المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الْجُزْءُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ كِتَابُ الفِقْهِ الْجُزْءُ الخَامِسُ: الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌كِتَابُ - مجموع الفتاوى - جـ ٢٥

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

الْجُزْءُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ

كِتَابُ الفِقْهِ

الْجُزْءُ الخَامِسُ: الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ

بسم الله الرحمن الرحيم

‌كِتَابُ الزَّكَاةِ

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة رحمه الله الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم تَسْلِيمًا.

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بِمُحَمَّدِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ عَلَيْهِمْ وَمِنْ قَبْلِهَا تَمَّتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ وَأَكْمَلَ لَهُ الدِّينَ وَجَعَلَهُ مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ فَبَعَثَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَجَعَلَ كِتَابَهُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ وَأَمَرَ فِيهِ

ص: 5

بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَبِالْإِحْسَانِ إلَى خَلْقِ اللَّهِ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} . وَجَعَلَ دِينَهُ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ: إسْلَامٌ ثُمَّ إيمَانٌ ثُمَّ إحْسَانٌ. وَجَعَلَ الْإِسْلَامَ مَبْنِيًّا عَلَى أَرْكَانٍ خَمْسَةٍ: وَمِنْ آكَدِهَا الصَّلَاةُ " وَهِيَ خَمْسَةُ فُرُوضٍ وَقَرَنَ مَعَهَا الزَّكَاةَ فَمِنْ آكَدِ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ وَتَلِيهَا الزَّكَاةُ فَفِي الصَّلَاةِ عِبَادَتُهُ وَفِي الزَّكَاةِ الْإِحْسَانُ إلَى خَلْقِهِ فَكَرَّرَ فَرْضَ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ آيَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْهَا إلَّا قَرَنَ مَعَهَا الزَّكَاةَ. مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَقَالَ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} وَقَالَ: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ " {أَنَّ جِبْرِيلَ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْإِسْلَامِ

ص: 6

فَقَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ الْبَيْتِ} وَعَنْهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم {أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ} . {ولما بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: إنَّك تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتَرُدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ} .

فَصْلٌ:

وَجَاءَ ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي الْقُرْآنِ مُجْمَلًا فَبَيَّنَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ بَيَانَهُ أَيْضًا مِنْ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.

ص: 7

قَالَ حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالسُّنَّةِ يُعَلِّمُهُ إيَّاهَا كَمَا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ. وَقَدْ ذَكَرْت فِي الصَّلَاةِ فَصْلًا قَبْلَ هَذَا. وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ الزَّكَاةِ. فَنَذْكُرُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ أَحْكَامِهَا وَبَعْضَ الْأَحَادِيثِ وَشَيْئًا مِنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ. فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الزَّكَاةَ صَدَقَةً وَزَكَاةً. وَلَفْظُ الزَّكَاةِ فِي اللُّغَةِ يَدُلُّ عَلَى النُّمُوِّ وَالزَّرْعُ يُقَالُ فِيهِ: زَكَا إذَا نَمَا وَلَا يَنْمُو إلَّا إذَا خَلَصَ مِنْ الدَّغَلِ. فَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الشَّرِيعَةِ تَدُلُّ عَلَى الطَّهَارَةِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} نَفْسُ الْمُتَصَدِّقِ تَزْكُو وَمَالُهُ يَزْكُو يَطْهُرُ وَيَزِيدُ فِي الْمَعْنَى. وَقَدْ أَفْهَمَ الشَّرْعُ أَنَّهَا شُرِعَتْ لِلْمُوَاسَاةِ وَلَا تَكُونُ الْمُوَاسَاةُ إلَّا فِيمَا لَهُ مَالٌ مِنْ الْأَمْوَالِ فَحَدَّ لَهُ أَنْصِبَةً وَوَضَعَهَا فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَنْمُو بِنَفْسِهِ؛ كَالْمَاشِيَةِ وَالْحَرْثِ. وَمَا يَنْمُو بِتَغَيُّرِ عَيْنِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ كَالْعَيْنِ وَجَعَلَ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ عَلَى حِسَابِ التَّعَبِ فَمَا وُجِدَ مِنْ أَمْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ هُوَ أَقَلُّهُ تَعَبًا فَفِيهِ الْخُمُسُ ثُمَّ مَا فِيهِ التَّعَبُ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ فِيهِ نِصْفُ الْخُمُسِ وَهُوَ الْعُشْرُ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَمَا فِيهِ التَّعَبُ مِنْ طَرَفَيْنِ فِيهِ رُبُعُ الْخُمُسِ وَهُوَ نِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ وَمَا فِيهِ التَّعَبُ فِي طُولِ السَّنَةِ كَالْعَيْنِ فَفِيهِ ثُمُنُ ذَلِكَ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ.

ص: 8

فَصْلٌ:

وَافْتَتَحَ مَالِكٌ رحمه الله (كِتَابَ الزَّكَاةِ) فِي مُوَطَّئِهِ بِذِكْرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ؛ لِأَنَّهُ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الْبَابِ وَكَذَلِكَ فَعَلَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَفِيهِ ذِكْرُ نِصَابِ الْوَرِقِ وَنِصَابِ الْإِبِلِ وَنِصَابِ الْحَبِّ وَالثَّمَرِ ثُمَّ الْمَاشِيَةُ وَالْعَيْنُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مُرُورِ الْحَوْلِ. فَثَنَّى بِمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم. فِي اعْتِبَارِ الْحَوْلِ. وَلَوْ كَانَ قَدْ خَالَفَهُمْ مُعَاوِيَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا رَوَاهُ أَوْ قَالَهُ الْخُلَفَاءُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ لَا سِيَّمَا الصِّدِّيقُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي} وَقَوْلِهِ: {إنْ يُطِعْ الْقَوْمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا} . ثُمَّ ذَكَرَ " نِصَابَ الذَّهَبِ " وَالْحُجَّةُ فِيهِ أَضْعَفُ مِنْ الْوَرِقِ فَلِهَذَا أَخَّرَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهُ فَذَكَرَ الْأَحَادِيثَ وَالْآيَاتِ فِي ذَلِكَ وَأَجْوَدُهَا حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَكِتَابُهُ فِي الصَّدَقَةِ وَذَكَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْعَيْنِ وَالْحَرْثِ

ص: 9

وَالْمَاشِيَةِ وَاخْتَارَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ إجْمَاعٌ أَنَّ الزَّكَاةَ فِيمَا ذُكِرَ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي تِسْعَةِ أَشْيَاءَ: فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ. إذَا بَلَغَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ.

فَصْلٌ:

فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ وَلَا فِيمَا دُون خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ. وَأَشَارَ بِخَمْسِ أَصَابِعِهِ} وَفِي لَفْظٍ - {لَيْسَ فِيمَا دُون خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ - وَفِي لَفْظٍ: ثَمَرٍ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ. وَفِي لَفْظٍ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ} وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {فِيمَا سَقَتْ الْأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ} وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَلَفْظُهُ {فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عثريا الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ} . وَفِي الْمُوَطَّأِ " الْعُيُونُ وَالْبَعْلُ " وَالْبَعْلُ: مَا شَرِبَ بِعُرُوقِهِ وَيَمْتَدُّ فِي الْأَرْضِ

ص: 10

وَلَا يَحْتَاجُ إلَى سَقْيٍ مِنْ الْكَرْمِ وَالنَّخْلُ. وَ " العثري " مَا تَسْقِيهِ السَّمَاءُ وَتُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ الْعِذْى وَقِيلَ يُجْمَعُ لَهُ مَاءُ الْمَطَرِ فَيَصِيرُ سواقيا يَتَّصِلُ الْمَاءُ بِهَا. قَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ " فَوَائِدُ " مِنْهَا: إيجَابُ الصَّدَقَةِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ وَنَفْيُهَا عَمَّا دُونَهُ وَ " الذَّوْدُ مِنْ الْإِبِلِ " مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ وَ " الْأُوقِيَّةُ " اسْمٌ لِوَزْنِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَ " النَّشُّ " نِصْفُ أُوقِيَّةٍ وَ " النَّوَاةُ " خَمْسَةُ دَرَاهِمَ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سلام وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ: وَهِيَ الْخَمْسُ الْأَوَاقِي فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ إيجَابُ الزَّكَاةِ فِيهِ لِعَدَمِ النَّصِّ بِالْعَفْوِ عَمَّا زَادَ وَنَصِّهِ عَلَى الْعَفْوِ فِيمَا دُونَهَا وَذَلِكَ إيجَابٌ لَهَا فِي الْخَمْسِ فَمَا فَوْقَهَا وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي؛ وَاللَّيْثِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. وَفِي الذَّهَبِ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ. يُرْوَى هَذَا عَنْ عُمَرَ وَبِهِ قَالَ سَعِيدٌ وَالْحَسَنُ وَطَاوُوسٌ وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ

ص: 11

وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْجَمِيعِ.

فَصْلٌ:

" فَنِصَابُ الْوَرِقِ " الَّتِي تَجِبُ زَكَاتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ عَلَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {خَمْسُ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ} وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا: {وَفِي الرَّقَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ} . وَأَمَّا " نِصَابُ الذَّهَبِ " فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا عِنْدَنَا: أَنَّ الزَّكَاةَ. تَجِبُ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا كَمَا تَجِبُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. فَقَدْ حَكَى مَالِكٌ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا حُكِيَ خِلَافٌ إلَّا عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَا شَيْءَ فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ مِثْقَالًا. نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى فِيهِ فَضَعِيفٌ. وَمَا دُونَ الْعِشْرِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ وَقِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ. وَدَلَّ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ عَلَى إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ كَمَا وَجَبَتْ فِي الْفِضَّةِ. قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي

ص: 12

سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا زَكَاتَهَا} الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمَضْرُوبُ مِنْهَا دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ وَغَيْرُ الْمَضْرُوبِ.

فَصْلٌ:

وَهَلْ يَضُمُّ الذَّهَبَ إلَى الْفِضَّةِ فَيُكْمِلُ بِهِمَا النِّصَابَ وَيُزَكِّي أَمْ لَا؟ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: قِيلَ: لَا يَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ شَرِيكٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقِيلَ: يَضُمُّ الذَّهَبَ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ وَلَا يَضُمُّ الْوَرِقَ إلَى الذَّهَبِ؛ لِأَنَّهَا أَصْلٌ. وَقِيلَ: يَضُمُّ بِشَرْطِ أَنَّ الْأَقَلَّ يَتْبَعُ الْأَكْثَرَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالْأَوْزَاعِي. وَقِيلَ: يَضُمُّ لَكِنْ بِالْقِيمَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ. وَقِيلَ: يَضُمُّ بِالْأَجْزَاءِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وقتادة والنَّخَعِي

ص: 13

وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٌ وَصَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَبِي يُوسُفَ. فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ. مَنْ كَانَ مَعَهُ عَشْرُ دَنَانِيرَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ؛ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْعَشَرَةِ مِائَةً وَخَمْسِينَ وَمَعَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الدِّينَارَ فِي الزَّكَاةِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَالضَّمُّ بِالْأَجْزَاءِ لَا بِالْقِيمَةِ.

فَصْلٌ:

وَالْحَوْلُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُ عُمَّالَهُ عَلَى الصَّدَقَةِ كُلَّ عَامٍ وَعَمِلَ بِذَلِكَ الْخُلَفَاءُ فِي الْمَاشِيَةِ وَالْعَيْنِ لِمَا عَلِمُوهُ مِنْ سُنَّتِهِ فَرَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ. وَقَالُوا: لَا تَجِبُ زَكَاةُ مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ. فَمَنْ مَلَكَ نِصَابًا مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ وَأَقَامَ فِي مِلْكِهِ حَوْلًا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَإِنْ مَلَكَ دُونَ النِّصَابِ ثُمَّ مَلَكَ مَا يُتِمُّ النِّصَابَ بَنَى الْأَوَّلَ عَلَى حَوْلِ الثَّانِي. فَالِاعْتِبَارُ مِنْ يَوْمِ كَمُلَ النِّصَابُ. وَإِنْ مَلَكَ

ص: 14

نِصَابًا ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ مَلَكَ نِصَابًا بَنَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حَوْلِهِ وَرِبْحُ الْمَالِ مَضْمُومٌ إلَى أَصْلِهِ يُزَكِّي الرِّبْحَ لِحَوْلِ الْأَصْلِ وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ نِصَابًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ دُونَ النِّصَابِ فَتَمَّ عِنْدَ الْحَوْلِ نِصَابًا بِرِبْحِهِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ مَالِكٌ رحمه الله وَإِنْ كَانَ مَعَهُ عَرَضٌ لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ مَلَكَ مَا يُكْمِلُ النِّصَابَ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الْعُرُوضُ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ فِي الْعُرُوضِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التِّجَارَةُ الزَّكَاةَ إذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ: رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ وَالْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمَيْمُونُ بْنُ مهران وطاوس والنَّخَعِي وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٌ ودَاوُد: لَا زَكَاةَ فِيهَا. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ {سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِمَّا نُعِدُّهُ لِلْبَيْعِ} . وَرُوِيَ عَنْ حَمَاسٍ قَالَ: مَرَّ بِي عُمَرَ فَقَالَ: أَدِّ زَكَاةَ مَالِك فَقُلْت: مَالِي إلَّا جِعَابٌ وَأُدْمٌ فَقَالَ قَوِّمْهَا ثُمَّ أَدِّ زَكَاتَهَا. وَاشْتَهَرَتْ الْقِصَّةُ بِلَا مُنْكِرٍ فَهِيَ إجْمَاعٌ.

ص: 15

وَأَمَّا مَالِكٌ فَمَذْهَبُهُ أَنَّ التُّجَّارَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُتَرَبِّصٍ وَمُدِيرٍ. فَالْمُتَرَبِّصُ: وَهُوَ الَّذِي يَشْتَرِي السِّلَعَ وَيَنْتَظِرُ بِهَا الْأَسْوَاقَ فَرُبَّمَا أَقَامَتْ السِّلَعُ عِنْدَهُ سِنِينَ فَهَذَا عِنْدَهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ فَيُزَكِّيَهَا لِعَامٍ وَاحِدٍ وَحُجَّتُهُ أَنَّ الزَّكَاةَ شُرِعَتْ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ فَإِذَا زَكَّى السِّلْعَةَ كُلَّ عَامٍ - وَقَدْ تَكُونُ كَاسِدَةً - نَقَصَتْ عَنْ شِرَائِهَا فَيَتَضَرَّرُ فَإِذَا زُكِّيَتْ عِنْدَ الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَتْ رَبِحَتْ فَالرِّبْحُ كَانَ كَامِنًا فِيهَا فَيُخْرِجُ زَكَاتَهُ وَلَا يُزَكِّي حَتَّى يَبِيعَ بِنِصَابٍ ثُمَّ يُزَكِّي بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَبِيعُهُ مِنْ كَثِيرٍ وَقَلِيلٍ. وَأَمَّا الْمُدِيرُ: وَهُوَ الَّذِي يَبِيعُ السِّلَعَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَلَا يَسْتَقِرُّ بِيَدِهِ. سِلْعَةٌ فَهَذَا يُزَكِّي فِي السَّنَةِ الْجَمِيعَ يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ شَهْرًا مَعْلُومًا يَحْسِبُ مَا بِيَدِهِ مِنْ السِّلَعِ وَالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَلِيءِ الثِّقَةِ وَيُزَكِّي الْجَمِيعَ هَذَا إذَا كَانَ يَنِضُّ فِي يَدِهِ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ وَلَوْ دِرْهَمٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ بِعَيْنِ أَصْلًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا " الْحُلِيِّ " فَإِنْ كَانَ لِلنِّسَاءِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٌ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي عُبَيْدٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ

ص: 16

وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَجَابِرٍ رضي الله عنهم وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ. وَقِيلَ: فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي. وَأَمَّا حِلْيَةُ الرِّجَالِ: فَمَا أُبِيحُ مِنْهُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ كَحِلْيَةِ السَّيْفِ وَالْخَاتَمِ الْفِضَّةِ وَأَمَّا مَا يَحْرُمُ اتِّخَاذُهُ كَالْأَوَانِي فَفِيهِ الزَّكَاةُ. وَمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ تَحْلِيَةِ الْمِنْطَقَةِ وَالْخُوذَةِ وَالْجَوْشَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَفِي زَكَاتِهِ خِلَافٌ فَعِنْدَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ فِيهِ الزَّكَاةُ وَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ وَأَبَاحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد إذَا كَانَ مِنْ فِضَّةٍ وَأَمَّا حِلْيَةُ الْفَرَسِ كَالسَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَالْبِرْذَوْنِ فَهَذَا فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ مَنَعَ مِنْ اتِّخَاذِهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَكَذَلِكَ الدَّوَاةُ وَالْمُكْحُلَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَوَاءٌ كَانَ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا.

فَصْلٌ:

وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْيَتَامَى عِنْدَ مَالِكٌ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي ثَوْرٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ رضي الله عنهم قَالَ عُمَرَ: اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى

ص: 17

لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ وَقَالَتْهُ عَائِشَةَ أَيْضًا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ سِيرِين.

فَصْلٌ:

الْمَالُ الْمَغْصُوبُ وَالضَّائِعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ فِيهِ زَكَاةُ حَتَّى يَقْبِضَهُ فَيُزَكِّيَهُ لِعَامٍ وَاحِدٍ كَذَلِكَ الدَّيْنُ عِنْدَهُ لَا يُزَكِّيهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ زَكَاةً وَاحِدَةً وَقَوْلُ مَالِكٌ: يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٌ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقِيلَ: يُزَكِّي كُلَّ عَامٍ إذَا قَبَضَهُ زَكَاةً عَمَّا مَضَى وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ.

فَصْلٌ:

وَالْمَعَادِنُ: إذَا أَخْرَجَ مِنْهَا نِصَابًا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ أَخْذِهِ: عِنْدَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَزَادَ أَحْمَد الْيَاقُوتَ وَالزَّبَرْجَدَ وَالْبِلَّوْرَ وَالْعَقِيقَ وَالْكُحْلَ وَالسَّبَجَ وَالزَّرْنِيخَ. وَعِنْدَ إسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: يَسْتَقْبِلُ بِهِ حَوْلًا وَيُزَكِّيهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَجْعَلُ فِيهِ الْخُمُسَ وَلَهُ قَوْلٌ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ إلَّا فِيمَا يَنْطَبِعُ: كَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ دُونَ غَيْرِهِ.

ص: 18

وَأَمَّا مَا يَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَرِوَايَةٌ لِأَحْمَدَ.

فَصْلٌ:

وَالدَّيْنُ يُسْقِطُ زَكَاةَ الْعَيْنِ: عِنْدَ مَالِكٌ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنُ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَمَيْمُونُ بْنُ مهران والنَّخَعِي وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ " وَأَبِي ثَوْرٍ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْت عُثْمَانَ رضي الله عنه يَقُولُ: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ حَتَّى تَخْلُصَ أَمْوَالُكُمْ تُؤَدُّونَ مِنْهَا الزَّكَاةَ. وَعِنْدَ مَالِكٌ إنْ كَانَ عِنْدَهُ عُرُوضٌ تُوَفِّي الدَّيْنَ تَرَكَ الْعَيْنَ وَجَعَلَهَا فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ وَهِيَ الَّتِي يَبِيعُهَا الْحَاكِمُ فِي الدَّيْنِ مَا يَفْضُلُ عَنْ ضَرُورَتِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مَلِيءٍ ثِقَةٍ جَعَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ دَيْنِهِ أَيْضًا. وَزَكَّى الْعَيْنَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَا بِيَدِهِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ.

فَصْلٌ:

وَاخْتُلِفَ: هَلْ فِي الْعَسَلِ زَكَاةٌ؟ فَكَانَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

ص: 19

فَرَأَى الزُّهْرِيِّ أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ وَهُوَ قَوْلُ الأوزاعي وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ الْعُشْرُ. وَعِنْدَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لَا زَكَاةَ فِيهِ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم {فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ الْعُشْرُ} . الْحَدِيثُ. فَفِيهِ مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمِقْدَارُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْمُعَشَّرَاتِ. وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ شَيْءٍ يَجِبُ الْعُشْرُ وَنِصْفُهُ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي كُلِّ مَا يَزْرَعُهُ الْآدَمِيُّونَ مِنْ الْحُبُوبِ وَالْبُقُولِ وَمَا أَنْبَتَتْهُ تِجَارَاتُهُمْ مِنْ الثِّمَارِ قَلِيلُ ذَلِكَ وَكَثِيرُهُ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: لَا يَجِبُ إلَّا فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ فِيمَا يَبْلُغُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. وَقَالَ أَحْمَد: يَجِبُ الْعُشْرُ فِيمَا يَيْبَسُ وَيَبْقَى مِمَّا يُكَالُ وَيَبْلُغُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا. وَسَوَاءٌ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ قُوتًا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْأُرْزِ وَالذُّرَةِ أَوْ مِنْ الْقُطْنِيَّاتِ كَالْبَاقِلَاءِ وَالْعَدَسِ أَوْ مِنْ الْأَبَازِيرِ كالكسفرة وَالْكَمُّونِ والكراويا وَالْبِزْرِ كَبِزْرِ الْكَتَّانِ

ص: 20

وَالسِّمْسِمِ وَسَائِرِ الْحُبُوبِ. وَتَجِبُ أَيْضًا عِنْدَهُ فِيمَا جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَاللَّوْزِ وَالْبُنْدُقِ وَالْفُسْتُقِ وَلَا تَجِبُ فِي الْفَوَاكِهِ وَلَا فِي الْخُضَرِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَيُشْبِهُهُ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ. قَالَ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٌ وَزَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْ الثِّمَارِ ذَوَاتِ الْأُصُولِ كُلِّهَا مَا اُدُّخِرَ مِنْهَا وَمَا لَمْ يُدَّخَرْ وَقَالَ إذَا اجْتَمَعَ لِلرَّجُلِ مِنْ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ خَرْصُ ثَمَرَتِهِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إنْ كَانَ مِمَّا يَيْبَسُ: كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ؟ وَالْفُسْتُقِ أَخْرَجَ عُشْرَهُ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَيْبَسُ: مِثْلَ الرُّمَّانِ وَالتُّفَّاحِ والفرسك وَالسَّفَرْجَلِ وَشِبْهِهِ فَبَلَغَ خَرْصُهَا وَهِيَ خَضْرَاءُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ إنْ بَاعَهُ عُشْرُ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَبِعْهَا فَبِعُشْرِ كَيْلِ خَرْصِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِهِمْ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالسَّلْتِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ وَالْأُرْزِ وَالْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ وَالْجُلُبَّانِ وَالرَّشِّ وَالْبِسِلَّةِ وَالسِّمْسِمِ وَالْمَاشّ وَحَبِّ الْفُجْلِ وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْحُبُوبَ الْمَأْكُولَةَ الْمُدَّخَرَةَ. وَتَجِبُ فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الثِّمَارِ: وَهِيَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالزَّيْتُونُ

ص: 21

وَقَالَ الشَّافِعِيِّ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا يَيْبَسُ وَيُدَّخَرُ وَيُقْتَاتُ مَأْكُولًا أَوْ طَبِيخًا أَوْ سَوِيقًا وَلَهُ فِي الزَّيْتُونِ قَوْلَانِ وَتَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: كُلُّ مَا يُخْتَبَزُ فَفِيهِ الصَّدَقَةُ مَعَ أَنَّهُ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالزَّيْتُونِ. وَكَذَلِكَ الثَّوْرِيُّ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ وَالْأَوْزَاعِي وَالزُّهْرِيُّ وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقَالَ الأوزاعي: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الْحِنْطَةِ وَفِي الشَّعِيرِ وَالسَّلْتِ وَالتَّمْرِ وَالْعِنَبِ وَالزَّيْتُونِ. وَقَالَ إسْحَاقُ: كُلُّ مَا يُخْتَبَزُ فَفِيهِ الصَّدَقَةُ. وَعِنْدَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: تِسْعَةُ أَشْيَاءَ كَمَا تَقَدَّمَ فَقَطْ: التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ وَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ. وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَعْتَبِرُ الْخَمْسَةَ الْأَوْسُقِ إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ. أَنَّهُ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الْقَلِيلِ وَيُعْتَبَرُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ الْيُبْسُ وَالتَّصْفِيَةُ فِي الْحُبُوبِ وَالْجَفَافُ فِي الثِّمَارِ وَمَا لَا زَيْتَ فِيهِ مِنْ الزَّيْتُونِ وَمَا لَا يُزَبَّبُ مِنْ الْعِنَبِ وَلَا يُتْمِرُ مِنْ الرُّطَبِ تُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ ثَمَنِهِ أَوْ مِنْ حَبِّهِ. قَالَ مَالِكٌ إذَا بَلَغَ مِنْهُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَبِيعَ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ ثَمَنِهِ.

ص: 22

فَصْلٌ:

وَيُضَمُّ الْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسَّلْتُ فِي الزَّكَاةِ وَتُضَمُّ القطافي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَيُضَمُّ زَرْعُ الْعَامِ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُ صَيْفِيًّا وَبَعْضُهُ شَتْوِيًّا وَكَذَلِكَ الثَّمَرَةُ وَلَوْ كَانَ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى إذَا كَانَ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الشُّرَكَاءُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي حِصَّةِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ.

فَصْلٌ:

وَالْوَسْقُ: سِتُّونَ صَاعًا: وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (وَالْمُدُّ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْبَغْدَادِيِّ وَالرِّطْلُ الْبَغْدَادِيُّ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا)(*) وَالدَّرَاهِمُ هِيَ هَذِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ زَمَانِ عَبْدِ الْمَلِكِ: كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهَا وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ. فَمَبْلَغُ النِّصَابِ بِالرِّطْلِ الْبَغْدَادِيِّ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةِ رِطْلٍ. وَتَقْدِيرُهُ بِالدِّمَشْقِيِّ: ثَلَاثُمِائَةِ رِطْلٍ وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ رِطْلًا وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ رِطْلٍ.

(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 202):

حصل سقط في هذا الموضع، وصواب العبارة:(والرطل البغدادي: مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع الدرهم) كما ذكره الشيخ رحمه الله في: 25/ 51.

ص: 23

فَصْلٌ:

وَمَنْ بَاعَ ثَمَرَةً أَوْ وَهَبَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَالزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَالزَّكَاةُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْوَارِثِ إنْ كَانَ فِي حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ نِصَابٌ. وَيُخْرَصُ النَّخْلُ وَالْكَرْمُ عَلَى أَرْبَابِهِ وَيُخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَإِنْ شَاءُوا أَكَلُوا وَإِنْ شَاءُوا بَاعُوا وَيُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَمَا أُكِلَ مِنْ الزَّرْعِ أَوْ اُلْقُطَانِي. وَهُوَ أَخْضَرُ صَغِيرٌ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبْعَ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ: {خَفِّفُوا عَلَى النَّاسِ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الوطية وَالْآكِلَةَ وَالْعَرِيَّةَ} . رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ: " الوطية " السَّابِلَةُ سُمُّوا بِذَلِكَ لِوَطْئِهِمْ بِلَادَ الثِّمَارِ مُجْتَازِينَ. وَ " الْعَرِيَّةُ " هِيَ هِبَةُ ثَمَرَةِ نَخْلَةٍ أَوْ نَخَلَاتٍ لِمَنْ يَأْكُلُهُ. وَ " الْآكِلَةُ " أَهْلُ الْمَالِ يَأْكُلُونَ مِنْهُ.

فَصْلٌ:

وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إلَّا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ. وَالْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسَّلْتُ عِنْدَ مَالِكٌ صِنْفٌ وَاحِدٌ فَإِذَا اجْتَمَعَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ

ص: 24

نِصَابٌ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ وَيُخْرَجُ كُلٌّ بِحِسَابِهِ. وَكَذَلِكَ اُلْقُطَافِي: وَهِيَ الْحُمُّصُ وَالْبَاقِلَاءُ وَالْعَدَسُ وَنَحْوُ ذَلِكَ صِنْفٌ وَاحِدٌ عِنْدَهُ وَالْقَدْرُ الْمَأْخُوذُ بِقَدْرِ التَّعَبِ وَالْمُؤْنَةِ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {مَا كَانَ يُسْقَى بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا كَانَ يُسْقَى بِالنَّضْحِ أَوْ السَّانِيَةِ وَالدَّوَالِيبِ - وَهِيَ أَسْمَاءُ شَيْءٍ وَاحِدٍ كَالسَّانِيَةِ وَالنَّاضِحُ هِيَ الْإِبِلُ يُسْتَقَى بِهَا لِشُرْبِ الْمَاءِ - فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ وَمِمَّا سُقِيَ نِصْفُهُ بِهَذَا وَنِصْفُهُ بِهَذَا أَوْ نِصْفَ السَّنَةِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ} .

فَصْلٌ:

وَكُلُّ مَنْ نَبَتَ الزَّرْعُ عَلَى مِلْكِهِ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} الْآيَةَ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْأَرْضُ مِلْكًا لَهُ أَوْ اسْتَأْجَرَهَا أَوْ أَقْطَعَهَا لَهُ الْإِمَامُ يَسْتَغِلُّ مَنْفَعَتَهَا أَوْ اسْتَعَارَهَا أَوْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا قَبْلَ قَهْرِهِمْ أَنَّهَا لَهُمْ وَأَنَّ عَلَيْهِمْ فِيمَا زَرَعُوا فِيهَا الزَّكَاةَ. فَأَرْضُ الصُّلْحِ كَمَا قَالَ وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْعَنْوَةِ إذَا

ص: 25

كَانَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ أَدَّى الْخَرَاجَ وَزَكَّى مَا بَقِيَ. فَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزَّرْعِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَكَذَلِكَ الْمُقْطِعِينَ عَلَيْهِمْ الْعُشْرُ فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ كُلُّهُ لَهُ وَهُوَ يُعْطِي الْفَلَّاحَ أَجْرَهُ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ كُلُّهُ وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ مُقَاسَمَةٌ نِصْفُهُ أَوْ ثُلْثُهُ لِلْفَلَّاحِ وَنِصْفُهُ أَوْ ثُلْثُهُ لِلْمُقْطِعِ فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عُشْرُ نَصِيبِهِ فَإِنَّ الزَّرْعَ نَبَتَ عَلَى مِلْكِهِ وَهَذَا قَوْلُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَأْخُذُ مِنْهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعُشْرَ يُعْطِيهِ لِمُسْتَحِقِّيهِ وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا بِمَا يَبْقَى مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَإِذَا كَانَ الْجُنْدُ قَدْ أُعْطُوا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يُجَاهِدُونَ بِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُعْطُوا عُشْرَهُ فَمَنْ أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ أَرْضًا لِلِاسْتِغْلَالِ وَالْجِهَادِ إذَا اسْتَغَلَّهَا وَنَبَتَ الزَّرْعُ عَلَى مِلْكِهِ فِي أَرْضٍ عشرية فَمَا يَقُولُ عَالِمٌ إنَّهُ لَا عُشْرَ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ اسْتَحَقَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ بِعِوَضٍ كَالْمُسْتَأْجِرِ لَهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ بِخِدْمَةِ نَفْسِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُ: عَلَيْهِ الْعُشْرُ وَهُوَ قَوْلُ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْعُشْرُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ. فَهَؤُلَاءِ الْمُقْطَعُونَ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُمْ اُسْتُؤْجِرُوا بِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَبَذَلُوا

ص: 26

خِدْمَةَ أَنْفُسِهِمْ كَانَ عَلَيْهِمْ الْعُشْرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ عَلَى الَّذِي اسْتَأْجَرَهُمْ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْعُشْرَ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ لِمُسْتَحِقِّي الصَّدَقَاتِ يَسْقُطُ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ. وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ الْجُنْدُ لَيْسُوا كَالْأُجَرَاءِ وَإِنَّمَا هُمْ جُنْدُ اللَّهِ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عِبَادَهُ وَيَأْخُذُونَ هَذِهِ الْأَرْزَاقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى الْجِهَادِ وَمَا يَأْخُذُونَهُ لَيْسَ مِلْكًا لِلسُّلْطَانِ وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ اللَّهِ يُقَسِّمُهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ فَمَنْ جَعَلَهُمْ كَالْأُجَرَاءِ جَعَلَ جِهَادَهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: {مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي وَيَأْخُذُونَ مَا يُعْطُونَهُ مَثَلُ أُمِّ مُوسَى تُرْضِعُ ابْنَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا} .

فَصْلٌ:

فَإِنْ كَانَ عَلَى مَالِكِ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ دَيْنٌ فَهَلْ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. قِيلَ: لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِي وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد. وَقِيلَ: يُسْقِطُهَا وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنُ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ

ص: 27

وَمَيْمُونُ بْنُ مهران والنَّخَعِي وَاللَّيْثِ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ. وَكَذَلِكَ فِي الْمَاشِيَةِ: الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَقِيلَ: يُسْقِطُهَا الدَّيْنُ الَّذِي أَنْفَقَهُ عَلَى زَرْعِهِ وَثَمَرَتِهِ وَلَا يُسْقِطُهَا مَا اسْتَدَانَهُ لِنَفَقَةِ أَهْلِهِ. وَقِيلَ: يُسْقِطُهَا هَذَا وَهَذَا. الْأَوَّلُ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ. وَالثَّانِي قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ.

فَصْلٌ:

وَالرُّطَبُ الَّذِي لَا يُتْمِرُ وَالزَّيْتُونُ الَّذِي لَا يُعْصَرُ وَالْعِنَبُ الَّذِي لَا يُزَبَّبُ: فَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: تُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ ثَمَنِهِ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَإِنْ كَانَ يَتَنَاهَى فَبِيعَ قَبْلَ تَنَاهِيهِ. فَقِيلَ: تُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ ثَمَنِهِ وَقِيلَ تُخْرَجُ مِنْ حَبِّهِ أَوْ دُهْنِهِ.

ص: 28

فَصْلٌ:

فَهَذِهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ وَالْحَرْثِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ مَعَ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ. وَأَمَّا " زَكَاةُ الْمَاشِيَةِ " الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَكَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا وَكَذَلِكَ كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ. فَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ - {أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاَلَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ فَمَنْ سُئِلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِ: فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا: مِنْ الْغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ. فَفِيهَا حِقَّتَانِ

ص: 29

طَرُوقَتَا الْجَمَلِ. فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا أَرْبَعٌ مِنْ الْإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ: فِي سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَفِيهَا شَاتَانِ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً عَنْ أَرْبَعِينَ وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا. وَفِي الرَّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا} . وَعَنْ أَنَسٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا: {مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إنْ تَيَسَّرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ وَعِنْدَهُ جَذَعَةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إلَّا بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ لَبُونٍ وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ بِنْتِ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ

ص: 30

عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ وَيُعْطَى مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَلَا يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ وَلَا تَيْسٌ إلَّا إنْ شَاءَ الْمُصَدِّقُ} . وَعَنْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا {وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ} وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ كِتَابَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي مُوَطَّئِهِ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ إلَّا ذِكْرَ الْبَدَلِ مَعَ الْعِشْرِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ.

فَصْلٌ:

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَلَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ مَا رُوِيَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ.

ص: 31

وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: {فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ} مَوْضِعُ خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ السَّائِمَةَ هِيَ الَّتِي تَرْعَى. فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الْإِبِلَ الْعَوَامِلَ وَالْبَقَرَ الْعَوَامِلَ وَالْكِبَاشَ الْمَعْلُوفَةَ فِيهَا الزَّكَاةُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَا قَوْلُ اللَّيْثِ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ غَيْرَهُمَا. وَأَمَّا الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبُو حَنِيفَةَ وَكَذَلِكَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِي وَغَيْرُهُمْ: فَلَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَهُمْ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ: عَلِيٍّ وَجَابِرٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. وَكَتَبَ بِهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {فِي كُلِّ سَائِمَةٍ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ} فَقَيَّدَهُ بِالسَّائِمَةِ " وَالْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ. وَقَوْلُهُ: {مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ} إلَى آخِرِهِ. لَمْ يَقُلْ بِهِ مَالِكٌ بَلْ قَالَ إنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ السِّنَّ: كَالْجَذَعَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ يَبْتَاعُهَا وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَهُ ثَمَنَهَا وَقَالَ: إذَا لَمْ يَجِدْ السِّنَّ الَّتِي تَجِبُ فِي الْمَالِ لَمْ يَأْخُذْ مَا فَوْقَهَا وَلَا مَا دُونَهَا وَلَا يَزْدَادُ دَرَاهِمَ وَيَبْتَاعُ لَهُ رَبُّ الْمَالِ مُسِنًّا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بِمَثَلِ مَا فِي الْحَدِيثِ: إنَّهُ إذَا لَمْ

ص: 32

يَجِدْ السِّنَّ أَخَذَ مِمَّا وَجَدَ وَأَعْطَى شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ أَخَذَ مِثْلَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَفْضَلَ مِنْهَا وَأَعْطَى الزِّيَادَةَ. وَمَالِكٍ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَالِكًا إنَّمَا رَوَى كِتَابَ عُمَرَ وَلَيْسَ فِيهِ مَا فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الزِّيَادَةِ وَهَذَا شَأْنُ الْعُلَمَاءِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: {فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ} قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا مَوْضِعُ خِلَافٍ يَعْنِي إذَا زَادَتْ وَاحِدَةً قَالَ مَالِكٌ: إذَا زَادَتْ وَاحِدَةً عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَالسَّاعِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ حِقَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَقَالَ الزُّهْرِيِّ: فِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ إلَى ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ فَيَكُونُ فِيهَا حِقَّةٌ وَابْنَتَا لَبُونٍ. وَبِهِ قَالَ الأوزاعي وَالشَّافِعِيِّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ الْحِجَازِ وَهُوَ أَوْلَى عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ: فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْفَرِيضَةَ بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَيَكُونُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ.

ص: 33

فَصْلٌ:

وَقَوْلُهُ: {وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ وَلَا تَيْسٌ} عَلَيْهِ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ فِي الصَّدَقَاتِ الْعَدْلُ. كَمَا قَالَ عُمَرَ رضي الله عنه عَدْلٌ مِنْ عَدْلِ الْمَالِ وَخِيَارِهِ. " الْهَرِمَةُ " الشَّاةُ الشَّارِفُ وَ " ذَاتُ الْعَوَارِ " بِفَتْحِ الْعَيْنِ: الَّتِي بِهَا عَيْبٌ وَبِالضَّمِّ الَّتِي ذَهَبَتْ عَيْنُهَا. وَلَا يَجْزِي ذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ وَالشَّاةُ الْمَأْخُوذَةُ فِي الْإِبِلِ الْجَذَعَةُ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيَّةُ مِنْ الْمَعْزِ فَإِنْ أَخْرَجَ الْقِيمَةَ فَقَوْلَانِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ} يَعْنِي بِذَلِكَ تَفْرِقَةَ الْمَوَاشِي وَجَمْعَهَا خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ وَاخْتُلِفَ هَلْ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ أَوْ هُوَ السَّاعِي أَوْ هُمَا جَمِيعًا. وَهَذَا فِي الْخُلْطَةِ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى الْخُلَطَاءِ عَدَدٌ مِنْ الْغَنَمِ فَإِذَا فُرِّقَتْ قَلَّ الْعَدَدُ أَوْ فِي الْفُرْقَةِ عَدَدٌ فَإِذَا جَمَعُوهَا قَلَّ الْعَدَدُ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَلِهَذَا نَظَائِرُ: كَثَلَاثَةِ نَفَرٍ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ فَفِيهَا حِينَئِذٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ فَإِذَا جُمِعَتْ صَارَ فِيهَا شَاةٌ أَوْ يَكُونُ لِرَجُلَيْنِ مِنْ الْغَنَمِ مِائَتَيْنِ

ص: 34

وَشَاتَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةٌ وَشَاةٌ فَعَلَيْهِمَا فِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ فَإِذَا تَفَرَّقَ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ " وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ} يَعْنِي إذَا أُخِذَتْ شَاةٌ مِنْ غَنَمِ أَحَدِ الْخَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْآخَرِ بِقِيمَةِ مَا يَخُصُّهُ.

فَصْلٌ:

وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: {فِي الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاةٌ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ} هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ أَيْضًا وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ سَوَاءٌ. وَالسَّوْمُ: شَرْطٌ فِي الزَّكَاةِ " إلَّا عِنْدَ مَالِكٌ وَاللَّيْثِ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَإِنَّهُمَا يُوجِبَانِ الزَّكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَة وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الضَّأْنَ وَالْمَعْزَ يُجْمَعَانِ فِي الزَّكَاةِ وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ.

ص: 35

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كَانَ بَعْضُ الْجِنْسِ أَرْفَعَ مِنْ بَعْضٍ. فَقِيلَ: يَأْخُذُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ وَقِيلَ: مِنْ الْوَسَطِ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا " صَدَقَةُ الْبَقَرِ ": فَقَدْ ثَبَتَ {عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ صَدَقَةَ الْبَقَرِ مَنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً وَمَنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً وَأَنْ يَأْخُذَ الْجِزْيَةَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا} . رَوَاهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ طاوس عَنْ مُعَاذٍ وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِينَ شَيْءٌ. وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدٌ وَالزُّهْرِيُّ أَنَّ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ كَالْإِبِلِ. وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ سَائِمَة كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ {لَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُعَاذٍ وَجَابِرٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا صَدَقَةَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ. وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ يَقُولَانِ: فِيهَا الصَّدَقَةُ.

ص: 36

وَيُخْرِجُ فِي الثَّلَاثِينَ الذَّكَرَ وَفِي الْأَرْبَعِينَ الْأُنْثَى فَإِنْ أَخْرَجَ ذَكَرًا هَلْ يُجْزِئُهُ؟ قَوْلَانِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُجْزِئُهُ. وَأَشْهَبُ قَالَ لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ. فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا أَخْرَجَ مِنْهَا. وَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ خُيِّرَ رَبُّ الْمَالِ بَيْنَ ثَلَاثِ مُسِنَّاتٍ أَوْ أَرْبَعَةِ أَتْبِعَةٍ. وَالتَّبِيعُ: الَّذِي لَهُ سَنَةٌ وَدَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ. وَالْبَقَرَةُ الْمُسِنَّةُ مَا لَهَا سَنَتَانِ.

فَصْلٌ:

وَ " الْجَوَامِيسُ ": بِمَنْزِلَةِ الْبَقَرِ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ. وَأَمَّا " بَقَرُ الْوَحْشِ " فَلَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهَا الزَّكَاةُ. فَإِنْ تَوَلَّدَ مِنْ الْوَحْشِيِّ وَالْأَهْلِيِّ فَقَالَ الشَّافِعِيِّ: لَا زَكَاةَ وَقَالَ أَحْمَد تُزَكَّى وَمَالِكٍ: يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأُمَّهَاتِ وَالْآبَاءِ فَإِنْ كَانَتْ الْأُمَّهَاتُ أَهْلِيَّةً أَخْرَجَ الزَّكَاةَ وَإِلَّا فَلَا. وَصِغَارُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ جَمِيعِ الْمَاشِيَةِ تَبَعٌ يُعَدُّ مَعَ الْكِبَارِ وَلَكِنْ لَا يُؤْخَذُ إلَّا مِنْ الْوَسَطِ فَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ صِغَارًا فَقِيلَ: يَأْخُذُ مِنْهَا وَقِيلَ يَشْتَرِي كِبَارًا.

ص: 37

فَصْلٌ:

وَالْخُلَطَاءُ فِي الْمَاشِيَةِ: وَهُوَ إذَا كَانَ مَالُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزًا عَنْ الْآخَرِ فَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ فَهُمَا شَرِيكَانِ وَإِذَا كَانَا خَلِيطَيْنِ زَكَّيَا زَكَاةَ الْمَالِ الْوَاحِدِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَرْبَعُونَ فَعَلَيْهِمَا فِي الْخُلْطَةِ شَاةٌ وَاحِدَةٌ وَيَتَرَادَّانِ قِيمَتَهَا. وَتُعْتَبَرُ الْخُلْطَةُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ وَقِيلَ بِشَرْطَيْنِ وَقِيلَ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ: وَهُوَ الدَّلْوُ وَالْحَوْضُ وَالْمُرَاحُ. وَالْمَبِيتُ وَالرَّاعِي وَالْفَحْلُ. وَقِيلَ: بِالرَّاعِي وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ بِهِ يَجْتَمِعَانِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَهَلْ مِنْ شَرْطِ الْخُلْطَةِ: أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا نِصَابًا أَمْ لَا؟ بِالْأَوَّلِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ.

فَصْلٌ:

إذَا مَلَكَ مَاشِيَةً فَتَوَالَدَتْ فَإِنْ كَانَتْ الْأُمَّهَاتُ نِصَابًا زَكَّى الْأَوْلَادَ تَبَعًا وَبَنَى عَلَى حَوْلِ الْأُمَّهَاتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَإِنْ كَانَتْ دُونَ النِّصَابِ

ص: 38

فَتَوَالَدَتْ وَلَوْ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمِ وَتَمَّ النِّصَابُ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ عِنْدَ مَالِكٌ وَبَنَى الْأَوْلَادَ عَلَى حَوْلِ الْأُمَّهَاتِ. وَإِنْ بَاعَ النِّصَابَ بِجِنْسِهِ بَنَى الثَّانِيَ عَلَى حَوْلِ الْأَوَّلِ وَإِنْ اشْتَرَى بِنِصَابٍ مِنْ الْعَيْنِ نِصَابًا مِنْ الْمَاشِيَةِ وَكَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ حَوْلٌ بَنَى الْمَاشِيَةَ عَلَى حَوْلِ الْعَيْنِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.

فَصْلٌ:

وَتَفْرِقَةُ زَكَاةِ كُلِّ بَلَدٍ فِي مَوْضِعِهِ. فَزَكَاةُ الشَّامِ فِي الشَّامِ وَزَكَاةُ مِصْرَ فِي مِصْرَ وَهَلْ يَجُوزُ نَقْلُهَا لِمَصْلَحَةِ فَتُنْقَلُ مِنْ الشَّامِ إلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ غَيْرِهَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِنَقْلِهَا لِلْحَاجَةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْبَلَدِ مُسْتَحِقِّينَ فَتُنْقَلُ بِلَا خِلَافٍ. وَلَمَّا نَقَلَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ الصَّدَقَةَ مِنْ الْيَمَنِ إلَى الْمَدِينَةِ أَنْكَرَ عُمَرَ فَقَالَ: مَا بَعَثْتُك جَابِيًا. فَقَالَ: مَا وَجَدْت آخِذًا. فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: لَا تُنْقَلُ وَعِنْدَ مَالِكٌ يَجُوزُ نَقْلُهَا.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا " قِسْمَةُ الصَّدَقَاتِ ": فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ. بِقَوْلِهِ {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ

ص: 39

وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطبري: عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لِلْمُتَوَلِّي قِسْمَتُهَا وَوَضْعُهَا فِي أَيِّ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ إعْلَامًا مِنْهُ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ إلَى غَيْرِهَا لَا إيجَابًا لِقِسْمَتِهَا بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: إنْ شِئْت جَعَلْته فِي صِنْفٍ أَوْ صِنْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ. قَالَ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا صِنْفٍ أَعْطَيْته أَجْزَأَك وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ عُمَرَ (1) يَأْخُذُ الْفَرْضَ فِي الصَّدَقَةِ فَيَجْعَلُهُ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَمَيْمُونُ بْنُ مهران وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي. قَالَ: وَكَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُ: عَلَيْهِ وَضْعُهَا فِي سِتَّةِ أَصْنَافٍ؛ لِأَنَّهُ يَقْسِمُهَا فَسَقَطَ الْعَامِلُ وَالْمُؤَلَّفَةُ سَقَطُوا. قَالَ وَالصَّوَابُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الصَّدَقَةَ فِي مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: سَدُّ خَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَالثَّانِي: مَعُونَةُ الْإِسْلَامِ وَتَقْوِيَتُهُ. فَمَا كَانَ مَعُونَةً لِلْإِسْلَامِ يُعْطِي مِنْهُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ كَالْمُجَاهِدِ وَنَحْوِهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ وَمَا كَانَ فِي سَدِّ خَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

(1)

كذا بالأصل

ص: 40

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

‌فَصْلٌ:

الْأَصْلُ الثَّانِي: الزَّكَاةُ

وَهُمْ أَيْضًا مُتَّبِعُونَ فِيهَا لِسُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ آخِذِينَ بِأَوْسَطِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ أَوْ بِأَحْسَنِهَا فِي السَّائِمَة. فَأَخَذُوا فِي أَوْقَاصِ الْإِبِلِ بِكِتَابِ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه وَمُتَابَعَتِهِ: الْمُتَضَمِّنِ أَنَّ فِي الْإِبِلِ الْكَثِيرَةِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ. لِأَنَّهُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِ الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ اسْتِئْنَافُ الْفَرِيضَةِ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ. فَإِنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى هَذَا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَلَى نَجْرَانَ كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِمُدَّةِ. وَأَمَّا كِتَابُ الصِّدِّيقِ: فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَتَبَهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ إلَى الْعُمَّالِ حَتَّى أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَتَوَسَّطُوا فِي الْمُعَشَّرَاتِ بَيْنَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ. فَإِنَّ أَهْلَ

ص: 41

الْعِرَاقِ كَأَبِي حَنِيفَةَ يُوجِبُونَ الْعُشْرَ فِي كُلِّ مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ إلَّا الْقَصَبَ وَنَحْوَهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الْأَرْضِ كَالْخَرَاجِ. وَلِهَذَا لَا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ لَا يُوجِبُونَ الْعُشْرَ إلَّا فِي النِّصَابِ الْمُقَدَّرِ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ. وَوَافَقَهُمْ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا يُوجِبُونَ مِنْ الثِّمَارِ إلَّا فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَفِي الزُّرُوعِ فِي الْأَقْوَاتِ. وَلَا يُوجِبُونَ فِي عَسَلٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَالشَّافِعِيِّ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَأَمَّا أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ: فَيُوَافِقُ فِي النِّصَابِ قَوْلَ أَهْلِ الْحِجَازِ لِصِحَّةِ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ وَلَا يُوجِبُونَ الزَّكَاةَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ؛ لِمَا فِي التَّرْكِ مِنْ عَمَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ وَالْأَثَرِ عَنْهُ لَكِنْ يُوجِبُهَا فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ الَّتِي تُدَّخَرُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا كَالْفُسْتُقِ وَالْبُنْدُقِ جَعْلًا لِلْبَقَاءِ فِي الْمُعَشَّرَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْحَوْلِ فِي الْمَاشِيَةِ وَالْجَرِينِ. فَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْخَضْرَاوَاتِ وَبَيْنَ الْمُدَّخَرَاتِ. وَقَدْ يَلْحَقُ بِالْمُوسَقِ الْمَوْزُونَاتُ: كَالْقُطْنِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. وَيُوجِبُهَا فِي الْعَسَلِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْآثَارِ الَّتِي جَمَعَهَا هُوَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ لَمْ تَبْلُغْهُ إلَّا مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ وَتَسْوِيَةً بَيْنَ جِنْسِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ

ص: 42

السَّمَاءِ وَمَا أَخْرَجَهُ مِنْ الْأَرْضِ. وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الزَّرْعِ وَالْخَرَاجَ حَقُّ الْأَرْضِ. وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُمَا هُوَ قَوْلُ أَحْمَد أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ. وَأَمَّا‌

‌ مِقْدَارُ الصَّاعِ وَالْمُدِّ:

فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّاعَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ؛ وَالْمُدُّ رُبْعُهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْمِيَاهِ. وَقِصَّةُ مَالِكٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ مَشْهُورَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد أَوْ أَكْثَرِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ وَالْمُدُّ رُبْعُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي الْجَمِيعِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ صَاعَ الطَّعَامِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ وَصَاعُ الطَّهَارَةِ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ. كَمَا جَاءَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَثَرُ. فَصَاعُ الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ: هُوَ ثُلُثَا صَاعِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ. وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَخْبَارِ الْمَأْثُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ لِمَنْ تَأَمَّلَ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ.

ص: 43

وَمِنْ أُصُولِهَا: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْسَعُ فِي إيجَابِهَا مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ فِي الْخَيْلِ السَّائِمَة الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْآثَار (1) وَيُوجِبُهَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهِ. وَيَجْعَلُ الرِّكَازَ الْمَعْدِنَ وَغَيْرَهُ. فَيُوجِبُ فِيهِ الْخُمُسَ لَكِنَّهُ لَا يُوجِبُ مَا سِوَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرَ إلَّا عَلَى مُكَلَّفٍ وَيُجَوِّزُ الِاحْتِيَالَ لِإِسْقَاطِهَا وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ: هَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ أَمْ لَا؟ فَكَرِهَهُ مُحَمَّدٌ وَلَمْ يَكْرَهْهُ أَبُو يُوسُفَ. وَأَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ: فَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا التَّكْلِيفُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ الْكَثِيرَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ. وَلَمْ يُوجِبْهَا فِي الْخَيْلِ وَلَا فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ وَلَا فِي الْخَارِجِ إلَّا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَحَرَّمَ مَالِكٌ الِاحْتِيَالَ لِإِسْقَاطِهَا وَأَوْجَبَهَا مَعَ الْحِيلَةِ. وَكَرِهَ الشَّافِعِيِّ الْحِيلَةَ فِي إسْقَاطِهَا. وَأَمَّا أَحْمَد: فَهُوَ فِي الْوُجُوبِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُعَشَّرَاتِ وَهُوَ يُوجِبُهَا فِي مَالِ الْمُكَلَّفِ وَغَيْرِ الْمُكَلَّفِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ. وَإِنْ كَانَ الْمَنْصُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ. وَقَوْلُهُ فِي الِاحْتِيَالِ كَقَوْلِ مَالِكٌ يَحْرُمُ الِاحْتِيَالُ لِسُقُوطِهَا

(1)

كذا بالأصل

ص: 44

وَيُوجِبُهَا مَعَ الْحِيلَةِ. كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُورَةِ " ن " وَغَيْرُهَا مِنْ الدَّلَائِلِ. وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَسَائِرُ الْأُمَّةِ - إلَّا مَنْ شَذَّ - مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِهَا فِي عَرْضِ التِّجَارَةِ. سَوَاءٌ كَانَ التَّاجِرُ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا. وَسَوَاءٌ كَانَ مُتَرَبِّصًا - وَهُوَ الَّذِي يَشْتَرِي التِّجَارَةَ وَقْتَ رُخْصِهَا وَيَدَّخِرُهَا إلَى وَقْتِ ارْتِفَاعِ السِّعْرِ - أَوْ مُدِيرًا كَالتُّجَّارِ الَّذِينَ فِي الْحَوَانِيتِ سَوَاءٌ كَانَتْ التِّجَارَةُ بَزًّا مِنْ جَدِيدٍ أَوْ لَبِيسٍ أَوْ طَعَامًا مِنْ قُوتٍ أَوْ فَاكِهَةٍ. أَوْ أُدْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَوْ كَانَتْ آنِيَةً كَالْفَخَّارِ وَنَحْوِهِ أَوْ حَيَوَانًا مِنْ رَقِيقٍ أَوْ خَيْلٍ أَوْ بِغَالٍ أَوْ حَمِيرٍ أَوْ غَنَمٍ مَعْلُوفَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَالتِّجَارَاتُ هِيَ أَغْلَبُ أَمْوَالِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ الْبَاطِنَةِ كَمَا أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الْمَاشِيَةَ هِيَ أَغْلَبُ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ.

فَصْلٌ:

وَلَا بُدَّ فِي الزَّكَاةِ مِنْ الْمِلْكِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْيَدِ. فَلَهُمْ فِي زَكَاةِ مَا لَيْسَ فِي الْيَدِ كَالدَّيْنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَجِبُ فِي كُلِّ دَيْنٍ وَكُلِّ عَيْنٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَحْتَ يَدِ

ص: 45

صَاحِبِهَا كَالْمَغْصُوبِ وَالضَّالِّ. وَالدَّيْنِ الْمَجْحُودِ وَعَلَى مُعْسِرٍ أَوْ مُمَاطِلٍ وَأَنَّهُ يَجِبُ تَعْجِيلُ الْإِخْرَاجِ مِمَّا يُمْكِنُ قَبْضُهُ كَالدَّيْنِ عَلَى الْمُوسِرِ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَقْوَاهُمَا.

فَصْلٌ:

وَلِلنَّاسِ فِي إخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُجْزِئُ بِكُلِّ حَالٍ. كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُ بِحَالِ. كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ مِثْلُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ فِي الْإِبِلِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَمِثْلُ مَنْ يَبِيعُ عِنَبَهُ وَرُطَبَهُ قَبْلَ الْيُبْسِ. وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد صَرِيحًا. فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ إخْرَاجِ الْقِيَمِ. وَجَوَّزَهُ فِي مَوَاضِعَ لِلْحَاجَةِ؛ لَكِنَّ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ جَوَازَهُ. فَجَعَلُوا عَنْهُ فِي إخْرَاجِ الْقِيمَةِ رِوَايَتَيْنِ. وَاخْتَارُوا الْمَنْعَ. لِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ كَمَا ذَكَرْنَا مِثْلَهُ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلَعِينِ نَصًّا وَقِيَاسًا: كَسَائِرِ أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَصْلَحَةَ وُجُوبِ الْعَيْنِ قَدْ يُعَارِضُهَا أَحْيَانًا فِي الْقِيمَةِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَفِي الْعَيْنِ مِنْ الْمَشَقَّةِ الْمَنْفِيَّةِ شَرْعًا.

ص: 46

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ صَدَاقِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا تَمُرُّ عَلَيْهِ السُّنُونَ الْمُتَوَالِيَةُ لَا يُمْكِنُهَا مُطَالَبَتُهُ بِهِ لِئَلَّا يَقَعَ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ ثُمَّ إنَّهَا تَتَعَوَّضُ عَنْ صَدَاقِهَا بِعَقَارِ أَوْ يُدْفَعُ إلَيْهَا الصَّدَاقُ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ السِّنِينَ؛ فَهَلْ تَجِبُ زَكَاةَ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ؟ أَمْ إلَى أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ قَبَضَتْ الصَّدَاقَ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ: قِيلَ: يَجِبُ تَزْكِيَةُ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَقَدْ نَصَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِمَا. وَقِيلَ يَجِبُ مَعَ يَسَارِهِ وَتَمَكُّنِهَا مِنْ قَبْضِهَا دُونَ مَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَمْكِينُهُ مِنْ الْقَبْضِ كَالْقَوْلِ الْآخَرِ فِي مَذْهَبِهِمَا. وَقِيلَ: تَجِبُ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ. كَقَوْلِ مَالِكٌ وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. وَقِيلَ: لَا تَجِبُ بِحَالِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.

ص: 47

وَأَضْعَفُ الْأَقْوَالِ: مَنْ يُوجِبُهَا لِلسِّنِينَ الْمَاضِيَةِ حَتَّى مَعَ الْعَجْزِ عَنْ قَبْضِهِ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَاطِلٌ فَأَمَّا أَنْ يَجِبَ لَهُمْ مَا يَأْخُذُونَهُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ ثُمَّ إذَا طَالَ الزَّمَانُ كَانَتْ الزَّكَاةُ أَكْثَرَ مِنْ الْمَالِ. ثُمَّ إذَا نَقَصَ النِّصَابَ وَقِيلَ: إنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي عَيْنِ النِّصَابِ لَمْ يُعْلَمْ الْوَاجِبُ إلَّا بِحِسَابٍ طَوِيلٍ يَمْتَنِعُ إتْيَانُ الشَّرِيعَةِ بِهِ. وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ لَا يُوجِبُ فِيهِ شَيْئًا بِحَالِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ أَوْ يُوجِبُ فِيهِ زَكَاةً وَاحِدَةً عِنْدَ الْقَبْضِ فَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ وَجْهٌ وَهَذَا وَجْهٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٌ وَكِلَاهُمَا قِيل بِهِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ لَهُ جِمَالٌ وَيَشْتَرِي لَهَا أَيَّامَ الرَّعْيِ مَرْعًى هَلْ فِيهَا زَكَاةٌ؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا كَانَتْ رَاعِيَةً أَكْثَرَ الْعَامِ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَرْبَعَةً فَإِنَّهُ يُزَكِّيهَا هَذَا أَظْهَرُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.

ص: 48

وَقَالَ رحمه الله:

إذَا كَانَتْ الْغَنَمُ أَرْبَعِينَ صِغَارًا أَوْ كِبَارًا وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ إذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ. وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ فَحَالَ الْحَوْلُ وَهِيَ أَرْبَعُونَ فَفِي هَذَا نِزَاعٌ وَالْأَحْوَطُ أَدَاء الزَّكَاةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ لَهُ غَنَمٌ وَلَمْ تَبْلُغْ النِّصَابَ: هَلْ تَجِبُ فِيهَا زَكَاةٌ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ؟

فَأَجَابَ:

هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَوْلِ حِينَ صَارَتْ أَرْبَعِينَ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ مَلَكَ الْأُمَّهَاتِ كَقَوْلِ مَالِكٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 49

وَسُئِلَ:

عَنْ قَرْيَةٍ بِهَا فَلَّاحُونَ وَهِيَ نِصْفَانِ: أَحَدُ فَلَّاحِي النِّصْفِ لَهُ غَنَمٌ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَيْسَ لِفَلَّاحِيهِ غَنَمٌ. قَدْرُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَأَلْزَمَ الْإِمَامُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ بِزَكَاةِ الْغَنَمِ عَلَى الْفَلَّاحِينَ: فَهَلْ تَجِبُ عَلَى مَنْ لَهُ النِّصَابُ؟ وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ: فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ نِصَابٌ؟ .

فَأَجَابَ:

إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ هُوَ مِقْدَارُ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ اخْتَصُّوا بِأَدَائِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ فَوْقَ الْوَاجِبِ عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ اشْتَرَكَ فِيهِ الْجَمِيعُ بِحَسَبِ أَمْوَالِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 50

‌بَابٌ زَكَاةُ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ

سُئِلَ رحمه الله:

عَمَّا يَجِبُ مِنْ عُشْرِ الْحُبُوبِ وَمِقْدَارِهِ: وَهَلْ هُوَ عَلَى الْمَالِكِ؟ أَوْ الْفَلَّاحِ؟ أَمْ عَلَيْهِمَا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، النِّصَابُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ: وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدَّرَهُ الْأَئِمَّةُ لَمَّا بُنِيَتْ بَغْدَادُ بِخَمْسَةِ أَرْطَالٍ وَثُلُثٍ بِالرِّطْلِ الْعِرَاقِيِّ إذْ ذَاكَ. فَيَكُونُ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ. وَكَانَ الرِّطْلُ الْعِرَاقِيُّ إذْ ذَاكَ تِسْعِينَ مِثْقَالًا. مِائَةً وَثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةَ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ. وَلَكِنْ زِيدَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ ثُمَّ زِيدَ فِيهِ حَتَّى صَارَ مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ فَظَنَّ بَعْضُ مُتَأَخَّرِي الْفُقَهَاءِ أَنَّ هَذَا أَوْ هَذَا هُوَ الرِّطْلُ الَّذِي قَدَّرَهُ بِهِ الْأَئِمَّةُ غَلَطًا مِنْهُمْ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِقْدَارُهُ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ الَّذِي هُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ

ص: 51

ثَلَاثُمِائَةِ رِطْلٍ وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ رِطْلٍ وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ رِطْلٍ. وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ الرِّطْلِ: هُوَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعٍ. وَهُوَ ثُلُثَا رِطْلٍ وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ. وَمَنْ ظَنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الرِّطْلَ الْبَغْدَادِيَّ: مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا زَادَ فِي كُلِّ رِطْلٍ بَغْدَادِيٍّ مِثْقَالًا وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ فَيَزِيدُ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَةَ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ فَيَصِيرُ النِّصَابُ عَلَى قَوْلِهِ: ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَأَرْبَعِينَ رِطْلًا وَثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ وَسُبْعَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ نِصْفُ رِطْلٍ وَسُبْعَا أُوقِيَّةٍ. وَالْعُشْرُ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ الزَّرْعَ فَإِذَا زَارَعَ الْفَلَّاحُ فَفِي صِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ. فَمَنْ اعْتَقَدَ جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ أَخَذَ نَصِيبَهُ وَأَعْطَى الْفَلَّاحَ نَصِيبَهُ وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا زَكَاةُ نَصِيبِهِ وَمَنْ لَمْ يُصَحِّحْ الْمُزَارَعَةَ جَعَلَ الزَّرْعَ كُلَّهُ لِصَاحِبِ الْحَبِّ فَإِذَا كَانَ هُوَ الْفَلَّاحَ اسْتَحَقَّ الزَّرْعَ كُلَّهُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ إلَّا أُجْرَةُ الْأَرْضِ وَالزَّكَاةُ حِينَئِذٍ عَلَى الْفَلَّاحِ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: إنَّ الْمُقَاسَمَةَ جَائِزَةٌ وَالْعُشْرَ كُلَّهُ عَلَى الْفَلَّاحِ؛ بَلْ مَنْ قَالَ: الْعُشْرُ عَلَى الْفَلَّاحِ قَالَ: لَيْسَ لِلْمَالِكِ فِي الزَّرْعِ شَيْءٌ. وَلَا الْمُقْطِعُ وَلَا غَيْرُهُمَا. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْعُشْرَ عَلَى الْفَلَّاحِ

ص: 52

مَعَ جَوَازِ الْمُقَاسَمَةِ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ. وَالْعَمَلُ فِي بِلَادِ الشَّامِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ كَمَا مَضَتْ بِذَلِكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ أَوْ مِنْ الْعَامِلِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يَعْمُرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَكَانَ الْبَذْرُ مِنْ عِنْدِهِمْ وَهَذَا هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامَّةِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي زَمَنِ نَبِيِّهِمْ وَإِلَى الْيَوْمِ. فَمَنْ كَانَ يُعَامِلُ بِالْمُزَارَعَةِ: كَانَ عَلَيْهِ زَكَاةُ نَصِيبِهِمْ وَمَنْ كَانَ يَتَقَلَّدُ قَوْلَ مَنْ يُبْطِلُ هَذِهِ الْمُزَارَعَةَ وَيَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الزَّرْعِ شَيْئًا وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ الْفَلَّاحِ إلَّا الْأُجْرَةُ وَأَنَّهُ إذَا أَخَذَ الْمُقَاسَمَةَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْفَلَّاحِ كَانَ ظَالِمًا آكِلًا لِلْحَرَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الزَّرْعَ لِلْفَلَّاحِ. وَيُعَرِّفَهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ إلَّا أُجْرَةَ الْمِثْلِ فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُ الْفَلَّاحِ بَعْدَ هَذَا بِأَنْ يُقَاسِمَهُ وَيُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ كَانَ الْفَلَّاحُ حِينَئِذٍ مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِ بِطِيبِ نَفْسِهِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْفَلَّاحِينَ لَوْ عَلِمُوا هَذَا لَمَا طَابَتْ بِذَلِكَ نَفْسُ أَكْثَرِهِمْ فَهَذَا حَقِيقَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ الطَّائِفَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 53

وَقَالَ رحمه الله:

فَصْلٌ:

وَأَمَّا " الْعُشْرُ ": فَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ عَلَى مَنْ نَبَتَ الزَّرْعُ عَلَى مِلْكِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} فَالْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ زَكَاةَ التِّجَارَةِ وَالثَّانِي يَتَضَمَّنُ زَكَاةَ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ. فَمَنْ أَخْرَجَ اللَّهُ لَهُ الْحَبَّ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ فَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ كُلِّهِمْ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْعُشْرُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ. وَإِذَا زَارَعَ أَرْضًا عَلَى النِّصْفِ فَمَا حَصَلَ لِلْمَالِكِ فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ وَمَا حَصَلَ لِلْعَامِلِ فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُشْر مَا أَخْرَجَهُ الله له.

ص: 54

وَمَنْ أُعِيرُ أَرْضًا أَوْ أُقْطِعَهَا أَوْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى عَيْنِهِ فَازْدَرَعَ فِيهَا زَرْعًا: فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ وَإِنْ آجَرَهَا فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ زَارَعَهَا فَالْعُشْرُ بَيْنَهُمَا. وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ: أَنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الزَّرْعِ وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَهُمْ يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الزَّرْعِ وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الزَّكَاةِ وَالْخَرَاجُ حَقُّ الْأَرْضِ وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الْفَيْءِ فَهُمَا حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَاجْتَمَعَا. كَمَا لَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ لِأَهْلِهِ وَالْكَفَّارَةُ حَقٌّ لِلَّهِ. وَكَمَا لَوْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ لِمَالِكِهِ وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ حَقًّا لِلَّهِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْعُشْرُ حَقُّ الْأَرْضِ فَلَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا حَقَّانِ وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُزْرَعَ سَوَاءٌ زُرِعَتْ أَوْ لَمْ تُزْرَعْ وَأَمَّا الْعُشْرُ فَلَا يَجِبُ إلَّا فِي الزَّرْعِ. وَالْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ: {لَا يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ} كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ.

ص: 55

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ كَانَتْ لَهُ أَشْجَارُ أَعْنَابٍ لَا يَصِيرُ زَبِيبًا وَلَا يَتْرُكُهُ صَاحِبُهُ إلَى الْجِذَاذِ كَيْفَ يُخْرَجُ عُشْرُهُ رَطْبًا؟ أَوْ يَابِسًا؟ وَإِنْ أَخْرَجَ يَابِسًا أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِ ثَمَرِ بُسْتَانِهِ.

فَأَجَابَ:

أَمَّا الْعِنَبُ الَّذِي لَا يَصِيرُ زَبِيبًا: فَإِذَا أَخْرَجَ عَنْهُ زَبِيبًا بِقَدْرِ عُشْرِهِ لَوْ كَانَ يَصِيرُ زَبِيبًا جَازَ وَهُوَ أَفْضَلُ وَأَجْزَأَهُ ذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ الْإِخْرَاجُ مَنْ عَيْنِ الْمَالِ لَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَا غَيْرِهَا بَلْ مَنْ كَانَ مَعَهُ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ أَوْ عَرَضُ تِجَارَةٍ أَوْ لَهُ حَبٌّ أَوْ ثَمَرٌ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ مَاشِيَةٌ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ " وَأَخْرَجَ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ الْمَنْصُوصِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَالِ أَجْزَأَهُ فَكَيْفَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَإِنْ أَخْرَجَ الْعُشْرَ عِنَبًا فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ. وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَظْهَرُ.

ص: 56

وَأَمَّا الْعِنَبُ الَّذِي يَصِيرُ زَبِيبًا لَكِنَّهُ قَطَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ زَبِيبًا فَهُنَا يُخْرِجُ زَبِيبًا بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعَثُ سُعَاتِهِ فَيَخْرُصُونَ النَّخْلَ وَالْكَرْمَ وَيُطَالِبُ أَهْلَهُ بِمِقْدَارِ الزَّكَاةِ يَابِسًا وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الثِّمَارِ يَأْكُلُونَ كَثِيرًا مِنْهَا رَطْبًا وَيَأْمُرُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْخَارِصِينَ أَنْ يَدَعُوا لِأَهْلِ الْأَمْوَالِ الثُّلُثَ أَوْ الرُّبُعَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرٌ وَيَقُولُ: {إذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ والوطية وَالسَّابِلَةَ} يَعْنِي أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يَتَبَرَّعُ بِمَا يُعَرِّيهِ مِنْ النَّخْلِ لِمَنْ يَأْكُلُهُ وَعَلَيْهِ ضَيْفٌ يَطَئُونَ حَدِيقَتَهُ يُطْعِمُهُمْ وَيُطْعِمُ السَّابِلَةَ وَهُمْ أَبْنَاءُ السَّبِيلِ وَهَذَا الْإِسْقَاطُ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ فِي الْأُولَى. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَمَا عَلِمْت فِيهَا نِزَاعًا فَإِنَّ حَقَّ أَهْلِ السَّهْمَانِ لَا يَسْقُطُ بِاخْتِيَارِ قَطْعِهِ رَطْبًا إذَا كَانَ يَيْبَسُ. نَعَمْ لَوْ بَاعَ عِنَبَهُ أَوْ رُطَبَهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ فَقَدْ نَصَّ أَحْمَد فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُهُ إخْرَاجُ عُشْرِ الثَّمَنِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِ عِنَبٍ أَوْ زَبِيبٍ فَإِنَّ فِي إخْرَاجِ الْقِيمَةِ نِزَاعًا فِي مَذْهَبِهِ وَنُصُوصُهُ الْكَثِيرَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُجَوِّزُ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ وَلَا يُجَوِّزُ بِدُونِ الْحَاجَةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا وَخَرَجَتْ عَنْهُ رِوَايَةٌ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا وَنُصُوصُهُ الصَّرِيحَةُ إنَّمَا هِيَ بِالْفَرْقِ.

ص: 57

وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ قَدْ يَنُصُّ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ بِجَوَابَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَيُخَرِّجُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ إلَى الْأُخْرَى وَيَكُونُ الصَّحِيحُ إقْرَارَ نُصُوصِهِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ. كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ تَجُوزُ بَعْدَ الْجَرْحِ وَنَصَّ عَلَى أَنَّ الْمُدَبَّرَ إذَا قَتَلَ سَيِّدَهُ بَطَلَ التَّدْبِيرُ فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ خَرَّجَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ رِوَايَتَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ إذَا قَتَلَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ كَمَا يَمْنَعُ قَتْلُ الْوَارِثِ لِمُورِثِهِ أَنْ يَرِثَهُ وَأَمَّا إذَا أَوْصَى لَهُ بَعْدَ الْجَرْحِ فَهُنَا الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ فَإِنَّهُ رَضِيَ بِهَا بَعْدَ جَرْحِهِ. وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ.

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ مُقْطِعٌ لَهُ فَلَّاحٌ وَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً:

فَهَلْ عَلَيْهِ عُشْرٌ؟

أَجَابَ:

مَا نَبَتَ عَلَى مِلْكِ الْإِنْسَانِ فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ فَالْأَرْضُ الْمُقْطَعَةُ إذَا كَانَتْ الْمُقَاسَمَةُ نِصْفَيْنِ فَعَلَى الْفَلَّاحِ تَعْشِيرُ نِصْفِهِ وَعَلَى الْمُقْطِعِ تَعْشِيرُ نِصْفِهِ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ: قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ الْمُزَارَعَة صَحِيحَةٌ سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ أَوْ مِنْ الْعَامِلِ.

ص: 58

وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُزَارَعَةَ بَاطِلَةٌ فَعِنْدَهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُقْطِعُ إلَّا أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَالزَّرْعُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْبَذْرِ الْعَامِلِ وَحِينَئِذٍ فَالْعُشْرُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ فَإِنْ أَرَادَ الْمُقْطِعُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْمُغَلِّ مُقَاسَمَةً وَيَجْعَلَ الْعُشْرَ كُلَّهُ عَلَى صَاحِبِ النِّصْفِ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ إنْسَانٍ لَهُ إقْطَاعٌ مِنْ السُّلْطَانِ

؛ فَهَلْ الْحَاصِلُ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِقْطَاعِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَحَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَعَمْ مَا يَنْبُتُ عَلَى مِلْكِهِ فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ سَوَاءٌ كَانَ مُقْطَعًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا أَوْ مَالِكًا أَوْ مُسْتَعِيرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ نَصِيبِ الْعَامِلِ فِي الْمَزْرَعَةِ: هَلْ فِيهِ زَكَاةٌ.

فَأَجَابَ:

أَمَّا الزَّكَاةُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ: فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ

ص: 59

وَهُوَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةُ: هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهَا لَا تَجُوزُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ الْإِجَارَةِ بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ أَبْطَلَهَا مُطْلَقًا، كَأَبِي حَنِيفَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ فَيَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ لِلْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يُمْكِنُ إجَارَتُهُ بِخِلَافِ الْأَرْضِ وَجَوَّزُوا الْمُزَارَعَةَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ إمَّا مُطْلَقًا كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْبَيَاضُ قَدْرَ الثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ الْمُسَاقَاةَ مُطْلَقًا. كَقَوْلِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَفِي الْجَدِيدِ قَصَرَ الْجَوَازَ عَلَى النَّخْلِ وَالْعِنَبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَيَقُولُ: إنَّ هَذِهِ مُشَارَكَةٌ وَهِيَ جِنْسٌ غَيْرُ جِنْسِ الْإِجَارَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا قَدْرُ النَّفْعِ وَالْأُجْرَةِ فَإِنَّ الْعَمَلَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لَيْسَ بِمَقْصُودِ بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ الثَّمَرُ الَّذِي يَشْتَرِكَانِ فِيهِ وَلَكِنَّ هَذَا شَارَكَ بِنَفْعِ مَالِهِ وَهَذَا بِنَفْعِ بَدَنِهِ وَهَكَذَا الْمُضَارَبَةُ. فَعَلَى هَذَا: فَإِذَا افْتَرَقَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْعُقُودِ وَجَبَ لِلْعَامِلِ قِسْطُ مِثْلِهِ مِنْ الرِّبْحِ إمَّا ثُلُثُ الرِّبْحِ وَإِمَّا نِصْفُهُ وَلَمْ تَجِبْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلْعَامِلِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ.

ص: 60

وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ: قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ مَذْهَبُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ: كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ والخطابي وَغَيْرِهِمْ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ أَحَلُّ مِنْ الْإِجَارَةِ بِثَمَنٍ مُسَمًّى؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَأَبْعَدُ عَنْ الْخَطَرِ. فَإِنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْعُقُودِ: مِنْهُ مَا يَدْخُلُ فِي جِنْسِ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ فِي الْقُرْآنِ وَمِنْهُ مَا يَدْخُلُ فِي جِنْسِ الْمَيْسِرِ الَّذِي هُوَ الْقِمَارُ. وَبَيْعُ الْغَرَرِ هُوَ مِنْ نَوْعِ الْقِمَارِ وَالْمَيْسِرِ فَالْأُجْرَةُ وَالثَّمَنُ إذَا كَانَتْ غَرَرًا مِثْلَ مَا لَمْ يُوصَفْ وَلَمْ يُرَ وَلَمْ يُعْلَمْ جِنْسُهُ: كَانَ ذَلِكَ غَرَرًا وَقِمَارًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَقْصِدُ الِانْتِفَاعَ بِالْأَرْضِ بِحُصُولِ الزَّرْعِ لَهُ فَإِذَا أَعْطَى الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ كَانَ الْمُؤَجِّرُ قَدْ حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ بِيَقِينِ. وَأَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ فَلَا يَدْرِي هَلْ يَحْصُلُ لَهُ الزَّرْعُ أَمْ لَا؟ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَفِي الْحِرْمَانِ. كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ فَإِنْ حَصَلَ شَيْءٌ اشْتَرَكَا فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ اشْتَرَكَا فِي الْحِرْمَانِ وَكَانَ ذَهَابُ نَفْعِ مَالِ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ ذَهَابِ نَفْعِ بَدَنِ هَذَا.

ص: 61

وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشْتَرَطَ لِأَحَدِهِمَا شَيْءٌ مُقَدَّرٌ مِنْ النَّمَاءِ لَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَا فِي الْمُسَاقَاةِ وَلَا فِي الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْعَدْلِ. إذْ قَدْ يَحْصُلُ لِأَحَدِهِمَا شَيْءٌ وَالْآخَرُ لَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي رُوِيَ فِيهَا " أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ " أَوْ " عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ " أَوْ " عَنْ الْمُزَارَعَةِ " كَحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَغَيْرِهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ عَلَيْهَا بِزَرْعِ بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ الْأَرْضِ لِلْمَالِكِ. وَلِهَذَا قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ إذَا نَظَرَ فِيهِ ذُو عِلْمٍ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. فَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ فَجَائِزَةٌ بِلَا رَيْبٍ سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ أَوْ الْعَامِلِ أَوْ مِنْهُمَا وَسَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ أَوْ الْمُزَارَعَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. هَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِثْلُ أَنْ يَدْفَعَ دَابَّتَهُ أَوْ سَفِينَتَهُ إلَى مَنْ يَكْتَسِبُ عَلَيْهَا وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا أَوْ مَنْ يَدْفَعُ مَاشِيَتَهُ أَوْ نَخْلَهُ لِمَنْ يَقُومُ عَلَيْهَا وَالصُّوفُ وَاللَّبَنُ وَالْوَلَدُ وَالْعَسَلُ بَيْنَهُمَا. فَإِذَا عُرِفَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي الْمُزَارَعَةِ فَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّ

ص: 62

الْمُزَارَعَةَ بَاطِلَةٌ قَالَ الزَّرْعُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُ أَوْ الْعَامِلِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُ. وَمَنْ قَالَ: لَهُ الزَّرْعُ كَانَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ رَبَّ الْأَرْضِ يَسْتَحِقُّ جُزْءًا مُشَاعًا مِنْ الزَّرْعِ فَإِنَّ عَلَيْهِ عُشْرَهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنَّ رَبَّ الْأَرْضِ يُقَاسِمُ الْعَامِلَ وَيَكُونُ الْعُشْرُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ فَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ لُبْسِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ مِنْ الْكَلَالِيبِ وَخَاتَمٍ وَحِيَاصَةٍ وَحِلْيَةٍ عَلَى السَّيْفِ وَسَائِرِ لُبْسِ الْفِضَّةِ: هَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ؟ وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا خَاتَمُ الْفِضَّةِ فَيُبَاحُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَأَنَّ أَصْحَابَهُ اتَّخَذُوا خَوَاتِيمَ. بِخِلَافِ خَاتَمِ الذَّهَبِ: فَإِنَّهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ.

ص: 63

وَالسَّيْفُ: يُبَاحُ تَحْلِيَتُهُ بِيَسِيرِ الْفِضَّةِ فَإِنَّ {سَيْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِيهِ فِضَّةٌ} وَكَذَلِكَ يَسِيرُ الذَّهَبِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَأَمَّا الْحِيَاصَةُ: إذَا كَانَ فِيهَا فِضَّةٌ يَسِيرَةٌ فَإِنَّهَا تُبَاحُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. وَأَمَّا الْكَلَالِيبُ الَّتِي تُمْسَكُ بِهَا الْعِمَامَةُ وَتَحْتَاجُ إلَيْهَا إذَا كَانَتْ بِزِنَةِ الْخَوَاتِيمِ كَالْمِثْقَالِ وَنَحْوِهِ. فَهِيَ أَوْلَى بِالْإِبَاحَةِ مِنْ الْخَاتَمِ فَإِنَّ الْخَاتَمَ يُتَّخَذُ لِلزِّينَةِ وَهَذَا لِلْحَاجَةِ. وَهَذِهِ مُتَّصِلَةٌ بِالْيَسِيرِ لَيْسَتْ مُفْرَدَةً كَالْخَاتَمِ وَيَسِيرُ الْفِضَّةِ التَّابِعُ لِغَيْرِهِ إذَا كَانَ يُحْتَاجُ إلَى جِنْسِهِ كَشُعَيْرَةِ السِّكِّينِ وَحَلْقَةِ الْإِنَاءِ تُبَاحُ فِي الْآنِيَةِ وَإِنْ كُرِهَ مُبَاشَرَتُهُ بِالِاسْتِعْمَالِ. وَبَابُ اللِّبَاسِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ (الْآنِيَةِ) فَإِنَّ آنِيَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَأَمَّا بَابُ اللِّبَاسِ: فَإِنَّ لِبَاسَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يُبَاحُ لِلنِّسَاءِ بِالِاتِّفَاقِ وَيُبَاحُ لِلرَّجُلِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. وَيُبَاحُ يَسِيرُ الْفِضَّةِ لِلزِّينَةِ وَكَذَلِكَ يَسِيرُ الذَّهَبِ التَّابِعُ لِغَيْرِهِ كَالطُّرُزِ وَنَحْوِهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا. فَإِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَاحَ يَسِيرَ الْفِضَّةِ لِلزِّينَةِ مُفْرَدًا أَوْ مُضَافًا إلَى غَيْرِهِ كَحِلْيَةِ السَّيْفِ وَغَيْرِهِ فَكَيْفَ يَحْرُمُ

ص: 64

يَسِيرُ الْفِضَّةِ لِلْحَاجَةِ. وَهَذَا كُلُّهُ لَوْ كَانَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَفْظٌ عَامٌّ بِتَحْرِيمِ لُبْسِ الْفِضَّةِ كَمَا جَاءَ عَنْهُ لَفْظٌ عَامٌّ بِتَحْرِيمِ لُبْسِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ حَيْثُ قَالَ: {هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا} وَكَمَا جَاءَ عَنْهُ لَفْظٌ عَامٌّ فِي تَحْرِيمِ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. فَلَمَّا كَانَتْ أَلْفَاظُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَّةً فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَفِي لِبَاسِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ. اُسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا خَصَّتْهُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ كَيَسِيرِ الْحَرِيرِ وَيَسِيرِ الْفِضَّةِ فِي الْآنِيَةِ لِلْحَاجَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَأَمَّا لُبْسُ الْفِضَّةِ: إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ لَفْظٌ عَامٌّ بِالتَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مِنْهُ إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَإِذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِإِبَاحَةِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى إبَاحَةِ ذَلِكَ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْإِبَاحَةِ وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ فِي تَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 65

وَسُئِلَ:

عَنْ جُنْدِيٍّ قَالَ لِلصَّانِعِ: اعْمَلْ لِي حِيَاصَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَاكْتُبْ عَلَيْهَا (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ إعَادَتِهَا إلَى النَّارِ لِتَمَامِ عَمَلِهَا. وَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَلْبَسَ حِيَاصَةَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا حِيَاصَةُ الذَّهَبِ فَمُحَرَّمَةٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:{الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا} . وَأَمَّا حِيَاصَةُ الْفِضَّةِ، فَفِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ: وَقَدْ أَبَاحَهَا الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَأَمَّا كِتَابَة الْقُرْآنِ عَلَيْهَا: فَيُشْبِهُ كِتَابَة الْقُرْآنِ عَلَى الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ. وَلَكِنْ يَمْتَازُ هَذَا بِأَنَّهَا تُعَادُ إلَى النَّارِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَهَذَا كُلُّهُ مَكْرُوهٌ فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى ابْتِذَالِ الْقُرْآنِ وَامْتِهَانِهِ وَوُقُوعِهِ فِي

ص: 66

الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْهَا. فَإِنَّ الْحِيَاصَةَ وَالدِّرْهَمَ وَالدِّينَارَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. هُوَ فِي مَعْرِضِ الِابْتِذَالِ وَالِامْتِهَانِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ فِي حَمْلِ الدَّرَاهِمِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ فَذَلِكَ لِلْحَاجَةِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي كِتَابَة الْقُرْآنِ عَلَيْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 67

‌بَابٌ صَدَقَةُ الْفِطْرِ

سُئِلَ رحمه الله:

عَنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ: هَلْ تُخْرَجُ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ بُرًّا أَوْ شَعِيرًا أَوْ دَقِيقًا؟ وَهَلْ يُعْطِي لِلْأَقَارِبِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ؟ أَوْ يَجُوزُ إعْطَاءُ الْقِيمَةِ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا إذَا كَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ يَقْتَاتُونَ أَحَدَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ جَازَ الْإِخْرَاجُ مِنْ قُوتِهِمْ بِلَا رَيْبٍ. وَهَلْ لَهُمْ أَنْ يُخْرِجُوا مَا يَقْتَاتُونَ مِنْ غَيْرِهَا؟ مِثْلُ أَنْ يَكُونُوا يَقْتَاتُونَ الْأُرْزَ وَالدُّخْنَ فَهَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُخْرِجُوا حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا أَوْ يُجْزِئُهُمْ الْأُرْزُ وَالدُّخْنُ وَالذُّرَةُ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ. وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد:

ص: 68

إحْدَاهُمَا لَا يُخْرِجُ إلَّا الْمَنْصُوصَ. وَالْأُخْرَى: يُخْرِجُ مَا يَقْتَاتُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّدَقَاتِ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى وَجْهِ الْمُسَاوَاةِ لِلْفُقَرَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} . وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ قُوتَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَوْ كَانَ هَذَا لَيْسَ قُوتَهُمْ بَلْ يَقْتَاتُونَ غَيْرَهُ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ أَنْ يُخْرِجُوا مِمَّا لَا يَقْتَاتُونَهُ كَمَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ. وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مِنْ جِنْسِ الْكَفَّارَاتِ هَذِهِ مُعَلَّقَةٌ بِالْبَدَنِ وَهَذِهِ مُعَلَّقَةٌ بِالْبَدَنِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْمَالِ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِسَبَبِ الْمَالِ مِنْ جِنْسِ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ. وَأَمَّا الدَّقِيقُ: فَيَجُوزُ إخْرَاجُهُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد دُونَ الشَّافِعِيِّ. وَيُخْرِجُهُ بِالْوَزْنِ فَإِنَّ الدَّقِيقَ يُرَبَّعُ إذَا طُحِنَ وَالْقَرِيبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهَا إذَا كَانَتْ حَاجَتُهُ مِثْلَ حَاجَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْهُ فَإِنَّ صَدَقَتَك عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 69

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَمَّنْ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ؟ وَيَعْلَمُ أَنَّهَا صَاعٌ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ هُوَ نَافِلَةٌ هَلْ يُكْرَهُ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَعَمْ يَجُوزُ بِلَا كَرَاهِيَةٍ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا. وَإِنَّمَا تُنْقَلُ كَرَاهِيَتُهُ عَنْ مَالِكٌ. وَأَمَّا النَّقْصُ عَنْ الْوَاجِبِ فَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لَكِنْ هَلْ الْوَاجِبُ صَاعٌ؟ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ؟ أَوْ أَكْثَرُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 70

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

عَنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ: هَلْ يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فِي صَرْفِهَا؟ أَمْ يُجْزِئُ صَرْفُهَا إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ؟ وَمَا أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي زَكَاةِ الْمَالِ كَزَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَالنَّقْدِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالْمُعَشَّرَاتِ فَهَذِهِ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُزَكٍّ أَنْ يَسْتَوْعِبَ بِزَكَاتِهِ جَمِيعَ الْأَصْنَافِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهَا وَأَنْ يُعْطِيَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ثَلَاثَةً وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد. الثَّانِي: بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَخْرُجَ بِهَا عَنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَلَا يُعْطِيَ أَحَدًا فَوْقَ كِفَايَتِهِ وَلَا يُحَابِيَ أَحَدًا بِحَيْثُ يُعْطِي وَاحِدًا وَيَدَعُ

ص: 71

مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ مَعَ إمْكَانِ الْعَدْلِ. وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ إذَا دَفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ جَمِيعَهَا لِوَاحِدِ مِنْ صِنْفٍ. وَهُوَ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ غَارِمًا عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَجِدُ لَهَا وَفَاءً فَيُعْطِيهِ زَكَاتَهُ كُلَّهَا وَهِيَ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَجْزَأَهُ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ: كَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ نَفْسِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ {أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لقبيصة بْنِ مخارق الْهِلَالِيِّ: أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَك بِهَا} . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهَا أَنَّهُ {قَالَ لسلمة بْنِ صَخْرٍ البياضي: اذْهَبْ إلَى عَامِلِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْ صَدَقَتَهُمْ إلَيْك.} فَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ دَفَعَ صَدَقَةَ قَوْمٍ لِشَخْصِ وَاحِدٍ لَكِنَّ الْآمِرَ هُوَ الْإِمَامُ وَفِي مِثْلِ هَذَا تَنَازُعٌ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ بَحْثٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لَا تَحْتَمِلُهُ هَذِهِ الْفَتْوَى. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْأَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ " صَدَقَةُ الْفِطْرِ " فَإِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ هَلْ تَجْرِي مَجْرَى صَدَقَةِ الْأَمْوَالِ أَوْ صَدَقَةِ الْأَبْدَانِ كَالْكَفَّارَاتِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ وُجُوبُ الِاسْتِيعَابِ أَوْجَبَ الِاسْتِيعَابَ فِيهَا.

ص: 72

وَعَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ يَنْبَنِي مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَمَنْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ كَقَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ دَفْعَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ إلَى وَاحِدٍ كَمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَجْرِي مَجْرَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ وَمَجْرَى كَفَّارَةِ الْحَجِّ فَإِنَّ سَبَبَهَا هُوَ الْبَدَنُ لَيْسَ هُوَ الْمَالَ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ طهرة لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ. مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ} . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ: {أَغْنُوهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ.} وَلِهَذَا أَوْجَبَهَا اللَّهُ طَعَامًا كَمَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ طَعَامًا وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يُجْزِئُ إطْعَامُهَا إلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْكَفَّارَةَ وَهُمْ الْآخِذُونَ لِحَاجَةِ أَنْفُسِهِمْ فَلَا يُعْطِي مِنْهَا فِي الْمُؤَلَّفَةِ وَلَا الرِّقَابِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى فِي الدَّلِيلِ. وَأَضْعَفُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَدْفَعَ

ص: 73

صَدَقَةَ فِطْرِهِ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَوْ إلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَوْ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِينَ لَمْ يَعْمَلْ بِهَذَا مُسْلِمٌ عَلَى عَهْدِهِمْ بَلْ كَانَ الْمُسْلِمُ يَدْفَعُ صَدَقَةَ فِطْرِهِ وَصَدَقَةَ فِطْرِ عِيَالِهِ إلَى الْمُسْلِمِ الْوَاحِدِ. وَلَوْ رَأَوْا مَنْ يُقَسِّمُ الصَّاعَ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ نَفَسًا يُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ حَفْنَةً لَأَنْكَرُوا ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ وَعَدُّوهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُسْتَنْكَرَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَحَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدَّرَ الْمَأْمُورَ بِهِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. وَمِنْ الْبُرِّ إمَّا نِصْفَ صَاعٍ وَإِمَّا صَاعًا عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ التَّامَّةِ لِلْوَاحِدِ مِنْ الْمَسَاكِينِ وَجَعَلَهَا طُعْمَةً لَهُمْ يَوْمَ الْعِيدِ يَسْتَغْنُونَ بِهَا فَإِذَا أَخَذَ الْمِسْكِينُ حَفْنَةً لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا وَلَمْ تَقَعْ مَوْقِعًا. وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ ابْنُ سَبِيلٍ إذَا أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ حِنْطَةٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا مِنْ مَقْصُودِهَا مَا يُعَدُّ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُودًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَمَا لَوْ فُرِضَ عَدَدٌ مُضْطَرُّونَ

ص: 74

وَإِنْ قَسَمَ بَيْنَهُمْ الصَّاعَ عَاشُوا وَإِنَّ خَصَّ بِهِ بَعْضَهُمْ مَاتَ الْبَاقُونَ فَهُنَا يَنْبَغِي تَفْرِيقُهُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ لَكِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيقُ هُوَ الْمَصْلَحَةَ وَالشَّرِيعَةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي لَا يَرْضَاهَا الْعُقَلَاءُ وَلَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. ثُمَّ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {طُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ} نَصٌّ فِي أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ. وقَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الظِّهَارِ: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُصْرَفَ تِلْكَ لِلْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فَكَذَلِكَ هَذِهِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُخْرَجِ مِنْ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ وَالْوَاجِبُ مَا يَبْقَى ويستنمى؛ وَلِهَذَا كَانَ الْوَاجِبَ فِيهَا الْإِنَاثُ دُونَ الذُّكُورِ إلَّا فِي التَّبِيعِ وَابْنِ لَبُونٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ وَإِنَّمَا هُوَ لِلْإِنَاثِ. وَفِي الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْلَ كَانَ الذَّكَرُ أَفْضَلَ مِنْ الْأُنْثَى وَكَانَتْ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا إذَا تُصُدِّقَ بِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمَسَاكِينِ أَهْلِ الْحَاجَةِ دُونَ اسْتِيعَابِ الْمَصَارِفِ الثَّمَانِيَةِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَجَبَتْ طَعَامًا لِلْأَكْلِ لَا للاستنماء. فَعُلِمَ أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْكَفَّارَاتِ. وَإِذَا قِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} نَصٌّ فِي اسْتِيعَابِ الصَّدَقَةِ. قِيلَ: هَذَا خَطَأٌ لِوُجُوهِ:

ص: 75

أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّامَ فِي هَذِهِ إنَّمَا هِيَ لِتَعْرِيفِ الصَّدَقَةِ الْمَعْهُودَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} وَهَذِهِ إذًا صَدَقَاتُ الْأَمْوَالِ دُونَ صَدَقَاتِ الْأَبْدَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَلِهَذَا قَالَ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ دَاخِلَةً فِي آيَةِ بَرَاءَةٌ وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ فِدْيَةَ الْأَذَى لَا يَجِبُ صَرْفُهَا فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْآيَةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ {: كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ} . لَا يَخْتَصُّ بِهَا الْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا جَوَابُ مَنْ يَمْنَعُ دُخُولَ هَذِهِ الصَّدَقَةِ فِي الْآيَةِ وَهِيَ تَعُمُّ جَمِيعَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا وَلَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ إنَّهُ يَجِبُ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ هَؤُلَاءِ بَلْ غَايَةُ مَا قِيلَ: إنَّهُ يَجِبُ إعْطَاءُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَهَذَا تَخْصِيصُ اللَّفْظِ الْعَامِّ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ثُمَّ فِيهِ تَعْيِينُ فَقِيرٍ دُونَ فَقِيرٍ. وَأَيْضًا لَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ التَّسْوِيَةَ فِي آحَادِ كُلِّ صِنْفٍ فَالْقَوْلُ عِنْدَ

ص: 76

الْجُمْهُورِ فِي الْأَصْنَافِ عُمُومًا وَتَسْوِيَةً كَالْقَوْلِ فِي آحَادِ كُلِّ صِنْفٍ عُمُومًا وَتَسْوِيَةً. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ} لِلْحَصْرِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمَذْكُورُ وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ وَالْمَعْنَى لَيْسَتْ الصَّدَقَةُ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ بَلْ لِهَؤُلَاءِ فَالْمُثْبَتُ مِنْ جِنْسِ الْمَنْفِيِّ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ تَبْيِينَ الْمِلْكِ بَلْ قَصَدَ تَبْيِينَ الْحِلِّ أَيْ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى بَلْ تَحِلُّ لَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِمَنْ سَأَلَهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّهَا وَالْمَذْمُومُ يُذَمُّ عَلَى طَلَبِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ لَا عَلَى طَلَبِ مَا يَحِلُّ لَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهُ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَذُمَّ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ إذَا سَأَلُوهَا مِنْ الْإِمَامِ قَبْلَ إعْطَائِهَا وَلَوْ كَانَ الذَّمُّ عَامًّا لَمْ يَكُنْ فِي الْحَصْرِ ذَمٌّ لِهَؤُلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَقْتَضِي ذَمَّهُمْ وَالذَّمُّ الَّذِي اخْتَصُّوا بِهِ سُؤَالُ مَا لَا يَحِلُّ فَيَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي نَفَى وَيَكُونُ الْمُثْبَتُ هَذَا يَحِلُّ وَلَيْسَ مِنْ الْإِحْلَالِ لِلْأَصْنَافِ وَآحَادِهِمْ وُجُودُ الِاسْتِيعَابِ وَالتَّسْوِيَةِ كَاللَّامِ فِي قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام {أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ اللَّامُ لِلْإِبَاحَةِ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ إنَّهُ قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ

ص: 77

وَلَامِ التَّمْلِيكِ مَمْنُوعٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَالَ فِي الْفَرَائِضِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وَقَالَ {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} وَقَالَ: {وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} لَمَّا كَانَتْ اللَّامُ لِلتَّمْلِيكِ وَجَبَ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ وَإِيرَادُ كُلِّ صِنْفٍ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ فَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَأَرْبَعَةُ بَنِينَ أَوْ بَنَاتٍ أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ إخْوَةٍ وَجَبَ الْعُمُومُ وَالتَّسْوِيَةُ فِي الْأَفْرَادِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ بِالنَّسَبِ وَهُمْ مُسْتَوُونَ فِيهِ. وَهُنَاكَ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ فِيهِ كَذَلِكَ " وَلَمْ يَجِبْ فِيهِ ذَلِكَ. وَلَا يُقَالُ إفْرَادُ الصِّنْفِ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ فِي الْإِفْرَادِ مَا قِيلَ فِي الْأَصْنَافِ. فَإِذَا قِيلَ: يَجِبُ اسْتِيعَابُهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَيَسْقُطُ الْمَعْجُوزُ عَنْهُ قِيلَ: فِي الْإِفْرَادِ كَذَلِكَ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكِنْ يَجِبُ تَحَرِّي الْعَدْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 78

‌بَابُ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

عَنْ تَاجِرٍ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ زَكَاتِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ صِنْفًا يَحْتَاجُ إلَيْهِ؟ وَهَلْ إذَا مَاتَ إنْسَانٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَهُ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا مَنْ أَقَارِبِ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلزَّكَاةِ ثُمَّ يَسْتَوْفِيهِ مِنْهُ؟ وَهَلْ إذَا أَخْرَجَ زَكَاتَهُ عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ آخَرَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ هَلْ يُجْزِئُهُ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا أَعْطَاهُ دَرَاهِمَ أَجْزَأَ بِلَا رَيْبٍ. وَأَمَّا إذَا أَعْطَاهُ الْقِيمَةَ فَفِيهِ نِزَاعٌ: هَلْ يَجُوزُ مُطْلَقًا؟ أَوْ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا؟ أَوْ يَجُوزُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِلْحَاجَةِ أَوْ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ - فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ. فَإِنْ كَانَ آخِذُ الزَّكَاةِ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا كُسْوَةً فَاشْتَرَى رَبُّ

ص: 79

الْمَالِ لَهُ بِهَا كُسْوَةً وَأَعْطَاهُ فَقَدْ أَحْسَنَ إلَيْهِ. وَأَمَّا إذَا قَوَّمَ هُوَ الثِّيَابَ الَّتِي عِنْدَهُ وَأَعْطَاهَا فَقَدْ يُقَوِّمُهَا بِأَكْثَرَ مِنْ السِّعْرِ وَقَدْ يَأْخُذُ الثِّيَابَ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا بَلْ يَبِيعُهَا فَيَغْرَمُ أُجْرَةَ الْمُنَادِي وَرُبَّمَا خَسِرَتْ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَالْأَصْنَافُ الَّتِي يُتَّجَرُ فِيهَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهَا جَمِيعًا دَرَاهِمَ بِالْقِيمَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ دَرَاهِمُ فَأَعْطَى ثَمَنَهَا بِالْقِيمَةِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ وَاسَى الْفُقَرَاءَ فَأَعْطَاهُمْ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ.

وَأَمَّا الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الْمَيِّتِ: فَيَجُوزُ أَنْ يُوَفَّى مِنْ الزَّكَاةِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالْغَارِمِينَ} وَلَمْ يَقُلْ وَلِلْغَارِمِينَ. فَالْغَارِمُ لَا يُشْتَرَطُ تَمْلِيكُهُ. وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ عَنْهُ وَأَنْ يُمَلَّكَ لِوَارِثِهِ وَلِغَيْرِهِ وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يُعْطَى لِيَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ.

ص: 80

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ زَكَاةِ الْعُشْرِ وَغَيْرِهِ يَأْخُذُهَا السُّلْطَانُ يَصْرِفُهَا حَيْثُ شَاءَ وَلَا يُعْطِيهَا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ: هَلْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا مَا يَأْخُذُهُ وُلَاةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعُشْرِ وَزَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَالتِّجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهِ إذَا كَانَ الْإِمَامُ عَادِلًا يَصْرِفُهُ فِي مَصَارِفِهِ الشَّرْعِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. فَإِنْ كَانَ ظَالِمًا لَا يَصْرِفُهُ فِي مَصَارِفِهِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَنْبَغِي لِصَاحِبِهِ أَنْ لَا يَدْفَعَ الزَّكَاةَ إلَيْهِ بَلْ يَصْرِفُهَا هُوَ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى دَفْعِهَا إلَى الظَّالِمِ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَدْفَعْهَا إلَيْهِ لَحَصَلَ لَهُ ضَرَرٌ فَإِنَّهَا تُجْزِئُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ ظَلَمُوا مُسْتَحِقِّيهَا كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ إذَا قَبَضُوا مَالَهُ وَصَرَفُوهُ فِي غَيْرِ مَصَارِفِهِ.

ص: 81

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَمَّنْ أَخْرَجَ الْقِيمَةَ فِي الزَّكَاةِ؛ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَكُونُ أَنْفَعَ لِلْفَقِيرِ: هَلْ هُوَ جَائِزٌ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

وَأَمَّا إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ وَأَحْمَد رحمه الله قَدْ مَنَعَ الْقِيمَةَ فِي مَوَاضِعَ وَجَوَّزَهَا فِي مَوَاضِعَ فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ أَقَرَّ النَّصَّ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَالْأَظْهَرُ فِي هَذَا: أَنَّ إخْرَاجَ الْقِيمَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ مَمْنُوعٌ مِنْهُ وَلِهَذَا قَدَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْجُبْرَانَ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَلَمْ يَعْدِلْ إلَى الْقِيمَةِ وَلِأَنَّهُ مَتَى جَوَّزَ إخْرَاجَ الْقِيمَةِ مُطْلَقًا فَقَدْ يَعْدِلُ الْمَالِكُ إلَى أَنْوَاعٍ رَدِيئَةٍ وَقَدْ يَقَعُ فِي التَّقْوِيمِ ضَرَرٌ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَهَذَا مُعْتَبَرٌ فِي قَدْرِ الْمَالِ وَجِنْسِهِ وَأَمَّا إخْرَاجُ الْقِيمَةِ لِلْحَاجَةِ أَوْ الْمَصْلَحَةِ أَوْ الْعَدْلِ فَلَا

ص: 82

بَأْسَ بِهِ: مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ بُسْتَانِهِ أَوْ زَرْعِهِ بِدَرَاهِمَ فَهُنَا إخْرَاجُ عُشْرِ الدَّرَاهِمِ يُجْزِئُهُ وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَمَرًا أَوْ حِنْطَةً إذْ كَانَ قَدْ سَاوَى الْفُقَرَاءَ بِنَفْسِهِ " وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ. وَمِثْلُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَاةٌ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَنْ يَبِيعُهُ شَاةً فَإِخْرَاجُ الْقِيمَةِ هُنَا كَافٍ وَلَا يُكَلَّفُ السَّفَرَ إلَى مَدِينَةٍ أُخْرَى لِيَشْتَرِيَ شَاةً وَمِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلزَّكَاةِ طَلَبُوا مِنْهُ إعْطَاءَ الْقِيمَةِ لِكَوْنِهَا أَنْفَعَ فَيُعْطِيهِمْ إيَّاهَا أَوْ يَرَى السَّاعِي أَنَّ أَخْذَهَا أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ. كَمَا نُقِلَ عَنْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْيَمَنِ: " ائْتُونِي بِخَمِيصِ أَوْ لَبِيسٍ أَسْهَلُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِمَنْ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ". وَهَذَا قَدْ قِيلَ إنَّهُ قَالَهُ فِي الزَّكَاةِ وَقِيلَ: فِي الْجِزْيَةِ.

ص: 83

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ إسْقَاطِ الدَّيْنِ عَنْ الْمُعْسِرِ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَحْسِبَهُ مِنْ الزَّكَاةِ؟

فَأَجَابَ:

وَأَمَّا إسْقَاطُ الدَّيْنِ عَنْ الْمُعْسِرِ فَلَا يُجْزِئُ عَنْ زَكَاةِ الْعَيْنِ بِلَا نِزَاعٍ لَكِنْ إذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ قِدْرَ زَكَاةِ ذَلِكَ الدَّيْنِ وَيَكُونُ ذَلِكَ زَكَاةَ ذَلِكَ الدَّيْنِ؟ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. أَظْهَرُهُمَا الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَهُنَا قَدْ أَخْرَجَ مِنْ جِنْسِ مَا يَمْلِكُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَالُهُ عَيْنًا وَأَخْرَجَ دَيْنًا فَإِنَّ الَّذِي أَخْرَجَهُ دُونَ الَّذِي يَمْلِكُهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ إخْرَاجِ الْخَبِيثِ عَنْ الطِّيبِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} الْآيَةَ. وَلِهَذَا كَانَ عَلَى الْمُزَكِّي أَنْ يُخْرِجَ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ لَا يُخْرِجُ أَدْنَى مِنْهُ فَإِذَا كَانَ لَهُ ثَمَرٌ وَحِنْطَةٌ جَيِّدَةٌ لَمْ يُخْرِجْ عَنْهَا مَا هُوَ دُونَهَا.

ص: 84

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَمَّنْ لَهُ زَكَاةٌ وَلَهُ أَقَارِبُ فِي بَلَدٍ تُقْصَرُ إلَيْهِ الصَّلَاةُ وَهُمْ مُسْتَحِقُّونَ الصَّدَقَةَ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِمْ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ مُسْتَحِقِّينَ لِلزَّكَاةِ وَلَمْ تَحْصُلْ لَهُمْ كِفَايَتُهُمْ مِنْ جِهَةٍ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِمْ مِنْ الزَّكَاةِ وَلَوْ كَانُوا فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

عَنْ الْمِسْكِينِ يَحْتَاجُ إلَى الزَّكَاةِ مِنْ الزَّرْعِ: فَهَلْ إعْطَاؤُهُ. يُسْقِطُ الْفَرْضَ عَنْ صَاحِبِ الزَّرْعِ إذَا عَجَّلَهَا لَهُ قَبْلَ إدْرَاكِ زَرْعِهِ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

وَأَمَّا تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا بَعْدَ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. فَيَجُوزُ

ص: 85

تَعْجِيلُ زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَالنَّقْدَيْنِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ إذَا مَلَكَ النِّصَابَ. وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الْمُعَشَّرَاتِ قَبْلَ وُجُوبِهَا إذَا كَانَ قَدْ طَلَعَ الثَّمَرُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَنَبَتَ الزَّرْعُ قَبْلَ اشْتِدَادِ الْحَبِّ. فَأَمَّا إذَا اشْتَدَّ الْحَبُّ وَبَدَا صَلَاحُ الثَّمَرَةِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ.

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ تَحْتَ يَدِهِ مَالٌ فَوْقَ النِّصَابِ

فَأَخْرَجَ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ زَكَاةِ الْفَرْضِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَحُلْ الْحَوْلُ وَفِيمَنْ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ وَفِي نَفْسِهِ إذَا كَانَ الْحَوْلُ حَالًّا فَهِيَ زَكَاةٌ وَإِلَّا تَكُونُ سَلَفًا عَلَى مَا يَجِبُ بَعْدُ: هَلْ يُجْزِئُ فِي الصُّورَتَيْنِ؟

فَأَجَابَ:

نَعَمْ يُجْزِئُ ذَلِكَ فِي الصُّورَتَيْنِ جَمِيعًا إذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 86

وَسُئِلَ:

عَنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَى قَوْمٍ مُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَشَايِخِ: هَلْ يَجُوزُ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الزَّكَاةُ: فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَحَرَّى بِهَا الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ الْفُقَرَاءِ. وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الْمُتَّبِعِينَ لِلشَّرِيعَةِ فَمَنْ أَظْهَرَ بِدْعَةً أَوْ فُجُورًا فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِالْهَجْرِ وَغَيْرِهِ. وَالِاسْتِتَابَةَ فَكَيْفَ يُعَانُ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ يَأْخُذُهَا وَيُنْفِقُهَا بِحَسَبِ اخْتِيَارِهِ أَوْ يُنْفِقُهَا عَلَى عِيَالِهِ مَعَ غِنَاهُ فَهَذَا لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِ وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ مَنْ دَفَعَهَا إلَيْهِ بَلْ لَا تُعْطَى إلَّا لِمُسْتَحِقِّهَا أَوْ لِمَنْ يُعْطِيهَا لِمُسْتَحِقِّهَا مِثْلُ مَنْ عِنْدَهُ خِبْرَةٌ

ص: 87

بِأَهْلِهَا وَأَمَانَةٌ فَيُؤَدِّيهَا إلَيْهِمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} . وَإِذَا طَلَبَهَا مَنْ لَا يَعْلَمُ حَاجَتَهُ إلَيْهَا وَهُوَ يَعْلَمُ حَاجَةَ آخَرَ فَإِعْطَاءُ مَنْ يَعْلَمُ حَاجَتَهُ أَوْلَى وَإِعْطَاءُ الْقَرِيبِ الْمُحْتَاجِ الَّذِي لَيْسَ مَنْ أَهْلِ نَفَقَتِهِ أَوْلَى مِنْ إعْطَاءِ الْبَعِيدِ الْمُسَاوِي لَهُ فِي الْحَاجَةِ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ زَكَاةٌ: هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِأَقَارِبِهِ الْمُحْتَاجِينَ؟ أَوْ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُمْ مِنْهَا ثِيَابًا أَوْ حُبُوبًا؟ وَإِذَا أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ غَنَمِهِ هَلْ تَسْقُطُ زَكَاتُهَا؟ وَهَلْ يَلْزَمُهُ إعْطَاءُ الزَّكَاةِ فِي بَلَدِ الْقِلَّةِ وَالْمَالِ أَمْ لَا. وَهَلْ إذَا مَاتَ فَقِيرٌ وَلَهُ عَلَيْهِ مَالٌ: هَلْ لَهُ أَنْ يَحْسِبَهُ مِنْ الزَّكَاةِ؟ أَوْ يَطْلُبَهُ مَنْ غَيْرِهِ فَيَأْخُذَ عَنْهُ؟ وَهَلْ يُعْطِي لِمَنْ لَا يُصَلِّي؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ الزَّكَاةَ إلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا وَإِنْ كَانُوا مَنْ أَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَيْسُوا فِي عِيَالِهِ لَكِنْ يُعْطِيهِمْ مِنْ مَالِهِ وَهُمْ يَأْذَنُونَ لِمَنْ يَشْتَرِي لَهُمْ بِهَا مَا يُرِيدُونَ.

ص: 88

وَمَا أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مِنْ الزَّكَاةِ بِغَيْرِ أَمْرِ أَصْحَابِهِ احْتَسَبَ بِهِ وَجِيرَانُ الْمَالِ أَحَقُّ بِصَدَقَتِهِ فَإِنْ اسْتَغْنَوْا عَنْهَا أَعْطَى الْبَعِيدَ وَإِنْ أَعْطَاهَا الْفُقَرَاءَ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ جَازَ. وَإِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ لَمْ يَحْتَسِبْ بِهِ مِنْ الزَّكَاةِ وَلَا يَحْتَالُ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا أُمِرَ بِالصَّلَاةِ فَإِنْ قَالَ: أَنَا أُصَلِّي أُعْطِيَ وَإِلَّا لَمْ يُعْطَ.

وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

عَنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَى أَقَارِبِهِ الْمُحْتَاجِينَ الَّذِينَ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ؟ هَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ أَوْ دَفْعُهَا إلَى الْأَجْنَبِيِّ؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى أَقَارِبِهِ: فَإِنْ كَانَ الْقَرِيبُ الَّذِي يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِ حَاجَتُهُ مِثْلُ حَاجَةِ الْأَجْنَبِيِّ إلَيْهَا فَالْقَرِيبُ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ الْبَعِيدُ أَحْوَجَ لَمْ يُحَابِ بِهَا الْقَرِيبَ. قَالَ أَحْمَد عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة كَانُوا يَقُولُونَ: لَا يُحَابِي بِهَا قَرِيبًا وَلَا يَدْفَعُ بِهَا مَذَمَّةً وَلَا يَقِي بِهَا مَالَهُ.

ص: 89

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ دَفْعِهَا إلَى وَالِدَيْهِ وَوَلَدِهِ الَّذِينَ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الزَّكَاةَ صِنْفَانِ: صِنْفٌ يَأْخُذُ لِحَاجَتِهِ. كَالْفَقِيرِ وَالْغَارِمِ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ. وَصِنْفٌ يَأْخُذُهَا لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ: كَالْمُجَاهِدِ وَالْغَارِمِ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَهَؤُلَاءِ يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَقَارِبِهِ. وَأَمَّا دَفْعُهَا إلَى الْوَالِدَيْنِ: إذَا كَانُوا غَارِمِينَ أَوْ مُكَاتَبِينَ: فَفِيهَا وَجْهَانِ. وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ ذَلِكَ. وَأَمَّا إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ نَفَقَتِهِمْ فَالْأَقْوَى جَوَازُ دَفْعِهَا إلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ مَوْجُودٌ وَالْمَانِعَ مَفْقُودٌ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُقْتَضِي السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ.

ص: 90

وَسُئِلَ:

عَنْ امْرَأَةٍ فَقِيرَةٍ وَعَلَيْهَا دَيْنٌ وَلَهَا أَوْلَادُ بِنْتٍ صِغَارٌ وَلَهُمْ مَالٌ وَهُمْ تَحْتَ الْحَجْرِ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعُوا زَكَاتَهُمْ إلَى جَدَّتِهِمْ؟ أَمْ لَا؟ وَهَلْ هِيَ أَوْلَى مَنْ غَيْرِهَا أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

أَمَّا دَفْعُ زَكَاتِهِمْ إلَيْهَا لِقَضَاءِ دَيْنِهَا فَيَجُوزُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ دَفْعُهَا إلَى سَائِرِ الْأَقَارِبِ لِأَجْلِ الدَّيْنِ. وَأَمَّا دَفْعُهَا لِأَجْلِ النَّفَقَةِ: فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَغْنِيَةً بِنَفَقَتِهِمْ أَوْ نَفَقَةِ غَيْرِهِمْ لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهَا. وَإِنْ كَانَتْ مُحْتَاجَةً إلَى زَكَاتِهِمْ دُفِعَتْ إلَيْهَا فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهِيَ أَحَقُّ مِنْ الْأَجَانِبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 91

وَسُئِلَ رحمه الله:

هَلْ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَكَاةِ أَبِيهِ لِقَضَاءِ. دَيْنِهِ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

إذَا كَانَ عَلَى الْوَلَدِ دَيْنٌ وَلَا وَفَاءَ لَهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَكَاةِ أَبِيهِ؛ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى النَّفَقَةِ وَلَيْسَ لِأَبِيهِ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ زَكَاةِ أَبِيهِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ مُسْتَغْنِيًا بِنَفَقَةِ أَبِيهِ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى زَكَاتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 92

وَسُئِلَ:

هَلْ يُجْزِئُ الرَّجُلَ عَنْ زَكَاتِهِ مَا يُغَرِّمُهُ وُلَاةُ الْأُمُورِ فِي الطُّرُقَاتِ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

مَا يَأْخُذُهُ وُلَاةُ الْأُمُورِ بِغَيْرِ اسْمِ الزَّكَاةِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ الزَّكَاةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ؟

فَأَجَابَ:

إنْ كَانَ مَالُ الْإِنْسَانِ لَا يَتَّسِعُ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَبَاعِدِ فَإِنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَلَا يُعْطِي الْبَعِيدَ مَا يَضُرُّ بِالْقَرِيبِ. وَأَمَّا الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْهَا الْقَرِيبَ الَّذِي لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَالْقَرِيبُ أَوْلَى إذَا اسْتَوَتْ الْحَاجَةُ.

ص: 93

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ أَعْطَاهُ أَخٌ لَهُ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا أَيَقْبَلُهُ؟ أَمْ يَرُدُّهُ؟ وَقَدْ وَرَدَ {مَنْ جَاءَهُ شَيْءٌ بِغَيْرِ سُؤَالٍ فَرَدَّهُ فَكَأَنَّمَا رَدَّهُ عَلَى اللَّهِ} هَلْ هُوَ صَحِيحٌ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

قَدْ ثَبَتَ {عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرِ: مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك} وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ مَا أَكْثَرَ مَسْأَلَتِك إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ فَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ فَقَالَ لَهُ حَكِيمٌ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ بَعْدَك مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا} . فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُعْطَيَانِهِ فَلَا يَأْخُذُ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا كَانَ سَائِلًا بِلِسَانِهِ، أَوْ

ص: 94

مُشْرِفًا إلَى مَا يُعْطَاهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَهُ إلَّا حَيْثُ تُبَاحُ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَالِاسْتِشْرَافُ. وَأَمَّا إذَا أَتَاهُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ؛ وَلَا إشْرَافٍ فَلَهُ أَخْذُهُ إنْ كَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ أَعْطَاهُ حَقَّهُ كَمَا أَعْطَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ عَمِلَ فَأَعْطَاهُ عِمَالَتَهُ وَلَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَهُ كَمَا فَعَلَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ قَبِلَهُ وَكَانَ مِنْ غَيْرِ إشْرَافٍ لَهُ عَلَيْهِ فَقَدْ أَحْسَنَ. وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكَافِئَ بِالْمَالِ مَنْ أَسْدَاهُ. إلَيْهِ لِخَبَرِ {مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا لَهُ مَا تُكَافِئُوهُ. فَادْعُوا حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ} .

ص: 95

وَقَالَ رحمه الله:

‌فَصْلٌ:

فِي الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ.

فِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ {حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ: إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى. قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَك شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا ثُمَّ إنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ. فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ وَفِي رِوَايَةٍ إنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَى حَكِيمٍ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَ اللَّهُ لَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم} .

ص: 96

قَوْلُهُ: " لَمْ يَرْزَأْ ": أَيْ لَمْ يُنْقِصْ لَا لَمْ يَسْأَلْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. فَفِيهِ أَنَّ حَكِيمًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ. وَهَذَا حُجَّةٌ فِي جَوَازِ الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إشْرَافٍ. وَقَوْلُهُ: {الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى} تَنْبِيهٌ لَهُ عَلَى أَنَّ يَدَ الْآخِذِ سُفْلَى. وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَد عَنْ حُجَّةٍ لِذَلِكَ مِنْ الْآيَةِ فَلَمْ يَعْرِفْهَا. وَهَذِهِ حُجَّةٌ جَيِّدَةٌ. وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ زِيَادَاتٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: {إنَّ خَيْرًا لَك أَنْ لَا تَأْخُذَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا} لَكِنْ يُنْظَرُ إسْنَادُهُ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي تَفْضِيلِ عَدَمِ الْأَخْذِ مُطْلَقًا.

ص: 97

‌كِتَابُ الصِّيَامِ

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْغَيْمِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ هُوَ يَوْمُ شَكٍّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

فَصْلٌ:

وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ الْغَيْمِ إذَا حَالَ دُونَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ وَهِيَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. أَحَدُهَا: أَنَّ صَوْمَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. ثُمَّ هَلْ هُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ؟ أَوْ تَنْزِيهٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ. وَاخْتَارَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كَأَبِي الْخَطَّابِ

ص: 98

وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ منده الْأَصْفَهَانِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ صِيَامَهُ وَاجِبٌ كَاخْتِيَارِ الْقَاضِي والخرقي وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَهَذَا يُقَالُ إنَّهُ أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد لَكِنَّ الثَّابِتَ عَنْ أَحْمَد لِمَنْ عَرَفَ نُصُوصَهُ وَأَلْفَاظَهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ صِيَامَ يَوْمِ الْغَيْمِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يُوجِبُهُ عَلَى النَّاسِ بَلْ كَانَ يَفْعَلُهُ احْتِيَاطًا وَكَانَ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ مَنْ يَصُومُهُ احْتِيَاطًا وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يَصُومُهُ مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَنْهَى عَنْهُ. كَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَغَيْرِهِ فَأَحْمَدُ رضي الله عنه كَانَ يَصُومُهُ احْتِيَاطًا. وَأَمَّا إيجَابُ صَوْمِهِ فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ أَحْمَد وَلَا كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اعْتَقَدُوا أَنَّ مَذْهَبَهُ إيجَابُ صَوْمِهِ وَنَصَرُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ وَيَجُوزُ فِطْرُهُ وَهَذَا

ص: 99

مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْهُ وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ أَكْثَرِهِمْ.

وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِمْسَاكَ عِنْدَ الْحَائِلِ عَنْ رُؤْيَةِ الْفَجْرِ جَائِزٌ. فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ أَكَلَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ طُلُوعَ الْفَجْرِ وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ؟ أَمْ لَا؟ إنْ شَاءَ تَوَضَّأَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَتَوَضَّأْ.

وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ هَلْ حَالَ حَوْلُ الزَّكَاةِ؟ أَوْ لَمْ يَحُلْ؟ وَإِذَا شَكَّ هَلْ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ مِائَةٌ؟ أَوْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ؟ فَأَدَّى الزِّيَادَةَ. وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُحَرَّمٍ ثُمَّ إذَا صَامَهُ بِنِيَّةِ مُطْلَقَةٍ أَوْ بِنِيَّةٍ مُعَلَّقَةٍ بِأَنْ يَنْوِيَ إنْ كَانَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ كَانَ عَنْ رَمَضَانَ وَإِلَّا فَلَا.

فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْزِيهِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهِيَ الَّتِي نَقَلَهَا المروذي وَغَيْرُهُ وَهَذَا اخْتِيَارُ الخرقي فِي شَرْحِهِ لِلْمُخْتَصَرِ وَاخْتِيَارُ أَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا بِنِيَّةِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا الْقَاضِي وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ.

وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ لِشَهْرِ رَمَضَانَ: هَلْ هُوَ وَاجِبٌ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.

ص: 100

أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ رَمَضَانَ فَإِنْ صَامَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ أَوْ مُعَلَّقَةٍ أَوْ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَوْ النَّذْرِ لَمْ يُجْزِئْهُ ذَلِكَ كَالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ. وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ مُطْلَقًا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ لَا بِنِيَّةِ تَعْيِينِ غَيْرِ رَمَضَانَ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَد وَهِيَ اخْتِيَارُ الخرقي وَأَبِي الْبَرَكَاتِ. وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ النِّيَّةَ تَتْبَعُ الْعِلْمَ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. فَإِنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ صَوْمًا مُطْلَقًا لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَ أَدَاء الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي عَلِمَ وُجُوبَهُ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ غَدًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَهُنَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْيِينُ وَمَنْ أَوْجَبَ التَّعْيِينَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَقَدْ أَوْجَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ. فَإِذَا قِيلَ إنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ وَصَامَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ أَوْ مُعَلَّقَةٍ أَجْزَأَهُ. وَأَمَّا إذَا قَصَدَ صَوْمَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ

ص: 101

مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَيْضًا كَمَنْ كَانَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ وَلَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّبَرُّعِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَقُّهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعْطَائِهِ ثَانِيًا بَلْ يَقُولُ ذَلِكَ الَّذِي وَصَلَ إلَيْك هُوَ حَقٌّ كَانَ لَك عِنْدِي وَاَللَّهُ يَعْلَمُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ. وَالرِّوَايَةُ الَّتِي تُرْوَى عَنْ أَحْمَد أَنَّ النَّاسَ فِيهِ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ فِي نِيَّتِهِ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ} .

وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الْهِلَالِ ": هَلْ هُوَ اسْمٌ لِمَا يَطْلُعُ فِي السَّمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ؟ أَوْ لَا يُسَمَّى هِلَالًا حَتَّى يَسْتَهِلَّ بِهِ النَّاسُ وَيَعْلَمُوهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي النِّزَاعُ فِيمَا إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُطْبِقَةً بِالْغَيْمِ أَوْ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ مُطْلَقًا. هَلْ هُوَ يَوْمُ شَكٍّ. عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِشَكِّ بَلْ الشَّكُّ إذَا أَمْكَنَتْ رُؤْيَتُهُ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَكٌّ لِإِمْكَانِ طُلُوعِهِ.

ص: 102

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ حُكْمًا فَلَا يَكُونُ يَوْمَ شَكٍّ وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ هَلْ يَصُومُ وَيُفْطِرُ وَحْدَهُ؟ أَوْ لَا يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ؟ أَوْ يَصُومُ وَحْدَهُ وَيُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.

وَقَالَ رحمه الله:

فَصْلٌ:

مَسْأَلَةُ رُؤْيَةِ بَعْضِ الْبِلَادِ رُؤْيَةٌ لِجَمِيعِهَا: فِيهَا اضْطِرَابٌ فَإِنَّهُ قَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِيمَا يُمْكِنُ اتِّفَاقُ الْمَطَالِعِ فِيهِ فَأَمَّا مَا كَانَ مِثْلَ الْأَنْدَلُسِ وَخُرَاسَانَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ. قُلْت: أَحْمَد اعْتَمَدَ فِي الْبَابِ عَلَى حَدِيثِ {الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي شَهِدَ أَنَّهُ أَهَلَّ الْهِلَالُ الْبَارِحَةَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ عَلَى هَذِهِ الرُّؤْيَةِ} مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ وَمَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْهُ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ؛ لَكِنْ مَا حَدُّ ذَلِكَ؟

ص: 103

وَاَلَّذِينَ قَالُوا: لَا تَكُونُ رُؤْيَةً لِجَمِيعِهَا كَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمْ مَنْ حَدَّدَ ذَلِكَ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّدَ ذَلِكَ بِمَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَطَالِعُ: كَالْحِجَازِ مَعَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ مَعَ خُرَاسَانَ وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ مَسَافَةَ الْقَصْرِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْهِلَالِ. وَأَمَّا الْأَقَالِيمُ فَمَا حَدَّدَ ذَلِكَ؟ ثُمَّ هَذَانِ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ التَّشْرِيقِ وَالتَّغْرِيبِ فَإِنَّهُ مَتَى رُئِيَ فِي الْمَشْرِقِ وَجَبَ أَنْ يُرَى فِي الْمَغْرِبِ وَلَا يَنْعَكِسُ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ غُرُوبُ الشَّمْسِ بِالْمَغْرِبِ عَنْ وَقْتِ غُرُوبِهَا بِالْمَشْرِقِ فَإِذَا كَانَ قَدْ رُئِيَ ازْدَادَ بِالْمَغْرِبِ نُورًا وَبُعْدًا عَنْ الشَّمْسِ وَشُعَاعِهَا وَقْتَ غُرُوبِهَا فَيَكُونُ أَحَقَّ بِالرُّؤْيَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا رُئِيَ بِالْمَغْرِبِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبُ الرُّؤْيَةِ تَأَخُّرَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَهُمْ فَازْدَادَ بُعْدًا وَضَوْءًا وَلَمَّا غَرَبَتْ بِالْمَشْرِقِ كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا. ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا رُئِيَ بِالْمَغْرِبِ كَانَ قَدْ غَرَبَ عَنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ فَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ وَالْهِلَالِ وَسَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَلِذَلِكَ إذَا دَخَلَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ بِالْمَغْرِبِ دَخَلَ بِالْمَشْرِقِ وَلَا يَنْعَكِسُ وَكَذَلِكَ الطُّلُوعُ إذَا طَلَعَتْ بِالْمَغْرِبِ طَلَعَتْ بِالْمَشْرِقِ وَلَا يَنْعَكِسُ فَطُلُوعُ الْكَوَاكِبِ وَغُرُوبُهَا بِالْمَشْرِقِ سَابِقٌ.

ص: 104

وَأَمَّا الْهِلَالُ فَطُلُوعُهُ وَرُؤْيَتُهُ بِالْمَغْرِبِ سَابِقٌ؛ لِأَنَّهُ يَطْلُعُ مِنْ الْمَغْرِبِ وَلَيْسَ فِي السَّمَاءِ مَا يَطْلُعُ مِنْ الْمَغْرِبِ غَيْرُهُ وَسَبَبُ ظُهُورِهِ بُعْدُهُ عَنْ الشَّمْسِ فَكُلَّمَا تَأَخَّرَ غُرُوبُهَا ازْدَادَ بُعْدُهُ عَنْهَا فَمَنْ اعْتَبَرَ بُعْدَ الْمَسَاكِنِ مُطْلَقًا فَلَمْ يَتَمَسَّكْ بِأَصْلِ شَرْعِيٍّ وَلَا حِسِّيٍّ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هِلَالَ الْحَجِّ: مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَتَمَسَّكُونَ فِيهِ بِرُؤْيَةِ الْحُجَّاجِ الْقَادِمِينَ وَإِنْ كَانَ فَوْقَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا اعْتَبَرْنَا حَدًّا: كَمَسَافَةِ الْقَصْرِ أَوْ الْأَقَالِيمَ فَكَانَ رَجُلٌ فِي آخِرِ الْمَسَافَةِ وَالْإِقْلِيمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ وَيُفْطِرَ وَيَنْسُكَ وَآخَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ غَلْوَةُ سَهْمٍ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ. فَالصَّوَابُ فِي هَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ} فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ أَنَّهُ رَآهُ بِمَكَانِ مِنْ الْأَمْكِنَةِ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ وَجَبَ الصَّوْمُ. وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ بِالرُّؤْيَةِ نَهَارَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إلَى الْغُرُوبِ فَعَلَيْهِمْ إمْسَاكُ مَا بَقِيَ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ إقْلِيمٍ أَوْ إقْلِيمَيْنِ.

ص: 105

وَالِاعْتِبَارُ بِبُلُوغِ الْعِلْمِ بِالرُّؤْيَةِ فِي وَقْتٍ يُفِيدُ فَأَمَّا إذَا بَلَغَتْهُمْ الرُّؤْيَةُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَالْمُسْتَقْبَلَ يَجِبُ صَوْمُهُ بِكُلِّ حَالٍ لَكِنَّ الْيَوْمَ الْمَاضِيَ: هَلْ يَجِبُ قَضَاؤُهُ؟ فَإِنَّهُ قَدْ يَبْلُغُهُمْ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ أَنَّهُ رُئِيَ بِإِقْلِيمٍ آخَرَ وَلَمْ يَرَ قَرِيبًا مِنْهُمْ الْأَشْبَهُ أَنَّهُ إنْ رُئِيَ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ وَهُوَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُمْ خَبَرُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَهُوَ كَمَا لَوْ رُئِيَ فِي بَلَدِهِمْ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ.

وَأَمَّا إذَا رُئِيَ بِمَكَانٍ لَا يُمْكِنُ وُصُولُ خَبَرِهِ إلَيْهِمْ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْأَوَّلِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ صَوْمَ النَّاسِ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَصُومُونَهُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصُومُوا إلَّا الْيَوْمَ الَّذِي يُمْكِنُهُمْ فِيهِ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ وَهَذَا لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمْ فِيهِ بُلُوغُهُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَ صَوْمِهِمْ وَكَذَلِكَ فِي الْفِطْرِ وَالنُّسُكِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ هَلْ يُفْطِرُونَ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ أَنَّهُ رُئِيَ بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الرُّؤْيَةِ؟ لَكِنْ إنْ بَلَغَتْهُمْ بِخَبَرِ وَاحِدٍ لَمْ يُفْطِرُوا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ فِي أَثْنَائِهِ مَا يُفْطِرُونَ بِهِ وَلَا يَقْضُونَ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ فَيَكُونُ صَوْمُهُمْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ بِالْمَطَالِعِ إذَا صَامَ بِرُؤْيَةِ مَكَانٍ ثُمَّ سَافَرَ إلَى مَكَانٍ تَقَدَّمَتْ رُؤْيَتُهُمْ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ مَعَهُمْ وَلَا يَقْضِي الْيَوْمَ الْأَوَّلَ. وَإِنْ تَأَخَّرَتْ رُؤْيَتُهُمْ فَهُنَا اخْتَلَفَتْ نُقُولُ أَصْحَابِنَا إنْ قَالُوا يُفْطِرُ

ص: 106

وَحْدَهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ رَآهُ عِنْدَهُمْ لَمْ يُفْطِرْ وَحْدَهُ عِنْدَنَا عَلَى الْمَشْهُورِ وَإِنْ صَامَ مَعَهُمْ فَقَدْ صَامَ إحْدَى وَثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَالْأَشْبَهُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ يَخْرُجُ فِيهَا لِأَصْحَابِنَا قَوْلَانِ كَالْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَتِهِ فِي الْفِطْرِ لِأَنَّ انْفِرَادَ الرَّجُلِ بِالْفِطْرِ هُوَ الْمَحْذُورُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَرُؤْيَةُ أَهْلِ بَلَدٍ دُونَ غَيْرِهِمْ كَرُؤْيَتِهِ وَرُؤْيَةِ طَائِفَةٍ مَعَهُ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَأَمَّا هِلَالُ الْفِطْرِ فَإِذَا ثَبَتَتْ رُؤْيَتُهُ فِي الْيَوْمِ عَمِلُوا بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ - بَلْ الْعِيدُ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي عيده النَّاسُ - وَلَكِنْ نُقِلَ التَّارِيخُ (1).

فَالضَّابِطُ أَنَّ مَدَارَ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى الْبُلُوغِ لِقَوْلِهِ {صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ} فَمَنْ بَلَغَهُ أَنَّهُ رُئِيَ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِمَسَافَةٍ أَصْلًا وَهَذَا يُطَابِقُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي أَنَّ طَرَفَيْ الْمَعْمُورَةِ لَا يَبْلُغُ الْخَبَرُ فِيهِمَا إلَّا بَعْدَ شَهْرٍ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ بِخِلَافِ الْأَمَاكِنِ الَّذِي يَصِلُ الْخَبَرُ فِيهَا قَبْلَ انْسِلَاخِ الشَّهْرِ فَإِنَّهَا مَحَلُّ الِاعْتِبَارِ. فَتَدَبَّرْ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الْأَرْبَعَةَ: وُجُوبُ الصَّوْمِ وَالْإِمْسَاكُ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ وَوُجُوبُ بِنَاءِ الْعِيدِ عَلَى تِلْكَ الرُّؤْيَةِ وَرُؤْيَةُ الْبَعِيدِ وَالْبَلَاغُ فِي وَقْتٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِبَادَةِ. وَلِهَذَا قَالُوا: إذَا أَخْطَأَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فَوَقَفُوا فِي غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ

(1)

كذا بالأصل

ص: 107

أَجْزَأَهُمْ اعْتِبَارًا بِالْبُلُوغِ وَإِذَا أَخْطَأَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لَمْ يُجْزِئْهُمْ لِإِمْكَانِ الْبُلُوغِ فَالْبُلُوغُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ سَوَاءٌ كَانَ عَلِمَ بِهِ لِلْبُعْدِ أَوْ لِلْقِلَّةِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا إلَّا وُجُوبَ الْقَضَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُمْكِنُهُمْ فِيهِ بُلُوغُ الْخَبَرِ. وَالْحُجَّةُ فِيهِ أَنَّا نَعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّهُ مَا زَالَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُرَى الْهِلَالُ فِي بَعْضِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ بَعْضٍ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَبْلُغَهُمْ الْخَبَرُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَلَوْ كَانُوا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ لَكَانَتْ هِمَمُهُمْ تَتَوَفَّرُ عَلَى الْبَحْثِ عَنْ رُؤْيَتِهِ فِي سَائِرِ بُلْدَانِ الْإِسْلَامِ كَتَوَفُّرِهَا عَلَى الْبَحْثِ عَنْ رُؤْيَتِهِ فِي بَلَدِهِ وَلَكَانَ الْقَضَاءُ يَكْثُرُ فِي أَكْثَرِ الرمضانات وَمِثْلُ هَذَا لَوْ كَانَ لَنُقِلَ وَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَقَدْ أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُفْطِرْ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ إلَّا بِقَوْلٍ وَاحِدٍ فَلَا يُفْطِرُ بِهِ وَلَا يُقَالُ أَصْحَابُنَا كَذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا بَلَغَهُمْ الْهِلَالُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ بَنَوْا فِطْرَهُمْ عَلَيْهِ. قُلْنَا لِأَنَّ ذَاكَ أَمْرٌ لَا تَتَعَلَّقُ الْهِمَمُ بِالْبَحْثِ عَنْهُ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ

ص: 108

صَوْمِ يَوْمٍ فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ وَإِلَّا فَالِاحْتِيَاطُ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّ ذَاكَ الْخَبَرَ قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا نَظَرٌ. وَلَوْ قِيلَ: إذَا بَلَغَهُمْ الْخَبَرُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ لَمْ يَبْنُوا إلَّا عَلَى رُؤْيَتِهِمْ بِخِلَافِ مَا إذَا بَلَغَهُمْ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ بَلْ الرُّؤْيَةُ الْقَلِيلَةُ لَوْ لَمْ تَبْلُغْ الْإِنْسَانَ إلَّا فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَفِي وُجُوبِ قَضَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ نَظَرٌ وَإِنْ كَانَ يُفْطِرُ بِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ صَوْمِنَا وَلِأَنَّ التَّكْلِيفَ يَتْبَعُ الْعِلْمَ وَلَا عِلْمَ وَلَا دَلِيلَ ظَاهِرٌ فَلَا وُجُوبَ وَطَرْدُ هَذَا أَنَّ الْهِلَالَ إذَا ثَبَتَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ قَبْلَ الْأَكْلِ أَوْ بَعْدَهُ أَتَمُّوا وَأَمْسَكُوا وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ كَمَا لَوْ بَلَغَ صَبِيٌّ أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ. فَقَدْ قِيلَ: يُمْسِكُ وَيَقْضِي. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَقِيلَ: يَجِبُ الْإِمْسَاكُ دُونَ الْقَضَاءِ.

فَإِنَّ الْهِلَالَ مَأْخُوذٌ مِنْ الظُّهُورِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ فَطُلُوعُهُ فِي السَّمَاءِ إنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْأَرْضِ فَلَا حُكْمَ لَهُ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا وَاسْمُهُ مُشْتَقٌّ مَنْ فِعْلِ الْآدَمِيِّينَ يُقَالُ: أَهْلَلْنَا الْهِلَالَ وَاسْتَهْلَلْنَاهُ فَلَا هِلَالَ إلَّا مَا اُسْتُهِلَّ فَإِذَا اسْتَهَلَّهُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ فَلَمْ يُخْبِرَا بِهِ فَلَمْ يَكُنْ ذَاكَ هِلَالًا فَلَا يَثْبُتْ بِهِ حُكْمٌ حَتَّى يُخْبِرَا بِهِ فَيَكُونُ خَبَرُهُمَا هُوَ الْإِهْلَالَ الَّذِي هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ

ص: 109

بِالْإِخْبَارِ بِهِ وَلِأَنَّ التَّكْلِيفَ يَتْبَعُ الْعِلْمَ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ عِلْمُهُ لَمْ يَجِبْ صَوْمُهُ. وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ إذَا كَانَ التَّرْكُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْقَضَاءُ أَوْ اُسْتُحِبَّ إذَا بَلَغَ رُؤْيَتُهُ الْمَكَانَ الْبَعِيدَ أَوْ رُؤْيَةُ النَّفَرِ الْقَلِيلِ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ لَاسْتُحِبَّ الصَّوْمُ يَوْمَ الشَّكِّ مَعَ الصَّحْوِ بَلْ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُخْبِرَ الْقَلِيلُ أَوْ الْبَعِيدَ بِرُؤْيَتِهِ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَيُسْتَحَبُّ الصَّوْمُ احْتِيَاطًا وَمَا مِنْ شَيْءٍ فِي الشَّرِيعَةِ يُمْكِنُ وُجُوبُهُ إلَّا وَالِاحْتِيَاطُ مَشْرُوعٌ فِي أَدَائِهِ. فَلَمَّا لَمْ يُشْرَعْ الِاحْتِيَاطُ فِي أَدَائِهِ قَطَعْنَا بِأَنَّهُ لَا وُجُوبَ مَعَ بُعْدِ الرَّائِي أَوْ خَفَائِهِ حَتَّى يَكُونَ الرَّائِي قَرِيبًا ظَاهِرًا فَتَكُونُ رُؤْيَتُهُ إهْلَالًا يَظْهَرُ بِهِ الطُّلُوعُ. وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذَا مَنْ لَمْ يَحْتَطْ فِي الْغَيْمِ. وَلَكِنْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ طُلُوعَهُ هَذَا مِثَالٌ ظَاهِرٌ أَوْ مُسَاوٍ وَإِنَّمَا الْحَاجِبُ مَانِعٌ كَمَا لَوْ كَانُوا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ فِي مَغَارَةٍ أَوْ مَطْمُورَةٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّرَائِي. وَلِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُوجِبُوا التَّبْيِيتَ: أَصْلُ مَأْخَذِهِمْ إجْزَاءُ يَوْمِ الشَّكِّ فَإِنَّ بُلُوغَ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ كَثِيرٌ كَيَوْمِ عَاشُورَاءَ وَإِيجَابُ الْقَضَاءِ فِيهِ عُسْرٌ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ مِثْلِ ذَلِكَ وَعَدَمِ شُهْرَةِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ فِي السَّلَفِ. وَجَوَابُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ

ص: 110

فَإِنَّهُ لَا وُجُوبَ إلَّا مِنْ حِينِ الْإِهْلَالِ وَالرُّؤْيَةِ؛ لَا مِنْ حِينِ الطُّلُوعِ وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ إذَا لَمْ يَبْلُغُ الْخَبَرُ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ فَائِدَةٌ إلَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَعُلِمَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ بِرُؤْيَةٍ بَعِيدَةٍ مُطْلَقًا. فَتَلَخَّصَ: أَنَّهُ مَنْ بَلَغَهُ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُؤَدِّي بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ الصَّوْمَ أَوْ الْفِطْرَ أَوْ النُّسُكَ وَجَبَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِلَا شَكٍّ وَالنُّصُوصُ وَآثَارُ السَّلَفِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَمَنْ حَدَّدَ ذَلِكَ بِمَسَافَةِ قَصْرٍ أَوْ إقْلِيمٍ فَقَوْلُهُ: مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ وَالشَّرْعِ. وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ إلَّا بَعْدَ الْأَدَاءِ وَهُوَ مِمَّا لَا يُقْضَى كَالْعِيدِ الْمَفْعُولِ وَالنُّسُكِ فَهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَأَمَّا إذَا بَلَغَهُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ: فَهَلْ يُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ؟ وَفِي بِنَاءِ الْفِطْرِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ: مِنْ حُلُولِ الدَّيْنِ وَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْقَضَاءُ يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَفِي بِنَاءِ الْفِطْرِ عَلَيْهِ نَظَرٌ. فَهَذَا مُتَوَسِّطٌ فِي الْمَسْأَلَةِ: وَمَا مِنْ قَوْلٍ سِوَاهُ إلَّا وَلَهُ لَوَازِمُ شَنِيعَةٌ

ص: 111

لَا سِيَّمَا مَنْ قَالَ بِالتَّعَدُّدِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي الْمَنَاسِكِ مَا يُعْلَمُ بِهِ خِلَافُ دِينِ الْإِسْلَامِ إذَا رَأَى بَعْضُ الْوُفُودِ أَوْ كُلُّهُمْ الْهِلَالَ وَقَدِمُوا مَكَّةَ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ رُئِيَ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فَسَادِهِ صَارَ مُتَنَوِّعًا وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَحْصُلُ بِهِ الِاجْتِمَاعُ الشَّرْعِيُّ كُلُّ قَوْمٍ عَلَى مَا أَمْكَنَهُمْ الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ وَإِذَا خَالَفَهُمْ مَنْ لَمْ يَشْعُرُوا بِمُخَالَفَتِهِ لِانْفِرَادِهِ مِنْ الشُّعُورِ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ لَمْ يَضُرَّ هَذَا وَإِنَّمَا الشَّأْنُ مِنْ الشُّعُورِ بِالْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْأَهِلَّةِ فَقَالَ: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْمَعْلُومَ بِبَصَرِ أَوْ سَمْعٍ وَلِهَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَلَمْ يَحْصُلْ أَحَدٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَكِّ لِانْتِفَاءِ الشَّكِّ فِي الْهِلَالِ وَإِنْ وَقَعَ شَكٌّ فِي الطُّلُوعِ. وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْهِلَالَ عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ. وَهَذَا الْمِثَالُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِمَا يُفْعَلُ بِهِ كَالْإِزَارِ لِمَا يؤتزر بِهِ وَالرِّدَاءِ: لِمَا يُرْتَدَى بِهِ وَالرِّكَابِ: لِمَا يُرْكَبُ بِهِ وَالْوِعَاءِ: لِمَا يُوعَى فِيهِ وَبِهِ والسماد لِمَا تُسَمَّدُ بِهِ الْأَرْضُ وَالْعِصَابِ: لِمَا يُعْصَبُ بِهِ وَالسِّدَادِ لِمَا يُسَدُّ بِهِ وَهَذَا كَثِيرٌ مُطَّرِدٌ فِي الْأَسْمَاءِ.

ص: 112

فَالْهِلَالُ اسْمٌ لِمَا يُهَلُّ بِهِ: أَيْ يُصَاتُ بِهِ وَالتَّصْوِيتُ بِهِ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ إدْرَاكِهِ بِبَصَرٍ أَوْ سَمْعٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

يُهِلُّ بِالْفَرْقَدِ رُكْبَانُهَا

كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرُ

أَيْ: يُصَوِّتُونَ بِالْفَرْقَدِ فَجَعَلَهُمْ مُهِلِّينَ بِهِ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ هِلَالًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} أَيْ صُوِّتَ بِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ التَّصْوِيتُ بِهِ رَفِيعًا أَوْ خَفِيضًا فَإِنَّهُ مِمَّا تُكُلِّمَ بِهِ وَجُهِرَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَنُطِقَ بِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَهَا مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَلَا تَكُونُ مَوَاقِيتَ لَهُمْ إلَّا إذَا أَدْرَكُوهَا بِبَصَرٍ أَوْ سَمْعٍ فَإِذَا انْتَفَى الْإِدْرَاكُ انْتَفَى التَّوْقِيتُ فَلَا تَكُونُ أَهِلَّةً وَهُوَ غَايَةُ مَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ مِنْ جِهَةِ الْحِسِّ إذْ ضَبْطُ مَكَانِ الطُّلُوعِ بِالْحِسَابِ لَا يَصِحُّ أَصْلًا وَقَدْ صَنَّفْت فِي ذَلِكَ شَيْئًا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَيْهِ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي قُوَى الْبَشَرِ أَنْ يَضْبُطُوا لِلرُّؤْيَةِ زَمَانًا وَمَكَانًا مَحْدُودًا وَإِنَّمَا يَضْبُطُونَ مَا يُدْرِكُونَهُ بِأَبْصَارِهِمْ أَوْ مَا يَسْمَعُونَهُ بِآذَانِهِمْ فَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ تَعْلِيقَهُ فِي حَقِّ مَنْ رَأَى بِالرُّؤْيَةِ فَفِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَرَ بِالسَّمَاعِ وَمَنْ لَا رُؤْيَةَ لَهُ وَلَا سَمَاعَ فَلَا إهْلَالَ لَهُ وَاَللَّهُ هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ.

ص: 113

وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

عَنْ رَجُلٍ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ وَتَحَقَّقَ الرُّؤْيَةَ: فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَحْدَهُ؟ أَوْ يَصُومَ وَحْدَهُ؟ أَوْ مَعَ جُمْهُورِ النَّاسِ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا رَأَى هِلَالَ الصَّوْمِ وَحْدَهُ أَوْ هِلَالَ الْفِطْرِ وَحْدَهُ فَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ؟ أَوْ يُفْطِرَ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ؟ أَمْ لَا يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد: أَحَدُهَا: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ وَأَنْ يُفْطِرَ سِرًّا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبَ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ: يَصُومُ مَعَ النَّاسِ وَيُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ وَهَذَا أَظْهَرُ

ص: 114

الْأَقْوَالِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنِ مَاجَه وَذَكَرَ الْفِطَرَ وَالْأَضْحَى فَقَطْ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ المقبري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: {الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطَرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ قَالَ: وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: إنَّمَا مَعْنَى هَذَا الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَعُظْمِ النَّاسِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ آخَرَ: فَقَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ فَقَالَ: {وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ. وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ. وَكُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وَكُلُّ جَمْعٍ مَوْقِفٌ} . وَلِأَنَّهُ لَوْ رَأَى هِلَالَ النَّحْرِ لَمَا اُشْتُهِرَ وَالْهِلَالُ اسْمٌ لَمَا اُسْتُهِلَّ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْهِلَالَ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا اسْتَهَلَّ بِهِ النَّاسُ وَالشَّهْرُ بَيِّنٌ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هِلَالًا وَلَا شَهْرًا. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى عَلَّقَ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً

ص: 115

بِمُسَمَّى الْهِلَالِ وَالشَّهْرِ: كَالصَّوْمِ وَالْفِطْرِ وَالنَّحْرِ فَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. قَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إلَى قَوْلِهِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} أَنَّهُ أَوْجَبَ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَكِنَّ الَّذِي تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ أَنَّ الْهِلَالَ. هَلْ هُوَ اسْمٌ لِمَا يَظْهَرُ فِي السَّمَاءِ؟ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ النَّاسُ؟ وَبِهِ يَدْخُلُ الشَّهْرُ أَوْ الْهِلَالُ اسْمٌ لِمَا يَسْتَهِلُّ بِهِ النَّاسُ وَالشَّهْرُ لِمَا اشْتَهَرَ بَيْنَهُمْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ يَقُولُ: مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ فَقَدْ دَخَلَ مِيقَاتُ الصَّوْمِ وَدَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ وَتِلْكَ اللَّيْلَةُ هِيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ رَمَضَانَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ غَيْرُهُ. وَيَقُولُ مَنْ لَمْ يَرَهُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ طَالِعًا قَضَى الصَّوْمَ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي شَهْرِ الْفِطْرِ وَفِي شَهْرِ النَّحْرِ لَكِنَّ شَهْرَ النَّحْرِ مَا عَلِمْت أَنَّ أَحَدًا قَالَ مَنْ رَآهُ يَقِفُ وَحْدَهُ دُونَ سَائِرِ الْحَاجِّ وَأَنَّهُ يَنْحَرُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَيَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَيَتَحَلَّلُ دُونَ سَائِرِ الْحَاجِّ. وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْفِطْرِ: فَالْأَكْثَرُونَ أَلْحَقُوهُ بِالنَّحْرِ وَقَالُوا لَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَآخَرُونَ قَالُوا بَلْ الْفِطْرُ كَالصَّوْمِ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ الْعِبَادَ بِصَوْمِ وَاحِدٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَتَنَاقُضُ

ص: 116

هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَحِينَئِذٍ فَشَرْطُ كَوْنِهِ هِلَالًا وَشَهْرًا شُهْرَتُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَاسْتِهْلَالُ النَّاسِ بِهِ حَتَّى لَوْ رَآهُ عَشَرَةٌ وَلَمْ يَشْتَهِرْ ذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْبَلَدِ لِكَوْنِ شَهَادَتِهِمْ مَرْدُودَةً أَوْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ كَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فَكَمَا لَا يَقِفُونَ وَلَا يَنْحَرُونَ وَلَا يُصَلُّونَ الْعِيدَ إلَّا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ لَا يَصُومُونَ إلَّا مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ} . وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَتِهِ: يَصُومُ مَعَ الْإِمَامِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ. قَالَ أَحْمَد: يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ. وَعَلَى هَذَا تَفْتَرِقُ أَحْكَامُ الشَّهْرِ: هَلْ هُوَ شَهْرٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَلَدِ كُلِّهِمْ؟ أَوْ لَيْسَ شَهْرًا فِي حَقِّهِمْ كُلِّهِمْ؟ يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَإِنَّمَا أَمَرَ بِالصَّوْمِ مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ وَالشُّهُودُ لَا يَكُونُ إلَّا لِشَهْرٍ اشْتَهَرَ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ شُهُودُهُ وَالْغَيْبَةُ عَنْهُ. {وقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا وَصُومُوا مِنْ الْوَضَحِ إلَى الْوَضَحِ} وَنَحْوُ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْجَمَاعَةِ لَكِنْ مَنْ كَانَ فِي مَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُ إذَا رَآهُ صَامَهُ فَإِنَّهُ

ص: 117

لَيْسَ هُنَاكَ غَيْرُهُ. وَعَلَى هَذَا فَلَوْ أَفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ رُئِيَ فِي مَكَانٍ آخَرَ أَوْ ثَبَتَ نِصْفَ النَّهَارِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. فَإِنَّهُ إنَّمَا صَارَ شَهْرًا فِي حَقِّهِمْ مِنْ حِينِ ظَهَرَ وَاشْتَهَرَ. وَمِنْ حِينَئِذٍ وَجَبَ الْإِمْسَاكُ كَأَهْلِ عَاشُورَاءَ: الَّذِينَ أُمِرُوا بِالصَّوْمِ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْقَضَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ وَحَدِيثُ الْقَضَاءِ ضَعِيفٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 118

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّالِثُ: فَالصِّيَامُ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَبْيِيتِ نِيَّتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ - مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ - إنَّهُ يُجْزِئُ كُلُّ صَوْمٍ فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا بِنِيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَاشُورَاءَ وَحَدِيثُ {النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فِلْم يَجِدْ طَعَامًا فَقَالَ: إنِّي إذًا صَائِمٌ} . وَبِإِزَائِهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى - مِنْهُمْ مَالِكٌ - قَالَتْ: لَا يُجْزِئُ الصَّوْمُ إلَّا مُبَيَّتًا مِنْ اللَّيْلِ فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ حَفْصَةَ

ص: 119

وَابْنِ عُمَرَ: الَّذِي يُرْوَى مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: {لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ} . وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فَالْفَرْضُ لَا يُجْزِئُ إلَّا بِ‌

‌تَبْيِيتِ النِّيَّةِ

كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ حَفْصَةَ وَابْنِ عُمَرَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الزَّمَانِ يَجِبُ فِيهِ الصَّوْمُ وَالنِّيَّةُ لَا تَنْعَطِفُ عَلَى الْمَاضِي. وَأَمَّا النَّفْلُ فَيُجْزِئُ بِنِيَّةِ مِنْ النَّهَارِ. كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {إنِّي إذًا صَائِمٌ} كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ يَجِبُ فِيهَا مِنْ الْأَرْكَانِ - كَالْقِيَامِ وَالِاسْتِقْرَارِ عَلَى الْأَرْضِ - مَا لَا يَجِبُ فِي التَّطَوُّعِ تَوْسِيعًا مِنْ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي طُرُقِ التَّطَوُّعِ. فَإِنَّ أَنْوَاعَ التَّطَوُّعَاتِ دَائِمًا أَوْسَعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفْرُوضَاتِ وَصَوْمُهُمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ إنْ كَانَ وَاجِبًا: فَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّهَارِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا قَبْلَ ذَلِكَ. وَمَا رَوَاهُ بَعْضُ الخلافيين الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي رَمَضَانَ: فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ. وَهَذَا أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُمَا: هَلْ يُجْزِئُ التَّطَوُّعُ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ؟ وَالْأَظْهَرُ صِحَّتُهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُمَا فِي الثَّوَابِ: هَلْ هُوَ ثَوَابُ يَوْمٍ كَامِلٍ؟ أَوْ مِنْ حِينِ

ص: 120

نَوَاهُ؟ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد: أَنَّ الثَّوَابَ مِنْ حِينِ النِّيَّةِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي التَّعْيِينِ. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ - فِي مَذْهَبَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ رَمَضَانَ. فَلَا تُجْزِئُ نِيَّةٌ مُطْلَقَةً وَلَا مُعَيَّنَةٌ لِغَيْرِ رَمَضَانَ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُجْزِئُ بِنِيَّةِ مُطْلَقَةٍ وَمُعَيَّنَةٍ لِغَيْرِهِ. كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٍ مَحْكِيَّةٍ عَنْ أَحْمَد. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُجْزِئُ بِالنِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ دُونَ نِيَّةِ التَّطَوُّعِ أَوْ الْقَضَاءِ أَوْ النَّذْرِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ.

ص: 121

فَصْلٌ:

وَاخْتَلَفُوا فِي صَوْمِ يَوْمِ الْغَيْمِ: وَهُوَ مَا إذَا حَالَ دُونَ مَطْلَعِ الْهِلَالِ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ. فَقَالَ قَوْمٌ: يَجِبُ صَوْمُهُ بِنِيَّةٍ مِنْ رَمَضَانَ احْتِيَاطًا. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَد. وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا أَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ وَحَكَوْهَا عَنْ أَكْثَرِ مُتَقَدِّمِيهِمْ بِنَاءً عَلَى مَا تَأَوَّلُوهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى شَعْبَانَ هُوَ النَّقْصُ فَيَكُونُ الْأَظْهَرُ طُلُوعَ الْهِلَالِ. كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فَيَجِبُ بِغَالِبِ الظَّنِّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَجُوزُ صَوْمُهُ مِنْ رَمَضَانَ. وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. كَابْنِ عَقِيلٍ وَالْحَلْوَانِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ اسْتِدْلَالًا بِمَا جَاءَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ. وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ مِنْ رَمَضَانَ وَيَجُوزُ

ص: 122

فِطْرُهُ: وَالْأَفْضَلُ صَوْمُهُ مِنْ وَقْتِ الْفَجْرِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ عَرَفَ وَقْتَ الْفَجْرِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ طُلُوعُهُ جَازَ لَهُ الْإِمْسَاكُ وَالْأَكْلُ وَإِنْ أَمْسَكَ وَقْتَ الْفَجْرِ. فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِاسْتِحْبَابِ الْإِمْسَاكِ لَكِنْ. . . (1).

وَأَكْثَرُ نُصُوصِ أَحْمَد إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَأَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ صَوْمَهُ وَيَفْعَلُهُ لَا أَنَّهُ يُوجِبُهُ وَإِنَّمَا أَخَذَ فِي ذَلِكَ بِمَا نَقَلَهُ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ الْقَطَّانِ وَغَيْرِهِمْ أَخَذَ بِمَا نَقَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَنَحْوِهِ. وَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَ فِي حَالِ الْغَيْمِ لَا يُوجِبُونَ الصَّوْمَ وَكَانَ غَالِبُ النَّاسِ لَا يَصُومُونَ وَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ التَّرْكَ. وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَحِبَّ الصَّوْمَ فِي الصَّحْوِ بَلْ نَهَى عَنْهُ: لِأَنَّ الْأَصْلَ وَالظَّاهِرَ عَدَمُ الْهِلَالِ فَصَوْمُهُ تَقْدِيمٌ لِرَمَضَانَ بِيَوْمِ. وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ: هَلْ يُسَمَّى يَوْمُ الْغَيْمِ يَوْمَ شَكٍّ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ.

(1)

بياض بالأصل

ص: 123

وَأَمَّا يَوْمُ الصَّحْوِ عِنْدَهُ: فَيَوْمُ شَكٍّ أَوْ يَقِينٍ مِنْ شَعْبَانَ يُنْهَى عَنْ صَوْمِهِ بِلَا تَوَقُّفٍ. وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ أَدَلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْهَا عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ الْمَشْكُوكَ فِي وُجُوبِهِ - كَمَا لَوْ شَكَّ فِي وُجُوبِ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - لَا يَجِبُ فِعْلُهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ بَلْ يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ احْتِيَاطًا. فَلَمْ تُحَرِّمْ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ الِاحْتِيَاطَ وَلَمْ تُوجِبْ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ كَأَوَّلِ النَّهَارِ. وَلَوْ شَكَّ فِي طُلُوعِ النَّهَارِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ بِقَصْدِ الصَّوْمِ وَلِأَنَّ الْإِغْمَامَ أَوَّلَ الشَّهْرِ كَالْإِغْمَامِ بِالشَّكِّ بَلْ يُنْهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ لِمَا يَخَافُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الْفَرْضِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: يَجْتَمِعُ غَالِبُ الْمَأْثُورِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ. فَإِنَّ الْجَمَاعَاتِ الَّذِينَ صَامُوا مِنْهُمْ - كَعُمَرِ وَعَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمْ - لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْوُجُوبِ وَغَالِبُ الَّذِينَ أَفْطَرُوا لَمْ يُصَرِّحُوا بِالتَّحْرِيمِ. وَلَعَلَّ مَنْ كَرِهَ الصَّوْمَ مِنْهُمْ إنَّمَا كَرِهَهُ لِمَنْ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ: خَشْيَةَ إيجَابِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبِ. كَمَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْهُمْ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ لِمَنْ خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ وُجُوبَهُ وَكَمَا أَمَرَ طَائِفَةً مِنْهُمْ مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ أَنْ يَقْضِيَ؛ لِمَا ظَنُّوهُ بِهِ مِنْ كَرَاهَةِ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ فَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ عَائِدَةً إلَى حَالِ الْفَاعِلِ لَا إلَى نَفْسِ الِاحْتِيَاطِ بِالصَّوْمِ. فَإِنَّ تَحْرِيمَ الصَّوْمِ أَوْ إيجَابَهُ

ص: 124

كِلَاهُمَا فِيهِ بُعْدٌ عَنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ. وَالْأَحَادِيثُ الْمَأْثُورَةُ فِي الْبَابِ إذَا تُؤُمِّلَتْ إنَّمَا يُصَرِّحُ غَالِبُهَا بِوُجُوبِ الصَّوْمِ بَعْدَ إكْمَالِ الْعِدَّةِ. كَمَا دَلَّ بَعْضُهَا عَلَى الْفِعْلِ قَبْلَ الْإِكْمَالِ. أَمَّا الْإِيجَابُ قَبْلَ الْإِكْمَالِ لِلصَّوْمِ فَفِيهِمَا نَظَرٌ. فَهَذَا الْقَوْلُ الْمُتَوَسِّطُ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ غَالِبُ نُصُوصِ أَحْمَد. وَلَوْ قِيلَ: بِجَوَازِ الْأَمْرَيْنِ وَاسْتِحْبَابِ الْفِطْرِ لَكَانَ (1) عَنْ التَّحْرِيمِ وَالْإِيجَابِ وَيُؤْثَرُ عَنْ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ.

(1)

بياض بالأصل

ص: 125

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ. وَجَعَلَهُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ. وَأَمَرَنَا بِالِاعْتِصَامِ بِهِ إذْ هُوَ حَبْلُهُ الَّذِي هُوَ أَثْبَتُ الْأَسْبَابِ وَهَدَانَا بِهِ إلَى سُبُلِ الْهُدَى وَمَنَاهِجِ الصَّوَابِ وَأَخْبَرَ فِيهِ أَنَّهُ: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ رَبُّ الْأَرْبَابِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَالْحِكْمَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ صَلَاةً دَائِمَةً بَاقِيَةً بَعْدُ إلَى يَوْمِ الْمَآبِ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْمَلَ لَنَا دِينَنَا وَأَتَمَّ عَلَيْنَا نِعْمَتَهُ وَرَضِيَ لَنَا الْإِسْلَامَ دِينًا وَأَمَرَنَا أَنْ نَتَّبِعَ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ وَلَا نَتَّبِعَ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِنَا عَنْ سَبِيلِهِ وَجَعَلَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ خَاتِمَةَ وَصَايَاهُ الْعَشْرِ الَّتِي هِيَ جَوَامِعُ الشَّرَائِعِ الَّتِي تُضَاهِي الْكَلِمَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُوسَى فِي

ص: 126

التَّوْرَاةِ وَإِنْ كَانَتْ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْنَا أَكْمَلَ وَأَبْلَغَ؛ وَلِهَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خثيم: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ كِتَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِي لَمْ يُفَضَّ خَاتَمُهُ بَعْدَهُ فَلْيَقْرَأْ آخِرَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الْآيَاتِ. وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نَكُونَ كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأَخْبَرَ رَسُولُهُ أَنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْت مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ. وَذَكَرَ أَنَّهُ جَعَلَهُ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَّبِعَهَا وَلَا يَتَّبِعَ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ} . فَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَتَّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَهُ مِنْ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَرْعًا أَوْ طَرِيقًا لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ سُنَّةً وَسَبِيلًا وَحَذَّرَهُ أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ شَرِيعَةُ غَيْرِهِ فَكَيْفَ بِمَا لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ جَاءَتْ بِهِ شَرِيعَةٌ بَلْ هُوَ طَرِيقَةُ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ.

ص: 127

وَأَمَرَهُ وَإِيَّانَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنْ نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا دُونَ مَا خَالَفَهُ فَقَالَ: {المص} {كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} . وَبَيَّنَ حَالَ الَّذِينَ وَرِثُوا الْكِتَابَ فَخَالَفُوهُ وَاَلَّذِينَ اسْتَمْسَكُوا بِهِ فَقَالَ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} إلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} وَقَالَ: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} {أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} الْآيَاتِ. وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} وَقَالَ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} وَحَبْلُ اللَّهِ كِتَابُهُ كَمَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اتِّبَاعِهَا. وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ جُمْلَةً. وَلَكِنْ قَدْ يَقَعُ التَّنَازُعُ فِي تَفْصِيلِهِ فَتَارَةً يَكُونُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ فِي " مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ " وَتَارَةً يَتَنَازَعُ فِيهِ قَوْمٌ جُهَّالٌ بِالدِّينِ أَوْ مُنَافِقُونَ

ص: 128

أَوْ سَمَّاعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ. فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ فِينَا قَوْمًا سَمَّاعِينَ لِلْمُنَافِقِينَ يَقْبَلُونَ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} وَإِنَّمَا عَدَّاهُ بِاللَّامِ لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الْقَبُولِ وَالطَّاعَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " أَيْ اسْتَجَابَ لِمَنْ حَمِدَهُ وَكَذَلِكَ {سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أَيْ مُطِيعُونَ لَهُمْ. فَإِذَا كَانَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْمٌ سَمَّاعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَمَّنْ يُظْهِرُ الِانْقِيَادَ لِحُكْمِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ يَقُولُ: {لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} إلَى قَوْلِهِ {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} فَإِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لَامُ التَّعْدِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أَيْ قَائِلُونَ لِلْكَذِبِ مُرِيدُونَ لَهُ وَسَامِعُونَ مُطِيعُونَ لِقَوْمِ آخَرِينَ غَيْرِك فَلَيْسُوا مُفْرِدِينَ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّامَ لَامُ كَيْ أَيْ يَسْمَعُونَ لِيَكْذِبُوا لِأَجْلِ أُولَئِكَ فَلَمْ يُصِبْ. فَإِنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُرَادُ وَكَثِيرًا مَا يَضِيعُ الْحَقُّ بَيْنَ الْجُهَّالِ الْأُمِّيِّينَ وَبَيْنَ الْمُحَرِّفِينَ لِلْكَلِمِ الَّذِينَ فِيهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ كَمَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ

ص: 129

حَيْثُ قَالَ: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ} الْآيَةَ. وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَخْبَرَ: أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَتَّبِعُ سَنَنَ مَنْ قَبْلَهَا حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَيُغَيِّرُ مَعْنَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ أَمَرَ بِهِ. وَفِيهِمْ أُمِّيُّونَ لَا يَفْقَهُونَ مَعَانِيَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ رُبَّمَا يَظُنُّونَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَمَانِيِّ الَّتِي هِيَ مُجَرَّدُ التِّلَاوَةِ وَمَعْرِفَةُ ظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ هُوَ غَايَةُ الدِّينِ. ثُمَّ قَدْ يُنَاظِرُونَ الْمُحَرِّفِينَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ أَوْ الْكُفَّارِ مَعَ عِلْمِ أُولَئِكَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْأُمِّيُّونَ فَإِمَّا أَنْ تَضِلَّ الطَّائِفَتَانِ وَيَصِيرَ كَلَامُ هَؤُلَاءِ فِتْنَةً عَلَى أُولَئِكَ حَيْثُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَا يَقُولُهُ الْأُمِّيُّونَ هُوَ غَايَةُ عِلْمِ الدِّينِ وَيَصِيرُوا فِي طَرَفَيْ النَّقِيضِ. وَإِمَّا أَنْ يَتَّبِعَ أُولَئِكَ الْأُمِّيُّونَ أُولَئِكَ الْمُحَرِّفِينَ فِي بَعْضِ ضَلَالِهِمْ. وَهَذَا مِنْ بَعْضِ أَسْبَابِ تَغْيِيرِ الْمِلَلِ إلَّا أَنَّ هَذَا الدِّينَ مَحْفُوظٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وَلَا تَزَالُ فِيهِ طَائِفَةٌ قَائِمَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْحَقِّ فَلَمْ يَنَلْهُ مَا نَالَ غَيْرَهُ مِنْ الْأَدْيَانِ مِنْ تَحْرِيفِ كُتُبِهَا وَتَغْيِيرِ شَرَائِعِهَا مُطْلَقًا؛ لِمَا يُنْطِقُ

ص: 130

اللَّهُ بِهِ الْقَائِمِينَ بِحُجَّةِ اللَّهِ وَبَيِّنَاتِهِ الَّذِينَ يُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْمَوْتَى وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِهِ أَهْلَ الْعَمَى فَإِنَّ الْأَرْضَ لَنْ تَخْلُوَ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةِ؛ لِكَيْلَا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ.

وَكَانَ مُقْتَضَى تَقْدِيمِ هَذِهِ " الْمُقَدِّمَةِ " أَنِّي رَأَيْت النَّاسَ فِي شَهْرِ صَوْمِهِمْ وَفِي غَيْرِهِ أَيْضًا: مِنْهُمْ مَنْ يُصْغِي إلَى مَا يَقُولُهُ بَعْضُ جُهَّالِ أَهْلِ الْحِسَابِ: مِنْ أَنَّ الْهِلَالَ يُرَى أَوْ لَا يُرَى. وَيَبْنِي عَلَى ذَلِكَ إمَّا فِي بَاطِنِهِ وَإِمَّا فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ. حَتَّى بَلَغَنِي أَنَّ مِنْ الْقُضَاةِ مَنْ كَانَ يَرُدُّ شَهَادَةَ الْعَدَدِ مِنْ الْعُدُولِ لِقَوْلِ الْحَاسِبِ الْجَاهِلِ الْكَاذِبِ: إنَّهُ يُرَى أَوْ لَا يُرَى. فَيَكُونُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ. وَرُبَّمَا أَجَازَ شَهَادَةَ غَيْرِ الْمَرْضِيِّ لِقَوْلِهِ. فَيَكُونُ هَذَا الْحَاكِمُ مِنْ السَّمَّاعِينَ لِلْكَذِبِ. فَإِنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ حُكَّامَ السُّوءِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ حَيْثُ يَقُولُ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وَحُكَّامُ السُّوءِ يَقْبَلُونَ الْكَذِبَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ قَبُولُ قَوْلِهِ مِنْ مُخْبِرٍ أَوْ شَاهِدٍ. وَيَأْكُلُونَ السُّحْتَ مِنْ الرِّشَا وَغَيْرِهَا. وَمَا أَكْثَرُ مَا يَقْتَرِنُ هذان. وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَقْبَلُ قَوْلَ الْمُنَجِّمِ لَا فِي الْبَاطِنِ وَلَا فِي الظَّاهِر؛ لَكِنْ فِي قَلْبِهِ حَسِيكَةٌ مِنْ ذَلِكَ وَشُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ لِثِقَتِهِ بِهِ: مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَلْتَفِتْ إلَى ذَلِكَ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ حِسَابِ النَّيِّرَيْنِ

ص: 131

وَاجْتِمَاعِ الْقُرْصَيْنِ وَمُفَارَقَةِ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ بِعِدَّةِ دَرَجَاتٍ وَسَبَبِ الْإِهْلَالِ وَالْإِبْدَارِ وَالِاسْتِتَارِ وَالْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ. فَأَجْرَى حُكْمَ الْحَاسِبِ الْكَاذِبِ الْجَاهِلِ بِالرُّؤْيَةِ هَذَا الْمَجْرَى. ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُخْبِرُونَ مِنْ الْحِسَابِ وَصُورَةِ الْأَفْلَاكِ وَحَرَكَاتِهَا أَمْرًا صَحِيحًا: قَدْ يُعَارِضُهُمْ بَعْضُ الْجُهَّالِ مِنْ الْأُمِّيِّينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِيمَانِ أَوْ إلَى الْعَدَمِ أَيْضًا فَيَرَاهُمْ قَدْ خَالَفُوا الدِّينَ فِي الْعَمَلِ بِالْحِسَابِ فِي الرُّؤْيَةِ أَوْ فِي اتِّبَاعِ أَحْكَامِ النُّجُومِ فِي تَأْثِيرَاتِهَا الْمَحْمُودَةِ وَالْمَذْمُومَةِ فَيَرَاهُمْ لَمَّا تَعَاطَوْا هَذَا - وَهُوَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الدِّينِ - صَارَ يَرُدُّ كُلَّ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ. وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَقِّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ وَالْبَاطِلِ الْمُخَالِفِ لِلسَّمْعِ وَالْعَقْلِ مَعَ أَنَّ هَذَا أَحْسَنُ حَالًا فِي الدِّينِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. لِأَنَّ هَذَا كَذَّبَ بِشَيْءِ مِنْ الْحَقِّ مُتَأَوِّلًا جَاهِلًا مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلِ بَعْضِ أُصُولِ الْإِسْلَامِ. وَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ قَدْ يَدْخُلُونَ فِي تَبْدِيلِ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْعَمَلَ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ الصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الْعِدَّةِ أَوْ الْإِيلَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِالْهِلَالِ بِخَبَرِ الْحَاسِبِ أَنَّهُ يُرَى أَوْ لَا يُرَى لَا يَجُوزُ. وَالنُّصُوصُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَدّ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ. وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ قَدِيمٌ أَصْلًا وَلَا خِلَافٌ حَدِيثٌ؛ إلَّا أَنَّ

ص: 132

بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ الحادثين بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ زَعَمَ أَنَّهُ إذَا غُمَّ الْهِلَالُ جَازَ لِلْحَاسِبِ أَنْ يَعْمَلَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِالْحِسَابِ فَإِنْ كَانَ الْحِسَابُ دَلَّ عَلَى الرُّؤْيَةِ صَامَ وَإِلَّا فَلَا. وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِالْإِغْمَامِ وَمُخْتَصًّا بِالْحَاسِبِ فَهُوَ شَاذٌّ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِهِ. فَأَمَّا اتِّبَاعُ ذَلِكَ فِي الصَّحْوِ أَوْ تَعْلِيقُ عُمُومِ الْحُكْمِ الْعَامِّ بِهِ فَمَا قَالَهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ يُقَارِبُ هَذَا قَوْلَ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة بِالْعَدَدِ دُونَ الْهِلَالِ وَبَعْضُهُمْ يَرْوِي عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ جَدْوَلًا يُعْمَلُ عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي افْتَرَاهُ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ خَارِجَةٌ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ بَرَّأَ اللَّهُ مِنْهَا جَعْفَرًا وَغَيْرَهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُمْكِنُهُ مَعَ ظُهُورِ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ يُظْهِرَ الِاسْتِنَادَ إلَى ذَلِكَ. إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ عُمْدَةٌ فِي الْبَاطِنِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَرَدِّهَا وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ فِي كَوْنِ الشَّرِيعَةِ لَمْ تُعَلِّقْ الْحُكْمَ بِهِ.

وَأَنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أُبَيِّنُ ذَلِكَ وَأُوَضِّحُ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ: دَلِيلًا وَتَعْلِيلًا شَرْعًا وَعَقْلًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} فَأَخْبَرَ أَنَّهَا مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ وَخَصَّ الْحَجَّ بِالذِّكْرِ تَمْيِيزًا لَهُ؛ وَلِأَنَّ الْحَجَّ تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ وَغَيْرُهُمْ وَلِأَنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ شُهُورِ الْحَوْلِ. فَيَكُونُ عَلَمًا عَلَى الْحَوْلِ كَمَا أَنَّ الْهِلَالَ

ص: 133

عَلَمٌ عَلَى الشَّهْرِ وَلِهَذَا يُسَمُّونَ الْحَوْلَ حِجَّةً فَيَقُولُونَ: لَهُ سَبْعُونَ حِجَّةً وَأَقَمْنَا خَمْسَ حِجَجٍ. فَجَعَلَ اللَّهُ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ فِي الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِالشَّرْعِ ابْتِدَاءً. أَوْ سَبَبًا مِنْ الْعِبَادَةِ. وَلِلْأَحْكَامِ الَّتِي تَثْبُتُ بِشُرُوطِ الْعَبْدِ. فَمَا ثَبَتَ مِنْ الْمُؤَقَّتَاتِ بِشَرْعٍ أَوْ شَرْطٍ فَالْهِلَالُ مِيقَاتٌ لَهُ وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَالْعِدَّةِ وَصَوْمُ الْكَفَّارَةِ. وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} . وَكَذَلِكَ صَوْمُ النَّذْرِ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ الشُّرُوطُ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالثَّمَنِ وَدَيْنُ السَّلَمِ وَالزَّكَاةُ وَالْجِزْيَةُ وَالْعَقْلُ وَالْخِيَارُ وَالْأَيْمَانُ وَأَجَلُ الصَّدَاقِ وَنُجُومُ الْكِتَابَةِ وَالصُّلْحُ عَنْ الْقِصَاصِ وَسَائِرُ مَا يُؤَجَّلُ مِنْ دَيْنٍ وَعَقْدٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إلَّا بِالْحَقِّ} فَقَوْلُهُ: {لِتَعْلَمُوا} مُتَعَلِّقٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِقَوْلِهِ: {وَقَدَّرَهُ} لَا بجعل. لِأَنَّ كَوْنَ هَذَا

ص: 134

ضِيَاءً. وَهَذَا نُورًا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ؛ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ انْتِقَالُهَا مِنْ بُرْجٍ إلَى بُرْجٍ. وَلِأَنَّ الشَّمْسَ لَمْ يُعَلَّقْ لَنَا بِهَا حِسَابُ شَهْرٍ وَلَا سَنَةٍ وَإِنَّمَا عُلِّقَ ذَلِكَ بِالْهِلَالِ. كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْآيَةُ وَلِأَنَّهُ قَدْ قَالَ: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} فَأَخْبَرَ أَنَّ الشُّهُورَ مَعْدُودَةٌ اثْنَا عَشَرَ وَالشَّهْرُ هِلَالِيٌّ بِالِاضْطِرَارِ. فَعُلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَعْرُوفٌ بِالْهِلَالِ. وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الشَّرَائِعَ قَبْلَنَا أَيْضًا إنَّمَا عَلَّقَتْ الْأَحْكَامَ بِالْأَهِلَّةِ وَإِنَّمَا بَدَّلَ مَنْ بَدَّلَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْيَهُود فِي اجْتِمَاعِ الْقُرْصَيْنِ وَفِي جَعْلِ بَعْضِ أَعْيَادِهَا بِحِسَابِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ وَكَمَا تَفْعَلُهُ النَّصَارَى فِي صَوْمِهَا حَيْثُ تُرَاعِي الِاجْتِمَاعَ الْقَرِيبَ مِنْ أَوَّلِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ وَتَجْعَلُ سَائِرَ أَعْيَادِهَا دَائِرَةً عَلَى السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ بِحَسَبِ الْحَوَادِثِ الَّتِي كَانَتْ لِلْمَسِيحِ وَكَمَا يَفْعَلُهُ الصَّابِئَةُ وَالْمَجُوسُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فِي اصْطِلَاحَاتٍ لَهُمْ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ بِالسَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ فَقَطْ وَلَهُمْ اصْطِلَاحَاتٌ فِي عَدَدِ شُهُورِهَا؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ طَبِيعِيَّةً فَشَهْرُهَا عَدَدِيٌّ وَضْعِيٌّ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ الْقَمَرِيَّةَ لَكِنْ يَعْتَبِرُ اجْتِمَاعَ الْقُرْصَيْنِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ هُوَ أَكْمَلُ الْأُمُورِ وَأَحْسَنُهَا وَأَبْيَنُهَا وَأَصَحُّهَا وَأَبْعَدُهَا مِنْ الِاضْطِرَابِ.

ص: 135

وَذَلِكَ أَنَّ الْهِلَالَ أَمْرٌ مَشْهُودٌ مَرْئِيٌّ بِالْأَبْصَارِ. وَمِنْ أَصَحِّ الْمَعْلُومَاتِ مَا شُوهِدَ بِالْأَبْصَارِ وَلِهَذَا سَمَّوْهُ هِلَالًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَادَّةَ تَدُلُّ عَلَى الظُّهُورِ وَالْبَيَانِ: إمَّا سَمْعًا وَإِمَّا بَصَرًا كَمَا يُقَالُ: أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ وَأَهَلَّ بِالذَّبِيحَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ إذَا رَفَعَ صَوْتَهُ وَيُقَالُ لِوَقْعِ الْمَطَرِ الْهَلَلُ. وَيُقَالُ: اسْتَهَلَّ الْجَنِينُ إذَا خَرَجَ صَارِخًا. وَيُقَالُ: تَهَلَّلَ وَجْهُهُ إذَا اسْتَنَارَ وَأَضَاءَ. وَقِيلَ: إنَّ أَصْلَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ. ثُمَّ لَمَّا كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ سَمَّوْهُ هِلَالًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ: يُهِلُّ بِالْفَرْقَدِ رُكْبَانُهَا كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرُ وَتَهَلُّلُ الْوَجْهِ مَأْخُوذٌ مِنْ اسْتِنَارَةِ الْهِلَالِ. فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمَوَاقِيتَ حُدِّدَتْ بِأَمْرِ ظَاهِرٍ بَيِّنٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ وَلَا يَشْرَكُ الْهِلَالَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ فَإِنَّ اجْتِمَاعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ الَّذِي هُوَ تَحَاذِيهِمَا الْكَائِنُ قَبْلَ الْهِلَالِ: أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِحِسَابٍ يَنْفَرِدُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ مَعَ تَعَبٍ وَتَضْيِيعِ زَمَانٍ كَثِيرٍ وَاشْتِغَالٍ عَمَّا يَعْنِي النَّاسَ وَمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَرُبَّمَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ وَالِاخْتِلَافُ.

ص: 136

وَكَذَلِكَ كَوْنُ الشَّمْسِ حَاذَتْ الْبُرْجَ الْفُلَانِيَّ أَوْ الْفُلَانِيَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُدْرَكُ بِالْأَبْصَارِ. وَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالْحِسَابِ الْخَفِيِّ الْخَاصِّ الْمُشْكِلِ الَّذِي قَدْ يُغْلَطُ فِيهِ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ بِالْإِحْسَاسِ تَقْرِيبًا. فَإِنَّهُ إذَا انْصَرَمَ الشِّتَاءُ وَدَخَلَ الْفَصْلُ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الصَّيْفَ وَيُسَمِّيهِ النَّاسُ الرَّبِيعَ: كَانَ وَقْتُ حُصُولِ الشَّمْسِ فِي نُقْطَةِ الِاعْتِدَالِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْحَمَلِ. وَكَذَلِكَ مِثْلُهُ فِي الْخَرِيفِ. فَاَلَّذِي يُدْرَكُ بِالْإِحْسَاسِ الشِّتَاءُ وَالصَّيْفُ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِاعْتِدَالَيْنِ تَقْرِيبًا. فَأَمَّا حُصُولُهَا فِي بُرْجٍ بَعْدَ بُرْجٍ فَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِحِسَابٍ فِيهِ كُلْفَةٌ وَشُغْلٌ عَنْ غَيْرِهِ مَعَ قِلَّةِ جَدْوَاهُ. فَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوَاقِيتِ حَدٌّ ظَاهِرٌ عَامُّ الْمَعْرِفَةِ إلَّا الْهِلَالُ. وَقَدْ انْقَسَمَتْ عَادَاتُ الْأُمَمِ فِي شَهْرِهِمْ وَسَنَتِهِمْ الْقِسْمَةَ الْعَقْلِيَّةِ. وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ: إمَّا أَنْ يَكُونَا عَدَدِيَّيْنِ أَوْ طَبِيعِيَّيْنِ. أَوْ الشَّهْرُ طَبِيعِيًّا وَالسَّنَةُ عَدَدِيَّةً أَوْ بِالْعَكْسِ. فَاَلَّذِينَ يَعُدُّونَهُمَا: مِثْلُ مَنْ يَجْعَلُ الشَّهْرَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَالسَّنَةَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا. وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَهُمَا طَبِيعِيَّيْنِ. مِثْلُ مَنْ يَجْعَلُ الشَّهْرَ قَمَرِيًّا وَالسَّنَةَ شَمْسِيَّةً. وَيُلْحِقُ فِي آخِرِ الشُّهُورِ الْأَيَّامَ الْمُتَفَاوِتَةَ بَيْنَ

ص: 137

السَّنَتَيْنِ. فَإِنَّ السَّنَةَ الْقَمَرِيَّةَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا. وَبَعْضُ يَوْمٍ خُمُسٌ أَوْ سُدْسٌ. وَإِنَّمَا يُقَالُ فِيهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا جَبْرًا لِلْكَسْرِ فِي الْعَادَةِ - عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَكْمِيلِ مَا يَنْقُصُ مِنْ التَّارِيخِ فِي الْيَوْمِ وَالشَّهْرِ وَالْحَوْلِ. وَأَمَّا الشَّمْسِيَّةُ فَثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا وَبَعْضُ يَوْمٍ: رُبْعُ يَوْمٍ. وَلِهَذَا كَانَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا إلَّا قَلِيلًا: تَكُونُ فِي كُلِّ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَثُلْثِ سَنَةٍ: سَنَةٌ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} قِيلَ: مَعْنَاهُ ثَلَاثُمِائَةٍ سَنَةً شَمْسِيَّةً. {وَازْدَادُوا تِسْعًا} بِحِسَابِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ وَمُرَاعَاةُ هَذَيْنِ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْأُمَمِ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ بِسَبَبِ تَحْرِيفِهِمْ وَأَظُنُّهُ كَانَ عَادَةَ الْمَجُوسِ أَيْضًا. وَأَمَّا مَنْ يَجْعَلُ السَّنَةَ طَبِيعِيَّةً وَالشَّهْرَ عَدَدِيًّا. فَهَذَا حِسَابُ الرُّومِ وَالسُّرْيَانِيِّين وَالْقِبْطِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الصَّابِئِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. مِمَّنْ يَعُدُّ شَهْرَ كَانُونَ وَنَحْوَهُ عَدَدًا وَيَعْتَبِرُ السَّنَةَ الشَّمْسِيَّةَ بِسَيْرِ الشَّمْسِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَبِأَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ طَبِيعِيًّا وَالسَّنَةُ عَدَدِيَّةً فَهُوَ سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ. ثُمَّ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ السَّنَةَ طَبِيعِيَّةً لَا يَعْتَمِدُونَ

ص: 138

عَلَى أَمْرٍ ظَاهِرٍ كَمَا تَقَدَّمَ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْحِسَابِ وَالْعَدَدِ. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الشَّهْرَ طَبِيعِيًّا. وَيَعْتَمِدُونَ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لَا بُدَّ مِنْ الْعَدَدِ وَالْحِسَابِ. ثُمَّ مَا يَحْسِبُونَهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ يَنْفَرِدُ بِهِ الْقَلِيلُ مِنْ النَّاسِ مَعَ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ وَتَعَرُّضٍ لِلْخَطَأِ. فَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ شَرِيعَتُنَا أَكْمَلُ الْأُمُورِ؛ لِأَنَّهُ وَقَّتَ الشَّهْرَ بِأَمْرِ طَبِيعِيٍّ ظَاهِرٍ عَامٍّ يُدْرَكُ بِالْأَبْصَارِ فَلَا يَضِلُّ أَحَدٌ عَنْ دِينِهِ وَلَا يَشْغَلُهُ مُرَاعَاتُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِهِ وَلَا يَدْخُلُ بِسَبَبِهِ فِيمَا لَا يَعْنِيه وَلَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَى التَّلْبِيسِ فِي دِينِ اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْمِلَلِ بِمِلَلِهِمْ. وَأَمَّا الْحَوْلُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَدٌّ ظَاهِرٌ فِي السَّمَاءِ فَكَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْحِسَابِ وَالْعَدَدِ فَكَانَ عَدَدُ الشُّهُورِ الْهِلَالِيَّةِ أَظْهَرَ وَأَعَمَّ مِنْ أَنْ يُحْسَبَ بِسَيْرِ الشَّمْسِ وَتَكُونُ السَّنَةُ مُطَابِقَةً لِلشُّهُورِ؛ وَلِأَنَّ السِّنِينَ إذَا اجْتَمَعَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ عَدَدِهَا فِي عَادَةِ جَمِيعِ الْأُمَمِ؛ إذْ لَيْسَ لِلسِّنَّيْنِ إذَا تَعَدَّدَتْ حَدٌّ سَمَاوِيٌّ يُعْرَفُ بِهِ عَدَدُهَا فَكَانَ عَدَدُ الشُّهُورِ مُوَافِقًا لِعَدَدِ الْبُرُوجِ جُعِلَتْ السَّنَةُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِعَدَدِ الْبُرُوجِ الَّتِي تَكْمُلُ بِدَوْرِ الشَّمْسِ فِيهَا سَنَةً شَمْسِيَّةً فَإِذَا دَارَ الْقَمَرُ فِيهَا كَمَّلَ دَوْرَتَهُ السَّنَوِيَّةَ. وَبِهَذَا كُلِّهِ يَتَبَيَّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ

ص: 139

وَالْحِسَابَ} فَإِنَّ عَدَدَ شُهُورِ السَّنَةِ وَعَدَدَ السَّنَةِ بَعْدَ السَّنَةِ إنَّمَا أَصْلُهُ بِتَقْدِيرِ الْقَمَرِ مَنَازِلَ. وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْحِسَابِ؛ فَإِنَّ حِسَابَ بَعْضِ الشُّهُورِ لِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ الْآجَالِ وَنَحْوِهَا إنَّمَا يَكُونُ بِالْهِلَالِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} . فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ بِالْهِلَالِ يَكُونُ تَوْقِيتُ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يَقُومُ مَقَامَ الْهِلَالِ أَلْبَتَّةَ لِظُهُورِهِ وَظُهُورِ الْعَدَدِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ وَتَيَسُّرِ ذَلِكَ وَعُمُومِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْمَفَاسِدِ. وَمَنْ عَرَفَ مَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ فِي أَعْيَادِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَتَوَارِيخِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ مِنْ الِاضْطِرَابِ وَالْحَرَجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ: ازْدَادَ شُكْرُهُ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يَشْرَعُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الصَّابِئَةِ الَّذِينَ أَدْخَلُوا فِي مِلَّتِهِمْ وَشَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. فَلِهَذَا ذَكَرْنَا مَا ذَكَرْنَاهُ حِفْظًا لِهَذَا الدِّينِ عَنْ إدْخَالِ الْمُفْسِدِينَ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُخَافُ تَغْيِيرُهُ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا قَدْ غَيَّرَتْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ بِالنَّسِيءِ الَّذِي ابْتَدَعَتْهُ فَزَادَتْ بِهِ فِي السَّنَةِ شَهْرًا جَعَلَتْهَا كَبِيسًا؛ لِأَغْرَاضِ لَهُمْ.

ص: 140

وَغَيَّرُوا بِهِ مِيقَاتَ الْحَجِّ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ حَتَّى كَانُوا يَحُجُّونَ تَارَةً فِي الْمُحَرَّمِ وَتَارَةً فِي صَفَرٍ. حَتَّى يَعُودَ الْحَجُّ إلَى ذِي الْحِجَّةِ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ الْمُقِيمُ لِمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ فَوَافَى حَجُّهُ صلى الله عليه وسلم حِجَّةَ الْوَدَاعِ وَقَدْ اسْتَدَارَ الزَّمَانُ كَمَا كَانَ وَوَقَعَتْ حِجَّتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: {إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ: السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَمَحْرَمٌ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ} وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ الْحَجُّ لَا يَقَعُ فِي ذِي الْحِجَّةِ حَتَّى حِجَّةِ أَبِي بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ تَأْخِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْحَجَّ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} . فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا هُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ؛ لِيُبَيِّنَ أَنَّ مَا سِوَاهُ مِنْ أَمْرِ النَّسِيءِ وَغَيْرِهِ مِنْ عَادَاتِ الْأُمَمِ لَيْسَ قَيِّمًا؛ لِمَا يَدْخُلُهُ مِنْ الِانْحِرَافِ وَالِاضْطِرَابِ. وَنَظِيرُ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ الْيَوْمُ وَالْأُسْبُوعُ. فَإِنَّ الْيَوْمَ طَبِيعِيٌّ مِنْ طُلُوعِ

ص: 141

الشَّمْسِ إلَى غُرُوبِهَا. وَأَمَّا الْأُسْبُوعُ فَهُوَ عَدَدِيٌّ مِنْ أَجْلِ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ: الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. فَوَقَعَ التَّعْدِيلُ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ: بِالْيَوْمِ وَالْأُسْبُوعِ بِسَيْرِ الشَّمْسِ. وَالشَّهْرُ وَالسَّنَةُ: بِسَيْرِ الْقَمَرِ وَبِهِمَا يَتِمُّ الْحِسَابُ. وَبِهَذَا قَدْ يَتَوَجَّهُ قَوْلُهُ: {لِتَعْلَمُوا} إلَى {جَعَلَ} فَيَكُونُ جَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لِهَذَا كُلِّهِ. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} وَقَوْلُهُ: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} فَقَدْ قِيلَ: هُوَ مِنْ الْحِسَابِ. وَقِيلَ: بِحُسْبَانٍ كَحُسْبَانِ الرَّحَا. وَهُوَ دَوَرَانُ الْفَلَكِ. فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَلْ قَدْ دَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّةُ وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى مَثَلِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مِنْ أَهْلِ الْحِسَابِ مِنْ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ لَا مُسَطَّحَةٌ.

ص: 142

فَصْلٌ:

لَمَّا ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَوْدُ الْمَوَاقِيتِ إلَى الْأَهِلَّةِ. وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَوَاقِيتُ كُلُّهَا مُعَلَّقَةً بِهَا. فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَبْدَأُ الْحُكْمِ فِي الْهِلَالِ حُسِبَتْ الشُّهُورُ كُلُّهَا هِلَالِيَّةً: مِثْلُ أَنْ يَصُومَ لِلْكَفَّارَةِ فِي هِلَالِ الْمُحَرَّمِ أَوْ يَتَوَفَّى زَوْجُ الْمَرْأَةِ فِي هِلَالِ الْمُحَرَّمِ أَوْ يُولِيَ مِنْ امْرَأَتِهِ فِي هِلَالِ الْمُحَرَّمِ أَوْ يَبِيعَهُ فِي هِلَالِ الْمُحَرَّمِ إلَى شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ. فَإِنَّ جَمِيعَ الشُّهُورِ تُحْسَبُ بِالْأَهِلَّةِ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَوْ جَمِيعُهَا نَاقِصًا. فَأَمَّا إنْ وَقَعَ مَبْدَأُ الْحُكْمِ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ. فَقَدْ قِيلَ: تُحْسَبُ الشُّهُورُ كُلُّهَا بِالْعَدَدِ بِحَيْثُ لَوْ بَاعَهُ إلَى سَنَةٍ فِي أَثْنَاءِ الْمُحَرَّمِ عَدَّ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا وَإِنْ كَانَ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ عَدَّ مِائَةً وَثَمَانِينَ يَوْمًا فَإِذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ مُنْتَصَفَ الْمُحَرَّمِ كَانَ الْمُنْتَهَى الْعِشْرِينَ مِنْ الْمُحَرَّمِ. وَقِيلَ: بَلْ يُكْمِلُ الشَّهْرَ بِالْعَدَدِ وَالْبَاقِيَ بِالْأَهِلَّةِ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يُفَرِّقُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ.

ص: 143

ثُمَّ لِهَذَا الْقَوْلِ تَفْسِيرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْعَلُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَبَاقِيَ الشُّهُورِ هِلَالِيَّةً. فَإِذَا كَانَ الْإِيلَاءُ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ حَسَبَ بَاقِيَهُ. فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا أَخَذَ مِنْهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَكَمَّلَهُ بستة عَشَرَ يَوْمًا مِنْ جُمَادَى الْأُولَى. وَهَذَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ. وَالتَّفْسِيرُ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَنَّ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ كَامِلًا كَمُلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا جُعِلَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. فَمَتَى كَانَ الْإِيلَاءُ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ كَمُلَتْ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ فِي مُنْتَصَفِ جُمَادَى الْأُولَى. وَهَكَذَا سَائِرُ الْحِسَابِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْجَمِيعُ بِالْهِلَالِ وَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ نَقُولَ بِالْعَدَدِ بَلْ نَنْظُرُ الْيَوْمَ الَّذِي هُوَ الْمَبْدَأُ مِنْ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ. فَتَكُونُ النِّهَايَةُ مِثْلَهُ مِنْ الشَّهْرِ الْآخَرِ. فَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ كَانَتْ النِّهَايَةُ فِي مِثْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ بَعْدَ كَمَالِ الشُّهُورِ وَهُوَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ بَعْدَ انْسِلَاخِ الشُّهُورِ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ الْمُحَرَّمِ كَانَتْ النِّهَايَةُ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ الْمُحَرَّمِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى قَدْرِ الشُّهُورِ الْمَحْسُوبَةِ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ. وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} فَجَعَلَهَا مَوَاقِيتَ لِجَمِيعِ النَّاسِ مَعَ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّ الَّذِي يَقَعُ فِي أَثْنَاءِ الشُّهُورِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يَقَعُ فِي أَوَائِلهَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِيقَاتًا إلَّا لِمَا

ص: 144

يَقَعُ فِي أَوَّلِهَا لَمَا كَانَتْ مِيقَاتًا إلَّا لِأَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ عُشْرِ أُمُورِ النَّاسِ. وَلِأَنَّ الشَّهْرَ إذَا كَانَ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ: فَمَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ مِثْلُ مَا بَيْنَ نِصْفِ هَذَا وَنِصْفِ هَذَا سَوَاءٌ وَالتَّسْوِيَةُ مَعْلُومَةٌ بِالِاضْطِرَارِ. وَالْفَرْقُ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ. وَأَيْضًا فَمَنْ الَّذِي جَعَلَ الشَّهْرَ الْعَدَدِيَّ ثَلَاثِينَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَخَنَّسَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ} وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ نِصْفَ شُهُورِ السَّنَةِ يَكُونُ ثَلَاثِينَ وَنِصْفَهَا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَأَيْضًا فَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ إذَا أَجَّلَ الْحَقَّ إلَى سَنَةٍ. فَإِنْ كَانَ مَبْدَؤُهُ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ كَانَ مُنْتَهَاهُ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ سَلْخَ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَهُمْ. وَإِنْ كَانَ مَبْدَؤُهُ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ كَانَ مُنْتَهَاهُ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ أَيْضًا. لَا يَعْرِفُ الْمُسْلِمُونَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ وَلَا يَبْنُونَ إلَّا عَلَيْهِ وَمَنْ أَخَذَ لِيَزِيدَ يَوْمًا لِنُقْصَانِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ كَانَ قَدْ غَيَّرَ عَلَيْهِمْ مَا فُطِرُوا عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ وَأَتَاهُمْ بِمُنْكَرِ لَا يَعْرِفُونَهُ. فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ مِمَّنْ تَوَهَّمَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَنَبَّهْنَا عَلَيْهِ لِيُحْذَرَ الْوُقُوعُ فِيهِ وَلِيُعْلَمَ بِهِ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} وَأَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَحْفُوظٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَيْءٌ.

ص: 145

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} يُبَيِّنُ بِذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ تَابِعٌ لِتَقْدِيرِهِ مَنَازِلَ.

فَصْلٌ:

مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْأَحْكَامَ مِثْلَ صِيَامِ رَمَضَانَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَهِلَّةِ لَا رَيْبَ فِيهِ. لَكِنْ الطَّرِيقُ إلَى مَعْرِفَةِ طُلُوعِ الْهِلَالِ هُوَ الرُّؤْيَةُ؛ لَا غَيْرُهَا: بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ. أَمَّا السَّمْعُ: فَقَدْ أَخْبَرَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ المقدسي وَأَبُو الْغَنَائِمِ الْمُسْلِمُ بْنُ عُثْمَانَ الْقَيْسِيُّ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا: أَنْبَأَنَا حَنْبَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُؤَذِّنُ أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْمُذْهِبِ أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ

ص: 146

أَحْمَد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ أَنْبَأَنَا أَبِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ. وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تَمَامَ الثَّلَاثِينَ} . وَقَالَ أَحْمَد: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ وَإِسْحَاقَ يَعْنِي الْأَزْرَقَ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ. الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي ذَكَرَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ قَالَ إسْحَاقُ: وَطَبَّقَ بِيَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَخَنَّسَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ} أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ آدَمَ عَنْ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ: {إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ} . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ عَنْ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ: {إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَخَنَّسَ سُلَيْمَانُ أُصْبُعَهُ فِي الثَّالِثَةِ يَعْنِي تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ} . رَوَاهُ

ص: 147

النَّسَائِي مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ. كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَمِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ أَيْضًا كَمَا سُقْنَاهُ وَقَالَ فِي آخِرِهِ تَمَامُ الثَّلَاثِينَ. وَلَمْ يَقُلْ: يَعْنِي. فَرِوَايَتُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُسْنَدِ كَمَا سُقْنَاهُ أَجَلُّ الطُّرُقِ وَأَرْفَعُهَا قَدْرًا؛ إذْ غُنْدَرٌ أَرْفَعُ مِنْ كُلِّ مَنْ رَوَاهُ عَنْ شُعْبَةَ وَأَضْبَطُ لِحَدِيثِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَد أَجَلُّ مَنْ رَوَاهُ عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمُسْنَدَةُ الَّتِي رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ تُفَسِّرُ رِوَايَةَ الْثَوْرِي وَسَائِرَ الرِّوَايَاتِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِمَّا فِيهِ إجْمَالٌ يُوهَمُ بِسَبَبِهِ عَلَى ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ مَا رَوَيْنَاهُ بِالطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ أَحْمَد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَبَهْزٌ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جبلة يَقُولُ لَنَا ابْنُ سحيم: قَالَ بَهْزٌ: أَخْبَرَنِي جبلة بْنُ سحيم سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الشَّهْرُ هَكَذَا وَطَبَّقَ بِأَصَابِعِهِ مَرَّتَيْنِ وَكَسَرَ فِي الثَّالِثَةِ الْإِبْهَامَ.} قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ فِي حَدِيثِهِ يَعْنِي قَوْلَهُ: " تِسْعًا وَعِشْرِينَ ". هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ: {الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَخَنَّسَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ} . وَمِثْلُ مَا رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ كَمَا رَوَيْنَاهُ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ إلَى أَحْمَد: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ أَنْبَأَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ} قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ إذَا مَضَى مِنْ شَعْبَانَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ يَبْعَثُ مَنْ يَنْظُرُ

ص: 148

فَإِنْ رُئِيَ فَذَاكَ فَإِنْ لَمْ يُرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا. وَرَوَيْنَاهُ. فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَيُّوبُ هَكَذَا سَوَاءً. وَلَفْظُهُ: {الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ} قَالَ فِي آخِرِهِ: فَكَانَ ابْنِ عُمَرَ إذَا كَانَ شَعْبَانُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ نُظِرَ لَهُ فَإِنْ رُئِيَ فَذَاكَ وَإِنْ لَمْ يُرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا قَالَ فَكَانَ ابْنِ عُمَرَ يُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ وَلَا يَأْخُذُ بِهَذَا الْحِسَابِ وَرِوَى لَهُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ} وَبِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ سَحَابٌ أَصْبَحَ صَائِمًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَحَابٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا. قَالَ: وَأَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طاوس عَنْ أَبِيهِ مِثْلَهُ وَهَكَذَا رَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ كَمَا رَوَيْنَاهُ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ إلَى أَحْمَد: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: إذَا كَانَ لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ. وَكَانَ فِي السَّمَاءِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا. رَوَاهُ النَّسَائِي عَنْ عُمَرَو بْنُ عَلِيٍّ عَنْ يَحْيَى. وَلَفْظُهُ: {لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ،

ص: 149

فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ} وَذَكَرَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه {قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْهِلَالَ فَقَالَ: إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ} وَجَعَلَ هَذَا اخْتِلَافًا عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ. وَمِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ لَا يَقْدَحُ إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ فَإِنَّ الْحُفَّاظَ كَالزُّهْرِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ وَنَحْوِهِمَا يَكُونُ الْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ وَثَلَاثَةٍ أَوْ أَكْثَرَ. فَتَارَةً يُحَدِّثُونَ بِهِ مِنْ وَجْهٍ وَتَارَةً يُحَدِّثُونَ بِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَيُظْهِرُ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْ الرُّوَاةِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ شَيْخَيْنِ أَوْ يَذْكُرُ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ ذَكَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ} لَمْ يَذْكُرْ فِي أَوَّلِهِ قَوْلَهُ: {الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ} وَلَا ذَكَرَ الزِّيَادَةَ عَلَى عَادَتِهِ فِي أَنَّهُ كَانَ كَثِيرًا مَا يَتْرُكُ التَّحْدِيثَ بِمَا لَا يُعْمَلُ بِهِ عِنْدَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ} فَرَوَاهَا مَالِكٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَرَوَاهَا مِنْ طَرِيقِهِ الْبُخَارِيُّ

ص: 150

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسلمة وَهُوَ القعنبي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ} هَكَذَا وَقَعَ هَذَا اللَّفْظُ مُخْتَصَرًا فِي الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ القعنبي عَنْ مَالِكٍ. وَهُوَ نَاقِصٌ. فَإِنَّ الَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ: " يَوْمًا " لِأَنَّ القعنبي لَفْظُهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ. فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ} فَذَكَرَ قَوْلَهُ: {وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ} وَذَكَرَهُ بِلَفْظَةِ {فَاقْدُرُوا لَهُ} لَا بِلَفْظِ {فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ} وَهَكَذَا فِي سَائِر الْمُوَطَّآتِ مَسْبُوقٌ بِذِكْرِ الْجُمْلَتَيْنِ. وَلَفْظُ " الْقَدْر " حَتَّى قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يُخْتَلَفْ عَنْ نَافِعٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ: {فَاقْدُرُوا لَهُ} قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَى سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وَرَوَاهُ الدراوردي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ فَقَالَ فِيهِ: {فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} فَهَذِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ نَقْصٌ وَرِوَايَةٌ بِالْمَعْنَى وَقَعَ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ كَمَا ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي لَفْظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ الْمُشْعِرُ بِالْحَصْرِ مَا رَوَيْنَاهُ أَيْضًا بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ إلَى

ص: 151

أَحْمَد: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا شيبان عَنْ يَحْيَى أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ: قَالَ: سَمِعْت {ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ} وَرَوَاهُ النَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ عَنْ يَحْيَى هَكَذَا. وَسَاقَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {الشَّهْرُ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَيَكُونُ ثَلَاثِينَ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ} وَجَعَلَ النَّسَائِي هَذَا اخْتِلَافًا عَلَى يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ. وَالصَّوَابُ أَنَّ كِلَيْهِمَا مَحْفُوظٌ عَنْ يَحْيَى. عَنْ أَبِي سَلَمَةَ لَا اخْتِلَافَ فِي اللَّفْظِ. وَقَالَ أَحْمَد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ حريث سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ وَطَبَّقَ شُعْبَةُ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَكَسَرَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ عُقْبَةُ وَأَحْسَبُهُ قَالَ: الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ وَطَبَّقَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} وَرَوَاهُ النَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُثَنَّى عَنْ غُنْدُرٍ؛ لَكِنْ لَفْظُهُ: {الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ} لَمْ يَزِدْ. فَرِوَايَةُ أَحْمَد أَكْمَلُ وَأَحْسَنُ سِيَاقًا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الرِّوَايَةَ الْمُفَسِّرَةَ تُبَيِّنُ أَنَّ سَائِر رِوَايَاتِ ابْنِ عُمَرَ الَّتِي فِيهَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ عُنِيَ بِهَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ: أَمَّا أَنَّ الشَّهْرَ

ص: 152

قَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ رَدًّا عَلَى مَنْ يَتَّهِمُ أَنَّ الشَّهْرَ الْمُطْلَقَ هُوَ ثَلَاثُونَ كَمَا تَوَهَّمَ مَنْ تَوَهَّمَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الشَّهْرِ الْعَدَدِيِّ فَيَجْعَلُونَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِكُلِّ حَالٍ وَعَارَضَهُمْ قَوْمٌ فَقَالُوا: الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَالْيَوْمُ الْآخِرُ زِيَادَةٌ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: {الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا} يَعْنِي: مَرَّةً ثَلَاثِينَ وَمَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ فَمَنْ جَزَمَ بِكَوْنِهِ ثَلَاثِينَ أَوْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّ عَدَدَ الشَّهْرِ اللَّازِمَ الدَّائِمَ هُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَأَمَّا الزَّائِدُ فَأَمْرٌ جَائِزٌ يَكُونُ فِي بَعْضِ الشُّهُورِ وَلَا يَكُونُ فِي بَعْضِهَا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التِّسْعَةَ وَالْعِشْرِينَ يَجِبُ عَدَدُهَا وَاعْتِبَارُهَا بِكُلِّ حَالٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلَا يُشْرَعُ الصَّوْمُ بِحَالِ حَتَّى يَمْضِيَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ شَعْبَانَ وَلَا بُدَّ أَنْ يُصَامَ فِي رَمَضَانَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ؛ لَا يُصَامُ أَقَلُّ مِنْهَا بِحَالِ وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يُفَسَّرُ بِهِ رِوَايَةُ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ: {إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ. فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ} أَيْ إنَّمَا الشَّهْرُ اللَّازِمُ الدَّائِمُ الْوَاجِبُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ

ص: 153

هَذَا اللَّفْظُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَصْرِ. وَقَدْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ إشَارَةً إلَى شَهْرٍ بِعَيْنِهِ لَا إلَى جِنْسِ الشَّهْرِ: أَيْ إنَّمَا ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ كَأَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي آلَى فِيهِ مِنْ أَزْوَاجِهِ لَكِنْ هَذَا يَدْفَعُهُ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: {فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ. فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَقْدِرُوا لَهُ} فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا لِبَيَانِ الشَّرْعِ الْعَامِّ الْمُتَعَلِّقِ بِجِنْسِ الشَّهْرِ لَا لِشَهْرِ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا لِأَجْلِ الصَّوْمِ. فَلَوْ أَرَادَ شَهْرًا بِعَيْنِهِ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ لَكَانَ إذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ الْغَمِّ وَعَدَمِهِ وَلَمْ يَقُلْ: {فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ} وَلِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا وَقَدْ رُئِيَ هِلَالُ الصَّوْمِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يُقَالُ: {فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ} . وَلِذَلِكَ حَمَلَ الْأَئِمَّةُ كَالْإِمَامِ أَحْمَد قَوْلَهُ الْمُطْلَقَ عَلَى أَنَّهُ لِجِنْسِ الشَّهْرِ لَا لِشَهْرِ مُعَيَّنٍ. وَبَنَوْا عَلَيْهِ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ. قَالَ حَنْبَلُ بْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ حميد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قُلْت لِيَحْيَى: الَّذِينَ يَقُولُونَ الملائي قَالَ: نَعَمْ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: صُمْنَا عَلَى عَهْدِ عَلِيٍّ رضي الله عنه ثَمَانٍ

ص: 154

وَعِشْرِينَ فَأَمَرَنَا عَلِيٍّ أَنْ نُتِمَّهَا يَوْمًا. أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقُولُ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَمَنْ صَامَ هَذَا الصَّوْمَ قَضَى يَوْمًا وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ يَتَبَيَّنُ الْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ فِي هَذَا قَالَتْ. يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ {وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا فَنَزَلَ لِتِسْعِ وَعِشْرِينَ. فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: إنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ} فَعَائِشَةُ رضي الله عنها رَدَّتْ مَا أَفْهَمُوهَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَوْ مَا فَهِمَتْهُ هِيَ مِنْ أَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ إلَّا تِسْعًا وَعِشْرِينَ. وَابْنِ عُمَرَ لَمْ يَرُدَّ هَذَا بَلْ قَدْ ذَكَرْنَا عَنْهُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ. بِأَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ. فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ ابْنِ عُمَرَ رَوَى أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تَارَةً كَذَلِكَ وَتَارَةً كَذَلِكَ. وَمَا رَوَاهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ أَيْضًا: مِنْ أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّهْرَ اللَّازِمَ الدَّائِمَ الْوَاجِبَ هُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ الشَّيْءَ فِي صِيَغِ الْحَصْرِ أَوْ غَيْرِهَا تَارَةً لِانْتِفَاءِ ذَاتِهِ. وَتَارَةً لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ وَمَقْصُودِهِ. وَيَحْصُرُونَ الشَّيْءَ فِي غَيْرِهِ: تَارَةً لِانْحِصَارِ جَمِيعِ الْجِنْسِ مِنْهُ. وَتَارَةً لِانْحِصَارِ الْمُفِيدِ أَوْ الْكَامِلِ فِيهِ. ثُمَّ إنَّهُمْ تَارَةً

ص: 155

يُعِيدُونَ النَّفْيَ إلَى الْمُسَمَّى. وَتَارَةً يُعِيدُونَ النَّفْيَ إلَى الِاسْمِ. وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي اللُّغَةِ؛ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْحَقِيقِيُّ بِالِاسْمِ مُنْتَفِيًا عَنْهُ ثَابِتًا لِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} فَنَفَى عَنْهُمْ مُسَمَّى الشَّيْءِ مَعَ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ شَامِلٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ؛ لَمَّا كَانَ مَا لَا يُفِيدُ وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ يَئُولُ إلَى الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ الْعَدَمُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ. بَلْ مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا مِنْ الْمَعْدُومِ الْمُسْتَمِرِّ عَدَمُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ. فَمَنْ قَالَ الْكَذِبَ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِمَا يَنْفَعُهُ فَلَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْكُهَّانِ قَالَ. " لَيْسُوا بِشَيْءِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: {سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَاسٍ مِنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ: لَيْسُوا بِشَيْءِ} وَيَقُولُ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ لَيْسَ بِشَيْءِ أَوْ عَنْ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ بِشَيْءِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ؛ لِظُهُورِ كَذِبِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً. وَيُقَالُ أَيْضًا لِمَنْ خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي الْأَخْلَاقِ وَنَحْوِهَا: هَذَا لَيْسَ بِآدَمِيِّ وَلَا إنْسَانٍ مَا فِيهِ إنْسَانِيَّةٌ وَلَا مُرُوءَةٌ هَذَا حِمَارٌ؛ أَوْ كَلْبٌ كَمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ اتَّصَفَ بِمَا هُوَ

ص: 156

فَوْقَهُ مِنْ حُدُودِ الْإِنْسَانِيَّةِ. كَمَا قُلْنَ لِيُوسُفَ: {مَا هَذَا بَشَرًا إنْ هَذَا إلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} . وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ إنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إلْحَافًا} وَقَالَ: {مَا تَعُدُّونَ الْمُفْلِسَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: الَّذِي لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا دِينَارَ فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ إنَّمَا الْمُفْلِسُ الَّذِي يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الْحَدِيثَ. وَقَالَ: {مَا تُعِدُّونَ الرَّقُوبَ؟} الْحَدِيثَ. فَهَذَا نَفْيٌ لِحَقِيقَةِ الِاسْمِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ اعْتِبَارُهُ: بِاعْتِبَارِ أَنَّ الرَّقُوبَ وَالْمُفْلِسَ إنَّمَا قُيِّدَ بِهَذَا الِاسْمِ لَمَّا عَدِمَ الْمَالَ وَالْوَلَدَ وَالنُّفُوسُ تَجْزَعُ مِنْ ذَلِكَ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَدَمَ ذَلِكَ حَيْثُ يَضُرُّهُ عَدَمُهُ هُوَ أَحَقُّ بِهَذَا الِاسْمِ مِمَّنْ يَعْدَمُهُ حَيْثُ قَدْ لَا يَضُرُّهُ ضَرَرًا لَهُ اعْتِبَارٌ. وَمَثَّالُ هَذَا أَنْ يُقَالَ لِمَنْ يَتَأَلَّمُ أَلَمًا يَسِيرًا لَيْسَ هَذَا بِأَلَمِ إنَّمَا الْأَلَمُ كَذَا وَكَذَا وَلِمَنْ يَرَى أَنَّهُ غَنِيٌّ لَيْسَ هَذَا بِغَنِيِّ إنَّمَا الْغَنِيُّ فُلَانٌ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْعَالَمِ وَالزَّاهِدِ. كَقَوْلِهِمْ إنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى.

ص: 157

وَكَقَوْلِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ النَّاسُ يَقُولُونَ: مَالِكٌ زَاهِدٌ إنَّمَا الزَّاهِدُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الَّذِي أَتَتْهُ الدُّنْيَا فَتَرَكَهَا. وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا تَكُونُ الْقُلُوبُ تُعَظِّمُهُ لِذَلِكَ الْمُسَمَّى اعْتِقَادًا وَاقْتِصَادًا: إمَّا طَلَبًا لِوُجُودِهِ وَإِمَّا طَلَبًا لِعَدَمِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلِاسْمِ فَيُبَيِّنُ لَهَا أَنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثَابِتَةٌ لِغَيْرِهِ دُونَهُ عَلَى وَجْهٍ يَنْبَغِي تَعْلِيقُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ وَالِاقْتِصَادِ بِذَلِكَ الْغَيْرِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ} وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلَى قَوْلِهِ {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} فَهَؤُلَاءِ الْمُسْتَحِقُّونَ لِهَذَا الِاسْمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْوَاجِبَةِ لَهُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لَا عِلْمَ إلَّا مَا نَفَعَ وَلَا مَدِينَةَ إلَّا بِمُلْكِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم {لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ} أَوْ {إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ} . فَإِنَّمَا الرِّبَا الْعَامُّ الشَّامِلُ لِلْجِنْسَيْنِ وَلِلْجِنْسِ الْوَاحِدِ الْمُتَّفِقَةِ صِفَاتُهُ إنَّمَا يَكُونُ فِي النَّسِيئَةِ. وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَلَا يَكُونُ إلَّا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَلَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ إلَّا إذَا اخْتَلَفَتْ الصِّفَاتُ. كَالْمَضْرُوبِ بِالتِّبْرِ وَالْجِيدِ بِالرَّدِيءِ فَإِمَّا إذَا اسْتَوَتْ الصِّفَاتُ

ص: 158

فَلَيْسَ أَحَدٌ يَبِيعُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ. وَلِهَذَا شُرِعَ الْقَرْضُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ التَّبَرُّعِ. فَلَمَّا كَانَ غَالِبُ الرِّبَا وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَوَّلًا وَهُوَ مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ وَهُوَ رِبَا النَّسَاءِ: قِيلَ إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ. وَأَيْضًا رِبَا الْفَضْلِ إنَّمَا حُرِّمَ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى رِبَا النَّسِيئَةِ فَالرِّبَا الْمَقْصُودُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ رِبَا النَّسِيئَةِ فَلَا رِبَا إلَّا فِيهِ وَأَظْهَرُ مَا تَبَيَّنَ فِيهِ الرِّبَا الْجِنْسُ الْوَاحِدُ الْمُتَّفَقُ فِيهِ الصِّفَاتُ فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ مِائَةَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ وَعِشْرِينَ ظَهَرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ قَابَلَتْ الْأَجَلَ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَإِنَّمَا دَخَلَ فِيهِ لِلْحَاجَةِ؛ وَلِهَذَا لَا تُضْمَنُ الْآجَالُ بِالْيَدِ وَلَا بِالْإِتْلَافِ. فَلَوْ تَبَقَّى الْعَيْنُ فِي يَدِهِ أَوْ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ مُدَّةً لَمْ يَضْمَنْ الْأَجَلَ؛ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الصِّفَةِ فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي الْإِتْلَافِ وَالْغَصْبِ وَفِي الْبَيْعِ إذَا قَابَلَتْ غَيْرَ الْجِنْسِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. فَإِنَّ الْكَلَامَ الْخَبَرِيَّ إمَّا إثْبَاتٌ وَإِمَّا نَفْيٌ. فَكَمَا أَنَّهُمْ فِي الْإِثْبَاتِ يُثْبِتُونَ لِلشَّيْءِ اسْمَ الْمُسَمَّى إذَا حَصَلَ فِيهِ مَقْصُودُ الِاسْمِ وَإِنْ انْتَفَتْ صُورَةُ الْمُسَمَّى. فَكَذَلِكَ فِي النَّفْيِ. فَإِنَّ أَدَوَاتِ النَّفْيِ تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الِاسْمِ بِانْتِفَاءِ مُسَمَّاهُ فَكَذَلِكَ تَارَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا. وَتَارَةً لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْحَقِيقَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالْمُسَمَّى. وَتَارَةً لِأَنَّهُ لَمْ تَكْمُلْ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ. وَتَارَةً لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُسَمَّى مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا؛ بَلْ الْمَقْصُودُ غَيْرُهُ.

ص: 159

وَتَارَةً لِأَسْبَابِ أُخَرَ. وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي لَا تُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا حَقِيقَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلِكَوْنِ الْمُرَكَّبِ قَدْ صَارَ مَوْضُوعًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى أَوْ مِنْ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ الَّتِي تَجْعَلُهَا مَجَازًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا إذَا أُطْلِقَ الْكَلَامُ مُجَرَّدًا عَنْ الْقَرِينَتَيْنِ فَمَعْنَاهُ السَّلْبُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم {إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ} وَقَوْلُهُ: {الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ} حَيْثُ قَصَدَ بِهِ الْحَصْرَ فِي النَّوْعِ لَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ عَلَّقَ بِالشَّهْرِ أَحْكَامًا كَقَوْلِهِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ} وَقَوْلِهِ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وَقَوْلِهِ: {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَانَ مِنْ الْأَفْهَامِ مَا يَسْبِقُ إلَى أَنَّ مُطْلَقَ الشَّهْرِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا. وَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ لَمْ يَعُدَّ أَيَّامَ الشَّهْرِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ السَّنَةَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا. وَأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثُونَ يَوْمًا فَقَالَ صلى الله عليه وسلم الشَّهْرُ الثَّابِتُ اللَّازِمُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ. وَزِيَادَةُ الْيَوْمِ قَدْ تَدْخُلُ فِيهِ وَقَدْ تَخْرُجُ مِنْهُ كَمَا يَقُولُ الْإِسْلَامُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَقَدْ يَمُوتُ قَبْلَ الْكَلَامِ فَلَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ فِي حَقِّهِ إلَّا مَا تَكَلَّمَ بِهِ.

ص: 160

وَعَلَى مَا قَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَيَكُونُ قَدْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كِلَا الْخِبْرَيْنِ أَوْ أَنْ يَكُونَ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ: {أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَيَكُونُ ثَلَاثِينَ} كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ وَسُمِعَ مِنْهُ: {أَنَّ الشَّهْرَ إنَّمَا هُوَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ} رُوِيَ هَذَا بِالْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَرْوِي بِالْمَعْنَى. رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ أَنَّ قَوْلَهُ: {الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ} لِشَهْرِ مُعَيَّنٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {قَدْ يَكُونُ} وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّمَا الشَّهْرُ} وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا يُوَافِقُ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. مِثْلُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جريج. عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم {آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا أَوْ رَاحَ فَقِيلَ لَهُ إنَّك حَلَفْت أَنْ لَا تَدْخُلُ شَهْرًا. فَقَالَ: إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا} فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهْرَ يَكْمُلُ بِحَسْبِهِ مُطْلَقًا. إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِيلَاءُ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. فَمَتَى كَانَ الْإِيلَاءُ. فِي أَثْنَائِهِ فَهُوَ نَصٌّ فِي مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ

ص: 161

عَنْ حَمِيدٍ عَنْ أَنَسٍ {قَالَ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ وَكَانَتْ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ فَأَقَامَ فِي مَشْرَبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ آلَيْت شَهْرًا فَقَالَ: إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ} . وَأَمَّا الشَّهْرُ الْمُعَيَّنُ فَرَوَى النَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: تَمَّ الشَّهْرُ لِتِسْعِ وَعِشْرِينَ} هَكَذَا رَوَاهُ بَهْز عَنْهُ. وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ غُنْدُرٍ. وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ غُنْدُرٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ: {الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ} فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ إيلَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِيمَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ. فَلَمَّا مَضَى تِسْعٌ وَعِشْرُونَ أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ أَنَّ الشَّهْرَ تَمَّ لِتِسْعِ وَعِشْرِينَ لِأَنَّ الشَّهْرَ الَّذِي آلَى فِيهِ كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَظُنُّ أَنَّ عَلَيْهِ إكْمَالَ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ. فَأَخْبَرَهُ جبرائيل بِأَنَّهُ تَمَّ شَهْرُ إيلَائِهِ لِتِسْعِ وَعِشْرِينَ. وَلَوْ كَانَ الْإِيلَاءُ فِي أَوَّلِ الْهِلَالِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يُخْبِرَهُ جبرائيل بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا رُئِيَ لِتَمَامِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ تَمَّ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ حَتَّى يُخْبِرَهُ بِهِ جبرائيل. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْإِيلَاءُ بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ لَكَانَ الصَّحَابَةُ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ

ص: 162

شَهْرٌ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ يَشُكُّونَ فِيهِ هُمْ وَلَا أَحَدٌ أَنَّ الشَّهْرَ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ وَالِاعْتِبَارُ بِالْعَدَدِ؛ وَلَكِنْ لَمَّا وَقَعَ الْإِيلَاءُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ يَجِبُ تَكْمِيلُ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ فَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ شَهْرُ إيلَائِهِ لِتِسْعِ وَعِشْرِينَ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: {إنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ} أَيْ شَهْرُ الْإِيلَاءِ {وَأَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ} . وَأَيْضًا فَقَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَعُدُّهُنَّ. وَلَوْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِلَالِ لَمْ تَحْتَجْ إلَى أَنْ تَعُدَّهُنَّ كَمَا لَمْ يَعُدَّ رَمَضَانَ إذَا صَامُوا بِالرُّؤْيَةِ؛ بَلْ رِوَى عَنْهُ مَا ظَاهِرُهُ الْحَصْرُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ إلَى أَحْمَد: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ {قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَضْرِبُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُوَ يَقُولُ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا ثُمَّ يَقْبِضُ أُصْبُعَهُ فِي الثَّالِثَةِ} . وَقَالَ أَحْمَد حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا عَشْرٌ عَشْرٌ وَتِسْعٌ مَرَّةً} رَوَاهُ النَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَرَوَاهُ هُوَ وَأَحْمَد أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ إسْمَاعِيلَ مُسْنَدًا كَمَا تَقَدَّمَ

ص: 163

وَقَدْ رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَوَكِيعٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدٍ مُرْسَلًا. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِي رِوَايَتِهِ قُلْت لِإِسْمَاعِيلَ: عَنْ أَبِيهِ؟ قَالَ: لَا. وَقَدْ صَحَّحَ أَحْمَد الْمُسْنَدَ. وَقَالَ فِي حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ حَدِيثُ سَعْدٍ {الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا} قَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ: أَرَدْنَا أَنْ يَقُولَ عَنْ أَبِيهِ فَأَبَى. قَالَ أَحْمَد: هَذَا عَنْ إسْمَاعِيلَ كَانَ يُسْنِدُهُ أَحْيَانًا وَأَحْيَانًا لَا يُسْنِدُهُ. وَرَوَاهُ زَائِدَةُ عَنْ أَبِيهِ قِيلَ لَهُ: إنَّ وَكِيعًا. قَدْ رَوَاهُ وَيَحْيَى يَقُولُ: مَا يَقُولُ؟ قَالَ: زَائِدَةُ قَدْ رَوَاهُ. وَقَالَ أَيْضًا: قَدْ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ وَابْنُ بِشْرٍ وَزَائِدَةُ وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ بَيَانٌ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ الثِّقَات فَهِيَ مَقْبُولَةٌ. وَأَنَّ الَّذِينَ حَدَّثُوا عَنْهُ كَانَ تَارَةً يَذْكُرُهَا وَتَارَةً يَتْرُكُهَا. وَقَدْ رُوِيَ مَا يُفَسِّرُهُ: فَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ وَكِيعٌ بِالْعَشْرِ الْأَصَابِعِ مَرَّتَيْنِ وَخَنَّسَ وَاحِدَةً الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ} . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ الْمُتَلَقَّاةُ بِالْقَبُولِ دَلَّتْ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا أَنَّ قَوْلَهُ: {إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ} هُوَ خَبَرٌ

ص: 164

تَضَمَّنَ نَهْيًا. فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي اتَّبَعَتْهُ هِيَ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ أُمِّيَّةٌ لَا تَكْتُبُ وَلَا تَحْسُبُ. فَمَنْ كَتَبَ أَوْ حَسَبَ أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ. بَلْ يَكُونُ قَدْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ فَيَكُونُ قَدْ فَعَلَ مَا لَيْسَ مِنْ دِينِهَا وَالْخُرُوجُ عَنْهَا مُحَرَّمٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَيَكُونُ الْكِتَابُ وَالْحِسَابُ الْمَذْكُورَانِ مُحَرَّمَيْنِ مَنْهِيًّا عَنْهُمَا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ} أَيْ هَذِهِ صِفَةُ الْمُسْلِمِ فَمَنْ خَرَجَ عَنْهَا خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَمَنْ خَرَجَ عَنْ بَعْضِهَا خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {: الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} . فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قِيلَ إنَّ لَفْظَهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ الطَّلَبُ؟ . كَقَوْلِهِ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ وَلَا يَحْسُبَ. نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَكُونُ خَبَرًا قَدْ خَالَفَ مَخْبَرَهُ. فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَتَبَ أَوْ حَسَبَ. قِيلَ: هَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ لَيْسَ هُوَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ. فَإِنَّ ظَاهِرَهُ خَبَرٌ وَالصَّرْفُ عَنْ الظَّاهِرِ إنَّمَا يَكُونُ لِدَلِيلِ يحوج إلَى ذَلِكَ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ.

ص: 165

وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ} لَيْسَ هُوَ طَلَبًا فَإِنَّهُمْ أُمِّيُّونَ قَبْلَ الشَّرِيعَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} وَقَالَ: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ صِفَةً ثَابِتَةً لَهُمْ قَبْلَ الْمَبْعَثِ لَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِابْتِدَائِهَا. نَعَمْ قَدْ يُؤْمَرُونَ بِالْبَقَاءِ عَلَى بَعْضِ أَحْكَامِهَا فَإِنَّا سَنُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا أَنْ يَبْقَوْا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مُطْلَقًا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إخْبَارًا مَحْضًا أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ؛ إذْ لَهُمْ طَرِيقٌ آخَرُ غَيْرُهُ وَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ بَلْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ فَإِنَّ الْأُمِّيَّةَ صِفَةُ نَقْصٍ لَيْسَتْ صِفَةَ كَمَالٍ فَصَاحِبُهَا بِأَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمْدُوحًا. قِيلَ: لَا يَجُوزُ هَذَا لِأَنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي بَعَثَهُ اللَّهُ إلَيْهَا فِيهِمْ مَنْ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ كَثِيرًا كَمَا كَانَ فِي أَصْحَابِهِ وَفِيهِمْ مَنْ يَحْسُبُ وَقَدْ بُعِثَ صلى الله عليه وسلم بِالْفَرَائِضِ الَّتِي فِيهَا مِنْ الْحِسَابِ مَا فِيهَا وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَامِلُهُ عَلَى الصَّدَقَةِ ابْنُ اللتبية حَاسَبَهُ. وَكَانَ لَهُ كُتَّابٌ عِدَّةٌ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَمُعَاوِيَةَ - يَكْتُبُونَ الْوَحْيَ وَيَكْتُبُونَ الْعُهُودَ وَيَكْتُبُونَ كُتُبَهُ إلَى النَّاسِ إلَى مَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ

ص: 166

إلَيْهِ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ وَرُءُوسِ الطَّوَائِفِ: وَإِلَى عُمَّالِهِ وَوُلَاتِهِ وَسُعَاتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُعْلَمَ الْحِسَابُ. وَإِنَّمَا " الْأُمِّيُّ " هُوَ فِي الْأَصْلِ مَنْسُوبٌ إلَى الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ جِنْسُ الْأُمِّيِّينَ وَهُوَ مَنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْ الْجِنْسِ بِالْعِلْمِ الْمُخْتَصِّ: مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ كِتَابَة كَمَا يُقَالُ: عَامِّيٌّ لِمَنْ كَانَ مِنْ الْعَامَّةِ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ عَنْهُمْ بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنْ عُلُومٍ: وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى الْأُمِّ: أَيْ هُوَ الْبَاقِي عَلَى مَا عَوَّدَتْهُ أُمُّهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ التَّمَيُّزُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْأُمِّيَّةِ الْعَامَّةِ إلَى الِاخْتِصَاصِ: تَارَةً يَكُونُ فَضْلًا وَكَمَالًا فِي نَفْسِهِ. كَالْمُتَمَيِّزِ عَنْهُمْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ. وَتَارَةً يَكُونُ بِمَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ: كَالتَّمَيُّزِ عَنْهُمْ بِالْكِتَابَةِ وَقِرَاءَةِ الْمَكْتُوبِ فَيُمْدَحُ فِي حَقِّ مَنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الْكَمَالِ وَيُذَمُّ فِي حَقِّ مَنْ عَطَّلَهُ أَوْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الشَّرِّ. وَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ كَانَ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ. وَكَانَ تَرْكُهُ فِي حَقِّهِ مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ. فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ التَّمَيُّزَ عَنْ الْأُمِّيِّينَ نَوْعَانِ " فَالْأُمَّةُ الَّتِي بُعِثَ فِيهَا

ص: 167

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْلَاهُمْ الْعَرَبُ وَبِوَاسِطَتِهِمْ حَصَلَتْ الدَّعْوَةُ لِسَائِرِ الْأُمَمِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا بُعِثَ بِلِسَانِهِمْ فَكَانُوا أُمِّيِّينَ عَامَّةً لَيْسَتْ فِيهِمْ مَزِيَّةُ عِلْمٍ وَلَا كِتَابٍ وَلَا غَيْرِهِ مَعَ كَوْنِ فِطَرِهِمْ كَانَتْ مُسْتَعِدَّةً لِلْعِلْمِ أَكْمَلَ مِنْ اسْتِعْدَادِ سَائِر الْأُمَمِ. بِمَنْزِلَةِ أَرْضِ الْحَرْثِ الْقَابِلَةِ لِلزَّرْعِ؛ لَكِنْ لَيْسَ لَهَا مَنْ يَقُومُ عَلَيْهَا فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ يَقْرَءُونَهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا عُلُومٌ قِيَاسِيَّةٌ مُسْتَنْبِطَةٌ كَمَا لِلصَّابِئَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَكَانَ الْخَطُّ فِيهِمْ قَلِيلًا جِدًّا وَكَانَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ مَا يُنَالُ بِالْفِطْرَةِ الَّتِي لَا يَخْرُجُ بِهَا الْإِنْسَانُ عَنْ الْأُمُوَّةِ الْعَامَّةِ. كَالْعِلْمِ بِالصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَعْظِيمِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَعِلْمِ الْأَنْوَاءِ. وَالْأَنْسَابِ وَالشِّعْرِ. فَاسْتَحَقُّوا اسْمَ الْأُمِّيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. كَمَا قَالَ فِيهِمْ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} فَجَعَلَ الْأُمِّيِّينَ مُقَابِلِينَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ. فَالْكِتَابِيُّ غَيْرُ الْأُمِّيِّ. فَلَمَّا بُعِثَ فِيهِمْ وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَتَدَبُّرِهِ وَعَقْلِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ - وَقَدْ جَعَلَهُ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَعَلَّمَهُمْ نَبِيُّهُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ - صَارُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ. بَلْ صَارُوا أَعْلَمَ الْخَلْقِ

ص: 168

وَأَفْضَلَهُمْ فِي الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَزَالَتْ عَنْهُمْ الْأُمِّيَّةُ الْمَذْمُومَةُ النَّاقِصَةُ وَهِيَ عَدَمُ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ إلَى أَنْ عَلِمُوا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَأُورِثُوا الْكِتَابَ. كَمَا قَالَ فِيهِمْ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فَكَانُوا أُمِّيِّينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَلَمَّا عَلَّمَهُمْ الْكِتَابُ وَالْحِكْمَةَ قَالَ فِيهِمْ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} {أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} وَاسْتُجِيبَ فِيهِمْ دَعْوَةُ الْخَلِيلِ حَيْثُ قَالَ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَقَالَ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} . فَصَارَتْ هَذِهِ الْأُمِّيَّةُ: مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ. وَمِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ نَقْصٌ وَتَرْكُ الْأَفْضَلِ. فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْفَاتِحَةَ أَوْ لَمْ يَقْرَأْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ أُمِّيًّا. وَيُقَابِلُونَهُ بِالْقَارِئِ

ص: 169

فَيَقُولُونَ: لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ الْأُمِّيُّ بِالْأُمِّيِّ. وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ وَغَرَضُهُمْ بِالْأُمِّيِّ هُنَا الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقِرَاءَةَ الْوَاجِبَةَ سَوَاءٌ كَانَ يَكْتُبُ أَوْ لَا يَكْتُبُ يَحْسُبُ أَوْ لَا يَحْسُبُ. فَهَذِهِ الْأُمِّيَّةُ مِنْهَا مَا هُوَ تَرْكُ وَاجِبٍ يُعَاقَبُ الرَّجُلُ عَلَيْهِ. إذَا قَدَرَ عَلَى التَّعَلُّمِ فَتَرَكَهُ. وَمِنْهَا مَا هُوَ مَذْمُومٌ كَاَلَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ عز وجل عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ} فَهَذِهِ صِفَةُ مَنْ لَا يَفْقَهُ كَلَامَ اللَّهِ وَيَعْمَلُ بِهِ وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ عَلَى مُجَرَّدِ تِلَاوَتِهِ. كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. نَزَلَ الْقُرْآنُ لِيُعْمَلَ بِهِ فَاِتَّخِذُوا تِلَاوَتَهُ عَمَلًا. فَالْأُمِّيُّ هُنَا قَدْ يَقْرَأُ حُرُوفَ الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرَهَا وَلَا يَفْقَهُ. بَلْ يَتَكَلَّمُ فِي الْعِلْمِ بِظَاهِرِ مِنْ الْقَوْلِ ظَنًّا. فَهَذَا أَيْضًا أُمِّيٌّ مَذْمُومٌ كَمَا ذَمَّهُ اللَّهُ؛ لِنَقْصِ عِلْمِهِ الْوَاجِبِ سَوَاءٌ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ أَمْ كِفَايَةٍ. وَمِنْهَا مَا هُوَ الْأَفْضَلُ الْأَكْمَلُ كَاَلَّذِي لَا يَقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا بَعْضَهُ وَلَا يَفْهَمُ مِنْهُ إلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَا يَفْهَمُ مِنْ الشَّرِيعَةِ إلَّا مِقْدَارَ الْوَاجِبِ

ص: 170

عَلَيْهِ فَهَذَا أَيْضًا يُقَالُ لَا أُمِّيٌّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ أُوتِيَ الْقُرْآنَ عِلْمًا وَعَمَلًا أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَكْمَلُ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ الْمُمَيِّزَةُ لِلشَّخْصِ عَنْ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ فَضَائِلُ وَكَمَالٌ: فَقَدَهَا أَمَّا فَقْدُ وَاجِبٍ عَيْنًا أَوْ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ أَوْ مُسْتَحَبٌّ. وَهَذِهِ يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا وَأَنْبِيَاؤُهُ مُطْلَقًا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ جَمَعَ الْعِلْمَ وَالْكَلَامَ النَّافِعَ طَلَبًا وَخَبَرًا وَإِرَادَة. وَكَذَلِكَ أَنْبِيَاؤُهُ وَنَبِيُّنَا سَيِّدُ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ. وَأَمَّا الْأُمُورُ الْمُمَيِّزَةُ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ وَأَسْبَابٌ إلَى الْفَضَائِلِ مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا بِغَيْرِهَا فَهَذِهِ مِثْلُ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ الْخَطُّ وَالْحِسَابُ فَهَذَا إذَا فَقَدَهَا مَعَ أَنَّ فَضِيلَتَهُ فِي نَفْسِهِ لَا تَتِمُّ بِدُونِهَا وَفَقْدُهَا نَقْصٌ إذَا حَصَّلَهَا وَاسْتَعَانَ بِهَا عَلَى كَمَالِهِ وَفَضْلِهِ كَاَلَّذِي يَتَعَلَّمُ الْخَطَّ فَيَقْرَأُ بِهِ الْقُرْآنَ؛ وَكُتُبَ الْعِلْمِ النَّافِعَةَ أَوْ يَكْتُبُ لِلنَّاسِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ: كَانَ هَذَا فَضْلًا فِي حَقِّهِ وَكَمَالًا. وَإِنْ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى تَحْصِيلِ مَا يَضُرُّهُ أَوْ يَضُرُّ النَّاسَ كَاَلَّذِي يَقْرَأُ بِهَا كُتُبَ الضَّلَالَةِ وَيَكْتُبُ بِهَا مَا يَضُرُّ النَّاسَ كَاَلَّذِي يُزَوِّرُ خُطُوطَ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالشُّهُودِ: كَانَ هَذَا ضَرَرًا فِي حَقِّهِ وَسَيِّئَةً وَمَنْقَصَةً وَلِهَذَا نَهَى عُمَرَ أَنْ تُعَلَّمَ النِّسَاءُ الْخَطَّ.

ص: 171

وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ يَنَالُ كَمَالَ الْعُلُومِ مِنْ غَيْرِهَا. وَيَنَالُ كَمَالَ التَّعْلِيمِ بِدُونِهَا: كَانَ هَذَا أَفْضَلَ لَهُ وَأَكْمَلَ. وَهَذِهِ حَالُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} فَإِنَّ أُمِّيَّتَهُ لَمْ تَكُنْ مِنْ جِهَةِ فَقْدِ الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ فَإِنَّهُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا. وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ مَكْتُوبًا. كَمَا قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} . وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ كَتَبَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بِخَطِّهِ مُعْجِزَةً لَهُ؟ أَمْ لَمْ يَكْتُبْ؟ وَكَانَ انْتِفَاءُ الْكِتَابَةِ عَنْهُ مَعَ حُصُولِ أَكْمَلِ مَقَاصِدِهَا بِالْمَنْعِ مِنْ طَرِيقِهَا مِنْ أَعْظَمِ فَضَائِلِهِ وَأَكْبَرِ مُعْجِزَاتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ الْعِلْمَ بِلَا وَاسِطَةِ كِتَابٍ مُعْجِزَةً لَهُ وَلَمَّا كَانَ قَدْ دَخَلَ فِي الْكُتُبِ مِنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَعَلَّمَ هُوَ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إلَى أَنْ يَكْتُبَ بِيَدِهِ وَأَمَّا سَائِر أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ فَالْغَالِبُ عَلَى كِبَارِهِمْ الْكِتَابَةُ لِاحْتِيَاجِهِمْ إلَيْهَا إذْ لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَنْ الْوَحْي مَا أُوتِيَهُ صَارَتْ أُمِّيَّتُهُ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ كَمَالًا فِي حَقِّهِ مِنْ جِهَةِ الْغِنَى بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا وَأَكْمَلُ وَنَقْصًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ فَقْدِهِ الْفَضَائِلَ الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْكِتَابَةِ.

ص: 172

إذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَكِتَابُ أَيَّامِ الشَّهْرِ وَحِسَابِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَإِنَّ مَنْ كَتَبَ مَسِيرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِحُرُوفِ " أَبِجَدِّ " وَنَحْوِهَا وَحَسَبَ كَمْ مَضَى مِنْ مَسِيرِهَا وَمَتَى يَلْتَقِيَانِ لَيْلَةَ الِاسْتِسْرَارِ وَمَتَى يَتَقَابَلَانِ لَيْلَةَ الْإِبْدَارِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ مِنْ الْفَائِدَةِ إلَّا ضَبْطُ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهَا فِي تَحْدِيدِ الْحَوَادِثِ وَالْأَعْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُنَا مِنْ الْأُمَمِ فَضَبَطُوا مَوَاقِيتَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالْحِسَابِ كَمَا يَفْعَلُونَهُ بِالْجَدَاوِلِ أَوْ بِحُرُوفِ الْجُمَلِ وَكَمَا يَحْسُبُونَ مَسِيرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ: وَيَعْدِلُونَ ذَلِكَ وَيُقَوِّمُونَهُ بِالسَّيْرِ الْأَوْسَطِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ وَقْتُ الِاسْتِسْرَارِ وَالْإِبْدَارِ وَغَيْرُ ذَلِكَ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّا أَيَّتُهَا الْأُمَّةَ الْأُمِّيَّةَ لَا نَكْتُبُ هَذَا الْكِتَابَ وَلَا نَحْسُبُ هَذَا الْحِسَابَ فَعَادَ كَلَامُهُ إلَى نَفْيِ الْحِسَابِ وَالْكِتَابِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَيَّامِ الشَّهْرِ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى اسْتِسْرَارِ الْهِلَالِ وَطُلُوعِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ النَّفْيَ وَإِنْ كَانَ عَلَى إطْلَاقِهِ يَكُونُ عَامًّا فَإِذَا كَانَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ مَا يُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ عُلِمَ بِهِ الْمَقْصُودُ أَخَاصٌّ هُوَ أَمْ عَامٌّ؟ فَلَمَّا قَرَنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ} وَ {الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ} بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّا لَا نَحْتَاجُ فِي أَمْرِ الْهِلَالِ إلَى كِتَابٍ وَلَا

ص: 173

حِسَابٍ إذْ هُوَ تَارَةً كَذَلِكَ وَتَارَةً كَذَلِكَ. وَالْفَارِقُ بَيْنَهُمَا هُوَ الرُّؤْيَةُ فَقَطْ لَيْسَ بَيْنَهَا فَرْقٌ آخَرُ مِنْ كِتَابٍ وَلَا حِسَابٍ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. فَإِنَّ أَرْبَابَ الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَضْبُطُوا الرُّؤْيَةَ بِضَبْطِ مُسْتَمِرٍّ وَإِنَّمَا يُقَرِّبُوا ذَلِكَ فَيُصِيبُونَ تَارَةً وَيُخْطِئُونَ أُخْرَى. وَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأُمِّيَّةَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا صِفَةُ مَدْحٍ وَكَمَالٍ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْ جِهَةِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ بِمَا هُوَ أَبْيَنُ مِنْهُ وَأَظْهَرُ وَهُوَ الْهِلَالُ. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ هُنَا يَدْخُلُهُمَا غَلَطٌ. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِمَا تَعَبًا كَثِيرًا بِلَا فَائِدَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ شُغْلٌ عَنْ الْمَصَالِحِ إذْ هَذَا مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ لَا لِنَفْسِهِ وَإِذَا كَانَ نَفْيُ الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ عَنْهُمْ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ وَلِلْمَفْسَدَةِ الَّتِي فِيهِ كَانَ الْكِتَابُ وَالْحِسَابُ فِي ذَلِكَ نَقْصًا وَعَيْبًا بَلْ سَيِّئَةً وَذَنْبًا فَمَنْ دَخَلَ فِيهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ فِيمَا هُوَ مِنْ الْكَمَالِ وَالْفَضْلِ السَّالِمِ عَنْ الْمَفْسَدَةِ وَدَخَلَ فِي أَمْرٍ نَاقِصٍ يُؤَدِّيهِ إلَى الْفَسَادِ وَالِاضْطِرَابِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ جَعَلَ هَذَا وَصْفًا لِلْأُمَّةِ. كَمَا جَعَلَهَا وَسَطًا فِي قَوْله تَعَالَى {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} فَالْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.

ص: 174

وَأَيْضًا فَالشَّيْءُ إذَا كَانَ صِفَةً لِلْأُمَّةِ لِأَنَّهُ أَصْلَحُ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ غَيْرَهُ فِيهِ مَفْسَدَةٌ: كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ لِوَجْهَيْنِ: لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ وَلِأَنَّ صِفَةَ الْكَمَالِ الَّتِي لِلْأُمَّةِ يَجِبُ حِفْظُهَا عَلَيْهَا. فَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ تَحْصِيلُ الْمُسْتَحَبَّاتِ فَإِنَّ كُلَّ مَا شُرِعَ لِلْأُمَّةِ جَمِيعًا صَارَ مِنْ دِينِهَا وَحِفْظُ مَجْمُوعِ الدِّينِ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ فَرْضَ عَيْنٍ أَوْ فَرْضَ كِفَايَةٍ. وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ حِفْظُ جَمِيعِ الْكِتَابِ وَجَمِيعِ السُّنَنِ الْمُتَعَلِّقَةِ بالمستحبات وَالرَّغَائِبِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلَى آحَادِهَا. وَلِهَذَا أَوْجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ تَحْصِيلِ الْمُسْتَحَبَّاتِ الْعَامَّةِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْأَفْرَادِ. وَتَحْصِيلُهُ لِنَفْسِهِ: مِثْلُ الَّذِي يَؤُمُّ النَّاسَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ دَائِمًا مَا يَجُوزُ لِلْمُنْفَرِدِ فِعْلُهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُطَوِّلُ الصَّلَاةَ تَطْوِيلًا يَضُرُّ مَنْ خَلْفَهُ وَلَا يُنْقِصَهَا عَنْ سُنَنِهَا الرَّاتِبَةِ: مِثْلِ قِرَاءَةِ السُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَإِكْمَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الصَّحَابَةَ بِعَزْلِ إمَامٍ كَانَ يُصَلِّي لِبُصَاقِهِ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: {يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ؛ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً} - الْحَدِيثَ وَقَالَ: {إذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ لَمْ يَزَالُوا فِي سَفَالٍ} . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إنَّ الْإِمَامَ الْمُقِيمَ بِالنَّاسِ حَجَّهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ

ص: 175

بِكَمَالِ الْحَجِّ مِنْ تَأْخِيرِ النَّفْرِ إلَى الثَّالِثِ مِنْ مِنًى وَلَا يَتَعَجَّلُ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ الَّتِي لَوْ تَرَكَهَا الْوَاحِدُ لَمْ يَأْثَمْ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ تَرْكُهَا لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ عُمُومِ الْحَجِيجِ مِنْ تَحْصِيلِ كَمَالِ الْحَجِّ وَتَمَامِهِ وَلِهَذَا {لَمَّا اجْتَمَعَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِيدَانِ فَشَهِدَ الْعِيدَ ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمْعَةِ قَالَ: إنَّا مُجَمِّعُونَ} فَقَالَ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرُهُ: إنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ الْجُمُعَةَ لِيَحْصُلَ الْكَمَالُ لِمَنْ شَهِدَهُمَا وَإِنْ جَازَ لِلْآحَادِ الِانْصِرَافُ. وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يَحْفَظَ لِلْأُمَّةِ - فِي أَمْرِهَا الْعَامِّ فِي الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَعْمَالِ - كَمَالَ دَيْنِهَا الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} فَمَا أَفْضَى إلَى نَقْصِ كَمَالِ دِينِهَا وَلَوْ بِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ يُفْضِي إلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا كَانَ تَحْصِيلُهُ وَاجِبًا عَلَى الْكِفَايَةِ إمَّا عَلَى الْأَئِمَّةِ وَإِمَّا عَلَى غَيْرِهِمْ. فَالْكَمَالُ وَالْفَضْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ دُونَ الْحِسَابِ يَزُولُ بِمُرَاعَاةِ الْحِسَابِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ.

الْوَجْهُ الثَّانِي مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ مَا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ} كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَنَهَى عَنْ الصَّوْمِ قَبْلَ رُؤْيَتِهِ وَعَنْ الْفِطْرِ قَبْلَ

ص: 176

رُؤْيَتِهِ. وَلَا يَخْلُو النَّهْيُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الصَّوْمِ فَرْضًا وَنَفْلًا وَنَذْرًا وَقَضَاءً. أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَلَا تَصُومُوا رَمَضَانَ حَتَّى تَرَوْهُ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَقَدْ نَهَى أَنْ يُصَامُ رَمَضَانُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ وَالرُّؤْيَةُ الْإِحْسَاسُ وَالْإِبْصَارُ بِهِ. فَمَتَى لَمْ يَرَهُ الْمُسْلِمُونَ. كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ أَنَّهُ يُرَى وَإِذَا رُئِيَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَخْبَرَ مُخْبَرٌ أَنَّهُ لَا يُرَى وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ} لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَصُومُهُ أَحَدٌ حَتَّى يَرَاهُ بِنَفْسِهِ بَلْ لَا يَصُومُهُ أَحَدٌ حَتَّى يَرَاهُ أَوْ يَرَاهُ غَيْرُهُ. وَفِي الْجُمْلَةِ فَهُوَ مِنْ بَابِ عُمُومِ النَّفْيِ لَا نَفْيِ الْعُمُومِ: أَيْ لَا يَصُومُهُ أَحَدٌ حَتَّى يَرَى أَوْ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ رُئِيَ أَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَدْ رُئِيَ؛ وَلِهَذَا لَمَّا اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ مِنْ رَمَضَانَ فَصَامَهُ بَعْضُهُمْ مُطْلَقًا فِي الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ احْتِيَاطًا وَبَعْضُهُمْ كَرِهَ صَوْمَهُ مُطْلَقًا فِي الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ كَرَاهَةَ الزِّيَادَةِ فِي الشَّهْرِ. وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ لِظُهُورِ الْعَدَمِ فِي الصَّحْوِ دُونَ الْغَيْمِ. كَانَ الَّذِي صَامُوهُ احْتِيَاطًا إنَّمَا صَامُوهُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَآهُ غَيْرُهُمْ. فَيَنْقُصُونَهُ فِيمَا بَعْدُ. وَأَمَّا لَوْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ يَسْتَجِيزُ أَنْ يَصُومَهُ لِكَوْنِ الْحِسَابِ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَطْلُعُ وَلَمْ يُرَ مَعَ ذَلِكَ كَمَا

ص: 177

أَنَّ الْجُمْهُورَ الَّذِينَ كَرِهُوا صَوْمَهُ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى هَذَا الْجَوَابِ إذْ الْحُكْمُ مَمْدُودٌ إلَى وُقُوعِ الرُّؤْيَةِ لَا إلَى جَوَازِهَا. وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ هَلْ يَجُوزُ أَوْ يُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ أَوْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَامَ بِغَيْرِ نِيَّةِ رَمَضَانَ. إذَا لَمْ يُوَافِقْ عَادَةً؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ. هَذَا يُجَوِّزُهُ أَوْ يَسْتَحِبُّهُ حَمْلًا لِلنَّهْيِ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ. وَيَكْرَهُهُ وَيَحْظُرُهُ لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ التَّقَدُّمِ وَلِخَوْفِ الزِّيَادَة. وَلِمَعَانٍ أُخَرَ. ثُمَّ إذَا صَامَهُ بِغَيْرِ نِيَّةِ رَمَضَانَ أَوْ بِنِيَّتِهِ الْمَكْرُوهَةِ فَهَلْ يُجْزِئُهُ إذَا تَبَيَّنَ أَوْ لَا يُجْزِئُهُ. بَلْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْأُمَّةِ. وَإِذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ رُئِيَ إلَّا مِنْ النَّهَارِ فَهَلْ يُجْزِئُهُ إنْشَاءُ النِّيَّةِ مِنْ النَّهَارِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْأُمَّةِ: وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ رُئِيَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: فَهَلْ يَجِبُ الْقَضَاءُ أَوْ لَا يَجِبُ مُطْلَقًا؟ أَمْ إذَا كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ؟ أَمْ إذَا كَانَتْ الرُّؤْيَةُ فِي الْإِقْلِيمِ؟ أَمْ إذَا كَانَ الْعَمَلُ وَاحِدًا؟ وَهَلْ تَثْبُتُ الرُّؤْيَةُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ؟ أَمْ الِاثْنَيْنِ مُطْلَقًا؟ أَمْ لَا بُدَّ فِي الصَّحْوِ مَنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ؟ هَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِيَوْمِ الثَّلَاثِينَ وَتَفَرَّعَ بِسَبَبِهَا مَسَائِلُ أُخَرُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَذَا

ص: 178

الْأَمْرِ وَلِمَا فَهِمُوهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَرَأَوْهُ مِنْ أُصُولِ شَرِيعَتِهِ وَلِمَا بَلَغَهُمْ عَنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَهِيَ مَنْ جِنْسِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ مَنْ خَرَجَ فِي ذَلِكَ إلَى الْأَخْذِ بِالْحِسَابِ أَوْ الْكِتَابِ كَالْجَدَاوِلِ وَحِسَابِ التَّقْوِيمِ وَالتَّعْدِيلِ الْمَأْخُوذِ مَنْ سَيْرِهِمَا. وَغَيْرِ ذَلِكَ الَّذِي صَرَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَفْيِهِ عَنْ أُمَّتِهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ. وَلِهَذَا مَا زَالَ الْعُلَمَاءُ يَعُدُّونَ مَنْ خَرَجَ إلَى ذَلِكَ قَدْ أَدْخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَيُقَابِلُونَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ بِالْإِنْكَارِ الَّذِي يُقَابَلُ بِهِ أَهْلُ الْبِدَعِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا فِيهِ مَا يُشْبِهُ بِدَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالصَّابِئَةِ أَنْوَاعٌ: قَوْمٌ مُنْتَسِبَةٌ إلَى الشِّيعَةِ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَغَيْرِهِمْ. يَقُولُونَ بِالْعَدَدِ دُونَ الرُّؤْيَةِ. وَمَبْدَأُ خُرُوجِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ مِنْ الْكُوفَةِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَمِدُ عَلَى جَدْوَلٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ جَعْفَرًا الصَّادِقَ دَفَعَهُ إلَيْهِمْ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ إلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مِنْ الشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ عَلَى جَعْفَرٍ اخْتَلَقَهُ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا. وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمَرْضِيِّ عَنْ جَعْفَرٍ وَعَامَّةِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْبَيْتِ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ عُقَلَاءَ الشِّيعَةِ.

ص: 179

وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَمِدُ عَلَى أَنَّ رَابِعَ رَجَبٍ أَوَّلُ رَمَضَانَ أَوْ عَلَى أَنَّ خَامِسَ رَمَضَانَ الْمَاضِيَ أَوَّلُ رَمَضَانَ الْحَاضِرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا لَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْإِسْلَامِ وَلَا رَوَاهُ عَالِمٌ قَطُّ أَنَّهُ قَالَ: {يَوْمُ صَوْمِكُمْ يَوْمُ نَحْرِكُمْ} . وَغَالِبُ هَؤُلَاءِ يُوجِبُونَ أَنْ يَكُونَ رَمَضَانُ تَامًّا وَيَمْنَعُونَ أَنْ يَكُونَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَمِدُ عَلَى رُؤْيَتِهِ بِالْمُشْرِقِ قَبْلَ الِاسْتِسْرَارِ فَيُوجِبُونَ اسْتِسْرَارَهُ لَيْلَتَيْنِ وَيَقُولُونَ: أَوَّلُ يَوْمٍ يُرَى فِي أَوَّلِهِ فَهُوَ مِنْ الشَّهْرِ الْمَاضِي. وَالْيَوْمُ يَكُونُ الْيَوْمَ الَّذِي لَا يُرَى فِي طَرَفَيْهِ. ثُمَّ الْيَوْمُ الَّذِي يُرَى فِي آخِرِهِ هُوَ أَوَّلُ الشَّهْرِ الثَّانِي وَيَجْعَلُونَ مَبْدَأَ الشَّهْرِ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْهِلَالَ يُسْتَسَرُّ لِلَيْلَةِ تَارَةً وَلَيْلَتَيْنِ أُخْرَى وَقَدْ يُسْتَسَرُّ ثَلَاثَ لَيَالٍ. فَأَمَّا الَّذِينَ يَعْتَمِدُونَ عَلَى حِسَابِ الشُّهُورِ وَتَعْدِيلِهَا فَيَعْتَبِرُونَهُ بِرَمَضَانَ الْمَاضِي. أَوْ بِرَجَبِ أَوْ يَضَعُونَ جَدْوَلًا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فَهُمْ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ} إنَّمَا عُمْدَتُهُمْ

ص: 180

تَعْدِيلُ سَيْرِ النَّيِّرَيْنِ وَالتَّعْدِيلُ أَنْ يَأْخُذَ أَعْلَى سَيْرِهِمَا وَأَدْنَاهُ فَيَأْخُذَ الْوَسَطَ مِنْهُ وَيَجْمَعُهُ. وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى شُهُورِ الْعَامِ أَنْ الْأَوَّلَ ثَلَاثُونَ وَالثَّانِيَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ كَانَ جَمِيعُ أَنْوَاعِ هَذَا الْحِسَابِ وَالْكِتَابِ مَبْنِيَّةً عَلَى أَنَّ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ ثَلَاثُونَ وَالثَّانِيَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ. وَالسَّنَةَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ. وَيَحْتَاجُونَ أَنْ يَكْتُبُوا فِي كُلِّ عِدَّةٍ مِنْ السِّنِينَ زِيَادَةَ يَوْمٍ تَصِيرُ فِيهِ السَّنَةُ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا يَزِيدُونَهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مَثَلًا فَهَذَا أَصْلُ عِدَّتِهِمْ. وَهَذَا الْقَدْرُ مُوَافِقٌ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الشُّهُورِ هَكَذَا وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فَقَدْ يَتَوَالَى شَهْرَانِ وَثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُ ثَلَاثِينَ وَقَدْ يَتَوَالَى شَهْرَانِ وَثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ فَيَنْتَقِضُ كِتَابُهُمْ وَحِسَابُهُمْ وَيَفْسُدُ دِينُهُمْ الَّذِي لَيْسَ بِقِيَمِ وَهَذَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِئَلَّا يُعْمَلَ بِالْكِتَابِ وَالْحِسَابِ فِي الْأَهِلَّةِ. فَهَذِهِ طَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعَةِ الْمَارِقِينَ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ ذَلِكَ الشَّهْرَ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ الشُّهُورِ إمَّا فِي جَمِيعِ السِّنِينَ أَوْ بَعْضِهَا وَيَكْتُبُونَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْفَرِيقُ الثَّانِي: فَقَوْمٌ مِنْ فُقَهَاءَ الْبَصْرِيِّينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ قَوْلَهُ:

ص: 181

{فَاقْدُرُوا لَهُ} تَقْدِيرُ حِسَابٍ بِمَنَازِلِ الْقَمَرِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين قَالَ: خَرَجْت فِي الْيَوْمِ الَّذِي شُكَّ فِيهِ فَلَمْ أَدْخُلْ عَلَى أَحَدٍ يُؤْخَذُ عَنْهُ الْعِلْمُ إلَّا وَجَدْته يَأْكُلُ إلَّا رَجُلًا كَانَ يَحْسُبُ وَيَأْخُذُ بِالْحِسَابِ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ كَانَ خَيْرًا لَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الرَّجُلَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشخير وَهُوَ رَجُلٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ إلَّا أَنَّ هَذَا إنْ صَحَّ عَنْهُ فَهِيَ مِنْ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ حُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَيْضًا. وَحَكَاهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَنْ كَانَ مَذْهَبُهُ الِاسْتِدْلَالَ بِالنُّجُومِ وَمَنَازِلِ الْقَمَرِ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ مِنْ جِهَةِ النُّجُومِ أَنَّ الْهِلَالَ اللَّيْلَةَ وَغُمَّ عَلَيْهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَقِدَ الصِّيَامَ وَيُبَيِّتَهُ وَيُجْزِئُهُ وَهَذَا بَاطِلٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْهُ. بَلْ الْمَحْفُوظُ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ كَمَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ. وَإِنَّمَا كَانَ قَدْ حَكَى ابْنُ سُرَيْجٍ وَهُوَ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ نِسْبَةَ ذَلِكَ إلَيْهِ إذْ كَانَ هُوَ الْقَائِمَ بِنَصْرِ مَذْهَبِهِ. وَاحْتِجَاجُ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ مَعَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ هُوَ الرَّاوِي عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ} فَكَيْفَ يَكُونُ مُوجَبُ حَدِيثِهِ الْعَمَلَ بِالْحِسَابِ. وَهَؤُلَاءِ يَحْسَبُونَ مَسِيرَهُ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ وَلَيَالِيُهُ. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ طَرِيقَةٌ مُنْضَبِطَةٌ أَصْلًا بَلْ أَيَّةُ طَرِيقَةٍ سَلَكُوهَا فَإِنَّ الْخَطَأَ وَاقِعٌ فِيهَا أَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ لِمَطْلَعِ الْهِلَالِ حِسَابًا مُسْتَقِيمًا بَلْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إلَى رُؤْيَتِهِ

ص: 182

طَرِيقٌ مُطَّرِدٌ إلَّا الرُّؤْيَةُ وَقَدْ سَلَكُوا طُرُقًا كَمَا سَلَكَ الْأَوَّلُونَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَضْبُطُوا سَيْرَهُ إلَّا بِالتَّعْدِيلِ الَّذِي يَتَّفِقُ الْحِسَابُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ. وَإِنَّمَا هُوَ تَقْرِيبٌ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: إنْ رُئِيَ صَبِيحَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ فَهُوَ تَامٌّ وَإِنْ لَمْ يُرَ صَبِيحَةَ ثَمَانٍ فَهُوَ نَاقِصٌ. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِسْرَارَ لِلَيْلَتَيْنِ وَلَيْسَ بِصَحِيحِ بَلْ قَدْ يُسْتَسَرُّ لَيْلَةً تَارَةً وَثَلَاثَ لَيَالٍ أُخْرَى. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ إنَّمَا هُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ لَا يَمْكُثُ فِي الْمَنْزِلَةِ إلَّا سِتَّةَ أَسْبَاعِ سَاعَةً لَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ. فَيَغِيبُ لَيْلَةَ السَّابِعِ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَطْلُعُ لَيْلَةَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَيْلَةَ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ يَطْلُعُ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ وَلَيْلَةَ الثَّامِنَ وَالْعِشْرِينَ إنْ اُسْتُسِرَّ فِيهَا نَقَصَ وَإِلَّا كَمُلَ وَهَذَا غَالِبُ سَيْرِهِ وَإِلَّا فَقَدْ يُسْرِعُ وَيُبْطِئُ.

وَأَمَّا الْعَقْلُ: فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْحِسَابِ كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ الرُّؤْيَةِ بِحِسَابٍ بِحَيْثُ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ يُرَى لَا مَحَالَةَ أَوْ لَا يُرَى أَلْبَتَّةَ عَلَى وَجْهٍ مُطَّرِدٍ وَإِنَّمَا قَدْ يَتَّفِقُ ذَلِكَ أَوْ لَا يُمْكِنُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَنُونَ بِهَذَا الْفَنِّ مِنْ الْأُمَمِ: الرُّومِ وَالْهِنْدِ وَالْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِثْلُ بَطْلَيْمُوسَ الَّذِي هُوَ مُقَدَّمُ هَؤُلَاءِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ لَمْ يَنْسُبُوا إلَيْهِ فِي الرُّؤْيَةِ حَرْفًا وَاحِدًا وَلَا حَدُّوهُ كَمَا حَدُّوا اجْتِمَاعَ الْقُرْصَيْنِ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهِ قَوْمٌ مِنْهُمْ فِي أَبْنَاءِ الْإِسْلَامِ: مِثْلُ

ص: 183

كوشيار الديلمي وَعَلَيْهِ وَعَلَى مِثْلُهُ يَعْتَمِدُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الرُّؤْيَةِ مِنْهُمْ. وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حُذَّاقُهُمْ مِثْلُ أَبِي عَلِيٍّ المروذي الْقَطَّانِ وَغَيْرِهِ وَقَالُوا إنَّهُ تَشَوَّقَ بِذَلِكَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَإِلَّا فَهَذَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ. وَلَعَلَّ مَنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ كَانَ مَرْمُوقًا بِنِفَاقٍ، فَمَا النِّفَاقُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِبَعِيدِ أَوْ يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ الْجُهَّالِ مِمَّنْ يُحْسِنُ ظَنَّهُ بِالْحِسَابِ مَعَ انْتِسَابِهِ إلَى الْإِسْلَامِ. وَبَيَانُ امْتِنَاعِ ضَبْطِ ذَلِكَ: أَنَّ الْحِسَابَ إنَّمَا يُقَدِّرُهُ عَلَى ضَبْطِ شَبَحِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَجَرْيِهِمَا أَنَّهُمَا يَتَحَاذَيَانِ فِي السَّاعَةِ الْفُلَانِيَّةِ فِي الْبُرْجِ الْفُلَانِيِّ فِي السَّمَاءِ الْمُحَاذِي لِلْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ مِنْ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ الِاجْتِمَاعُ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَهَذَا الِاجْتِمَاعُ يَكُونُ بَعْدَ الِاسْتِسْرَارِ وَقَبْلَ الِاسْتِهْلَالِ فَإِنَّ الْقَمَرَ يَجْرِي فِي مَنَازِلِهِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ كَمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ ثُمَّ يَقْرُبُ مِنْ الشَّمْسِ فَيَسْتَسِرُّ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ؛ لِمُحَاذَاتِهِ لَهَا فَإِذَا خَرَجَ مِنْ تَحْتِهَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ النُّورَ ثُمَّ يَزْدَادُ النُّورُ كُلَّمَا بَعُدَ عَنْهَا إلَى أَنْ يُقَابِلَهَا لَيْلَةَ الْإِبْدَارِ ثُمَّ يَنْقُصُ كُلَّمَا قَرُبَ مِنْهَا إلَى أَنْ يُجَامِعَهَا وَلِهَذَا يَقُولُونَ الِاجْتِمَاعُ وَالِاسْتِقْبَالُ وَلَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَقُولُوا: الْهِلَالُ وَقْتَ الْمُفَارَقَةِ عَلَى كَذَا. يَقُولُونَ: الِاجْتِمَاعُ وَقْتَ الِاسْتِسْرَارِ وَالِاسْتِقْبَالُ وَقْتَ الْإِبْدَارِ.

ص: 184

وَمِنْ مَعْرِفَةِ الْحِسَابِ الِاسْتِسْرَارُ وَالْإِبْدَارُ الَّذِي هُوَ الِاجْتِمَاعُ وَالِاسْتِقْبَالُ فَالنَّاسُ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ الظَّاهِرِ مِنْ الِاسْتِسْرَارِ الْهِلَالِيِّ فِي آخِرِ الشَّهْرِ وَظُهُورِهِ فِي أَوَّلِهِ وَكَمَالِ نُورِهِ فِي وَسَطِهِ والحساب يُعَبِّرُونَ بِالْأَمْرِ الْخَفِيِّ مِنْ اجْتِمَاعِ الْقُرْصَيْنِ الَّذِي هُوَ وَقْتُ الِاسْتِسْرَارِ وَمِنْ اسْتِقْبَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ الَّذِي هُوَ وَقْتُ الْإِبْدَارِ فَإِنَّ هَذَا يُضْبَطُ بِالْحِسَابِ. وَأَمَّا الْإِهْلَالُ فَلَا لَهُ عِنْدَهُمْ مِنْ جِهَةِ الْحِسَابِ ضَبْطٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُضْبَطُ بِحِسَابٍ يُعْرَفُ كَمَا يُعْرَفُ وَقْتُ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ فَإِنَّ الشَّمْسَ لَا تَكْسِفُ فِي سُنَّةِ اللَّهِ الَّتِي جَعَلَ لَهَا إلَّا عِنْدَ الِاسْتِسْرَارِ إذَا وَقَعَ الْقَمَرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَبْصَارِ النَّاسِ عَلَى مُحَاذَاةٍ مَضْبُوطَةٍ وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ لَا يَخْسِفُ إلَّا فِي لَيَالِي الْإِبْدَارِ عَلَى مُحَاذَاةٍ مَضْبُوطَةٍ لِتَحَوُّلِ الْأَرْضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ فَمَعْرِفَةُ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ لِمَنْ صَحَّ حِسَابُهُ مِثْلُ مَعْرِفَةِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ لَيْلَةَ الْحَادِيَ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ الشَّهْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَطْلُعَ الْهِلَالُ وَإِنَّمَا يَقَعُ الشَّكُّ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ. فَنَقُولُ الْحَاسِبُ غَايَةُ مَا يُمْكِنُهُ إذَا صَحَّ حِسَابُهُ أَنْ يَعْرِفَ مَثَلًا أَنَّ الْقُرْصَيْنِ اجْتَمَعَا فِي السَّاعَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَأَنَّهُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَكُونُ قَدْ فَارَقَهَا الْقَمَرُ إمَّا بِعَشْرِ دَرَجَاتٍ مَثَلًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ. وَالدَّرَجَةُ هِيَ جُزْءٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا مِنْ الْفَلَكِ.

ص: 185

فَإِنَّهُمْ قَسَّمُوهُ اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا سَمَّوْهَا " الدَّاخِلَ ": كُلُّ بُرْجٍ اثْنَا عَشَرَ دَرَجَةً وَهَذَا غَايَةُ مَعْرِفَتِهِ وَهِيَ بِتَحْدِيدِكُمْ بَيْنَهُمَا مِنْ الْبُعْدِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ. هَذَا الَّذِي يَضْبُطُهُ بِالْحِسَابِ. أَمَّا كَوْنُهُ يُرَى أَوْ لَا يُرَى فَهَذَا أَمْرٌ حِسِّيٌّ طَبِيعِيٌّ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا حِسَابِيًّا رِيَاضِيًّا. وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يَقُولَ: اسْتَقْرَأْنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى كَذَا وَكَذَا دَرَجَةً يُرَى قَطْعًا أَوْ لَا يُرَى قَطْعًا. فَهَذَا جَهْلٌ وَغَلَطٌ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجْرِي عَلَى قَانُونٍ وَاحِدٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. بَلْ إذَا كَانَ بُعْدُهُ مَثَلًا عِشْرِينَ دَرَجَةً فَهَذَا يُرَى مَا لَمْ يَحُلْ حَائِلٌ وَإِذَا كَانَ عَلَى دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَذَا لَا يُرَى وَأَمَّا مَا حَوْلَ الْعَشْرَةِ فَالْأَمْرُ فِيهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِ الرُّؤْيَةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَخْتَلِفُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تَخْتَلِفُ لِحِدَّةِ الْبَصَرِ وكلاله فَمَعَ دِقَّتِهِ يَرَاهُ الْبَصَرُ الْحَدِيدُ دُونَ الْكَلِيلِ وَمَعَ تَوَسُّطِهِ يَرَاهُ غَالِبُ النَّاسِ وَلَيْسَتْ أَبْصَارُ النَّاسِ مَحْصُورَةً بَيْنَ حَاصِرَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ يَرَاهُ غَالِبُ النَّاسِ وَلَا يَرَاهُ غَالِبُهُمْ: لِأَنَّهُ لَوْ رَآهُ اثْنَانِ عَلَّقَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ بِهِمَا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ لَمْ يَرَوْهُ فَإِذَا قَالَ لَا يُرَى بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُخْطِئًا فِي حُكْمِ الشَّرْعِ وَإِنْ قَالَ يُرَى بِمَعْنَى أَنَّهُ يَرَاهُ الْبَصَرُ الْحَدِيدُ. فَقَدْ لَا يَتَّفِقُ فِيمَنْ يَتَرَاءَى لَهُ مَنْ يَكُونُ بَصَرُهُ حَدِيدًا

ص: 186

فَلَا يَلْتَفِتُ إلَى إمْكَانِ رُؤْيَةِ مَنْ لَيْسَ بِحَاضِرِ. السَّبَبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَ بِكَثْرَةِ الْمُتَرَائِينَ وَقِلَّتِهِمْ فَإِنَّهُمْ إذَا كَثُرُوا كَانَ أَقْرَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ يَرَاهُ لِحِدَّةِ بَصَرِهِ وَخِبْرَتِهِ بِمَوْضِعِ طُلُوعِهِ وَالتَّحْدِيقِ نَحْوَ مَطْلَعِهِ وَإِذَا قَلُّوا: فَقَدْ لَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ فَإِذَا ظَنَّ أَنَّهُ يُرَى قَدْ يَكُونُونَ قَلِيلًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَرَوْهُ وَإِذَا قَالَ: لَا يُرَى فَقَدْ يَكُونُ الْمُتَرَاءُونَ كَثِيرًا فِيهِمْ مَنْ فِيهِ قُوَّةٌ عَلَى إدْرَاكِ مَا لَمْ يُدْرِكْهُ غَيْرُهُ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَكَانِ التَّرَائِي فَإِنَّ مَنْ كَانَ أَعْلَى مَكَانًا فِي مَنَارَةٍ أَوْ سَطْحٍ عَالٍ أَوْ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَكُونُ عَلَى الْقَاعِ الصَّفْصَفِ أَوْ فِي بَطْنِ وَادٍ. كَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ أَمَامَ أَحَدِ الْمُتَرَائِينَ بِنَاءٌ أَوْ جَبَلٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ يُمْكِنُ مَعَهُ أَنْ يَرَاهُ غَالِبًا وَإِنْ مَنْعَهُ أَحْيَانًا وَقَدْ يَكُونُ لَا شَيْءَ أَمَامَهُ. فَإِذَا قِيلَ: يُرَى مُطْلَقًا لَمْ يَرَهُ الْمُنْخَفِضُ وَنَحْوُهُ وَإِذَا قِيلَ لَا يُرَى فَقَدْ يَرَاهُ الْمُرْتَفِعُ وَنَحْوُهُ وَالرُّؤْيَةُ تَخْتَلِفُ بِهَذَا اخْتِلَافًا ظَاهِرًا. السَّبَبُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ وَقْتِ التَّرَائِي وَذَلِكَ أَنَّ عَادَةَ الحساب أَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ بِبُعْدِهِ وَقْتَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَفِي تِلْكَ

ص: 187

السَّاعَةِ يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ الشَّمْسِ فَيَكُونُ نُورُهُ قَلِيلًا وَتَكُونُ حُمْرَةُ شُعَاعِ الشَّمْسِ مَانِعًا لَهُ بَعْضَ الْمَنْعِ فَكُلَّمَا انْخَفَضَ إلَى الْأُفُقِ بَعُدَ عَنْ الشَّمْسِ فَيَقْوَى شَرْطُ الرُّؤْيَةِ وَيَبْقَى مَانِعُهَا فَيَكْثُرُ نُورُهُ وَيَبْعُدُ عَنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ فَإِذَا ظَنَّ أَنَّهُ لَا يُرَى وَقْتَ الْغُرُوبِ أَوْ عَقِبَهُ فَإِنَّهُ يُرَى بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ عِنْدَ هُوِيِّهِ فِي الْمَغْرِبِ وَإِنْ قَالَ: إنَّهُ يُضْبَطُ حَالُهُ مِنْ حِينِ وُجُوبِ الشَّمْسِ إلَى حِينِ وُجُوبِهِ فَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَضْبُطَ عَدَدَ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُرْتَفِعًا بِقَدْرِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْبُعْدِ أَمَّا مِقْدَارُ مَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الضَّوْءِ وَمَا يَزُولُ مِنْ الشُّعَاعِ الْمَانِعِ لَهُ فَإِنَّ بِذَلِكَ تَحْصُلُ الرُّؤْيَةُ بِضَبْطِهِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ - يَصِحُّ مَعَ الرُّؤْيَةِ دَائِمًا أَوْ يَمْتَنِعُ دَائِمًا - فَهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَبَدًا وَلَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مُنْضَبِطًا خُصُوصًا إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ (1).

السَّبَبُ الْخَامِسُ: صَفَاءُ الْجَوِّ وَكَدَرُهُ. لَسْت أَعْنِي إذَا كَانَ هُنَاكَ حَائِلٌ يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ كَالْغَيْمِ وَالْقَتَرِ الْهَائِجِ مِنْ الْأَدْخِنَةِ وَالْأَبْخِرَةِ وَإِنَّمَا إذَا كَانَ الْجَوُّ بِحَيْثُ يُمْكِنُ فِيهِ رُؤْيَتُهُ أَمْكَنَ مِنْ بَعْضٍ إذَا كَانَ الْجَوُّ صَافِيًا مِنْ كُلِّ كَدَرٍ فِي مِثْلِ مَا يَكُونُ فِي الشِّتَاءِ عَقِبَ الْأَمْطَارِ فِي الْبَرِّيَّةِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ بُخَارٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي الْجَوِّ بُخَارٌ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ

(1)

بياض بالأصل

ص: 188

فِيهِ رُؤْيَتُهُ كَنَحْوِ مَا يَحْصُلُ فِي الصَّيْفِ بِسَبَبِ الْأَبْخِرَةِ وَالْأَدْخِنَةِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَمَا يُمْكِنُ فِي مِثْلِ صَفَاءِ الْجَوِّ. وَأَمَّا صِحَّةُ مُقَابَلَتِهِ وَمَعْرِفَةِ مَطْلَعِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَهَذَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُمْكِنُ الْمُتَرَائِي أَنْ يَتَعَلَّمَهَا. أَوْ يَتَحَرَّاهُ. فَقَدْ يُقَالُ: هُوَ شَرْطُ الرُّؤْيَةِ كَالتَّحْدِيقِ نَحْوَ الْمَغْرِبِ خَلْفَ الشَّمْسِ فَلَمْ نَذْكُرْهُ فِي أَسْبَابِ اخْتِلَافِ الرُّؤْيَةِ. وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مَا لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْمُتَرَائِينَ الْإِحَاطَةُ مِنْ صِفَةِ الْأَبْصَارِ وَأَعْدَادِهَا وَمَكَانِ التَّرَائِيِ وَزَمَانِهِ وَصَفَاءِ الْجَوِّ وَكَدَرِهِ. فَإِذَا كَانَتْ الرُّؤْيَةُ حُكْمًا تَشْتَرِكُ فِيهِ هَذِهِ الْأَسْبَابُ الَّتِي لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا دَاخِلًا فِي حِسَابِ الْحَاسِبِ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ مَعَ ذَلِكَ يُخْبِرُ خَبَرًا عَامًّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ حَيْثُ رَآهُ عَلَى سَبْعٍ أَوْ ثَمَانِ دَرَجَاتٍ أَوْ تِسْعٍ أَمْ كَيْفَ يُمْكِنُهُ يُخْبِرُ خَبَرًا جَزْمًا أَنَّهُ يُرَى إذَا كَانَ عَلَى تِسْعَةٍ أَوْ عَشَرَةٍ مَثَلًا. وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِي قَوْسِ الرُّؤْيَةِ: كَمْ ارْتِفَاعُهُ. مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ تِسْعَةٌ وَنِصْفٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ (1) وَيَحْتَاجُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الصَّيْفِ

(1)

بياض بالأصل

ص: 189

وَالشِّتَاءِ: إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ فِي الْبُرُوجِ الشَّمَالِيَّةِ مُرْتَفِعَةً أَوْ فِي الْبُرُوجِ الْجَنُوبِيَّةِ مُنْخَفِضَةً. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْبَيَانِ أَنَّ خَبَرَهُمْ بِالرُّؤْيَةِ مِنْ جِنْسِ خَبَرِهِمْ بِالْأَحْكَامِ وَأَضْعَفَ وَذَلِكَ أَنَّهُ هَبْ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَرَكَاتِ الْعُلْوِيَّةَ سَبَبُ الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ. فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُمْكِنُ الْمُسْلِمُ أَنْ يَجْزِمَ بِنَفْيِهِ إذْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْيَانَهَا وَصِفَاتِهَا وَحَرَكَاتِهَا سَبَبًا لِبَعْضِ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُحِيلُهُ شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ لَكِنْ الْمُسْلِمُونَ قِسْمَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هَذَا لَا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهِ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ فَإِنَّهُ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ. وَآخَرُ يَقُولُ: بَلْ هُوَ ثَابِتٌ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ بَعْضُهُ بِالتَّجْرِبَةِ وَلِأَنَّ الشَّرِيعَةَ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ لَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ} وَالتَّخْوِيفُ إنَّمَا يَكُونُ بِوُجُودِ سَبَبِ الْخَوْفِ فَعُلِمَ أَنَّ كُسُوفَهُمَا قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِأَمْرٍ مَخُوفٍ وَقَوْلُهُ {لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ} رَدٌّ لِمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ النَّاسِ. فَإِنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ يَوْمَ مَوْتِ إبْرَاهِيمَ فَاعْتَقَدَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهَا خَسَفَتْ مِنْ أَجْلِ مَوْتِهِ تَعْظِيمًا لِمَوْتِهِ وَأَنَّ مَوْتَهُ سَبَبُ خُسُوفِهَا فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ

ص: 190

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَنْخَسِفُ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَاتَ أَحَدٌ وَلَا لِأَجْلِ أَنَّهُ حَيِيَ أَحَدٌ. وَهَذَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ فَقَالَ: مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ فَقَالُوا. كُنَّا نَقُولُ: وُلِدَ اللَّيْلَةَ عَظِيمٌ أَوْ مَاتَ عَظِيمٌ فَقَالَ: إنَّهُ لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى بِالْقَضَاءِ سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ} الْحَدِيثَ. فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الشُّهُبَ الَّتِي يُرْجَمُ بِهَا لَا يَكُونُ عَنْ سَبَبِ حَدَثٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا يَكُونُ عَنْ أَمْرٍ حَدَثَ فِي السَّمَاءِ وَأَنَّ الرَّمْيَ بِهَا لِطَرْدِ الشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقَةِ. وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ هُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ. كَمَا قَالَ اللَّهُ: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إلَّا تَخْوِيفًا} فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةَ قَدْ تَكُونُ سَبَبَ عَذَابٍ؛ وَلِهَذَا شَرَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْخَوْفِ مَا يَدْفَعُهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَأَمَرَ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ - الصَّلَاةُ الطَّوِيلَةُ - وَأَمَرَ بِالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ. كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم {إنَّ الْبَلَاءَ وَالدُّعَاءَ

ص: 191

لَيَلْتَقِيَانِ فَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فَالدُّعَاءُ وَنَحْوُهُ يَدْفَعُ الْبَلَاءَ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ. فَإِنْ قُلْت: مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ - وَإِنْ كَانَ مُنْتَسِبًا إلَى عِلْمِ - مَنْ يَجْزِمُ بِأَنَّ الْحَرَكَاتِ الْعُلْوِيَّةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِحُدُوثِ أَمْرٍ أَلْبَتَّةَ وَرُبَّمَا اعْتَقَدَ أَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ وَإِثْبَاتَهُ مِنْ جُمْلَةِ التَّنْجِيمِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ النُّجُومِ فَقَدْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَرُبَّمَا احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِمَا فَهِمَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {لَا يَكْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ} وَاعْتَقَدَ أَنَّ الْعِلَّةَ هُنَا هِيَ الْعِلَّةُ الغائية: أَيْ لَا يَكْسِفَانِ لِيَحْدُثَ عَنْ ذَلِكَ مَوْتٌ أَوْ حَيَاةٌ؟ قُلْت: قَوْلُ هَذَا جَهْلٌ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَنْفِيَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ. وَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْقَوْلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ هُوَ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وَقَالَ: {إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَقَالَ: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَلِكَ

ص: 192

وَلَا فِي الْعَقْلِ وَمَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ مَا يُعْلَمُ بِهِ نَفْيُ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا نَفْيُ ذَلِكَ جَزْمًا بِغَيْرِ مِثْلُ نَفْيِ بَعْضِ الْجُهَّالِ أَنْ تَكُونَ الْأَفْلَاكُ مُسْتَدِيرَةً: فَمِنْهُمْ مَنْ يَنْفِي ذَلِكَ جَزْمًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْفِي الْجَزْمَ بِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَكِلَاهُمَا جَهْلٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَهُ نَفْيُ ذَلِكَ أَوْ نَفْيُ الْعَامِّ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَلَا دَلِيلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا مَا قَدْ يَفْهَمُهُ بِفَهْمِهِ النَّاقِصِ. هَذَا وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} وَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي فَلْكَةٍ مِثْلِ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ وَهَكَذَا هُوَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْفَلَكُ الشَّيْءُ الْمُسْتَدِيرُ. وَمِنْهُ يُقَالُ: تَفَلَّكَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إذَا اسْتَدَارَ. قَالَ تَعَالَى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} وَالتَّكْوِيرُ هُوَ التَّدْوِيرُ. وَمِنْهُ قِيلَ: كَارَ الْعِمَامَةَ وَكَوَّرَهَا إذَا أَدَارَهَا. وَمِنْهُ قِيلَ: لِلْكُرَةِ كُرَةٌ وَهِيَ الْجِسْمُ الْمُسْتَدِيرُ وَلِهَذَا يُقَالُ: لِلْأَفْلَاكِ كُرَوِيَّةُ الشَّكْلِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْكُرَةِ كورة تَحَرَّكَتْ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا وَكَوَّرْت الْكَارَةَ إذَا دَوَّرْتهَا وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: {إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

ص: 193

كَأَنَّهُمَا ثَوْرَانِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} وَقَالَ تَعَالَى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} مِثْلِ حُسْبَانِ الرَّحَا وَقَالَ: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَسْتَدِيرُ مِنْ أَشْكَالِ الْأَجْسَامِ دُونَ الْمُضَلَّعَاتِ مِنْ الْمُثَلَّثِ أَوْ الْمُرَبَّعِ أَوْ غَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ يَتَفَاوَتُ لِأَنَّ زَوَايَاهُ مُخَالِفَةٌ لِقَوَائِمِهِ وَالْجِسْمِ الْمُسْتَدِيرِ مُتَشَابِهُ الْجَوَانِبِ وَالنَّوَاحِي لَيْسَ بَعْضُهُ مُخَالِفًا لِبَعْضِ. {وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ: إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك. فَقَالَ: وَيْحَك إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ. إنَّ شَأْنَهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ هَكَذَا وَقَالَ بِيَدِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ: وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِرَاكِبِهِ} رَوَاهُ. أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهَا أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ} فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْفِرْدَوْسَ هِيَ الْأَعْلَى وَالْأَوْسَطُ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الصُّورَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ فَأَمَّا الْمُرَبَّعُ وَنَحْوُهُ فَلَيْسَ أَوْسَطُهُ أَعْلَاهُ بَلْ هُوَ مُتَسَاوٍ. وَأَمَّا إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ: فَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ - الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ قَاضِي

ص: 194

الْبَصْرَةِ مِنْ التَّابِعِينَ -: السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلُ الْقُبَّةِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْمُنَادِي مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِمَعْرِفَةِ الْآثَارِ وَالتَّصَانِيفِ الْكِبَارِ فِي فُنُونِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ السَّمَاءَ عَلَى مِثَالِ الْكَرَّةِ وَأَنَّهَا تَدُورُ بِجَمِيعِ مَا فِيهَا مِنْ الْكَوَاكِبِ كَدَوْرَةِ الْكُرَةِ عَلَى قُطْبَيْنِ ثَابِتَيْنِ غَيْرِ مُتَحَرِّكَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي نَاحِيَةِ الشَّمَالِ وَالْآخَرُ فِي نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ جَمِيعَهَا تَدُورُ مِنْ الْمَشْرِقِ تَقَعُ قَلِيلًا عَلَى تَرْتِيبٍ وَاحِدٍ فِي حَرَكَاتِهَا وَمَقَادِيرِ أَجْزَائِهَا إلَى أَنْ تَتَوَسَّطَ السَّمَاءَ ثُمَّ تَنْحَدِرُ عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ. كَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي كُرَةٍ تُدِيرُهَا جَمِيعَهَا دَوْرًا وَاحِدًا. قَالَ: وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ حَرَكَاتِهَا مِنْ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِثْلُ الْكُرَةِ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ لَا يُوجَدُ طُلُوعُهَا وَغُرُوبُهَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ فِي نَوَاحِي الْأَرْضِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ عَلَى الْمَشْرِقِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ. قَالَ: فَكُرَةُ الْأَرْضِ مُثَبَّتَةٌ فِي وَسَطِ كَرَّةِ السَّمَاءِ كَالنُّقْطَةِ فِي الدَّائِرَةِ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ جُرْمَ كُلِّ كَوْكَبٍ يُرَى فِي جَمِيعِ نَوَاحِي السَّمَاءَ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى بُعْدِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ جَمِيعِ

ص: 195

الْجِهَاتِ بِقَدْرِ وَاحِدٍ فَاضْطِرَارُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضَ وَسَطَ السَّمَاءِ. وَقَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ النَّبَوِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْعَرْشَ سَقْفُ الْجَنَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ مَعَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ مُتَنَاقِضٌ أَوْ مُقْتَضٍ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَحْتَ بَعْضِ خَلْقِهِ " كَمَا احْتَجَّ بَعْضُ الْجَهْمِيَّة عَلَى إنْكَارِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ بِاسْتِدَارَةِ الْأَفْلَاكِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزَمٌ كَوْنَ الرَّبِّ أَسْفَلَ. وَهَذَا مِنْ غَلَطِهِمْ فِي تَصَوُّرِ الْأَمْرِ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ وَأَنَّ الْمُحِيطَ الَّذِي هُوَ السَّقْفُ هُوَ أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَأَنَّ الْمَرْكَزَ الَّذِي هُوَ بَاطِنُ ذَلِكَ وَجَوْفُهُ وَهُوَ قَعْرُ الْأَرْضِ هُوَ " سِجِّينٌ " " وَأَسْفَلُ سَافِلِينَ " عَلِمَ مِنْ مُقَابَلَةِ اللَّهِ بَيْنَ أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَبَيْنَ سِجِّينٍ مَعَ أَنَّ الْمُقَابَلَةَ: إنَّمَا تَكُونُ فِي الظَّاهِرِ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ أَوْ بَيْنَ السِّعَةِ وَالضِّيقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُلُوَّ مُسْتَلْزَمٌ لِلسِّعَةِ وَالضِّيقِ مُسْتَلْزِمٌ لِلسُّفُولِ وَعَلِمَ أَنَّ السَّمَاءَ فَوْقَ الْأَرْضِ مُطْلَقًا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ تَحْتَهَا قَطُّ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَدِيرَةً مُحِيطَةً وَكَذَلِكَ كُلَّمَا عَلَا كَانَ أَرْفَعَ وَأَشْمَلَ. وَعَلِمَ أَنَّ الْجِهَةَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ ذَاتِيٌّ. وَهُوَ الْعُلُوُّ وَالسُّفُولُ فَقَطْ. وَقِسْمٌ إضَافِيٌّ: وَهُوَ مَا يُنْسَبُ إلَى الْحَيَوَانِ بِحَسَبِ حَرَكَتِهِ: فَمَا أَمَامَهُ

ص: 196

يُقَالُ لَهُ: أَمَامٌ وَمَا خَلْفَهُ يُقَالُ لَهُ خَلْفٌ وَمَا عَنْ يَمِينِهِ يُقَالُ لَهُ الْيَمِينُ وَمَا عَنْ يَسْرَتِهِ يُقَالُ لَهُ الْيَسَارُ وَمَا فَوْقَ رَأْسِهِ يُقَالُ لَهُ فَوْقٌ وَمَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ يُقَالُ لَهُ تَحْتٌ وَذَلِكَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ. أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَلَّقَ رِجْلَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَرَأْسُهُ إلَى الْأَرْضِ أَلَيْسَتْ السَّمَاءُ فَوْقَهُ وَإِنْ قَابَلَهَا بِرِجْلَيْهِ وَكَذَلِكَ النَّمْلَةُ أَوْ غَيْرُهَا لَوْ مَشَى تَحْتَ السَّقْفِ مُقَابِلًا لَهُ بِرِجْلَيْهِ وَظَهْرُهُ إلَى الْأَرْضِ لَكَانَ الْعُلُوُّ مُحَاذِيًا لَرِجْلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ وَأَسْفَلُ سَافِلِينَ يَنْتَهِي إلَى جَوْفِ الْأَرْضِ. وَالْكَوَاكِبُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مُحَاذِيًا لِرُءُوسِنَا وَبَعْضُهَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ الْفَلَكِ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا تَحْتَ شَيْءٍ بَلْ كُلُّهَا فَوْقَنَا فِي السَّمَاءِ وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ إذَا تَصَوَّرَ هَذَا يَسْبِقُ إلَى وَهْمِهِ السُّفْلُ الْإِضَافِيُّ كَمَا احْتَجَّ بِهِ الجهمي الَّذِي أَنْكَرَ عُلُوَّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ وَخَيَّلَ عَلَى مَنْ لَا يَدْرِي أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ فَقَدْ جَعَلَهُ تَحْتَ نِصْفِ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ جَعَلَهُ فَلَكًا آخَرَ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَاهِلُ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَازِمٌ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِاَللَّهِ وَلَا هِيَ لَازِمَةٌ بَلْ هَذَا يُصَدِّقُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِ الْإِدْلَاءِ؛

ص: 197

فَإِنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَيَدُلُّ عَلَى إحَاطَةِ الْعَرْشِ كَوْنُهُ سَقْفَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى قَوْلِهِ هَبَطَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ كَمَا فَعَلَ التِّرْمِذِيُّ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ الْأَمْرُ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَمْ يَعْرِفْ صُورَةَ الْمَخْلُوقَاتِ وَخَشِيَ أَنْ يَتَأَوَّلهُ الجهمي أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ قَالَ: هَكَذَا وَإِلَّا فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُ حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَمَا عُلِمَ بِالْمَعْقُولِ مِنْ الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ يُصَدِّقُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَيَشْهَدُ لَهُ. فَنَقُولُ: إذَا تَبَيَّنَ أَنَّا نَعْرِفُ مَا قَدْ عُرِفَ مِنْ اسْتِدَارَةِ الْأَفْلَاكِ عُلِمَ أَنَّ الْمُنْكِرَ لَهُ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ الْأَدِلَّةِ لَكِنْ الْمُتَوَقِّفُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ الْبَيَانِ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَزَلْ يَسْتَفِيدُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ لَا يَثِقُ بِهَا. فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ} وَأَنَّ كَوْنَ بَعْضِ الْحَرَكَاتِ الْعَالِيَةِ سَبَبٌ لِبَعْضِ الْحَوَادِثِ مِمَّا لَا يُنْكَرُ بَلْ إمَّا أَنْ يُقْبَلَ أَوْ لَا يُرَدَّ. فَالْقَوْلُ بِالْأَحْكَامِ النُّجُومِيَّةُ بَاطِلٌ عَقْلًا مُحَرَّمٌ شَرْعًا وَذَلِكَ أَنَّ حَرَكَةَ الْفَلَكِ وَإِنْ كَانَ لَهَا أَثَرٌ لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً بَلْ تَأْثِيرُ الْأَرْوَاحِ وَغَيْرِهَا

ص: 198

مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَشَدُّ مِنْ تَأْثِيرِهِ وَكَذَلِكَ تَأْثِيرُ الْأَجْسَامِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ وَكَذَلِكَ تَأْثِيرُ قُلُوبِ الْآدَمِيِّينَ بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُؤَثِّرَاتِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَالصَّابِئَةِ الْمُشْتَغِلِينَ بِأَحْكَامِ النُّجُومِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِر الْأُمَمِ فَهُوَ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ جُزْءُ السَّبَبِ وَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ أَوْ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِتَمَامِ السَّبَبِ فَالْعِلْمُ بِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِسُرْعَةِ حَرَكَتِهِ وَإِنْ فُرِضَ الْعِلْمُ بِهِ فَمَحَلُّ تَأْثِيرِهِ لَا يَنْضَبِطُ؛ إذْ لَيْسَ تَأْثِيرُ خُسُوفِ الشَّمْسِ فِي الْإِقْلِيمِ الْفُلَانِيِّ بِأَوْلَى مِنْ الْإِقْلِيمِ الْآخَرِ وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ قَدْ حُصِّلَ بِشُرُوطِهِ وَعُلِمَ بِهِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا يَصْغُرُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ يُعَارِضُ مُقْتَضَى ذَلِكَ السَّبَبِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ عِنْدَ الْخُسُوفِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ يَلْتَقِيَانِ فَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَالْمُنَجِّمُونَ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ كَبِيرُهُمْ " بَطْلَيْمُوسُ " ضَجِيجُ الْأَصْوَاتِ فِي هَيَاكِلِ الْعِبَادَاتِ بِفُنُونِ الدَّعَوَاتِ مِنْ جَمِيعِ اللُّغَاتِ يُحَلِّلُ مَا عَقَدْته الْأَفْلَاكُ الدَّائِرَاتُ فَصَارَ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ إنْ حَدَثَ سَبَبُ خَيْرٍ كَانَ ذَلِكَ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ يُقَوِّيهِ وَيُؤَيِّدُهُ وَإِنْ حَدَثَ سَبَبٌ شَرٍّ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ يَدْفَعُهُ وَكَذَلِكَ اسْتِخَارَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ إذَا هَمَّ بِأَمْرِ كَمَا

ص: 199

أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: {إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ} الْحَدِيثَ فَهَذِهِ الِاسْتِخَارَةُ لِلَّهِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ خَالِقِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ الطَّالِعَ فِيمَا يُرِيدُ فِعْلَهُ. فَإِنَّ الِاخْتِيَارَ غَايَتُهُ تَحْصِيلُ سَبَبٍ وَاحِدٍ مِنْ أَسْبَابِ النُّجْحِ إنْ صَحَّ. وَالِاسْتِخَارَةُ أَخْذٌ لِلنُّجْحِ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْخِيَرَةَ فَإِمَّا أَنْ يَشْرَحَ صَدْرَ الْإِنْسَانِ وَيُيَسِّرَ الْأَسْبَابَ أَوْ يُعَسِّرَهَا وَيَصْرِفَهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ} الْحَدِيثَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَالْعَرَّافُ يَعُمُّ الْمُنَجِّمَ وَغَيْرَهُ إمَّا لَفْظًا وَإِمَّا مَعْنًى. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم {مَنْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ النُّجُومِ فَقَدْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَاد مَا زَادَ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه فَقَدْ تَبَيَّنَ تَحْرِيمُ الْأَخْذِ بِأَحْكَامِ النُّجُومِ عِلْمًا أَوْ عَمَلًا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مُتَعَذِّرٌ فِي الْغَالِبِ. لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحَوَادِثِ وَشُرُوطَهَا وَمَوَانِعَهَا لَا تُضْبَطُ بِضَبْطِ حَرَكَةِ بَعْضِ الْأُمُورِ وَإِنَّمَا يَتَّفِقُ الْإِصَابَةُ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ بَقِيَّةُ الْأَسْبَابِ مَوْجُودَةً. وَالْمَوَانِعُ مُرْتَفِعَةً. لَا أَنَّ ذَلِكَ عَنْ دَلِيلٍ مُطَّرِدٍ لَازِمًا أَوْ غَالِبًا. وَحُذَّاقُ الْمُنَجِّمِينَ يُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَيَعْرِفُونَ أَنَّ طَالِعَ الْبِلَادِ لَا

ص: 200

يَسْتَقِيمُ الْحُكْمُ بِهِ غَالِبًا لِمُعَارَضَةِ؛ طَالِعٍ لِوَقْتِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوَانِعِ وَيَقُولُونَ: إنَّ الْأَحْكَامَ مَبْنَاهَا عَلَى الْحَدْسِ وَالْوَهْمِ. فَنُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ قَوْلَهُمْ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَفِي الْأَحْكَامِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ يُعْلَمُ بِأَدِلَّةِ الْعُقُولِ امْتِنَاعُ ضَبْطِ ذَلِكَ وَيُعْلَمُ بِأَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ تَحْرِيمُ ذَلِكَ وَالِاسْتِغْنَاءُ عَمَّا نَظُنُّ مِنْ مَنْفَعَتِهِ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ عُلُومٍ صَادِقَةٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مَنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَبَيْنَ ظُنُونٍ كَاذِبَةٍ لَا ثِقَةَ بِهَا وَأَنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ. وَلَقَدْ صَدَقَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْحَاسِبَ إذَا قَتَلَ نَفْسَهُ فِي حِسَابِ الدَّقَائِقِ وَالثَّوَانِي كَانَ غَايَتُهُ مَا لَا يُفِيدُ. وَإِنَّمَا تَعِبُوا عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْأَحْكَامِ. وَهِيَ ظُنُونٌ كَاذِبَةٌ. أَمَّا الْكَلَامُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَإِنْ كَانَ عِلْمًا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ ظَنًّا مِثْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ الرَّاجِحِ فَهُوَ عَمَلٌ بِعِلْمِ. وَهُوَ ظَنٌّ يُثَابُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ. آخَرُ مَا وُجِدَ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.

ص: 201

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

عَنْ أَهْلِ مَدِينَةٍ رَأَى بَعْضُهُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ حَاكِمِ الْمَدِينَةِ: فَهَلْ لَهُمْ أَنْ يَصُومُوا الْيَوْمَ الَّذِي فِي الظَّاهِرِ التَّاسِعُ. وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ الْعَاشِرَ؟

فَأَجَابَ:

نَعَمْ، يَصُومُونَ التَّاسِعَ فِي الظَّاهِرِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَكُونُ عَاشِرًا وَلَوْ قُدِّرَ ثُبُوتُ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ. فَإِنَّ فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:{صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ} أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ. وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ وَالْأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ. فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ وَقَفُوا بِعَرَفَةَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ خَطَأً أَجْزَأَهُمْ الْوُقُوفُ

ص: 202

بِالِاتِّفَاقِ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي حَقِّهِمْ. وَلَوْ وَقَفُوا الثَّامِنَ خَطَأً فَفِي الْإِجْزَاءِ نِزَاعٌ. وَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ الْوُقُوفِ أَيْضًا وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٌ وَمَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. قَالَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها " إنَّمَا عَرَفَةُ الْيَوْمُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ " وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْهِلَالِ وَالشَّهْرِ فَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} وَالْهِلَالُ اسْمٌ لِمَا يُسْتَهَلُّ بِهِ: أَيْ يُعْلَنُ بِهِ وَيُجْهَرُ بِهِ فَإِذَا طَلَعَ فِي السَّمَاءِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ وَيَسْتَهِلُّوا لَمْ يَكُنْ هِلَالًا. وَكَذَا الشَّهْرُ مَأْخُوذٌ مِنْ الشُّهْرَةِ فَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بَيْنَ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ الشَّهْرُ قَدْ دَخَلَ وَإِنَّمَا يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ إذَا طَلَعَ فِي السَّمَاءِ كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ أَوَّلَ الشَّهْرِ سَوَاءٌ ظَهَرَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ وَاسْتَهَلُّوا بِهِ أَوْ لَا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ ظُهُورُهُ لِلنَّاسِ وَاسْتِهْلَالُهُمْ بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْم تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْم تُضَحُّونَ} أَيْ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَعْلَمُونَ أَنَّهُ وَقْتُ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ وَالْأَضْحَى. فَإِذَا لَمْ تَعْلَمُوهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ. وَصَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ: هَلْ هُوَ تَاسِعُ ذِي الْحِجَّةِ. أَوْ عَاشِرُ ذِي الْحِجَّةِ؟ جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛

ص: 203

لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعَاشِرِ. كَمَا أَنَّهُمْ لَوْ شَكُّوا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ؛ هَلْ طَلَعَ الْهِلَالُ؟ أَمْ لَمْ يَطْلُعْ؟ فَإِنَّهُمْ يَصُومُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَإِنَّمَا يَوْمُ الشَّكِّ الَّذِي رُوِيَتْ فِيهِ الْكَرَاهَةُ الشَّكُّ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ شَعْبَانَ. وَإِنَّمَا الَّذِي يَشْتَبِهُ فِي هَذَا الْبَابِ مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا: لَوْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ أَوْ أَخْبَرَهُ بِهِ جَمَاعَةٌ يَعْلَمُ صِدْقَهُمْ: هَلْ يُفْطِرُ؟ أَمْ لَا؟ وَالثَّانِيَةُ: لَوْ رَأَى هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ أَخْبَرَهُ جَمَاعَةٌ يَعْلَمُ صِدْقَهُمْ هَلْ يَكُونُ فِي حَقِّهِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ هُوَ التَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ بِحَسَبِ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ الَّتِي لَمْ تَشْتَهِرْ عِنْدَ النَّاسِ؟ أَوْ هُوَ التَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ الَّذِي اشْتَهَرَ عِنْدَ النَّاسِ؟ . فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَالْمُنْفَرِدُ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ لَا يُفْطِرُ عَلَانِيَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ يُبِيحُ الْفِطْرَ كَمَرَضِ وَسَفَرٍ وَهَلْ يُفْطِرُ سِرًّا عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ أَصَحُّهُمَا لَا يُفْطِرُ سِرًّا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِهِمَا. وَفِيهِمَا قَوْلٌ أَنَّهُ يُفْطِرُ سِرًّا كَالْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ

ص: 204

وَالشَّافِعِيِّ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه رَأَيَا هِلَالَ شَوَّالٍ فَأَفْطَرَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُفْطِرْ الْآخَرُ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ قَالَ: لِلَّذِي أَفْطَرَ لَوْلَا صَاحِبُك لَأَوْجَعْتُك ضَرْبًا. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِطْرَ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ وَاَلَّذِي صَامَهُ الْمُنْفَرِدُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَيْسَ هُوَ يَوْمَ الْعِيدِ الَّذِي نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِهِ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ. وَقَالَ: {أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صَوْمِكُمْ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيَوْمَ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ} . فَاَلَّذِي نَهَى عَنْ صَوْمِهِ هُوَ الْيَوْمَ الَّذِي يُفْطِرُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَنْسُكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ. وَهَذَا يَظْهَرُ بِالْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ بِرُؤْيَةِ ذِي الْحِجَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقِفَ قَبْلَ النَّاسِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ فِي الظَّاهِرِ الثَّامِنُ وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ رُؤْيَتِهِ هُوَ التَّاسِعَ وَهَذَا لِأَنَّ فِي انْفِرَادِ الرَّجُلِ فِي الْوُقُوفِ وَالذَّبْحِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْجَمَاعَةِ مَا فِي إظْهَارِهِ لِلْفِطْرِ. وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ التَّاسِعِ فِي حَقِّ مَنْ رَأَى الْهِلَالَ أَوْ أَخْبَرَهُ ثِقَتَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَا الْهِلَالَ وَهُوَ الْعَاشِرُ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَهُوَ الْعَاشِرُ بِحَسَبِ الرُّؤْيَةِ الْخَفِيَّةِ فَهَذَا يُخَرَّجُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.

ص: 205

فَمَنْ أَمَرَهُ بِالصَّوْمِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ الَّذِي هُوَ بِحَسَبِ الرُّؤْيَةِ الْخَفِيَّةِ مِنْ شَوَّالٍ وَلَمْ يَأْمُرْهُ. بِالْفِطْرِ سِرًّا سَوَّغَ لَهُ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ وَاسْتَحَبَّهُ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ رَمَضَانَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ. وَمَنْ أَمَرَهُ بِالْفِطْرِ سِرًّا لِرُؤْيَتِهِ نَهَاهُ عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ كَهِلَالِ شَوَّالٍ الَّذِي انْفَرَدَ بِرُؤْيَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ قَدْ يَكُونُ الْإِمَامُ الَّذِي فُوِّضَ إلَيْهِ إثْبَاتُ الْهِلَالِ مُقَصِّرًا لِرَدِّهِ شَهَادَةَ الْعُدُولِ إمَّا لِتَقْصِيرِهِ. فِي الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ وَإِمَّا رَدَّ شَهَادَتَهُمْ لِعَدَاوَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَيْسَتْ بِشَرْعِيَّةِ أَوْ لِاعْتِمَادِهِ. عَلَى قَوْلِ الْمُنَجِّمِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُرَى. قِيلَ: مَا يَثْبُتُ مِنْ الْحُكْمِ لَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ بَيْنَ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ مُجْتَهِدًا مُصِيبًا كَانَ أَوْ مُخْطِئًا أَوْ مُفَرِّطًا فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ الْهِلَالُ وَيَشْتَهِرُ بِحَيْثُ يَتَحَرَّى النَّاسُ فِيهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فِي الْأَئِمَّةِ: {يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ} . فَخَطَؤُهُ وَتَفْرِيطُهُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يُفَرِّطُوا وَلَمْ يُخْطِئُوا.

ص: 206

وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى حِسَابِ النُّجُومِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ} . وَالْمُعْتَمِدُ عَلَى الْحِسَابِ فِي الْهِلَالِ كَمَا أَنَّهُ ضَالٌّ فِي الشَّرِيعَةِ مُبْتَدِعٌ فِي الدِّينِ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي الْعَقْلِ وَعِلْمِ الْحِسَابِ. فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ. بِالْهَيْئَةِ يَعْرِفُونَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا تَنْضَبِطُ بِأَمْرٍ حِسَابِيٍّ وَإِنَّمَا غَايَةُ الْحِسَابِ مِنْهُمْ إذَا عَدَلَ أَنْ يَعْرِفَ كَمْ بَيْنَ الْهِلَالِ وَالشَّمْسِ مِنْ دَرَجَةٍ وَقْتَ الْغُرُوبِ مَثَلًا؛ لَكِنَّ الرُّؤْيَةَ لَيْسَتْ مَضْبُوطَةً بِدَرَجَاتٍ مَحْدُودَةٍ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حِدَّةِ النَّظَرِ وكلاله وَارْتِفَاعِ الْمَكَانِ الَّذِي يَتَرَاءَى فِيهِ الْهِلَالُ وَانْخِفَاضِهِ وَبِاخْتِلَافِ صَفَاءِ. الْجَوِّ وَكَدَرِهِ. وَقَدْ يَرَاهُ بَعْضُ النَّاسِ لِثَمَانِ دَرَجَاتٍ وَآخَرُ لَا يَرَاهُ لِثِنْتَيْ عَشْرَ دَرَجَةً؛ وَلِهَذَا تَنَازَعَ أَهْلُ الْحِسَابِ فِي قَوْسِ الرُّؤْيَةِ تَنَازُعًا مُضْطَرِبًا وَأَئِمَّتُهُمْ: كَبَطْلَيْمُوسَ لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ بِحَرْفِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ حِسَابِيٌّ. وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ مِثْلُ كوشيار الديلمي وَأَمْثَالِهِ. لَمَّا رَأَوْا الشَّرِيعَةَ عَلَّقَتْ الْأَحْكَامَ بِالْهِلَالِ فَرَأَوْا الْحِسَابَ طَرِيقًا تَنْضَبِطُ فِيهِ

ص: 207

الرُّؤْيَةُ وَلَيْسَتْ طَرِيقَةٌ مُسْتَقِيمَةً وَلَا مُعْتَدِلَةً بَلْ خَطَؤُهَا كَثِيرٌ وَقَدْ جُرِّبَ وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ كَثِيرًا: هَلْ يُرَى؟ أَمْ لَا يُرَى؟ وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ ضَبَطُوا بِالْحِسَابِ مَا لَا يُعْلَمُ بِالْحِسَابِ فَأَخْطَئُوا طَرِيقَ الصَّوَابِ وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنْت أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي يُوَافِقُهُ الْعَقْلُ الصَّرِيحُ كَمَا تَكَلَّمْت عَلَى حَدِّ الْيَوْمِ أَيْضًا وَبَيَّنْت أَنَّهُ لَا يَنْضَبِطُ بِالْحِسَابِ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ يَظْهَرُ بِسَبَبِ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ الْعِشَاءِ مِنْ حِصَّةِ الْفَجْرِ إنَّمَا يَصِحُّ كَلَامُهُ لَوْ كَانَ الْمُوجِبُ لِظُهُورِ النُّورِ وَخَفَائِهِ مُجَرَّدُ مُحَاذَاةِ الْأُفُقِ الَّتِي تُعْلَمُ بِالْحِسَابِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ لِلْأَبْخِرَةِ فِي ذَلِكَ تَأْثِيرٌ وَالْبُخَارُ يَكُونُ فِي الشِّتَاءِ وَالْأَرْضِ الرَّطْبَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُ فِي الصَّيْفِ وَالْأَرْضِ الْيَابِسَةِ. وَكَانَ ذَلِكَ لَا يَنْضَبِطُ بِالْحِسَابِ فَسَدَتْ طَرِيقَةُ الْقِيَاسِ الْحِسَابِيِّ. وَلِهَذَا تُوجَدُ حِصَّةُ الْفَجْرِ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ أَطْوَلَ مِنْهَا فِي زَمَانِ الصَّيْفِ. وَالْآخِذُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ الْحِسَابِيِّ يُشْكِلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّ حِصَّةَ الْفَجْرِ عِنْدَهُ تَتْبَعُ النَّهَارَ وَهَذَا أَيْضًا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.

ص: 208

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ وَمَنْ يَصُومُ يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُنْسَبُ إلَى الْجَهْلِ. وَيُقَالُ لَهُ الْفِطْرُ أَفْضَلُ وَمَا هُوَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ: وَهَلْ إذَا أَنْشَأَ السَّفَرَ مِنْ يَوْمِهِ يُفْطِرُ؟ ؟ وَهَلْ يُفْطِرُ السُّفَّارُ مِنْ الْمُكَارِيَةِ وَالتُّجَّارِ وَالْجَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ وَرَاكِبِ الْبَحْرِ؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ سَفَرِ الطَّاعَةِ وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، الْفِطْرُ لِلْمُسَافِرِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ كَانَ سَفَرَ حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْفَارِ الَّتِي لَا يَكْرَهُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَتَنَازَعُوا فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَاَلَّذِي يُسَافِرُ لِيَقْطَعَ الطَّرِيقَ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ كَمَا تَنَازَعُوا فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ. فَأَمَّا السَّفَرُ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ الْفِطْرُ مَعَ الْقَضَاءِ

ص: 209

بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَيَجُوزُ الْفِطْرُ لِلْمُسَافِرِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ سَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا عَلَى الصِّيَامِ أَوْ عَاجِزًا وَسَوَاءٌ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ أَوْ لَمْ يَشُقَّ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ مُسَافِرًا فِي الظِّلِّ وَالْمَاءِ وَمَعَهُ مَنْ يَخْدِمُهُ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ وَالْقَصْرُ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْفِطْرَ لَا يَجُوزُ إلَّا لِمَنْ عَجَزَ عَنْ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى الْمُفْطِرِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ مِنْ ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمُفْطِرَ عَلَيْهِ إثْمٌ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ خِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ وَخِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخِلَافُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ. وَهَكَذَا السُّنَّةُ لِلْمُسَافِرِ أَنَّهُ يُصَلِّي الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ وَالْقَصْرُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ التَّرْبِيعِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: كَمَذْهَبِ مَالِكٌ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ. وَلَمْ تَتَنَازَعْ الْأُمَّةُ فِي جَوَازِ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ؛ بَلْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الصِّيَامِ لِلْمُسَافِرِ فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ الصَّائِمَ فِي

ص: 210

السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ وَإِنَّهُ إذَا صَامَ لَمْ يَجْزِهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " {لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ} لَكِنْ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ وَأَنْ يُفْطِرَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ فَلَا يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ} وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ} وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنِّي رَجُلٌ أُكْثِرُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: إنْ أَفْطَرْت فَحَسَنٌ وَإِنْ صُمْت فَلَا بَأْسَ} . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ "{خِيَارُكُمْ الَّذِينَ فِي السَّفَرِ يَقْصُرُونَ وَيُفْطِرُونَ} . وَأَمَّا مِقْدَارُ السَّفَرِ الَّذِي يُقْصَرُ فِيهِ وَيُفْطَرُ: فَمَذْهَبُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهُ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ قَاصِدَيْنِ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ وَهُوَ سِتَّةُ عَشَرَ فَرْسَخًا كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وعسفان وَمَكَّةَ وَجُدَّةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَسِيرَةُ

ص: 211

ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: بَلْ يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ فِي أَقَلِّ مِنْ يَوْمَيْنِ. وَهَذَا قَوْلٌ قَوِيٌّ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَخَلْفُهُ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ يُصَلُّونِ بِصَلَاتِهِ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ. وَإِذَا سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد. أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ. كَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَنِ أَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ كَانَ يُفْطِرُ إذَا خَرَجَ مِنْ يَوْمِهِ وَيَذْكُرُ أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَوَى الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ إنَّهُ دَعَا بِمَاءِ فَأَفْطَرَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ} . وَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي: فَيُفْطِرُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ وَإِنْ كَانَ مِقْدَارُ سَفَرِهِ يَوْمَيْنِ فِي مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَّةِ. وَأَمَّا إذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ فَفِي وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ لَكِنْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ سَوَاءً أَمْسَكَ أَوْ لَمْ يُمْسِكْ.

ص: 212

وَيُفْطِرُ مَنْ عَادَتُهُ السَّفَرُ إذَا كَانَ لَهُ بَلَدٌ يَأْوِي إلَيْهِ. كَالتَّاجِرِ الْجَلَّابِ الَّذِي يَجْلِبُ الطَّعَامَ وَغَيْرَهُ مِنْ السِّلَعِ وَكَالْمُكَارِي الَّذِي يَكْرِي دَوَابَّهُ مِنْ الْجُلَّابِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَالْبَرِيدِ الَّذِي يُسَافِرُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِهِمْ. وَكَذَلِكَ الْمَلَّاحُ الَّذِي لَهُ مَكَانٌ فِي الْبَرِّ يَسْكُنُهُ. فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ امْرَأَتُهُ وَجَمِيعُ مَصَالِحِهِ وَلَا يَزَالُ مُسَافِرًا فَهَذَا لَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ. وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ: كَأَعْرَابِ الْعَرَبِ وَالْأَكْرَادِ وَالتُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ يُشَتُّونَ فِي مَكَانٍ وَيُصَيِّفُونَ فِي مَكَانٍ إذَا كَانُوا فِي حَالِ ظَعْنِهِمْ مِنْ الْمَشْتَى إلَى الْمَصِيفِ وَمِنْ الْمَصِيفِ إلَى الْمَشْتَى: فَإِنَّهُمْ يَقْصُرُونَ. وَأَمَّا إذَا نَزَلُوا بِمَشْتَاهُمْ وَمَصِيفِهِمْ لَمْ يُفْطِرُوا وَلَمْ يَقْصُرُوا. وَإِنْ كَانُوا يَتَتَبَّعُونَ الْمَرَاعِيَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَمَّنْ يَكُونُ مُسَافِرًا فِي رَمَضَانَ وَلَمْ يُصِبْهُ جُوعٌ وَلَا عَطَشٌ وَلَا تَعَبٌ: فَمَا الْأَفْضَلُ لَهُ الصِّيَامُ؟ أَمْ الْإِفْطَارُ؟

ص: 213

فَأَجَابَ: أَمَّا الْمُسَافِرُ فَيُفْطِرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ وَالْفِطْرُ لَهُ أَفْضَلُ. وَإِنْ صَامَ جَازَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا يُجْزِئُهُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ إمَامِ جَمَاعَةٍ بِمَسْجِدِ مَذْهَبُهُ حَنَفِيٌّ ذَكَرَ لِجَمَاعَتِهِ أَنَّ عِنْدَهُ كِتَابًا فِيهِ أَنَّ الصِّيَامَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إذَا لَمْ يَنْوِ بِالصِّيَامِ قَبْلَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ أَوْ بَعْدَهَا أَوْ وَقْتَ السُّحُورِ وَإِلَّا فَمَالَهُ فِي صِيَامِهِ أَجْرٌ: فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ النِّيَّةُ فَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ فَإِنَّ النِّيَّةَ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ مَا يُرِيدُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَهُ. وَالتَّكَلُّمُ بِالنِّيَّةِ لَيْسَ وَاجِبًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا يَصُومُونَ بِالنِّيَّةِ وَصَوْمُهُمْ صَحِيحٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 214

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا فِي صَائِمِ رَمَضَانَ هَلْ يَفْتَقِرُ كُلَّ يَوْمٍ إلَى نِيَّةٍ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

كُلُّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ صَوْمَهُ فَقَدْ نَوَى صَوْمَهُ سَوَاءٌ تَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ أَوْ لَمْ يَتَلَفَّظْ. وَهَذَا فِعْلُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ كُلُّهُمْ يَنْوِي الصِّيَامَ.

وَسُئِلَ:

عَنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ: هَلْ يَجُوزُ لِلصَّائِمِ أَنْ يُفْطِرَ بِمُجَرَّدِ غُرُوبِهَا؟

فَأَجَابَ:

إذَا غَابَ جَمِيعُ الْقُرْصِ أَفْطَرَ الصَّائِمُ وَلَا عِبْرَةَ بِالْحُمْرَةِ الشَّدِيدَةِ الْبَاقِيَةِ فِي الْأُفُقِ.

ص: 215

وَإِذَا غَابَ جَمِيعُ الْقُرْصِ ظَهَرَ السَّوَادُ مِنْ الْمَشْرِقِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ} .

وَسُئِلَ:

عَمَّا إذَا أَكَلَ بَعْدَ أَذَانِ الصُّبْحِ فِي رَمَضَانَ مَاذَا يَكُونُ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا إذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ كَمَا كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَمَا يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُونَ فِي دِمَشْقَ وَغَيْرِهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنِ يَسِيرٍ. وَإِنْ شَكَّ: هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ؟ أَوْ لَمْ يَطْلُعْ؟ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الطُّلُوعَ وَلَوْ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَكَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ نِزَاعٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ الثَّابِتُ عَنْ عُمَرَ وَقَالَ بِهِ طَائِفَةٌ

ص: 216

مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْقَضَاءُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَصُومَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ وَيُزْبِدُ وَيَخْبِطُ فَيَبْقَى أَيَّامًا لَا يُفِيقُ حَتَّى يُتَّهَمَ أَنَّهُ جُنُونٌ. وَلَمْ يُتَحَقَّقْ ذَلِكَ مِنْهُ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إنْ كَانَ الصَّوْمُ يُوجِبُ لَهُ مِثْلَ هَذَا الْمَرَضِ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيَقْضِي فَإِنْ كَانَ هَذَا يُصِيبُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ صَامَ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الصِّيَامِ فَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ امْرَأَةٍ حَامِلٍ رَأَتْ شَيْئًا شِبْهَ الْحَيْضِ وَالدَّمُ مُوَاظِبُهَا وَذَكَرَ الْقَوَابِلُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُفْطِرُ لِأَجْلِ مَنْفَعَةِ الْجَنِينِ وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَرْأَةِ أَلَمٌ: فَهَلْ

ص: 217

يَجُوزُ لَهَا الْفِطْرُ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

إنْ كَانَتْ الْحَامِلُ تَخَافُ عَلَى جَنِينِهَا فَإِنَّهَا تُفْطِرُ وَتَقْضِي عَنْ كُلِّ يَوْمٍ يَوْمًا وَتُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا رِطْلًا مِنْ خُبْزٍ بِأُدْمِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 218

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم تَسْلِيمًا.

فَصْلٌ:

فِيمَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ وَمَا لَا يُفْطِرُهُ وَهَذَا نَوْعَانِ:

مِنْهُ مَا يُفْطِرُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ قَالَ تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ

ص: 219

وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} فَأَذِنَ فِي الْمُبَاشَرَةِ فَعُقِلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ الصِّيَامُ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَلَمَّا قَالَ أَوَّلًا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} كَانَ مَعْقُولًا عِنْدَهُمْ أَنَّ الصِّيَامَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَلَفْظُ " الصِّيَامِ " كَانُوا يَعْرِفُونَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ويستعملونه كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها " أَنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَانَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ". وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ شَهْرُ رَمَضَانَ أَمَرَ بِصَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَأَرْسَلَ مُنَادِيًا يُنَادِي بِصَوْمِهِ فَعُلِمَ أَنَّ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ. وَكَذَلِكَ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ يُنَافِي الصَّوْمَ فَلَا تَصُومُ الْحَائِضُ لَكِنْ تَقْضِي الصِّيَامَ. وَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ {لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إنْزَالَ الْمَاءِ مِنْ الْأَنْفِ يُفْطِرُ الصَّائِمَ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ.

ص: 220

وَفِي السُّنَنِ حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " {مَنْ ذَرَعَهُ قَيْءٌ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ. وَإِنْ استقاء فَلْيَقْضِ} وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بَلْ قَالُوا: هُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: لَيْسَ مِنْ ذَا شَيْءٌ. قَالَ الخطابي: يُرِيدُ أَنَّ الْحَدِيثَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ إلَّا عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ قَالَ: وَمَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا. قَالَ: وَرَوَى يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ لَا يَرَى‌

‌ الْقَيْءَ

يُفْطِرُ الصَّائِمَ. قَالَ الْخَطَّابِيَّ: وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد أَنَّ حَفْصَ بْنَ غِيَاثٍ رَوَاهُ. عَنْ هِشَامٍ كَمَا رَوَاهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ. قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَإِنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا فِي أَنَّ مَنْ استقاء عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي الْكَفَّارَةِ فَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْقَضَاءِ وَقَالَ عَطَاءٍ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَحُكِيَ عَنْ الأوزاعي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ.

ص: 221

قُلْت وَهُوَ مُقْتَضَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد فِي إيجَابِهِ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمُحْتَجِمِ فَإِنَّهُ إذَا أَوْجَبَهَا عَلَى الْمُحْتَجِمِ فَعَلَى المستقيء أَوْلَى لَكِنْ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَاَلَّذِينَ لَمْ يُثْبِتُوا هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَبْلُغْهُمْ مِنْ وَجْهٍ يَعْتَمِدُونَهُ وَقَدْ أَشَارُوا: إلَى عِلَّتِهِ وَهُوَ انْفِرَادُ عِيسَى بْنِ يُونُسَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ بَلْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَالْحَدِيثُ الْأَخِيرُ يَشْهَدُ لَهُ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمَد وَأَهْلُ السُّنَنِ كَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ " {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَأَفْطَرَ} فَذَكَرْت ذَلِكَ لثوبان فَقَالَ: صَدَقَ أَنَا صَبَبْت لَهُ وَضُوءًا لَكِنَّ لَفْظَ أَحْمَد "{أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَتَوَضَّأَ} . رَوَاهُ. أَحْمَد عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَحْمَدَ: قَدْ اضْطَرَبُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ يُجَوِّدُهُ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ حُسَيْنٍ أَرْجَحُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَهَذَا قَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ الْقَيْءِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ بِالْوُضُوءِ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَالْفِعْلُ الْمُجَرَّدُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ. فَإِذَا قِيلَ إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ كَانَ فِيهِ عَمَلٌ بِالْحَدِيثِ.

ص: 222

وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْ الْوُضُوءِ مِنْ الدَّمِ الْخَارِجِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ بَلْ قَدْ رَوَى الدارقطني وَغَيْرُهُ عَنْ حميد عَنْ أَنَسٍ قَالَ: {احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى غَسْلِ مَحَاجِمِهِ} وَرَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " حُجَّةِ الْمُخَالِفِ " وَلَمْ يُضَعِّفْهُ وَعَادَتُهُ الْجَرْحُ بِمَا يُمْكِنُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى " {ثَلَاثٌ لَا تُفْطِرُ: الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ} وَفِي لَفْظٍ "{لَا يُفْطِرْنَ لَا مَنْ قَاءَ وَلَا مَنْ احْتَلَمَ وَلَا مَنْ احْتَجَمَ} فَهَذَا إسْنَادُهُ الثَّابِتُ مَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. هَكَذَا رَوَاهُ. أَبُو دَاوُد وَهَذَا الرَّجُلُ لَا يُعْرَفُ. وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالرِّجَالِ. (قُلْت رِوَايَتُهُ عَنْ زَيْدٍ مِنْ وَجْهَيْنِ مَرْفُوعًا لَا يُخَالِفُ رِوَايَتَهُ

ص: 223

الْمُرْسَلَةَ بَلْ يُقَوِّيهَا وَالْحَدِيثُ ثَابِتٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ؛ لَكِنْ هَذَا فِيهِ " {إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ} . وَأَمَّا حَدِيثُ الْحِجَامَةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ "{أَنَّهُ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ} أَيْضًا وَلَعَلَّ فِيهِ الْقَيْءَ إنْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلِاسْتِقَاءَةِ هُوَ أَيْضًا مَنْسُوخٌ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْحِجَامَةِ هُوَ الْمُتَأَخِّرُ فَإِنَّهُ إذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ نَاقِلٌ وَبَاقٍ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ فَالنَّاقِلُ هُوَ الرَّاجِحُ فِي أَنَّهُ النَّاسِخُ وَنَسْخُ أَحَدِهِمَا يُقَوِّي نَسْخَ قَرِينِهِ وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مُرْسَلًا وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ لَيْسَ بِشَيْءِ وَلَوْ قُدِّرَ صِحَّتُهُ لَكَانَ الْمُرَادُ مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ. فَإِنَّهُ قَرَنَهُ بِالِاحْتِلَامِ وَمَنْ احْتَلَمَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَالنَّائِمِ لَمْ يُفْطِرْ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. وَأَمَّا مَنْ اسْتَمْنَى فَأَنْزَلَ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَلَفْظُ الِاحْتِلَامِ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَنْ احْتَلَمَ فِي مَنَامِهِ. وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يُفْطِرُ شَيْءٌ مِنْ الْخَارِجِ وَأَنَّ المستقيء إنَّمَا أَفْطَرَ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ رُجُوعِ بَعْضِ الطَّعَامِ وَقَالُوا إنَّ فِطْرَ الْحَائِضِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَقَدْ بَسَطْنَا فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ

ص: 224

شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ عَامِدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ كَانَ فِطْرُهُ مِنْ الْكَبَائِرِ وَكَذَلِكَ مَنْ فَوَّتَ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ عَامِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَانَ تَفْوِيتُهُ لَهَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهَا مَا بَقِيَتْ تُقْبَلُ مِنْهُ عَلَى أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَنْ فَوَّتَ الْجُمْعَةَ وَرَمَى الْجِمَارَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ وَهَذَا قَدْ أَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ؟ قِيلَ هَذَا إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَتَقَيَّأُ لِعُذْرٍ كَالْمَرِيضِ يَتَدَاوَى بِالْقَيْءِ أَوْ يَتَقَيَّأُ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ كَمَا تَقَيَّأَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ كَسْبِ الْمُتَكَهِّنِ. وَإِذَا كَانَ الْمُتَقَيِّئُ مَعْذُورًا كَانَ مَا فَعَلَهُ جَائِزًا وَصَارَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَرْضَى الَّذِينَ يَقْضُونَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ أَفْطَرُوا بِغَيْرِ عُذْرٍ. وَأَمَّا أَمْرُهُ لِلْمُجَامِعِ بِالْقَضَاءِ فَضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ. وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ أَمْرَهُ بِالْقَضَاءِ وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لَمَا أَهْمَلَهُ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَجِبُ بَيَانُهُ وَلَمَّا لَمْ

ص: 225

يَأْمُرْهُ بِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ لَمْ يَبْقَ مَقْبُولًا مِنْهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَعَمِّدًا لِلْفِطْرِ لَمْ يَكُنْ نَاسِيًا وَلَا جَاهِلًا. وَالْمَجَامِعُ النَّاسِي فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَيُذْكَرُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْهُ: أَحَدُهُمَا: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَكْثَرِينَ. وَالثَّانِيَةُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِلَا كَفَّارَةٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٌ. وَالثَّالِثَةُ: عَلَيْهِ الْأَمْرَانِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا مُخْطِئًا أَوْ نَاسِيًا لَمْ يُؤَاخِذْهُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ إثْمٌ وَمَنْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا وَلَا مُرْتَكِبًا لِمَا نُهِيَ عَنْهُ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ قَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يُبْطِلُ عِبَادَتَهُ إنَّمَا يُبْطِلُ الْعِبَادَاتِ إذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ أَوْ فَعَلَ مَا حُظِرَ عَلَيْهِ. وَطَرْدُ هَذَا أَنَّ الْحَجَّ لَا يَبْطُلُ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ لَا نَاسِيًا وَلَا مُخْطِئًا لَا الْجِمَاعُ وَلَا غَيْرُهُ. وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.

ص: 226

وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ وَالْفِدْيَةُ فَتِلْكَ وَجَبَتْ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمُتْلَفِ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمُتْلَفِ بِمِثْلِهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ نَائِمٌ ضَمِنَهُ بِذَلِكَ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ إذَا وَجَبَ عَلَى النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ بِمَنْزِلَةِ دِيَةِ الْمَقْتُولِ خَطَأً وَالْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ بِقَتْلِهِ خَطَأً بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا سَائِرُ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَالتَّرَفُّهُ الْمُنَافِي لِلتَّفَثِ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ. وَلِهَذَا كَانَتْ فِدْيَتُهَا مِنْ جِنْسِ فِدْيَةِ الْمَحْظُورَاتِ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ الْمَضْمُونِ بِالْبَدَلِ. فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ إذَا فَعَلَ مَحْظُورًا أَلَّا يَضْمَنَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الصَّيْدَ. وَلِلنَّاسِ فِيهِ أَقْوَالٌ هَذَا أَحَدُهَا وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَالثَّانِي يَضْمَنُ الْجَمِيعَ مَعَ النِّسْيَانِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ. وَالثَّالِثُ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا فِيهِ إتْلَافٌ كَقَتْلِ الصَّيْدِ وَالْحَلْقِ وَالتَّقْلِيمِ وَمَا لَيْسَ فِيهِ إتْلَافٌ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَاخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَجْوَدُ مِنْ

ص: 227

غَيْرِهِ؛ لَكِنْ إزَالَةُ الشِّعْرِ وَالظُّفْرِ مُلْحَقٌ بِاللِّبَاسِ وَالطِّيبِ لَا بِقَتْلِ الصَّيْدِ هَذَا أَجْوَدُ. وَالرَّابِعُ إنْ قَتَلَ الصَّيْدَ خَطَأً لَا يَضْمَنُهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد فَخَرَّجُوا عَلَيْهِ الشَّعَرَ وَالظُّفُرَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَكَذَلِكَ طَرْدُ هَذَا أَنَّ الصَّائِمَ إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا فَلَا قَضَاءَ. عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفْطِرُ النَّاسِيَ وَالْمُخْطِئَ كَمَالِكٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ لَكِنْ خَالَفَهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النَّاسِي وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يُفْطِرُ النَّاسِي وَيُفْطِرُ الْمُخْطِئُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَأَبُو حَنِيفَةَ جَعَلَ النَّاسِيَ مَوْضِعَ اسْتِحْسَانٍ وَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَقَالُوا النِّسْيَانُ لَا يُفْطِرُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ لَا يُفْطِرَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ غُرُوبَ الشَّمْسِ وَأَنْ يُمْسِكَ إذَا شَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَهَذَا التَّفْرِيقُ ضَعِيفٌ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ. فَإِنَّ السُّنَّةَ لِلصَّائِمِ أَنْ يُعَجِّلَ الْفِطْرَ وَيُؤَخِّرَ السُّحُورَ وَمَعَ الْغَيْمِ الْمُطْبِقِ لَا يُمْكِنُ الْيَقِينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَذْهَبَ وَقْتٌ طَوِيلٌ جِدًّا يَفُوتُ مَعَ الْمَغْرِبِ

ص: 228

وَيَفُوتُ مَعَهُ تَعْجِيلُ الْفُطُورِ وَالْمُصَلِّي مَأْمُورٌ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَتَعْجِيلِهَا فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ غُرُوبُ الشَّمْسِ أُمِرَ بِتَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ إلَى حَدِّ الْيَقِينِ فَرُبَّمَا يُؤَخِّرُهَا حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ وَهُوَ لَا يَسْتَيْقِنُ غُرُوبَ الشَّمْسِ وَقَدْ جَاءَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ فِي الْغَيْمِ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ وَتَعْجِيلَ الْعِشَاءِ وَتَأْخِيرَ الظُّهْرِ وَتَقْدِيمَ الْعَصْرِ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَقَدْ عَلَّلَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِالِاحْتِيَاطِ لِدُخُولِ الْوَقْتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الِاحْتِيَاطِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ وَإِنَّمَا سُنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْعُذْرُ وَحَالُ الْغَيْمِ حَالُ عُذْرٍ فَأُخِّرَتْ الْأُولَى مِنْ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ وَقُدِّمَتْ الثَّانِيَةُ لِمَصْلَحَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا التَّخْفِيفُ عَنْ النَّاسِ حَتَّى يُصَلُّوهَا مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَجْلِ خَوْفِ الْمَطَرِ كَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مَعَ الْمَطَرِ. وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَتَيَقَّنَ دُخُولَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَكَذَلِكَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِلْوَحْلِ الشَّدِيدِ وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٌ وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.

ص: 229

الثَّانِي أَنَّ الْخَطَأَ فِي تَقْدِيمِ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ أَوْلَى مِنْ الْخَطَأِ فِي تَقْدِيمِ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ فَإِنَّ فِعْلَ هَاتَيْنِ قَبْلَ الْوَقْتِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ بِخِلَافِ تينك فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهُمَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتٌ لَهُمَا حَالَ الْعُذْرِ وَحَال الِاشْتِبَاهِ حَالُ عُذْرٍ فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مَعَ الِاشْتِبَاهِ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الشَّكِّ. وَهَذَا فِيهِ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْمَأْخَذِ الْأَوَّلِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ؛ لَكِنَّهُ احْتِيَاطٌ مَعَ تَيَقُّنِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمُشْتَرَكِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا هَذَا الِاسْتِحْبَابَ وَلَا فِي الْعِشَاءِ وَالْعَصْرِ وَلَوْ كَانَ لِعِلْمِ خَوْفِ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ لَطُرِدَ هَذَا فِي الْفَجْرِ ثُمَّ يَطَّرِدُ فِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ. وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالتَّبْكِيرِ بِالْعَصْرِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ فَقَالَ: " {بَكِّرُوا بِالصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ فَإِنَّهُ مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} . فَإِنْ قِيلَ. فَإِذَا كَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخَّرَ الْمَغْرِبُ مَعَ الْغَيْمِ فَكَذَلِكَ يُؤَخَّرُ الْفُطُورُ قِيلَ: إنَّمَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا مَعَ تَقْدِيمِ الْعِشَاءِ بِحَيْثُ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ فَأَمَّا تَأْخِيرُهَا إلَى أَنْ يَخَافَ مَغِيبَ الشَّفَقِ فَلَا يُسْتَحَبُّ وَلَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ الْفُطُورِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ. وَلِهَذَا كَانَ الْجَمْعُ الْمَشْرُوعُ مَعَ الْمَطَرِ هُوَ جَمْعَ التَّقْدِيمِ فِي وَقْتِ

ص: 230

الْمَغْرِبِ وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ بِالنَّاسِ الْمَغْرِب إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ بَلْ هَذَا حَرَجٌ عَظِيمٌ عَلَى النَّاسِ وَإِنَّمَا شُرِعَ الْجَمْعُ لِئَلَّا يُحْرَجَ الْمُسْلِمُونَ. وَأَيْضًا فَلَيْسَ التَّأْخِيرُ وَالتَّقْدِيمُ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْعَلَهُمَا مُقْتَرِنَتَيْنِ؛ بَلْ أَنْ يُؤَخِّرَ الظُّهْرَ وَيُقَدِّمَ الْعَصْرَ وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ فِي الزَّمَانِ. وَكَذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِحَيْثُ يُصَلُّونَ الْوَاحِدَةَ وَيَنْتَظِرُونَ الْأُخْرَى لَا يَحْتَاجُونَ إلَى ذَهَابٍ إلَى الْبُيُوتِ ثُمَّ رُجُوعٍ وَكَذَلِكَ جَوَازُ الْجَمْعِ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْمُوَالَاةُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ كَمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ {أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: أَفْطَرْنَا يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ فِي غَيْمٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ} . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شَيْئَيْنِ: عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ مَعَ الْغَيْمِ التَّأْخِيرُ إلَى أَنْ يَتَيَقَّنَ الْغُرُوبَ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةُ مَعَ نَبِيِّهِمْ أَعْلَمُ وَأَطْوَعُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ. وَالثَّانِي لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَوْ أَمَرَهُمْ بِالْقَضَاءِ لَشَاعَ ذَلِكَ كَمَا نُقِلَ فِطْرُهُمْ فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى إنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قِيلَ لِهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ؟ قَالَ: أو بُدٌّ مِنْ الْقَضَاءِ؟ .

ص: 231

قِيلَ: هِشَامٌ قَالَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ لَمْ يُرْوَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِذَلِكَ عِلْمٌ: أَنَّ مَعْمَرًا رَوَى عَنْهُ قَالَ: سَمِعْت هِشَامًا قَالَ: لَا أَدْرِي أَقَضَوْا أَمْ لَا؟ ذَكَرَ هَذَا وَهَذَا عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ عَنْ أُمِّهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ. وَقَدْ نَقَلَ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْقَضَاءِ وَعُرْوَةُ أَعْلَمُ مِنْ ابْنِهِ وَهَذَا قَوْلُ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه - وَهُوَ قَرِينُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَيُوَافِقُهُ فِي الْمَذْهَبِ: أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَقَوْلُهُمَا كَثِيرًا مَا يُجْمَعُ بَيْنَهُ. وَالْكَوْسَجُ سَأَلَ مَسَائِلَهُ لِأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَكَذَلِكَ حَرْبٌ الكرماني سَأَلَ مَسَائِلَهُ لِأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا؛ وَلِهَذَا يَجْمَعُ التِّرْمِذِيُّ قَوْلَ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ فَإِنَّهُ رَوَى قَوْلَهُمَا مِنْ مَسَائِلِ الْكَوْسَجِ. وَكَذَلِكَ أَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَكَانُوا يَتَفَقَّهُونَ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ يُقَدِّمُونَ قَوْلَهُمَا عَلَى أَقْوَالِ غَيْرِهِمَا وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِي وَغَيْرِهِمْ هُمْ أَيْضًا مِنْ أَتْبَاعِهِمَا وَمِمَّنْ يَأْخُذُ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ عَنْهُمَا ودَاوُد مِنْ أَصْحَابِ إسْحَاقَ. وَقَدْ كَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ إذَا سُئِلَ عَنْ إسْحَاقَ يَقُولُ: أَنَا أُسْأَلُ

ص: 232

عَنْ إسْحَاقَ؟ إسْحَاقَ يُسْأَلُ عَنِّي وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي ودَاوُد بْنُ عَلِيٍّ وَنَحْوُ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} وَهَذِهِ الْآيَةُ مَعَ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُبَيِّنُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَكْلِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ الْفَجْرُ فَهُوَ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِهِ مَأْمُورٌ بِالْأَكْلِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الْكُحْلُ وَالْحُقْنَةُ وَمَا يُقْطَرُ فِي إحْلِيلِهِ وَمُدَاوَاةُ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ فَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُفَطِّرْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ فَطَّرَ بِالْجَمِيعِ لَا بِالْكُحْلِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَطَّرَ بِالْجَمِيعِ لَا بِالتَّقْطِيرِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُفَطِّرْ بِالْكُحْلِ وَلَا بِالتَّقْطِيرِ وَيُفَطِّرُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ.

ص: 233

وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنَّ الصِّيَامَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مِمَّا حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي الصِّيَامِ وَيَفْسُدُ الصَّوْمُ بِهَا لَكَانَ هَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ بَيَانُهُ وَلَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ لَعَلِمَهُ الصَّحَابَةُ وَبَلَّغُوهُ الْأُمَّةَ كَمَا بَلَّغُوا سَائِرَ شَرْعِهِ. فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ لَا حَدِيثًا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا وَلَا مُسْنَدًا وَلَا مُرْسَلًا - عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي الْكُحْلِ ضَعِيفٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ وَلَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ. وَلَا هُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَد وَلَا سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا النفيلي ثنا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ النُّعْمَانِ ثنا مَعْبَدُ بْنُ هَوْذَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " {أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ عِنْدَ النَّوْمِ. وَقَالَ: لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ} قَالَ أَبُو دَاوُد: وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. قَالَ [المنذري](*) وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: ضَعِيفٌ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي: هُوَ صَدُوقٌ لَكِنْ مَنْ الَّذِي يَعْرِفُ أَبَاهُ. وَعَدَالَتَهُ وَحِفْظَهُ؟ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ مَعْبَدٍ قَدْ عُورِضَ بِحَدِيثِ ضَعِيفٍ وَهُوَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: {جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ

(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 266): لعله: قال ابن الجوزي: (التحقيق) 2/ 90.

ص: 234

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اشْتَكَيْت عَيْنِي أَفَأَكْتَحِلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ نَعَمْ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَلَا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ. وَفِيهِ أَبُو عَاتِكَةَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تُفْطِرُ كَالْحُقْنَةِ وَمُدَاوَاةِ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حُجَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ بِمَا رَأَوْهُ مِنْ الْقِيَاسِ وَأَقْوَى مَا احْتَجُّوا بِهِ قَوْلُهُ " {وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا} قَالُوا: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا وَصَلَ إلَى الدِّمَاغِ يُفْطِرُ الصَّائِمَ إذَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَعَلَى الْقِيَاسِ كُلُّ مَا وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ بِفِعْلِهِ مِنْ حُقْنَةٍ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الطَّعَامِ وَالْغِذَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ حَشْوِ جَوْفِهِ. وَاَلَّذِينَ اسْتَثْنَوْا التَّقْطِيرَ قَالُوا: التَّقْطِيرُ لَا يَنْزِلُ إلَى جَوْفِهِ وَإِنَّمَا يَرْشَحُ رَشْحًا فَالدَّاخِلُ إلَى إحْلِيلِهِ كَالدَّاخِلِ إلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ. وَاَلَّذِينَ اسْتَثْنَوْا الْكُحْلَ قَالُوا: الْعَيْنُ لَيْسَتْ كَالْقُبُلِ وَالدُّبُرِ وَلَكِنْ هِيَ تَشْرَبُ الْكُحْلَ كَمَا يَشْرَبُ الْجِسْمُ الدُّهْنَ وَالْمَاءَ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا الْكُحْلُ يُفْطِرُ قَالُوا: إنَّهُ يَنْفُذُ إلَى دَاخِلِهِ حَتَّى يتنخمه

ص: 235

الصَّائِمُ لِأَنَّ فِي دَاخِلِ الْعَيْنِ مَنْفَذًا إلَى دَاخِلِ الْحَلْقِ. وَإِذَا كَانَ عُمْدَتُهُمْ هَذِهِ الْأَقْيِسَةَ وَنَحْوَهَا لَمْ يَجُزْ إفْسَادُ الصَّوْمِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ لِوُجُوهِ: أَحَدُهَا أَنَّ الْقِيَاسَ وَإِنْ كَانَ حُجَّةً إذَا اُعْتُبِرَتْ شُرُوطُ صِحَّتِهِ فَقَدْ قُلْنَا فِي الْأُصُولِ: إنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ كُلَّهَا بَيَّنَتْهَا النُّصُوصُ أَيْضًا وَإِنْ دَلَّ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ دِلَالَةً خَفِيَّةً فَإِذَا عَلِمْنَا بِإِنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُحَرِّمْ الشَّيْءَ وَلَمْ يُوجِبْهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا وَاجِبٍ. وَأَنَّ الْقِيَاسَ الْمُثْبِتَ لِوُجُوبِهِ وَتَحْرِيمِهِ فَاسِدٌ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِفْطَارِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْفِقْهِ فَعَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مُفْطِرَةً. الثَّانِي أَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَحْتَاجُ الْأُمَّةُ إلَى مَعْرِفَتِهَا لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَيَانًا عَامًّا وَلَا بُدَّ أَنْ تَنْقُلَهَا الْأُمَّةُ فَإِذَا انْتَفَى هَذَا عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ دِينِهِ وَهَذَا كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْرِضْ صِيَامَ شَهْرٍ غَيْرِ رَمَضَانَ وَلَا حَجَّ بَيْتٍ غَيْرِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَلَا صَلَاةً مَكْتُوبَةً غَيْرَ الْخَمْسِ وَلَمْ يُوجِبْ الْغُسْلِ فِي مُبَاشَرَةِ الْمَرْأَةِ بِلَا إنْزَالٍ وَلَا أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْ الْفَزَعِ الْعَظِيمِ وَإِنْ كَانَ فِي مَظِنَّةِ خُرُوجِ الْخَارِجِ وَلَا سَنَّ

ص: 236

الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا والمروة كَمَا سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمَنِيَّ لَيْسَ بِنَجِسِ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ بِإِسْنَادٍ يُحْتَجُّ بِهِ أَنَّهُ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِغَسْلِ أَبْدَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ مِنْ الْمَنِيِّ مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى بِذَلِكَ بَلْ أَمَرَ الْحَائِضَ أَنْ تَغْسِلَ قَمِيصَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضِ مَعَ قِلَّةِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَأْمُرْ الْمُسْلِمِينَ بِغَسْلِ أَبْدَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ مِنْ الْمَنِيِّ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ " {يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالدَّمِ} لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ بِإِسْنَادٍ يُحْتَجُّ بِهِ. وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ وَعَائِشَةَ مِنْ قَوْلِهِمَا. وَغَسْلُ عَائِشَةَ لِلْمَنِيِّ مِنْ ثَوْبِهِ وَفَرْكُهَا إيَّاهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فَإِنَّ الثِّيَابَ تُغْسَلُ مِنْ الْوَسَخِ وَالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْوُجُوبُ إنَّمَا يَكُونُ بِأَمْرِهِ لَا سِيَّمَا وَلَمْ يَأْمُرْ هُوَ سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ بِغَسْلِ ثِيَابِهِمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا نُقِلَ أَنَّهُ أَمَرَ عَائِشَةَ بِذَلِكَ بَلْ أَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ أَوْ حُسْنِهِ وَاسْتِحْبَابِهِ.

ص: 237

وَأَمَّا الْوُجُوبُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ. وَبِهَذِهِ. الطُّرُقِ يُعْلَمُ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ الْوُضُوءَ مِنْ لَمْسِ النِّسَاءِ وَلَا مِنْ النَّجَاسَاتِ الْخَارِجَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ يَثْبُتُ مِثْلُهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا لَا يَزَالُونَ يَحْتَجِمُونَ وَيَتَقَيَّئُونَ وَيُجْرَحُونَ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ قُطِعَ عِرْقُ بَعْضِ أَصْحَابِهِ لِيَخْرُجَ مِنْهُ الدَّمُ وَهُوَ الْفِصَادُ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يَزَالُ أَحَدُهُمْ يَلْمِسُ امْرَأَتَهُ بِشَهْوَةٍ وَبِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ أَمَرَ النَّاسَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ ذَلِكَ وَالْقُرْآنُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ بَلْ الْمُرَادُ بِالْمُلَامَسَةِ الْجِمَاعُ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمْرُهُ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ إنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَابٌ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا إذَا حَرَّكَ الشَّهْوَةَ وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَمَسَ النِّسَاءَ فَتَحَرَّكَتْ شَهْوَتُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَكَذَلِكَ مَنْ تَفَكَّرَ فَتَحَرَّكَتْ شَهْوَتُهُ فَانْتَشَرَ وَكَذَلِكَ مَنْ مَسَّ الْأَمْرَدَ أَوْ غَيْرَهُ فَانْتَشَرَ. فَالتَّوَضُّؤُ عِنْدَ تَحَرُّكِ الشَّهْوَةِ مِنْ جِنْسِ التَّوَضُّؤِ عِنْدَ الْغَضَبِ وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " {إنَّ

ص: 238

الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ} وَكَذَلِكَ الشَّهْوَةُ الْغَالِبَةُ هِيَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالنَّارِ وَالْوُضُوءُ يُطْفِئُهَا فَهُوَ يُطْفِئُ حَرَارَةَ الْغَضَبِ. وَالْوُضُوءُ مِنْ هَذَا مُسْتَحَبٌّ. وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ لِأَنَّ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ يُخَالِطُ الْبَدَنَ فَلْيَتَوَضَّأْ. فَإِنَّ النَّارَ تُطْفَأُ بِالْمَاءِ. وَلَيْسَ فِي النُّصُوصِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. بَلْ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَاسْتِحْبَابُ الْوُضُوءِ مِنْ أَعْدَلِ الْأَقْوَالِ: مِنْ قَوْلِ مَنْ يُوجِبُهُ وَقَوْلِ مَنْ يَرَاهُ مَنْسُوخًا. وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ يُعْلَمُ أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثَهُ لَيْسَ بِنَجِسِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَالْقَوْمُ كَانُوا أَصْحَابَ إبِلٍ وَغَنَمٍ يَقْعُدُونَ وَيُصَلُّونَ فِي أَمْكِنَتِهَا وَهِيَ مَمْلُوءَةٌ مِنْ أبعارها فَلَوْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَاحِيضِ كَانَتْ تَكُونُ حُشُوشًا. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُمْ بِاجْتِنَابِهَا وَأَنْ لَا يُلَوِّثُوا أَبْدَانَهُمْ وَثِيَابَهُمْ بِهَا وَلَا يُصَلُّونَ فِيهَا. فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَنَهَى

ص: 239

عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِنَجَاسَةِ الأبعار بَلْ كَمَا أَمَرَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَقَالَ فِي الْغَنَمِ: إنْ شِئْت فَتَوَضَّأَ وَإِنْ شِئْت فَلَا تَتَوَضَّأْ " وَقَالَ "{إنَّ الْإِبِلَ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ وَإِنَّ عَلَى ذُرْوَةِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانًا} وَقَالَ " {الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي الْفَدَّادِينَ أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ} . فَلَمَّا كَانَتْ الْإِبِلُ فِيهَا مِنْ الشَّيْطَنَةِ مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُوله أَمَرَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ لَحْمِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُطْفِئُ تِلْكَ الشَّيْطَنَةَ وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِهَا لِأَنَّهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ كَمَا نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ لِأَنَّهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ. فَإِنَّ مَأْوَى الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ أَحَقُّ بِأَنْ تُجْتَنَبَ الصَّلَاةُ فِيهِ وَفِي مَوْضِعِ الْأَجْسَامِ الْخَبِيثَةِ بَلْ الْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ تُحِبُّ الْأَجْسَامَ الْخَبِيثَةَ. وَلِهَذَا كَانَتْ الْحُشُوشُ مُحْتَضَرَةً تَحْضُرُهَا الشَّيَاطِينُ وَالصَّلَاةُ فِيهَا أَوْلَى بِالنَّهْيِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ وَمَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْأَرْضِ النَّجِسَةِ. وَلَمْ يَرِدْ فِي الْحُشُوشِ نَصٌّ خَاصٌّ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا كَانَ أَظْهَرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْعُدُ فِي الْحُشُوشِ وَلَا يُصَلِّي فِيهَا وَكَانُوا يَنْتَابُونَ الْبَرِّيَّةَ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ

ص: 240

قَبْلَ أَنْ تُتَّخَذَ الْكُنُفُ فِي بُيُوتِهِمْ. وَإِذَا سَمِعُوا نَهْيَهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ أَوْ أَعْطَانِ الْإِبِلِ عَلِمُوا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْحُشُوشِ أَوْلَى وَأَحْرَى مَعَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ " {النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَالْمَزْبَلَةِ وَالْحُشُوشِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَمَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ} . وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ مُتَنَازِعُونَ فِيهِ. وَأَصْحَابُ أَحْمَد فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَرَى هَذِهِ. مِنْ مَوَاضِعِ النَّهْيِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَمْ أَجِدْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ أَجِدْ فِي كَلَامِ أَحْمَد فِي ذَلِكَ إذْنًا وَلَا مَنْعًا مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي مَوَاضِعِ الْعَذَابِ. نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ؛ لِلْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى الْحُشُوشِ وَأَعْطَانِ الْإِبِلِ وَالْحَمَّامِ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا الخرقي وَغَيْرُهُ. وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ قَدْ يُثْبِتُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَوَارِدِ النَّصِّ وَقَدْ يُثْبِتُهُ بِالْحَدِيثِ وَمَنْ فَرَّقَ يَحْتَاجُ إلَى الطَّعْنِ فِي الْحَدِيثِ وَبَيَانِ الْفَارِقِ. وَأَيْضًا الْمَنْعُ قَدْ يَكُونُ مَنْعَ كَرَاهَةٍ وَقَدْ يَكُونُ مَنْعَ تَحْرِيمٍ. وَإِذَا كَانَتْ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَيَانًا عَامًّا وَلَا بُدَّ أَنْ تَنْقُلَ الْأُمَّةُ ذَلِكَ: فَمَعْلُومٌ

ص: 241

أَنَّ الْكُحْلَ وَنَحْوَهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى كَمَا تَعُمُّ بِالدُّهْنِ وَالِاغْتِسَالِ وَالْبَخُورِ وَالطِّيبِ. فَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يُفْطِرُ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا بَيَّنَ الْإِفْطَارَ بِغَيْرِهِ فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الطِّيبِ وَالْبَخُورِ وَالدُّهْنِ وَالْبَخُورُ قَدْ يَتَصَاعَدُ إلَى الْأَنْفِ وَيَدْخُلُ فِي الدِّمَاغِ وَيَنْعَقِدُ أَجْسَامًا وَالدُّهْنُ يَشْرَبُهُ الْبَدَنُ وَيَدْخُلُ إلَى دَاخِلِهِ وَيَتَقَوَّى بِهِ الْإِنْسَانُ وَكَذَلِكَ يَتَقَوَّى بِالطِّيبِ قُوَّةً جَيِّدَةً فَلَمَّا لَمْ يَنْهَ الصَّائِمَ عَنْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى جَوَازِ تَطْيِيبِهِ وَتَبْخِيرِهِ وَادِّهَانِهِ وَكَذَلِكَ اكْتِحَالُهُ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم يُجْرَحُ أَحَدُهُمْ إمَّا فِي الْجِهَادِ وَإِمَّا فِي غَيْرِهِ مَأْمُومَةً وَجَائِفَةً فَلَوْ كَانَ هَذَا يُفْطِرُ لَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ فَلَمَّا لَمْ يَنْهَ الصَّائِمَ عَنْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ مُفْطِرًا. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ إثْبَاتُ التَّفْطِيرِ بِالْقِيَاسِ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ صَحِيحًا وَذَلِكَ إمَّا قِيَاسُ عِلَّةٍ بِإِثْبَاتِ الْجَامِعِ وَإِمَّا بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ فَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ فَيُعَدَّى بِهَا إلَى الْفَرْعِ وَإِمَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنْ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الشَّرْعِ وَهَذَا الْقِيَاسُ هُنَا مُنْتَفٍ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُفَطِّرَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ

ص: 242

وَرَسُولُهُ مُفَطِّرًا هُوَ مَا كَانَ وَاصِلًا إلَى دِمَاغٍ أَوْ بَدَنٍ أَوْ مَا كَانَ دَاخِلًا مِنْ مَنْفَذٍ أَوْ وَاصِلًا إلَى الْجَوْفِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يَجْعَلُهَا أَصْحَابُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ هِيَ مَنَاطَ الْحُكْمِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا جَعَلَا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مُفَطِّرًا لِهَذَا الْمَعْنَى الْمُشْتَرِكَ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَمِمَّا يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ وَالْجَوْفِ مِنْ دَوَاءِ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ وَمَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ مِنْ الْكُحْلِ وَمِنْ الْحُقْنَةِ وَالتَّقْطِيرِ فِي الْإِحْلِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى تَعْلِيقِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلْحُكْمِ بِهَذَا الْوَصْفِ دَلِيلٌ كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا جَعَلَا هَذَا مُفَطِّرًا لِهَذَا قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ وَكَانَ قَوْلُهُ: " إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الصَّائِمِ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا " قَوْلًا بِأَنَّ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ بِلَا عِلْمٍ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ عَلَى اللَّهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَمَنْ اعْتَقَدَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا الْمُشْتَرَكَ مَنَاطُ الْحُكْمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اعْتَقَدَ صِحَّةَ مَذْهَبٍ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا أَوْ دَلَالَةَ لَفْظٍ عَلَى مَعْنًى لَمْ يُرِدْهُ الرَّسُولُ وَهَذَا اجْتِهَادٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ اتِّبَاعُهَا.

ص: 243

الْوَجْه الرَّابِع أَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَدُلَّ كَلَامُ الشَّارِعِ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ إذَا سَبَرْنَا أَوْصَافَ الْأَصْلِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يَصْلُحُ لِلْعِلَّةِ إلَّا الْوَصْفُ الْمُعَيَّنُ وَحَيْثُ أَثْبَتْنَا عِلَّةَ الْأَصْلِ بِالْمُنَاسَبَةِ أَوْ الدَّوَرَانِ أَوْ الشَّبَهِ الْمُطَّرِدِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ السَّبْرِ فَإِذَا كَانَ فِي الْأَصْلِ وَصْفَانِ مُنَاسِبَانِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ الْحُكْمُ بِهَذَا دُونَ هَذَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ أَثْبَتَا الْفِطْرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَالْحَيْضِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَى الْمُتَوَضِّئَ عَنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إذَا كَانَ صَائِمًا وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ أَقْوَى حُجَجِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ قِيَاسٌ ضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ نَشِقَ الْمَاءَ بِمَنْخِرَيْهِ يَنْزِلُ الْمَاءُ إلَى حَلْقِهِ وَإِلَى جَوْفِهِ فَحَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ مَا يَحْصُلُ لِلشَّارِبِ بِفَمِهِ وَيُغَذِّي بَدَنَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ وَيَزُولُ الْعَطَشُ وَيُطْبَخُ الطَّعَامُ فِي مَعِدَتِهِ كَمَا يَحْصُلُ بِشُرْبِ الْمَاءِ فَلَوْ لَمْ يَرِدْ النَّصُّ بِذَلِكَ لَعُلِمَ بِالْعَقْلِ أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الشُّرْبِ فَإِنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ إلَّا فِي دُخُولِ الْمَاءِ مِنْ الْفَمِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَلْ دُخُولُ الْمَاءِ إلَى الْفَمِ وَحْدَهُ لَا يُفْطِرُ فَلَيْسَ هُوَ مُفْطِرًا وَلَا جُزْءًا مِنْ الْمُفْطِرِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ بَلْ هُوَ طَرِيقٌ إلَى الْفِطْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكُحْلُ وَالْحُقْنَةُ وَمُدَاوَاةُ الْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ. فَإِنَّ الْكُحْلَ لَا يُغَذِّي أَلْبَتَّةَ وَلَا يُدْخِلُ أَحَدٌ كُحْلًا إلَى جَوْفِهِ لَا مِنْ أَنْفِهِ وَلَا فَمِهِ

ص: 244

وَكَذَلِكَ الْحُقْنَةُ لَا تُغَذِّي بَلْ تَسْتَفْرِغُ مَا فِي الْبَدَنِ كَمَا لَوْ شَمَّ شَيْئًا مِنْ الْمُسَهِّلَاتِ أَوْ فَزِعَ فَزَعًا أَوْجَبَ اسْتِطْلَاقَ جَوْفِهِ وَهِيَ لَا تَصِلُ إلَى الْمَعِدَةِ وَالدَّوَاءُ الَّذِي يَصِلُ إلَى الْمَعِدَةِ فِي مُدَاوَاةِ الْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ لَا يُشْبِهُ مَا يَصِلُ إلَيْهَا مِنْ غِذَائِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم " {الصَّوْمُ جُنَّةٌ} وَقَالَ: "{إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ فَضَيِّقُوا مَجَارِيَهُ بِالْجُوعِ بِالصَّوْمِ} . فَالصَّائِمُ نُهِيَ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ التَّقَوِّي. فَتَرْكُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الَّذِي يُوَلِّدُ الدَّمَ الْكَثِيرَ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ الشَّيْطَانُ إنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الْغِذَاءِ لَا عَنْ حُقْنَةٍ وَلَا كُحْلٍ وَلَا مَا يُقْطَرُ فِي الذَّكَرِ وَلَا مَا يُدَاوِي بِهِ الْمَأْمُومَةَ وَالْجَائِفَةَ وَهُوَ مُتَوَلِّدٌ عَمَّا اُسْتُنْشِقَ مِنْ الْمَاءِ لِأَنَّ الْمَاءَ مِمَّا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ الدَّمُ فَكَانَ الْمَنْعُ مِنْهُ مِنْ تَمَامِ الصَّوْمِ. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ. الْمَعَانِي وَغَيْرُهَا مَوْجُودَةً فِي الْأَصْلِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَدَعْوَاهُمْ أَنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَوْصَافِ

ص: 245

مُعَارَضٌ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ وَالْمُعَارَضَةُ تُبْطِلُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ الْأَقْيِسَةِ إنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي ادَّعَوْهُ هُوَ الْعِلَّةُ دُونَ هَذَا. الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ مَنْعُ الصَّائِمِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " {إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ} وَلَا رَيْبَ أَنَّ الدَّمَ يَتَوَلَّدُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَإِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ اتَّسَعَتْ مَجَارِي الشَّيَاطِينِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: "{فَضَيِّقُوا مَجَارِيَهُ بِالْجُوعِ} وَبَعْضُهُمْ يَذْكُرُ هَذَا اللَّفْظَ مَرْفُوعًا. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {إذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ} فَإِنَّ مَجَارِيَ الشَّيَاطِينِ الَّذِي هُوَ الدَّمُ ضَاقَتْ وَإِذَا ضَاقَتْ انْبَعَثَتْ الْقُلُوبُ إلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي بِهَا تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَإِلَى تَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي بِهَا تُفْتَحُ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ فَضَعُفَتْ قُوَّتُهُمْ وَعَمَلُهُمْ بِتَصْفِيدِهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَفْعَلُوا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي غَيْرِهِ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُمْ قُتِلُوا وَلَا مَاتُوا بَلْ قَالَ: " صُفِّدَتْ " وَالْمُصَفَّدُ مِنْ الشَّيَاطِينِ قَدْ يُؤْذِي لَكِنَّ هَذَا أَقَلُّ وَأَضْعَفُ مِمَّا يَكُونُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَهُوَ بِحَسَبِ كَمَالِ الصَّوْمِ وَنَقْصِهِ فَمَنْ كَانَ صَوْمُهُ كَامِلًا دَفَعَ الشَّيْطَانَ دَفْعًا لَا يَدْفَعُهُ دَفْعُ الصَّوْمِ النَّاقِصِ فَهَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ فِي مَنْعِ الصَّائِمِ مِنْ الْأَكْلِ

ص: 246

وَالشُّرْبِ وَالْحُكْمُ ثَابِتٌ عَلَى وَفْقِهِ وَكَلَامُ الشَّارِعِ قَدْ دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الْوَصْفِ وَتَأْثِيرِهِ وَهَذَا الْمَنْعُ مُنْتَفٍ فِي الْحُقْنَةِ وَالْكُحْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ الْكُحْلُ قَدْ يَنْزِلُ إلَى الْجَوْفِ وَيَسْتَحِيلُ دَمًا. قِيلَ: هَذَا كَمَا قَدْ يُقَالُ فِي الْبُخَارِ الَّذِي يَصْعَدُ مِنْ الْأَنْفِ إلَى الدِّمَاغِ فَيَسْتَحِيلُ دَمًا وَكَالدُّهْنِ الَّذِي يَشْرَبُهُ الْجِسْمُ. وَالْمَمْنُوعُ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ مَا يَصِلُ إلَى الْمَعِدَةِ فَيَسْتَحِيلُ دَمًا وَيَتَوَزَّعُ عَلَى الْبَدَنِ. وَنَجْعَلُ هَذَا (وَجْهًا سَادِسًا فَنَقِيسُ الْكُحْلَ وَالْحُقْنَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ عَلَى الْبَخُورِ وَالدُّهْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يَتَغَذَّى بِهِ الْبَدَنُ وَيَسْتَحِيلُ فِي الْمَعِدَةِ دَمًا وَهَذَا الْوَصْفُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ هَذِهِ الْأُمُورُ مُفْطِرَةً وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَالْفَرْعُ قَدْ يَتَجَاذَبُهُ أَصْلَانِ فَيَلْحَقُ كُلًّا مِنْهُمَا بِمَا يُشْبِهُهُ مِنْ الصِّفَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَطْبُخُهُ الْمَعِدَةُ وَيَسْتَحِيلُ دَمًا يَنْمُو عَنْهُ الْبَدَنُ لَكِنَّهُ غِذَاءٌ نَاقِصٌ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَكَلَ سُمًّا أَوْ نَحْوَهُ مِمَّا يَضُرُّهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ

ص: 247

أَكَلَ أَكْلًا كَثِيرًا أَوْرَثَهُ تُخَمَةً وَمَرَضًا فَكَانَ مَنْعُهُ فِي الصَّوْمِ عَنْ هَذَا أَوْكَدَ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ فِي الْإِفْطَارِ وَبَقِيَ الصَّوْمُ أَوْكَدَ وَهَذَا كَمَنْعِهِ مِنْ الزِّنَا فَإِنَّهُ إذَا مُنِعَ مِنْ الْوَطْءِ الْمُبَاحِ فَالْمَحْظُورُ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: فَالْجِمَاعُ مُفْطِرٌ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ فِيهِ؟ قِيلَ: تِلْكَ أَحْكَامٌ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَلَا يَحْتَاجُ إثْبَاتُهَا إلَى الْقِيَاسِ: بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعِلَلُ مُخْتَلِفَةً فَيَكُونُ تَحْرِيمُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْفِطَرُ بِذَلِكَ لِحِكْمَةِ. وَتَحْرِيمُ الْجِمَاعِ وَالْفِطْرُ بِهِ لِحِكْمَةٍ وَالْفِطَرُ بِالْحَيْضِ لِحِكْمَةِ فَإِنَّ الْحَيْضَ لَا يُقَالُ فِيهِ إنَّهُ يَحْرُمُ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُفْطِرَاتِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَمَّا انْقَسَمَتْ إلَى أُمُورٍ اخْتِيَارِيَّةٍ تَحْرُمُ عَلَى الْعَبْدِ كَالْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ وَإِلَى أُمُورٍ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهَا كَدَمِ الْحَيْضِ كَذَلِكَ تَنْقَسِمُ عِلَلُهَا. فَنَقُولُ: أَمَّا الْجِمَاعُ فَإِنَّهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَبَبُ إنْزَالِ الْمَنِيِّ يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِقَاءَةِ وَالْحَيْضُ وَالِاحْتِجَامُ - كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ مِنْ نَوْعِ الِاسْتِفْرَاغِ لَا الِامْتِلَاءِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ إحْدَى الشَّهْوَتَيْنِ فَجَرَى مَجْرَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {عن اللَّهِ تَعَالَى: قَالَ: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي

ص: 248

بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي} فَتَرْكُ الْإِنْسَانِ مَا يَشْتَهِيهِ لِلَّهِ هُوَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا كَمَا يُثَابُ الْمُحْرِمُ عَلَى تَرْكِ مَا اعْتَادَهُ مِنْ اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ نَعِيمِ الْبَدَنِ وَالْجِمَاعُ مِنْ أَعْظَمِ نَعِيمِ الْبَدَنِ وَسُرُورِ النَّفْسِ وَانْبِسَاطِهَا هُوَ يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ وَالدَّمَ وَالْبَدَنَ أَكْثَرَ مِنْ الْأَكْلِ فَإِذَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ. وَالْغِذَاءُ يَبْسُطُ الدَّمَ الَّذِي هُوَ مَجَارِيهِ فَإِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ انْبَسَطَتْ نَفْسُهُ إلَى الشَّهَوَاتِ وَضَعُفَتْ إرَادَتُهَا وَمَحَبَّتُهَا لِلْعِبَادَاتِ فَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْجِمَاعِ أَبْلَغُ فَإِنَّهُ يَبْسُطُ إرَادَةَ النَّفْسِ لِلشَّهَوَاتِ وَيُضْعِفُ إرَادَتَهَا عَنْ الْعِبَادَاتِ أَعْظَمَ؛ بَلْ الْجِمَاعُ هُوَ غَايَةُ الشَّهَوَاتِ وَشَهْوَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ شَهْوَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلِهَذَا أَوْجَبَ عَلَى الْمُجَامِعِ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هَذَا أَغْلَظُ وَدَاعِيَهُ أَقْوَى وَالْمَفْسَدَةَ بِهِ أَشَدُّ. فَهَذَا أَعْظَمُ الْحِكْمَتَيْنِ فِي تَحْرِيمِ الْجِمَاعِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ يُضْعِفُ الْبَدَنَ كَالِاسْتِفْرَاغِ فَذَاكَ حِكْمَةٌ أُخْرَى فَصَارَ فِيهِمَا كَالْأَكْلِ وَالْحَيْضِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْهُمَا فَكَانَ إفْسَادُهُ الصَّوْمَ أَعْظَمَ مِنْ إفْسَادِ الْأَكْلِ وَالْحَيْضِ. فَنَذْكُرُ حِكْمَةَ الْحَيْضِ وَجَرَيَانَ ذَلِكَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ فَنَقُولُ: إنَّ الشَّرْعَ جَاءَ بِالْعَدْلِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَالْإِسْرَافُ فِي الْعِبَادَاتِ مِنْ الْجَوْرِ

ص: 249

الَّذِي نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ وَأَمَرَ بِالِاقْتِصَادِ فِي الْعِبَادَاتِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ بِتَعْجِيلِ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ وَنَهَى عَنْ الْوِصَالِ وَقَالَ: " {أَفْضَلُ الصِّيَامِ وَأَعْدَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُد عليه السلام كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلَا يَفِرُّ إذَا لَاقَى} فَالْعَدْلُ فِي الْعِبَادَاتِ مِنْ أَكْبَرِ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الْآيَةَ. فَجَعَلَ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ مِنْ الِاعْتِدَاءِ الْمُخَالِفِ لِلْعَدْلِ وَقَالَ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} فَلَمَّا كَانُوا ظَالِمِينَ عُوقِبُوا بِأَنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الطَّيِّبَاتُ؛ بِخِلَافِ الْأُمَّةِ الْوَسَطِ الْعَدْلِ فَإِنَّهُ أَحَلَّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالصَّائِمُ قَدْ نُهِيَ عَنْ أَخْذِ مَا يُقَوِّيهِ وَيُغَذِّيهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَيُنْهَى عَنْ إخْرَاجِ مَا يُضْعِفُهُ وَيُخْرِجُ مَادَّتَهُ الَّتِي بِهَا يَتَغَذَّى وَإِلَّا فَإِذَا مُكِّنَ مِنْ هَذَا ضَرَّهُ وَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي عِبَادَتِهِ لَا عَادِلًا. وَالْخَارِجَاتُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَخْرُجُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهُ أَوْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّهُ فَهَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْهُ كَالْأَخْبَثَيْنِ فَإِنَّ خُرُوجَهُمَا لَا يَضُرُّهُ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ أَيْضًا. وَلَوْ اسْتَدْعَى خُرُوجَهُمَا فَإِنَّ خُرُوجَهُمَا لَا يَضُرُّهُ بَلْ يَنْفَعُهُ. وَكَذَلِكَ إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَكَذَلِكَ الِاحْتِلَامُ

ص: 250

فِي الْمَنَامِ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَأَمَّا إذَا استقاء فَالْقَيْءُ يُخْرِجُ مَا يَتَغَذَّى بِهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْمُسْتَحِيلِ فِي الْمَعِدَةِ وَكَذَلِكَ الِاسْتِمْنَاءُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الشَّهْوَةِ فَهُوَ يُخْرِجُ الْمَنِيَّ الَّذِي هُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي الْمَعِدَةِ عَنْ الدَّمِ فَهُوَ يُخْرِجُ الدَّمَ الَّذِي يَتَغَذَّى بِهِ وَلِهَذَا كَانَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ إذَا أَفْرَطَ فِيهِ يَضُرُّ الْإِنْسَانَ وَيَخْرُجُ أَحْمَرَ. وَالدَّمُ الَّذِي يَخْرُجُ بِالْحَيْضِ فِيهِ خُرُوجُ الدَّمِ وَالْحَائِضُ يُمْكِنُهَا أَنْ تَصُومَ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الدَّمِ فِي حَالٍ لَا يَخْرُجُ فِيهَا دَمُهَا فَكَانَ صَوْمُهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ صَوْمًا مُعْتَدِلًا لَا يَخْرُجُ فِيهِ الدَّمُ الَّذِي يُقَوِّي الْبَدَنَ الَّذِي هُوَ مَادَّتُهُ وَصَوْمُهَا فِي الْحَيْضِ يُوجِبُ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ دَمُهَا الَّذِي هُوَ مَادَّتُهَا وَيُوجِبُ نُقْصَانَ بَدَنِهَا وَضِعْفَهَا وَخُرُوجَ صَوْمِهَا عَنْ الِاعْتِدَالِ فَأُمِرَتْ أَنْ تَصُومَ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الْحَيْضِ. بِخِلَافِ الْمُسْتَحَاضَةِ؛ فَإِنَّ الِاسْتِحَاضَةَ تَعُمُّ أَوْقَاتَ الزَّمَانِ وَلَيْسَ لَهَا وَقْتٌ تُؤْمَرُ فِيهِ بِالصَّوْمِ وَكَانَ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ: كَذَرْعِ الْقَيْءِ وَخُرُوجِ الدَّمِ بِالْجِرَاحِ وَالدَّمَامِلِ وَالِاحْتِلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ. فَلَمْ يُجْعَلْ هَذَا مُنَافِيًا لِلصَّوْمِ كَدَمِ الْحَيْضِ.

ص: 251

وَطَرْدُ هَذَا إخْرَاجُ الدَّمِ بِالْحِجَامَةِ وَالْفِصَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَنَازِعُونَ فِي الْحِجَامَةِ هَلْ تُفْطِرُ الصَّائِمَ أَمْ لَا؟ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: " {أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ} كَثِيرَةٌ قَدْ بَيَّنَهَا الْأَئِمَّةُ الْحُفَّاظُ. وَقَدْ كَرِهَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَحْتَجِمُ إلَّا بِاللَّيْلِ. وَكَانَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ إذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ أَغْلَقُوا حَوَانِيتَ الْحَجَّامِينَ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحِجَامَةَ تُفْطِرُ مَذْهَبُ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَابْنِ خُزَيْمَة وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ. وَأَهْلُ الْحَدِيثِ الْفُقَهَاءُ فِيهِ الْعَامِلُونَ بِهِ أَخَصُّ النَّاسِ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَاَلَّذِينَ لَمْ يَرَوْا إفْطَارَ الْمَحْجُومِ احْتَجُّوا بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ "{أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ} وَأَحْمَد وَغَيْرُهُ طَعَنُوا فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: " {وَهُوَ صَائِمٌ} وَقَالُوا: الثَّابِتُ أَنَّهُ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَالَ أَحْمَد: قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: قَالَ شُعْبَةُ: لَمْ يَسْمَعْ الْحَكَمُ حَدِيثَ مقسم فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ يَعْنِي حَدِيثَ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مقسم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "{أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ} .

ص: 252

قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَد عَنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مهران عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ} فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيحِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ فَضَعَّفَهُ وَقَالَ: كَانَتْ كُتُبُ الْأَنْصَارِيِّ ذَهَبَتْ فِي أَيَّامِ الْمُنْتَصِرِ فَكَانَ بَعْدُ يُحَدِّثُ مَنْ كُتُبِ غُلَامِهِ وَكَانَ هَذَا مِنْ تِلْكَ. (وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَد عَنْ حَدِيثِ قَبِيصَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَخْ فَقَالَ: هُوَ خَطَأٌ مِنْ قِبَلِ قَبِيصَةَ) (*). وَسَأَلْت يَحْيَى عَنْ قَبِيصَةَ فَقَالَ: رَجُلُ صِدْقٍ وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَعِيدٍ خَطَأٌ مِنْ قِبَلِهِ. قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَد عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "{أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ} فَقَالَ لَيْسَ فِيهِ " صَائِمٌ " إنَّمَا هُوَ " مُحْرِمٌ " ذَكَرَهُ سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طاوس عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " {احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ} وَعَنْ طاوس وَعَطَاءٍ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ خثيم عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَذْكُرُونَ " صَائِمًا ".

(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 202):

وضع (الخ) من تصرف الناسخ كما يظهر، وأصل الكلام المختصر هو متن هذا السند:(احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما محرما).

ص: 253

قُلْت: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَلِهَذَا أَعْرَضَ مُسْلِمٌ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَ حِجَامَةَ الصَّائِمِ وَلَمْ يُثْبِتْ إلَّا حِجَامَةَ الْمُحْرِمِ. وَتَأَوَّلُوا أَحَادِيثَ الْحِجَامَةِ بِتَأْوِيلَاتِ ضَعِيفَةٍ كَقَوْلِهِمْ: كَانَا يَغْتَابَانِ وَقَوْلِهِمْ أَفْطَرَ لِسَبَبٍ آخَرَ. وَأَجْوَدُ مَا قِيلَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ فِي رَمَضَانَ وَاحْتِجَامُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَ رَمَضَانَ. وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ بَلْ هُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَحْرَمَ سَنَةَ سِتٍّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِعُمْرَةٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَأَحْرَمَ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ بِعُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَأَحْرَمَ مِنْ الْعَامِ الثَّالِثِ سَنَةَ الْفَتْحِ مِنْ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ بِعُمْرَةِ وَأَحْرَمَ سَنَةَ عَشْرٍ بِحَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَاحْتِجَامُهُ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ لَمْ يُبَيَّنْ فِي أَيّ الإحرامات كَانَ. وَاَلَّذِي يُقَوِّي أَنَّ إحْرَامَهُ الَّذِي احْتَجَمَ فِيهِ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ: قَوْلُهُ " {أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ} فَإِنَّهُ كَانَ عَامَ الْفَتْحِ بِلَا رَيْبٍ هَكَذَا فِي أَجْوَدِ الْأَحَادِيثِ. وَرَوَى أَحْمَد بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَوَبَان {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى رَجُلٍ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ قَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ} .

ص: 254

وَقَالَ أَحْمَد: أَنْبَأَنَا إسْمَاعِيلُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَة عَنْ الْأَشْعَثِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ. أَنَّهُ مَرَّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْفَتْحِ عَلَى رَجُلٍ مُحْتَجِمٍ بِالْبَقِيعِ لِثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ " {أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ} وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْت الْبُخَارِيَّ فَقَالَ: لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ وَحَدِيثِ ثوبان فَقُلْت: وَمَا فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ؟ فَقَالَ: كِلَاهُمَا عِنْدِي صَحِيحٌ لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ رَوَى عَنْ أَبِي قِلَابَة عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ عَنْ ثوبان عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ شَدَّادٍ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا. قُلْت: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِحَّةِ كِلَا الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ رَوَاهُمَا أَبُو قلابة - إلَى أَنْ قَالَ - وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ النَّاسِخَ هُوَ الْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ أَنَّ ذَلِكَ رَوَاهُ عَنْهُ خَوَاصُّ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا يُبَاشِرُونَهُ حَضَرًا وَسَفَرًا وَيَطَّلِعُونَ عَلَى بَاطِنِ أَمْرِهِ مِثْلُ بِلَالٍ وَعَائِشَةَ وَمِثْلُ أُسَامَةَ وَثَوَبَان مَوْلَيَاهُ وَرَوَاهُ عَنْهُ الْأَنْصَارُ الَّذِينَ هُمْ بِطَانَتُهُ مِثْلُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَد عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "{أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ} قَالَ أَحْمَد: أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ رَافِعٍ وَذَكَرَ أَحَادِيثَ " {أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ} إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ.

ص: 255

أَحَدُهَا: يُفْطِرُ الْمَحْجُومُ دُونَ الْحَاجِمِ ذَكَرَهُ الخرقي؛ لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَد وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ الْإِفْطَارُ بِالْأَمْرَيْنِ وَالنَّصُّ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ إلَى تَرْكِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُفْطِرُ الْمَحْجُومُ الَّذِي يَحْتَجِمُ وَيَخْرُجُ مِنْهُ الدَّمُ وَلَا يُفْطِرُ بِالِافْتِصَادِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى احْتِجَامًا وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ فَالتَّشْرِيطُ فِي الْآذَانِ هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْحِجَامَةِ؟ تَنَازَعَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ. فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: التَّشْرِيطُ كَالْحِجَامَةِ يَقُولُهُ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الْعُلَمَاءِ قَاطِبَةً فَلَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ خَصَّ التَّشْرِيطَ بِذِكْرِ وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ لَا يَدْخُلُ فِي الْحِجَامَةِ لَذَكَرُوهُ كَمَا ذَكَرُوا الْفِصَادَ. فَعُلِمَ أَنَّ التَّشْرِيطَ عِنْدَهُمْ مِنْ نَوْعِ الْحِجَامَةِ وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ: هَذَا هُوَ الصَّوَابُ. إلَى أَنْ قَالَ: وَالرَّابِعُ: وَهُوَ الصَّوَابُ وَاخْتَارَهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ الْعَالِمُ الْعَادِلُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ يُفْطِرُ بِالْحِجَامَةِ وَالْفِصَادِ وَنَحْوِهِمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَوْجُودَ فِي الْحِجَامَةِ مَوْجُودٌ فِي الْفِصَادِ شَرْعًا وَطَبْعًا وَحَيْثُ حَضَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْحِجَامَةِ وَأَمَرَ بِهَا فَهُوَ حَضٌّ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ الْفِصَادِ وَغَيْرِهِ؛ لَكِنَّ الْأَرْضَ الْحَارَّةَ تَجْتَذِبُ الْحَرَارَةُ فِيهَا دَمَ الْبَدَنِ

ص: 256

فَيَصْعَدُ إلَى سَطْحِ الْجِلْدِ فَيَخْرُجُ بِالْحِجَامَةِ. وَالْأَرْضُ الْبَارِدَةُ يَغُورُ الدَّمُ فِيهَا إلَى الْعُرُوقِ هَرَبًا مِنْ الْبَرْدِ فَإِنَّ شِبْهَ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ كَمَا تَسْخُنُ الْأَجْوَافُ فِي الشِّتَاءِ وَتَبْرُدُ فِي الصَّيْفِ فَأَهْلُ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ لَهُمْ الْفِصَادُ وَقَطْعُ الْعُرُوقِ كَمَا لِلْبِلَادِ الْحَارَّةِ الْحِجَامَةُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي شَرْعٍ وَلَا عَقْلٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفِطْرَ بِالْحِجَامَةِ عَلَى وَفْقِ الْأُصُولِ وَالْقِيَاسِ وَأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْفِطْرِ بِدَمِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِقَاءَةِ وبالاستمناء. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَبِأَيِّ وَجْهٍ أَرَادَ إخْرَاجَ الدَّمِ أَفْطَرَ كَمَا أَنَّهُ بِأَيِّ وَجْهٍ أَخْرَجَ الْقَيْءَ أَفْطَرَ سَوَاءٌ جَذَبَ الْقَيْءَ بِإِدْخَالِ يَدِهِ أَوْ بِشَمِّ مَا يُقَيِّئُهُ أَوْ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ بَطْنِهِ وَاسْتَخْرَجَ الْقَيْءَ فَتِلْكَ طُرُقٌ لِإِخْرَاجِ الْقَيْءِ وَهَذِهِ طُرُقٌ لِإِخْرَاجِ الدَّمِ وَلِهَذَا كَانَ خُرُوجُ الدَّمِ بِهَذَا وَهَذَا سَوَاءً فِي (بَابِ الطَّهَارَةِ) . فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ كَمَالُ الشَّرْعِ وَاعْتِدَالُهُ وَتَنَاسُبُهُ وَأَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ النُّصُوصِ وَمَعَانِيهَا فَإِنَّ بَعْضَهُ يُصَدِّقُ بَعْضًا وَيُوَافِقُهُ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . وَأَمَّا الْحَاجِمُ فَإِنَّهُ يَجْتَذِبُ الْهَوَاءَ الَّذِي فِي الْقَارُورَةِ بِامْتِصَاصِهِ وَالْهَوَاءُ يَجْتَذِبُ مَا فِيهَا مِنْ الدَّمِ فَرُبَّمَا صَعِدَ مَعَ الْهَوَاءِ شَيْءٌ مِنْ الدَّمِ وَدَخَلَ فِي حَلْقِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ وَالْحِكْمَةُ إذَا كَانَتْ خَفِيَّةً أَوْ مُنْتَشِرَةً عُلِّقَ الْحُكْمُ

ص: 257

بِالْمَظِنَّةِ كَمَا أَنَّ النَّائِمَ الَّذِي تَخْرُجُ مِنْهُ الرِّيحُ وَلَا يَدْرِي يُؤْمَرُ بِالْوُضُوءِ فَكَذَلِكَ الْحَاجِمُ يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْ الدَّمِ مَعَ رِيقِهِ إلَى بَطْنِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي. وَالدَّمُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُفْطِرَاتِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ طُغْيَانِ الشَّهْوَةِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْعَدْلِ وَالصَّائِمُ أُمِرَ بِحَسْمِ مَادَّتِهِ فَالدَّمُ يَزِيدُ الدَّمَ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمَحْظُورِ. فَيُفْطِرُ الْحَاجِمُ لِهَذَا كَمَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ النَّائِمِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَيْقِنْ خُرُوجَ الرِّيحِ مِنْهُ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ وَلَا يَدْرِي وَكَذَلِكَ الْحَاجِمُ قَدْ يَدْخُلُ الدَّمُ فِي حَلْقِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي. وَأَمَّا الشَّارِطُ فَلَيْسَ بِحَاجِمِ وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِيهِ فَلَا يُفْطِرُ الشَّارِطُ وَكَذَلِكَ لَوْ قُدِّرَ حَاجِمٌ لَا يَمُصُّ الْقَارُورَةَ بَلْ يَمْتَصُّ غَيْرَهَا أَوْ يَأْخُذُ الدَّمَ بِطَرِيقٍ أُخْرَى لَمْ يُفْطِرْ. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَلَامُهُ خَرَجَ عَلَى الْحَاجِمِ الْمَعْرُوفِ الْمُعْتَادِ. وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ شَخْصًا بِعَيْنِهِ فَيَشْتَرِكُ فِي الْحُكْمِ سَائِرُ النَّوْعِ؛ لِلْعَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ مِنْ الْأُمَّةِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ فَهَذَا أَبْلَغُ فَلَا يَثْبُتُ بِلَفْظِهِ مَا يَظْهَرُ لَفْظًا وَمَعْنًى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَعَ بُعْدِهِ عَنْ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

ص: 258

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ بَاشَرَ زَوْجَتَهُ وَهُوَ يَسْمَعُ الْمُتَسَحِّرَ يَتَكَلَّمُ فَلَا يَدْرِي: أَهُوَ يَتَسَحَّرُ؟ أَمْ يُؤَذِّنُ؟ ثُمَّ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَتَسَحَّرُ فَوَطِئَهَا وَبَعْدَ يَسِيرٍ أَضَاءَ الصُّبْحُ فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

فَأَجَابَ:

هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ. هَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لَا غَيْرُ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا. وَالثَّالِثُ: لَا قَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا عَنْ الْخَطَأِ

ص: 259

وَالنِّسْيَانِ وَأَبَاحَ سبحانه وتعالى الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ. وَالْجِمَاعَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ. وَالشَّاكُّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إذَا اسْتَمَرَّ الشَّكُّ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُوَاقِعَ زَوْجَتَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِالنَّهَارِ فَأَفْطَرَ بِالْأَكْلِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَ ثُمَّ جَامَعَ فَهَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أَمْ لَا؟ وَمَا عَلَى الَّذِي يُفْطِرُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ مَشْهُورَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِهِمْ: كَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنَاهُمَا: عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ سَبَبُهَا الْفِطْرُ مِنْ الصَّوْمِ أَوْ مِنْ الصَّوْمِ الصَّحِيحِ بِجِمَاعٍ أَوْ بِجِمَاعِ وَغَيْرِهِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ. فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ

ص: 260

يَعْتَبِرُ الْفِطْرَ بِأَعْلَى جِنْسِهِ وَمَالِكٍ يَعْتَبِرُ الْفِطْرَ مُطْلَقًا فَالنِّزَاعُ بَيْنَهُمَا إذَا أَفْطَرَ بِابْتِلَاعِ حَصَاةٍ أَوْ نَوَاةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَةٌ أَنَّهُ إذَا أَفْطَرَ بِالْحِجَامَةِ كَفَّرَ كَغَيْرِهَا مِنْ الْمُفْطِرَاتِ. بِجِنْسِ الْوَطْءِ فَأَمَّا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَنَحْوُهُمَا فَلَا كَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ تَنَازَعُوا هَلْ يُشْتَرَطُ الْفِطْرُ مِنْ الصَّوْمِ الصَّحِيحِ؟ فَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ يَشْتَرِطُ ذَلِكَ فَلَوْ أَكَلَ ثُمَّ جَامَعَ أَوْ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ ثُمَّ جَامَعَ أَوْ جَامَعَ وَكَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ: لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَطَأْ فِي صَوْمٍ صَحِيحٍ. وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِ يَقُولُ: بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَهُوَ صَوْمٌ فَاسِدٌ فَأَشْبَهَ الْإِحْرَامَ الْفَاسِدَ. وكَمَا أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْحَجِّ إذَا أَفْسَدَ إحْرَامَهُ لَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِيهِ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ مَحْظُورَاتِهِ فَإِذَا أَتَى شَيْئًا مِنْهَا كَانَ عَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ فِيهِ وَصَوْمُهُ فَاسِدٌ لِأَكْلٍ أَوْ جِمَاعٍ أَوْ عَدَمِ نِيَّةٍ فَقَدْ لَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ عَنْ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ. فَإِذَا تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْهَا كَانَ عَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ فِي الصَّوْمِ

ص: 261

الصَّحِيحِ. وَفِي كَلَامِ الْمَوْضِعَيْنِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ هَتْكَ حُرْمَةِ الشَّهْرِ حَاصِلَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ بَلْ هِيَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَشَدُّ؛ لِأَنَّهُ عَاصٍ بِفِطْرِهِ أَوَّلًا فَصَارَ عَاصِيًا مَرَّتَيْنِ فَكَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ أَوْكَدَ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ عَلَى مِثْلِ هَذَا لَصَارَ ذَرِيعَةً إلَى أَلَّا يُكَفِّرَ أَحَدٌ فَإِنَّهُ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يُجَامِعَ فِي رَمَضَانَ إلَّا أَمْكَنَهُ أَنْ يَأْكُلَ ثُمَّ يُجَامِعَ بَلْ ذَلِكَ أَعْوَنُ لَهُ عَلَى مَقْصُودِهِ فَيَكُونُ قَبْلَ الْغَدَا عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَإِذَا تَغَدَّى هُوَ وَامْرَأَتُهُ ثُمَّ جَامَعَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَهَذَا شَنِيعٌ فِي الشَّرِيعَةِ لَا تَرِدُ بِمِثْلِهِ. فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ فِي الْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ أَنَّهُ كُلَّمَا عَظُمَ الذَّنْبُ كَانَتْ الْعُقُوبَةُ أَبْلَغَ وَكُلَّمَا قَوِيَ الشَّبَهُ قَوِيَتْ وَالْكَفَّارَةُ فِيهَا شَوْبُ الْعِبَادَةِ وَشَوْبُ الْعُقُوبَةِ وَشُرِعَتْ زَاجِرَةً وَمَاحِيَةً فَبِكُلِّ حَالٍ قُوَّةُ السَّبَبِ يَقْتَضِي قُوَّةَ الْمُسَبَّبِ. ثُمَّ الْفِطْرُ بِالْأَكْلِ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ. كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فَلَا أَقَلَّ أَنْ يَكُونَ مُعِينًا لِلسَّبَبِ الْمُسْتَقِلِّ بَلْ

ص: 262

يَكُونُ مَانِعًا مِنْ حُكْمِهِ وَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ. ثُمَّ الْمُجَامِعُ كَثِيرًا مَا يُفْطِرُ قَبْلَ الْإِيلَاجِ فَتَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ عَنْهُ بِذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَهَذَا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ أَفْطَرَ نَهَارَ رَمَضَانَ مُتَعَمَّدًا ثُمَّ جَامَعَ: فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ؟ أَمْ الْقَضَاءُ بِلَا كَفَّارَةٍ؟

فَأَجَابَ:

عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَجِبُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٌ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَلَا تَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ وَطِئَ امْرَأَتَهُ وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مُعْتَقِدًا بَقَاءَ اللَّيْلِ

ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟

ص: 263

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِأَهْلِ الْعِلْمِ:

أَحَدُهَا: أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد.

وَالثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ. وَالثَّالِثُ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ. وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ السَّلَفِ: كَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنُ وَإِسْحَاقَ ودَاوُد وَأَصْحَابِهِ وَالْخَلَفِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: مَنْ أَكَلَ مُعْتَقِدًا طُلُوعَ الْفَجْرِ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَطْلُعْ. فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَشْبَهُهَا بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَإِنَّ اللَّهَ رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ. وَهَذَا مُخْطِئٌ وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ الْأَكْلَ وَالْوَطْءَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ وَاسْتَحَبَّ تَأْخِيرَ السُّحُورِ وَمَنْ فَعَلَ مَا نُدِبَ إلَيْهِ وَأُبِيحَ لَهُ لَمْ يُفَرِّطْ فَهَذَا أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنْ النَّاسِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 264

وَسُئِلَ:

عَمَّا إذَا قَبَّلَ زَوْجَتَهُ أَوْ ضَمَّهَا فَأَمْذَى. هَلْ يُفْسِدُ ذَلِكَ صَوْمَهُ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ إلَخْ

فَأَجَابَ:

إذَا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ وَهُوَ عَالِمٌ بِتَحْرِيمِهِ اسْتِحْلَالًا لَهُ وَجَبَ قَتْلُهُ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا عُوقِبَ عَنْ فِطْرِهِ فِي رَمَضَانَ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ وَأُخِذَ مِنْهُ حَدُّ الزِّنَا وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا عُرِّفَ بِذَلِكَ وَأُخِذَ مِنْهُ حَدُّ الزِّنَا وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 265

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَالسِّوَاكِ وَذَوْقِ الطَّعَامِ وَالْقَيْءِ وَخُرُوجِ الدَّمِ وَالِادِّهَانِ وَالِاكْتِحَالِ؟

فَأَجَابَ:

أَمَّا الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فَمَشْرُوعَانِ لِلصَّائِمِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةُ يَتَمَضْمَضُونَ وَيَسْتَنْشِقُونَ مَعَ الصَّوْمِ. لَكِنْ قَالَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ: " {وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا} فَنَهَاهُ عَنْ الْمُبَالَغَةِ؛ لَا عَنْ الِاسْتِنْشَاقِ. وَأَمَّا السِّوَاكُ فَجَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي كَرَاهِيَتِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد. وَلَمْ يَقُمْ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَصْلُحُ أَنْ يَخُصَّ عمومات نُصُوصِ السِّوَاكِ وَقِيَاسُهُ عَلَى دَمِ الشَّهِيدِ وَنَحْوِهِ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ. كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَذَوْقُ الطَّعَامِ يُكْرَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ لَكِنْ لَا يُفْطِرُهُ. وَأَمَّا لِلْحَاجَةِ

ص: 266

فَهُوَ كَالْمَضْمَضَةِ. وَأَمَّا الْقَيْءُ: فَإِذَا استقاء: أَفْطَرَ وَإِنْ غَلَبَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ. وَالِادِّهَانُ: لَا يُفْطِرُ بِلَا رَيْبٍ. وَأَمَّا خُرُوجُ الدَّمِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ كَدَمِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَالْجُرُوحِ وَاَلَّذِي يَرْعُفُ وَنَحْوُهُ فَلَا يُفْطِرُ وَخُرُوجُ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ يُفْطِرُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا الِاحْتِجَامُ: فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَمَذْهَبُ أَحْمَد وَكَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ يُفْطِرُ وَالْفِصَادُ وَنَحْوُهُ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِهِ أَحَدُهُمَا أَنَّ ذَلِكَ كَالِاحْتِجَامِ. وَمَذْهَبُهُ فِي الْكُحْلِ الَّذِي يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ أَنَّهُ يُفْطِرُ كَالطِّيبِ وَلِلْحَاجَةِ (1) وَمَذْهَبُ مَالِكٌ نَحْوُ ذَلِكَ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَا يَرَيَانِ الْفِطْرَ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(1)

كذا بالأصل

ص: 267

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ افْتَصَدَ بِسَبَبِ وَجَعِ رَأْسِهِ وَهُوَ صَائِمٌ هَلْ يُفْطِرُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ أَمْ لَا؟ وَهَلْ إذَا أُعْلِمَ أَنَّهُ يُفْطِرُ إذَا افْتَصَدَ يَأْثَمُ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَالْأَحْوَطُ أَنَّهُ يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ الْفِصَادِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ هَلْ يُفْسِدُ الصَّوْمَ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

إنْ أَمْكَنَهُ تَأْخِيرُ الْفِصَادِ أَخَّرَهُ وَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ لِمَرَضٍ افْتَصَدَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 268

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ الْمَيِّتِ فِي أَيَّامِ مَرَضِهِ أَدْرَكَهُ شَهْرُ رَمَضَانَ

وَلَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ وَتُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ مُدَّةَ مَرَضِهِ وَوَالِدَيْهِ بِالْحَيَاةِ. فَهَلْ تَسْقُطُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ عَنْهُ إذَا صَامَا عَنْهُ وَصَلَّيَا؟ إذَا وَصَّى أَوْ لَمْ يُوصِ؟

فَأَجَابَ:

إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَرَضُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْقَضَاءُ فَلَيْسَ عَلَى وَرَثَتِهِ إلَّا الْإِطْعَامُ عَنْهُ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ فَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَكِنْ إذَا صَلَّى عَنْ الْمَيِّتِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا تَطَوُّعًا وَأَهْدَاهُ لَهُ أَوْ صَامَ عَنْهُ تَطَوُّعًا وَأَهْدَاهُ لَهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 269

الِاقْتِصَادُ فِي الْأَعْمَالِ

الْمَسْؤُولُ مِنْ إحْسَانِ السَّادَةِ الْعُلَمَاء رضي الله عنهم حَلُّ هَذِهِ الشُّبْهَةِ الَّتِي دَخَلَ عَلَى الْعِبَادِ بِسَبَبِهَا ضَرَرٌ بَيِّنٌ: وَهِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ سَمِعَ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم " {أَحَبُّ الصَّلَاةِ إلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُد وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُد كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلْثَهُ وَيَنَامُ سُدْسَهُ وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا} فَعَقَدَ مَعَ اللَّهِ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا وَيُفْطِرَ يَوْمًا فَعَلَ ذَلِكَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ وَهُوَ مُتَأَهِّلٌ لَهُ عِيَالٌ وَهُوَ ذُو سَبَبٍ يَحْتَاجُ إلَى نَفْسِهِ فِي حِفْظِ صِحَّتِهِ فَحَدَثَتْ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ هِمَّةٌ فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ فَصَارَ مَعَ هَذِهِ الْمُجَاهَدَةِ يَتَلَقَّنُ كُلَّ يَوْمٍ وَيُكَرِّرُ. ثُمَّ حَدَثَتْ عِنْدَهُ مَعَ ذَلِكَ هِمَّةٌ إلَى طَلَبِ الْمَقْصُودِ وَقِيَامِ أَكْثَرِ اللَّيْلِ وَكَثْرَةِ الِاجْتِهَادِ وَالدَّأْبِ فِي الْعِبَادَةِ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ ثِقْلُ يُبْسِ الصِّيَامِ مَعَ ضَعْفِ الْقُوَّةِ فِي السَّبَبِ مَعَ يُبْسِ التَّكْرَارِ وَكَثْرَتِهِ مَعَ الْيُبْسِ الْحَادِثِ مِنْ الْهِمَّةِ الْحَادَّةِ وَهُوَ شَابٌّ عِنْدَهُ حَرَارَةُ الشبوبية فَأَثَّرَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ خَلَلًا فِي ذِهْنِهِ مِنْ ذُهُولٍ وَصُدَاعٍ يَلْحَقُهُ فِي رَأْسِهِ وَبَلَادَةٍ

ص: 270

فِي فَهْمِهِ بِحَيْثُ أَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِمَعْنَى الْكَلَامِ إذَا سَمِعَهُ وَظَهَرَ أَثَرُ الْيُبْسِ فِي عَيْنَيْهِ حَتَّى كَادَتَا أَنْ تَغُورَا. وَقَدْ وَجَدَ فِي هَذَا الِاجْتِهَادِ شَيْئًا مِنْ الْأَنْوَارِ وَهُوَ لَا يَتْرُكُ هَذَا الصِّيَامَ لِعَقْدِهِ الَّذِي عَقَدَهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لِخَوْفِهِ أَنْ يَذْهَبَ النُّورُ الَّذِي عِنْدَهُ فَإِذَا نَهَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ يَتَعَلَّلُ وَيَقُولُ: أَنَا أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ نَفْسِي فِي اللَّهِ. فَهَلْ صَوْمُهُ هَذَا يُوَافِقُ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى؟ وَهُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَمْ هُوَ مَكْرُوهٌ؟ لَا يُرْضِي اللَّهَ بِهِ. وَهَلْ يُبَاحُ لَهُ هَذَا الْعَقْدُ؟ وَعَلَيْهِ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَمْ لَا؟ وَهَلْ اشْتِغَالُهُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ جِسْمِهِ وَصِيَانَةُ دِمَاغِهِ وَعَقْلِهِ وَذِهْنِهِ لِيَتَوَفَّرَ عَلَى حِفْظِ فَرَائِضِهِ وَمَصْلَحَةِ عِيَالِهِ الَّذِي يَرْضَى اللَّهُ مِنْهُ وَيُرِيدُهُ مِنْهُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ إصْرَارُهُ عَلَى ذَلِكَ مُوجِبٌ لِمَقْتِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ يُلْقِي نَفْسَهُ إلَى التَّهْلُكَةِ بِشَيْءٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؟ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا فِي السُّنَّةِ: فَهَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ مُطْلَقًا لِكُلِّ أَحَدٍ؟ أَمْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ؟ يَسْأَلُ كَشْفَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَحَلَّهَا. فَقَدْ أَعْيَا هَذَا الشَّخْصُ الْأَطِبَّاءَ وَأَحْزَنَ الْعُقَلَاءَ لِدُخُولِهِ فِي السُّلُوكِ بِالْجَهْلِ غَافِلًا عَنْ مُرَادِ رَبِّهِ وَنَسْأَلُ تَقْيِيدَ الْجَوَابِ وإعضاده بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِيَصِلَ إلَى قَلْبِهِ ذَلِكَ آجَرَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَمَتَّعَ الْمُسْلِمِينَ بِطُولِ بقاكم وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ. وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

ص: 271

فَأَجَابَ: شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْعَلَّامَةُ الْحَافِظُ الْمُجْتَهِدُ مُفْتِي الْأَنَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة بِخَطِّهِ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُوجَبُ الشَّرْعِ. وَالثَّانِي: مُقْتَضَى الْعَهْدِ وَالنُّذُرِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ الْمَأْمُورَ بِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم هُوَ الِاقْتِصَادُ فِي الْعِبَادَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا} وَقَالَ: "{إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ فَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا} وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحِ. وَقَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ: " اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ ". فَمَتَى كانت الْعِبَادَةُ تُوجِبُ لَهُ ضَرَرًا يَمْنَعُهُ عَنْ فِعْلِ وَاجِبٍ أَنْفَعَ لَهُ مِنْهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً مِثْلُ أَنْ يَصُومَ صَوْمًا يُضْعِفُهُ عَنْ الْكَسْبِ الْوَاجِبِ أَوْ يَمْنَعُهُ عَنْ الْعَقْلِ أَوْ الْفَهْمِ الْوَاجِبِ. أَوْ يَمْنَعُهُ عَنْ الْجِهَادِ الْوَاجِبِ

ص: 272

وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ تُوقِعُهُ فِي مَحَلٍّ مُحَرَّمٍ لَا يُقَاوِمُ مَفْسَدَتَهُ مُصْلِحَتُهَا مِثْلُ أَنْ يُخْرِجَ مَالَهُ كُلَّهُ ثُمَّ يَسْتَشْرِفُ إلَى أَمْوَالِ النَّاسِ وَيَسْأَلُهُمْ. وَأَمَّا إنْ أَضْعَفَتْهُ عَمَّا هُوَ أَصْلَحُ مِنْهَا وَأَوْقَعَتْهُ فِي مَكْرُوهَاتٍ فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ. وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَقْوَامٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا قَدْ اجْتَمَعُوا وَعَزَمُوا عَلَى التَّبَتُّلِ لِلْعِبَادَةِ: هَذَا يَسْرُدُ الصَّوْمَ وَهَذَا يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ وَهَذَا يَجْتَنِبُ أَكْلَ اللَّحْمِ وَهَذَا يَجْتَنِبُ النِّسَاءَ. فَنَهَاهُمْ اللَّهُ سبحانه وتعالى عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ مَنْ أَكْلِ اللَّحْمِ وَالنِّسَاءِ وَعَنْ الِاعْتِدَاءِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى الدِّينِ الْمَشْرُوعِ فِي الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالزِّيَادَةُ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى مَا حُرِّمَ وَالزِّيَادَةُ فِي الْمُبَاحِ عَلَى مَا أُبِيحُ. ثُمَّ إنَّهُ أَمَرَهُمْ بَعْدَ هَذَا بِكَفَّارَةِ مَا عَقَدُوهُ مِنْ الْيَمِينِ عَلَى هَذَا التَّحْرِيمِ وَالْعُدْوَانِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ {أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَأَقْوَمُ لَا أَنَامُ وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ: وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا

ص: 273

فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ: كَذَا وَكَذَا لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي} . وَفِي الصِّحَاحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ {عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص أَنَّهُ كَانَ قَدْ جَعَلَ يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّك إذَا فَعَلْت ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ} أَيْ غَارَتْ الْعَيْنُ؛ وَمَلَّتْ النَّفْسُ وَسَئِمَتْ. وَقَالَ لَهُ: " {إنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْجِك عَلَيْك حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْرِك عَلَيْك حَقًّا فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ} . فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَلَيْك أُمُورًا وَاجِبَةً مِنْ حَقِّ النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالزَّائِرِينَ فَلَيْسَ لَك أَنْ تَفْعَلَ مَا يَشْغَلُك عَنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بَلْ آتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. ثُمَّ {أَمَرَهُ. النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقَالَ: إنَّهُ يَعْدِلُ صِيَامَ الدَّهْرِ وَأَمَرَهُ. أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً فَقَالَ: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَزَلْ يُزَايِدُهُ حَتَّى قَالَ: فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا فَإِنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ. قَالَ: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ

ص: 274

مِنْ ذَلِكَ قَالَ: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ} . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو لَمَّا كَبِرَ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي قَبِلْت رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ رُبَّمَا عَجَزَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَفَطْرِ يَوْمٍ. فَكَانَ يُفْطِرُ أَيَّامًا ثُمَّ يَسْرُدُ الصِّيَامَ أَيَّامًا بِقَدْرِهَا لِئَلَّا يُفَارِقَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَالٍ ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهَا. وَهَذَا لِأَنَّ بَدَنَهُ كَانَ يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ. وَإِلَّا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ إذَا صَامَ يَوْمًا وَأَفْطَرَ يَوْمًا شَغَلَهُ عَمَّا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ الصَّوْمُ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا فَإِنَّهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ صَوْمِ دَاوُد. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ يَصُومُ الدَّهْرَ فَقَالَ: مَنْ صَامَ الدَّهْرَ فَلَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ} . {وَسُئِلَ عَمَّنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا فَقَالَ: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ} . {وَسُئِلَ عَمَّنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ فَقَالَ: وَدِدْت أَنِّي طُوِّقْت ذَلِكَ} {وَسُئِلَ عَمَّنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا فَقَالَ: ذَلِكَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَدَّ أَنْ يُطِيقَ صَوْمَ ثُلْثِ الدَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ أَوْجَبُ عَلَيْهِ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مَا لَا يُطِيقُ مَعَهُ صَوْمَ ثُلْثِ الدَّهْرِ. وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَ مِنْ الْعَدُوِّ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ

ص: 275

فِي رَمَضَانَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْفِطْرِ فَبَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا صَامُوا فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ} {وَصَلَّى عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ مَرَّةً وَأَمَرَ مَنْ مَعَهُ أَنْ يُصَلُّوا عَلَى ظُهُورِ دَوَابِّهِمْ؛ فَوَثَبَ رَجُلٌ عَنْ ظَهْرِ دَابَّتِهِ فَصَلَّى عَلَى الْأَرْضِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُخَالِفٌ خَالَفَ اللَّهُ بِهِ. فَلَمْ يَمُتْ حَتَّى ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ} . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنِّي إذَا صُمْت ضَعُفْت عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إلَيَّ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا " الْأَصْلُ الثَّانِي ": وَهُوَ أَنَّهُ إذَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ وَنَذَرَهُ. فَالْأَصْلُ فِيهِ مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " {مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ} فَإِذَا كَانَ الْمَنْذُورُ الَّذِي عَاهَدَ اللَّهَ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا غَيْرَ مُبَاحٍ يُفْضِي إلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ كَانَ هَذَا مَعْصِيَةً: لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ بَلْ لَوْ نَذَرَ عِبَادَةً مَكْرُوهَةً مِثْلَ قِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ وَصِيَامِ النَّهَارِ كُلِّهِ لَمْ يَجِبْ الْوَفَاءُ بِهَذَا النَّذْرِ. ثُمَّ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَظْهَرُهُمَا: أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ لِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 276

فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: " {كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينٍ} وَقَالَ: "{النَّذْرُ حَلْفَةٌ} وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ: " {لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ} وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَأَنْ يَصُومَ. فَقَالَ: مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ} فَلَمَّا نَذَرَ عِبَادَةً غَيْرَ مَشْرُوعَةٍ مِنْ الصَّمْتِ وَالْقِيَامِ وَالتَّضْحِيَةِ أَمَرَهُ. بِفِعْلِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ الصَّوْمُ فِي حَقِّهِ وَنَهَاهُ عَنْ فِعْلِ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ. وَأَمَّا إذَا عَجَزَ عَنْ فِعْلِ الْمَنْذُورِ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ مَشَقَّةٌ فَهُنَا يُكَفِّرُ وَيَأْتِي بِبَدَلٍ عَنْ الْمَنْذُورِ كَمَا فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ أُخْتَهُ لَمَّا نَذَرْت أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "{إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِك نَفْسَهَا مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ - وَرُوِيَ وَلْتَصُمْ} فَهَذَا الرَّجُلُ الَّذِي عَقَدَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى صَوْمَ نِصْفِ الدَّهْرِ وَقَدْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِعَقْلِهِ وَبَدَنِهِ عَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ وَيَتَنَاوَلَ مَا يُصْلِحُ عَقْلَهُ وَبَدَنَهُ وَيُكَفِّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ وَيَكُونُ فِطْرُهُ قَدْرَ مَا يَصْلُحُ بِهِ عَقْلُهُ وَبَدَنُهُ

ص: 277

عَلَى حَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ حَالُهُ إمَّا أَنْ يُفْطِرَ ثُلْثَيْ الدَّهْرِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ أَوْ جَمِيعَهُ فَإِذَا أَصْلَحَ حَالَهُ فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْعَوْدُ إلَى صَوْمِ يَوْمٍ وَفِطْرِ يَوْمٍ بِلَا مَضَرَّةٍ وَإِلَّا صَامَ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ الصَّوْمِ وَلَا يَشْغَلُهُ عَمَّا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْهُ. فَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ أَنْ يُتْرَكَ الْأَحَبُّ إلَيْهِ بِفِعْلِ مَا هُوَ دُونَهُ فَكَيْفَ يُوجِبُ ذَلِكَ. وَأَمَّا النُّورُ الَّذِي وَجَدَهُ بِهَذَا الصَّوْمِ: فَمَعْلُومٌ أَنَّ جِنْسَ الْعِبَادَاتِ لَيْسَ شَرًّا مَحْضًا بَلْ الْعِبَادَاتُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَنْفَعَةٍ وَمَضَرَّةٍ وَلَكِنْ لَمَّا تَرَجَّحَ ضَرَرُهَا عَلَى نَفْعِهَا نَهَى عَنْهَا الشَّارِعُ كَمَا نَهَى عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ دَائِمًا وَعَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ مَعَ أَنَّ خَلْقًا يَجِدُونَ فِي الْمُوَاصَلَةِ الدَّائِمَةِ نُورًا بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْجُوعِ وَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِدُهُ الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْأُمِّيِّينَ. مِثْلُ الرُّهْبَانِ وَعُبَّادِ الْقُبُورِ لَكِنْ يَعُودُ ذَلِكَ الْجُوعُ الْمُفْرِطُ الزَّائِدُ عَلَى الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ يُوجِبُ لَهُمْ ضَرَرًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَيَكُونُ إثْمُهُ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ. كَمَا قَدْ رَأَيْنَا مِنْ هَؤُلَاءِ خَلْقًا كَثِيرًا آلَ بِهِمْ الْإِفْرَاطُ فِيمَا يُعَانُونَهُ. مِنْ شَدَائِدِ الْأَعْمَالِ إلَى التَّفْرِيطِ وَالتَّثْبِيطِ وَالْمَلَلِ وَالْبَطَالَةِ وَرُبَّمَا انْقَطَعُوا عَنْ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ بِالْأَعْمَالِ الْمَرْجُوحَةِ عَنْ الرَّاجِحَةِ أَوْ بِذَهَابِ الْعَقْلِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ بِحُصُولِ خَلَلٍ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ أَعْمَالِهِمْ وَأَسَاسَهَا عَلَى غَيْرِ اسْتِقَامَةٍ وَمُتَابَعَةٍ.

ص: 278

وَأَمَّا‌

‌ قَوْلُهُ: أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ نَفْسِي فِي اللَّهِ.

فَهَذَا كَلَامٌ مُجْمَلٌ فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى قَتْلِ نَفْسِهِ فَهَذَا مُحْسِنٌ فِي ذَلِكَ كَاَلَّذِي يَحْمِلُ عَلَى الصَّفِّ وَحْدَهُ حَمْلًا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَقَدْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يُقْتَلُ فَهَذَا حَسَنٌ. وَفِي مِثْلِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} وَمِثْلُ مَا كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ يَنْغَمِسُ فِي الْعَدُوِّ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: " أَنَّ رَجُلًا حَمَلَ عَلَى الْعَدُوِّ وَحْدَهُ فَقَالَ النَّاسُ: أَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ. فَقَالَ عُمَرَ: لَا وَلَكِنَّهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} . وَأَمَّا إذَا فَعَلَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ حَتَّى أَهْلَكَ نَفْسَهُ فَهَذَا ظَالِمٌ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ: مِثْلُ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْ الْجَنَابَةِ فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ بِمَاءٍ بَارِدٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ أَوْ يَصُومُ فِي رَمَضَانَ صَوْمًا يُفْضِي إلَى هَلَاكِهِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ. فَكَيْفَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ فِي قِصَّةِ {الرَّجُلِ الَّذِي أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ فَاسْتَفْتَى مَنْ كَانَ مَعَهُ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: لَا نَجِدُ لَك رُخْصَةً فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 279

قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ هَلَّا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ} . وَكَذَلِكَ رُوِيَ حَدِيثُ {عَمْرِو بْنِ العاص لَمَّا أَصَابَتْهُ الْجَنَابَةُ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَكَانَتْ لَيْلَةً بَارِدَةً فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ بِالتَّيَمُّمِ وَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا عَمْرُو: أَصَلَّيْت بِأَصْحَابِك وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} فَضَحِكَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا} فَهَذَا عَمْرُو قَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَى قَتْلِ النَّفْسِ بِلَا مَصْلَحَةٍ مَأْمُورٌ بِهَا هِيَ مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ. وَقَتْلُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَالَ: " {مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "{عَبْدِي بَادَأَنِي بِنَفْسِهِ فَحَرَّمْت عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبْت لَهُ النَّارَ} . وَحَدِيثُ الْقَاتِلِ الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ لَمَّا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ الْجِرَاحُ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَعَلَّهُ بِسُوءِ خَاتِمَتِهِ وَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ

ص: 280

قَتَلَ نَفْسَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ سَمُرَةَ بْن جُنْدَبٍ عَنْ ابْنِهِ لَمَّا أُخْبِرَ أَنَّهُ بُشِمَ فَقَالَ: لَوْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ. فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَصْدِ الْإِنْسَانِ قَتْلَ نَفْسِهِ أَوْ تَسَبُّبِهِ فِي ذَلِكَ وَبَيْنَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْعِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ. وَأَمْوَالَهُمْ لَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} وَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} أَيْ يَبِيعُ نَفْسَهُ. وَالِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ الْمَرْءُ أَوْ يَجِدُهُ أَوْ يَرَاهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِجَهْلِ أَفْسَدَ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ رِضَاهُ أَوْ مَحَبَّتُهُ فِي مُجَرَّدِ عَذَابِ النَّفْسِ وَحَمْلِهَا عَلَى الْمَشَاقِّ حَتَّى يَكُونَ الْعَمَلُ كُلَّمَا كَانَ أَشَقَّ كَانَ أَفْضَلَ كَمَا يَحْسَبُ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا وَلَكِنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْعَمَلِ وَمَصْلَحَتِهِ وَفَائِدَتِهِ،

ص: 281

وَعَلَى قَدْرِ طَاعَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَأَيُّ الْعَمَلَيْنِ كَانَ أَحْسَنَ وَصَاحِبُهُ أَطْوَعَ وَأَتْبَعَ كَانَ أَفْضَلَ. فَإِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَتَفَاضَلُ بِالْكَثْرَةِ. وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِمَا يَحْصُلُ فِي الْقُلُوبِ حَالَ الْعَمَلِ. وَلِهَذَا {لَمَّا نَذَرَتْ أُخْتُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً حَافِيَةً قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِك نَفْسَهَا مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ} . وَرُوِيَ " أَنَّهُ أَمَرَهَا بِالْهَدْيِ " وَرُوِيَ " بِالصَّوْمِ ". وَكَذَا حَدِيثُ جويرية فِي تَسْبِيحِهَا بِالْحَصَى أَوْ النَّوَى وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهَا ضُحًى ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا عَشِيَّةً فَوَجَدَهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ. وَقَوْلُهُ لَهَا: " {لَقَدْ قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْت مُنْذُ الْيَوْمِ لَرَجَحَتْ} . وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا إلَّا بِمَا فِيهِ صَلَاحُنَا وَلَمْ يَنْهَنَا إلَّا عَمَّا فِيهِ فَسَادُنَا؛ وَلِهَذَا يُثْنِي اللَّهُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَيَأْمُرُ بِالصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ وَيَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ. فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَضَرَّةِ وَالْفَسَادِ وَأَمَرَنَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَالصَّلَاحِ لَنَا. وَقَدْ لَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْأَعْمَالُ إلَّا

ص: 282

بِمَشَقَّةِ: كَالْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ فَيَحْتَمِلُ تِلْكَ الْمَشَقَّةَ وَيُثَابُ عَلَيْهَا لِمَا يَعْقُبُهُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ. كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ لَمَّا اعْتَمَرَتْ مِنْ التَّنْعِيمِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك} . وَأَمَّا إذَا كَانَتْ فَائِدَةُ الْعَمَلِ مَنْفَعَةً لَا تُقَاوِمُ مَشَقَّتَهُ فَهَذَا فَسَادٌ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَمِثَالُ ذَلِكَ مَنَافِعُ الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْ تَحَمَّلَ مَشَقَّةً لِرِبْحِ كَثِيرٍ أَوْ دَفْعِ عَدُوٍّ عَظِيمٍ كَانَ هَذَا مَحْمُودًا. وَأَمَّا مَنْ تَحَمَّلَ كُلَفًا عَظِيمَةً وَمَشَّاقًا شَدِيدَةً لِتَحْصِيلِ يَسِيرٍ مِنْ الْمَالِ أَوْ دَفْعِ يَسِيرٍ مِنْ الضَّرَرِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أُعْطِيَ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِيَعْتَاضَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ. أَوْ مَشَى مَسِيرَةَ يَوْمٍ لِيَتَغَدَّى غَدْوَةً يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَغَدَّى خَيْرًا مِنْهَا فِي بَلَدِهِ. فَالْأَمْرُ الْمَشْرُوعُ الْمَسْنُونُ جَمِيعُهُ مَبْنَاهُ عَلَى الْعَدْلِ وَالِاقْتِصَادِ وَالتَّوَسُّطِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ الْأُمُورِ وَأَعْلَاهَا كَالْفِرْدَوْسِ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَمَصِيرُهُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. هَذَا فِي كُلِّ عِبَادَةٍ لَا تُقْصَدُ لِذَاتِهَا مِثْلِ الْجُوعِ وَالسَّهَرِ وَالْمَشْيِ. وَأَمَّا مَا يُقْصَدُ لِنَفْسِهِ مِثْلُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ

ص: 283

وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فَهَذِهِ شُرِعَ فِيهَا الْكَمَالُ لَكِنْ يَقَعُ فِيهَا سَرَفٌ وَعُدْوَانٌ بِإِدْخَالِ مَا لَيْسَ مِنْهَا فِيهَا مِثْلُ أَنْ يُدْخِلَ تَرْكَ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي التَّوَكُّلِ أَوْ يُدْخِلَ اسْتِحْلَالَ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكَ الْمَشْرُوعَاتِ فِي الْمَحَبَّةِ فَهَذَا هَذَا. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ - عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَهُوَ مُعْتَقَلٌ بِالْقَلْعَةِ قَلْعَةِ الْجَبَلِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِمِائَةٍ.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ هَكَذَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " {هِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ} . وَتَكُونُ فِي الْوِتْرِ مِنْهَا. لَكِنَّ الْوِتْرَ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي فَتُطْلَبُ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ.

ص: 284

وَيَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَا بَقِيَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {لِتَاسِعَةٍ تَبْقَى لِسَابِعَةٍ تَبْقَى لِخَامِسَةٍ تَبْقَى لِثَالِثَةٍ تَبْقَى} . فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ يَكُونُ ذَلِكَ لَيَالِيَ الْأَشْفَاعِ. وَتَكُونُ الِاثْنَيْنِ وَالْعِشْرِينَ تَاسِعَةً تَبْقَى وَلَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَابِعَةً تَبْقَى. وَهَكَذَا فَسَّرَهُ أَبُو سَعِيدٍ الخدري فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَهَكَذَا أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّهْرِ. وَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ كَانَ التَّارِيخُ بِالْبَاقِي. كَالتَّارِيخِ الْمَاضِي. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّاهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ جَمِيعِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "{تَحَرَّوْهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ} وَتَكُونُ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ أَكْثَرَ. وَأَكْثَرُ مَا تَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ كَمَا كَانَ أبي بْنُ كَعْبٍ يَحْلِفُ أَنَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. فَقِيلَ لَهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ عَلِمْت ذَلِكَ؟ فَقَالَ بِالْآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ. " {أَخْبَرَنَا أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ صُبْحَةَ صَبِيحَتِهَا كَالطَّشْتِ لَا شُعَاعَ لَهَا} . فَهَذِهِ الْعَلَامَةُ الَّتِي رَوَاهَا أبي بْنُ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 285

مِنْ أَشْهَرِ الْعَلَامَاتِ فِي الْحَدِيثِ وَقَدْ رُوِيَ فِي عَلَامَاتِهَا " {أَنَّهَا لَيْلَةٌ بلجة مُنِيرَةٌ} وَهِيَ سَاكِنَةٌ لَا قَوِيَّةُ الْحَرِّ وَلَا قَوِيَّةُ الْبَرْدِ وَقَدْ يَكْشِفُهَا اللَّهُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي الْمَنَامِ أَوْ الْيَقَظَةِ. فَيَرَى أَنْوَارَهَا أَوْ يَرَى مَنْ يَقُولُ لَهُ هَذِهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَقَدْ يُفْتَحُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْأَمْرُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ " لَيْلَةِ الْقَدْرِ ". وَ " لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟

فَأَجَابَ:

بِأَنَّ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَفْضَلُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيْلَةَ الْقَدْرِ أَفْضَلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمَّةِ فَحَظُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مِنْهَا أَكْمَلُ مِنْ حَظِّهِ مِنْ لَيَالِي الْقَدْرِ. وَحَظُّ الْأُمَّةِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَكْمَلُ مِنْ حَظِّهِمْ مِنْ لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ. وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهَا أَعْظَمُ حَظٍّ. لَكِنَّ الْفَضْلَ وَالشَّرَفَ وَالرُّتْبَةَ الْعُلْيَا إنَّمَا حَصَلَتْ فِيهَا لِمَنْ أُسْرِيَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 286

وَ‌

‌سُئِلَ: (*)

عَنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ. أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟

فَأَجَابَ:

أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ مِنْ رَمَضَانَ وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمُ: وَإِذَا تَأَمَّلَ الْفَاضِلُ اللَّبِيبُ هَذَا الْجَوَابَ. وَجَدَهُ شَافِيًا كَافِيًا فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ فِيهَا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَفِيهَا: يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ. وَأَمَّا لَيَالِي عَشْرِ رَمَضَانَ فَهِيَ لَيَالِي الْإِحْيَاءِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحْيِيهَا كُلَّهَا وَفِيهَا لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. فَمَنْ أَجَابَ بِغَيْرِ هَذَا التَّفْصِيلِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُدْلِيَ بِحُجَّةٍ صَحِيحَةٍ.

قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 203):

هذا السؤال، والجواب، والتعليق، ذكره ابن القيم رحمه الله في (بدائع الفوائد) 3/ 162.

ص: 287

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

أَيُّمَا أَفْضَلُ: يَوْمُ عَرَفَةَ أَوْ الْجُمْعَةِ أَوْ الْفِطَرِ أَوْ النَّحْرِ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ يَوْمُ الْجُمْعَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَأَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" {أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ} لِأَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "{يَوْمُ النَّحْرِ هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} . وَفِيهِ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا لَا يُعْمَلُ فِي غَيْرِهِ: كَالْوُقُوفِ بمزدلفة وَرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا وَالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَإِنَّ فِعْلَ هَذِهِ فِيهِ أَفْضَلُ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 288

وَ‌

‌سُئِلَ: (*)

عَنْ يَوْمِ الْجُمْعَةِ وَيَوْمِ النَّحْرِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟

فَأَجَابَ:

يَوْمُ الْجُمْعَةِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَيَوْمُ النَّحْرِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمُ: وَغَيْرُ هَذَا الْجَوَابِ لَا يَسْلَمُ صَاحِبُهُ مِنْ الِاعْتِرَاضِ الَّذِي لَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ.

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ أَفْضَلِ الْأَيَّامِ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ يَوْمُ الْجُمْعَةِ؛ فِيهِ خُلِقَ آدَمَ. وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا. وَأَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ: يَوْمُ النَّحْرِ كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " {أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ} .

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ أَنَّهُ يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا؛ وَيُفْطِرَ يَوْمًا. وَلَمْ يُرَتِّبْ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يَصُومَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ. وَيُفْطِرَ ثَلَاثَةً أَوْ يُفْطِرَ أَرْبَعَةً وَيَصُومَ ثَلَاثَةً: فَأَيُّهَا أَفْضَلُ؟ أَفْتُونَا يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا انْتَقَلَ مِنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ إلَى صَوْمِ

قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 204):

وهذا السؤال، والجواب، والتعليق، ذكره ابن القيم في (البدائع) أيضاً: 3/ 162.

ص: 289

يَوْمٍ وَفِطْرِ يَوْمٍ فَقَدْ انْتَقَلَ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ. وَفِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْمَفْضُولِ وَصَلَّى فِي الْأَفْضَلِ مِثْلُ أَنْ يَنْذُرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فَيُصَلِّي فِي مَسْجِدِ أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَمَّا وَرَدَ فِي ثَوَابِ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَمَا تَقُولُ فِي الِاعْتِكَافِ فِيهَا وَالصَّمْتِ. هَلْ هُوَ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

أَمَّا تَخْصِيصُ رَجَبٍ وَشَعْبَانَ جَمِيعًا بِالصَّوْمِ أَوْ الِاعْتِكَافِ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ. وَلَا أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ إلَى شَعْبَانَ وَلَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ السَّنَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ أَجْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَأَمَّا صَوْمُ رَجَبٍ بِخُصُوصِهِ فَأَحَادِيثُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بَلْ مَوْضُوعَةٌ لَا يَعْتَمِدُ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا وَلَيْسَتْ مِنْ الضَّعِيفِ الَّذِي يُرْوَى فِي

ص: 290

الْفَضَائِلِ بَلْ عَامَّتُهَا مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ الْمَكْذُوبَاتِ وَأَكْثَرُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا دَخَلَ رَجَبٌ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ} . وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ رَجَبٍ} وَفِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ لَكِنْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَانَ يَضْرِبُ أَيْدِيَ النَّاسِ؛ لِيَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ فِي الطَّعَامِ فِي رَجَبٍ. وَيَقُولُ: لَا تُشَبِّهُوهُ بِرَمَضَانَ. وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَرَأَى أَهْلَهُ قَدْ اشْتَرَوْا كِيزَانًا لِلْمَاءِ وَاسْتَعَدُّوا لِلصَّوْمِ فَقَالَ: " مَا هَذَا فَقَالُوا: رَجَبٌ فَقَالَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تُشَبِّهُوهُ بِرَمَضَانَ؟ وَكَسَرَ تِلْكَ الْكِيزَانَ ". فَمَتَى أَفْطَرَ بَعْضًا لَمْ يُكْرَهْ صَوْمُ الْبَعْضِ. وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ: حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ بِصَوْمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: وَهِيَ رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ. فَهَذَا فِي صَوْمِ الْأَرْبَعَةِ جَمِيعًا لَا مَنْ يُخَصِّصُ رَجَبًا. وَأَمَّا تَخْصِيصُهَا بِالِاعْتِكَافِ فَلَا أَعْلَمَ فِيهِ أَمْرًا بَلْ كُلُّ مَنْ صَامَ صَوْمًا

ص: 291

مَشْرُوعًا وَأَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ مِنْ صِيَامِهِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا بِلَا رَيْبٍ وَإِنْ اعْتَكَفَ بِدُونِ الصِّيَامِ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمِ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ بِدُونِ الصَّوْمِ. كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَمَّا الصَّمْتُ عَنْ الْكَلَامِ مُطْلَقًا فِي الصَّوْمِ أَوْ الِاعْتِكَافِ أَوْ غَيْرِهِمَا فَبِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. لَكِنْ هَلْ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَس فَوَجَدَهَا مُصْمِتَةً لَا تَتَكَلَّمُ فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: إنَّ هَذَا لَا يَحُلُّ إنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقَالَ: مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ} . فَأَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ نَذْرِهِ لِلصَّمْتِ أَنْ يَتَكَلَّمَ كَمَا أَمَرَهُ مَعَ

ص: 292

نَذْرِهِ لِلْقِيَامِ أَنْ يَجْلِسَ وَمَعَ نَذْرِهِ أَلَّا يَسْتَظِلَّ أَنْ يَسْتَظِلَّ. وَإِنَّمَا أَمَرَهُ. بِأَنْ يُوفِيَ بِالصَّوْمِ فَقَطْ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْقُرَبِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِهَا النَّاذِرُ. وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ} . كَذَلِكَ لَا يُؤْمَرُ النَّاذِرُ أَنْ يَفْعَلَهَا فَمَنْ فَعَلَهَا عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ بِهَا وَالتَّقَرُّبِ وَاِتِّخَاذِ ذَلِكَ دِينًا وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ مُخَالِفٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا وَنَحْوَ ذَلِكَ إنَّمَا يَفْعَلُهُ تَدَيُّنًا وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّدَيُّنِ حَرَامٌ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ قُرْبَةً وَيَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَهَذَا حَرَامٌ لَكِنْ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِ الْعِلْمِ إلَيْهِ فَقَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا بِجَهْلِهِ إذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَإِذَا بَلَغَهُ الْعِلْمُ فَعَلَيْهِ التَّوْبَةُ. وَجِمَاعُ الْأَمْرِ فِي الْكَلَامِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "{مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ} فَقَوْلُ الْخَيْرِ وَهُوَ الْوَاجِبُ أَوْ الْمُسْتَحَبُّ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ فَالسُّكُوتُ عَنْهُ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِهِ.

ص: 293

وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لِصَاحِبِهِ: السُّكُوتُ عَنْ الشَّرِّ خَيْرٌ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهِ فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: التَّكَلُّمُ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " {كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ إلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفِ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى} وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِ الصَّمْتِ كَثِيرَةٌ وَكَذَلِكَ فِي فَضَائِلِ التَّكَلُّمِ بِالْخَيْرِ وَالصَّمْتِ عَمَّا يَجِبُ مِنْ الْكَلَامِ حَرَامٌ سَوَاءٌ اتَّخَذَهُ دِينًا أَوْ لَمْ يَتَّخِذْهُ. كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَجِبُ أَنْ تُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتُبْغِضَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتُبِيحَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتُحَرِّمَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.

ص: 294

وَقَالَ رحمه الله:

فَصْلٌ:

قَوْلُ عَائِشَةَ: " {مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ} هَذَا إشَارَةٌ إلَى مُقَامِهِ فِي الْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ كَانَ يَعْتَكِفُ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ مَرَّةً فَطَلَبَ نِسَاؤُهُ الِاعْتِكَافَ مَعَهُ فَرَأَى أَنَّ مَقْصُودَ بَعْضِهِنَّ الْمُبَاهَاةُ فَأَمَرَ بِالْخِيَامِ فَقُوِّضَتْ وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ ذَلِكَ الْعَامَ حَتَّى قَضَاهُ مِنْ شَوَّالٍ. وَهُوَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَصُمْ رَمَضَانَ إلَّا تِسْعَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ فُرِضَ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِنْ الْهِجْرَةِ بَعْدَ أَنْ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ السَّنَةِ الْأُولَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَاشُورَاءُ فَلَمْ يَأْمُرْ ذَلِكَ الْعَامَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا أَهَلَّ الْعَامُ الثَّانِي أَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ وَهَلْ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ

ص: 295

اسْتِحْبَابٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ اُبْتُدِئَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ - رَجَبٍ أَوْ غَيْرِهِ - فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ وَغَزَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ذَلِكَ الْعَامَ - أَوَّلُ شَهْرٍ فُرِضَ - غَزْوَةَ بَدْرٍ وَكَانَتْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لسبع عَشَرَةَ خَلَتْ مِنْ الشَّهْرِ فَلَمَّا نَصَرَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ ثَلَاثًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْعَشْرُ وَهُوَ فِي السَّفَرِ فَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْعَشْرِ إلَّا أَقَلُّهُ فَلَمْ يَعْتَكِفْ ذَلِكَ الْعَشْرَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ فِي تَمَامِهِ مَشْغُولًا بِأَمْرِ الْأَسْرَى وَالْفِدَاءِ. وَلَمَّا شَاوَرَهُمْ فِي الْفِدَاءِ قَامَ فَدَخَلَ بَيْتَهُ ثُمَّ خَرَجَ. وَأَحْوَالُهُ الْمَنْقُولَةُ عَنْهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْتَكِفْ تَمَامَ ذَلِكَ الْعَشْرِ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنَّهُ قَضَى اعْتِكَافَهُ كَمَا قَضَى صِيَامَهُ وَكَمَا قَضَى اعْتِكَافَ الْعَامِ الَّذِي أَرَادَ نِسَاؤُهُ الِاعْتِكَافَ مَعَهُ فِيهِ فَهَذَا عَامُ بَدْرٍ. وَأَيْضًا فَعَامُ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ كَانَ قَدْ سَافَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَدَخَلَ مَكَّةَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ أَقَلُّهُ وَهُوَ فِي مَكَّةَ مُشْتَغِلٌ بِآثَارِ الْفَتْحِ وَتَسْرِيَةِ السَّرَايَا إلَى مَا حَوْلَ مَكَّةَ وَتَقْرِيرِ أُصُولِ

ص: 296

الْإِسْلَامِ بِأُمِّ الْقُرَى وَالتَّجَهُّزِ لِغَزْوِ هَوَازِنَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُمْ قَدْ جَمَعُوا لَهُ مَعَ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النضري. وَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ تِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلَاةَ. قَالُوا: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَجْمَعَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ لِأَجْلِ غَزْوِ هَوَازِنَ فَكَانَ مُسَافِرًا فِيهَا غَيْرَ مُتَفَرِّغٍ لِلِاعْتِكَافِ بِمَكَّةَ ذَلِكَ الْعَامِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَعْوَامٍ لَمْ يَعْتَكِفْ فِيهَا فِي رَمَضَانَ بَلْ قَضَى الْعَامَ الْوَاحِدَ الَّذِي أَرَادَ اعْتِكَافَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ وَأَمَّا الْآخَرَانِ - فَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَقَضَاهُمَا مَعَ الصَّوْمِ أَمْ لَمْ يَقْضِهَا مَعَ شَطْرِ الصَّلَاةِ. فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " {إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ} وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "{إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ} أَيْ الصَّوْمَ أَدَاءً وَالشَّطْرَ أَدَاءً وَقَضَاءً فَالِاعْتِكَافُ مُلْحَقٌ بِأَحَدِهِمَا. وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى اعْتِكَافًا فَاتَهُ فِي السَّفَرِ فَلَا يَثْبُتُ الْجَوَازُ إلَّا أَنَّهُ لِعُمُومِ حَدِيثِ عَائِشَةَ يَبْقَى فِيهِ إمْكَانٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 297

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ يَعْمَلُ كُلَّ سَنَةٍ خَتْمَةً فِي لَيْلَةِ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَلْ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، جَمْعُ النَّاسِ لِلطَّعَامِ فِي الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ سُنَّةٌ وَهُوَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُسْلِمِينَ وَإِعَانَةُ الْفُقَرَاءِ بِالْإِطْعَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ هُوَ مِنْ سُنَنِ الْإِسْلَامِ. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ} وَإِعْطَاءُ فُقَرَاءِ الْقُرَّاءِ مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى الْقُرْآنِ عَمَلٌ صَالِحٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَانَ شَرِيكَهُمْ فِي الْأَجْرِ. وَأَمَّا اتِّخَاذُ مَوْسِمٍ غَيْرِ الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ كَبَعْضِ لَيَالِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ الَّتِي يُقَالُ: إنَّهَا لَيْلَةُ الْمَوْلِدِ أَوْ بَعْضِ لَيَالِيِ رَجَبٍ أَوْ ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ أَوَّلِ جُمْعَةٍ مِنْ رَجَبٍ أَوْ ثَامِنِ شَوَّالٍ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْجُهَّالُ عِيدَ الْأَبْرَارِ فَإِنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَسْتَحِبَّهَا السَّلَفُ وَلَمْ يَفْعَلُوهَا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 298

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

عَمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ الْكُحْلِ وَالِاغْتِسَالِ وَالْحِنَّاءِ. وَالْمُصَافَحَةِ وَطَبْخِ الْحُبُوبِ وَإِظْهَارِ السُّرُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَى الشَّارِعِ: فَهَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ صَحِيحٌ؟ أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ فِعْلُ ذَلِكَ بِدْعَةً أَمْ لَا؟ وَمَا تَفْعَلُهُ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مِنْ الْمَأْتَمِ وَالْحُزْنِ وَالْعَطَشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ وَقِرَاءَةِ الْمَصْرُوعِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ. هَلْ لِذَلِكَ أَصْلٌ؟ أَمْ لَا؟.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. لَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ. وَلَا رَوَى أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ. فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا لَا فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ

ص: 299

وَلَا فِي السُّنَنِ وَلَا الْمَسَانِيدِ وَلَا يُعْرَفُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى عَهْدِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ. وَلَكِنْ رَوَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ مِثْلَ مَا رَوَوْا أَنَّ مَنْ اكْتَحَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَرْمَدْ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ وَمَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَمْرَضْ ذَلِكَ الْعَامَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَرَوَوْا فَضَائِلَ فِي صَلَاةِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَرَوَوْا أَنَّ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ تَوْبَةَ آدَمَ وَاسْتِوَاءَ السَّفِينَةِ عَلَى الْجُودِيِّ وَرَدَّ يُوسُفُ عَلَى يَعْقُوبَ وَإِنْجَاءَ إبْرَاهِيمَ مِنْ النَّارِ وَفِدَاءَ الذَّبِيح بِالْكَبْشِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَرَوَوْا فِي حَدِيثٍ مَوْضُوعٍ مَكْذُوبٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ السَّنَةِ} . وَرِوَايَةُ هَذَا كُلِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذِبٌ وَلَكِنَّهُ مَعْرُوفٌ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: {بَلَغَنَا أَنَّهُ مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ} وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ كَانَ فِيهِمْ طَائِفَتَانِ:

ص: 300

طَائِفَةٌ رَافِضَةٌ يُظْهِرُونَ مُوَالَاةَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ إمَّا مَلَاحِدَةٌ زَنَادِقَةٌ وَإِمَّا جُهَّالٌ وَأَصْحَابُ هَوًى. وَطَائِفَةٌ نَاصِبَةٌ تُبْغِضُ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ لَمَّا جَرَى مِنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ مَا جَرَى. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {سَيَكُونُ فِي ثَقِيفَ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ} فَكَانَ الْكَذَّابُ هُوَ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيَّ وَكَانَ يُظْهِرُ مُوَالَاةَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالِانْتِصَارَ لَهُمْ وَقَتَلَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ أَمِيرَ الْعِرَاقِ الَّذِي جَهَّزَ السَّرِيَّةَ الَّتِي قَتَلَتْ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنهما ثُمَّ إنَّهُ أَظْهَرَ الْكَذِبَ وَادَّعَى النُّبُوَّةَ. وَأَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام يَنْزِلُ عَلَيْهِ حَتَّى قَالُوا لِابْنِ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ. قَالُوا لِأَحَدِهِمَا: إنَّ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُنَزَّلُ عَلَيْهِ فَقَالَ صَدَقَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} وَقَالُوا لِلْآخَرِ: إنَّ الْمُخْتَارَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ فَقَالَ صَدَقَ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} . وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَهُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ وَكَانَ: مُنْحَرِفًا عَنْ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ فَكَانَ هَذَا مِنْ النَّوَاصِبِ وَالْأَوَّلُ مِنْ الرَّوَافِضِ وَهَذَا

ص: 301

الرافضي كَانَ: أَعْظَمَ كَذِبًا وَافْتِرَاءً وَإِلْحَادًا فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَذَاكَ كَانَ أَعْظَمَ عُقُوبَةً لِمَنْ خَرَجَ عَلَى سُلْطَانِهِ وَانْتِقَامًا لِمَنْ اتَّهَمَهُ بِمَعْصِيَةِ أَمِيرِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَكَانَ فِي الْكُوفَةِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِتَنٌ وَقِتَالٌ فَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما يَوْمَ عَاشُورَاءَ قَتَلَتْهُ الطَّائِفَةُ الظَّالِمَةُ الْبَاغِيَةُ وَأَكْرَمَ اللَّهُ الْحُسَيْنَ بِالشَّهَادَةِ كَمَا أَكْرَمَ بِهَا مَنْ أَكْرَمَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. أَكْرَمَ بِهَا حَمْزَةَ وَجَعْفَرًا وَأَبَاهُ عَلِيًّا وَغَيْرَهُمْ وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ مِمَّا رَفَعَ اللَّهُ بِهَا مَنْزِلَتَهُ وَأَعْلَى دَرَجَتَهُ فَإِنَّهُ هُوَ وَأَخُوهُ الْحَسَنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْمَنَازِلُ الْعَالِيَةُ لَا تُنَالُ إلَّا بِالْبَلَاءِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً فَقَالَ: {الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ. يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ وَلَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. فَكَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ قَدْ سَبَقَ لَهُمَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مَا سَبَقَ مِنْ الْمَنْزِلَةِ الْعَالِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ حَصَلَ لَهُمَا مِنْ الْبَلَاءِ مَا حَصَلَ لِسَلَفِهِمَا الطَّيِّبِ فَإِنَّهُمَا وُلِدَا فِي عِزِّ الْإِسْلَامِ وَتَرَبَّيَا فِي عِزٍّ وَكَرَامَةٍ وَالْمُسْلِمُونَ يُعَظِّمُونَهُمَا وَيُكْرِمُونَهُمَا وَمَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَسْتَكْمِلَا سِنَّ التَّمْيِيزِ

ص: 302

فَكَانَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا أَنْ ابْتَلَاهُمَا بِمَا يُلْحِقُهُمَا بِأَهْلِ بَيْتِهِمَا كَمَا ابْتَلَى مَنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُمَا فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَفْضَلُ مِنْهُمَا وَقَدْ قُتِلَ شَهِيدًا وَكَانَ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ مِمَّا ثَارَتْ بِهِ الْفِتَنُ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا كَانَ مَقْتَلُ عُثْمَانَ رضي الله عنه مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَوْجَبَتْ الْفِتَنَ بَيْنَ النَّاسِ وَبِسَبَبِهِ تَفَرَّقَتْ الْأُمَّةُ إلَى الْيَوْمِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ {ثَلَاثٌ مَنْ نَجَا مِنْهُنَّ فَقَدْ نَجَا: مَوْتِي وَقَتْلُ خَلِيفَةٍ مُضْطَهِدٍ وَالدَّجَّالُ} . فَكَانَ مَوْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي افْتَتَنَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ فَأَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى الصِّدِّيقَ رضي الله عنه حَتَّى ثَبَّتَ اللَّهُ بِهِ الْإِيمَانَ وَأَعَادَ بِهِ الْأَمْرَ إلَى مَا كَانَ فَأَدْخَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ فِي الْبَابِ الَّذِي مِنْهُ خَرَجُوا وَأَقَرَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ عَلَى الدِّينِ الَّذِي وَلَجُوا فِيهِ وَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْجِهَادِ وَالشِّدَّةِ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَاللِّينِ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَا اسْتَحَقَّ بِهِ وَبِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ فَقَهَرَ الْكُفَّارَ مِنْ الْمَجُوسِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَمَصَّرَ الْأَمْصَارَ وَفَرَضَ الْعَطَاءَ وَوَضَعَ الدِّيوَانَ وَنَشَرَ الْعَدْلَ وَأَقَامَ السُّنَّةَ وَظَهَرَ الْإِسْلَامُ فِي أَيَّامِهِ ظُهُورًا بَانَ بِهِ تَصْدِيقُ قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى

ص: 303

الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} وقَوْله تَعَالَى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ. وَاَلَّذِي. نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا. فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَكَانَ عُمَرَ رضي الله عنه هُوَ الَّذِي أَنْفَقَ كُنُوزَهُمَا. فَعُلِمَ أَنَّهُ أَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنَّهُ كَانَ خَلِيفَةً رَاشِدًا مَهْدِيًّا ثُمَّ جَعَلَ الْأَمْرَ شُورَى فِي سِتَّةٍ فَاتَّفَقَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانِ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ بَذَلَهَا لَهُمْ وَلَا رَهْبَةٍ أَخَافَهُمْ بِهَا وَبَايَعُوهُ بِأَجْمَعِهِمْ طَائِعِينَ غَيْرَ كَارِهِينَ وَجَرَى فِي آخِرِ أَيَّامِهِ أَسْبَابٌ ظَهَرَ بِالشَّرِّ فِيهَا (عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ (أَهْلُ الْجَهْلِ وَالْعُدْوَانِ وَمَا زَالُوا يَسْعَوْنَ فِي الْفِتَنِ حَتَّى قُتِلَ الْخَلِيفَةُ مَظْلُومًا شَهِيدًا بِغَيْرِ سَبَبٍ يُبِيحُ قَتْلَهُ وَهُوَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ لَمْ يُقَاتِلْ مُسْلِمًا. فَلَمَّا قُتِلَ رضي الله عنه تَفَرَّقَتْ الْقُلُوبُ وَعَظُمَتْ الْكُرُوبُ وَظَهَرَتْ الْأَشْرَارُ وَذَلَّ الْأَخْيَارُ وَسَعَى فِي الْفِتْنَةِ مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهَا وَعَجَزَ عَنْ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ مَنْ كَانَ يُحِبُّ إقَامَتَهُ فَبَايَعُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَهُوَ أَحَقّ النَّاسِ بِالْخِلَافَةِ حِينَئِذٍ

ص: 304

وَأَفْضَلُ مَنْ بَقِيَ لَكِنْ كَانَتْ الْقُلُوبُ مُتَفَرِّقَةً وَنَارُ الْفِتْنَةِ مُتَوَقِّدَةً فَلَمْ تَتَّفِقْ الْكَلِمَةُ وَلَمْ تَنْتَظِمْ الْجَمَاعَةُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ الْخَلِيفَةُ وَخِيَارُ الْأُمَّةِ مِنْ كُلِّ مَا يُرِيدُونَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَدَخَلَ فِي الْفُرْقَةِ وَالْفِتْنَةِ أَقْوَامٌ وَكَانَ مَا كَانَ إلَى أَنْ ظَهَرَتْ الحرورية الْمَارِقَةُ مَعَ كَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ فَقَاتَلُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا وَمَنْ مَعَهُ؛ فَقَتَلَهُمْ بِأَمْرِ اللَّه وَرَسُولِهِ طَاعَةً لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: {يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . وَقَوْلِهِ: {تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَكَانَتْ هَذِهِ الحرورية هِيَ الْمَارِقَةَ وَكَانَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فُرْقَةٌ وَالْقِتَالُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} فَبَيَّنَ سبحانه وتعالى أَنَّهُمْ مَعَ الِاقْتِتَالِ وَبَغْيِ بَعْضِهِمْ

ص: 305

عَلَى بَعْضٍ مُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ وَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ. فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ قُوتِلَتْ الْبَاغِيَةُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالِاقْتِتَالِ ابْتِدَاءً. وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَارِقَةَ يَقْتُلُهَا أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُ هُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوهُمْ. فَدَلَّ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّهُمْ أَدْنَى إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ مَعَهُ مَعَ إيمَانِ الطَّائِفَتَيْنِ. ثُمَّ إنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُلْجَمٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَارِقِينَ قَتَلَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا فَصَارَ إلَى كَرَامَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ شَهِيدًا وَبَايَعَ الصَّحَابَةُ لِلْحَسَنِ ابْنِهِ فَظَهَرَتْ فَضِيلَتُهُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَيْثُ قَالَ: {إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} فَنَزَلَ عَنْ الْوِلَايَةِ وَأَصْلَحَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَكَانَ هَذَا مِمَّا مَدَحَهُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمَا مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَحْمَدُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. ثُمَّ إنَّهُ مَاتَ وَصَارَ إلَى كَرَامَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَقَامَتْ طَوَائِفُ كَاتَبُوا الْحُسَيْنَ وَوَعَدُوهُ بِالنَّصْرِ وَالْمُعَاوَنَةِ إذَا قَامَ بِالْأَمْرِ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ

ص: 306

ذَلِكَ بَلْ لَمَّا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ ابْنَ عَمِّهِ أَخْلَفُوا وَعْدَهُ. وَنَقَضُوا عَهْدَهُ وَأَعَانُوا عَلَيْهِ مَنْ وَعَدُوهُ أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْهُ وَيُقَاتِلُوهُ مَعَهُ. وَكَانَ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَحَبَّةِ لِلْحُسَيْنِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا أَشَارُوا عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَذْهَبَ إلَيْهِمْ وَلَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ وَرَأَوْا أَنَّ خُرُوجَهُ إلَيْهِمْ لَيْسَ بِمَصْلَحَةِ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَسُرُّ وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. فَلَمَّا خَرَجَ الْحُسَيْنُ رضي الله عنه وَرَأَى أَنَّ الْأُمُورَ قَدْ تَغَيَّرَتْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَدَعُوهُ يَرْجِعُ أَوْ يَلْحَقُ بِبَعْضِ الثُّغُورِ أَوْ يَلْحَقُ بِابْنِ عَمِّهِ يَزِيدَ فَمَنَعُوهُ هَذَا وَهَذَا. حَتَّى يُسْتَأْسَرَ وَقَاتِلُوهُ فَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ. وَطَائِفَةٌ مِمَّنْ مَعَهُ مَظْلُومًا شَهِيدًا شَهَادَةً أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهَا وَأَلْحَقَهُ بِأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ. وَأَهَانَ بِهَا مَنْ ظَلَمَهُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ وَأَوْجَبَ ذَلِكَ شَرًّا بَيْنَ النَّاسِ. فَصَارَتْ طَائِفَة جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ: إمَّا مُلْحِدَةً مُنَافِقَةً وَإِمَّا ضَالَّةً غَاوِيَةً تُظْهِرُ مُوَالَاتَهُ وَمُوَالَاةَ أَهْلِ بَيْتِهِ تَتَّخِذُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ مَأْتَمٍ وَحُزْنٍ وَنِيَاحَةٍ وَتُظْهِرُ فِيهِ شِعَارَ الْجَاهِلِيَّةِ مَنْ لَطْمِ الْخُدُودِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَالتَّعَزِّي بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ.

ص: 307

وَاَلَّذِي أَمَرَ اللَّه بِهِ وَرَسُولُهُ فِي الْمُصِيبَةِ - إذَا كَانَتْ جَدِيدَةً - إنَّمَا هُوَ الصَّبْرُ وَالِاحْتِسَابُ وَالِاسْتِرْجَاعُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} {الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ} وَقَالَ: {أَنَا بَرِيءٌ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ} وَقَالَ: {النَّائِحَةُ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطْرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ} . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهَا الْحُسَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ رَجُلٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةِ فَيَذْكُرُ مُصِيبَتَهُ وَإِنْ قَدُمَتْ فَيُحْدِثُ لَهَا اسْتِرْجَاعًا إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلَ أَجْرِهِ يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا} . وَهَذَا مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ مُصِيبَةَ الْحُسَيْنِ وَغَيْرِهِ إذَا ذُكِرَتْ بَعْدَ طُولِ الْعَهْدِ فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَرْجِعَ فِيهَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِيُعْطَى مِنْ الْأَجْرِ مِثْلَ أَجْرِ الْمُصَابِ يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا. وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ عِنْدَ حَدَثَانِ الْعَهْدِ

ص: 308

بِالْمُصِيبَةِ فَكَيْفَ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ فَكَانَ مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لِأَهْلِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ مِنْ اتِّخَاذِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَأْتَمًا وَمَا يَصْنَعُونَ فِيهِ مِنْ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ وَإِنْشَادِ قَصَائِدِ الْحُزْنِ وَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا كَذِبٌ كَثِيرٌ وَالصِّدْقُ فِيهَا لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَجْدِيدُ الْحُزْنِ وَالتَّعَصُّبُ وَإِثَارَةُ الشَّحْنَاءِ وَالْحَرْبِ وَإِلْقَاءُ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ وَالتَّوَسُّلُ بِذَلِكَ إلَى سَبِّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَكَثْرَةِ الْكَذِبِ وَالْفِتَنِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَعْرِفْ طَوَائِفُ الْإِسْلَامِ أَكْثَرَ كَذِبًا وَفِتَنًا وَمُعَاوَنَةً لِلْكُفَّارِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَة الضَّالَّةِ الْغَاوِيَةِ فَإِنَّهُمْ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ. وَأُولَئِكَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ} . وَهَؤُلَاءِ يُعَاوِنُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَعَانُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ التُّرْكِ وَالتَّتَارِ عَلَى مَا فَعَلُوهُ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا بِأَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَمَعْدِنِ الرِّسَالَةِ وَلَدِ الْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَخَرَابِ الدِّيَارِ. وَشَرُّ هَؤُلَاءِ وَضَرَرُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا يُحْصِيهِ الرَّجُلُ الْفَصِيحُ فِي الْكَلَامِ. فَعَارَضَ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ إمَّا مِنْ النَّوَاصِبِ الْمُتَعَصِّبِينَ عَلَى الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ

ص: 309

بَيْتِهِ وَإِمَّا مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ قَابَلُوا الْفَاسِدَ بِالْفَاسِدِ وَالْكَذِبَ بِالْكَذِبِ وَالشَّرَّ بِالشَّرِّ وَالْبِدْعَةَ بِالْبِدْعَةِ فَوَضَعُوا الْآثَارَ فِي شَعَائِرِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَالِاكْتِحَالِ وَالِاخْتِضَابِ وَتَوْسِيعِ النَّفَقَاتِ عَلَى الْعِيَالِ وَطَبْخِ الْأَطْعِمَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْأَعْيَادِ وَالْمَوَاسِمِ فَصَارَ هَؤُلَاءِ يَتَّخِذُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مَوْسِمًا كَمَوَاسِمِ الْأَعْيَادِ وَالْأَفْرَاحِ. وَأُولَئِكَ يَتَّخِذُونَهُ مَأْتَمًا يُقِيمُونَ فِيهِ الْأَحْزَانَ وَالْأَتْرَاحَ وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ السُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ أُولَئِكَ أَسْوَأَ قَصْدًا وَأَعْظَمَ جَهْلًا وَأَظْهَرَ ظُلْمًا لَكِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ. فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} . وَلَمْ يَسُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا شَعَائِرِ الْحُزْنِ وَالتَّرَحِ وَلَا شَعَائِرِ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ وَلَكِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: {مَا هَذَا؟ فَقَالُوا هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى مِنْ الْغَرَقِ فَنَحْنُ نَصُومُهُ فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ

ص: 310

بِمُوسَى مِنْكُمْ. فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ} وَكَانَتْ قُرَيْشٌ أَيْضًا تُعَظِّمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَالْيَوْمُ الَّذِي أَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ كَانَ يَوْمًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ثُمَّ فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ ذَلِكَ الْعَامَ فَنُسِخَ صَوْمُ عَاشُورَاءَ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ كَانَ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاجِبًا؟ أَوْ مُسْتَحَبًّا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَصُومُهُ مَنْ يَصُومُهُ اسْتِحْبَابًا وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَامَّةَ بِصِيَامِهِ بَلْ كَانَ يَقُولُ: {هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَأَنَا صَائِمٌ فِيهِ فَمَنْ شَاءَ صَامَ} . وَقَالَ: {صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سِنَةً وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ} . وَلَمَّا كَانَ آخِرُ عُمْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَبَلَغَهُ أَنَّ الْيَهُودَ يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا قَالَ: {لَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَن التَّاسِعَ} لِيُخَالِفَ الْيَهُودَ وَلَا يُشَابِهَهُمْ فِي اتِّخَاذِهِ عِيدًا وَكَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يَصُومُهُ وَلَا يَسْتَحِبُّ صَوْمَهُ؛ بَلْ يَكْرَهُ إفْرَادَهُ بِالصَّوْمِ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَة مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ صَوْمَهُ.

ص: 311

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَامَهُ أَنْ يَصُومَ مَعَهُ التَّاسِعَ؛ لِأَنَّ هَذَا آخَرُ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ: {لَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَن التَّاسِعَ مَعَ الْعَاشِرِ} كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ فَهَذَا الَّذِي سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا سَائِر الْأُمُورِ: مِثْلُ اتِّخَاذِ طَعَامٍ خَارِجٍ عَنْ الْعَادَةِ إمَّا حُبُوبٍ وَإِمَّا غَيْرِ حُبُوبٍ أَوْ فِي تَجْدِيدِ لِبَاسٍ أَوْ تَوْسِيعِ نَفَقَةٍ أَوْ اشْتِرَاءِ حَوَائِجَ الْعَامِ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَوْ فِعْلُ عِبَادَةٍ مُخْتَصَّةٍ. كَصَلَاةِ مُخْتَصَّةٍ بِهِ أَوْ قَصْدُ الذَّبْحِ أَوْ ادِّخَارُ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ لِيَطْبُخَ بِهَا الْحُبُوبَ أَوْ الِاكْتِحَالُ أَوْ الِاخْتِضَابُ أَوْ الِاغْتِسَالُ أَوْ التَّصَافُحُ أَوْ التَّزَاوُرُ أَوْ زِيَارَةُ الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي لَمْ يَسُنُّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ وَلَا اسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا مَالِكٌ وَلَا الثَّوْرِيُّ وَلَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا الأوزاعي وَلَا الشَّافِعِيِّ وَلَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَلَا إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَلَا أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ قَدْ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِبَعْضِ ذَلِكَ وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ وَآثَارًا وَيَقُولُونَ: " إنَّ بَعْضَ ذَلِكَ صَحِيحٌ فَهُمْ مُخْطِئُونَ غَالَطُونِ بِلَا رَيْبٍ عِنْدَ أَهْلِ

ص: 312

الْمَعْرِفَةِ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ. وَقَدْ قَالَ حَرْبٌ الكرماني فِي مَسَائِلِهِ: سُئِلَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ: {مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ} فِلْم يَرَهُ شَيْئًا. وَأَعْلَى مَا عِنْدَهُمْ أَثَرٌ يُرْوَى عَنْ إبْرَاهِيمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنَا {أَنَّهُ مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِر سَنَتِهِ} قَالَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة جَرَّبْنَاهُ مُنْذُ سِتِّينَ عَامًا فَوَجَدْنَاهُ صَحِيحًا وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ مِمَّنْ سَمِعَ هَذَا وَلَا عَمَّنْ بَلَغَهُ فَلَعَلَّ الَّذِي قَالَ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُقَابِلُوا الرَّافِضَةَ بِالْكَذِبِ: مُقَابَلَةَ الْفَاسِدِ بِالْفَاسِدِ وَالْبِدْعَةِ بِالْبِدْعَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُيَيْنَة. فَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِرِزْقِهِ وَلَيْسَ فِي إنْعَامِ اللَّهِ بِذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ كَانَ التَّوْسِيعَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى مَنْ هُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَلَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ أَنْ يُوَسِّعُوا عَلَى أَهْلِيهِمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ بِخُصُوصِهِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ كَثِيرً مِنْ النَّاسِ يَنْذُرُونَ نَذْرًا لِحَاجَةِ يَطْلُبُهَا فَيَقْضِي اللَّهُ حَاجَتَهُ فَيَظُنُّ أَنَّ النَّذْرَ كَانَ السَّبَبَ وَقَدْ ثَبَتَ

ص: 313

فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ {نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ} فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ حَاجَتَهُ إنَّمَا قُضِيَتْ بِالنَّذْرِ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنَّاسُ مَأْمُورُونَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتِّبَاعِ دِينِهِ وَسَبِيلِهِ وَاقْتِفَاءِ هُدَاهُ وَدَلِيلِهِ وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى مَا عَظُمَتْ بِهِ النِّعْمَةُ حَيْثُ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. {إنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ؛ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ لَمْ يُتَّبَعْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ رَأَى مِنْ رَجُلٍ مُكَاشَفَةً أَوْ تَأْثِيرًا فَاتَّبَعَهُ فِي خِلَافِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ مِنْ جِنْسِ أَتْبَاعِ الدَّجَّالِ فَإِنَّ الدَّجَّالَ يَقُولُ لِلسَّمَاءِ: أَمْطِرِي فَتُمْطِرُ وَيَقُولُ لِلْأَرْضِ: أَنْبِتِي فَتُنْبِتُ وَيَقُولُ لِلْخَرِبَةِ أَخْرِجِي كُنُوزَك فَيَخْرُجُ مَعَهُ كُنُوزُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَيَقْتُلُ رَجُلًا ثُمَّ يَأْمُرُهُ أَنْ يَقُومَ فَيَقُومُ وَهُوَ مَعَ هَذَا كَافِرٌ مَلْعُونٌ عَدُوٌّ لِلَّهِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا قَدْ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ: وَأَنَا أُنْذِرُكُمُوهُ إنَّهُ أَعْوَرُ

ص: 314

وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ - ك ف ر - يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ قَارِئٌ وَغَيْرُ قَارِئٍ وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ} . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ} . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم {لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم {يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ كَذَّابُونَ دَجَّالُونَ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ} . وَهَؤُلَاءِ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ وَتُوحِي إلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} وَمِنْ أَوَّلِ مَنْ ظَهَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ. وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ: كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَوَّى بَيْنَ مُحَمَّدِ رَسُولِ اللَّهِ وَبَيْنَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ فَإِنَّ مُسَيْلِمَةَ كَانَ لَهُ شَيْطَانٌ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَيُوحِي إلَيْهِ.

ص: 315

وَمِنْ عَلَامَاتِ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأَحْوَالَ إذَا تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمْ وَقْتَ سَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ أَزْبَدُوا وَأَرْعَدُوا - كَالْمَصْرُوعِ - وَتَكَلَّمُوا بِكَلَامِ لَا يُفْقَهُ مَعْنَاهُ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَتَكَلَّمُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ كَمَا تَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنْ يَعْلَمَ الرَّجُلُ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ الَّذِينَ نَعَتَهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا كَانَ لِلَّهِ وَلِيًّا. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَمْ يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا. فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ولَإِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ. وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ عَلَى أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَأَنْ

ص: 316

نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَ لَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ. قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ الْمَسْنُونُ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا. وَلِهَذَا كَانَتْ أُصُولُ الْإِسْلَامِ تَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ: قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئِ مَا نَوَى} وَقَوْلُهُ: {مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ} . وَقَوْلُهُ: {الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

ص: 317

وَسُئِلَ:

عَمَّا فِي الْخَمِيسِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْبِدَعِ

فَأَجَابَ:

أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ سَوَّلَ لِكَثِيرٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ فِي أَوَاخِرِ صَوْمِ النَّصَارَى وَهُوَ الْخَمِيسُ الْحَقِيرُ مِنْ الْهَدَايَا وَالْأَفْرَاحِ وَالنَّفَقَاتِ وَكُسْوَةِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَصِيرُ بِهِ مِثْلَ عِيدِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا الْخَمِيسُ الَّذِي يَكُونُ فِي آخِرِ صَوْمِ النَّصَارَى: فَجَمِيعُ مَا يُحْدِثُهُ الْإِنْسَانُ فِيهِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ فَمِنْ ذَلِكَ خُرُوجُ النِّسَاءِ وَتَبْخِيرُ الْقُبُورِ وَوَضْعُ الثِّيَابِ عَلَى السَّطْحِ وَكِتَابَةُ الْوَرَقِ وَإِلْصَاقُهَا بِالْأَبْوَابِ وَاِتِّخَاذُهُ مَوْسِمًا لِبَيْعِ الْخُمُورِ وَشِرَائِهَا وَرَقْيُ الْبَخُورِ مُطْلَقًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ قَصْدُ شِرَاءِ الْبَخُورِ الْمَرْقِيِّ فَإِنَّ رَقْيَ الْبَخُورِ وَاِتِّخَاذَهُ قُرْبَانًا هُوَ دِينُ النَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ. وَإِنَّمَا الْبَخُورُ طِيبٌ يُتَطَيَّبُ بِدُخَانِهِ كَمَا يُتَطَيَّبُ بِسَائِرِ الطِّيبِ وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُهُ بِطَبْخِ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صَبْغِ الْبِيضِ.

ص: 318

وَأَمَّا الْقِمَارُ بِالْبَيْضِ وَبَيْعُهُ لِمَنْ يُقَامِرُ بِهِ أَوْ شِرَاؤُهُ مِنْ الْمُقَامِرِينَ فَحُكْمُهُ ظَاهِرٌ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ مِنْ أَخْذِ وَرَقِ الزَّيْتُونِ أَوْ الِاغْتِسَالِ بِمَائِهِ فَإِنَّ أَصْلَ ذَلِكَ مَاءُ الْمَعْمُودِيَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا تَرْكُ الْوَظَائِفِ الرَّاتِبَةِ مِنْ الصَّنَائِعِ وَالتِّجَارَاتِ أَوْ حِلَقِ الْعِلْمِ فِي أَيَّامِ عِيدِهِمْ وَاِتِّخَاذُهُ يَوْمَ رَاحَةٍ وَفَرْحَةٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَاهُمْ عَنْ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانُوا يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الذَّبْحِ بِالْمَكَانِ إذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ فِيهِ وَيَفْعَلُونَ أُمُورًا يَقْشَعِرُّ مِنْهَا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ - بَلْ يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ وَيُنْكِرُ الْمُنْكَرَ - كَمَا لَا يَتَشَبَّهُ بِهِمْ فَلَا يُعَانُ الْمُسْلِمُ الْمُتَشَبِّهُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ بَلْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ. فَمَنْ صَنَعَ دَعْوَةً مُخَالِفَةً لِلْعَادَةِ فِي أَعْيَادِهِمْ لَمْ تَجِبْ دَعْوَتُهُ وَمَنْ أَهْدَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ هَدِيَّةً فِي هَذِهِ الْأَعْيَادِ مُخَالِفَةٌ لِلْعَادَةِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ لَمْ تُقْبَلْ هَدِيَّتُهُ خُصُوصًا إنْ كَانَتْ الْهَدِيَّةُ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى التَّشَبُّهِ بِهِمْ مِثْلَ إهْدَاءِ الشَّمْعِ وَنَحْوِهِ فِي الْمِيلَادِ وَإِهْدَاءِ الْبَيْضِ وَاللَّبَنِ وَالْغَنَمِ فِي الْخَمِيسِ الصَّغِيرِ الَّذِي فِي آخِرِ صَوْمِهِمْ وَهُوَ الْخَمِيسُ الْحَقِيرُ. وَلَا

ص: 319

يُبَايِعُ الْمُسْلِمُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مُشَابَهَتِهِمْ فِي الْعِيدِ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْبَخُورِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إعَانَةً عَلَى الْمُنْكَرِ.

وَقَالَ الشَّيْخُ رضي الله عنه:

وَنَذْكُرُ أَشْيَاءَ مِنْ مُنْكَرَاتِ دِينِ النَّصَارَى لِمَا رَأَيْت طَوَائِفَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ اُبْتُلِيَ بِبَعْضِهَا وَجَهِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّهَا مِنْ دِينِ النَّصَارَى الْمَلْعُونِ هُوَ وَأَهْلُهُ. وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فِي الْخَمِيسِ الْحَقِيرِ. الَّذِي قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ السَّبْتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إلَى الْقُبُورِ. وَكَذَلِكَ يُبَخِّرُونَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي الْبَخُورِ بَرَكَةً وَدَفْعَ مَضَرَّةٍ وَيَعُدُّونَهُ مِنْ الْقَرَابِينِ مِثْلَ الذَّبَائِحِ وَيَرْقُونَهُ بِنُحَاسٍ يَضْرِبُونَهُ كَأَنَّهُ نَاقُوسٌ صَغِيرٌ وَبِكَلَامٍ مُصَنَّفٍ وَيُصَلِّبُونَ عَلَى أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُنْكَرَةِ حَتَّى إنَّ الْأَسْوَاقَ تَبْقَى مَمْلُوءَةً أَصْوَاتَ النَّوَاقِيسِ الصِّغَارِ وَكَلَامَ الرقايين مِنْ الْمُنَجِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ بِكَلَامِ أَكْثَرُهُ بَاطِلٌ وَفِيهِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ أَوْ كُفْرٌ. وَقَدْ أُلْقِيَ إلَى جَمَاهِيرِ الْعَامَّةِ أَوْ جَمِيعِهِمْ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَعْنِي

ص: 320

بِالْعَامَّةِ هُنَا: كُلَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى فِقْهٍ وَدِينٍ قَدْ شَارَكَهُمْ فِي ذَلِكَ أُلْقِيَ إلَيْهِمْ أَنَّ هَذَا الْبَخُورَ الْمَرْقِيَّ يَنْفَعُ بِبَرَكَتِهِ مِنْ الْعَيْنِ وَالسِّحْرِ وَالْأَدْوَاءِ وَالْهَوَاءِ. وَيُصَوِّرُونَ صُوَرَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ. وَيُلْصِقُونَهَا فِي بُيُوتِهِمْ زَعْمًا أَنَّ تِلْكَ الصُّوَرَ الْمَلْعُونَ فَاعِلُهَا الَّتِي لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا هِيَ فِيهِ تَمْنَعُ الْهَوَامَّ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ طَلَاسِمِ الصَّابِئَةِ. ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى مَا بَلَغَنِي يُصَلِّبُ بَابَ الْبَيْتِ. وَيَخْرُجُ خَلْقٌ عَظِيمٌ فِي الْخَمِيسِ الْحَقِيرِ الْمُتَقَدِّمِ وَعَلَى هَذَا يُبَخِّرُونَ الْقُبُورَ وَيُسَمُّونَ هَذَا الْمُتَأَخِّرَ الْخَمِيسَ الْكَبِيرَ وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ الْخَمِيسُ الْمَهِينُ الْحَقِيرُ هُوَ وَأَهْلُهُ وَمَنْ يُعَظِّمُهُ فَإِنَّ كُلَّ مَا عُظِّمَ بِالْبَاطِلِ مِنْ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ بَنِيَّةٍ يَجِبُ قَصْدُ إهَانَتِهِ كَمَا تُهَانُ الْأَوْثَانُ الْمَعْبُودَةُ وَإِنْ كَانَتْ لَوْلَا عِبَادَتُهَا لَكَانَتْ كَسَائِرِ الْأَحْجَارِ. وَمِمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ: أَنَّهُمْ يُوَظِّفُونَ عَلَى الْفَلَّاحِينَ وَظَائِفَ أَكْثَرُهُ كَرْهًا؛ مِنْ الْغَنَمِ وَالدَّجَاجِ وَاللَّبَنِ وَالْبَيْضِ يَجْتَمِعُ فِيهَا تَحْرِيمَانِ: أَكْلُ مَالِ الْمُسْلِمِ وَالْمُعَاهِدِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِقَامَةُ شِعَارِ النَّصَارَى وَيَجْعَلُونَهُ مِيقَاتًا لِإِخْرَاجِ الْوُكَلَاءِ عَلَى الْمَزَارِعِ وَيَطْبُخُونَ مِنْهُ وَيَصْطَبِغُونَ فِيهِ الْبَيْضَ وَيُنْفِقُونَ فِيهِ النَّفَقَاتِ الْوَاسِعَةَ وَيُزَيِّنُونَ أَوْلَادَهُمْ

ص: 321

إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَقْشَعِرُّ مِنْهَا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ. الَّذِي لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ بَلْ يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ وَيُنْكِرُ الْمُنْكَرَ. وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَضَعُونَ ثِيَابَهُمْ تَحْتَ السَّمَاءِ رَجَاءً لِبَرَكَةِ نُزُولِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا فَهَلْ يَسْتَرِيبُ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى حَبَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ أَنَّ شَرِيعَةً جَاءَتْ بِمَا قَدَّمْنَا بَعْضَهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. لَا يَرْضَى مَنْ شَرَعَهَا بِبَعْضِ هَذِهِ الْقَبَائِحِ. وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ إنَّمَا هُوَ اخْتِصَاصُ أَعْيَادِ الْكُفَّارِ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ أَوْ مُشَابَهَتُهُمْ فِي بَعْضِ أُمُورِهِمْ فَيَوْمُ الْخَمِيسِ هُوَ عِنْدَهُمْ يَوْمُ عِيدِ الْمَائِدَةِ وَيَوْمُ الْأَحَدِ يُسَمُّونَهُ عِيدَ الْفِصْحِ وَعِيدَ النُّورِ وَالْعِيدَ الْكَبِيرِ. وَلَمَّا كَانَ عِيدًا صَارُوا يَصْنَعُونَ لِأَوْلَادِهِمْ فِيهِ الْبَيْضَ الْمَصْبُوغَ وَنَحْوَهُ لِأَنَّهُمْ فِيهِ يَأْكُلُونَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْحَيَوَانِ مِنْ لَحْمٍ وَلَبَنٍ وَبَيْضٍ إذْ صَوْمُهُمْ هُوَ عَنْ الْحَيَوَانِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ. وَعَامَّةُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْمَحْكِيَّةِ عَنْ النَّصَارَى وَغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يُحْكَ قَدْ زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لِكَثِيرِ مِمَّنْ يَرَى الْإِسْلَامَ وَجَعَلَ لَهَا فِي قُلُوبِهِمْ مَكَانَةً وَحُسْنَ ظَنٍّ وَزَادُوا فِي بَعْضِ ذَلِكَ وَنَقَصُوا وَقَدَّمُوا وَأَخَّرُوا. وَكُلُّ مَا خُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأَيَّامُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَغَيْرِهَا فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُشَابِهَهُمْ فِي أَصْلِهِ وَلَا فِي وَصْفِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَكْسُونَ بِالْحُمْرَةِ دَوَابَّهُمْ وَيَصْبُغُونَ الْأَطْعِمَةَ الَّتِي لَا تَكَادُ تُفْعَلُ فِي عِيدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَتَهَادَوْنَ الْهَدَايَا الَّتِي تَكُونُ فِي مِثْلِ مَوَاسِمِ الْحَجِّ. وَعَامَّتُهُمْ قَدْ نَسُوا أَصْلَ ذَلِكَ

ص: 322

وَبَقِيَ عَادَةً مُطَّرِدَةً. وَهَذَا كُلُّهُ تَصْدِيقُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ} وَإِذَا كَانَتْ الْمُتَابَعَةُ فِي الْقَلِيلِ ذَرِيعَةً وَوَسِيلَةً إلَى بَعْضِ هَذِهِ الْقَبَائِحِ. كَانَتْ مُحَرَّمَةً فَكَيْفَ إذَا أَفْضَتْ إلَى مَا هُوَ كُفْرٌ بِاَللَّهِ مِنْ التَّبَرُّكِ بِالصَّلِيبِ وَالتَّعَمُّدِ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: الْمَعْبُودُ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَتْ الطُّرُقُ مُخْتَلِفَةً وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ: إمَّا كَوْنَ الشَّرِيعَةِ النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ الْيَهُودِيَّةِ الْمُبَدَّلَيْنِ الْمَنْسُوخَيْنِ مُوَصِّلَةً إلَى اللَّهِ وَإِمَّا اسْتِحْسَانَ بَعْضِ مَا فِيهَا مِمَّا يُخَالِفُ دِينَ اللَّهِ أَوْ التَّدَيُّنَ بِذَلِكَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ كَفْرٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِالْقُرْآنِ وَبِالْإِسْلَامِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْأُمَّةِ. وَأَصْلُ ذَلِكَ الْمُشَابَهَةُ وَالْمُشَارَكَةُ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك كَمَالُ مَوْقِعِ الشَّرِيعَةِ الْحَنِيفِيَّةِ. وَبَعْضُ حِكَمِ مَا شَرَعَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مِنْ مُبَايَنَةِ الْكُفَّارِ وَمُخَالَفَتِهِمْ فِي عَامَّةِ الْأُمُورِ؛ لِتَكُونَ الْمُخَالَفَةُ أَحْسَمَ لِمَادَّةِ الشَّرِّ وَأَبْعَدَ عَنْ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ. فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ إذَا طَلَبَ مِنْهُ أَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُحِيلَهُمْ عَلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَقْضِيَ لَهُمْ فِي عِيدِ اللَّهِ مِنْ الْحُقُوقِ مَا يَقْطَعُ اسْتِشْرَافَهُمْ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ لَمْ يَرْضَوْا فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا

ص: 323

بِاَللَّهِ وَمَنْ أَغْضَبَ أَهْلَهُ لِلَّهِ أَرْضَاهُ اللَّهُ وَأَرْضَاهُمْ. فَلْيَحْذَرْ الْعَاقِلُ مِنْ طَاعَةِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {مَا تَرَكْت بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ} . وَأَكْثَرُ مَا يُفْسِدُ الْمُلْكَ وَالدُّوَلَ طَاعَةُ النِّسَاءِ. فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {لَا أَفْلَحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً} . وَرُوِيَ أَيْضًا: {هَلَكَتْ الرِّجَالُ حِينَ أَطَاعَتْ النِّسَاءَ} وَقَدْ {قَالَ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا رَاجَعْنَهُ فِي تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ: إنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ} . يُرِيدُ أَنَّ النِّسَاءَ مِنْ شَأْنِهِنَّ مُرَاجَعَةُ ذِي اللُّبِّ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِلُبِّ ذِي اللُّبِّ مِنْ إحْدَاكُنَّ} . {وَلَمَّا أَنْشَدَهُ الْأَعْشَى - أَعْشَى بَاهِلَةَ - أَبْيَاتَهُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا: وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبَ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُرَدِّدُهَا وَيَقُولُ: وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبَ} وَلِذَلِكَ امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى زَكَرِيَّا حَيْثُ قَالَ: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْتَهِدَ إلَى اللَّهِ فِي إصْلَاحِ زَوْجَتِهِ.

ص: 324

وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم {مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ} . وَقَدْ رَوَى البيهقي بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ فِي بَابِ كَرَاهِيَةِ الدُّخُولِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ عِيدِهِمْ فِي كَنَائِسِهِمْ؛ وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ يَوْمَ نيروزهم وَمَهْرَجَانِهِمْ - عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قَالَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه " لَا تَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الْأَعَاجِمِ وَلَا تَدْخُلُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ فَإِنَّ السُّخْطَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ ". فَهَذَا عُمَرَ قَدْ نَهَى عَنْ تَعَلُّمِ لِسَانِهِمْ وَعَنْ مُجَرَّدِ دُخُولِ الْكَنِيسَةِ عَلَيْهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ فَكَيْفَ مَنْ يَفْعَلُ بَعْضَ أَفْعَالِهِمْ؟ أَوْ قَصَدَ مَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ دِينِهِمْ؟ أَلَيْسَتْ مُوَافَقَتُهُمْ فِي الْعَمَلِ أَعْظَمُ مِنْ مُوَافَقَتِهِمْ فِي اللُّغَةِ؟ أو لَيْسَ عَمَلُ بَعْضِ أَعْمَالِ عِيدِهِمْ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ فِي عِيدِهِمْ وَإِذَا كَانَ السُّخْطُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ فَمَنْ يُشْرِكُهُمْ فِي الْعَمَلِ أَوْ بَعْضِهِ أَلَيْسَ قَدْ تَعَرَّضَ لِعُقُوبَةِ ذَلِكَ. ثُمَّ قَوْلُهُ: " اجْتَنِبُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي عِيدِهِمْ " أَلَيْسَ نَهْيًا عَنْ لِقَائِهِمْ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِمْ فِيهِ؟ فَكَيْفَ بِمَنْ عَمِلَ عِيدَهُمْ وَقَالَ ابْنِ عُمَرَ فِي كَلَامٍ لَهُ: مَنْ صَنَعَ نيروزهم وَمَهْرَجَانَهُمْ وَتَشَبَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَمُوتَ حُشِرَ مَعَهُمْ. وَقَالَ عُمَرَ: اجْتَنِبُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي عِيدِهِمْ. وَنَصَّ الْإِمَامِ أَحْمَد عَلَى أَنَّهُ

ص: 325

لَا يَجُوزُ شُهُودُ أَعْيَادِ الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قَالَ الشَّعَانِينُ وَأَعْيَادُهُمْ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي كَلَامٍ لَهُ قَالَ: فَلَا يُعَاوَنُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِيدِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ شِرْكِهِمْ وَعَوْنِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَيَنْبَغِي لِلسَّلَاطِينِ أَنْ يَنْهَوْا الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٌ وَغَيْرِهِ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ. وَأَكْلُ ذَبَائِحِ أَعْيَادِهِمْ دَاخِلٌ فِي هَذَا الَّذِي اُجْتُمِعَ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ بَلْ هُوَ عِنْدِي أَشَدُّ: وَقَدْ سُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ عَنْ الرُّكُوبِ فِي السُّفُنِ الَّتِي رَكِبَ فِيهَا النَّصَارَى إلَى أَعْيَادِهِمْ فَكَرِهَ ذَلِكَ مَخَافَةَ نُزُولِ السُّخْطِ عَلَيْهِمْ بِشِرْكِهِمْ. الَّذِي اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} فَيُوَافِقُهُمْ وَيُعِينُهُمْ {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قُلْت لِعُمَرِ: إنَّ لِي كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا قَالَ: ما لَك قَاتَلَك اللَّهُ أَمَا سَمِعْت اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أَلَا اتَّخَذْت حَنِيفِيًّا قَالَ: قُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِي

ص: 326

كِتَابَتُهُ وَلَهُ دِينُهُ قَالَ: لَا أُكْرِمُهُمْ إذْ أَهَانَهُمْ اللَّهُ وَلَا أُعِزُّهُمْ إذْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ وَلَا أُدْنِيهِمْ إذْ أَقْصَاهُمْ اللَّهُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قَالَ مُجَاهِدٍ: أَعْيَادُ الْمُشْرِكِينَ وَكَذَلِكَ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى (مَسْأَلَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ حُضُورِ أَعْيَادِ الْمُشْرِكِينَ وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ الأصبهاني بِإِسْنَادِهِ فِي شُرُوطِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قَالَ: عِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ سِنَانٍ عَنْ الضَّحَّاكِ {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} كَلَامَ الْمُشْرِكِينَ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ سلام عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} لَا يماكثون أَهْلَ الشِّرْكِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَلَا يُخَالِطُونَهُمْ. وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَجَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ الَّتِي أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَيْهَا بِمُخَالَفَتِهِمْ وَتَرْكِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ. . . (1) إيقَادُ النَّارِ وَالْفَرَحُ بِهَا مِنْ شِعَارِ الْمَجُوسِ عُبَّادِ النِّيرَانِ. وَالْمُسْلِمُ يَجْتَهِدُ فِي إحْيَاءِ السُّنَنِ. وَإِمَاتَةِ الْبِدَعِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ

(1)

بياض بالأصل

ص: 327

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ} وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ص: 328

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ يَفْعَلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: مِثْلَ طَعَامِ النَّصَارَى فِي النَّيْرُوزِ. وَيَفْعَلُ سَائِرَ الْمَوَاسِمِ مِثْلَ الْغِطَاسِ وَالْمِيلَادِ وَخَمِيسِ الْعَدَسِ وَسَبْتِ النُّورِ وَمَنْ يَبِيعُهُمْ شَيْئًا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى أَعْيَادِهِمْ أَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَخْتَصُّ بِأَعْيَادِهِمْ لَا مِنْ طَعَامٍ وَلَا لِبَاسٍ وَلَا اغْتِسَالٍ وَلَا إيقَادِ نِيرَانٍ وَلَا تَبْطِيلِ عَادَةٍ مِنْ مَعِيشَةٍ أَوْ عِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَلَا يَحِلُّ فِعْلُ وَلِيمَةٍ وَلَا الْإِهْدَاءُ وَلَا الْبَيْعُ بِمَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَلَا تَمْكِينُ الصِّبْيَانِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ اللَّعِبِ الَّذِي فِي الْأَعْيَادِ وَلَا إظْهَارُ زِينَةٍ. وَبِالْجُمْلَةِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَخُصُّوا أَعْيَادَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ شَعَائِرِهِمْ بَلْ يَكُونُ يَوْمُ عِيدِهِمْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ لَا يَخُصُّهُ الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِمْ.

ص: 329

وَأَمَّا إذَا أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ قَصْدًا فَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَأَمَّا تَخْصِيصُهُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. بَلْ قَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى كُفْرِ مَنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأُمُورَ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ. وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: مَنْ ذَبَحَ نَطِيحَةً يَوْمَ عِيدِهِمْ فَكَأَنَّمَا ذَبَحَ خِنْزِيرًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاص: مَنْ [تَأَسَّى](*) بِبِلَادِ الْأَعَاجِمِ وَصَنَعَ نيروزهم وَمَهْرَجَانَهُمْ وَتَشَبَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ كَذَلِكَ حُشِرَ مَعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: {نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْحَرَ إبِلًا ببوانة فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي نَذَرْت أَنْ أَنْحَرَ إبِلًا ببوانة فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَلْ كَانَ فِيهَا مِنْ وَثَنٍ يُعْبَدُ مَنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْفِ بِنَذْرِك فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ} فَلَمْ يَأْذَنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِهَذَا الرَّجُلِ أَنْ يُوفِيَ بِنَذْرِهِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَفَاءِ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا حَتَّى أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِ الْكُفَّارِ وَقَالَ: {لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي

(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 266): المشهور هو: بنى

ص: 330

مَعْصِيَةِ اللَّهِ} . فَإِذَا كَانَ الذَّبْحُ بِمَكَانٍ كَانَ فِيهِ عِيدُهُمْ مَعْصِيَةً. فَكَيْفَ بِمُشَارَكَتِهِمْ فِي نَفْسِ الْعِيدِ؟ بَلْ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَالصَّحَابَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُظْهِرُوا أَعْيَادَهُمْ فِي دَارِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَهَا سِرًّا فِي مَسَاكِنِهِمْ. فَكَيْفَ إذَا أَظْهَرَهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسُهُمْ؟ حَتَّى قَالَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه " لَا تَتَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الْأَعَاجِمِ وَلَا تَدْخُلُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ فَإِنَّ السُّخْطَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ ". وَإِذَا كَانَ الدَّاخِلُ لِفُرْجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السُّخْطَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ. فَكَيْفَ بِمَنْ يَفْعَلُ مَا يَسْخَطُ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا هِيَ مِنْ شَعَائِرِ دِينِهِمْ؟ وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قَالُوا أَعْيَادُ الْكُفَّارِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي شُهُودِهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ فَكَيْفَ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ} وَفِي لَفْظٍ: {لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا} وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَإِنْ كَانَ

ص: 331

مِنْ الْعَادَاتِ فَكَيْفَ التَّشَبُّهُ بِهِمْ فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ؟! .

وَقَدْ كَرِهَ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ - إمَّا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَوْ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ - أَكْلَ مَا ذَبَحُوهُ لِأَعْيَادِهِمْ وَقَرَابِينِهِمْ إدْخَالًا لَهُ فِيمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَكَذَلِكَ نُهُوا عَنْ مُعَاوَنَتِهِمْ عَلَى أَعْيَادِهِمْ بِإِهْدَاءٍ أَوْ مُبَايَعَةٍ وَقَالُوا: إنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَبِيعُوا لِلنَّصَارَى شَيْئًا مِنْ مَصْلَحَةِ عِيدِهِمْ لَا لَحْمًا وَلَا دَمًا وَلَا ثَوْبًا وَلَا يُعَارُونَ دَابَّةً وَلَا يَعَاوَنُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ شِرْكِهِمْ وَعَوْنِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَيَنْبَغِي لِلسَّلَاطِينِ أَنْ يَنْهَوْا الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . ثُمَّ إنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى شُرْبِ الْخُمُورِ بِعَصْرِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. فَكَيْفَ عَلَى مَا هُوَ مِنْ شَعَائِرِ الْكُفْرِ. وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعِينَهُمْ هُوَ فَكَيْفَ إذَا كَانَ هُوَ الْفَاعِلَ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَهُ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة.

آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ

ص: 332