَالَطَتُهُ وَمُمَازَجَتُهُ وَلَا يَنْعَكِسُ. فَكُلُّ نَجِسٍ مُحَرَّمٌ الْأَكْلُ وَلَيْسَ كُلُّ مُحَرَّمٍ الْأَكْلُ نَجِسًا. وَهَذَا فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْفُقَهَاءَ كُلَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ وَأَنَّ النَّجَاسَاتِ مُحْصَاةٌ مُسْتَقْصَاةٌ وَمَا خَرَجَ عَنْ الضَّبْطِ وَالْحَصْرِ فَهُوَ طَاهِرٌ كَمَا يَقُولُونَهُ فِيمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَيُوجِبُ الْغُسْلَ وَمَا لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ وَشِبْهُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ غَايَةُ الْمُتَقَابِلَاتِ. تَجِدُ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ فِيهَا مَحْصُورًا مَضْبُوطًا وَالْجَانِبَ الْآخَرَ مُطْلَقٌ مُرْسَلٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْهَادِي لِلصَّوَابِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ:

الْقَوْلُ فِي طَهَارَةِ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ الَّتِي لَمْ تَحْرُمْ وَعَلَى ذَلِكَ عِدَّةُ أَدِلَّةٍ.

الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ الْجَامِعَ طَهَارَةُ جَمِيعِ الْأَعْيَانِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ نَجَاسَتُهَا فَكُلُّ مَا لَمْ يُبَيَّنْ لَنَا أَنَّهُ نَجِسٌ فَهُوَ طَاهِرٌ وَهَذِهِ الْأَعْيَانُ لَمْ يُبَيَّنْ لَنَا نَجَاسَتُهَا فَهِيَ طَاهِرَةٌ. أَمَّا الرُّكْنُ الْأَوَّلُ مِنْ الدَّلِيلِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالْبَرَاهِينِ الْبَاهِرَةِ وَالْحُجَجِ الْقَاهِرَةِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَنَقُولُ: إنَّ الْمَنْفِيَّ عَلَى

ص: 542

ضَرْبَيْنِ: نَفْيٌ نَحْصُرُهُ وَنُحِيطُ بِهِ كَعِلْمِنَا بِأَنَّ السَّمَاءَ لَيْسَ فِيهَا شَمْسَانِ وَلَا قَمَرَانِ طَالِعَانِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا إلَّا قِبْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ؛ بَلْ عِلْمِنَا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مَا لَيْسَ بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ لَيْسَ بِقُرْآنِ وَأَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ إلَّا صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَعِلْمِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي (1) دَرَاهِمَ قَبْلُ (2) وَلَا تَغَيَّرَ وَأَنَّهُ لَمْ يُطْعَمْ وَأَنَّهُ الْبَارِحَةَ لَمْ يَنَمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ عَدُّهُ. فَهَذَا كُلُّهُ نَفْيٌ مُسْتَيْقَنٌ يُبَيِّنُ خَطَأَ مَنْ يُطْلِقُ قَوْلَهُ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ. الثَّانِي: مَا لَا يُسْتَيْقَنُ نَفْيُهُ وَعَدَمُهُ. ثُمَّ مِنْهُ مَا يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ وَيَقْوَى فِي الرَّأْيِ وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. فَإِذَا رَأَيْنَا حُكْمًا مَنُوطًا يَنْفِي مِنْ الصِّنْفِ الثَّانِي فَالْمَطْلُوبِ أَنْ نَرَى النَّفْيَ وَيَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِنَا. وَالِاسْتِدْلَالُ بِالِاسْتِصْحَابِ وَبِعَدَمِ الْمُخَصِّصِ وَعَدَمِ الْمُوجِبِ لِحَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى مَجَازِهِ هُوَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ. فَإِذَا بَحَثْنَا وَسَبَرْنَا عَمَّا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا مُنْذُ مِئَاتٍ مِنْ السِّنِينَ فَلَمْ نَجِدْ فِيهَا إلَّا أَدِلَّةً مَعْرُوفَةً. شَهِدْنَا شَهَادَةً جَازِمَةً فِي هَذَا الْمَقَامِ بِحَسَبِ عِلْمِنَا أَنْ لَا دَلِيلَ إلَّا ذَلِكَ. فَنَقُولُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الدَّلِيلِ إنَّمَا يَتِمُّ بِفَسْخِ مَا اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ

(1)

بياض بالأصل

(2)

كذا بالأصل

ص: 543

وَنَقْضِ ذَلِكَ وَقَدْ اُحْتُجَّ لِذَلِكَ بِمَسْلَكَيْنِ: أَثَرِيٍّ وَنَظَرِيٍّ: أَمَّا الْأَثَرِيُّ: فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ. أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ} - وَرُوِيَ {لَا يَسْتَنْزِهُ -} وَالْبَوْلُ اسْمُ جِنْسٍ مُحَلًّى بِاللَّامِ فَيُوجِبُ الْعُمُومَ. كَالْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: {إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} {إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} فَإِنَّ الْمُرْتَضَى أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ تَقْتَضِي مِنْ الْعُمُومِ مَا تَقْتَضِيهِ أَسْمَاءُ الْجُمُوعِ لَسْت أَقُولُ: الْجِنْسُ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ وَاحِدِهِ وَكَثِيرِهِ الْهَاءُ: كَالتَّمْرِ وَالْبُرِّ وَالشَّجَرِ فَإِنَّ حُكْمَ تِلْكَ حُكْمُ الْجُمُوعِ بِلَا رَيْبٍ. وَإِنَّمَا أَقُولُ: اسْمُ الْجِنْسِ الْمُفْرَدِ الدَّالِّ عَلَى الشَّيْءِ وَعَلَى مَا أَشْبَهَهُ: كَإِنْسَانِ وَرَجُلٍ وَفَرَسٍ وَثَوْبٍ وَشِبْهِ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَخْبَرَ بِالْعَذَابِ مَنْ جِنْسِ الْبَوْلِ وَجَبَ الِاحْتِرَازُ وَالتَّنَزُّهُ مِنْ جِنْسِ الْبَوْلِ فَيَجْمَعُ ذَلِكَ أَبْوَالَ جَمِيعِ الدَّوَابِّ وَالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ وَالْبَهِيمِ مَا يُؤْكَلُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ فَيَدْخُلُ بَوْلُ الْأَنْعَامِ فِي هَذَا الْعُمُومِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ. وَهَذَا قَدْ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الِاسْتِدْلَالَ بِالسَّمْعِ وَبَعْضِ الرَّأْيِ وَارْتَضَاهُ بَعْضُ مَنْ يتكايس وَجَعَلَهُ مَفْزَعًا وَمَوْئِلًا.

ص: 544

الْمَسْلَكُ الثَّانِي النَّظَرِيُّ: وَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: الْقِيَاسُ عَلَى الْبَوْلِ الْمُحَرَّمِ فَنَقُولُ: بَوْلٌ وَرَوْثٌ فَكَانَ نَجِسًا كَسَائِرِ الْأَبْوَالِ فَيَحْتَاجُ هَذَا الْقِيَاسُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ هُوَ أَنَّهُ بَوْلٌ وَرَوْثٌ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ تَنْبِيهَاتُ النُّصُوصِ مِثْلُ قَوْلِهِ: {اتَّقُوا الْبَوْلَ} وَقَوْلِهِ: {كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ إذَا أَصَابَ ثَوْبُ أَحَدِهِمْ الْبَوْلَ قَرَضَهُ بِالْمِقْرَاضِ} . وَالْمُنَاسَبَةُ أَيْضًا: فَإِنَّ الْبَوْلَ وَالرَّوْثَ مُسْتَخْبَثٌ مُسْتَقْذَرٌ تَعَافُهُ النُّفُوسُ عَلَى حَدٍّ يُوجِبُ الْمُبَايَنَةَ وَهَذَا يُنَاسِبُ التَّحْرِيمَ حَمْلًا لِلنَّاسِ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَحْوَالِ وَقَدْ شَهِدَ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ تَنَجُّسُ أَرْوَاثِ الْخَبَائِثِ.

الثَّانِي أَنْ نَقُولَ: إذَا فَحَصْنَا وَبَحَثْنَا عَنْ الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ النَّجَاسَاتِ والطهارات؛ وَجَدْنَا مَا اسْتَحَالَ فِي أَبْدَانِ الْحَيَوَانِ عَنْ أَغْذِيَتِهَا فَمَا صَارَ جُزْءًا فَهُوَ طَيِّبُ الْغِذَاءِ وَمَا فُضِّلَ فَهُوَ خَبِيثُهُ وَلِهَذَا يُسَمَّى رَجِيعًا. كَأَنَّهُ أَخَذَ ثُمَّ رَجَعَ أَيْ رَدَّ. فَمَا كَانَ مِنْ الْخَبَائِثِ يَخْرُجُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَسْفَلِ: كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ وَالْوَذْي وَالْوَدْيِ فَهُوَ نَجِسٌ. وَمَا خَرَجَ مِنْ الْجَانِبِ الْأَعْلَى: كَالدَّمْعِ وَالرِّيقِ وَالْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ وَنُخَامَةِ الرَّأْسِ فَهُوَ طَاهِرٌ. وَمَا تَرَدَّدَ كَبَلْغَمِ الْمَعِدَةِ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ.

ص: 545

وَهَذَا الْفَصْلُ بَيْنَ مَا خَرَجَ مِنْ أَعْلَى الْبَدَنِ وَأَسْفَلِهِ قَدْ جَاءَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ الضَّيِّقِ. الَّذِي لَمْ يُفْقَهْ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى زَعَمَ زَاعِمُونَ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ وَابْتِلَاءٌ وَتَمْيِيزٌ بَيْنَ مَنْ يُطِيعُ وَبَيْنَ مَنْ يَعْصِي. وَعِنْدَنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ بِمُفْرَدِهِ حَتَّى يُضَمَّ إلَيْهِ أَشْيَاءُ أُخَرُ فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا اسْتَحَالَ فِي مَعِدَةِ الْحَيَوَانِ كَالرَّوْثِ وَالْقَيْءِ وَمَا اسْتَحَالَ مِنْ مَعِدَتِهِ كَاللَّبَنِ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ: فَهَذِهِ الْأَبْوَالُ وَالْأَرْوَاثُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ فِي بَدَنِ الْحَيَوَانِ وَيُنْصَعُ طَيِّبُهُ وَيَخْرُجُ خَبِيثُهُ مِنْ جِهَةِ دُبُرِهِ وَأَسْفَلِهِ وَيَكُونُ نَجِسًا. فَإِنْ فُرِّقَ بِطَيِّبِ لَحْمِ الْمَأْكُولِ وَخُبْثِ لَحْمِ الْمُحَرَّمِ فَيُقَالُ: طَيِّبُ الْحَيَوَانِ وَشَرَفُهُ وَكَرَمُهُ لَا يُوجِبُ طَهَارَةَ رَوْثِهِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا حَرَّمَ لَحْمَهُ كَرَامَةً لَهُ وَشَرَفًا وَمَعَ ذَلِكَ فَبَوْلُهُ أَخْبَثُ الْأَبْوَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إنَّ مُفَارَقَةَ الْحَيَاةِ لَا تُنَجِّسُهُ وَأَنَّ مَا أُبِينَ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ فَهُوَ طَاهِرٌ أَيْضًا كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ وَإِنْ لَمْ يُؤْكَلْ لَحْمُهُ فَلَوْ كَانَ إكْرَامُ الْحَيَوَانِ مُوجِبًا لِطَهَارَةِ رَوْثِهِ لَكَانَ الْإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ الْقَدَحِ الْمُعَلَّى. وَهَذَا سِرُّ الْمَسْأَلَةِ وَلُبَابُهَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ فِي الدَّرَجَةِ السُّفْلَى مِنْ الِاسْتِخْبَاثِ وَالطَّبَقَةِ

ص: 546

النَّازِلَةِ مِنْ الِاسْتِقْذَارِ. كَمَا شَهِدَ بِهِ أَنْفُسُ النَّاسِ. وَتَجِدُهُ طَبَائِعُهُمْ وَأَخْلَاقُهُمْ حَتَّى لَا نَكَادَ نَجِدُ أَحَدًا يُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ دُرِّ الْحَيَوَانِ وَنَسْلِهِ وَلَيْسَ لَنَا إلَّا طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ وَإِذَا فَارَقَ الطهارات دَخَلَ فِي النَّجَاسَاتِ وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النَّجَاسَاتِ. مِنْ مُبَاعَدَتِهِ وَمُجَانَبَتِهِ فَلَا يَكُونُ طَاهِرًا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ إذَا تَجَاذَبَتْهَا الْأُصُولُ لَحِقَتْ بِأَكْثَرِهَا شَبَهًا وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ اللَّبَنِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْبَوْلِ وَهُوَ بِهَذَا أَشْبَهُ. وَيُقَوِّي هَذَا أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ فَكَذَلِكَ الْفَرْثُ لِتَظْهَرَ الْقُدْرَةُ وَالرَّحْمَةُ فِي إخْرَاجِ طَيِّبٍ مِنْ بَيْنِ خَبِيثَيْنِ. وَيُبَيِّنُ هَذَا جَمِيعَهُ أَنَّهُ يُوَافِقُ غَيْرَهُ مِنْ الْبَوْلِ فِي خَلْقِهِ وَلَوْنِهِ وَرِيحِهِ وَطَعْمِهِ فَكَيْفَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مَعَ هَذِهِ الْجَوَامِعِ الَّتِي تَكَادُ تَجْعَلُ حَقِيقَةَ أَحَدِهِمَا حَقِيقَةَ الْآخَرِ. فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قِيَاسُ التَّمْثِيلِ وَتَعْلِيقُ الْحَكَمِ بِالْمُشْتَرَكِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: قِيَاسُ التَّعْلِيلِ بِتَنْقِيحِ مَنَاطِ الْحُكْمِ وَضَبْطِ أَصْلٍ كُلِّيٍّ. وَالثَّالِثُ: التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِنْسِ الطَّاهِرَاتِ فَلَا يَجُوزُ إدْخَالُهُ فِيهَا فَهَذِهِ أَنْوَاعُ الْقِيَاسِ. أَصْلٌ وَوَصْلٌ وَفَصْلٌ. فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: هُوَ الْأَصْلُ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَخْبَاثِ.

ص: 547

وَالثَّانِي: هُوَ الْأَصْلُ وَالْقَاعِدَةُ وَالضَّابِطُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: الْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الطَّاهِرَاتِ وَهُوَ قِيَاسُ الْعَكْسِ فَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْحُجَجِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. أَمَّا الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: فَضَعِيفٌ جِدًّا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّامَ فِي الْبَوْلِ لِلتَّعْرِيفِ فَتُفِيدُ مَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُخَاطِبِينَ فَإِنْ كَانَ الْمَعْرُوفُ وَاحِدًا مَعْهُودًا فَهُوَ الْمُرَادُ وَمَا لَمْ يَكُنْ ثُمَّ عَهِدَ بِوَاحِدِ أَفَادَتْ الْجِنْسَ إمَّا جَمِيعُهُ عَلَى الْمُرْتَضَى أَوْ مُطْلَقُهُ عَلَى رَأْيِ بَعْضِ النَّاسِ وَرُبَّمَا كَانَتْ كَذَلِكَ. وَقَدْ نَصَّ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاللِّسَانِ وَالنَّظَرِ فِي دَلَالَاتِ الْخِطَابِ أَنَّهُ لَا يُصَارُ إلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ ثُمَّ شَيْءٌ مَعْهُودٌ فَأَمَّا إذَا كَانَ ثُمَّ شَيْءٌ مَعْهُودٌ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} صَارَ مَعْهُودًا بِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ وَقَوْلِهِ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} هُوَ مُعَيَّنٌ لِأَنَّهُ مَعْهُودٌ بِتَقَدُّمِ مَعْرِفَتِهِ وَعِلْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِتَعْرِيفِ جِنْسِ ذَلِكَ الِاسْمِ حَتَّى يَنْظُرَ فِيهِ هَلْ يُفِيدُ تَعْرِيفَ عُمُومِ الْجِنْسِ أَوْ مُطْلَقَ الْجِنْسِ فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ مَحَاسِنِ الْمَسَالِكِ. فَإِنَّ الْحَقَائِقَ ثَلَاثَةٌ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ وَمُطْلَقَةٌ. فَإِذَا قُلْت الْإِنْسَانَ قَدْ تُرِيدُ جَمِيعَ الْجِنْسِ وَقَدْ تُرِيدُ مُطْلَقَ

ص: 548

الْجِنْسِ وَقَدْ تُرِيدُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ مِنْ الْجِنْسِ. فَأَمَّا الْجِنْسُ الْعَامُّ: فَوُجُودُهُ فِي الْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَتَصَوُّرًا. وَأَمَّا الْخَاصُّ مِنْ الْجِنْسِ: مِثْلُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو فَوُجُودُهُ هُوَ حَيْثُ حَلَّ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَفِي خَارِجِ الْأَذْهَانِ وَقَدْ يُتَصَوَّرُ هَكَذَا فِي الْقَلْبِ خَاصًّا مُتَمَيِّزًا. وَأَمَّا الْجِنْسُ الْمُطْلَقُ مِثْلَ الْإِنْسَانِ الْمُجَرَّدِ عَنْ عُمُومٍ وَخُصُوصٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ وَمُطْلَقُ الْجِنْسِ فَهَذَا كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ فِي نَفْسِهِ لَا يَتَقَيَّدُ بِمَحَلِّهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُدْرَكُ إلَّا بِالْقُلُوبِ فَتُجْعَلُ مَحَلًّا لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَرُبَّمَا جُعِلَ مَوْجُودًا فِي الْأَعْيَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِي كُلِّ إنْسَانٍ حَظًّا مِنْ مُطْلَقِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَالْمَوْجُودُ فِي الْعَيْنِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ النَّوْعِ حَظُّهَا وَقِسْطُهَا. فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ الْبَوْلِ بَيَانٌ لِلْبَوْلِ الْمَعْهُودِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُصِيبُهُ وَهُوَ بَوْلُ نَفْسِهِ. يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا سَبْعَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ {فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ الْبَوْلِ} وَالِاسْتِبْرَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ بَوْلِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ طَلَبُ بَرَاءَةِ الذَّكَرِ كَاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ مِنْ الْوَلَدِ.

ص: 549

الثَّانِي: أَنَّ اللَّامَ تُعَاقِبُ الْإِضَافَةَ فَقَوْلُهُ: {مِنْ الْبَوْلِ} كَقَوْلِهِ: مِنْ بَوْلِهِ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} أَيْ أَبْوَابُهَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وُجُوهٍ صَحِيحَةٍ {فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ} وَهَذَا يُفَسِّرُ تِلْكَ الرِّوَايَةَ. ثُمَّ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي اللَّفْظِ مُتَأَخِّرٌ: عَنْ مَنْصُورٍ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحَدِّثَ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ وَالْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ تَكَرُّرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعُلِمَ أَنَّهُمْ رَوَوْهُ بِالْمَعْنَى وَلَمْ يَبِنْ أَيُّ اللَّفْظَيْنِ هُوَ الْأَصْلُ. ثُمَّ إنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ اللَّفْظَيْنِ مَعَ أَنَّ مَعْنَى أَحَدِهِمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَعْنَى الْآخَرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا فَالظَّاهِرُ الْمُوَافَقَةُ. يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْحَدِيثَ فِي حِكَايَةِ حَالٍ لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَبْرَيْنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ أَنَّ الْبَوْلَ كَانَ يُصِيبُهُ وَلَا يَسْتَتِرُ مِنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ بَوْلُ نَفْسِهِ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْحَسَنَ قَالَ: الْبَوْلُ كُلُّهُ نَجِسٌ وَقَالَ أَيْضًا لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْغَنَمِ فَعُلِمَ أَنَّ الْبَوْلَ الْمُطْلَقَ عِنْدَهُ هُوَ بَوْلُ الْإِنْسَانِ.

ص: 550

السَّادِسُ: أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ لِلسَّامِعِ عِنْدَ تَجَرُّدِ قَلْبِهِ عَنْ الْوَسْوَاسِ وَالتَّمْرِيحِ فَإِنَّهُ لَا يَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ إلَّا بَوْلَ نَفْسِهِ. وَلَوْ قِيلَ: أَنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ لِأَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى بَالِهِمْ جَمِيعُ الْأَبْوَالِ: مِنْ بَوْلِ بَعِيرٍ. وَشَاةٍ وَثَوْرٍ لَكَانَ صِدْقًا. السَّابِعُ: أَنَّهُ يَكْفِي بِأَنْ يُقَالَ: إذَا احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ بَوْلَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ وَأَنْ يُرِيدَ جَمِيعَ جِنْسِ الْبَوْلِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلِ فَيَقِفُ الِاسْتِدْلَالُ. وَهَذَا لَعَمْرِي تَنْزِلُ وَإِلَّا فَاَلَّذِي قَدَّمْنَا أَصْلٌ مُسْتَقِرٌّ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْبَوْلِ الْمَعْهُودِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَوْلِ وَهُوَ بَوْلُ نَفْسِهِ الَّذِي يُصِيبُهُ غَالِبًا وَيَتَرَشْرَشُ عَلَى أَفْخَاذِهِ وَسُوقِهِ وَرُبَّمَا اسْتَهَانَ بِإِنْقَائِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ الِاسْتِنْجَاءَ مِنْهُ فَأَمَّا بَوْلُ غَيْرِهِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ فَإِنَّ حُكْمَهُ وَإِنْ سَاوَى حُكْمَ بَوْلِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ بَلْ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالِاسْتِوَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ يُوجِبُ الِاسْتِوَاءَ فِي الْحُكْمِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَكَادُ يُصِيبُهُ بَوْلُ غَيْرِهِ وَلَوْ أَصَابَهُ لَسَاءَهُ ذَلِكَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ مَوْجُودٍ غَالِبٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {اتَّقُوا الْبَوْلَ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ} فَكَيْفَ يَكُونُ عَامَّةُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ شَيْءٍ لَا يَكَادُ يُصِيبُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ وَهَذَا بَيِّنٌ لَا خَفَاءَ بِهِ.

ص: 551

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيع الْأَبْوَالِ فَسَوْفَ نَذْكُرُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ عَلَى طَهَارَةِ هَذَا النَّوْعِ مَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ مِنْ هَذَا الِاسْمِ الْعَامِّ وَمَعْلُومٌ مِنْ الْأُصُولِ الْمُسْتَقِرَّةِ إذَا تَعَارَضَ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ فَالْعَمَلُ بِالْخَاصِّ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ إبْطَالٌ لَهُ وَإِهْدَارٌ وَالْعَمَلُ بِهِ تَرْكٌ لِبَعْضِ مَعَانِي الْعَامِّ وَلَيْسَ اسْتِعْمَالُ الْعَامِّ وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ بِبِدَعِ فِي الْكَلَامِ بَلْ هُوَ غَالِبٌ كَثِيرٌ. وَلَوْ سَلَّمْنَا التَّعَارُضَ عَلَى التَّسَاوِي مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ فِي أَدِلَّتِنَا مِنْ الْوُجُوهِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّرْجِيحِ وُجُوهًا أُخْرَى مِنْ الْكَثْرَةِ وَالْعَمَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْ عَجِيبِ مَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم {أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْبَوْلِ} . وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ إصَابَةَ الْإِنْسَانِ بَوْلَ غَيْرِهِ قَلِيلٌ نَادِرٌ وَإِنَّمَا الْكَثِيرُ إصَابَتُهُ بَوْلُ نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ أَرَادَ أَنْ يُدْرِجَ بَوْلَهُ فِي الْجِنْسِ الَّذِي يَكْثُرُ وُقُوعُ الْعَذَابِ بِنَوْعِ مِنْهُ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ. وَاعْتَمَدَ أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ} يَعْنِي الْبَوْلَ وَالنَّجْوَ. وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا يُفِيدُ تَسْمِيَةَ كُلِّ بَوْلٍ وَنَجْوٍ أَخْبَثَ

ص: 552

وَالْأَخْبَثُ حَرَامٌ نَجِسٌ وَهَذَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ. فَإِنَّ اللَّفْظَ لَيْسَ فِيهِ شُمُولٌ لِغَيْرِ مَا يُدَافِعُ أَصْلًا. وَقَوْلُهُ: " إنَّ الِاسْمَ يَشْمَلُ الْجِنْسَ كُلَّهُ. فَيُقَالُ لَهُ: وَمَا الْجِنْسُ الْعَامُّ؟ أَكُلُّ بَوْلٍ وَنَجْوٍ؟ أَمْ بَوْلِ الْإِنْسَانِ وَنَجْوِهِ؟ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِي يُدَافِعُ كُلَّ شَخْصٍ مِنْ جِنْسِ الَّذِي يُدَافِعُ غَيْرُهُ فَأَمَّا مَا لَا يُدَافِعُ أَصْلًا فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ فَهَذِهِ عُمْدَةُ الْمُخَالِفِ. وَأَمَّا الْمَسْلَكُ النَّظَرِيُّ: فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ: مُجْمَلٍ وَمُفَصَّلٍ. أَمَّا الْمُفَصَّلُ فَالْجَوَابُ عَنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ بَوْلٌ وَرَوْثٌ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَنْبِيهِ النُّصُوصِ فَقَدْ سَلَفَ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا بَوْلُ الْإِنْسَانِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ فَنَقُولُ: التَّعْلِيلُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ بِجِنْسِ اسْتِخْبَاثِ النَّفْسِ وَاسْتِقْذَارِهَا أَوْ بِقَدْرِ مَحْدُودٍ مِنْ الِاسْتِخْبَاثِ وَالِاسْتِقْذَارِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ: وَجَبَ تَنْجِيسُ كُلِّ مُسْتَخْبَثٍ مُسْتَقْذَرٍ فَيَجِبُ نَجَاسَةُ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالنُّخَامَةِ؛ بَلْ نَجَاسَةُ الْمَنِيِّ الَّذِي جَاءَ الْأَثَرُ بِإِمَاطَتِهِ مِنْ الثِّيَابِ؛ بَلْ رُبَّمَا نَفَرَتْ النُّفُوسُ عَنْ بَعْضِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَشَدُّ مِنْ نُفُورِهَا عَنْ أَرْوَاثِ الْمَأْكُولِ مِنْ الْبَهَائِمِ مِثْلَ مَخْطَةِ الْمَجْذُومِ إذَا اخْتَلَطَتْ

ص: 553

بِالطَّعَامِ وَنُخَامَةُ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ إذَا وُضِعَتْ فِي الشَّرَابِ وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مَدْعَاةً لِبَعْضِ الْأَنْفُسِ إلَى أَنْ يَذْرَعَهُ الْقَيْءُ. وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيلُ بِقَدْرِ مُوَقَّتٍ مِنْ الِاسْتِقْذَارِ فَهَذَا قَدْ يَكُونُ حَقًّا لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَدْرِ مِنْ الِاسْتِخْبَاثِ الْمُوجِبِ لِلتَّنْجِيسِ وَبَيْنَ مَا لَا يُوجِبُ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ وَلَعَلَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ مِمَّا يَنْقُضُ بَيَانَ اسْتِقْذَارِهَا الْحَدُّ الْمُعْتَبَرُ. ثُمَّ إنَّ التَّقْدِيرَاتِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْأَحْكَامِ إنَّمَا تُعْلَمُ مِنْ جِهَةِ اسْتِقْذَارِهَا عَنْ الشَّرْعِ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ فَنَقُولُ: مَتَى حُكِمَ بِنَجَاسَةِ نَوْعٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ مِمَّا غَلُظَ اسْتِخْبَاثُهُ وَمَتَى لَمْ يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ نَوْعٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَغْلُظْ اسْتِخْبَاثُهُ فَنَعُودُ مُسْتَدِلِّينَ بِالْحُكْمِ عَلَى الْمُعْتَبَرِ مِنْ الْعِلَّةِ فَمَتَى اسْتَرَبْنَا فِي الْحُكْمِ فَنَحْنُ فِي الْعِلَّةِ أَشَدُّ اسْتِرَابَةً فَبَطَلَ هَذَا. وَأَمَّا الشَّاهِدُ بِالِاعْتِبَارِ فَكَمَا أَنَّهُ شَهِدَ لِجِنْسِ الِاسْتِخْبَاثِ شَهِدَ لِلِاسْتِخْبَاثِ الشَّدِيدِ وَالِاسْتِقْذَارِ الْغَلِيظِ. وَثَانِيهِمَا أَنْ نَقُولَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ؟ وَهَذِهِ عِلَّةٌ مُطَّرِدَةٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنَّا وَمِنْ الْمُخَالِفِينَ. فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالِانْعِكَاسُ إنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَقَدْ حَصَلَ الْغَرَضُ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِي الْعِلَلِ فَنَقُولُ فِيهِ مَا قَالُوا فِي اطِّرَادِ الْعِلَّةِ وَأَوْلَى حَيْثُ خُولِفُوا فِيهِ

ص: 554

وَعَدَمُ الِانْعِكَاسِ أَيْسَرُ مِنْ عَدَمِ الِاطِّرَادِ. وَإِذَا افْتَرَقَ الصِّنْفَانِ فِي اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَاللَّبَنِ وَالشَّعْرِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ افْتِرَاقُهُمَا فِي الرَّوْثِ وَالْبَوْلِ وَهَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ أَبْيَنُ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ هُوَ بَعْضٌ مِنْ أَبِعَاضِ الْبَهِيمَةِ أَوْ مُتَوَلَّدٍ مِنْهَا فَيَلْحَقُ سَائِرَهَا قِيَاسًا لِبَعْضِ الشَّيْءِ عَلَى جُمْلَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَنْقُوضٌ بِالْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ وَلَبَنُهُ طَاهِرٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَمْوَاهِهِ وَفَضَلَاتِهِ وَمَعَ هَذَا فَرَوْثُهُ وَبَوْلُهُ مِنْ أَخْبَثِ الْأَخْبَاثِ فَحَصَلَ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِ. فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ فَارَقَ غَيْرَهُ مِنْ الْحَيَوَانِ فِي هَذَا الْبَابِ طَرْدًا وَعَكْسًا فَقِيَاسُ الْبَهَائِمِ بَعْضُهَا بِبَعْضِ وَجَعْلُهَا فِي حَيِّزٍ يُبَايِنُ حَيِّزَ الْإِنْسَانِ وَجُعِلَ الْإِنْسَانُ فِي حَيِّزٍ هُوَ الْوَاجِبُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ عَلَى الْمُخْتَارِ وَهِيَ تَنْجُسُ بِالْمَوْتِ ثُمَّ بَوْلُهُ أَشَدُّ مِنْ بَوْلِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ تَحْرِيمَهُ مُفَارِقٌ لِتَحْرِيمِ غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ لِكَرَمِ نَوْعِهِ وَحُرْمَتِهِ حَتَّى يُحَرِّمَ الْكَافِرُ وَغَيْرُهُ وَحَتَّى لَا يَحِلَّ أَنْ يُدْبَغُ جِلْدُهُ مَعَ أَنَّ بَوْلَهُ أَشَدُّ وَأَغْلَظُ فَهَذَا وَغَيْرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَوْلَ الْإِنْسَانِ فَارَقَ سَائِرَ فَضَلَاتِهِ أَشَدَّ مِنْ مُفَارَقَةِ بَوْلِ الْبَهَائِمِ فَضَلَاتُهَا إمَّا لِعُمُومِ

ص: 555

مُلَابَسَتِهِ حَتَّى لَا يَسْتَخِفَّ بِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ فِي عَذِرَةِ الْإِنْسَانِ وَبَوْلِهِ مِنْ الْخَبَثِ وَالنَّتِنِ وَالْقَذِرِ مَا لَيْسَ فِي عَامَّةِ الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ. وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِلْحَاقُ الْأَبْوَالِ بِاللُّحُومِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ أَحْسَنُ طَرْدًا مِنْ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَنَقُولُ ذَلِكَ الْأَصْلُ فِي الْآدَمِيِّينَ مُسَلَّمٌ وَاَلَّذِي جَاءَ عَنْ السَّلَفِ إنَّمَا جَاءَ فِيهِمْ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ وَخُرُوجُهُ مِنْ الشِّقِّ الْأَعْلَى أَوْ الْأَسْفَلِ فَمِنْ أَيْنَ يُقَالُ كَذَلِكَ سَائِرُ الْحَيَوَانِ؛ وَقَدْ مَضَتْ الْإِشَارَةُ إلَى الْفَرْقِ ثُمَّ مُخَالِفُوهُمْ يَمْنَعُونَهُمْ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ فِي الْبَهَائِمِ؛ فَيَقُولُونَ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَا خَبُثَ لَحْمُهُ خَبُثَ لَبَنُهُ وَمَنِيُّهُ؛ بِخِلَافِ الْآدَمِيِّ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الِاسْتِحَالَةِ: بَلْ قَدْ يَقُولُونَ: إنَّ جَمِيعَ الْفَضَلَاتِ الرَّطْبَةِ مِنْ الْبَهَائِمِ حُكْمُهَا سَوَاءٌ فَمَا طَابَ لَحْمُهُ طَابَ لَبَنُهُ وَبَوْلُهُ وَرَوْثُهُ وَمَنِيُّهُ وَعَرَقُهُ وَرِيقُهُ وَدَمْعُهُ. وَمَا خَبُثَ لَحْمُهُ خَبُثَ لَبَنُهُ وَرِيقُهُ وَبَوْلُهُ وَرَوْثُهُ وَمَنِيُّهُ وَعَرَقُهُ وَدَمْعُهُ وَهَذَا قَوْلٌ يَقُولُهُ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَقَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَاللَّبَنُ وَالْمَنِيُّ يَشْهَدُ لَهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ شَهَادَةً قَاطِعَةً وَبِاسْتِوَاءِ الْفَضَلَاتِ مِنْ الْحَيَوَانِ ضَرْبًا مِنْ الشَّهَادَةِ؛ فَعَلَى هَذَا يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَخْرُجُ مِنْ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ لِمَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ فَإِنَّهُ مُنْتَصِبُ الْقَامَةِ نَجَاسَتُهُ كُلُّهَا فِي أَعَالِيهِ. وَمَعِدَتُهُ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ اسْتِحَالَةِ

ص: 556

الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الشِّقِّ الْأَسْفَلِ. وَأَمَّا الثَّدْيُ وَنَحْوُهُ فَهُوَ فِي الشِّقِّ الْأَعْلَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَهِيمَةُ. فَإِنَّ ضَرْعَهَا فِي الْجَانِبِ الْمُؤَخَّرِ مِنْهَا وَفِيهِ اللَّبَنُ الطَّيِّبُ وَلَا مَطْمَعَ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحَزْوَرَاتِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَمَدَارُهُ عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الطَّاهِرَاتِ فَإِنْ فُصِلَ بِنَوْعِ الِاسْتِقْذَارِ بَطَلَ بِجَمِيعِ الْمُسْتَقْذَرَاتِ الَّتِي رُبَّمَا كَانَتْ أَشَدَّ اسْتِقْذَارًا مِنْهُ وَإِنْ فُصِلَ بِقَدْرِ خَاصٍّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْقِيتِهِ وَقَدْ مَضَى تَقْرِيرُ هَذَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ الْعَامُّ فَمِنْ أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ الْآثَارِ الْمَنْصُوصَةِ وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدُ الْوَضْعِ وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ مَا فَرَّقَتْ السَّنَة بَيْنَهُ فَقَدْ ضَاهَى قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا: {إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَلِذَلِكَ طَهَّرَتْ السُّنَّةُ هَذَا وَنَجَّسَتْ هَذَا. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فِي بَابٍ لَمْ تَظْهَرْ أَسْبَابُهُ وَأَنْوَاطُهُ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ مَأْخَذُهُ وَمَا. . . (1)، بَلْ النَّاسُ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: إمَّا قَائِلٌ يَقُولُ هَذَا اسْتِعْبَادٌ مَحْضٌ وَابْتِلَاءٌ صَرْفٌ فَلَا قِيَاسَ وَلَا إلْحَاقَ وَلَا اجْتِمَاعَ وَلَا افْتِرَاقَ

(1)

بياض بالأصل

ص: 557

وَإِمَّا قَائِلٌ يَقُولُ: دَقَّتْ عَلَيْنَا عِلَلُهُ وَأَسْبَابُهُ وَخَفِيَتْ عَلَيْنَا مَسَالِكُهُ وَمَذَاهِبُهُ وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ إلَيْنَا رَسُولًا يُزَكِّينَا وَيُعَلِّمُنَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بَعَثَهُ إلَيْنَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ شَيْئًا فَإِنَّمَا نَصْنَعُ مَا رَأَيْنَاهُ يَصْنَعُ وَالسُّنَّةُ لَا تُضْرَبُ لَهَا الْأَمْثَالُ وَلَا تُعَارَضُ بِآرَاءِ الرِّجَالِ وَالدِّينِ لَيْسَ بِالرَّأْيِ وَيَجِبُ أَنْ يُتَّهَمَ الرَّأْيُ عَلَى الدِّينِ وَالْقِيَاسُ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ مُمْتَنِعٌ بِاتِّفَاقِ أُولِي الْأَلْبَابِ. الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: هَذَا كُلُّهُ مَدَارُهُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَبَوْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُفْتَرِقَيْنِ فَإِنَّ رِيحَ الْمُحَرَّمِ خَبِيثَةٌ وَأَمَّا رِيحُ الْمُبَاحِ فَمِنْهُ مَا قَدْ يُسْتَطَابُ: مِثْلَ أَرْوَاثِ الظِّبَاءِ وَغَيْرِهَا. وَمَا لَمْ يَسْتَطِبْ مِنْهُ فَلَيْسَ رِيحُهُ كَرِيحِ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ خَلْقُهُ غَالِبًا فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ الْمُبَاحِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حَقِيقَةِ الْمَسْأَلَةِ وَسَنَعُودُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي آخِرِهَا.

الدَّلِيلُ الثَّانِي: الْحَدِيثُ الْمُسْتَفِيضُ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ وَغَيْرُهُمْ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ {أَنَّ نَاسًا مَنَّ عُكْلٍ أَوْ عُرَينة قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَقَاحِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ} . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَوَجْهُ الْحُجَّةِ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي شُرْبِ الْأَبْوَالِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَ أَفْوَاهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ وَثِيَابَهُمْ وَآنِيَتَهُمْ فَإِذَا كَانَتْ

ص: 558

نَجِسَةً وَجَبَ تَطْهِيرُ أَفْوَاهِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ وَثِيَابِهِمْ لِلصَّلَاةِ وَتَطْهِيرُ آنِيَتِهِمْ فَيَجِبُ بَيَانُ ذَلِكَ لَهُمْ: لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إمَاطَةُ مَا أَصَابَهُمْ مِنْهُ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ نَجِسٍ وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنْ لَوْ كَانَتْ أَبْوَالُ الْإِبِلِ كَأَبْوَالِ النَّاسِ لَأَوْشَكَ أَنْ يَشْتَدَّ تَغْلِيظُهُ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ وَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وُجُوبَ التَّطْهِيرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ فَقَدْ أَبْعَدَ غَايَةَ الْإِبْعَادِ وَأَتَى بِشَيْءِ قَدْ يُسْتَيْقَنُ بُطْلَانُهُ لِوُجُوهِ: (أَحَدُهَا أَنَّ الشَّرِيعَةَ أَوَّلُ مَا شُرِعَتْ كَانَتْ أَخْفَى وَبَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَتَنَاقُلِ الْعِلْمِ وَإِفْشَائِهِ صَارَتْ أَبْدَى وَأَظْهَرَ وَإِذَا كُنَّا إلَى الْيَوْمِ لَمْ يَسْتَبِنْ لَنَا نَجَاسَتُهَا بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى طَهَارَتِهَا وَعَامَّةُ التَّابِعِينَ عَلَيْهِ بَلْ قَدْ قَالَ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ: إنَّ السَّلَفَ مَا كَانُوا يُنَجِّسُونَهَا وَلَا يَتَّقُونَهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ: وَعَلَيْهِ اعْتِمَادُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ وَقَدْ ذُكِرَ طَهَارَةُ الْأَبْوَالِ عَنْ عَامَّةِ السَّلَفِ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَبْوَالُ كُلُّهَا نَجَسٌ. قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ إنَّ أَبْوَالَ الْأَنْعَامِ وأبعارها نَجَسٌ. (قُلْت وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَوْلِ النَّاقَةِ فَقَالَ:

ص: 559

اغْسِلْ مَا أَصَابَك مِنْهُ. وَعَنْ الزُّهْرِيِّ فِيمَا يُصِيبُ الرَّاعِيَ مِنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ قَالَ: يُنْضَحُ. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي بَوْلِ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ يُغْسَلُ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ نَجَاسَةُ ذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِيهِ فَلَعَلَّ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ اجْتِنَابِ قَلِيلِ الْبَوْلِ وَالرَّوْثِ وَكَثِيرِهِ. فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ أَمَرَ بِغَسْلِهِ كَمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْمَنِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى مَكَانٍ فِيهِ رَوْثُ الدَّوَابِّ وَالصَّحْرَاءُ أَمَامَهُ. وَقَالَ هَاهُنَا وَهَاهُنَا سَوَاءٌ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ لَا بَأْسَ بِبَوْلِ كُلِّ ذِي كِرْشٍ. وَلَسْت أَعْرِفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْقَوْلَ بِنَجَاسَتِهَا؛ بَلْ الْقَوْلُ بِطَهَارَتِهَا؛ إلَّا مَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ إنْ كَانَ أَرَادَ النَّجَاسَةَ فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِأُولَئِكَ.

وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا فَوُجُوبُ التَّطَهُّرِ مِنْ النَّجَاسَةِ لَيْسَ مِنْ الْأُمُورِ الْبَيِّنَةِ قَدْ أَنْكَرَهُ فِي الثِّيَابِ طَائِفَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فَمِنْ أَيْنَ يَعْلَمُهُ أُولَئِكَ؟ .

وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مُسْتَفِيضًا بَيْنَ ظهراني الصَّحَابَةِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَعْلَمَهُ أُولَئِكَ؛ لِأَنَّهُمْ حَدِيثُو الْعَهْدِ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَالْكُفْرِ فَقَدْ كَانُوا

ص: 560

يَجْهَلُونَ أَصْنَافَ الصَّلَوَاتِ وَأَعْدَادَهَا وَأَوْقَاتَهَا وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ فَجَهْلُهُمْ بِشَرْطِ خَفِيٍّ فِي أَمْرٍ خَفِيٍّ أَوْلَى وَأَحْرَى لَا سِيَّمَا وَالْقَوْمُ لَمْ يَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ أَدْنَى تَفَقُّهٍ وَلِذَلِكَ ارْتَدُّوا وَلَمْ يُخَالِطُوا أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ؛ بَلْ حِينَ أَسْلَمُوا وَأَصَابَهُمْ الِاسْتِيخَامُ أَمَرَهُمْ بِالْبَدَاوَةِ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيْنَ لَهُمْ الْعِلْمُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْخَفِيِّ.

وَرَابِعُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ فِي تَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَاكِلًا لِلتَّعْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ؛ بَلْ يُبَيِّنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ لِمَنْ أَحْسَنَ الْمَعْرِفَةَ بِالسُّنَنِ الْمَاضِيَةِ.

وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ الْعِلْمُ بِنَجَاسَةِ هَذِهِ الْأَرْوَاثِ أَبْيَنَ مِنْ الْعِلْمِ بِنَجَاسَةِ بَوْلِ الْإِنْسَانِ الَّذِي قَدْ عَلِمَهُ الْعَذَارَى فِي حِجَالِهِنَّ وَخُدُورِهِنَّ ثُمَّ قَدْ حَذَّرَ مِنْهُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ. فَصَارَ الْأَعْرَابُ الْجُفَاةُ أَعْلَمَ بِالْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ فَهَذَا كَمَا تَرَى.

وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَبْوَالِ وَالْأَلْبَانِ وَأَخْرَجَهُمَا مَخْرَجًا وَاحِدًا وَالْقِرَانُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إنْ لَمْ يُوجِبْ اسْتِوَاءَهُمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يُورِثَ شُبْهَةً فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْبَيَانُ وَاجِبًا لَكَانَتْ الْمُقَارَنَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّاهِرِ مُوجِبَةً لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا إنْ كَانَ التَّمْيِيزُ حَقًّا.

ص: 561

وَفِي الْحَدِيثِ دِلَالَةٌ أُخْرَى فِيهَا تَنَازُعٌ وَهُوَ أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ شُرْبَهَا وَلَوْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً نَجِسَةً لَمْ يُبِحْ لَهُمْ شُرْبَهَا وَلَسْت أَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي جَوَازِ التَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ. كَمَا جَاءَتْ السُّنَّةُ؛ لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ مَنَاطِهِ فَقِيلَ: هُوَ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِلتَّدَاوِي وَغَيْرِ التَّدَاوِي. وَقِيلَ: بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ وَإِنَّمَا أَبَاحَهَا لِلتَّدَاوِي. وَقِيلَ: هِيَ مَعَ ذَلِكَ نَجِسَةٌ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْوَجْهِ يَحْتَاجُ إلَى رُكْنٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ النَّجِسَةِ مُحَرَّمٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى التَّحْرِيمِ مِثْلُ قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وَ: {كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ} وَ: {إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} عَامَّةٌ فِي حَالِ التَّدَاوِي وَغَيْرِ التَّدَاوِي فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَخَصَّ الْعُمُومَ؛ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَبَاحَهَا لِلضَّرُورَةِ وَالْمُتَدَاوِي مُضْطَرٌّ فَتُبَاحُ لَهُ أَوْ أَنَّا نَقِيسُ إبَاحَتَهَا لِلْمَرِيضِ عَلَى إبَاحَتِهَا لِلْجَائِعِ بِجَامِعِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا. يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرَضَ يُسْقِطُ الْفَرَائِضَ مِنْ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَالِانْتِقَالِ مِنْ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ إلَى الطَّهَارَةِ بِالصَّعِيدِ فَكَذَلِكَ يُبِيحُ الْمَحَارِمَ؛ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ وَالْمَحَارِمَ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ. يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْحِلْيَةِ وَاللِّبَاسِ مِثْلُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ

ص: 562

قَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِإِبَاحَةِ اتِّخَاذِ الْأَنْفِ مِنْ الذَّهَبِ وَرَبْطِ الْأَسْنَانِ بِهِ وَرَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ مِنْ حَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأُصُولُ الْكَثِيرَةُ عَلَى إبَاحَةِ الْمَحْظُورَاتِ حِينَ الِاحْتِيَاجِ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهَا. قُلْت: أَمَّا إبَاحَتُهَا لِلضَّرُورَةِ فَحَقٌّ؛ وَلَيْسَ التَّدَاوِي بِضَرُورَةِ لِوُجُوهِ: أَحَدُهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَرْضَى أَوْ أَكْثَرُ الْمَرْضَى يَشْفُونَ بِلَا تَدَاوٍ لَا سِيَّمَا فِي أَهْلِ الْوَبَرِ وَالْقُرَى وَالسَّاكِنِينَ فِي نَوَاحِي الْأَرْضِ يَشْفِيهِمْ اللَّهُ بِمَا خَلَقَ فِيهِمْ مِنْ الْقُوَى الْمَطْبُوعَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ الرَّافِعَةِ لِلْمَرَضِ وَفِيمَا يُيَسِّرُهُ لَهُمْ مِنْ نَوْعِ حَرَكَةٍ وَعَمَلٍ أَوْ دَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ أَوْ رُقْيَةٍ نَافِعَةٍ أَوْ قُوَّةٍ لِلْقَلْبِ وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْكَثِيرَةِ غَيْرِ الدَّوَاءِ وَأَمَّا الْأَكْلُ فَهُوَ ضَرُورِيٌّ وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ أَبْدَانَ الْحَيَوَانِ تَقُومُ إلَّا بِالْغِذَاءِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ لَمَاتَ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ التَّدَاوِي لَيْسَ مِنْ الضَّرُورَةِ فِي شَيْءٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَكْلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَاجِبٌ. قَالَ مَسْرُوقٌ: مَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ وَالتَّدَاوِي غَيْرُ وَاجِبٍ وَمَنْ نَازَعَ فِيهِ: خَصَمَتْهُ السُّنَّةُ فِي الْمَرْأَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي خَيَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَبَيْنَ الدُّعَاءِ

ص: 563

بِالْعَافِيَةِ. فَاخْتَارَتْ الْبَلَاءَ وَالْجَنَّةَ. وَلَوْ كَانَ رَفْعُ الْمَرَضِ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْيِيرِ مَوْضِعٌ كَدَفْعِ الْجُوعِ وَفِي دُعَائِهِ لِأَبِي بِالْحِمَى وَفِي اخْتِيَارِهِ الْحِمَى لِأَهْلِ قُبَاء وَفِي دُعَائِهِ بِفَنَاءِ أُمَّتِهِ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ وَفِي نَهْيِهِ عَنْ الْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ. وَخَصَمَهُ حَالُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْمُبْتَلِينَ الصَّابِرِينَ عَلَى الْبَلَاءِ حِينَ لَمْ يَتَعَاطَوْا الْأَسْبَابَ الدَّافِعَةَ لَهُ: مِثْلَ أَيُّوبَ عليه السلام وَغَيْرِهِ. وَخَصَمَهُ حَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رضي الله عنه حِينَ قَالُوا لَهُ: أَلَا نَدْعُوَ لَك الطَّبِيبَ؟ قَالَ: قَدْ رَآنِي قَالُوا: فَمَا قَالُ لَك؟ قَالَ: إنِّي فَعَّالٌ لِمَا أُرِيدَ. وَمِثْلُ هَذَا وَنَحْوِهِ يُرْوَى عَنْ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم الْمُخْبِتِ الْمُنِيبِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْكُوفِيِّينَ أَوْ كَأَفْضَلِهِمْ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ الْهَادِي الْمَهْدِيِّ وَخَلْقٍ كَثِيرٍ لَا يُحْصُونَ عَدَدًا. وَلَسْت أَعْلَمُ سَالِفًا أَوْجَبَ التداوي وَإِنَّمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْمَعْرِفَةِ يُفَضِّلُ تَرْكَهُ تَفَضُّلًا وَاخْتِيَارًا؛ لِمَا اخْتَارَ اللَّهُ وَرِضًى بِهِ وَتَسْلِيمًا لَهُ وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُوجِبُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّهُ وَيُرَجِّحُهُ. كَطَرِيقَةِ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ اسْتِمْسَاكًا لِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَجَعَلَهُ مِنْ سُنَّتِهِ فِي عِبَادِهِ.

ص: 564

وَثَالِثُهَا: أَنَّ الدَّوَاءَ لَا يُسْتَيْقَنُ بَلْ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ لَا يَظُنُّ دَفْعَهُ لِلْمَرَضِ؛ إذْ لَوْ اطَّرَدَ ذَلِكَ لَمْ يَمُتْ أَحَدٌ بِخِلَافِ دَفْعِ الطَّعَامِ لِلْمَسْغَبَةِ وَالْمُجَاعَةِ فَإِنَّهُ مُسْتَيْقَنٌ بِحُكْمِ سُنَّةِ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَخَلْقِهِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمَرَضَ يَكُونُ لَهُ أَدْوِيَةٌ شَتَّى فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ بِالْمُحَرَّمِ انْتَقَلَ إلَى الْمُحَلَّلِ وَمُحَالٌ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْحَلَالِ شِفَاءٌ أَوْ دَوَاءٌ وَاَلَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً إلَّا الْمَوْتَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدْوِيَةُ الْأَدْوَاءِ فِي الْقِسْمِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ. وَإِلَى هَذَا الْإِشَارَةُ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ: {إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا} بِخِلَافِ الْمَسْغَبَةِ فَإِنَّهَا وَإِنْ انْدَفَعَتْ بِأَيِّ طَعَامٍ اتَّفَقَ إلَّا أَنَّ الْخَبِيثَ إنَّمَا يُبَاحُ عِنْدَ فَقْدِ غَيْرِهِ فَإِنْ صَوَّرْت مِثْلَ هَذَا فِي الدَّوَاءِ فَتِلْكَ صُورَةٌ نَادِرَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ أَنْدَرُ مِنْ الْجُوعِ بِكَثِيرِ وَتَعَيُّنُ الدَّوَاءِ الْمُعَيَّنِ وَعَدَمُ غَيْرِهِ نَادِرٌ فَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا. عَلَى أَنَّ فِي الْأَوْجُهِ السَّالِفَةِ غِنًى. وَخَامِسُهَا: وَفِيهِ فِقْهُ الْبَابِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ خَلْقَهُ مُفْتَقِرِينَ إلَى الطَّعَامِ وَالْغِذَاءِ لَا تَنْدَفِعُ مَجَاعَتُهُمْ وَمَسْغَبَتُهُمْ إلَّا بِنَوْعِ الطَّعَامِ وَصِنْفِهِ فَقَدْ هَدَانَا وَعَلَّمَنَا النَّوْعَ الْكَاشِفَ لِلْمَسْغَبَةِ الْمُزِيلَ لِلْمَخْمَصَةِ. وَأَمَّا الْمَرَضُ فَإِنَّهُ يُزِيلُهُ بِأَنْوَاعِ كَثِيرَةٍ مِنْ الْأَسْبَابِ: ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ رُوحَانِيَّةٍ وَجُسْمَانِيَّةٍ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ الدَّوَاءُ مُزِيلًا. ثُمَّ الدَّوَاءُ بِنَوْعِهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِنَوْعِ مِنْ

ص: 565

أَنْوَاعِ الْأَجْسَامِ فِي إزَالَةِ الدَّاءِ الْمُعَيَّنِ. ثُمَّ ذَلِكَ النَّوْعُ الْمُعَيَّنُ يَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ بَلْ عَلَى عَامَّتِهِمْ دَرْكُهُ وَمَعْرِفَتُهُ الْخَاصَّةُ الْمُزَاوِلُونَ مِنْهُمْ هَذَا الْفَنَّ أُولُوا الْأَفْهَامِ وَالْعُقُولِ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ قَدْ أَفْنَى كَثِيرًا مِنْ عُمْرِهِ فِي مَعْرِفَتِهِ ذَلِكَ ثُمَّ يَخْفَى عَلَيْهِ نَوْعُ الْمَرَضِ وَحَقِيقَتُهُ وَيَخْفَى عَلَيْهِ دَوَاؤُهُ وَشِفَاؤُهُ فَفَارَقَتْ الْأَسْبَابُ الْمُزِيلَةُ لِلْمَرَضِ الْأَسْبَابَ الْمُزِيلَةَ لِلْمَخْمَصَةِ فِي هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْبَيِّنَةِ وَغَيْرِهَا فَكَذَلِكَ افْتَرَقَتْ أَحْكَامُهَا كَمَا ذَكَرْنَا. وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ الْأَقْيِسَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِيهَا يَسْقُطُ وَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ مَا حَضَرَنِي الْآنَ. أَمَّا سُقُوطُ مَا يَسْقُطُ مِنْ الْقِيَامِ وَالصِّيَامِ وَالِاغْتِسَالِ؛ فَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ مُسْتَيْقَنَةٌ بِخِلَافِ التَّدَاوِي. وَأَيْضًا فَإِنَّ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ أَيْسَرُ مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فَانْظُرْ كَيْفَ أَوْجَبَ الِاجْتِنَابَ عَنْ كُلِّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَفَرَّقَ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ بَيْنَ الْمُسْتَطَاعِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا يَكَادُ يَكُونُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا فِي الْمَسْأَلَةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ تَسْقُطُ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِاسْتِبَاحَةِ شَيْءٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ وَهَذَا بَيِّنٌ بِالتَّأَمُّلِ.

ص: 566

وَأَمَّا الْحِلْيَةُ: فَإِنَّمَا أُبِيحَ الذَّهَبُ لِلْأَنْفِ وَرَبْطِ الْأَسْنَانِ؛ لِأَنَّهُ اضْطِرَارٌ وَهُوَ يَسُدُّ الْحَاجَةَ يَقِينًا كَالْأَكْلِ فِي الْمَخْمَصَةِ. وَأَمَّا لُبْسُ الْحَرِيرِ: لِلْحَكَّةِ وَالْجَرَبِ إنْ سَلِمَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ لَيْسَا مُحَرَّمَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُمَا قَدْ أُبِيحَا لِأَحَدِ صِنْفَيْ الْمُكَلَّفِينَ وَأُبِيحَ لِلصِّنْفِ الْآخَرِ بَعْضُهُمَا وَأُبِيحَ التِّجَارَةُ فِيهِمَا وَإِهْدَاؤُهُمَا لِلْمُشْرِكِينَ. فَعُلِمَ إنَّهُمَا أُبِيحَا لِمُطْلَقِ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ إلَى التَّدَاوِي أَقْوَى مِنْ الْحَاجَةِ إلَى تَزَيُّنِ النِّسَاءِ بِخِلَافِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ النَّجَاسَاتِ. وَأُبِيحَ أَيْضًا لِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ بِذَلِكَ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ. ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَرِيرِ وَالطَّعَامِ: أَنَّ بَابَ الطَّعَامِ يُخَالِفُ بَابَ اللِّبَاسِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّعَامِ فِي الْأَبْدَانِ أَشَدُّ مِنْ تَأْثِيرِ اللِّبَاسِ عَلَى مَا قَدْ مَضَى. فَالْمُحَرَّمُ مِنْ الطَّعَامِ لَا يُبَاحُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ الَّتِي هِيَ الْمَسْغَبَةُ وَالْمَخْمَصَةُ وَالْمُحَرَّمُ مِنْ اللِّبَاسِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ وَلِلْحَاجَةِ أَيْضًا هَكَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ وَلَا جَمْعَ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ مَعْلُومٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ وَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ مَا يُعَارَضُ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ أَيُتَدَاوَى بِهَا؟ فَقَالَ: إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ}

ص: 567

فَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ رَدًّا عَلَى مَنْ أَبَاحَهُ وَسَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ مِثْلُهَا قِيَاسًا خِلَافًا لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ قِيَاسَ الْمُحَرَّمِ مِنْ الطَّعَامِ أَشْبَهُ مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ؛ بَلْ الْخَمْرُ قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي بَعْضِ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ أَبَاحَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ نَوْعِهَا الشُّرْبَ دُونَ الْإِسْكَارِ وَالْمَيْتَةُ وَالدَّمُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: الْخَمْرُ قَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هِيَ دَوَاءٌ بِخِلَافِ غَيْرِهَا. وَأَيْضًا فَفِي إبَاحَةِ التَّدَاوِي بِهَا إجَازَةُ اصْطِنَاعِهَا وَاعْتِصَارِهَا وَذَلِكَ دَاعٍ إلَى شُرْبِهَا وَلِذَلِكَ اخْتَصَّتْ بِالْحَدِّ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْمَطَاعِمِ الْخَبِيثَةِ لِقُوَّةِ مَحَبَّةِ الْأَنْفُسِ لَهَا. فَأَقُولُ: أَمَّا قَوْلُك: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هِيَ دَوَاءٌ. فَهُوَ حَقٌّ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ {إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِي حَرَامٍ} ثُمَّ مَاذَا تُرِيدُ بِهَذَا؟ أَتُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ فِيهَا قُوَّةً طَبِيعِيَّةً مِنْ السُّخُونَةِ وَغَيْرِهَا؟ جَرَتْ الْعَادَةُ فِي الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ أَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِهَا بَعْضُ الْأَدْوَاءِ الْبَارِدَةِ (1). كَسَائِرِ الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ الَّتِي أَوْدَعَهَا جَمِيعَ الْأَدْوِيَةِ مِنْ الْأَجْسَامِ. أَمْ تُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ؟ فَإِنْ

(1)

خرم بالأصل

ص: 568

أَرَدْت الْأَوَّلَ فَهُوَ بَاطِلٌ بِالْقَضَايَا الْمُجَرَّبَةِ الَّتِي تَوَاطَأَتْ عَلَيْهَا الْأُمَمُ وَجَرَتْ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مَجْرَى الضَّرُورِيَّات بَلْ هُوَ رَدٌّ لِمَا يُشَاهَدُ وَيُعَايَنُ. بَلْ قَدْ قِيلَ: إنَّهُ رَدٌّ لِلْقُرْآنِ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وَلَعَلَّ هَذَا فِي الْخَمْرِ أَظْهَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَقَالَاتِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ طِيبِ الْأَبْدَانِ. وَإِنْ أَرَدْت أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّهَا دَاءٌ لِلنُّفُوسِ وَالْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ وَهِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ وَالنَّفْسُ وَالْقَلْبُ هُوَ الْمَلِكُ الْمَطْلُوبُ صَلَاحُهُ وَكَمَالُهُ وَإِنَّمَا الْبَدَنُ آلَةٌ لَهُ وَهُوَ تَابِعٌ لَهُ مُطِيعٌ لَهُ طَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ رَبَّهَا فَإِذَا صَلَحَ الْقَلْبُ صَلَحَ الْبَدَنُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْبَدَنُ كُلُّهُ فَالْخَمْرُ هِيَ دَاءٌ وَمَرَضٌ لِلْقَلْبِ مُفْسِدٌ لَهُ مُضَعْضِعٌ لِأَفْضَلِ خَوَاصِّهِ الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ وَالْعِلْمُ وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْبَدَنُ كُلُّهُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَتَصِيرُ دَاءً لِلْبَدَنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِوَاسِطَةِ كَوْنِهَا دَاءً لِلْقَلْبِ. وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمَسْرُوقَةِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا صَلَحَ عَلَيْهَا الْبَدَنُ وَنَبَتَ وَسَمِنَ لَكِنْ يَفْسُدُ عَلَيْهَا الْقَلْبُ فَيَفْسُدُ الْبَدَنُ بِفَسَادِهِ. وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ: الَّتِي فِيهَا فَإِنَّهَا مَنْفَعَةٌ لِلْبَدَنِ فَقَطْ وَنَفْعُهَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ فَهِيَ وَإِنْ أَصْلَحَتْ شَيْئًا يَسِيرًا فَهِيَ فِي جَنْبِ مَا تُفْسِدُهُ كَلَا إصْلَاحٍ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فَهَذَا لَعَمْرِي شَأْنُ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ

ص: 569

الْقُوَّةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ الْبَدَنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا يُرْبِي عَلَى مَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةٍ قَلِيلَةٍ تَكُونُ فِي الْبَدَنِ وَحْدَهُ فِي الدُّنْيَا خَاصَّةً. عَلَى أَنَّا وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ جِهَةَ الْمَفْسَدَةِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّا نَقْطَعُ أَنَّ فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا يُرْبِي عَلَى مَا نَظُنُّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ. فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّ بِهِ يَظْهَرُ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ وَسِرُّهَا. وَأَمَّا إفْضَاؤُهُ إلَى اعْتِصَارِهَا: فَلَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ اعْتِصَارُهَا وَإِنَّمَا الْقَوْلُ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً أَنَّ هَذَا مُنْتَقِضٌ بِإِطْفَاءِ الْحَرْقِ بِهَا وَدَفْعِ الْغُصَّةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا. وَأَمَّا اخْتِصَاصُهَا بِالْحَدِّ: فَإِنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ يُوجِبُ الْحَدَّ فِي الْمَيْتَةِ أَيْضًا وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَكِنَّ الْفَرْقَ أَنَّ فِي النُّفُوسِ دَاعِيًا طَبْعِيًّا وَبَاعِثًا إرَادِيًّا إلَى الْخَمْرِ فَنَصْبُ رَادِعٍ شَرْعِيٍّ وَزَاجِرٍ دُنْيَوِيٍّ أَيْضًا لِيَتَقَابَلَا وَيَكُونَ مَدْعَاةً إلَى قِلَّةِ شُرْبِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُهَا مِمَّا لَيْسَ فِي النُّفُوسِ إلَيْهِ كَثِيرُ مَيْلٍ وَلَا عَظِيمُ طَلَبٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا رَوَى حَسَّانُ بْنُ مخارق قَالَ: {قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ اشْتَكَتْ بِنْتٌ لِي فَنَبَذْت لَهَا فِي كُوزٍ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَغْلِي فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقُلْت: إنَّ بِنْتِي اشْتَكَتْ فَنَبَذْنَا لَهَا هَذَا فَقَالَ:

ص: 570

إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِي حَرَامٍ} رَوَاهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ - وَفِي رِوَايَةٍ {إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ {أَنَّ رَجُلًا وُصِفَ لَهُ ضُفْدَعٌ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ وَقَالَ: إنَّ نَقْنَقَتَهَا تَسْبِيحٌ} فَهَذَا حَيَوَانٌ مُحَرَّمٌ وَلَمْ يُبَحْ لِلتَّدَاوِي وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَلَعَلَّ تَحْرِيمَ الضُّفْدَعِ أَخَفُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ غَيْرَهَا فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهَا أَنَّ نَقْنَقَتَهَا تَسْبِيحٌ فَمَا ظَنُّك بِالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ بَيَّنَ لَك اسْتِخْفَافَهُ بِطَلَبِ الطِّبِّ وَاقْتِضَائِهِ وَإِجْرَائِهِ مَجْرَى الرِّفْقِ بِالْمَرِيضِ وَتَطْيِيبِ قَلْبِهِ وَلِهَذَا قَالَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ لِرَجُلِ: قَالَ لَهُ: أَنَا طَبِيبٌ قَالَ: {أَنْتَ رَفِيقٌ وَاَللَّهُ الطَّبِيبُ} . الْوَجْهُ الْخَامِسُ: مَا رُوِيَ أَيْضًا فِي سُنَنِهِ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ} وَهُوَ نَصٌّ جَامِعٌ مَانِعٌ وَهُوَ صُورَةُ الْفَتْوَى فِي الْمَسْأَلَةِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ: {مَا أُبَالِي مَا أَتَيْت - أَوْ مَا رَكِبْت - إذَا شَرِبْت تِرْيَاقًا أَوْ تَعَلَّقْت تَمِيمَةً أَوْ قُلْت الشِّعْرَ مِنْ نَفْسِي} مَعَ

ص: 571

مَا رُوِيَ مِنْ كَرَاهَةِ مَنْ كَرِهَ التِّرْيَاقَ مِنْ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُقَابِلْ ذَلِكَ نَصٌّ عَامٌّ وَلَا خَاصٌّ يَبْلُغُ ذُرْوَةَ الْمَطْلَبِ وَسَنَامَ الْمَقْصِدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَوْلَا أَنِّي كَتَبْت هَذَا مِنْ حِفْظِي لَاسْتَقْصَيْت الْقَوْلَ عَلَى وَجْهٍ يُحِيطُ بِمَا دَقَّ وَجَلَّ وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ.

الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَابِعٌ: الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَغَيْرِهِ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ فَقَالَ: صَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا بَرَكَةٌ} . {وَسُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ؛ فَقَالَ: لَا تُصَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ الشَّيَاطِينِ} . وَوَجْهُ الْحُجَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِذْنَ بِالصَّلَاةِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ حَائِلًا بَقِيَ مِنْ مُلَامَسَتِهَا وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ إلَى الْبَيَانِ. فَلَوْ احْتَاجَ لَبَيَّنَهُ وَقَدْ مَضَى تَقْرِيرُ هَذَا. وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: تَرْكُ الاستفصال. فِي حِكَايَةِ الْحَالِ. مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ. يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ. فَإِنَّهُ تَرَكَ استفصال السَّائِلِ: أَهُنَاكَ حَائِلٌ يَحُولُ بَيْنَك وَبَيْن أبعارها؟ مَعَ ظُهُورِ الِاحْتِمَالِ؛ لَيْسَ مَعَ قِيَامِهِ فَقَطْ وَأَطْلَقَ الْإِذْنَ بَلْ هَذَا أَوْكَدُ مِنْ ذَلِكَ: لِأَنَّ الْحَاجَةَ هنا إلَى الْبَيَانِ أَمَسُّ وَأَوْكَدُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ نَجِسَةً كَأَرْوَاثِ الْآدَمِيِّينَ لَكَانَتْ

ص: 572

الصَّلَاةُ فِيهَا: إمَّا مُحَرَّمَةً كَالْحُشُوشِ وَالْكُنُفِ أَوْ مَكْرُوهَةً كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْأَخْبَاثِ وَالْأَنْجَاسِ. فَأَمَّا أَنْ يَسْتَحِبَّ الصَّلَاةَ فِيهَا وَيُسَمِّيَهَا بَرَكَةً وَيَكُونَ شَأْنُهَا شَأْنَ الْحُشُوشِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ. وَحَاشَا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى صَلَّى فِي مَبَارِكِ الْغَنَمِ وَأَشَارَ إلَى الْبَرِيَّةِ وَقَالَ: هَاهُنَا وَثَمَّ سَوَاءٌ. وَهُوَ الصَّاحِبُ الْفَقِيهُ الْعَالِمُ بِالتَّنْزِيلِ الْفَاهِمُ لِلتَّأْوِيلِ. سَوَّى بَيْنَ مَحَلِّ الأبعار وَبَيْنَ مَا خَلَا عَنْهَا فَكَيْفَ يُجَامِعُ هَذَا الْقَوْلَ بِنَجَاسَتِهَا. وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ فَلَيْسَتْ اخْتَصَّتْ بِهِ دُونَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالظِّبَاءِ وَالْخَيْلِ إذْ لَوْ كَانَ السَّبَبُ نَجَاسَةَ الْبَوْلِ لَكَانَ تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ. وَهُوَ مُمْتَنِعٌ يَقِينًا.

الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ سَابِعٌ: مَا ثَبَتَ وَاسْتَفَاضَ مِنْ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَدْخَلَهَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} الَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ وَبَرَّكَهَا حَتَّى طَافَ أُسْبُوعًا. وَكَذَلِكَ إذْنُهُ لِأُمِّ سَلَمَةَ أَنْ تَطُوفَ رَاكِبَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَ الدَّوَابِّ مِنْ الْعَقْلِ مَا تَمْتَنِعُ بِهِ مِنْ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ الْمَأْمُورِ بِتَطْهِيرِهِ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. فَلَوْ كَانَتْ أَبْوَالُهَا نَجِسَةً لَكَانَ فِيهِ تَعْرِيضُ

ص: 573

الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِلتَّنْجِيسِ مَعَ أَنَّ الضَّرُورَةَ مَا دَعَتْ إلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ دَعَتْ إلَيْهِ وَلِهَذَا اسْتَنْكَرَ بَعْضُ مَنْ يَرَى تَنْجِيسَهَا إدْخَالُ الدَّوَابِّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَحَسْبُك بِقَوْلِهِ بُطْلَانًا رَدُّهُ فِي وَجْهِ السُّنَّةِ الَّتِي رِيبَ فِيهَا.

الدَّلِيلُ الْخَامِسُ وَهُوَ الثَّامِنُ: مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {فَأَمَّا مَا أُكِلَ لَحْمُهُ فَلَا بَأْسَ بِبَوْلِهِ} وَهَذَا تَرْجَمَةُ الْمَسْأَلَةِ؛ إلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَبُولًا وَرَدًّا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى جَابِرٍ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا رَيْبَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ قَوْلُ صَاحِبٍ وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ فَيَنْبَنِي عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ بَعْدَهُمْ وَأَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ. وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ انْتَشَرَ فِي سَائِرِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ فَصَارَ إجْمَاعًا سكوتيا.

الدَّلِيلُ السَّادِسُ وَهُوَ التَّاسِعُ: الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ سَاجِدًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي معيط إلَى قَوْمٍ قَدْ نَحَرُوا جَزُورًا لَهُمْ فَجَاءَ بِفَرْثِهَا وَسَلَاهَا فَوَضَعَهُمَا عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ سَاجِدٌ وَلَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ} فَهَذَا أَيْضًا بَيِّنٌ فِي أَنَّ

ص: 574

ذَلِكَ الْفَرْثَ وَالسَّلَى لَمْ يَقْطَعْ الصَّلَاةَ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ فِيمَا أَرَى إلَّا عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا أَنْ يُقَالَ هُوَ مَنْسُوخٌ وَأَعْنِي بِالنَّسْخِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُرْتَفِعٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ ثَبَتَ لِأَنَّهُ بِخِطَابِ كَانَ بِمَكَّةَ. وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِيَقِينِ؛ وَأَمَّا بِالظَّنِّ فَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ. وَأَيْضًا فَإِنَّا مَا عَلِمْنَا أَنَّ اجْتِنَابَ النَّجَاسَةِ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ ثُمَّ صَارَ وَاجِبًا لَا سِيَّمَا مَنْ يَحْتَجُّ عَلَى اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وَسُورَةُ الْمُدَّثِّرِ فِي أَوَّلِ الْمُنَزَّلِ فَيَكُونُ فَرْضُ التَّطْهِيرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَوَّلِ الْفَرَائِضِ. فَهَذَا هَذَا. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ حَمْلِ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ وَعَامَّةُ مَنْ يُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ فَيَلْزَمُهُمْ تَرْكُ الْحَدِيثِ. ثُمَّ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِخِلَافِهِ الْأَحَادِيثَ الصِّحَاحَ فِي دَمِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ. ثُمَّ إنِّي لَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَأَنَّ إعَادَةَ الصَّلَاةِ مِنْهُ أَوْلَى فَهَذَا هَذَا. لَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يُقَالَ: الْفَرْثُ وَالسَّلَى لَيْسَ بِنَجِسِ وَإِنَّمَا هُوَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ فَرْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِكَثْرَةِ الْقَائِلِينَ بِهِ وَظُهُورِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ. وَبِطُولِ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِينَ يُوجِبُ تَعَيُّنَ هَذَا. (فَإِنْ قِيلَ فَفِيهِ السَّلَى وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ دَمٌ. قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ

ص: 575

يَكُونَ دَمًا يَسِيرًا بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَسِيرٌ وَالدَّمُ الْيَسِيرُ مَعْفُوٌّ عَنْ حَمْلِهِ فِي الصَّلَاةِ. (فَإِنْ قِيلَ فَالسَّلَى لَحْمٌ مِنْ ذَبِيحَةِ الْمُشْرِكِينَ وَذَلِكَ نَجِسٌ وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ حَرَّمَ حِينَئِذٍ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ بَلْ الْمَظْنُونُ أَوْ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حُرِّمَتْ حِينَئِذٍ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنَجِّسُونَ ذَبَائِحَ قَوْمِهِمْ. وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِبُ إلَّا مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ. أَمَّا مَا ذَبَحَهُ قَوْمُهُ فِي دُورِهِمْ لَمْ يَكُنْ يَتَجَنَّبُهُ وَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ ذَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ قَدْ وَقَعَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفَرِ الْقَلِيلِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَا لَا قَبِلَ لَهُمْ بِهِ فَإِنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الْبَلَدِ مُشْرِكُونَ وَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا إلَّا مِنْ طَعَامِهِمْ وَخُبْزِهِمْ. وَفِي أَوَانِيهِمْ لِقِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَفَقْرِهِمْ. ثُمَّ الْأَصْلُ عَدَمُ التَّحْرِيمِ حِينَئِذٍ فَمَنْ ادَّعَاهُ احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ.

الدَّلِيلُ السَّابِعُ وَهُوَ الْعَاشِرُ: مَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ نَهَى عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالْعَظْمِ وَالْبَعْرِ وَقَالَ: إنَّهُ زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ} وَفِي لَفْظٍ قَالَ: {فَسَأَلُونِي الطَّعَامَ لَهُمْ وَلِدَوَابِّهِمْ فَقُلْت: لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَعُودُ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ} قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {فَلَا تَسْتَنْجُوا

ص: 576

بِهِمَا فَإِنَّهُمَا زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ} . فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِالْعَظْمِ وَالْبَعْرِ} الَّذِي هُوَ زَادُ إخْوَانِنَا مِنْ الْجِنِّ وَعَلَفُ دَوَابِّهِمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا نُنَجِّسَهُ عَلَيْهِمْ وَلِهَذَا اسْتَنْبَطَ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِزَادِ الْإِنْسِ.

ثُمَّ إنَّهُ قَدْ اسْتَفَاضَ النَّهْيَ فِي ذَلِكَ وَالتَّغْلِيظَ حَتَّى قَالَ: {مَنْ تَقَلَّدَ وَتَرًا أَوْ اسْتَنْجَى بِعَظْمِ أَوْ رَجِيعٍ فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْهُ بَرِيءٌ} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْبَعْرُ فِي نَفْسِهِ نَجِسًا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ يُنَجِّسُهُ وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ الْبَعْرِ الْمُسْتَنْجَى بِهِ وَالْبَعْرِ الَّذِي لَا يُسْتَنْجَى بِهِ وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُ. ثُمَّ إنَّ الْبَعْرَ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ عَلَفًا لِقَوْمِ مُؤْمِنِينَ فَإِنَّهَا تَصِيرُ بِذَلِكَ جَلَّالَةً وَلَوْ جَاز أَنْ تَصِيرَ جَلَّالَةً لَجَازَ أَنْ تُعْلَفَ رَجِيعَ الْإِنْسِ وَرَجِيعَ الدَّوَابِّ فَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الزَّادَ لَهُمْ مَا فَضَلَ عَنْ الْإِنْسِ وَلِدَوَابِّهِمْ مَا فَضَلَ عَنْ دَوَابِّ الْإِنْسِ مِنْ الْبَعْرِ شَرَطَ فِي طَعَامِهِمْ كُلَّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُشْرَطَ فِي عَلَفِ دَوَابِّهِمْ نَحْوُ ذَلِكَ وَهُوَ الطَّهَارَةُ. وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا أَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ

ص: 577

وَرَوْثَةٍ فَقَالَ: {إنَّهَا رِكْسٌ} إنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهَا رَوْثَةَ آدَمِيٍّ وَنَحْوِهِ عَلَى أَنَّهَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ رَوْثَةَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثَةَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَلَا يَعُمُّ الصِّنْفَيْنِ وَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ بِأَنَّهَا مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الرِّكْسِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ لِأَنَّ الرِّكْسَ هُوَ الْمَرْكُوسُ أَيْ الْمَرْدُودُ وَهُوَ مَعْنَى الرَّجِيعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالرَّجِيعِ لَا يَجُوزُ بِحَالِ إمَّا لِنَجَاسَتِهِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ عَلَفُ دَوَابِّ إخْوَانِنَا مِنْ الْجِنِّ.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَهُوَ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُبَيِّنْهُ فَلَيْسَتْ نَجِسَةً وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ تَكْثُرُ مُلَابَسَةُ النَّاسِ لَهَا وَمُبَاشَرَتُهُمْ لِكَثِيرِ مِنْهَا خُصُوصًا الْأُمَّةَ الَّتِي بُعِثَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ وَلَا يَزَالُونَ يُبَاشِرُونَهَا وَيُبَاشِرُونَ أَمَاكِنَهَا فِي مُقَامِهِمْ وَسَفَرِهِمْ مَعَ كَثْرَةِ الِاحْتِفَاءِ فِيهِمْ حَتَّى أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ: تَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشَنُوا وَامْشُوا حُفَاةً وَانْتَعِلُوا. وَمَحَالِبُ الْأَلْبَانِ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ أَبْوَالِهَا وَلَيْسَ ابْتِلَاؤُهُمْ بِهَا بِأَقَلَّ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي أَوَانِيهِمْ فَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً يَجِبُ غَسْلُ الثِّيَابِ وَالْأَبْدَانِ وَالْأَوَانِي مِنْهَا وَعَدَمُ مُخَالَطَتِهِ وَيُمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ ذَلِكَ وَيَجِبُ تَطْهِيرُ الْأَرْضِ مِمَّا فِيهِ ذَلِكَ إذَا صَلَّى فِيهَا وَالصَّلَاةُ فِيهَا تَكْثُرُ فِي أَسْفَارِهِمْ وَفِي مَرَاحِ أَغْنَامِهِمْ وَيَحْرُمُ شُرْبُ اللَّبَنِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ بَعْرُهَا

ص: 578

وَتُغْسَلُ الْيَدُ إذَا أَصَابَهَا الْبَوْلُ أَوْ رُطُوبَةُ الْبَعْرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ النَّجَاسَةِ لَوَجَبَ أَنْ يُبَيِّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيَانًا تَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ وَلَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لَنُقِلَ جَمِيعُهُ أَوْ بَعْضُهُ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ وَعَادَةَ الْقَوْمِ تُوجِبُ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ نَجَاسَتَهَا. وَعَدَمُ ذِكْرِ نَجَاسَتِهَا دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَتِهَا مِنْ جِهَةِ تَقْرِيرِهِ لَهُمْ عَلَى مُبَاشَرَتِهَا وَعَدَمُ النَّهْيِ عَنْهُ وَالتَّقْرِيرِ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ. وَمِنْ وَجْهٍ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَجِبُ بَيَانُهُ بِالْخِطَابِ وَلَا تُحَالُ الْأُمَّةُ فِيهِ عَلَى الرَّأْيِ لِأَنَّهُ مِنْ الْأُصُولِ لَا مِنْ الْفُرُوعِ. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا سَكَتَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ لَا سِيَّمَا إذَا وَصَلَ بِهَذَا الْوَجْهِ.

الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَهُوَ الثَّانِيَ عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَعَامَّةَ السَّلَفِ قَدْ اُبْتُلِيَ النَّاسُ فِي أَزْمَانِهِمْ بِأَضْعَافِ مَا اُبْتُلُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي كَثْرَةِ وُقُوعِ الْحَوَادِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. ثُمَّ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: إمَّا الْقَوْلُ بِالطَّهَارَةِ أَوْ عَدَمُ الْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي مُوسَى وَأَنَسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَعَلَى رِجْلَيْهِ أَثَرُ السِّرْقِينِ. وَهَذَا قَدْ عَايَنَ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ بِالْعِرَاقِ وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: إنَّ لِي غَنَمًا تَبْعَرُ فِي مَسْجِدِي وَهَذَا قَدْ عَايَنَ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ بِالْحِجَازِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ

ص: 579

النَّخَعِي فِيمَنْ يُصَلِّي وَقَدْ أَصَابَهُ السِّرْقِينُ قَالَ لَا بَأْسَ وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَصَابَتْ عِمَامَتَهُ بَوْلُ بَعِيرٍ فَقَالَا: جَمِيعًا لَا بَأْسَ. وَسَأَلَهُمَا جَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغُسْلِ إمَّا ضَعِيفٌ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ وَالتَّنْظِيفِ فَإِنَّ نَافِعًا لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَيْهِ طَرِيقَةُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَكَادُ يُخَالِفُهُ وَالْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَلْفَاظٌ إنْ ثَبَتَتْ فَلَيْسَتْ صَرِيحَةً بِنَجَاسَةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: الْبَوْلُ كُلُّهُ يُغْسَلُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْغَنَمِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بَوْلَ الْإِنْسَانِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ قَالَ الْأَبْوَالُ كُلُّهَا أَنْجَاسٌ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ إنْ ثَبَتَ عَنْهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ الْقَوْلَ بِنَجَاسَتِهَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ عَلَى عَدَمِ النَّجَاسَةِ بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ التَّنْجِيسَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحْدَثَةِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إبْطَالِ الْحَوَادِثِ لَا سِيَّمَا مَقَالَةٌ مُحْدَثَةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَا عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَعْيَانَ الْمَوْجُودَةَ فِي زَمَانِهِمْ وَمَكَانِهِمْ إذَا أَمْسَكُوا عَنْ تَحْرِيمِهَا وَتَنْجِيسِهَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ كَانَ تَحْرِيمُهَا وَتَنْجِيسُهَا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَمْسِكُوا عَنْ بَيَانِ أَفْعَالٍ يُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ وُجُوبِهَا لَوْ كَانَ

ص: 580

ثَابِتًا فَيَجِيءُ مَنْ بَعْدَهُمْ فَيُوجِبُهَا. وَمَتَى قَامَ الْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ أَوْ الْوُجُوبِ وَلَمْ يَذْكُرُوا وُجُوبًا وَلَا تَحْرِيمًا كَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى عَدَمِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مُعْتَمَدَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَهِيَ أَصْلٌ عَظِيمٌ يَنْبَغِي لِلْفَقِيهِ أَنْ يَتَأَمَّلَهَا وَلَا يُغْفَلُ عَنْ غَوْرِهَا؛ لَكِنْ لَا يُسَلَّمُ إلَّا بِعَدَمِ ظُهُورِ الْخِلَافِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ بَطَلَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ.

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ وَهُوَ الثَّالِثَ عَشَرَ فِي الْحَقِيقَةِ: أَنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْحُبُوبَ مِنْ الشَّعِيرِ وَالْبَيْضَاءِ وَالذُّرَةِ وَنَحْوِهَا كَانَتْ تُزْرَعُ فِي مَزَارِعِ الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَنَعْلَمُ أَنَّ الدَّوَابَّ إذَا دَاسَتْ فَلَا بُدَّ أَنْ تَرُوثَ وَتَبُولَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُنَجِّسُ الْحُبُوبَ لَحُرِّمَتْ مُطْلَقًا أَوْ لَوَجَبَ تَنْجِيسُهَا. وَقَدْ أَسْلَمَتْ الْحِجَازُ وَالْيَمَنُ وَنَجْدُ وَسَائِرُ جَزَائِرِ الْعَرَبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَبُعِثَ إلَيْهِمْ سُعَاتُهُ وَعُمَّالُهُ يَأْخُذُونَ عُشُورَ حُبُوبِهِمْ مِنْ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا وَكَانَتْ سَمْرَاءُ الشَّامِ تُجْلَبُ إلَى الْمَدِينَةِ فَيَأْكُلُ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَى عَهْدِهِ وَعَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ وَكَانَ يُعْطِي الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَائِهِ ثَمَانِينَ وَسْقَ شَعِيرٍ مِنْ غَلَّةِ خَيْبَرَ وَكُلُّ هَذِهِ

ص: 581

تُدَاسُ بِالدَّوَابِّ الَّتِي تَرُوثُ وَتَبُولُ عَلَيْهَا فَلَوْ كَانَتْ تَنْجُسُ بِذَلِكَ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى أَقَلِّ الْأَحْوَالِ تَطْهِيرُ الْحَبِّ وَغَسْلُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا فُعِلَ عَلَى عَهْدِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَتِهَا. وَلَا يُقَالُ: هُوَ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّ ذَلِكَ الْحَبَّ الَّذِي أَكَلَهُ مِمَّا أَصَابَهُ الْبَوْلُ وَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: فَصَاحِبُ الْحَبِّ قَدْ تَيَقَّنَ نَجَاسَةَ بَعْضِ حَبِّهِ وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ اسْتِعْمَالُ الْجَمِيعِ؛ بَلْ الْوَاجِبُ تَطْهِيرُ الْجَمِيعِ؛ كَمَا إذَا عَلِمَ نَجَاسَةَ بَعْضِ الْبَدَنِ أَوْ الثَّوْبِ أَوْ الْأَرْضِ وَخَفِيَ عَلَيْهِ مَكَانُ النَّجَاسَةِ غَسَلَ مَا يَتَيَقَّنُ بِهِ غَسْلَهَا وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ. ثُمَّ اشْتِبَاهُ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ نَوْعٌ مِنْ اشْتِبَاهِ الطَّعَامِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ فَكَيْفَ يُبَاحُ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ؟ فَإِنَّ الْقَائِلَ: إمَّا أَنْ يَقُولَ يَحْرُمُ الْجَمِيعُ وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ بِالتَّحَرِّي فَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِلَا تَحَرٍّ فَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا جَوَّزَهُ وَإِنَّمَا يُسْتَمْسَكُ بِالْأَصْلِ مَعَ تَيَقُّنِ النَّجَاسَةِ وَلَا مَحِيصَ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ إلَّا إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يُقَالَ: بِطَهَارَةِ هَذِهِ الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ أَوْ أَنْ يُقَالَ: عُفِيَ عَنْهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلْحَاجَةِ. كَمَا يُعْفَى عَنْ رِيقِ الْكَلْبِ فِي بَدَنِ الصَّيْدِ عَلَى أَحَدِ

ص: 582

الْوَجْهَيْنِ وَكَمَا يَطْهُرُ مَحَلُّ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعِ الْحَاجَاتِ. فَيُقَالُ: الْأَصْلُ فِيمَا اُسْتُحِلَّ جَرَيَانُهُ عَلَى وِفَاقِ الْأَصْلِ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اسْتِحْلَالَ هَذَا مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ؛ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ فَقَدْ ادَّعَى مَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا بِحُجَّةِ قَوِيَّةٍ وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ الْحُجَّةِ مَا يُوجِبُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ قَامَ دَلِيلٌ يُوجِبُ الْحَظْرَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُسْتَثْنَى هَذَا الْمَوْضِعُ فَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ الْعُمُومِ الضَّعِيفِ وَالْقِيَاسِ الضَّعِيفِ فَدِلَالَةُ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الطَّهَارَةِ الْمُطْلَقَةِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ تِلْكَ عَلَى النَّجَاسَةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ. عَلَى أَنَّ ثُبُوتَ طَهَارَتِهَا وَالْعَفْوِ عَنْهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَحَدُ مَوَارِدِ الْخِلَافِ فَيَبْقَى إلْحَاقُ الْبَاقِي بِهِ بِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَرْقِ. وَمِنْ جِنْسِ هَذَا:

الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ وَهُوَ الرَّابِعَ عَشَرَ: وَهُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ عَلَى دِيَاسِ الْحُبُوبِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا بِالْبَقْرِ وَنَحْوِهَا مَعَ الْقَطْعِ بِبَوْلِهَا وَرَوْثِهَا عَلَى الْحِنْطَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مُنْكِرٌ وَلَمْ يَغْسِلْ الْحِنْطَةَ لِأَجْلِ هَذَا أَحَدٌ وَلَا احْتَرَزَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا فِي الْبَيَادِرِ لِوُصُولِ الْبَوْلِ إلَيْهِ.

ص: 583

وَالْعِلْمُ بِهَذَا كُلِّهِ عِلْمٌ اضْطِرَارِيٌّ مَا أَعْلَمُ عَلَيْهِ سُؤَالًا وَلَا أَعْلَمُ لِمَنْ يُخَالِفُ هَذَا شُبْهَةً. وَهَذَا الْعَمَلُ إلَى زَمَانِنَا مُتَّصِلٌ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ لَكِنْ لَمْ نَحْتَجَّ بِإِجْمَاعِ الْأَعْصَارِ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا هَذَا الْخِلَافُ؛ لِئَلَّا يَقُولُ الْمُخَالِفُ أَنَا أُخَالِفُ فِي هَذَا وَإِنَّمَا احْتَجَجْنَا بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَ ظُهُورِ الْخِلَافِ. وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مِنْ جِنْسِ الْإِجْمَاعِ عَلَى كَوْنِهِمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ الْحِنْطَةَ وَيَلْبَسُونَ الثِّيَابَ وَيَسْكُنُونَ الْبِنَاءَ فَإِنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ تُزْرَعُ وَنَتَيَقَّنُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ ذَلِكَ الْحَبَّ وَيُقِرُّونَ عَلَى أَكْلِهِ وَنَتَيَقَّنُ أَنَّ الْحَبَّ لَا يُدَاسُ إلَّا بِالدَّوَابِّ وَنَتَيَقَّنُ أَنْ لَا بُدَّ أَنْ تَبُولَ عَلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي يَبْقَى أَيَّامًا وَيَطُولُ دِيَاسُهَا لَهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا مُقَدِّمَاتٌ يَقِينِيَّةٌ.

الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ وَهُوَ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فَأَمَرَ بِتَطْهِيرِ بَيْتِهِ الَّذِي هُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَصَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ بِتَنْظِيفِ الْمَسَاجِدِ وَقَالَ: {جُعِلَتْ لِي كُلُّ أَرْضٍ طَيِّبَةٍ مَسْجِدًا وَطَهُورًا} وَقَالَ {الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ} وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الْحَمَامَ لَمْ يَزَلْ مُلَازِمًا لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَمْنِهِ وَعِبَادَةِ بَيْتِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ ذَرْقُهُ يَنْزِلُ فِي الْمَسْجِدِ وَفِي الْمَطَافِ وَالْمُصَلَّى. فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَتَنَجَّسَ الْمَسْجِدُ بِذَلِكَ وَلَوَجَبَ

ص: 584

تَطْهِيرُ الْمَسْجِدِ مِنْهُ: إمَّا بِإِبْعَادِ الْحَمَامِ أَوْ بِتَطْهِيرِ الْمَسْجِدِ أَوْ بِتَسْقِيفِ الْمَسْجِدِ وَلَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ فِي أَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ وَأُمِّهَا وَسَيِّدِهَا لِنَجَاسَةِ أَرْضِهِ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ يَقِينًا. وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ قَوْلَيْنِ: إمَّا طَهَارَتُهُ مُطْلَقًا أَوْ الْعَفْوُ عَنْهُ. كَمَا فِي الدَّلِيلِ قَبْلَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا رُجْحَانَ الْقَوْلِ بِالطَّهَارَةِ الْمُطْلَقَةِ.

الدَّلِيلُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ السَّادِسَ عَشَرَ. مَسْلَكُ التَّشْبِيهِ وَالتَّوْجِيهِ فَنَقُولُ وَاَللَّهُ الْهَادِي: اعْلَمْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ إنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِافْتِرَاقِ حَقِيقَتِهِمَا وَقَدْ سَمَّى اللَّهَ هَذَا طَيِّبًا وَهَذَا خَبِيثًا. وَأَسْبَابُ التَّحْرِيمِ: إمَّا الْقُوَّةُ السبعية الَّتِي تَكُونُ فِي نَفَسِ الْبَهِيمَةِ فَأَكْلُهَا يُورِثُ نَبَاتِ أَبْدَانِنَا مِنْهَا فَتَصِيرُ أَخْلَاقُ النَّاسِ أَخْلَاقَ السِّبَاعِ أَوْ لِمَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ وَإِمَّا خُبْثُ مَطْعَمِهَا كَمَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ مِنْ الطَّيْرِ أَوْ لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا مُسْتَخْبَثَةٌ كَالْحَشَرَاتِ فَقَدْ رَأَيْنَا طَيِّبَ الْمَطْعَمِ يُؤَثِّرُ فِي الْحِلِّ وَخُبْثِهِ يُؤَثِّرُ فِي الْحُرْمَةِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي لُحُومِ الْجَلَّالَةِ وَلَبَنِهَا وَبَيْضِهَا فَإِنَّهُ حُرِّمَ الطَّيِّبُ لِاغْتِذَائِهِ بِالْخَبِيثِ وَكَذَلِكَ النَّبَاتُ الْمَسْقِيُّ بِالْمَاءِ النَّجِسِ وَالْمُسَمَّدُ بِالسِّرْقِينِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ وَقَدْ رَأَيْنَا عَدَمَ الطَّعَامِ يُؤَثِّرُ فِي طَهَارَةِ الْبَوْلِ أَوْ خِفَّةِ نَجَاسَتِهِ مِثْلُ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْ

ص: 585

الطَّعَامَ. فَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَشْيَاءَ: مِنْهَا أَنَّ الْأَبْوَالَ قَدْ يُخَفَّفُ شَأْنُهَا بِحَسَبِ الْمَطْعَمِ كَالصَّبِيِّ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُبَاحَاتِ لَا تَكُونُ مَطَاعِمُهَا إلَّا طَيِّبَةً فَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ أَبْوَالُهَا طَاهِرَةً لِذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمَطْعَمَ إذَا خَبُثَ وَفَسَدَ حَرُمَ مَا نَبَتَ مِنْهُ مِنْ لَحْمٍ وَلَبَنٍ وَبَيْضٍ؛ كَالْجَلَّالَةِ وَالزَّرْعِ الْمُسَمَّدِ وَكَالطَّيْرِ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ فَإِذَا كَانَ فَسَادُهُ يُؤَثِّرُ فِي تَنْجِيسِ مَا تُوجِبُهُ الطَّهَارَةُ وَالْحِلُّ فَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ طَيِّبُهُ وَحِلُّهُ يُؤَثِّرُ فِي تَطْهِيرِ مَا يَكُونُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ نَجِسًا مُحَرَّمًا فَإِنَّ الْأَرْوَاث وَالْأَبْوَالَ مُسْتَحِيلَةٌ مَخْلُوقَةٌ فِي بَاطِنِ الْبَهِيمَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ. يُبَيِّنُ هَذَا مَا يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْأَرْوَاثِ مِنْ مُخَالَفَتِهَا غَيْرَهَا مِنْ الْأَرْوَاثِ فِي الْخَلْقِ وَالرِّيحِ وَاللَّوْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ فَيَكُونُ فَرْقُ مَا بَيْنَهَا فَرْقُ مَا بَيْنَ اللَّبَنَيْنِ وَالْمُنْبِتَيْنِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ خِلَافُهَا لِلْإِنْسَانِ. يُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ وَإِلَى الْيَوْمِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ مَا زَالُوا يَدُوسُونَ الزُّرُوعَ الْمَأْكُولَةَ بِالْبَقَرِ وَيُصِيبُ الْحَبَّ مِنْ أَرْوَاثِ الْبَقَرِ وَأَبْوَالِهَا وَمَا سَمِعْنَا أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ

ص: 586

غَسَلَ حَبًّا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُنَجَّسًا أَوْ مُسْتَقْذَرًا لَأَوْشَكَ أَنْ يُنْهَوْا عَنْهَا وَأَنْ تَنْفِرَ عَنْهُ نُفُوسُهُمْ نُفُورَهَا عَنْ بَوْلِ الْإِنْسَانِ. وَلَوْ قِيلَ هَذَا إجْمَاعٌ عَمَلِيٌّ لَكَانَ حَقًّا وَكَذَلِكَ مَا زَالَ يَسْقُطُ فِي الْمَحَالِبِ مِنْ أبعار الْأَنْعَامِ وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَحْتَرِزُ مِنْ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ عَفَا عَنْ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يَقُولُ بِالتَّنْجِيسِ عَلَى أَنَّ ضَبْطَ قَانُونٍ كُلِّيٍّ فِي الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ لَمْ يَتَيَسَّرْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْوَاجِبِ عَلَيْنَا بَعْدَ عِلْمِنَا بِالْأَنْوَاعِ الطَّاهِرَةِ وَالْأَنْوَاعِ النَّجِسَةِ. فَهَذِهِ إشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إلَى مَسَالِكِ الرَّأْيِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَمَامُهُ مَا حَضَرَنِي كِتَابُهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} .

الْفَصْلُ الثَّانِي:

فِي مَنِيِّ الْآدَمِيِّ وَفِيهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَجِسٌ كَالْبَوْلِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ رَطْبًا وَيَابِسًا مِنْ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِي وَالثَّوْرِيّ وَطَائِفَةٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ نَجِسٌ يُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ

ص: 587

وَإِسْحَاقَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. ثُمَّ هُنَا أَوْجُهٌ قِيلَ: يُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ وَمَسْحُ رَطْبِهِ مِنْ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ وَمَنِيُّ الرَّجُلِ يَتَأَتَّى فَرْكُهُ وَمَسْحُهُ بِخِلَافِ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ رَقِيقٌ كَالْمَذْيِ وَهَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ. وَقِيلَ يُجْزِئُ فَرْكُهُ فَقَطْ مِنْهُمَا لِذَهَابِهِ بِالْفَرْكِ وَبَقَاءِ أَثَرِهِ بِالْمَسْحِ. وَقِيلَ: بَلْ الْجَوَازُ مُخْتَصٌّ بِالْفَرْكِ مِنْ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ كَالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَهُوَ الَّذِي نَصَرْنَاهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: {كُنْت أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَذْهَبُ فَيُصَلِّي فِيهِ} - وَرُوِيَ فِي لَفْظِ الدارقطني - {كُنْت أَفْرُكُهُ إذَا كَانَ يَابِسًا وَأَغْسِلُهُ إذَا كَانَ رَطْبًا} . فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَيْسَ كَالْبَوْلِ يَكُونُ نَجِسًا نَجَاسَةً غَلِيظَةً. فَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَالدَّمِ أَوْ طَاهِرًا كَالْبُصَاقِ

ص: 588

لَكِنَّ الثَّانِيَ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ تَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنْ الْأَنْجَاسِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ حَمْلِ قَلِيلِهِ فِي الصَّلَاةِ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كَثِيرِهِ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْسِلُ الْمَنِيَّ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى أَثَرِ الْغُسْلِ فِيهِ} . فَهَذَا يُعَارِضُ حَدِيثَ الْفَرْكِ فِي مَنِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْغَسْلُ دَلِيلُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّ الطَّاهِرَ لَا يَطْهُرُ. فَيُقَالُ: هَذَا لَا يُخَالِفُهُ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ لِلرَّطْبِ وَالْفَرْكَ لِلْيَابِسِ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةِ الدارقطني. أَوْ هَذَا أَحْيَانًا وَهَذَا أَحْيَانًا. وَأَمَّا الْغَسْلُ فَإِنَّ الثَّوْبَ قَدْ يُغْسَلُ مِنْ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالنُّخَامَةِ اسْتِقْذَارًا لَا تَنْجِيسًا؛ وَلِهَذَا قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. وَابْنُ عَبَّاسٍ: أَمِطْهُ عَنْك وَلَوْ بإذخرة فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ. الدَّلِيلُ الثَّانِي: مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْلِتُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ بِعِرْقِ الْإِذْخِرِ ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ وَيَحُتُّهُ مِنْ ثَوْبِهِ يَابِسًا ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ} . وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْتَقْذَرَاتِ لَا مِنْ أَحْكَامِ النَّجَاسَاتِ

ص: 589

فَإِنَّ عَامَّةَ الْقَائِلِينَ بِنَجَاسَتِهِ لَا يُجَوِّزُونَ مَسْحَ رَطْبِهِ. الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: مَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ أَوَّلِينَا بِمَا رَوَاهُ إسْحَاقُ الْأَزْرَقُ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَ: إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَإِنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةِ أَوْ بإذخرة} . قَالَ الدارقطني: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ إسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَنْ شَرِيكٍ. قَالُوا: وَهَذَا لَا يَقْدَحُ؛ لِأَنَّ إسْحَاقَ بْنَ يُوسُفَ الْأَزْرَقَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ. وَرَوَى عَنْ سُفْيَانَ وَشَرِيكٍ وَغَيْرِهِمَا وَحَدَّثَ عَنْهُ أَحْمَدُ وَمِنْ فِي طَبَقَتِهِ وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ صَاحِبَا الصَّحِيحِ فَيُقْبَلُ رَفْعُهُ وَمَا يَنْفَرِدُ بِهِ. وَأَنَا أَقُولُ: أَمَّا هَذِهِ الْفُتْيَا فَهِيَ ثَابِتَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَبْلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمَا الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ فِي كُتُبِهِمْ. وَأَمَّا رَفْعُهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمُنْكَرٌ بَاطِلٌ لَا أَصْل لَهُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ رَوَوْهُ عَنْ شَرِيكٍ مَوْقُوفًا. ثُمَّ شَرِيكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - لَيْسَا فِي الْحِفْظِ بِذَاكَ وَاَلَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِعَطَاءِ مَثَلُ ابْنِ جريج الَّذِي هُوَ أَثْبَتُ فِيهِ مِنْ الْقُطْبِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَكِّيِّينَ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ إلَّا مَوْقُوفًا وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى وَهْمِ تِلْكَ الرُّوَاةِ.

ص: 590

فَإِنْ قُلْت: أَلَيْسَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُسْتَقِرَّةِ أَنَّ زِيَادَةَ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ؟ وَأَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ رَفَعَ لَا لِمَنْ وَقَفَ لِأَنَّهُ زَائِدٌ؟ قُلْت: هَذَا عِنْدَنَا حَقٌّ مَعَ تَكَافُؤِ الْمُحَدِّثِينَ الْمُخْبِرِينَ وَتَعَادُلِهِمْ وَأَمَّا مَعَ زِيَادَةِ عَدَدِ مَنْ لَمْ يَزِدْ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ أَوَّلُونَا. وَفِيهِ نَظَرٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّمَا ذَاكَ إذَا لَمْ تَتَصَادَمْ الرِّوَايَتَانِ وَتَتَعَارَضَا وَأَمَّا مَتَى تَعَارَضَتَا يَسْقُطُ رِوَايَةُ الْأَقَلِّ بِلَا رَيْبٍ وَهَاهُنَا الْمَرْوِيُّ لَيْسَ هُوَ مُقَابَلًا بِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَهَا ثُمَّ قَالَهَا صَاحِبُهُ تَارَةً. تَارَةً ذَاكِرًا وَتَارَةً آثِرًا وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةُ حَالٍ وَقَضِيَّةُ عَيْنٍ فِي رَجُلٍ اسْتَفْتَى عَلَى صُورَةٍ وَحُرُوفٍ مَأْثُورَةٍ فَالنَّاسُ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَتْ الْقَضِيَّةُ إلَّا وَاحِدَةً إذْ لَوْ تَعَدَّدَتْ الْقَضِيَّةُ لَمَا أَهْمَلَ الثِّقَاتُ الأثبات ذَلِكَ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ اهْتِمَامِهِمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَأَهْلُ نَقْدِ الْحَدِيثِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ أَقْعَدُ بِذَلِكَ وَلَيْسُوا يَشُكُّونَ فِي أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَهْمٌ. الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ فَيَجِبُ الْقَضَاءُ بِطَهَارَتِهِ حَتَّى يَجِيئَنَا مَا يُوجِبُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ نَجِسٌ وَقَدْ بَحَثْنَا وَسَبَرْنَا فَلَمْ نَجِدْ لِذَلِكَ

ص: 591

أَصْلًا فَعُلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ مُلَابَسَتِهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَنِيَّ يُصِيبُ أَبْدَانَ النَّاسِ وَثِيَابَهُمْ وَفُرُشَهُمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَلَغُ الْهِرُّ فِي آنِيَتِهِمْ فَهُوَ طَوَافُ الْفَضَلَاتِ بَلْ قَدْ يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنْ الِاحْتِرَازِ مِنْ الْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ الْمُصِيبِ ثِيَابَهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ مَنِيِّ الِاحْتِلَامِ وَالْجِمَاعِ وَهَذِهِ الْمَشَقَّةُ الظَّاهِرَةُ تُوجِبُ طَهَارَتَهُ وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَضِي لِلتَّنْجِيسِ قَائِمًا. أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّارِعَ خَفَّفَ فِي النَّجَاسَةِ الْمُعْتَادَةِ فَاجْتَزَأَ فِيهَا بِالْجَامِدِ مَعَ أَنَّ إيجَابَ الِاسْتِنْجَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ أَهْوَنُ مِنْ إيجَابِ غَسْلِ الثِّيَابِ مِنْ الْمَنِيِّ لَا سِيَّمَا فِي الشِّتَاءِ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ. فَإِنْ قِيلَ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنْ - النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْقَيْءِ} رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ قَدْ مَضَى فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْسِلُهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ خَارِجٌ يُوجِبُ طَهَارَتَيْ الْخَبَثِ وَالْحَدَثِ فَكَانَ نَجِسًا كَالْبَوْلِ وَالْحَيْضِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ إيجَابَ نَجَاسَةِ الطَّهَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ

ص: 592

نَجِسٌ فَإِنَّ إمَاطَتَهُ وَتَنْحِيَتَهُ أَخَفُّ مِنْ التَّطَيُّرِ مِنْهُ فَإِذَا وَجَبَ الْأَثْقَلُ فَالْأَخَفُّ أَوْلَى. لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الِاسْتِنْجَاءَ إمَاطَةٌ وَتَنْحِيَةٌ فَإِذَا وَجَبَ تَنْحِيَتُهُ فِي مَخْرَجِهِ فَفِي غَيْرِ مَخْرَجِهِ أَحَقُّ وَأَوْلَى. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمَذْيِ فَكَانَ نَجِسًا كَالْمَذْيِ وَذَاكَ لِأَنَّ الْمَذْيَ يَخْرُجُ عِنْدَ مُقَدِّمَاتِ الشَّهْوَةِ وَالْمَنِيُّ أَصْلُ الْمَذْيِ عِنْدَ اسْتِكْمَالِهَا وَهُوَ يَجْرِي فِي مَجْرَاهُ وَيَخْرُجُ مِنْ مَخْرَجِهِ فَإِذَا نُجِّسَ الْفَرْعُ فَلَأَنْ يُنَجَّسَ الْأَصْلُ أَوْلَى. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الذَّكَرِ أَوْ خَارِجٌ مِنْ الْقُبُلِ فَكَانَ نَجِسًا كَجَمِيعِ الْخَوَارِجِ: مِثْلُ الْبَوْلِ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي النَّجَاسَةِ مَنُوطٌ بِالْمَخْرَجِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَضَلَاتِ الْخَارِجَةَ مِنْ أَعَالِي الْبَدَنِ لَيْسَتْ نَجِسَةً وَفِي أَسَافِلِهِ تَكُونُ نَجِسَةً وَإِنْ جَمَعَهَا الِاسْتِحَالَةُ فِي الْبَدَنِ؟ الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ الدَّمِ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ قَصَرَتْهُ الشَّهْوَةُ وَلِهَذَا يَخْرُجُ عِنْدَ الْإِكْثَارِ مِنْ الْجِمَاعِ أَحْمَرَ وَالدَّمُ نَجِسٌ وَالنَّجَاسَةُ لَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ عِنْدَكُمْ.

ص: 593

الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ يَجْرِي فِي مَجْرَى الْبَوْلِ فَيَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاةِ الْبَوْلِ فَيَكُونُ كَاللَّبَنِ فِي الظَّرْفِ النَّجِسِ. فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهِ. فَنَقُولُ: الْجَوَابُ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ: أَمَّا حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فَلَا أَصْلَ لَهُ. فِي إسْنَادِهِ ثَابِتُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ الدارقطني: ضَعِيفٌ جِدًّا وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَهُ مَنَاكِيرُ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَقَوْلُهُمْ: يُوجِبُ طَهَارَتَيْ الْخَبَثِ وَالْحَدَثِ أَمَّا الْخَبَثُ فَمَمْنُوعٌ؛ بَلْ الِاسْتِنْجَاءُ مِنْهُ مُسْتَحَبٌّ كَمَا يُسْتَحَبُّ إمَاطَتُهُ مِنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَقَدْ قِيلَ: هُوَ وَاجِبٌ كَمَا قَدْ قِيلَ يَجِبُ غَسْلُ الْأُنْثَيَيْنِ مِنْ الْمَذْيِ وَكَمَا يَجِبُ غَسْلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ إذَا خَرَجَ الْخَارِجُ مِنْ الْفَرْجِ فَهَذَا كُلُّهُ طَهَارَةٌ وَجَبَتْ لِخَارِجِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْصُودُ بِهَا إمَاطَتَهُ وَتَنْجِيسَهُ؛ بَلْ سَبَبٌ آخَرُ كَمَا يُغْسَلُ مِنْهُ سَائِرُ الْبَدَنِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ لَيْسَ هُوَ النَّجَاسَةَ؛ بَلْ سَبَبٌ آخَرُ. فَقَوْلُهُمْ: يُوجِبُ طَهَارَةَ الْخَبَثِ وَصْفٌ مَمْنُوعٌ فِي الْفَرْعِ فَلَيْسَ غَسْلُهُ عَنْ الْفَرْجِ لِلْخَبَثِ وَلَيْسَتْ الطهارات مُنْحَصِرَةً فِي ذَلِكَ: كَغَسْلِ الْيَدِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ وَغَسْلِ الْمَيِّتِ وَالْأَغْسَالُ الْمُسْتَحَبَّةُ وَغَسْلِ الْأُنْثَيَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الطَّهَارَةُ إنْ قِيلَ: بِوُجُوبِهَا فَهِيَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّالِثِ فَيَبْطُلُ قِيَاسُهُ عَلَى الْبَوْلِ؛ لِفَسَادِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ.

ص: 594

وَأَمَّا إيجَابُهُ طَهَارَةَ الْحَدَثِ فَهُوَ حَقٌّ؛ لَكِنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ لَيْسَتْ أَسْبَابُهَا مُنْحَصِرَةً فِي النَّجَاسَاتِ. فَإِنَّ الصُّغْرَى تَجِبُ مِنْ الرِّيحِ إجْمَاعًا وَتَجِبُ بِمُوجَبِ الْحُجَّةِ مِنْ مُلَامَسَةِ الشَّهْوَةِ وَمِنْ مَسِّ الْفَرْجِ وَمِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَمِنْ الرِّدَّةِ وَغَسْلِ الْمَيِّتِ وَقَدْ كَانَتْ تَجِبُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِنْ كُلِّ مَا غَيَّرَتْهُ النَّارُ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَسْبَابُ غَيْرُ نَجِسَةٍ. وَأَمَّا الْكُبْرَى: فَتَجِبُ بِالْإِيلَاجِ إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَلَا نَجَاسَةَ وَتَجِبُ بِالْوِلَادَةِ الَّتِي لَا دَمَ مَعَهَا عَلَى رَأْيٍ مُخْتَارٍ وَالْوَلَدُ طَاهِرٌ. وَتَجِبُ بِالْمَوْتِ وَلَا يُقَالُ هُوَ نَجِسٌ. وَتَجِبُ بِالْإِسْلَامِ عِنْدَ طَائِفَةٍ. فَقَوْلُهُمْ: إنَّمَا أَوْجَبَ طَهَارَةَ الْحَدَثِ أَوْ أَوْجَبَ الِاغْتِسَالَ نَجِسٌ مُنْتَقِضٌ بِهَذِهِ الصُّوَرِ الْكَثِيرَةِ فَبَطَلَ طَرْدُهُ. فَإِنْ ضَمُّوا إلَى الْعِلَّةِ كَوْنَهُ خَارِجًا انْتَقَضَ بِالرِّيحِ وَالْوَلَدِ نَقْضًا قَادِحًا. ثُمَّ يُقَالُ: قَوْلُكُمْ خَارِجٌ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِرَازُ بِهِ. ثُمَّ إنَّ عَكْسَهُ أَيْضًا بَاطِلٌ وَالْوَصْفُ عَدِيمُ التَّأْثِيرِ فَإِنَّ مَا لَا يُوجِبُ طَهَارَةَ الْحَدَثِ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ: نَجِسٌ كَالدَّمِ الَّذِي لَمْ يُسَلَّ وَالْيَسِيرِ مِنْ الْقَيْءِ. وَأَيْضًا فَسَيَأْتِي الْفَرْقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَهَذِهِ أَوْجُهٌ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: التَّطْهِيرُ مِنْهُ أَبْعَدُ مِنْ تَطْهِيرِهِ. فَجَمَعَ مَا بَيْنَ مُتَفَاوِتَيْنِ

ص: 595

مُتَبَايِنَيْنِ فَإِنَّ الطَّهَارَةَ مِنْهُ طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ وَتَطْهِيرُهُ إزَالَةُ خَبَثٍ وَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْأَسْبَابُ وَالْأَحْكَامُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ؛ فَإِنَّ هَذِهِ تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ دُونَ تِلْكَ. وَهَذِهِ مِنْ بَابِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتِلْكَ مِنْ بَابِ اجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهَذِهِ مَخْصُوصَةٌ بِالْمَاءِ أَوْ التُّرَابِ وَقَدْ تُزَالُ تِلْكَ بِغَيْرِ الْمَاءِ فِي مَوَاضِعَ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي مَوَاضِعَ عَلَى رَأْيٍ وَهَذِهِ يَتَعَدَّى حُكْمُهَا مَحَلَّ سَبَبِهَا إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ وَتِلْكَ يَخْتَصُّ حُكْمُهَا بِمَحَلِّهَا. وَهَذِهِ تَجِبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ السَّبَبِ أَوْ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ وَتِلْكَ تَجِبُ فِي مَحَلِّ السَّبَبِ فَقَطْ وَهَذِهِ حِسِّيَّةٌ وَتِلْكَ عَقْلِيَّةٌ وَهَذِهِ جَارِيَةٌ فِي أَكْثَرِ أُمُورِهَا عَلَى سُنَنِ مُقَايِسِ الْبَحَّاثِينَ وَتِلْكَ مُسْتَصْعَبَةٌ عَلَى سَبْرِ الْقِيَاسِ وَهَذِهِ وَاجِبَةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي وُجُوبِ الْأُخْرَى خِلَافٌ مَعْلُومٌ. وَهَذِهِ لَهَا بَدَلٌ وَفِي بَدَلِ تِلْكَ فِي الْبَدَنِ خَاصَّةً خِلَافٌ ظَاهِرٌ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقِيَاسُ هَذِهِ الطَّهَارَةِ عَلَى تِلْكَ الطَّهَارَةِ كَقِيَاسِ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ وَتِلْكَ عِبَادَةٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْحَقِيقَتَيْنِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ إلْحَاقُهُ بِالْمَذْيِ فَقَدْ مُنِعَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ عَلَى قَوْلٍ بِطَهَارَةِ الْمَذْيِ وَالْأَكْثَرُونَ سَلَّمُوهُ وَفَرَّقُوا بِافْتِرَاقِ الْحَقِيقَتَيْنِ؛ فَإِنَّ هَذَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِنْسَانِ وَذَلِكَ بِخِلَافِهِ. أَلَا

ص: 596

تَرَى أَنَّ عَدَمَ الْإِمْنَاءِ عَيْبٌ يُبْنَى عَلَيْهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ: مَنْشَؤُهَا عَلَى أَنَّهُ نَقْصٌ وَكَثْرَةُ الْإِمْذَاءِ رُبَّمَا كَانَتْ مَرَضًا وَهُوَ فَضْلَةٌ مَحْضَةٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ كَالْبَوْلِ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي انْبِعَاثِهِمَا عَنْ شَهْوَةِ النِّكَاحِ فَلَيْسَ الْمُوجِبُ لِطَهَارَةِ الْمَنِيِّ أَنَّهُ عَنْ شَهْوَةِ الْبَاءَةِ فَقَطْ؛ بَلْ شَيْءٌ آخَرُ. وَإِنْ أَجْرَيْنَاهُ مَجْرَاهُ فَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا كَوْنُهُ فَرْعًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَنِينِ النَّاقِصِ: كَالْإِنْسَانِ إذَا أَسْقَطَتْهُ الْمَرْأَةُ قَبْلَ كَمَالِ خَلْقِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَبْدَأَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَلَا يُنَاطُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِنْسَانِ إلَّا مَا قَلَّ وَلَوْ كَانَ فَرْعًا؛ فَإِنَّ النَّجَاسَةَ اسْتِخْبَاثٌ وَلَيْسَ اسْتِخْبَاثُ الْفَرْعِ بِالْمُوجِبِ خُبْثَ أَصْلِهِ: كَالْفُضُولِ الْخَارِجَةِ مِنْ الْإِنْسَانِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فَقِيَاسُهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَارِجَاتِ بِجَامِعِ اشْتِرَاكِهِنَّ فِي الْمَخْرَجِ مَنْقُوضٌ بِالْفَمِ فَإِنَّهُ مَخْرَجُ النُّخَامَةِ وَالْبُصَاقِ الطَّاهِرَيْنِ وَالْقَيْءِ النَّجِسِ. وَكَذَلِكَ الدُّبُرُ مَخْرَجُ الرِّيحِ الطَّاهِرِ وَالْغَائِطِ النَّجِسِ. وَكَذَلِكَ الْأَنْفُ مَخْرَجُ الْمُخَاطِ الطَّاهِرِ وَالدَّمِ النَّجِسِ. وَإِنْ فَصَلُوا بَيْنَ مَا يَعْتَادُ النَّاسُ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ لِأَسْبَابِ حَادِثَةٍ.

ص: 597

قُلْنَا: النُّخَامَةُ الْمُعْدِيَةُ - إذَا قِيلَ: بِنَجَاسَتِهَا - مُعْتَادَةٌ وَكَذَلِكَ الرِّيحُ. وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقُولُ: لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَخْرَجِ؟ وَلِمَ لَا يُقَالُ الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْدِنِ والمستحال فَمَا خُلِقَ فِي أَعْلَى الْبَدَنِ فَطَاهِرٌ وَمَا خُلِقَ فِي أَسْفَلِهِ فَنَجِسٌ وَالْمَنِيُّ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنَ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ؛ بِخِلَافِ الْبَوْلِ وَالْوَدْيِ. وَهَذَا أَشَدُّ اطِّرَادًا؛ لِأَنَّ الْقَيْءَ وَالنُّخَامَةَ الْمُنَجَّسَةَ خَارِجَانِ مِنْ الْفَمِ لَكِنْ لَمَّا اسْتَحَالَا فِي الْمَعِدَةِ كَانَا نَجِسَيْنِ. وَأَيْضًا فَسَوْفَ نُفَرِّقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ فَقَوْلُهُمْ: مُسْتَحِيلٌ عَنْ الدَّمِ وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ: عَنْهُ عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ مُسْتَنِيرَةٍ قَاطِعَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْآدَمِيِّ وَبِمُضْغَتِهِ فَإِنَّهُمَا مُسْتَحِيلَانِ عَنْهُ وَبَعْدَهُ عَنْ الْعَلَقَةِ وَهِيَ دَمٌ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِنَجَاسَتِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْبَهَائِمِ الْمَأْكُولَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّمَ قَبْلَ ظُهُورِهِ وَبُرُوزِهِ يَكُونُ نَجِسًا فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى تَنْجِيسِهِ وَلَا يُغْنِي الْقِيَاسُ عَلَيْهِ إذَا ظَهَرَ وَبَرَزَ بِاتِّفَاقِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لِلدَّلِيلِ عَلَى طَهَارَتِهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّجِسَ هُوَ الْمُسْتَقْذَرُ الْمُسْتَخْبَثُ وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَثْبُتُ

ص: 598

لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ إلَّا بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا مَوَاضِعَ خَلْقِهَا فَوَصْفُهَا بِالنَّجَاسَةِ فِيهَا وَصْفٌ بِمَا لَا تَتَّصِفُ بِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ خَاصَّةَ النَّجِسِ وُجُوبُ مُجَانَبَتِهِ فِي الصَّلَاةِ. وَهَذَا مَفْقُودٌ فِيهَا فِي الْبَدَنِ مِنْ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ صَلَّى حَامِلًا وِعَاءً مَسْدُودًا قَدْ أُوعِيَ دَمًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فَلَئِنْ قُلْت: عُفِيَ عَنْهُ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ. قُلْت: بَلْ جُعِلَ طَاهِرًا لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ. فَمَا الْمَانِعُ مِنْهُ وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّلُ طَهَارَةَ الْهِرَّةِ بِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ حَيْثُ يَقُولُ: {إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ} ؟ . بَلْ أَقُولُ: قَدْ رَأَيْنَا جِنْسَ الْمَشَقَّةِ فِي الِاحْتِرَازِ مُؤَثِّرًا فِي جِنْسِ التَّخْفِيفِ. فَإِنْ كَانَ الِاحْتِرَازُ مِنْ جَمِيعِ الْجِنْسِ مشقا عُفِيَ عَنْ جَمِيعِهِ فَحُكِمَ بِالطَّهَارَةِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ بَعْضِهِ عُفِيَ عَنْ الْقَدْرِ المشق وَهُنَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي دَاخِلِ الْأَبْدَانِ فَيُحْكَمُ لِنَوْعِهِ بِالطَّهَارَةِ كَالْهِرِّ وَمَا دُونَهَا وَهَذَا وَجْهٌ ثَالِثٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الدِّمَاءَ الْمُسْتَخْبَثَةَ فِي الْأَبْدَانِ وَغَيْرِهَا هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْحَيَوَانِ الَّتِي لَا تَقُومُ حَيَاتُهُ إلَّا بِهَا حَتَّى سُمِّيَتْ نَفْسًا فَالْحُكْمُ

ص: 599

بِأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ أَحَدَ أَرْكَانِ عِبَادِهِ مِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ نَوْعًا نَجِسًا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ فَلَا تَثْبُتُ النَّجَاسَةُ إلَّا بِدَلِيلِ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الدِّمَاءِ الْمُسْتَخْبَثَةِ شَيْءٌ مِنْ أَدِلَّةِ النَّجَاسَةِ وَخَصَائِصِهَا. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا الْأَعْيَانَ تَفْتَرِقُ حَالُهَا: بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ فِي مَوْضِعِ عَمَلِهَا وَمَنْفَعَتِهَا وَبَيْنَ مَا إذَا فَارَقَتْ ذَلِكَ. فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ مَا دَامَ جَارِيًا فِي أَعْضَاءِ الْمُتَطَهِّرِ فَهُوَ طَهُورٌ فَإِذَا انْفَصَلَ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ. وَالْمَاءُ فِي الْمَحَلِّ النَّجِسِ مَا دَامَ عَلَيْهِ فَعَمَلُهُ بَاقٍ وَتَطْهِيرُهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ فَإِذَا فَارَقَ مَحَلَّ عَمَلِهِ فَهُوَ إمَّا نَجِسٌ أَوْ غَيْرُ مُطَهِّرٍ؛ وَهَذَا مَعَ تَغَيُّرِ الْأَمْوَاهِ فِي مَوَارِدِ التَّطْهِيرِ تَارَةً بِالطَّاهِرَاتِ وَتَارَةً بِالنَّجَاسَاتِ فَإِذَا كَانَتْ الْمُخَالَطَةُ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ أَسْبَابِ التَّغْيِيرِ لَا تُؤَثِّرُ فِي مَحَلِّ عَمَلِنَا وَانْتِفَاعِنَا فَمَا ظَنُّك بِالْجِسْمِ الْمُفْرَدِ فِي مَحَلِّ عَمَلِهِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّهُ لُبَابُ الْفِقْهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ عَنْ أَصْلِ الدَّلِيلِ: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَحَالَ وَتَبَدَّلَ. وَقَوْلُهُمْ: الِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ. قُلْنَا: مَنْ أَفْتَى بِهَذِهِ الْفَتْوَى الطَّوِيلَةِ الْعَرِيضَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِجْمَاعِ

ص: 600

فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا أَنَّ الْخَمْرَ إذَا بَدَأَ اللَّهُ بِإِفْسَادِهَا وَتَحْوِيلِهَا خَلًّا طَهُرَتْ وَكَذَلِكَ تَحْوِيلُ الدَّوَابِّ وَالشَّجَرِ بَلْ أَقُولُ: الِاسْتِقْرَاءُ دَلَّنَا أَنَّ كُلَّ مَا بَدَأَ اللَّهُ بِتَحْوِيلِهِ وَتَبْدِيلِهِ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ مِثْلُ جَعْلِ الْخَمْرِ خَلًّا وَالدَّمِ مَنِيًّا وَالْعَلَقَةِ مُضْغَةً وَلَحْمِ الْجَلَّالَةِ الْخَبِيثِ طَيِّبًا وَكَذَلِكَ بَيْضُهَا وَلَبَنُهَا وَالزَّرْعُ الْمَسْقِيُّ بِالنَّجِسِ إذَا سُقِيَ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَزُولُ حُكْمُ التَّنْجِيسِ وَيَزُولُ حَقِيقَةُ النَّجِسِ وَاسْمُهُ التَّابِعُ لِلْحَقِيقَةِ وَهَذَا ضَرُورِيٌّ لَا يُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحَوِّلُهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَيُبَدِّلُهَا خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ وَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَوَادِّهَا وَعَنَاصِرِهَا. وَأَمَّا مَا اسْتَحَالَ بِسَبَبِ كَسْبِ الْإِنْسَانِ كَإِحْرَاقِ الرَّوْثِ حَتَّى يَصِيرَ رَمَادًا وَوَضْعِ الْخِنْزِيرِ فِي الْمَلَّاحَةِ حَتَّى يَصِيرَ مِلْحًا فَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ. وَلِلْقَوْلِ بِالتَّطْهِيرِ اتِّجَاهٌ وَظُهُورُ وَمَسْأَلَتِنَا مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. الدَّلِيلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَنِيَّ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الذَّكَرِ فِي خَلْقِهِ فَإِنَّهُ غَلِيظٌ وَتِلْكَ رَقِيقَةٌ. وَفِي لَوْنِهِ فَإِنَّهُ أَبْيَضُ شَدِيدُ الْبَيَاضِ. وَفِي رِيحِهِ فَإِنَّهُ طَيِّبٌ كَرَائِحَةِ الطَّلْعِ وَتِلْكَ خَبِيثَةٌ. ثُمَّ جَعَلَهُ اللَّهُ أَصْلًا لِجَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَالْإِنْسَانِ الْمُكَرَّمِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلُهُ نَجِسًا وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ نَاظَرَ بَعْضَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَتِهِ

ص: 601

لِرَجُلِ قَالَ لَهُ: مَا بَالُك وَبَالُ هَذَا؟ قَالَ: أُرِيدَ أَنْ أَجْعَلَ أَصْلَهُ طَاهِرًا وَهُوَ يَأْبَى إلَّا أَنْ يَكُونَ نَجِسًا ثُمَّ لَيْسَ شَأْنُهُ شَأْنَ الْفُضُولِ بَلْ شَأْنَ مَا هُوَ غِذَاءٌ وَمَادَّةٌ فِي الْأَبْدَانِ إذْ هُوَ قِوَامُ النَّسْلِ فَهُوَ بِالْأُصُولِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْفَضْلِ. الدَّلِيلُ السَّادِسُ: وَفِيهِ أَجْوِبَةٌ: (أَحَدُهَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجْرِي فِي مَجْرَى الْبَوْلِ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ بَيْنَهُمَا جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ وَإِنَّ الْبَوْلَ إنَّمَا يَخْرُجُ رَشْحًا وَهَذَا مَشْهُورٌ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ اتِّصَالِهِمَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْلُومًا إلَّا فِي ثُقْبِ الذَّكَرِ وَهُوَ طَاهِرٌ أَوْ مَعْفُوٌّ عَنْ نَجَاسَتِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ جَرَى فِي مَجْرَاهُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَوْلَ قَبْلَ ظُهُورِهِ نَجِسٌ. كَمَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ فِي الدَّمِ وَهُوَ فِي الدَّمِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي الْبَوْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رُكْنٌ وَبَعْضُ وَهَذَا فَضْلٌ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُمَاسَّةَ فِي بَاطِنِ الْحَيَوَانِ مُوجِبَةٌ لِلتَّنْجِيسِ. كَمَا قَدْ قِيلَ فِي الِاسْتِحَالَةِ وَهُوَ فِي الْمُمَاسَّةِ أَبْيَنُ. يُؤَيِّدُ هَذَا قَوْله تَعَالَى {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} وَلَوْ كَانَتْ الْمُمَاسَّةُ فِي الْبَاطِنِ لِلْفَرْثِ مَثَلًا مُوجِبَةً لِلنَّجَاسَةِ لَنُجِّسَ اللَّبَنُ.

ص: 602

فَإِنْ قِيلَ: فَلَعَلَّ بَيْنَهُمَا حَاجِزًا. قِيلَ: الْأَصْلُ عَدَمُهُ عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُ هَذَا فِي مَعْرِضِ بَيَانِ ذِكْرِ الِاقْتِدَارِ بِإِخْرَاجِ طَيِّبٍ مِنْ بَيْنِ خَبِيثَيْنِ فِي الِاغْتِذَاءِ وَلَا يَتِمُّ إلَّا مَعَ عَدَمِ الْحَاجِزِ وَإِلَّا فَهُوَ مَعَ الْحَاجِزِ ظَاهِرٌ فِي كَمَالِ خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {خَالِصًا} وَالْخُلُوصُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ قِيَامِ الْمُوجِبِ لِلشُّرْبِ وَبِالْجُمْلَةِ فَخُرُوجُ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ وَقَدْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ مَنْ رَأَى إنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ وَلَبَنَهَا طَاهِرًا لِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا وَإِنَّمَا حَدَثُ نَجَاسَةِ الْوِعَاءِ فَقَالَ: الْمُلَاقَاةُ فِي الْبَاطِنِ غَيْرُ ظَاهِرٍ. وَمَنْ نَجَّسَ هَذَا فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنِيِّ بِأَنَّ الْمَنِيَّ يَنْفَصِلُ عَنْ النَّجِسِ فِي الْبَاطِنِ أَيْضًا بِخِلَافِ اللَّبَنِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهُ مِنْ الْمَيْتَةِ إلَّا بَعْدَ إبْرَازِ الضَّرْعِ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ فِي حَدِّ مَا يَلْحَقُهُ النَّجَاسَةُ. {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَهَذَا الَّذِي حَضَرَنِي فِي هَذَا الْوَقْتِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

ص: 603

وَسُئِلَ: (*)

عَنْ الْمَنِيِّ هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ طَاهِرًا فَمَا حُكْمُ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ إذَا خَالَطَهُ؟.

فَأَجَابَ:

وَأَمَّا الْمَنِيُّ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ طَاهِرٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ نَجِسٌ يُجْزِئُ فَرْكُهُ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَهَلْ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ كَالدَّمِ أَوْ لَا يُعْفَى عَنْهُ كَالْبَوْلِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد. وَقِيلَ: إنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَحْتَلِمُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ الْمَنِيَّ يُصِيبُ بَدَنَ أَحَدِهِمْ وَثِيَابَهُ وَهَذَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ نَجِسًا لَكَانَ يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمْرُهُمْ بِإِزَالَةِ ذَلِكَ مِنْ أَبْدَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ كَمَا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِنْجَاءِ وَكَمَا أَمَرَ الْحَائِضَ بِأَنْ تَغْسِلَ دَمَ الْحَيْضِ مِنْ ثَوْبِهَا بَلْ إصَابَةُ النَّاسِ الْمَنِيَّ أَعْظَمُ بِكَثِيرِ مِنْ

قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 176):

هنا أمران:

الأول: كررت هذه الفتوى نفسها بعد هذا الموضه مباشرة في نفس المجلد:

21/ 606، 607، ولكن بعد أن أسقط منها ثلاثة عشر سطراً:

من قوله (وقد قيل: إنه نجس)(السطر السادس في 21/ 604)، إلى قوله (وهذا قاطع لمن تدبره)(السطر الرابع في 21/ 605).

والثاني: وقع في 21/ 606 (وفيما يشق الاحتراز منه، والمني يشق الاحتراز منه، فألحق بالمخرج)، وفي 21/ 607 (وفيما يشق الاحتراز منه، فألحق بالمخرج) فسقطت جملة (والمني يشق الاحتراز منه) بسبب انتقال النظر، والله تعالى أعلم.

ص: 604

إصَابَةِ دَمِ الْحَيْضِ لِثَوْبِ الْحُيَّضِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ بِغَسْلِ الْمَنِيِّ مِنْ بَدَنِهِ وَلَا ثَوْبِهِ فَعُلِمَ يَقِينًا أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ وَهَذَا قَاطِعٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ. وَأَمَّا كَوْنُ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَغْسِلُهُ تَارَةً مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَفْرُكُهُ تَارَةً فَهَذَا لَا يَقْتَضِي تَنْجِيسَهُ؛ فَإِنَّ الثَّوْبَ يُغْسَلُ مِنْ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْوَسَخِ وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ: كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا: إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ أَمِطْهُ عَنْك وَلَوْ بإذخرة. وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ مُسْتَنْجِيًا أَوْ مُسْتَجْمِرًا فَإِنَّ مَنِيَّهُ طَاهِرٌ. وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: إنَّ مَنِيَّ الْمُسْتَجْمِرِ نَجِسٌ لِمُلَاقَاتِهِ رَأْسَ الذَّكَرِ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ عَامَّتُهُمْ يَسْتَجْمِرُونَ وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ مِنْهُمْ إلَّا قَلِيلٌ جِدًّا بَلْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الِاسْتِنْجَاءَ بَلْ أَنْكَرُوهُ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ أَحَدًا مِنْهُمْ بِغَسْلِ مَنِيِّهِ: بَلْ وَلَا فَرْكِهِ. وَالِاسْتِجْمَارُ بِالْأَحْجَارِ: هَلْ هُوَ مُطَهِّرٌ أَوْ مُخَفِّفٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ. فَإِنْ

ص: 605

قِيلَ إنَّهُ مُطَهِّرٌ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ مُخَفِّفٌ؟ وَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ لِلْحَاجَةِ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ فِي مَحَلِّهِ وَفِيمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَالْمَنِيُّ يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَأُلْحِقَ بِالْمَخْرَجِ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ الْمَنِيِّ مَا حُكْمُهُ؟ .

فَأَجَابَ:

الصَّحِيحُ أَنَّ الْمَنِيَّ طَاهِرٌ. كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَأَمَّا كَوْنُ عَائِشَةَ تَغْسِلُهُ تَارَةً مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَفْرُكُهُ تَارَةً فَهَذَا لَا يَقْتَضِي تَنْجِيسَهُ فَإِنَّ الثَّوْبَ يُغْسَلُ مِنْ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْوَسَخِ وَهَذَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَسَعْدِ بْن أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا: إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ أَمِطْهُ عَنْك وَلَوْ بإذخرة. وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ مُسْتَنْجِيًا أَوْ مُسْتَجْمِرًا فَإِنَّ مَنِيَّهُ طَاهِرٌ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ مَنِيَّ الْمُسْتَجْمِرِ نَجِسٌ لِمُلَاقَاتِهِ رَأْسَ الذَّكَرِ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ عَامَّتُهُمْ يَسْتَجْمِرُونَ وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ مِنْهُمْ إلَّا الْقَلِيلُ جِدًّا بَلْ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ لَا يَعْرِفُ الِاسْتِنْجَاءَ بَلْ أَنْكَرُوهُ وَالْحَقُّ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 606

أَحَدًا مِنْهُمْ بِغَسْلِ الْمَنِيِّ وَلَا فَرْكِهِ. وَالِاسْتِجْمَارُ بِالْحِجَارَةِ. هَلْ هُوَ مُخَفِّفٌ أَوْ مُطَهِّرٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ فَإِنْ قِيلَ: هُوَ مُطَهِّرٌ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قِيلَ هُوَ مُخَفِّفٌ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ لِلْحَاجَةِ وَيُعْفَى عَنْهُ فِي مَحَلِّهِ وَفِيمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَأُلْحِقَ بِالْمُخْرَجِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَمَّنْ وَقَعَ عَلَى ثِيَابِهِ مَاءُ طَاقَةٍ مَا يَدْرِي مَا هُوَ: فَهَلْ يَجِبُ غَسْلُهُ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

لَا يَجِبُ غَسْلُهُ، بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ عَلَى الصَّحِيحِ وَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحَبُّ السُّؤَالُ عَنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ فَقَدْ مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَعَ رَفِيقٍ لَهُ فَقَطَرَ عَلَى رَفِيقِهِ مَاءٌ مِنْ مِيزَابٍ فَقَالَ صَاحِبُهُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ مَاؤُك طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرْهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 607

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ الْفَخَّارِ فَإِنَّهُ يُشْوَى بِالنَّجَاسَةِ فَمَا حُكْمُهُ؟ وَالْأَفْرَانُ الَّتِي تُسَخَّنُ بِالزِّبْلِ فَمَا حُكْمُهَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا السِّرْقِينُ النَّجِسُ وَنَحْوُهُ فِي الْوَقُودِ لِيُسَخِّنَ الْمَاءَ أَوْ الطَّعَامَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مُلَابَسَةَ النَّجَاسَةِ وَمُبَاشَرَتَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ لِأَنَّ إتْلَافَ النَّجَاسَةِ لَا يَحْرُمُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَظِنَّةُ التَّلَوُّثِ بِهَا. وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ فَإِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ بِالْإِتْلَافِ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ الْمَنْعُ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ التَّلَوُّثِ بِهِ وَلِكَرَاهَةِ دُخَّانِ النَّجَاسَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَبَائِثَ مِنْ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 608

أَنَّهُ قَالَ: {إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا} . ثُمَّ إنَّهُ حَرَّمَ لُبْسَهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ. وَهَذَا وَجْهٌ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عكيم: {كُنْت رَخَّصْت لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِ وَلَا عَصَبٍ} فَإِنَّ الرُّخْصَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَانَتْ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْجُلُودِ بِلَا دِبَاغٍ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فَرَفَعَ النَّهْيَ عَمَّا أَرْخَصَ فَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ قَطُّ وَلِهَذَا كَانَ آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد: أَنَّ الدِّبَاغَ مُطَهِّرٌ لِجُلُودِ الْمَيْتَةِ: لَكِنْ هَلْ يَقُومُ مَقَامَ الذَّكَاةِ أَوْ مَقَامَ الْحَيَاةِ فَيُطَهِّرُ جِلْدَ الْمَأْكُولِ أَوْ جِلْدَ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ دُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ. فَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ مَا تُطَهِّرُهُ الذَّكَاةُ لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثٍ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ الْخَمْرِ فِي إطْفَاءِ الْحَرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَلَّمَهُ الْمُنَازِعُونَ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ بِمُجَانَبَةِ الْخَمْرِ أَعْظَمُ فَإِذَا جَازَ إتْلَافُ الْخَمْرِ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَإِتْلَافُ النَّجَاسَاتِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُمْ سَلَّمُوا جَوَازَ طَعَامِ الْمَيْتَةِ لِلْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ فَاسْتِعْمَالُهَا فِي النَّارِ أَوْلَى. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: هَذَا مَظِنَّةُ مُلَابَسَتِهَا فَيُقَالُ: مُلَابَسَةُ النَّجَاسَةِ لِلْحَاجَةِ جَائِزٌ إذَا طَهَّرَ بَدَنَهُ وَثِيَابَهُ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا. كَمَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ مَعَ مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يُكْرَهُ ذَلِكَ.

ص: 609

بَلْ يُسْتَعْمَلُ الْحَجَرُ أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْمَاءِ أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُبَاشَرَتُهَا. وَفِي اسْتِعْمَالِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا لَمْ يَقُلْ بِطَهَارَتِهَا فِي الْيَابِسَاتِ رِوَايَتَانِ: أَصَحُّهُمَا جَوَازُ ذَلِكَ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ يُكْرَهُ فَالْكَرَاهَةُ تَزُولُ بِالْحَاجَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا يُفْضِي إلَى التَّلَوُّثِ بِدُخَّانِ النَّجَاسَةِ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِي الْمَلَّاحَةِ إذَا صَارَتْ مِلْحًا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَلْ هِيَ نَجِسَةٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْخِنْزِيرِ الْمَشْوِيِّ فِي التَّنُّورِ هَلْ تُطَهِّرُ النَّارُ مَا لَصِقَ بِهِ أَمْ يَحْتَاجُ إلَى غَسْلِ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ:

أَحَدُهُمَا هِيَ نَجِسَةٌ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَحْمَد وَأَحَدُ قَوْلَيْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَا يَطْهُرُ مِنْ النَّجَاسَةِ بِالِاسْتِحَالَةِ إلَّا الْخَمْرَةُ الْمُنْتَقِلَةُ بِنَفْسِهَا وَالْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ إذَا قِيلَ إنَّ الدَّبْغَ إحَالَةٌ لَا إزَالَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهَا لَا تَبْقَى نَجِسَةً. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا نَصُّ التَّحْرِيمِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَى النُّصُوصِ

ص: 610

بَلْ هِيَ أَعْيَانٌ طَيِّبَةٌ فَيَتَنَاوَلُهَا نَصُّ التَّحْلِيلِ وَهِيَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْخَمْرِ الْمُنْقَلِبَةِ بِنَفْسِهَا وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرْقِ بِأَنَّ الْخَمْرَ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَتَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ إنَّمَا نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ: كَالدَّمِ فَإِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ الْغِذَاءِ الطَّاهِرِ وَكَذَلِكَ الْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ حَتَّى الْحَيَوَانُ النَّجِسُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الطَّاهِرَاتِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ طَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَإِنَّ نَفْسَ النَّجِسِ لَمْ يَطْهُرْ لَكِنْ اسْتَحَالَ وَهَذَا الطَّاهِرُ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ النَّجِسَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِيلًا مِنْهُ وَالْمَادَّةُ وَاحِدَةٌ كَمَا أَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ هُوَ الزَّرْعَ وَالْهَوَاءَ وَالْحَبَّ وَتُرَابُ الْمَقْبَرَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَيِّتَ وَالْإِنْسَانُ لَيْسَ هُوَ الْمَنِيَّ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ أَجْسَامَ الْعَالَمِ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ وَيُحِيلُ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ وَهِيَ تُبَدَّلُ مَعَ الْحَقَائِقِ لَيْسَ هَذَا هَذَا. فَكَيْفَ يَكُونُ الرَّمَادُ هُوَ الْعَظْمَ الْمَيِّتَ وَاللَّحْمَ وَالدَّمَ نَفْسَهُ. بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْعَظْمِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ هُوَ هُوَ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَالْمَادَّةِ فَهَذَا لَا يَضُرُّ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ يَتْبَعُ الِاسْمَ وَالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الْخَبَثُ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ. وَعَلَى هَذَا فَدُخَانُ النَّارِ الْمُوقَدَةِ بِالنَّجَاسَةِ طَاهِرٌ وَبُخَارُ الْمَاءِ النَّجِسِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِي السَّقْفِ طَاهِرٌ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ

ص: 611

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْفَخَّارُ طَاهِرٌ إذْ لَيْسَ فِيهِ مِنْ النَّجَاسَةِ شَيْءٌ. وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ خَالَطَهُ مِنْ دُخَانِهَا خَرَجَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ طَاهِرٌ. وَأَمَّا نَفْسُ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَالنِّزَاعُ فِي‌

‌ الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ بِالنَّجَاسَةِ

فَإِنَّهُ طَاهِرٌ؛ لَكِنْ هَلْ يُكْرَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد. إحْدَاهُمَا: لَا يُكْرَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي يُكْرَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَلِلْكَرَاهَةِ مَأْخَذَانِ: أَحَدُهُمَا: خَشْيَةُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَصَلَ إلَى الْمَاءِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ فَيُكْرَهُ لِاحْتِمَالِ تَنَجُّسِهِ فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ بَيْنَ الْمَوْقِدِ وَبَيْنَ النَّارِ حَاجِزٌ حَصِينٌ لَمْ يُكْرَهْ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ سَبَبَ الْكَرَاهَةِ كَوْنُ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ مَكْرُوهًا وَأَنَّ السُّخُونَةَ حَصَلَتْ بِفِعْلِ مَكْرُوهٍ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَمِثْلُ هَذَا

ص: 612

طَبْخُ الطَّعَامِ بِالْوَقُودِ النَّجِسِ فَإِنْ نَضِجَ الطَّعَامُ كَسُخُونَةِ الْمَاءِ وَالْكَرَاهَةِ فِي طَبْخِ الْفَخَّارِ بِالْوَقُودِ النَّجِسِ تُشْبِهُ تَسْخِينَ الْمَاءِ الَّذِي لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ حَاجِزٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ:

هَلْ هُوَ نَجِسٌ؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثُ ذَلِكَ فَإِنَّ أَكْثَرَ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَجِسِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَيُقَالُ: إنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَى تَنْجِيسِ ذَلِكَ. بَلْ الْقَوْلُ بِنَجَاسَةِ ذَلِكَ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَا سَلَفَ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ وَبَيَّنَّا فِيهِ بِضْعَةَ عَشَرَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَجِسِ. وَالْقَائِلُ بِتَنْجِيسِ ذَلِكَ لَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى نَجَاسَتِهِ أَصْلًا. فَإِنَّ غَايَةَ مَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم {تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ} وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّامَ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَالْبَوْلُ الْمَعْهُودُ هُوَ بَوْلُ الْآدَمِيِّ وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ: {تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَامَّةَ عَذَابِ

ص: 613

الْقَبْرِ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَوْلِ الْآدَمِيِّ نَفْسِهِ الَّذِي يُصِيبُهُ كَثِيرًا لَا مِنْ بَوْلِ الْبَهَائِمِ الَّذِي لَا يُصِيبُهُ إلَّا نَادِرًا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ أَمَرَ العرنيين الَّذِينَ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَنْ يَلْحَقُوا بِإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا} وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ مَعَ ذَلِكَ بِغَسْلِ مَا يُصِيبُ أَفْوَاهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ. وَلَا بِغَسْلِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي فِيهَا الْأَبْوَالُ مَعَ حَدَثَانِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَلَوْ كَانَ بَوْلُ الْأَنْعَامِ كَبَوْلِ الْإِنْسَانِ لَكَانَ بَيَانُ ذَلِكَ وَاجِبًا وَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا سِيَّمَا مَعَ أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْأَلْبَانِ الَّتِي هِيَ حَلَالٌ طَاهِرَةٌ مَعَ أَنَّ التداوي بِالْخَبَائِثِ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَأَيْضًا: فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ} وَأَنَّهُ أَذِنَ فِي الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ حَائِلٍ وَلَوْ كَانَتْ أبعارها نَجِسَةً لَكَانَتْ مَرَابِضُهَا كَحُشُوشِ بَنِي آدَمَ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا مُطْلَقًا أَوْ لَا يُصَلِّي فِيهَا إلَّا مَعَ الْحَائِلِ الْمَانِعِ فَلَمَّا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ: كَانَ مَنْ سَوَّى بَيْن أَبْوَالِ الْآدَمِيِّينَ وَأَبْوَالِ الْغَنَمِ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ. وَأَيْضًا: فَقَدْ طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرِهِ

ص: 614

مَعَ إمْكَانِ أَنْ يَبُولَ الْبَعِيرُ وَأَيْضًا فَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَدُوسُونَ حُبُوبَهُمْ بِالْبَقَرِ مَعَ كَثْرَةِ مَا يَقَعُ فِي الْحَبِّ مِنْ الْبَوْلِ وَأَخْبَاثِ الْبَقَرِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ فَلَا يَجُوزُ التَّنْجِيسُ إلَّا بِدَلِيلِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى النَّجَاسَةِ؛ إذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ.

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ فَرَّانٍ يَحْمِي بِالزِّبْلِ وَيَخْبِزُ؟

.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا كَانَ الزِّبْلُ طَاهِرًا مِثْلَ زِبْلِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَزِبْلِ الْخَيْلِ، فَهَذَا لَا يُنَجِّسُ الْخُبْزَ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا كَزِبْلِ الْبِغَالِ وَالْحُمُرِ وَزِبْلِ سَائِرِ الْبَهَائِمِ فَعِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: إنْ كَانَ يَابِسًا فَقَدْ يَبِسَ الْفُرْنُ مِنْهُ وَلَمْ يُنَجِّسْ الْخُبْزَ وَإِنْ عَلَقَ بَعْضُهُ بِالْخُبْزِ قُلِعَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ وَلَمْ يُنَجَّسْ الْبَاقِي. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 615

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ الْكَلْبِ هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟

وَمَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا الْكَلْبُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَجِسٌ كُلُّهُ حَتَّى شَعْرُهُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ طَاهِرٌ حَتَّى رِيقُهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ رِيقَهُ نَجِسٌ وَأَنَّ شَعْرَهُ طَاهِرٌ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الْمَنْصُورَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد وَهَذَا أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ. فَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَوْ الْبَدَنَ رُطُوبَةُ شَعْرِهِ لَمْ يَنْجُسْ بِذَلِكَ وَإِذَا وَلَغَ فِي الْمَاءِ أُرِيقَ وَإِذَا وَلَغَ فِي اللَّبَنِ وَنَحْوِهِ: فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ يُؤْكَلُ ذَلِكَ الطَّعَامُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُرَاقُ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. فَأَمَّا إنْ كَانَ اللَّبَنُ كَثِيرًا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ. وَلَهُ فِي الشُّعُورِ النَّابِتَةِ عَلَى مَحَلٍّ نَجِسٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهَا: أَنَّ جَمِيعَهَا طَاهِرٌ حَتَّى شَعْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ جَمِيعَهَا نَجِسٌ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ.

ص: 616

وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ شَعْرَ الْمَيْتَةِ إنْ كَانَتْ طَاهِرَةً فِي الْحَيَاةِ كَانَ طَاهِرًا كَالشَّاةِ وَالْفَأْرَةِ وَشَعْرُ مَا هُوَ نَجِسٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ نَجِسٌ: كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَهَذِهِ هِيَ الْمَنْصُوصَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. وَالْقَوْلُ الرَّاجِحُ هُوَ طَهَارَةُ الشُّعُورِ كُلِّهَا: شَعْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرُهُمَا بِخِلَافِ الرِّيقِ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ شَعْرُ الْكَلْبِ رَطْبًا وَأَصَابَ ثَوْبَ الْإِنْسَانِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ فَلَا يَجُوزُ تَنْجِيسُ شَيْءٍ وَلَا تَحْرِيمُهُ إلَّا بِدَلِيلِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ} . وَفِي السُّنَنِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ مَرْفُوعًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا أَنَّهُ قَالَ: {الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ} . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعًا أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ} وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ} . فَأَحَادِيثُهُ كُلُّهَا لَيْسَ فِيهَا إلَّا ذِكْرُ الْوُلُوغِ لَمْ يَذْكُرْ سَائِرَ الْأَجْزَاءِ فَتَنْجِيسُهَا إنَّمَا هُوَ بِالْقِيَاسِ.

ص: 617

فَإِذَا قِيلَ: إنَّ الْبَوْلَ أَعْظَمُ مِنْ الرِّيقِ كَانَ هَذَا مُتَوَجِّهًا. وَأَمَّا إلْحَاقُ الشَّعْرِ بِالرِّيقِ فَلَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الرِّيقَ مُتَحَلِّلٌ مِنْ بَاطِنِ الْكَلْبِ بِخِلَافِ الشَّعْرِ فَإِنَّهُ نَابِتٌ عَلَى ظَهْرِهِ. وَالْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. فَإِنَّ جُمْهُورَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ شَعْرَ الْمَيْتَةِ طَاهِرٌ بِخِلَافِ رِيقِهَا. وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الزَّرْعَ النَّابِتَ فِي الْأَرْضِ النَّجِسَةِ طَاهِرٌ فَغَايَةُ شَعْرِ الْكَلْبِ أَنْ يَكُونَ نَابِتًا فِي مَنْبَتٍ نَجِسٍ كَالزَّرْعِ النَّابِتِ فِي الْأَرْضِ النَّجِسَةِ فَإِذَا كَانَ الزَّرْعُ طَاهِرًا فَالشَّعْرُ أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ لِأَنَّ الزَّرْعَ فِيهِ رُطُوبَةٌ وَلِينٌ يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ بِخِلَافِ الشَّعْرِ فَإِنَّ فِيهِ مِنْ الْيُبُوسَةِ وَالْجُمُودِ مَا يَمْنَعُ ظُهُورَ ذَلِكَ. فَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ: إنَّ الزَّرْعَ طَاهِرٌ فَالشَّعْرُ أَوْلَى وَمَنْ قَالَ إنَّ الزَّرْعَ نَجِسٌ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مَا ذُكِرَ فَإِنَّ الزَّرْعَ يَلْحَقُ بِالْجَلَّالَةِ الَّتِي تَأْكُلُ النَّجَاسَةَ وَهَذَا أَيْضًا حُجَّةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ الْجَلَّالَةَ الَّتِي تَأْكُلُ النَّجَاسَةَ قَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لَبَنِهَا فَإِذَا حُبِسَتْ حَتَّى تَطِيبَ كَانَتْ حَلَالًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ ذَلِكَ يَظْهَرُ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِي لَبَنِهَا وَبَيْضِهَا وَعَرَقِهَا فَيَظْهَرُ نَتْنُ النَّجَاسَةِ وَخُبْثُهَا فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ عَادَتْ طَاهِرَةً فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةِ زَالَ بِزَوَالِهَا. وَالشَّعْرُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ النَّجَاسَةِ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ لِتَنْجِيسِهِ مَعْنًى.

ص: 618

وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْكَلَامِ فِي شُعُورِ الْمَيْتَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكُلُّ حَيَوَانٍ قِيلَ بِنَجَاسَتِهِ فَالْكَلَامُ فِي شَعْرِهِ وَرِيشِهِ كَالْكَلَامِ فِي شَعْرِ الْكَلْبِ فَإِذَا قِيلَ: بِنَجَاسَةِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ إلَّا الْهِرَّةَ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ. كَمَا هُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: عُلَمَاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي رِيشِ ذَلِكَ وَشَعْرِهِ فِيهِ هَذَا النِّزَاعُ: هَلْ هُوَ نَجِسٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ نَجِسٌ كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد وَالْقَوْلُ بِطَهَارَةِ ذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ. كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي اقْتِنَاءِ كَلْبِ الصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ وَالْحَرْثِ وَلَا بُدَّ لِمَنْ اقْتَنَاهُ أَنْ يُصِيبَهُ رُطُوبَةُ شُعُورِهِ كَمَا يُصِيبُهُ رُطُوبَةُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ بِنَجَاسَةِ شُعُورِهَا

ص: 619

وَالْحَالُ هَذِهِ مِنْ الْحَرَجِ الْمَرْفُوعِ عَنْ الْأُمَّةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ لُعَابَ الْكَلْبِ إذَا أَصَابَ الصَّيْدَ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِغَسْلِ ذَلِكَ فَقَدْ عفى عَنْ لُعَابِ الْكَلْبِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ وَأَمَرَ بِغَسْلِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ رَاعَى مَصْلَحَةَ الْخَلْقِ وَحَاجَتَهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ كَلْبٍ طَلَعَ مِنْ مَاءٍ فَانْتَفَضَ عَلَى شَيْءٍ فَهَلْ يَجِبُ تَسْبِيعُهُ؟ .

فَأَجَابَ:

مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد رضي الله عنهما يَجِبُ تَسْبِيعُهُ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ رضي الله عنهما لَا يَجِبُ تَسْبِيعُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ سُؤْرِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ:

هَلْ هُوَ طَاهِرٌ؟ .

فَأَجَابَ:

وَأَمَّا سُؤْرُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُجَوِّزُونَ التَّوَضُّؤَ بِهِ. كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

ص: 620

وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ. كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ. وَالثَّالِثَةُ أَنَّهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ بَاطِنِ حَيَوَانٍ نَجِسٍ فَيَكُونُ نَجِسًا كَلُعَابِ الْكَلْبِ: لَكِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْهِرَّةِ: {إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ} فَعَلَّلَ طَهَارَةَ سُؤْرِهَا لِكَوْنِهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْنَا وَالطَّوَّافَاتِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحَاجَةَ مُقْتَضِيَةٌ لِلطَّهَارَةِ وَهَذَا مِنْ حُجَّةِ مَنْ يُبِيحُ سُؤْرَ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ. فَإِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ وَالْمَانِعُ يَقُولُ ذَلِكَ مِثْلُ سُؤْرِ الْكَلْبِ فَإِنَّهُ مَعَ إبَاحَةِ قِنْيَتِهِ لِمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَيْهِ نُهِيَ عَنْ سُؤْرِهِ. وَالْمُرَخِّصُ يَقُولُ: إنَّ الْكَلْبَ أَبَاحَهُ لِلْحَاجَةِ وَلِهَذَا حَرَّمَ ثَمَنَهُ؛ بِخِلَافِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فَإِنَّ بَيْعَهُمَا جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَسْآرِ السِّبَاعِ وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ طِينِ جَبَلٍ بِزِبْلِ حِمَارٍ وَطُيِّنَ بِهِ سَطْحٌ فَوَقَعَ عَلَيْهِ قَطْرٌ فَتَعَلَّقَ بِهِ مَا حُكْمُهُ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إنْ كَانَ يَسِيرًا عُفِيَ عَنْهُ. فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.

ص: 621

وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الزِّبْلُ قَدْ خُلِطَ بِالطِّينِ الَّذِي طُيِّنَ بِهِ السَّطْحُ فَقَدْ يَكُونُ قَدْ اسْتَحَالَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِلْ فَاَلَّذِي تَعَلَّقَ بِالْقَطْرِ شَيْءٌ يَسِيرٌ.

وَسُئِلَ:

عَمَّا إذَا بَالَ الْفَأْرُ فِي الْفِرَاشِ هَلْ يُصَلَّى فِيهِ؟ .

فَأَجَابَ:

غَسْلُهُ أَحْوَطُ وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد.

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ رِيشِ الْقُنْفُذِ

هَلْ هُوَ نَجِسٌ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، هُوَ طَاهِرٌ وَإِنْ وُجِدَ بَعْدَ مَوْتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ.

ص: 622

‌بَابٌ الْحَيْضُ:

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

عَمَّا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الْحَيْضُ لِلْجَارِيَةِ: الْبِكْرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ} هَلْ هُوَ صَحِيحٌ؟ وَمَا تَأْوِيلُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا نَقْلُ هَذَا الْخَبَرِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ بَاطِلٌ؛ بَلْ هُوَ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ. وَلَكِنْ هُوَ مَشْهُورٌ عَنْ أَبِي الْخُلْدِ عَنْ أَنَسٍ وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي أَبِي الْخُلْدِ. وَأَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ: أَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ كَمَا يَقُولُهُ: الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَيَقُولُونَ: أَقَلُّهُ يَوْمٌ كَمَا يَقُولُهُ: الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد. أَوْ لَا حَدَّ لَهُ كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ. فَهُمْ يَقُولُونَ: لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ فِي هَذَا شَيْءٌ وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعَادَةِ كَمَا قُلْنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 623

وَسُئِلَ:

عَنْ جِمَاعِ الْحَائِضِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

وَطْءُ الْحَائِضِ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ وَطِئَهَا وَكَانَتْ حَائِضًا فَفِي الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَفِي غُسْلِهَا مِنْ الْجَنَابَةِ دُونَ الْحَيْضِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَوَطْءُ النُّفَسَاءِ كَوَطْءِ الْحَائِضِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. لَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ وَسَوَاءٌ اسْتَمْتَعَ مِنْهَا بِفَمِهِ أَوْ بِيَدِهِ أَوْ بِرِجْلِهِ فَلَوْ وَطِئَهَا فِي بَطْنِهَا وَاسْتَمْنَى جَازَ. وَلَوْ اسْتَمْتَعَ بِفَخِذَيْهَا فَفِي جَوَازِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ الْمَرْأَةِ تَطْهُرُ مِنْ الْحَيْضِ وَلَمْ تَجِدْ مَاءً تَغْتَسِلُ بِهِ هَلْ لِزَوْجِهَا أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ غُسْلِهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فَلَا يَطَؤُهَا زَوْجُهَا حَتَّى

ص: 624

تَغْتَسِلَ إذَا كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى الِاغْتِسَالِ وَإِلَّا تَيَمَّمَتْ. كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ. وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنْ الصَّحَابَةِ حَيْثُ رُوِيَ عَنْ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ - مِنْهُمْ الْخُلَفَاءُ - أَنَّهُمْ قَالُوا: فِي الْمُعْتَدَّةِ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ. وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: حَتَّى يَطْهُرْنَ يَعْنِي يَنْقَطِعُ الدَّمُ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ وَهُوَ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ غَايَتَيْنِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} غَايَةُ التَّحْرِيمِ الْحَاصِلُ بِالْحَيْضِ وَهُوَ تَحْرِيمٌ لَا يَزُولُ بِالِاغْتِسَالِ وَلَا غَيْرِهِ فَهَذَا التَّحْرِيمُ يَزُولُ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ ثُمَّ يَبْقَى الْوَطْءُ بَعْدَ ذَلِكَ جَائِزًا بِشَرْطِ الِاغْتِسَالِ لَا يَبْقَى مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلِهَذَا قَالَ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} . وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فَنِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي غَايَةُ التَّحْرِيمِ الْحَاصِلِ بِالثَّلَاثِ فَإِذَا نَكَحَتْ الزَّوْجَ الثَّانِيَ زَالَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ؛ لَكِنْ صَارَتْ فِي عِصْمَةِ الثَّانِي فَحُرِّمَتْ لِأَجْلِ حَقِّهِ؛ لَا لِأَجْلِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ. فَإِذَا طَلَّقَهَا جَازَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا.

ص: 625

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أَيْ غَسَلْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَيْسَ بِشَيْءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فَالتَّطَهُّرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ هُوَ الِاغْتِسَالُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} فَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُغْتَسِلُ وَالْمُتَوَضِّئُ وَالْمُسْتَنْجِي لَكِنَّ التَّطَهُّرَ الْمَقْرُونَ بِالْحَيْضِ كَالتَّطَهُّرِ الْمَقْرُونِ بِالْجَنَابَةِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الِاغْتِسَالُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله يَقُولُ: إذَا اغْتَسَلَتْ أَوْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ أَوْ انْقَطَعَ الدَّمُ لِعَشَرَةِ أَيَّامٍ حَلَّتْ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الصَّوَابُ. كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ إتْيَانِ الْحَائِضِ قَبْلَ الْغُسْلِ؟ وَمَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: فَإِنْ انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَمْ يَجُزْ وَطْؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ؟ وَإِنْ انْقَطَعَ دَمُهَا لِعَشَرَةِ أَيَّامٍ جَازَ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْغُسْلِ؟ وَهَلْ الْأَئِمَّةُ مُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ

ص: 626

وَطْؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُجَوِّزُ وَطْأَهَا إذَا انْقَطَعَ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ أَوْ مَرَّ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ فَاغْتَسَلَتْ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْآثَارُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ الْحَدِيثَيْنِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ:

أَحَدُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها {أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حبيش سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: إنَّ ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي} - وَفِي رِوَايَةٍ - {وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ وَصَلِّي} . وَالْحَدِيثُ الثَّانِي عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا رضي الله عنها: {أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اُسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ} . فَهَلْ كَانَتْ تَغْتَسِلُ الْغُسْلَ الْكَامِلَ الْمَشْرُوعَ؟ أَمْ كَانَتْ تَغْسِلُ الدَّمَ وَتَتَوَضَّأُ؟ وَمَعَ هَذَا

ص: 627

فَهَلْ كَانَتْ نَاسِيَةً لِأَيَّامِ الْحَيْضِ؟ أَمْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً؟ وَهَلْ نَسَخَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَ؟ وَأَيُّهُمَا كَانَ النَّاسِخَ؟ وَهَلْ إذَا اُبْتُلِيَتْ الْمَرْأَةُ بِمَا اُبْتُلِيَتْ بِهِ أُمُّ حَبِيبَةَ أَنْ تَغْتَسِلَ الْغُسْلَ الْكَامِلَ؟ وَإِذَا أُمِرَتْ بِالْغُسْلِ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ الْحَرَجِ الْعَظِيمِ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَهَلْ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ؟ .

فَأَجَابَ:

لَيْسَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ نَاسِخًا لِلْآخَرِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا. فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ: فِيمَنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ تَعْلَمُ قَدْرَهَا فَإِذَا اُسْتُحِيضَتْ قَعَدَتْ قَدْرَ الْعَادَةِ وَلِهَذَا قَالَ: {فَدَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا} وَقَالَ: {إذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ وَصَلِّي} وَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ الْمُعْتَادَةِ. أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى عَادَتِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد. لَكِنَّهُمْ مُتَنَازِعُونَ لَوْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً تَمَيُّزَ الدَّمِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْأَحْمَرِ: فَهَلْ تُقَدِّمُ التَّمْيِيزَ عَلَى الْعَادَةِ؟ أَمْ الْعَادَةُ عَلَى التَّمْيِيزِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ التَّمْيِيزَ عَلَى الْعَادَةِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالثَّانِي: فِي أَنَّهَا تُقَدِّمُ الْعَادَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَذْهَبُ

ص: 628

أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ بَلْ أَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَعْتَبِرْ التَّمْيِيزَ كَمَا أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَعْتَبِرْ الْعَادَةَ. لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَد يَعْتَبِرَانِ هَذَا وَهَذَا وَالنِّزَاعُ فِي التَّقْدِيمِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي: فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَكِنْ أَمَرَهَا بِالْغُسْلِ مُطْلَقًا فَكَانَتْ هِيَ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَالْغُسْلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ مُسْتَحَبٌّ؛ لَيْسَ بِوَاجِبِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ إذَا قَعَدَتْ أَيَّامًا مَعْلُومَةً هِيَ أَيَّامُ الْحَيْضِ ثُمَّ اغْتَسَلَتْ كَمَا تَغْتَسِلُ مَنْ انْقَطَعَ حَيْضُهَا ثُمَّ صَلَّتْ وَصَامَتْ فِي هَذِهِ الِاسْتِحَاضَةِ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَأَمَّا مَالِكٌ فَعِنْدَهُ لَيْسَ عَلَيْهَا وُضُوءٌ وَلَا غُسْلٌ فَإِنَّ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَهُ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ النَّادِرَاتِ وَقَدْ احْتَجَّ الْأَكْثَرُونَ بِمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْمُسْتَحَاضَةَ أَنْ تَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ} . وَهَذِهِ الْمُسْتَحَاضَةُ الثَّانِيَةُ لَمْ تَكُنْ مُبْتَدَأَةً وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ فَإِنَّهَا كَانَتْ عَجُوزًا كَبِيرَةً وَإِنَّمَا حَمَلُوا أَمْرَهَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ نَاسِيَةً لِعَادَتِهَا وَفِي السُّنَنِ: {أَنَّهَا أُمِرَتْ أَنْ تَحِيضَ سِتًّا أَوْ سَبْعًا} كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بِنْتِ سَهْلٍ وَبِهَذَا احْتَجَّ الْإِمَامُ

ص: 629

أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ الْمُتَمَيِّزَةَ تَجْلِسُ سِتًّا أَوْ سَبْعًا وَهُوَ غَالِبُ الْحَيْضِ. وَفِي الْمُسْتَحَاضَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثُ سُنَنٍ: سُنَّةٌ فِي الْعَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَسُنَّةٌ فِي الْمُمَيِّزَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {دَمُ الْحَيْضِ أَسْوَدُ يُعْرَفُ} وَسُنَّةٌ فِي غَالِبِ الْحَيْضِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {تَحَيَّضِي سِتًّا أَوْ سَبْعًا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ أَوْ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَيَطْهُرْنَ لِمِيقَاتِ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ} . وَالْعُلَمَاءُ لَهُمْ فِي الِاسْتِحَاضَةِ نِزَاعٌ فَإِنَّ أَمْرَهَا مُشْكِلٌ لِاشْتِبَاهِ دَمِ الْحَيْضِ بِدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ فَاصِلٍ يَفْصِلُ هَذَا مِنْ هَذَا. وَالْعَلَامَاتُ الَّتِي قِيلَ بِهَا سِتَّةٌ: إمَّا الْعَادَةُ فَإِنَّ الْعَادَةَ أَقْوَى الْعَلَامَاتِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مُقَامُ الْحَيْضِ دُونَ غَيْرِهِ. وَإِمَّا التَّمْيِيزُ؛ لِأَنَّهُ الدَّمُ الْأَسْوَدُ وَالثَّخِينُ الْمُنْتِنُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَيْضًا مِنْ الْأَحْمَرِ. وَإِمَّا اعْتِبَارُ غَالِبِ عَادَةِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إلْحَاقُ الْفَرْدِ بِالْأَعَمِّ

ص: 630

الْأَغْلَبِ فَهَذِهِ الْعَلَامَاتُ الثَّلَاثُ تَدُلُّ عَلَيْهَا السُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُجْلِسُهَا لَيْلَةً وَهُوَ أَقَلُّ الْحَيْضِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُجْلِسُهَا الْأَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ دَمِ الصِّحَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهَا بِعَادَةِ نِسَائِهَا. وَهَلْ هَذَا حُكْمُ النَّاسِيَةِ. أَوْ حُكْمُ الْمُبْتَدَأَةِ وَالنَّاسِيَةِ جَمِيعًا فِيهِ نِزَاعٌ؟ وَأَصْوَبُ الْأَقْوَالِ اعْتِبَارُ الْعَلَامَاتِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ وَإِلْغَاءُ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُتَمَيِّزَةُ فَتَجْلِسُ غَالِبَ الْحَيْضِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا دَمًا مَحْكُومًا بِأَنَّهُ حَيْضٌ بَلْ أَمَرَهَا بِالِاحْتِيَاطِ مُطْلَقًا فَقَدْ كَلَّفَهَا أَمْرًا عَظِيمًا لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِمِثْلِهِ وَفِيهِ تَبْغِيضُ عِبَادَةِ اللَّهِ إلَى أَهْلِ دِينِ اللَّهِ وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مِنْ أَضْعَفِ الْأَقْوَالِ جِدًّا. وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الدَّمَ بِاعْتِبَارِ حُكْمِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:

دَمٌ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ حَيْضٌ كَالدَّمِ الْمُعْتَادِ الَّذِي لَا اسْتِحَاضَةَ مَعَهُ.

وَدَمٌ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ كَدَمِ الصَّغِيرَةِ.

وَدَمٌ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ حَيْضٌ. وَهُوَ دَمُ الْمُعْتَادَةِ

ص: 631

وَالْمُمَيِّزَةِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ المستحاضات الَّذِي يُحْكَمُ بِأَنَّهُ حَيْضٌ. وَدَمٌ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ. وَهُوَ الدَّمُ الَّذِي يُحْكَمُ بِأَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ مِنْ دِمَاءِ هَؤُلَاءِ. وَدَمٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ لَا يَتَرَجَّحُ فِيهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فَهَذَا يَقُولُ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا فَيُوجِبُونَ عَلَى مَنْ أَصَابَهَا أَنْ تَصُومَ وَتُصَلِّيَ ثُمَّ تَقْضِي الصَّوْمَ وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَاطِلٌ لِوُجُوهِ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} فَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَغَيْرِهَا مَا تَتَّقِيهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ الشَّرِيعَةَ فِيهَا شَكٌّ مُسْتَمِرٌّ يَحْكُمُ بِهِ الرَّسُولُ وَأُمَّتُهُ نَعَمْ: قَدْ يَكُونُ شَكٌّ خَاصٌّ بِبَعْضِ النَّاسِ. كَاَلَّذِي يَشُكُّ هَلْ أَحْدَثَ أَمْ لَا؟ كَالشُّبُهَاتِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَأَمَّا شَكٌّ وَشُبْهَةٌ تَكُونُ فِي نَفْسِ الشَّرِيعَةِ فَهَذَا بَاطِلٌ وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ هَذَا دَم شَكٍّ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ حُكْمَ الشَّرْعِ؛ لَا يَقُولُونَ: نَحْنُ شَكَكْنَا؛ فَإِنَّ الشَّاكَّ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ فَلَا يَجْزِمُ وَهَؤُلَاءِ يَجْزِمُونَ بِوُجُوبِ الصِّيَامِ وَإِعَادَتِهِ لِشَكِّهِمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَيْسَ فِيهَا إيجَابُ الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ وَلَا

ص: 632

الصِّيَامُ مَرَّتَيْنِ إلَّا بِتَفْرِيطِ مِنْ الْعَبْدِ. فَأَمَّا مَعَ عَدَمِ تَفْرِيطِهِ فَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ صَوْمَ شَهْرَيْنِ فِي السُّنَّةِ وَلَا صَلَاةَ ظُهْرَيْنِ فِي يَوْمٍ وَهَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ ضَعْفُ قَوْلِ مَنْ يُوجِبُ الصَّلَاةَ وَيُوجِبُ إعَادَتَهَا. فَإِنَّ هَذَا أَصْلٌ ضَعِيفٌ. كَمَا بُسِطَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَنْ يَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ وَإِعَادَتِهَا وَبِالصَّلَاةِ مَعَ الْأَعْذَارِ النَّادِرَةِ الَّتِي لَا تَتَّصِلُ وَإِعَادَتِهَا وَمَنْ يَأْمُرُ الْمُسْتَحَاضَةَ بِالصِّيَامِ مَرَّتَيْنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجَدُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنَّ الصَّوَابَ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ كَمَا أُمِرَ بِحَسَبِ وُسْعِهِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَلَمْ يُعْرَفْ قَطُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْعَبْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ مَرَّتَيْنِ لَكِنْ يَأْمُرُ بِالْإِعَادَةِ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: {ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ} وَكَمَا أَمَرَ مَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ " فَأَمَّا الْمَعْذُورُ كَاَلَّذِي يَتَيَمَّمُ لِعَدَمِ الْمَاءِ أَوْ خَوْفَ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ لِمَرَضِ أَوْ لِبَرْدٍ وكالاستحاضة وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَؤُلَاءِ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ وَيَسْقُطُ عَنْهُمْ مَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ بَلْ سُنَّتُهُ فِيمَنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ الْوُجُوبَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ

ص: 633

عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ. وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ عُمَرَ وَعَمَّارًا بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ لَمَّا كَانَا جُنُبَيْنِ. فَعُمَرُ لَمْ يُصَلِّ وَعَمَّارُ تَمَرَّغَ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ ظَنًّا أَنَّ التُّرَابَ يَصِلُ إلَى حَيْثُ يَصِلُ الْمَاءُ وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحِبَالُ السُّودُ مِنْ الْبِيضِ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ صَلَّوْا إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُمْ الْخَبَرُ النَّاسِخُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ بِالْحَبَشَةِ وَبَعْضُهُمْ بِمَكَّةَ وَبَعْضُهُمْ بِغَيْرِهَا بَلْ بَعْضُ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ صَلَّوْا بَعْضَ الصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ وَبَعْضَهَا إلَى الصَّخْرَةِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ وَنَظَائِرُهَا مُتَعَدِّدَةٌ. فَمَنْ اسْتَقْرَأَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَطَ عَنْهُ مَا يُعْجِزُهُ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. وَلِهَذَا عُذِرَ الْمُجْتَهِدُ الْمُخْطِئُ لِعَجْزِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُفَرِّطِ الْمُتَمَكِّنِ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: {صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ} وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ كَبِيرَةٌ تَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ.

ص: 634

وَمَقْصُودُ السَّائِلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحَاضَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ أَنْ تَصُومَ وَتَقْضِيَ الصَّوْمَ. كَمَا يَقُولُهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ امْرَأَةٍ نُفَسَاءَ لَمْ تَغْتَسِلْ: فَهَلْ يَجُوزُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْغُسْلِ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءَ حَتَّى يَغْتَسِلَا فَإِنْ عَدِمَتْ الْمَاءَ أَوْ خَافَتْ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهَا الْمَاءَ لِمَرَضِ أَوْ بَرْدٍ شَدِيدٍ تَتَيَمَّمَ وَتُوطَأُ بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ. كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أَيْ يَنْقَطِعُ الدَّمُ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أَيْ اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ. كَمَا قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وَقَدْ رُوِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ: كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِمْ حَيْثُ جَعَلُوا الزَّوْجَ أَحَقَّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَمَذْهَبُهُ إنْ انْقَطَعَ الدَّمُ لِعَشَرَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ وَمَرَّ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ أَوْ اغْتَسَلَتْ وَطِئَهَا وَإِلَّا فَلَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 635

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ امْرَأَةٍ نُفَسَاءَ: هَلْ يَجُوزُ لَهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي حَالِ النِّفَاسِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ وَطْؤُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعِينَ؟ أَمْ لَا؟ وَهَلْ إذَا قَضَتْ الْأَرْبَعِينَ وَلَمْ تَغْتَسِلْ فَهَلْ يَجُوزُ وَطْؤُهَا بِغَيْرِ غُسْلٍ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ يَنْقَطِعَ الدَّمُ فَحَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ بِدُونِ الْأَرْبَعِينَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ لَكِنْ يَنْبَغِي لِزَوْجِهَا أَنْ لَا يَقْرَبَهَا إلَى تَمَامِ الْأَرْبَعِينَ. وَأَمَّا قِرَاءَتُهَا الْقُرْآنَ فَإِنْ لَمْ تَخَفْ النِّسْيَانَ فَلَا تَقْرَؤُهُ وَأَمَّا إذَا خَافَتْ النِّسْيَانَ فَإِنَّهَا تَقْرَؤُهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ وَاغْتَسَلَتْ قَرَأَتْ الْقُرْآنَ وَصَلَّتْ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنْ تَعَذَّرَ اغْتِسَالُهَا لِعَدَمِ الْمَاءِ أَوْ لِخَوْفِ ضَرَرٍ لِمَرَضِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهَا تَتَيَمَّمُ وَتَفْعَلُ بِالتَّيَمُّمِ مَا تَفْعَلُ بِالِاغْتِسَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ

ص: 636