المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الْجُزْءُ الْتَاسِعُ وَالْعِشْرُونَ كِتَابُ الفِقْهِ الْجُزْءُ التَاسِعُ: البَيْعُ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ - مجموع الفتاوى - جـ ٢٩

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

الْجُزْءُ الْتَاسِعُ وَالْعِشْرُونَ

كِتَابُ الفِقْهِ

الْجُزْءُ التَاسِعُ: البَيْعُ

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

بسم الله الرحمن الرحيم

وَأَمَّا الْعُقُودُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ والْنِكَاحِيَة وَغَيْرِهَا فَنَذْكُرُ فِيهَا قَوَاعِدَ جَامِعَةً عَظِيمَةَ الْمَنْفَعَةِ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِيهَا كَالْقَوْلِ فِي الْعِبَادَاتِ. فَمِنْ ذَلِكَ " صِفَةُ الْعُقُودِ " فَالْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِالصِّيغَةِ وَهِيَ الْعِبَارَاتُ الَّتِي قَدْ يَخُصُّهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِاسْمِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالْهِبَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْعِتْقُ وَالْوَقْفُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد - يَكُونُ تَارَةً رِوَايَةً مَنْصُوصَةً فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، كَالْبَيْعِ وَالْوَقْفِ وَيَكُونُ تَارَةً رِوَايَةً مُخَرَّجَةً، كَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ يُقِيمُونَ الْإِشَارَةَ مَقَامَ الْعِبَارَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهَا كَمَا فِي إشَارَةِ الْأَخْرَسِ وَيُقِيمُونَ أَيْضًا الْكِتَابَةَ فِي مَقَامِ الْعِبَارَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ

ص: 5

وَقَدْ يَسْتَثْنُونَ مَوَاضِعَ دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى جَوَازِهَا إذَا مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا كَمَا فِي الْهَدْيِ إذَا عَطَبَ دُونَ مَحَلِّهِ فَإِنَّهُ يُنْحَرُ ثُمَّ يُضَمَّخُ نَعْلُهُ الْمُعَلَّقُ فِي عُنُقِهِ بِدَمِهِ عَلَامَةً لِلنَّاسِ، وَمَنْ أَخَذَهُ مَلَكَهُ وَكَذَلِكَ الْهَدِيَّةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. لَكِنْ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ هُوَ اللَّفْظُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ هُوَ التَّرَاضِي الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ:{إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} وَالْمَعَانِي الَّتِي فِي النَّفْسِ لَا تَنْضَبِطُ إلَّا بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي قَدْ جُعِلَتْ لِإِبَانَةِ مَا فِي الْقَلْبِ إذْ الْأَفْعَالُ مِنْ الْمُعَاطَاةِ وَنَحْوِهَا تَحْتَمِلُ وُجُوهًا كَثِيرَةً؛ وَلِأَنَّ الْعُقُودَ مِنْ جِنْسِ الْأَقْوَالِ فَهِيَ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهَا تَصِحُّ بِالْأَفْعَالِ فِيمَا كَثُرَ عَقْدُهُ بِالْأَفْعَالِ كَالْمَبِيعَاتِ بِالْمُعَاطَاةِ وَكَالْوَقْفِ فِي مِثْلِ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ أَوْ سَبَّلَ أَرْضًا لِلدَّفْنِ فِيهَا أَوْ بَنَى مَطْهَرَةً وَسَبَّلَهَا لِلنَّاسِ وَكَبَعْضِ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ: كَمَنْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى غَسَّالٍ أَوْ خَيَّاطٍ يَعْمَلُ بِالْأُجْرَةِ أَوْ رَكِبَ سَفِينَةَ مَلَّاحٍ وَكَالْهَدِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَوْ لَمْ تَنْعَقِدْ بِالْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا لَفَسَدَتْ أُمُورُ النَّاسِ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ مِنْ لَدُنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِلَى يَوْمِنَا مَا زَالُوا يَتَعَاقَدُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِلَا لَفْظٍ؛ بَلْ بِالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى الْمَقْصُودِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أُصُولِ

ص: 6

أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِخِلَافِ الْمُعَاطَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الْجَلِيلَةِ فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَلَمْ يَجْرِ بِهِ الْعُرْفُ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إنَّهَا تَنْعَقِدُ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَكُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا وَإِجَارَةً فَهُوَ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ؛ وَإِنْ اخْتَلَفَ اصْطِلَاحُ النَّاسِ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَفْعَالِ انْعَقَدَ الْعَقْدُ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ بِمَا يَفْهَمُونَهُ بَيْنَهُمْ مِنْ الصِّيَغِ وَالْأَفْعَالِ وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُسْتَمِرٌّ؛ لَا فِي شَرْعٍ وَلَا فِي لُغَةٍ. بَلْ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ اصْطِلَاحِ النَّاسِ كَمَا تَتَنَوَّعُ لُغَاتُهُمْ. فَإِنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَيْسَ هُوَ اللَّفْظَ الَّذِي فِي لُغَةِ الْفُرْسِ أَوْ الرُّومِ أَوْ التُّرْكِ أَوْ الْبَرْبَرِ أَوْ الْحَبَشَةِ؛ بَلْ قَدْ تَخْتَلِفُ أَنْوَاعُ اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ الْتِزَامُ نَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ التَّعَاقُدُ بِغَيْرِ مَا يَتَعَاقَدُ بِهِ غَيْرُهُمْ؛ إذَا كَانَ مَا تَعَاقَدُوا بِهِ دَالًّا عَلَى مَقْصُودِهِمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسْتَحَبُّ بَعْضُ الصِّفَاتِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أُصُولِ مَالِكٍ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد. وَلِهَذَا يَصِحُّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ بَيْعُ الْمُعَاطَاةِ مُطْلَقًا؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ

ص: 7

وُجِدَ اللَّفْظُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْفِعْلُ مِنْ الْآخَرِ؛ بِأَنْ يَقُولَ: خُذْ هَذَا لِلَّهِ فَيَأْخُذَهُ. أَوْ يَقُولَ: أَعْطِنِي خُبْزًا بِدِرْهَمٍ فَيُعْطِيَهُ. أَوْ لَمْ يُوجَدْ لَفْظٌ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ بِأَنْ يَضَعَ الثَّمَنَ وَيَقْبِضَ جِرْزَةَ الْبَقْلِ أَوْ الْحَلْوَاءَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. كَمَا يَتَعَامَلُ بِهِ غَالِبُ النَّاسِ، أَوْ يَضَعُ الْمَتَاعَ لِيُوضَعَ لَهُ بَدَلُهُ فَإِذَا وَضَعَ الْبَدَلَ الَّذِي يَرْضَى بِهِ أَخَذَهُ كَمَا يَجْلُبُهُ التُّجَّارُ عَلَى عَادَةِ بَعْضِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ. فَكُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ مِثْلُ الْهَدِيَّةِ، وَمِثْلُ تَجْهِيزِ الزَّوْجَةِ بِمَالٍ يُحْمَلُ مَعَهَا إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِأَنَّهُ عَطِيَّةٌ لَا عَارِيَةٌ. وَكَذَلِكَ الْإِجَارَاتُ: مِثْلُ رُكُوبِ سَفِينَةِ الْمَلَّاحِ الْمُكَارِي وَرُكُوبِ دَابَّةِ الْجَمَّالِ؛ أَوْ الْحَمَّارِ أَوْ الْبَغَّالِ الْمُكَارِي عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ أَنَّهُ إجَارَةٌ وَمِثْلُ الدُّخُولِ إلَى حَمَّامِ الحمامي: يَدْخُلُهَا النَّاسُ بِالْأُجْرَةِ وَمِثْلُ دَفْعِ الثَّوْبِ إلَى غَسَّالٍ أَوْ خَيَّاطٍ يَعْمَلُ بِالْأَجْرِ أَوْ دَفْعِ الطَّعَامِ إلَى طَبَّاخٍ أَوْ شَوَّاءٍ يَطْبُخُ أَوْ يَشْوِي لِلْآخَرِ سَوَاءٌ شَوَى اللَّحْمَ مَشْرُوحًا أَوْ غَيْرَ مَشْرُوحٍ. حَتَّى اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ هَلْ يَقَعُ الْخُلْعُ بِالْمُعَاطَاةِ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ اخْلَعْنِي بِهَذِهِ الْأَلْفِ أَوْ بِهَذَا الثَّوْبِ فَيَقْبِضُ الْعِوَضَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ أَنَّهُ رَضِيَ مِنْهُ بِالْمُعَاوَضَةِ فَذَهَبَ العكبريون: كَأَبِي حَفْصٍ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ شِهَابٍ إلَى أَنَّ ذَلِكَ خُلْعٌ صَحِيحٌ وَذَكَرُوا مِنْ كَلَامِ أَحْمَد وَمِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ

ص: 8

مِنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ، وَلَعَلَّهُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى نُصُوصِهِ؛ بَلْ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ، وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ بِالْكِتَابِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ} قَالَ: وَإِذَا كَتَبَ فَقَدْ عَمِلَ. وَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ الَّذِينَ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ: أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ إلَّا بِالْكَلَامِ وَذَكَرُوا مِنْ كَلَامِ أَحْمَد مَا اعْتَمَدُوهُ فِي ذَلِكَ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ فَسْخُ النِّكَاحِ وَالنِّكَاحُ يَفْتَقِرُ إلَى لَفْظٍ، فَكَذَلِكَ فَسْخُهُ. وَأَمَّا النِّكَاحُ: فَقَالَ هَؤُلَاءِ كَابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ مِثْلَ أَبِي الْخَطَّابِ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ وَالشَّهَادَةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى النِّيَّةِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ. وَمَنَعُوا مِنْ انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ أَوْ الْعَطِيَّةِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ. وَقَالَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ - كَابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي والمتأخرين - إنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ يُحْسِنُهَا فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَعَلُّمِهَا انْعَقَدَ بِمَعْنَاهَا الْخَاصِّ بِكُلِّ لِسَانٍ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَعَلُّمِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ؛

ص: 9

بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ وَأَنَّ فِيهِ شَوْبَ التَّعَبُّدِ. وَهَذَا - مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْصُوصًا عَنْ أَحْمَد - فَهُوَ مُخَالِفٌ لِأُصُولِهِ وَلَمْ يَنُصَّ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ وَلَا نَقَلُوا عَنْهُ نَصًّا فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا نَقَلُوا قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: إذَا وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِرَجُلٍ فَلَيْسَ بِنِكَاحِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وَهَذَا إنَّمَا هُوَ نَصٌّ عَلَى مَنْعِ مَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ النِّكَاحُ بِغَيْرِ مَهْرٍ؛ بَلْ قَدْ نَصَّ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ لِأَمَتِهِ: أَعْتَقْتُك وَجَعَلْت عِتْقَك صَدَاقَك. وَبِقَوْلِهِ: جَعَلْت عِتْقَك صَدَاقَك أَوْ صَدَاقَك عِتْقَك ذَكَرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ جَوَابَاتِهِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَأَمَّا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: فَطَرَدَ قِيَاسَهُ وَقَالَ: لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَقُولَ: تَزَوَّجْتهَا أَوْ نَكَحْتهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ قَطُّ بِالْعَرَبِيَّةِ إلَّا بِهَاتَيْنِ الصِّيغَتَيْنِ. وَأَمَّا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ: فَجَعَلُوا هَذِهِ الصُّورَةَ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْقِيَاسِ الَّذِي وَافَقُوا عَلَيْهِ ابْنَ حَامِدٍ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِحْسَانِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ قَوْلًا فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ؛ لِنَصِّ أَحْمَد بِهَذَا. وَهَذَا أَشْبَهُ بِنُصُوصِ أَحْمَد وَأُصُولِهِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ شَبِيهٌ بِمَذْهَبِهِ. فَإِنَّ أَصْحَابَ مَالِكٍ اخْتَلَفُوا: هَلْ يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ؟ عَلَى

ص: 10

قَوْلَيْنِ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ مَنْعُ مَا اخْتَصَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ هِبَةِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ مَهْرٍ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَإِنْ وَهَبَ ابْنَتَهُ وَهُوَ يُرِيدُ إنْكَاحَهَا فَلَا أَحْفَظُهُ عَنْ مَالِكٍ. فَهُوَ عِنْدِي جَائِزٌ. وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد مِنْ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ بَعِيدٌ عَنْ أُصُولِهِمَا؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ كِنَايَةٌ وَأَنَّ الْكِنَايَةَ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، وَمَذْهَبُهُمَا الْمَشْهُورُ: أَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ فِي الْكِنَايَاتِ تَجْعَلُهَا صَرِيحَةً وَتَقُومُ مَقَامَ إظْهَارِ النِّيَّةِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَا الْكِنَايَاتِ فِي الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ وَنَحْوِهِمَا مَعَ دَلَالَةِ الْحَالِ كَالصَّرِيحِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ دَلَالَاتِ الْأَحْوَالِ فِي النِّكَاحِ مَعْرُوفَةٌ: مِنْ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِذَلِكَ وَالتَّحَدُّثِ بِمَا اجْتَمَعُوا لَهُ فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: مَلَّكْتُكهَا لَك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. عَلِمَ الْحَاضِرُونَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِنْكَاحُ. وَقَدْ شَاعَ هَذَا اللَّفْظُ فِي عُرْفِ النَّاسِ حَتَّى سَمَّوْا عَقْدَهُ: إمْلَاكًا وَمَلَاكًا، وَلِهَذَا رَوَى النَّاسُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِخَاطِبِ الْوَاهِبَةِ - الَّذِي الْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ - رَوَوْهُ تَارَةً:" {أَنْكَحْتُكهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ} وَتَارَةً: " مَلَّكْتُكهَا " وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى " مَلَّكْتُكهَا "؛ بَلْ إمَّا أَنَّهُ قَالَهُمَا جَمِيعًا أَوْ قَالَ أَحَدَهُمَا؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ اللَّفْظَانِ عِنْدَهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ سَوَاءً

ص: 11

رَوَوْا الْحَدِيثَ تَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا. ثُمَّ تَعْيِينُ اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ فِي مِثْلِ هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ مِنْ أُصُولِ أَحْمَد وَنُصُوصِهِ وَعَنْ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ إذْ النِّكَاحُ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ قُرْبَةً فَإِنَّمَا هُوَ كَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ لَفْظٌ؛ لَا عَرَبِيٌّ وَلَا عَجَمِيٌّ. وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالْوَقْفُ وَالْهِبَةُ لَا يَتَعَيَّنُ لَهَا لَفْظٌ عَرَبِيٌّ بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ الْعَجَمِيُّ إذَا تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ فِي الْحَالِ قَدْ لَا يَفْهَمُ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ كَمَا يَفْهَمُهُ مِنْ اللُّغَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا. نَعَمْ لَوْ قِيلَ: تُكْرَهُ الْعُقُودُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَمَا يُكْرَهُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ: لَكَانَ مُتَوَجِّهًا كَمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ اعْتِيَادِ الْمُخَاطَبَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُ أَحْمَد؛ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ والمتأخرين: أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي نِكَاحِ الْكُفَّارِ إلَى عَادَتِهِمْ. فَمَا اعْتَقَدُوهُ نِكَاحًا بَيْنَهُمْ جَازَ إقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ إذَا أَسْلَمُوا وَتَحَاكَمُوا إلَيْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مُشْتَمِلًا عَلَى مَانِعٍ وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ لَمْ يَجُزْ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ حَتَّى قَالُوا: لَوْ قَهَرَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيَّةً فَوَطِئَهَا

ص: 12

أَوْ طَاوَعَتْهُ وَاعْتَقَدَاهُ نِكَاحًا أُقِرَّا عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَوْنَ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِ الْعَقْدِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْلِمُ دُونَ الْكَافِرِ وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْمُسْلِمُ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ فِي النِّكَاحِ بِأَنْ يُمَيَّزَ عَنْ السِّفَاحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} وَقَالَ: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} فَأَمَرَ بِالْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي تَمْيِيزِهِ عَنْ السِّفَاحِ وَصِيَانَةً لِلنِّسَاءِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْبَغَايَا حَتَّى شَرَعَ فِيهِ الضَّرْبَ بِالدُّفِّ وَالْوَلِيمَةَ الْمُوجِبَةَ لِشُهْرَتِهِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: " {الْمَرْأَةُ لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا} فَإِنَّ الْبَغِيَّ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا وَأَمَرَ فِيهِ بِالْإِشْهَادِ أَوْ بِالْإِعْلَانِ أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا: ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِشْهَادِ عَلَّلَهُ بِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْإِعْلَانُ الْمُمَيِّزُ لَهُ عَنْ السِّفَاحِ وَبِأَنَّهُ يَحْفَظُ النَّسَبَ عِنْدَ التجاحد. فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ حِكْمَتُهَا بَيِّنَةٌ. فَأَمَّا الْتِزَامُ لَفْظٍ مَخْصُوصٍ فَلَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا نَظَرٌ. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْجَامِعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ أَنَّ الْعُقُودَ تَصِحُّ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا أُصُولُ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْقُلُوبُ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قَالَ:

ص: 13

{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وَقَالَ: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وَقَالَ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَالَ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} وَقَالَ: {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَقَالَ: {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} - إلَى قَوْلِهِ - {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وَقَالَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وَقَالَ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} وَقَالَ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} . وَقَالَ: {إنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ} . وَقَالَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} . وَقَالَ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} . وَقَالَ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الْمَشْرُوعِ فِيهَا هَذِهِ الْعُقُودُ: إمَّا أَمْرًا وَإِمَّا إبَاحَةً وَالْمَنْهِيُّ فِيهَا عَنْ بَعْضِهَا كَالرِّبَا؛ فَإِنَّ الدَّلَالَةَ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ اكْتَفَى بِالتَّرَاضِي فِي الْبَيْعِ فِي قَوْلِهِ: {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَبِطِيبِ النَّفْسِ فِي التَّبَرُّعِ فِي قَوْلِهِ {فَإِنْ طِبْنَ

ص: 14

لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} فَتِلْكَ الْآيَةُ فِي جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي جِنْسِ التَّبَرُّعَاتِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ لَفْظًا مُعَيَّنًا وَلَا فِعْلًا مُعَيَّنًا يَدُلُّ عَلَى التَّرَاضِي وَعَلَى طِيبِ النَّفْسِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ عَادَاتِ النَّاسِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ التَّرَاضِيَ وَطِيبَ النَّفْسِ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَالْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيٌّ فِي غَالِبِ مَا يَعْتَادُ مِنْ الْعُقُودِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي بَعْضِهَا وَإِذَا وُجِدَ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِمَا بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ. وَبَعْضُ النَّاسِ قَدْ يَحْمِلُهُ اللَّدَدُ فِي نَصْرِهِ لِقَوْلِ مُعَيَّنٍ عَلَى أَنْ يَجْحَدَ مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِنْ التَّرَاضِي وَطِيبِ النَّفْسِ، فَلَا عِبْرَةَ بِجَحْدِ مِثْلِ هَذَا؛ فَإِنَّ جَحْدَ الضَّرُورِيَّاتِ قَدْ يَقَعُ كَثِيرًا عَنْ مُوَاطَأَةٍ وَتَلْقِينٍ فِي الْأَخْبَارِ وَالْمَذَاهِبِ، فَالْعِبْرَةُ بِالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي لَمْ يُعَارِضْهَا مَا يُغَيِّرُهَا؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ يَحْصُلُ بِهَا الْعِلْمُ حَيْثُ لَا تَوَاطُؤَ عَلَى الْكَذِبِ؛ لِأَنَّ الْفِطَرَ السَّلِيمَةَ لَا تَتَّفِقُ عَلَى الْكَذِبِ. فَأَمَّا مَعَ التَّوَاطُؤِ وَالِاتِّفَاقِ فَقَدْ يَتَّفِقُ جَمَاعَاتٌ عَلَى الْكَذِبِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ جَاءَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مُعَلَّقًا بِهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَكُلُّ اسْمٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَدٍّ، فَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِالشَّرْعِ كَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ وَكَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ

ص: 15

وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ. وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ: فَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ كَالْقَبْضِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " {مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ وَالْهِبَةَ وَنَحْوَهَا لَمْ يَحُدَّ الشَّارِعُ لَهَا حَدًّا؛ لَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا نُقِلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُ عَيَّنَ لِلْعُقُودِ صِفَةً مُعَيَّنَةً مِنْ الْأَلْفَاظِ أَوْ غَيْرِهَا أَوْ قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: مِنْ أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِالصِّيَغِ الْخَاصَّةِ؛ بَلْ قَدْ قِيلَ: إنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِمَّا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ الْقَدِيمَ وَإِنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ. وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِحَيْثُ يُقَالُ: إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُسَمُّونَ هَذَا بَيْعًا وَلَا يُسَمُّونَ هَذَا بَيْعًا حَتَّى يَدْخُلَ أَحَدُهُمَا فِي خِطَابِ اللَّهِ وَلَا يَدْخُلُ الْآخَرُ؛ بَلْ تَسْمِيَةُ أَهْلِ الْعُرْفِ مِنْ الْعَرَبِ هَذِهِ الْمُعَاقَدَاتِ بَيْعًا: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا فِي لُغَتِهِمْ تُسَمَّى بَيْعًا، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللُّغَةِ وَتَقْرِيرُهَا؛ لَا نَقْلُهَا وَتَغْيِيرُهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ كَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ. فَمَا سَمَّوْهُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ وَمَا سَمَّوْهُ هِبَةً فَهُوَ هِبَةٌ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْعِبَادِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ نَوْعَانِ: عِبَادَاتٌ يَصْلُحُ بِهَا دِينُهُمْ وَعَادَاتٌ يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا فِي دُنْيَاهُمْ، فَبِاسْتِقْرَاءِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ نَعْلَمُ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ أَوْ أَحَبَّهَا لَا يَثْبُتُ الْأَمْرُ بِهَا إلَّا بِالشَّرْعِ. وَأَمَّا الْعَادَاتُ فَهِيَ مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ فِي دُنْيَاهُمْ مِمَّا

ص: 16

يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الْحَظْرِ فَلَا يَحْظُرُ مِنْهُ إلَّا مَا حَظَرَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ هُمَا شَرْعُ اللَّهِ وَالْعِبَادَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا، فَمَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ كَيْفَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَمَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ الْعِبَادَاتِ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَيْفَ يُحْكَمُ عَلَى أَنَّهُ مَحْظُورٌ وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ: إنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ التَّوْقِيفُ فَلَا يُشْرَعُ مِنْهَا إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِلَّا دَخَلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . وَالْعَادَاتُ الْأَصْلُ فِيهَا الْعَفْوُ فَلَا يَحْظُرُ مِنْهَا إلَّا مَا حَرَّمَهُ وَإِلَّا دَخَلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ

ص: 17

اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} فَذَكَرَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَمِنْ التَّحْرِيمَاتِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ {: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} . وَهَذِهِ " قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ نَافِعَةٌ ". وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ. فَنَقُولُ: الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَالْإِجَارَةُ وَغَيْرُهَا هِيَ مِنْ الْعَادَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهَا فِي مَعَاشِهِمْ - كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ - فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ جَاءَتْ فِي هَذِهِ الْعَادَاتِ بِالْآدَابِ الْحَسَنَةِ فَحَرَّمَتْ مِنْهَا مَا فِيهِ فَسَادٌ وَأَوْجَبَتْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَكَرَّهَتْ مَا لَا يَنْبَغِي وَاسْتَحَبَّتْ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ فِي أَنْوَاعِ هَذِهِ الْعَادَاتِ وَمَقَادِيرِهَا وَصِفَاتِهَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالنَّاسُ يَتَبَايَعُونَ وَيَسْتَأْجِرُونَ كَيْفَ شَاءُوا مَا لَمْ تُحَرِّمْ الشَّرِيعَةُ. كَمَا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ كَيْفَ شَاءُوا مَا لَمْ تُحَرِّمْ الشَّرِيعَةُ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ قَدْ يُسْتَحَبُّ أَوْ يَكُونُ مَكْرُوهًا وَمَا لَمْ تَحُدَّ الشَّرِيعَةُ فِي ذَلِكَ حَدًّا فَيَبْقَوْنَ فِيهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْأَصْلِيِّ. وَأَمَّا السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ: فَمَنْ تَتَبَّعَ مَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُبَايَعَاتِ وَالْمُؤَاجَرَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ:

ص: 18

عُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَلْتَزِمُونَ الصِّيغَةَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ. وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا، إذْ الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى الْقَوَاعِدِ. وَإِلَّا فَالْكَلَامُ فِي أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَنَى مَسْجِدَهُ وَالْمُسْلِمُونَ بَنَوْا الْمَسَاجِدَ عَلَى عَهْدِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا أَنْ يَقُولَ: وَقَفْت هَذَا الْمَسْجِدَ وَلَا مَا يُشْبِهُ هَذَا اللَّفْظَ؛ بَلْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِنَفْسِ بِنَائِهِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: {أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى الْجَمَلَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: هُوَ لَك يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ} وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْ ابْنِ عُمَرَ لَفْظُ قَبُولٍ. وَكَانَ يُهْدِي وَيُهْدَى لَهُ، فَيَكُونُ قَبْضُ الْهَدِيَّةِ قَبُولَهَا. وَلَمَّا نَحَرَ الْبَدَنَاتِ قَالَ: "{مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ} مَعَ إمْكَانِ قِسْمَتِهَا. فَكَانَ هَذَا إيجَابًا وَكَانَ الِاقْتِطَاعُ هُوَ الْقَبُولَ. وَكَانَ يُسْأَلُ فَيُعْطِي أَوْ يُعْطِي مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَيَقْبِضُ الْمُعْطَى. وَيَكُونُ الْإِعْطَاءُ هُوَ الْإِيجَابَ وَالْأَخْذُ هُوَ الْقَبُولُ: فِي قَضَايَا كَثِيرَةٍ جِدًّا؛ وَلَمْ يَكُنْ يَأْمُرُ الْآخِذِينَ بِلَفْظِ وَلَا يَلْتَزِمُ أَنْ يَتَلَفَّظَ لَهُمْ بِصِيغَةِ كَمَا فِي إعْطَائِهِ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَلِلْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِمْ. وَجَعَلَ إظْهَارَ الصِّفَاتِ فِي الْمَبِيعِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِهَا بِاللَّفْظِ فِي مِثْلِ الْمُصَرَّاةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمُدَلِّسَاتِ.

ص: 19

وَأَيْضًا: فَإِنَّ التَّصَرُّفَاتِ جِنْسَانِ: عُقُودٌ وقبوض. كَمَا جَمَعَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: " {رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إذَا بَاعَ سَمْحًا إذَا اشْتَرَى سَمْحًا إذَا قَضَى سَمْحًا إذَا اقْتَضَى} وَيَقُولُ النَّاسُ: الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْأَخْذُ وَالْعَطَاءُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْعُقُودِ: إنَّمَا هُوَ الْقَبْضُ وَالِاسْتِيفَاءُ؛ فَإِنَّ الْمُعَاقَدَاتِ تُفِيدُ وُجُوبَ الْقَبْضِ أَوْ جَوَازَهُ؛ بِمَنْزِلَةِ إيجَابِ الشَّارِعِ. ثُمَّ التَّقَابُضُ وَنَحْوُهُ وَفَاءٌ بِالْعُقُودِ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ. وَالْقَبْضُ يَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ كَالْعَقْدِ، وَتَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا كَانَ الْمَرْجِعُ فِي الْقَبْضِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ: فَكَذَلِكَ الْعُقُودُ، وَإِنْ حُرِّرَتْ عِبَارَتُهُ. قُلْت: أَحَدُ نَوْعَيْ التَّصَرُّفَاتِ، فَكَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى عَادَةِ النَّاسِ كَالنَّوْعِ الْآخَرِ. وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِهَذَا: أَنَّ الْإِذْنَ الْعُرْفِيَّ فِي الْإِبَاحَةِ أَوْ التَّمْلِيكِ أَوْ التَّصَرُّفِ بِطَرِيقِ الْوِكَالَةِ: كَالْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوِكَالَةِ وَالْإِبَاحَةِ يَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَالْعِلْمُ بِرِضَى الْمُسْتَحِقِّ يَقُومُ مَقَامَ إظْهَارِهِ لِلرِّضَى. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مُبَايَعَةُ النَّبِيِّ

ص: 20

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانِ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَكَانَ غَائِبًا وَإِدْخَالُهُ أَهْلَ الْخَنْدَقِ إلَى مَنْزِل أَبِي طَلْحَةَ وَمَنْزِلِ جَابِرٍ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِمَا؛ لِعِلْمِهِ أَنَّهُمَا رَاضِيَانِ بِذَلِكَ. وَلَمَّا دَعَاهُ صلى الله عليه وسلم اللَّحَّامُ سَادِسُ سِتَّةٍ: اتَّبَعَهُمْ رَجُلٌ فَلَمْ يُدْخِلْهُ حَتَّى اسْتَأْذَنَ اللَّحَّامُ الدَّاعِيَ. وَكَذَلِكَ مَا يُؤْثَرُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ أَصْحَابَهُ لَمَّا دَخَلُوا مَنْزِلَهُ وَأَكَلُوا طَعَامَهُ قَالَ: ذَكَّرْتُمُونِي أَخْلَاقَ قَوْمٍ قَدْ مَضَوْا. وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي جَعْفَرٍ: إنَّ الْإِخْوَانَ مَنْ يُدْخِلُ أَحَدُهُمْ يَدَهُ فِي جَيْبِ صَاحِبِهِ. فَيَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ اسْتَوْهَبَهُ كُبَّةَ شَعْرٍ " {أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: فَقَدْ وَهَبْته لَك} . وَكَذَلِكَ إعْطَاؤُهُ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ أَعْطَاهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ. وَعَلَى هَذَا خَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَد بَيْعَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ لَمَّا وَكَّلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي شِرَاءِ شَاةٍ بِدِينَارِ فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ وَبَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارِ؛ فَإِنَّ التَّصَرُّفَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ خَاصٍّ: تَارَةً بِالْمُعَاوَضَةِ وَتَارَةً بِالتَّبَرُّعِ وَتَارَةً بِالِانْتِفَاعِ مَأْخَذُهُ: إمَّا إذْنٌ عُرْفِيٌّ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ.

ص: 21

فَصْلٌ:

الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْعُقُودِ حَلَالُهَا وَحَرَامُهَا

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ فِي كِتَابِهِ أَكْلَ أَمْوَالِنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ. وَذَمَّ الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَذَمَّ الْيَهُودَ عَلَى أَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ مَا يُؤْكَلُ بِالْبَاطِلِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ وَمَا يُؤْخَذُ بِغَيْرِ رِضَا الْمُسْتَحِقِّ وَالِاسْتِحْقَاقِ. وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فِي الْمُعَاوَضَةِ نَوْعَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ هُمَا: الرِّبَا وَالْمَيْسِرُ. فَذَكَرَ تَحْرِيمَ الرِّبَا الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصَّدَقَةِ فِي آخِرِ " سُورَةِ الْبَقَرَةِ "" وَسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ "" وَالرُّومِ "" وَالْمُدَّثِّرِ ". وَذَمَّ الْيَهُودَ عَلَيْهِ فِي " سُورَةِ النِّسَاءِ " وَذَكَرَ تَحْرِيمَ الْمَيْسِرِ فِي " سُورَةِ الْمَائِدَةِ ". ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَّلَ مَا جَمَعَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. فَنَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ. كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. وَالْغَرَرُ: هُوَ الْمَجْهُولُ الْعَاقِبَةِ. فَإِنَّ بَيْعَهُ مِنْ الْمَيْسِرِ الَّذِي هُوَ الْقِمَارُ. وَذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَبَقَ

ص: 22

أَوْ الْفَرَسَ أَوْ الْبَعِيرَ إذَا شَرَدَ؛ فَإِنَّ صَاحِبَهُ إذَا بَاعَهُ فَإِنَّمَا يَبِيعُهُ مُخَاطَرَةً فَيَشْتَرِيهِ الْمُشْتَرِي بِدُونِ ثَمَنِهِ بِكَثِيرِ. فَإِنْ حَصَلَ لَهُ قَالَ الْبَائِعُ: قمرتني وَأَخَذْت مَالِي بِثَمَنِ قَلِيلٍ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ قَالَ الْمُشْتَرِي: قمرتني وَأَخَذْت الثَّمَنَ مِنِّي بِلَا عِوَضٍ فَيُفْضِي إلَى مَفْسَدَةِ الْمَيْسِرِ: الَّتِي هِيَ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ نَوْعٌ مِنْ الظُّلْمِ. فَفِي بَيْعِ الْغَرَرِ ظُلْمٌ وَعَدَاوَةٌ وَبَغْضَاءُ. وَمِنْ نَوْعِ الْغَرَرِ مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ والملاقيح وَالْمَضَامِينِ وَمِنْ بَيْعِ السِّنِينَ وَبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَبَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: كُلُّهُ مِنْ نَوْعِ الْغَرَرِ. وَأَمَّا الرِّبَا: فَتَحْرِيمُهُ فِي الْقُرْآنِ أَشَدُّ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَبَائِرِ كَمَا خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. وَذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الَّذِينَ هَادُوا طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَمْحَقُ الرِّبَا كَمَا يُرْبِي الصَّدَقَاتِ. وَكِلَاهُمَا أَمْرٌ مُجَرَّبٌ عِنْدَ النَّاسِ.

ص: 23

وَذَلِكَ: أَنَّ الرِّبَا أَصْلُهُ إنَّمَا يَتَعَامَلُ بِهِ الْمُحْتَاجُ وَإِلَّا فَالْمُوسِرُ لَا يَأْخُذُ أَلْفًا حَالَّةً بِأَلْفِ وَمِائَتَيْنِ مُؤَجَّلَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَاجَةٌ لِتِلْكَ الْأَلْفِ. وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الْمَالَ بِمِثْلِهِ وَزِيَادَةً إلَى أَجَلٍ مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فَتَقَعُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ ظُلْمًا لِلْمُحْتَاجِ بِخِلَافِ الْمَيْسِرِ، فَإِنَّ الْمَظْلُومَ فِيهِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ وَلَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْعَقْدِ. وَقَدْ تَخْلُو بَعْضُ صُوَرِهِ عَنْ الظُّلْمِ إذَا وُجِدَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْمَبِيعُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ظَنَّاهَا وَالرِّبَا فِيهِ ظُلْمٌ مُحَقَّقٌ لِلْمُحْتَاجِ، وَلِهَذَا كَانَ ضِدَّ الصَّدَقَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَدَعْ الْأَغْنِيَاءَ حَتَّى أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ إعْطَاءَ الْفُقَرَاءِ؛ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لَا تَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ، فَإِذَا أَرْبَى مَعَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَمَنَعَهُ دَيْنَهُ وَظَلَمَهُ زِيَادَةً أُخْرَى وَالْغَرِيمُ مُحْتَاجٌ إلَى دَيْنِهِ. فَهَذَا مِنْ أَشَدِّ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ؛ وَلِعَظَمَتِهِ لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم آكِلَهُ وَهُوَ الْآخِذُ وَمُوكِلَهُ وَهُوَ الْمُحْتَاجُ الْمُعْطَى لِلزِّيَادَةِ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ لِإِعَانَتِهِمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ أَشْيَاءَ مِمَّا يَخْفَى فِيهَا الْفَسَادُ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْفَسَادِ الْمُحَقَّقِ - كَمَا حَرَّمَ قَلِيلَ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا - مِثْلُ رِبَا الْفَضْلِ؛ فَإِنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ قَدْ تَخْفَى إذْ الْعَاقِلُ لَا يَبِيعُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ؛ إلَّا لِاخْتِلَافِ الصِّفَاتِ. مِثْلَ: كَوْنِ الدِّرْهَم صَحِيحًا، وَالدِّرْهَمَيْنِ مَكْسُورَيْنِ أَوْ كَوْنِ الدِّرْهَمِ مَصُوغًا أَوْ مِنْ نَقْدٍ نَافِقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَلِذَلِكَ خَفِيَتْ حِكْمَةُ تَحْرِيمِهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ

ص: 24

وَغَيْرِهِمَا فَلَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا حَتَّى أَخْبَرَهُمْ الصَّحَابَةُ الْأَكَابِرُ - كعبادة بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمَا - بِتَحْرِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِرِبَا الْفَضْلِ.

وَأَمَّا الْغَرَرُ: فَإِنَّهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ. إمَّا الْمَعْدُومُ كَحَبَلِ الْحَبَلَةِ وَبَيْعِ السِّنِينَ. وَإِمَّا الْمَعْجُوزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ.

وَإِمَّا الْمَجْهُولُ الْمُطْلَقُ أَوْ الْمُعَيَّنُ الْمَجْهُولُ جِنْسُهُ أَوْ قَدْرُهُ، كَقَوْلِهِ: بِعْتُك عَبْدًا أَوْ بِعْتُك مَا فِي بَيْتِي أَوْ بِعْتُك عَبِيدِي. فَأَمَّا الْمُعَيَّنُ الْمَعْلُومُ جِنْسُهُ وَقَدْرُهُ الْمَجْهُولُ نَوْعُهُ أَوْ صِفَتُهُ كَقَوْلِهِ: بِعْتُك الثَّوْبَ الَّذِي فِي كُمِّي أَوْ الْعَبْدَ الَّذِي أَمْلِكُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ. وَتَغْلِبُ مَسْأَلَةُ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ وَعَنْ أَحْمَد فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ إحْدَاهُنَّ: لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِحَالِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ. وَالثَّانِيَةُ: يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يُوصَفْ وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إذَا رَآهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَد: لَا خِيَارَ لَهُ. وَالثَّالِثَةُ - وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ - أَنَّهُ يَصِحُّ بِالصِّفَةِ وَلَا يَصِحُّ بِدُونِ الصِّفَةِ كَالْمُطْلَقِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَمَفْسَدَةُ الْغَرَرِ أَقَلُّ مِنْ الرِّبَا؛ فَلِذَلِكَ رَخَّصَ فِيمَا تَدْعُو إلَيْهِ

ص: 25

الْحَاجَةُ مِنْهُ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ كَوْنِهِ غَرَرًا مِثْلَ بَيْعِ الْعَقَارِ جُمْلَةً وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ دَوَاخِلُ الْحِيطَانِ وَالْأَسَاسُ. وَمِثْلَ بَيْعِ الْحَيَوَانِ الْحَامِلِ أَوْ الْمُرْضِعِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ الْحَمْلِ أَوْ اللَّبَنِ وَإِنْ كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَمَلِ مُفْرَدًا، وَكَذَلِكَ اللَّبَنُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَكَذَلِكَ بَيْعُ الثَّمَرَةِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا؛ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مُسْتَحِقٌّ الْإِبْقَاءَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ. كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَإِنْ كَانَتْ الْأَجْزَاءُ الَّتِي يَكْمُلُ الصَّلَاحُ بِهَا لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ. وَجَوَّزَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ: أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ ثَمَرَتَهَا، فَيَكُونُ قَدْ اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا؛ لَكِنْ كُلُّ وَجْهِ الْبَيْعِ لِلْأَصْلِ. فَظَهَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ ضِمْنًا وَتَبَعًا مَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ. وَلَمَّا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى الْعَرَايَا أَرْخَصَ فِي بَيْعِهَا بِالْخَرْصِ، وَلَمْ يُجَوِّزْ الْمُفَاضَلَةَ الْمُتَيَقَّنَةَ؛ بَلْ سَوَّغَ الْمُسَاوَاةَ بِالْخَرْصِ فِي الْقَلِيلِ الَّذِي تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ وَهُوَ قَدْرُ النِّصَابِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَوْ مَا دُونَ النِّصَابِ. عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد مَا دُونَ النِّصَابِ، إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ، فَأَصُولُ مَالِكٍ فِي الْبُيُوعِ أَجْوَدُ مِنْ أُصُولِ غَيْرِهِ؛

ص: 26

فَإِنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ الَّذِي كَانَ يُقَالُ: هُوَ أَفْقَهُ النَّاسِ فِي الْبُيُوعِ. كَمَا كَانَ يُقَالُ: عَطَاءٌ أَفْقَهُ النَّاسِ فِي الْمَنَاسِكِ وَإِبْرَاهِيمُ أَفْقَهُهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَسَنُ أَجْمَعُهُمْ لِذَلِكَ كُلِّهِ. وَلِهَذَا وَافَقَ أَحْمَد كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ فِي أَغْلَبِ مَا فُضِّلَ فِيهِ لِمَنْ اسْتَقْرَأَ ذَلِكَ مِنْ أَجْوِبَتِهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَد مُوَافِقٌ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ؛ فَإِنَّهُمَا يُحَرِّمَانِ الرِّبَا وَيُشَدِّدَانِ فِيهِ حَقَّ التَّشْدِيدِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شِدَّةِ تَحْرِيمِهِ وَعِظَمِ مَفْسَدَتِهِ وَيَمْنَعَانِ الِاحْتِيَالَ عَلَيْهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ حَتَّى يَمْنَعَا الذَّرِيعَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حِيلَةً وَإِنْ كَانَ مَالِكٌ يُبَالِغُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ مَا لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَد فِيهِ؛ أَوْ لَا يَقُولُهُ؛ لَكِنَّهُ يُوَافِقُهُ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ عَلَى مَنْعِ الْحِيَلِ كُلِّهَا.

وَجِمَاعُ الْحِيَلِ نَوْعَانِ: إمَّا أَنْ يَضُمُّوا إلَى أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودِ أَوْ يَضُمُّوا إلَى الْعَقْدِ عَقْدًا لَيْسَ بِمَقْصُودِ. فَالْأَوَّلُ مَسْأَلَةُ " مُدِّ عَجْوَةٍ " وَضَابِطُهَا: أَنْ يَبِيعَ رِبَوِيًّا بِجِنْسِهِ وَمَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُمَا بَيْعَ فِضَّةٍ بِفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَضُمُّ إلَى الْفِضَّةِ الْقَلِيلَةِ عِوَضًا آخَرَ حَتَّى يَبِيعَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي مِنْدِيلٍ بِأَلْفَيْ دِينَارٍ. فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا حَرُمَتْ مَسْأَلَةُ " مُدِّ عَجْوَةٍ " بِلَا خِلَافٍ عِنْد مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَإِنَّمَا يُسَوِّغُ مِثْلَ هَذَا مَنْ جَوَّزَ الْحِيَلَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَإِنْ

ص: 27

كَانَ قُدَمَاءُ الْكُوفِيِّينَ يُحَرِّمُونَ هَذَا. وَأَمَّا إنْ كَانَ كِلَاهُمَا مَقْصُودًا كَمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ أَوْ مُدَّيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد، وَالْمَنْعُ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَالْجَوَازُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ غَيْرَ الْجِنْسِ الرِّبَوِيِّ كَبَيْعِ شَاةٍ ذَاتِ صُوفٍ أَوْ لَبَنٍ بِصُوفٍ أَوْ لَبَنٍ: فَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد الْجَوَازُ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْحِيَلِ: أَنْ يَضُمَّا إلَى الْعَقْدِ الْمُحَرَّمِ عَقْدًا غَيْرَ مَقْصُودٍ مِثْلَ أَنْ يَتَوَاطَآ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ الذَّهَبَ بِخَرَزِهِ ثُمَّ يَبْتَاعُ الْخَرَزَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الذَّهَبِ أَوْ يُوَاطِئَا ثَالِثًا عَلَى أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا عَرَضًا ثُمَّ يَبِيعُهُ الْمُبْتَاعُ لِمُعَامِلِهِ الْمُرَابِي ثُمَّ يَبِيعُهُ الْمُرَابِي لِصَاحِبِهِ. وَهِيَ الْحِيلَةُ الْمُثَلَّثَةُ أَوْ يُقْرِنُ بِالْقَرْضِ مُحَابَاةً: فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ مُسَاقَاةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُقْرِضَهُ أَلْفًا وَيَبِيعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي عَشَرَةً بِمِائَتَيْنِ أَوْ يَكْرِيَهُ دَارًا تُسَاوِي ثَلَاثِينَ بِخَمْسَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ الْحِيَلِ لَا تَزُولُ بِهِ الْمَفْسَدَةُ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ أَجْلِهَا الرِّبَا وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: " {لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا

ص: 28

رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنُ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ حِيَلِ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَحَلُّوا الرِّبَا بِالْحِيَلِ وَيُسَمُّونَهُ المشكند وَقَدْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " {لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "{لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا ثَمَنَهَا} وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " {مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ - وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ - فَلَيْسَ قِمَارًا وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ - وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ - فَهُوَ قِمَارٌ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: "{الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ} .

وَدَلَائِلُ تَحْرِيمِ الْحِيَلِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ كَثِيرَةٌ ذَكَرْنَا مِنْهَا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ دَلِيلًا فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي ذَلِكَ وَذَكَرْنَا مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُجَوِّزُهَا كَيَمِينِ أَيُّوبَ وَحَدِيثِ تَمْرِ خَيْبَرَ وَمَعَارِيضِ

ص: 29

السَّلَفِ، وَذَكَرْنَا جَوَابَ ذَلِكَ. وَمِنْ ذَرَائِعِ ذَلِكَ:" مَسْأَلَةُ الْعِينَةِ " وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَبْتَاعُهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. فَهَذَا مَعَ التَّوَاطُؤِ يُبْطِلُ الْبَيْعَيْنِ؛ لِأَنَّهَا حِيلَةٌ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَادَيْنِ جَيِّدَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " {إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَرْفَعُهُ عَنْكُمْ حَتَّى تَرَاجَعُوا دِينَكُمْ} . وَإِنْ لَمْ يَتَوَاطَآ فَإِنَّهُمَا يُبْطِلَانِ الْبَيْعَ الثَّانِيَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. وَلَوْ كَانَتْ عَكْسَ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ: فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ حَالًّا ثُمَّ يَبْتَاعَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مُؤَجَّلًا. وَأَمَّا مَعَ التَّوَاطُؤِ فَرِبًا مُحْتَالٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُ الْمُشْتَرِي الدِّرْهَمَ وَابْتَاعَ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ لِيَبِيعَهَا وَيَأْخُذَ ثَمَنَهَا. فَهَذَا يُسَمَّى: " التَّوَرُّقَ ". فَفِي كَرَاهَتِهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ. وَالْكَرَاهَةُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٍ فِيمَا أَظُنُّ؛ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي الَّذِي غَرَضُهُ التِّجَارَةُ أَوْ غَرَضُهُ الِانْتِفَاعُ أَوْ الْقِنْيَةُ فَهَذَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ إلَى أَجَلٍ بِالِاتِّفَاقِ. فَفِي الْجُمْلَةِ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ مَانِعُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا مَنْعًا مُحْكَمًا مُرَاعِينَ لِمَقْصُودِ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا. وَقَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ هُوَ

ص: 30

الَّذِي يُؤْثَرُ مِثْلُهُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا الْغَرَرُ: فَأَشَدُّ النَّاسِ فِيهِ قَوْلًا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ رضي الله عنهما أَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَإِنَّهُ يُدْخِلُ فِي هَذَا الِاسْمِ مِنْ الْأَنْوَاعِ مَا لَا يُدْخِلُهُ غَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ؛ مِثْلَ الْحَبِّ وَالثَّمَرِ فِي قِشْرِهِ الَّذِي لَيْسَ بِصَوَّانِ: كَالْبَاقِلَاءِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ الْأَخْضَرِ وَكَالْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ فَإِنَّ الْقَوْلَ الْجَدِيدَ عِنْدَهُ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ اشْتَرَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بَاقِلَاءَ أَخْضَرَ فَخَرَجَ ذَلِكَ لَهُ قَوْلًا وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَأَبِي سَعِيدٍ الإصطخري، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم " {نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ} فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ وَإِنْ كَانَ فِي سُنْبُلِهِ. فَقَالَ: إنْ صَحَّ هَذَا أَخْرَجْته مِنْ الْعَامِّ أَوْ كَلَامًا قَرِيبًا مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ ذُكِرَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: جَوَازُ ذَلِكَ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً لَا يَجُوزُ ثُمَّ بَلَغَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَرَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَعْدِلُ عَنْ الْقَوْلِ بِهِ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَهُ قَوْلَيْنِ وَإِنَّ الْجَوَازَ هُوَ الْقَدِيمُ. حَتَّى مَنَعَ

ص: 31

مِنْ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِصِفَةٍ وَغَيْرِ صِفَةٍ مُتَأَوِّلًا أَنَّ بَيْعَ الْغَائِبِ غَرَرٌ وَإِنْ وُصِفَ حَتَّى اشْتَرَطَ فِيمَا فِي الذِّمَّةِ - كَدَيْنِ السَّلَمِ - مِنْ الصِّفَاتِ وَضَبْطِهَا مَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ غَيْرُهُ. وَلِهَذَا يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَى النَّاسِ الْمُعَامَلَةُ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَاسَ عَلَى بَيْعِ الْغَرَرِ جَمِيعَ الْعُقُودِ؛ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ فَاشْتَرَطَ فِي أُجْرَةِ الْأَجِيرِ وَفِدْيَةِ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَصُلْحِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ وَجِزْيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ: مَا اشْتَرَطَهُ فِي الْبَيْعِ عَيْنًا وَدَيْنًا؛ وَلَمْ يُجَوِّزْ فِي ذَلِكَ جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً إلَّا مَا يُجَوِّزُ مِثْلَهُ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ لَا تَبْطُلُ بِفَسَادِ أَعْوَاضِهَا أَوْ يُشْتَرَطُ لَهَا شُرُوطٌ أُخَرُ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ: فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ بَيْعَ الْبَاقِلَاءِ وَنَحْوَهُ فِي الْقَشِرَيْنِ وَيُجَوِّزُ إجَارَةَ الْأَجِيرِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ وَيُجَوِّزُ أَنْ تَكُونَ جَهَالَةُ الْمَهْرِ كَجَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَيُجَوِّزُ بَيْعَ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِلَا صِفَةٍ مَعَ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ يَرَى وَقْفَ الْعُقُودِ؛ لَكِنَّهُ يُحَرِّمُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ مُطْلَقًا. وَالشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ بَيْعَ بَعْضِ ذَلِكَ وَيُحَرِّمُ أَيْضًا كَثِيرًا مِنْ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُ مُطْلَقَ الْعَقْدِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ بَعْضَ ذَلِكَ وَيُجَوِّزُ مِنْ الْوِكَالَاتِ وَالشَّرِكَاتِ مَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيُّ حَتَّى جَوَّزَ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ وَالْوِكَالَةِ بِالْمَجْهُولِ الْمُطْلَقِ.

ص: 32

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ لَمْ تَكُنْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ بَاطِلَةً فَمَا أَعْلَمُ شَيْئًا بَاطِلًا. فَبَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ لَكِنَّ أُصُولَ الشَّافِعِيِّ الْمُحَرَّمَةَ أَكْثَرُ مِنْ أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا مَالِكٌ: فَمَذْهَبُهُ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذَا. فَيُجَوِّزُ بَيْعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَجَمِيعَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ أَوْ يَقِلّ غَرَرُهُ بِحَيْثُ يُحْتَمَلُ فِي الْعُقُودِ حَتَّى يُجَوِّزَ بَيْعَ المقاثي جُمْلَةً وَبَيْعَ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَالْفُجْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَحْمَد قَرِيبٌ مِنْهُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَيُجَوِّزُ - عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْهُ - أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ عَبْدًا مُطْلَقًا أَوْ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَزِيدُ جَهَالَتُهُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُجَوِّزُ الْمُبْهَمَ دُونَ الْمُطْلَقِ كَأَبِي الْخَطَّابِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ. فَلَا يُجَوِّزُ فِي الْمَهْرِ وَفِدْيَةِ الْخُلْعِ وَنَحْوِهِمَا إلَّا مَا يُجَوِّزُ فِي الْمَبِيعِ كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَيُجَوِّزُ - عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْهُ - فِي فِدْيَةِ الْخُلْعِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى مَا يَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الْمَهْرِ كَقَوْلِ مَالِكٍ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي مَذْهَبِهِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ: أَنَّهُ لَا يُجَوِّزُ بَيْعَ الْمُغَيَّبِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَنَحْوِهِ إلَّا إذَا قُلِعَ. وَقَالَ:

ص: 33

هَذَا الْغَرَرُ شَيْءٌ لَيْسَ يَرَاهُ كَيْفَ يَشْتَرِيهِ؟ وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ: أَنَّهُ لَا يُجَوِّزُ بَيْعَ الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَنَحْوِهِ إلَّا لَقْطَةً لَقْطَةً وَلَا يُبَاعُ مِنْ المقاثي وَالْمَبَاطِخِ إلَّا مَا ظَهَرَ دُونَ مَا بَطَنَ وَلَا تُبَاعُ الرُّطَبَةُ إلَّا جِزَّةً جِزَّةً كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَرَرٌ، وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَأَكْثَرُهُمْ أَطْلَقُوا ذَلِكَ فِي كُلِّ مُغَيَّبٍ كَالْجَزَرِ وَالْفُجْلِ وَالْبَصَلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: إذَا كَانَ مِمَّا يَقْصِدُ فُرُوعَهُ وَأُصُولَهُ كَالْبَصَلِ الْمَبِيعِ أَخْضَرَ وَالْكُرَّاثِ وَالْفُجْلِ أَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ فُرُوعَهُ. فَالْأَوْلَى جَوَازُ بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ ظَاهِرٌ. فَأَشْبَهَ الشَّجَرَ وَالْحِيطَانَ وَيَدْخُلُ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْمَبِيعِ تَبَعًا، وَإِنْ كَانَ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ أُصُولَهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَغْلَبِ وَإِنْ تَسَاوَيَا لَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ وَإِنَّمَا سَقَطَ فِي الْأَقَلِّ التَّابِعُ. وَكَلَامُ أَحْمَد يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. فَإِنَّ أَبَا دَاوُد قَالَ. قُلْت لِأَحْمَدَ: بَيْعُ الْجَزَرِ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا مَا قُلِعَ مِنْهُ. هَذَا الْغَرَرُ شَيْءٌ لَيْسَ يَرَاهُ. كَيْفَ يَشْتَرِيهِ؟ فَعَلَّلَ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ. فَقَدْ يُقَالُ: إنْ لَمْ يُرَ كُلَّهُ لَمْ يُبَعْ. وَقَدْ يُقَالُ: رُؤْيَةُ بَعْضِ الْمَبِيعِ تَكْفِي إذَا دَلَّتْ عَلَى الْبَاقِي

ص: 34

كَرُؤْيَةِ وَجْهِ الْعَبْدِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي المقاثي إذَا بِيعَتْ بِأُصُولِهَا. كَمَا هُوَ الْعَادَةُ غَالِبًا، فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ أُصُولِ الْخَضْرَاوَات. كَبَيْعِ الشَّجَرِ وَإِذَا بَاعَ الشَّجَرَةَ وَعَلَيْهَا الثَّمَرُ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ جَازَ، فَكَذَلِكَ هَذَا. وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْمُتَقَدِّمُونَ: لَا يَجُوزُ بِحَالِ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ وَمَنْصُوصُهُ. وَهُوَ إنَّمَا نَهَى عَمَّا يَعْتَادُهُ النَّاسُ وَلَيْسَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً فِي الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ أَنْ يُبَاعَ دُونَ عُرُوقِهِ. وَالْأَصْلُ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُ؛ فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ فِي الشَّجَرِ الَّذِي عَلَيْهِ ثَمَرٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ مَقْصُودَهُ الْأَعْظَمُ جَازَ. وَأَمَّا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الثَّمَرَةَ فَاشْتَرَى الْأَصْلَ مَعَهَا حِيلَةً: لَمْ يَجُزْ. وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى أَرْضًا وَفِيهَا زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ مُثْمِرٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ هِيَ الْمَقْصُودَ: جَازَ دُخُولُ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ مَعَهَا تَبَعًا. وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الثَّمَرَ وَالزَّرْعَ فَاشْتَرَى الْأَرْضَ لِذَلِكَ: لَمْ يَجُزْ. وَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُ فِي ثَمَرَةِ الشَّجَرِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ المقاثي وَالْمَبَاطِخِ إنَّمَا هُوَ الْخَضْرَاوَات دُونَ الْأُصُولِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا إلَّا قِيمَةٌ يَسِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخُضَرِ. وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ فِيهَا وَجْهَيْنِ:

ص: 35

أَحَدُهُمَا: كَمَا فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمُغَيَّبَاتِ بِنَاءً عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي بَيْعِ مَا لَمْ يَرَهُ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى قَوْلِنَا: لَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا لَمْ يَرَهُ. فَإِذَا صَحَّحْنَا بَيْعَ الْغَائِبِ فَهَذَا مِنْ الْغَائِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا مُطْلَقًا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ إلْحَاقًا لَهَا بِلُبِّ الْجَوْزِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْخِبْرَةِ يَسْتَدِلُّونَ بِرُؤْيَةِ وَرِقِ هَذِهِ الْمَدْفُونَاتِ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ أَجْوَدَ مِمَّا يَعْلَمُونَ الْعَبْدَ بِرُؤْيَةِ وَجْهِهِ. وَالْمَرْجِعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَى الصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِ وَهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَا يُعْرَفُ غَيْرُهَا مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ وَأَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا مِمَّا تَمَسُّ حَاجَةُ النَّاسِ إلَى بَيْعِهِ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُبَعْ حَتَّى يُقْلَعَ حَصَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ مُبَاشَرَةُ الْقَلْعِ وَالِاسْتِنَابَةِ فِيهِ. وَإِنْ قَلَعُوهُ جُمْلَةً فَسَدَ بِالْقَلْعِ. فَبَقَاؤُهُ فِي الْأَرْضِ كَبَقَاءِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَنَحْوِهِمَا فِي قِشْرِهِ الْأَخْضَرِ. وَأَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ يُجَوِّزُونَ الْعَرَايَا مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْمُزَابَنَةِ لِحَاجَةِ الْمُشْتَرِي إلَى أَكْلِ الرُّطَبِ أَوْ الْبَائِعِ إلَى أَكْلِ التَّمْرِ، فَحَاجَةُ الْبَائِعِ هُنَا أَوْكَدُ بِكَثِيرِ. وَسَنُقَرِّرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 36

وَكَذَلِكَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ: جَوَازُ بَيْعِ المقاثي بَاطِنَهَا وَظَاهِرَهَا. وَإِنْ اشْتَمَلَ ذَلِكَ عَلَى بَيْعٍ مَعْدُومٍ إذَا بَدَا صَلَاحُهَا كَمَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِ نَخْلَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ: أَنْ يُبَاعَ جَمِيعُ ثَمَرِهَا. وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا لَمْ يَصْلُحْ بَعْدُ. وَغَايَةُ مَا اعْتَذَرُوا بِهِ عَنْ خُرُوجِ هَذَا مِنْ الْقِيَاسِ أَنْ قَالُوا: إنَّهُ لَا يُمْكِنُ إفْرَادُ الْبَيْعِ لِذَلِكَ مِنْ نَخْلَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ الْبُسْرَةَ بِالْعَقْدِ اخْتَلَطَتْ بِغَيْرِهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْبُسْرَةَ تَصْفَرُّ فِي يَوْمِهَا. وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي المقثاة. وَقَدْ اعْتَذَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد عَنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ تَبَعًا بِأَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَرَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْمَوْجُودِ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي مِلْكِهِ. وَالْجُمْهُورُ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَعْلَمُونَ فَسَادَ هَذَا الْعُذْرِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ سَقْيُ الثَّمَرَةِ وَيَسْتَحِقُّ إبْقَاءَهَا عَلَى الشَّجَرِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الزِّيَادَةَ بِالْعَقْدِ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ مَا بِهِ يُوجَدُ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْبَائِعِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ تَوْفِيَةُ الْمَبِيعِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ؛ لَا مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمِلْكِ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ الرِّوَايَةَ اخْتَلَفَتْ عَنْ أَحْمَد إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي

ص: 37

حَدِيقَةٍ مِنْ الْحَدَائِقِ هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِهَا أَمْ لَا يُبَاعُ إلَّا مَا صَلَحَ مِنْهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ. أَنَّهُ لَا يُبَاعُ إلَّا مَا بَدَا صَلَاحُهُ. وَهِيَ اخْتِيَارُ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ. كَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ شاقلاء. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يَكُونُ بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الْبَعْضِ صَلَاحًا لِلْجَمِيعِ وَهِيَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. كَابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَمَنْ تَبِعَهُمَا. ثُمَّ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ فِي بُسْتَانٍ بَعْضُهُ بَالِغٌ وَبَعْضُهُ غَيْرُ بَالِغٍ بِيعَ إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ الْبُلُوغَ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ صَلَاحِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَالْقَاضِي أَخِيرًا وَأَبِي حَكِيمٍ النهرواني وَأَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ قَصَرَ الْحُكْمَ بِمَا إذَا غَلَبَ الصَّلَاحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الصَّلَاحِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَأَبِي الْخَطَّابِ وَجَمَاعَاتٍ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ. وَزَادَ مَالِكٌ فَقَالَ: يَكُونُ صَلَاحًا لِمَا جَاوَرَهُ مِنْ الْأَقْرِحَةِ. وَحَكَوْا ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد. وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ: هَلْ يَكُونُ صَلَاحُ النَّوْعِ - كَالْبَرْنِيِّ مِنْ الرُّطَبِ - صَلَاحًا لِسَائِرِ أَنْوَاعِ الرُّطَبِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد.

أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي مُحَمَّدٍ.

وَالثَّانِي الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ. وَزَادَ اللَّيْثُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَقَالَ:

ص: 38

صَلَاحُ الْجِنْسِ - كَالتُّفَّاحِ وَاللَّوْزِ - يَكُونُ صَلَاحًا لِسَائِرِ أَجْنَاسِ الثِّمَارِ. وَمَأْخَذُ مَنْ جَوَّزَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ بَيْعَ بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ يُفْضِي إلَى سُوءِ الْمُشَارَكَةِ وَاخْتِلَافِ الْأَيْدِي. وَهَذِهِ عِلَّةُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْبُسْتَانِ الْوَاحِدِ وَالْبَسَاتِينِ. وَمَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا قَالَ: الْمَقْصُودُ الْأَمْنُ مِنْ الْعَاهَةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِشُرُوعِ الثَّمَرِ فِي الصَّلَاحِ. وَمَأْخَذُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ: أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " {حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا} يَقْتَضِي بُدُوَّ صَلَاحِ الْجَمِيعِ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ: أَنَّ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ الْبُسْتَانِ مِنْ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِبُدُوِّ الصَّلَاحِ فِي بَعْضِهِ فَقِيَاسُ قَوْلِهِ: جَوَازُ بَيْعِ المقثاة إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهَا. وَالْمَعْدُومُ هُنَا فِيهَا كَالْمَعْدُومِ مِنْ أَجْزَاءِ الثَّمَرَةِ؛ فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ؛ إذْ تَفْرِيقُ الْأَشْجَارِ فِي الْبَيْعِ أَيْسَرُ مِنْ تَفْرِيقِ الْبِطِّيخَاتِ وَالْقِثَّاءَاتِ وَالْخِيَارَاتِ وَتَمْيِيزِ اللَّقْطَةِ عَنْ اللَّقْطَةِ لَوْ لَمْ يَشُقَّ فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا يَنْضَبِطُ؛ فَإِنَّ اجْتِهَادَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتٌ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا: أَنَّ أُصُولَ أَحْمَد تَقْتَضِي مُوَافَقَةَ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَمَا قَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْجَوَابَاتِ أَوْ قَدْ خَرَّجَهُ أَصْحَابُهُ عَلَى أُصُولِهِ.

ص: 39

وَكَمَا أَنَّ الْعَالِمَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ كَثِيرًا مَا يَكُونُ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ قَوْلَانِ فِي وَقْتَيْنِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ لَهُ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْ الْمَسَائِلِ قَوْلَانِ فِي وَقْتَيْنِ. فَيُجِيبُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهَا بِجَوَابٍ فِي وَقْتٍ وَيُجِيبُ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ بِجَوَابٍ آخَرَ فِي وَقْتٍ آخَرَ. وَإِذَا كَانَتْ الْأَفْرَادُ مُسْتَوِيَةً وَكَانَ لَهُ فِيهَا قَوْلَانِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ يَذْهَبُ إلَيْهِ مُجْتَهِدٌ فَقَوْلُهُ فِيهَا وَاحِدٌ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ مِمَّا قَدْ يَذْهَبُ إلَيْهِ مُجْتَهِدٌ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يُخَرَّجُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ - كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى - يُخَرَّجُ الْجَوَابُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مِمَّنْ يَذْهَبُ إلَى الْفَرْقِ كَمَا اقْتَضَتْهُ أُصُولُهُ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُخَرِّجُ الْجَوَابَ إذَا رَآهُمَا مُسْتَوِيَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ هَلْ هُوَ مِمَّنْ يُفَرِّقُ أَمْ لَا. وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَ بَعْضِ الْأَفْرَادِ وَبَعْضٍ مُسْتَحْضِرًا لَهُمَا فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْفَرْقِ مَأْخَذًا شَرْعِيًّا: كَانَ الْفَرْقُ قَوْلًا لَهُ. وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْفَرْقِ مَأْخَذًا عَادِيًّا أَوْ حِسِّيًّا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَكُونُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهِ أَعْلَمَ مِنْ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَمْ يُبَاشِرُوا ذَلِكَ فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا شَرْعًا وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْعَالِمُ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ. فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ} . وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ نَوْعِهَا مِنْ الْعِلْمِ قَدْ يُسَمَّى تَنَاقُضًا

ص: 40

أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّنَاقُضَ اخْتِلَافُ مَقَالَتَيْنِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. فَإِذَا كَانَ فِي وَقْتٍ قَدْ قَالَ: إنَّ هَذَا حَرَامٌ. وَقَالَ فِي وَقْتٍ آخَرَ فِيهِ أَوْ فِي مِثْلِهِ: إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامِ أَوْ قَالَ مَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامِ - فَقَدْ تَنَاقَضَ قَوْلَاهُ وَهُوَ مُصِيبٌ فِي كِلَيْهِمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَإِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْبَاطِنِ حُكْمٌ عَلَى الْمُجْتَهِدِ غَيْرَ مَا اعْتَقَدَهُ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ لِلَّهِ حُكْمًا فِي الْبَاطِنِ عَلِمَهُ الْعَالِمُ فِي إحْدَى الْمَقَالَتَيْنِ وَلَمْ يَعْلَمْهُ فِي الْمَقَالَةِ الَّتِي تُنَاقِضُهَا وَعَدَمُ عِلْمِهِ بِهِ مَعَ اجْتِهَادِهِ مَغْفُورٌ لَهُ مَعَ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ قَصْدِهِ لِلْحَقِّ وَاجْتِهَادِهِ فِي طَلَبِهِ. وَلِهَذَا يُشَبِّهُ بَعْضُهُمْ تَعَارُضَ الِاجْتِهَادَاتِ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ثَابِتٌ بِخِطَابِ حُكْمِ اللَّهِ: بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ بِخِلَافِ أَحَدِ قَوْلَيْ الْعَالِمِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ. هَذَا فِيمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ فِيمَا يَقُولُهُ مَعَ عِلْمِهِ بِتَقْوَاهُ وَسُلُوكِهِ الطَّرِيقَ الرَّاشِدَ. وَأَمَّا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْخُصُومَاتِ: فَهُمْ مَذْمُومُونَ فِي مُنَاقَضَاتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا حُسْنِ قَصْدٍ لِمَا يَجِبُ قَصْدُهُ. وَعَلَى هَذَا فَلَازِمُ قَوْلِ الْإِنْسَانِ نَوْعَانِ:

ص: 41

أَحَدُهُمَا: لَازِمُ قَوْلِهِ الْحَقُّ، فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ؛ فَإِنَّ لَازِمَ الْحَقِّ حَقٌّ وَيَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ إذَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِهِ بَعْدَ ظُهُورِهِ، وَكَثِيرٌ مِمَّا يُضِيفُهُ النَّاسُ إلَى مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ: مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَالثَّانِي: لَازِمُ قَوْلِهِ الَّذِي لَيْسَ بِحَقِّ. فَهَذَا لَا يَجِبُ الْتِزَامُهُ؛ إذْ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ قَدْ تَنَاقَضَ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ التَّنَاقُضَ وَاقِعٌ مِنْ كُلِّ عَالِمٍ غَيْرِ النَّبِيِّينَ. ثُمَّ إنْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ: أَنَّهُ يَلْتَزِمُهُ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَهُ فَقَدْ يُضَافُ إلَيْهِ؛ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ قَوْلٌ لَوْ ظَهَرَ لَهُ فَسَادُهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ؛ لِكَوْنِهِ قَدْ قَالَ مَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِفَسَادِ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَلَا يَلْزَمُهُ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِي اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي لَازِمِ الْمَذْهَبِ: هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَوْ لَيْسَ بِمَذْهَبِ؟ هُوَ أَجْوَدُ مِنْ إطْلَاقِ أَحَدِهِمَا فَمَا كَانَ مِنْ اللَّوَازِمِ يَرْضَاهُ الْقَائِلُ بَعْدَ وُضُوحِهِ لَهُ فَهُوَ قَوْلُهُ، وَمَا لَا يَرْضَاهُ فَلَيْسَ قَوْلُهُ. وَإِنْ كَانَ مُتَنَاقِضًا. وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّازِمِ الَّذِي يَجِبُ الْتِزَامُهُ مَعَ مَلْزُومِ اللَّازِمِ الَّذِي يَجِبُ تَرْكُ الْمَلْزُومِ لِلُزُومِهِ. فَإِذَا عُرِفَ هَذَا عُرِفَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَالْوَاقِعِ مِنْهَا. وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ فِي اللَّوَازِمِ الَّتِي لَمْ يُصَرِّحْ هُوَ بِعَدَمِ لُزُومِهَا. فَأَمَّا إذَا نَفَى هُوَ اللُّزُومَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ اللَّازِمُ بِحَالِ؛ وَإِلَّا

ص: 42

لَأُضِيفَ إلَى كُلِّ عَالِمٍ مَا اعْتَقَدْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ؛ لِكَوْنِهِ مُلْتَزِمًا لِرِسَالَتِهِ فَلَمَّا لَمْ يُضِفْ إلَيْهِ مَا نَفَاهُ عَنْ الرَّسُولِ؛ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ: ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّازِمِ الَّذِي لَمْ يَنْفِهِ وَاللَّازِمِ الَّذِي نَفَاهُ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ نَفْيَهُ لِلُزُومِ مَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ اجْتِهَادَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ. وَسَبَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ - مَعَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا: - أَنَّ الْعَالِمَ قَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ حُسْنِ الْقَصْدِ وَالِاجْتِهَادِ وَهُوَ مَأْمُورٌ فِي الظَّاهِرِ بِاعْتِقَادِ مَا قَامَ عِنْدَهُ دَلِيلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا؛ لَكِنَّ اعْتِقَادًا لَيْسَ بِيَقِينِيِّ كَمَا يُؤْمَرُ الْحَاكِمُ بِتَصْدِيقِ الشَّاهِدَيْنِ ذوي الْعَدْلِ وَإِنْ كَانَا فِي الْبَاطِنِ قَدْ أَخْطَآ أَوْ كَذَبَا وَكَمَا يُؤْمَرُ الْمُفْتِي بِتَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ أَوْ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ، فَيَعْتَقِدُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ مُطَابِقًا. فَالِاعْتِقَادُ الْمَطْلُوبُ هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ الْعِبَادُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُطَابِقٍ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ فِي الْبَاطِنِ بِاعْتِقَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ قَطُّ. فَإِذَا اعْتَقَدَ الْعَالِمُ اعْتِقَادَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ فِي قَضِيَّةٍ أَوْ قَضِيَّتَيْنِ مَعَ قَصْدِهِ لِلْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ لِمَا أُمِرَ بِاتِّبَاعِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ: عُذِّرَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ وَهُوَ الْخَطَأُ الْمَرْفُوعُ عَنَّا؛ بِخِلَافِ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ. فَإِنَّهُمْ {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} وَيَجْزِمُونَ بِمَا يَقُولُونَهُ بِالظَّنِّ وَالْهَوَى

ص: 43

جَزْمًا لَا يَقْبَلُ النَّقِيضَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِجَزْمِهِ، فَيَعْتَقِدُونَ مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِاعْتِقَادِهِ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا. وَيَقْصِدُونَ مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِقَصْدِهِ وَيَجْتَهِدُونَ اجْتِهَادًا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ، فَلَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالْقَصْدِ مَا يَقْتَضِي مَغْفِرَةَ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ فَكَانُوا ظَالِمِينَ شَبِيهًا بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ أَوْ جَاهِلِينَ شَبِيهًا بِالضَّالِّينَ. فَالْمُجْتَهِدُ الِاجْتِهَادَ الْعِلْمِيَّ الْمَحْضَ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ سِوَى الْحَقِّ. وَقَدْ سَلَكَ طَرِيقَهُ. وَأَمَّا مُتَّبِعُ الْهَوَى الْمَحْضِ: فَهُوَ مَنْ يَعْلَمُ الْحَقَّ وَيُعَانِدُ عَنْهُ. وَثَمَّ قِسْمٌ آخَرُ - وَهُوَ غَالِبُ النَّاسِ - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ هَوًى فِيهِ شُبْهَةٌ فَتَجْتَمِعُ الشَّهْوَةُ وَالشُّبْهَةُ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ وَيُحِبُّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ} . فَالْمُجْتَهِدُ الْمَحْضُ مَغْفُورٌ لَهُ وَمَأْجُورٌ. وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمَحْضِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْعَذَابِ. وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ الِاجْتِهَادَ الْمُرَكَّبَ مِنْ شُبْهَةٍ وَهَوًى: فَهُوَ مُسِيءٌ. وَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ حَسَبَ مَا يَغْلِبُ وَبِحَسَبِ الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ.

ص: 44

وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ - مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى فِقْهٍ أَوْ تَصَوُّفٍ - مُبْتَلُونَ بِذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ أُصُولُ مَالِكٍ وَأُصُولُ أَحْمَد وَبَعْضُ أُصُولِ غَيْرِهِمَا: هُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ. وَعَلَيْهِ يَدُلُّ غَالِبُ مُعَامَلَاتِ السَّلَفِ. وَلَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُ النَّاسِ فِي مَعَاشِهِمْ إلَّا بِهِ وَكُلُّ مَنْ تَوَسَّعَ فِي تَحْرِيمِ مَا يَعْتَقِدُهُ غَرَرًا: فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَضْطَرَّ إلَى إجَازَةِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ. فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مَذْهَبِهِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِمَّا أَنْ يَحْتَالَ. وَقَدْ رَأَيْنَا النَّاسَ وَبَلَغَتْنَا أَخْبَارُهُمْ فَمَا رَأَيْنَا أَحَدًا الْتَزَمَ مَذْهَبَهُ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ مَفْسَدَةَ التَّحْرِيمِ لَا تَزُولُ بِالْحِيلَةِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا. فَمِنْ الْمُحَالِ: أَنْ يُحَرِّمُ الشَّارِعُ عَلَيْنَا أَمْرًا نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ ثُمَّ لَا يُبِيحُهُ إلَّا بِحِيلَةٍ لَا فَائِدَةَ فِيهَا. وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ اللَّعِبِ.

وَلَقَدْ تَأَمَّلْت أَغْلَبَ مَا أَوْقَعَ النَّاسَ فِي الْحِيَلِ فَوَجَدْته أَحَدَ شَيْئَيْنِ: إمَّا ذُنُوبٌ جَوَّزُوا عَلَيْهَا بِتَضْيِيقٍ فِي أُمُورِهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا دَفْعَ هَذَا الضِّيقِ إلَّا بِالْحِيَلِ فَلَمْ تَزِدْهُمْ الْحِيَلُ إلَّا بَلَاءً كَمَا جَرَى لِأَصْحَابِ السَّبْتِ مِنْ الْيَهُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وَهَذَا الذَّنْبُ ذَنْبٌ عَمَلِيٌّ. وَإِمَّا مُبَالَغَةٌ فِي التَّشْدِيدِ لِمَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ تَحْرِيمِ الشَّارِعِ فَاضْطَرَّهُمْ هَذَا الِاعْتِقَادُ إلَى الِاسْتِحْلَالِ بِالْحِيَلِ. وَهَذَا مِنْ خَطَأِ الِاجْتِهَادِ؛ وَإِلَّا فَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَأَخَذَ مَا أَحَلَّ

ص: 45

لَهُ وَأَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يحوجه إلَى الْحِيَلِ الْمُبْتَدَعَةِ أَبَدًا. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَإِنَّمَا بَعَثَ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ. فَالسَّبَبُ الْأَوَّلُ: هُوَ الظُّلْمُ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي: هُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ. وَالظُّلْمُ وَالْجَهْلُ هُمَا وَصْفٌ لِلْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} . وَأَصْلُ هَذَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْأَعْيَانِ: كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ؛ أَوْ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ: كَالْمَيْسِرِ وَالرِّبَا وَمَا يَدْخُلُ فِيهِمَا مِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ وَغَيْرِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي نَبَّهَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَرَسُولُهُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: أَنَّ الْمَيْسِرَ يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ سَوَاءٌ كَانَ مَيْسِرًا بِالْمَالِ أَوْ بِاللَّعِبِ؛ فَإِنَّ الْمُغَالَبَةَ بِلَا فَائِدَةٍ وَأَخْذَ الْمَالِ بِلَا حَقٍّ يُوقِعُ فِي النُّفُوسِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ رَوَى فَقِيهُ الْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: " {كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ، فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ قَالَ الْمُبْتَاعُ: إنَّهُ أَصَابَ الثَّمَرَ دَمَانٌ، أَصَابَهُ مِرَاضٌ أَصَابَهُ قُشَامٌ: عَاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ -: فَأَمَّا لَا فَلَا تَبَايَعُوا حَتَّى يَبْدُوَ

ص: 46

صَلَاحُ الثَّمَرِ كَالْمَشُورَةِ لَهُمْ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ} وَذَكَرَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ: " {أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا فَيَتَبَيَّنُ الْأَحْمَرُ مِنْ الْأَصْفَرِ} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَأَبُو دَاوُد إلَى قَوْلِهِ: " خُصُومَتِهِمْ ". وَرَوَى أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ قَالَ: "{قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ نَتَبَايَعُ الثِّمَارَ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُصُومَةً. فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ هَؤُلَاءِ ابْتَاعُوا الثِّمَارَ يَقُولُونَ: أَصَابَهَا الدَّمَانُ وَالْقُشَامُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا تَبَايَعُوهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا} . فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ سَبَبَ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ: مَا أَفَضْت إلَيْهِ مِنْ الْخِصَامِ. وَهَكَذَا بُيُوعُ الْغَرَرِ. وَقَدْ ثَبَتَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ. وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ تَعْلِيلُهُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ: " {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهَى قِيلَ: وَمَا تُزْهَى؟ قَالَ: حَتَّى تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَأَيْت إذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟} وَفِي رِوَايَةٍ " {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَزْهُوَ فَقُلْنَا لِأَنَسِ: مَا زَهْوُهَا. قَالَ: تَحْمَرُّ

ص: 47

أَوْ تَصْفَرُّ أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيك؟} قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ: جَعَلَ مَالِكٌ والدراوردي قَوْلَ أَنَسٍ: " {أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ} مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَدْرَجَاهُ فِيهِ: وَيَرَوْنَ أَنَّهُ غَلَطٌ. فَهَذَا التَّعْلِيلُ - سَوَاءٌ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ كَلَامِ أَنَسٍ - فِيهِ بَيَانُ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَكْلًا لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ حَيْثُ أَخَذَهُ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ بِلَا عِوَضٍ مَضْمُونٍ. وَإِذَا كَانَتْ مَفْسَدَةُ بَيْعِ الْغَرَرِ هِيَ كَوْنُهُ مَظِنَّةَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَأَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ: فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ إذَا عَارَضَتْهَا الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا كَمَا أَنَّ السِّبَاقَ بِالْخَيْلِ وَالسِّهَامِ وَالْإِبِلِ. لَمَّا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ جَازَ بِالْعِوَضِ. وَإِنْ لَمْ يَجُزْ غَيْرُهُ بِعِوَضِ. وَكَمَا أَنَّ اللَّهْوَ الَّذِي يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ - وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ "{كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ} - صَارَ هَذَا اللَّهْوُ حَقًّا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الضَّرَرَ عَلَى النَّاسِ بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِمَّا قَدْ يَتَخَوَّفُ فِيهَا مِنْ تَبَاغُضٍ وَأَكْلِ مَالٍ بِالْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ فِيهَا

ص: 48

يَسِيرٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْحَاجَةُ إلَيْهَا مَاسَّةٌ. وَالْحَاجَةُ الشَّدِيدَةُ يَنْدَفِعُ بِهَا يَسِيرُ الْغَرَرِ. وَالشَّرِيعَةُ جَمِيعُهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَفْسَدَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّحْرِيمِ إذَا عَارَضَتْهَا حَاجَةٌ رَاجِحَةٌ أُبِيحَ الْمُحَرَّمُ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ مُنْتَفِيَةً وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَى بَقَاءِ الثَّمَرِ بَعْدَ الْبَيْعِ عَلَى الشَّجَرِ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ أَبَاحَ الشَّرْعُ ذَلِكَ وَقَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. كَمَا سَنُقَرِّرُ قَاعِدَتَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ: أَنَّهَا إذَا تَلِفَتْ بَعْدَ الْبَيْعِ بِجَائِحَةٍ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ. كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " {لَوْ بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا. بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيك بِغَيْرِ حَقٍّ؟} . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ عَنْهُ: " {أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِ‌

‌وَضْعِ الْجَوَائِحِ}

. وَالشَّافِعِيُّ رضي الله عنه لَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْحَدِيثُ - وَإِنَّمَا بَلَغَهُ حَدِيثٌ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة فِيهِ اضْطِرَابٌ - أَخَذَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ الْكُوفِيِّينَ: إنَّهَا تَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ قَدْ تَلِفَ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَهُ قَبْضٌ. وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الْكُوفِيِّينَ أَمْشَى؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ إبْقَاءَهُ عَلَى الشَّجَرِ وَإِنَّمَا مُوجِبُ الْعَقْدِ عِنْدَهُمْ: الْقَبْضُ النَّاجِزُ بِكُلِّ حَالٍ. وَهُوَ طَرْدٌ لِقِيَاسٍ سَنَذْكُرُ أَصْلَهُ وَضَعْفَهُ مَعَ

ص: 49

أَنَّ مَصْلَحَةَ بَنِي آدَمَ لَا تَقُومُ عَلَى ذَلِكَ. مَعَ أَنِّي لَا أَعْلَمُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سُنَّةً صَرِيحَةً بِأَنَّ الْمَبِيعَ التَّالِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ يَكُونُ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِتَلَفِهِ إلَّا حَدِيثَ الْجَوَائِحِ هَذَا. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ لَكَانَ الِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ يُوَافِقُهُ وَهُوَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: {بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟} فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلثَّمَرَةِ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ جِذَاذِهَا عِنْدَ كَمَالِهَا وَنُضْجِهَا لَا عِنْدَ الْعَقْدِ كَمَا أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا. فَتَلَفُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْجِذَاذِ كَتَلَفِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَفِي الْإِجَارَةِ يَتْلَفُ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ بِالِاتِّفَاقِ. فَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَمْلِكْ الْمَنْفَعَةَ وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَمْلِكْ الْإِبْقَاءَ. وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَقُولُ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَسَنَذْكُرُ أَصْلَهُ. فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَى عَنْ بَيْعِهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " {لَا تَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ وَتَذْهَبَ عَنْهُ الْآفَةُ} وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ عَنْهُ: "{نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ وَعَنْ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ: نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ} وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: " {نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُحْرَزَ مِنْ كُلِّ عَارِضٍ} .

ص: 50

فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ كَوْنَهُ كَانَ مَعْدُومًا. فَإِنَّهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَأَمْنِهِ الْعَاهَةَ يَزِيدُ أَجْزَاءً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْعَقْدِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْأَمْنَ مِنْ الْعَاهَاتِ النَّادِرَةِ. فَإِنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ؛ إذْ قَدْ يُصِيبُهَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ {أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} وَمَا ذَكَرَهُ فِي " سُورَةِ يُونُسَ " فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ ذَهَابُ الْعَاهَةِ الَّتِي يَتَكَرَّرُ وُجُودُهَا وَهَذِهِ إنَّمَا تُصِيبُ الزَّرْعَ قَبْلَ اشْتِدَادِ الْحَبِّ وَقَبْلَ ظُهُورِ النُّضْجِ فِي الثَّمَرِ؛ إذْ الْعَاهَةُ بَعْدَ ذَلِكَ نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا قَبْلَهُ وَلِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَ بَيْعَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْغَايَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَقْتٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَى حِينِ كَمَالِ الصَّلَاحِ. وَبَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ بَعْدَ كَمَالِ صَلَاحِهِ مُتَعَذَّرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْمُلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَإِيجَابُ قَطْعِهِ عَلَى مَالِكِهِ فِيهِ ضَرَرٌ مُرْبٍ عَلَى ضَرَرِ الْغَرَرِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدَّمَ مَصْلَحَةَ جَوَازِ الْبَيْعِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى مَفْسَدَةِ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ كَمَا تَقْتَضِيهِ أُصُولُ الْحِكْمَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا صلى الله عليه وسلم وَعَلَّمَهَا أُمَّتَهُ. وَمَنْ طَرَدَ الْقِيَاسَ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ نَاظِرٍ إلَى مَا يُعَارِضُ عِلَّتَهُ مِنْ الْمَانِعِ الرَّاجِحِ: أَفْسَدَ كَثِيرًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَضَاقَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَدِينُهُ.

ص: 51

وَأَيْضًا: فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ: " {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إبِلٌ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ فَرَجَعَ إلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إلَّا خِيَارًا رباعيا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْطِهِ إيَّاهُ فَإِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً} . فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِسْلَافِ فِيمَا سِوَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَنَحْوِهِ كَمَا عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ وَالْحَدِيثِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرْضَ مُوجِبُهُ رَدُّ الْمِثْلِ وَالْحَيَوَانُ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا عَنْ مَالٍ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ مِثْلُ الْحَيَوَانِ تَقْرِيبًا فِي الذِّمَّةِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ؛ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ وَوَجْهٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْقِيمَةِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ: هُوَ التَّقْرِيبُ وَإِلَّا فَيَعِزُّ وُجُودُ حَيَوَانٍ مِثْلُ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ. لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ وَأَنَّهُ مَضْمُونٌ فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ بِالْقِيمَةِ. وَأَيْضًا: فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْجِيلِ الدُّيُونِ إلَى الْحَصَادِ وَالْجِذَاذِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد. إحْدَاهُمَا: يَجُوزُ كَقَوْلِ مَالِكٍ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ يَدُلُّ عَلَيْهِ.

ص: 52

وَأَيْضًا: فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ فِي قَوْله تَعَالَى {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} وَالسُّنَّةُ فِي حَدِيثِ بروع بِنْتِ وَاشِقٍ وَإِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِدُونِ فَرْضِ الصَّدَاقِ. وَتَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ إذَا دَخَلَ بِهَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَإِذَا مَاتَ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِحَدِيثِ بروع بِنْتِ وَاشِقٍ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مُتَقَارِبٌ لَا مَحْدُودٌ فَلَوْ كَانَ التَّحْدِيدُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَهْرِ مَا جَازَ النِّكَاحُ بِدُونِهِ وَكَمَا رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه " {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ حَتَّى يُبَيَّنَ لَهُ أَجْرُهُ وَعَنْ بَيْعِ اللَّمْسِ وَالنَّجْش وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ} فَمَضَتْ الشَّرِيعَةُ بِجَوَازِ النِّكَاحِ قَبْلَ فَرْضِ الْمَهْرِ وَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا مَعَ تَبْيِينِ الْأَجْرِ فَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَسَبَبُهُ: أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ - وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ - غَيْرُ مَحْدُودَةٍ؛ بَلْ الْمَرْجِعُ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ؛ فَكَذَلِكَ عِوَضُهُ الْآخَرُ لِأَنَّ الْمَهْرَ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ وَإِنَّمَا هُوَ نِحْلَةٌ تَابِعَةٌ، فَأَشْبَهَ الثَّمَرَ التَّابِعَ لِلشَّجَرِ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ. وَكَذَلِكَ لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ هَوَازِنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ السَّبْيِ وَبَيْنَ الْمَالِ فَاخْتَارُوا السَّبْيَ وَقَالَ لَهُمْ: " {إنِّي قَائِمٌ فَخَاطَبَ النَّاسَ فَقُولُوا: إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ

ص: 53

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَنَسْتَشْفِعُ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ. وَقَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: إنِّي قَدْ رَدَدْت عَلَى هَؤُلَاءِ سَبْيَهُمْ فَمَنْ شَاءَ طَيَّبَ ذَلِكَ وَمَنْ شَاءَ فَإِنَّا نُعْطِيهِ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ عَشْرَ قَلَائِصَ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا} فَهَذَا مُعَاوَضَةٌ عَنْ الْإِعْتَاقِ كَعِوَضِ الْكِتَابَةِ بِإِبِلٍ مُطْلَقَةٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ مُتَفَاوِتٍ غَيْرِ مَحْدُودٍ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي حَدِيثِ خَيْبَرَ " {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَاتَلَهُمْ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إلَى قَصْرِهِمْ وَغَلَبَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخْلِ فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَجْلُوا مِنْهَا وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ وَلِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ وَالْحَلْقَةُ وَهِيَ السِّلَاحُ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيِّبُوا شَيْئًا. فَإِنْ فَعَلُوا فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ} فَهَذَا مُصَالَحَةٌ عَلَى مَالٍ مُتَمَيِّزٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "{صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ: النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَقِيَّةُ فِي رَجَبٍ يُؤَدُّونَهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَارِيَةِ ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ فَرَسًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا وَثَلَاثِينَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ السِّلَاحِ يَغْزُونَ بِهَا وَالْمُسْلِمُونَ ضَامِنُونَ لَهَا حَتَّى يَرُدُّوهَا عَلَيْهِمْ إنْ كَانَ بِالْيَمَنِ كَيْدٌ أَوْ غَارَةٌ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَهَذَا مُصَالَحَةٌ عَلَى ثِيَابٍ مُطْلَقَةٍ مَعْلُومَةِ

ص: 54

الْجِنْسِ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ بِصِفَاتِ السَّلَمِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ عَارِيَةِ خَيْلٍ وَإِبِلٍ وَأَنْوَاعٍ مِنْ السِّلَاحِ مُطْلَقَةٍ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ عِنْدَ شَرْطٍ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ. فَظَهَرَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ الْعِوَضَ عَمَّا لَيْسَ بِمَالِ - كَالصَّدَاقِ وَالْكِتَابَةِ وَالْفِدْيَةِ فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْجِزْيَةِ وَالصُّلْحِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ - لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنْ يَعْلَمَ الثَّمَنَ وَالْأُجْرَةَ. وَلَا يُقَاسُ عَلَى بَيْعِ الْغَرَرِ كُلُّ عَقْدٍ عَلَى غَرَرٍ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ إمَّا أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ أَوْ لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْهَا. وَمَا لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ إذَا وَقَعَ فِيهِ غَرَرٌ لَمْ يُفْضِ إلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَيْعِ بَلْ يَكُونُ إيجَابُ التَّحْدِيدِ فِي ذَلِكَ فِيهِ مِنْ الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ الْمَنْفِيِّ شَرْعًا مَا يَزِيدُ عَلَى ضَرَرِ تَرْكِ تَحْدِيدِهِ.

فَصْلٌ:

وَمِمَّا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَمِنْ مَسَائِلِ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ: مَا قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَكْثَرِهَا لَا سِيَّمَا دِمَشْقُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ تَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى غِرَاسٍ وَأَرْضٍ تَصْلُحُ لِلزَّرْعِ وَرُبَّمَا اشْتَمَلَتْ مَعَ ذَلِكَ عَلَى مَسَاكِنَ

ص: 55

فَيُرِيدُ صَاحِبُهَا أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِمَنْ يَسْقِيهَا وَيَزْرَعُهَا أَوْ يُسْكِنُهَا مَعَ ذَلِكَ. فَهَذَا - إذَا كَانَ فِيهَا أَرْضٌ وَغِرَاسٌ - مِمَّا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِحَالِ وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ إذَا كَانَ الشَّجَرُ قَلِيلًا وَكَانَ الْبَيَاضُ الثُّلُثَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ؛ وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَكْرَى دَارًا فِيهَا نَخَلَاتٌ قَلِيلَةٌ أَوْ شَجَرَاتُ عِنَبٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَعَنْ أَحْمَد كَالْقَوْلَيْنِ. قَالَ الكرماني: قِيلَ لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَسْتَأْجِرُ الْأَرْضَ فِيهَا نَخَلَاتٌ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ اسْتَأْجَرَ شَجَرًا لَمْ يُثْمِرْ وَكَأَنَّهُ لَمْ يُعْجِبْهُ أَظُنُّهُ: إذَا أَرَادَ الشَّجَرَ فَلَمْ أَفْهَمْ عَنْ أَحْمَد أَكْثَرَ مِنْ هَذَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ فِيمَا إذَا بَاعَ رِبَوِيًّا بِجِنْسِهِ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ هُوَ غَيْرَ الْجِنْسِ كَشَاةِ ذَاتِ صُوفٍ أَوْ لَبَنٍ بِصُوفٍ أَوْ لَبَنٍ رِوَايَتَانِ. وَأَكْثَرُ أُصُولِهِ عَلَى الْجَوَازِ كَقَوْلِ مَالِكٍ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ: إذَا ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ وَكَانَ مَقْصُودُهُ الْعَبْدَ: جَازَ؛ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مَجْهُولًا أَوْ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ. وَلِأَنَّهُ يَقُولُ: إذَا ابْتَاعَ أَرْضًا أَوْ شَجَرًا فِيهَا ثَمَرٌ أَوْ زَرْعٌ لَمْ يُدْرَكْ: يَجُوزُ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ

ص: 56

الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ. وَهَذَا فِي الْبَيْعِ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا فِي الْإِجَارَةِ فَإِنَّ ابْتِيَاعَ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَائِهَا. وَاشْتِرَاءُ النَّخْلِ وَدُخُولُ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تَأْمَنْ الْعَاهَةَ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ: بِمَنْزِلَةِ دُخُولِ ثَمَرِ النَّخَلَاتِ وَالْعِنَبِ فِي الْإِجَارَةِ تَبَعًا. وَحُجَّةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَنْعِ: مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ وَبَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ. كَمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: " {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ} . وَفِيهِمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: "{نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تَشْقُحَ. قِيلَ: وَمَا تَشْقُحُ؟ قَالَ: تَحْمَارُّ أَوْ تَصْفَارُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا} . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ: أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ مِنْ كَلَامِ سَعِيدِ بْنِ الْمُثَنَّى الْمُحَدِّثِ عَنْ جَابِرٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " {نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ وَالْمُخَابَرَةِ} وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: " وَعَنْ بَيْعِ السِّنِينَ " بَدَلَ " الْمُعَاوَمَةِ " وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أنيسة عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ: "{أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَأَنْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ حَتَّى يشقه} والإشقاه:

ص: 57

أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَالْمُحَاقَلَةُ: أَنْ يُبَاعَ الْحَقْلُ بِكَيْلٍ مِنْ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ. وَالْمُزَابَنَةُ: أَنْ يُبَاعَ النَّخْلُ بِأَوْسَاقٍ مِنْ التَّمْرِ. وَالْمُخَابَرَةُ: الثُّلُثُ أَوْ الرُّبُعُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. قَالَ زَيْدٌ: قُلْت لِعَطَاءِ: أَسَمِعْت جَابِرًا يَذْكُرُ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ " وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي البختري. قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ. فَقَالَ: "{نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ أَوْ يُؤْكَلَ وَحَتَّى يُوزَنَ. فَقُلْت: مَا يُوزَنُ؟ فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: حَتَّى يُحْرَزَ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " {وَلَا تَتَبَايَعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَلَا تَتَابَعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ} . وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ ثَمَرِ النَّخْلِ سِنِينَ لَا يَجُوزُ. قَالُوا: فَإِذَا أَكْرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ فَقَدْ بَاعَهُ الثَّمَرَ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ، وَبَاعَهُ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ مُطْلَقًا طَرَدَ الْعُمُومَ وَالْقِيَاسَ. وَمَنْ جَوَّزَهُ إذَا كَانَ قَلِيلًا قَالَ: الْغَرَرُ الْيَسِيرُ يُحْتَمَلُ فِي الْعُقُودِ كَمَا لَوْ ابْتَاعَ النَّخْلَ وَعَلَيْهَا ثَمَرٌ لَمْ يُؤَبَّرْ أَوْ أُبِّرَ وَلَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ. وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ جِدًّا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مِنْ فُقَهَاءِ

ص: 58

الْحَدِيثِ وَلَكِنْ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجَوِّزُ ابْتِيَاعَ الثَّمَرِ بِشَرْطِ الْبَقَاءِ وَيُجَوِّزُ ابْتِيَاعَهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ. وَمُوجِبُ الْعَقْدِ: الْقَطْعُ فِي الْحَالِ فَإِذَا ابْتَاعَهُ مَعَ الْأَصْلِ. فَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ إبْقَاءَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مِلْكُهُ، وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إجَارَةِ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ كَثِيرٌ: إجْمَاعٌ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ وَدُخُولُ الشَّجَرِ فِي الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ وَإِلَيْهِ مَالَ حَرْبٌ الكرماني وَهَذَا الْقَوْلُ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ خِلَافَهُ. فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ - وَرَوَاهُ عَنْهُ حَرْبٌ الكرماني فِي مَسَائِلِهِ - قَالَ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: " أَنَّ أسيد بْنَ حضير تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَدَعَا عُمَرُ غُرَمَاءَهُ فَقَبِلَهُمْ أَرْضَهُ سِنِينَ وَفِيهَا النَّخْلُ وَالشَّجَرُ ". وَأَيْضًا: فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ضَرَبَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ وَغَيْرِهَا. فَأَقَرَّ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا النَّخْلُ وَالْعِنَبُ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْأَرْضِ وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ أَجْرِبَةِ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ وَالْبَيْضَاءِ خَرَاجًا

ص: 59

مُقَدَّرًا. وَالْمَشْهُورُ: أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى جَرِيبِ الْعِنَبَ: عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ: ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ. وَعَلَى جَرِيبِ الرُّطَبَةِ: سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَعَلَى جَرِيبِ الزَّرْعِ: دِرْهَمًا وَقَفِيزًا مِنْ طَعَامٍ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: أَنَّ هَذِهِ الْمُخَارَجَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْمُؤَاجَرَةِ. وَإِنَّمَا لَمْ يؤقته لِعُمُومِ الْمَصْلَحَةِ. وَإِنَّ الْخَرَاجَ أُجْرَةُ الْأَرْضِ. فَهَذَا بِعَيْنِهِ إجَارَةُ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ وَهُوَ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ فِي زَمَانِهِ وَبَعْدَهُ وَلِهَذَا تَعَجَّبَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " كِتَابِ الْأَمْوَالِ " مِنْ هَذَا. فَرَأَى أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ تُخَالِفُ مَا عَلِمَهُ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ. وَحُجَّةُ ابْنِ عَقِيلٍ: أَنَّ إجَارَةَ الْأَرْضِ جَائِزَةٌ. وَالْحَاجَةُ إلَيْهَا دَاعِيَةٌ وَلَا يُمْكِنُ إجَارَتُهَا إذَا كَانَ فِيهَا شَجَرٌ إلَّا بِإِجَارَةِ الشَّجَرِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْجَائِزُ إلَّا بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ. لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَتَبَرَّعُ بِسَقْيِ الشَّجَرِ وَقَدْ لَا يُسَاقِي عَلَيْهَا. وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ. فَإِذَا سَاقَى الْعَامِلُ عَلَى شَجَرٍ فِيهَا بَيَاضٌ جَوَّزَا الْمُزَارَعَةَ فِي ذَلِكَ الْبَيَاضِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ فَيُجَوِّزُهُ مَالِكٌ إذَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ كَمَا قَالَ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُهُ إذَا كَانَ الْبَيَاضُ قَلِيلًا

ص: 60

لَا يُمْكِنُ سَقْيُ النَّخْلِ إلَّا بِسَقْيِهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا وَالنَّخْلُ قَلِيلًا فَفِيهِ لِأَصْحَابِهِ وَجْهَانِ. هَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ كَالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ فَأَمَّا إنْ فَاضَلَ بَيْن الْجُزْأَيْنِ. فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ وَقَدَّمَ الْمُسَاقَاةَ فَفِيهِ وَجْهَانِ. فَأَمَّا إنْ قَدَّمَ الْمُزَارَعَةَ لَمْ تَصِحَّ الْمُزَارَعَةُ وَجْهًا وَاحِدًا. فَقَدْ جَوَّزَ الْمُزَارَعَةَ الَّتِي لَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ. فَكَذَلِكَ يُجَوِّزُ إجَارَةَ الشَّجَرِ تَبَعًا لِإِجَارَةِ الْأَرْضِ. وَقَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ هُوَ قِيَاسُ أَحَدِ وَجْهَيْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِلَا شَكٍّ؛ وَلِأَنَّ الْمَانِعِينَ مِنْ هَذَا: هُمْ بَيْنَ مُحْتَالٍ عَلَى جَوَازِهِ أَوْ مُرْتَكِبٍ لِمَا يَظُنُّ أَنَّهُ حَرَامٌ أَوْ ضَارٌّ وَمُتَضَرِّرٌ. فَإِنَّ الْكُوفِيِّينَ احْتَالُوا عَلَى الْجَوَازِ: تَارَةً بِأَنْ يُؤَجِّرَ الْأَرْضَ فَقَطْ وَيُبِيحَهُ ثَمَرَ الشَّجَرِ كَمَا يَقُولُونَ فِي بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا يَبِيعُهُ إيَّاهَا مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ الْقَطْعِ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ وَيُبِيحُهُ إبْقَاءَهَا. وَهَذِهِ الْحِيلَةُ مَنْقُولَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَتَارَةً بِأَنْ يُكْرِيَهُ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ وَيُسَاقِيَهُ عَلَى الشَّجَرِ بِالْمُحَابَاةِ؛ مِثْلَ أَنْ يُسَاقِيَهُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ الثَّمَرَةِ لِلْمَالِكِ. وَهَذِهِ الْحِيلَةُ إنَّمَا يُجَوِّزُهَا مَنْ يُجَوِّزُ الْمُسَاقَاةَ كَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ

ص: 61

وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَا يُجَوِّزُهَا بِحَالٍ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ إنَّمَا يُجَوِّزُهَا فِي الْجَدِيدِ فِي النَّخْلِ وَالْعِنَبِ. فَقَدْ اُضْطُرُّوا فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ إلَى أَنْ تُسَمَّى الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَيَتَبَرَّعُ لَهُ إمَّا بِإِعْرَاءِ الشَّجَرِ وَإِمَّا بِالْمُحَابَاةِ فِي مُسَاقَاتِهَا. وَلِفَرْطِ الْحَاجَةِ إلَى هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي إبْطَالِ الْحِيَلِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد هَذِهِ الْحِيلَةَ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ الْحِيَلِ - أَعْنِي حِيلَةَ الْمُحَابَاةِ فِي الْمُسَاقَاةِ - وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ: إبْطَالُ هَذِهِ الْحِيلَةِ بِعَيْنِهَا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. وَالْمَنْعُ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ هُوَ الصَّحِيحُ قَطْعًا؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرُو أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " {لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنُ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك} رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الْخَمْسَةُ: أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَابْنُ مَاجَه. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَنَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ. فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ سَلَفٍ وَإِجَارَةٍ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ أَوْ مِثْلِهِ. وَكُلُّ تَبَرُّعٍ يَجْمَعُهُ إلَى الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ مِثْلَ: الْهِبَةِ وَالْعَارِيَة وَالْعُرْيَةِ وَالْمُحَابَاةِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: هِيَ مِثْلُ الْقَرْضِ. فَجِمَاعُ مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَ مُعَاوَضَةٍ وَتَبَرُّعٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ

ص: 62

التَّبَرُّعَ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْمُعَاوَضَةِ؛ لَا تَبَرُّعًا مُطْلَقًا، فَيَصِيرُ جُزْءًا مِنْ الْعِوَضِ فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ جَمَعَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَقْرَضَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ بِأَلْفِ: لَمْ يَرْضَ بِالْإِقْرَاضِ إلَّا بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ لِلسِّلْعَةِ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَرْضَ بِبَذْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ الزَّائِدِ إلَّا لِأَجْلِ الْأَلْفِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا، فَلَا هَذَا بَاعَ بَيْعًا بِأَلْفِ وَلَا هَذَا أَقْرَضَ قَرْضًا مَحْضًا؛ بَلْ الْحَقِيقَةُ: أَنَّهُ أَعْطَاهُ الْأَلْفَ وَالسِّلْعَةَ بِأَلْفَيْنِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ " مُدِّ عَجْوَةٍ " فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ أَخْذَ أَلْفٍ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ: حَرُمَ بِلَا تَرَدُّدٍ وَإِلَّا خَرَجَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ، وَهَكَذَا مَنْ اكْتَرَى الْأَرْضَ الَّتِي تُسَاوِي مِائَةً بِأَلْفٍ وَأَعْرَاهُ الشَّجَرَ أَوْ رَضِيَ مِنْ ثَمَرِهَا بِجُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ. فَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ: أَنَّهُ إنَّمَا تَبَرَّعَ بِالثَّمَرَةِ لِأَجْلِ الْأَلْفِ الَّتِي أَخَذَهَا وَأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا بَذَلَ الْأَلْفَ لِأَجْلِ الثَّمَرَةِ فَالثَّمَرَةُ هِيَ جُلُّ الْمَقْصُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْضُهُ فَلَيْسَتْ الْحِيلَةُ إلَّا ضَرْبًا مِنْ اللَّعِبِ وَالْإِفْسَادِ؛ وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ. وَاَلَّذِينَ لَا يَحْتَالُونَ أَوْ يَحْتَالُونَ وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ فَسَادُ هَذِهِ الْحِيلَةِ هُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ وَيَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ فَاعِلُونَ لِلْمُحَرَّمِ كَمَا رَأَيْنَا عَلَيْهِ أَكْثَرَ النَّاسِ. وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ وَيَتْرُكُوا تَنَاوُلَ الثِّمَارِ الدَّاخِلَةِ فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الضَّرَرِ

ص: 63

وَالِاضْطِرَارِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَلْتَزِمَ ذَلِكَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ فَمَا يُمْكِنُ الْمُسْلِمِينَ الْتِزَامُ ذَلِكَ إلَّا بِفَسَادِ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ قَطُّ فَضْلًا عَنْ شَرِيعَةٍ قَالَ اللَّهُ فِيهَا: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " {إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ} "{يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا} " {لِيَعْلَمَ الْيَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا سِعَةً} فَكُلُّ مَا لَا يَتِمُّ الْمَعَاشُ إلَّا بِهِ فَتَحْرِيمُهُ حَرَجٌ، وَهُوَ مُنْتَفٍ شَرْعًا. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا: أَنَّ تَحْرِيمَ مِثْلِ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْأُمَّةُ الْتِزَامَهُ قَطُّ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي لَا يُطَاقُ. فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامِ؛ بَلْ هُوَ أَشَدُّ مِنْ الْأَغْلَالِ وَالْآصَارِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَوَضَعَهَا اللَّهُ عَنَّا عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَمَنْ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ فِي مَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا وَجَدَهَا مَبْنِيَّةً عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَكُلُّ مَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَيْهِ فِي مَعَاشِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً - هِيَ تَرْكُ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلُ مُحَرَّمٍ - لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى الْمُضْطَرِّ الَّذِي لَيْسَ بِبَاغٍ وَلَا عَادٍ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً كَالْمُسَافِرِ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ اُضْطُرَّ فِيهِ إلَى الْمَيْتَةِ وَالْمُنْفِقِ لِلْمَالِ

ص: 64

فِي الْمَعَاصِي حَتَّى لَزِمَتْهُ الدُّيُونُ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ وَيُبَاحُ لَهُ مَا يُزِيلُ ضَرُورَتَهُ، فَتُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ وَيُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ مِنْ الزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ الظَّالِمُ لِنَفَسِهِ الْمُحْتَالُ وَحَالُهُ كَحَالِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ:{إذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وَقَوْلُهُ {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ} الْآيَةَ. وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ رُبَّمَا نُنَبِّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَيْهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَف الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ: هُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد وَبَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ بَعْدَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ التَّحْرِيمِ شَرْعًا وَعَقْلًا؛ فَإِنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ إنَّمَا تَتِمُّ بَعْدَ الْجَوَابِ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فِعْلِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ أسيد بْنِ الحضير. فَإِنَّهُ قَبِلَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ الَّذِي فِيهَا بِالْمَالِ الَّذِي كَانَ لِلْغُرَمَاءِ. وَهَذَا عَيْنُ مَسْأَلَتِنَا وَلَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّخْلَ وَالشَّجَرَ كَانَ قَلِيلًا. فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حِيطَانَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الشَّجَرَ وأسيد بْنُ الحضير كَانَ مِنْ سَادَاتِ الْأَنْصَارِ وَمَيَاسِيرِهِمْ. فَبَعِيدٌ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى حَائِطِهِ الْأَرْضَ الْبَيْضَاءَ. ثُمَّ هَذِهِ الْقِصَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تَشْتَهِرَ وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَهَا، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. وَكَذَلِكَ مَا ضَرَّ بِهِ مِنْ الْخَرَاجِ عَلَى

ص: 65

السَّوَادِ؛ فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُ خَرَاجًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِوَضٌ عَمَّا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ كَمَا يُسَمِّي النَّاسُ الْيَوْمَ كِرَاءَ الْأَرْضِ لِمَنْ يَغْرِسُهَا خَرَاجًا إذَا كَانَ عَلَى كُلِّ شَجَرَةٍ شَيْءٌ مَعْلُومٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} . وَمِنْهُ خَرَاجُ الْعَبْدِ؛ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ ضَرِيبَةٍ يُخْرِجُهَا لِسَيِّدِهِ مِنْ مَالِهِ، فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أُجْرَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ جَوَازَ مِثْلِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ ثَمَنٌ أَوْ عِوَضٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ غَيْرَهُ. وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ الصَّحَابَةُ - وَلَا نَظِيرَ لَهُ - لِأَجْلِ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ أَرْضٍ فِيهَا شَجَرٌ كَالْأَرْضِ الْمُفْتَتَحَةِ سَوَاءٌ. فَإِنَّهُ إنْ قِيلَ: يُمْكِنُ الْمُسَاقَاةُ أَوْ الْمُزَارَعَةُ. قِيلَ: وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ عُمَرُ الْمُسَاقَاةَ أَوْ الْمُزَارَعَةَ كَمَا فَعَلَ فِي أَثْنَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ؛ إمَّا فِي خِلَافَةِ الْمَنْصُورِ وَإِمَّا بَعْدَهُ؛ فَإِنَّهُمْ نَقَلُوا أَرْضَ السَّوَادِ مِنْ الْخَرَاجِ إلَى الْمُقَاسَمَةِ الَّتِي هِيَ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ. وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ الْكِرَاءِ بِإِزَاءِ الْأَرْضِ وَالتَّبَرُّعِ بِمَنْفَعَةِ الشَّجَرِ أَوْ الْمُحَابَاةِ فِيهَا. قِيلَ: وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ عُمَرُ ذَلِكَ. فَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالَتْ لَهُمْ أَرَضُونَ فِيهَا شَجَرٌ

ص: 66

تُكْرَى؛ بَلْ هَذَا غَالِبٌ عَلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ. وَنَعْلَمُ أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ يُعَمِّرُونَ أَرْضَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا غَالِبُهُمْ وَنَعْلَمُ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ قَدْ لَا تَتَيَسَّرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى عَامِلٍ أَمِينٍ وَمَا كُلُّ أَحَدٍ يَرْضَى بِالْمُسَاقَاةِ وَلَا كُلُّ مَنْ أَخَذَ الْأَرْضَ يَرْضَى بِالْمُشَارَكَةِ. فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا قَدْ كَانُوا يَكْرُونَ الْأَرْضَ السَّوْدَاءَ ذَاتَ الشَّجَرِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاحْتِيَالَ بِالتَّبَرُّعِ أَمْرٌ نَادِرٌ لَمْ يَكُنْ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَفْعَلُونَهُ. فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رضي الله عنه بِمَالِ أسيد بْنِ الحضير وَكَمَا يَفْعَلُهُ غَالِبُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ وَإِلَى الْيَوْمِ. فَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا هَذِهِ الْإِجَارَةَ وَلَا أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِحِيلَةِ التَّبَرُّعِ - مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِفِعْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ - عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَفْعَلُونَهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. فَيَكُونُ فِعْلُهَا كَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ. وَلَعَلَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ وَالْمُزَارَعَةِ عَلَيْهَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ وَلَا فِي الْمُسَاقَاةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهَا طَائِلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْفَعَةِ الشَّجَرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ حَرْبٌ الكرماني: سُئِلَ أَحْمَد عَنْ تَفْسِيرِ

ص: 67

حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " القبالات رِبًا " قَالَ: هُوَ أَنْ يَتَقَبَّلَ الْقَرْيَةَ فِيهَا النَّخْلُ وَالْعُلُوجُ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَخْلٌ وَهِيَ أَرْضٌ بَيْضَاءُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ؛ إنَّمَا هُوَ الْآنَ مُسْتَأْجِرٌ: قِيلَ: فَإِنَّ فِيهَا عُلُوجًا؟ قَالَ: فَهَذَا هُوَ الْقَبَالَةُ الْمَكْرُوهَةُ. قَالَ حَرْبٌ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جبلة سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: " القبالات رِبًا ". قِيلَ: الرِّبَا فِيمَا يَجُوزُ تَأْجِيلُهُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِأَجْلِ الْفَضْلِ. فَإِذَا قِيلَ فِي الْأُجْرَةِ أَوْ الثَّمَنِ أَوْ نَحْوِهِمَا: أَنَّهُ رِبًا مَعَ جَوَازِ تَأْجِيلِهِ. فَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا لِأَنَّ الرِّبَا إمَّا رِبَا النَّسَاءِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِيمَا يَجُوزُ تَأْجِيلُهُ وَإِمَّا رِبَا الْفَضْلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ. فَإِذَا انْتَفَى رِبَا النَّسَاءِ الَّذِي هُوَ التَّأْخِيرُ لَمْ يَبْقَ إلَّا رِبَا الْفَضْلِ الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ. وَهَذَا يَكُونُ إذَا كَانَ التَّقَبُّلُ بِجِنْسِ مُغَلِّ الْأَرْضِ مِثْلَ: أَنْ يَقْبَلَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا نَخْلٌ يُتْمِرُ. فَيَكُونُ مِثْلَ الْمُزَابَنَةِ. وَهَذَا مِثْلُ اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ بِجِنْسِ الْخَارِجِ مِنْهَا إذَا كَانَ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ مِثْلَ: أَنْ يَكْتَرِيَهَا لِيَزْرَعَ فِيهَا حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ مَعْلُومَةٍ. فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد. إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ رِبًا كَقَوْلِ مَالِكٍ. وَهَذَا مِثْلُ الْقَبَالَةِ الَّتِي كَرِهَهَا ابْنُ عُمَرَ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ الْأَرْضَ لِلْحِنْطَةِ بِحِنْطَةٍ مَعْلُومَةٍ فَكَأَنَّهُ ابْتَاعَ حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ تَكُونُ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ فَيَظْهَرُ الرِّبَا.

ص: 68

فالقبالات الَّتِي ذَكَرَ ابْنُ عُمَر أَنَّهَا رِبًا: أَنْ يَضْمَنَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا النَّخْلُ وَالْفَلَّاحُونَ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنْ جِنْسِ مُغَلِّهَا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ قَرْيَةٌ فِيهَا شَجَرٌ وَأَرْضٌ وَفِيهَا فَلَّاحُونَ يَعْمَلُونَ لَهُ تَغُلُّ لَهُ مَا تَغُلُّ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ بَعْدَ أُجْرَةِ الْفَلَّاحِينَ أَوْ نَصِيبِهِمْ فَيَضْمَنُهَا رَجُلٌ مِنْهُ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا مَظْهَرُ تَسْمِيَتِهِ بِالرِّبَا. فَأَمَّا ضَمَانُ الْأَرْضِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الرِّبَا بِسَبِيلِ. وَمَنْ حَرَّمَهُ فَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ. ثُمَّ إنَّ أَحْمَد لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ أَرْضًا بَيْضَاءَ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عِنْدَهُ جَائِزَةٌ وَإِنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ مِنْ جِنْسِ الْخَارِجِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ بِمَنْفَعَتِهِ وَمَالِهِ فَيَكُونُ الْمُغَلُّ بِكَسْبِهِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِيهَا الْعُلُوجُ وَهُمْ الَّذِينَ يُعَالِجُونَ الْعَمَلَ. فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِيهَا شَيْئًا لَا بِمَنْفَعَتِهِ وَلَا بِمَالِهِ بَلْ الْعُلُوجُ يَعْمَلُونَهَا. وَهُوَ يُؤَدِّي الْقَبَالَةَ وَيَأْخُذُ بَدَلَهَا. فَهُوَ طَلَبُ الرِّبْحِ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ صِنَاعَةٍ وَلَا تِجَارَةٍ وَهَذَا هُوَ الرِّبَا. وَنَظِيرُ هَذَا مَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رِبًا، وَهُوَ اكْتِرَاءُ الْحَمَّامِ وَالطَّاحُونِ وَالْفَنَادِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْتَفِعُ الْمُسْتَأْجِرُ بِهِ فَلَا يَتَّجِرُ فِيهِ وَلَا يَصْطَنِعُ فِيهِ. وَإِنَّمَا يَكْتَرِيهِ لِيُكْرِيَهُ فَقَطْ، فَقَدْ قِيلَ: هُوَ رِبًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رِبًا لِأَجْلِ النَّخْلِ وَلَا لِأَجْلِ الْأَرْضِ إذَا

ص: 69

كَانَتْ بِغَيْرِ جِنْسِ الْمُغَلِّ وَإِنَّمَا كَانَتْ رِبًا لِأَجْلِ الْعُلُوجِ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا؛ فَإِنَّ الْعُلُوجَ يَقُومُونَ بِهَا، فَتَقْبِيلُهَا لِآخَرَ مُرَابَاةٌ لَهُ؛ وَلِهَذَا كَرِهَهَا أَحْمَد وَإِنْ كَانَتْ بَيْضَاءَ إذَا كَانَ فِيهَا الْعُلُوجُ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ حَرْبٌ الكرماني عَلَى الْمَسْأَلَةِ بِمُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ عَلَى أَنْ يَعْمُرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا فِي الْمَعْنَى إكْرَاءٌ لِلْأَرْضِ مِنْهُمْ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مَعَ إكْرَاءِ الشَّجَرِ بِنِصْفِ ثَمَرِهِ. فَيُقَاسُ عَلَيْهِ إكْرَاءُ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ بِشَيْءٍ مَضْمُونٍ؛ لِأَنَّ إعْطَاءَ الثَّمَرِ لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ لَكَانَ إعْطَاءُ بَعْضِهِ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ. وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا أَصْلَانِ: الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَتَى كَانَ بَيْنَ الشَّجَرِ أَرْضٌ أَوْ مَسَاكِنُ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى كِرَائِهِمَا جَمِيعًا فَيَجُوزُ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ غَرَرٌ يَسِيرٌ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْبُسْتَانُ وَقْفًا أَوْ مَالَ يَتِيمٍ؛ فَإِنَّ تَعْطِيلَ مَنْفَعَتِهِ لَا يَجُوزُ وَإِكْرَاءُ الْأَرْضِ أَوْ الْمَسْكَنِ وَحْدَهُ لَا يَقَعُ فِي الْعَادَةِ وَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ فِي إجَارَتِهِ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ اكْتَرَاهُ اكْتَرَاهُ بِنَقْصِ كَثِيرٍ عَنْ قِيمَتِهِ. وَمَا لَا يَتِمُّ الْمُبَاحُ إلَّا بِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ. فَكُلُّ مَا يَثْبُتُ إبَاحَتُهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ وَجَبَ إبَاحَةُ لَوَازِمِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَحْرِيمِهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ. وَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ لَوَازِمِهِ وَمَا لَا يَتِمُّ اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمِ إلَّا بِاجْتِنَابِهِ فَهُوَ حَرَامٌ، فَهُنَا يَتَعَارَضُ الدَّلِيلَانِ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَدْ ثَبَتَ إبَاحَةُ

ص: 70

كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْمَتْبُوعِينَ؛ بِخِلَافِ دُخُولِ كِرَاءِ الشَّجَرِ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَلَا نَصَّ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا: فَمَتَى أُكْرِيَتْ الْأَرْضُ وَحْدَهَا وَبَقِيَ الشَّجَرُ لَمْ يَكُنْ الْمُكْتَرِي مَأْمُونًا عَلَى الثَّمَرِ فَيُفْضِي إلَى اخْتِلَافِ الْأَيْدِي وَسُوءِ الْمُشَارَكَةِ. كَمَا إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِثْلُ قَوْلِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ: إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي جِنْسٍ - وَكَانَ فِي بَيْعِهِ مُتَفَرِّقًا ضَرَرٌ - جَازَ بَيْعُ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ؛ لِتَعَسُّرِ تَفْرِيق الصَّفْقَةِ وَلِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَشْتَرِي الثَّمَرَةَ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ وَالْمَسَاكِنُ لِغَيْرِهِ إلَّا بِنَقْصِ كَثِيرٍ. وَلِأَنَّهُ إذَا أَكْرَى الْأَرْضَ فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ سَقْيَ الشَّجَرِ - وَالسَّقْيُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ - صَارَ الْمُعَوَّضُ عِوَضًا. وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ السَّقْيَ فَإِذَا سَقَاهَا - إنْ سَاقَاهُ عَلَيْهَا - صَارَتْ الْإِجَارَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِمُسَاقَاةِ. وَإِنْ لَمْ يُسَاقِهِ لَزِمَ تَعْطِيلُ مَنْفَعَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَدُورُ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ بَعْضَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ إلَّا بِمُسَاقَاةِ أَوْ بِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْمُسْتَأْجِرِ. ثُمَّ إنْ حَصَلَ لِلْمُكْرِي جَمِيعُ الثَّمَرَةِ أَوْ بَعْضُهَا: فَفِي بَيْعِهَا - مَعَ أَنَّ الْأَرْضَ وَالْمَسَاكِنَ لِغَيْرِهِ - نَقْصٌ لِلْقِيمَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. فَيَرْجِعُ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا كَانَ فِي تَفْرِيقِهَا ضَرَرٌ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمُعَاوَضَةِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجَمْعِ يُخَالِفُ

ص: 71

حُكْمَ التَّفْرِيقِ. وَلِهَذَا وَجَبَ عِنْدَ أَحْمَد وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا تَعَذَّرَتْ الْقِسْمَةُ: أَنْ يَبِيعَ مَعَ شَرِيكِهِ أَوْ يُؤَاجِرَ مَعَهُ إنْ كَانَ الْمُشْتَرَكُ مَنْفَعَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " {مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ. فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ عَلَيْهِ مَا عَتَقَ} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَقْوِيمِ الْعَبْدِ كُلِّهِ وَبِإِعْطَاءِ الشَّرِيكِ حِصَّتَهُ مِنْ الْقِيمَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِيمَةَ حِصَّتِهِ مُنْفَرِدَةٌ دُونَ حِصَّتِهِ مِنْ قِيمَةِ الْجَمِيعِ. فَعُلِمَ أَنَّ حَقَّهُ فِي نِصْفِ النِّصْفِ. وَإِذَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِالْإِعْتَاقِ فَبِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِتْلَافِ أَوْلَى؛ وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالْإِتْلَافِ مَا يُسْتَحَقُّ بِالْمُعَاوَضَةِ. فَعُلِمَ أَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْمُعَاوَضَةِ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَإِنَّمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ عِنْدَ بَيْعِ الْجَمِيعِ. فَتَجِبُ قِسْمَةُ الْعَيْنِ حَيْثُ لَا ضَرَرَ فِيهَا. فَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَرَرٌ قُسِمَتْ الْقِيمَةُ. فَإِذَا كُنَّا قَدْ أَوْجَبْنَا عَلَى الشَّرِيكِ بَيْعَ نَصِيبِهِ لِمَا فِي التَّفْرِيقِ مِنْ نَقْصِ قِيمَةِ شَرِيكِهِ فَلَأَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا - إذَا كَانَ فِي تَفْرِيقِهِمَا ضَرَرٌ - أَوْلَى؛ وَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُ الشَّاةِ مَعَ اللَّبَنِ الَّذِي فِي ضَرْعِهَا. وَإِنْ أَمْكَنَ تَفْرِيقُهُمَا بِالْحَلْبِ وَإِنْ كَانَ بَيْعُ اللَّبَنِ وَحْدَهُ لَا يَجُوزُ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ: فَيَجُوزُ مَتَى كَانَ مَعَ الشَّجَرِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ

ص: 72

كَمَنْفَعَةِ أَرْضٍ لِلزَّرْعِ أَوْ بِنَاءٍ لِلسَّكَنِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الثَّمَرَ فَقَطْ؛ وَمَنْفَعَةُ الْأَرْضِ أَوْ الْمَسْكَنِ لَيْسَتْ جُزْءًا مِنْ الْمَقْصُودِ؛ وَإِنَّمَا أُدْخِلَتْ لِمُجَرَّدِ الْحِيلَةِ كَمَا قَدْ يُفْعَلُ فِي مَسَائِلِ " مُدِّ عَجْوَةٍ " لَمْ يَجِئْ هَذَا الْأَصْلُ. " الْأَصْلُ الثَّانِي ": أَنْ يُقَالَ: إكْرَاءُ الشَّجَرِ لِلِاسْتِثْمَارِ يَجْرِي مَجْرَى إكْرَاءِ الْأَرْضِ لِلِازْدِرَاعِ وَاسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لِلرِّضَاعِ. وَذَلِكَ: أَنَّ الْفَوَائِدَ الَّتِي تُسْتَخْلَفُ مَعَ بَقَاءِ أُصُولِهَا تَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ وَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا وَهِيَ ثَمَرُ الشَّجَرِ وَلَبَنِ الْآدَمِيَّاتِ وَالْبَهَائِمِ وَالصُّوفِ وَالْمَاءِ الْعَذْبِ: فَإِنَّهُ كُلَّمَا خُلِقَ مِنْ هَذِهِ شَيْءٌ فَأَخْذُ خَلْقِ اللَّهِ بَدَلَهُ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ كَالْمَنَافِعِ سَوَاءٌ. وَلِهَذَا جَرَتْ فِي الْوَقْفِ وَالْعَارِيَة وَالْمُعَامَلَةِ بِجُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ مَجْرَى الْمَنْفَعَةِ؛ فَإِنَّ الْوَقْفَ لَا يَكُونُ إلَّا فِيمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ. فَإِذَا جَازَ وَقْفُ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ أَوْ الرِّبَاعِ لِمَنْفَعَتِهَا فَكَذَلِكَ وَقْفُ الْحِيطَانِ لِثَمَرَتِهَا وَوَقْفُ الْمَاشِيَةِ لِدَرِّهَا وَصُوفِهَا وَوَقْفُ الْآبَارِ وَالْعُيُونِ لِمَائِهَا؛ بِخِلَافِ مَا يَذْهَبُ بِالِانْتِفَاعِ كَالطَّعَامِ وَنَحْوِهِ فَلَا يُوقَفُ. وَأَمَّا " بَابُ الْعَارِيَة " فَيُسَمُّونَ إبَاحَةَ الظُّهْرِ إفْقَارًا يُقَالُ: أَفْقَرَهُ الظُّهْرُ. وَمَا أُبِيحَ لَبَنُهُ: مَنِيحَةً. وَمَا أُبِيحَ ثَمَرُهُ: عَرِيَّةً وَغَيْرُ ذَلِكَ عَارِيَةٌ وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِالْقَرْضِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُقْتَرِضُ ثُمَّ يَرُدُّ مِثْلَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " {مَنِيحَةُ لَبَنٍ أَوْ مَنِيحَةُ وَرَقٍ}

ص: 73

فَاكْتِرَاءُ الشَّجَرِ لَأَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا وَيَأْخُذَ ثَمَرَهَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لِأَجْلِ لَبَنِهَا. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إجَارَةٌ مَنْصُوصَةٌ إلَّا إجَارَةَ الظِّئْرِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} . وَلَمَّا اعْتَقَدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى مَنْفَعَةٍ لَيْسَتْ عَيْنًا وَرَأَى جَوَازَ إجَارَةِ الظِّئْرِ قَالَ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ وَضْعُ الطِّفْلِ فِي حِجْرِهَا وَاللَّبَنُ دَخَلَ ضِمْنًا وَتَبَعًا كَنَقْعِ الْبِئْرِ. وَهَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ وَالْحِسِّ؛ فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ هُوَ اللَّبَنُ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} وَضَمَّ الطِّفْلَ إلَى حِجْرِهَا: إنْ فَعَلَ فَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى ذَلِكَ. وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ مَا ذَكَرْته: مِنْ أَنَّ الْفَائِدَةَ الَّتِي تُسْتَخْلَفُ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهَا تَجْرِي مَجْرَى الْمَنْفَعَةِ. وَلَيْسَ مِنْ الْبَيْعِ الْخَاصِّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُسَمِّ الْعِوَضَ إلَّا أَجْرًا لَمْ يُسَمِّهِ ثَمَنًا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَبَ اللَّبَنَ فَإِنَّهُ لَا يُسَمِّي الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ إلَّا بَيْعًا لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ الْفَائِدَةَ مِنْ أَصْلِهَا. كَمَا يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ مِنْ أَصْلِهَا. فَلَمَّا كَانَ لِلْفَوَائِدِ الْعَيْنِيَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ فَصْلُهَا عَنْ أَصْلِهَا حَالَانِ: حَالٌ تُشْبِهُ فِيهِ الْمَنَافِعَ الْمَحْضَةَ وَهِيَ حَالُ اتِّصَالِهَا وَاسْتِيفَائِهَا وَاسْتِيفَاؤُهُ كَاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ. وَحَالٌ تُشْبِهُ فِيهِ الْأَعْيَانَ الْمَحْضَةَ وَهِيَ حَالُ انْفِصَالِهَا وَقَبْضِهَا كَقَبْضِ الْأَعْيَانِ. فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الشَّجَرِ هُوَ الَّذِي يَسْقِيهَا وَيَعْمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى تَصْلُحَ الثَّمَرَةُ؛ فَإِنَّمَا يَبِيعُ ثَمَرَةً مَحْضَةً كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَشُقُّ الْأَرْضَ

ص: 74

وَيَبْذُرُهَا وَيَسْقِيهَا حَتَّى يَصْلُحَ الزَّرْعُ فَإِنَّمَا يَبِيعُ زَرْعًا مَحْضًا وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يَجِدُّ وَيَحْصُدُ كَمَا لَوْ بَاعَهَا عَلَى الْأَرْضِ وَكَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يَنْقُلُ وَيُحَوِّلُ؛ وَلِهَذَا جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا بَيْعٌ مَحْضٌ لِلثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَالِكُ يَدْفَعُ الشَّجَرَةَ إلَى الْمُكْتَرِي حَتَّى يَسْقِيَهَا وَيُلَقِّحَهَا وَيَدْفَعَ عَنْهَا الْأَذَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِهِ الْأَرْضَ إلَى مَنْ يَشُقُّهَا وَيَبْذُرُهَا وَيَسْقِيهَا؛ وَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ فَكَمَا أَنَّ كِرَاء الْأَرْضِ لَيْسَ بِبَيْعٍ لِزَرْعِهَا فَكَذَلِكَ كِرَاءُ الشَّجَرَةِ لَيْسَ بِبَيْعِ لِثَمَرِهَا؛ بَلْ نِسْبَةُ كِرَاءِ الشَّجَرِ إلَى كِرَاءِ الْأَرْضِ كَنِسْبَةِ الْمُسَاقَاةِ إلَى الْمُزَارَعَةِ. هَذَا مُعَامَلَةٌ بِجُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ وَهَذَا كِرَاءٌ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْفَوَائِدُ قَدْ سَاوَتْ الْمَنَافِعَ فِي الْوَقْفِ لِأَصْلِهَا وَفِي التَّبَرُّعَاتِ بِهَا وَفِي الْمُشَارَكَةِ بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهَا وَفِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهَا بَعْدَ صَلَاحِهَا: فَكَذَلِكَ تُسَاوِيهَا فِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَى اسْتِفَادَتِهَا وَتَحْصِيلِهَا. وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الزَّرْعَ إنَّمَا يَخْرُجُ بِالْعَمَلِ؛ بِخِلَافِ الثَّمَرِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِلَا عَمَلٍ: كَانَ هَذَا الْفَرْقُ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ؛ بِدَلِيلِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحِ؛ فَإِنَّ لِلْعَمَلِ تَأْثِيرًا فِي الْإِثْمَارِ؛ كَمَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْإِنْبَاتِ وَمَعَ عَدَمِ الْعَمَلِ عَلَيْهَا قَدْ تُعْدَمُ الثَّمَرَةُ وَقَدْ تَنْقُصُ؛ فَإِنَّ

ص: 75

مِنْ الشَّجَرِ مَا لَوْ لَمْ يُسْقَ لَمْ يُثْمِرْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَمَلِ عَلَيْهِ تَأْثِيرٌ أَصْلًا: لَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إلَى عَامِلٍ بِجُزْءٍ مِنْ ثَمَرِهِ وَلَمْ يَجُزْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ إجَارَتُهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ؛ فَإِنَّهُ بَيْعٌ مَحْضٌ لِلثَّمَرَةِ؛ لَا إجَارَةٌ لِلشَّجَرِ، وَيَكُونُ كَمَنْ أَكْرَى أَرْضَهُ لِمَنْ يَأْخُذُ مِنْهَا مَا يُنْبِتُهُ اللَّهُ بِلَا عَمَلِ أَحَدٍ أَصْلًا قَبْلَ وُجُودِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ هُنَا غَرَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُثْمِرُ قَلِيلًا وَقَدْ يُثْمِرُ كَثِيرًا. يُقَالُ: وَمِثْلُهُ فِي إكْرَاءِ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ غَرَرٌ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ؛ فَإِنَّهَا قَدْ تَنْبُتُ قَلِيلًا وَقَدْ تَنْبُتُ كَثِيرًا. وَإِنْ قِيلَ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَاكَ التَّمَكُّنُ مِنْ الِازْدِرَاعِ لَا نَفْسُ الزَّرْعِ النَّابِتِ. قِيلَ: وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَا: التَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِثْمَارِ؛ لَا نَفْسُ الثَّمَرِ الْخَارِجِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِمَا إنَّمَا هُوَ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ. وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعِوَضُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ. كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِاكْتِرَاءِ الدَّارِ إنَّمَا هُوَ السُّكْنَى وَإِنْ وَجَبَ الْعِوَضُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ. فَالْمَقْصُودُ فِي اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ: إنَّمَا هُوَ نَفْسُ الْأَعْيَانِ الَّتِي

ص: 76

تُحْصَدُ لَيْسَ كَاكْتِرَائِهَا لِلسُّكْنَى أَوْ الْبِنَاءِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ نَفْسُ الِانْتِفَاعِ بِجَعْلِ الْأَعْيَانِ فِيهَا. وَهَذَا بَيِّنٌ عِنْدِ التَّأَمُّلِ لَا يَزِيدُهُ الْبَحْثُ عَنْهُ إلَّا وُضُوحًا. فَظَهَرَ بِهِ أَنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ زَهْوِهَا وَبَيْعِ الْحَبِّ قَبْلَ اشْتِدَادِهِ لَيْسَ هُوَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - إكْرَاؤُهَا لِمَنْ يَحْصُلُ ثَمَرَتُهَا وَزَرْعُهَا بِعَمَلِهِ وَسَقْيِهِ وَلَا هَذَا دَاخِلٌ فِي نَهْيِهِ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى. يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْبَائِعَ لِثَمَرَتِهَا عَلَيْهِ تَمَامُ سَقْيِهَا وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْجِذَاذِ كَمَا عَلَى بَائِعِ الزَّرْعِ تَمَامُ سَقْيِهِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْحَصَادِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ التَّوْفِيَةِ وَمَئُونَةُ التَّوْفِيَةِ عَلَى الْبَائِعِ كَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. وَأَمَّا الْمُكْرِي لَهَا لِمَنْ يَخْدِمُهَا حَتَّى تُثْمِرَ فَهُوَ كَمُكْرِي الْأَرْضِ لِمَنْ يَخْدِمُهَا حَتَّى تَنْبُتَ؛ لَيْسَ عَلَى الْمُكْرِي عَمَلٌ أَصْلًا. وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّمْكِينُ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الثَّمَرُ وَالزَّرْعُ. لَكِنْ يُقَالُ: طَرْدُ هَذَا: أَنْ يَجُوزَ إكْرَاءُ الْبَهَائِمِ لِمَنْ يَعْلِفُهَا وَيَسْقِيهَا وَيَحْتَلِبُ لَبَنَهَا. قِيلَ: إذَا جَوَّزْنَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنْ تُدْفَعَ الْمَاشِيَةُ إلَى مَنْ

ص: 77

يَعْلِفُهَا وَيَسْقِيهَا بِجُزْءٍ مِنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا جَازَ دَفْعُهَا إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا لِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا بِشَيْءٍ مَضْمُونٍ. وَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَازَ إجَارَتُهَا لِاحْتِلَابِ لَبَنِهَا كَمَا جَازَ إجَارَةُ الظِّئْرِ؟ . قِيلَ: إجَارَةُ الظِّئْرِ أَنْ تُرْضِعَ بِعَمَلِ صَاحِبِهَا لِلْغَنَمِ لِأَنَّ الظِّئْرَ هِيَ الَّتِي تُرْضِعُ الطِّفْلَ فَإِذَا كَانَتْ هِيَ الَّتِي تُوَفِّي الْمَنْفَعَةَ فَنَظِيرُهُ: أَنْ يَكُونَ الْمُؤَجِّرُ هُوَ الَّذِي يُوَفِّي مَنْفَعَةَ الْإِرْضَاعِ. وَحِينَئِذٍ فَالْقِيَاسُ: جَوَازُهُ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ غَنَمٌ فَاسْتَأْجَرَ غَنَمَ رَجُلٍ لِيُرْضِعَهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُمْتَنِعًا. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الَّذِي يَحْلِبُ اللَّبَنَ أَوْ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِيهِ. فَهَذَا مُشْتَرٍ لِلَبَنِ، لَيْسَ مُسْتَوْفِيًا لِمَنْفَعَةِ وَلَا مُسْتَوْفِيًا لِلْعَيْنِ بِعَمَلِ. وَهُوَ شَبِيهٌ بِاشْتِرَاءِ الثَّمَرَةِ. وَاحْتِلَابُهُ كَاقْتِطَافِهَا. وَهُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: " {لَا يُبَاعُ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ} بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لَأَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا وَيَحْتَلِبَ لَبَنَهَا فَهَذَا نَظِيرُ اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ.

ص: 78

فَصْلٌ:

هَذَا إذَا أَكْرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ أَوْ الشَّجَرَةَ وَحْدَهَا لَأَنْ يَخْدِمَهَا وَيَأْخُذَ الثَّمَرَةَ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ. فَإِنْ بَاعَهُ الثَّمَرَةَ فَقَطْ وَأَكْرَاهُ الْأَرْضَ لِلسُّكْنَى: فَهُنَا لَا يَجِيءُ إلَّا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ الْمَذْكُورُ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ وَبَعْضُهُ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ هُوَ السُّكْنَى. وَهُوَ أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. فَيَجُوزُ فِي الْجَمْعِ مَا لَا يَجُوزُ فِي التَّفْرِيقِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ النَّظَائِرِ. وَهَذَا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السُّكْنَى وَالثَّمَرَةِ مَقْصُودًا لَهُ كَمَا يَجْرِي فِي حَوَائِطِ دِمَشْقَ؛ فَإِنَّ الْبُسْتَانَ يُكْتَرَى فِي الْمُدَّةِ الصَّيْفِيَّةِ لِلسُّكْنَى فِيهِ وَأَخَذَ ثَمَرَهُ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ عَلَى الثَّمَرَةِ أَصْلًا؛ بَلْ الْعَمَلُ عَلَى الْمُكْرِي الْمُضَمَّنِ. وَعَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ: فَيَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ لَمْ يَطْلُعْ بِحَالِ سَوَاءٌ كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ أَجْنَاسًا مُتَفَرِّقَةً كَمَا يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. فَإِنَّهُ إنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَمْعٌ بَيْنَ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: هُوَ إجَارَةٌ؛ لِأَنَّ مَئُونَةَ تَوْفِيَةِ الثَّمَرِ هُنَا عَلَى الْمُضَمَّنِ وَبِعَمَلِهِ يَصِيرُ ثَمَرًا:

ص: 79

بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُثْمِرًا بِعَمَلِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ وَلِهَذَا يُسَمِّيهِ النَّاسُ ضَمَانًا إذْ لَيْسَ هُوَ بَيْعًا مَحْضًا وَلَا إجَارَةً مَحْضَةً فَسُمِّيَ بِاسْمِ الِالْتِزَامِ الْعَامِّ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ الضَّمَانُ كَمَا يُسَمِّي الْفُقَهَاءُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ. وَكَذَلِكَ يُسَمَّى الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ضَمَانًا أَيْضًا لَكِنَّ ذَاكَ يُسَمَّى إجَارَةً. وَهَذَا إذَا سُمِّيَ إجَارَةً أَوْ اكْتِرَاءً: فَلِأَنَّ بَعْضَهُ إجَارَةٌ أَوْ اكْتِرَاءٌ وَفِيهِ بَيْعٌ أَيْضًا. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً أَصْلًا وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِأَجْلِ جُذَاذِ الثَّمَرَةِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ عِنَبًا أَوْ بَلَحًا وَيُرِيدُ أَنْ يُقِيمَ فِي الْحَدِيقَةِ لِقِطَافِهِ: فَهَذَا لَا يَجُوزُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ إنَّمَا قُصِدَتْ هُنَا لِأَجْلِ الثَّمَرِ فَلَا يَكُونُ الثَّمَرُ تَابِعًا لَهَا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إجَارَتِهَا إلَّا إذَا جَازَ بَيْعُ الثَّمَرِ؛ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ؛ فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ إذَا كَانَتْ مَقْصُودَةً احْتَاجَ إلَى اسْتِئْجَارِهَا وَاحْتَاجَ مَعَ ذَلِكَ إلَى اشْتِرَاءِ الثَّمَرَةِ فَاحْتَاجَ إلَى الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يُمْكِنُهُ إذَا اسْتَأْجَرَ الْمَكَانَ لِلسُّكْنَى أَنْ يَدَعَ غَيْرَهُ يَشْتَرِي الثَّمَرَةَ؛ وَلَا يَتِمُّ غَرَضُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَمَرَةٌ يَأْكُلُهَا؛ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ الِانْتِفَاعُ بِالسُّكْنَى فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالْأَكْلِ مِنْ الثَّمَرِ الَّذِي فِيهِ. وَلِهَذَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ هُوَ السُّكْنَى وَإِنَّمَا الشَّجَرُ قَلِيلٌ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ نَخَلَاتٌ أَوْ عَرِيشُ عِنَبٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَالْجَوَازُ هُنَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَقِيَاسُ أَكْثَرِ نُصُوصِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.

ص: 80

وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مَعَ السُّكْنَى التِّجَارَةَ فِي الثَّمَرِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ السُّكْنَى: فَالْمَنْعُ هُنَا أَوْجَهُ مِنْهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مَالِكٌ وَأَحْمَد. وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ السُّكْنَى وَالْأَكْلَ: فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا لَوْ قَصَدَ السُّكْنَى وَالشُّرْبَ مِنْ الْبِئْرِ. وَإِنْ كَانَ ثَمَنُ الْمَأْكُولِ أَكْثَرَ: فَهُنَا الْجَوَازُ فِيهِ أَظْهَرُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا وَدُونَ الْأُولَى عَلَى قَوْلِ مَنْ يُفَرِّقُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ الْمَأْثُورِ عَنْ السَّلَفِ: فَالْجَمِيعُ جَائِزٌ كَمَا قَرَّرْنَاهُ لِأَجْلِ الْجَمْعِ. فَإِنْ اشْتَرَطَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَحْرُثَ لَهُ الْمُضَمَّنُ مقثاة: فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مِنْ رَجُلٍ لِلزَّرْعِ عَلَى أَنْ يَحْرُثَهَا الْمُؤَجِّرُ. فَقَدْ اسْتَأْجَرَ أَرْضَهُ وَاسْتَأْجَرَ مِنْهُ عَمَلًا فِي الذِّمَّةِ. وَهَذَا جَائِزٌ كَمَا لَوْ اسْتَكْرَى مِنْهُ جَمَلًا أَوْ حِمَارًا عَلَى أَنْ يَحْمِلَ الْمُؤَجِّرُ لِلْمُسْتَأْجِرِ عَلَيْهِ مَتَاعَهُ. وَهَذِهِ إجَارَةُ عَيْنٍ وَإِجَارَةٌ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ؛ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيَكُونُ قَدْ اسْتَأْجَرَ عَيْنَيْنِ. وَلَوْ لَمْ تَكُنْ السُّكْنَى مَقْصُودَةً وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ ابْتِيَاعُ ثَمَرَةٍ فِي بُسْتَانٍ ذِي أَجْنَاسٍ وَالسَّقْيُ عَلَى الْبَائِعِ: فَهَذَا عِنْدَ اللَّيْثِ يَجُوزُ وَهُوَ قِيَاسُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَقَرَّرْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ كَالْحَاجَةِ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ بَيْعِ الثَّمَرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَرُبَّمَا كَانَ أَشَدَّ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُ بَيْعُ كُلِّ جِنْسٍ عِنْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، فَإِنَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ وَفِي بَعْضِهَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِضَرَرِ كَثِيرٍ.

ص: 81

وَقَدْ رَأَيْت مَنْ يُوَاطِئُ الْمُشْتَرِيَ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ كُلَّمَا صَلَحَتْ ثَمَرَةٌ يُقْسِطُ عَلَيْهَا بَعْضَ الثَّمَنِ. وَهَذَا مِنْ الْحِيَلِ الْبَارِدَةِ الَّتِي لَا تَخْفَى حَالُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَا يَزَالُ الْعُلَمَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ ذَوُو الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ يُنْكِرُونَ تَحْرِيمَ مِثْلِ هَذَا مَعَ أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ تُنَافِي تَحْرِيمَهُ؛ لَكِنْ مَا سَمِعُوهُ مِنْ العمومات اللَّفْظِيَّةِ وَالْقِيَاسِيَّةِ الَّتِي اعْتَقَدُوا شُمُولَهَا لِمِثْلِ هَذَا مَعَ مَا سَمِعُوهُ مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُدْرِجُونَ هَذَا فِي الْعُمُومِ: هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ مَا أَوْجَبَ. وَهُوَ قِيَاسُ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ المقثاة جَمِيعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا؛ لِأَنَّ تَفْرِيقَ بَعْضِهَا مُتَعَسِّرٌ أَوْ مُتَعَذَّرٌ كَتَعَسُّرِ تَفْرِيقِ الْأَجْنَاسِ فِي الْبُسْتَانِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَشَقَّةُ فِي المقثاة أَوْكَدَ؛ وَلِهَذَا جَوَّزَهَا مَنْ مَنَعَ الْأَجْنَاسَ كَمَالِكٍ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الصُّورَةُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا أَكْرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ لِيَعْمَلَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ - كَمَا قَرَّرْتُمْ - لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْعُمُومِ لِأَنَّهُ إجَارَةٌ لِمَنْ يَعْمَلُ لَا بَيْعٌ لِعَيْنِ وَأَمَّا هَذَا فَبَيْعٌ لِلثَّمَرَةِ فَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ. فَكَيْفَ تُخَالِفُونَ النَّهْيَ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا كَالْجَوَابِ عَمَّا يَجُوزُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ ابْتِيَاعِ الشَّجَرِ مَعَ ثَمَرَةِ الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ وَابْتِيَاعِ الْأَرْضِ مَعَ زَرْعِهَا الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ حَبُّهُ؛ وَمَا نَصَرْنَاهُ مِنْ ابْتِيَاعِ المقاثي مَعَ أَنَّ بَعْضَ

ص: 82

خَضِرِهَا لَمْ يُخْلَقْ. وَجَوَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِطَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: إنَّ النَّهْيَ لَمْ يَشْمَلْ بِلَفْظِهِ هَذِهِ الصُّورَةَ؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ: انْصَرَفَ إلَى الْبَيْعِ الْمَعْهُودِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ وَمَا كَانَ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ تَنْصَرِفُ إلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُونَ. فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ شَخْصٌ مَعْهُودٌ أَوْ نَوْعٌ مَعْهُودٌ انْصَرَفَ الْكَلَامُ إلَيْهِ كَمَا انْصَرَفَ اللَّفْظُ إلَى الرَّسُولِ الْمُعَيَّنِ فِي قَوْله تَعَالَى {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} وَفِي قَوْلِهِ: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} أَوْ إلَى النَّوْعِ الْمَخْصُوصِ: نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّمَرِ هُنَا الرُّطَبُ دُونَ الْعِنَبِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودَ شَخْصِيٍّ وَلَا نَوْعِيٍّ انْصَرَفَ إلَى الْعُمُومِ. فَالْبَيْعُ الْمَذْكُورُ لِلثَّمَرِ هُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ الَّذِي يَعْهَدُونَهُ دَخَلَ كَدُخُولِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالْقَرْنِ الثَّالِثِ فِيمَا خَاطَبَ بِهِ الرَّسُولُ أَصْحَابَهُ. وَنَظِيرُ هَذَا: مَا ذَكَرَهُ أَحْمَد فِي " {نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَوْلِ الرَّجُلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ} فَحَمَلَهُ عَلَى مَا كَانَ مَعْهُودًا عَلَى عَهْدِهِ مِنْ الْمِيَاهِ الدَّائِمَةِ كَالْآبَارِ وَالْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. فَأَمَّا الْمَصَانِعُ الْكِبَارُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ نَزْحُهَا الَّتِي أُحْدِثَتْ بَعْدَهُ فَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي الْعُمُومِ لِوُجُودِ الْفَارِقِ الْمَعْنَوِيِّ وَعَدَمِ

ص: 83

الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ. وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعُمُومِ فِي مَسْأَلَتِنَا: أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه " {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهُوَ: قِيلَ: وَمَا تَزْهُوَ؟ . قَالَ: تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ} وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: "{نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَزْهُوَ} . وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: " {نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ: هُوَ ثَمَرُ النَّخْلِ كَمَا جَاءَ مُقَيَّدًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَزْهُو فَيَحْمَرُّ أَوْ يَصْفَرُّ وَإِلَّا فَمِنْ الثِّمَارِ مَا يَكُونُ نُضْجُهَا بِالْبَيَاضِ؛ كَالتُّوتِ وَالتُّفَّاحِ وَالْعِنَبِ الْأَبْيَضِ وَالْإِجَّاصِ الْأَبْيَضِ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ دِمَشْقَ الْخَوْخَ وَالْخَوْخِ الْأَبْيَضِ الَّذِي يُسَمَّى الفرسك وَيُسَمِّيهِ الدِّمَشْقِيُّونَ الدُّرَّاق أَوْ بِاللِّينِ بِلَا تَغَيُّرِ لَوْنٍ كَالتِّينِ وَنَحْوِهِ. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "{نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تَشْقُحَ. قِيلَ: وَمَا تَشْقُحُ؟ قَالَ: تَحْمَارُّ أَوْ تَصْفَارُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا} وَهَذِهِ الثَّمَرَةُ هِيَ الرُّطَبُ وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " {لَا تَبْتَاعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَلَا تَبْتَاعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ} وَالتَّمْرُ الثَّانِي هُوَ الرُّطَبُ بِلَا رَيْبٍ. فَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ وَاحِدٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " {لَا تَبْتَاعُوا

ص: 84

الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ وَتَذْهَبَ عَنْهُ الْآفَةُ} وَقَالَ " {بُدُوُّ صَلَاحِهِ: حُمْرَتُهُ أَوْ صُفْرَتُهُ} فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا لَفْظُ " الثَّمَرِ ". وَأَمَّا غَيْرُهَا فَصَرِيحٌ فِي النَّخْلِ كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: "{نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ} . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: " {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ وَعَنْ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ. نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ} . وَالْمُرَادُ بِالنَّخْلِ ثَمَرُهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَوَّزَ اشْتِرَاءَ النَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ مَعَ اشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي لِثَمَرَتِهِ. فَهَذِهِ النُّصُوصُ لَيْسَتْ عَامَّةً عُمُومًا لَفْظِيًّا فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ لَفْظًا لِكُلِّ مَا عَهِدَهُ الْمُخَاطَبُونَ وَعَامَّةٌ مَعْنَى لِكُلِّ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ. وَمَا ذَكَرْنَا عَدَمَ تَحْرِيمِهِ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَلَا فِي مَعْنَاهُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ دَلِيلُ الْحُرْمَةِ. فَيَبْقَى عَلَى الْحِلِّ. وَهَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ وَبِهِ يَتِمُّ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ أَوَّلًا: مِنْ أَنَّ الْأَدِلَّةَ النَّافِيَةَ لِلتَّحْرِيمِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ والاستصحابية تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لَكِنْ بِشَرْطِ نَفْيِ النَّاقِلِ الْمُغَيِّرِ وَقَدْ بَيَّنَّا انْتِفَاءَهُ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: وَإِنْ سَلَّمْنَا الْعُمُومَ اللَّفْظِيَّ؛ لَكِنْ لَيْسَتْ

ص: 85

هِيَ مُرَادَةً؛ بَلْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَخُصُّ مِثْلَ هَذَا الْعُمُومِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فِي الثَّمَرِ التَّابِعِ لِشَجَرِهِ حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {مَنْ ابْتَاعَ نَخْلًا لَمْ يُؤَبَّرْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطُ الْمُبْتَاعُ} أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَجَعَلَهَا لِلْمُبْتَاعِ إذَا اشْتَرَطَهَا بَعْدَ التَّأْبِيرِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا حِينَئِذٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُفْرَدَةً، وَالْعُمُومُ الْمَخْصُوصُ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ: يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ صُوَرٌ فِي مَعْنَاهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا تَخْصِيصُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالْقِيَاسِ الْقَوِيِّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ آثَارِ السَّلَفِ وَمِنْ الْمَعَانِي مَا يَخُصُّ مِثْلَ هَذَا لَوْ كَانَ عَامًّا أَوْ بِالِاشْتِدَادِ بِلَا تَغَيُّرِ لَوْنٍ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ، فَبُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الثِّمَارِ مُتَنَوِّعٌ تَارَةً يَكُونُ بِالرُّطُوبَةِ بَعْدَ الْيُبْسِ، وَتَارَةً بِالْيُبْسِ بَعْدَ الرُّطُوبَةِ وَتَارَةً بِلِينِهِ. وَتَارَةً بِتَغَيُّرِ لَوْنِهِ بِحُمْرَةٍ أَوْ صُفْرَةٍ أَوْ بَيَاضٍ. وَتَارَةً لَا يَتَغَيَّرُ. وَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ: عُلِمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَشْمَلْ جَمِيعَ أَصْنَافِ الثِّمَارِ وَإِنَّمَا يَشْمَلُ مَا تَأْتِي فِيهِ الْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ وَقَدْ جَاءَ مُقَيَّدًا: أَنَّهُ النَّخْلُ. فَتَدَبَّرْ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ عَظِيمُ الْمَنْفَعَةِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى وَفِي نَظَائِرِهَا وَانْظُرْ فِي عُمُومِ كَلَامِ اللَّهِ عز وجل وَرَسُولِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى حَتَّى تُعْطِيَهُ حَقَّهُ. وَأَحْسَنُ مَا تَسْتَدِلُّ بِهِ

ص: 86

عَلَى مَعْنَاهُ: آثَارُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَقَاصِدِهِ فَإِنَّ ضَبْطَ ذَلِكَ يُوجِبُ تَوَافُقَ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَجَرْيَهَا عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} . وَأَمَّا نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُعَاوَمَةِ الَّذِي جَاءَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: بِأَنَّهُ بَيْعُ السِّنِينَ فَهُوَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مِثْلُ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ إنَّمَا نَهَى أَنْ يَبْتَاعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَرَةَ الَّتِي يَسْتَثْمِرُهَا رَبُّ الشَّجَرَةِ. وَأَمَّا اكْتِرَاءُ الْأَرْضِ وَالشَّجَرَةِ حَتَّى يَسْتَثْمِرَهَا: فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَإِنَّمَا هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْإِجَارَةِ. وَنَظِيرُ هَذَا: مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ " {نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ} وَأَنَّهُ "{نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ} " وَأَنَّهُ "{نَهَى عَنْ الْمُزَارَعَةِ} وَأَنَّهُ قَالَ: " {لَا تكروا الْأَرْضَ} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: الْكِرَاءُ الَّذِي كَانُوا يَعْتَادُونَهُ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا وَهِيَ الْمُخَابَرَةُ وَالْمُزَارَعَةُ الَّتِي كَانُوا يَعْتَادُونَهَا فَنَهَاهُمْ عَمَّا كَانُوا يَعْتَادُونَهُ مِنْ الْكِرَاءِ وَالْمُعَاوَمَةِ الَّذِي يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إلَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تَصْلُحَ وَإِلَى الْمُزَارَعَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا جُزْءٌ مُعَيَّنٌ. وَهَذَا نَهْيٌ عَمَّا فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ. هَذَا نَهْيٌ عَنْ الْغَرَرِ فِي جِنْسِ

ص: 87

الْبَيْعِ وَذَاكَ نَهْيٌ عَنْ الْغَرَرِ فِي جِنْسِ الْكِرَاءِ الْعَامِّ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَقَدْ بُيِّنَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْمُبَايَعَةَ وَهَذِهِ الْمُكَارَاةَ كَانَتْ تُفْضِي إلَى الْخُصُومَةِ وَالشَّنَآنِ. وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} .

فَصْلٌ:

وَمِنْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي أَدْخَلَهَا قَوْمٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ: أَنْوَاعٌ مِنْ الْإِجَارَاتِ وَالْمُشَارَكَاتِ؛ كَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ؛ وَالْمُزَارَعَةَ حَرَامٌ بَاطِلٌ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا عَمَلٌ بِعِوَضِ وَالْإِجَارَةُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَجْرُ فِيهَا مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهَا كَالثَّمَنِ. وَلِمَا رَوَى أَحْمَد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم " {نَهَى عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُ أَجْرَهُ وَعَنْ النَّجْشِ وَاللَّمْسِ وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ} وَالْعِوَضُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ قَلِيلًا وَقَدْ يَخْرُجُ كَثِيرًا وَقَدْ يَخْرُجُ عَلَى صِفَاتٍ نَاقِصَةٍ وَقَدْ لَا يَخْرُجُ فَإِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ كَانَ اسْتِيفَاءُ عَمَلِ الْعَامِلِ بَاطِلًا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي

ص: 88

حَنِيفَةَ. وَهُوَ أَشَدُّ النَّاسِ قَوْلًا بِتَحْرِيمِ هَذَا. وَأَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إدْخَالًا لِذَلِكَ فِي الْغَرَرِ؛ لَكِنْ جَوَّزَا مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ. فَجَوَّزَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: الْمُسَاقَاةَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ كِرَاء الشَّجَرِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لِلثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ؛ وَالْمَالِكُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ سَقْيُ شَجَرِهِ وَخِدْمَتِهِ فَيَضْطَرُّ إلَى الْمُسَاقَاةِ؛ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِالْأَجْرِ الْمُسَمَّى فَيُغْنِيهِ ذَلِكَ عَنْ الْمُزَارَعَةِ عَلَيْهِ تَبَعًا لَكِنْ جَوَّزَا مِنْ الْمُزَارَعَةِ مَا يَدْخُلُ فِي الْمُسَاقَاةِ تَبَعًا؛ فَإِذَا كَانَ بَيْنَ الشَّجَرِ بَيَاضٌ قَلِيلٌ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ زَرْعَ ذَلِكَ الْبَيَاضِ لِلْعَامِلِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ. فَإِنْ شَرَطَاهُ بَيْنَهُمَا جَازَ. وَهَذَا إذَا لَمْ يَتَجَاوَزْ الثُّلُثَ. وَالشَّافِعِيُّ لَا يَجْعَلُهُ لِلْعَامِلِ؛ لَكِنْ يَقُولُ: إذَا لَمْ يُمْكِنْ سَقْيُ الشَّجَرِ إلَّا بِسَقْيِهِ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهِ. وَلِأَصْحَابِهِ فِي الْبَيَاضِ إذَا كَانَ كَثِيرًا أَكْثَرَ مِنْ الشَّجَرِ وَجْهَانِ. وَهَذَا إذَا جَمَعَهُمَا فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي صَفْقَتَيْنِ فَوَجْهَانِ:

ص: 89

أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ بِحَالِ لِأَنَّهُ إنَّمَا جَازَ تَبَعًا فَلَا يُفْرَدُ بِعَقْدِ. وَ " الثَّانِي ": يَجُوزُ إذَا سَاقَى ثُمَّ زَارَعَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ. وَأَمَّا إذَا قَدَّمَ الْمُزَارَعَةَ لَمْ يَجُزْ وَجْهًا وَاحِدًا. وَهَذَا إذَا كَانَ الْجُزْءُ الْمَشْرُوطُ فِيهِمَا وَاحِدًا كَالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ فَإِنْ فَاضَلَ بَيْنَهُمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ. وَرُوِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ السَّلَفِ - مِنْهُمْ: طاوس وَالْحَسَنُ وَبَعْضُ الْخَلَفِ -: الْمَنْعُ مِنْ إجَارَتِهَا بِالْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ وَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ. رَوَى حَرْبٌ عَنْ الأوزاعي أَنَّهُ سُئِلَ: هَلْ يَصْلُحُ اكْتِرَاءُ الْأَرْضِ؟ فَقَالَ: اُخْتُلِفَ فِيهِ فَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ بِاكْتِرَائِهَا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ بَأْسًا. وَكَرِهَ ذَلِكَ آخَرُونَ مِنْهُمْ. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْغَرَرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَلْتَزِمُ الْأُجْرَةَ بِنَاءً عَلَى مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ؛ وَقَدْ لَا يَنْبُتُ الزَّرْعُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اكْتِرَاءِ الشَّجَرِ لِلِاسْتِثْمَارِ. وَقَدْ كَانَ طاوس يُزَارِعُ وَلِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ أَبْعَدُ عَنْ الْغَرَرِ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ لِأَنَّ الْمُتَعَامِلَيْنِ فِي الْمُزَارَعَةِ إمَّا أَنْ يَغْنَمَا جَمِيعًا أَوْ يَغْرَمَا جَمِيعًا فَتَذْهَبُ مَنْفَعَةُ بَدَنِ هَذَا وَبَقَرِهِ وَمَنْفَعَةُ أَرْضِ هَذَا. وَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ أَحَدُهُمَا عَلَى شَيْءٍ مَضْمُونٍ وَيَبْقَى الْآخَرُ تَحْتَ الْخَطَرِ؛ إذْ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ هُوَ الزَّرْعُ؛ لَا الْقُدْرَةُ عَلَى حَرْثِ الْأَرْضِ وَبَذْرِهَا وَسَقْيِهَا.

ص: 90

وَعُذْرُ الْفَرِيقَيْنِ - مَعَ هَذَا الْقِيَاسِ - مَا بَلَغَهُمْ مِنْ الْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَهْيِهِ عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَعَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ؛ كَحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَحَدِيثِ جَابِرٍ. فَعَنْ نَافِعٍ " {أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُكْرِي مَزَارِعَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي إمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ مُعَاوِيَةَ ثُمَّ حَدَّثَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ إلَى رَافِعٍ فَذَهَبْت مَعَهُ فَسَأَلَهُ؟ فَقَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ عَلِمْت أَنَّا كُنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا بِمَا عَلَى الْأَرْبِعَاءِ وَشَيْءٍ مِنْ التِّبْنِ} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: "{حَتَّى بَلَغَهُ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ: أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يُحَدِّثُ فِيهَا بِنَهْيٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَأَنَا مَعَهُ فَسَأَلَهُ. فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ فَتَرَكَهَا ابْنُ عُمَرَ بَعْدُ فَكَانَ إذَا سُئِلَ عَنْهَا بَعْدُ قَالَ: زَعَمَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا} وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ " {أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُكْرِي أَرْضَهُ حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ خَدِيجٍ مَاذَا تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ؟ قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ لِعَبْدِ اللَّهِ: سَمِعْت عَمَّيَّ

ص: 91

وَكَانَا قَدْ شَهِدَا بَدْرًا - يُحَدِّثَانِ أَهْلَ الدَّارِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَقَدْ كُنْت أَعْلَمُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْأَرْضَ تُكْرَى ثُمَّ خَشِيَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْدَثَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَعْلَمْهُ فَتَرَكَ كِرَاء الْأَرْضِ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي فِي آخِرِهِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ عَمِّهِ ظهير بْنِ رَافِعٍ قَالَ ظهير: " {لَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا، فَقُلْت: وَمَا ذَاكَ؟ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ حَقٌّ. قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟ فَقُلْت: نُؤَاجِرُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى الرُّبُعِ أَوْ عَلَى الْأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ. قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا ازْرَعُوهَا أَوْ أَزْرِعُوهَا أَوْ أَمْسِكُوهَا. قَالَ رَافِعٌ: قُلْت: سَمْعًا وَطَاعَةً} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "{مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ} أَخْرَجَاهُ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " {كَانُوا يَزْرَعُونَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ} أَخْرَجَاهُ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: " {كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَأْخُذُ الْأَرْضَ بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ بالماذيانات، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ. فَقَالَ:

ص: 92

مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ. فَإِنْ لَمْ يَمْنَحْهَا فَلْيُمْسِكْهَا} وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ " وَلَا يُكْرِيهَا ". وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ " {نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ} . وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ:" {نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ وَالْمُخَابَرَةِ} وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أنيسة عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ: "{أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَأَنْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ حَتَّى يشقه} والإشقاه: أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَالْمُحَاقَلَةُ: أَنْ يُبَاعَ الْحَقْلُ بِكَيْلٍ مِنْ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ. وَالْمُزَابَنَةُ: أَنْ يُبَاعَ النَّخْلُ بِأَوْسَاقٍ مِنْ التَّمْرِ وَالْمُخَابَرَةُ: الثُّلُثُ وَالرُّبُعُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. قَالَ زَيْدٌ: قُلْت لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَسَمِعْت جَابِرًا يَذْكُرُ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: نَعَمْ ". فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَا مَنْ يَنْهَى عَنْ الْمُؤَاجَرَةِ وَالْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ كِرَائِهَا وَالْكِرَاءُ يَعُمُّهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: "{فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْهَا} فَلَمْ يُرَخِّصْ إلَّا فِي أَنْ يَزْرَعَهَا أَوْ يَمْنَحَهَا لِغَيْرِهِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي الْمُعَاوَضَةِ عَنْهَا؛ لَا بِمُؤَاجَرَةٍ وَلَا بِمُزَارَعَةٍ. وَمَنْ يُرَخِّصُ فِي الْمُزَارَعَةِ - دُونَ الْمُؤَاجَرَةِ - يَقُولُ: الْكِرَاءُ هُوَ

ص: 93

الْإِجَارَةُ أَوْ الْمُزَارَعَةُ الْفَاسِدَةُ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا؛ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي سَتَأْتِي أَدِلَّتُهَا الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَامِلُ بِهَا أَهْلَ خَيْبَرَ وَعَمِلَ بِهَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ، وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ. يُؤَيِّدُ ذَلِكَ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ الَّذِي تَرَكَ كِرَاء الْأَرْضِ لَمَّا حَدَّثَهُ رَافِعٌ كَانَ يَرْوِي حَدِيثَ أَهْلِ خَيْبَرَ رِوَايَةَ مَنْ يُفْتِي بِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ. وَالْمُؤَاجَرَةُ أَظْهَرُ فِي الْغَرَرِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَنْ يُجَوِّزُ الْمُؤَاجَرَةَ دُونَ الْمُزَارَعَةِ يَسْتَدِلُّ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ: " {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُزَارَعَةِ وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ. وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا} فَهَذَا صَرِيحٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُزَارَعَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمُؤَاجَرَةِ؛ وَلِأَنَّهُ سَيَأْتِي عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - الَّذِي رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ لَمْ يَنْهَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَائِهَا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مَضْمُونٍ وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْمُزَارَعَةِ} . وَذَهَبَ جَمِيعُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الْجَامِعُونَ لِطُرُقِهِ كُلُّهُمْ - كَأَحْمَدَ بْنِ

ص: 94

حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ كُلِّهِمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْهَاشِمِيِّ وَأَبِي خيثمة زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ وَأَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ. كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ وَأَبِي دَاوُد وَجَمَاهِيرِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ كَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ خُزَيْمَة وَالْخَطَّابِيَّ وَغَيْرِهِمْ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - إلَى جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَعَمَلُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ. وَبَيَّنُوا مَعَانِيَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُظَنُّ اخْتِلَافُهَا فِي هَذَا الْبَابِ. فَمِنْ ذَلِكَ مُعَامَلَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ خَيْبَرَ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ إلَى أَنْ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ. فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " {عَامَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ} أَخْرَجَاهُ، وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ "{أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا خَرَجَ مِنْهَا} . هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: " {لَمَّا اُفْتُتِحَتْ خَيْبَرُ سَأَلَتْ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقِرَّهُمْ فِيهَا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا عَلَى نِصْفِ مَا خَرَجَ مِنْهَا مِنْ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ

ص: 95

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُقِرُّكُمْ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا. وَكَانَ الثَّمَرُ عَلَى السُّهْمَانِ مِنْ نِصْفِ خَيْبَرَ. فَيَأْخُذُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخُمُسَ} . وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " {أَنَّهُ دَفَعَ إلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا عَلَى أَنْ يعتملوها مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم شَطْرُ ثَمَرِهَا} وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "{أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى خَيْبَرَ أَهْلَهَا عَلَى النِّصْفِ: نَخْلِهَا وَأَرْضِهَا} رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه وَعَنْ طاوس: " أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَكْرَى الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، فَهُوَ يُعْمَلُ بِهِ إلَى يَوْمِك هَذَا " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهُ. وطاوس كَانَ بِالْيَمَنِ وَأَخَذَ عَنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ الَّذِينَ بِالْيَمَنِ مِنْ أَعْيَانِ الْمُخَضْرَمِينَ وَقَوْلُهُ " وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ " أَيْ: كُنَّا نَفْعَلُ كَذَلِكَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ فَحَذَفَ الْفِعْلَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ مُعَاذًا خَرَجَ مِنْ الْيَمَنِ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ وَقَدِمَ الشَّامَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَمَاتَ بِهَا فِي خِلَافَتِهِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ يَعْنِي الْبَاقِرَ - " مَا بِالْمَدِينَةِ دَارُ هِجْرَةٍ إلَّا يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ " قَالَ: " وَزَارَعَ عَلِيٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ وَعُرْوَةُ وَآلُ أَبِي بَكْرٍ وَآلُ عُمَرَ وَآلُ عَلِيٍّ وَابْنُ سِيرِين. وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى أَنَّهُ إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ

ص: 96

عِنْدَهُ فَلَهُ الشَّطْرُ وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا ". وَهَذِهِ الْآثَارُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ قَدْ رَوَاهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْآثَارِ. فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا يُزَارِعُونَ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَأَكَابِرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ مُنْكِرٌ: لَمْ يَكُنْ إجْمَاعٌ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا؛ بَلْ إنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا إجْمَاعٌ فَهُوَ هَذَا. لَا سِيَّمَا وَأَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ جَمِيعُهُمْ زَارَعُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَعْدَهُ إلَى أَنْ أَجْلَى عُمَرُ الْيَهُودَ إلَى تَيْمَاءَ. وَقَدْ تَأَوَّلَ مَنْ أَبْطَلَ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلَاتٍ مَرْدُودَةٍ. مِثْلَ أَنْ قَالَ كَانَ الْيَهُودُ عَبِيدًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ. فَجَعَلُوا ذَلِكَ مِثْلَ الْخَارِجَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ. وَمَعْلُومٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَهُمْ وَلَمْ يَسْتَرِقَّهُمْ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ وَلَمْ يَبِعْهُمْ وَلَا مَكَّنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ اسْتِرْقَاقِ أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَمِثْلَ أَنْ قَالَ: هَذِهِ مُعَامَلَةٌ مَعَ الْكُفَّارِ. فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَجُوزَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا مَرْدُودٌ؛ فَإِنَّ خَيْبَرَ قَدْ صَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْعَهْدِ مَا يَحْرُمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ. ثُمَّ إنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ

ص: 97

النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ عَامَلَ عَلَى عَهْدِهِ أَهْلَ الْيَمَنِ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُعَامِلُونَ بِذَلِكَ. وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ مَعَ عمومات الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُبِيحَةِ أَوْ النَّافِيَةِ لِلْحَرَجِ وَمَعَ الِاسْتِصْحَابِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ مُشَارَكَةٌ؛ لَيْسَتْ مِثْلَ الْمُؤَاجَرَةِ الْمُطْلَقَةِ؛ فَإِنَّ النَّمَاءَ الْحَادِثَ يَحْصُلُ مِنْ مَنْفَعَةِ أَصْلَيْنِ: مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ الَّتِي لِهَذَا كَبَدَنِهِ وَبَقَرِهِ. وَمَنْفَعَةِ الْعَيْنِ الَّتِي لِهَذَا كَأَرْضِهِ وَشَجَرِهِ كَمَا تَحْصُلُ الْمَغَانِمُ بِمَنْفَعَةِ أَبْدَانِ الْغَانِمِينَ وَخَيْلِهِمْ وَكَمَا يَحْصُلُ مَالُ الْفَيْءِ بِمَنْفَعَةِ أَبْدَانِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُوَّتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ؛ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا هُوَ الْعَمَلُ أَوْ الْمَنْفَعَةُ. فَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ لِبِنَاءٍ أَوْ خِيَاطَةٍ أَوْ شَقِّ الْأَرْضِ أَوْ بَذْرِهَا أَوْ حَصَادٍ فَإِذَا وَفَّاهُ ذَلِكَ الْعَمَلَ فَقَدْ اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ مَقْصُودَهُ بِالْعَقْدِ وَاسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ أَجْرَهُ. وَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي الْإِجَارَةِ اللَّازِمَةِ: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَضْبُوطًا كَمَا يُشْتَرَطُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَبِيعِ. وَهُنَا مَنْفَعَةُ بَدَنِ الْعَامِلِ وَبَدَنِ بَقَرِهِ وَحَدِيدِهِ: هُوَ مِثْلُ مَنْفَعَةِ أَرْضِ الْمَالِكِ وَشَجَرِهِ. لَيْسَ مَقْصُودُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِيفَاءَ مَنْفَعَةِ الْآخَرِ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمَا جَمِيعًا: مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْمَنْفَعَتَيْنِ. فَإِنْ حَصَلَ نَمَاءٌ اشْتَرَكَا فِيهِ. وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ نَمَاءٌ ذَهَبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَنْفَعَتُهُ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَفِي الْمَغْرَمِ كَسَائِرِ

ص: 98

الْمُشْتَرِكِينَ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ نَمَاءِ الْأُصُولِ الَّتِي لَهُمْ. وَهَذَا جِنْسٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ يُخَالِفُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَقْصُودِهِ وَحُكْمِهِ الْإِجَارَةَ الْمَحْضَةَ وَمَا فِيهِ مِنْ شَوْبِ الْمُعَاوَضَةِ مِنْ جِنْسِ مَا فِي الشَّرِكَةِ مِنْ شَوْبِ الْمُعَاوَضَةِ. فَإِنَّ التَّصَرُّفَاتِ العدلية فِي الْأَرْضِ جِنْسَانِ: مُعَاوَضَاتٌ وَمُشَارَكَاتٌ. فَالْمُعَاوَضَاتُ: كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ. وَالْمُشَارَكَاتُ: شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ وَشَرِكَةُ الْعَقْدِ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ اشْتِرَاكُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَاشْتِرَاكُ النَّاسِ فِي الْمُبَاحَاتِ، كَمَنَافِعِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ الْمُبَاحَةِ وَالطُّرُقَاتِ وَمَا يُحْيَا مِنْ الْمَوَاتِ أَوْ يُوجَدُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ وَاشْتِرَاكِ الْوَرَثَةِ فِي الْمِيرَاثِ وَاشْتِرَاكِ الْمُوصَى لَهُمْ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَاشْتِرَاكِ التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ أَبْدَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَانِ الْجِنْسَانِ هُمَا مَنْشَأُ الظُّلْمِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ دَاوُد عليه السلام {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} . وَالتَّصَرُّفَاتُ الْأُخَرُ هِيَ الْفَضِيلَةُ: كَالْقَرْضِ وَالْعَارِيَة وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ. وَإِذَا كَانَتْ التَّصَرُّفَاتُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْمُعَادَلَةِ هِيَ مُعَاوَضَةٌ أَوْ مُشَارَكَةٌ. فَمَعْلُومٌ قَطْعًا: أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَةِ لَيْسَا مَنْ جَنْسِ الْمُعَاوَضَةِ الْمَحْضَةِ وَالْغَرَرُ إنَّمَا حَرُمَ بَيْعُهُ فِي الْمُعَاوَضَةِ لِأَنَّهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَهُنَا لَا يَأْكُلُ أَحَدُهُمَا مَالَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ

ص: 99

يَنْبُتْ الزَّرْعُ فَإِنَّ رَبَّ الْأَرْضِ لَمْ يَأْخُذْ مَنْفَعَةَ الْآخَرِ؛ إذْ هُوَ لَمْ يَسْتَوْفِهَا وَلَا مَلَكَهَا بِالْعَقْدِ وَلَا هِيَ مَقْصُودَةٌ؛ بَلْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ بَدَنِهِ كَمَا ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ أَرْضِ هَذَا وَرَبُّ الْأَرْضِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ قَدْ أَخَذَهُ وَالْآخَرُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا؛ بِخِلَافِ بُيُوعِ الْغَرَرِ وَإِجَارَةِ الْغَرَرِ؛ فَإِنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاوِضَيْنِ يَأْخُذُ شَيْئًا وَالْآخَرُ يَبْقَى تَحْتَ الْخَطَرِ فَيُفْضِي إلَى نَدَمِ أَحَدِهِمَا وَخُصُومَتِهِمَا. وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الْمُعَادَلَةِ الْمَحْضَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ظُلْمٌ أَلْبَتَّةَ لَا فِي غَرَرٍ وَلَا فِي غَيْرِ غَرَرٍ. وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا تَبَيَّنَ لَهُ مَأْخَذُ هَذِهِ الْأُصُولِ. وَعَلِمَ أَنَّ جَوَازَ هَذِهِ أَشْبَهُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَأَعْرَفُ فِي الْعُقُولِ وَأَبْعَدُ عَنْ كُلِّ مَحْذُورٍ مِنْ جَوَازِ إجَارَةِ الْأَرْضِ؛ بَلْ وَمِنْ جَوَازِ كَثِيرٍ مِنْ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا حَيْثُ هِيَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ لِلْخَلْقِ بِلَا فَسَادٍ. وَإِنَّمَا وَقَعَ اللَّبْسُ فِيهَا عَلَى مَنْ حَرَّمَهَا مِنْ إخْوَانِنَا الْفُقَهَاءِ بَعْدَ مَا فَهِمُوهُ مِنْ الْآثَارِ: مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا هَذَا إجَارَةً عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ عَمَلٍ بِعِوَضِ. وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَمِلَ لِيَنْتَفِعَ بِعَمَلِهِ يَكُونُ أَجِيرًا كَعَمَلِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَعَمَلِ الشَّرِيكَيْنِ فِي شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ وَكَاشْتِرَاكِ الْغَانِمِينَ فِي الْمَغَانِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى نَعَمْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَعْمَلُ بِمَالٍ يَضْمَنُهُ لَهُ الْآخَرُ لَا يَتَوَلَّدُ مِنْ عَمَلِهِ: كَانَ هَذَا إجَارَةً.

ص: 100

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ مِنْ جِنْسِ الْمُضَارَبَةِ. فَإِنَّهَا عَيْنٌ تَنْمُو بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا فَجَازَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمُضَارَبَةِ جَوَّزَهَا الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ اتِّبَاعًا لِمَا جَاءَ فِيهَا عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مَعَ أَنَّهُ لَا يُحْفَظُ فِيهَا بِعَيْنِهَا سُنَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَلَقَدْ كَانَ أَحْمَد يَرَى أَنْ يَقِيسَ الْمُضَارَبَةَ عَلَى الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ لِثُبُوتِهَا بِالنَّصِّ فَتُجْعَلُ أَصْلًا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِمَا مَنْ خَالَفَ. وَقِيَاسُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ صَحِيحٌ. فَإِنَّ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ جَوَازُ أَحَدِهِمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهِ حُكْمَ الْآخَرِ لِتَسَاوِيهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: الرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ مِنْ عَيْنِ الْأَصْلِ؛ بَلْ الْأَصْلُ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ بَدَلُهُ. فَالْمَالُ الْمُقَسَّمُ حَصَلَ بِنَفْسِ الْعَمَلِ؛ بِخِلَافِ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ فَإِنَّهُ مِنْ نَفْسِ الْأَصْلِ. قِيلَ: هَذَا الْفَرْقُ فَرْقٌ فِي الصُّورَةِ وَلَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمَالَ الْمُسْتَفَادَ إنَّمَا حَصَلَ بِمَجْمُوعِ مَنْفَعَةِ بَدَنِ الْعَامِلِ وَمَنْفَعَةِ رَأْسِ الْمَالِ؛ وَلِهَذَا يَرُدُّ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِثْلَ رَأْسِ مَالِهِ وَيَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ كَمَا أَنَّ الْعَامِلَ يَبْقَى بِنَفْسِهِ الَّتِي هِيَ نَظِيرُ الدَّرَاهِمِ. وَلَيْسَتْ إضَافَةُ الرِّبْحِ إلَى عَمَلِ بَدَنِ هَذَا بِأَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى مَنْفَعَةِ مَالِ هَذَا. وَلِهَذَا فَالْمُضَارَبَةُ الَّتِي تَرْوُونَهَا عَنْ عُمَرَ: إنَّمَا حَصَلَتْ بِغَيْرِ عَقْدٍ لَمَّا

ص: 101

أَقْرَضَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لِابْنَيْ عُمَرَ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَحَمَلَاهُ إلَى أَبِيهِمَا. فَطَلَبَ عُمَرُ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ كَالْغَصْبِ حَيْثُ أَقْرَضَهُمَا وَلَمْ يُقْرِضْ غَيْرَهُمَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَالُ مُشْتَرَكٌ وَأَحَدُ الشُّرَكَاءِ إذَا اتَّجَرَ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بِدُونِ إذْنِ الْآخَرِ فَهُوَ كَالْغَاصِبِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ وَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: " {الضَّمَانُ كَانَ عَلَيْنَا فَيَكُونُ الرِّبْحُ لَنَا} فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مُضَارَبَةً. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَوْجُودَةٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ - وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ - هَلْ يَكُونُ رِبْحُ مَنْ اتَّجَرَ بِمَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ لِلْعَامِلِ أَوْ لَهُمَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. وَأَحْسَنُهَا وَأَقْيَسُهَا: أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا؛ كَمَا قَضَى بِهِ عُمَرُ؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ مُتَوَلِّدٌ عَنْ الْأَصْلَيْنِ. وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْمُضَارَبَةِ الَّذِي قَدْ اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ رَاعَوْا فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الشَّرِكَةِ، فَأَخْذُ مِثْلِ الدَّرَاهِمِ يَجْرِي مَجْرَى عَيْنِهَا؛ وَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ الْقَرْضَ مَنِيحَةً؛ يُقَالُ: مَنِيحَةُ وَرِقٍ. وَيَقُولُ النَّاسُ: أَعِرْنِي دَرَاهِمَك. يَجْعَلُونَ رَدَّ مِثْلِ الدَّرَاهِمِ مِثْلَ رَدِّ عَيْنِ الْعَارِيَة وَالْمُقْتَرِضُ انْتَفَعَ بِهَا وَرَدَّهَا. وَسَمَّوْا الْمُضَارَبَةَ قِرَاضًا؛ لِأَنَّهَا فِي الْمُقَابَلَاتِ نَظِيرُ الْقَرْضِ فِي التَّبَرُّعَاتِ. وَيُقَالُ أَيْضًا: لَوْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرْقِ مُؤَثِّرًا لَكَانَ اقْتِضَاؤُهُ

ص: 102

لِتَجْوِيزِ الْمُزَارَعَةِ دُونَ الْمُضَارَبَةِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ إذَا حَصَلَ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلَيْنِ كَانَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ حُصُولِهِ مَعَ ذَهَابِ أَحَدِهِمَا. وَإِنْ قِيلَ: الزَّرْعُ نَمَاءُ الْأَرْضِ دُونَ الْبَدَنِ. فَقَدْ يُقَالُ: وَالرِّبْحُ نَمَاءُ الْعَامِلِ دُونَ الدَّرَاهِمِ أَوْ بِالْعَكْسِ. وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ؛ بَلْ الزَّرْعُ يَحْصُلُ بِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَمَنْفَعَةِ بَدَنِ الْعَامِلِ وَالْبَقَرِ وَالْحَدِيدِ. ثُمَّ لَوْ سَلِمَ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُضَارَبَةِ فَرْقًا فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا بِالْمُضَارَبَةِ أَشْبَهُ مِنْهَا بِالْمُؤَاجَرَةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجَرَةَ الْمَقْصُودُ فِيهَا هُوَ الْعَمَلُ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَالْأُجْرَةُ مَضْمُونَةٌ فِي الذِّمَّةِ أَوْ عَيْنٌ مُعَيَّنَةٌ. وَهُنَا لَيْسَ الْمَقْصُودُ إلَّا النَّمَاءُ وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْعَمَلِ وَالْأُجْرَةُ لَيْسَتْ عَيْنًا وَلَا شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ بَعْضُ مَا يَحْصُلُ مِنْ النَّمَاءِ؛ وَلِهَذَا مَتَى عُيِّنَ فِيهَا شَيْءٌ مُعَيَّنٌ فَسَدَ الْعَقْدُ كَمَا تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ إذَا شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا رِبْحًا مُعَيَّنًا أَوْ أُجْرَةً مَعْلُومَةً فِي الذِّمَّةِ. وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْغَايَةِ. فَإِذَا كَانَتْ بِالْمُضَارَبَةِ أَشْبَهَ مِنْهَا بِالْمُؤَاجَرَةِ جِدًّا وَالْفَرْقُ الَّذِي بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُضَارَبَةِ ضَعِيفٌ وَاَلَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُؤَاجَرَةِ فُرُوقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ إلْحَاقِهَا بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ فَإِلْحَاقُهَا بِمَا هِيَ بِهِ أَشْبَهُ أَوْلَى وَهَذَا أَجْلَى مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ فِيهِ إلَى إطْنَابٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ نَقُولَ: لَفْظُ الْإِجَارَةِ فِيهِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ.

ص: 103

فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ. " أَحَدُهَا ": أَنْ يُقَالَ: لِكُلِّ مَنْ بَذَلَ نَفْعًا بِعِوَضٍ. فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَهْرُ. فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} . وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَمَلُ هُنَا مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا وَكَانَ الْآخَرُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا لَازِمًا أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ. " الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ ": الْإِجَارَةُ الَّتِي هِيَ جَعَالَةٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ النَّفْعُ غَيْرَ مَعْلُومٍ لَكِنَّ الْعِوَضَ مَضْمُونًا؟ فَيَكُونُ عَقْدًا جَائِزًا غَيْرَ لَازِمٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: مَنْ رَدَّ عَلَيَّ عَبْدِي فَلَهُ كَذَا. فَقَدْ يَرُدُّهُ مِنْ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبٍ. " الثَّالِثَةُ ": الْإِجَارَةُ الْخَاصَّةُ. وَهِيَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَيْنًا أَوْ يَسْتَأْجِرَهُ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ؛ بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً. فَيَكُونُ الْأَجْرُ مَعْلُومًا وَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ. وَهَذِهِ الْإِجَارَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الْبَيْعَ فِي عَامَّةِ أَحْكَامِهِ. وَالْفُقَهَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ إذَا أَطْلَقُوا الْإِجَارَةَ أَوْ قَالُوا " بَابُ الْإِجَارَةِ " أَرَادُوا هَذَا الْمَعْنَى. فَيُقَالُ: الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَنَحْوُهُنَّ مِنْ الْمُشَارَكَاتِ عَلَى نَمَاءٍ يَحْصُلُ مَنْ قَالَ: هِيَ إجَارَةٌ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ أَوْ الْعَامِّ فَقَدْ صَدَقَ. وَمَنْ قَالَ: هِيَ إجَارَةٌ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَإِذَا كَانَتْ إجَارَةً

ص: 104

بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الَّتِي هِيَ الْجَعَالَةُ. فَهُنَالِكَ إنْ كَانَ الْعِوَضُ شَيْئًا مَضْمُونًا مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَأَمَّا إنْ كَانَ الْعِوَضُ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ الْعَمَلِ جَازَ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا شَائِعًا فِيهِ كَمَا لَوْ قَالَ الْأَمِيرُ فِي الْغَزْوِ: مَنْ دَلَّنَا عَلَى حِصْنِ كَذَا فَلَهُ مِنْهُ كَذَا فَحُصُولُ الْجَعْلِ هُنَاكَ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ الْمَالِ مَعَ أَنَّهُ جَعَالَةٌ مَحْضَةٌ لَا شَرِكَةَ فِيهِ. فَالشِّرْكَةُ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَيَسْلُكُ فِي هَذَا طَرِيقَةً أُخْرَى. فَيُقَالُ: الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قِيَاسُ الْأُصُولِ: أَنَّ الْإِجَارَةَ الْخَاصَّةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْعِوَضُ غَرَرًا قِيَاسًا عَلَى الثَّمَنِ. فَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِالْمَنْفَعَةِ: فَلَا تُشْبِهُ هَذِهِ الْإِجَارَةَ؛ لِمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِهَا، فَتَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ الْمُبِيحِ. فَتَحْرِيرُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْمُعْتَقِدَ لِكَوْنِهَا إجَارَةً يَسْتَفْسِرُ عَنْ مُرَادِهِ بِالْإِجَارَةِ. فَإِنْ أَرَادَ الْخَاصَّةَ: لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ أَرَادَ الْعَامَّةَ: فَأَيْنَ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا إلَّا بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ؟ فَإِنْ ذَكَرَ قِيَاسًا بَيَّنَ لَهُ الْفَرْقَ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِ فَقِيهٍ فَضْلًا عَنْ الْفَقِيهِ وَلَنْ يَجِدَ إلَى أَمْرٍ يَشْمَلُ مِثْلَ هَذِهِ الْإِجَارَةِ سَبِيلًا. فَإِذَا انْتَفَتْ أَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ ثَبَتَ الْحِلُّ. وَيَسْلُكُ فِي هَذَا طَرِيقَةً أُخْرَى. وَهُوَ قِيَاسُ الْعَكْسِ. وَهُوَ أَنْ

ص: 105

يُثْبِتَ فِي الْفَرْعِ نَقِيضَ حُكْمِ الْأَصْلِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُكْمِ الْأَصْلِ. فَيُقَالُ: الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِكَوْنِ الْأُجْرَةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً مُنْتَفٍ فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِذَلِكَ أَنَّ الْمَجْهُولَ غَرَرٌ. فَيَكُونُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْغَرَرِ الْمُقْتَضِي فِي أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ أَوْ مَا يُذْكَرُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي مُنْتَفِيَةٌ فِي الْفَرْعِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّحْرِيمِ مُوجِبٌ إلَّا كَذَا - وَهُوَ مُنْتَفٍ - فَلَا تَحْرِيمَ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ - حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَغَيْرِهِ -: فَقَدْ جَاءَتْ مُفَسِّرَةً مُبَيِّنَةً لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَهْيًا عَمَّا فَعَلَ هُوَ وَالصَّحَابَةُ فِي عَهْدِهِ وَبَعْدِهِ بَلْ الَّذِي رَخَّصَ فِيهِ غَيْرَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ. فَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: " {كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُزْدَرِعًا كُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا تُسَمَّى لِسَيِّدِ الْأَرْضِ. قَالَ: مِمَّا يُصَابُ ذَلِكَ وَتُسَلَّمُ الْأَرْضُ وَمِمَّا تُصَابُ الْأَرْضُ وَيُسَلَّمُ ذَلِكَ؟ فَنَهَيْنَا. فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ} ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ. قَالَ: " {كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَقْلًا. وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِي أَرْضَهُ. فَيَقُولُ: هَذِهِ الْقِطْعَةُ لِي. وَهَذِهِ لَك. فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ ذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ. فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم} ". وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: " {فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ كَذَا وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ فَنُهِينَا عَنْ ذَلِكَ. وَلَمْ نُنْهَ عَنْ الْوَرِقِ} ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ رَافِعٍ قَالَ: " {كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ

ص: 106

الْأَنْصَارِ حَقْلًا. وَكُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ وَلَهُمْ هَذِهِ. فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ. فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْوَرِقُ فَلَمْ يَنْهَنَا} " وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ {حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَأَلْت رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاء الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ إنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا عَلَى الماذيانات وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَأَشْيَاءَ مِنْ الزَّرْعِ فَيَهْلَكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلَكُ هَذَا وَيُسْلِمُ هَذَا. فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إلَّا هَذَا. فَلِذَلِكَ زُجِرَ النَّاسُ عَنْهُ. فَإِمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ} . فَهَذَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ - الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الْحَدِيثِ - يَذْكُرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِرَاءٌ إلَّا بِزَرْعِ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْحَقْلِ. وَهَذَا النَّوْعُ حَرَامٌ بِلَا رَيْبٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً وَحَرَّمُوا نَظِيرَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ. فَلَوْ اشْتَرَطَ رِبْحَ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ. وَهَذَا الْغَرَرُ فِي الْمُشَارَكَاتِ نَظِيرُ الْغَرَرِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الْمُعَاوَضَاتِ وَالْمُقَابَلَاتِ هُوَ التَّعَادُلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. فَإِنْ اشْتَمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى غَرَرٍ أَوْ رِبًا دَخَلَهَا الظُّلْمُ فَحَرَّمَهَا اللَّهُ الَّذِي حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ مُحَرَّمًا عَلَى عِبَادِهِ. فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا مَلَكَ الثَّمَنَ وَبَقِيَ الْآخَرُ تَحْتَ الْخَطَرِ: لَمْ يَجُزْ - وَلِذَلِكَ حَرَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْعَ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ -

ص: 107

فَكَذَلِكَ هَذَا إذَا اشْتَرَطَا لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مَكَانًا مُعَيَّنًا خَرَجَا عَنْ مُوجِبِ الشَّرِكَةِ؛ فَإِنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي النَّمَاءِ. فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْمُعَيَّنِ لَمْ يَبْقَ لِلْآخَرِ فِيهِ نَصِيبٌ وَدَخَلَهُ الْخَطَرُ وَمَعْنَى الْقِمَارِ كَمَا ذَكَرَهُ رَافِعٌ فِي قَوْلِهِ: " {فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ} " فَيَفُوزُ أَحَدُهُمَا وَيَخِيبُ الْآخَرُ. وَهَذَا مَعْنَى الْقِمَارِ. وَأَخْبَرَ رَافِعٌ " أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِرَاءٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا هَذَا " وَأَنَّهُ إنَّمَا زُجِرَ عَنْهُ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنْ الْمُخَاطَرَةِ وَمَعْنَى الْقِمَارِ. وَأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا انْصَرَفَ إلَى ذَلِكَ الْكِرَاءِ الْمَعْهُودِ؛ لَا إلَى مَا تَكُونُ فِيهِ الْأُجْرَةُ مَضْمُونَةً فِي الذِّمَّةِ. وَسَأُشِيرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَرَافِعٌ أَعْلَمُ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَيِّ شَيْءٍ وَقَعَ؟ وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - هُوَ الَّذِي انْتَهَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَإِنَّهُ قَالَ: لَمَّا حَدَّثَهُ رَافِعٌ: " {قَدْ عَلِمْت أَنَّا كُنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا بِمَا عَلَى الْأَرْبِعَاءِ وَبِشَيْءٍ مِنْ التِّبْنِ} " فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرُونَ بِزَرْعِ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَهُ النَّهْيُ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَرْوِي حَدِيثَ مُعَامَلَةِ خَيْبَرَ دَائِمًا وَيُفْتِي بِهِ وَيُفْتِي بِالْمُزَارَعَةِ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَيْضًا بَعْدَ حَدِيثِ رَافِعٍ. فَرَوَى حَرْبٌ الكرماني قَالَ: حَدَّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ

ص: 108

بْنِ رَاهَوَيْه حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْت كُلَيْبَ بْنَ وَائِلٍ قَالَ: أَتَيْت ابْنَ عُمَرَ فَقُلْت: أَتَانِي رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ وَمَاءٌ وَلَيْسَ لَهُ بَذْرٌ وَلَا بَقَرٌ فَأَخَذْتهَا بِالنِّصْفِ فَبَذَرْت فِيهَا بَذْرِي وَعَمِلْت فِيهَا بِبَقَرِي فَنَاصَفْته؟ قَالَ: حَسَنٌ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي حَزْمٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ. سَمِعْت سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - وَأَتَاهُ رَجُلٌ - فَقَالَ: الرَّجُلُ مِنَّا يَنْطَلِقُ إلَى الرَّجُلِ فَيَقُولُ: أَجِيءُ بِبَذْرِي وَبَقَرِي وَأَعْمَلُ أَرْضَك فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهُ فَلَك مِنْهُ كَذَا وَلِي مِنْهُ كَذَا؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ وَنَحْنُ نَصْنَعُهُ. وَهَكَذَا أَخْبَرَ أَقَارِبُ رَافِعٍ. فَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ رَافِعٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمُومَتِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرُونَ الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الْأَرْبِعَاءِ أَوْ بِشَيْءٍ يَسْتَثْنِيَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ. فَنَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ. فَقِيلَ لِرَافِعِ: فَكَيْفَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ. وَكَانَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذُو الْفَهْمِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَمْ يُجِزْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَاطَرَةِ. وَعَنْ أسيد بْنِ ظهير قَالَ: " {كَانَ أَحَدُنَا إذَا اسْتَغْنَى عَنْ أَرْضِهِ أَعْطَاهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ. وَيَشْتَرِطُ ثَلَاثَ جَدَاوِلَ وَالْقُصَارَةَ وَمَا سَقَى الرَّبِيعُ. كَانَ الْعَيْشُ إذْ ذَاكَ شَدِيدًا وَكَانَ يَعْمَلُ فِيهَا بِالْحَدِيدِ وَمَا شَاءَ اللَّهُ وَيُصِيبُ مِنْهَا مَنْفَعَةً. فَأَتَانَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 109

يَنْهَاكُمْ عَنْ الْحَقْلِ وَيَقُولُ: مَنْ اسْتَغْنَى عَنْ أَرْضِهِ فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ أَوْ لِيَدَعْ} " رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه. وَرَوَى أَبُو دَاوُد قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَادَ أَحْمَد "{وَيَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُزَابَنَةِ} . وَالْمُزَابَنَةُ: أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَهُ الْمَالُ الْعَظِيمُ مِنْ النَّخْلِ فَيَأْتِيهِ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: أَخَذْته بِكَذَا وَكَذَا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ. وَالْقُصَارَةُ مَا سَقَطَ مِنْ السُّنْبُلِ ". وَهَكَذَا أَخْبَرَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَجَابِرٌ. فَأَخْبَرَ سَعْدٌ: {أَنَّ أَصْحَابَ الْمَزَارِعِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَكْرُونَ مَزَارِعَهُمْ بِمَا يَكُونُ عَلَى السَّوَاقِي مِنْ الزَّرْعِ وَمَا سَعِدَ بِالْمَاءِ مِمَّا حَوْلَ الْبِئْرِ. فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاخْتَصَمُوا فِي ذَلِكَ فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يكروا بِذَلِكَ وَقَالَ: اُكْرُوا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي. فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْإِذْنِ بِالْكِرَاءِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَإِنَّ النَّهْيَ إنَّمَا كَانَ عَنْ اشْتِرَاطِ زَرْعِ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ. وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ "{كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَصِيبٍ مِنْ القصري وَمِنْ كَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ أَوْ فَلْيَدَعْهَا} " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ رَوَوْا عَنْهُ النَّهْيَ قَدْ أَخْبَرُوا بِالصُّورَةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا وَالْعِلَّةِ الَّتِي نُهِيَ مِنْ أَجْلِهَا. وَإِذَا

ص: 110

كَانَ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: {أَنَّهُ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ} مُطْلَقًا فَالتَّعْرِيفُ لِلْكِرَاءِ الْمَعْهُودِ بَيْنَهُمْ. وَإِذَا قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {لَا تكروا الْمَزَارِعَ} " فَإِنَّمَا أَرَادَ الْكِرَاءَ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ كَمَا فَهِمُوهُ مِنْ كَلَامِهِ وَهُمْ أَعْلَمُ بِمَقْصُودِهِ. وَكَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا عَنْهُ: " أَنَّهُ رَخَّصَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْكِرَاءِ " وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ مَا قَرَنَ بِهِ النَّهْيَ مِنْ الْمُزَابَنَةِ وَنَحْوِهَا. وَاللَّفْظُ - وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُطْلَقًا - فَإِنَّهُ إذَا كَانَ خِطَابًا لِمُعَيَّنٍ فِي مِثْلِ الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ أَوْ عَقِبَ حِكَايَةِ حَالٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَكُونُ مُقَيَّدًا بِمِثْلِ حَالِ الْمُخَاطَبِ. كَمَا لَوْ قَالَ الْمَرِيضُ لِلطَّبِيبِ: إنَّ بِهِ حَرَارَةً. فَقَالَ لَهُ: لَا تَأْكُلْ الدَّسَمَ. فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ النَّهْيَ مُقَيَّدٌ بِتِلْكَ الْحَالِ. وَذَلِكَ: أَنَّ اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ إذَا كَانَ لَهُ مُسَمًّى مَعْهُودٌ أَوْ حَالٌ يَقْتَضِيهِ: انْصَرَفَ إلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً كالمتبايعين إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا: بِعْتُك بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَإِنَّهَا مُطْلَقَةٌ فِي اللَّفْظِ ثُمَّ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا إلَى الْمَعْهُودِ مِنْ الدَّرَاهِمِ. فَإِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ لَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ لَفْظَ " الْكِرَاءِ " إلَّا لِذَلِكَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ ثُمَّ خُوطِبُوا بِهِ: لَمْ يَنْصَرِفْ إلَّا إلَى مَا يَعْرِفُونَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ الْعُرْفِيِّ كَلَفْظِ " الدَّابَّةِ " إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ أَنَّهُ الْفَرَسُ أَوْ ذَوَاتُ الْحَافِرِ. فَقَالَ: لَا تَأْتِنِي بِدَابَّةِ: لَمْ يَنْصَرِفْ هَذَا الْمُطْلَقُ إلَّا إلَى ذَلِكَ. وَنَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُقَيَّدًا

ص: 111

بِالْعُرْفِ وَالسُّؤَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَعَنْ ظهير بْنِ رَافِعٍ قَالَ: " {دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟ قُلْت نُؤَاجِرُهَا بِمَا عَلَى الرَّبِيعِ وَعَلَى الْأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ قَالَ: لَا تَفْعَلُوا ازْرَعُوهَا أَوْ أَزْرِعُوهَا أَوْ أَمْسِكُوهَا} ". فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ النَّهْيَ وَقَعَ عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ الْمَحْضَةُ: فَلَمْ يَتَنَاوَلْهَا النَّهْيُ وَلَا ذَكَرَهَا رَافِعٌ وَغَيْرُهُ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ الْكِرَاءِ؛ لِأَنَّهَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - عِنْدَهُمْ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْكِرَاءِ الْمُعْتَادِ؛ فَإِنَّ الْكِرَاءَ اسْمٌ لِمَا وَجَبَ فِيهِ أُجْرَةٌ مَعْلُومَةٌ إمَّا عَيْنٌ وَإِمَّا دَيْنٌ. فَإِنْ كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مَضْمُونًا فَهُوَ جَائِزٌ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَيْنًا مِنْ غَيْرِ الزَّرْعِ وَأَمَّا إنْ كَانَ عَيْنًا مِنْ الزَّرْعِ لَمْ يَجُزْ.

فَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ جَمِيعِ الزَّرْعِ فَلَيْسَ هُوَ الْكِرَاءَ الْمُطْلَقَ؛ بَلْ هُوَ شَرِكَةٌ مَحْضَةٌ. إذْ لَيْسَ جَعْلُ الْعَامِلِ مُكْتَرِيًا لِلْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ الزَّرْعِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْمَالِكِ مُكْتَرِيًا لِلْعَامِلِ بِالْجُزْءِ الْآخَرِ؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي هَذَا كِرَاءً أَيْضًا. فَإِنَّمَا هُوَ كِرَاءٌ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. فَأَمَّا الْكِرَاءُ الْخَاصُّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ رَافِعٌ وَغَيْرُهُ فَلَا وَلِهَذَا السَّبَبِ بَيَّنَ رَافِعٌ أَحَدَ نَوْعَيْ الْكِرَاءِ الْجَائِزِ وَبَيَّنَ النَّوْعَ الْآخَرَ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلشَّرِكَةِ لِأَنَّهَا جِنْسٌ آخَرُ.

ص: 112

بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " {مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ وَإِلَّا فَلْيُمْسِكْهَا} " أَمْرٌ - إذَا لَمْ يَفْعَلْ وَاحِدًا مِنْ الزَّرْعِ وَالْمَنِيحَةِ - أَنْ يُمْسِكَهَا. وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ وَمِنْ الْمُزَارَعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَيُقَالُ: الْأَمْرُ بِهَذَا أَمْرُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ؛ لَا أَمْرُ إيجَابٍ أَوْ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ فِي الِابْتِدَاءِ لِيَنْزَجِرُوا عَمَّا اعْتَادُوهُ مِنْ الْكِرَاءِ الْفَاسِدِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ قَالَ فِي الْآنِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَطْبُخُونَهَا فِيهَا: " {أهريقوا مَا فِيهَا وَاكْسِرُوهَا} ". وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ حِينَ سَأَلَهُ عَنْهَا أَبُو ثَعْلَبَةَ الخشني: " {إنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ} " وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّفُوسَ إذَا اعْتَادَتْ الْمَعْصِيَةَ فَقَدْ لَا تَنْفَطِمُ عَنْهَا انْفِطَامًا جَيِّدًا إلَّا بِتَرْكِ مَا يُقَارِبُهَا مِنْ الْمُبَاحِ. كَمَا قِيلَ: " لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ حَاجِزًا مِنْ الْحَلَالِ " كَمَا أَنَّهَا أَحْيَانًا لَا تُتْرَكُ الْمَعْصِيَةُ إلَّا بِتَدْرِيجِ؛ لَا تَتْرُكُهَا جُمْلَةً. فَهَذَا يَقَعُ تَارَةً وَهَذَا يَقَعُ تَارَةً. وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ خُشِيَ مِنْهُ النَّفْرَةُ عَنْ الطَّاعَةِ: الرُّخْصَةُ لَهُ فِي أَشْيَاءَ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ الْمُحَرَّمِ وَلِمَنْ وَثِقَ بِإِيمَانِهِ وَصَبْرِهِ: النَّهْيُ عَنْ بَعْضِ مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُهُ مُبَالَغَةً فِي فِعْلِ الْأَفْضَلِ. وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَثِقَ بِإِيمَانِهِ

ص: 113

وَصَبْرِهِ - مِنْ فِعْلِ الْمُسْتَحَبَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ كَالْخُرُوجِ عَنْ جَمِيعِ مَالِهِ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - مَا لَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ حَالُهُ كَذَلِكَ كَالرَّجُلِ الَّذِي جَاءَهُ بِبَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَحَذَفَهُ بِهَا فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ. ثُمَّ قَالَ: " يَذْهَبُ أَحَدُكُمْ فَيُخْرِجُ مَالَهُ ثُمَّ يَجْلِسُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ ". يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الصَّحِيحَةِ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ: " {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُزَارَعَةِ. وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ. وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا} " وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: " {أَنَّهُ نَهَاهُمْ أَنْ يكروا بِزَرْعِ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ وَقَالَ: اُكْرُوا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} " وَكَذَلِكَ فَهِمَتْهُ الصَّحَابَةُ. فَإِنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ قَدْ رَوَى ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ: لَا بَأْسَ بِكِرَائِهَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَكَذَلِكَ فُقَهَاءُ الصَّحَابَةِ: كَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ. قَالَ: قُلْت. لطاوس: " {لَوْ تَرَكْت الْمُخَابَرَةَ؟ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا. قَالَ: أَيْ عَمْرٌو إنِّي أُعْطِيهِمْ وَأُعِينُهُمْ وَإِنْ أَعْلَمَهُمْ أَخْبَرَنِي - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَنْهُ؛ وَلَكِنْ قَالَ: إنْ يَمْنَحْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ خَرْجًا مَعْلُومًا} " وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحَرِّمْ الْمُزَارَعَةَ؛

ص: 114

وَلَكِنْ أَمَرَ أَنْ يَرْفُقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ} . رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُجْمَلًا وَالتِّرْمِذِي. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ أَخْبَرَ طاوس عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا دَعَاهُمْ إلَى الْأَفْضَلِ وَهُوَ التَّبَرُّعُ قَالَ: {وَأَنَا أُعِينُهُمْ وَأُعْطِيهِمْ} وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالرِّفْقِ الَّذِي مِنْهُ وَاجِبٌ وَهُوَ تَرْكُ الرِّبَا وَالْغَرَرِ. وَمِنْهُ مُسْتَحَبٌّ كَالْعَارِيَةِ وَالْقَرْضِ. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ التَّبَرُّعُ بِالْأَرْضِ بِلَا أُجْرَةٍ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ كَانَ الْمُسْلِمُ أَحَقَّ بِهِ فَقَالَ: " {لَأَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَرْضَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ خَرْجًا مَعْلُومًا} " وَقَالَ: {مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ أَوْ لِيُمْسِكْهَا} " فَكَانَ الْأَخُ هُوَ الْمَمْنُوحَ. وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَيْسُوا مِنْ الْإِخْوَانِ عَامَلَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَمْنَحْهُمْ؛ لَا سِيَّمَا وَالتَّبَرُّعُ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ فَضْلِ غِنًى. فَمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى مَنْفَعَةِ أَرْضِهِ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ الْمَنِيحَةُ كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُحْتَاجِينَ إلَى مَنْفَعَةِ أَرْضِ خَيْبَرَ وَكَمَا كَانَ الْأَنْصَارُ مُحْتَاجِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إلَى أَرْضِهِمْ حَيْثُ عَامَلُوا عَلَيْهَا الْمُهَاجِرِينَ. وَقَدْ تُوجِبُ الشَّرِيعَةُ التَّبَرُّعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا نَهَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ لِأَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ؛ لِيُطْعِمُوا الْجِيَاعَ؛ لِأَنَّ إطْعَامَهُمْ وَاجِبٌ. فَلَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُحْتَاجِينَ إلَى مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَأَصْحَابُهَا أَغْنِيَاءُ عَنْهَا نَهَاهُمْ عَنْ الْمُعَاوَضَةِ

ص: 115

لِيَجُودُوا بِالتَّبَرُّعِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالتَّبَرُّعِ عَيْنًا كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ الِادِّخَارِ. فَإِنَّ مَنْ نَهَى عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ جَادَ بِبَذْلِهِ؛ إذْ لَا يَتْرُكُ بَطَّالًا وَقَدْ يَنْهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَلْ الْأَئِمَّةُ عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمُبَاحِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمَنْهِيِّ؛ كَمَا نَهَاهُمْ فِي بَعْضِ الْمَغَازِي. . . (1) وَأَمَّا مَا رَوَاهُ جَابِرٌ عَنْ نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُخَابَرَةِ: فَهَذِهِ هِيَ الْمُخَابَرَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا. وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ. وَلَمْ تَكُنْ الْمُخَابَرَةُ عِنْدَهُمْ إلَّا ذَلِكَ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ {ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا لَا نَرَى بِالْخِبْرِ بَأْسًا حَتَّى كَانَ عَامُ أَوَّلٍ، فَزَعَمَ رَافِعٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ فَتَرَكْنَاهُ مِنْ أَجْلِهِ} " فَأَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَافِعًا رَوَى النَّهْيَ عَنْ الْخَبَرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى حَدِيثِ رَافِعٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْخِبْرُ - بِكَسْرِ الْخَاءِ - بِمَعْنَى الْمُخَابَرَةِ. وَالْمُخَابَرَةُ: الْمُزَارَعَةُ بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ. وَكَانَ أَبُو عُبَيْدٍ يَقُولُ: لِهَذَا سُمِّيَ الْأَكَّارُ خَبِيرًا؛ لِأَنَّهُ يُخَابِرُ عَلَى الْأَرْضِ وَالْمُخَابَرَةُ: هِيَ الْمُؤَاكَرَةُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَصْلُ هَذَا مِنْ خَيْبَرَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى النِّصْفِ فَقِيلَ: خَابَرَهُمْ أَيْ عَامَلَهُمْ فِي خَيْبَرَ. وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءِ؛ فَإِنَّ مُعَامَلَتَهُ بِخَيْبَرِ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا قَطُّ

(1)

بياض بالأصلين قدر كلمتين أو ثلاث

ص: 116

بَلْ فَعَلَهَا الصَّحَابَةُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ. وَإِنَّمَا رَوَى حَدِيثَ الْمُخَابَرَةِ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَجَابِرٌ. وَقَدْ فَسَّرَا مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ. وَالْخَبِيرُ: هُوَ الْفَلَّاحُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ الْأَرْضَ. وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُزَارَعَةِ. فَقَالُوا: " الْمُخَابَرَةُ " هِيَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ وَ " الْمُزَارَعَةُ " عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ. قَالُوا: وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ؛ لَا الْمُزَارَعَةِ. وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ " نَهَى عَنْ الْمُزَارَعَةِ " كَمَا " نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ " وَكَمَا " نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ " وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَامَّةٌ لِمَوْضِعِ نَهْيِهِ وَغَيْرِ مَوْضِعِ نَهْيِهِ وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ بِمَا يَفْعَلُونَهُ لِأَجْلِ التَّخْصِيصِ الْعُرْفِيِّ لَفْظًا وَفِعْلًا وَلِأَجْلِ الْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَهِيَ لَامُ الْعَهْدِ وَسُؤَالُ السَّائِلِ؛ وَإِلَّا فَقَدْ نَقَلَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَنَّ الْمُخَابَرَةَ هِيَ الْمُزَارَعَةُ وَالِاشْتِقَاقُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

فَصْلٌ:

وَاَلَّذِينَ جَوَّزُوا الْمُزَارَعَةَ مِنْهُمْ مَنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ. وَقَالُوا: هَذِهِ هِيَ الْمُزَارَعَةُ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ لَمْ

ص: 117

يَجُزْ. وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ حَيْثُ يُجَوِّزُونَ الْمُزَارَعَةَ. وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ: قِيَاسُهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَبِذَلِكَ احْتَجَّ أَحْمَد أَيْضًا. قَالَ الكرماني: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ: رَجُلٌ دَفَعَ أَرْضَهُ إلَى الْأَكَّارِ عَلَى الثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْبَقَرُ وَالْحَدِيدُ وَالْعَمَلُ مِنْ الْأَكَّارِ يَذْهَبُ فِيهِ مَذْهَبَ الْمُضَارَبَةِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْبَذْرَ هُوَ أَصْلُ الزَّرْعِ كَمَا أَنَّ الْمَالَ هُوَ أَصْلُ الرِّبْحِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِمَّنْ لَهُ الْأَصْلُ لِيَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا الْعَمَلُ وَمِنْ الْآخَرِ الْأَصْلُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْهُ: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ وَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِهِ - أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ نَفْسًا - أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُكْرِي أَرْضَهُ بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ كَمَا عَامَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ - كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى - إذَا دَفَعَ أَرْضَهُ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا بِبَذْرِهِ بِجُزْءٍ مِنْ الزَّرْعِ لِلْمَالِكِ فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ جَازَ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُزَارَعَةِ لَمْ يَجُزْ وَجَعَلُوا هَذَا التَّفْرِيقَ تَقْرِيرًا

ص: 118

لِنُصُوصِهِ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا فِي عَامَّةِ نُصُوصِهِ صَرَائِحَ كَثِيرَةً جِدًّا فِي جَوَازِ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ مِنْهَا وَرَأَوْا أَنَّ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْمُزَارَعَةِ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ كَالْمُضَارَبَةِ. فَفَرَّقُوا بَيْنَ بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَبَابِ الْإِجَارَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ - مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ - مَعْنَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ: يَجُوزُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا. أَرَادَ بِهِ: الْمُزَارَعَةَ وَالْعَمَلَ مِنْ الْأَكَّارِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَمُتَّبِعُوهُ: فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ: إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ: فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِلِ بِمَا شُرِطَ لَهُ. قَالَ: فَعَلَى هَذَا مَا يَأْخُذُهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ يَسْتَحِقُّهُ بِبَذْرِهِ وَمَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْأُجْرَةِ يَأْخُذُهُ بِالشَّرْطِ. وَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ نَصَّهُ عَلَى الْمُكَارِي بِبَعْضِ الْخَارِجِ هُوَ الْمُزَارَعَةُ عَلَى أَنْ يَبْذُرَ الْأَكَّارُ: هُوَ الصَّحِيحُ وَلَا يَحْتَمِلُ الْفِقْهُ إلَّا هَذَا أَوْ أَنْ يَكُونَ نَصُّهُ عَلَى جَوَازِ الْمُؤَاجَرَةِ الْمَذْكُورَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَجَوَازُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ مُطْلَقًا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَتَوَجَّهُ غَيْرُهُ أَثَرًا وَنَظَرًا. وَهُوَ ظَاهِرُ نُصُوصِ أَحْمَد الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ وَاخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ - قَوْلُ مَنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَبْذُرَ رَبُّ الْأَرْضِ وَقَوْلُ

ص: 119

مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إجَارَةً أَوْ مُزَارَعَةً - هُوَ فِي الضَّعْفِ نَظِيرُ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْإِجَارَةِ الْخَاصَّةِ وَالْمُزَارَعَةِ أَوْ أَضْعَفَ. أَمَّا بَيَانُ نَصِّ أَحْمَد: فَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا جَوَّزَ الْمُؤَاجَرَةَ بِبَعْضِ الزَّرْعِ اسْتِدْلَالًا بِقِصَّةِ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ خَيْبَرَ وَمُعَامَلَتُهُ لَهُمْ إنَّمَا كَانَتْ مُزَارَعَةً؛ لَمْ تَكُنْ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ. فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنَّ أَحْمَد لَا يُجَوِّزُ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَّا بِلَفْظِ إجَارَةٍ وَيَمْنَعُ فِعْلَهُ بِاللَّفْظِ الْمَشْهُورِ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَارَطَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} كَمَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَذْرًا فَإِذَا كَانَتْ الْمُعَامَلَةُ الَّتِي فَعَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا كَانُوا يَبْذُرُونَ فِيهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَكَيْفَ يَحْتَجُّ بِهَا أَحْمَد عَلَى الْمُزَارَعَةِ ثُمَّ يَقِيسُ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ ثُمَّ يَمْنَعُ الْأَصْلَ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ الَّتِي بَذَرَ فِيهَا الْعَامِلُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ لِلْيَهُودِ: {نُقِرُّكُمْ فِيهَا مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ} " لَمْ يَشْتَرِطْ مُدَّةً مَعْلُومَةً حَتَّى يُقَالَ: كَانَتْ إجَارَةً لَازِمَةً؛ لَكِنَّ أَحْمَد حَيْثُ قَالَ: - فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ - إنَّهُ يَشْتَرِطُ كَوْنَ الْبَذْرِ مِنْ الْمَالِكِ. فَإِنَّمَا قَالَهُ مُتَابَعَةً لِمَنْ أَوْجَبَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَإِذَا أَفْتَى الْعَالِمُ بِقَوْلٍ لِحُجَّةٍ وَلَهَا مُعَارِضٌ رَاجِحٌ لَمْ يَسْتَحْضِرْ حِينَئِذٍ ذَلِكَ الْمُعَارِضَ

ص: 120

الرَّاجِحَ ثُمَّ لَمَّا أَفْتَى بِجَوَازِ الْمُؤَاجَرَةِ بِثُلُثِ الزَّرْعِ اسْتِدْلَالًا بِمُزَارَعَةِ خَيْبَرَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي خَيْبَرَ كَانَ الْبَذْرُ عِنْدَهُ مِنْ الْعَامِلِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ. فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ أَحْمَد فَرَّقَ بَيْنَ الْمُؤَاجَرَةِ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ وَبَيْنَ الْمُزَارَعَةِ بِبَذْرِ الْعَامِلِ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَمُسْتَنَدُ هَذَا الْفَرْقِ لَيْسَ مَأْخَذًا شَرْعِيًّا. فَإِنَّ أَحْمَد لَا يَرَى اخْتِلَافَ أَحْكَامِ الْعُقُودِ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ؛ كَمَا يَرَاهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَيَمْنَعُونَهَا بِلَفْظِ الْمُزَارَعَةِ وَكَذَلِكَ يُجَوِّزُونَ بَيْعَ مَا فِي الذِّمَّةِ بَيْعًا حَالًّا بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَيَمْنَعُونَهُ بِلَفْظِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَلَمًا حَالًّا وَنُصُوصُ أَحْمَد وَأُصُولُهُ تَأْبَى هَذَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ فِي مَسْأَلَةِ صِيَغِ الْعُقُودِ؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ بِالْمَعَانِي لَا بِمَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَلْفَاظِ كَمَا تَشْهَدُ بِهِ أَجْوِبَتُهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَإِنْ كَانَ هُوَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا فَرَّقَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَكُونُ هَذَا التَّفْرِيقُ رِوَايَةً عَنْهُ مَرْجُوحَةً كَالرِّوَايَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ: فَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ. أَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يعتملوها مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِمْ بَذْرًا وَكَمَا عَامَلَ الْأَنْصَارَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ عِنْدِهِمْ قَالَ حَرْبٌ الكرماني:

ص: 121

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ حَكِيمٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَجْلَى أَهْلَ نَجْرَانَ وَأَهْلَ فَدَكَ وَأَهْلَ خَيْبَرَ وَاسْتَعْمَلَ يَعْلَى بْنَ مُنْيَةَ فَأَعْطَى الْعِنَبَ وَالنَّخْلَ عَلَى أَنَّ لِعُمَرِ الثُّلُثَيْنِ وَلَهُمْ الثُّلُثُ وَأَعْطَى الْبَيَاضَ - يَعْنِي بَيَاضَ الْأَرْضِ - عَلَى إنْ كَانَ الْبُرُّ وَالْبَقَرُ وَالْحَدِيدُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ فَلِعُمَرِ الثُّلُثَانِ وَلَهُمْ الثُّلُثُ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَلِعُمَرِ الشَّطْرُ وَلَهُمْ الشَّطْرُ. فَهَذَا عُمَرُ رضي الله عنه وَيَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ عَامِلُهُ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَمِلَ فِي خِلَافَتِهِ بِتَجْوِيزِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ: أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَامِلِ. وَقَالَ حَرْبٌ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْنٍ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ حَصِيرَةَ الأزدي عَنْ صَخْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ عَمْرِو بْنِ صَلِيعِ بْنِ مُحَارِبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: إنَّ فُلَانًا أَخَذَ أَرْضًا فَعَمِلَ فِيهَا وَفَعَلَ. فَدَعَاهُ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي أَخَذْت؟ فَقَالَ: أَرْضٌ أَخَذْتهَا أُكْرِيَ أَنْهَارَهَا وَأُعَمِّرُهَا وَأَزْرَعُهَا. فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ فَلِي النِّصْفُ وَلَهُ النِّصْفُ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَذَا. فَظَاهِرُهُ: أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يَنْهَهُ عَلِيٌّ عَنْ ذَلِكَ وَيَكْفِي إطْلَاقُ سُؤَالِهِ وَإِطْلَاقُ عَلِيٍّ الْجَوَابَ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ نَوْعٌ مِنْ الشَّرِكَةِ لَيْسَتْ

ص: 122

مِنْ الْإِجَارَةِ الْخَاصَّةِ. وَإِنْ جُعِلَتْ إجَارَةً فَهِيَ مِنْ الْإِجَارَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَدْخُلُ فِيهَا الْجَعَالَةُ وَالسَّبْقُ وَالرَّمْيُ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْهُمَا؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْبَذْرَ فِي الْمُزَارَعَةِ لَيْسَ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى رَبِّهَا؛ كَالثَّمَنِ فِي الْمُضَارَبَةِ؛ بَلْ الْبَذْرُ يَتْلَفُ كَمَا تَتْلَفُ الْمَنَافِعُ؛ وَإِنَّمَا تَرْجِعُ الْأَرْضُ أَوْ بَدَنُ الْبَقَرَةِ وَالْعَامِلِ. فَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِثْلَ رَأْسِ الْمَالِ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَرْجِعَ مِثْلُهُ إلَى مُخْرِجِهِ ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الْفَضْلَ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يَشْتَرِكَانِ فِي جَمِيعِ الزَّرْعِ. فَظَهَرَ أَنَّ الْأُصُولَ فِيهَا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ هِيَ الْأَرْضُ بِمَائِهَا وَهَوَائِهَا وَبَدَنُ الْعَامِلِ وَالْبَقَرُ وَأَكْثَرُ الْحَرْثِ وَالْبَذْرِ يَذْهَبُ كَمَا تَذْهَبُ الْمَنَافِعُ. وَكَمَا تَذْهَبُ أَجْزَاءٌ مِنْ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ فَيَسْتَحِيلُ زَرْعًا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ الزَّرْعَ مِنْ نَفْسِ الْحَبِّ وَالتُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ كَمَا يَخْلُقُ الْحَيَوَانَ مِنْ مَاءِ الْأَبَوَيْنِ بَلْ مَا يَسْتَحِيلُ فِي الزَّرْعِ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ مِنْ الْحَبِّ وَالْحَبُّ يَسْتَحِيلُ فَلَا يَبْقَى بَلْ يَفْلِقُهُ اللَّهُ وَيُحِيلُهُ كَمَا يُحِيلُ أَجْزَاءَ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَكَمَا يُحِيلُ الْمَنِيَّ وَسَائِرَ مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ. وَالْمَعْدِنَ وَالنَّبَاتَ. وَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ رَأْيِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ: اعْتَقَدُوا أَنَّ الْحَبَّ وَالنَّوَى فِي الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ: هُوَ الْأَصْلُ وَالْبَاقِي تَبَعٌ حَتَّى قَضَوْا فِي مَوَاضِعَ بِأَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ وَالشَّجَرُ لِرَبِّ النَّوَى وَالْحَبُّ مَعَ قِلَّةِ قِيمَتِهِ وَلِرَبِّ

ص: 123

الْأَرْضِ أُجْرَةُ أَرْضِهِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا قَضَى بِضِدِّ هَذَا حَيْثُ قَالَ: {مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ} فَأَخَذَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَبَعْضُ مَنْ أَخَذَ بِهِ يَرَى أَنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ وَأَنَّهُ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِحْسَانِ وَهَذَا لِمَا انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْقِيَاسِ الْمُتَقَدِّمِ وَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ تَبَعٌ لِلْبَذْرِ وَالشَّجَرَ تَبَعٌ لِلنَّوَى. وَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ؛ فَإِنَّ إلْقَاءَ الْحَبِّ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ إلْقَاءِ الْمَنِيِّ فِي الرَّحِمِ سَوَاءٌ؛ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ النِّسَاءَ حَرْثًا فِي قَوْله تَعَالَى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} كَمَا سَمَّى الْأَرْضَ الْمَزْرُوعَةَ حَرْثًا وَالْمُغَلَّبُ فِي مِلْكِ الْحَيَوَانِ إنَّمَا هُوَ جَانِبُ الْأُمِّ. وَلِهَذَا تَبِعَ الْوَلَدُ الْآدَمِيُّ أُمَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ دُونَ أَبِيهِ وَيَكُونُ جَنِينُ الْبَهِيمَةِ لِمَالِكِ الْأُمِّ دُونَ مَالِكِ الْفَحْلِ الَّذِي نُهِيَ عَنْ عَسْبِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي اسْتَمَدَّهَا مِنْ الْأُمِّ أَضْعَافُ الْأَجْزَاءِ الَّتِي اسْتَمَدَّهَا مِنْ الْأَبِ. وَإِنَّمَا لِلْأَبِ حَقُّ الِابْتِدَاءِ فَقَطْ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا. وَكَذَلِكَ الْحَبُّ وَالنَّوَى؛ فَإِنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي خَلَقَ مِنْهَا الشَّجَرَ وَالزَّرْعَ أَكْثَرُهَا مِنْ التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَقَدْ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ فَتَضْعُفُ بِالزَّرْعِ فِيهَا؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَجْزَاءُ تُسْتَخْلَفُ دَائِمًا - فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَزَالُ يَمُدُّ الْأَرْضَ بِالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَبِالتُّرَابِ إمَّا مُسْتَحِيلًا مِنْ غَيْرِهِ وَإِمَّا بِالْمَوْجُودِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ نَقْصُ الْأَجْزَاءِ التُّرَابِيَّةِ شَيْئًا إمَّا لِلْخَلَفِ بِالِاسْتِحَالَةِ وَإِمَّا لِلْكَثْرَةِ -

ص: 124

وَلِهَذَا صَارَ يَظْهَرُ أَنَّ أَجْزَاءَ الْأَرْضِ فِي مَعْنَى الْمَنَافِعِ بِخِلَافِ الْحَبِّ وَالنَّوَى الْمُلْقَى فِيهَا؛ فَإِنَّهُ عَيْنٌ ذَاهِبَةٌ غَيْرُ مُسْتَخْلَفَةٍ وَلَا يُعَوَّضُ عَنْهَا. لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ هُوَ الْأَصْلَ فَقَطْ؛ فَإِنَّ الْعَامِلَ هُوَ وَبَقْرَهُ لَا بُدَّ لَهُ مُدَّةَ الْعَمَلِ مِنْ قُوتٍ وَعَلَفٍ يَذْهَبُ أَيْضًا وَرَبُّ الْأَرْضِ لَا يَحْتَاجُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ؛ وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ لَا يَرْجِعُ إلَى رَبِّهِ كَمَا يُرْجَعُ فِي الْقِرَاضِ وَلَوْ جَرَى عِنْدَهُمْ مَجْرَى الْأُصُولِ لَرَجَعَ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أُصُولٌ بَاقِيَةٌ وَهِيَ الْأَرْضُ وَبَدَنُ الْعَامِلِ وَالْبَقَرُ وَالْحَدِيدُ. وَمَنَافِعُ فَانِيَةٌ. وَأَجْزَاءٌ فَانِيَةٌ أَيْضًا وَهِيَ الْبَذْرُ وَبَعْضُ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَبَعْضُ أَجْزَاءِ الْعَامِلِ وَبَقَرُهُ. فَهَذِهِ الْأَجْزَاءُ الْفَانِيَةُ كَالْمَنَافِعِ الْفَانِيَةِ سَوَاءٌ فَتَكُونُ الْخِيَرَةُ إلَيْهِمَا فِيمَنْ يَبْذُلُ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ وَيَشْتَرِكَانِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَا. مَا لَمْ يُفْضِ إلَى بَعْضِ مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ أَوْ الرِّبَا وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَد سَائِرَ أَنْوَاعِ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ مِثْلَ أَنْ يَدْفَعَ دَابَّتَهُ أَوْ سَفِينَتَهُ أَوْ غَيْرَهُمَا إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا وَالْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا.

فَصْلٌ:

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى حِكْمَةِ بَيْعِ الْغَرَرِ وَمَا يُشْبِهُ

ص: 125

ذَلِكَ يَجْمَعُ الْيُسْرَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ. فَإِنَّك تَجِدُ كَثِيرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ إمَّا أَنْ يَتَمَسَّكَ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ أَلْفَاظٍ يَحْسَبُهَا عَامَّةً أَوْ مُطْلَقَةً أَوْ بِضَرْبٍ مِنْ الْقِيَاسِ الْمَعْنَوِيِّ أَوْ الشبهي. فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَحْمَد حَيْثُ يَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْمُتَكَلِّمِ فِي الْفِقْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: الْمُجْمَلَ وَالْقِيَاسَ. وَقَالَ أَيْضًا أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ. ثُمَّ هَذَا التَّمَسُّكُ يُفْضِي إلَى مَا لَا يُمْكِنُ اتِّبَاعُهُ أَلْبَتَّةَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: بَيْعُ الدُّيُونِ دَيْنِ السَّلَمِ وَغَيْرِهِ وَأَنْوَاعٌ مِنْ الصُّلْحِ وَالْوِكَالَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْلَا أَنَّ الْغَرَضَ ذِكْرُ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةٍ تَجْمَعُ أَبْوَابًا لَذَكَرْنَا أَنْوَاعًا مِنْ هَذَا.

فَصْلٌ:

الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فِيهَا فِيمَا يَحِلُّ مِنْهَا وَيَحْرُمُ وَمَا يَصِحُّ مِنْهَا وَيَفْسُدُ. وَمَسَائِلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَاَلَّذِي يُمْكِنُ ضَبْطُهُ فِيهَا قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: الْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فِيهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ: الْحَظْرُ؛ إلَّا مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِجَازَتِهِ. فَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَكَثِيرٌ مِنْ أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ تَنْبَنِي عَلَى هَذَا. وَكَثِيرٌ مِنْ أُصُول الشَّافِعِيِّ وَأُصُولِ

ص: 126

طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد. فَإِنَّ أَحْمَد قَدْ يُعَلِّلُ أَحْيَانًا بُطْلَانَ الْعَقْدِ بِكَوْنِهِ لَمْ يَرِدْ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا قِيَاسٌ. كَمَا قَالَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ قَدْ يُعَلِّلُونَ فَسَادَ الشُّرُوطِ بِأَنَّهَا تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَيَقُولُونَ: مَا خَالَفَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ. أَمَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ فَلَمْ يُصَحِّحُوا لَا عَقْدًا وَلَا شَرْطًا إلَّا مَا ثَبَتَ جَوَازُهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ. وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ جَوَازُهُ أَبْطَلُوهُ وَاسْتَصْحَبُوا الْحُكْمَ الَّذِي قَبْلَهُ وَطَرَدُوا ذَلِكَ طَرْدًا جَارِيًا؛ لَكِنْ خَرَجُوا فِي كَثِيرٍ مِنْهُ إلَى أَقْوَالٍ يُنْكِرُهَا عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأُصُولُهُ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُصَحِّحُ فِي الْعُقُودِ شُرُوطًا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا فِي الْمُطْلَقِ. وَإِنَّمَا يُصَحِّحُ الشَّرْطَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْعَقْدُ مِمَّا يُمْكِنُ فَسْخُهُ. وَلِهَذَا أَبْطَلَ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ تَأْخِيرُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِحَالِ. وَلِهَذَا مَنَعَ بَيْعَ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ. وَإِذَا ابْتَاعَ شَجَرَةً عَلَيْهَا ثَمَرٌ لِلْبَائِعِ فَلَهُ مُطَالَبَتُهُ بِإِزَالَتِهِ. وَإِنَّمَا جَوَّزَ الْإِجَارَةَ الْمُؤَخَّرَةَ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عِنْدَهُ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ عِتْقِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ أَوْ الِانْتِفَاعِ بِهِ أَوْ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِي بَقَاءَ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ وَسَائِرِ الشُّرُوطِ الَّتِي يُبْطِلُهَا غَيْرُهُ. وَلَمْ يُصَحِّحْ فِي النِّكَاحِ شَرْطًا أَصْلًا لِأَنَّ النِّكَاحَ عِنْدَهُ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ. وَلِهَذَا لَا يَنْفَسِخُ عِنْدَهُ بِعَيْبٍ أَوْ إعْسَارٍ أَوْ نَحْوِهِمَا. وَلَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ

ص: 127

الْفَاسِدَةِ مُطْلَقًا. وَإِنَّمَا صَحَّحَ أَبُو حَنِيفَةَ خِيَارَ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ لِلْأَثَرِ وَهُوَ عِنْدَهُ مَوْضِعُ اسْتِحْسَانٍ. وَالشَّافِعِيُّ يُوَافِقُهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ خَالَفَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لَكِنَّهُ يَسْتَثْنِي مَوَاضِعَ لِلدَّلِيلِ الْخَاصِّ. فَلَا يُجَوِّزُ شَرْطَ الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ وَلَا اسْتِثْنَاءَ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَأْخِيرُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ حَتَّى مَنَعَ الْإِجَارَةَ الْمُؤَخَّرَةَ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهَا - وَهُوَ الْقَبْضُ - لَا يَلِي الْعَقْدَ وَلَا يُجَوِّزُ أَيْضًا مَا فِيهِ مَنْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ إلَّا الْعِتْقُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْمَعْنَى؛ لَكِنَّهُ يُجَوِّزُ اسْتِثْنَاءَ الْمَنْفَعَةِ بِالشَّرْعِ كَبَيْعِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي مَذْهَبِهِ وَكَبَيْعِ الشَّجَرِ مَعَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَرَةِ مُسْتَحَقَّةَ الْبَقَاءِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ فِي النِّكَاحِ بَعْضُ الشُّرُوطِ دُونَ بَعْضٍ وَلَا يُجَوِّزُ اشْتِرَاطَهَا دَارَهَا أَوْ بَلَدَهَا وَلَا أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَلَا يَتَسَرَّى وَيُجَوِّزُ اشْتِرَاطَ حُرِّيَّتِهَا وَإِسْلَامِهَا. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصِّفَاتِ الْمَقْصُودَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِهِ كَالْجَمَالِ وَنَحْوِهِ. وَهُوَ مِمَّنْ يَرَى فَسْخَ النِّكَاحِ بِالْعَيْبِ وَالْإِعْسَارِ وَانْفِسَاخَهُ بِالشُّرُوطِ الَّتِي تُنَافِيهِ كَاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ وَالطَّلَاقِ وَنِكَاحِ الشِّغَارِ. بِخِلَافِ فَسَادِ الْمَهْرِ وَنَحْوِهِ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد يُوَافِقُونَ الشَّافِعِيَّ عَلَى مَعَانِي هَذِهِ الْأُصُولِ؛ لَكِنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَثْنِيهِ الشَّافِعِيُّ كَالْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ كَاسْتِثْنَاءِ الْبَائِعِ مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ وَاشْتِرَاطِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا أَنْ لَا يَنْقُلَهَا

ص: 128

وَلَا يُزَاحِمَهَا بِغَيْرِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ. فَيَقُولُونَ: كُلُّ شَرْطٍ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ. إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِْلمُتَعَاقِدِين. وَذَلِكَ أَنَّ نُصُوصَ أَحْمَد تَقْتَضِي أَنَّهُ جَوَّزَ مِنْ الشُّرُوطِ فِي الْعُقُودِ أَكْثَرَ مِمَّا جَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ. فَقَدْ يُوَافِقُونَهُ فِي الْأَصْلِ وَيَسْتَثْنُونَ لِلْمُعَارِضِ أَكْثَرَ مِمَّا اسْتَثْنَى كَمَا قَدْ يُوَافِقُ هُوَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي الْأَصْلِ وَيَسْتَثْنِي أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَثْنِي لِلْمُعَارِضِ. وَهَؤُلَاءِ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ يُخَالِفُونَ أَهْلَ الظَّاهِرِ وَيَتَوَسَّعُونَ فِي الشُّرُوطِ أَكْثَرَ مِنْهُمْ؛ لِقَوْلِهِمْ بِالْقِيَاسِ وَالْمَعَانِي وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَلِمَا يَفْهَمُونَهُ مِنْ مَعَانِي النُّصُوصِ الَّتِي يَنْفَرِدُونَ بِهَا عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَعُمْدَةُ هَؤُلَاءِ: قِصَّةُ بَرِيرَةَ الْمَشْهُورَةُ. وَهُوَ مَا خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: كَاتَبْت أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي. فَقُلْت: إنْ أَحَبَّ أَهْلُك أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُونَ وَلَاؤُك لِي فَعَلْت. فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ فَأَبَوْا عَلَيْهَا. فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ. فَقَالَتْ: إنِّي قَدْ عَرَضْت ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْوَلَاءُ فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ. فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.

ص: 129

فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ. فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ. وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ} وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ:{اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا وَلْيَشْتَرِطُوا مَا شَاءُوا، فَاشْتَرَتْهَا فَأَعْتَقَتْهَا وَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلَاءَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَإِنْ اشْتَرَطُوا مِائَةَ شَرْطٍ} . وَفِي لَفْظٍ: {شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ} ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: "{أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً لِتُعْتِقَهَا. فَقَالَ أَهْلُهَا: نبيعكها عَلَى أَنَّ وَلَاءَهَا لَنَا؟ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ لَا يَمْنَعُك ذَلِكَ. فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ} . وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: {أَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَتُعْتِقَهَا، فَأَبَى أَهْلُهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْوَلَاءُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَا يَمْنَعُك ذَلِكَ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ} . وَلَهُمْ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّتَانِ. إحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ: {مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ} ". فَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ وَلَا فِي

ص: 130

الْإِجْمَاعِ: فَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِخِلَافِ مَا كَانَ فِي السُّنَّةِ أَوْ فِي الْإِجْمَاعِ. فَإِنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَمَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ - وَهُوَ الْجُمْهُورُ - قَالُوا: إذَا دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ الْقِيَاسُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالسُّنَّةِ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِكِتَابِ اللَّهِ: فَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ يَقِيسُونَ جَمِيعَ الشُّرُوطِ الَّتِي تُنَافِي مُوجِبَ الْعَقْدِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ: كَوْنُهُ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ. وَذَلِكَ: لِأَنَّ الْعُقُودَ تُوجِبُ مُقْتَضَيَاتِهَا بِالشَّرْعِ. فَيُعْتَبَرُ تَغْيِيرُهَا تَغْيِيرًا لِمَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ؛ بِمَنْزِلَةِ تَغْيِيرِ الْعِبَادَاتِ. وَهَذَا نُكْتَةُ الْقَاعِدَةِ. وَهِيَ أَنَّ الْعُقُودَ مَشْرُوعَةٌ عَلَى وَجْهٍ فَاشْتِرَاطُ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا تَغْيِيرٌ لِلْمَشْرُوعِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ - فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ - لَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْعِبَادَاتِ شَرْطًا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا. فَلَا يُجَوِّزُونَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْإِحْلَالَ بِالْعُذْرِ مُتَابَعَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حَيْثُ كَانَ يُنْكِرُ الِاشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ. وَيَقُولُ: أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ؟ . وَقَدْ اسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . قَالُوا: فَالشُّرُوطُ وَالْعُقُودُ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ وَزِيَادَةٌ

ص: 131

فِي الدِّينِ. وَمَا أَبْطَلَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى جَوَازِهَا بِالْعُمُومِ أَوْ بِالْخُصُوصِ قَالُوا: ذَلِكَ مَنْسُوخٌ. كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي شُرُوطِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ قَالُوا: هَذَا عَامٌّ أَوْ مُطْلَقٌ فَيُخَصُّ بِالشَّرْطِ الَّذِي فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثٍ يُرْوَى فِي حِكَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَشَرِيكٍ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ} وَقَدْ ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْفِقْهِ وَلَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ تُعَارِضُهُ وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ الْمَعْرُوفُونَ - مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ أَعْلَمُهُ مَنْ غَيْرِهِمْ - أَنَّ اشْتِرَاطَ صِفَةٍ فِي الْمَبِيعِ وَنَحْوِهِ كَاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْعَبْدِ كَاتِبًا أَوْ صَانِعًا أَوْ اشْتِرَاطِ طُولِ الثَّوْبِ أَوْ قَدْرَ الْأَرْضِ وَنَحْوَ ذَلِكَ: شَرْطٌ صَحِيحٌ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ: الْجَوَازُ وَالصِّحَّةُ وَلَا يَحْرُمُ مِنْهَا وَيَبْطُلُ إلَّا مَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ. وَأُصُولُ أَحْمَد الْمَنْصُوصَةُ عَنْهُ: أَكْثَرُهَا يَجْرِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَمَالِكٌ قَرِيبٌ مِنْهُ؛ لَكِنَّ أَحْمَد أَكْثَرُ تَصْحِيحًا

ص: 132

لِلشُّرُوطِ. فَلَيْسَ فِي الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَكْثَرُ تَصْحِيحًا لِلشُّرُوطِ مِنْهُ. وَعَامَّةُ مَا يُصَحِّحُهُ أَحْمَد مِنْ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فِيهَا يُثْبِتُهُ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ مِنْ أَثَرٍ أَوْ قِيَاسٍ؛ لَكِنَّهُ لَا يَجْعَلُ حُجَّةَ الْأَوَّلِينَ مَانِعًا مِنْ الصِّحَّةِ وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ شَرْطًا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ. وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ مِنْ الْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ مَا لَا تَجِدُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ. فَقَالَ بِذَلِكَ وَبِمَا فِي مَعْنَاهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ وَمَا اعْتَمَدَهُ غَيْرُهُ فِي إبْطَالِ الشُّرُوطِ مِنْ نَصٍّ: فَقَدْ يُضْعِفُهُ أَوْ يُضْعِفُ دَلَالَتَهُ. وَكَذَلِكَ قَدْ يُضْعِفُ مَا اعْتَمَدُوهُ مِنْ قِيَاسٍ. وَقَدْ يَعْتَمِدُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عمومات الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا فِي تَصْحِيحِ الشُّرُوطِ. كَمَسْأَلَةِ الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ مُطْلَقًا فَمَالِكٌ يُجَوِّزُهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ يُجَوِّزُ شَرْطَ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا. وَيُجَوِّزُهُ ابْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ فِي الضَّمَانِ وَنَحْوِهِ. وَيُجَوِّزُ أَحْمَد اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْخَارِجِ مِنْ مِلْكِهِ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ وَاشْتِرَاطِ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى مُقْتَضَاهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَإِذَا كَانَ لَهَا مُقْتَضًى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ جَوَّزَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ وَالنَّقْصُ مِنْهُ بِالشَّرْطِ؛ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ مُخَالَفَةَ الشَّرْعِ. كَمَا سَأَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَيُجَوِّزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ كَخِدْمَةِ الْعَبْدِ وَسُكْنَى الدَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةُ مِمَّا يَجُوزُ اسْتِبْقَاؤُهَا فِي مِلْكِ

ص: 133

الْغَيْرِ اتِّبَاعًا لِحَدِيثِ جَابِرٍ لَمَّا بَاعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَمَلَهُ وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ. وَيُجَوِّزُ أَيْضًا لِلْمُعْتِقِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ خِدْمَةَ الْعَبْدِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ أَوْ حَيَاةِ السَّيِّدِ أَوْ غَيْرِهِمَا اتِّبَاعًا لِحَدِيثِ سَفِينَةَ لَمَّا أَعْتَقَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ وَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ خِدْمَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا عَاشَ. وَيَجُوزُ - عَلَى عَامَّةِ أَقْوَالِهِ -: أَنْ يُعْتِقَ أَمَتَهُ وَيَجْعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. كَمَا فِي حَدِيثِ صَفِيَّةَ. وَكَمَا فَعَلَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ تَرْضَ الْمَرْأَةُ؛ كَأَنَّهُ أَعْتَقَهَا وَاسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ؛ لَكِنَّهُ اسْتَثْنَاهَا بِالنِّكَاحِ إذْ اسْتِثْنَاؤُهَا بِلَا نِكَاحٍ غَيْرُ جَائِزٍ بِخِلَافِ مَنْفَعَةِ الْخِدْمَةِ. وَيُجَوِّزُ أَيْضًا لِلْوَاقِفِ إذَا وَقَفَ شَيْئًا أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَنْفَعَتَهُ وَغَلَّتَهُ جَمِيعَهَا لِنَفْسِهِ لِمُدَّةِ حَيَاتِهِ. كَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ. وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَهَلْ يَجُوزُ وَقْفُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ؟ فِيهِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا - عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ - اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ وَالصَّدَاقِ وَفِدْيَةِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَلَى الْقِصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ إخْرَاجِ الْمِلْكِ سَوَاءٌ كَانَ بِإِسْقَاطِ كَالْعِتْقِ أَوْ بِتَمْلِيكِ بِعِوَضٍ كَالْبَيْعِ. أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهِبَةِ.

ص: 134

وَيُجَوِّزُ أَحْمَد أَيْضًا فِي النِّكَاحِ عَامَّةَ الشُّرُوطِ الَّتِي لِلْمُشْتَرِطِ فِيهَا غَرَضٌ صَحِيحٌ؛ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ: مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ} وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: إنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الشُّرُوطَ فِي النِّكَاحِ أَوْكَدُ مِنْهَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِ مَنْ يُصَحِّحُ الشُّرُوطَ فِي الْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ. فَيُجَوِّزُ أَحْمَد أَنْ تَسْتَثْنِيَ الْمَرْأَةُ مَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ بِالْإِطْلَاقِ فَتَشْتَرِطُ أَنْ لَا تُسَافِرَ مَعَهُ وَلَا تَنْتَقِلَ مِنْ دَارِهَا، وَتَزِيدَ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ بِالْإِطْلَاقِ فَتَشْتَرِطُ أَنْ تَكُونَ مُخَلِّيَةً بِهِ فَلَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا وَلَا يَتَسَرَّى. وَيُجَوِّزُ - عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَنْصُوصَةِ عَنْهُ الْمُصَحَّحَةِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ - أَنْ يَشْتَرِطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ فِي الْآخَرِ صِفَةً مَقْصُودَةً كَالْيَسَارِ وَالْجَمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَمْلِكُ الْفَسْخَ بِفَوَاتِهِ. وَهُوَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ قَوْلًا بِفَسْخِ النِّكَاحِ وَانْفِسَاخِهِ فَيَجُوزُ فَسْخُهُ بِالْعَيْبِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَقَدْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَبِالتَّدْلِيسِ كَمَا لَوْ ظَنَّهَا حُرَّةً فَظَهَرَتْ أَمَةً وَبِالْخَلْفِ فِي الصِّفَةِ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا لَوْ شَرَطَ الزَّوْجُ أَنَّ لَهُ مَالًا فَظَهَرَ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ. وَيَنْفَسِخُ عِنْدَهُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ الْمُنَافِيَةِ لِمَقْصُودِهِ كَالتَّوْقِيتِ وَاشْتِرَاطِ الطَّلَاقِ. وَهَلْ يَبْطُلُ بِفَسَادِ الْمَهْرِ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ فِيهِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ. إحْدَاهُمَا: نَعَمْ كَنِكَاحِ الشِّغَارِ.

ص: 135

وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَنْفَسِخُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ وَهُوَ عَقْدٌ مُفْرَدٌ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَعَلَى أَكْثَرِ نُصُوصِهِ يُجَوِّزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِعْلًا أَوْ تَرْكًا فِي الْمَبِيعِ مِمَّا هُوَ مَقْصُودٌ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمَبِيعِ نَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ لَا يُجَوِّزُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْعِتْقَ. وَقَدْ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْهُ؛ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَكْثَرُ فِي كَلَامِهِ. فَفِي جَامِعِ الْخَلَّالِ عَنْ أَبِي طَالِبٍ: سَأَلْت أَحْمَد عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً فَشَرَطَ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا: تَكُونُ جَارِيَةً نَفِيسَةً يُحِبُّ أَهْلُهَا أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا وَلَا تَكُونُ لِلْخِدْمَةِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ جَارِيَةً فَقَالَ لَهُ: إذَا أَرَدْت بَيْعَهَا فَأَنَا أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي تَأْخُذُهَا بِهِ مِنِّي؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ وَلَكِنْ لَا يَطَؤُهَا وَلَا يَقْرَبُهَا وَلَهُ فِيهَا شَرْطٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ لِرَجُلِ: لَا تَقْرَبَنَّهَا وَلِأَحَدٍ فِيهَا شَرْطٌ. وَقَالَ حَنْبَلٌ: حَدَّثَنَا عفان حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عتبة: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ اشْتَرَى جَارِيَةً مِنْ امْرَأَتِهِ وَشَرَطَ لَهَا: إنْ بَاعَهَا فَهِيَ لَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ. فَسَأَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ. فَقَالَ: لَا تَنْكِحْهَا وَفِيهَا شَرْطٌ. وَقَالَ حَنْبَلٌ: قَالَ عَمِّي: كُلُّ شَرْطٍ فِي فَرْجٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا. وَالشَّرْطُ الْوَاحِدُ فِي الْبَيْعِ جَائِزٌ إلَّا أَنَّ عُمَرَ كَرِهَ لِابْنِ مَسْعُودٍ

ص: 136

أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لِامْرَأَتِهِ الَّذِي شَرَطَ. فَكَرِهَ عُمَرُ أَنْ يَطَأَهَا وَفِيهَا شَرْطٌ. وَقَالَ الكرماني سَأَلَ أَحْمَد عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً وَشَرَطَ لِأَهْلِهَا أَنْ لَا يَبِيعَهَا وَلَا يَهَبَهَا؟ فَكَأَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ. وَلَكِنَّهُمْ إنْ اشْتَرَطُوا لَهُ إنْ بَاعَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ؟ فَلَا يَقْرَبُهَا. يَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. فَقَدْ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْبَائِعُ بَيْعَهَا لَمْ يَمْلِكْ إلَّا رَدَّهَا إلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَالْمُقَايَلَةِ. وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُبْطِلِ لِهَذَا الشَّرْطِ وَرُبَّمَا تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: " جَائِزٌ " أَيْ الْعَقْدُ جَائِزٌ وَبَقِيَّةُ نُصُوصِهِ تُصَرِّحُ بِأَنَّ مُرَادَهُ " الشَّرْطُ " أَيْضًا. وَاتَّبَعَ فِي ذَلِكَ الْقِصَّةَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ: ثَلَاثَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْمَبِيعِ فَلَا يَبِيعُهُ وَلَا يَهَبُهُ أَوْ يَتَسَرَّاهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَعْيِينٌ لِمَصْرِفٍ وَاحِدٍ كَمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ عُثْمَانَ: أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ صهيب دَارًا وَشَرَطَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى صهيب وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَجِمَاعُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمِلْكَ يُسْتَفَادُ بِهِ تَصَرُّفَاتٌ مُتَنَوِّعَةٌ. فَكَمَا جَازَ بِالْإِجْمَاعِ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْمَبِيعِ وَجَوَّزَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنَافِعِهِ جَوَّزَ أَيْضًا اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ. وَعَلَى هَذَا فَمَنْ قَالَ: هَذَا الشَّرْطُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ. قِيلَ لَهُ:

ص: 137

أَيُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ أَوْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مُطْلَقًا؟ فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ: فَكُلُّ شَرْطٍ كَذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَ الثَّانِيَ: لَمْ يَسْلَمْ لَهُ؛ وَإِنَّمَا الْمَحْذُورُ: أَنْ يُنَافِيَ مَقْصُودَ الْعَقْدِ كَاشْتِرَاطِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ أَوْ اشْتِرَاطِ الْفَسْخِ فِي الْعَقْدِ. فَأَمَّا إذَا شَرَطَ مَا يُقْصَدُ بِالْعَقْدِ لَمْ يُنَافِ مَقْصُودَهُ. هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ: بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ مَعَ الِاسْتِصْحَابِ وَعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُنَافِي. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَالْعُقُودُ هِيَ الْعُهُودُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} فَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَهَذَا عَامٌّ وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ وَبِالْعَهْدِ. وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا عَقَدَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَهْدَ اللَّهِ يَدْخُلُ فِيهِ مَا عَقَدَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِنَفْسِ ذَلِكَ الْمَعْهُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَهْدِ كَالنَّذْرِ وَالْبَيْعِ إنَّمَا أَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَرَنَهُ بِالصِّدْقِ فِي قَوْلِهِ {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} لِأَنَّ الْعَدْلَ فِي الْقَوْلِ خَبَرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ يَكُونُ فِي الْقَوْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ كَمَا

ص: 138

قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ - كَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِ - تساءلون بِهِ: تَتَعَاهَدُونَ وَتَتَعَاقَدُونَ. وَذَلِكَ: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَطْلُبُ مِنْ الْآخَرِ مَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْعٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَجَمَعَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَسَائِرِ السُّورَةِ أَحْكَامَ الْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَ بَنِي آدَمَ الْمَخْلُوقَةَ: كَالرَّحِمِ وَالْمَكْسُوبَةَ: كَالْعُقُودِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا الصِّهْرُ وَوِلَايَةُ مَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} وَالْأَيْمَانُ: جَمْعُ يَمِينٍ وَكُلُّ عَقْدٍ فَإِنَّهُ يَمِينٌ. قِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْقِدُونَهُ بِالْمُصَافَحَةِ بِالْيَمِينِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: قَوْلُهُ {إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ

ص: 139

وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلًّا وَلَا ذِمَّةً} وَالْإِلُّ: هُوَ الْقَرَابَةُ. وَالذِّمَّةُ: الْعَهْدُ - وَهُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} - إلَى قَوْلِهِ {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً} فَذَمَّهُمْ اللَّهُ عَلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَنَقْضِ الذِّمَّةِ. إلَى قَوْلِهِ {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} وَهَذِهِ نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ مَكَّةَ لَمَّا صَالَحَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. ثُمَّ نَقَضُوا الْعَهْدَ بِإِعَانَةِ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فَتِلْكَ عُهُودٌ جَائِزَةٌ؛ لَا لَازِمَةٌ فَإِنَّهَا كَانَتْ مُطْلَقَةً. وَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إمْضَائِهَا وَنَقْضِهَا. كَالْوِكَالَةِ وَنَحْوِهَا. وَمَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: إنَّ الْهُدْنَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا مُؤَقَّتَةً: فَقَوْلُهُ - مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ أَحْمَد - يَرُدُّهُ الْقُرْآنُ وَتَرُدُّهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَكْثَرِ الْمُعَاهَدِينَ فَإِنَّهُ لَمْ

ص: 140

يُوَقِّتْ مَعَهُمْ وَقْتًا. فَأَمَّا مَنْ كَانَ عَهْدُهُ مُوَقَّتًا فَلَمْ يُبَحْ لَهُ نَقْضُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَقَالَ: {إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَقَالَ {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} فَإِنَّمَا أَبَاحَ النَّبْذَ عِنْدَ ظُهُورِ إمَارَاتِ الْخِيَانَةِ؛ لِأَنَّ الْمَحْذُورَ مِنْ جِهَتِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} الْآيَةَ. وَجَاءَ أَيْضًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ " إنَّ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ سُورَةً كَانَتْ كَبَرَاءَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبُ شَهَادَةٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} فِي سُورَتَيْ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمَعَارِجِ وَهَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُسْتَثْنِينَ مِنْ الْهَلَعِ الْمَذْمُومِ بِقَوْلِهِ: {إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} {إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} {إلَّا الْمُصَلِّينَ} {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} {إنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} {إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}

ص: 141

{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْتَثْنَ مِنْ الْمَذْمُومِ إلَّا مَنْ اتَّصَفَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا إلَّا مَا هُوَ وَاجِبٌ وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ فِي أَوَّلِهَا: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْوَارِثِينَ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ الْحَصْرُ؛ فَإِنَّ إدْخَالَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ يُشْعِرُ بِالْحَصْرِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَارِثِي الْجَنَّةِ كَانَ مُعَرَّضًا لِلْعُقُوبَةِ؛ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ؛ وَإِذَا كَانَتْ رِعَايَةُ الْعَهْدِ وَاجِبَةً فَرِعَايَتُهُ: هِيَ الْوَفَاءُ بِهِ. وَلَمَّا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْعَهْدِ وَالْأَمَانَةِ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ضِدَّ ذَلِكَ صِفَةَ الْمُنَافِقِ فِي قَوْلِهِ: {إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ} وَعَنْهُ {عَلَى كُلِّ خُلُقٍ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ} " وَمَا زَالُوا يُوصُونَ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ. وَهَذَا عَامٌّ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ} {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} فَذَمَّهُمْ عَلَى نَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ وَقَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِصِلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إمَّا بِالشَّرْعِ وَإِمَّا بِالشَّرْطِ الَّذِي عَقَدَهُ الْمَرْءُ بِاخْتِيَارِهِ. وَقَالَ أَيْضًا: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ

ص: 142

مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وَقَالَ: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وَقَالَ

ص: 143

تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ. حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ. وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ} " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . وَفِي رِوَايَةٍ: {لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرَةً مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بريدة بْنِ الحصيب قَالَ: {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ. وَفِيمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، اُغْزُوا وَلَا تَغْلُوا وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ -} الْحَدِيثَ ".

ص: 144

فَنَهَاهُمْ عَنْ الْغَدْرِ كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ الْغُلُولِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ لَمَّا سَأَلَهُ هِرَقْلُ عَنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " هَلْ يَغْدِرُ؟ فَقَالَ: لَا يَغْدِرُ وَنَحْنُ مَعَهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا. قَالَ: وَلَمْ يُمَكِّنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا إلَّا هَذِهِ الْكَلِمَةَ. وَقَالَ هِرَقْلُ فِي جَوَابِهِ: سَأَلْتُك: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْت أَنَّهُ لَا يَغْدِرُ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ " فَجَعَلَ هَذَا صِفَةً لَازِمَةً لِلْمُرْسَلِينَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ: مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ} فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الشُّرُوطِ بِالْوَفَاءِ وَأَنَّ شُرُوطَ النِّكَاحِ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ مِنْ غَيْرِهَا. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ. وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا ثُمَّ أَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ} " فَذَمَّ الْغَادِرَ. وَكُلُّ مَنْ شَرَطَ شَرْطًا ثُمَّ نَقَضَهُ فَقَدْ غَدَرَ. فَقَدْ جَاءَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَاثِيقِ

ص: 145

وَالْعُقُودِ وَبِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَرِعَايَةِ ذَلِكَ وَالنَّهْيِ عَنْ الْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعُهُودِ وَالْخِيَانَةِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِيهَا الْحَظْرَ وَالْفَسَادَ إلَّا مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ: لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا مُطْلَقًا وَيَذُمَّ مَنْ نَقَضَهَا وَغَدَرَ مُطْلَقًا كَمَا أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرَ إلَّا مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ أَوْ أَوْجَبَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْمَرَ بِقَتْلِ النُّفُوسِ وَيُحْمَلَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُبَاحِ؛ بِخِلَافِ مَا كَانَ جِنْسُهُ وَاجِبًا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ مُطْلَقًا. وَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ. فَيَنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَعَنْ الصَّدَقَةِ بِمَا يَضُرُّ النَّفْسَ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الصِّدْقُ فِي الْحَدِيثِ مَأْمُورٌ بِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْرُمُ الصِّدْقُ أَحْيَانًا لِعَارِضِ وَيَجِبُ السُّكُوتُ أَوْ التَّعْرِيضُ. وَإِذَا كَانَ جِنْسُ الْوَفَاءِ وَرِعَايَةُ الْعَهْدِ مَأْمُورًا بِهِ: عُلِمَ أَنَّ الْأَصْلَ صِحَّةُ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ؛ إذْ لَا مَعْنَى لِلتَّصْحِيحِ إلَّا مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَحَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهُ. وَمَقْصُودُ الْعَقْدِ: هُوَ الْوَفَاءُ بِهِ. فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ أَمَرَ بِمَقْصُودِ الْعُهُودِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الصِّحَّةُ وَالْإِبَاحَةُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِي مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

ص: 146

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ} . وَكَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةٍ: هُوَ ثِقَةٌ. وَضَعَّفَهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ المزني عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {الصُّلْحُ جَائِزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا} " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَى ابْنُ مَاجَه مِنْهُ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ؛ لَكِنَّ كَثِيرَ بْنَ عَمْرٍو ضَعَّفَهُ الْجَمَاعَةُ. وَضَرَبَ أَحْمَد عَلَى حَدِيثِهِ فِي الْمُسْنَدِ؛ فَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ. فَلَعَلَّ تَصْحِيحَ التِّرْمِذِيِّ لَهُ لِرِوَايَتِهِ مِنْ وُجُوهٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ البيلماني عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {النَّاسُ عَلَى شُرُوطِهِمْ مَا وَافَقَتْ الْحَقَّ} وَهَذِهِ الْأَسَانِيدُ - وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهَا ضَعِيفًا - فَاجْتِمَاعُهَا مِنْ طُرُقٍ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْمَذْهَبِ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِطَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبِيحَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا يُحَرِّمَ مَا

ص: 147

أَبَاحَهُ اللَّهُ. فَإِنَّ شَرْطَهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُبْطِلًا لِحُكْمِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ؛ وَإِنَّمَا الْمُشْتَرِطُ لَهُ أَنْ يُوجِبَ الشَّرْطَ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِدُونِهِ. فَمَقْصُودُ الشُّرُوطِ وُجُوبُ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَلَا حَرَامًا وَعَدَمُ الْإِيجَابِ لَيْسَ نَفْيًا لِلْإِيجَابِ حَتَّى يَكُونَ الْمُشْتَرِطُ مُنَاقِضًا لِلشَّرْعِ وَكُلُّ شَرْطٍ صَحِيحٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يُفِيدَ وُجُوبَ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا؛ فَإِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَجِبُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ الْإِقْبَاضِ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَيُبَاحُ أَيْضًا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا وَيَحْرُمُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا. وَكَذَلِكَ كُلٌّ مِنْ المتآجرين والمتناكحين. وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَطَ صِفَةً فِي الْمَبِيعِ أَوْ رَهْنًا أَوْ اشْتَرَطَتْ الْمَرْأَةُ زِيَادَةً عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ وَيَحْرُمُ وَيُبَاحُ بِهَذَا الشَّرْطِ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَوْهَمَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَصْلَ فَسَادُ الشُّرُوطِ قَالَ: لِأَنَّهَا إمَّا أَنْ تُبِيحَ حَرَامًا أَوْ تُحَرِّمَ حَلَالًا أَوْ تُوجِبَ سَاقِطًا أَوْ تُسْقِطَ وَاجِبًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِ الشَّارِعِ. وَقَدْ وَرَدَتْ شُبْهَةٌ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ حَتَّى تَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَنَاقِضٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ كُلُّ مَا كَانَ حَرَامًا بِدُونِ الشَّرْطِ: فَالشَّرْطُ لَا يُبِيحُهُ كَالرِّبَا وَكَالْوَطْءِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَكَثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْوَطْءَ إلَّا بِمِلْكِ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ فَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُعِيرَ أَمَتَهُ لِآخَرَ لِلْوَطْءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ إعَارَتِهَا لِلْخِدْمَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ

ص: 148

فَقَدْ " {نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ} " وَجَعَلَ اللَّهُ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ يَثْبُتُ لِلْمُعْتِقِ كَمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ لِلْوَالِدِ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم {مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا} وَأَبْطَلَ اللَّهُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَبَنِّي الرَّجُلِ ابْنَ غَيْرِهِ أَوْ انْتِسَابِ الْمُعْتِقِ إلَى غَيْرِ مَوْلَاهُ. فَهَذَا أَمْرٌ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَلَا يُبِيحُ الشَّرْطُ مِنْهُ مَا كَانَ حَرَامًا. وَأَمَّا مَا كَانَ مُبَاحًا بِدُونِ الشَّرْطِ: فَالشَّرْطُ يُوجِبُهُ كَالزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ وَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ وَالرَّهْنِ وَتَأْخِيرِ الِاسْتِيفَاءِ. فَإِنَّ الرَّجُلَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْمَرْأَةَ وَلَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِالرَّهْنِ وَبِالْإِنْظَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِذَا شَرَطَهُ صَارَ وَاجِبًا وَإِذَا وَجَبَ فَقَدْ حَرُمَتْ الْمُطَالَبَةُ الَّتِي كَانَتْ حَلَالًا بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ لَمْ تَكُنْ حَلَالًا مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُبِحْ مُطَالَبَةَ الْمَدِينِ مُطْلَقًا فَمَا كَانَ حَلَالًا وَحَرَامًا مُطْلَقًا فَالشَّرْطُ لَا يُغَيِّرُهُ. وَأَمَّا مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ فِي حَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَلَمْ يُبِحْهُ مُطْلَقًا فَإِذَا حَوَّلَهُ الشَّرْطُ عَنْ تِلْكَ الْحَالِ لَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ قَدْ حَرَّمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَكَذَلِكَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي حَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ مُطْلَقًا: لَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ قَدْ أَبَاحَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَإِنْ كَانَ بِدُونِ الشَّرْطِ يَسْتَصْحِبُ حُكْمَ الْإِبَاحَةِ

ص: 149

وَالتَّحْرِيمِ؛ لَكِنْ فَرْقٌ بَيْنَ ثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ بِالْخِطَابِ وَبَيْنَ ثُبُوتِهِ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِصْحَابِ. فَالْعَقْدُ وَالشَّرْطُ يَرْفَعُ مُوجِبَ الِاسْتِصْحَابِ لَكِنْ لَا يَرْفَعُ مَا أَوْجَبَهُ كَلَامُ الشَّارِعِ. وَآثَارُ الصَّحَابَةِ تُوَافِقُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه‌

‌ مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ.

وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ. وَالْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ التَّحْرِيمِ فَيَسْتَصْحِبُ عَدَمَ التَّحْرِيمِ فِيهَا حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى التَّحْرِيمِ. كَمَا أَنَّ الْأَعْيَانَ: الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ التَّحْرِيمِ. وقَوْله تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} عَامٌّ فِي الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ؛ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَرَامًا لَمْ تَكُنْ فَاسِدَةً لِأَنَّ الْفَسَادَ إنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ التَّحْرِيمِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ فَاسِدَةً كَانَتْ صَحِيحَةً. وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ جِنْسِ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ إلَّا مَا ثَبَتَ حِلُّهُ بِعَيْنِهِ وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَعْنَى حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَنَّ انْتِفَاءَ دَلِيلِ التَّحْرِيمِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ. فَثَبَتَ بِالِاسْتِصْحَابِ الْعَقْلِيِّ وَانْتِفَاءُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ عَدَمُ التَّحْرِيمِ فَيَكُونُ فِعْلُهَا إمَّا حَلَالًا وَإِمَّا عَفْوًا كَالْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ تُحَرَّمُ.

ص: 150

وَغَالِبُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ عَدَمُ التَّحْرِيمِ مِنْ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ وَالِاسْتِصْحَابِ الْعَقْلِيِّ وَانْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهِ فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ أَيْضًا بِهِ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطُ فِيهَا سَوَاءٌ سَمَّى ذَلِكَ حَلَالًا أَوْ عَفْوًا عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَمِّ الْكَافِرِ عَلَى التَّحْرِيمِ بِغَيْرِ شَرْعٍ: مِنْهُ مَا سَبَبُهُ تَحْرِيمُ الْأَعْيَانِ وَمِنْهُ مَا سَبَبُهُ تَحْرِيمُ الْأَفْعَالِ. كَمَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ عَلَى الْمُحْرِمِ لُبْسَ ثِيَابِهِ وَالطَّوَافَ فِيهَا إذَا لَمْ يَكُنْ أحمسيا وَيَأْمُرُونَهُ بِالتَّعَرِّي إلَّا أَنْ يُعِيرَهُ أحمسي ثَوْبَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِ الدُّخُولَ تَحْتَ سَقْفٍ كَمَا كَانَ الْأَنْصَارُ يُحَرِّمُونَ إتْيَانَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي فَرْجِهَا إذَا كَانَتْ مُجْبِيَةً وَيُحَرِّمُونَ الطَّوَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ قَدْ يَنْقُضُونَ الْعُهُودَ الَّتِي عَقَدُوهَا بِلَا شَرْعٍ. فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَغَيْرِهَا بِالْوَفَاءِ بِهَا إلَّا مَا اشْتَمَلَ عَلَى مُحَرَّمٍ. فَعُلِمَ أَنَّ الْعُهُودَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ حِلُّهَا بِشَرْعٍ خَاصٍّ كَالْعُهُودِ الَّتِي عَقَدُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأُمِرُوا بِالْوَفَاءِ بِهَا وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَلَا يُحَرَّمُ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ. لِأَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ فَإِذَا حَرَّمْنَا الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ الْعَادِيَّةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ

ص: 151

شَرْعِيٍّ كُنَّا مُحَرِّمِينَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ؛ بِخِلَافِ الْعُقُودِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ شَرْعَ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ أَنْ يُشْرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ. فَلَا يُشْرَعُ عِبَادَةٌ إلَّا بِشَرْعِ اللَّهِ وَلَا يُحَرَّمُ عَادَةٌ إلَّا بِتَحْرِيمِ اللَّهِ وَالْعُقُودُ فِي الْمُعَامَلَاتِ هِيَ مِنْ الْعَادَاتِ يَفْعَلُهَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا قُرْبَةٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَلَيْسَتْ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُفْتَقَرُ فِيهَا إلَى شَرْعٍ. كَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْعُقُودُ تُغَيِّرُ مَا كَانَ مَشْرُوعًا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ أَوْ الْمَالِ إذَا كَانَ ثَابِتًا عَلَى حَالٍ فَعَقَدَ عَقْدًا أَزَالَهُ عَنْ تِلْكَ الْحَالِ: فَقَدْ غَيَّرَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا؛ بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ تُحَرَّمْ. فَإِنَّهُ لَا تَغَيُّرَ فِي إبَاحَتِهَا. فَيُقَالُ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَعْيَانَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لِشَخْصٍ أَوْ لَا تَكُونَ. فَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا فَانْتِقَالُهَا بِالْبَيْعِ أَوْ غَيْرِهِ لَا يُغَيِّرُهَا وَهُوَ مِنْ بَابِ الْعُقُودِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِلْكًا فَمَلَكَهَا بِالِاسْتِيلَاءِ وَنَحْوِهِ: هُوَ فِعْلٌ مِنْ الْأَفْعَالِ مُغَيِّرٌ لِحُكْمِهَا بِمَنْزِلَةِ الْعُقُودِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهَا قَبْلَ الذَّكَاةِ مُحَرَّمَةٌ. فَالذَّكَاةُ الْوَارِدَةُ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ الْوَارِدِ عَلَى الْمَالِ. فَكَمَا أَنَّ أَفْعَالَنَا فِي الْأَعْيَانِ مِنْ الْأَخْذِ وَالذَّكَاةِ: الْأَصْلُ فِيهَا الْحِلُّ وَإِنْ غَيَّرَ حُكْمَ الْعَيْنِ. فَكَذَلِكَ أَفْعَالُنَا فِي الْأَمْلَاكِ بِالْعُقُودِ

ص: 152

وَنَحْوِهَا: الْأَصْلُ فِيهَا الْحِلُّ. وَإِنْ غَيَّرَتْ حُكْمَ الْمِلْكِ لَهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ الْأَحْكَامَ الثَّابِتَةَ بِأَفْعَالِنَا كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالْبَيْعِ وَمِلْكِ الْبُضْعِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ نَحْنُ أَحْدَثْنَا أَسْبَابَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَالشَّارِعُ أَثْبَتَ الْحُكْمَ لِثُبُوتِ سَبَبِهِ مِنَّا لَمْ يُثْبِتْهُ ابْتِدَاءً. كَمَا أَثْبَتَ إيجَابَ الْوَاجِبَاتِ وَتَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُبْتَدَأَةِ. فَإِذَا كُنَّا نَحْنُ الْمُثْبِتِينَ لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَلَمْ يُحَرِّمْ الشَّارِعُ عَلَيْنَا رَفْعَهُ: لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْنَا رَفْعُهُ فَمَنْ اشْتَرَى عَيْنًا فَالشَّارِعُ أَحَلَّهَا لَهُ وَحَرَّمَهَا عَلَى غَيْرِهِ؛ لِإِثْبَاتِهِ سَبَبَ ذَلِكَ وَهُوَ الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِالْبَيْعِ. وَمَا لَمْ يُحَرِّمْ الشَّارِعُ عَلَيْهِ رَفْعَ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ مَا أَثْبَتَهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَحَبَّ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ الشَّارِعُ عَلَيْهِ. كَمَنْ أَعْطَى رَجُلًا مَالًا: فَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَحْرُمَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْمُعْطِي مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ. وَهَذِهِ نُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي يَتَبَيَّنُ بِهَا مَأْخَذُهَا وَهُوَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْجُزْئِيَّةَ - مِنْ حِلِّ هَذَا الْمَالِ لِزَيْدٍ وَحُرْمَتِهِ عَلَى عَمْرٍو - لَمْ يَشْرَعْهَا الشَّارِعُ شَرْعًا جُزْئِيًّا وَإِنَّمَا شَرَعَهَا شَرْعًا كُلِّيًّا مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَقَوْلُهُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وَقَوْلُهُ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} . وَهَذَا الْحُكْمُ الْكُلِّيُّ ثَابِتٌ سَوَاءٌ وُجِدَ هَذَا الْبَيْعُ الْمُعَيَّنُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ. فَإِذَا وُجِدَ بَيْعٌ مُعَيَّنٌ أَثْبَتَ مِلْكًا مُعَيَّنًا. فَهَذَا الْمُعَيَّنُ سَبَبُهُ

ص: 153

فِعْلُ الْعَبْدِ. فَإِذَا رَفَعَهُ الْعَبْدُ فَإِنَّمَا رَفَعَ مَا أَثْبَتَهُ هُوَ بِفِعْلِهِ لَا مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ مِنْ الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ إذْ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ مِنْ الْحُكْمِ الْجُزْئِيِّ إنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ سَبَبُهُ فَقَطْ لَا أَنَّ الشَّارِعَ أَثْبَتَهُ ابْتِدَاءً. وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ رَفْعَ الْحُقُوقِ بِالْعُقُودِ والفسوخ مِثْلُ نَسْخِ الْأَحْكَامِ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمُطْلَقَ لَا يُزِيلُهُ إلَّا الَّذِي أَثْبَتَهُ وَهُوَ الشَّارِعُ. وَأَمَّا هَذَا الْمُعَيَّنُ فَإِنَّمَا ثَبَتَ لِأَنَّ الْعَبْدَ أَدْخَلَهُ فِي الْمُطْلَقِ فَإِدْخَالُهُ فِي الْمُطْلَقِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ إخْرَاجُهُ. إذْ الشَّارِعُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ فِي الْمُعَيَّنِ بِحُكْمٍ أَبَدًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الثَّوْبُ بِعْهُ أَوْ لَا تَبِعْهُ أَوْ هَبْهُ أَوْ لَا تَهَبْهُ وَإِنَّمَا حَكَمَ عَلَى الْمُطْلَقِ الَّذِي إذَا أَدْخَلَ فِيهِ الْمُعَيَّنَ حَكَمَ عَلَى الْمُعَيَّنِ. فَتَدَبَّرْ هَذَا وَفَرْقٌ بَيْنَ تَغْيِيرِ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ الْخَاصِّ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْعَبْدُ بِإِدْخَالِهِ فِي الْمُطْلَقِ وَبَيْنَ تَغْيِيرِ الْحُكْمِ الْعَامِّ الَّذِي أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ مِنْ الْعَبْدِ. وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْعُقُودَ لَا يَحْرُمُ مِنْهَا إلَّا مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ فَإِنَّمَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا لِإِيجَابِ الشَّارِعِ الْوَفَاءَ بِهَا مُطْلَقًا إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْمِلَلُ؛ بَلْ وَالْعُقَلَاءُ جَمِيعُهُمْ. وَقَدْ أَدْخَلَهَا فِي الْوَاجِبَاتِ الْعَقْلِيَّةِ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ فَفِعْلُهَا ابْتِدَاءً لَا يَحْرُمُ إلَّا بِتَحْرِيمِ الشَّارِعِ وَالْوَفَاءُ بِهَا وَجَبَ لِإِيجَابِ الشَّارِعِ إذًا وَلِإِيجَابِ الْعَقْلِ أَيْضًا.

ص: 154

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ رِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ. وَمُوجِبُهَا هُوَ مَا أَوْجَبَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالتَّعَاقُدِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} فَعَلَّقَ جَوَازَ الْأَكْلِ بِطِيبِ النَّفْسِ تَعْلِيقَ الْجَزَاءِ بِشَرْطِهِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ وَهُوَ حُكْمُ مُعَلَّقٌ عَلَى وَصْفٍ مُشْتَقٍّ مُنَاسِبٍ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ سَبَبٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ. وَإِذَا كَانَ طِيبُ النَّفْسِ هُوَ الْمُبِيحَ لِأَكْلِ الصَّدَاقِ فَكَذَلِكَ سَائِرُ التَّبَرُّعَاتِ: قِيَاسًا عَلَيْهِ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} لَمْ يُشْتَرَطْ فِي التِّجَارَةِ إلَّا التَّرَاضِي وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ التَّرَاضِيَ هُوَ الْمُبِيحُ لِلتِّجَارَةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا تَرَاضَى الْمُتَعَاقِدَانِ بِتِجَارَةِ أَوْ طَابَتْ نَفْسُ الْمُتَبَرِّعِ بِتَبَرُّعِ: ثَبَتَ حِلُّهُ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ؛ إلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالتِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَقْدَ لَهُ حَالَانِ: حَالُ إطْلَاقٍ وَحَالُ تَقْيِيدٍ. فَفَرْقٌ بَيْنَ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ وَبَيْنَ الْمَعْنَى الْمُطْلَقِ مِنْ الْعُقُودِ. فَإِذَا قِيلَ: هَذَا شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ: يُنَافِي الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ. فَكَذَلِكَ كُلُّ شَرْطٍ زَائِدٍ. وَهَذَا لَا يَضُرُّهُ وَإِنْ أُرِيدَ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ: احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا إذَا نَافَى مَقْصُودَ الْعَقْدِ.

ص: 155

فَإِنَّ الْعَقْدَ إذَا كَانَ لَهُ مَقْصُودٌ يُرَادُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ وَشَرَطَ فِيهِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ الْمَقْصُودَ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ بَيْنَ إثْبَاتِ الْمَقْصُودِ وَنَفْيِهِ فَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ. وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ بَلْ هُوَ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ عِنْدَنَا. وَالشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ قَدْ تَبْطُلُ لِكَوْنِهَا قَدْ تُنَافِي مَقْصُودَ الشَّارِعِ مِثْلَ اشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَا مَقْصُودَهُ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ الْمِلْكُ وَالْعِتْقُ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودًا لِلْعَقْدِ. فَإِنَّ اشْتِرَاءَ الْعَبْدِ لِعِتْقِهِ يُقْصَدُ كَثِيرًا. فَثُبُوتُ الْوَلَاءِ لَا يُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يُنَافِي كِتَابَ اللَّهِ وَشَرْطَهُ. كَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ {كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ} فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ مُنَافِيًا لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ كَانَ الْعَقْدُ لَغْوًا. وَإِذَا كَانَ مُنَافِيًا لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ كَانَ مُخَالِفًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَكُنْ لَغْوًا وَلَا اشْتَمَلَ عَلَى مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهِ بَلْ الْوَاجِبُ حِلُّهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَقْصُودٌ لِلنَّاسِ يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ إذْ لَوْلَا حَاجَتُهُمْ إلَيْهِ لَمَا فَعَلُوهُ؛ فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَلَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ فَيُبَاحُ؛ لِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يَرْفَعُ الْحَرَجَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ يُقَالَ: لَا تَحِلُّ وَلَا تَصِحُّ إنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى حِلِّهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ خَاصٌّ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ

ص: 156

قِيَاسٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَوْ يُقَالُ: لَا تَحِلُّ وَتَصِحُّ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى حِلِّهَا دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ وَإِنْ كَانَ عَامًّا. أَوْ يُقَالُ: تَصِحُّ وَلَا تَحْرُمُ إلَّا أَنْ يُحَرِّمَهَا الشَّارِعُ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ دَلَّا عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ والقبوض الَّتِي وَقَعَتْ فِي حَالِ الْكُفْرِ وَأَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ. فَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي آيَةِ الرِّبَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ الرِّبَا فِي الذِّمَمِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ مَا قَبَضُوهُ بِعَقْدِ الرِّبَا؛ بَلْ مَفْهُومُ الْآيَةِ - الَّذِي اتَّفَقَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ - يُوجِبُ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ؛ وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَسْقَطَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ الرِّبَا الَّذِي فِي الذِّمَمِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ الْمَقْبُوضِ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم {أَيُّمَا قَسْمٍ قُسِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُسِمَ وَأَيُّمَا قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ فَهُوَ عَلَى قَسْمِ الْإِسْلَامِ} " وَأَقَرَّ النَّاسَ عَلَى أَنْكِحَتِهِمْ الَّتِي عَقَدُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ أَحَدًا: هَلْ عَقَدَ بِهِ فِي عِدَّةٍ أَوْ غَيْرِ عِدَّةٍ؟ بِوَلِيٍّ أَوْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ؟ بِشُهُودٍ أَوْ بِغَيْرِ شُهُودٍ؟ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِتَجْدِيدِ نِكَاحٍ وَلَا بِفِرَاقِ امْرَأَتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْمُحَرَّمُ مَوْجُودًا حِينَ الْإِسْلَامِ كَمَا {أَمَرَ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ الَّذِي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ أَنْ يُمْسِكَ أَرْبَعًا وَيُفَارِقَ سَائِرَهُنَّ} وَكَمَا {أَمَرَ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيَّ

ص: 157

الَّذِي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ أَنْ يَخْتَارَ إحْدَاهُمَا وَيُفَارِقَ الْأُخْرَى} . وَكَمَا أَمَرَ الصَّحَابَةَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْمَجُوسِ " أَنْ يُفَارِقُوا ذَوَاتَ الْمَحَارِمِ ". وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ الَّتِي عَقَدَهَا الْكُفَّارُ يُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ لَمْ يَعْقِدُوهَا بِإِذْنِ الشَّارِعِ. وَلَوْ كَانَتْ الْعُقُودُ عِنْدَهُمْ كَالْعِبَادَاتِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِشَرْعِ لَحَكَمُوا بِفَسَادِهَا أَوْ بِفَسَادِ مَا لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ مُسْتَمْسِكِينَ فِيهِ بِشَرْعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ عَلَى أَنَّهَا إذَا عُقِدَتْ عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ زَوَالِهِ: مَضَتْ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِاسْتِئْنَافِهَا؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ فَلَيْسَ مَا عَقَدُوهُ بِغَيْرِ شَرْعٍ بِدُونِ مَا عَقَدُوهُ مَعَ تَحْرِيمِ الشَّرْعِ وَكِلَاهُمَا عِنْدَكُمْ سَوَاءٌ. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ مَا عَقَدُوهُ مَعَ التَّحْرِيمِ إنَّمَا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ وَأَمَّا إذَا أَسْلَمُوا قَبْلَ التَّقَابُضِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ؛ بِخِلَافِ مَا عَقَدُوهُ بِغَيْرِ شَرْعٍ فَإِنَّهُ لَا يُفْسَخُ؛ لَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا بَعْدَهُ وَلَمْ أَرَ الْفُقَهَاءَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ اشْتَرَطُوا فِي النِّكَاحِ الْقَبْضَ بَلْ سَوَّوْا بَيْنَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّ نَفْسَ عَقْدِ النِّكَاحِ يُوجِبُ أَحْكَامًا بِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْقَبْضُ مِنْ الْمُصَاهَرَةِ وَنَحْوِهَا. كَمَا أَنَّ نَفْسَ الْوَطْءِ يُوجِبُ أَحْكَامًا وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ نِكَاحٍ. فَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ - وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْآخَرِ - أَقَرَّهُمْ

ص: 158

الشَّارِعُ عَلَى ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِعُقُودِهَا هُوَ التَّقَابُضُ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ التَّقَابُضُ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهَا فَأَبْطَلَهَا الشَّارِعُ؛ لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ. فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَقْصُودَ الْعِبَادِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ لَا يُبْطِلُهُ الشَّارِعُ إلَّا مَعَ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَحِّحُهُ إلَّا بِتَحْلِيلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا تَعَاقَدُوا بَيْنَهُمْ عُقُودًا وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ لَا تَحْرِيمَهَا وَلَا تَحْلِيلَهَا. فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ جَمِيعَهُمْ - فِيمَا أَعْلَمُهُ - يُصَحِّحُونَهَا إذَا لَمْ يَعْتَقِدُوا تَحْرِيمَهَا وَإِنْ كَانَ الْعَاقِدُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ يَعْلَمُ تَحْلِيلَهَا لَا بِاجْتِهَادٍ وَلَا بِتَقْلِيدٍ. وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ إلَّا الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّارِعَ أَحَلَّهُ. فَلَوْ كَانَ إذْنُ الشَّارِعِ الْخَاصِّ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعُقُودِ: لَمْ يَصِحَّ عَقْدٌ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ إذْنِهِ كَمَا لَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ فَإِنَّهُ آثِمٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ صَادَفَ الْحَقَّ. وَأَمَّا إنْ قِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَى حِلِّهَا سَوَاءٌ كَانَ عَامًّا أَوْ خَاصًّا فَعَنْهُ جَوَابَانِ: " أَحَدُهُمَا " الْمَنْعُ كَمَا تَقَدَّمَ. " وَالثَّانِي " أَنْ نَقُولَ: قَدْ دَلَّتْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ عَلَى حِلِّ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ جُمْلَةً إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ. وَمَا عَارَضُوا بِهِ سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَبْقَ إلَّا

ص: 159

الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم {مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ} فَالشَّرْطُ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ تَارَةً وَالْمَفْعُولُ أُخْرَى. وَكَذَلِكَ الْوَعْدُ وَالْخُلْفُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: دِرْهَمُ ضَرْبِ الْأَمِيرِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْمَشْرُوطُ؛ لَا نَفْسُ الْمُتَكَلِّمِ. وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ} أَيْ: وَإِنْ كَانَ مِائَةَ مَشْرُوطٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَعْدِيدَ التَّكَلُّمِ بِالشَّرْطِ. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَعْدِيدُ الْمَشْرُوطِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ} أَيْ: كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ مِنْهُ. وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا خَالَفَ ذَلِكَ الشَّرْطُ كِتَابَ اللَّهِ وَشَرْطَهُ؛ بِأَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَشْرُوطُ مِمَّا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ فَلَمْ يُخَالِفْ كِتَابَ اللَّهِ وَشَرْطَهُ حَتَّى يُقَالَ: " {كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ} فَيَكُونُ الْمَعْنَى: مَنْ اشْتَرَطَ أَمْرًا لَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ أَوْ فِي كِتَابِهِ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ: فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ مِمَّا يُبَاحُ فِعْلُهُ بِدُونِ الشَّرْطِ حَتَّى يَصِحَّ اشْتِرَاطُهُ وَيَجِبُ بِالشَّرْطِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ الْوَلَاءَ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ أَبَدًا كَانَ هَذَا الْمَشْرُوطُ - وَهُوَ ثُبُوتُ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ - شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ.

ص: 160

فَانْظُرْ إلَى الْمَشْرُوطِ إنْ كَانَ فِعْلًا أَوْ حُكْمًا. فَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَبَاحَهُ: جَازَ اشْتِرَاطُهُ وَوَجَبَ. وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبِحْهُ: لَمْ يَجُزْ اشْتِرَاطُهُ: فَإِذَا شَرَطَ الرَّجُلُ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِزَوْجَتِهِ. فَهَذَا الْمَشْرُوطُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ يُبِيحُ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِهَا. فَإِذَا شَرَطَ عَدَمَ السَّفَرِ فَقَدْ شَرَطَ مَشْرُوطًا مُبَاحًا فِي كِتَابِ اللَّهِ. فَمَضْمُونُ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمَشْرُوطَ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ أَوْ يُقَالُ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: أَيْ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَفْيُهُ كَمَا قَالَ {سَيَكُونُ أَقْوَامٌ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَعْرِفُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} أَيْ: بِمَا تَعْرِفُونَ خِلَافَهُ. وَإِلَّا فَمَا لَا يُعْرَفُ كَثِيرٌ. ثُمَّ نَقُولُ: لَمْ يُرِدْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ الَّتِي لَمْ يُبِحْهَا الشَّارِعُ تَكُونُ بَاطِلَةً بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِهَا شَيْءٌ لَا إيجَابٌ وَلَا تَحْرِيمٌ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. بَلْ الْعُقُودُ وَالشُّرُوطُ الْمُحَرَّمَةُ قَدْ يَلْزَمُ بِهَا أَحْكَامٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَقْدَ الظِّهَارِ فِي نَفْسِ كِتَابِهِ وَسَمَّاهُ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا ثُمَّ إنَّهُ أَوْجَبَ بِهِ عَلَى مَنْ عَادَ: الْكَفَّارَةَ وَمَنْ لَمْ يَعُدْ: جَعَلَ فِي حَقِّهِ مَقْصُودَ التَّحْرِيمِ مِنْ تَرْكِ الْوَطْءِ وَتَرْكِ الْعَقْدِ. وَكَذَا النَّذْرُ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ النَّذْرِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَقَالَ: {إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ} ثُمَّ أَوْجَبَ الْوَفَاءَ بِهِ إذَا كَانَ طَاعَةً فِي

ص: 161

قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ} . فَالْعَقْدُ الْمُحَرَّمُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِإِيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ. نَعَمْ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِإِبَاحَةِ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ عَقْدِ الرِّبَا وَعَنْ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: لَمْ يَسْتَفِدْ الْمَنْهِيُّ بِفِعْلِهِ لَمَّا نَهَى عَنْهُ الِاسْتِبَاحَةَ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَعْصِيَةٌ. وَالْأَصْلُ فِي الْمَعَاصِي: أَنَّهَا لَا تَكُونُ سَبَبًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. وَالْإِبَاحَةُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلْإِمْلَاءِ وَلِفَتْحِ أَبْوَابِ الدُّنْيَا؛ لَكِنَّ ذَلِكَ قَدْرٌ لَيْسَ بِشَرْعِ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِعُقُوبَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْإِيجَابُ وَالتَّحْرِيمُ قَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً أَيْضًا كَمَا جَاءَتْ شَرِيعَتُنَا الْحَنِيفِيَّةُ. وَالْمُخَالِفُونَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَنَحْوِهِمْ قَدْ يَجْعَلُونَ كُلَّ مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ إذْنٌ خَاصٌّ: فَهُوَ عَقْدٌ حَرَامٌ وَكُلُّ عَقْدٍ حَرَامٍ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَكِلَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ مَمْنُوعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ بِطَرِيقَةِ ثَانِيَةٍ - إنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي لَمْ يُبِحْهَا اللَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُحَرِّمُهَا

ص: 162

بَاطِلَةٌ. - فَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالشُّرُوطِ عُمُومًا وَأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِهَا. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَوُجُوبُ الْوَفَاءِ بِهَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً؛ فَإِنَّهُ إذَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً وَإِذَا لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً كَانَتْ مُبَاحَةً. وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ} " إنَّمَا يَشْمَلُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَا بِعُمُومِهِ وَلَا بِخُصُوصِهِ فَإِنَّ مَا دَلَّ كِتَابُ اللَّهِ عَلَى إبَاحَتِهِ بِعُمُومِهِ فَإِنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا: هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَعُمُّ مَا هُوَ فِيهِ بِالْخُصُوصِ وَبِالْعُمُومِ. وَعَلَى هَذَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وَقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} وَقَوْلِهِ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْكِتَابَ هُوَ الْقُرْآنَ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ: فَلَا يَجِيءُ هَهُنَا. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي ثَبَتَ جَوَازُهُ بِسُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ: صَحِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِخُصُوصِهِ لَكِنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. فَيَكُونُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. لِأَنَّ جَامِعَ الْجَامِعِ جَامِعٌ وَدَلِيلَ الدَّلِيلِ دَلِيلٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

ص: 163

يَبْقَى أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ: فَإِذَا كَانَ كِتَابُ اللَّهِ أَوْجَبَ الْوَفَاءَ بِالشُّرُوطِ عُمُومًا فَشَرْطُ الْوَلَاءِ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ. فَيُقَالُ: الْعُمُومُ إنَّمَا يَكُونُ دَالًّا إذَا لَمْ يَنْفِهِ دَلِيلٌ خَاصٌّ؛ فَإِنَّ الْخَاصَّ يُفَسِّرُ الْعَامَّ. وَهَذَا الْمَشْرُوطُ قَدْ نَفَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ وَقَوْلُهُ: {مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . وَدَلَّ الْكِتَابُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} . فَأَوْجَبَ عَلَيْنَا دُعَاءَهُ لِأَبِيهِ الَّذِي وَلَدَهُ دُونَ مَنْ تَبَنَّاهُ وَحَرَّمَ التَّبَنِّي. ثُمَّ أَمَرَ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْأَبِ بِأَنْ يَدَّعِيَ أَخًا فِي الدِّينِ وَمَوْلًى كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ: أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا} ". وَقَالَ صلى الله عليه وسلم {إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ. فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ.} فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ الْوَلَاءَ نَظِيرَ النَّسَبِ وَبَيَّنَ سَبَبَ الْوَلَاءِ فِي قَوْلِهِ:

ص: 164

{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} فَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ الْوَلَاءِ هُوَ الْإِنْعَامُ بِالْإِعْتَاقِ كَمَا أَنَّ سَبَبَ النَّسَبِ هُوَ الْإِنْعَامُ بِالْإِيلَادِ. فَإِذَا كَانَ قَدْ حَرَّمَ الِانْتِقَالَ عَنْ الْمُنْعِمِ بِالْإِيلَادِ. فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ الِانْتِقَالُ عَنْ الْمُنْعِمِ بِالْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ فَمَنْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُعْتِقَ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِغَيْرِهِ: فَهُوَ كَمَنْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُسْتَنْكِحِ أَنَّهُ إذَا أَوْلَدَ كَانَ النَّسَبُ لِغَيْرِهِ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: {إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ} . وَإِذَا كَانَ كِتَابُ اللَّهِ قَدْ دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا الْمَشْرُوطِ بِخُصُوصِهِ وَعُمُومِهِ: لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُهُودِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَأْمُرُ بِمَا حَرَّمَهُ فَهَذَا هَذَا مَعَ أَنَّ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرِدْ إلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَهُوَ إبْطَالُ الشُّرُوطِ الَّتِي تُنَافِي كِتَابَ اللَّهِ. وَالتَّحْذِيرُ: مِنْ اشْتِرَاطِ شَيْءٍ لَمْ يُبِحْهُ اللَّهُ. فَيَكُونُ الْمَشْرُوطُ قَدْ حَرَّمَهُ؛ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ قَدْ أَبَاحَ عُمُومًا لَمْ يُحَرِّمْهُ؛ أَوْ مِنْ اشْتِرَاطِ مَا يُنَافِي كِتَابَ اللَّهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ.}

فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ لِعَدَمِ تَحْرِيمِ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ جُمْلَةً وَصِحَّتُهَا أَصْلَانِ: الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ وَالْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ الِاسْتِصْحَابُ وَانْتِفَاءُ الْمُحَرَّمِ. فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي أَنْوَاعِ

ص: 165

الْمَسَائِلِ وَأَعْيَانِهَا إلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ النَّوْعِ أَوْ الْمَسْأَلَةِ: هَلْ وَرَدَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ أَمْ لَا؟ . أَمَّا إذَا كَانَ الْمُدْرِكُ الِاسْتِصْحَابَ وَنَفْيَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَعُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ وَيُفْتِيَ بِمُوجِبِ هَذَا الِاسْتِصْحَابِ وَالنَّفْيِ إلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَحَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مُغَيِّرٌ لِهَذَا الِاسْتِصْحَابِ. فَلَا يُوثَقُ بِهِ إلَّا بَعْدَ النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُدْرَكُ هُوَ النُّصُوصَ الْعَامَّةَ: فَالْعَامُّ الَّذِي كَثُرَتْ تَخْصِيصَاتُهُ الْمُنْتَشِرَةُ أَيْضًا لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ: هَلْ هِيَ مِنْ الْمُسْتَخْرَجِ أَوْ مِنْ الْمُسْتَبْقِي؟ وَهَذَا أَيْضًا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعُمُومِ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ تَخْصِيصُهُ أَوْ عُلِمَ تَخْصِيصُ صُوَرٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُ: هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ الْمُعَارِضِ لَهُ؟ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا. وَذَكَرُوا عَنْ أَحْمَد فِيهِ رِوَايَتَيْنِ وَأَكْثَرُ نُصُوصِهِ: عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ زَمَانِهِ وَنَحْوِهِمْ اسْتِعْمَالُ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَمَّا يُفَسِّرُهَا مِنْ السُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ؛ فَإِنَّ الظَّاهِرَ الَّذِي لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ

ص: 166

انْتِفَاءُ مَا يُعَارِضُهُ لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مُقْتَضَاهُ. فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ انْتِفَاءُ مُعَارِضِهِ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ مُقْتَضَاهُ. وَهَذِهِ الْغَلَبَةُ لَا تَحْصُلُ لِلْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَكْثَرِ العمومات إلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُعَارِضِ سَوَاءٌ جَعَلَ عَدَمَ الْمُعَارِضِ جُزْءًا مِنْ الدَّلِيلِ فَيَكُونُ الدَّلِيلُ هُوَ الظَّاهِرَ الْمُجَرَّدَ عَنْ الْقَرِينَةِ - كَمَا يَخْتَارُهُ مَنْ لَا يَقُولُ بِتَخْصِيصِ الدَّلِيلِ وَلَا الْعِلَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ - أَوْ جَعَلَ الْمُعَارِضَ الْمَانِعَ مِنْ الدَّلِيلِ فَيَكُونُ الدَّلِيلُ هُوَ الظَّاهِرَ لَكِنَّ الْقَرِينَةَ مَانِعَةٌ لِدَلَالَتِهِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ بِتَخْصِيصِ الدَّلِيلِ وَالْعِلَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ إنَّمَا يَعُودُ إلَى اعْتِبَارٍ عَقْلِيٍّ أَوْ إطْلَاقٍ لَفْظِيٍّ أَوْ اصْطِلَاحٍ جَدَلِيٍّ لَا يَرْجِعُ إلَى أَمْرٍ عِلْمِيٍّ أَوْ فِقْهِيٍّ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَدِلَّةُ النَّافِيَةُ لِتَحْرِيمِ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ وَالْمُثْبِتَةِ لِحِلِّهَا: مَخْصُوصَةٌ بِجَمِيعِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فَلَا يُنْتَفَعُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي أَنْوَاعِ الْمَسَائِلِ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُجَجِ الْخَاصَّةِ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ فَهِيَ بِأُصُولِ الْفِقْهِ - الَّتِي هِيَ الْأَدِلَّةُ الْعَامَّةُ - أَشْبَهُ مِنْهَا بِقَوَاعِدِ الْفِقْهِ الَّتِي هِيَ الْأَحْكَامُ الْعَامَّةُ. نَعَمْ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ انْتِفَاءُ الْمُعَارِضِ فِي مَسْأَلَةٍ خِلَافِيَّةٍ أَوْ حَادِثَةٍ انْتَفَعَ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ. فَنَذْكُرُ مِنْ أَنْوَاعِهَا قَوَاعِدَ حُكْمِيَّةً مُطْلَقَةً.

ص: 167

فَمِنْ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ أَخْرَجَ عَيْنًا مِنْ مِلْكِهِ بِمُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ وَالْخُلْعِ أَوْ تَبَرُّعٍ كَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ - أَنْ يَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنَافِعِهَا فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصْلُحُ فِيهِ الْغَرَرُ - كَالْبَيْعِ - فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي عَنْ جَابِرٍ قَالَ: {بِعْته - يَعْنِي بَعِيرَهُ - مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاشْتَرَطْت حُمْلَانَهُ إلَى أَهْلِي} " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ خِدْمَةَ الْعَبْدِ مَا عَاشَ سَيِّدُهُ أَوْ عَاشَ فُلَانٌ وَيَسْتَثْنِيَ غَلَّةَ الْوَقْفِ مَا عَاشَ الْوَاقِفُ. وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الْبَائِعَ إذَا شَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ: صَحَّ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا؛ لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ وَإِنْ كَانَ عَنْهُمَا قَوْلٌ بِخِلَافِهِ. ثُمَّ هَلْ يَصِيرُ الْعِتْقُ وَاجِبًا عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا يَجِبُ الْعِتْقُ بِالنَّذْرِ بِحَيْثُ يَفْعَلُهُ الْحَاكِمُ إذَا امْتَنَعَ أَمْ يَمْلِكُ الْبَائِعُ الْفَسْخَ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ الْعِتْقِ كَمَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ بِفَوَاتِ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْمَبِيعِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِهِمَا. ثُمَّ الشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد يَرَوْنَ هَذَا خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْعِ الْمُشْتَرِي مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ الْعِتْقِ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ الْمِلْكُ الَّذِي يَمْلِكُ صَاحِبُهُ التَّصَرُّفَ مُطْلَقًا.

ص: 168

قَالُوا: وَإِنَّمَا جَوَّزَتْهُ السُّنَّةُ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَهُ إلَى الْعِتْقِ تَشَوُّفٌ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ؛ وَلِذَلِكَ أَوْجَبَ فِيهِ السِّرَايَةَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إخْرَاجِ مِلْكِ الشَّرِيكِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَإِذَا كَانَ مَبْنَاهُ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ وَالنُّفُوذِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ غَيْرُهُ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ غَيْرِهِ. وَأُصُولُ أَحْمَد وَنُصُوصُهُ تَقْتَضِي جَوَازَ شَرْطِ كُلِّ تَصَرُّفٍ فِيهِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْعٌ مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ قِيلَ لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَبِيعُ الْجَارِيَةَ عَلَى أَنْ يُعْتِقَهَا؟ فَأَجَازَهُ. فَقِيلَ لَهُ: فَإِنَّ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ - يَقُولُونَ: لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ. قَالَ: لِمَ لَا يَجُوزُ؟ قَدْ اشْتَرَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعِيرَ جَابِرٍ وَاشْتَرَطَ ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَاشْتَرَتْ عَائِشَةُ بَرِيرَةَ عَلَى أَنْ تُعْتِقَهَا فَلِمَ لَا يَجُوزُ هَذَا؟ قَالَ: وَإِنَّمَا هَذَا شَرْطٌ وَاحِدٌ. وَالنَّهْيُ إنَّمَا هُوَ عَنْ شَرْطَيْنِ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ شَرَطَ شَرْطَيْنِ أَيَجُوزُ؟ قَالَ: لَا يَجُوزُ. فَقَدْ نَازَعَ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ بِاشْتِرَاطِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ظَهْرَ الْبَعِيرِ لِجَابِرِ وَبِحَدِيثِ بَرِيرَةَ وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا نَهَى عَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ مَعَ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِيهِ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ. وَهُوَ نَقْصٌ لِمُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ وَاشْتِرَاطُ الْعِتْقِ فِيهِ تَصَرُّفٌ مَقْصُودٌ مُسْتَلْزِمٌ لِنَقْصِ مُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ. فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ فِي التَّصَرُّفِ أَوْ فِي الْمَمْلُوكِ

ص: 169

وَاسْتِدْلَالُهُ بِحَدِيثِ الشَّرْطَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ هَذَا الْجِنْسِ كُلِّهِ وَلَوْ كَانَ الْعِتْقُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَمَا قَاسَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا يَشْمَلُهُ وَغَيْرَهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَسَّانَ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَمَّنْ اشْتَرَى مَمْلُوكًا وَاشْتَرَطَ: هُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي؟ قَالَ: هَذَا مُدَبَّرٌ فَجَوَّزَ اشْتِرَاطَ التَّدْبِيرِ بِالْعِتْقِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي شَرْطِ التَّدْبِيرِ خِلَافٌ. صَحَّحَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَكَذَلِكَ جَوَّزَ اشْتِرَاطَ التَّسَرِّي: فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْت أَحْمَد عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً بِشَرْطِ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا تَكُونُ نَفِيسَةً يُحِبُّ أَهْلُهَا أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا وَلَا تَكُونُ لِلْخِدْمَةِ؟ قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ. فَلَمَّا كَانَ التَّسَرِّي لِبَائِعِ الْجَارِيَةِ فِيهِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ جَوَّزَهُ. وَكَذَلِكَ جَوَّزَ أَنْ يَشْتَرِطَ بَائِعُ الْجَارِيَةِ وَنَحْوِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَبِيعُهَا لِغَيْرِ الْبَائِعِ وَأَنَّ الْبَائِعَ يَأْخُذُهَا إذَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي بَيْعَهَا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَمَا رَوَوْهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَامْرَأَتِهِ زَيْنَبَ. وَجِمَاعُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمَبِيعَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ بِأَجْزَائِهِ وَمَنَافِعِهِ يَمْلِكَانِ اشْتِرَاطَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ}

ص: 170

فَجَوَّزَ لِلْمُشْتَرِي اشْتِرَاطَ زِيَادَةٍ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَيَمْلِكَانِ اشْتِرَاطَ النَّقْصِ مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {عَنْ الثُّنْيَا إلَّا أَنْ تُعْلَمَ} " فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهَا إذَا عُلِمَتْ. وَكَمَا اسْتَثْنَى جَابِرٌ ظَهْرَ بَعِيرِهِ إلَى الْمَدِينَةِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا أَعْلَمُهُ عَلَى جَوَازِ‌

‌ اسْتِثْنَاءِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ.

مِثْلَ أَنْ يَبِيعَهُ الدَّارَ إلَّا رُبُعَهَا أَوْ ثُلُثَهَا وَاسْتِثْنَاءُ الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ إذَا أَمْكَنَ فَصْلُهُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ. مِثْلَ أَنْ يَبِيعَهُ ثَمَرَ الْبُسْتَانِ إلَّا نَخَلَاتٍ بِعَيْنِهَا أَوْ الثِّيَابَ أَوْ الْعَبِيدَ أَوْ الْمَاشِيَةَ الَّتِي قَدْ رَأَيَاهَا إلَّا شَيْئًا مِنْهَا قَدْ عَيَّنَّاهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ كَسُكْنَى الدَّارِ شَهْرًا أَوْ اسْتِخْدَامِ الْعَبْدِ شَهْرًا أَوْ رُكُوبِ الدَّابَّةِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً أَوْ إلَى بَلَدٍ بِعَيْنِهِ مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ: عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَنْفَعُ كَمَا إذَا اشْتَرَى أَمَةً مُزَوَّجَةً، فَإِنَّ مَنْفَعَةَ بُضْعِهَا الَّتِي يَمْلِكُهَا الزَّوْجُ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ كَمَا اشْتَرَتْ عَائِشَةُ بَرِيرَةَ وَكَانَتْ مُزَوَّجَةً. لَكِنْ هِيَ اشْتَرَتْهَا بِشَرْطِ الْعِتْقِ فَلَمْ تَمْلِكْ التَّصَرُّفَ فِيهَا إلَّا بِالْعِتْقِ وَالْعِتْقُ لَا يُنَافِي نِكَاحَهَا. فَلِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَهُوَ مِمَّنْ رَوَى حَدِيثَ بَرِيرَةَ - يَرَى أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ؛ تَأْوِيلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالُوا:

ص: 171

فَإِذَا ابْتَاعَهَا أَوْ اتَّهَبَهَا أَوْ وَرِثَهَا فَقَدْ مَلَكَتْهَا يَمِينُهُ. فَتُبَاحُ لَهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِزَوَالِ مِلْكِ الزَّوْجِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ: بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ فَلَمْ يَرْضَ أَحْمَد هَذِهِ الْحُجَّةَ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَاهُ وَخَالَفَهُ. وَذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَمْلِكْ بَرِيرَةَ مِلْكًا مُطْلَقًا. ثُمَّ الْفُقَهَاءُ قَاطِبَةً وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ إذَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِيهَا - بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَكَانَ مَالِكُهَا مَعْصُومَ الْمِلْكِ - لَمْ يَزَلْ عَنْهَا مِلْكُ الزَّوْجِ وَمَلَكَهَا الْمُشْتَرِي وَنَحْوُهُ: إلَّا مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ. وَمِنْ حُجَّتِهِمْ: أَنَّ الْبَائِعَ نَفْسَهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُزِيلَ مِلْكَ الزَّوْجِ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فَالْمُشْتَرِي الَّذِي هُوَ دُونَ الْبَائِعِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْهُ وَلَا يَكُونُ الْمِلْكُ الثَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي أَتَمَّ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَالزَّوْجُ مَعْصُومٌ لَا يَجُوزُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّهِ؛ بِخِلَافِ الْمَسْبِيَّةِ فَإِنَّ فِيهَا خِلَافًا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ؛ لِكَوْنِ أَهْلِ الْحَرْبِ تُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ. وَكَذَلِكَ مَا مَلَكُوهُ مِنْ الْأَبْضَاعِ. وَكَذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا بَاعَ شَجَرًا قَدْ بَدَا ثَمَرُهُ - كَالنَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ - فَثَمَرُهُ لِلْبَائِعِ مُسْتَحَقُّ الْإِبْقَاءِ إلَى كَمَالِ صَلَاحِهِ فَيَكُونُ الْبَائِعُ قَدْ اسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الشَّجَرِ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ.

ص: 172

وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ - كَالدَّارِ وَالْعَبْدِ - عَامَّتُهُمْ يُجَوِّزُهُ وَيَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي دُونَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي لِلْمُسْتَأْجِرِ. وَكَذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ يُجَوِّزُونَ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْعَقْدِ كَمَا فِي صُوَرِ الْوِفَاقِ. كَاسْتِثْنَاءِ بَعْضِ أَجْزَائِهِ مُعَيَّنًا وَمُشَاعًا وَكَذَلِكَ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ مُعَيَّنًا إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِفَصْلِهِ كَبَيْعِ الشَّاةِ وَاسْتِثْنَاءِ بَعْضِهَا: سَوَاقِطِهَا مِنْ الرَّأْسِ وَالْجِلْدِ وَالْأَكَارِعِ. وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي نَوْعًا مِنْ الِانْتِفَاعِ فِي الْإِجَارَاتِ الْمُقَدَّرَةِ بِالزَّمَانِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزَّرْعِ أَوْ حَانُوتًا لِلتِّجَارَةِ فِيهِ أَوْ صِنَاعَةً أَوْ أَجِيرًا لِخِيَاطَةٍ أَوْ بِنَاءٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ لَوْ زَادَ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ؛ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ: فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ خِلَافٍ أَعْلَمُهُ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي مِلْكَ الِاسْتِمْتَاعِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعُرْفُ حَيْثُ شَاءَ وَمَتَى شَاءَ فَيَنْقُلُهَا إلَى حَيْثُ شَاءَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ الْمُحَرَّمِ أَوْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَإِنَّ الْعُرْفَ لَا يَقْتَضِيهِ وَيَقْتَضِي مِلْكًا لِلْمَهْرِ الَّذِي هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَمَلَكَهَا لِلِاسْتِمْتَاعِ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا ثَبَتَ لَهَا الْفَسْخُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ الْمَشَاهِيرِ وَلَوْ آلَى مِنْهَا ثَبَتَ لَهَا فِرَاقُهُ إذَا لَمْ يَفِئْ بِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْوَطْءَ وَقَسَّمَ الِابْتِدَاءَ؛ بَلْ يَكْتَفِي بِالْبَاعِثِ الطَّبِيعِيِّ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ

ص: 173

وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَد؛ فَإِنَّ الصَّحِيحَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَالِاعْتِبَارُ. وَقِيلَ: يَتَقَدَّرُ الْوَطْءُ الْوَاجِبُ بِمَرَّةٍ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ اعْتِبَارًا بِالْإِيلَاءِ. وَيَجِبُ أَنْ يَطَأَهَا بِالْمَعْرُوفِ. كَمَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا بِالْمَعْرُوفِ؟ فِيهِ خِلَافٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ نُصُوصِ أَحْمَد وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّلَفِ: أَنَّ مَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَالنَّفَقَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَالْمَبِيتِ لِلْمَرْأَةِ وكالاستمتاع لِلزَّوْجِ لَيْسَ بِمُقَدَّرِ؛ بَلْ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَالسُّنَّةِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِهِنْدِ {: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ} وَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِيهِ فَرَضَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ. كَمَا فَرَضَتْ الصَّحَابَةُ مِقْدَارَ الْوَطْءِ لِلزَّوْجِ بِمَرَّاتٍ مَعْدُودَةٍ وَمَنْ قَدَّرَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد الْوَطْءَ الْمُسْتَحَقَّ فَهُوَ كَتَقْدِيرِ الشَّافِعِيِّ النَّفَقَةَ؛ إذْ كِلَاهُمَا تَحْتَاجُهُ الْمَرْأَةُ وَيُوجِبُهُ الْعَقْدُ. وَتَقْدِيرُ ذَلِكَ ضَعِيفٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ بَعِيدٌ عَنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ. وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا قَدَّرَهُ طَرْدًا لِلْقَاعِدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُ مِنْ نَفْيِهِ لِلْجَهَالَةِ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ قِيَاسًا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ فَجَعَلَ النَّفَقَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ مُقَدَّرَةً: طَرْدًا لِذَلِكَ.

ص: 174

وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَكَذَلِكَ يُوجِبُ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ: سَلَامَةَ الزَّوْجِ مِنْ الْجُبِّ وَالْعُنَّةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَكَذَلِكَ يُوجِبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: سَلَامَتَهَا مِنْ مَوَانِعِ الْوَطْءِ كَالرَّتَقِ وَسَلَامَتَهَا مِنْ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ. وَكَذَلِكَ سَلَامَتُهُمَا مِنْ الْعُيُوبِ الَّتِي تَمْنَعُ كَمَالِهِ كَخُرُوجِ النَّجَاسَاتِ مِنْهُ أَوْ مِنْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ؛ دُونَ الْجَمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمُوجِبُهُ: كَفَاءَةُ الرَّجُلِ أَيْضًا دُونَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ لَوْ شَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي الْآخَرِ صِفَةً مَقْصُودَةً كَالْمَالِ وَالْجِمَالِ وَالْبَكَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: صَحَّ ذَلِكَ وَمَلَكَ الْمُشْتَرِطُ الْفَسْخَ عِنْدَ فَوَاتِهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَأَصَحُّ وَجْهَيْ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ إلَّا فِي شَرْطِ الْحُرِّيَّةِ وَالدِّينِ. وَفِي شَرْطِ النَّسَبِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَجْهَانِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِطُ هُوَ الْمَرْأَةَ فِي الرَّجُلِ أَوْ الرَّجُلَ فِي الْمَرْأَةِ. بَلْ اشْتِرَاطُ الْمَرْأَةِ فِي الرَّجُلِ أَوْكَدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد بِخِلَافِ ذَلِكَ: لَا أَصْلَ لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ نَقْصَ الصِّفَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ الزَّوْجُ أَنَّهُ مَجْبُوبٌ أَوْ عِنِّينٌ أَوْ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا رَتْقَاءُ أَوْ مَجْنُونَةٌ

ص: 175

صَحَّ هَذَا الشَّرْطُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ الشَّرْطِ النَّاقِصِ عَنْ مُوجِبِ الْعَقْدِ وَاخْتَلَفُوا فِي شَرْطِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَمَا ذَكَرْته لَك. فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلرَّجُلِ خِيَارُ عَيْبٍ وَلَا شَرْطٌ فِي النِّكَاحِ. وَأَمَّا الْمَهْرُ: فَإِنَّهُ لَوْ زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ نَقَصَ عَنْهُ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ. وَكَذَلِكَ يُجَوِّزُ أَكْثَرُ السَّلَفِ - أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ - وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَمَالِكٌ - فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ - أَنْ يَنْقُصَ مِلْكُ الزَّوْجِ فَتَشْتَرِطُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْقُلَهَا مِنْ بَلَدِهَا أَوْ مِنْ دَارِهَا وَأَنْ يَزِيدَهَا عَلَى مَا تَمْلِكُهُ بِالْمُطْلَقِ فَيُؤْخَذُ عَلَيْهِ نَفْسُهُ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَلَا يَتَسَرَّى وَعِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: لَا يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ؛ لَكِنَّهُ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَثَرٌ فِي تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ. وَالْقِيَاسُ الْمُسْتَقِيمُ فِي هَذَا الْبَابِ الَّذِي عَلَيْهِ أُصُولُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ: أَنَّ اشْتِرَاطَ الزِّيَادَةِ عَلَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَاشْتِرَاطَ النَّقْصِ: جَائِزٌ؛ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الشَّرْعُ. فَإِذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا وَالنَّقْصِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْت فَالزِّيَادَةُ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَالنَّقْصُ مِنْهُ كَذَلِكَ. فَإِذَا شَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ أَوْ يَقِفَ الْعَيْنَ عَلَى الْبَائِعِ أَوْ غَيْرَهُ أَوْ أَنْ يَقْضِيَ بِالْعَيْنِ دَيْنًا عَلَيْهِ

ص: 176

لِمُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ أَنْ يَصِلَ بِهِ رَحِمَهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ: فَهُوَ اشْتِرَاطُ تَصَرُّفٍ مَقْصُودٍ. وَمِثْلُهُ التَّبَرُّعُ الْمَفْرُوضُ وَالتَّطَوُّعُ. وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْعِتْقِ وَغَيْرِهِ بِمَا فِي الْعِتْقِ مِنْ الْفَضْلِ الَّذِي يَتَشَوَّفُهُ الشَّارِعُ: فَضَعِيفٌ. فَإِنَّ بَعْضَ أَنْوَاعِ التَّبَرُّعَاتِ أَفْضَلُ مِنْهُ. فَإِنَّ صِلَةَ ذِي الرَّحِمِ الْمُحْتَاجِ أَفْضَلُ مِنْ الْعِتْقِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد؛ فَإِنَّ {مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَتْ جَارِيَةً لَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَوْ تركتيها لِأَخْوَالِك لَكَانَ خَيْرًا لَك} وَلِهَذَا لَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ أَقَارِبُ لَا يَرِثُونَ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ أَوْلَى مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ. وَمَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. وَإِنَّمَا أَعْلَمُ الِاخْتِلَافَ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ. فَإِنَّ فِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: تَجِبُ. كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ وَالثَّانِيَةُ: لَا تَجِبُ كَقَوْلِ الْفُقَهَاءِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَلَوْ وَصَّى لِغَيْرِهِمْ دُونَهُمْ: فَهَلْ تُرَدُّ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ عَلَى أَقَارِبِهِ دُونَ الْمُوصَى لَهُ أَوْ يُعْطِي ثُلُثَهَا لِلْمُوصَى لَهُ وَثُلُثَاهَا لِأَقَارِبِهِ كَمَا تُقَسَّمُ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ: هُوَ الْقَوْلُ بِنُفُوذِ الْوَصِيَّةِ. فَإِذَا كَانَ بَعْضُ التَّبَرُّعَاتِ أَفْضَلَ مِنْ الْعِتْقِ لَمْ يَصِحَّ تَعْلِيلُهُ بِاخْتِصَاصِهِ بِمَزِيدِ الْفَضِيلَةِ. وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ الْمَشْرُوطُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَفْضَلَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِلَّهِ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ دَيْنٍ لِآدَمِيِّ فَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ

ص: 177

وَفَاءَ دَيْنِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَبِيعِ أَوْ اشْتَرَطَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ وَفَاءَ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا أَوْكَدُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْعِتْقِ. وَأَمَّا السِّرَايَةُ فَإِنَّمَا كَانَتْ لِتَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ. وَقَدْ شَرَعَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَهُوَ حَقُّ الشُّفْعَةِ. فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لِتَكْمِيلِ الْمِلْكِ لِلشَّفِيعِ لِمَا فِي الشَّرِكَةِ مِنْ الضَّرَرِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: شُرِعَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمُشَارَكَاتِ فَيُمَكِّنُ الشَّرِيكَ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ. فَإِنْ أَمْكَنَ قِسْمَةَ الْعَيْنِ وَإِلَّا قَسَّمْنَا ثَمَنَهَا إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا ذَلِكَ. فَتَكْمِيلُ الْعِتْقِ نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ؛ إذْ الشَّرِكَةُ تَزُولُ بِالْقِسْمَةِ تَارَةً وَبِالتَّكْمِيلِ أُخْرَى. وَأَصْلُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمِلْكَ هُوَ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الرَّقَبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقُدْرَةِ الْحِسِّيَّةِ فَيُمْكِنُ أَنْ تَثْبُتَ الْقُدْرَةُ عَلَى تَصَرُّفٍ دُونَ تَصَرُّفٍ شَرْعًا كَمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ حِسًّا؛ وَلِهَذَا جَاءَ الْمِلْكُ فِي الشَّرْعِ أَنْوَاعًا - كَمَا أَنَّ الْقُدْرَةَ تَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا - فَالْمِلْكُ التَّامُّ يُمْلَكُ فِيهِ التَّصَرُّفُ فِي الرَّقَبَةِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَيُورَثُ عَنْهُ. وَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَنَافِعِهِ بِالْإِعَارَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالِانْتِفَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ قَدْ يَمْلِكُ الْأَمَةَ الْمَجُوسِيَّةَ أَوْ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِ بِالرِّضَاعِ فَلَا يَمْلِكُ مِنْهُنَّ الِاسْتِمْتَاعَ وَيَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ بِالتَّزْوِيجِ بِأَنْ يُزَوِّجَ الْمَجُوسِيَّةَ الْمَجُوسِيَّ مَثَلًا وَقَدْ يَمْلِكُ أُمَّ الْوَلَدِ وَلَا يَمْلِكُ بَيْعَهَا وَلَا هِبَتَهَا وَلَا تُورَثُ عَنْهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ. وَيَمْلِكُ وَطْأَهَا وَاسْتِخْدَامَهَا بِاتِّفَاقِهِمْ. وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّزْوِيجِ وَالْإِجَارَةِ

ص: 178

عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَيَمْلِكُ الْمَرْهُونَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَئُونَتَهُ وَلَا يَمْلِكُ فِيهِ مِنْ التَّصَرُّفِ مَا يُزِيلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ لَا بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ. وَفِي الْعِتْقِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ. وَالْعَبْدُ الْمَنْذُورُ عِتْقُهُ وَالْهَدْيُ وَالْمَالُ الَّذِي قَدْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِعَيْنِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَحَقَّ صَرْفَهُ إلَى الْقِرْبَةِ: قَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: هَلْ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَارِجٌ عَنْ قِيَاسِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ. فَمَنْ قَالَ: لَمْ يَزَلْ مِلْكُهُ عَنْهُ - كَمَا قَدْ يَقُولُهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا - فَهُوَ مِلْكٌ لَا يَمْلِكُ صَرْفَهُ إلَّا إلَى الْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ النُّسُكِ أَوْ الصَّدَقَةِ. وَهُوَ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى بِشَرْطِ الْعِتْقِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الصِّلَةِ أَوْ الْفِدْيَةِ الْمُشْتَرَاةِ بِشَرْطِ الْإِهْدَاءِ إلَى الْحَرَمِ. وَمَنْ قَالَ: زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ: هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ عِتْقَهُ وَإِهْدَاءَهُ وَالصَّدَقَةَ بِهِ. وَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ قِيَاسِ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي الْوَقْفِ عَلَى مُعَيَّنٍ: هَلْ يَصِيرُ الْمَوْقُوفُ مِلْكًا لِلَّهِ أَوْ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: فَالْمِلْكُ الْمَوْصُوفُ نَوْعٌ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ. وَكَذَلِكَ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ حَيْثُ يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ

ص: 179

كَالْأَبِ إذَا وَهَبَ لِابْنِهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: نَوْعٌ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ حَيْثُ سُلِّطَ غَيْرُ الْمَالِكِ عَلَى انْتِزَاعِهِ مِنْهُ وَفَسْخِ عَقْدِهِ. وَنَظِيرُهُ: سَائِرُ الْأَمْلَاكِ فِي عَقْدٍ يَجُوزُ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ كَالْمَبِيعِ بِشَرْطٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: انْتَقَلَ إلَى الْمُشْتَرِي كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا وَكَالْمَبِيعِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ، وَكَالْمَبِيعِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ عَيْبٌ أَوْ فَوَاتُ صِفَةٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. فَهَهُنَا فِي الْمُعَاوَضَةِ وَالتَّبَرُّعِ يَمْلِكُ الْعَاقِدُ انْتِزَاعَهُ وَمِلْكُ الْأَبِ لَا يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ وَجِنْسُ الْمِلْكِ يَجْمَعُهُمَا. وَكَذَلِكَ مِلْكُ الِابْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا فِيهِ مَعْنَى الْكِتَابِ وَصَرِيحَ السُّنَّةِ. وَطَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ يَقُولُونَ: هُوَ مُبَاحٌ لِلْأَبِ مَمْلُوكٌ لِلِابْنِ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ لِلْأَبِ كَالْمُبَاحَاتِ الَّتِي تُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ وَمِلْكُ الِابْنِ ثَابِتٌ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفًا مُطْلَقًا. فَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا وَفِيهِ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ مَا وَصَفْته وَمَا لَمْ أَصِفْهُ: لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ ذَلِكَ مُفَوَّضًا إلَى الْإِنْسَانِ يُثْبِتُ مِنْهُ مَا رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً لَهُ وَيَمْتَنِعُ مِنْ إثْبَاتِ مَا لَا مَصْلَحَةَ لَهُ فِيهِ. وَالشَّارِعُ لَا يَحْظُرُ عَلَى الْإِنْسَانِ إلَّا مَا فِيهِ فَسَادٌ رَاجِعٌ أَوْ مَحْضٌ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَسَادٌ أَوْ كَانَ فَسَادُهُ مَغْمُورًا بِالْمَصْلَحَةِ لَمْ يَحْظُرْهُ أَبَدًا.

ص: 180

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

فَصْلٌ:

الْعُقُودُ الَّتِي فِيهَا نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ - وَهِيَ غَالِبُ مُعَامَلَاتِ بَنِي آدَمَ الَّتِي لَا يَقُومُونَ إلَّا بِهَا - سَوَاءٌ كَانَتْ مَالًا بِمَالِ. كَالْبَيْعِ أَوْ كَانَتْ مَنْفَعَةً بِمَالٍ كَالْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْمَسْأَلَةِ: الْإِمَارَةُ وَالتَّجْنِيدُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْوِلَايَاتِ. أَوْ كَانَتْ مَنْفَعَةً بِمَنْفَعَةٍ كَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: فَإِنَّهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ. كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حَرَامًا مِنْ الْجِهَتَيْنِ كَبَيْعِ الْخَمْرِ بِالْخِنْزِيرِ وَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الزِّنَا بِالْخَمْرِ وَعَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ كَمَا كَانَ بَعْضُ الْحُكَّامِ يَقُولُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الرُّؤَسَاءِ: يتقارضون شَهَادَةَ الزُّورِ وَشَبَهَهُ بِمُبَادَلَةِ الْقُرُوضِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا مِنْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ حَرَامًا مِنْ الْأُخْرَى. وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَعْلَمُوهُ؛ فَإِنَّ الدِّينَ وَالدُّنْيَا لَا تَقُومُ إلَّا بِهِ.

ص: 181

وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَحْدَهُ فَلَا يَقُومُ بِهِ إلَّا دِينٌ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَتَقُومُ بِهِ الدُّنْيَا الْفَاجِرَةُ وَالدِّينُ الْمُبْتَدَعُ. وَأَمَّا الدِّينُ الْمَشْرُوعُ وَالدُّنْيَا السَّالِمَةُ فَلَا تَقُومُ إلَّا بِالثَّالِثِ: مِثْلَ إعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لِجَلْبِ مَنْفَعَتِهِمْ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّتِهِمْ وَرِشْوَةِ الْوُلَاةِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ أَوْ تَخْلِيصِ الْحَقِّ؛ لَا لِمَنْعِ الْحَقِّ وَإِعْطَاءِ مَنْ يُتَّقَى شَرُّ لِسَانِهِ أَوْ يَدِهِ مِنْ شَاعِرٍ أَوْ ظَالِمٍ أَوْ قَاطِعِ طَرِيقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَإِعْطَاءِ مَنْ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ أَعْوَانٍ وَأَنْصَارٍ وَوُلَاةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَصْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ حَقًّا فِي الصَّدَقَاتِ الَّتِي حَصَرَ مَصَارِفَهَا فِي كِتَابِهِ وَتَوَلَّى قَسْمَهَا بِنَفْسِهِ وَكَانَ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ الْمَصَالِحِ - وَمِنْ الْفَيْءِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ - الَّتِي هِيَ أَوْسَعُ مَصْرِفًا مِنْ الزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ أُعْطِيَ مِنْ الْمَصَالِحِ وَلَا يَنْعَكِسُ؛ لِأَنَّ آخِذَ الصَّدَقَةِ إمَّا أَنْ يَأْخُذَ لِحَاجَتِهِ أَوْ لِمَنْفَعَتِهِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ يُؤْخَذُ مِنْهُمَا لِلْمَصَالِحِ؛ بَلْ لَيْسَتْ الْمَصَالِحُ إلَّا ذَلِكَ، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَنْفَعَةِ الَّذِينَ هُمْ أَحَقُّ بِمَالِ الْمَصَالِحِ وَالْفَيْءِ. وَلِهَذَا أَعْطَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْفَيْءِ وَالْمَغَانِمِ كَمَا

ص: 182

فَعَلَهُ بِالذُّهَيْبَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ. وَكَمَا فَعَلَ فِي مَغَانِمِ حنين حَيْثُ قَسَّمَهَا بَيْنَ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ نَجْدٍ وَقَالَ: {إنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا وَأَدَعُ مَنْ هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُمْ. أُعْطِي رِجَالًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ وَأَكِلُ رِجَالًا إلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ} وَقَالَ: {إنِّي لَأُعْطِي أَحَدَهُمْ الْعَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ تُعْطِيهِمْ قَالَ: يَأْبُونَ إلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ} . وَقَالَ: {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ فَتُخْرِجُ لَهُ الْمَسْأَلَةُ مَا لَمْ نَكُنْ نُرِيدُ أَنْ نُعْطِيَهُ إيَّاهُ فَيُبَارِكُ لَهُ فِيهِ} " أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ. وَهَذَا الْقِسْمُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ: أَمَّا الْمَالُ بِالْأَعْيَانِ فَمِنْهُ افْتِكَاكُ الْأَسْرَى وَالْأَحْرَارِ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ وَالْغَاصِبِينَ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْحُرَّ قَدْ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْكُفَّارُ وَقَدْ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْفُجَّارُ؛ إمَّا بِاسْتِعْبَادِهِ ظُلْمًا أَوْ بِعِتْقِهِ وَجُحُودِ عِتْقِهِ. وَإِمَّا بِاسْتِعْمَالِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلَا إذْنِ الشَّارِعِ: مِثْلَ مَنْ يُسَخِّرُ الصُّنَّاعَ كَالْخَيَّاطِينَ وَالْفَلَّاحِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَإِمَّا بِحَبْسِهِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا فَكُلُّ آدَمِيٍّ قَهَرَ آدَمِيًّا بِغَيْرِ حَقٍّ وَمَنَعَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ. فَالْقَاهِرُ يُشْبِهُ الْآسِرَ وَالْمَقْهُورُ يُشْبِهُ الْأَسِيرَ وَكَذَلِكَ الْقَهْرُ بِحَقِّ أَسِيرٍ. قَالَ {النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْغَرِيمِ الَّذِي لَزِمَ غَرِيمَهُ: مَا فَعَلَ أَسِيرُك؟} .

ص: 183

وَإِذَا كَانَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْأَمْوَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِحَقٍّ فَهُوَ غَصْبٌ وَإِنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْخِيَانَةُ وَالسَّرِقَةُ فَكَذَلِكَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى النُّفُوسِ بِغَيْرِ حَقِّ أَسْرٍ. وَإِنْ دَخَلَ فِيهِ اسْتِيلَاءُ الظَّلَمَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَكَذَلِكَ افْتِكَاكُ الْأَنْفُسِ الرَّقِيقَةِ مِنْ يَدِ مَنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهَا وَيَظْلِمُهَا فَإِنَّ الرِّقَّ الْمَشْرُوعَ لَهُ حَدٌّ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ عُدْوَانٌ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ افْتِكَاكُ الزَّوْجَةِ مِنْ يَدِ الزَّوْجِ الظَّالِمِ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ رِقٌّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي النِّسَاءِ: {إنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ} . وَقَالَ عُمَرُ: النِّكَاحُ رِقٌّ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يَرِقُّ كَرِيمَتَهُ. وَكَذَلِكَ افْتِكَاكُ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ مِنْ يَدِ الظَّالِمِ كَاَلَّذِي يَمْنَعُهُ الْوَاجِبُ وَيَفْعَلُ مَعَهُ الْمُحَرَّمَ. وَمِنْهُ افْتِكَاكُ الْأَمْوَالِ مِنْ أَيْدِي الْغَاصِبِينَ لَهَا ظُلْمًا أَوْ تَأْوِيلًا كَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ وَغَيْرِهِمَا إذَا دُفِعَ لِلظَّالِمِ شَيْءٌ حَتَّى يَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّفْعُ فِي كِلَا الْقِسْمَيْنِ دَفْعًا لِلْقَاهِرِ حَتَّى لَا يَقْهَرَ وَلَا يَسْتَوْلِيَ كَمَا يُهَادَنُ أَهْلُ الْحَرْبِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِمَالٍ يُدْفَعُ إلَيْهِمْ أَوْ اسْتِنْقَاذًا مِنْ الْقَاهِرِ بَعْدَ الْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ.

ص: 184

وَقَالَ رحمه الله:

قَاعِدَةٌ فِيمَا يَجِبُ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ

فَصْلٌ: بَذْلُ الْمَنَافِعِ وَالْأَمْوَالِ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ التَّعَوُّضِ أَوْ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ: وَوَاجِبُهَا يَنْقَسِمُ إلَى فَرْضٍ عَلَى الْعَيْنِ وَفَرْضٍ عَلَى الْكِفَايَةِ. فَأَمَّا مَا يَجِبُ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ - مَالًا وَمَنْفَعَةً - فَلَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. وَجِمَاعُ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ بِلَا عِوَضٍ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ مَذْكُورَةٌ فِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ: {أَرْبَعٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدَ بَرِئَ مِنْ الْبُخْلِ: مَنْ آتَى الزَّكَاةَ وَقَرَى الضَّيْفَ وَوَصَلَ الرَّحِمَ وَأَعْطَى فِي النَّائِبَةِ} . وَلِهَذَا كَانَ حَدُّ الْبَخِيلِ: مَنْ تَرَكَ أَحَدَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِنَا اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ. فَالزَّكَاةُ هِيَ الْوَاجِبُ الرَّاتِبُ الَّتِي تَجِبُ بِسَبَبِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ

ص: 185

الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ فَوُجُوبُهَا عَارِضٌ فَقَرْيُ الضَّيْفِ وَاجِبٌ عِنْدَنَا وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ وَاجِبَةٌ بِالْإِجْمَاعِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَحَمْلِ الْعَاقِلَةِ وَعِتْقِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ. وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِيمَنْ تَجِبُ صِلَتُهُ وَمَا مِقْدَارُ الصِّلَةِ الْوَاجِبَةِ. وَكَذَلِكَ الْإِعْطَاءُ فِي النَّائِبَةِ مِثْلَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِشْبَاعِ الْجَائِعِ وَكِسْوَةِ الْعَارِي. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَدَقَ السَّائِلُ لَمَا أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُ. وَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ الْمَنْفَعِيَّةُ بِلَا عِوَضٍ: فَمِثْلُ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَعَامَّةُ الْوَاجِبِ فِي مَنَافِعِ الْبَدَنِ وَيَدْخُلُ فِيهَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِمَا {عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ} ". وَتَدْخُلُ أَيْضًا فِي مُطْلَقِ الزَّكَاةِ وَالنَّفَقَةِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} كَمَا نُقِلَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ: الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "{كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ} " وَيُرْوَى مَا تَصَدَّقَ عَبْدٌ بِصَدَقَةٍ أَعْظَمَ مِنْ مَوْعِظَةٍ يَعِظُ بِهَا أَصْحَابًا لَهُ؛ فَيَتَفَرَّقُونَ وَقَدْ نَفَعَهُمْ اللَّهُ بِهَا وَدَلَائِلُ هَذَا كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الْمَالِيَّةُ وَهُوَ كَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى مَنْفَعَةِ مَالِ الْغَيْرِ كَحَبْلٍ وَدَلْوٍ يَسْتَقِي بِهِ مَاءً يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَثَوْبٍ يَسْتَدْفِئُ بِهِ مِنْ الْبَرْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَجِبُ بَذْلُهُ؛ لَكِنْ هَلْ يَجِبُ بَذْلُهُ مَجَّانًا أَوْ بِطَرِيقِ التَّعَوُّضِ

ص: 186

كَالْأَعْيَانِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَحُجَّةُ التَّبَرُّعِ مُتَعَدِّدَةٌ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّهُ عَارِيَةً الْقِدْرَ وَالدَّلْوَ وَالْفَأْسَ. وَكَذَلِكَ إيجَابُ بَذْلِ مَنْفَعَةِ الْحَائِطِ لِلْجَارِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ عَلَى أَصْلِنَا الْمُتَّبِعِ؛ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ. فَفِي الْجُمْلَةِ مَا يَجِبُ إيتَاؤُهُ مِنْ الْمَالِ أَوْ مَنْفَعَتُهُ أَوْ مَنْفَعَةُ الْبَدَنِ بِلَا عِوَضٍ لَهُ تَفْصِيلٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَلَوْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ مُقَصِّرِينَ فِي عِلْمِهِ بِحَيْثُ قَدْ يَنْفُونَ وُجُوبَ مَا صَرَّحَتْ الشَّرِيعَةُ بِوُجُوبِهِ. وَيَعْتَقِدُ الغالط مِنْهُمْ {أَنْ لَا حَقَّ فِي الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ} " أَنَّ هَذَا عَامٌّ؛ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ {: إنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ} . وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ: أَرَادَ الْحَقَّ الْمَالِيَّ الَّذِي يَجِبُ بِسَبَبِ الْمَالِ فَيَكُونُ رَاتِبًا وَإِلَّا فَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ إيتَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي مَوَاضِعَ: مِثْلَ الْجِهَادِ بِالْمَالِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْحَجِّ بِالْمَالِ وَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالْأَقَارِبِ وَالْمَمَالِيكِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ. وَمِثْلَ مَا يَجِبُ مِنْ الْكَفَّارَاتِ مِنْ عِتْقٍ وَصَدَقَةٍ

ص: 187

وَهَدْيِ كَفَّارَاتِ الْحَجِّ وَكَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهَا. وَمَا يَجِبُ مِنْ وَفَاءِ النُّذُورِ الْمَالِيَّةِ إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ؛ بَلْ الْمَالُ مُسْتَوْعَبٌ بِالْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ الرَّاتِبَةِ أَوْ الْعَارِضَةِ بِسَبَبٍ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْهُ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا مَا يَجِبُ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ: مِثْلَ الْمُبَايَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ. وَمِثْلَ الْمُشَارَكَاتِ: كَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ هَذَا كَثِيرًا مَا يَغْلَطُ فِيهِ الغالطون لِمَا اسْتَقَرَّ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ الظُّلْمَ حَرَامٌ وَأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَا تَجُوزُ إلَّا بِالتَّرَاضِي إلَّا فِي مَوَاضِعَ اسْتَثْنَاهَا الشَّارِعُ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهَا بِحَقِّ: صَارَ يَغْلَطُ فَرِيقَانِ: قَوْمٌ يَجْعَلُونَ الْإِكْرَاهَ عَلَى بَعْضِهَا إكْرَاهًا بِحَقِّ وَهُوَ إكْرَاهٌ بِبَاطِلِ. وَقَوْمٌ يَجْعَلُونَهُ إكْرَاهًا بِبَاطِلِ وَهُوَ بِحَقِّ. وَفِيهَا مَا يَكُونُ إكْرَاهًا بِتَأْوِيلِ حَقٍّ فَيَدْخُلُ فِي قِسْمِ الْمُجْتَهِدَاتِ؛ إمَّا الِاجْتِهَادَاتُ الْمَحْضَةُ أَوْ الْمَشُوبَةُ بِهَوًى وَكَذَلِكَ الْمُعَاوَضَاتُ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ إذَا كَانَ إيتَاءُ الْمَالِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ بِلَا عِوَضٍ وَاجِبًا بِالشَّرِيعَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا؛ لِأَسْبَابٍ اقْتَضَتْ الْإِيجَابَ الشَّرْعِيَّ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ أَخْذُ حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ

ص: 188

فَلَأَنْ يَكُونَ إيتَاءُ الْمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَاجِبًا فِي مَوَاضِعَ أَوْلَى وَأَحْرَى؛ بَلْ إيجَابُ الْمُعَاوَضَاتِ أَكْثَرُ مِنْ إيجَابِ التَّبَرُّعَاتِ وَأَكْبَرُ. فَهُوَ أَوْسَعُ مِنْهُ قَدْرًا وَصِفَةً. وَلَعَلَّ مَنْ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ إذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهَا بِلَا ضَرَرٍ يَزِيدُ عَلَى حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَتْ فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ وَمَعَ حَاجَةِ رَبِّ الْمَالِ المكافية لِحَاجَةِ الْمُعْتَاضِ فَرَبُّ الْمَالِ أَوْلَى؛ فَإِنَّ الضَّرَرَ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ وَالرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. " وَابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ ". وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ حَسَنَةٌ مُنَاسِبَةٌ وَلَهَا شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ. وَأَنَا أَذْكُرُ مِنْهَا بِتَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَجِمَاعُ الْمُعَاوَضَاتِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالِ: كَالْبَيْعِ. وَبَذْلُ مَالٍ بِنَفْعٍ كَالْجَعَالَةِ. وَبَذْلُ مَنْفَعَةٍ بِمَالٍ كَالْإِجَارَةِ وَبَذْلُ نَفْعٍ بِنَفْعٍ كَالْمُشَارَكَاتِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ هَذَا بَذَلَ نَفْعَ بَدَنِهِ وَهَذَا بَذَلَ نَفْعَ مَالِهِ. وَكَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَوُجُوبُ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ ضَرُورَةِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ؛ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَنْفَرِدُ بِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِبَنِي جِنْسِهِ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ عَلَى بَنِي آدَمَ أَنْ يَبْذُلَ هَذَا لِهَذَا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَهَذَا لِهَذَا مَا

ص: 189

يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَفَسَدَ النَّاسُ وَفَسَدَ أَمْرُ دُنْيَاهُمْ وَدِينِهِمْ فَلَا تَتِمُّ مَصَالِحُهُمْ إلَّا بِالْمُعَاوَضَةِ وَصَلَاحُهَا بِالْعَدْلِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ لَهُ الْكُتُبَ وَبَعَثَ بِهِ الرُّسُلَ. فَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} . وَلَا رَيْبَ أَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى بَذْلِ الْمُعَاوَضَةِ لِحَاجَتِهَا إلَيْهَا فَالشَّارِعُ إذَا بَذَلَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِلَا إكْرَاهٍ لَمْ يَشْرَعْ الْإِكْرَاهُ وَرَدُّ الْأَمْرِ إلَى التَّرَاضِي فِي أَصْلِ الْمُعَاوَضَةِ وَفِي مِقْدَارِ الْعِوَضِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَبْذُلْ فَقَدْ يُوجِبُ الْمُعَاوَضَةَ تَارَةً وَقَدْ يُوجِبُ عِوَضًا مُقَدَّرًا تَارَةً. وَقَدْ يُوجِبُهُمَا جَمِيعًا وَقَدْ يُوجِبُ التَّعْوِيضَ لِمُعَيَّنِ أُخْرَى. مِثَالُ الْأَوَّلِ: مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَطُولِبَ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَرَضٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ لِيُوفِيَهُ الدَّيْنَ فَإِنَّ وَفَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْبَيْعِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُكْرِهَهُ عَلَى بَيْعِ الْعَرَضِ فِي وَفَاءِ دَيْنِهِ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ عَلَيْهِ فَقَبِلَ النِّيَابَةَ فَقَامَ ذُو السُّلْطَانِ فِيهِمْ مَقَامَهُ كَمَا يَقُومُ فِي تَوْفِيَةِ الدَّيْنِ وَتَزْوِيجِ الْأَيِّمِ مِنْ كُفْئِهَا إذَا طَلَبَتْهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَمَا يَقْبِضُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِ بِرِضَا الْغَرِيمِ كَثَمَنِ مَبِيعٍ وَبَدَلِ قَرْضٍ أَوْ بِغَيْرِ رِضَاهُ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ.

ص: 190

وَمِنْ ذَلِكَ ضَمَانُ الْمَغْصُوبِ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ وَمِنْ الْمَغْصُوبِ الْأَمَانَاتُ إذَا خَانَ فِيهَا وَمِنْ الْأَمَانَاتِ مَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَالْعُمَّالِ عَلَى الْفَيْءِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ الْمَوْقُوفَةِ وَمَالِ الْيَتِيمِ وَمَالِ الْمُوَكَّلِ كَالشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ وَنَحْوِهِمَا. وَمَالِ الْفَيْءِ إذَا خَانُوا فِيهَا. وَتَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِ الْمَالِ وَكَذَلِكَ بَيْعُ مَالِهِ لِأَدَاءِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ لِزَوْجَتِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ نَفْسِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ مَالٍ إذَا لَمْ يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ إلَّا بِالْبَيْعِ صَارَ الْبَيْعُ وَاجِبًا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَيُفْعَلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. وَمِثَالُ الثَّانِي: الْمُضْطَرُّ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ إذَا بَذَلَهُ لَهُ بِمَا يَزِيدُ عَلَى الْقِيمَةِ؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ وَأَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُمَا أُجْبِرَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ بَذَلَ أَحَدُهُمَا أُجْبِرَ الْآخَرُ. وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي " كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ " حَتَّى إنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ عَنْ بَذْلِ الطَّعَامِ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَاتِلِ عَنْ نَفْسِهِ. وَلِهَذَا نُضَمِّنُهُمْ دِيَتَهُ لَوْ مَاتَ كَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا اسْتَسْقَى قَوْمًا فَلَمْ يَسْقُوهُ حَتَّى مَاتَ فَضَمَّنَهُمْ عُمَرُ دِيَتَهُ وَأَخَذَ بِهِ أَحْمَد فَإِنَّهُ إذَا وَجَبَ إطْعَامُ الْمُضْطَرِّ بِلَا عِوَضٍ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْهُ فَلَأَنْ يَجِبَ بِالْمُعَاوَضَةِ أَوْلَى وَأَحْرَى وَهَكَذَا إذَا اُضْطُرَّ النَّاسُ ضَرُورَةً عَامَّةً وَعِنْدَ أَقْوَامٍ فُضُولُ أَطْعِمَةٍ

ص: 191

مَخْزُونَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَيْعُهَا وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يُجْبِرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَبِيعَهَا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ يَقْبَلُ النِّيَابَةَ فَيَجِبُ إلْزَامُهُمْ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ شَرْعًا وَهُوَ حَقٌّ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُمْ فَيَجِبُ اسْتِنْقَاذُهُ مِنْهُمْ. وَهَكَذَا كُلُّ مَا اُضْطُرَّ النَّاسُ إلَيْهِ: مِنْ لِبَاسٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَغْنِي عَنْهُ صَاحِبُهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ بَذْلُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ. وَقَدْ كَتَبْت قَبْلَ هَذَا حَدِيثَ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ فِي صَاحِبِ النَّخْلَةِ لَمَّا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِبَيْعِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ وَذَكَرْت مَا فِيهِ مِنْ وُجُوبِ الْمُعَاوَضَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمُبْتَاعُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرِ الْبَائِعِ. وَلِهَذَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ الِاحْتِكَارِ الَّذِي يَضُرُّ النَّاسَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ} " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَالْمُحْتَكِرُ مُشْتَرٍ مُتَّجِرٌ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ يَشْتَرِي مَا يَضُرُّ النَّاسَ. وَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ حَرُمَ عَلَيْهِ وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْأَصْلِ جَائِزَانِ غَيْرُ وَاجِبَيْنِ؛ لَكِنْ لِحَاجَةِ النَّاسِ يَجِبُ الْبَيْعُ تَارَةً وَيَحْرُمُ الشِّرَاءُ أُخْرَى. هَذَا فِي نَفْسِ الْعَقْدِ. وَأَمَّا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَنَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إضْرَارِ الْمُشْتَرِي إذَا تَوَكَّلَ الْحَاضِرُ لِلْقَادِمِ بِسِلْعَتِهِ فِي الْبَيْعِ مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى

ص: 192

وُجُوبِ بَيْعِهَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم {دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ} . وَهَكَذَا بَيْعُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الْآخَرِ فِي مَا لَا يَنْقَسِمُ؛ فَإِنَّ الشَّرِيكَ مُحْتَاجٌ إلَى الْبَيْعِ؛ لِيَأْخُذَ نَصِيبَهُ وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْآخَرِ فِيهِ. وَكَذَلِكَ تَقْوِيمُهُ مِلْكَ الشَّرِيكِ إذَا أَعْتَقَ الشَّرِيكُ نَصِيبَهُ فَإِنَّ الْعِتْقَ يَحْتَاجُ إلَى تَكْمِيلٍ لِمَا فِي تَبْعِيضِ الْعِتْقِ مِنْ الضَّرَرِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَلَى الْبَائِعِ فِي بَيْعِ نَصِيبِهِ أَوْ فِيهِ ضَرَرٌ دُونَ الْحَاجَةِ إلَى تَكْمِيلِ الْعِتْقِ. وَهَكَذَا فِيمَنْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغَيْرِ بِمَالِهِ كَمَنْ لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَرَقٌ مُحْتَرَمٌ مِنْ غِرَاسٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ بِئْرٍ كَالْمُشْتَرِي إذَا أَخَذَ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ وَالْبَائِعِ إذَا رَدَّ عَلَيْهِ الْمَبِيعَ بِعَيْبٍ وَكَانَ الثَّمَنُ عَقَارًا وَكَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَإِنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَبْتَاعَ ذَلِكَ بِقِيمَتِهِ إذَا لَمْ يُقْلِعْهُ صَاحِبُهُ أَوْ يُبْقِيهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَكِلَاهُمَا مُعَاوَضَةٌ: إمَّا عَلَى الْعَيْنِ أَوْ عَلَى مَنْفَعَةِ أَرْضِهِ. وَكَذَلِكَ إجْبَارُنَا لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْكَرْيِ مَعَ الْآخَرِ أَوْ الْعِمَارَةِ مَعَهُ هُوَ إجْبَارٌ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ؛ فَإِنَّ الْعِمَارَةَ تَتَضَمَّنُ ابْتِيَاعَ أَعْيَانٍ وَاسْتِئْجَارَ عُمَّالٍ فَهِيَ إجْبَارٌ عَلَى شِرَاءٍ وَإِجَارَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْبَاذِلِ فِي ذَلِكَ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْمُعَاوَضَةُ مَعَهُ. تَارَةً لِأَجْلِ الْقِسْمَةِ. وَتَارَةً لِبَقَاءِ الشَّرِكَةِ. وَعَلَى هَذَا فَإِذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَى

ص: 193

الصِّنَاعَاتِ: كَالْفِلَاحَةِ وَالنِّسَاجَةِ وَالْبِنَايَةِ: فَعَلَى أَهْلِهَا بَذْلُهَا لَهُمْ بِقِيمَتِهَا كَمَا عَلَيْهِمْ بَذْلُ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا بِقِيمَتِهَا؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ بَذْلِ الْأَمْوَالِ وَبَذْلِ الْمَنَافِعِ؛ بَلْ بَذْلُ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَا يَضُرُّ بَذْلُهَا أَوْلَى بِالْوُجُوبِ مُعَاوَضَةً وَيَكُونُ بَذْلُ هَذِهِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ أُصُولَ الصِّنَاعَاتِ كَالْفِلَاحَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَالْبِنَايَةِ: فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهَا فَرْضٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا؛ وَأَمَّا مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا فَلَا تَجِبُ. وَهَذِهِ حَكَيْنَا بَيْعَهَا؛ فَإِنَّ مَنْ يُوجِبُهَا إنَّمَا يُوجِبُهَا بِالْمُعَاوَضَةِ؛ لَا تَبَرُّعًا. فَهُوَ إيجَابُ صِنَاعَةٍ بِعِوَضٍ؛ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا. وَقَوْلِي عِنْدَ الْحَاجَةِ. فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ يَسْتَغْنُونَ عَنْ الصِّنَاعَةِ بِمَا يَجْلِبُونَهُ أَوْ يُجْلَبُ إلَيْهِمْ مِنْ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ. وَالْأَصْلُ أَنَّ إعَانَةَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَلَى الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالسُّكْنَى أَمْرٌ وَاجِبٌ. وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُلْزِمَ بِذَلِكَ وَيُجْبِرَ عَلَيْهِ؛ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا بَلْ إيجَابُ الشَّارِعِ لِلْجِهَادِ الَّذِي فِيهِ الْمُخَاطَرَةُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ لِأَجْلِ هِدَايَةِ النَّاسِ فِي دِينِهِمْ: أَبْلَغُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. فَإِذَا كَانَتْ الشَّجَاعَةُ الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهَا وَالْكَرَمُ الَّذِي يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِ وَاجِبًا فَكَيْفَ بِالْمُعَاوَضَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهَا. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَفْعَلُونَ هَذَا بِحُكْمِ الْعَادَاتِ وَالطِّبَاعِ وَطَاعَةِ

ص: 194

السُّلْطَانِ غَيْرَ مُسْتَشْعِرِينَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَتِهِمْ فِيهِ. وَلِهَذَا يَعُدُّونَ ذَلِكَ ظُلْمًا وَعَنَاءً وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ احْتَسَبُوا أَجْرَهُ وَزَالَتْ الْكَرَاهَةُ وَلَوْ عَلِمُوا الْوُجُوبَ الشَّرْعِيَّ لَمْ يَعُدُّوهُ ظُلْمًا. وَكَذَلِكَ إذَا احْتَاجُوا إلَى الْقِتَالِ وَالْجِهَادِ بِالنَّفْسِ وَبَذَلُوا أَمْوَالًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الْجِهَادَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُخَاطَرَةٌ بِالنَّفْسِ وَيُخَافُ فِيهِ الضَّرَرُ؛ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ إذَا بُذِلَ لِلْإِنْسَانِ الْمَالُ؛ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الدِّينِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِوُجُوبِهِ وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُجَاهِدَ بِمَالِ نَفْسِهِ فَإِذَا بُذِلَ لَهُ الْمَالُ كَانَ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ. فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ صِنَاعَاتِ الْقِتَالِ: رَمْيًا وَضَرْبًا وَطَعْنًا وَرُكُوبًا وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَأُجْبِرَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " {وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا.} وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إنَّهُ يَجِبُ عَيْنًا إذَا أَمَرَ بِهِ الْإِمَامُ وَكَذَلِكَ إذَا احْتَاجَ الْمُجَاهِدُونَ إلَى أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ وَالتِّجَارَاتِ كَصُنَّاعِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالسِّلَاحِ وَمَصَالِحِ الْخَيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَطُلِبَتْ مِنْهُمْ تِلْكَ الصِّنَاعَةُ بِعِوَضِهَا وَجَبَ بَذْلُهَا وَأُجْبِرُوا عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ التُّجَّارُ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْجِهَادِ: عَلَيْهِمْ بَيْعُ ذَلِكَ وَإِذَا

ص: 195

احْتَاجَ الْعَسْكَرُ إلَى خُرُوجِ قَوْمٍ تُجَّارٍ فِيهِ لِبَيْعِ مَا لَا يُمْكِنُ الْعَسْكَرُ حَمْلَهُ مِنْ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ وَسِلَاحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالتِّجَارَةُ كَالصِّنَاعَةِ. وَالْعَسْكَرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْمٍ فِي بَلَدٍ فَكَمَا يَجِبُ عَلَى بَعْضٍ إعَانَةُ بَعْضٍ عَلَى حَاجَاتِهِمْ بِالْمُعَاوَضَةِ الَّتِي لَا ضَرَرَ فِيهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي الْعَسْكَرِ. وَكَمَا لِلْإِمَامِ أَنْ يُوجِبَ الْجِهَادَ عَلَى طَائِفَةٍ وَيَأْمُرَهُمْ بِالسَّفَرِ إلَى مَكَانٍ لِأَجْلِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ وَيَأْمُرَ قَوْمًا بِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَيَأْمُرَ قَوْمًا بِالْوِلَايَاتِ. وَالْإِمَامُ الْعَدْلُ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَغَيْرُ الْعَدْلِ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُ طَاعَةٌ كَالْجِهَادِ.

وَقَالَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

فَصْلٌ:

أَقْوَالُ الْمُكْرَهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَغْوٌ عِنْدَنَا: مِثْلَ كُفْرِهِ وَطَلَاقِهِ وَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ. فَإِذَا أُكْرِهَ الْبَيِّعَانِ عَلَى الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِذَا أُكْرِهَا عَلَى التَّقَابُضِ فَهَذَا إكْرَاهٌ عَلَى الْأَفْعَالِ لَا عَلَى الْأَقْوَالِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا

ص: 196

قَدْ قَبَضَ وَأَقْبَضَ مُكْرَهًا فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَرُدَّ مَا قَبَضَهُ إلَى الْآخَرِ إذَا أَمْكَنَهُ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِنْ كَانَ الْقَابِضُ مُكْرَهًا. فَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ الْمَقْبُوضُ بِالْإِكْرَاهِ تَحْتَ يَدِ الْقَابِضِ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَتْلَفَهُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِتَفْرِيطِهِ أَوْ بِعُدْوَانِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ يَدَ أَمَانَةٍ وَيَدُ الْأَمَانَةِ إذَا أَتْلَفَتْ شَيْئًا أَوْ تَلِفَ بِتَفْرِيطِهَا أَوْ عُدْوَانِهَا ضَمِنَتْهُ كَيَدِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُودِعِ وَالْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ. وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ: فَهَلْ تَكُونُ يَدُهُ يَدَ ضَمَانٍ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ؟ أَوْ يَدَ أَمَانَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ قَبْضًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ؟ فَنَقُولُ: تَلَفُهُ تَحْتَ يَدِ الْمُكْرَهِ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِهِ كَرْهًا وَفِيهِ خِلَافٌ. وَهُوَ يُشْبِهُ الْعَارِيَةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَعِيرَ قَبَضَ الْمَالَ لِنَفْعِهِ كَمَا أَنَّ الْمُكْرَهَ قَبَضَهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَهَذَا قَبَضَهُ بِإِذْنِ الشَّارِعِ فَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ الْقَابِضُ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ وَفَاءً عَنْ دَيْنٍ فَهُنَا يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي مَنْفَعَتِهِ كَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ فَأَخَذَهُ لِيَأْكُلَهُ.

ص: 197

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ جَمَاعَةٍ صُودِرُوا وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُمْ ثُمَّ أُكْرِهُوا وَأُجْبِرُوا عَلَى بَيْعِ أَعْيَانٍ مِنْ عَقَارٍ وَمَوَاشٍ وَبَسَاتِينَ فَبَاعُوهَا وَالْأَعْيَانُ الْمَذْكُورَةُ بَعْضُهَا مِلْكُ أَوْلَادِ الْبَائِعِينَ وَبَعْضُهَا وَقْفٌ وَبَعْضُهَا مِلْكُ الْغَيْرِ وَوَضَعَ الْمُشْتَرِي يَدَهُ عَلَيْهَا وَحَازَهَا وَخَافَ الْبَائِعُونَ عَلَى إتْلَافِ صُورَةِ الْأَعْيَانِ وَلَيْسَ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى انْتِزَاعِهَا مِنْ يَدِهِ فَاشْتَرَوْهَا صُورَةً لِيَعْرِفُوا بَقَاءَهَا وَيُحْرِزُوهَا بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَلَمَّا آنَ الْأَجَلُ طَالَبَهُمْ بِالثَّمَنِ: فَهَلْ يَكُونُ الْبَيْعُ مِنْهُمْ بَاطِلًا بِحُكْمِ الْإِكْرَاهِ؟ وَبَيْعُ مَالِ الْغَيْرِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ مُشْتَرَاهُمْ مِنْهُ وَإِقْرَارُهُمْ بِالْمِلْكِ مُثْبِتٌ لَهُ بِصِحَّةِ الْمِلْكِ؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا بَذَلَ الْبَائِعُ - وَالْحَالُ هَذِهِ - لِلْمُشْتَرِي فَمَا أَدَّاهُ مِنْ الثَّمَنِ وَامْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْإِيفَاءِ بِذَلِكَ وَطَلَبَ مَا كُتِبَ عَلَى الْبَائِعِ مِنْ الثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ ظَالِمٌ عَاصٍ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ لَوْ كَانَتْ بِطِيبِ نَفْسِ الْبَائِعِ وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ لَا تُبَاعَ مِنْهُ الْأَعْيَانُ بِتَقْدِيمِ بَيْعِهِ إيَّاهَا إلَى أَجَلٍ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ

ص: 198

الثَّمَنِ كَانَتْ مُعَامَلَةً بَاطِلَةً رِبَوِيَّةً عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَكْثَرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ وَالْبَائِعُ مُكْرَهٌ وَبَيْعُ الْمُكْرَهِ بِغَيْرِ حَقٍّ بَيْعٌ غَيْرُ لَازِمٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَوْ قُدِّرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أُكْرِهَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ وَأَدَّاهُ الثَّمَنَ عَنْهُ فَأَعْطَاهُ الْبَائِعُ الثَّمَنَ الَّذِي أَدَّاهُ عَنْهُ لَوَجَبَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. فَكَيْفَ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يُكْرَهْ عَلَى الشِّرَاءِ وَالْبَائِعُ قَدْ بَذَلَ لَهُ الثَّمَنَ الَّذِي أَدَّاهُ عَنْهُ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي وَالْحَالَةُ هَذِهِ مُطَالَبَتُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَلَا مُطَالَبَتُهُ بِرَدِّ الْأَعْيَانِ الَّتِي كَانَتْ مِلْكَهُ. وَهِيَ الْآنَ بِيَدِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ مَاتَتْ أُمُّهُ وَوَرِثَ مِنْهَا دَارًا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا فِيهَا شَرِيكٌ وَأَنَّ إنْسَانًا ظَلَمَ وَالِدَهُ وَأَجْبَرَهُ حَتَّى كَاتَبَهُ عَلَى الدَّارِ أَوْ بَاعَهَا. فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ أَمْ تَرْجِعُ الدَّارُ إلَى مَالِكِهَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا أُكْرِهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَى بَيْعِ الدَّارِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ وَتُرَدُّ الدَّارُ إلَى مَالِكِهَا وَيُرَدُّ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنُ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 199

وَسُئِلَ:

عَنْ حَبْسٍ عَلَى جَمَاعَةٍ وَهُوَ مَثْبُوتٌ بِالْعُدُولِ وَفِي الدَّارِ سَاكِنٌ لَهُ يَدٌ قَوِيَّةٌ عَلَى الْوَرَثَةِ وَأَلْزَمُوهُ إلَى أَنْ بَاعُوهُ غَصْبًا بِالْيَدِ الْقَوِيَّةِ فَإِذَا شَهِدَتْ الشُّهُودُ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ يُنْزَعُ مِنْ الْغَاصِبِ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَيْعُ الْمُكْرَهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَصِحُّ وَبَيْعُ الْوَقْفِ الصَّحِيحِ اللَّازِمِ لَا يَصِحُّ وَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا شَهِدَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ رحمه الله:

فَصْلٌ:

فَإِذَا أَكْرَهَ السُّلْطَانُ أَوْ اللُّصُوصُ أَوْ غَيْرُهُمْ رَجُلًا عَلَى أَدَاءِ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَكْرَهَ رَجُلًا آخَرَ عَلَى إقْرَاضِهِ أَوْ الِابْتِيَاعِ مِنْهُ وَأَدَّى الثَّمَنَ عَنْهُ أَوْ إلَيْهِ لِيَأْخُذُوهُمْ مِنْ الْمُقْتَرِضِ وَالْبَائِعِ سَوَاءٌ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى إقْبَاضِ الْمُكْرَهِ ثُمَّ الْأَخْذُ مِنْهُ أَوْ عَلَى الْأَدَاءِ عَنْهُ فَقَطْ:

ص: 200

فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَنَحْوُهَا تَقَعُ كَثِيرًا وَفِيهَا وَجْهَانِ: كَمَا لَوْ أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ أَحَدِ الْمُخْتَلِطَيْنِ فِي الْمَاشِيَةِ زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ عَنْهُمَا بِلَا تَأْوِيلٍ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ تَذْهَبُ مِنْ مَالِكِهَا وَلَيْسَ عَلَى الْآخَرِ شَيْءٌ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ أَخَذَهَا عَنْهَا؛ لِأَنَّ الظَّالِمَ ظَلَمَ هَذَا بِأَخْذِ مَالِهِ وَنَوَاهُ عَنْ الْآخَرِ وَهُوَ لَيْسَ وَلِيًّا لِلْآخَرِ وَلَا وَكِيلًا عَنْهُ حَتَّى تَصِحَّ نِيَّتُهُ وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ الْمُحَرَّمَةِ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْمَأْخُوذِ عَنْهُ. وَلَازِمُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ إذَا أَخَذَ السُّلْطَانُ وَنُوَّابُهُ الْوَظَائِفَ الظلمية عَلَى الْمَالِ أَوْ أَخَذَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مِنْ التُّجَّارِ عَنْ الْمَالِ الَّذِي مَعَهُمْ شَيْئًا مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ إذَا كَانَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ فَإِنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ بِنَصِيبِهِ. وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَ الْمُعْطِي وَكِيلًا أَوْ وَلِيًّا كَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَوَصِيِّ الْيَتِيمِ فَيَلْزَمُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَا أَخَذَ مِنْهُ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَمَانِهِ؛ لَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّفْعُ لِحِفْظِ الْمَالِ بَلْ كَانَ الدَّفْعُ لِأَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى الْأَدَاءِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُ الْمَالِ إلَّا بِمَا دَفَعَهُ عَنْهُ فَهَذَا التَّصَرُّفُ لِحِفْظِ الْمَالِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إعْطَاءِ الْخِفَارَةِ لِحِفْظِهِ وَإِعْطَاءِ النَّوَاطِيرِ لِدَفْعِ اللُّصُوصِ وَالسِّبَاعِ. وَأَيْضًا فَالْوَلِيُّ وَالْوَكِيلُ مَأْذُونٌ لَهُمَا عُرْفًا فِي مِثْلِ هَذَا الدَّفْعِ؛ فَإِنَّهُ

ص: 201

لَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَى أَنَّهُ يُضْرَبُ وَيُحْبَسُ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّي عَنْ الْمَالِ فَيَتَضَرَّرُ وَلَا يُؤَدِّيهِ؛ بِخِلَافِ مَا يُوجَدُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ؛ لَكِنَّ هَذَا الدَّلِيلَ بِعَيْنِهِ وَارِدٌ فِي أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ. فَإِنَّ كِلَاهُمَا وَكِيلُ الْآخَرِ فِي شَرِكَةِ الْعُقُودِ. وَأَيْضًا فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْكُلَفِ النوابية السُّلْطَانِيَّةِ وَبَيْنَ الْمَظَالِمِ الْعَارِضَةِ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ سَيَّرَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ قُمَاشًا لِيُسَلِّمَهُ لِوَلَدِهِ بِالْقَاهِرَةِ فَلَمْ يُسَلِّمْهُ وَبَاعَهُ الْمُسَيَّرُ عَلَى يَدِهِ وَتَصَرَّفَ فِيهِ وَبَاعَهُ عَلَى غَيْرِ بَزَّازٍ بِغَيْرِ النَّقْدِ وَبِغَيْرِ إذَنْ صَاحِبِ الْقُمَاشِ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ تَفْرِيطًا؟ وَهَلْ إذَا فَرَّطَ تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ؟ وَهَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ فِي تَلَفِهِ قَوْلَ صَاحِبِ الْقُمَاشِ؟ أَوْ قَوْلَ الْمُسَيَّرِ عَلَى يَدِهِ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

فَأَجَابَ:

إذَا تَصَرَّفَ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ كَانَ ظَالِمًا وَكَانَ ضَامِنًا لَهُ فَإِنْ فَاتَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَإِنْ قَالَ الْمُودَعُ أَمَرْتنِي بِبَيْعِهِ وَقَالَ الْمُودِعُ لَمْ آمُرْك بِبَيْعِهِ بَلْ بِتَسْلِيمِهِ إلَى وَلَدِي. فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ؛ لَكِنْ إنْ بَاعَهُ بَيْعًا خَارِجًا عَنْ الْبَيْعِ الْمَعْرُوفِ مِثْلَ أَنْ يَبِيعَهُ إلَى أَجَلٍ أَوْ بِغَيْرِ النَّقْدِ - نَقْدِ الْبَلَدِ - أَوْ يَبِيعَهُ لِمَنْ هُوَ جَاهِلٌ أَوْ مُفْلِسٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا يَتْلَفُ مِنْ الثَّمَنِ بِكُلِّ حَالٍ.

ص: 202

وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ بِدُونِ قِيمَةِ الْمِثْلِ وَسَلَّمَ الْمَبِيعَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلنَّقْصِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ امْرَأَةٍ مَلَكَتْ لِوَلَدِهَا مِلْكًا وَبَاعَهُ ثُمَّ بَعْدَ الْبَيْعِ مَلَكَتْ الثَّانِيَ وَكَتَبَ عَلَى الْأَوَّلِ حُجَّةً أَنَّ مَالَهُ فِي الْمِلْكِ شَيْءٌ بَعْدَ أَنْ بَاعَهُ فَهَلْ يَلْزَمُ الْأَوَّلَ رَدُّ الْمِلْكِ لِلثَّانِي أَوْ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا كَانَ قَدْ بَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا لَازِمًا فَقَدْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ وَلَمْ يَصِحَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَمْلِيكُهَا وَالْمِلْكُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ لَهَا مِلْكٌ فَسَرَقَ الزَّوْجُ كَتْبَ الْمِلْكِ وَبَاعَهُ ثُمَّ تُوُفِّيَتْ؟ .

فَأَجَابَ:

بَيْعُ الْمِلْكِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ وَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ: بَيْعٌ

ص: 203

بَاطِلٌ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَرُدَّ إلَى الْمُشْتَرِي مَا أَعْطَاهُ مِنْ الثَّمَنِ وَيَرُدَّ إلَى الْمَالِكِ مِلْكَهُ.

وَقَالَ:

فَصْلٌ:

الَّذِي يُكْرَهُ مِنْ شِرَاءِ الْأَرْضِ الخراجية إنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَشْتَرِيهَا فَيَرْفَعُ الْخَرَاجَ عَنْهَا وَذَلِكَ إسْقَاطٌ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانُوا أَحْيَانًا يَقْطَعُونَ بَعْضَهَا لِبَعْضِ الْمُحَارِبِينَ إقْطَاعَ تَمْلِيكٍ؛ لَا إقْطَاعَ اسْتِغْلَالٍ كَإِقْطَاعِ الْمَوَاتِ، فَهَذَا الِانْتِفَاعُ وَالْإِقْطَاعُ يُسْقِطُ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْخُلَفَاءُ أَخَذُوهُ مِنْ الْغُزَاةِ لِتَكُونَ مَنْفَعَتُهُ دَائِمَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا قُطِعَتْ مَنْفَعَتُهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ صَارَ ظُلْمًا لَهُمْ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ طَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بَنَى فِي مِنًى وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّأْبِيدِ. فَأَمَّا إذَا اشْتَرَاهَا وَعَلَيْهِ مِنْ الْخَرَاجِ مَا عَلَى الْبَائِعِ فَهُوَ كَمَا لَوْ وَلَّاهُ إيَّاهَا بِلَا حَقٍّ وَكَمَا لَوْ وَرِثَهَا؛ فَإِنَّ الْإِرْثَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ: أَنَّ الْوَارِثَ أَحَقُّ بِهَا بِالْخَرَاجِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ إعْطَاءَهَا لِمَنْ أَعْطَيْته بِالْخَرَاجِ قَدْ قِيلَ:

ص: 204

إنَّهُ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْمُقَسَّطِ الدَّائِمِ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ إجَارَةٌ بِالْأُجْرَةِ الْمُقَسَّطَةِ الْمُؤَبَّدَةِ الْمُدَّةِ كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَكِلَا الْقَائِلِينَ خَرَجَ فِي قَوْلِهِ عَنْ قِيَاسِ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهَا مُعَامَلَةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا ذَاتُ شَبَهٍ مِنْ الْبَيْعِ وَمِنْ الْإِجَارَةِ تُشْبِهُ فِي خُرُوجِهَا عَنْهُمَا الْمُصَالَحَةَ عَلَى مَنَافِعِ مَكَانِهِ لِلِاسْتِطْرَاقِ أَوْ إلْقَاءِ الزُّبَالَةِ أَوْ وَضْعِ الْجِذْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِعِوَضٍ نَاجِزٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الْعَيْنَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَسْتَأْجِرْهَا وَإِنَّمَا مَلَكَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ مُؤَبَّدَةً. وَكَذَلِكَ وَضْعُ الْخَرَاجِ لَوْ كَانَ إجَارَةً مَحْضَةً وَكَانَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ قَدْ تَرَكُوا الْأَرْضَ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَكْرُوهَا؛ لَكَانَ يَنْبَغِي إكْرَاءُ الْمَسَاكِنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لِلْمُسْلِمِينَ إذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً. وَلَكَانَ قَدْ ظَلَمَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ كِرَاءَ الْأَرْضِ يُسَاوِي أَضْعَافَ الْخَرَاجِ. وَلَكَانَ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ الْآخِذُ إلَّا مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ الشَّجَرِ الْقَائِمَةِ مِنْ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فِيهَا غِرَاسٌ. وَلَكَانَ دَفَعَهَا مُسَاقَاةً وَمُزَارَعَةً - كَمَا فَعَلَ الْمَنْصُورُ وَالْمَهْدِيُّ فِي أَرْضِ السَّوَادِ - أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَرْضِ خَيْبَرَ؛ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ إلَّا أَنَّ مُلَّاكَ خَيْبَرَ مُعَيَّنُونَ وَمُلَّاكَ أَرْضِ الْعَنْوَةِ الْعُمْرَى مُطْلَقُونَ وَإِلَّا فَيَجُوزُ كَذَلِكَ أَنْ يُؤَاجِرَ وَيَجُوزُ لَهُ فِي الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ أَنْ يُعَامَلَ مُسَاقَاةً وَمُزَارَعَةً.

ص: 205

وَأَمَّا بَيْعُهَا: فَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَاعَ الْمَسَاكِنَ أَيْضًا. وَلَا بَيْعَ يَكُونُ الثَّمَنُ مُؤَبَّدًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَالْمُسْتَخْرَجُ أَصْلٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَلَا يُقَاسُ بِغَيْرِهِ - فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {مَنَعَتْ الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا وَمَنَعَتْ الشَّامُ مُدَّهَا وَدِينَارَهَا وَمَنَعَتْ مِصْرُ إرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا} . وَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ مَعَ عُمَرَ عَلَى فِعْلِهِ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الْخَرَاجِ فِي قَوْلِهِ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} فَإِنَّ هَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ أَضَافَ الْقُرَى إلَيْهِمْ فَعُلِمَ اخْتِصَاصُهُمْ بِهَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ أَخَذَهُ ذِمِّيٌّ مِنْ الذِّمِّيِّ الْأَوَّلِ بِالْخَرَاجِ وَعَاوَضَهُ عَلَى ذَلِكَ عِوَضًا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ أَصْلًا فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ قِيلَ: إنَّهُ وَقْفٌ فَهَذَا لَا يُخْرِجُهُ بِهَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَقْفًا؛ بَلْ مُسْتَحَقُّ أَهْلِ الْوَقْفِ بَاقٍ كَمَا كَانَ وَبَيْعُ الْوَقْفِ إنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِإِزَالَةِ حَقِّ أَهْلِ الْوَقْفِ. وَهَذَا لَا يَزُولُ؛ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ إجَارَةِ أَرْضِ الْوَقْفِ بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: أكريتك هَذِهِ الْأَرْضَ بِمَا عَلَيَّ مِنْ الْخَرَاجِ وَبِالزِّيَادَةِ الَّتِي تُعَجِّلُهَا إلَيَّ؛ وَلِهَذَا يَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَةِ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ؛ وَالْوَقْفُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ فَإِذَا جَازَ انْتِقَالُهُ بِالْإِرْثِ عَلَى صِفَةِ مَا كَانَ - وَالْهِبَةُ مِثْلُهُ - فَكَذَلِكَ الْمُعَاوَضَةُ سَوَاءٌ سُمِّيَتْ بَيْعًا أَوْ إجَارَةً. وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَد إصْدَاقَ الْأَرْضِ الخراجية وَمَا جَازَ

ص: 206

أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا وَأُجْرَةً. وَمَا كَانَ ثَمَنًا كَانَ مُثَمَّنًا. فَهَذَا بَابٌ يَنْبَغِي تَأَمُّلُهُ. يَبْقَى إذَا أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ: هَلْ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّغَارِ أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ الْجِهَادِ بِالْحِرَاثَةِ. فَهَذِهِ مَوَاضِعُ أُخَرُ - غَيْرُ كَوْنِهِ وَقْفًا - تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ وَالْأَوْقَاتِ كَمَا {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ الْيَهُودَ عَلَى خَيْبَرَ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ يُعَمِّرُونَهَا} فَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الخراجية إذَا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ كَانَ اسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَيْهَا بِالْخَرَاجِ أَنْفَعَ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَبْقَوْا فُقَرَاءَ مَحَاوِيجَ وَالْكُفَّارُ يَسْتَغِلُّونَ الْأَرْضَ بِالْخَرَاجِ الْيَسِيرِ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا زَمَنَ عُمَرَ قَلِيلًا وَأَهْلُ الذِّمَّةِ كَثِيرًا. وَقَدْ يُعْكَسُ الْأَمْرُ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَامَلَهُمْ عَلَى خَيْبَرَ ثُمَّ عَمَّرَهَا الْمُسْلِمُونَ لَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَتَضَرَّرُوا بِبَقَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ فَكَانَ الْمَعْنَى ضَرَرَ الْمُسْلِمِينَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَاكْتِفَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُسْلِمِينَ. فَكَيْفَ إذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَى الْأَرْضِ الخراجية؛ وَتَضَرَّرُوا بِبَقَائِهَا فِي أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ فَرَأَى مَنْ احْتَاجَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَاوِضَ الذِّمِّيَّ عَنْهَا وَيَقُومَ مَقَامَهُ فِيهَا. فَإِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى أُجْرَةً فَهُوَ أَحَقُّ بِاسْتِئْجَارِ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ وَعِمَارَتِهَا وَإِنْ كَانَ ثَمَنًا فَهُوَ أَحَقُّ بِاشْتِرَائِهَا

ص: 207

وَإِنْ كَانَ عِوَضًا ثَالِثًا فَهُوَ بِهِ أَحَقُّ أَيْضًا. وَمَتَى كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَبْقَ صَغَارٌ وَلَا جِزْيَةٌ وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ صَغَارٌ وَجِزْيَةٌ فِي الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ الَّذِي هُوَ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تَبْقَى بِيَدِهِ مُؤَدِّيًا لِخَرَاجِهَا وَسَقَطَ عَنْهُ جِزْيَةُ جُمْجُمَتِهِ فَكَيْفَ يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا. وَإِذَا جَازَ أَنْ تَبْقَى بِيَدِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى مُسْلِمٍ غَيْرِهِ بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ وَالْمُسْلِمُ لَا صَغَارَ عَلَيْهِ بِحَالِ فَلَوْ كَانَ الْمَانِعُ كَوْنَهَا صَغَارًا لَمْ يُجَامِعْ الْإِسْلَامَ كَجِزْيَةِ الرَّأْسِ. وَلَا يُقَالُ: هِيَ كَالرِّقِّ تَمْنَعُهُ الْإِسْلَامَ ابْتِدَاءً وَلَا تَمْنَعُ دَوَامَهُ لِأَنَّ الرِّقَّ قَهَرْنَاهُمْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ لَمْ نعاوضهم عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ جِزْيَةُ الرَّأْسِ لَا نُمَكِّنُهُمْ مِنْ الْمُقَامِ بِالْأَرْضِ الْإِسْلَامِيَّةِ إلَّا بِهَا فَهِيَ نَوْعٌ مِنْ الرِّقِّ لِثُبُوتِهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْمُسْتَرَقِّ. وَأَمَّا الْخَرَاجُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِرِضَى الْمُخَارَجِ وَاخْتِيَارِهِ وَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ الْأَرْضَ مِنَّا لَمْ نَدْفَعْهَا إلَيْهِ؛ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ الَّتِي عَامَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَا أَهْلَ خَيْبَرَ سَوَاءٌ: هُنَاكَ كَانَ الْعِوَضُ جُزْءًا مِنْ الزَّرْعِ وَهُنَا الْعِوَضُ مُسَمًّى مَعْلُومٌ. وَهُنَاكَ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا إلَّا إذَا زَرَعُوا وَهُنَا يَسْتَحِقُّ إذَا أَمْكَنَهُمْ الزَّرْعُ. فَنَظِيرُهُ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمُزَارَعَةِ يُعَامِلُ غَيْرَهُ بِأَقَلَّ مِنْ الْجُزْءِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ؛ إذْ أَنَّ الْمَضَارِبَ يَدْفَعُ الْمَالَ مُضَارَبَةً لَكِنَّ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِ الْمَالِكِ لِتَعْيِينِ الْمُسْتَحِقِّ.

ص: 208

وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَوَانِعُ مِنْ كَوْنِهَا وَقْفًا يُنْظَرُ فِيهَا. أَمَّا جِهَةُ الْوَقْفِ فَلَا يَتَوَجَّهُ كَوْنُهَا مَانِعًا عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَبَدًا. وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِالِاشْتِغَالِ بِالْحِرَاثَةِ عَنْ الْجِهَادِ فَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الأرضين؛ عَشْرِيِّهَا وخراجيها وَذَاكَ شَيْءٌ آخَرُ.

فَصْلٌ:

وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَكَّةُ: فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا فَاسْتَقَرَّ مِلْكُ أَصْحَابِهَا عَلَيْهَا؛ لِيَجُوزَ لَهُمْ مَا يَجُوزُ فِي سَائِرِ أَرَاضِي الصُّلْحِ مِنْ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ: فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ؛ لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْإِمَامُ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ وَلَا خَرَاجٍ لَمْ يَجُزْ إلَّا لِلْحَاجَةِ " كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ". أَمَّا إذَا فَتَحْنَا الْأَرْضَ فَتْحَ صُلْحٍ وَأَهْلُهَا مُشْرِكُونَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ. فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ

ص: 209

لَمَّا حَجَّ أَبُو بَكْرٍ لِمَنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ أَجَلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَإِلَّا جَعَلَهُ مُحَارَبًا يَسْتَبِيحُ دَمَهُ وَمَالَهُ وَلَوْ كَانَ قَدْ فَتَحَهَا صُلْحًا لَمْ يَجُزْ نَقْضُ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ اسْتَبَاحَ قَتْلَ جَمَاعَةٍ سَمَّاهُمْ. . . (1) وَلَكِنْ فَتَحَهَا عَنْوَةً وَأَمَّنَ مَنْ تَرَكَ الْقِتَالَ مِنْهُمْ فَقَدْ أَمَّنَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ؛ إلَّا نَفَرًا اسْتَثْنَاهُمْ وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ بِهَذَا الْأَمَانِ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهُ فَانْعَقَدَ لَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ فَحَارَبَ أَوْ هَرَبَ. وَالْأَمَانُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَبُولِ الْمُؤَمَّنِ كَالْهُدْنَةِ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتْرُكْ الْقِتَالَ فَلَمْ يُؤَمِّنْهُ بِحَالِ؛ لَكِنْ خَصَّ وَعَمَّ فِي أَلْفَاظِ الْأَمَانِ. وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ. فَإِنَّ قَوْلَهُ: {مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ: وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ} كُلُّهَا أَلْفَاظٌ مَعْنَاهَا مَنْ اسْتَسْلَمَ فَلَمْ يُقَاتِلْ فَهُوَ آمِنٌ وَلِهَذَا سَمَّاهُمْ الطُّلَقَاءَ كَأَنَّهُ أَسَرَهُمْ ثُمَّ أَطْلَقَهُمْ كُلَّهُمْ. . . (2)

وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: لَمَّا فَتَحَهَا عَنْوَةً وَلَمْ يُقَسِّمْهَا بَلْ أَقَرَّهَا فِي يَدِ أَهْلِهَا صَارَ هَذَا أَصْلًا فِي أَرْضِ الْعَنْوَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ إقْرَارُهَا فِي يَدِ أَهْلِهَا. قَالُوا هُمْ وَأَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ فِي أَحَدِ التَّعْلِيلَيْنِ: وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا وَإِجَارَتُهَا؛ لِكَوْنِهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَلَمْ تُقَسَّمْ كَسَائِرِ أَرْضِ الْعَنْوَةِ وَرُبَّمَا يَقُولُونَ: صَارَ إنْزَالُ أَهْلِ مَكَّةَ لِلنَّاسِ عِنْدَهُمْ هُوَ الْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ

(1، 2) بياض بالأصل مقدار سطر

قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 223):

وهنا أمران:

الأول: أن وضع الجامع رحمه الله لكلمة [فقد أمنه] بين معقوفتين يدل على أنها من زيادته، والصواب حذفها، فإن الكلام مستقيم بدونها، مضطرب معها، والله أعلم.

والثاني: أنه قد وضع هنا سقط في موضعين، بمقدار سطر في كل موضع - كما أشار إليه الجامع رحمه الله؛ وهو في معرض الاستدلال على أن مكة فتحت عنوة، والسقط وقع في وجه الدلالة من دليلين:

أحدهما: استباحة قتل جماعة عام الفتح.

والثاني: تأمين من استسلم فلم يقاتل.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله هذين الدليلين في (زاد المعاد) 3/ 108 - 110، ووجه الدلالة منهما، وهذا نص - في هذين -، ومنه يفهم معنى السقط الحاصل:

1 -

(وَأَيْضًا فَإِنّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ مَقِيسِ بْنِ صُبَابَةَ، وَابْنِ خَطَلٍ، وَجَارِيَتَيْنِ وَلَوْ كَانَتْ فُتِحَتْ صُلْحًا، لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَكَانَ ذِكْرُ هَؤُلَاءِ مُسْتَثْنًى مِنْ عَقْدِ الصّلْحِ وَأَيْضًا فَفِي " السّنَنِ " بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ " أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكّةَ، قَالَ أَمّنُوا النّاسَ إلّا امْرَأَتَيْنِ، وَأَرْبَعَةَ نَفَرٍ. اُقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ").

2 -

(أَنّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطّ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ أَهْلَهَا زَمَنَ الْفَتْحِ وَلَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ صَالَحَهُ عَلَى الْبَلَدِ، وَإِنّمَا جَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ فَأَعْطَاهُ الْأَمَانَ لِمَنْ دَخَلَ دَارَهُ، أَوْ أَغْلَقَ بَابَهُ أَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَوْ أَلْقَى سِلَاحَهُ، وَلَوْ كَانَتْ قَدْ فُتِحَتْ صُلْحًا، لَمْ يَقُلْ مَنْ دَخَلَ دَارَهُ أَوْ أَغْلَقَ بَابَهُ أَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ فَإِنّ الصّلْحَ يَقْتَضِي الْأَمَانَ الْعَامّ).

ص: 210

عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّ الْخَرَاجَ يُضْرَبُ عَلَى مَزَارِعِهَا فَقَدْ عُلِمَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ فَسَادُ قَوْلِهِ مَعَ إجْرَائِهِ لِقِيَاسِهِ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ ضَعِيفٌ لِوُجُوهِ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ تَجُوزُ إجَارَتُهَا بِالْإِجْمَاعِ وَبُيُوتُ مَكَّةَ أَحْسَنُ مَا فِيهَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ إجَارَتُهَا بَلْ يَجِبُ بَذْلُهَا لِلْمُحْتَاجِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَهَذَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ وَالْقِيَاسُ. وَأَمَّا الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِهَا فَفِيهِ نَظَرٌ فَلَوْ كَانَ الْمَانِعُ كَوْنَ فَتْحِهَا عَنْوَةً لَمَا مَنَعَ إجَارَتَهَا. الثَّانِي: أَنَّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ إنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِ مَزَارِعِهَا. فَأَمَّا الْمَسَاكِنُ فَلَا يُمْنَعُ ذَلِكَ فِيهَا؛ بَلْ هِيَ لِأَصْحَابِهَا. وَمَكَّةُ إنَّمَا مُنِعُوا مِنْ الْمُعَاوَضَةِ فِي رَبَاعِهَا الَّتِي لَا مَنْعَ مِنْهَا فِي أَرْضِ الْعَنْوَةِ وَهَذَا بُرْهَانٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْفَرْقِ. الثَّالِثُ: أَنَّ مَزَارِعَ مَكَّةَ مَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا وَلَا غَيْرِهِمْ مَنَعَ بَيْعَهَا أَوْ إجَارَتَهَا وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الرُّبَاعِ وَهِيَ الْمَسَاكِنُ لَا الْمَزَارِعُ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا. الرَّابِعُ: أَنَّ تِلْكَ الدِّيَارَ كَانَتْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَقَدْ طَلَبُوا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إعَادَتَهَا إلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلْ فَلَوْ كَانَتْ كَسَائِرِ الْعَنْوَةِ

ص: 211

لَكَانَ قَدْ أَعَادَهَا إلَى أَصْحَابِهَا؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ إذَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْكُفَّارُ ثُمَّ اسْتَنْقَذْنَاهَا وَعُرِفَ صَاحِبُهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ أُعِيدَتْ إلَيْهِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتَعَرَّضْ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَا مَنْقُولِهَا وَلَا عَقَارِهَا وَلَا إلَى أَحَدٍ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ وَلَوْ أَجْرَى عَلَيْهَا أَحْكَامَ غَيْرِهَا مِنْ الْعَنْوَةِ لَغَنِمَ الْمَنْقُولَاتِ وَالذُّرِّيَّةَ؛ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ إجَارَتِهَا كَوْنُهَا أَرْضَ الْمَشَاعِرِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِي اسْتِحْقَاقِ الِانْتِفَاعِ بِهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} . فَالسَّاكِنُونَ بِهَا أَحَقُّ بِمَا احْتَاجُوا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ سَبَقُوا إلَى الْمُبَاحِ. كَمَنْ سَبَقَ إلَى مُبَاحٍ مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ طَرِيقٍ أَوْ سُوقٍ وَأَمَّا الْفَاضِلُ فَعَلَيْهِمْ بَذْلُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا بِهَذَا الشَّرْطِ؛ لَكِنَّ الْعَرْصَةَ مُشْتَرَكَةٌ فِي الْأَصْلِ. وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَنَى بَيْتًا مِنْ رِبَاطٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ: لَهُ اخْتِصَاصٌ بِسُكْنِهِ وَلَيْسَ لَهُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ. أَوْ مَنْ بَنَى بَيْتًا فِي جنابات السَّبِيلِ أَوْ فِي دَارِ الرِّبَاطِ الَّتِي تَكُونُ بِالثُّغُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَكُونُ الْأَرْضُ فِيهِ مُشْتَرَكَةَ الْمَنْفَعَةِ لِلْحَجِّ أَوْ لِلْجِهَادِ أَوْ لِلْمُرُورِ فِي الطُّرُقَاتِ أَوْ التَّعَلُّمِ؛ أَوْ التَّعَبُّدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِذَا قَالَ: الْبِنَاءُ لِي قِيلَ لَهُ: وَالْعَرْصَةُ لَيْسَتْ لَك وَأَعْيَانُ الْحَجَرِ لَيْسَ لَك؛ بَلْ لَك

ص: 212

التَّأْلِيفُ أَوْ التَّأْلِيفُ وَالْأَنْقَاضُ. فَمَا لَيْسَ لَك لَا يَجُوزُ أَنْ تُعَاوِضَ عَنْهُ وَمَا هُوَ لَك قَدْ اعتضت عَنْهُ بِبَقَائِك فِي الِانْتِفَاعِ بِالْعَرْصَةِ. أَوْ لِأَنَّ الْمَكِّيَّ لَمَّا صَارَ النَّاسُ يَهْدُونَ إلَيْهِمْ الْهَدَايَا وَتَجِبُ عَلَيْهِمْ قِسْمَتُهَا فِيهِمْ صَارَ يَجِبُ عَلَى الْمَكِّيِّينَ إنْزَالُ النَّاسِ فِي مَنَازِلِهِمْ مُقَابَلَةً لِلْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ فَصَاحِبُ الْهَدْيِ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ - مَثَلًا - حَيْثُ يَجُوزُ وَيُعْطِيَ مَنْ شَاءَ وَلَا يَعْتَاضَ عَنْهُ وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ يَسْكُنُهُ وَيُسْكِنُهُ وَلَا يَعْتَاضُ عَنْهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَدْ يَكُونُ هُوَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِإِبْقَائِهَا بِيَدِ أَرْبَابِهَا مِنْ غَيْرِ خَرَاجٍ مَضْرُوبٍ عَلَيْهِمْ أَصْلًا؛ لِأَنَّ لِلْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ حَقًّا وَعَلَيْهِمْ حَقٌّ؛ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْصَارِ وَمِنْ هُنَا يَصِيرُ التَّعْلِيلُ بِفَتْحِهَا عَنْوَةً مُنَاسِبًا لِمَنْعِ إجَارَتِهَا - كَمَا ذَكَرْنَاهُ - لَا إلْحَاقًا لَهَا بِسَائِرِ أَرْضِ الْعَنْوَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْأَرْضُ إذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً يَجُوزُ أَمَانُ أَهْلِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَذَلِكَ. قِيلَ: نَعَمْ يَجُوزُ قَبْلَ الِاسْتِيلَاءِ أَنْ يُؤَمَّنَ مَنْ تَرَكَ الْقِتَالَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِتَرْكِ قِتَالِهِ وَهُوَ أَمَانٌ بِشَرْطِ؛ بَلْ إذَا جَوَّزْنَا السَّبْيَ عَلَى الْأَسِيرِ بَعْدَ الْأَسْرِ لِلْمَصْلَحَةِ كَيْفَ لَا نُجَوِّزُ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَسْرِ.

ص: 213

وَهُنَا زِيَادَةُ الْأَمَانِ عَلَى مَالِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ الِاسْتِيلَاءِ كَمَا لَوْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ فَإِنَّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْحُكْمِ عَصَمَ دَمَهُ وَمَالَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الْقَهْرُ. فَإِنَّ دُخُولَهُ مَكَّةَ؛ كَانَ قَبْلَ الظُّهْرِ وَدَخَلَهَا قَهْرًا. وَبِهَذَا التَّحْرِيرِ تَظْهَرُ الشُّبْهَةُ الَّتِي أَوْجَبَتْ كُلًّا مِنْ الْقَوْلَيْنِ. وَأَمَّا بَعْدَ الْقَهْرِ فَيَجُوزُ أَنْ يَمُنَّ عَلَى الْمَقْهُورِينَ وَتُدْفَعَ إلَيْهِمْ الْأَرْضُ مُخَارَجَةً فَاَلَّذِينَ حَارَبُوا بِمَكَّةَ أَوْ هَرَبُوا ثُمَّ أَمَّنَهُمْ بَعْدَ قَهْرِهِمْ وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِمْ هَذَا جَائِزٌ فِي أَنْفُسِهِمْ كَالْمَنِّ وَلِهَذَا سَمَّاهُمْ الطُّلَقَاءَ وَأَمَّا فِي أَمْوَالِهِمْ فَالْأَرْضُ قَدْ ذَكَرْت سَبَبَ ذَلِكَ فِيهَا. وَأَمَّا الْمَنْقُولُ وَالذُّرِّيَّةُ. . . (1).

وَسُئِلَ:

عَنْ مُقْطِعٍ لَهُ مَاءٌ دَاخِلُ إقْطَاعِهِ. وَيَقْصِدُ بَيْعَهُ لِمُقْطِعِ آخَرَ وَإِجْرَاءَهُ فِي بَلَدِهِ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَاءَ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَبِيعَ الْمَاءَ الدَّاخِلَ فِي إقْطَاعِهِ وَيُجْرِيَهُ فِي بَلَدِ الْمُشْتَرِي؟.

فَأَجَابَ:

إذَا كَانَ الْمَاءُ مَحْبُوسًا عَلَيْهِ فِي الْإِقْطَاعِ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ بِمَائِهَا مَحْبُوسَةً عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَبِدُونِ تَحْبِيسٍ عَلَيْهِ بِخَمْسِمِائَةِ

(1)

بياض بالأصل

ص: 214

دِرْهَمٍ وَهُوَ يُرِيدُ تَعْطِيلَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الزَّرْعِ وَبَيْعَهُ لِغَيْرِهِ؛ يَسْقِي بِهِ فِي أَرْضِهِ فَإِنَّ هَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ بِخِلَافِ الْمَاءِ الَّذِي يَجْرِي فِي مِلْكِهِ بِلَا عِوَضٍ مِثْلَ أَنْ يُحْيِيَ أَرْضًا وَفِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ. فَإِنَّ فِي جَوَازِ بَيْعِ مِثْلِ هَذَا الْمَاءِ قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد: إحْدَاهُمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ. وَالثَّانِيَةُ لَا يَجُوزُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد. وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ بِالْأَرْضِ الْمُبَاحَةِ وَالْكَلَأِ الَّذِي يَكُونُ بِهَا فَهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ لَهُ عَيْنُ مَاءٍ جَارِيَةٌ إذَا بَاعَ مِنْهَا أُصْبُعَ مَاءٍ أَوْ نَحْوَهُ هَلْ يَجُوزُ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَرْئِيٍّ بَلْ يَنْبُعُ شَيْئًا فَشَيْئًا؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا مَنْ يَمْلِكُ مَاءً نَابِعًا مِثْلَ أَنْ يَمْلِكَ بِئْرًا مَحْفُورَةً. فِي مِلْكِهِ - وَيَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْبِئْرِ: مَا يُنْصَبُ عَلَيْهِ الدُّولَابُ وَمَا لَا يُنْصَبُ أَوْ يَمْلِكُ عَيْنَ مَاءٍ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ - فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْبِئْرَ

ص: 215

وَالْعَيْنَ جَمِيعًا وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ بَعْضَهَا مُشَاعًا عَلَى أُصْبُعٍ وَأُصْبُعَيْنِ - مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ - كَمَا يُبَاعُ مَعَ الْبُسْتَانِ وَالدَّارُ مَا لَهُ مِنْ الْمَاءِ مِثْلُ أُصْبُعٍ وَأَصَابِعَ: مِنْ قَنَاةِ كَذَا وَإِنْ كَانَ أَصْلُ تِلْكَ الْقَنَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمِيَاهَ فَكَيْفَ إذَا كَانَ أَصْلُ الْمَاءِ فِي مِلْكِهِ فَهَذَا مِمَّا لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا. وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ تَنْبُعُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمَبِيعِ أَنْ يَرَى جَمِيعَ الْمَبِيعِ؛ بَلْ يَرَى مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِرُؤْيَتِهِ. وَأَمَّا مَا يَتَجَدَّدُ: مِثْلُ الْمَنَافِعِ وَنَقْعِ الْبِئْرِ فَهَذَا لَا يَشْتَرِطُ أَحَدٌ رُؤْيَتَهُ لَا فِي بَيْعٍ وَلَا إجَارَةٍ. وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ لَوْ بَاعَ الْمَاءَ بِدُونِ الْقَرَارِ هَلْ يَصِحُّ بَيْعُهُ لِكَوْنِهِ يَمْلِكُ أَوْ لَا يَصِحُّ لِكَوْنِهِ لَا يَمْلِكُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهُوَ مَنْصُوصٌ لِلشَّافِعِيِّ؛ بَلْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ مَمْلُوكٌ. وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا بَاعَ الْأَرْضَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَاءَ: هَلْ يَدْخُلُ أَمْ لَا؟ وَأَمَّا بَيْعُ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ بِكَمَالِهَا أَوْ بَيْعُ جُزْءٍ مِنْهَا: فَمَا عَلِمْت فِيهِ تَنَازُعًا إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً. وَقَدْ {نَدِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى شِرَاءِ بِئْرِ رُومَةَ مِنْ مَالِكِهَا الْيَهُودِيِّ فَاشْتَرَى عُثْمَانُ بْنُ عفان

ص: 216

نِصْفَهَا وَحَبَسَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ دَلْوُهُ مِنْهَا كَدَلْوِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَمَّا رَأَى الْيَهُودِيُّ ذَلِكَ بَاعَهُ النِّصْفَ الْآخَرَ فَاشْتَرَاهُ عُثْمَانُ وَجَعَلَ الْبِئْرَ كُلَّهَا حَبْسًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ} . وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى عِدَّةِ مَسَائِلَ؛ مِثْلَ وَقْفِ الْمُشَاعِ وَتَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. هَلْ فِيهِ شُفْعَةٌ؟ فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ فِيهِ الشُّفْعَةَ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَالْأَظْهَرُ وُجُوبُ الشُّفْعَةِ فِي ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ ذَلِكَ وَجَوَازُ هِبَةِ ذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلَيْنِ لَهُمَا إقْطَاعٌ فِي بَلَدٍ فَاخْتَصَمَا فِي بَيْعِ النَّبَاتِ الَّذِي يَطْلُعُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَزَعَمَ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِثْلُ النَّبَاتِ الْبَرِّيِّ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مَا هُوَ مِلْكُهُ. فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: بَلْ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ أَقْطَعَهُ لِي فَهُوَ مِلْكِي وَيَجُوزُ لِي أَنْ أَبِيعَ كُلَّ مَا فِي حِصَّتِي وَفِي قُرْعَتِي. هَلْ

ص: 217

هُمَا مُصِيبَانِ؟ أَمْ مُخْطِئَانِ؟ وَمَا مَذَاهِبُ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا النَّبَاتُ الَّذِي يَنْبُتُ بِغَيْرِ فِعْلِ الْآدَمِيِّ كَالْكَلَأِ الَّذِي أَنْبَتَهُ اللَّهُ فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ أَوْ فِيمَا اسْتَأْجَرَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:{النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرُدَّ مَا يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ الْمُبَاحَةِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَشْتَرِكُونَ فِي كُلِّ مَا يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ الْمُبَاحَةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ: مِنْ الْمَعَادِنِ الْجَارِيَةِ؛ كَالْقِيرِ وَالنِّفْطِ. وَالْجَامِدَةِ: كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمِلْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ مَا يَنْبُتُ فِي أَرْضِ الْإِنْسَانِ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ الْيَوْمَ أَمْنَعُك فَضْلِي كَمَا مَنَعْت فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْهُ يَدَاك وَرَجُلٌ بَايَعَ إمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إلَّا لِلدُّنْيَا إنْ أَعْطَاهُ رَضِيَ وَإِنْ مَنَعَهُ سَخِطَ وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ كَاذِبًا لَقَدْ أُعْطَى بِهَا أَكْثَرُ مِمَّا

ص: 218

أُعْطَى} . فَهَذَا تَوَعَّدَهُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ؛ لِكَوْنِهِ مَنَعَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاهُ وَالْكَلَأُ الَّذِي يَنْبُتُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ لَمْ تَعْمَلْهُ يَدَاهُ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ بَيْعِ ذَلِكَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْأَرْضِ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ صَاحِبِهَا بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فَأَمَّا الْأَرْضُ الْبُورُ الَّتِي لَا يَحْرُثُهَا فَلِأَصْحَابِهِ فِيهَا نِزَاعٌ جَوَّزَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَمَنَعَهُ غَيْرُهُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ صَاحِبُهَا قَصَدَ تَرْكَ زَرْعِهَا لِيَنْبُتَ فِيهَا الْكَلَأُ فَبَيْعُ هَذَا أَسْهَلُ مِنْ بَيْعِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِنْبَاتِهِ.

وَقَالَ فِي جَوَابٍ لَهُ أَيْضًا:

وَأَمَّا قَوْلُهُ: ‌

{النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءُ وَالْكَلَأُ وَالنَّارُ}

. فَهُوَ حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَلَأَ النَّابِتَ فِي الْأَرْضِ الْمُبَاحَةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّاسِ فَمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَأَمَّا النَّابِتُ فِي الْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ. وَأَكْثَرُهُمْ يُجَوِّزُونَ أَخْذَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَيُجَوِّزُونَ رَعْيَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ.

ص: 219

وَكَذَلِكَ الْمَاءُ إنْ كَانَ نَابِعًا فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ نَابِعًا فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَعَلَيْهِ بَذْلُ فَضْلِهِ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلشُّرْبِ لِلْآدَمِيِّينَ وَالدَّوَابِّ بِلَا عِوَضٍ؛ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ، يَقُولُ اللَّهُ لَهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُك فَضْلِي كَمَا مَنَعْت فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاك وَرَجُلٌ بَايَعَ إمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إلَّا لِلدُّنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ وَإِنْ مَنَعَهُ مِنْهَا سَخِطَ وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَقَدْ أُعْطِيت بِهَا كَذَا وَكَذَا} الْحَدِيثَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ قَوْمٍ يَنْقُلُونَ النَّحْلَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ

فَهَلْ يَحِلُّ لِأَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُمْ أُجْرَةَ مَا جَنَتْهُ النَّحْلُ عِنْدَهُمْ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا حَقَّ عَلَى أَهْلِ النَّحْلِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ الَّتِي يُجْنَى مِنْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ مِنْ مِلْكِهِمْ شَيْئًا؛ وَلَكِنَّ الْعَسَلَ مِنْ الطُّلُولِ الَّتِي هِيَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ وَعَلَى صَاحِبِ النَّحْلِ الْعُشْرُ يَصْرِفُهُ إلَى

ص: 220

مُسْتَحِقِّهِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ لِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ. وَهَذِهِ الطُّلُولُ يَجْمَعُهَا أَحَقُّ بِالْبَذْلِ مِنْ الْكَلَأِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الطُّلُولَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْمَعَهَا إلَّا النَّحْلُ؛ لَكِنْ إذَا كَانَتْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَنَحْلُهُ أَحَقُّ بِالْجِنَاءِ فِي أَرْضِهِ. فَإِذَا كَانَ جَنَى تِلْكَ النَّحْلَ تَضْرِبُهُ فَلَهُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ امْرَأَةٍ لَهَا مِلْكٌ غَائِبٌ عَنْهَا وَلَمْ تَرَهُ وَعَلِمَتْهُ بِالصِّفَةِ ثُمَّ بَاعَتْهُ لِمَنْ رَآهُ فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا عَلِمَتْهُ بِالصِّفَةِ صَحَّ بَيْعُهَا: وَكَذَلِكَ لَوْ رَآهُ وَكِيلُهَا فِي الْبَيْعِ صَحَّ الْبَيْعُ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ تَرَهُ وَلَا وَصْفَ لَهَا.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ يَحْتَاجُ لِقَرْضِ؛ وَكَانَ عِنْدَ شَخْصٍ فُولٌ فَتَبَايَعَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي وَكَتَبَ الْحُجَّةَ ثُمَّ وَجَدَهُ مُسَوَّسًا؟ .

ص: 221

فَأَجَابَ: إذَا لَمْ يَرَ الْمَبِيعَ وَلَمْ يُوصَفْ لَهُ: فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَعَلَيْهِ رَدُّهُ بِمِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ رُوحَهُ؟ وَلَهُ عَائِلَةٌ. هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا الْبَيْعُ الشَّرْعِيُّ: فَالْحُرُّ الْمُسْلِمُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ وَلَكِنْ إذَا انْضَمَّ إلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ أَوْ الْأُمَرَاءِ مُتَسَمِّيًا بِاسْمِ مَمْلُوكِهِ وَذَلِكَ الْمَلِكُ أَوْ الْأَمِيرُ يَجْعَلُهُ مِنْ مَمَالِيكِهِ الَّذِينَ يُعْتِقُهُمْ لَا يَتَمَلَّكُهُ تَمَلُّكَ الْأَرِقَّاءِ فَهَذَا شِبْهُ مِلْكِ السَّيِّدِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا الَّذِي يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ إنَّمَا هُوَ بَيْعٌ عَادِيٌّ وَإِطْلَاقٌ عَادِيٌّ إذْ أَكْثَرُ الْمَمَالِيكِ مِلْكٌ لِبَيْتِ الْمَالِ وَوَلَاؤُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ؛ وَلَكِنَّ مَنْ غَلَبَ أُضِيفُوا إلَيْهِ كَمَا تُضَافُ إلَيْهِ الْأَمْوَالُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَا بَأْسَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَنْضَافَ إلَى مَنْ يُعْطِيهِ حَقَّهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا أُضِيفَ إلَى غَيْرِهِ وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَلَا يُطِيعُوا أَحَدًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَالْمِلْكُ يُشْبِهُ الْمِلْكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 222

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ مَمْلُوكٍ لِشَخْصٍ مُسْلِمٍ مُقِيمٍ فِي بِلَادِ التتر ثُمَّ إنَّ الْمَمْلُوكَ هَرَبَ مِنْ عِنْدِ أُسْتَاذِهِ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ وَجَاءَ إلَى بِلَادِ الشَّامِ وَهُوَ فِي الرِّقِّ وَالْآنَ الْمَمْلُوكُ يَخْتَارُ الْبَيْعَ. فَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبِيعَهُ لِيَحْفَظَ ثَمَنَهُ لِأُسْتَاذِهِ وَيُوَصِّلَ ذَلِكَ إلَيْهِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

نَعَمْ، يَجُوزُ إذَا كَانَ فِي رُجُوعِهِ إلَى تِلْكَ الْبِلَادِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ؛ فَإِنَّهُ يُبَاعُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ بِدُونِ إذْنِ أُسْتَاذِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ شَخْصٍ مِنْ الْكُفَّارِ فِي بِلَادِ الْكُفَّارِ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بَاعَ نَفْسَهُ لِشَخْصٍ مُسْلِمٍ وَقَبَضَ الثَّمَنَ وَأَوْفَى بِهِ دَيْنَهُ وَبَاعَ ابْنَتَهُ أَيْضًا وَرَضُوا بِالرِّقِّ وَخَسِرَ عَلَيْهِمْ التَّاجِرُ الْمُسْلِمُ كُلْفَةَ الطَّرِيقِ وَالنَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ حَتَّى وَصَلُوا إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ. فَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ وَشِرَاؤُهُمْ؟

ص: 223

فَأَجَابَ:

إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَاشْتَرَى مِنْهُمْ أَوْلَادَهُمْ وَخَرَجَ بِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَانُوا مِلْكًا لَهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْهُ وَيَسْتَحِقَّ عَلَى الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ. وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ الْحَرْبِيُّ نَفْسَهُ لِلْمُسْلِمِ وَخَرَجَ بِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِلْكَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ بَلْ لَوْ أَعْطَوْهُ أَوْلَادَهُمْ بِغَيْرِ ثَمَنٍ وَخَرَجَ بِهِمْ مَلِكُهُمْ فَكَيْفَ إذَا بَاعُوهُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ أَنْفُسَهُمْ أَوْ أَوْلَادَهُمْ أَوْ قَهَرَهُمْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ؛ فَإِنَّ نُفُوسَ الْكُفَّارِ الْمُحَارَبِينَ وَأَمْوَالَهُمْ مُبَاحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ مَلَكُوهَا. وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي إذَا كَانَ مُسْتَأْمَنًا: فَهَلْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُمْ أَوْلَادَهُمْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْهُمْ حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ مَنْصُوصَةٍ عَنْهُ: أَنَّهُ إذَا هَادَنَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ بَلَدٍ وَسَبَاهُمْ مَنْ بَاعَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ جَازَ الشِّرَاءُ مِنْهُ وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَكَذَلِكَ لَوْ قَهَرَ أَهْلُ الْحَرْبِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَوْ وَهَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا

ص: 224

أَوْ اشْتَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَوْ سَرَقَهُمْ وَبَاعَهُمْ أَوْ وَهَبَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ تَمْلِكُوهُمْ كَمَا يَمْلِكُهُمْ الْمُسْلِمُونَ إذَا مَلَكُوهُمْ بِالْقَهْرِ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَقَامَ فِي خِدْمَتِهِ مُدَّةَ سِنِينَ ثُمَّ قَصَدَ الْمَوْلَى بَيْعَهُ فَادَّعَى أَنَّهُ حُرٌّ وَكَانَ حَالُ الْبَيْعِ اعْتَرَفَ بِالرِّقِّ. فَهَلْ يَجِبُ أَخْذُ ثَمَنِهِ مِنْ الَّذِي بَاعَهُ؟ وَهَلْ يُعْتَقُ عَلَى مَوْلَاهُ؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا فَإِنَّهُ يَجِبُ تَغْرِيمُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ وَتَغْرِيرُهُ؛ لِكَوْنِهِ أَقَرَّ لَهُ بِالرِّقِّ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ مِنْ الَّذِي قَبَضَهُ مِنْهُ وَلَهُ أَنْ يَطْلُبَهُ مِنْ هَذَا الْآخِذِ الَّذِي غَرَّهُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ بَيْعِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْبُنْدُقِ وَالْفُسْتُقِ وَالْفُولِ وَالْحِمَّصِ ذَوَاتِ الْقُشُورِ: هَلْ يَصِحُّ بَيْعُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؟ وَهَلْ يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِهِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ بِالْمُعَاقَدَةِ؟ وَاللِّفْتُ وَالْجَوْزُ وَالْقُلْقَاسُ هَلْ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ مُغَيَّبٌ أَمْ لَا؟

ص: 225

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يُجَوِّزُ هَذِهِ الْبُيُوعَ؛ لَكِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّحِيحُ. أَمَّا الْأَوْلَى فَمَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ - مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ - وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ؛ فَإِنَّهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ اشْتَرَى الباقلا الْأَخْضَرَ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ. وَقَدْ {نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ وَعَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْحَبِّ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ وَإِنْ كَانَ فِي سُنْبُلِهِ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَمْنَعُ بَيْعَ الباقلا فِي قِشْرِهِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا عَدَّ الطرسوسي وَغَيْرُهُ الْمَنْعَ مِنْ بَيْعِ الباقلا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ مَنَعَ ذَلِكَ. وَحُجَّةُ الْمَانِعِ:{نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ} فَظَنُّوا أَنَّ هَذَا مَجْهُولٌ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ تُعْرَفُ كَمَا يُعْرَفُ غَيْرُهَا مِنْ الْمَبِيعَاتِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهَا عَلَى جَمِيعِهَا. وَكَذَلِكَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْعُقُودِ مِنْ الصِّيَغِ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُعَاطَاةِ لَكِنَّ الْجُمْهُورَ يُخَالِفُونَ هَذَا. فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْمُعَاطَاةِ فِي الْقَلِيلِ

ص: 226

وَالْكَثِيرِ وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ تَجْوِيزُ ذَلِكَ فِي الْمُحَقَّرَاتِ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَأَيْضًا إنَّ الْعُقُودَ يُرْجَعُ فِيهَا إلَى عُرْفِ النَّاسِ. فَمَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا أَوْ إجَارَةً أَوْ هِبَةً: كَانَ بَيْعًا وَإِجَارَةً وَهِبَةً؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ. وَكُلُّ اسْمٍ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ فَإِنَّهُ يُرْجَعُ فِي حَدِّهِ إلَى الْعُرْفِ. وَأَمَّا بَيْعُ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَاللِّفْتِ وَالْقُلْقَاسِ: فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَعْرُوفِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا فَإِنَّ أَهْلَ الْخِبْرَةِ إذَا رَأَوْا مَا ظَهَرَ مِنْهَا مِنْ الْوَرَقِ وَغَيْرِهِ دَلَّهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَائِرِهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّاسَ مُحْتَاجُونَ إلَى هَذِهِ الْبُيُوعِ وَالشَّارِعُ لَا يُحَرِّمُ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ مِنْ الْبَيْعِ لِأَجْلِ نَوْعٍ مِنْ الْغَرَرِ؛ بَلْ يُبِيحُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ كَمَا أَبَاحَ بَيْعَ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُبْقَاةً إلَى الْجُذَاذِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمَبِيعِ لَمْ يُخْلَقْ وَكَمَا أَبَاحَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِي ثَمَرَةَ النَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ وَذَلِكَ اشْتِرَاءٌ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا؛ لَكِنَّهُ تَابِعٌ لِلشَّجَرَةِ وَأَبَاحَ بَيْعَ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا. فَأَقَامَ التَّقْدِيرَ بِالْخَرْصِ مَقَامَ التَّقْدِيرِ بِالْكَيْلِ

ص: 227

عِنْدَ الْحَاجَةِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الرِّبَا الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ - وَهَذِهِ " قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ " وَهُوَ تَحْصِيلُ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَدَفْعُ أَعْظَمِ الفسادين بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا - وَبَيْعُ مَا يَكُونُ قِشْرُهُ صَوْنًا لَهُ كَالْعِنَبِ وَالرُّمَّانِ وَالْمَوْزِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ سِتَّةً وَعِشْرِينَ فَدَّانَ قُلْقَاسٍ بِتِسْعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَأَمْضَى لَهُ الْبَيْعَ فِي ذَلِكَ فَقَلَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْقُلْقَاسِ الْمَذْكُورِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ زَادَ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَبِلَ الزِّيَادَةَ وَطَرَدَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلَ ثُمَّ زَادَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي خَمْسِمِائَةٍ وَتَسَلَّمَ الْقُلْقَاسَ وَقَلَعَ مِنْهُ مَرْكَبًا وَبَاعَهَا وَأَوْرَدَ لَهُ ثَمَنَهَا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ زَادَ عَلَيْهِ فَطَرَدَهُ وَكَتَبَ الْقُلْقَاسَ عَلَى الَّذِي زَادَ عَلَيْهِ: فَهَلْ يَصِحُّ شِرَاءُ الْأَوَّلِ؟ أَوْ الثَّانِي؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ الْبَائِعُ غَيْرُ جَائِزٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ؛ فَإِنَّ بَيْعَ الْقُلْقَاسِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَاللِّفْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. إمَّا أَنْ يَكُونَ جَائِزًا عَلَى أَحَدِ

ص: 228

قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمَا. وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ جَائِزًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَد. فَإِنْ كَانَ جَائِزًا كَانَ الْبَيْعُ الثَّانِي حَرَامًا مَعَ الْأَوَّلِ وَهَذَا الْبَائِعُ لَمْ يَتْرُكْ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ لِكَوْنِهِ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ؛ لَكِنْ لِأَجْلِ بَيْعِهِ لِلثَّانِي وَمِثْلُ هَذَا حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ بَيْعَ الْقُلْقَاسِ جَائِزٌ وَلَا يَحِلُّ قَبُولُ الزِّيَادَةِ فَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ بَاطِلٌ قَالَ: لَيْسَ لِلْبَائِعِ إلَّا ثَمَنُ الْمِثْلِ فِيمَا أُخِذَ مِنْهُ أَوْ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الْمِثْلِ.

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ هَاجَرَ مِنْ بَلَدِ التتر وَلَمْ يَجِدْ مَرْكُوبًا فَاشْتَرَى مِنْ التتر مَا يَرْكَبُ بِهِ: فَهَلْ عَلَيْهِ الثَّمَنُ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ؟ .

فَأَجَابَ:

نَعَمْ إذَا اشْتَرَى مِنْهُمْ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الثَّمَنَ لِمَنْ بَاعَهُ وَإِنْ كَانَ تتريا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 229

وَسُئِلَ:

عَنْ تَاجِرٍ رَسَمَ لَهُ بِتَوْقِيعِ سُلْطَانِيٍّ بِالْمُسَامَحَةِ بِأَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى مَتْجَرِهِ فَتَاجَرَ سَفْرَةً فَبَاعَ التَّوْقِيعَ الَّذِي بِيَدِهِ لِتَاجِرٍ آخَرَ؛ لِأَجْلِ الْإِطْلَاقِ الَّذِي فِيهِ. فَهَلْ يَصِحُّ بَيْعُ مَا فِي التَّوْقِيعِ؟ ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلتَّوْقِيعِ بَطَلَ سَفَرُهُ وَلَمْ يَنْتَفِعْ فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الثَّمَنِ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذَا الْبَيْعُ لَيْسَ مَقْصُودُهُ بَيْعَ الْوَرَقَةِ؛ فَإِنَّ قِيمَتَهَا يَسِيرَةٌ؛ بَلْ لَا تُقْصَدُ بِالْبَيْعِ أَصْلًا؛ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنَّ الْوَظِيفَةَ الَّتِي كَانَ يَأْخُذُهَا نُوَّابُ السُّلْطَانِ تَسْقُطُ عَنْهُ الْحُقُوقُ وَيَأْخُذُ هَذَا الْبَائِعُ بَعْضَهَا أَوْ عِوَضَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ كَانَتْ تَسْقُطُ عَنْهُ. وَهَذَا يُشْبِهُ مَا يُطْلَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ إطْلَاقًا لِمَنْ وَفَدَ عَلَى السُّلْطَانِ أَوْ خَرَّجَ بَرِيدًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَهَذَا إنَّمَا يُعْطَاهُ إذَا عَمِلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ فَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ وَلَا عِوَضُهُ لَمْ يُعْطِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا كَانَ هَذَا لِلْعَارِضِ لَا هُوَ وَلَا صَاحِبُ التَّوْقِيعِ لَمْ يُطْلَقْ لَهُ شَيْءٌ. وَحِينَئِذٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُشْتَرِي شَيْئًا وَلَيْسَ مَا

ص: 230

ذُكِرَ لَازِمًا حَتَّى يَجِبَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ؛ بَلْ غَايَتُهُ إنْ قِيلَ بِالْجَوَازِ كَانَ جَائِزًا وَالْحَالَةُ هَذِهِ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ بَاعَ سِلْعَةً مِثْلَ مَا يَبِيعُ النَّاسُ ثُمَّ بَعْدُ طُلِبَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَالسِّلْعَةُ تَالِفَةٌ وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ. فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِمِثْلِهَا مَعَ وُجُودِ الْمِثْلِ؟ .

فَأَجَابَ:

لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى السِّعْرِ الْوَاقِعِ وَقْتَ الْقَبْضِ وَهُوَ ثَمَنُ الْمِثْلِ؛ لَكِنْ يُطْلَبُ سِعْرُ الْوَقْتِ وَهُوَ قِيمَةُ الْمِثْلِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ فِي صِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: يَصِحُّ كَمَا يَصِحُّ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ إذَا دَفَعَ الطَّعَامَ إلَى مَنْ يَطْبُخُ بِالْأُجْرَةِ وَإِذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ أَوْ رَكِبَ السَّفِينَةَ. فَعَلَى هَذَا الْعَقْدِ صَحِيحٌ وَالْوَاجِبُ الْمُسَمَّى. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْعَقْدَ فَاسِدٌ فَيَكُونُ مَقْبُوضًا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ يُضَمَّنُ بِالْمِثْلِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَإِلَّا بِالْقِيمَةِ كَمَا يُضْمَنُ الْمَغْصُوبُ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ كَالشَّافِعِيَّةِ لَكِنْ هُنَا قَدْ تَرَاضَوْا

ص: 231

بِالْبَدَلِ الَّذِي هُوَ الْقِيمَةُ كَمَا تَرَاضَوْا فِي مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ. وَنَظِيرُهُ أَنْ يَصْطَلِحَا حَيْثُ يَجِبُ الْمِثْلُ أَوْ الْقِيمَةُ عَلَى شَيْءٍ مُسَمًّى فَيَجِبُ ذَلِكَ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا. وَنَظِيرُ هَذَا: قَوْلُ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي الْمُشَارَكَةِ الْفَاسِدَةِ. يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْحِلِّ وَعَدَمِهِ لَا فِي تَعْيِينِ مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ كَمَا لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الضَّمَانِ؛ بَلْ مَا ضُمِّنَ بِالصَّحِيحِ ضُمِّنَ بِالْفَاسِدِ وَمَا لَا يُضَمَّنُ بِالصَّحِيحِ لَا يُضَمَّنُ بِالْفَاسِدِ فَإِذَا اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الضَّمَانِ. فَكَذَلِكَ فِي قَدْرِهِ. وَهَذِهِ نُكْتَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ أَخَذَ سَنَةَ الْغَلَاءِ غَلَّةً وَقَالَ لَهُ: قَاطِعْنِي فِيهَا قَالَ لَهُ: حَتَّى يَسْتَقِرَّ السِّعْرُ وَصَبَرَ أَشْهُرًا وَحَضَرَ فَأَخَذَ حَظَّهُ بِمِائَةِ وَخَمْسِينَ إرْدَبًّا فَهَلْ لَهُ ثَمَنٌ أَوْ غَلَّةٌ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، الصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ لَهُ مَا تَرَاضَيَا وَهُوَ الْمِائَةُ وَالْخَمْسُونَ. سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّ الْوَاجِبَ كَانَ أَوَّلًا هُوَ السِّعْرُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد أَنَّ الْبَيْعَ بِالسِّعْرِ صَحِيحٌ. أَوْ قِيلَ: إنَّ الْبَيْعَ كَانَ بَاطِلًا وَأَنَّ الْوَاجِبَ رَدَّ الْبَدَلَ فَإِنَّهُمَا إذَا اصْطَلَحَا

ص: 232

عَنْ الْبَدَلِ بِقِيمَتِهِ - وَقْتَ الِاصْطِلَاحِ - جَازَ الصُّلْحُ وَلَزِمَ. كَمَا أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا اصْطَلَحَا عَلَى قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ هُنَاكَ مُسَمًّى صَحِيحٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَلَا يُقَالُ: الْقَابِضُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ فَالْوَاجِبُ إنَّمَا هُوَ رَدُّ الْمِثْلِ. لَا يُقَالُ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: إذَا قُبِضَتْ الْعَيْنُ وَتَصَرَّفَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ الْوَاجِبُ رَدَّ الثَّمَنِ إمَّا بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ وَإِمَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ يُمَلَّكُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُمَلَّكُ إذَا مَاتَ بِقَوْلِ مَالِكٍ وَإِذَا كَانَ فِيهِ نِزَاعٌ فَإِذَا اصْطَلَحَا عَلَى ذَلِكَ كَانَ الصُّلْحُ فِي مَوَارِدِ نِزَاعِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ صُلْحٌ لَازِمٌ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشَاعِ؟ .

فَأَجَابَ:

يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشَاعِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا مَضَتْ بِذَلِكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ قَوْلِهِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: {أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَ لَهُ شِرْكٌ فِي أَرْضٍ أَوْ رِبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكُهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فَإِنْ بَاعَ

ص: 233

قَبْلَ أَنْ يُؤْذِنَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ} . وَكَذَلِكَ يُضَمَّنُ بِالْإِتْلَافِ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْإِتْلَافِ كَالسِّرَايَةِ فِي الْعِتْقِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ؛ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ} . وَإِذَا بَاعَ الشِّقْصَ الْمُشَاعَ وَقَبَضَهُ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ فَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ بَاقٍ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ وَإِنْ لَمْ يَتَصَرَّفْ بِأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ الْجَائِزَةِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فللمشتركين أَنْ يَتَهَايَآ فِيهِ بِالْمَكَانِ أَوْ بِالزَّمَانِ. فَيَسْكُنُ هَذَا بَعْضَهُ وَهَذَا بَعْضَهُ وَبِالزَّمَانِ يَبْدَأُ هَذَا شَهْرًا وَيَبْدَأُ هَذَا شَهْرًا وَلَهُمَا أَنْ يُؤَجِّرَاهُ وَلِأَحَدِهِمَا أَنْ يُؤَجِّرَهُ مِنْ الْآخَرِ وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْهُمَا مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ أُجْبِرَ عَلَيْهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ إلَّا الشَّافِعِيَّ وَفِي الْإِجْبَارِ عَلَى الْمُهَايَأَةِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ مَعْرُوفَةٌ.

ص: 234

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ لَهُ شَرِيكٌ فِي خَيْلٍ وَبَاعَ الشَّرِيكُ الْخَيْلَ لِمَنْ لَا يَقْدِرُ رَفِيقُهُ عَلَى تَخْلِيصِهَا بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ. فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْقَبْضُ؟

فَأَجَابَ:

إذَا بَاعَ نَصِيبَهُ. وَسَلَّمَ الْجَمِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي. وَتَعَذَّرَ عَلَى الشَّرِيكِ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ كَانَ ضَامِنًا لِنَصِيبِ الشَّرِيكِ فَإِمَّا أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ نَصِيبِهِ وَإِمَّا أَنْ يُضَمِّنَهُ لَا بِقِيمَتِهِ.

وَسُئِلَ:

عَنْ شَرِكَةٍ فِي مِلْكٍ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ بَيْنَهُمْ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الشَّرِكَةِ بَاعَ الْمِلْكَ جَمِيعَهُ بِشَهَادَةِ أَحَدِ الشُّهُودِ بِالشَّرِكَةِ. فَهَلْ يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي مِلْكِهِ وَيَبْطُلُ فِي الْبَاقِي؟ أَوْ يَبْطُلُ الْجَمِيعُ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا بَيْعُ نَصِيبِ الْغَيْرِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِوِلَايَةٍ أَوْ وِكَالَةٍ وَإِذَا لَمْ يُجِزْهُ الْمُسْتَحِقُّ بَطَلَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ لَكِنْ يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَلِلْمُشْتَرِي

ص: 235

الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَوْ إجَازَتِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ مِمَّا يُقْسَمُ بِلَا ضَرَرٍ فَلَهُ إلْزَامُ الشَّرِيكِ بِالْقِسْمَةِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ إلَّا بِضَرَرٍ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِبَيْعِ الْجَمِيعِ لِيَقْتَسِمَا الثَّمَنَ. وَإِذَا كَانَ الشَّاهِدُ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَائِعَ ظَالِمٌ وَشَهِدَ عَلَى بَيْعِهِ مَعُونَةً عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالْمُعَاوَنَةُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ لَا تَجُوزُ. بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ} وَقَالَ: {إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ} فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُصِرًّا عَلَيْهِ قُدِحَ فِي عَدَالَتِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْكَرْمِ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا إذَا اُضْطُرَّ صَاحِبُهُ إلَى ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ:

لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا؛ بَلْ قَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ يَعْصِرُ الْعِنَبَ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا فَكَيْفَ بِالْبَائِعِ لَهُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مُعَاوَنَةً. وَلَا ضَرُورَةَ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ بَيْعُهُ رَطْبًا وَلَا تَزْبِيبُهُ فَإِنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَلًّا أَوْ دِبْسًا وَنَحْوَ ذَلِكَ.

ص: 236

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ شِرَاءِ الْجِفَانِ؛ لِعَصِيرِ الزَّيْتِ أَوْ لِلْوَقِيدِ أَوْ لَهُمَا؟

فَأَجَابَ:

بَيْعُ الزَّيْتِ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ زَيْتِهِ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ حَبِّ الْقُطْنِ وَالزَّيْتُونِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمُنْعَصِرَاتِ وَالْمَبِيعَاتِ مُجَازَفَةً وَسَوَاءٌ اشْتَرَاهُ لِلْعَصِيرِ أَوْ لِلْوَقِيدِ؛ لَكِنْ لَا يَجُوزُ لِلْعَاصِرِ أَنْ يَغُشَّ صَاحِبَهُ. وَإِذَا كَانَ قَدْ اشْتَرَطَ أَنْ تَكُونَ الْجَفْنَةُ أُجْرَةً لِرَبِّ الْمَعْصَرَةِ بِحَيْثُ قَدْ وَاطَأَ عَلَيْهِ الْعَاصِرُ عَلَى أَنْ يُبْقِيَ فِيهَا زَيْتًا لَهُ كَانَ هَذَا غِشًّا حَرَامًا وَحَرُمَ شِرَاؤُهُ لِلزَّيْتِ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ لَهُ دُكَّانٌ مُسْتَأْجَرَةٌ بِخَمْسَةِ وَعِشْرِينَ كُلَّ شَهْرٍ وَلَهُ فِيهَا عِدَّةٌ وَقُمَاشٌ فَجَاءَ إنْسَانٌ فَقَالَ: أَنَا أَسْتَأْجِرُ هَذِهِ الدُّكَّانَ بِخَمْسَةِ وَأَرْبَعِينَ وَأَقْعُدُ بِالْعِدَّةِ وَالْقُمَاشُ أَبِيعُ فِيهِ وَأَشْتَرِي. فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

هَذَا قَدْ جَمَعَ بَيْنَ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ مَعًا وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 237

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَمَّنْ ضَمِنَ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ أَنْ لَا يُبَاعَ صِنْفٌ مِنْ الْأَصْنَافِ إلَّا مِنْ عِنْدِهِ وَذَلِكَ الصِّنْفُ لَا يُوجَدُ إلَّا عِنْدَهُ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَيُوجَدُ فِي الْأَمَاكِنِ الْقَرِيبَةِ مِنْ نَوَاحِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ؛ بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَسَافَةُ مَا بَيْنَ مِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ. فَهَلْ يَجُوزُ الِابْتِيَاعُ مِنْ هَذَا الْمُحْتَكِرِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا هُوَ نَفْسُهُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةٍ أَنَّهُ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ الْبَيْعِ الْحَلَالِ. وَمِنْ جِهَةٍ أَنَّهُ يَضْطَرُّ النَّاسُ إلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ حَتَّى يَشْتَرُوا مَا يُرِيدُ فَيَظْلِمُهُمْ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ. وَأَمَّا مَا يَشْتَرِي مِنْهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ اشْتَرَاهُ بِمَالٍ لَهُ حَلَالٌ لَمْ يَحْرُمْ شِرَاؤُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ الْمَظْلُومُ وَمَنْ اشْتَرَى لَمْ يَأْثَمْ وَلَا يَحْرُمُ مَا أَخَذَهُ لِظُلْمِ الْبَائِعِ لَهُ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا إنَّمَا يَحْرُمُ عَلَى الظَّالِمِ لَا عَلَى الْمَظْلُومِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ اشْتَرَى مَا اشْتَرَاهُ بِمَا ظَلَمَهُ مِنْ الْأَمْوَالِ كَانَ ذَلِكَ مَغْصُوبًا مَحْضًا كَالشِّرَاءِ مِنْ الْغَاصِبِ فَحُكْمُ هَذَا ظَاهِرٌ.

ص: 238

وَأَمَّا إنْ كَانَ أَصْلُ مَالِهِ حَلَالًا وَلَكِنْ رَبِحَ فِيهِ بِهَذِهِ الْمَعِيشَةِ حَتَّى زَادَ فَهَذَا قَدْ صَارَ شُبْهَةً بِقَدْرِ مَا خَالَطَهُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يُقَالُ: هُوَ حَرَامٌ. وَلَا يُقَالُ: حَلَالٌ مَحْضٌ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْحَلَالُ جَازَ الشِّرَاءُ مِنْهُ وَتَرْكُهُ وَرَعٌ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْغَالِبُ الْحَرَامُ: فَهَلْ الشِّرَاءُ مِنْهُ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الرِّبْحَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ بَعْضُهُ يَسْتَحِقُّهُ وَهُوَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِثْلُهُ؛ فَإِنَّ مَالَهُ الَّذِي قُبِضَ مِنْهُ لَوْ قُبِضَ بِعَقْدِ فَاسِدٍ لَوَجَبَ لَهُ مِثْلُهُ أَوْ قِيمَةُ مِثْلِهِ وَالْمُشْتَرُونَ يَأْخُذُونَ سِلْعَتَهُ فَلَهُ عَلَيْهِمْ مِثْلُهَا أَوْ قِيمَةُ مِثْلِهَا. ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الضَّمَانِ يَأْخُذُونَ مِنْهُ بَعْضَ مَا ظَلَمَهُ؛ فَإِنَّ الْحَانُوتَ يَكُونُ شِرَاؤُهُ عِشْرِينَ فَيُلْزِمُونَهُ بِخَمْسِينَ؛ لِأَجْلِ الضَّمَانِ فَتِلْكَ الثَّلَاثُونَ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ وَهِيَ قَدْ أُخِذَتْ مِنْهُ. وَأَمَّا مَا يَبْقَى لَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمُحَرَّمَةِ فَهَاتِيك الَّتِي مَا لَهُ وَمَعَ الْحَاجَةِ وَتَعْدِلُ غَيْرَهُ بِكَوْنِ الرُّخْصَةِ أَقْوَى. وَاَللَّهُ أَعْلَم.

ص: 239

وَسُئِلَ:

عَنْ الْأَعْيَانِ الْمُضَمَّنَةِ مِنْ الْحَوَانِيتِ. كالشيرج وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا وَهِيَ أَنَّ إنْسَانًا يَضْمَنُ بَيْعَ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ وَحْدَهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ غَيْرُهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. فَيَقُولُ: عِنْدِي كَذَا وَكَذَا كُلَّ شَهْرٍ لِمَالِكِ حَانُوتٍ أَوْ خَانٍ أَوْ مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى أَنْ أَشْتَرِيَ وَأَبِيعَ فِيهِ شَيْئًا لَا يَبِيعُهُ غَيْرِي أَوْ أَعْمَلُ كَذَا وَكَذَا - يَعْنِي شَيْئًا يَذْكُرُهُ - عَلَى أَنَّ غَيْرِي لَا يَعْمَلُ مِثْلَهُ. فَهَلْ يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْ هَذَا الْإِنْسَانِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ الَّتِي يَبِيعُهَا مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ مُشْتَرِي غَيْرِهَا مِنْ جِنْسِهَا أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنْهَا بِالْأَعْيَانِ بِاعْتِبَارِ مَشَقَّةٍ عِنْدَ تَحْصِيلِ غَيْرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَمْ لَا؟ سَوَاءٌ كَانَتْ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إلَى ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالِ أَمْ لَا؟.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا مَعَ الْغِنَى عَنْ الِاشْتِرَاءِ مِنْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَرِيَ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ ظَالِمٌ بِمَنْعِ غَيْرِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ شُبْهَةٌ فَمُجَانَبَتُهُ وَهَجْرُهُ أَوْلَى بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. [وَأَمَّا الشِّرَاءُ مِنْهُ - لَا سِيَّمَا مَعَ الْحَاجَةِ - فَلَا يُحْكَمُ بِتَحْرِيمِهِ](*). وَلَا

(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 222):

وقوله (ولا يحكم بتحريمه) إما أن يكون سبق قلم من الشيخ رحمه الله، أو سهو من الناسخ، وصوابه (ولا يحكم بتحليله)، وقد قال الشيخ رحمه الله في موضع آخر (29/ 273):(إذا كان في أموالهم حلال وحرام، ففي معاملتهم شبهة، لا يحكم بالتحريم إلا إذا عرف أنه يعطيه ما يحرم إعطاؤه، ولا يحكم بالتحليل إلا إذا عرف أنه أعطاه من الحلال)، والله تعالى أعلم.

ص: 240

يُحْكَمُ بِتَحْرِيمِهِ إذَا اشْتَرَى مَعَ إمْكَانِ الشِّرَاءِ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَلَكِنْ مَعَ الْحَاجَةِ لَا يُكْرَهُ الشِّرَاءُ مِنْهُ فَإِنَّ هَذَا لَهُ مَالٌ يَشْتَرِي بِهِ وَيَبِيعُ؛ لَكِنْ إذَا مَنَعَ غَيْرَهُ وَاحْتَاجَ النَّاسُ إلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ بَاعَهُمْ بِأَغْلَى مِنْ السِّعْرِ فَظَلَمَهُمْ. وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَضَعُهُ الظَّلَمَةُ عَلَى النَّاسِ مِنْ الْبَضَائِعِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَيَشْتَرُونَهُ مُكْرَهِينَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ؛ وَلَكِنْ يَحْرُمُ عَلَى الْبَائِعِ مَا أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ إنَّ هَذَا قَدْ اخْتَلَطَ بِمَالِهِ مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَاتِ الْمُحَرَّمَةِ فَصَارَ فِي مَالِهِ شُبْهَةٌ. فَيُقَالُ أَوَّلًا: مَنْ غَلَبَ عَلَى مَالِهِ الْحَلَالُ جَازَتْ مُعَامَلَتُهُ كَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَإِنْ غَلَبَ الْحَرَامُ: فَهَلْ مُعَامَلَتُهُ مُحَرَّمَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. ثُمَّ يُقَالُ: تِلْكَ الزِّيَادَاتُ لَيْسَ لَهَا مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ يُعْرَفُ وَالْوَاجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لَا يُعْرَفُ مَالِكُهُ أَنْ يُصْرَفَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا إنَّمَا مَنَعْنَاهُ مِنْ الزِّيَادَةِ؛ لِئَلَّا يَظْلِمَ النَّاسَ فَلَوْ جَعَلْنَا مَا يَشْتَرِيهِ النَّاسُ مِنْهُ حَرَامًا لَكِنَّا قَدْ زِدْنَا الضَّرَرَ عَلَى النَّاسِ إذَا احْتَاجُوا أَنْ يَشْتَرُوا مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ وَاَلَّذِي اشْتَرَوْهُ حَرَامٌ وَهُمْ لَا يُطِيقُونَ الشِّرَاءَ مِنْ غَيْرِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ؛ بَلْ يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْ مِثْلِ هَذَا وَالْمُشْتَرِي مِنْهُ لَمْ يَظْلِمْ أَحَدًا فَإِنَّ مَا اشْتَرَاهُ قَدْ أَعْطَاهُ عِوَضَهُ وَزِيَادَةً وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْعِوَضِ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِمَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَحِقُّ

ص: 241

لِذَلِكَ جَمَاعَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُعَيَّنًا مِنْهُمْ فَهُوَ نَفْسُهُ قَدْ ظَلَمَ أُولَئِكَ جَمِيعَهُمْ بِمَا أَخَذَهُ مِنْهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَأَمَّا الْمُشْتَرِي مِنْهُ الَّذِي أَعْطَاهُ الْعِوَضَ وَزِيَادَةً فَلَمْ يَظْلِمْ أَحَدًا. وَهَذَا بَيِّنٌ إذَا كَانَ مَالُهُ مُخْتَلِطًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ حَرَامًا؛ فَإِنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِينَ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ وَهَذِهِ الْأَعْيَانُ الَّتِي فِي يَدِهِ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِعَيْنِهَا الْمَظْلُومُونَ فَمُعَاوَضَتُهُ عَلَيْهَا جَائِزَةٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الْمَظْلُومَ مَا أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَبِهَذَا أَفْتَى فِي مِثْلِ هَذَا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا كَسَائِرِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِلنَّاسِ وَهُوَ ظَالِمٌ بِمَطْلِهِ لِلْغُرَمَاءِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ} . ثُمَّ مَعَ هَذَا إذَا عَاوَضَ عَلَى مَا فِي يَدِهِ بِمُعَاوَضَةِ الْمِثْلِ وَزِيَادَةٍ جَازَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يُكْرَهُ الشِّرَاءُ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ تَبَرُّعًا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ أَدَاءُ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ فَفِي نُفُوذِ تَبَرُّعِهِ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ؛ لَكِنْ يُقَالُ هَذَا الظَّالِمُ لَمَّا أَخَذَ الزِّيَادَةَ وَاشْتَرَى بِهَا فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْمَظْلُومِ بِمَا اشْتَرَاهُ بِمَالِهِ؛ بِخِلَافِ الدَّيْنِ الَّذِي حَصَلَ بِرِضَا الْغَرِيمِ؛ فَإِنَّ صَاحِبَهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي غَيْرِ مَالِ الْمَدِينِ. فَيُقَالُ: هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أُصُولٍ: أَحَدُهَا: إنَّ الدَّرَاهِمَ الَّتِي أَخَذَهَا زِيَادَةً بِغَيْرِ حَقٍّ هَلْ يَتَعَيَّنُ حَقُّ صَاحِبِهَا فِيهَا أَوْ لِلْغَاصِبِ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ.

ص: 242

وَلِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ فِي الدَّرَاهِمِ هَلْ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعُقُودِ والقبوض حَتَّى فِي الْغَصْبِ وَالْوَدِيعَةِ؟ ؟ فَقِيلَ: تَتَعَيَّنُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَقِيلَ: لَا تَتَعَيَّنُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ ابْنِ قَاسِمٍ. وَقِيلَ: تَتَعَيَّنُ فِي الْغَصْبِ وَالْوَدِيعَةِ؛ دُونَ الْعَقْدِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَإِذَا خُلِطَ الْمَغْصُوبُ بِمِثْلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ كَمَا تُخْلَطُ الْأَدْهَانُ وَالْأَلْبَانُ وَالْحُبُوبُ وَغَيْرُهَا فَهَلْ يَكُونُ الْخَلْطُ كَالْإِتْلَافِ حَيْثُ يَبْقَى حَقُّ الْمَظْلُومِ فِي الذِّمَّةِ فَيُعْطِيهِ الظَّالِمُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ؟ أَوْ حَقُّهُ بَاقٍ فِي الْعَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ عَيْنِ الْخَلْطِ بِالْقِسْمَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ الزَّائِدَةَ لَيْسَتْ مُتَعَيِّنَة سَوَاءٌ اشْتَرَى مِنْهُ دَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ أَوْ مَنْفَعَةً؛ فَإِنَّ الْمَظْلُومَ أَخَذَ مِنْهُ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى عِوَضِ الْمِثْلِ وَلَيْسَ هُوَ مُتَعَيَّنًا وَلَوْ كَانَ مُتَعَيَّنًا ثُمَّ خَلَطَهُ بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ التَّعْيِينِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَيَّنًا فِي الْأَصْلِ؟ فَعَلَى قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ حَقُّهُ إلَّا فِي ذِمَّةِ الظَّالِمِ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمُضَارِبَ وَالْمُودِعَ إذَا مَاتَ وَلَمْ يُعَيِّنْ الْوَدِيعَةَ وَالْمُضَارَبَةَ صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يَجْعَلُوا لِصَاحِبِ الْمَالِ حَقًّا فِي عَيْنِ التَّرِكَةِ؛ فَإِنَّ تَفْرِيطَ الْمُودَعِ حِينَ لَمْ يُمَيِّزْ الْوَدِيعَةَ مِنْ غَيْرِهَا مُوجِبٌ لِضَمَانِهِ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَسْقَطُوا حَقَّ الْمَالِكِ مِنْ عَيْنِ مَالِ الْمَيِّتِ فَلَمْ

ص: 243

يُقَدِّمُوهُ بِعَيْنِ مَالِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ؛ بَلْ جَعَلُوهُ غَرِيمًا مِنْ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ كَانَ عَيْنُ مَالِهِ مُخْتَلِطًا. وَالظُّلْمُ يَكُونُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمِ. فَتَرْكُ الْمُودَعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّمْيِيزِ ظُلْمٌ مِنْهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ - وَهُوَ سُقُوطُ حَقِّ الْمَالِكِ مِنْ الْعَيْنِ - وَإِنْ كُنَّا لَا نَنْصُرُهُ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ مَأْخَذِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أُصُولِ الْعُلَمَاءِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا فَرَعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ فَرْعِهَا مِنْ الْمَالِكِيَّةِ بَنَوْا الْأَمْرَ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ دُونَ الْعَيْنِ.

وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الظَّالِمَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَشْتَرِي فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ يُنَفِّذُ عَيْنَ الْمَالِ وَفِي صِحَّةٍ مِثْلُ هَذَا قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ.

الْأَصْلُ الثَّالِثُ: أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ‌

‌ حَقَّ الْمَظْلُومِ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِ الظَّالِمِ

وَإِنْ فَاتَتْ الْعَيْنُ لِكَوْنِ هَذَا بَدَلُ مَالِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي نَزَعَهُ وَهُوَ أَنْ يُخَيِّرَ الْمَظْلُومَ بَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِشَطْرِ حَقِّهِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ الْمَالِ وَيَكُونُ مَا يَزِيدُ مِنْ الْمَالِ مِنْ نَمَاءٍ وَرِبْحٍ وَغَيْرِهِ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ؛ لَكِنْ يُقَالُ عَلَى هَذَا: الْمَظْلُومُ لَيْسَ لَهُ إلَّا قَدْرُ حَقِّهِ وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي حَصَلَتْ بِتَصَرُّفِ الظَّالِمِ فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى وَقْفِ الْعُقُودِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْعُقُودَ لَا تُوقَفُ يَقُولُ: مَا قَبَضَهُ الْبَائِعُ الظَّالِمُ مِنْ الْمُشْتَرِي لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَالثَّمَنُ الَّذِي أَدَّاهُ وَقَدْ غَصَبَهُ هُوَ

ص: 244

فِي ذِمَّتِهِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ دُونَ النَّاسِ الَّذِينَ ظَلَمَهُمْ وَمَا فِي يَدِهِ لَا يَمْلِكُهُ؛ بَلْ هُوَ لِأُنَاسٍ مَجْهُولِينَ لَا يَعْرِفُهُمْ. وَلَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِمْ إلَّا بِإِذْنِهِمْ. وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ قَوْلَانِ: قِيلَ: إنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ كَالْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْغَائِبِينَ يَقْضِي الدُّيُونَ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ لِلْبَائِعِ بِالْأَمْوَالِ الَّتِي فِي يَدِهِ لَهُمْ. وَقِيلَ: إنَّ الْبَائِعَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ الَّذِي عَلَيْهِمْ مِمَّا لَهُمْ فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْذَانِ حَاكِمٍ وَهَذَا أَصَحُّ؛ فَإِنَّ الْمَعْلُومَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ مَالِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْحَاكِمِ كَمَا أَذِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلضَّيْفِ الْمَظْلُومِ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ زَرْعِ الْمُضِيفِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَكَمَا أَمَرَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَأْخُذَ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ بِلَا إذْنِ الزَّوْجِ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ الْحَقُّ مَجْحُودًا. فَقَدْ قَالَ: {أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك} فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ قَدْ بَاعَ غَيْرَهُ سِلْعَةً بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَ مِنْهُ الثَّمَنَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ مِنْ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِوَقْفِ الْعُقُودِ حَتَّى تُوفِيَ التَّبَرُّعَاتُ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَيَقُولُونَ مَنْ بِيَدِهِ مَالُ غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٌ أَوْ عَارِيَةٌ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ عَيْنَ مَالِكِهِ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي

ص: 245

حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ؛ وَلَكِنْ لِصَاحِبِهِ إذَا ظَهَرَ أَنْ لَا يَنْفُذَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُعَاوَضَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ إذَا عَرَفَ أَنْ يَرُدَّهَا؛ بَلْ تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ شَرْعًا لِلْحَاجَةِ كَمَا لَوْ مَاتَ رَجُلٌ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ وَصِيٌّ وَلَا وَارِثٌ وَلَا حَاكِمٌ فَإِنَّ رُفْقَتَهُ فِي السَّفَرِ تَثْبُتُ لَهُمْ الْوِلَايَةُ عَلَى مَالِهِ فَيَحْفَظُونَهُ وَيَبِيعُونَ مَا يَرَوْنَ بَيْعَهُ مَصْلَحَةً وَيَنْفُذُ هَذَا الْبَيْعُ وَلَهُمْ أَنَّ يَقْبِضُوا مَا بَاعُوهُ وَلَا يَقِفُ ذَلِكَ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ؛ بَلْ هُوَ يُعْرَفُ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ لِلْحَاجَةِ كَمَا ثَبَتَ لَهُمْ وِلَايَةُ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ مِنْ مَالِهِ وَدَفْنِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْبَائِعُ الَّذِي بَاعَ مَا اشْتَرَاهُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ وَقَبَضَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي إذَا قِيلَ: الْبَيْعُ فَاسِدٌ لَا يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي رَدَّ مَا قَبَضَ مِنْهُ وَعَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبَضَ مِنْ الثَّمَنِ فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدَّ الْمُشْتَرِي مَا قَبَضَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَظِيرَ ذَلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ وَأَقَلَّ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ مِثْلُهُ. وَكَذَلِكَ مَا اشْتَرَاهُ: تِلْكَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ رَدَّهَا إلَى صَاحِبِهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ رَدُّ الزِّيَادَةِ إلَى صَاحِبِهَا فَقَابِضُ الزِّيَادَةِ الظلمية إذَا لَمْ يَرُدَّهَا كَانَ لِلْمَظْلُومِ

ص: 246

الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ الَّذِي صَارَ بِيَدِ الْبَائِعِ نَظِيرَ ذَلِكَ وَقَابَضَهَا الَّذِي بَاعَ بِهَا مَالَهُ إذَا لَمْ يَرُدَّ مَالَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِهِ مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ. وَهَذَا احْتِمَالُ كُلِّ مَنْ تَبَايَعَا بَيْعًا فَاسِدًا وتقابضاه إذَا قِيلَ: أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَا يُمَلَّكُ فَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ عِنْدَ الْآخَرِ مَا قَبَضَهُ الْآخَرُ مِنْهُ وَلِلْآخَرِ عِنْدَهُ مَا قَبَضَهُ مِنْهُ. فَإِذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَعَلَى هَذَا فَمَا صَارَ بِيَدِ هَذَا الضَّامِنِ الظَّالِمِ مِنْ الزِّيَادَاتِ الظلمية مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْتَرِينَ الْمُخْتَلِطَةِ الَّتِي لَا تَتَمَيَّزُ: إذَا اشْتَرَى بِهَا شَيْئًا وَأَقْبَضَ الْمُشْتَرِينَ مِلْكَ الزِّيَادَةِ وَقَبَضَ مَا اشْتَرَاهُ كَانَ مَا حَصَلَ بِيَدِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِإِزَاءِ مَا قَبَضُوهُ مِنْ الزِّيَادَةِ إلَى مُسْتَحِقِّهَا فَلَا يَكُونُ الشِّرَاءُ مِنْهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ حَرَامًا فَكَيْفَ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُ بِزِيَادَةِ؛ بِخِلَافِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ تَبَرُّعًا فَهَذَا فِيهِ كَلَامٌ آخَرُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يُعَامِلُ بِالرِّبَا إذَا أَضَافَ غَيْرَهُ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُلْ فَإِنَّ مَهَنَاهُ لَك وَحِسَابُهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ كَلَامٌ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ. وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أُصُولٌ مُتَعَدِّدَةٌ. مِنْهَا الْمَقْبُوضُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ هَلْ يُمْلَكُ أَوْ لَا يُمْلَكُ؟ . وَمِنْهَا إذَا تَصَرَّفَ فِي الْعَيْنِ تَصَرُّفًا يَمْنَعُ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا فَهَلْ يَنْتَقِلُ الْحَقُّ إلَى ذِمَّتِهِ؟ أَوْ هُوَ بَاقٍ فِي مَالِهِ الَّذِي اخْتَلَطَ بِهِ الْعَيْنُ وَاَلَّذِي عَاوَضَ

ص: 247

بِهِ عَنْ الْعَيْنِ؟ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ. وَأَمَّا إذَا قُلْنَا بِوَقْفِ الْعُقُودِ - لَا سِيَّمَا مَعَ تَعَذُّرِ الِاسْتِئْذَانِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ - فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ. فَإِنَّ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ أَنَّ النَّاسَ يَرْضَوْنَ بِبَيْعِ مِثْلِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الَّتِي أَعَدُّوهَا لِلْبَيْعِ بِالزِّيَادَةِ؛ بِخِلَافِ مَا أَعَدُّوهُ لِلْقِنْيَةِ. وَأَيْضًا فَالْمَظْلُومُ وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ قَلِيلٌ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ الَّتِي ظَلَمَهَا فَبَعْضُهُ لِصَاحِبِ الْحَانُوتِ الظَّالِمِ وَلَا يَتَمَيَّزُ هَذَا عَنْ هَذَا وَمِثْلُ هَذَا إذَا طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بَيْعَهُ أُجْبِرَ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْبَيْعِ لِأَجْلِ شَرِيكِهِ فَمَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَالٌ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ - كَحَيَوَانِ - إذَا طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بَيْعَهَا وَقِسْمَةَ الثَّمَنِ أُجْبِرَ الْآخَرُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد؛ وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ قِيمَةِ الْجَمِيعِ لَا فِي قِيمَةِ النِّصْفِ. بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ. فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ: وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ} فَجَعَلَ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ قِيمَةِ الْجَمِيعِ وَأَمَرَ بِتَقْوِيمِ جَمِيعِ الْعَبْدِ لَا بِتَقْوِيمِ حِصَّةِ الشَّرِيكِ فَقَطْ.

ص: 248

فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الزِّيَادَةَ الظلمية لَا تَتَمَيَّزُ عَنْ الْمَزِيدِ وَلَا يُمْكِنُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا إلَّا بِقِسْمَةِ الْعَيْنِ أَوْ قِسْمَةِ بَدَلِهَا وَالْعَيْنُ قَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا فَتَعَيَّنَ قِيمَةُ بَدَلِهَا. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعَاوِضَ صَاحِبَ الْحَانُوتِ عَلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الشُّرَكَاءَ الْمَظْلُومِينَ حُقُوقَهُمْ. وَأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقَالَ: أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِينَ فِي ذِمَّتِهِ فَقَطْ أَوْ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَعْيَانِ مَعَ جَوَازِ الْمُعَاوَضَةِ لِتَوْفِيَةِ حُقُوقِهِمْ؛ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى تَوْفِيَةِ حُقُوقِهِمْ بِالْعَدْلِ إلَّا مَعَ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا فَالْمُشْتَرُونَ تَسَلَّمُوا مَا اشْتَرَوْهُ شِرَاءً حَلَالًا جَائِزًا. وَعَلَى هَذَا أَدِلَّةٌ أُخْرَى تُبَيِّنُ أَنَّ النَّاسَ الْمُشْتَرِينَ لَمْ يَظْلِمُوا أَحَدًا إذَا اشْتَرَوْا وَإِنَّ شِرَاءَهُمْ جَائِزٌ وَأَنَّ مَنْعَ النَّاسِ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ ظُلْمٌ مُضَاعَفٌ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ. وَعَلَى هَذَا فَمَعَ الْحَاجَةِ إلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ لَا يُكْرَهُ الشِّرَاءُ مِنْهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَحْرُمَ. وَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ الَّذِي بَاعَهُ عَيْنَ الْمَعْقُودِ فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى وَقْفِ الْعُقُودِ وَعَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمَالِكِ الْمَجْهُولِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِلْمَصْلَحَةِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِوَقْفِهَا؛ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَلِكَ أَحْمَد عِنْدَ الْحَاجَةِ: مِثْلُ أَنْ يَتَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُ الْمَالِكِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ وَفِي ذَلِكَ بِدُونِ الْحَاجَةِ رِوَايَتَانِ. وَاخْتَارَ الخرقي الْقَوْلَ بِوَقْفِهَا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَيَكُونُ

ص: 249

تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ الْغَيْرِ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ إذَا أَمْكَنَ اسْتِئْذَانُهُ. وَأَمَّا الْمَجْهُولُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ فَلَا يَفْتَقِرُ ذَلِكَ إلَى اسْتِئْذَانِهِ؛ بَلْ يَنْفُذُ التَّصَرُّفُ لَهُ بِالْمَصْلَحَةِ. وَلَوْ عُرِفَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّ الْمُعَاوَضَاتِ وَإِنَّمَا لَهُ رَدُّ التَّبَرُّعَاتِ كَصَاحِبِ اللُّقَطَةِ. وَقَدْ عُرِفَ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ أَنَّ أَرْبَابَ مِثْلِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا لَيْسَ لَهُمْ غَرَضٌ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ. وَلَا يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ تُبَاعَ سِلْعَتُهُ بِزِيَادَةِ فَإِنَّهُمْ يَخْتَارُونَ بَيْعَ الْمُشْتَرِي؛ وَلَكِنَّ الْبَائِعَ هُوَ الَّذِي ظَلَمَهُمْ وَهُوَ هُنَا لَمَّا لَمْ يُعْرَفْ الْمَالِكُ جَازَ التَّصَرُّفُ بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا عُرِفَ الْمَالِكُ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِئْذَانِهِ فِي الْقَبْضِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَهَذَا كَاللُّقَطَةِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ مَالِكُهَا. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {فَهُوَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} فَإِذَا تَصَدَّقَ بِهَا الْمُلْتَقِطُ كَانَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ إذَا عُرِفَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَقَبْلَ أَنْ يُعْرَفَ يَكُونُ التَّصَدُّقُ نَافِذًا غَيْرَ مَوْقُوفٍ؛ وَلَكِنَّ الْمُلْتَقِطَ الْبَائِعَ لَيْسَ بِظَالِمِ وَهُنَا الْبَائِعُ ظَالِمٌ؛ لَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَيْسَ بِظَالِمِ وَالْمَالُ لَا يُمْكِنُ إتْلَافُهُ وَهُوَ بِيَدِ الْبَائِعِ الظَّالِمِ فَأَخْذُ الشِّرَاءِ لَهُ بِالزِّيَادَةِ حَرَامٌ لِلْمَالِكِ الْمَجْهُولِ فَالشَّارِعُ يُنَفِّذُ الْمِلْكَ لِمَصْلَحَةِ الْمُشْتَرِي وَالْمَالِكِ الْمَجْهُولِ الْمَظْلُومِ؛ إنْ كَانَ الْبَائِعُ ظَالِمًا. كَمَا لَوْ قُدِّرَ أَنَّ نَاظِرَ الْوَقْفِ وَوَصِيَّ الْيَتِيمِ وَالْمُضَارِبَ وَالشَّرِيكَ

ص: 250

خَانُوا ثُمَّ تَصَرَّفُوا مَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ تَصَرُّفِهِمْ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ وَحَقِّ رَبِّ الْمَالِ وَإِلَّا فَلَوْ أَبْطَلَ ذَلِكَ فَسَدَ عَامَّةُ أَمْوَالِ النَّاسِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ وَالْوِكَالَةِ؛ لِغَلَبَةِ الْخِيَانَةِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَالْوُكَلَاءِ؛ لَا سِيَّمَا وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ وُلَاةِ الْأُمُورِ مَا لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ - وَالشَّرِيعَةُ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا - فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ رِعَايَةُ حَقٍّ مَجْهُولٍ فِي عَيْنٍ حَصَلَ عَنْهَا بَدَلٌ خَيْرٌ لَهُ. مِنْهَا أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُشْتَرِينَ أَمْوَالُهُمْ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مِنْ يَهْدِمُ مِصْرًا وَيَبْنِي قَصْرًا. وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَوَابِعِهَا لَهُ مَكَانٌ آخَرُ قَدْ ذُكِرَ فِي ذَلِكَ مِنْ الشَّوَاهِدِ وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ.

ص: 251

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

هَلْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَطْعُومَاتُ الَّتِي يُؤْخَذُ عَلَيْهَا الْمَكْسُ وَهِيَ مُضَمَّنَةٌ أَوْ مُحْتَكَرَةٌ هَلْ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ يَشْتَرِي مِنْهَا شَيْئًا وَيَأْكُلُ مِنْهَا؟ وَإِنْ عَامَلَ رَجُلٌ لِإِنْسَانِ كُلُّ مَالِهِ حَرَامٌ مِثْلَ ضَامِنِ الْمَكْسِ أَوْ مَنْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ سِوَى الْمَكْسِ فَهَلْ يَفْسُقُ بِذَلِكَ.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ يَبِيعُ سِلْعَتَهُ مِنْ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ وَعَلَيْهِمَا وَظِيفَةٌ تُؤْخَذُ مِنْ الْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي. فَهَذَا لَا يُحَرِّمُ السِّلْعَةَ وَلَا الشِّرَاءَ؛ لَا عَلَى بَائِعِهَا وَلَا عَلَى مُشْتَرِيهَا وَلَا شُبْهَةَ فِي ذَلِكَ أَصْلًا. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ بَعْضَ السِّلْعَةِ مِثْلُ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ سَوَاقِطَهَا أَوْ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ بَعْضَهَا وَمَنْ ظَنَّ فِي ذَلِكَ شُبْهَةً فَهُوَ مُخْطِئٌ فَإِنَّ هَذَا الْمَالَ الْمَأْخُوذَ ظُلْمًا سَوَاءٌ أُخِذَ مِنْ الْبَائِعِ أَوْ مِنْ الْمُشْتَرِي لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الشُّبْهَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ وَكَمَا لَوْ ظَلَمَ الرَّجُلُ وَأَخَذَ بَعْضَ مَالِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الشُّبْهَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ. وَهَذِهِ الْوَظَائِفُ الْمَوْضُوعَةُ بِغَيْرِ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ: مِنْهَا مَا يَكُونُ مَوْضُوعًا

ص: 252

عَلَى الْبَائِعِ مِثْلُ سُوقِ الدَّوَابِّ وَنَحْوِهِ. فَإِذَا بَاعَ سِلْعَتَهُ بِمَالٍ فَأُخِذَ مِنْهُ بَعْضُ ذَلِكَ الثَّمَنِ كَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا لَهُ وَبَاقِي مَالِهِ حَلَالٌ لَهُ وَالْمُشْتَرِي اشْتَرَى بِمَالِهِ وَرُبَّمَا يُزَادُ عَلَيْهِ فِي الثَّمَنِ لِأَجْلِ الْوَظِيفَةِ فَيَكُونُ مِنْهُ زِيَادَةٌ. فَبِأَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ فِيمَا اشْتَرَاهُ شُبْهَةٌ؟ وَإِنْ كَانَتْ الْوَظِيفَةُ تُؤْخَذُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ قَدْ أَدَّى الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ وَالزِّيَادَةُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْكُلْفَةِ السُّلْطَانِيَّةِ وَلَا شُبْهَةَ فِي ذَلِكَ؛ لَا عَلَى الْبَائِعِ وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَمْ تُؤْخَذْ إلَّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ وَالْمُشْتَرِي قَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ وَزِيَادَةً. وَإِذَا قِيلَ: هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ ظُلْمٌ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ جَمِيعَ الثَّمَنِ. قِيلَ: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَظْلِمْهُ وَإِنَّمَا ظَلَمَهُ مَنْ أَخَذَ مَالَهُ كَمَا لَوْ قَبَضَ الْبَائِعُ جَمِيعَ الثَّمَنِ ثُمَّ أُخِذَتْ مِنْهُ الْكُلْفَةُ السُّلْطَانِيَّةُ. وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالْكُلْفَةُ تَقَعُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ كُلْفَةً زَادَ فِي الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي إذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ كُلْفَةً نَقَصَ مِنْ الثَّمَنِ فَكِلَاهُمَا مَظْلُومٌ بِأَخْذِ الْكُلْفَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَمْ يَظْلِمْ أَحَدًا فَلَا يَكُونُ فِي مَالِهِمَا شُبْهَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَمَا يَبِيعُهُ الْمُسْلِمُونَ إذَا كَانَ مِلْكًا لَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شُبْهَةٌ بِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي الْوَظَائِفِ. وَأَمَّا إذَا ضَمِنَ الرَّجُلُ نَوْعًا مِنْ السِّلَعِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَهَا إلَّا هُوَ

ص: 253

فَهَذَا ظَالِمٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَنَعَ غَيْرَهُ مِنْ بَيْعِهَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَبِيعُهَا لِلنَّاسِ بِمَا يَخْتَارُ مِنْ الثَّمَنِ فَيُغَلِّيهَا وَهَؤُلَاءِ نَوْعَانِ. مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَأْجِرُ حَانُوتًا بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا إمَّا لِمُقْطِعٍ وَإِمَّا لِغَيْرِهِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ فِي الْمَكَانِ إلَّا هُوَ أَوْ يَجْعَلُ عَلَيْهِ مَالًا يُعْطِيهِ لِمُقْطِعٍ أَوْ غَيْرِهِ بِلَا اسْتِئْجَارِ حَانُوتٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَكِلَاهُمَا ظَالِمٌ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي يَزِيدُهَا فِي الْحَانُوتِ لِأَجْلِ مَنْعِ الثَّانِي مِنْ الْبَيْعِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الضَّامِنِ الْمُنْفَرِدِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِمْ ضَمَانٌ؛ لَكِنْ يَلْتَزِمُونَ بِالْبَيْعِ لِلنَّاسِ كَالطَّحَّانِينَ وَالْخَبَّازِينَ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ وَظِيفَةٌ؛ لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ كُلَّ يَوْمٍ شَيْئًا مُقَدَّرًا وَيَمْنَعُونَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْبَيْعِ؛ وَلِهَذَا جَازَ التَّسْعِيرُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ التَّسْعِيرُ فِي الْإِطْلَاقِ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ أَوْجَبَتْ عَلَيْهِمْ الْمُبَايَعَةَ لِهَذَا الصِّنْفِ وَمُنِعَ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ فَلَوْ مُكِّنُوا أَنْ يَبِيعُوا بِمَا أَرَادُوا كَانَ ظُلْمًا لِلْمَسَاكِينِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُتَمَكِّنِينَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: {غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي مَالٍ} .

ص: 254

وَأَمَّا فِي الصُّورَةِ: فَإِذَا كَانُوا قَدْ أُلْزِمُوا بِالْمُبَايَعَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْزَمُوا بِأَنْ يَبِيعُوا بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ لَهُمْ وَإِذَا كَانَ غَيْرُهُمْ قَدْ مُنِعَ مِنْ الْمُبَايَعَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمَكَّنُوا أَنْ يَبِيعُوا بِمَا اخْتَارُوا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ لِلنَّاسِ. يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: فَهَلْ يَجُوزُ الْتِزَامُهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْبَائِعِينَ لِهَذَا الصِّنْفِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَأَنْ لَا يَبِيعُوهُ إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ مَكْسٍ يُوضَعُ عَلَيْهِمْ؟ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتْرُكَ أَحَدًا يَفْعَلُ ذَلِكَ؟ . قِيلَ: أَمَّا إذَا اخْتَارُوا أَنْ يَقُومُوا بِمَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْمَبِيعَاتِ وَأَنْ لَا يَبِيعُوهَا إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ عَلَى أَنْ يُمْنَعَ غَيْرُهُمْ مِنْ الْبَيْعِ وَمَنْ اخْتَارَ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ مُكِّنَ فَهَذَا لَا يَتَبَيَّنُ تَحْرِيمُهُ بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي هَذَا مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلنَّاسِ وَهَذَا يُشْبِهُ مَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ فِي التَّسْعِيرِ وَأَنَّهُ قَالَ: إنْ كُنْت تَبِيعُ بِسِعْرِ أَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَإِلَّا فَلَا تَبِعْ. فَإِنَّ مَصْلَحَةَ النَّاسِ الْعَامَّةَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُبَاعُوا بِمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَأَنْ لَا يُبَاعُوا إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَهَذَانِ مَصْلَحَتَانِ جَلِيلَتَانِ. وَالْبَاعَةُ إذَا اخْتَارُوا ذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا قَدْ أُكْرِهُوا عَلَيْهِ فَلَا ظُلْمَ عَلَيْهِمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ النَّاسِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ الْبَيْعِ إلَّا إذَا دَخَلَ فِي هَذِهِ

ص: 255

الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ بِأَنْ يُشَارِكَهُمْ فِيمَا يَقُومُونَ بِهِ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ فَيَكُونُ الْغَيْرُ قَدْ مُنِعَ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَأَنْ لَا يَبِيعَهَا إلَّا إذَا الْتَزَمَ أَنْ يَبِيعَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَقَدْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ يُقَالُ: هَذَانِ نَوْعَانِ مِنْ الظُّلْمِ: إلْزَامُ الشَّخْصِ أَنْ يَبِيعَ وَأَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَفِي هَذَا فَسَادٌ. وَحِينَئِذٍ فَإِنْ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ صَالِحًا بِدُونِ هَذَا لَمْ يَجُزْ احْتِمَالُ هَذَا الْفَسَادِ بِلَا مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ وَأَمَّا إنْ كَانَ بِدُونِ هَذَا لَا يَحْصُلُ لِلنَّاسِ مَا يَكْفِيهِمْ مِنْ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ أَوْ لَا يَلْقَوْنَ ذَلِكَ إلَّا بِأَثْمَانٍ مُرْتَفِعَةٍ وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ مَا يَكْفِيهِمْ بِثَمَنِ الْمِثْلِ. فَهَذِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ يُغْتَفَرُ فِي جَانِبِهَا مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَنْعِ.

وَأَمَّا إذَا أُلْزِمَ النَّاسُ بِذَلِكَ فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ؛ فَإِنَّ النَّاسَ إذَا اُضْطُرُّوا إلَى مَا عِنْدَ الْإِنْسَانِ مِنْ السِّلْعَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبْذَلَ لَهُمْ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَمَنْعُهُ أَنْ لَا يَبِيعَ سِلْعَةً حَتَّى يَبِيعَ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا. وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ: فَاَلَّذِي يَضْمَنُ كُلْفَةً مِنْ الْمُكَلِّفِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ السِّلْعَةَ إلَّا هُوَ وَيَبِيعُهَا بِمَا يَخْتَارُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ ظُلْمِ الْكُلَفِ السُّلْطَانِيَّةِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّمَا؛ وَلِهَذَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مُعَامَلَةَ هَذَا لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ الَّتِي فِي مَالِهِ. فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَبِيعُ إلَّا هُوَ بِمَا يَخْتَارُ صَارَ كَأَنَّهُ يُكْرِهُ النَّاسَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ بِمَا يَخْتَارُهُ فَيَأْخُذُ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ

ص: 256

وَتِلْكَ الشُّبْهَةُ قَدْ اخْتَلَطَتْ بِمَالِهِ فَيَصِيرُ فِي مَالِهِ شُبْهَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ فَلِهَذَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مُعَامَلَتِهِمْ. وَهَذَا سَبِيلُ أَهْلِ الْوَرَعِ الَّذِينَ لَا يَأْكُلُونَ مِنْ الشِّوَاءِ الْمُضَمَّنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَإِنَّهُمْ إنَّمَا تَوَرَّعُوا عَمَّا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَشْوِي إلَّا هُوَ وَلَا يَبِيعُ الشِّوَاءَ إلَّا هُوَ بِمَا يَخْتَارُهُ وَلَا يَبِيعُ الْمِلْحَ إلَّا هُوَ بِمَا يَخْتَارُهُ وَالْمِلْحُ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا فَإِنَّ الْمِلْحَ فِي الْأَصْلِ هُوَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ كَالسَّمَكِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ إذَا لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ أَخْذِهَا إلَّا وَاحِدٌ بِضَمَانٍ عَلَيْهِ وَاَلَّذِي يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِمَالِهِ لَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا؛ بَلْ لَوْ أَخَذَهَا مِنْ الْأَصْلِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ هَذَا أَوْ غَيْرَهُ لِيَأْخُذَهَا لَهُ مِنْ مَوْضِعِهَا الْمُشْتَرَكِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا وَلَوْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَكَانَتْ تَكُونُ أَرْخَصَ وَكَانَ الْمُشْتَرِي يَأْخُذُهَا بِدُونِ مَا أَعْطَاهُ الضَّامِنُ فَهَذَا الضَّامِنُ يَظْلِمُ الْمُشْتَرِيَ وَغَيْرَهُ. وَأَمَّا الْمُشْتَرُونَ مِنْهُ فَهُمْ لَا يَظْلِمُونَ أَحَدًا وَلَمْ يَشْتَرُوا مِنْهُ شَيْئًا مَلَكَهُ بِمَالِهِ فَإِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْهِ مِنْ الظُّلْمِ مَنْ تَرَكَ مِلْكَهُ لَا يَفُوتُهُ وَلَمْ يَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا؛ لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ مُبَاحَةٌ وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ يَشْتَرُونَهَا هُمْ الْمَظْلُومُونَ فَإِنَّهُ لَوْلَا الظُّلْمُ لَتَمَكَّنُوا مِنْ أَخْذِهَا بِدُونِ الثَّمَنِ فَإِذَا ظَلَمُوا وَأُخِذَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِمَّا عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ لِمَا كَانَ

ص: 257

مُبَاحًا لَهُمْ. إذْ الظُّلْمُ إنَّمَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ عَلَى الظَّالِمِ لَا عَلَى الْمَظْلُومِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُدَلِّسَ وَالْغَاشَّ وَنَحْوَهُمَا إذَا بَاعُوا غَيْرَهُمْ شَيْئًا مُدَلَّسًا لَمْ يَكُنْ مَا يَشْتَرِيهِ الْمُشْتَرِي حَرَامًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ الَّتِي أَخَذَهَا الْغَاشُّ حَرَامًا عَلَيْهِ.

وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّينَ إذَا كَانَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى الرَّجُلُ مِلْكَهُ الْمَغْصُوبَ مِنْ الْغَاصِبِ فَإِنَّ الْبَائِعَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ مِلْكِهِ وَلَا بَذْلُ مَا بَذَلَهُ مِنْ الثَّمَنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَجُوزُ رِشْوَةُ الْعَامِلِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ لَا لِمَنْعِ الْحَقِّ وَإِرْشَاؤُهُ حَرَامٌ فِيهِمَا وَكَذَلِكَ الْأَسِيرُ وَالْعَبْدُ الْمُعْتَقُ. إذَا أَنْكَرَ سَيِّدُهُ عِتْقَهُ لَهُ أَنْ يَفْتَدِيَ نَفْسَهُ بِمَالٍ يَبْذُلُهُ يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لِلْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ أَخْذُهُ. وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا إذَا جَحَدَ الزَّوْجُ طَلَاقَهَا فَافْتَدَتْ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْخُلْعِ فِي الظَّاهِرِ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ مَا بَذَلَتْهُ وَيُخَلِّصُهَا مِنْ رِقِّ اسْتِيلَائِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إنِّي لَأُعْطِي أَحَدَهُمْ الْعَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يتلظاها نَارًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ تُعْطِيهِمْ؟ قَالَ: يَأْبَوْنَ إلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ} . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ} . فَلَو

ص: 258

أَعْطَى الرَّجُلُ شَاعِرًا أَوْ غَيْرَ شَاعِرٍ؛ لِئَلَّا يَكْذِبَ عَلَيْهِ بِهَجْوٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لِئَلَّا يَقُولَ فِي عِرْضِهِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ كَانَ بَذْلُهُ لِذَلِكَ جَائِزًا وَكَانَ مَا أَخَذَهُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَظْلِمَهُ حَرَامًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ ظُلْمِهِ. وَالْكَذِبُ عَلَيْهِ بِالْهَجْوِ مِنْ جِنْسِ تَسْمِيَةِ الْعَامَّةِ: " قَطَعَ مَصَانِعَهُ " وَهُوَ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لِلنَّاسِ وَإِنْ لَمْ يُعْطُوهُ اعْتَدَى عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَكُونَ عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ أَوْ بِأَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِمْ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَكُلُّ مَنْ أَخَذَ الْمَالَ لِئَلَّا يَكْذِبَ عَلَى النَّاسِ أَوْ لِئَلَّا يَظْلِمَهُمْ كَانَ ذَلِكَ خَبِيثًا سُحْتًا؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ وَالْكَذِبَ حَرَامٌ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَهُ بِلَا عِوَضٍ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمَظْلُومِ فَإِذَا لَمْ يَتْرُكْهُ إلَّا بِالْعِوَضِ كَانَ سُحْتًا.

فَالْمُبَاحَاتُ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْأَصْلِ: كَالصَّيُودِ الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ وَالْمُبَاحَاتِ النَّابِتَةِ فِي الْأَرْضِ وَالْمُبَاحَةِ مِنْ الْجِبَالِ وَالْبَرَارِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالْمَعَادِنِ وَكَالْمِلْحِ وكالأطرون وَغَيْرِهَا إذَا حَجَرَهَا السُّلْطَانُ وَأَمَرَ أَنْ لَا يَأْخُذَهَا إلَّا نُوَّابُهُ وَأَنْ تُبَاعَ لِلنَّاسِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ شِرَاؤُهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَظْلِمُونَ فِيهَا أَحَدًا وَلِأَنَّهُمْ هُمْ الْمَظْلُومُونَ بِحَجْرِهَا عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْتَرُوا مَا لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِلَا عِوَضٍ؛ فَإِنَّ نُوَّابَ السُّلْطَانِ لَا يَسْتَخْرِجُونَهَا إلَّا بِأَثْمَانِهَا الَّتِي أَخَذُوهَا ظُلْمًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الظُّلْمِ. قِيلَ: تِلْكَ الْأَمْوَالُ أُخِذَتْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ظُلْمًا وَالْمُسْلِمُونَ هُمْ

ص: 259

الْمَظْلُومُونَ فَقَدْ مُنِعُوا حُقُوقَهُمْ مِنْ الْمُبَاحَاتِ إلَّا بِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ يُسْتَخْرَجُ بِبَعْضِهِ تِلْكَ الْمُبَاحَاتُ وَالْبَاقِي يُؤْخَذُ وَذَلِكَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ حَلَالًا لَهُمْ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا كَانَ الظُّلْمُ فِيهِ مُنَاسِبًا مِثْلَ أَنْ يُبَاعَ كُلُّ مِقْدَارٍ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ وَيُؤْخَذُ مِنْ تِلْكَ الْأَثْمَانِ مَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ تِلْكَ الْمُبَاحَاتُ وَهُنَا لَا شُبْهَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَصْلًا؛ فَإِنَّ مَا اُسْتُخْرِجَتْ بِهِ الْمُبَاحَاتُ هُوَ حَقُّهُمْ أَيْضًا. فَهُوَ كَمَا لَوْ غَصَبَ رَجُلٌ بَيْتَ رَجُلٍ وَأَمَرَ غِلْمَانَ الْمَالِكِ أَنْ يَطْبُخُوا مِمَّا فِي بَيْتِهِ طَعَامًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْأَعْيَانَ وَالْمَنَافِعَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ وَقَعَ بِغَيْرِ وِكَالَةٍ مِنْهُ وَلَا وِلَايَةٍ عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يَحْرُمُ مَالُهُ؛ بَلْ وَلَا بَذْلُ مَالِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ كَانَ مَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ تِلْكَ الْمُبَاحَاتُ بِدُونِ الْمُعَامَلَةِ بِالْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ.

وَأَمَّا إذَا اسْتَخْرَجَ نُوَّابُ السُّلْطَانِ بِغَيْرِ حَقٍّ مَنْ يَسْتَخْرِجُ تِلْكَ الْمُبَاحَاتِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَغْصِبَ مَنْ يَطْبُخُ لَهُ طَعَامًا أَوْ يَنْسِجُ لَهُ ثَوْبًا وَبِمَنْزِلَةِ أَنْ يَطْبُخَ الطَّعَامَ بِحَطَبِ مَغْصُوبٍ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا تَكُونُ الْعَيْنُ فِيهِ مُبَاحَةً؛ لَكِنْ وَقَعَ الظُّلْمُ فِي تَحْوِيلِهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ. فَهَذَا فِيهِ شُبْهَةٌ وَطَرِيقُ التَّخَلُّصِ مِنْهَا أَنْ يَنْظُرَ النَّفْعَ الْحَاصِلَ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ بِعَمَلِ الْمَظْلُومِ فَيُعْطِي الْمَظْلُومَ أَجْرَهُ وَإِنْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ الْمَظْلُومِ تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ؛ فَإِنَّ هَذَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ اخْتَلَطَ حَلَالٌ وَحَرَامٌ؛ وَلَوْ اخْتَلَطَتْ الْأَعْيَانُ الَّتِي يَمْلِكُهَا بِالْأَثْمَانِ الَّتِي

ص: 260

غَصَبَهَا وَأَخَذَهَا حَرَامًا مِثْلَ أَنْ تَخْتَلِطَ دَرَاهِمُهُ وَدَنَانِيرُهُ بِمَا غَصَبَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَاخْتَلَطَ حَبُّهُ أَوْ ثَمَرُهُ أَوْ دَقِيقُهُ أَوْ خَلُّهُ أَوْ ذَهَبُهُ بِمَا غَصَبَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَإِنَّ هَذَا الِاخْتِلَاطَ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ مَالِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ. مُحَرَّمٌ لِوَصْفِهِ وَعَيْنِهِ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. فَهَذَا إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَائِعِ وَظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ الْخُبْثِ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ حَرُمَ. وَمُحَرَّمٌ لِكَسْبِهِ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ لَا تَحْرُمُ أَعْيَانُهَا تَحْرِيمًا مُطْلَقًا بِحَالِ وَلَكِنْ تَحْرُمُ عَلَى مَنْ أَخَذَهَا ظُلْمًا أَوْ بِوَجْهٍ مُحَرَّمٍ فَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ مِنْهَا شَيْئًا وَخَلَطَهُ بِمَالِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمُحَرَّمَ وَقَدْرُ مَالِهِ حَلَالٌ لَهُ. وَلَوْ أَخْرَجَ مِثْلَهُ مِنْ غَيْرِهِ؟ فَفِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاخْتِلَاطَ كَالتَّلَفِ فَإِذَا أَخْرَجَ مِثْلَهُ أَجْزَأَ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ مَعَ الْخَلْطِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُخْرِجَ قَدْرَ حَقِّ الْمَظْلُومِ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ الْمُخْتَلَطِ. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَإِذَا كَانَ أَثَرُ عَمَلِ الْمَظْلُومِ قَائِمًا بِالْعَيْنِ؛ مِثْلَ طَبْخِهِ أَوْ نَسْجِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ قِيمَةَ ذَلِكَ النَّفْعِ فَإِذَا أَعْطَى الْمَظْلُومَ

ص: 261

قِيمَةَ ذَلِكَ النَّفْعِ أَخَذَ حَقَّهُ فَلَا يَبْقَى لِصَاحِبِ الْعَيْنِ شَرِيكٌ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمَظْلُومَ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَا لَوْ حَصَلَ بِيَدِهِ أَثْمَانٌ مِنْ غصوب وَعَوَارٍ وَوَدَائِعَ لَا يَعْرِفُ أَصْحَابَهَا فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْمَعْجُوزُ عَنْهُ كَالْمَعْدُومِ؛ وَلِهَذَا {قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي اللُّقَطَةِ: فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} . فَإِذَا كَانَ فِي اللُّقَطَةِ الَّتِي تَحْرُمُ بِأَنَّهَا سَقَطَتْ مِنْ مَالِكٍ لَمَّا تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ صَاحِبِهَا جَعَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُلْتَقِطِ - وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَوَازِ صَدَقَتِهِ بِهَا وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ تَمَلُّكِهِ لَهَا مَعَ الْغِنَى وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ - فَكَيْفَ مَا يَجْهَلُ فِيهِ ذَلِكَ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ آثَارٌ مَعْرُوفَةٌ مِثْلُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا اشْتَرَى جَارِيَةً ثُمَّ خَرَجَ لِيُوَفِّيَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ فَلَمْ يَجِدْهُ فَجَعَلَ يَطُوفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذِهِ عَنْ صَاحِبِ الْجَارِيَةِ فَإِنْ رَضِيَ فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتِي وَإِنْ لَمْ يَرْضَ فَهُوَ عَنِّي وَلَهُ عَلَيَّ مِثْلُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَحَدِيثُ الرَّجُلِ الَّذِي غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ فِي غَزْوَةِ قُبْرُصَ وَجَاءَ إلَى مُعَاوِيَةَ يَرُدُّ إلَيْهِ الْمَغْلُولَ فَلَمْ يَأْخُذْهُ فَاسْتَفْتَى بَعْضَ التَّابِعِينَ فَأَفْتَاهُ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ عَنْ الْجَيْشِ وَرَجَعَ إلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يَقُولُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وَالْمَالُ

ص: 262

الَّذِي لَا نَعْرِفُ مَالِكَهُ يَسْقُطُ عَنَّا وُجُوبُ رَدِّهِ إلَيْهِ فَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّدَقَةُ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا أَصْلٌ عَامٌّ فِي كُلِّ مَالٍ جُهِلَ مَالِكُهُ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ رَدُّهُ إلَيْهِ. كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَوَارِيّ وَالْوَدَائِعُ تُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَإِذَا صُرِفَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَازَ لِلْفَقِيرِ أَخْذُهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ هُنَا إنَّمَا يُعْطِيهَا نِيَابَةً عَنْ صَاحِبِهَا؛ بِخِلَافِ مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ غُلُولٍ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ} . فَهَذَا الَّذِي يَحُوزُ الْمَالَ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ. مَعَ إمْكَانِ رَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ يَتَصَدَّقُ صَدَقَةَ مُتَقَرِّبٍ كَمَا يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ فَاَللَّهُ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ وَأَمَّا ذَاكَ فَإِنَّمَا يَتَصَدَّقُ بِهِ صَدَقَةَ مُتَحَرِّجٍ مُتَأَثِّمٍ فَكَانَتْ صَدَقَتُهُ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إلَى أَصْحَابِهَا وَبِمَنْزِلَةِ إعْطَاءِ الْمَالِ لِلْوَكِيلِ الْمُسْتَحِقِّ لَيْسَ هُوَ مِنْ الصَّدَقَةِ الدَّاخِلَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ} .

ص: 263

وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

عَنْ مَدِينَةٍ لَا يُذْبَحُ فِيهَا شَاةٌ إلَّا وَيَأْخُذُ الْمُكَّاسُ سِقْطَهَا وَرَأْسَهَا وكوارعها مَكْسًا ثُمَّ يَضَعُ ذَلِكَ وَيَبِيعُهُ فِي الْأَسْوَاقِ وَفِي الْمَدِينَةِ مَنْ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ شِرَاءِ ذَلِكَ وَأَكْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَيْسَ يُبَاعُ فِي الْمَدِينَةِ رُءُوسٌ وكوارع وَأَسْقَاطٌ إلَّا عَلَى هَذَا الْحُكْمِ وَلَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ. فَهَلْ يَحْرُمُ شِرَاءُ ذَلِكَ وَأَكْلُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟ أَمْ لَا؟.

فَأَجَابَ:

هَذِهِ حُكْمُهَا حُكْمُ مَا يَأْخُذُهُ الْمُلُوكُ مِنْ الْكُلَفِ الَّتِي يَضْرِبُونَهَا عَلَى النَّاسِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ تُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِ أَصْحَابِ الْغَنَمِ الَّذِينَ يَبِيعُونَهَا لِلْقَصَّابِينَ وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْسِبُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ السَّوَاقِطِ فَيُسْقِطُ مِنْ الثَّمَنِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَهَكَذَا جَمِيعُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْكُلَفِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تُؤْخَذُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ وَهَذِهِ الْكُلَفُ دَخَلَهَا التَّأْوِيلُ وَالشُّبْهَةُ. وَمِنْهَا مَا هُوَ ظُلْمٌ مَحْضٌ وَلَكِنْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهِ وَرَدُّهُ إلَيْهِمْ فَوَجَبَ صَرْفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَوِلَايَةُ بَيْعِهَا وَصَرْفِهَا لَهُمْ. فَالْمُشْتَرِي لِذَلِكَ مِنْهُمْ إذَا أَعْطَاهُمْ الثَّمَنَ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاءِ الْمَغْصُوبِ

ص: 264

الْمَحْضِ الَّذِي لَا تَأْوِيلَ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ وِلَايَةُ بَيْعِهِ حَتَّى يُقَالَ: إنَّهُ فَعَلَ مُحَرَّمًا يَفْسُقُ بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ. وَفِي الْمَنْعِ مِنْ شِرَائِهَا إضْرَارٌ بِالنَّاسِ وَإِفْسَادٌ لِلْأَمْوَالِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ تَعُودُ عَلَى الْمَظْلُومِ. وَالْمَظْلُومُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ ظَالِمَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ إنْ شَاءَ وَبِنَظِيرِ مَالِهِ وَالتَّوَرُّعُ عَنْ هَذَا مِنْ التَّوَرُّعِ عَنْ الشُّبُهَاتِ وَلَا نَحْكُمُ بِأَنَّهَا حَرَامٌ مَحْضٌ وَمَنْ اشْتَرَاهَا وَأَكَلَهَا لَمْ يَجِبْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ فَعَلَ مُحَرَّمًا لَا تَأْوِيلَ فِيهِ. فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ الْفُقَهَاءِ أَفْتَوْا طَائِفَةً مِنْ الْمُلُوكِ بِجَوَازِ وَضْعِ أَصْلِ هَذِهِ الْوَظَائِفِ. كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي فِي كِتَابِهِ " غِيَاثِ الْأُمَمِ " وَكَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ. وَمَا قُبِضَ بِتَأْوِيلٍ فَإِنَّهُ يَسُوغُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِمَّنْ قَبَضَهُ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ مُحَرَّمٌ كَالذِّمِّيِّ إذَا بَاعَ خَمْرًا وَأَخَذَ ثَمَنَهُ جَازَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُعَامِلَهُ فِي ذَلِكَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْخَمْرِ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا أَثْمَانَهَا. وَهَذَا كَانَ سَبَبُهُ أَنَّ بَعْضَ عُمَّالِهِ أَخَذَ خَمْرًا فِي الْجِزْيَةِ وَبَاعَ الْخَمْرَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ. وَقَالَ: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا أَثْمَانَهَا. وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ عُمَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ. وَهَكَذَا مَنْ عَامَلَ مُعَامَلَةً يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا فِي مَذْهَبِهِ وَقَبَضَ الْمَالَ

ص: 265

جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ الْمَالَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَرَى جَوَازَ تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ. فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْوَظَائِفَ قَدْ فَعَلَهَا مَنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا؛ لِإِفْتَاءِ بَعْضِ النَّاسِ لَهُ بِذَلِكَ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ اعْتِقَادَ أَخْذِ هَذَا الْمَالِ وَصَرْفَهُ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَصَالِحِ جَائِزٌ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ الْمَالَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدُ جَوَازَ أَصْلِ الْقَبْضِ. وَعَلَى هَذَا فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ فِيمَا فَعَلُوهُ تَأْوِيلًا سَائِغًا جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا قَبَضُوهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَجُوزُ مَا فَعَلُوهُ مِثْلَ أَنْ يَقْبِضَ وَلِيُّ الْأَمْرِ مِنْ الزَّكَاةِ قِيمَتَهَا فَيَشْتَرِي مِنْهَا وَمِثْلَ أَنْ يُصَادِرَ بَعْضَ الْعُمَّالِ مُصَادَرَةً يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا أَوْ مِثْلَ أَنْ يَرَى الْجِهَادَ وَجَبَ عَلَى النَّاسِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنَّ مَا أَخَذُوهُ مِنْ الْوَظَائِفِ هُوَ مِنْ الْمَالِ الَّذِي يَجُوزُ أَخْذُهُ وَصَرْفُهُ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ خَطَأً وَلَكِنَّهَا مِمَّا قَدْ سَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ. فَإِذَا كَانَ قَبَضَ وَلِيُّ الْأَمْرِ الْمَالَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَازَ شِرَاؤُهُ مِنْهُ وَجَازَ شِرَاؤُهُ مِنْ نَائِبِهِ الَّذِي أَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي لَا يُسَوِّغُ قَبْضَهُ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَظْلِمْ صَاحِبَهُ فَإِنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمَالِهِ مِمَّنْ قَبَضَهُ قَبْضًا يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ. وَإِنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَشِرَاؤُهُ حَلَالٌ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ؛ وَلَيْسَ مِنْ الشُّبُهَاتِ؛ فَإِنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْكُفَّارِ مَا قَبَضُوا بِعُقُودٍ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَهَا - وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ - فَلِأَنْ

ص: 266

يَجُوزَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْمُسْلِمِ مَا قَبَضَهُ بِعَقْدٍ يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ - وَإِنْ كُنَّا نَرَاهُ مُحَرَّمًا - بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ فَإِنَّ الْكَافِرَ تَأْوِيلُهُ الْمُخَالِفُ لِدِينِ الْإِسْلَامِ بَاطِلٌ قَطْعًا بِخِلَافِ تَأْوِيلِ الْمُسْلِمِ. وَلِهَذَا إذَا أَسْلَمُوا وَتَحَاكَمُوا إلَيْنَا وَقَدْ قَبَضُوا أَمْوَالًا بِعُقُودٍ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَهَا: كَالرِّبَا وَثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْأَمْوَالُ. كَمَا لَا تَحْرُمُ مُعَامَلَتُهُمْ فِيهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} . وَلَمْ يُحَرِّمْ مَا قَبَضُوهُ. وَهَكَذَا مَنْ كَانَ قَدْ عَامَلَ مُعَامَلَاتٍ رِبَوِيَّةً يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ وَكَانَتْ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا قَبَضَهُ بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَا قَبَضَهُ الْمُلُوكُ ظُلْمًا مَحْضًا: إذَا اخْتَلَطَ بِمَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ إلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ فَمَا عُرِفَ أَنَّهُ قُبِضَ ظُلْمًا وَلَمْ يُعْرَفْ صَاحِبُهُ: صُرِفَ فِي الْمَصَالِحِ وَمَا قُبِضَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الْمُخْتَلَطِ حَلَالُهُ بِحَرَامِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِأَنَّهُ حَرَامٌ؛ فَإِنَّ الِاخْتِلَاطَ إذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ الْمَالُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ وَصَاحِبُهُ يَسْتَحِقُّ عِوَضَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. فَمَنْ قَبَضَ ثَمَنَ مَبِيعٍ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ الْمُخْتَلَطِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 267

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

عَنْ هَذِهِ الْأَغْنَامِ الَّتِي تُبَاعُ فَيُؤْخَذُ مَكْسُهَا مِنْ الْقَصَّابِينَ فَيَحْتَجِرُ عَلَيْهِمْ فِي الذَّبِيحَةِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ أُجْرَةُ الذَّبْحِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ سَوَاقِطُهَا مَكْسًا ثَانِيًا مُضَمَّنًا ثُمَّ تُطْبَخُ وَتُبَاعُ. فَهَلْ هِيَ حَرَامٌ عَلَى مَنْ اشْتَرَاهَا لِلْأَكْلِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ هَذَا التَّكَسُّبُ فِيهَا حَرَامٌ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ: فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: هَذَا مَالٌ أُخِذَ مِنْ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَبِيعَ بِلَا وِلَايَةٍ وَلَا وِكَالَةٍ فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ؛ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ وَقَدْ طُبِخَ هَذَا وَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هَذَا مَالُ وُلَاةِ الْأُمُورِ؛ إمَّا مُتَأَوِّلِينَ أَوْ مُتَعَمِّدِينَ لِلظُّلْمِ وَإِذَا لَمْ يَرُدُّوهُ إلَى أَصْحَابِهِ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ بَيْعَهُ؛ لِأَنَّ حَبْسَهُ حَتَّى يَفْسُدَ ضَرَرٌ لَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّارِعُ وَلَوْ بِيعَ الْمَالُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ كَانَ بَيْعُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَمَا بَاعَهُ

ص: 268

وُلَاةُ الْأَمْرِ فَلَهُمْ مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ الْمَجْهُولَةِ الَّتِي قَبَضَهَا نُوَّابُهُمْ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ وَقَدْ تَعَذَّرَ بَعْدَ الْقَبْضِ مَعْرِفَةُ مَالِكِ كُلِّ رَأْسٍ وَالْمَصْلَحَةُ بَيْعُهَا وَقِسْمَةُ الْأَثْمَانِ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ فَإِنْ بَاعُوهَا وَلَمْ يَقْسِمُوا أَثْمَانَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُشْتَرِي إثْمٌ؛ وَإِنَّمَا الْإِثْمُ عَلَى مَنْ يَمْنَعُ أَصْحَابَهَا أَثْمَانَهَا. كَمَا لَوْ بَاعَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرُ الْوَقْفِ وَوَلِيُّ بَيْتِ الْمَالِ وَلَمْ يَصْرِفْ الثَّمَنَ إلَى الْمُسْتَحِقِّينَ فَالْإِثْمُ عَلَيْهِ؛ لَا عَلَى الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ. ثُمَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْهَا وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ فَاسِدًا أُخِذَتْ مِنْهُمْ أَثْمَانُهَا فَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ أَثْمَانَهَا الَّتِي أَدَّوْهَا وَقَدْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فَظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ وَلَمْ يَعْرِفْ مَالِكَهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ؛ وَلَكِنْ يَتَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ. وَالطَّبَّاخُونَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الرُّءُوسَ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا: لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهَا وَيَأْخُذُوا نَظِيرَ أَثْمَانِهَا؛ إنْ لَمْ يَكُنْ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ صَحِيحًا وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الشِّرَاءُ صَحِيحًا وَقَدْ أَجَازُوا الْبَيْعَ فَيَجُوزُ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. فَهَذِهِ عِدَّةُ مَآخِذَ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ يُجَوِّزُ الشِّرَاءَ. فَمَنْ اشْتَرَاهَا وَاتَّبَعَ هَؤُلَاءِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَمَنْ قَامَتْ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ أَوْ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ فَامْتَنَعَ مِنْ شِرَائِهَا لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ. وَلَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِتَحْرِيمِ مِثْلِ هَذَا؛

ص: 269

فَإِنَّ كَثِيرًا لَا بُدَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ يَحْتَجِرُ عَلَيْهِ وُلَاةُ الْأُمُورِ يَبِيعُونَهُ لِلنَّاسِ. وَلَا يُمْكِنُ لِلنَّاسِ أَخْذُهُ إلَّا مِنْ أُولَئِكَ. وَمِنْ هَذَا مَا يَكُونُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ: كَالْمِلْحِ والأطرون وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَمْلُوكَاتِ. كَالصُّوفِ وَالْجُلُودِ وَالشَّعْرِ كَمَا يَبِيعُونَهُ مِنْ أَمْوَالِ مَنْ يُصَادِرُونَهُ وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يُقْبَضُ بِحَقِّ. وَمِنْهُ مَا يُقْبَضُ بِتَأْوِيلِ. وَمِنْهُ مَا يُقْبَضُ ظُلْمًا مَحْضًا؛ لَكِنْ جَمِيعُ ذَلِكَ يُرَدُّ إلَى أَصْحَابِهِ؛ بَلْ قَدْ يَتَعَذَّرُ رَدُّهُ إلَى أَصْحَابِهِ؛ إمَّا لِجَهْلِهِمْ وَإِمَّا لِعَجْزِهِ عَنْ رَدِّهِ إلَيْهِمْ. وَالْمَجْهُولُ وَالْمَعْجُوزُ عَنْهُ سَقَطَ التَّكْلِيفُ بِهِ وَإِمَّا لِإِجْبَارِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الظُّلْمِ. وَعَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَيْنِ فَبَيْعُهُ خَيْرٌ لِصَاحِبِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يُتْرَكَ فَيَفْسُدُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ. وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ الْأَصْلَحُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بَيْعَهُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَيَكُونُ حَلَالًا لَهُ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَظْلِمْ أَحَدًا؛ فَإِنَّهُ أَدَّى الثَّمَنَ. وَالْمَظْلُومُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَسْتَحِقُّ الثَّمَنَ إذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ لَهُ بَيْعَهُ كَمَا يُبَاعُ مَالُ الْغَائِبِ حَتَّى لَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ بِمَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ وَلِيُّ أَمْرٍ: فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: لِرُفْقَتِهِ وِلَايَةُ قَبْضٍ ذَلِكَ وَبَيْعُهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ عِنْدَهُ أَمْوَالٌ مَغْصُوبَةٌ وَعَوَارٍ وَوَدَائِعُ لَا يَعْرِفُ أَصْحَابَهَا: فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد أَنَّهَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَيَجُوزُ شِرَاؤُهَا.

ص: 270

وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ بَعَثَ الرُّسُلَ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَتَقْدِيمِ خَيْرِ الْأَمْرَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى عِبَادِهِ وَأَوْجَبَ الْعَدْلَ فَإِذَا قُدِّرَ ظُلْمٌ وَفَسَادٌ وَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ كَانَ الْوَاجِبُ تَخْفِيفَهُ وَتَحَرِّي الْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَاَللَّهُ حَرَّمَ الظُّلْمَ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ وَفِي الْأَمْوَالِ الْمَمْلُوكَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ. فَلَوْ قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ لَا تُشْتَرَى وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمِلْحِ وَلَا جُلُودٍ وَلَا رُءُوسٍ وَلَا شُعُورٍ وَلَا أَصْوَافٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَاعُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ ضَرَرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَفَسَادٍ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ أَنْ يُقَالَ: بَلْ حَقُّ الْمَظْلُومِ عِنْدَ الظَّالِمِ الَّذِي قَبَضَ ثَمَنَهَا وَالْمُشْتَرِي اشْتَرَاهَا بِحَقِّ فَتَحِلُّ لَهُ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ هَذَا كَانَ فِيهِ جَبْرُ حَقِّ الْمَظْلُومِ بِإِحَالَتِهِ عَلَى الظَّالِمِ وَجَبْرُ حَقِّ عُمُومِ الْخَلْقِ بِتَمْكِينِهِمْ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِالْأَثْمَانِ؛ لَا سِيَّمَا وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ أَصْحَابَ تِلْكَ الرُّءُوسِ وَنَحْوِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَكْرَهُونَ بَيْعَهَا إذْ لَا مَصْلَحَةَ لَهُمْ فِي إفْسَادِهَا فَإِذَا بِيعَتْ فَقَدْ فَعَلَ مَا يَخْتَارُونَ فِعْلَهُ وَمَا يَرْضَوْنَهُ؛ لَكِنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ تُؤْخَذَ أَثْمَانُهَا مِنْهُمْ؛ بَلْ يَرْضَوْنَ أَنْ تُدْفَعَ إلَيْهِمْ الْأَثْمَانُ. وَحِينَئِذٍ فَهُمْ رَاضُونَ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهَا وَانْتِفَاعِهِمْ بِهَا؛ وَلَكِنْ لَا يَرْضَوْنَ عَمَّنْ بَاعَهَا إلَّا بِأَنْ يُعْطِيَهُمْ الثَّمَنَ فَيَكُونُ هُوَ وَحْدَهُ

ص: 271

ظَلَمَهُمْ لَمْ يَظْلِمْهُمْ الْمُشْتَرِي فَتَكُونُ لَهُ حَلَالًا. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَنُكْتَةُ الْمَنْعِ أَنَّ الْمُحَرِّمَ لَهَا يَقُولُ: بِيعَتْ بِغَيْرِ إذْنٍ وَلَا وِكَالَةٍ وَلَا وِلَايَةٍ. وَهَذَا مَمْنُوعٌ؛ بَلْ يُقَالُ: هُمْ يَرْضَوْنَ بَيْعَهَا وَقَدْ أَذِنُوا فِي ذَلِكَ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَرْضَوْا أَنْ تُؤْخَذَ الْأَثْمَانُ. كَمَا لَوْ قُدِّرَ أَنَّ شَخْصًا أَذِنَ لِشَخْصٍ فَبَاعَ وَأَخَذَ الثَّمَنَ لِنَفْسِهِ فَالْمَالِكُ رَاضٍ بِالْبَيْعِ؛ دُونَ قَبْضِهِ الثَّمَنَ لَهُ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَأْذَنْ فِي الْبَيْعِ فَمَصْلَحَتُهُ فِي الشَّرْعِ تَقْتَضِي أَنْ يُبَاعَ فَهَذَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَفْسُدَ وَلَا يُمْكِنَ أَنْ يُبَاعَ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَأَنْ يُبَاعَ وَيُقْبَضَ الثَّمَنُ - كَائِنًا مَنْ كَانَ - خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَفْسُدَ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُمْكِنُ مُطَالَبَةُ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ مَعَ انْتِفَاعِ النَّاسِ بِهَا وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ مُطَالَبَةِ الْغَاصِبِ بِالْقِيمَةِ مَعَ فَسَادِهَا. وَالْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا يَطُولُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ الَّذِينَ غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ حَرَامٌ مِثْلَ المكاسين وَأَكَلَةِ الرِّبَا وَأَشْبَاهِهِمْ. وَمِثْلَ أَصْحَابِ الْحِرَفِ الْمُحَرَّمَةِ كَمُصَوِّرِي الصُّوَرِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَمِثْلَ أَعْوَانِ الْوُلَاةِ. فَهَلْ يَحِلُّ أَخْذُ طَعَامِهِمْ بِالْمُعَامَلَةِ؟ أَمْ لَا؟ .

ص: 272

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا كَانَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ وَحَرَامٌ فَفِي مُعَامَلَتِهِمْ شُبْهَةٌ؛ لَا يُحْكَمُ بِالتَّحْرِيمِ إلَّا إذَا عُرِفَ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مَا يَحْرُمُ إعْطَاؤُهُ. وَلَا يُحْكَمُ بِالتَّحْلِيلِ إلَّا إذَا عُرِفَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ مِنْ الْحَلَالِ. فَإِنْ كَانَ الْحَلَالُ هُوَ الْأَغْلَبَ لَمْ يُحْكَمْ بِتَحْرِيمِ الْمُعَامَلَةِ وَإِنْ كَانَ الْحَرَامُ هُوَ الْأَغْلَبَ. قِيلَ بِحِلِّ الْمُعَامَلَةِ. وَقِيلَ: بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ. فَأَمَّا الْمُعَامِلُ بِالرِّبَا فَالْغَالِبُ عَلَى مَالِهِ الْحَلَالُ؛ إلَّا أَنْ يُعْرَفُ الْكُرْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا بَاعَ أَلْفًا بِأَلْفِ وَمِائَتَيْنِ فَالزِّيَادَةُ هِيَ الْمُحَرَّمَةُ فَقَطْ وَإِذَا كَانَ فِي مَالِهِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ وَاخْتَلَطَ لَمْ يَحْرُمْ الْحَلَالُ؛ بَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ الْحَلَالِ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَالُ لِشَرِيكَيْنِ فَاخْتَلَطَ مَالُ أَحَدِهِمَا بِمَالِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ. وَكَذَلِكَ مَنْ اخْتَلَطَ بِمَالِهِ: الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ أَخْرَجَ قَدْرَ الْحَرَامِ وَالْبَاقِي حَلَالٌ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَمَّا يَأْكُلُهُ رُؤَسَاءُ الْقُرَى وَشُيُوخُ الْحَارَاتِ.

هَلْ هُوَ حَلَالٌ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

إذَا كَانَ الرَّئِيسُ يَظْلِمُ النَّاسَ فَمَا يَأْخُذُهُ ظُلْمًا مِنْ النَّاسِ فَهُوَ حَرَامٌ. وَمَا كَانَ مِلْكًا لَهُ أَوْ مُكْتَسَبًا بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ مُبَاحٌ. وَشَيْخُ الْحَارَةِ إذَا أَخَذَ أُجْرَتَهُ عَلَى الْحِرَاسَةِ بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ يَتَعَدَّ عَلَى النَّاسِ، فَأُجْرَتُهُ حَلَالٌ.

ص: 273

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ فامي يَأْخُذُ مِنْهُ رُؤَسَاءُ الْقُرَى شَيْئًا يُضِيفُونَ بِهِ الْمُنْقَطِعِينَ وَغَيْرَهُمْ وَيَجْبُونَ مِنْ الْمَسَاكِينِ وَالْأَرَامِلِ فَيُعْطُوهُ هَلْ يَكُونُ حَلَالًا؟ أَمْ حَرَامًا؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا اشْتَرَوْا مِنْهُمْ شَيْئًا وَأَعْطَوْهُمْ ثَمَنَهُ مِنْ مَالٍ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ - أُخِذَ مِنْ أَصْحَابِهِ ظُلْمًا - لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهِ؛ لَكِنَّ هَذَا الْمَالَ إذَا اشْتَرَى لَهُمْ بِهِ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ إذَا كَانُوا الْمُكْرَهِينَ عَلَى ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ يَتَّقِي أَنْ يَظْلِمَ وَأَنْ يُظْلَمَ: أَنْ يَشْتَرِيَ لِلظَّلَمَةِ بِأَمْوَالِهِمْ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنْهُ لَا لِيَظْلِمَ غَيْرَهُ وَلَا يَكُونَ هُوَ مَظْلُومًا وَهُوَ مُكْرَهٌ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ. وَمَعَ هَذَا فَالْمَالُ الَّذِي جَمَعُوهُ مِنْ النَّاسِ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا أَعْطَوْهُ الفامي عِوَضًا عَمَّا أَخَذُوهُ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِمَّنْ يُعْطَاهُ بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ وَالظَّالِمُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الَّذِي أَخَذَ الْأَمْوَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا مَنْ أَخَذَ عِوَضَ مَالِهِ مِنْ مَالٍ لَا يَعْلَمُ لَهُ مُسْتَحِقًّا مُعَيَّنًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 274

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ مُعَامَلَةِ التَّتَارِ:

هَلْ هِيَ مُبَاحَةٌ لِمَنْ يُعَامِلُونَهُ؟

فَأَجَابَ:

أَمَّا مُعَامَلَةُ التَّتَارِ فَيَجُوزُ فِيهَا مَا يَجُوزُ فِي أَمْثَالِهِمْ وَيَحْرُمُ فِيهَا مَا يَحْرُمُ مِنْ مُعَامَلَةِ أَمْثَالِهِمْ فَيَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ الرَّجُلُ مِنْ مَوَاشِيهِمْ وَخَيْلِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا يَبْتَاعُ مِنْ مَوَاشِي التُّرْكُمَانِ وَالْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ وَخَيْلِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَا يَبِيعُهُ لِأَمْثَالِهِمْ. فَأَمَّا إنْ بَاعَهُمْ وَبَاعَ غَيْرَهُمْ مَا يُعِينُهُمْ بِهِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ. كَالْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ لِمَنْ يُقَاتِلُ بِهِ قِتَالًا مُحَرَّمًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً: لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا} فَقَدْ لَعَنَ الْعَاصِرَ وَهُوَ إنَّمَا يَعْصِرُ عِنَبًا يَصِيرُ عَصِيرًا وَالْعَصِيرُ حَلَالٌ يُمْكِنُ أَنْ يُتَّخَذَ خَلًّا وَدِبْسًا وَغَيْرَ ذَلِكَ.

ص: 275

وَإِنْ كَانَ الَّذِي مَعَهُمْ أَوْ مَعَ غَيْرِهِمْ أَمْوَالٌ يُعْرَفُ أَنَّهُمْ غَصَبُوهَا مِنْ مَعْصُومٍ فَتِلْكَ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاؤُهَا لِمَنْ يَتَمَلَّكُهَا؛ لَكِنْ إذَا اُشْتُرِيَتْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِنْقَاذِ لِتُصْرَفَ فِي مَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ فَتُعَادَ إلَى أَصْحَابِهَا إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا صُرِفَتْ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ هَذَا. وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ فِي أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا مُحَرَّمًا لَا تُعْلَمُ عَيْنُهُ فَهَذَا لَا يَحْرُمُ مُعَامَلَتُهُمْ كَمَا إذَا عُلِمَ أَنَّ فِي السُّوقِ مَا هُوَ مَغْصُوبٌ أَوْ مَسْرُوقٌ وَلَمْ يُعْلَمْ عَيْنُهُ وَالْحَرَامُ إذَا اخْتَلَطَ بِالْحَلَالِ فَهَذَا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ. كَالْمَيْتَةِ وَالْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ. فَهَذَا إذَا اشْتَبَهَ بِمَا لَا يُحْصَرُ لَمْ يَحْرُمْ مِثْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فِي الْبَلْدَةِ الْفُلَانِيَّةِ أُخْتًا لَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا أَوْ فِيهَا مَنْ يَبِيعُ مَيْتَةً لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا فَهَذَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّسَاءُ وَلَا اللَّحْمُ. وَأَمَّا إذَا اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّةِ أَوْ الْمُذَكَّى بِالْمَيِّتِ حُرِّمَا جَمِيعًا. وَالثَّانِي: مَا حَرُمَ لِكَوْنِهِ أُخِذَ غَصْبًا وَالْمَقْبُوضُ بِعُقُودٍ مُحَرَّمَةٍ كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ فَهَذَا إذَا اشْتَبَهَ وَاخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ لَمْ يَحْرُمْ الْجَمِيعُ؛ بَلْ يُمَيِّزُ قَدْرَ هَذَا مِنْ قَدْرِ هَذَا فَيُصْرَفُ هَذَا إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَهَذَا إلَى مُسْتَحِقِّهِ؛ مِثْلُ اللِّصِّ الَّذِي أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ فَخَلَطَهَا أَوْ أَخَذَ حِنْطَةَ النَّاسِ أَوْ دَقِيقَهُمْ فَخَلَطَهُ فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْحُقُوقِ.

ص: 276

وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ فِي الْبَلَدِ شَيْئًا مِنْ هَذَا لَا يُعْلَمُ عَيْنُهُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى النَّاسِ الشِّرَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ أَكْثَرُ مَالِ الرَّجُلِ حَرَامًا هَلْ تَحْرُمُ مُعَامَلَتُهُ؟ أَوْ تُكْرَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى مَالِهِ الْحَلَالَ لَمْ تَحْرُمْ مُعَامَلَتُهُ؛ لَكِنْ قَدْ قِيلَ: إنَّهُ مِنْ الْمُشْتَبَهِ الَّذِي يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ:

فَصْلٌ:

قَدْ ذَكَرْت فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ تَرْجِعُ إلَى الظُّلْمِ إمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِمَّا فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَإِمَّا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَكُلَّمَا كَانَ ظُلْمًا فِي حَقِّ الْعِبَادِ فَهُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ؛ وَلَا يَنْعَكِسُ فَجَمِيعُ الذُّنُوبِ تَدْخُلُ فِي ظُلْمِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ. وَأَوَّلُ مَنْ اعْتَرَفَ بِهَذَا أَبُو الْبَشَرِ لَمَّا تَلَقَّى مِنْ رَبِّهِ الْكَلِمَاتِ فَقَالَ:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فَكَانَ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ اعْتِرَافُهُ بِذَنْبِهِ وَطَلَبُهُ رَبَّهُ عَلَى وَجْهِ الِافْتِقَارِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. فَالْمَغْفِرَةُ إزَالَةُ السَّيِّئَاتِ وَالرَّحْمَةُ إنْزَالُ

ص: 277

الْخَيْرَاتِ فَهَذَا ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ لَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ لِغَيْرِهِ. وَقَالَ مُوسَى عليه السلام لَمَّا ذَكَرَ الَّذِي هُوَ مِنْ عَدُوِّهِ {فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} {قَالَ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} فَاعْتَرَفَ بِظُلْمِهِ نَفْسَهُ فِيمَا كَانَ مِنْ جِنَايَةٍ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا. وَقَالَ يُونُسُ عليه السلام {لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وَفِي الصَّحِيحِ {الدُّعَاءُ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ فِي صَلَاتِهِ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فَهَذَا الدُّعَاءُ مُطَابِقٌ لِدُعَاءِ آدَمَ فِي الِاعْتِرَافِ بِظُلْمِ النَّفْسِ وَمَسْأَلَةِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. {وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ: فَحَمِدَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، ثُمَّ يَضْحَكُ} وَهُوَ مَحْفُوظٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالظُّلْمُ نَوْعَانِ: تَفْرِيطٌ فِي الْحَقِّ وَتَعَدٍّ لِلْحَدِّ كَمَا قَدْ قَرَّرْت ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ ظُلْمٌ كَمَا أَنَّ فِعْلَ الْمُحَرَّمِ ظُلْمٌ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَطْلَ - وَهُوَ تَأْخِيرُ الْوَفَاءِ - ظُلْمٌ فَكَيْفَ بِتَرْكِهِ

ص: 278

وَقَدْ قَرَّرْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ أَعْظَمُ مِنْ تَرْكِ الْمُحَرَّمِ وَأَنَّ الطَّاعَاتِ الْوُجُودِيَّةَ أَعْظَمُ مِنْ الطَّاعَاتِ الْعَدَمِيَّةِ فَيَكُونُ جِنْسُ الظُّلْمِ بِتَرْكِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ أَعْظَمَ مِنْ جِنْسِ الظُّلْمِ بِتَعَدِّي الْحُدُودِ. وَقَرَّرْت أَيْضًا أَنَّ الْوَرَعَ الْمَشْرُوعَ هُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبِ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ لَيْسَ هُوَ تَرْكَ الْمُحَرَّمِ فَقَطْ وَكَذَلِكَ التَّقْوَى اسْمٌ لِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ. كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ حَدَّهَا فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} - إلَى قَوْلِهِ - {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . وَمِنْ هُنَا يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَيَنْظُرُونَ مَا فِي الْفِعْلِ أَوْ الْمَالِ مِنْ كَرَاهَةٍ تُوجِبُ تَرْكَهُ وَلَا يَنْظُرُونَ مَا فِيهِ مِنْ جِهَةِ أَمْرٍ يُوجِبُ فِعْلَهُ. مِثَالُ ذَلِكَ مَا سُئِلَ عَنْهُ أَحْمَد: عَنْ رَجُلٍ تَرَكَ مَالًا فِيهِ شُبْهَةٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَسَأَلَهُ الْوَارِثُ هَلْ يَتَوَرَّعُ عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ الْمُشْتَبَهِ؟ فَقَالَ لَهُ أَحْمَد: أَتَتْرُكُ ذِمَّةَ أَبِيك مُرْتَهِنَةً ذَكَرَهَا أَبُو طَالِبٍ [وَابْنُ حَامِدٍ](*). وَهَذَا عَيْنُ الْفِقْهِ؛ فَإِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ وَالْغَرِيمُ حَقُّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّرِكَةِ فَإِنْ لَمْ يُوَفِّ الْوَارِثُ الدَّيْنَ وَإِلَّا فَلَهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ التَّرِكَةِ فَلَا يَجُوزُ إضَاعَةُ التَّرِكَةِ المشتبهة الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَرِيمِ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا إضْرَارُ الْمَيِّتِ بِتَرْكِ ذِمَّتِهِ مُرْتَهِنَةً. فَفِي الْإِعْرَاضِ عَنْ التَّرِكَةِ إضْرَارُ الْمَيِّتِ وَإِضْرَارُ الْمُسْتَحِقِّ وَهَذَانِ ظُلْمَانِ مُحَقَّقَانِ بِتَرْكِ وَاجِبَيْنِ. وَأَخْذُ الْمَالِ الْمُشْتَبَهِ

قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 87 - هامش):

(*) كذا: وهو تصحيف صوابه (أبو حامد) وهو الغزالي، فإنه صرح به في هذا الموضع (10/ 644) فقال (كما ذكر أبو طالب المكي وأبو حامد الغزالي عن الإمام أحمد).

هذا النص موجود في (التعليق - 10/ 644) ونقلته هنا للفائدة.

أسامة بن الزهراء - منسق الكتاب للموسوعة الشاملة

ص: 279

يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَرَرُ الْمَظْلُومِ. فَقَالَ أَحْمَد لِلْوَارِثِ: أَبْرِئْ ذِمَّةَ أَبِيك. فَهَذَا الْمَالُ الْمُشْتَبَهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهَا مُرْتَهِنَةً بِالْأَعْرَاضِ. وَهَذَا الْفِعْلُ وَاجِبٌ عَلَى الْوَارِثِ وُجُوبَ عَيْنٍ إنْ لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ فِيهِ مَقَامَهُ أَوْ وُجُوبَ كِفَايَةٍ أَوْ مُسْتَحَبٌّ اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِحْبَابِ فِي تَرْكِ الشُّبْهَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ. وَهَكَذَا جَمِيعُ الْخَلْقِ عَلَيْهِمْ وَاجِبَاتٌ: مِنْ نَفَقَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَأَقَارِبِهِمْ وَقَضَاءِ دُيُونِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِذَا تَرَكُوهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ظُلْمًا مُحَقَّقًا. وَإِذَا فَعَلُوهَا بِشُبْهَةٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ ظُلْمُهُمْ. فَكَيْفَ يَتَوَرَّعُ الْمُسْلِمُ عَنْ ظُلْمٍ مُحْتَمَلٍ بِارْتِكَابِ ظُلْمٍ مُحَقَّقٍ وَلِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُحِبُّ الْمَالَ: يَعْبُدُ بِهِ رَبَّهُ وَيُؤَدِّي بِهِ أَمَانَتَهُ وَيَصُونُ بِهِ نَفْسَهُ وَيَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ الْخَلْقِ. وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: النَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ وَالْمُكَاتَبُ يُرِيدُ الْأَدَاءَ وَالْغَارِمُ يُرِيدُ الْوَفَاءَ} فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُؤْمِنُ: عِفَّةَ فَرْجِهِ؛ وَتَخْلِيصَ رَقَبَتِهِ وَبَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ. فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ؛ وَصِيَانَةِ النَّفْسِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ النَّاسِ. لَا تُتَمَّمُ إلَّا بِالْمَالِ. وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَمَنْ لَا يُحِبُّ أَدَاءَ مِثْلِ هَذَا الْوَاجِبِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يَقُومُ الدِّينُ إلَّا بِهِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ. فَهَذِهِ مِلَّةٌ وَلَهَا تَفَاصِيلُ كَثِيرَةٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 280

وَقَالَ رحمه الله بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ:

وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ‌

‌ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَسَادُهُ رَاجِحٌ عَلَى صَلَاحِهِ

وَلَا يُشْرَعُ الْتِزَامُ الْفَسَادِ مِمَّنْ يُشْرَعُ لَهُ دَفْعُهُ. وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَحَرَّمَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَأَبَاحَهُ فِي حَالٍ أُخْرَى فَإِنَّ الْحَرَامَ لَا يَكُونُ صَحِيحًا نَافِذًا كَالْحَلَالِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ كَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَلَالِ وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ كَمَا يَحْصُلُ بِهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: النَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَهَذَا مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورِهِمْ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ؛ يُخَالِفُ فِي هَذَا لَمَّا ظَنَّ أَنَّ بَعْضَ مَا نَهَى عَنْهُ لَيْسَ بِفَاسِدِ كَالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ وَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ: لَوْ كَانَ النَّهْيُ مُوجِبًا لِلْفَسَادِ لَزِمَ انْتِقَاضُ هَذِهِ الْعِلَّةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ حَصَلَ بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرَ مُطْلَقِ النَّهْيِ. وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ الْعَارِفِينَ بِتَفْصِيلِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ. فَقِيلَ لَهُمْ: بِأَيِّ شَيْءٍ يُعْرَفَ أَنَّ الْعِبَادَةَ فَاسِدَةٌ وَالْعَقْدَ فَاسِدٌ؟ قَالُوا: بِأَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ: هَذَا صَحِيحٌ وَهَذَا فَاسِدٌ. وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَعْرِفُوا أَدِلَّةَ

ص: 281

الشَّرْعِ الْوَاقِعَةَ؛ بَلْ قَدَّرُوا أَشْيَاءَ قَدْ لَا تَقَعُ وَأَشْيَاءَ ظَنُّوا أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الشَّارِعِ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَدُلَّ النَّاسَ قَطُّ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذَكَرُوهَا وَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ: شُرُوطُ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ: كَذَا وَكَذَا. وَلَا هَذِهِ الْعِبَادَةُ وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَى الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ؛ بَلْ هَذِهِ كُلُّهَا عِبَارَاتٌ أَحْدَثَهَا مَنْ أَحْدَثَهَا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ. وَإِنَّمَا الشَّارِعُ دَلَّ النَّاسَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَبِقَوْلِهِ فِي عُقُودٍ: " هَذَا لَا يَصْلُحُ " عُلِمَ أَنَّهُ فَسَادٌ كَمَا قَالَ فِي بَيْعِ مُدَّيْنِ بِمُدٍّ تَمْرًا: " لَا يَصْلُحُ " وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَحْتَجُّونَ عَلَى فَسَادِ الْعُقُودِ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ كَمَا احْتَجُّوا عَلَى فَسَادِ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالنَّهْيِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ فَسَادُ عَقْدِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ التَّحْرِيمَ فِيهَا تَعَارَضَ فِيهِ نَصَّانِ فَتَوَقَّفَ. وَقِيلَ: إنَّ بَعْضَهُمْ أَبَاحَ الْجَمْعَ. وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا اسْتَدَلُّوا عَلَى فَسَادِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} . وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ اسْتَدَلُّوا عَلَى فَسَادِ نِكَاحِ الشِّغَارِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ الْفَسَادِ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاحِ. فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَيُحِبُّ الصَّلَاحَ.

ص: 282

وَلَا يَنْهَى عَمَّا يُحِبُّهُ. وَإِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا لَا يُحِبُّهُ فَعَلِمُوا أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَاسِدٌ؛ لَيْسَ بِصَالِحِ. وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ فَمَصْلَحَتُهُ مَرْجُوحَةٌ بِمَفْسَدَتِهِ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَقْصُودَ الشَّرْعِ رَفْعُ الْفَسَادِ وَمَنْعُهُ؛ لَا إيقَاعُهُ وَالْإِلْزَامُ بِهِ. فَلَوْ أُلْزِمُوا مُوجِبَ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ لَكَانُوا مُفْسِدِينَ غَيْرَ مُصْلِحِينَ وَاَللَّهُ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} أَيْ: لَا تَعْمَلُوا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكُلُّ مَنْ عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ مُفْسِدٌ وَالْمُحَرَّمَاتُ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ فَالشَّارِعُ يَنْهَى عَنْهُ لِيَمْنَعَ الْفَسَادَ وَيَدْفَعَهُ وَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي شَيْءٍ مِنْ صُوَرِ النَّهْيِ صُورَةٌ ثَبَتَتْ فِيهَا الصِّحَّةُ بِنَصِّ وَلَا إجْمَاعٍ. فَالطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ وَالصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ: فِيهِمَا نِزَاعٌ وَلَيْسَ عَلَى الصِّحَّةِ نَصٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ فَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْمُحْتَجِّ بِهِمَا حُجَّةٌ. لَكِنْ مِنْ الْبُيُوعِ مَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا فِيهَا مِنْ ظُلْمِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَالْمَعِيبِ وَتَلَقِّي السِّلَعَ وَالنَّجْش وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْبُيُوعَ لَمْ يَجْعَلْهَا الشَّارِعُ لَازِمَةً كَالْبُيُوعِ الْحَلَالِ؛ بَلْ جَعَلَهَا غَيْرَ لَازِمَةٍ وَالْخِيَرَةُ فِيهَا إلَى الْمَظْلُومِ إنْ شَاءَ أَبْطَلَهَا وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهَا فَإِنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ لَهُ وَالشَّارِعُ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا لِحَقٍّ مُخْتَصٍّ بِاَللَّهِ كَمَا نَهَى عَنْ الْفَوَاحِشِ؛ بَلْ هَذِهِ إذَا عَلِمَ الْمَظْلُومُ بِالْحَالِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ مِثْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَيْبِ وَالتَّدْلِيسِ وَالتَّصْرِيَةِ وَيَعْلَمَ السِّعْرَ إذَا كَانَ قَادِمًا بِالسِّلْعَةِ وَيَرْضَى بِأَنْ

ص: 283

يَغْبِنَهُ الْمُتَلَقِّي جَازَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ بَعْدَ الْعَقْدِ إنْ رَضِيَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ كَانَ لَهُ الْفَسْخُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ غَيْرَ لَازِمٍ بَلْ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ إنْ شَاءَ أَجَازَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ بَيْعِ الْمَعِيبِ مِمَّا فِيهِ الرِّضَا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ مِنْ الْعَيْبِ فَإِذَا فَقَدَ الشَّرْطَ بَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ فَهُوَ لَازِمٌ إنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ وَغَيْرُ لَازِمٍ إنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ. وَأَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى رِضَى الْمُجِيزِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ بِوَقْفِ الْعُقُودِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ نُصُوصِ أَحْمَد وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِهِ، كالخرقي وَغَيْرِهِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ يَحْسِبُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا نُهِيَ عَنْهُ. ثُمَّ تَقُولُ طَائِفَةٌ أُخْرَى؛ وَلَيْسَ بِفَاسِدِ. فَالنَّهْيُ يَجِبُ أَنْ يَقْتَضِيَ الْفَسَادَ. وَيَقُولُ طَائِفَةٌ أُخْرَى: بَلْ هَذَا فَسَادٌ. فَمِنْهُمْ مَنْ أَفْسَدَ بَيْعَ النَّجْشِ إذَا نَجَشَ الْبَائِعُ أَوْ وَاطَأَ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْسَدَ نِكَاحَ الْخَاطِبِ إذَا خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَبَيْعِهِ عَلَى بَيْعِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْسَدَ بَيْعَ الْمَعِيبِ الْمُدَلِّسِ. فَلَمَّا عُورِضَ بِالْمُصَرَّاةِ تَوَقَّفَ. وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ

ص: 284

نِكَاحَ الْخَاطِبِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ مُطْلَقًا وَبَيْعُ النَّجْشِ بِلَا خِيَارٍ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَمْ يَكُنْ النَّهْيُ فِيهِ لِحَقِّ اللَّهِ، كَنِكَاحِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَبَيْعِ الرِّبَا؛ بَلْ لِحَقِّ الْإِنْسَانِ؛ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ صَاحِبَ السِّلْعَةِ يَنْجُشُ. وَرَضِيَ بِذَلِكَ جَازَ. وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ يَنْجُشُ. وَكَذَلِكَ الْمَخْطُوبَةُ مَتَى أَذِنَ الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ فِيهَا جَازَ. وَلَمَّا كَانَ النَّهْيُ هُنَا لِحَقِّ الْآدَمِيِّ: لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّارِعُ صَحِيحًا لَازِمًا. كَالْحَلَالِ؛ بَلْ أَثْبَتَ حَقَّ الْمَظْلُومِ وَسَلَّطَهُ عَلَى الْخِيَارِ. فَإِنْ شَاءَ أَمْضَى وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ. فَالْمُشْتَرِي مَعَ النَّجْشِ إنْ شَاءَ رَدَّ الْمَبِيعَ فَحَصَلَ بِهَذَا مَقْصُودُهُ. وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ إذَا عَلِمَ بِالنَّجْشِ. فَأَمَّا كَوْنُهُ فَاسِدًا مَرْدُودًا وَإِنْ رَضِيَ بِهِ: فَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ. وَكَذَلِكَ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْمُدَلَّسِ وَالْمُصَرَّاةِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْمَخْطُوبَةُ إنْ شَاءَ هَذَا الْخَاطِبُ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَ هَذَا الْمُعْتَدِي عَلَيْهِ وَيَتَزَوَّجَهَا بِرِضَاهُ؛ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَ نِكَاحَهَا فَلَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ إذَا اخْتَارَ فَسْخَ نِكَاحِهَا عَادَ الْأَمْرُ إلَى مَا كَانَ. إنْ شَاءَتْ نَكَحَتْهُ وَإِنْ شَاءَتْ لَمْ تَنْكِحْهُ؛ إذْ مَقْصُودُهُ حَصَلَ بِفَسْخِ نِكَاحِ الْخَاطِبِ. وَإِذَا قِيلَ: هُوَ غَيْرُ قَلْبِ الْمَرْأَةِ عَلَيَّ. قِيلَ: إنْ شِئْت عَاقَبْنَاهُ عَلَى هَذَا؛ بِأَنْ نَمْنَعَهُ مِنْ نِكَاحِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَيَكُونُ هَذَا قِصَاصًا لِظُلْمِهِ إيَّاكَ. وَإِنْ شِئْت عَفَوْت

ص: 285

عَنْهُ فأنفذنا نِكَاحَهُ. وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَالذَّبْحِ بِآلَةٍ مَغْصُوبَةٍ. وَطَبْخِ الطَّعَامِ بِحَطَبِ مَغْصُوبٍ. وَتَسْخِينِ الْمَاءِ بِوَقُودٍ مَغْصُوبٍ؛ كُلُّ هَذَا إنَّمَا حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُلْمِ الْإِنْسَانِ. وَذَلِكَ يَزُولُ بِإِعْطَاءِ الْمَظْلُومِ حَقَّهُ. فَإِذَا أَعْطَاهُ مَا أَخَذَهُ مِنْ مَنْفَعَةِ مَالِهِ أَوْ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ: فَأَعْطَاهُ كَرْيَ الدَّارِ وَثَمَنَ الْحَطَبِ وَتَابَ هُوَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فِعْلِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ وَصَارَتْ صَلَاتُهُ كَالصَّلَاةِ فِي مَكَانٍ مُبَاحٍ. وَالطَّعَامُ كَالطَّعَامِ بِوَقُودٍ مُبَاحٍ؛ وَالذَّبْحِ بِسِكِّينٍ مُبَاحَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ لِصَاحِبِ السِّكِّينِ أُجْرَةُ ذَبْحِهِ. وَلَا تَحْرُمُ الشَّاةُ كُلُّهَا؛ لِأَجْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ. وَهَذَا إذَا كَانَ أَكَلَ الطَّعَامَ وَلَمْ يُوَفِّهِ ثَمَنَهُ؛ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ طَعَامًا لِغَيْرِهِ فِيهِ شَرِكَةٌ: لَيْسَ فِعْلُهُ حَرَامًا وَلَا هُوَ حَلَالًا مَحْضًا فَإِنْ نَضِجَ الطَّعَامُ لِصَاحِبِ الْوَقُودِ فِيهِ شَرِكَةٌ. وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ يَبْقَى عَلَيْهِ إثْمُ الظُّلْمِ يَنْقُصُ مِنْ صَلَاتِهِ بِقَدْرِهِ وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ كَبَرَاءَةِ مَنْ صَلَّى صَلَاةً تَامَّةً وَلَا يُعَاقَبُ كَعُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ؛ بَلْ يُعَاقَبُ عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ. وَكَذَلِكَ آكِلُ الطَّعَامِ يُعَاقَبُ عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} .

ص: 286

وَإِنَّمَا قِيلَ فِي الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ وَبِالْمَكَانِ: يُعِيدُ؛ بِخِلَافِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ إلَّا بِالْإِعَادَةِ وَهُنَا يُمْكِنُهُ ذَاكَ بِأَنْ يَرُدَّ أَرْضَ الْمَظْلُومِ؛ لَكِنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ الْحَرِيرِ هِيَ مِنْ ذَلِكَ الْقِسْمِ: الْحَقُّ فِيهَا لِلَّهِ؛ لَكِنْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ؛ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فَقَطْ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي مِثْلِ هَذَا. فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: النَّهْيُ هُنَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ وَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ فَإِنَّهُ إنْ عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ الْبَيْعِ اشْتَمَلَ عَلَى تَعْطِيلِ الصَّلَاةِ وَنَفْسَ الصَّلَاةِ اشْتَمَلَتْ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ كَمَا اشْتَمَلَتْ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ عَلَى مُلَابَسَةِ الرِّجْسِ الْخَبِيثِ: فَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. وَإِنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ؛ بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا: فَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ وَقْتَ النِّدَاءِ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ إلَّا لِكَوْنِهِ شَاغِلًا عَنْ الصَّلَاةِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الْبَيْعِ لَا يَخْتَصُّ بِالْبَيْعِ. لَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَجِيءُ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَعْنًى مُشْتَرَكٌ وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِإِطَالَةِ الْعُدَّةِ وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ الطَّلَاقِ. فَيُقَالُ: وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ كَذَلِكَ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهَا لِإِفْضَائِهَا

ص: 287

إلَى فَسَادٍ خَارِجٍ عَنْهَا. فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نُهِيَ عَنْهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْقَطِيعَةُ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ النِّكَاحِ. وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ حُرِّمَا وَجُعِلَا رِجْسًا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الصَّدِّ عَنْ الصَّلَاةِ وَإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَهُوَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. وَالرِّبَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَذَلِكَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ عَقْدِ الْمَيْسِرِ وَالرِّبَا. فَكُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَعْنًى فِيهِ يُوجِبُ النَّهْيَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ لَا لِمَعْنًى فِيهِ أَصْلًا بَلْ لِمَعْنًى أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ عُقُوبَةِ الْإِنْسَانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَالشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ؛ لَكِنْ فِي الْأَشْيَاءِ مَا يُنْهَى عَنْهُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ فَهُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ الذَّرِيعَةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا مَعْنًى فِيهِ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ - الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ النَّهْيَ قَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَقَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ - مَنْ قَالَ: إنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِوَصْفٍ فِي الْفِعْلِ؛ لَا فِي أَصْلِهِ. فَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ كَالنَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ قَالُوا: هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِوَصْفِ الْعِيدَيْنِ؛ لَا لِجِنْسِ الصَّوْمِ فَإِذَا صَامَ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ صَوْمًا.

ص: 288

فَيُقَالُ لَهُمْ: وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ بِلَا طَهَارَةٍ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ: جِنْسٌ مَشْرُوعٌ؛ وَإِنَّمَا النَّهْيُ لِوَصْفٍ خَاصٍّ: وَهُوَ الْحَيْضُ وَالْحَدَثُ وَاسْتِقْبَالُ غَيْرِ الْقِبْلَةِ. وَلَا يُعْرَفُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَرْقٌ مَعْقُولٌ لَا تَأْثِيرَ فِي الشَّرْعِ؛ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ: الْحَيْضُ وَالْحَدَثُ صِفَةٌ فِي الْحَائِضِ وَالْمُحْدِثِ وَذَلِكَ صِفَةٌ فِي الزَّمَانِ. قِيلَ: وَالصِّفَةُ فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ - زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ - كَالصِّفَةِ فِي فَاعِلِهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا أَوْ غَيْرِ عَرَفَةَ لَمْ يَصِحَّ وَهُوَ صِفَةٌ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى الْجِمَارَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ مِنًى أَوْ الْمَرْمِيِّ وَهُوَ صِفَةٌ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَاسْتِقْبَالُ غَيْرِ الْقِبْلَةِ هُوَ لِصِفَةٍ فِي الْجِهَةِ لَا فِيهِ وَلَا يَجُوزُ وَلَوْ صَامَ بِاللَّيْلِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ كَانَ هَذَا زَمَانًا. فَإِذَا قِيلَ: اللَّيْلُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ شَرْعًا. قِيلَ: وَيَوْمُ الْعِيدِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ شَرْعًا كَمَا أَنَّ زَمَانَ الْحَيْضِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ شَرْعًا فَالْفَرْقُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَرْقًا شَرْعِيًّا فَيَكُونُ مَعْقُولًا وَيَكُونُ الشَّارِعُ قَدْ جَعَلَهُ مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ بِحَيْثُ عَلَّقَ بِهِ الْحِلَّ أَوْ الْحُرْمَةَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْفِعْلَيْنِ. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ بِفُرُوقٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَوْ يَمْنَعُ تَأْثِيرَهُ فِي الْأَصْلِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَذْكُرُ وَصْفًا يَجْمَعُ بِهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْوَصْفُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا؛ بَلْ

ص: 289

قَدْ يَكُونُ مَنْفِيًّا عَنْهُمَا أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا. وَكَذَلِكَ الْمُفَرَّقُ قَدْ يُفَرِّقُ بِوَصْفٍ يَدَّعِي انْتِقَاضَهُ بِإِحْدَى الصُّورَتَيْنِ وَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِهَا بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِمْ: النَّهْيُ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَذَلِكَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ أَوْ ذَاكَ لِمَعْنًى فِي وَصْفِهِ دُونَ أَصْلِهِ. وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ النَّهْيُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِالْعِبَادَةِ وَالْعَقْدِ وَقَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا كَمَا يُنْهَى الْمُحْرِمُ عَمَّا يَخْتَصُّ بِالْإِحْرَامِ مِثْلَ حَلْقِ الرَّأْسِ وَلُبْسِ الْعِمَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الثِّيَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَيُنْهَى عَنْ نِكَاحِ امْرَأَتِهِ وَيُنْهَى عَنْ صَيْدِ الْبَرِّ وَيُنْهَى مَعَ ذَلِكَ عَنْ الزِّنَا وَالظُّلْمِ لِلنَّاسِ فِيمَا مَلَكُوهُ مِنْ الصَّيْدِ. وَحِينَئِذٍ فَالنَّهْيُ لِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ أَعْظَمُ؛ وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مَمْلُوكًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِحَقِّ اللَّهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْبَدَلُ لِحَقِّ الْمَالِكِ. وَلَوْ زَنَى لَأَفْسَدَ إحْرَامَهُ كَمَا يَفْسُدُ بِنِكَاحِ امْرَأَتِهِ وَيَسْتَحِقُّ حَدَّ الزِّنَا مَعَ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا فَمَنْ لَبِسَ فِي الصَّلَاةِ مَا يَحْرُمُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا كَالثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا خُيَلَاءُ وَفَخْرٌ؛ كَالْمُسَبَّلَةِ وَالْحَرِيرِ كَانَ أَحَقَّ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ مِنْ الثَّوْبِ النَّجِسِ وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ صَلَاةَ مُسَبِّلٍ} . وَالثَّوْبُ النَّجِسُ فِيهِ نِزَاعٌ وَفِي قَدْرِ النَّجَاسَةِ نِزَاعٌ وَالصَّلَاةُ فِي الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بَعْدَ النِّدَاءِ إذَا كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ وَغَيْرُهُ يَشْغَلُ عَنْ

ص: 290

الْجُمُعَةِ؛ كَانَ ذَلِكَ أَوْكَدَ فِي النَّهْيِ وَكُلُّ مَا شَغَلَ عَنْهَا فَهُوَ شَرٌّ وَفَسَادٌ لَا خَيْرَ فِيهِ. وَالْمِلْكُ الْحَاصِلُ بِذَلِكَ كَالْمِلْكِ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَمُخَالَفَتِهِ كَاَلَّذِي لَا يَحْصُلُ إلَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي؛ مِثْلَ الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَالْفَاحِشَةِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {حُلْوَانُ الْكَاهِنِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ} فَإِذَا كَانَتْ السِّلْعَةُ لَا تُمْلَكُ إنْ لَمْ تُتْرَكْ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ كَانَ حُصُولُ الْمِلْكِ بِسَبَبِ تَرْكِ الصَّلَاةِ كَمَا أَنَّ حُصُولَ الْحُلْوَانِ وَالْمَهْرِ بِالْكِهَانَةِ وَالْبِغَاءِ؛ وَكَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ: إنْ تَرَكْت الصَّلَاةَ الْيَوْمَ أَعْطَيْنَاك عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَإِنَّ مَا يَأْخُذُهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ خَبِيثٌ كَذَلِكَ مَا يُمْلَكُ بِالْمُعَاوَضَةِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ خَبِيثٌ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلًا وَكَانَ مَا يَأْخُذُهُ عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ بِمِقْدَارِ الصَّلَاةِ خَبِيثًا مَعَ أَنَّ جِنْسَ الْعَمَلِ بِالْأُجْرَةِ جَائِزٌ كَذَلِكَ جِنْسُ الْمُعَاوَضَةِ جَائِزٌ؛ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَعَدَّى عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ. وَإِذَا حَصَلَ الْبَيْعُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَتَعَذَّرَ الرَّدُّ فَلَهُ نَظِيرُ ثَمَنِهِ الَّذِي أَدَّاهُ وَيَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ وَالْبَائِعُ لَهُ نَظِيرُ سِلْعَتِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ إنْ كَانَ قَدْ رَبِحَ وَلَوْ تَرَاضَيَا بِذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لَمْ يَنْفَعْ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ هُنَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَمَا لَوْ تَرَاضَيَا بِمَهْرِ الْبَغِيِّ وَهُنَاكَ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى

ص: 291

أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ؛ لَا يُعْطَى لِلزَّانِي. وَكَذَلِكَ فِي الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَخَذَ صَاحِبُهُ مَنْفَعَةً مُحَرَّمَةً فَلَا يَجْمَعُ لَهُ الْعِوَضَ وَالْمُعَوَّضَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ بَيْعِهِ. وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ أَنْ يُبَاعَ الْخَمْرُ بِالثَّمَنِ فَكَيْفَ إذَا أَعْطَى الْخَمْرَ وَأَعْطَى الثَّمَنَ وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ لِلزَّانِي أَنْ يَزْنِيَ وَإِنْ أَعْطَى فَكَيْفَ إذَا أَعْطَى الْمَالَ وَالزِّنَا جَمِيعًا بَلْ يَجِبُ إخْرَاجُ هَذَا الْمَالِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ الْمُشْتَرَكَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا كَانَ قَدْ بَاعَ السِّلْعَةَ وَقْتَ النِّدَاءِ بِرِبْحِ وَأَخَذَ سِلْعَتَهُ فَإِنْ فَاتَتْ تَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ وَلَمْ يُعْطِهِ لِلْمُشْتَرِي فَيَكُونُ أَعَانَهُ عَلَى الشِّرَاءِ. وَالْمُشْتَرِي يَأْخُذُ ثَمَنَهُ وَيُعِيدُ السِّلْعَةَ فَإِنْ بَاعَهَا بِرِبْحٍ تَصَدَّقَ بِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ لِلْبَائِعِ فَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ لَهُ بَيْنَ رِبْحَيْنِ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَقْبُوضِ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ هَلْ يَمْلِكُ؟ أَوْ لَا يَمْلِكُ؟ أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَفُوتَ أَوْ لَا يَفُوتَ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 292

وَسُئِلَ:

عَنْ الرَّجُلِ يَشْتَرِي سِلْعَةً بِمَالٍ حَلَالٍ وَلَمْ يَعْلَمْ أَصْلَ السِّلْعَةِ هَلْ هُوَ حَرَامٌ؟ أَوْ حَلَالٌ؟ ثُمَّ كَانَتْ حَرَامًا فِي الْبَاطِنِ هَلْ يَأْثَمُ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

مَتَى اعْتَقَدَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الَّذِي مَعَ الْبَائِعِ مِلْكُهُ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ عَلَى الظَّاهِرِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ قَدْ سَرَقَهُ الْبَائِعُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُشْتَرِي إثْمٌ وَلَا عُقُوبَةٌ؛ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَالضَّمَانُ وَالدَّرْكُ عَلَى الَّذِي غَرَّهُ وَبَاعَهُ. وَإِذَا ظَهَرَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ فِيمَا بَعْدُ رُدَّتْ إلَيْهِ سِلْعَتُهُ وَرَدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي ثَمَنَهُ وَعُوقِبَ الْبَائِعُ الظَّالِمُ؛ فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ وَمَنْ لَا يَعْلَمُ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لَا أَخْطَأَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 293

وَقَالَ رحمه الله

فَصْلٌ:

حَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا {أَمَرَهُمْ بِشَقِّ ظُرُوفِ الْخَمْرِ وَكَسْرِ دِنَانِهَا} دَلِيلٌ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي جَوَازِ إتْلَافِ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِنْكَارِ وَأَنَّ الظَّرْفَ يَتْبَعُ الْمَظْرُوفَ. وَمِثْلُهُ مَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّهُمَا أَمَرَا بِتَحْرِيقِ الْمَكَانِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ. وَمِثْلُهُ إتْلَافُ الْآلَةِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا صُورَةُ التَّأْلِيفِ الْمُحَرَّمِ وَهِيَ آلَاتُ اللَّهْوِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةَ ثَابِتَةٌ بِالسُّنَّةِ وَسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فَمَا مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ: {بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَبَخُوا لُحُومَ الْحُمُرِ. قَالَ لَهُمْ: أَرِيقُوهَا وَاكْسِرُوا الْقُدُورَ. قَالُوا: أَفَلَا نُرِيقُهَا وَنَغْسِلُ الْقُدُورَ؟ قَالَ: افْعَلُوا} قَالُوا: فَلَعَلَّهُمْ لَوْ اسْتَأْذَنُوهُ فِي أَوْعِيَةِ الْخَمْرِ لَقَالَ ذَلِكَ. فَأُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ:

ص: 294

أَحَدُهُمَا ": أَنَّ دَفْعَ الشَّرِيعَةِ بِمِثْلِ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ لَا تَجُوزُ فَإِنَّا إذَا سَوَّغْنَا فِيمَا أَمَرَ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ أَنَّهُ لَوْ رُوجِعَ لَنَسَخَ ذَلِكَ: لَجَازَ رَفْعُ كَثِيرٍ مِنْ الشَّرِيعَةِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخَيَالَاتِ. مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: لَوْ رُوجِعَ الرَّبُّ فِي نَقْصِ الصَّلَاةِ عَنْ خَمْسٍ لَنَقَصَهَا وَلَوْ وَلَوْ. . . وَيُقَالُ: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: " أَحَدُهُمَا ": أَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ رُوجِعَ لَفَعَلَ وَثُبُوتُ ذَلِكَ فِي صُورَةٍ لَا يُوجِبُ ثَبَاتَهُ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ؛ إلَّا بِتَقْدِيرِ الْمُسَاوَاةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ وَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ. " الثَّانِي ": أَنَّهُ لَوْ فَرَضَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَكَانَ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ وَإِذَا كَانَ النَّسْخُ مُعَلَّقًا بِسُؤَالِهِمْ وَلَمْ يَسْأَلُوا لَمْ يَقَعْ النَّسْخُ. كَمَا أَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ قَدْ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِسُؤَالِهِمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم {إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ} وَقَالَ: {إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَحْرُمْ فَحَرُمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ} . {وَقَالَ فِي الْحَجِّ لَمَّا سَأَلُوهُ: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَقَالَ: لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا قُمْتُمْ بِهِ} {وَقَالَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ: إنَّمَا مَنَعَنِي أَنْ أَخْرُجَ إلَيْكُمْ خَشْيَةَ أَنْ يُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَلَا تَقُومُوا} . فَقَدْ بَيَّنَ

ص: 295

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ السُّؤَالَ وَالْعَمَلَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِابْتِدَاءِ الْحُكْمِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ تَحْرِيمٍ. ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ فَلَمْ يَكُنْ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِرَفْعِ حُكْمٍ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ تَحْرِيمٍ ثُمَّ إذَا لَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ لَمْ يَرْتَفِعْ الْحُكْمُ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَلَيْسَ مِنْ هَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ: لَوْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا صَنَعَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ. فَإِنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ أَتْقَى لِلَّهِ مِنْ أَنْ تُسَوِّغَ رَفْعَ الشَّرِيعَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَوْ رَأَى مَا فِي خُرُوجِ بَعْضِ النِّسَاءِ مِنْ الْفَسَادِ لَمَنَعَهُنَّ الْخُرُوجَ تُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ} وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهُ عَلَى الْعُمُومِ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْخُرُوجِ الَّذِي فِيهِ فَسَادٌ كَمَا قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: إنَّ الشَّوَابَّ الَّتِي فِي خُرُوجِهِنَّ فَسَادٌ يَمْنَعُهُنَّ. فَقَصَدَ بِذَلِكَ تَخْصِيصَ اللَّفْظِ الَّذِي ظَاهِرُهُ أَنَّهَا عَلِمَتْ مِنْ حَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يَأْذَنُ فِي مِثْلِ هَذَا الْخُرُوجِ لَا أَنَّهَا قَصَدَتْ مَنْعَ النِّسَاءِ مُطْلَقًا. فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ النِّسَاءِ أَحْدَثْنَ وَإِنَّمَا قَصَدَتْ مَنْعَ الْمُحْدَثَاتِ. " الْجَوَابُ الثَّانِي ": أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي أَوْعِيَةِ لُحُومِ الْحُمُرِ حُجَّةٌ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ أَمَرَ أَوَّلًا بِتَكْسِيرِ الْأَوْعِيَةِ ثُمَّ لَمَّا اسْتَأْذَنُوهُ

ص: 296

فِي الْغَسْلِ أَذِنَ فِيهِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْكَسْرَ لَا يَجِبُ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ بَلْ يُقَالُ: يَجُوزُ الْأَمْرَانِ. الْكَسْرُ وَالْغَسْلُ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي أَوْعِيَةِ الْخَمْرِ: إنَّهُ يَجُوزُ إتْلَافُهَا وَيَجُوزُ تَطْهِيرُهَا فَإِذَا كَانَ الْأَصْلَحُ الْإِتْلَافَ أُتْلِفَتْ وَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ أَوْعِيَةِ الْخَمْرَةِ وَالْمَلَاهِي طَهَّرَ الْأَوْعِيَةَ وَغَسَلَ الْآلَاتِ لَجَازَ بِالِاتِّفَاقِ؛ لَكِنْ إذَا أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ حَتَّى أُنْكِرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِالْإِتْلَافِ. وَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم لَمْ يَكُونُوا عَلِمُوا التَّحْرِيمَ فَأُسْقِطَ عَنْهُمْ الْإِتْلَافُ لِذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ يَتَّجِرُ فِي الأقباع: هَلْ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْقَبْعِ المرعزي وَشِرَاؤُهُ وَالِاكْتِسَابُ مِنْهُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ الْحَرِيرِ الصَّامِتِ؟ أَوْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ لِكَوْنِ الْقَبْعِ لُبْسَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِلْجُنْدِ وَالصِّبْيَانِ إذَا كَانُوا دُونَ الْبُلُوغِ أَوْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ؟ أَوْ يَحْرُمُ جَمِيعُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ يَتَّجِرُ فِي هَذَا الصِّنْفِ وَغَيْرِهِ أَنْ يَبِيعَ لِأَهْلِ الْبَادِيَةَ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِمَّنْ يَجْهَلُ الْقِيمَةَ مَا ثَمَنُهُ دِرْهَمٌ بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الَّذِي يَشْتَرِيهِ لَوْ

ص: 297

احْتَاجَ إلَى ثَمَنِهِ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ لَمْ يَصِلْ إلَى الدِّرْهَمِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ ثَمَنِهِ بَلْ أَقَلُّ مِنْهُ أَوْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ؟ وَمَا الْقَدْرُ الَّذِي يَجُوزُ مِنْ الْكَسْبِ فِيمَا يُبَاعُ مُسَاوَمَةً وَهَلْ هُوَ الثُّلُثُ أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرُ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا أقباع الْحَرِيرِ: فَيَحْرُمُ لُبْسُهَا عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَمَّا عَلَى الرِّجَالِ فَلِأَنَّهَا حَرِيرٌ وَلُبْسُ الْحَرِيرِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ؛ وَإِنْ كَانَ مُبَطَّنًا بِقُطْنٍ أَوْ كَتَّانٍ. وَأَمَّا عَلَى النِّسَاءِ؛ فَلِأَنَّ الأقباع مِنْ لِبَاسِ الرِّجَالِ وَقَدْ {لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ والمتشبهين مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ} . وَأَمَّا‌

‌ لِبَاسُ الْحَرِيرِ لِلصِّبْيَانِ

الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا. فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ؛ لَكِنْ أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ فَإِنَّ مَا حَرُمَ عَلَى الرِّجَالِ فِعْلُهُ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَ مِنْهُ الصَّغِيرَ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ وَيَضْرِبُهُ عَلَيْهَا إذَا بَلَغَ عَشَرًا فَكَيْفَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُلْبِسَهُ الْمُحَرَّمَاتِ. وَقَدْ رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى صَبِيٍّ لِلزُّبَيْرِ ثَوْبًا مِنْ حَرِيرٍ فَمَزَّقَهُ وَقَالَ: لَا تُلْبِسُوهُمْ الْحَرِيرَ. وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ مَزَّقَ ثَوْبَ حَرِيرٍ كَانَ عَلَى ابْنِهِ وَمَا حَرُمَ لُبْسُهُ لَمْ تَحِلَّ صِنَاعَتُهُ وَلَا بَيْعُهُ لِمَنْ يَلْبَسُهُ مِنْ

ص: 298

أَهْلِ التَّحْرِيمِ. وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ. فَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَكْتَسِبَ بِأَنْ يَخِيطَ الْحَرِيرَ لِمَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَهَذِهِ مِثْلُ الْإِعَانَةِ عَلَى الْفَوَاحِشِ وَنَحْوِهَا. وَكَذَلِكَ لَا يُبَاعُ الْحَرِيرُ لِرَجُلٍ يَلْبَسُهُ مِنْ أَهْلِ التَّحْرِيمِ. وَأَمَّا إذَا بِيعَ الْحَرِيرُ لِلنِّسَاءِ فَيَجُوزُ. وَكَذَلِكَ إذَا بِيعَ لِكَافِرِ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرْسَلَ بِحَرِيرٍ أَعْطَاهُ إيَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى رَجُلٍ مُشْرِكٍ. وَأَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ لِمُسْتَرْسِلٍ إلَّا بِالسِّعْرِ الَّذِي يُبَاعُ بِهِ غَيْرُهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ اسْتِرْسَالُهُ أَنْ يَغْبِنَ مِنْ الرِّبْحِ غَبْنًا يُخْرِجُ عَنْ الْعَادَةِ. وَقَدَّرَ ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالثُّلُثِ وَآخَرُونَ بِالسُّدُسِ وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى عَادَةِ النَّاسِ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ مِنْ الرِّبْحِ عَلَى المماكسين مَا يَرْبَحُونَهُ عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ. وَالْمُسْتَرْسِلُ قَدْ فُسِّرَ بِأَنَّهُ الَّذِي لَا يُمَاكِسُ بَلْ يَقُولُ: خُذْ وَأَعْطِنِي. وَبِأَنَّهُ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ فَلَا يَغْبِنُ غَبْنًا فَاحِشًا لَا هَذَا وَلَا هَذَا. وَفِي الْحَدِيثِ {غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا} . وَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ يَغْبِنُهُمْ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ؛ بَلْ يُمْنَعُ مِنْ الْجُلُوسَ فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُلْزَمَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِلْمَغْبُونِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ فَيَرُدَّ عَلَيْهِ السِّلْعَةَ وَيَأْخُذَ مِنْهُ الثَّمَنَ. وَإِذَا تَابَ هَذَا الْغَابِنُ

ص: 299

الظَّالِمُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَرُدَّ إلَى الْمَظْلُومِينَ حُقُوقَهُمْ فَلْيَتَصَدَّقْ بِمِقْدَارِ مَا ظَلَمَهُمْ عَنْهُمْ؛ لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ. وَبَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ إذَا كَانَ مَعَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِالْأَسْعَارِ الَّتِي يَشْتَرُونَ بِهَا السِّلَعَ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّهُمْ يُبَاعُ غَيْرُهُمْ كَمَا يُبَاعُونَ فَلَا يَرْبَحُ عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُضْطَرُّ الَّذِي لَا يَجِدُ حَاجَتَهُ إلَّا عِنْدَ هَذَا الشَّخْصِ. يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْبَحَ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا يَرْبَحُ عَلَى غَيْرِ الْمُضْطَرِّ؛ فَإِنَّ فِي السُّنَنِ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ} وَلَوْ كَانَتْ الضَّرُورَةُ إلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ: مِثْلَ أَنْ يَضْطَرَّ النَّاسُ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُمْ إلَّا بِالْقِيمَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلَا يُعْطُوهُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ بَاعَ قَمْحًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمَدِينِ إلَّا قَمْحًا. فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قَمْحًا؟

فَأَجَابَ:

نَعَمْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قَمْحًا وَلَيْسَ ذَلِكَ رِبًا عِنْدَ

ص: 300

جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد. وَإِذَا كَانَ أَخْذُ الْقَمْحِ أَرْفَقَ بِالْمَدِينِ مِنْ أَنْ يُكَلِّفَهُ بَيْعَهُ وَإِعْطَاءَ الدَّرَاهِمِ فَالْأَفْضَلُ لِلْغَرِيمِ أَخْذُ الْقَمْحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى غَلَّةً بِدِرْهَمٍ مُعَيَّنٍ إلَى أَجَلٍ وَعِنْدَ نِهَايَةِ الْأَجَلِ قَصَدَ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَخْذَ مَالِهِ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا إلَّا غَلَّةً قِيمَتُهَا بِالسِّعْرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَتَعَيَّنَتْ بِالدَّرَاهِمِ عَنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فَهَلْ يَجُوزُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ الْغَلَّةَ بِالسِّعْرِ الْوَاقِعِ؟

فَأَجَابَ:

هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ: مِثْلَ أَنْ يَبِيعَ حِنْطَةً إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَأْخُذَ عَنْ الثَّمَنِ حِنْطَةً فَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد لَا يَصِحُّ هَذَا؛ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَد.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ دَيْنٌ وَلِلْمَدْيُونِ وَلَدٌ فَقَالَ وَلَدُ الْمَدْيُونِ لِرَبِّ الدَّيْنِ: بِعْنِي سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ وَأَنَا أَبِيعُهَا بِالدَّرَاهِمِ الْحَاضِرَةِ

ص: 301

وَيُوَفِّي مَا عَلَى وَالِدِهِ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا كَانَ مَقْصُودُ الْمُشْتَرِي الدَّرَاهِمَ وَغَرَضُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ لِيَبِيعَهَا وَيَأْخُذَ ثَمَنَهَا فَهَذِهِ تُسَمَّى " مَسْأَلَةُ التَّوَرُّقِ " لِأَنَّ غَرَضَهُ الْوَرِقُ لَا السِّلْعَةُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهَتِهِ فَكَرِهَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَرَخَّصَ فِيهِ آخَرُونَ وَالْأَقْوَى كَرَاهَتُهُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ الرَّجُلِ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَيَحْتَاجُ إلَى بِضَاعَةٍ أَوْ حَيَوَانٍ لِيَنْتَفِعَ بِهِ أَوْ يَتَّجِرَ فِيهِ فَيَطْلُبَهُ مِنْ إنْسَانٍ دَيْنًا فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ. هَلْ لِلْمَطْلُوبِ مِنْهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ ثُمَّ يُدِينَهُ مِنْهُ إلَى أَجَلٍ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي شِرَائِهِ ثُمَّ يَبِيعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِرِبْحٍ اتَّفَقَا عَلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ؟ .

فَأَجَابَ:

مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَفِّيَهُ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا وَجَبَ إنْظَارُهُ وَلَا يَجُوزُ قَلْبُهُ عَلَيْهِ بِمُعَامَلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا. وَأَمَّا الْبَيْعُ إلَى أَجَلٍ ابْتِدَاءً فَإِنْ كَانَ قَصْدُ الْمُشْتَرِي الِانْتِفَاعَ بِالسِّلْعَةِ

ص: 302

وَالتِّجَارَةَ فِيهَا جَازَ إذَا كَانَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَاحِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الدَّرَاهِمَ فَيَشْتَرِي بِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ وَيَبِيعُهَا فِي السُّوقِ بِسَبْعِينَ حَالَّةٍ فَهَذَا مَذْمُومٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَهَذَا يُسَمَّى " التَّوَرُّقُ " قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنها التَّوَرُّقُ أخية الرِّبَا.

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ طَلَبَ مِنْ إنْسَانٍ سِلْعَةً تُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ قَالَ: إنَّهُ مَا يُعْطَى إلَّا بِثَمَانِيَةِ وَعِشْرِينَ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْآخِذِ أَنْ يَأْخُذَ مَعَ عِلْمِهِ بِالزِّيَادَةِ؟ .

فَأَجَابَ:

إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُحْتَاجًا إلَى الدَّرَاهِمِ فَاشْتَرَاهَا لِيَبِيعَهَا وَيَأْخُذَ ثَمَنَهَا فَهَذَا يُسَمَّى " التَّوَرُّقُ " وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي غَرَضُهُ أَخْذَ الْوَرِقِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: التَّوَرُّقُ أخية الرِّبَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا قَوَّمْت بِنَقْدِ ثُمَّ بِعْت بِنَسِيئَةِ: فَتِلْكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد.

ص: 303

وَسُئِلَ:

عَنْ تَاجِرَيْنِ عُرِضَتْ عَلَيْهِمَا سِلْعَةٌ لِلْبَيْعِ فَرَغِبَ فِي شِرَائِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ أَشْتَرِيهَا شَرِكَةً بَيْنِي وَبَيْنَك وَكَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَيْهِ فِي ثَمَنِهَا وَيَنْفَرِدَ فِيهَا فَرَغِبَ فِي الشَّرِكَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَاشْتَرَاهَا أَحَدُهُمَا وَدَفَعَ ثَمَنَهَا مِنْ مَالِهِمَا عَلَى السَّوِيَّةِ. فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟ أَوْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ دُلْسَةٌ عَلَى بَائِعِهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا إذَا كَانَ فِي السُّوقِ مَنْ يُزَايِدُهُمَا وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا تَرَكَ مُزَايَدَةَ صَاحِبِهِ خَاصَّةً لِأَجْلِ مُشَارَكَتِهِ لَهُ: فَهَذَا لَا يَحْرُمُ؛ فَإِنَّ بَابَ الْمُزَايَدَةِ مَفْتُوحٌ وَإِنَّمَا تَرَكَ أَحَدُهُمَا مُزَايَدَةَ الْآخَرِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا اتَّفَقَ أَهْلُ السُّوقِ عَلَى أَنْ لَا يُزَايِدُوا فِي سِلَعٍ هُمْ مُحْتَاجُونَ لَهَا لِيَبِيعَهَا صَاحِبُهَا بِدُونِ قِيمَتِهَا ويتقاسمونها بَيْنَهُمْ فَإِنَّ هَذَا قَدْ يَضُرُّ صَاحِبَهَا أَكْثَرَ مِمَّا يَضُرُّ تَلَقِّي السِّلَعِ إذَا بَاعَهَا مُسَاوَمَةً؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ بَخْسِ النَّاسِ مَا لَا يَخْفَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 304

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ سَمَاسِرَةٍ فِي فُنْدُقٍ مِنْ جُمْلَتِهِمْ ثَلَاثَةٌ يَشْتَرُونَ مِنْ يَدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ ثُمَّ إنَّهُمْ يَزِيدُونَ فِي الشِّرَاءِ وَيُقَسِّمُونَ الْفَائِدَةَ، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا يَجُوزُ لِلدَّلَّالِ - الَّذِي هُوَ وَكِيلُ الْبَائِعِ فِي الْمُنَادَاةِ - أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا لِمَنْ يَزِيدُ بِغَيْرِ عِلْمِ الْبَائِعِ؛ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ هُوَ الَّذِي يَزِيدُ وَيَشْتَرِي فِي الْمَعْنَى. وَهَذَا خِيَانَةٌ لِلْبَائِعِ وَمَنْ عَمِلَ مِثْلَ هَذَا لَمْ يَجِبْ أَنْ يَزِيدَ أَحَدٌ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْصَحْ الْبَائِعُ فِي طَلَبِ الزِّيَادَةِ وَإِنْهَاءِ الْمُنَادَاةِ. وَإِذَا تَوَاطَأَ جَمَاعَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ الَّذِي يَرْدَعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْخِيَانَةِ وَمِنْ تَعْزِيرِهِمْ أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ الْمُنَادَاةِ، حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 305

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ مُعْسِرٍ تَدَايَنَ مِنْ رَجُلٍ قَمْحًا بِأَضْعَافِ قِيمَتِهِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ سِعْرُهُ مِنْ مُدَّةِ مَا اسْتَدَانَهُ وَإِلَى أَجَلِ اسْتِحْقَاقِهِ عَلَيْهِ أَدَانَهُ إيَّاهُ وَوَصَفَهُ لَهُ بِصِفَةِ. وَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ يُسَاوِي سِتَّةَ عَشَرَ كُلُّ إرْدَبٍّ. وَكَتَبَ حُجَّةً. وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنَّ كُلَّ إرْدَبٍّ بِاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ. بَاعَهُ الْمَدْيُونُ بِبَيِّنَةِ وَإِشْهَادٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمٍ الْإِرْدَبُّ؛ بِخِلَافِ مَا وَصَفَهُ الْمُسْتَدِينُ. وَقَدْ اُسْتُحِقَّ الْأَجَلُ. وَعُسِرَ الْمَدْيُونُ فِي طَلَبِ مَا عَلَيْهِ. فَهَلْ يُطَالَبُ الْمَدْيُونُ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ؟ أَوْ بِمَا كُتِبَ عَلَيْهِ؟ أَوْ بِقَمْحٍ مِثْلَ قَمْحِهِ؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا الْمُعْسِرُ فَلَا يَجُوزُ مُطَالَبَتُهُ بِمَا أُعْسِرَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا وَاجِبًا وَجَبَ إنْظَارُهُ بِهِ. وَإِنْ كَانَ مُعَامَلَةً رِبَوِيَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالَبَ إلَّا بِرَأْسِ مَالِهِ. وَبَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ بِغَيْرِ صِفَةِ بَيْعٍ بَاطِلٌ يَجِبُ فِيهِ رَدُّ الْمَبِيعِ أَوْ رَدُّ بَدَلِهِ. وَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الثَّمَنَ الْمُسَمَّى. فَكَيْفَ إذَا قَالَ: هَذَا يُسَاوِي السَّاعَةَ كَذَا وَكَذَا وَأَنَا أَبِيعُكَهُ بِكَذَا. أَكْثَرُ مِنْهُ إلَى أَجَلٍ؟ فَهَذَا رِبًا. كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه إذَا قَوَّمْت نَقْدًا وَبِعْت نَقْدًا فَلَا بَأْسَ وَإِذَا قَوَّمْت نَقْدًا وَبِعْت إلَى أَجَلٍ

ص: 306

فَتِلْكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ. وَهَذَا قَوَّمَ نَقْدًا وَبَاعَ إلَى أَجَلٍ. وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ فَسَخَ الْبَيْعَ لِفَوَاتِ الصِّفَةِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ رَدُّ الْمَبِيعِ إلَى الْبَائِعِ بِعَيْنِهِ وَلَا حِفْظُهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ أَحَدٍ فَبَاعَهُ وَحَفِظَ لَهُ ثَمَنَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ الثَّمَنِ. إذَا كَانَ قَدْ بَاعَهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ مُرَابٍ خَلَّفَ مَالًا وَوَلَدًا وَهُوَ يَعْلَمُ بِحَالِهِ. فَهَلْ يَكُونُ الْمَالُ حَلَالًا لِلْوَلَدِ بِالْمِيرَاثِ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي يَعْلَمُ الْوَلَدُ أَنَّهُ رِبًا فَيُخْرِجُهُ إمَّا أَنْ يَرُدَّهُ إلَى أَصْحَابِهِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهِ. وَالْبَاقِي لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ؛ لَكِنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَبَهَ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُهُ. إذَا لَمْ يَجِبْ صَرْفُهُ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ أَوْ نَفَقَةِ عِيَالٍ. وَإِنْ كَانَ الْأَبُ قَبَضَهُ بِالْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي يُرَخِّصُ فِيهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ. جَازَ لِلْوَارِثِ الِانْتِفَاعُ بِهِ. وَإِنْ اخْتَلَطَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ وَجَهِلَ قَدْرَ كُلٍّ مِنْهُمَا جَعَلَ ذَلِكَ نِصْفَيْنِ.

ص: 307

وَسُئِلَ:

عَنْ الرَّجُلِ يَخْتَلِطُ مَالُهُ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ؟ .

فَأَجَابَ:

يُخْرِجُ قَدْرَ الْحَرَامِ بِالْمِيزَانِ. فَيَدْفَعُهُ إلَى صَاحِبِهِ. وَقَدْرُ الْحَلَالِ لَهُ. وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَتَعَذَّرَتْ مَعْرِفَتُهُ: تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ امْرَأَةٍ كَانَتْ مُغَنِّيَةً. وَاكْتَسَبَتْ فِي جَهْلِهَا مَالًا كَثِيرًا. وَقَدْ تَابَتْ وَحَجَّتْ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى: وَهِيَ مُحَافِظَةٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. فَهَلْ الْمَالُ الَّذِي اكْتَسَبْته مِنْ حِلٍّ وَغَيْرِهِ؛ إذَا أَكَلَتْ وَتَصَدَّقَتْ مِنْهُ؛ تُؤْجَرُ عَلَيْهِ؟ .

فَأَجَابَ:

الْمَالُ الْمَكْسُوبُ إنْ كانت عَيْنٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ فِي نَفْسِهَا. وَإِنَّمَا حَرُمَتْ بِالْقَصْدِ. مِثْلَ مَنْ يَبِيعُ عِنَبًا لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا. أَوْ مَنْ يُسْتَأْجَرُ لِعَصْرِ الْخَمْرِ أَوْ حَمْلِهَا. فَهَذَا يَفْعَلُهُ بِالْعِوَضِ؛ لَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ أَكْلُهُ.

ص: 308

وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْعَيْنُ أَوْ الْمَنْفَعَةُ مُحَرَّمَةً: كَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَثَمَنِ الْخَمْرِ. فَهُنَا لَا يُقْضَى لَهُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَلَوْ أَعْطَاهُ إيَّاهُ لَمْ يُحْكَمْ بِرَدِّهِ؛ فَإِنَّ هَذَا مَعُونَةٌ لَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي: إذَا جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ. وَلَا يَحِلُّ هَذَا الْمَالُ لِلْبَغِيِّ وَالْخَمَّارِ وَنَحْوِهِمَا؛ لَكِنْ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ تَابَتْ هَذِهِ الْبَغِيُّ وَهَذَا الْخَمَّارُ وَكَانُوا فُقَرَاءَ جَازَ أَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ مِقْدَارُ حَاجَتِهِمْ فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ يَتَّجِرُ أَوْ يَعْمَلُ صَنْعَةً كَالنَّسْجِ وَالْغَزْلِ أُعْطِيَ مَا يَكُونُ لَهُ رَأْسُ مَالٍ وَإِنْ اقْتَرَضُوا مِنْهُ شَيْئًا لِيَكْتَسِبُوا بِهِ وَلَمْ يَرُدُّوا عِوَضَ الْقَرْضِ كَانَ أَحْسَنَ. وَأَمَّا إذَا تَصَدَّقَ بِهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فَهَذَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَّا إنْ تَصَدَّقَ بِهِ كَمَا يَتَصَدَّقُ الْمَالِكُ بِمِلْكِهِ فَهَذَا لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ - إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إلَّا الطَّيِّبَ - فَهَذَا خَبِيثٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ} .

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ الْجِهَاتِ بِالزَّكَاةِ وَالضَّمَانِ بِالْأَسْوَاقِ

وَغَيْرِهَا إذَا أَجْرَاهُمْ

ص: 309

السُّلْطَانُ فِي أَقْطَاعِ الْجُنْدِ: حَلَالٌ؟ أَمْ حَرَامٌ؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُحْتَاجًا. وَالْجِهَةُ فِيهَا حَلَالٌ وَحَرَامٌ أَوْ فِيهَا شُبْهَةٌ فَيَنْبَغِي لِصَاحِبِهَا إذَا أَخَذَهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَصْرِفَهَا فِي الْأُمُورِ البرانية مِثْلَ عَلَفِ دَابَّتِهِ وَالْكُلَفِ السُّلْطَانِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِذَا تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ نَوَى الصَّدَقَةَ بِهَا عَمَّنْ يَسْتَحِقُّهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ لَهُ إقْطَاعٌ بالأطرون وَكَانَ عَادَةُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَشْتَرِيَ الأطرون الصَّعَالِيكُ وَيَبِيعُوهُ كُلَّ رِطْلٍ بِثَلَاثَةِ فُلُوسٍ وَلَمَّا كَانَ زَمَانُ بيبرس جَاءَ شَخْصٌ ضَمِنَ الأطرون أَنْ لَا يَبِيعَ أَحَدٌ وَلَا يَشْتَرِيَ إلَّا مِنْ تَحْتِ يَدِ الضَّامِنِ بِثَلَاثَةِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا الْقِنْطَارَ فَهَلْ هُوَ حَلَالٌ؟ أَمْ حَرَامٌ؟

فَأَجَابَ:

مَنْ كَانَ الأطرون قَدْ أَخَذَهُ بِحَقٍّ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُكْرِهُ أَحَدًا عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ وَلَا يَمْنَعَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَيْرِهِ؛ بَلْ إذَا أَخَذَهُ بِحَقٍّ وَبَاعَهُ كَمَا تُبَاعُ سِلَعُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ جَازَ.

ص: 310

وَسُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَقُطْبُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ وَمَنْ عَمَّتْ بَرَكَاتُهُ أَهْلَ الْعِرَاقَيْنِ وَالشَّامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ مَتَّعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِبَرَكَاتِهِ وَكَانَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ:

عَنْ رَجُلٍ نَقَلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ قَالَ: أَكْلُ الْحَلَالِ مُتَعَذَّرٌ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ. فَقِيلَ لَهُ: لِمَ ذَلِكَ؟ فَذَكَرَ: إنَّ وَقْعَةَ الْمَنْصُورَةِ لَمْ تُقَسَّمْ الْغَنَائِمُ فِيهَا وَاخْتَلَطَتْ الْأَمْوَالُ بِالْمُعَامَلَاتِ بِهَا. فَقِيلَ لَهُ: إنَّ الرَّجُلَ يُؤَجِّرُ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمُبَاحَةِ وَيَأْخُذُ أُجْرَتَهُ حَلَالٌ. فَذَكَرَ إنَّ الدِّرْهَمَ فِي نَفْسِهِ حَرَامٌ. فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ قَبِلَ الدِّرْهَمُ التَّغَيُّرَ أَوَّلًا فَصَارَ حَرَامًا بِالسَّبَبِ الْمَمْنُوعِ وَلَمْ يَقْبَلْ التَّغَيُّرَ فَيَكُونُ حَلَالًا بِالسَّبَبِ الْمَشْرُوعِ فَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟ ؟

فَأَجَابَ رضي الله عنه:

الْحَمْدُ اللَّه، هَذَا الْقَائِلُ الَّذِي قَالَ: أَكْلُ الْحَلَالِ مُتَعَذَّرٌ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ غالط مُخْطِئٌ فِي قَوْلِهِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ كَانَ يَقُولُهَا بَعْضُ أَهْلِ

ص: 311

الْبِدَعِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْفِقْهِ الْفَاسِدِ وَبَعْضُ أَهْلِ النُّسُكِ الْفَاسِدِ فَأَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ ذَلِكَ حَتَّى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي وَرَعِهِ الْمَشْهُورِ كَانَ يُنْكِرُ مِثْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ النُّسَّاكِ فَذَكَرَ لَهُ شَيْئًا مِنْ هَذَا فَقَالَ: اُنْظُرْ إلَى هَذَا الْخَبِيثِ يُحَرِّمُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ. يَقُولُ: مَنْ سَرَقَ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمَعْصُومِ وَمِثْلُ هَذَا كَانَ يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الشُّبْهَةِ الْفَاسِدَةِ وَهُوَ أَنَّ الْحَرَامَ قَدْ غَلَبَ عَلَى الْأَمْوَالِ لِكَثْرَةِ الغصوب وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ الْحَلَالُ مِنْ الْحَرَامِ. وَوَقَعَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ مُصَنِّفِي الْفُقَهَاءِ فَأَفْتَوْا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مِقْدَارَ الضَّرُورَةِ وَطَائِفَةٌ لَمَّا رَأَتْ مِثْلَ هَذَا الْحَرَجِ سَدَّتْ بَابَ الْوَرَعِ. فَصَارُوا نَوْعَيْنِ: المباحية لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ؛ بَلْ الْحَلَالُ مَا حَلَّ بِأَيْدِيهِمْ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمُوهُ؛ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا مِثْلَ هَذَا الظَّنِّ الْفَاسِدِ وَهُوَ أَنَّ الْحَرَامَ قَدْ طَبَّقَ الْأَرْضَ وَرَأَوْا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ فَصَارُوا يَتَنَاوَلُونَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ أَمْكَنَ. فَلْيَنْظُرْ الْعَاقِلُ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الْوَرَعِ الْفَاسِدِ كَيْفَ أَوْرَثَ الِانْحِلَالَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ

ص: 312

وَهَؤُلَاءِ يَحْكُونَ فِي الْوَرَعِ الْفَاسِدِ حِكَايَاتٍ بَعْضُهَا كَذِبٌ مِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ وَبَعْضُهَا غَلَطٌ. كَمَا يَحْكُونَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد: أَنَّ ابْنَهُ صَالِحًا لَمَّا تَوَلَّى الْقَضَاءَ لَمْ يَكُنْ يَخْبِزُ فِي دَارِهِ وَأَنَّ أَهْلَهُ خَبَزُوا فِي تَنُّورِهِ فَلَمْ يَأْكُلْ الْخُبْزَ فَأَلْقَوْهُ فِي دِجْلَةَ فَلَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ مِنْ صَيْدِ دِجْلَةَ. وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ وَالْفِرْيَةِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِمَامِ وَلَا يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا إلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ أَوْ أَعْظَمِهِمْ مَكْرًا بِالنَّاسِ وَاحْتِيَالًا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَقَدْ نَزَّهَهُ اللَّهُ عَنْ هَذَا وَهَذَا. وَكُلُّ عَالِمٍ يَعْلَمُ أَنَّ ابْنَهُ لَمْ يَتَوَلَّ الْقَضَاءَ فِي حَيَاتِهِ وَإِنَّمَا تَوَلَّاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ وَلَكِنْ كَانَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَوَكِّلُ قَدْ أَجَازَ أَوْلَادَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ جَوَائِزَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَأَمَرَهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ لَا يَقْبَلُوا جَوَائِزَ السُّلْطَانِ فَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ بِالْحَاجَةِ فَقَبِلَهَا مَنْ قَبِلَهَا مِنْهُمْ فَتَرَكَ الْأَكْلَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَالِانْتِفَاعَ بِنِيرَانِهِمْ فِي خُبْزٍ أَوْ مَاءٍ؛ لِكَوْنِهِمْ قَبِلُوا جَوَائِزَ السُّلْطَانِ. وَسَأَلُوهُ عَنْ هَذَا الْمَالِ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالُوا أَنَحُجُّ مِنْهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ مِنْهُ لِئَلَّا يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى أَنْ يُدَاخِلَ الْخَلِيفَةَ فِيمَا يُرِيدُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {خُذْ الْعَطَاءَ مَا كَانَ عَطَاءً فَإِذَا كَانَ عِوَضًا عَنْ دِينِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَأْخُذْهُ} وَلَوْ أُلْقِيَ فِي دِجْلَةَ الدَّمُ وَالْمَيْتَةُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَكُلُّ حَرَامٍ فِي الْوُجُودِ لَمْ يَحْرُمْ صَيْدُهَا وَلَمْ تَحْرُمْ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ آلَ بِهِ الْإِفْرَاطُ فِي الْوَرَعِ إلَى أَمْرٍ اجْتَهَدَ فِيهِ

ص: 313

فَيُثَابُ عَلَى حُسْنِ قَصْدِهِ؛ وَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوعُ خِلَافَ مَا فَعَلَهُ. مِثْلَ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ مَا فِي الْأَسْوَاقِ وَلَمْ يَأْكُلْ إلَّا مَا يَنْبُتُ فِي الْبَرَارِي وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَإِنَّمَا يَأْكُلُ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْثِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فَاعِلُهُ حَسَنَ الْقَصْدِ وَلَا فِيمَا فَعَلَ تَأْوِيلٌ؛ لَكِنَّ الصَّوَابَ الْمَشْرُوعَ خِلَافُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَأَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلُ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَهُ إلَى السَّمَاءِ. يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ} فَقَدْ بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ. كَمَا أَمَرَهُمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِأَكْلِ وَشُرْبٍ وَلِبَاسٍ. وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ مَسْكَنٍ وَمَرْكَبٍ وَسِلَاحٍ يُقَاتِلُ بِهِ وَكُرَاعٍ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ وَكُتُبٍ يَتَعَلَّمُ مِنْهَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقُومُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ إلَّا بِهِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. فَإِذَا كَانَ الْقِيَامُ بِالْوَاجِبَاتِ فَرْضًا عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ وَهِيَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِهَذِهِ الْأَمْوَالِ فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّهُ قَلِيلٌ؛ بَلْ هُوَ كَثِيرٌ غَالِبٌ؛ بَلْ هُوَ

ص: 314

الْغَالِبُ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ. وَلَوْ كَانَ الْحَرَامُ هُوَ الْأَغْلَبَ وَالدِّينُ لَا يَقُومُ فِي الْجُمْهُورِ إلَّا بِهِ لَلَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إمَّا تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ مِنْ أَكْثَرِ الْخَلْقِ. وَإِمَّا إبَاحَةُ الْحَرَامِ لِأَكْثَرِ الْخَلْقِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ. وَ " الْوَرَعُ " مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ الْنُعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك} {وَرَأَى تَمْرَةً سَاقِطَةً فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتهَا} . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِذِكْرِ أُصُولٍ: " أَحَدُهَا ": أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا اعْتَقَدَ فَقِيهٌ مُعَيَّنٌ أَنَّهُ حَرَامٌ كَانَ حَرَامًا؛ إنَّمَا الْحَرَامُ مَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِالْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ قِيَاسٍ مُرَجِّحٍ لِذَلِكَ وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ رُدَّ إلَى هَذِهِ الْأُصُولِ. وَمِنْ النَّاسِ

ص: 315

مَنْ يَكُونُ نَشَأَ عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ أَوْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا مُعَيَّنًا أَوْ سَمِعَ حِكَايَةً عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ فَيُرِيدُ أَنْ يَحْمِلَ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا غَلَطٌ وَلِهَذَا نَظَائِرُ.

مِنْهَا " مَسْأَلَةُ الْمَغَانِمِ " فَإِنَّ السُّنَّةَ أَنْ تُجْمَعَ وَتُخَمَّسَ وَتُقَسَّمَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ بِالْعَدْلِ. وَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفُلَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ. فَمَذْهَبُ فُقَهَاءِ الثُّغُورِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَأَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ لِمَا فِي السُّنَنِ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَلَ فِي بَدْأَتِهِ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ وَنَفَلَ فِي رَجْعَتِهِ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ} وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ بَلْ يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ التَّنْفِيلُ مِنْ الْخُمُسِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إلَّا مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ. كَانَ أَحْمَد يَعْجَبُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٍ كَيْفَ لَمْ تَبْلُغْهُمَا هَذِهِ السُّنَّةُ مَعَ وُفُورِ عِلْمِهِمَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ فَبَلَغَتْ سِهَامُنَا اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا وَنَفَلَنَا بَعِيرًا بَعِيرًا} وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّهْمَ إذَا كَانَ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا لَمْ يَحْتَمِلْ خُمُسَ الْخُمُسِ أَنْ يُخْرَجَ مِنْهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بَعِيرٌ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا إذَا كَانَ السَّهْمُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ بَعِيرًا. وَكَذَلِكَ إذَا فَضَّلَ الْإِمَامُ بَعْضَ الْغَانِمِينَ عَلَى بَعْضٍ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ كَمَا أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 316

سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ فِي غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ سَهْمَ رَاجِلٍ وَفَارِسٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُجِيزُهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْإِمَامُ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَلَمْ تُقَسَّمْ الْغَنَائِمُ. فَهَذَا جَائِزٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَلَا يَجُوزُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَفِي كُلٍّ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ خِلَافٌ. وَعَلَى مِثْلِ هَذَا الْأَصْلِ تَنْبَنِي " الْغَنَائِمُ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ " مِثْلَ الْغَنَائِمِ الَّتِي كَانَ يَغْنَمُهَا السَّلَاجِقَةُ الْأَتْرَاكُ وَالْغَنَائِمُ الَّتِي غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ النَّصَارَى مِنْ ثُغُورِ الشَّامِ وَمِصْرَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ أَفْتَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - كَأَبِي مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِي والنواوي - أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهَا شَيْئًا وَلَا يَطَأَ مِنْهَا فَرْجًا وَلَا يَمْلِكَ مِنْهَا مَالًا وَلَزِمَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ الْفَسَادِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ. فَعَارَضَهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ سِبَاعٍ الشَّافِعِيُّ فَأَفْتَى: أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قِسْمَةُ الْمَغَانِمِ بِحَالِ وَلَا تَخْمِيسُهَا وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ الرَّاجِلَ وَأَنْ يَحْرِمَ بَعْضَ الْغَانِمِينَ وَيَخُصَّ بَعْضَهُمْ وَزَعَمَ أَنَّ سِيرَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقْتَضِي ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ بَاطِلٌ وَمُنْكَرٌ أَيْضًا فَكِلَاهُمَا انْحِرَافٌ. وَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذِهِ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَالَ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ.

ص: 317

فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ ذَلِكَ فَمَنْ أَخَذَ شَيْئًا مَلَكَهُ وَعَلَيْهِ تَخْمِيسُهُ؛ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَلَمْ يَهَبْهُمْ الْمَغَانِمَ؛ بَلْ أَرَادَ مِنْهَا مَا لَا يُسَوَّغُ بِالِاتِّفَاقِ. أَوْ قِيلَ: إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَسِّمَ بِالْعَدْلِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْإِذْنُ بِالِانْتِهَابِ. فَهُنَا الْمَغَانِمُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ بَيْن الْغَانِمِينَ؛ لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ فِيهَا حَقٌّ. فَمَنْ أَخَذَ مِنْهَا مِقْدَارَ حَقِّهِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ. وَإِذَا شَكَّ فِي ذَلِكَ: فَإِمَّا أَنْ يَحْتَاطَ وَيَأْخُذَ بِالْوَرَعِ الْمُسْتَحَبِّ. أَوْ يَبْنِيَ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ. وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. كَذَلِكَ " الْمُزَارَعَةُ " عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ الَّتِي يُسَمِّيهَا بَعْضُ النَّاسِ الْمُخَابَرَةَ. وَقَدْ تَنَازَعَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ؛ لَكِنْ ثَبَتَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّحِيحَةِ جَوَازُهَا؛ فَإِنَّهُ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.

وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ الْمُخَابَرَةِ: فَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الصَّحِيحِ؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ يَشْتَرِطَ لِلْمَالِكِ زَرْعَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا. وَكَذَلِكَ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ مِنْهَا. فَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد: فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَنَهَى عَنْهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. فَهَذَا بَيِّنٌ.

الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا عَامَلَ مُعَامَلَةً يَعْتَقِدُ هُوَ جَوَازَهَا وَقَبَضَ الْمَالَ جَازَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَامِلَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَالِ. وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ جَوَازَ تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ

ص: 318

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُفِعَ إلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ عُمَّالِهِ يَأْخُذُ خَمْرًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ الْجِزْيَةِ فَقَالَ قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا أَمَا عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا} . ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا مِنْهُمْ أَثْمَانَهَا. فَأَمَرَ عُمَرُ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الدَّرَاهِمَ الَّتِي بَاعُوا بِهَا الْخَمْرَ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَ ذَلِكَ فِي دِينِهِمْ. وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ الْكُفَّارَ إذَا تَعَامَلُوا بَيْنَهُمْ بِمُعَامَلَاتٍ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَهَا وَتَقَابَضُوا الْأَمْوَالَ ثُمَّ أَسْلَمُوا كَانَتْ تِلْكَ الْأَمْوَالُ لَهُمْ حَلَالًا وَإِنْ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا أَقْرَرْنَاهَا فِي أَيْدِيهِمْ سَوَاءٌ تَحَاكَمُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ فِي الذِّمَمِ مِنْ الرِّبَا وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ مَا قَبَضُوهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ ذَلِكَ.

وَالْمُسْلِمُ إذَا عَامَلَ مُعَامَلَاتٍ يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا كَالْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي يُفْتِي بِهَا مَنْ يُفْتِي مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَخَذَ ثَمَنَهُ أَوْ زَارَعَ عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ الْعَامِلِ أَوْ أَكْرَى الْأَرْضَ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ مِنْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَبَضَ الْمَالَ جَازَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَامِلَهُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ جَوَازَ تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَلَوْ أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ رُجْحَانُ التَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إخْرَاجُ الْمَالِ الَّذِي كَسَبَهُ

ص: 319

بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ؛ فَإِنَّ هَذَا أَوْلَى بِالْعَفْوِ وَالْعُذْرِ مِنْ الْكَافِرِ الْمُتَأَوِّلِ وَلَمَّا ضَيَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ هَذَا عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْوَرَعِ أَلْجَأَهُ إلَى أَنْ يُعَامِلَ الْكُفَّارَ وَيَتْرُكَ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَأْمُرُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ وَيَدَعَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ الْمُسْلِمُونَ أَوْلَى بِكُلِّ خَيْرٍ وَالْكُفَّارُ أَوْلَى بِكُلِّ شَرٍّ.

الْأَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْحَرَامَ نَوْعَانِ: حَرَامٌ لِوَصْفِهِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. فَهَذَا إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ وَالْمَائِعِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَغَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ حَرَّمَهُ. وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْهُ فَفِيهِ نِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَالثَّانِي الْحَرَامُ لِكَسْبِهِ: كَالْمَأْخُوذِ غَصْبًا أَوْ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَهَذَا إذَا اخْتَلَطَ بِالْحَلَالِ لَمْ يُحَرِّمْهُ فَلَوْ غَصَبَ الرَّجُلُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ دَقِيقًا أَوْ حِنْطَةً أَوْ خُبْزًا وَخَلَطَ ذَلِكَ بِمَالِهِ لَمْ يُحَرِّمْ الْجَمِيعَ لَا عَلَى هَذَا وَلَا عَلَى هَذَا؛ بَلْ إنْ كَانَا مُتَمَاثِلَيْنِ أَمْكَنَ أَنْ يُقَسِّمُوهُ وَيَأْخُذَ هَذَا قَدْرَ حَقِّهِ وَهَذَا قَدْرَ حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَلَ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عَيْنُ مَالِ الْآخَرِ؛ الَّذِي أَخَذَ الْآخَرُ نَظِيرَهُ. وَهَلْ يَكُونُ الْخَلْطُ كَالْإِتْلَافِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالْإِتْلَافِ فَيُعْطِيهِ مِثْلَ حَقِّهِ مِنْ أَيْنَ أَحَبَّ.

ص: 320

وَالثَّانِي أَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ فِيهِ. فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَطْلُبَ حَقَّهُ مِنْ الْمُخْتَلَطِ فَهَذَا أَصْلٌ نَافِعٌ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ الْمُحَرَّمَةَ إذَا اخْتَلَطَتْ بِالدَّرَاهِمِ الْحَلَالِ حَرُمَ الْجَمِيعُ فَهَذَا خَطَأٌ؛ وَإِنَّمَا تَوَرَّعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا إذَا كَانَتْ قَلِيلَةً وَأَمَّا مَعَ الْكَثْرَةِ فَمَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا.

الْأَصْلُ الرَّابِعُ: الْمَالُ إذَا تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ مَالِكِهِ صُرِفَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا فَإِذَا كَانَ بِيَدِ الْإِنْسَانِ غصوب أَوْ عَوَارٍ أَوْ وَدَائِعُ أَوْ رُهُونٌ قَدْ يَئِسَ مِنْ مَعْرِفَةِ أَصْحَابِهَا فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْهُمْ أَوْ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يُسَلِّمُهَا إلَى قَاسِمٍ عَادِلٍ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ: تَوَقَّفَ أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَصْحَابَهَا؟ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. فَإِنَّ حَبْسَ الْمَالِ دَائِمًا لِمَنْ لَا يُرْجَى لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ بَلْ هُوَ تَعَرُّضٌ لِهَلَاكِ الْمَالِ وَاسْتِيلَاءِ الظَّلَمَةِ عَلَيْهِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَدْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَدَخَلَ بَيْتَهُ لِيَأْتِيَ بِالثَّمَنِ فَخَرَجَ فَلَمْ يَجِدْ الْبَائِعَ فَجَعَلَ يَطُوفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَيَتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ بِالثَّمَنِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ عَنْ رَبِّ الْجَارِيَةِ فَإِنْ قُبِلَ فَذَاكَ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ فَهُوَ لِي وَعَلَيَّ لَهُ مِثْلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكَذَلِكَ أَفْتَى بَعْضُ التَّابِعِينَ مَنْ غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَتَابَ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ عَنْهُمْ وَرَضِيَ بِهَذِهِ الْفُتْيَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ كمعاوية وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَهَذَا يُبَيِّنُ:

ص: 321

الْأَصْلَ الْخَامِسَ: وَهُوَ الَّذِي يَكْشِفُ سِرَّ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْمَجْهُولَ فِي الشَّرِيعَةِ كَالْمَعْدُومِ وَالْمَعْجُوزِ عَنْهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قَالَ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فَاَللَّهُ إذَا أَمَرَنَا بِأَمْرٍ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ. فَمَا عَجَزْنَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ أَوْ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ سَقَطَ عَنَّا؛ وَلِهَذَا {قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي اللُّقَطَةِ: فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدَّاهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} فَهَذِهِ اللُّقَطَةُ كَانَتْ مِلْكًا لِمَالِكٍ وَوَقَعَتْ مِنْهُ فَلَمَّا تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ مَالِكِهَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {هِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ شَاءَ أَنْ يُزِيلَ عَنْهَا مِلْكَ ذَلِكَ الْمَالِكِ وَيُعْطِيَهَا لِهَذَا الْمُلْتَقِطِ الَّذِي عَرَّفَهَا سَنَةً. وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ بَعْدَ تَعْرِيفِ السَّنَةِ يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا. وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا إنْ كَانَ فَقِيرًا. وَهَلْ لَهُ التَّمَلُّكُ مَعَ الْغِنَى؟ . فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ. وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجَوِّزُهُ. وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ وَارِثٌ صُرِفَ مَالُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ حَتَّى لَوْ تَبَيَّنَ الْوَارِثُ يُسَلِّمُ إلَيْهِ مَالَهُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ تَبَيُّنِهِ يَكُونُ صَرْفُهُ إلَى مَنْ يَصْرِفُهُ جَائِزًا

ص: 322

وَأَخْذُهُ لَهُ غَيْرَ حَرَامٍ مَعَ كَثْرَةِ مَنْ يَمُوتُ وَلَهُ عَصَبَةٌ بَعْدُ لَمْ تُعْرَفْ. وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَيُقَالُ: مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمَقْبُوضَةِ بِعُقُودٍ لَا تُبَاحُ بِالْقَبْضِ إنْ عَرَفَهُ الْمُسْلِمُ اجْتَنَبَهُ. فَمَنْ عَلِمْت أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا أَوْ خَانَهُ فِي أَمَانَتِهِ أَوْ غَصَبَهُ فَأَخَذَهُ مِنْ الْمَغْصُوبِ قَهْرًا بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَجُزْ لِي أَنْ آخُذَهُ مِنْهُ؛ لَا بِطَرِيقِ الْهِبَةِ وَلَا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ وَلَا وَفَاءً عَنْ أُجْرَةٍ وَلَا ثَمَنَ مَبِيعٍ وَلَا وَفَاءً عَنْ قَرْضٍ فَإِنَّ هَذَا عَيْنُ مَالِ ذَلِكَ الْمَظْلُومِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ قَبَضَهُ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ فِي مَذْهَبِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ جَازَ لِي أَنْ أَسْتَوْفِيَهُ مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَالْأُجْرَةِ وَالْقَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدُّيُونِ. وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ وَالْأَصْلُ فِيمَا بِيَدِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لَهُ إنْ ادَّعَى أَنَّهُ مَلَكَهُ أَوْ يَكُونَ وَلِيًّا عَلَيْهِ؛ كَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَوَلِيِّ بَيْتِ الْمَالِ. أَوْ يَكُونَ وَكِيلًا فِيهِ. وَمَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ أَوْ الْوِلَايَةِ جَازَ تَصَرُّفُهُ. فَإِذَا لَمْ أَعْلَمْ حَالَ ذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي بِيَدِهِ بَنَيْت الْأَمْرَ عَلَى الْأَصْلِ ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ الدِّرْهَمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَدْ غَصَبَهُ هُوَ وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَا كُنْت جَاهِلًا بِذَلِكَ وَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ فَلَيْسَ أَخْذِي لِثَمَنِ الْمَبِيعِ وَأُجْرَةِ الْعَمَلِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ بِدُونِ أَخْذِي اللُّقَطَةَ؛ فَإِنَّ اللُّقَطَةَ أَخَذْتهَا بِغَيْرِ

ص: 323

عِوَضٍ ثُمَّ لَمْ أَعْلَمْ مَالِكِهَا وَهَذَا الْمَالُ لَا أَعْلَمُ لَهُ مَالِكًا غَيْرَ هَذَا وَقَدْ أَخَذْته عِوَضًا عَنْ حَقِّي فَكَيْفَ يَحْرُمُ هَذَا عَلَيَّ لَكِنْ إنْ كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا - بِأَنَّ فِي مَالِهِ حَرَامًا - تُرِكَ مُعَامَلَتُهُ وَرَعًا. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامًا فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُ الْمَسْتُورُ فَلَا شُبْهَةَ فِي مُعَامَلَتِهِ أَصْلًا وَمَنْ تَرَكَ مُعَامَلَتَهُ وَرَعًا كَانَ قَدْ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ بِدْعَةً مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ؛ فَإِنَّ هَذَا الغالط يَقُولُ: إنَّ هَذِهِ اللُّحُومَ وَالْأَلْبَانَ الَّتِي تُؤْكَلُ قَدْ تَكُونُ فِي الْأَصْلِ قَدْ نُهِبَتْ أَوْ غُصِبَتْ. فَيُقَالُ: الْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ فَإِذَا لَمْ نَعْلَمْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّنَا كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا حَرَّمَ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ الظُّلْمِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} وَالْغَصْبُ وَأَنْوَاعُهُ وَالسَّرِقَةُ وَالْخِيَانَةُ دَاخِلٌ فِي الظُّلْمِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْمَظْلُومُ الَّذِي أُخِذَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ بِبَيْعٍ أَوْ أُجْرَةٍ وَأُخِذَ مِنْهُ وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ ثُمَّ يُنْقَلُ مِنْ الْمُشْتَرِي

ص: 324

إلَى غَيْرِهِ ثُمَّ إلَى غَيْرِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَظْلِمُوهُ وَإِنَّمَا ظَالِمُهُ مَنْ اعْتَدَى عَلَيْهِ؛ وَلَكِنْ لَوْ عَلِمَ بِهِمْ فَهَلْ لَهُ مُطَالَبَتُهُمْ بِمَا لَمْ يَلْتَزِمُوا ضَمَانَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ. أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ الظَّالِمَ إذَا أَوْدَعَ مَالَهُ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ غَاصِبٌ فَتَلِفَتْ الْوَدِيعَةُ فَهَلْ لِلْمَالِكِ أَنْ يُطَالِبَ الْمُودَعَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ أَطْعَمَ الْمَالَ لِضَيْفٍ لَمْ يَعْلَمْ بِالظُّلْمِ ثُمَّ عَلِمَ الْمَالِكُ فَهَلْ لَهُ مُطَالَبَةُ الضَّيْفِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ لَهُ مُطَالَبَتُهُ لَا يَقُولُ إنَّ أَكْلَهُ حَرَامٌ؛ بَلْ يَقُولُ: لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي أَكْلِهِ؛ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَدَاءُ ثَمَنِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا اشْتَرَاهُ. وَصَاحِبُ الْقَوْلِ الصَّحِيحِ يَقُولُ: لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي أَكْلِهِ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِصَاحِبِهِ بِحَالِ وَإِنَّمَا الْغُرْمُ عَلَى الْغَاصِبِ الظَّالِمِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ. فَإِذَا نَظَرْنَا إلَى مَالٍ مُعَيَّنٍ بِيَدِ إنْسَانٍ لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ وَلَا مَقْبُوضٌ قَبْضًا لَا يُفِيدُ الْمَالِكَ وَاسْتَوْفَيْنَاهُ مِنْهُ أَوْ اتَّهَبْنَاهُ مِنْهُ أَوْ اسْتَوْفَيْنَاهُ عَنْ أُجْرَةٍ أَوْ بَدَلِ قَرْضٍ لَا إثْمَ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ. وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَدْ سَوَّقَهُ أَوْ غَصَبَهُ ثُمَّ إذَا عَلِمْنَا فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ مَسْرُوقٌ فَعَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا إلَّا مَا الْتَزَمْنَاهُ بِالْعَقْدِ أَيْ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْنَا إلَّا ضَمَانُ مَا الْتَزَمْنَاهُ بِالْعَقْدِ فَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْنَا ضَمَانُ مَا أَهْدَى أَوْ وَهَبَ، وَلَا ضَمَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ الْأُجْرَةُ

ص: 325

وَبَدَلُ الْقَرْضِ إذَا كُنَّا قَدْ تَصَرَّفْنَا فِيهَا لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْنَا ضَمَانُ بَدَلِهِ. لَكِنْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ هُنَا فِي " مَسْأَلَةٍ " وَهِيَ أَنَّهُ: هَلْ لِلْمَالِكِ تَضْمِينُ هَذَا الْمَغْرُورِ الَّذِي تَلِفَ الْمَالُ تَحْتَ يَدِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الْغَارِّ بِمَا غَرِمَهُ بِغُرُورِ؟ أَمْ لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمَغْرُورِ إلَّا بِمَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد. وَمِثْلُ هَذَا لَوْ غَصَبَ رَجُل جَارِيَةً فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ إنْسَانٌ وَاسْتَوْلَدَهَا أَوْ وَهَبَهُ إيَّاهَا فَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَهَا مِنْ الْمَغْرُورِ يَكُونُونَ أَحْرَارًا؛ لِأَنَّ الْوَاطِئَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ؛ بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَيَتْبَعُ أَبَاهُ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَمَعَ هَذَا فَجَعَلُوا ابْنَهُ حُرًّا لِكَوْنِ الْوَالِدِ لَمْ يَعْلَمْ وَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ. وَأَوْجَبُوا لِسَيِّدِ الْجَارِيَةِ بَدَلَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ لَوْلَا الْغُرُورُ فَإِذَا خَرَجُوا عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَانَ لَهُ بَدَلُهُمْ وَأَوْجَبُوا لَهُ مَهْرَ أَمَةٍ. وَقَالُوا فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ هَذَا يَلْزَمُ الْغَارَّ الظَّالِمَ الَّذِي غَصَبَ الْجَارِيَةَ وَبَاعَهَا؛ لَا يَلْزَمُ الْمَغْرُورَ الْمُشْتَرِيَ إلَّا مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ الثَّمَنُ فَقَطْ. ثُمَّ هَلْ لِصَاحِبِهَا أَنْ يُطَالِبَ الْمَغْرُورَ بِفِدَاءِ الْوَلَدِ وَالْمَهْرِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ الْمَغْرُورُ عَلَى الْغَارِّ الظَّالِمِ؟ أَمْ لَيْسَ لَهُ إلَّا مُطَالَبَةُ الْغَارِّ الظَّالِمِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد. وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ وَطْأَهُ لَيْسَ بِحَرَامِ وَأَنَّ وَلَدَهُ وَلَدُ رِشْدَةٍ لَا وَلَدٌ عَنْهُ. فَهُوَ وَلَدُ حَلَالٍ لَا وَلَدُ

ص: 326

زِنًا وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ هَذِهِ الصُّوَرِ لَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَى الْآكِلِ وَلَا عَلَى اللَّابِسِ وَلَا عَلَى الْوَاطِئِ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ. وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَهُوَ يَجِبُ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} فَقَاتِلُ النَّفْسِ خَطَأً لَا يَأْثَمُ وَلَا يَفْسُقُ بِذَلِكَ؛ وَلَكِنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ كَذَلِكَ مَنْ أَتْلَفَ مَالًا مَغْصُوبًا خَطَأً فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِثْمَ مُنْتَفٍ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ.

وَحِينَئِذٍ فَجَمِيعُ الْأَمْوَالِ الَّتِي بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّتِي لَا يُعْلَمُ بِدَلَالَةٍ وَلَا أَمَارَةٍ أَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ أَوْ مَقْبُوضَةٌ قَبْضًا لَا يَجُوزُ مَعَهُ مُعَامَلَةُ الْقَابِضِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مُعَامَلَتُهُمْ فِيهَا بِلَا رَيْبٍ وَلَا تَنَازُعَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَعْلَمُهُ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَالِبَ أَمْوَالِ النَّاسِ كَذَلِكَ وَالْقَبْضُ الَّذِي لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ هُوَ الظُّلْمُ الْمَحْضُ فَأَمَّا الْمَقْبُوضُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ؛ وَنَحْوِهِمَا فَهَلْ يُفِيدُ الْمِلْكَ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ: " أَحَدُهَا " أَنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. " وَالثَّانِي " لَا يُفِيدُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَعْرُوفِ

ص: 327

مِنْ مَذْهَبِهِ. " وَالثَّالِثُ " أَنَّهُ إنْ فَاتَ أَفَادَ الْمِلْكَ وَإِنْ أَمْكَنَ رَدَّهُ إلَى مَالِكِهِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ فِي وَصْفٍ وَلَا سِعْرٍ لَمْ يُفِدْ الْمِلْكَ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَالْقَوَاعِدُ قَدْ بَسَطْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ؛ وَلَكِنْ نَبَّهْنَا عَلَى قَوَاعِدَ شَرِيفَةٍ تَفْتَحُ بَابَ الِاشْتِبَاهِ فِي هَذَا الْأَصْلِ؛ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أُصُولِ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ: إنَّ أُصُولَ الْإِسْلَامِ تَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ: قَوْلُهُ: {الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ} وَقَوْلُهُ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} وَقَوْلُهُ: {مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ} . فَإِنَّ الْأَعْمَالَ إمَّا مَأْمُورَاتٌ وَإِمَّا مَحْظُورَاتٌ وَالْأَوَّلُ فِيهِ ذِكْرُ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمَأْمُورَاتِ أَمَّا قَصْدُ الْقَلْبِ وَهُوَ النِّيَّةُ وَأَمَّا الْعَمَلُ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ الْمُوَافِقُ لِلسُّنَّةِ كَمَا قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصَهُ وَأَصْوَبَهُ؟ قَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ. وَإِنْ كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا. وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ الَّذِي قَالَ: أَكْلُ الْحَلَالِ مُتَعَذَّرٌ وَلَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ: قَوْلُهُ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ؛ بَلْ

ص: 328

الْحَلَالُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ الْحَرَامِ وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَأَعْرِفُ مَنْ قَالَهُ مِنْ كِبَارِ الْمَشَايِخِ بِالْعِرَاقِ وَلَعَلَّهُ مِنْ أُولَئِكَ انْتَقَلَ إلَى بَعْضِ شُيُوخِ مِصْرَ. ثُمَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَسُدَّ بَابَ الْأَكْلِ؛ بَلْ قَالَ: الْوَرَعُ حِينَئِذٍ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَأْتِي فِيمَا يَفْعَلُ وَيَتْرُكُ. لَمْ يَحْضُرْنِي الْآنَ. فَلْيَتَدَبَّرْ الْعَاقِلُ وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ عَنْ الْقَانُونِ النَّبَوِيِّ الشَّرْعِيِّ الْمُحَمَّدِيِّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا احْتَاجَ إلَى أَنْ يَضَعَ قَانُونًا آخَرَ مُتَنَاقِضًا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ وَالدِّينُ؛ لَكِنْ مَنْ كَانَ مُجْتَهِدًا اُمْتُحِنَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَيَغْفِرُ لَهُ خَطَأَهُ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .

وَمَا ذَكَرَهُ: مِنْ أَنَّ وَقْعَةَ الْمَنْصُورَةِ لَمَّا لَمْ تُقَسَّمْ فِيهَا الْمَغَانِمُ وَاخْتَلَطَتْ فِيهَا الْمَغَانِمُ دَخَلَتْ الشُّبْهَةُ. الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ كَلَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ: الَّذِي اخْتَلَطَ بِأَمْوَالِ النَّاسِ مِنْ الْحَرَامِ الْمَحْضِ كَالْغَصْبِ الَّذِي يَغْصِبُهُ الْقَادِرُونَ مِنْ الْوُلَاةِ وَالْقُطَّاعِ. أَوْ أَهْلِ الْفِتَنِ وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْخِيَانَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرِ؛

ص: 329

لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ الشَّامِ وَالْمَغْرِبِ ظُلْمًا كَظُلْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي الْمُعَامَلَاتِ بِالْخِيَانَةِ وَالْغِشِّ وَجَحْدِ الْحَقِّ وَلِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنْ ظُلْمِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالْفَلَّاحِينَ وَالْأَعْرَابِ وَلِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنْ الظُّلْمِ الْمَوْضُوعِ مِنْ الْمُتَوَلِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِحَالَةُ التَّحْرِيمِ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ أَوْلَى مِنْ إحَالَتِهِ عَلَى الْمَغَانِمِ. الثَّانِي أَنَّ تِلْكَ الْمَغَانِمِ قَدْ ذَكَرْنَا مَذْهَبَ الْفُقَهَاءِ فِيهَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَذِنَ فِي الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ قَسْمٍ جَازَ. وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ فَمَنْ أَخَذَ مِقْدَارَ حَقِّهِ جَازَ وَأَنَّ مَنْ أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَى أَصْحَابِهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِمْ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُمْ. وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِهِ عَنْهُمْ وَتَصَرَّفَ فِيهِ فَمَتَى وَصَلَ إلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِ فِيهِ إثْمٌ. وَهَذَا الْحُكْمُ جَازَ فِي سَائِرِ الغصوب الْمَذْكُورَةِ. وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مَنْ آجَرَ نَفْسَهُ أَوْ دَوَابَّهُ أَوْ عَقَارَهُ أَوْ مَا يَتَعَلَّقُهُ وَأَخَذَ الثَّمَنَ وَالْأُجْرَةَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ. سَوَاءٌ عَلِمَ ذَلِكَ الثَّمَنَ وَالْأُجْرَةَ حَلَالًا لِلْمَالِكِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ حَالَهُ بِأَنْ كَانَ مَسْتُورًا وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ غَصَبَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ أَوْ سَرَقَهَا أَوْ قَبَضَهَا بِوَجْهٍ لَا يُبِيحُ أَخْذَهَا بِهِ لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا عَنْ ثَمَنِهِ وَأُجْرَتِهِ مَعَ أَنَّ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ تَضِيقُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ عَنْ بَسْطِهِ.

ص: 330

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: الدِّرْهَمُ كَيْفَ قَبِلَ التَّغَيُّرَ وَصَارَ حَرَامًا بِالسَّبَبِ الْمَمْنُوعِ وَلَمْ يَقْبَلْ التَّغَيُّرَ فَيَصِيرُ حَلَالًا بِالسَّبَبِ الْمَشْرُوعِ. فَيُقَالُ لَهُ: بَلْ قَبِلَ التَّغَيُّرَ فِيمَا حُرِّمَ لِوَصْفِهِ؛ لَا بِمَا حُرِّمَ لِكَسْبِهِ. فَالْأَوَّلُ مِثْلُ الْخَمْرِ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ عَصِيرًا لَمْ تَصِرْ حَلَالًا طَاهِرًا فَلَمَّا تَخَمَّرَتْ كَانَتْ حَرَامًا نَجِسًا؛ فَإِذَا تَخَلَّلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِتَخْلِيلِهَا كَانَتْ خَلَّ خَمْرٍ حَلَالًا طَاهِرًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا قَصَدَ تَخْلِيلَهَا. وَتَنَازَعُوا فِي سَائِرِ النَّجَاسَاتِ كَالْخِنْزِيرِ إذَا صَارَ مِلْحًا وَالنَّجَاسَةِ إذَا صَارَتْ رَمَادًا. فَقِيلَ: لَا يَطْهُرُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد. وَ " الثَّانِي " مِثْلُ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ هُوَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ قُبِضَ بِالظُّلْمِ فَإِذَا قُبِضَ بِحَقٍّ أُبِيحَ: مِثْلَ أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ الْمَالِكُ لِلْغَاصِبِ أَوْ يَهَبَهُ إيَّاهُ أَوْ يَبِيعَهُ مِنْهُ أَوْ يَقْبِضَهُ الْمَالِكُ أَوْ وَلِيُّهُ أَوْ وَكِيلُهُ. ثُمَّ الْغَاصِبُ إذَا أَعْطَاهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ كَانَ قَبْضُهُ بِحَقِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ مَا لَا يَعْلَمُ كَذَلِكَ بَيَّنَ قَبْضَهُ مِنْ الْقَابِضِ بِحَقِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الضَّمَانِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 331

‌بَابُ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ

سُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ اشْتَرَى جَارِيَةً كِتَابِيَّةً وَشَرَطَ لَهُ الْبَائِعُ أَنَّهَا طَبَّاخَةٌ جَيِّدَةٌ، وَأَنَّهَا تَصْنَعُ الْخَمْرَ وَالنَّبِيذَ فَهَلْ يَصِحُّ؟.

فَأَجَابَ:

اشْتِرَاطُ كَوْنِهَا تَصْنَعُ الْخَمْرَ وَالنَّبِيذَ شَرْطٌ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْعَقْدُ مَعَ ذَلِكَ فَاسِدٌ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَب أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَهَا بِدُونِ شَرْطٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ الْجَارِيَةَ؛ لِأَجْلِ كَوْنِهَا تَصْنَعُ الْخَمْرَ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ عَيْنًا لِيَعْصِيَ اللَّهَ بِهَا مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ عَصِيرًا لِيَعْمَلَهُ خَمْرًا وَيَشْتَرِيَ سِلَاحًا لِيُقَاتِلَ الْمُسْلِمِينَ: فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد

ص: 332

وَغَيْرِهِمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِيَ أَجَّرَ الْبَائِعَ الدَّارَ مُدَّةً مِنْ الشُّهُورِ بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ فِي تَارِيخِهِ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ بَيْنَهُمَا بَيْعُ أَمَانَةٍ فِي الْبَاطِنِ. هَلْ يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ؟ وَهَلْ يَلْزَمُ الْبَائِعَ الْأَصْلِيَّ مَبْلَغٌ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ؟ أَمْ لَا؟ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً} وَهَلْ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَجَاءَتْهُ إبِلُ الصَّدَقَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرًا فَقُلْت لَمْ أَجِدْ فِي الْإِبِلِ إلَّا جَمَلًا خِيَارًا رباعيا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْطِهِ فَإِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً} وَهَلْ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ دَرَاهِمَ

ص: 333

وَيَنْتَفِعُ الْمُعْطِي بِعَقَارِ الْآخَرِ مُدَّةَ مَقَامِ الدَّرَاهِمِ فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا أَعَادَ الدَّرَاهِمَ إلَيْهِ أَعَادَ إلَيْهِ الْعَقَارَ فَهَذَا حَرَامٌ بِلَا رَيْبٍ وَهَذَا دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ مِثْلِهَا وَمَنْفَعَةُ الدَّارِ وَهُوَ الرِّبَا الْبَيِّنُ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُقْرِضَ مَتَى اشْتَرَطَ زِيَادَةً عَلَى قَرْضِهِ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا وَكَذَلِكَ إذَا تَوَاطَأَ عَلَى ذَلِكَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:{لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ. وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك} حَرَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْجَمْعَ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَقْرَضَهُ وَبَاعَهُ: حَابَاهُ فِي الْبَيْعِ لِأَجْلِ الْقَرْضِ وَكَذَلِكَ إذَا آجَرَهُ وَبَاعَهُ. وَمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ بَيْعِ الْأَمَانَةِ الَّذِي يَتَّفِقُونَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ إذَا جَاءَهُ بِالثَّمَنِ أَعَادَ إلَيْهِ الْمَبِيعَ هُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ سَوَاءٌ شَرَطَهُ فِي الْعَقْدِ أَوْ تَوَاطَأَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُعَادَ الْعَقَارُ إلَى رَبِّهِ وَالْمَالُ إلَى رَبِّهِ وَيُعَزَّرُ كُلٌّ مِنْ الشَّخْصَيْنِ إنْ كَانَا عَلِمَا بِالتَّحْرِيمِ. وَالْقَرْضُ الَّذِي يَجُرُّ مَنْفَعَةً قَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ السَّائِلُ وَغَيْرُهُمْ: كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَنَسِ بْن مَالِكٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: " إنَّك بِأَرْضِ الرِّبَا فِيهَا فَاشٍ فَإِذَا أَقْرَضْت رَجُلًا قَرْضًا فَأَهْدَى لَك حِمْلَ تِبْنٍ أَوْ حِمْلَ

ص: 334

قَتٍّ فَاحْسُبْهُ لَهُ مِنْ قَرْضِهِ " وَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إنِّي أَقْرَضْت سَمَّاكًا عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَأَهْدَى لِي سَمَكَةً فَقَوَّمْتهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَقَالَ لَا تَأْخُذْ مِنْهُ إلَّا سَبْعَةَ دَرَاهِمَ. وَحَدِيثُ الْبَكْرِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. فَإِذَا وَفَّاهُ الْمُقْرِضُ خَيْرًا مِنْ قَرْضِهِ بِلَا مُوَاطَأَةٍ جَازَ ذَلِكَ وَإِنْ وَفَّاهُ أَكْثَرَ مِنْ قَرْضِهِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا زِيَادَةٌ بَعْدَ وَفَاءِ الْقَرْضِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا أَهْدَى إلَيْهِ قَبْلَ الْوَفَاءِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَحْسِبْهُ مِنْ الْقَرْضِ كَانَ الْقَرْضُ بَاقِيًا فِي ذِمَّتِهِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَ الْهَدِيَّةِ وَالْهَدِيَّةُ إنَّمَا كَانَتْ بِسَبَبِ الْقَرْضِ. وَقَدْ {قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا بَالُ الرَّجُلِ نَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانَا اللَّهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إلَيْهِ؟ أَمْ لَا؟} . فَبَيَّنَ أَنَّ الْهَدِيَّةَ إذَا كَانَتْ بِسَبَبٍ أُلْحِقَتْ بِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ: أَنَّ الْهَدِيَّةَ قَبْلَ الْوَفَاءِ تُحْسَبُ لِصَاحِبِهَا؛ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الصِّفَةِ فِي الْوَفَاءِ. وَأَمَّا صُورَتُهُ: وَهُوَ أَنْ يَتَوَاطَآ عَلَى أَنْ يَبْتَاعَ مِنْهُ الْعَقَارَ بِثَمَنِ ثُمَّ يُؤَجِّرَهُ إيَّاهُ إلَى مُدَّةٍ وَإِذَا جَاءَهُ بِالثَّمَنِ أَعَادَ إلَيْهِ الْعَقَارَ. فَهُنَا الْمَقْصُودُ إنَّ الْمُعْطِيَ شَيْئًا أَدَّى الْأُجْرَةَ مُدَّةَ بَقَاءِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَخْذِ الْمَنْفَعَةِ وَبَيْنَ عِوَضِ الْمَنْفَعَةِ الْجَمِيعُ حَرَامٌ.

ص: 335

وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَدْ رَخَّصَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْعَقْدِ وَأَنَّ الْمُوَاطَأَةَ وَالنِّيَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْعُقُودِ. فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ: تَحْرِيمُ مِثْلِ ذَلِكَ. وَأَنَّ النِّيَّاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْعُقُودِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى} وَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ كَالْمُقَارِنِ لَهُ. وَقَدْ عَاتَبَ اللَّهُ مَنْ أَسْقَطَ الْوَاجِبَاتِ وَاسْتَحَلَّ الْمُحَرَّمَاتِ: بِالْحِيَلِ وَالْمُخَادَعَاتِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ " ن " وَفِي قِصَّةِ أَهْلِ السَّبْتِ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ} . وَقَالَ أَيُّوبُ السختياني: يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ لَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ. وَدَلَائِلُ هَذَا مَبْسُوطَةٌ فِي كِتَابٍ كَبِيرٍ.

ص: 336

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

فَصْلٌ:

فِي {قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ: ابْتَاعِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ} . فَإِنَّ هَذَا أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: انْفَرَدَ بِهِ هِشَامٌ دُونَ الزُّهْرِيِّ وَظَنَّ ذَلِكَ عِلَّةً فِيهِ. وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَا عِلَّةَ فِيهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: " اشْتَرِطِي لَهُمْ ": بِمَعْنَى عَلَيْهِمْ. قَالُوا: وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} أَيْ عَلَيْهِمْ اللَّعْنَةُ. وَنَقَلَ هَذَا حَرْمَلَةُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَنُقِلَ عَنْ المزني وَهُوَ ضَعِيفٌ. أَمَّا أَوَّلًا: فَإِنَّ قَوْلَهُ: " اشْتَرِطِي لَهُمْ " صَرِيحٌ فِي مَعْنَاهُ وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ فَمِثْلُ قَوْلِهِ: (لَهُمْ الْعَذَابُ وَ (لَهُمْ خِزْيٌ وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ اللَّعْنَةَ؛

ص: 337

بَلْ هُنَا إذَا قِيلَ: (وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ) وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُجْزَوْنَ بِهَا وَإِذَا قِيلَ: عَلَيْهِمْ فَالْمُرَادُ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِاللَّعْنَةِ فَالْمَعْنَيَانِ مُفْتَرِقَانِ. وَقَدْ يُرَادُ بِقَوْلِهِ: " عَلَيْهِمْ " الْخَبَرُ: أَيْ وَقَعَتْ عَلَيْهِمْ فَحَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ غَيَّرَ مَا أَفَادَهُ حَرْفُ الِاخْتِصَاصِ وَإِنْ كَانَا يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ أُولَئِكَ مَلْعُونُونَ. وَقَوْلُهُ: " اشْتَرِطِي لَهُمْ " مُبَايِنٌ لِمَعْنَى اشْتَرِطِي عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ يُفَسَّرُ مَعْنَى اللَّفْظِ بِمَعْنَى ضِدِّهِ وَأَيْضًا فَعَائِشَةُ قَدْ كَانَتْ اشْتَرَطَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالَتْ: " إنْ شَاءُوا عَدَدْتهَا لَهُمْ عِدَّةً وَاحِدَةً وَيَكُونُ وَلَاؤُك لِي فَامْتَنَعُوا ". وَأَيْضًا فَإِنَّ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ لَا يَحْتَاجُ إلَى اشْتِرَاطِهِ؛ بَلْ هُوَ إذَا أَعْتَقَ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَى الْبَائِعِ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ. يَبْقَى حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْوَلَاءَ إنَّمَا يَصِيرُ لَهُمْ إذَا شَرَطَتْهُ وَهَذَا بَاطِلٌ. وَمَنْ تَدَبَّرَ الْحَدِيثَ تَبَيَّنَ لَهُ قَطْعًا أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُرِدْ هَذَا. وَأَمَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ: فَأَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَتَيْنِ. مِنْ جِهَةِ أَنَّ الرَّسُولَ كَيْفَ يَأْمُرُ بِالشَّرْطِ الْبَاطِلِ. وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّرْطَ الْبَاطِلَ كَيْفَ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ. وَقَدْ أَجَابَ طَائِفَةٌ بِجَوَابٍ ثَالِثٍ ذَكَرَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ. وَهُوَ أَنَّ

ص: 338

الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَأَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ وُجُودُ اشْتِرَاطِهِمْ كَعَدَمِهِ وَبَيَّنَ لِعَائِشَةَ أَنَّ اشْتِرَاطَك لَهُمْ الْوَلَاءَ لَا يَضُرُّك فَلَيْسَ هُوَ أَمْرًا بِالشَّرْطِ؛ لَكِنْ إذْنًا لِلْمُشْتَرِي فِي اشْتِرَاطِهِ إذَا أَبَى الْبَائِعُ أَنْ يَبِيعَ إلَّا بِهِ وَإِخْبَارًا لِلْمُشْتَرِي أَنَّ هَذَا لَا يَضُرُّهُ وَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْخُلَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. فَهُوَ إذْنٌ فِي الشِّرَاءِ مَعَ اشْتِرَاطِ الْبَائِعِ ذَلِكَ وَإِذْنٌ فِي الدُّخُولِ مَعَهُمْ فِي اشْتِرَاطِهِ لِعَدَمِ الضَّرَرِ فِي ذَلِكَ وَنَفْسُ الْحَدِيثِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ الْفَاسِدِ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَإِنَّمَا اسْتَشْكَلَ الْحَدِيثَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِطُ يَعْلَمُ أَنَّهُ شَرْطٌ مُحَرَّمٌ لَا يَحِلُّ اشْتِرَاطُهُ فَوُجُودُ اشْتِرَاطِهِ كَعَدَمِهِ؛ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ. فَيَصِحُّ اشْتِرَاءُ الْمُشْتَرِي وَيَمْلِكُ الْمُشْتَرِي وَبِلَغْوِ هَذَا الشَّرْطِ الَّذِي قَدْ عَلِمَ الْبَائِعُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَأَمَّا أُولَئِكَ الْقَوْمُ فَإِنْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا بِالنَّهْيِ قَبْلَ اسْتِفْتَاءِ عَائِشَةَ فَلَا شُبْهَةَ. لَكِنْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ بَلْ فِيهِ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَشِيَّةً فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ} وَهَذَا كَانَ عَقِبَ اسْتِفْتَاءِ عَائِشَةَ وَقَدْ عَلِمَ أُولَئِكَ

ص: 339

بِهَذَا بِلَا رَيْبٍ وَكَانَ عَقْدُ عَائِشَةَ مَعَهُمْ بَعْدَ هَذَا الْإِعْلَامِ مِنْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا تَابُوا عَنْ هَذَا الشَّرْطِ أَوْ أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ. وَحِينَئِذٍ فَلَا يَضُرُّ اشْتِرَاطُهُ. هَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَسِيَاقُهُ. وَلَا إشْكَالَ فِيهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُشْتَرِطُ لِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ الْبَاطِلِ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ ظَانًّا أَنَّهُ شَرْطٌ لَازِمٌ، فَهَذَا لَا يَكُونُ الْبَيْعُ فِي حَقِّهِ لَازِمًا وَلَا يَكُونُ أَيْضًا بَاطِلًا. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد؛ بَلْ لَهُ الْفَسْخُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ بِهَذَا الشَّرْطِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فَمَلَكَهُ لَهُ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُنْفِذَ الْبَيْعَ أَنْفَذَهُ كَمَا لَوْ ظَهَرَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ وَكَالشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ إذَا لَمْ يُوَفِّ لَهُ بِهَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ رَهْنٍ أَوْ ضَمِينٍ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ فَلَهُ الْفَسْخُ وَلَهُ الْإِمْضَاءُ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ فِي مِثْلِ هَذَا ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ؛ بَلْ هُوَ غَيْرُ لَازِمٍ يَتَسَلَّطُ فِيهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْفَسْخِ كَالْمُشْتَرِي لِلْمَعِيبِ وَلِلْمُصَرَّاةِ وَنَحْوِهِمَا؛ فَإِنَّ حَقَّهُ مُخَيَّرٌ بِتَمْكِينِهِ مِنْ الْفَسْخِ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد: إنَّ لَهُ أَرْشَ مَا نَقَصَ مِنْ الثَّمَنِ بِإِلْغَاءِ هَذَا الشَّرْطِ كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَعِيبِ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الْفَسْخَ؛ وَإِنَّمَا لَهُ الْأَرْشُ بِالتَّرَاضِي أَوْ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ كَقَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَهَذَا أَصَحُّ؛ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِطَ لَمْ يَرْضَ إلَّا

ص: 340

بِالشَّرْطِ فَلَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ بِدُونِهِ؛ بَلْ لَهُ الْخِيَارُ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ لَمْ يَرْضَ إلَّا بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَ رَضِيَ بِهِ مَعَ الشَّرْطِ فَإِذَا أَلْغَى الشَّرْطَ وَصَارَ الْوَلَاءُ لَهُ فَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بَلْ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فَلَا يُلْزَمُ بِالزِّيَادَةِ؛ بَلْ إذَا أَعْطَى الثَّمَنَ فَإِنْ شَاءَ الْآخَرُ قَبِلَ وَأَمْضَى وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَإِنْ تَرَاضَيَا بِالْأَرْشِ جَازَ لَكِنْ لَا يُلْزَمُ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِرِضَاهُ فَإِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ عَنْ الْجُزْءِ الْفَائِتِ. وَهَكَذَا يُقَالُ فِي نَظَائِرِ هَذَا: مِثْلَ الصَّفْقَةِ إذَا تَفَرَّقَتْ. وَقِيلَ: يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْحَلَالِ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد فَإِنَّ الَّذِي تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ لَهُ الْفَسْخُ إذَا كَانَ لَمْ يَرْضَ بِبَيْعِ هَذَا بِقِسْطِهِ إلَّا مَعَ ذَلِكَ.

وَأَصْلُ الْعُقُودِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا بِالْتِزَامِهِ أَوْ بِإِلْزَامِ الشَّارِعِ لَهُ. فَمَا الْتَزَمَهُ فَهُوَ مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ فَلَا يَنْقُضُ الْعَهْدَ وَلَا يَغْدِرُ. وَمَا أَمَرَهُ الشَّارِعُ بِهِ فَهُوَ مِمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ كَمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَصِلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ مِنْ الْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَمِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ؛ وَلِهَذَا يَذْكُرُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ هَذَا وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} .

ص: 341

فَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فَهُوَ إلْزَامٌ مِنْ اللَّهِ بِهِ وَمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فَقَدْ الْتَزَمَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضَ الْمِيثَاقَ. إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ. فَمَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ؛ مِثْلَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنْ يَسْتَحِلَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ كَاَلَّذِي يَبِيعُ الْأَمَةَ أَوْ يُعْتِقَهَا وَيَشْرُطُ وَطْأَهَا بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ مِلْكِهِ أَوْ يَبِيعُ غَيْرُهُ مَمْلُوكًا وَيَشْرِطُ أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ لَهُ لَا لِلْمُعْتِقِ أَوْ يُزَوِّجُ أَمَتَهُ أَوْ قَرَابَتَهُ وَيَشْرِطُ أَنْ يَكُونَ النَّسَبُ لِغَيْرِ الْأَبِ أَوْ يَكُونَ النَّسَبُ لَهُ فَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَ أَنْ يُدْعَى الْوَلَدُ لِأَبِيهِ وَالْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، فَمَنْ اُدُّعِيَ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ} . وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لَا يُورَثُ أَيْضًا؛ وَلَكِنْ يُورَثُ بِهِ كَالنَّسَبِ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ حَقٌّ كَمَا جَاءَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ} وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ أَوْلَى مِنْهَا فِي الْبَيْعِ؛ وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إنَّهُ إذَا اشْتَرَطَ شَرْطًا مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ: مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِلَا مَهْرٍ أَوْ بِمَهْرٍ مُحَرَّمٍ فَهَذَا نِكَاحٌ بَاطِلٌ كَنِكَاحِ الشِّغَارِ وَغَيْرِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.

ص: 342

وَقَدْ {نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ} وَأَبْطَلَهُ الصَّحَابَةُ؛ فَإِنَّهُمْ أَشْغَرُوا النِّكَاحَ عَنْ مَهْرٍ. هَذَا هُوَ الْعِلَّةُ فِي نُصُوصِ أَحْمَد الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. وَعِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: الْعِلَّةُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ التَّشْرِيكُ فِي الْبُضْعِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ؛ فَإِنَّ الْبُضْعَ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ اشْتِرَاكٌ؛ بَلْ كُلٌّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ بِلَا شَرِكَةٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَعَلَ صَدَاقَهَا بُضْعَ الْأُخْرَى فَالْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ لَمْ تَمْلِكْ بُضْعَ الْمَرْأَةِ وَلَا يُمْكِنْ هَذَا؛ فَإِنَّ امْرَأَةً لَا تَتَزَوَّجُ امْرَأَةً؛ وَلَكِنْ جَعَلَتْ لِوَلِيِّهَا مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْمَهْرِ فَوَلِيُّهَا هُوَ الَّذِي مَلَكَ الْبُضْعَ وَجَعَلَ صَدَاقَهَا مِلْكَ وَلِيِّهَا الْبُضْعَ وَهِيَ لَمْ تَمْلِكْ شَيْئًا؛ فَلِهَذَا كَانَ شِغَارًا. وَالْمَكَانُ الشَّاغِرُ الْخَالِي. وَشَغَرَتْ هَذِهِ الْجِهَةُ أَيْ خَلَتْ. وَمَنْ أَصْدَقَتْ شَيْئًا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهَا مَا أَصْدَقَتْهُ لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ لَازِمًا وَأُعْطِيَتْ بَدَلَهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَأَوْلَى: {فَإِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ} . وَمَنْ الْتَزَمَتْ بِالنِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُحَصِّلَ مَا رَضِيَتْهُ فَقَدْ الْتَزَمَتْ بِالنِّكَاحِ الَّذِي لَمْ تَرْضَ بِهِ وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي النِّكَاحِ أَوْلَى. وَالشَّارِعُ لَمْ يُلْزِمْهَا النِّكَاحَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَا هِيَ الْتَزَمَتْهُ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ مَا يَجِبُ بِإِلْزَامِ الشَّارِعِ أَوْ بِالْتِزَامِهِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فَلَا مَعْنَى

ص: 343

لِالْتِزَامِهَا بِنِكَاحٍ لَمْ تَرْضَ بِهِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمَهْرُ لَيْسَ بِمَقْصُودِ: كَلَامٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ فَإِنَّهُ رُكْنٌ فِي النِّكَاحِ وَإِذَا شُرِطَ فِيهِ كَانَ أَوْكَدَ مِنْ شَرْطِ الثَّمَنِ؛ لِقَوْلِهِ: {إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ} . وَالْأَمْوَالُ تُبَاحُ بِالْبَدَلِ وَالْفُرُوجُ لَا تُسْتَبَاحُ إلَّا بِالْمُهُورِ؛ وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِدُونِ فَرْضِهِ وَتَقْرِيرِهِ؛ لَا مَعَ نَفْيِهِ. وَالنِّكَاحُ الْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ عَلَى الصَّحِيحِ - وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد - يَنْعَقِدُ بِالسِّعْرِ فَلَا فَرْقَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ. وَاَلَّذِي يَثْبُتُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِدُونِ فَرْضِ الْمَهْرِ. أَيْ بِدُونِ تَقْدِيرِهِ؛ لَا أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مَعَ نَفْيِهِ؛ بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} لَمَّا جَوَّزَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَزَوَّجَ بِلَا مَهْرٍ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَتَزَوَّجُوا بِلَا مَهْرٍ. وَكَذَلِكَ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَلَا بُدَّ مِنْ مَهْرٍ مُسَمًّى مَفْرُوضٍ أَوْ مَسْكُوتٍ عَنْ فَرْضِهِ ثُمَّ إنْ فُرِضَ مَا تَرَاضَيَا بِهِ وَإِلَّا فَلَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا كَمَا قَضَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بروع بِنْتِ وَاشِقٍ. وَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا وَالنَّاسُ دَائِمًا يَتَنَاكَحُونَ مُطْلَقًا وَقَدْ تَرَاضَوْا بِالْمَهْرِ الْمُعْتَادِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا يَتَبَايَعُونَ دَائِمًا وَقَدْ تَرَاضَوْا بِالسِّعْرِ الَّذِي يَبِيعُ بِهِ الْبَائِعُ فِي

ص: 344

مِثْلِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ كَمَا يَشْتَرُونَ الْخُبْزَ وَالْأُدْمَ وَالْفَاكِهَةَ وَاللَّحْمَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْخَبَّازِ وَاللَّحَّامِ وَالْفُومِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ رَضُوا أَنْ يُعْطِيَهُمْ ثَمَنَ الْمِثْلِ وَهُوَ السِّعْرُ الَّذِي يَبِيعُ بِهِ لِلنَّاسِ وَهُوَ مَا سَاغَ بِهِ مِثْلُ تِلْكَ السِّلْعَةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَهَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَإِنْ كَانَ فِي مَذْهَبِهِ نِزَاعٌ فِيهِ.

فَصْلٌ:

وَأَصْلُ الدِّينِ: أَنَّهُ لَا وَاجِبَ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا مَكْرُوهَ إلَّا مَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا حَلَالَ إلَّا مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا مُسْتَحَبَّ إلَّا مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلِهَذَا أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مَا حَلَّلُوهُ أَوْ حَرَّمُوهُ أَوْ شَرَعُوهُ مِنْ الدِّينِ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ اللَّهِ. وَاَلَّذِي يُوجِبُهُ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ قَدْ يُوجِبُهُ ابْتِدَاءً؛ كَإِيجَابِهِ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. وَقَدْ يُوجِبُهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْتَزَمَهُ وَأَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُوجِبْهُ؛ كَالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ لِلْمُسْتَحَبَّاتِ. وَبِمَا الْتَزَمَهُ فِي الْعُقُودِ الْمُبَاحَةِ: كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ

ص: 345

وَاجِبًا. وَقَدْ يُوجِبُهُ لِلْأَمْرَيْنِ كَمُبَايَعَةِ الرَّسُولِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُ وَكَذَلِكَ مُبَايَعَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَتَعَاقُدِ النَّاسِ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَنَفْسُ الْتِزَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذَا الْبَابِ. فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الْتَزَمَهَا بِالْإِيمَانِ وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تُوجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءَ بِمُوجِبِهَا وَهُوَ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ فِيمَا أَتَى بِهِ عَنْ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَوْجَبَهُ وَأَمَرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ عَنْ اللَّهِ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَتُهُ وَمَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَتُهُ. وَهَذِهِ الْأُصُولُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوَاضِعَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ إذَا كَانَ أَصْلُ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِإِلْزَامِ الشَّارِعِ لَهُ أَوْ بِالْتِزَامِهِ إيَّاهُ. فَإِذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ رُدَّ إلَيْهِ. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُوَفِّي بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُوَفِّي بِهِ؛ بَلْ يَنْقُضُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءَ بِهِ فِي أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ وَمِنْ ذَلِكَ " مَسَائِلُ النِّكَاحِ وَالشُّرُوطِ فِيهِ ". فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ أَيْضًا: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشُّرُوطِ الصِّحَّةُ وَاللُّزُومُ إلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ. وَقَدْ قِيلَ: بَلْ الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ الصِّحَّةِ إلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَدْ دَلَّا عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ وَذَمِّ الْغَدْرِ

ص: 346

وَالنَّكْثِ؛ وَلَكِنْ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَشْرُوطُ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَشَرْطِهِ فَإِذَا كَانَ الْمَشْرُوطُ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَشَرْطِهِ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ} . فَإِنَّ قَوْلَهُ: " مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا " أَيْ مَشْرُوطًا وَقَوْلَهُ: " لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ " أَيْ لَيْسَ الْمَشْرُوطُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ هُوَ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ كَاشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ وَالنَّسَبِ لِغَيْرِ الْوَالِدِ وَكَالْوَطْءِ بِغَيْرِ مِلْكِ يَمِينٍ وَلَا نِكَاحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُبِحْهُ اللَّهُ بِحَالِ. وَمِنْ ذَلِكَ تَزَوُّجُ الْمَرْأَةِ بِلَا مَهْرٍ وَلِهَذَا قَالَ: {كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ} . وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ: إذَا كَانَ الْمَشْرُوطُ يُنَاقِضُ كِتَابَ اللَّهِ وَشَرْطَهُ فَيَجِبُ تَقْدِيمُ كِتَابِ اللَّهِ وَشَرْطِهِ وَيُقَالُ: {كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ} . وَأَمَّا إذَا كَانَ نَفْسُ الشَّرْطِ وَالْمَشْرُوطِ لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عَلَى حِلِّهِ؛ بَلْ سَكَتَ عَنْهُ؛ فَلَيْسَ هُوَ مُنَاقِضًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَشَرْطِهِ حَتَّى يُقَالَ: {كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُهُ أَوْثَقُ} فَقَوْلُهُ: {مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أَيْ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ. وَسَوَاءٌ قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ الشَّرْطِ الْمَصْدَرُ أَوْ الْمَفْعُولُ. فَإِنَّهُ مَتَى خَالَفَ أَحَدُهُمَا كِتَابَ اللَّهِ خَالَفَهُ الْآخَرُ؛ بِخِلَافِ مَا سَكَتَ عَنْهُ، فَهَذَا أَصْلٌ.

ص: 347

وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ الْمُخَالِفَ لِكِتَابِ اللَّهِ إذَا لَمْ يَرْضَيَا إلَّا بِهِ فَقَدْ الْتَزَمَا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ. فَلَا يَلْزَمُ كَمَا لَوْ نَذَرَ الْمَعْصِيَةَ. وَسَوَاءٌ كَانَا عَالِمَيْنِ أَوْ جَاهِلَيْنِ وَإِنْ اشْتَرَطَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ فَلَمْ يَرْضَ إلَّا بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْعَقْدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْتَزَمَهُ لِلَّهِ فَيَلْزَمُهُ مَا كَانَ لِلَّهِ؛ دُونَ مَا لَمْ يَكُنْ: كَالنَّذْرِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَتَفَرَّقُ فِيهِ الصَّفْقَةُ. وَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَشَرَطَهُ فَهُوَ كَشَرْطِ أَهْلِ بَرِيرَةَ: شَرْطُهُ بَاطِلٌ وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ. وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُودِ. فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَبْطَلَ شُرُوطًا كَثِيرَةً فِي النِّكَاحِ بِلَا حُجَّةٍ. ثُمَّ الشَّرْطُ الْبَاطِلُ فِي النِّكَاحِ قَالُوا: يَبْطُلُ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ بِدُونِهِ وَالْمُشْتَرِطُ لِلنِّكَاحِ لَمْ يَرْضَ إلَّا بِهِ وَالشُّرُوطُ فِي النِّكَاحِ أَوْكَدُ مِنْهَا فِي الْبَيْعِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ} . فَلَزِمَهُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ النُّصُوصِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَإِلْزَامُ الْخَلْقِ بِشَيْءٍ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ وَلَا أَلْزَمَهُمْ اللَّهُ بِهِ. فَأَوْجَبُوا عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. ثُمَّ قَدْ يَتَوَسَّعُونَ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي يُبْغِضُهُ اللَّهُ فَيُحَرِّمُونَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يُبِيحُونَ ذَلِكَ بِالْعُقُودِ الْمَشْرُوطَةِ فِيهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَيُحَلِّلُونَ مَا لَمْ يُحَلِّلْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ شَرْطَ التَّحْلِيلِ فِي الْعَقْدِ شَرْطٌ حَرَامٌ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ.

ص: 348

إذَا شَرَطَ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا إذَا أَحَلَّهَا وَكَذَلِكَ شَرْطُ الطَّلَاقِ بَعْدَ أَجَلٍ مُسَمًّى. فَشَرْطُ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ إذَا مَضَى الْأَجَلُ أَوْ بَعْدَ التَّحْلِيلِ شَرْطٌ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِحْ النِّكَاحَ إلَى أَجَلٍ وَلَمْ يُبِحْ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ. فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ: يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَيَكُونُ الْعَقْدُ لَازِمًا. ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فَرَّقَ بَيْنَ التَّوْقِيتِ وَبَيْنَ الِاشْتِرَاطِ. فَقَالُوا: إذَا قَالَ: تَزَوَّجْتهَا إلَى شَهْرٍ؛ فَهُوَ نِكَاحُ مُتْعَةٍ وَهُوَ بَاطِلٌ. وَطَرَدَ بَعْضُهُمْ الْقِيَاسَ. وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَخَرَّجَ وَجْهًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ؛ وَيَلْغُو التَّوْقِيتُ كَمَا قَالُوا يَلْغُو الشَّرْطُ. وَلَوْ قَالَ فِي نِكَاحِ التَّحْلِيلِ: عَلَى أَنَّك إذَا أَحْلَلْتهَا طَلِّقْهَا فَهُوَ شَرْطٌ كَمَا لَوْ قَالَ فِي الْمُتْعَةِ: عَلَى أَنَّهُ إذَا انْقَضَى الْأَجَلُ طَلِّقْهَا. وَإِنْ قَالَ: فَلَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا. فَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ قِيلَ: يُلْحَقُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ. وَقِيلَ: بِالتَّوْقِيتِ فَيَبْطُلُ النِّكَاحُ. وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي النِّكَاحِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد. قِيلَ: يَصِحُّ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ. وَقِيلَ: يَبْطُلَانِ. وَقِيلَ: يَصِحُّ الْعَقْدُ دُونَ الشَّرْطِ. فَالْأَظْهَرُ فِي هَذَا الشَّرْطِ أَنَّهُ يَصِحُّ. وَإِذَا قِيلَ: بِبُطْلَانِهِ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ لَازِمًا بِدُونِهِ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْطِ الْوَفَاءُ وَشَرْطُ الْخِيَارِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ لَا سِيَّمَا فِي النِّكَاحِ. وَهَذَا يُبْنَى

ص: 349

عَلَى أَصْلٍ. وَهُوَ: أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ: هَلْ الْأَصْلُ صِحَّتُهُ أَوْ الْأَصْلُ بُطْلَانُهُ؛ لَكِنْ جَوَّزَ ثَلَاثًا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ؟ فَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٍ وَأَحْمَد وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ وَلِهَذَا أَبْطَلَا الْخِيَارَ فِي أَكْثَرِ الْعُقُودِ: النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ النِّكَاحِ عَلَى شَرْطٍ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد. وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد يُفَرِّقُونَ فِي النِّكَاحِ بَيْنَ شَرْطٍ يَرْفَعُ الْعَقْدَ كَالطَّلَاقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ: مِثْلَ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمَهْرِ أَوْ عَدَمِ الْوَطْءِ أَوْ عَدَمِ الْقَسْمِ وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد خِلَافٌ فِي شَرْطِ عَدَمِ الْمَهْرِ وَنَحْوِهِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا فَيَكُونُ لَازِمًا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ وَإِذَا لَمْ يُوَفِّ بِهِ ثَبَتَ الْفَسْخُ كَاشْتِرَاطِ نَوْعٍ أَوْ نَقْدٍ فِي الْمَهْرِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ النِّكَاحُ لَازِمًا مَعَ عَدَمِ الْوَفَاءِ؛ بَلْ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِطُ بَيْنَ إمْضَائِهِ وَبَيْنَ الْفَسْخِ كَالشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ وَكَالْعَيْبِ. فَإِنَّهُ يَرُدُّ بِالْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ بِالِاتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَدَنِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ لَا تُرَدُّ الْحُرَّةُ بِعَيْبِ وَقَالُوا: النِّكَاحُ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَلَمْ يُجَوِّزُوا فَسْخَهُ بِعَيْبِ وَلَا شَرْطٍ. ثُمَّ هُمْ وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ يُوجِبُونَ فِي الْإِيلَاءِ عَلَى الْمُولِي إمَّا الفيأة وَإِمَّا الطَّلَاقَ. وَهُمْ يَقُولُونَ:

ص: 350

يَقَعُ الطَّلَاقُ عَقِبَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذَا لَمْ يَفِئْ وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ عِنِّينًا أَوْ مَجْبُوبًا فَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ: لَكِنْ قَالُوا: الْمَرْأَةُ لَا يُمْكِنُهَا الطَّلَاقُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ بِالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ كَمَا قَالَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثُمَّ خَصَّ الْفَسْخَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِمَا يَمْنَعُ النِّكَاحَ كَمَا أَبْطَلُوا النِّكَاحَ بِالشَّرْطِ الَّذِي يَرْفَعُ الْعَقْدَ. وَتَفْصِيلُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مُقْتَضَى الْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ: أَنَّ الشَّرْطَ يَلْزَمُ؛ إلَّا إذَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ. وَإِذَا كَانَ لَازِمًا لَمْ يَلْزَمْ الْعَقْدُ بِدُونِهِ. فَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْمَهْرِ شَيْئًا مُعَيَّنًا: مِثْلُ هَذَا الْعَبْدُ وَهَذِهِ الْفَرَسُ وَهَذِهِ الدَّارُ؛ لَكِنْ يَقُولُونَ: إذَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمَهْرِ لَزِمَ بَدَلُهُ فَلَمْ يَمْلِكْ الْفَسْخَ وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ جِهَتِهِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ فَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِامْتِنَاعِ الْعَقْدِ فَقَدْ يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْعَقْدِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تُمَكَّنَ الْمَرْأَةُ مِنْ الْفَسْخِ؛ فَإِنَّهَا لَمْ تَرْضَ وَتُبِحْ فَرْجَهَا إلَّا بِهَذَا فَإِذَا تَعَذَّرَ فَلَهَا الْفَسْخُ. وَهُمْ يَقُولُونَ: الْمَهْرُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ. فَيُقَالُ: كُلُّ شَرْطٍ فَهُوَ مَقْصُودٌ وَالْمَهْرُ أَوْكَدُ مِنْ الثَّمَنِ؛ لَكِنْ هُنَا الزَّوْجَانِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِمَا وَهُمَا عَاقِدَانِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُمَا عَاقِدَانِ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِمَا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا فَاتَ فَالْمَرْأَةُ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ كَالْعُيُوبِ فِي الْبَيْعِ لِكَوْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ - وَهُمَا الزَّوْجَانِ - بَاقِيَيْنِ فَالْفَائِتُ جُزْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالْعَيْبِ الْحَادِثِ

ص: 351

فِي السِّلْعَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ: يُوجِبُ الْفَسْخَ وَلَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ. هَذَا مُقْتَضَى الْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ. وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِطُ بِبُطْلَانِهِ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ لَازِمًا؛ بَلْ إنْ رَضِيَ بِدُونِ الشَّرْطِ وَإِلَّا فَلَهُ الْفَسْخُ. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ وَأَمَّا إلْزَامُهُ بِعَقْدٍ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَلَا أَلْزَمَهُ الشَّارِعُ أَنْ يَعْقِدَهُ، فَهَذَا مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ وَمُخَالِفٌ لِلْعَدْلِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ. وَهُمْ جَعَلُوا الْأَصْلَ أَنَّ الْحُرَّةَ لَا تُرَدُّ بِعَيْبِ. قَالُوا: فَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَقَالُوا: يَصِحُّ النِّكَاحُ بِلَا تَقْدِيرِ مَهْرٍ فَيَصِحُّ مَعَ نَفْيِ الْمَهْرِ فَيَصِحُّ مَعَ كُلِّ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ. وَأَمَّا صِحَّتُهُ بِدُونِ فَرْضِ الْمَهْرِ؛ فَهَذَا ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ لَكِنْ إذَا اعْتَقَدَ عَدَمَ وُجُوبِ الْمَهْرِ فَإِنَّ الْمَهْرَ الْمُطْلَقَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَأَمَّا مَعَ نَفْيِهِ: فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَالْقَوْلُ بِالْبُطْلَانِ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ كَمَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. وَهُوَ الصَّوَابُ لِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَيْهِ وَحَدِيثِ الشِّغَارِ. قَالُوا فَثَبَتَ الْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ: عَدَمِ الْفَسْخِ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ وَالصِّحَّةِ مَعَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ. فَيُقَالُ:

ص: 352

أَمَّا عَدَمُ الْفَسْخِ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا تُرَدُّ الْحُرَّةُ بِعَيْبِ، فَهَذَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ أَلْبَتَّةَ؛ بَلْ مَتَى كَانَ الشَّرْطُ صَحِيحًا وَفَاتَ: فَلِمُشْتَرِطِهِ الْفَسْخُ، ثُمَّ الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْعَقْدِ هَلْ هُوَ كَالْمُقَارِنِ لَهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَالْمُقَارِنِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَخْرُجُ مِنْ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَأَحْمَد يُوجِبُ مَا سَمَّى فِي الْعَلَانِيَةِ وَإِنْ كَانَ دُونَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ فِي السِّرِّ لَكِنْ يُوجِبُ ذَلِكَ ظَاهِرًا وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يُوفُوا بِمَا شَرَطُوا لَهُ فَعَلَى هَذَا لَمْ يُحْكَمْ بِالسِّرِّ لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ وَإِنْ ثَبَتَ حُكِمَ بِهِ. وَإِنْ قِيلَ: لَا يُحْكَمُ بِهِ مُطْلَقًا فَلِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا خِلَافَ مَا أَبْطَنُوهُ وَالنِّكَاحُ مَبْنَاهُ عَلَى الْإِعْلَانِ لَا عَلَى الْإِسْرَارِ وَهَذَا بِخِلَافِ شَرْطٍ لَمْ يُظْهِرُوا مَا يُنَاقِضُهُ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِمَا فَهَذَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ عِنْدَهُ وَهُوَ يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ. وَالشَّافِعِيُّ إذَا قَالَ فِي النِّكَاحِ: إنَّهُ يُؤْخَذُ بِالسِّرِّ فَفِي غَيْرِهِ أَوْلَى. وَأَمَّا صِحَّتُهُ مَعَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ: فَالْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ تَقْدِيرِ الْمَهْرِ وَلَيْسَ هَذَا شَرْطًا فَاسِدًا؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَا يَحِلُّ اشْتِرَاطُهُ وَهَذَا النِّكَاحُ حَلَالٌ فَلَوْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَفْرِضْ مَهْرًا؛ لَكِنْ عَلَى عَادَةِ النَّاسِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَهْرٍ؛ إمَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا، فَهَذَا النِّكَاحُ حَلَالٌ لَيْسَ فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ. فَمِنْ ذَيْنِك الْقِيَاسَيْنِ

ص: 353

الْفَاسِدَيْنِ فَرَّقُوا بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَأَلْزَمُوا النَّاسَ بِنِكَاحٍ لَمْ يَرْضَوْا بِهِ وَإِنْ شَرَطُوا فِيهِ شَرْطًا صَحِيحًا كَمَا أَلْزَمُوا الرَّجُلَ بِنِكَاحِ الْمَرْأَةِ الْمَعِيبَةِ وَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِنِكَاحِ مَعِيبَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ فَرَّقَ بَيْنَ عُيُوبِ الْفَرْجِ وَغَيْرِهَا؟ قِيلَ: قَدْ عُلِمَ أَنَّ عُيُوبَ الْفَرْجِ الْمَانِعَةَ مِنْ الْوَطْءِ لَا يَرْضَى بِهَا فِي الْعَادَةِ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءُ؛ بِخِلَافِ اللَّوْنِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تُرَدُّ بِهِ الْأَمَةُ؛ فَإِنَّ الْحُرَّةَ لَا تُقْلَبُ كَمَا تُقْلَبُ الْأَمَةُ وَالزَّوْجُ قَدْ رَضِيَ رِضًا مُطْلَقًا وَهُوَ لَمْ يَشْرِطْ صِفَةً فَبَانَتْ بِدُونِهَا. فَإِنْ شَرَطَ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَهُ الْفَسْخُ وَكَذَا بِالْعَكْسِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّرْطُ إنَّمَا يَثْبُتُ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا وَفِي الْبَيْعِ دَلَّ الْعُرْفُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ إلَّا بِسَلِيمٍ مِنْ الْعُيُوبِ وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ لَمْ يَرْضَ بِمَنْ لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا وَالْعَيْبُ الَّذِي يَمْنَعُ كَمَالَ الْوَطْءِ - لَا أَصْلَهُ - فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْوَطْءُ وَكَمَالُ الْوَطْءِ فَلَا تَنْضَبِطُ فِيهِ أَغْرَاضُ النَّاسِ. وَالشَّارِعُ قَدْ أَبَاحَ بَلْ أَحَبَّ لَهُ النَّظَرَ إلَى الْمَخْطُوبَةِ وَقَالَ: {إذَا أَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِ أَحَدِكُمْ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَلْيَنْظُرْ إلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا} . {وَقَالَ لِمَنْ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ: اُنْظُرْ إلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا} وَقَوْلُهُ: {أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا

ص: 354

عَرَفَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ دَامَ الْوُدُّ. وَأَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَرَهَا فَإِنَّهُ لَمْ يُعَلِّلْ الرُّؤْيَةَ بِأَنَّهُ يَصِحُّ مَعَهُ النِّكَاحُ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا تَجِبُ وَأَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ بِدُونِهَا وَلَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ أَنْ يَصِفُوا الْمَرْأَةَ الْمَنْكُوحَةَ بِذَلِكَ؛ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ لَا يَصِحَّ وَإِمَّا أَنْ يَمْلِكَ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد رِوَايَةً ضَعِيفَةً أَنَّهُ يَصِحُّ بِلَا رُؤْيَةٍ وَلَا صِفَةٍ وَلَا يَثْبُتُ خِيَارٌ. وَهَذَا الْفَرْقُ إنَّمَا هُوَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالْأَمْوَالِ: أَنَّ النِّسَاءَ يُرْضَى بِهِنَّ فِي الْعَادَةِ عَلَى الصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأَمْوَالَ لَا يُرْضَى بِهَا عَلَى الصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ إذْ الْمَقْصُودُ بِهَا التَّمَوُّلُ وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصِّفَاتِ وَالْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ الْمُصَاهَرَةُ وَالِاسْتِمْتَاعُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ مَعَ اخْتِلَافِ الصِّفَاتِ. فَهَذَا فَرْقٌ شَرْعِيٌّ مَعْقُولٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ. أَمَّا إذَا عُرِفَ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ لِاشْتِرَاطِهِ صِفَةً فَبَانَتْ بِخِلَافِهَا وَبِالْعَكْسِ فَإِلْزَامُهُ بِمَا لَمْ يَرْضَ بِهِ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ. وَلَوْ قَالَ: ظَنَنْتهَا أَحْسَنَ مِمَّا هِيَ أَوْ مَا ظَنَنْت فِيهَا هَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ. كَانَ هُوَ الْمُفَرِّطَ حَيْثُ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَرَهَا وَلَا أَرْسَلَ مَنْ رَآهَا. وَلَيْسَ مِنْ الشَّرْعِ وَلَا الْعَادَةِ أَنْ تُوصَفَ لَهُ فِي الْعَقْدِ كَمَا تُوصَفَ الْإِمَاءُ فِي السَّلَمِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ صَانَ الْحَرَائِرَ عَنْ ذَلِكَ وَأَحَبَّ سَتْرَهُنَّ؛ وَلِهَذَا نُهِيَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَعْقِدَ نِكَاحًا فَإِذَا كُنَّ لَا يُبَاشِرْنَ الْعَقْدَ فَكَيْفَ يُوصَفْنَ؟ وَأَمَّا الرَّجُل فَأَمْرُهُ ظَاهِرٌ

ص: 355

يَرَاهُ مَنْ يَشَاءُ فَلَيْسَ فِيهِ عَيْبٌ يُوجِبُ الرَّدَّ وَالْمَرْأَةُ إذَا فَرَّطَ الزَّوْجُ فَالطَّلَاقُ بِيَدِهِ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ ابْتَاعَ عَبْدًا بِشَرْطِ الْإِبْرَاءِ مِنْ سَائِرِ الْعُيُوبِ خَلَا الْإِبَاقِ فَلَمَّا ابْتَاعَهُ هَرَبَ عَنْهُ فَمَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ؟ .

فَأَجَابَ:

إنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْإِبَاقِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَهَذَا عَيْبٌ يَسْتَحِقُّ الرَّدَّ. وَإِذَا كَانَ الْبَائِعُ قَدْ كَتَمَ هَذَا الْعَيْبَ حَتَّى أَبَقَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يُطَالِبُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ بَلْ هُوَ الْمَنْصُوصُ.

ص: 356

‌بَابُ الْخِيَارِ

سُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلَيْنِ تَبَايَعَا عَيْنًا وَشَرَطَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخَ الْبَيْعِ وَإِمْضَاءَهُ فِي مُدَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا. فَهَلْ يُعْتَبَرُ الْخِيَارُ فِي الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ؟ أَوْ فِي الْفَسْخِ دُونَ الْإِمْضَاءِ؟ وَيَكُونُ ذِكْرُ الْإِمْضَاءِ لَغْوًا أَوْ لَا يُعْتَبَرَانِ مَعًا؟ فَإِنْ قِيلَ: إنَّ ذِكْرَ الْإِمْضَاءِ لَغْوٌ فَلَا كَلَامَ. وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُمَا يُعْتَبَرَانِ وَلِكُلٍّ مِنْ اللَّفْظَيْنِ أَثَرٌ فِي الْحُكْمِ فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْإِمْضَاءَ وَالْآخَرُ الْفَسْخَ فَهَلْ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ؛ أَوْ السَّابِقَ مِنْهُمَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ وَاخْتَارَ أَحَدُهُمَا فَسْخَ الْبَيْعِ فَلَهُ فَسْخُهُ بِدُونِ رِضَا الْآخَرِ وَلَوْ سَبَقَ الْآخَرَ بِالْإِمْضَاءِ. وَالْإِمْضَاءُ الْمَقْرُونُ بِالْفَسْخِ يُقْصَدُ بِهِ تَرْكُ الْفَسْخِ: أَيْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَهُ وَأَنْ لَا يَفْسَخَهُ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَفْسَخَاهُ إلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَا يَقْصِدُ بِهِ الْتِزَامَ الْآخَرِ بِالْعَقْدِ لِأَنَّ تَفْسِيرَهُ بِذَلِكَ يُنَافِي أَنْ

ص: 357

يَكُونَ لِلْآخَرِ الْفَسْخُ وَهُوَ قَدْ جَعَلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْفَسْخَ. وَإِنْ أَرَادَ بِإِمْضَائِهِ: إمْضَاءَهُ هُوَ الْعَقْدُ بِمَعْنَى إسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ الْخِيَارِ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا؛ وَلَكِنْ إذَا سَقَطَ خِيَارُهُ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُ الْآخَرِ؛ وَلَكِنَّ الْمَعْنَى الْمَعْرُوفَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ: أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَهُ وَأَنْ لَا يَفْسَخَهُ. وَإِذَا لَمْ يَفْسَخْهُ فَقَدْ أَمْضَاهُ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} فَإِنَّ التَّسْرِيحَ هُوَ تَرْكُ الْإِمْسَاكِ؛ بِحَيْثُ لَا يَحْبِسُهَا. وَلَا يَحْتَاجُ التَّسْرِيحُ إلَى إحْدَاثِ طَلَاقٍ كَذَلِكَ إمْضَاءُ الْعَقْدِ لَا يَحْتَاجُ إلَى إحْدَاثِ إمْضَاءٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ أَعْطَى نِطْعًا لِدَلَّالِ يَبِيعُهُ فَنَادَى عَلَيْهِ الدَّلَّالُ فَزَادَ نِصْفَ دِرْهَمٍ فَرَاحَ الدَّلَّالُ إلَى نَائِبِ الْحِسْبَةِ فَقَالَ لَهُ: هَذَا صَاحِبُ النِّطْعِ زَادَ فِيهِ نِصْفَ دِرْهَمٍ فَطَلَبَهُ وَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ فَأَنْكَرَ وَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ - خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ وَإِزَالَةً مِمَّا فِي صُدُورِ مَنْ سَمِعَهُ - وَأَنَّهُ حَلَفَ أَنَّهُ مَا فَعَلَهُ فَهَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؟

فَأَجَابَ:

الْمَالِكُ إذَا زَادَ فِي السِّلْعَةِ كَانَ ظَالِمًا نَاجِشًا وَهُوَ شَرٌّ

ص: 358

مِنْ التَّاجِرِ الَّذِي لَيْسَ بِمَالِكٍ وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُ فِي السِّلْعَةِ وَلَا يَقْصِدُ شِرَاءَهَا؛ وَلِهَذَا لَوْ نَجَشَ أَجْنَبِيٌّ لَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ وَأَمَّا الْبَائِعُ إذَا ناجش أَوْ وَاطَأَ مَنْ يَنْجُشُ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي تَعْزِيرُهُ عَلَى أَمْرَيْنِ: عَلَى نَجْشِهِ وَعَلَى حَلِفِهِ بِالطَّلَاقِ يَمِينًا فَاجِرَةً وَلَيْسَ فِعْلُهُ الْمُحَرَّمُ عُذْرًا لَهُ فِي الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ.

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

عَمَّنْ يَسُومُ السِّلْعَةَ بِثَمَنِ كَثِيرٍ وَيَبِيعُهَا بِأَزْيَدَ مِنْ الْقِيمَةِ الْمُعْتَادَةِ وَقَدْ يَكُونُ الْمُشْتَرِي جَاهِلًا بِالْقِيمَةِ: هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

أَمَّا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُسْتَرْسِلًا - وَهُوَ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ - لَمْ يَجُزْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَغْبِنَهُ غَبْنًا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ بِالْقِيمَةِ الْمُعْتَادَةِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهَا. فَإِنْ غَبَنَهُ غَبْنًا فَاحِشًا فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ. فَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: {غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا} . وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ حَتَّى يَهْبِطَ بِهِ السُّوقَ. وَأَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ إذَا هَبَطَ} وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَبِلَ أَنْ يَهْبِطَ السُّوقَ يَكُونُ جَاهِلًا بِقِيمَةِ السِّلَعِ فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَنْ يَخْرُجَ الْمُشْتَرِي إلَيْهِ وَيَبْتَاعَ مِنْهُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَغْرِيرِهِ وَالتَّدْلِيسِ. وَأَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ إذَا عَلِمَ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.

ص: 359

فَهَكَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ جَاهِلًا بِالْقِيمَةِ لَا يَجُوزُ تَغْرِيرُهُ وَالتَّدْلِيسُ عَلَيْهِ: مِثْلَ أَنْ يُسَامَ سَوْمًا كَثِيرًا خَارِجًا عَنْ الْعَادَةِ لِيَبْذُلَ مَا يُقَارِبُ ذَلِكَ؛ بَلْ يُبَاعُ الْبَيْعُ الْمَعْرُوفُ غَيْرُ الْمُنْكَرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ بَيْعِ الْمُسْتَرْسِلِ؟

فَأَجَابَ:

أَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْمُسْتَرْسِلُ إلَّا بِالسِّعْرِ الَّذِي يُبَاعُ بِهِ غَيْرُهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ اسْتَرْسَلَ إلَيْهِ أَنْ يَغْبِنَ فِي الرِّبْحِ غَبْنًا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ. وَقَدْ قَدَّرَ ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالثُّلُثِ. وَبَعْضُهُمْ بِالسُّدُسِ. وَآخَرُونَ قَالُوا: يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى عَادَةِ النَّاسِ فَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ مِنْ الرِّبْحِ عَلَى المماكسين: يَرْبَحُونَهُ عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ. وَالْمُسْتَرْسِلُ قَدْ فُسِّرَ بِأَنَّهُ الَّذِي لَا يُمَاكِسُ بَلْ يَقُولُ: خُذْ أَعْطِنِي وَبِأَنَّهُ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ فَلَا يَغْبِنُ غَبْنًا فَاحِشًا لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَفِي الْحَدِيثِ {غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا} . وَمَنْ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَغْبِنُهُمْ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ؛ بَلْ يُمْنَعُ مِنْ الْجُلُوسِ فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَلْتَزِمَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِلْمَغْبُونِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ فَيَرُدَّ السِّلْعَةَ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ وَإِذَا تَابَ هَذَا الْغَابِنُ الظَّالِمُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَرُدَّ إلَى الْمَظْلُومِينَ حُقُوقَهُمْ فَلْيَتَصَدَّقْ بِمِقْدَارِ مَا ظَلَمَهُمْ بِهِ وَغَبَنَهُمْ؛

ص: 360

لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ بِذَلِكَ مِنْ ذَلِكَ. وَ " بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ " إذَا كَانَ مَعَ أَهْلِ الْخِبْرَة بِالْأَسْعَارِ الَّتِي يَشْتَرُونَ بِهَا السِّلَعَ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ غَيْرُهُمْ كَمَا يُبَاعُونَ فَلَا يَرْبَحُ عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ الْمُضْطَرُّ الَّذِي لَا يَجِدُ حَاجَتَهُ إلَّا عِنْدَ هَذَا الشَّخْصِ يَنْبَغِي أَنْ يَرْبَحَ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا يَرْبَحُ عَلَى غَيْرِ الْمُضْطَرِّ؛ فَإِنَّ فِي السَّاقِ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ} وَلَوْ كَانَتْ الضَّرُورَةُ إلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ مِثْلَ لَوْ يَضْطَرُّ النَّاسُ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُمْ إلَّا الْقِيمَةَ الْمَعْرُوفَةَ وَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْهُ بِالْقِيمَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلَا يُعْطُوهُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ:

فَصْلٌ:

وَبَيْعُ الْمَغْشُوشِ الَّذِي يُعْرَفُ قَدْرُ غِشِّهِ إذَا عَرَفَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ وَلَمْ يُدَلِّسْهُ عَلَى غَيْرِهِ جَائِزٌ كَالْمُعَامَلَةِ بِدَرَاهِمِنَا الْمَغْشُوشَةِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ قَدْرُهُ مَجْهُولًا كَاللَّبَنِ الَّذِي يُخْلَطُ بِالْمَاءِ وَلَا يُقَدِّرُ قَدْرَ الْمَاءِ: فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَغْشُوشٌ.

ص: 361

وَمَنْ بَاعَ مَغْشُوشًا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا مِقْدَارُ ثَمَنِ الْغِشِّ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ لِصَاحِبِهِ أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ إنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ مِثْلُ مَنْ يَبِيعُ مَعِيبًا مَغْشُوشًا بِعَشَرَةٍ وَقِيمَتُهُ لَوْ كَانَ سَالِمًا عَشَرَةٌ وَبِالْعَيْبِ قِيمَتُهُ ثَمَانِيَةٌ. فَعَلَيْهِ إنْ عَرَفَ الْمُشْتَرِيَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الدِّرْهَمَيْنِ إنْ اخْتَارَ وَإِلَّا رَدَّ إلَيْهِ الْمَبِيعَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ تَصَدَّقَ عَنْهُ بِالدِّرْهَمَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ قَوْمٍ يَعْمَلُونَ عبيا يُدْخِلُونَ فِيهِ صُوفًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ يُسَمُّونَهُ " السَّلَّاقَةَ " فَيَخْلِطُونَهُ بِمَشَاقِّ الْكَتَّانِ تَدْلِيسًا مِنْهُمْ وَيَبِيعُونَهُ عَلَى أَنَّهُ صُوفٌ جَيِّدٌ وَرُبَّمَا عَرَفَهُ التَّاجِرُ؛ لَكِنَّ التَّاجِرَ يَكْتُمُ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَمَا يَجِبُ عَلَى صَانِعِهِ؟ وَهَلْ يَتَّجِرُ فِيهِ وَيَكْتُمُهُ عَنْ مُشْتَرِيهِ؟ وَمَا حُكْمُهُ فِي نَفْسِ عَمَلِهِ؟ وَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ عَمِلَ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَمَا يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي ذَلِكَ إذَا كَانُوا يَخْلِطُونَ الْمَشَاقَّ فِي الصُّوفِ الْأَبْيَضِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَيَعُودُوا إلَيْهِ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ اللَّه لَيْسَ لِلصَّانِعِ أَنْ يَصْنَعَ ذَلِكَ وَلَا لِلْبَائِعِ أَنْ يَبِيعَهُ وَلَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ فِيهِ عَيْبًا فَإِنَّ مِقْدَارَ الْغِشِّ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُشَابَ

ص: 362

اللَّبَنُ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ} بِخِلَافِ الشُّرْبِ فَإِذَا خُلِطَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ لِلشُّرْبِ جَازَ وَأَمَّا لِلْبَيْعِ فَلَا وَلَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَخْلُوطٌ بِالْمَاءِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ الْخَلْطِ فَيَبْقَى الْبَيْعُ مَجْهُولًا وَهُوَ غَرَرٌ. وَهَكَذَا كُلَّمَا كَانَ مِنْ الْمَغْشُوشِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ قَدْرُ غِشِّهِ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ بَيْعِهِ وَعَنْ عَمَلِهِ لِمَنْ يَبِيعُهُ وَكَذَلِكَ خَلْطُ الْمُشَاقِّ بِالصُّوفِ الْأَبْيَضِ وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الْغِشِّ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ الْغِشِّ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ أَفْتَى طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ هَذَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ بِتَمْزِيقِ الثَّوْبِ الَّذِي غَشَّهُ وَالتَّصَدُّقُ بِالطَّعَامِ الَّذِي غَشَّهُ كَمَا شَقَّ النَّبِيُّ ظُرُوفَ الْخَمْرِ وَكَسَرَ دِنَانَهَا وَكَمَا أَمَرَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ رضي الله عنهما بِتَحْرِيقِ الْمَكَانِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَكَمَا {أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنْ يُحَرِّقَ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَكَمَا حَرَّقَ مُوسَى عليه السلام الْعِجْلَ وَلَمْ يُعِدْهُ إلَى أَهْلِهِ وَكَمَا تُكْسَرُ آلَاتُ الْمَلَاهِي، وَنَظَائِرُ هَذِهِ مُتَعَدِّدَةٌ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَاتِ فِي الْأَمْوَالِ تَتْبَعُ حَيْثُ جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ كَالْعُقُوبَاتِ بِالْأَبْدَانِ. وَادَّعَى طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَلَا حُجَّةَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ أَصْلًا فَكَمَا أَنَّ الْبَدَنَ إذَا قَامَ بِهِ الْفُجُورُ قَدْ يَتْلَفُ فَالْمَالُ الَّذِي قَامَ

ص: 363

بِهِ صَنَعَةُ الْفُجُورِ - مِثْلُ الْأَصْنَامِ الْمَنْحُوتَةِ - يَجُوزُ تَكْسِيرُهَا وَتَحْرِيقُهَا كَمَا حَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَصْنَامَ كَذَلِكَ مَنْ صَنَعَ صَنْعَةً مُحَرَّمَةً مِنْ طَعَامٍ أَوْ لِبَاسٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ دَارٍ لِرَجُلٍ بَاعَ ثُلُثَهَا لِزَيْدِ ثُمَّ بَاعَ الْبَاقِيَ لِعَمْرِو - مِنْ مِلْكِهِ: الثُّلُثَ وَالثُّلُثَيْنِ بِالْوِكَالَةِ عَنْ زَيْدٍ وَتُوُفِّيَ زَيْدٌ - وَمِنْ حُقُوقِهَا قَنَاةٌ ظَهَرَتْ مُسْتَحَقَّةَ النَّقْلِ وَالْإِزَالَةِ بِحُكْمِ تَعَدَّى ضَرَرُهَا لِلْغَيْرِ وَتَعَذَّرَ الرَّدُّ لِإِحْدَاثِ زِيَادَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْبِنَاءِ. فَهَلْ يَجِبُ أَرْشُ الْقَنَاةِ عَلَى الْبَائِعِ لِعَمْرِو؟ وَإِذَا وَجَبَ: فَهَلْ يَطْلُبُ بِأَرْشِ الْحِصَّةِ الَّتِي بَاعَهَا بِالْوِكَالَةِ عَنْ الْمُشْتَرِي مِنْهُ؟ أَمْ يَخْتَصُّ الطَّلَبُ بِمَا بَاعَهُ عَنْ نَفْسِهِ؟

فَأَجَابَ:

الْأَرْشُ الْوَاجِبُ بِسَبَبِ الْعَيْبِ فِي الثَّمَنِ - إنْ كَانَ الثَّمَنُ لَمْ يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي - سَقَطَ مِنْ الثَّمَنِ قَدْرُ الْأَرْشِ. وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ لِلْبَائِعِ أَوْ وَكِيلِهِ فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْبَائِعَ بِالْأَرْشِ. ثُمَّ الْوَكِيلُ إنْ ضَمِنَ عُهْدَةَ الْمَبِيعِ أَوْ لَمْ يُسَمِّ مُوَكِّلَهُ فِي الْعَقْدِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْأَرْشِ فَيَجُوزُ مُطَالَبَتُهُ بِهِ. وَإِنْ سَمَّاهُ فِي الْعَقْدِ وَلَمْ يَضْمَنْ الْعُهْدَةَ فَهَلْ يَكُونُ ضَامِنًا لِذَلِكَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 364

وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ -:

عَنْ دَارٍ بَيْنَ شَخْصَيْنِ بَاعَهَا أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ شَرِيكِهِ بِالْوِكَالَةِ لِشَخْصٍ آخَرَ ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِيَ بَنَى فَوْقَ مَا اشْتَرَاهُ بِنَاءً كَبِيرًا وَمِنْ حُقُوقِهِ قَنَاةٌ مُلَاصِقَةٌ جِدَارَ تُرْبَةٍ فَنَدَّتْ الْجِدَارَ وَسَرَتْ النَّدَاوَةُ إلَى الْقَبْرِ فَرَفَعَ مُلَّاكُ التُّرْبَةِ الْمُشْتَرِيَ لِلْحِسْبَةِ فَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَرْبَابُ الْخِبْرَةِ بِتَنْدِيَةِ الْجِدَارِ وَوُصُولِ ذَلِكَ إلَى الْقَبْرِ وَأَنَّ الْقَنَاةَ مُحْدَثَةٌ عَلَى الْجِدَارِ وَأَنَّهُ ضَرَرٌ يَجِبُ إزَالَتُهَا مِنْ مَكَانِهَا فَأُلْزِمَ الْمُشْتَرِي بِنَقْلِهَا. فَهَلْ مَا أَحْدَثَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْبِنَاءِ وَالْهَدْمِ يَمْنَعُ الرَّدَّ؟ أَمْ لَا؟ وَإِذَا مَنَعَ فَهَلْ يَثْبُتُ الْأَرْشُ؟ وَإِذَا ثَبَتَ: فَهَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ يَسْقُطُ بِتَأْخِيرِهِ؟ أَمْ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ؟ وَمَا أُلْزِمَ بِهَدْمِهِ وَهَدْمِهِ هَلْ يَسْقُطُ أَرْشُهُ أَمْ لَا؟ وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِطَلَبِ الْأَرْشِ ثُمَّ تَصَرَّفَ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَشْهَادُ فَهَلْ يَسْقُطُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ. فَتَكُونُ الْمُطَالَبَةُ لِلْوَكِيلِ بِمَا بَاعَهُ مِنْ مِلْكِهِ وَمِلْكِ مُوَكِّلِهِ أَمْ مِلْكِهِ فَقَطْ؟ ؟

فَأَجَابَ:

أَمَّا الْقَنَاةُ إذَا كَانَتْ مُحْدَثَةً حَيْثُ لَا يَجُوزُ إحْدَاثُهَا فَإِنَّهُ يُلْزَمُ مُحْدِثُهَا بِإِزَالَةِ مَا لَا يَجُوزُ إحْدَاثُهُ. وَالْمُشْتَرِي إنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ بَلْ

ص: 365

اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا حَقٌّ لِلْمِلْكِ لَا يَجُوزُ إزَالَتُهُ فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ: كَانَ هَذَا عَيْبًا. فَإِذَا بَنَى فِي الْعَقَارِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ عَيْبٌ فَلَيْسَ إلَّا الْأَرْشُ دُونَ الرَّدِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَفِي الْأُخْرَى - وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ - لَا الرَّدُّ أَيْضًا. وَيَكُونُ شَرِيكًا لِلْبَائِعِ بِمَا أَحْدَثَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِيهِ. وَلَا يُلْزَمُ بِالْهَدْمِ مَجَّانًا؛ لِأَنَّهُ بَنَى بِحَقِّ. وَخِيَارُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمَا وَلَهُمَا قَوْلٌ - كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ. فَإِذَا ظَهَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ سَقَطَ خِيَارُهُ بِالِاتِّفَاقِ. فَإِذَا بَنَى بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ سَقَطَ خِيَارُهُ. وَأَمَّا إذَا أَشْهَدَ بِطَلَبِ الْأَرْشِ اسْتَحَقَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَسْقُطُ الْأَرْشُ بِتَصَرُّفِهِ. وَالْبَائِعُ يُطَالَبُ بِالدَّرْكِ مِنْ أَرْشٍ أَوْ رَدٍّ فِيمَا بَاعَهُ مِنْ مِلْكِهِ. وَأَمَّا إذَا بَاعَهُ مِنْ مِلْكِ مُوَكِّلِهِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُسَمِّهِ فِي الْبَيْعِ طُولِبَ أَيْضًا بِدَرْكِ الْمَبِيعِ وَإِنْ كَانَ سَمَّاهُ فَهَلْ يَجُوزُ مُطَالَبَتُهُ؟ وَيَكُونُ ضَامِنًا لِعُهْدَةِ الْمَبِيعِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد.

ص: 366

وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أُلْزِمَ بِالْأَرْشِ؛ لِأَجْلِ الْقَنَاةِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إحْدَاثُهَا. فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْبَائِعَ الْغَارَّ لَهُ بِأَرْشِ مَا لَزِمَهُ بِغَرَرِهِ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ أُنَاسٍ يتعانون خُرُوجَ الْمِيَاهِ مِثْلُ مَاءِ الْوَرْدِ وَغَيْرِهِ؛ ثُمَّ إنَّهُمْ يَأْخُذُونَ حَرْقَانِ الْوَرْدِ وَيَنْقَعُونَهُ وَيَسْتَخْرِجُوهُ عَنْ الْعَادَةِ وَكَذَلِكَ النينوفر يَنْقَعُونَهُ يَابِسًا فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَيَبِيعُوهُ؟ .

فَأَجَابَ:

لَا يَجُوزُ خَلْطُ الْمَاءِ الْأَوَّلِ بِالْمَاءِ الثَّانِي لِمَنْ يُرِيدُ بَيْعَهُ وَلَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ الْمُشْتَرُونَ كَمَا رُوِيَ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى أَنَّ يُشَابَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ وَلَا بَأْسَ بِهِ لِلشُّرْبِ} فَإِنَّ هَذِهِ الْمَائِعَاتِ إذَا شِيبَتْ لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُ مَا يَدْخُلُهَا مِنْ الْغِشِّ. وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ عُقُوبَةُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَسُلُوكُ طَرِيقٍ يَمْتَنِعُونَ بِهَا عَنْ الْغِشِّ.

ص: 367

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

عَنْ عَمَلِ " الْكِيمْيَاءِ " هَلْ تَصِحُّ بِالْعَقْلِ أَوْ تَجُوزُ بِالشَّرْعِ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا يَصْنَعُهُ بَنُو آدَمَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ وَالطِّيبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُشَبِّهُونَ بِهِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ؛ مِثْلَ مَا يَصْنَعُونَهُ مِنْ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ مِثْلَ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ مُشَابِهٌ لَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لَيْسَ هُوَ مُسَاوِيًا لَهُ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ. وَذَلِكَ كُلُّهُ مُحَرَّمٌ فِي الشَّرْعِ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الذَّهَبَ الْمَصْنُوعَ مِثْلُ الْمَخْلُوقِ فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ. وَحَقِيقَةُ " الْكِيمْيَاءِ " إنَّمَا هِيَ تَشْبِيهُ الْمَخْلُوقِ وَهُوَ بَاطِلٌ فِي الْعَقْلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ. فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا يَقْدِرُ الْعِبَادُ أَنْ يَصْنَعُوا مِثْلَ مَا خَلَقَ وَمَا

ص: 368

يَصْنَعُونَهُ فَهُوَ لَمْ يَخْلُقْ لَهُمْ مِثْلَهُ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقْدَرَهُمْ عَلَى أَنْ يَصْنَعُوا طَعَامًا مَطْبُوخًا وَلِبَاسًا مَنْسُوجًا وَبُيُوتًا مَبْنِيَّةً وَهُوَ لَمْ يَخْلُقْ لَهُمْ مِثْلَ مَا يَصْنَعُونَهُ مِنْ الْمَطْبُوخَاتِ وَالْمَنْسُوجَاتِ وَالْبُيُوتِ الْمَبْنِيَّةِ. وَمَا خَلَقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ وَالْأَنْعَامِ وَالطَّيْرِ وَالْحِيتَانِ فَإِنَّ بَنِي آدَمَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَصْنَعُوا مِثْلَ هَذِهِ الدَّوَابِّ. وَكَذَلِكَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ والباقلا وَاللُّوبِيَا وَالْعَدَسُ وَالْعِنَبُ وَالرُّطَبُ وَأَنْوَاعُ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ لَا يَسْتَطِيعُ الْآدَمِيُّونَ أَنْ يَصْنَعُوا مِثْلَ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى. وَإِنَّمَا يُشَبِّهُونَهُ بِبَعْضِ هَذِهِ الثِّمَارِ كَمَا قَدْ يَصْنَعُونَ مَا يُشْبِهُ الْحَيَوَانَ حَتَّى يُصَوِّرُوا الصُّورَةَ كَأَنَّهَا صُورَةُ حَيَوَانٍ. وَكَذَلِكَ الْمَعَادِنُ. كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ: لَا يَسْتَطِيعُ بَنُو آدَمَ أَنْ يَصْنَعُوا مِثْلَ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ؛ وَإِنَّمَا غَايَتُهُمْ أَنْ يُشَبِّهُوا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَيُصَفِّرُونَ وَيَنْقُلُونَ. مَعَ اخْتِلَافِ الْحَقَائِقِ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: تَعْمَلُ تصفيرة؟ وَيَقُولُونَ نَحْنُ صَبَّاغُونَ. وَهَذِهِ " الْقَاعِدَةُ " الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا اسْتِقْرَاءُ الْوُجُودِ: مِنْ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَكُونُ مَصْنُوعًا وَالْمَصْنُوعُ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا: هِيَ ثَابِتَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَ أَوَائِلِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الطَّبَائِعِ وَتَكَلَّمُوا فِي الْكِيمْيَاءِ وَغَيْرِهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ

ص: 369

فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً فَلْيَخْلُقُوا بَعُوضَةً} . وَقَدْ ثَبَتَ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ} وَقَالَ: {مَنْ صَوَّرَ صُورَةً كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخِ} وَقَالَ: {إنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ} . وَهَذَا التَّصْوِيرُ لَيْسَ فِيهِ تَلْبِيسٌ وَغِشٌّ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ صُورَةَ الْحَيَوَانِ الْمُصَوَّرَةَ لَيْسَتْ حَيَوَانًا. وَلِهَذَا يُفَرَّقُ فِي هَذَا التَّصْوِيرِ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِ الْحَيَوَانِ فَيَجُوزُ تَصْوِيرُ صُورَةِ الشَّجَرِ وَالْمَعَادِنِ فِي الثِّيَابِ وَالْحِيطَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {مَنْ صَوَّرَ صُورَةً كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخِ} وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِلْمُسْتَفْتِي الَّذِي اسْتَفْتَاهُ: صَوِّرْ الشَّجَرَ وَمَا لَا رُوحَ فِيهِ. وَفِي السُّنَنِ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لَهُ فِي الصُّورَةِ: مُرْ بِالرَّأْسِ فَلْيُقْطَعْ} وَلِهَذَا نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالُوا: الصُّورَةُ هِيَ الرَّأْسُ لَا يَبْقَى فِيهَا رُوحٌ فَيَبْقَى مِثْلُ الْجَمَادَاتِ. وَهَذَا التَّصْوِيرُ لَيْسَ فِيهِ غِشٌّ وَلَا تَلْبِيسٌ؛ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُصَوَّرِ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِ. وَأَمَّا الْكِيمْيَاءُ: فَإِنَّهُ يُشَبِّهُ فِيهَا الْمَصْنُوعَ بِالْمَخْلُوقِ وَقَصَدَ أَهْلُهَا إمَّا

ص: 370

إنْ تُجْعَلَ هَذَا كَهَذَا فَيُنْفِقُونَهُ وَيُعَامِلُونَ بِهِ النَّاسَ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْغِشِّ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ فَوَجَدَهُ مَبْلُولًا. فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ - يَعْنِي الْمَطَرَ - فَقَالَ هَلَّا وَضَعْت هَذَا عَلَى وَجْهِهِ مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا} وَقَوْلُهُ: {مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا} كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ فِي كُلِّ غَاشٍّ. وَأَهْلُ الْكِيمْيَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ غِشًّا؛ وَلِهَذَا لَا يُظْهِرُونَ النَّاسَ إذَا عَامَلُوهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ الْكِيمْيَاءِ وَلَوْ أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ ذَلِكَ لَمْ يَشْتَرُوهُ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ يُرِيدُ غِشَّهُمْ. وَقَدْ قَالَ الْأَئِمَّةُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَغْشُوشِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُ غِشِّهِ وَإِنْ بَيَّنَ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَغْشُوشٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَنْ يُشَابَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ وَأَرْخَصَ فِي ذَلِكَ لِلشُّرْبِ} وَبَيْعُ الْمَغْشُوشِ لِمَنْ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ مَغْشُوشٌ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالْكِيمْيَاءُ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُ الْغِشِّ فِيهَا فَلَا يَجُوزُ عَمَلُهَا وَلَا بَيْعُهَا بِحَالِ. مَعَ أَنَّ النَّاسَ إذَا عَلِمُوا أَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنْ الْكِيمْيَاءِ لَمْ يَشْتَرُوهُ. وَلَوْ قِيلَ لَهُمْ: إنَّهُ يَثْبُتُ عَلَى الروباص أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بَلْ الْقُلُوبُ مَفْطُورَةٌ عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ. وَالْوُلَاةُ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَجِدُونَهُ يَعْمَلُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ مِمَّنْ يَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُنْكِرَهُ فِي الظَّاهِرِ؛

ص: 371

لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ فِي فِطْرِ الْآدَمِيِّينَ وَلَا تَجِدُ مَنْ يُعَانِي ذَلِكَ إلَّا مُسْتَخْفِيًا بِذَلِكَ أَوْ مُسْتَعِينًا بِذِي جَاهٍ وَعَلَى أَصْحَابِهِ مِنْ الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ وَسَوَادِ الْوُجُوهِ: مَا عَلَى أَهْلِ الْفِرْيَةِ وَالْكَذِبِ وَالتَّدْلِيسِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} . قَالَ أَبُو قلابة: هِيَ لِكُلِّ مُفْتَرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ فِرْيَةٍ وَغِشٍّ وَتَدْلِيسٍ فِي الدِّينِ وَكِلَاهُمَا مِنْ الْمُفْتَرِينَ. وَأَمَّا الْقُدَمَاءُ فَقَدْ قَالُوا: إنَّ الصِّنَاعَةَ لَا تَعْمَلُ عَمَلَ الطَّبِيعَةِ وَأَخْبَرُوا أَنَّ الْمَصْنُوعَ لَا يَكُونُ كَالْمَطْبُوعِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُصَنِّفُونَ مِنْهُمْ فِي الْكِيمْيَاءِ إذَا حَقَّقُوا قَالُوا: لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا إنَّمَا هُوَ التَّشْبِيهُ فَالطَّرِيقُ فِي التَّشْبِيهِ كَذَا وَكَذَا. فَيَسْلُكُونَ الطُّرُقَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا التَّشْبِيهُ وَهِيَ مَعَ تَنَوُّعِهَا وَكَثْرَتِهَا وَوُصُولِ جَمَاعَاتٍ إلَيْهَا وَاتِّفَاقِهِمْ فِيهَا: عُسْرَةٌ عَلَى أَكْثَرِ الْخَلْقِ كَثِيرَةُ الْآفَاتِ وَالْمُنْقَطِعُ عَنْ الْوُصُولِ أَضْعَافُ الْوَاصِلِينَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ فَجَمَاهِيرُ مَنْ يَطْلُبُ الْكِيمْيَاءَ لَا يَصِلُ إلَى الْمَصْنُوعِ الَّذِي هُوَ مَغْشُوشٌ بَاطِلٌ طَبْعًا مُحَرَّمٌ شَرْعًا؛ بَلْ هُمْ يَطْلُبُونَ الْبَاطِلَ الْحَرَامَ وَيَتَمَنَّوْهُ وَيَتَحَاكَوْنَ فِيهِ الْحِكَايَاتِ وَيُطَالِعُونَ فِيهِ الْمُصَنَّفَاتِ وَيُنْشِدُونَ فِيهِ الْأَشْعَارَ وَلَا يَصِلُونَ إلَى حَقِيقَةِ الْكِيمْيَاءِ - وَهُوَ الْمَغْشُوشُ - بِمَنْزِلَةِ اتِّبَاعِ الْمُنْتَظَرِ الَّذِي فِي السِّرْدَابِ وَاتِّبَاعِ رِجَالِ الْغَيْبِ الَّذِينَ لَا يَرَاهُمْ

ص: 372

أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ مُعْتَقِدِينَ وُجُودَهُ وَيَمُوتُونَ وَهُمْ لَمْ يَصِلُوا إلَيْهِ وَإِنْ وَصَلُوا إلَى مَنْ يَدَّعِي لِقَاءَهُ مِنْ الْكَذَّابِينَ. وَكَذَلِكَ طُلَّابُ الْكِيمْيَاءِ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ: " الحدبان " لِكَثْرَةِ انْحِنَائِهِمْ عَلَى النَّفْخِ فِي الْكِيرِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى الْحَرَامِ وَلَا يَنَالُونَ الْمَغْشُوشَ وَأَمَّا خَوَاصُّهُمْ فَيَصِلُونَ إلَى الْكِيمْيَاءِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ بَاطِلَةٌ لَكِنَّهَا عَلَى مَرَاتِبَ. مِنْهَا مَا يَسْتَحِيلُ بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ وَمِنْهَا مَا يَسْتَحِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ الْمَصْنُوعَ يَسْتَحِيلُ وَيَفْسُدُ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ؛ بِخِلَافِ الذَّهَبِ الْمَعْدِنِيِّ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ وَلَا يَسْتَحِيلُ؛ وَلِهَذَا ذَكَرُوا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ زَكَرِيَّا الرَّازِيَّ الْمُتَطَبِّبَ - كَانَ مِنْ الْمُصَحِّحِينَ لِلْكِيمْيَاءِ - عَمِلَ ذَهَبًا وَبَاعَهُ لِلنَّصَارَى فَلَمَّا وَصَلُوا إلَى بِلَادِهِمْ اسْتَحَالَ فَرَدُّوهُ عَلَيْهِ وَلَا أَعْلَمُ فِي الْأَطِبَّاءِ مَنْ كَانَ أَبْلَغَ فِي صِنَاعَةِ الْكِيمْيَاءِ مِنْهُ. وَأَمَّا الْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ هُمْ أَحْذَقُ فِي الْفَلْسَفَةِ مِنْهُ مِثْلَ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ الْكِنْدِيِّ وَغَيْرِهِ. فَإِنَّهُمْ أَبْطَلُوا الْكِيمْيَاءَ وَبَيَّنُوا فَسَادَهَا وَبَيَّنُوا الْحِيَلَ الْكِيمَاوِيَّةَ. وَلَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ الْكِيمْيَاءِ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ وَلَا مِنْ مَشَايِخِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ

ص: 373

بِإِحْسَانِ. وَأَقْدَمُ مَنْ رَأَيْنَا وَيَحْكِي عَنْهُ شَيْئًا فِي الْكِيمْيَاءِ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَقْتَدِي بِهِ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ وَلَا يَرْجِعُونَ إلَى رَأْيِهِ فَإِنْ ثَبَتَ النَّقْلُ عَنْهُ فَقَدْ دَلَّسَ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّسَ عَلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا جَابِرُ بْنُ حَيَّانَ صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْكِيمَاوِيَّةِ فَمَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ وَهَؤُلَاءِ لَا يَعُدُّونَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الذَّهَبَ الْمَصْنُوعَ كَالْمَعْدِنِيِّ - جَهْلًا وَضَلَالًا - كَمَا ظَنَّهُ غَيْرُهُمْ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ وَلَكِنَّهُ لُبِّسَ وَدُلِّسَ فَمَا أَكْثَرُ مَنْ يَتَحَلَّى بِصِنَاعَةِ الْكِيمْيَاءِ. لِمَا فِي النُّفُوسِ مِنْ مَحَبَّةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَتَّى يَقُولَ قَائِلُهُمْ: لَوْ غَنَّى بِهَا مُغَنٍّ لَرَقَصَ الْكَوْنُ. وَعَامَّتُهُمْ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيُظْهِرُونَ لِلطَّمَّاعِ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ الْكِيمْيَاءَ حَتَّى يَأْكُلُوا مَالَهُ وَيُفْسِدُوا حَالَهُ وَحِكَايَاتُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ النَّاسِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى نَقْلٍ مُسْتَقِرٍّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِيمْيَاءِ يُعَاقَبُونَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ فَتَذْهَبُ أَمْوَالُهُمْ - حَيْثُ طَلَبُوا زِيَادَةَ الْمَالِ بِمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ - بِنَقْصِ الْأَمْوَالِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} . وَالْكِيمْيَاءُ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْ الرِّبَا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ. مَنْ طَلَبَ الْمَالَ بِالْكِيمْيَاءِ أَفْلَسَ وَمَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ وَمَنْ طَلَبَ غَرَائِبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ. وَيُرْوَى هَذَا الْكَلَامُ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ

ص: 374

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَقَدْ قَالَ لِي رَأْسٌ مِنْ رُؤُوسِهِمْ لَمَّا نَهَيْته عَنْهَا وَبَيَّنْت لَهُ فَسَادَهَا وَتَحْرِيمَهَا - وَلَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ: أَخَذَ يَسْتَعْفِي عَنْ الْمُنَاظَرَةِ وَيَذْكُرُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ بِالْجِدَالِ وَقَالَ فِيمَا قَالَ -: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْرِفُ الْكِيمْيَاءَ فَقُلْت لَهُ: كَذِبٌ؛ بَلْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْكُفْرِ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْإِجْمَاعِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَضَّ فِيهَا النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ حَتَّى {جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ مَزْمُومَةٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَك بِهَا سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ مَزْمُومَةٍ} وَجَاءَ أَبُو عَقِيلٍ بِصَاعٍ فَطَعَنَ فِيهِ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ فِيهَا: كَانَ اللَّهُ غَنِيًّا عَنْ صَاعِ هَذَا وَجَاءَ آخَرُ بِصُرَّةٍ كَادَتْ يَدُهُ تَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهَا فَقَالُوا: هَذَا مِرَاءٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {وَجَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عفان بِأَلْفِ نَاقَةٍ فَأَعْوَزَتْ خَمْسِينَ فَكَمَّلَهَا بِخَمْسِينَ فَرَسٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ الْيَوْمِ} وَصَارَتْ هَذِهِ مِنْ مَنَاقِبِهِ الْمَشْهُورَةِ فَيُقَالُ مُجَهِّزُ جَيْشِ الْعُسْرَةِ.

ص: 375

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} . وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُمْ طَلَبُوا أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى النِّعَالِ. وَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِالنِّعَالِ النِّعَالُ الَّتِي تُلْبَسُ أَوْ الدَّوَابُّ الَّتِي تُرْكَبُ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: {لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} وَقَدْ كَانَ هُوَ يَحُضُّ النَّاسَ عَلَى الْإِنْفَاقِ غَايَةَ الْحَضِّ. فَلَوْ كَانَتْ الْكِيمْيَاءُ حَقًّا مُبَاحًا وَهُوَ يَعْلَمُهَا لَكَانَ مِنْ الْوَاجِبِ أَنْ يَعْمَلَ مِنْهَا مَا يُجَهِّزُ بِهِ الْجَيْشَ فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَمَنْ نَسَبَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فَقَدْ نَسَبَهُ إلَى مَا نَزَّهَهُ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ لَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي الْكِيمْيَاءِ حَقًّا؛ لَا خَمْسًا وَلَا زَكَاةً وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَالرِّكَازُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ؛ هُوَ دَفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَهِيَ الْكُنُوزُ الْمَدْفُونَةُ فِي الْأَرْضِ كَالْمَعَادِنِ. فَأَهْلُ الْحِجَازِ لَا يَجْعَلُونَهَا مِنْ الرِّكَازِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَأَهْلُ الْعِرَاقُ يَجْعَلُونَهَا مِنْ الرِّكَازِ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يُوجَدَ الْمَالُ جُمْلَةً وَبَيْنَ أَنْ لَا يُوجَدَ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهَا أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يُوجِبُونَ فِي الْمَعْدِنِ حَقًّا؛ إمَّا الزَّكَاةُ وَإِمَّا الْخُمُسُ.

ص: 376

وَلَوْ كَانَتْ الْكِيمْيَاءُ حَقًّا حَلَالًا لَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا أَعْظَمَ مِنْ الْخُمُسِ وَأَعْظَمَ مِنْ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا ذَهَبٌ عَظِيمٌ بِسَعْيٍ يَسِيرٍ أَيْسَرُ مِنْ اسْتِخْرَاجِ الْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ؛ لَكِنْ هِيَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الدِّينِ مِنْ الْغِشِّ الْبَاطِلِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَا يَحِلُّ عَمَلُهُ وَلَا اتِّخَاذُهُ مَالًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوجِبُوا فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْمَالِ الْحَلَالِ. وَقَالَ لِي الْمُخَاطَبُ فِيهَا: فَإِنَّ مُوسَى صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْمَلُ الْكِيمْيَاءَ. قُلْت لَهُ: هَذَا كَذِبٌ لَمْ يَنْقُلْ هَذَا عَنْ مُوسَى أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ بَلْ قَدْ ذَكَرُوا عَنْهُمْ أَنَّ مُوسَى كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ حَقٌّ يَأْكُلُ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ يَعْمَلُ الْكِيمْيَاءَ لَكَانَ يَأْكُلُ مِنْهَا. قَالَ: فَإِنَّ قَارُونَ كَانَ يَعْمَلُ الْكِيمْيَاءَ قُلْت: وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ مَعْرُوفٌ وَإِنَّمَا يَذْكُرُهُ مِثْلُ الثَّعْلَبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ عَمَّنْ لَا يُسَمِّي. وَفِي تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ الْغَثُّ وَالسَّمِينُ فَإِنَّهُ حَاطِبُ لَيْلٍ وَلَوْ كَانَ مَالُ قَارُونَ مِنْ الْكِيمْيَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِذَلِكَ اخْتِصَاصٌ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ عَمِلُوا الْكِيمْيَاءَ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: ( {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ آتَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ وَالْكُنُوزُ إمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ كَنْزُهَا كَمَا قَالَ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الْآيَةَ

ص: 377

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اطَّلَعَ عَلَى كنائز مَدْفُونَةٍ وَهُوَ الرِّكَازُ وَهَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ. ثُمَّ إنَّهُ مَاتَ هَذَا الرَّجُلُ وَكَانَ خَطِيبًا بِجَامِعِ فَلَمْ يَشْهَدْ جِنَازَتَهُ مِنْ جِيرَانِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ وَكَانَ يُعَانِي السِّحْرَ وَالسِّيمَيَا وَكَانَ يَشْتَرِي كُتُبًا كَثِيرَةً مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ فَشَهِدْت بَيْعَ كُتُبِهِ لِذَلِكَ فَقَامَ الْمُنَادِي يُنَادِي عَلَى " كُتُبِ الصَّنْعَةِ " وَكَانَتْ كَثِيرَةً يَعْنِي كُتُبَ الْكِيمْيَاءِ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هِيَ عِلْمُ الْحَجَرِ الْمُكَرَّمِ وَهِيَ عِلْمُ الْحِكْمَةِ وَيُعَرِّفُونَهَا بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْعِبَارَاتِ وَكَانَ الْمُتَوَلِّي لِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ السَّيْفِ وَالدِّيوَانِ شُهُودًا فَقُلْت لِوَلِيِّ الْأَمْرِ لَا يَحِلُّ بَيْعُ هَذِهِ الْكُتُبِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَشْتَرُونَهَا فَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهَا فَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ " زغلية " فَيَقْطَعُونَ أَيْدِيَهُمْ. وَإِذَا بِعْتُمْ هَذِهِ الْكُتُبَ تَكُونُونَ قَدْ مَكَّنْتُمُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَرْت الْمُنَادِيَ فَأَلْقَاهَا بِبَرَكَةِ كانت هُنَاكَ فَأُلْقِيَتْ حَتَّى أَفْسَدَهَا الْمَاءُ وَلَمْ يَبْقَ يُعْرَفُ مَا فِيهَا. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْكِيمْيَاءَ لَمْ يَعْمَلْهَا رَجُلٌ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ لَا عَالِمٌ مُتَّبِعٌ وَلَا شَيْخٌ يُقْتَدَى بِهِ وَلَا مَلِكٌ عَادِلٌ وَلَا وَزِيرٌ نَاصِحٌ وَإِنَّمَا يَفْعَلُهَا شَيْخٌ ضَالٌّ مُبْطِلٌ مِثْلُ ابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِ أَوْ مِثْلُ بَنِي عُبَيْدٍ. أَوْ مَلِكٌ ظَالِمٌ أَوْ رَجُلٌ فَاجِرٌ. وَإِنْ الْتَبَسَ أَمْرُهَا عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ فَغَالِبُهُمْ يَنْكَشِفُ لَهُمْ أَمْرُهَا فِي الْآخَرِ وَلَا

ص: 378

يَسْتَطِيعُونَ عَمَلَهَا صِيَانَةً مِنْ اللَّهِ لَهُمْ لِحُسْنِ قَصْدِهِمْ وَمَا أَعْلَمُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ أَنْفَقَ مِنْهَا أَوْ أَكَلَ مِنْهَا. وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَعْمَلُونَ بِهَا. فَهَذَا لَا يَعْدُو مَا يَقُولُهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَنَّ مَنْ يَعْمَلُهَا أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمَخْصُوصِينَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْكَرَامَةِ فَهَذَا جَهْلٌ؛ فَإِنَّ الْكِيمْيَاءَ يَعْمَلُهَا الْمُشْرِكُ وَالْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالْفَاجِرُ وَالْمُبْتَدِعُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ؛ بَلْ لَا يُعْرَفُ وَلِيٌّ ثَابِتُ الْوِلَايَةِ يَعْمَلُهَا وَمَنْ ذَكَرَهَا مِمَّنْ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مِثْلُ صَاحِبِ " الْفُصُوصِ " وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ فَهَؤُلَاءِ فِي كَلَامِهِمْ فِي الدِّينِ مِنْ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي كَلَامِهِمْ فِي الْكِيمْيَاءِ فَإِذَا كَانَ كَلَامُهُمْ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فِيهِ مِنْ الضَّلَالِ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ مَا لَمْ يَقُلْهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَكَيْفَ يَكُونُ كَلَامُهُمْ فِي الْكِيمْيَاءِ؟ . ثُمَّ مَنْ اغْتَرَّ بِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ " كِتَابِ السَّعَادَةِ " فِيهِ " وَفِي " كِتَابِ جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ " وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ: فَفِي هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ الْكَلَامِ الْمَرْدُودِ وَالْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مَا لَا يَخْفَى عَلَى عَالِمٍ بِذَلِكَ. وَقَدْ رَدَّ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَأَشْبَاهِهَا مِنْ الضَّلَالِ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَطْعَنُ فِي نَقْلِ هَذِهِ الْكُتُبِ عَمَّنْ أُضِيفَتْ إلَيْهِ وَيَقُولُ: إنَّهُ كَذِبٌ

ص: 379

عَلَيْهِ فِي نِسْبَةِ هَذِهِ الْكُتُبِ إلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ قَدْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ نَقِيضُ مَا يَقُولُهُ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ وَمَاتَ عَلَى مُطَالَعَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. نَعَمْ خَرْقُ الْعَادَاتِ لِلْأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ مِثْلُ أَنْ يَصِيرَ النَّبَاتُ ذَهَبًا. وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ طَرِيقُهُ طَرِيقَ الْكِيمْيَاءِ الْمَعْمُولَةِ بِالْمُعَالَجَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ وَبَيْنَ هَذَيْنِ مِنْ الْفَرْقِ مَا بَيْنَ عَصَا مُوسَى وَعِصِيِّ السَّحَرَةِ فَإِنَّ تِلْكَ كَانَتْ حَيَّةً تَسْعَى وَتِلْكَ يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى. وَبِالْجُمْلَةِ: فَإِذَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ اعْتَقَدُوا أَنَّ عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ حَقٌّ وَحَلَالٌ: فَهَذَا لَا يُفِيدُ شَيْئًا؛ فَإِنَّ قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ خَالَفَهُمْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمْ وَأَجَلُّ عِنْدَ الْأُمَّةِ لَا يَحْتَجُّ بِهِ إلَّا أَحْمَقُ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ التَّقْلِيدُ حُجَّةً فَتَقْلِيدُ الْأَكْبَرِ الْأَعْلَمِ الأعبد أَوْلَى. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَمْ يَنْفَعْهُ ذِكْرُهُ لِهَؤُلَاءِ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يُفِيدُ هَذَا شَيْئًا. وَيَكْفِيهِ أَنَّ خِيَارَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ الْقُرُونِ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا إذْ لَوْ كَانَتْ حَلَالًا لَدَخَلُوا فِيهَا كَمَا دَخَلُوا فِي سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَكْتَسِبُونَ الْأَمْوَالَ بِالْوُجُوهِ وَاكْتِسَابُ الْمَالِ مَعَ إنْفَاقِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَمَلٌ صَالِحٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ. قَالُوا: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ:

ص: 380

يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ. قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَالَ: يُعِينُ صَانِعًا أَوْ يَصْنَعُ لِأَخْرَقَ. قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَالَ: يَكُفُّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ} . وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى خَلَقَ الْأَشْيَاءَ أَجْنَاسًا وَأَصْنَافًا وَأَنْوَاعًا تَشْتَرِكُ فِي شَيْءٍ وَيَمْتَازُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِشَيْءِ كَمَا أَنَّ الدَّوَابَّ تَشْتَرِكُ فِي أَنَّهَا تَحُسُّ وَتَتَحَرَّكُ بِالْإِرَادَةِ فَهَذَا لَازِمٌ لَهَا كُلِّهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ} . إذْ كُلُّ إنْسَانٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَرْثٍ وَهُوَ كَسْبُهُ وَعَمَلُهُ. وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ هَمٍّ هُوَ مَبْدَأُ إرَادَتِهِ وَيَمْتَازُ بَعْضُ الدَّوَابِّ عَنْ بَعْضٍ بِمَا يَفْصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. فَهَذِهِ الْخَوَاصُّ الْفَاصِلَةُ مُخْتَصَّةٌ كَمَا أَنَّ الصِّفَاتِ الْمُشْتَرِكَةَ عَامَّةٌ وَهَذَا كَالنُّطْقِ لِلْإِنْسَانِ وَالصَّهِيلِ لِلْفَرَسِ وَالرُّغَاءِ لِلْبَعِيرِ وَالنَّهِيقِ لِلْحِمَارِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. كَذَلِكَ النَّبَاتَاتُ تَشْتَرِكُ مَعَ الدَّوَابِّ فِي أَنَّهَا تُنْمَى وَتُغَذَّى؛ وَلَكِنْ لَيْسَ لِلنَّبَاتِ حِسٌّ وَلَا إرَادَةٌ تَتَحَرَّكُ بِهَا وَالْمَعْدِنُ مُشَارِكٌ فِي بَعْضِ ذَلِكَ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَافَ - الَّتِي تُسَمَّى الْأَنْوَاعَ الَّتِي يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِهَذِهِ الْخَوَاصِّ الْفَاضِلَةِ - إذَا تَقَوَّمَتْ بِهَذِهِ الْفُضُولِ الْخَوَاصِّ لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ أَنْ يَجْعَلَهَا مِنْ أَنْوَاعٍ أُخَرَ وَلَا أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ الْفَضْلَ وَيُلْبِسَهَا فَضْلًا آخَرَ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْحِنْطَةَ شَعِيرًا وَلَا

ص: 381

الْفَرَسَ حِمَارًا وَلَا الْحِمَارَ ثَوْرًا. وَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْفِضَّةَ ذَهَبًا وَلَا النُّحَاسَ فِضَّةً وَأَمْثَالَ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا غَايَتُهُ يُشْبِهُ وُجُودَهُ وَيُدَلِّسُ. وَمَنْ زَعَمَ مِنْ الْكِيمَاوِيَّةِ أَنَّ الْفِضَّةَ ذَهَبٌ لَمْ يَسْتَكْمِلْ نُضْجُهُ فَقَدْ كَذَبَ؛ بَلْ لِهَذَا مَعْدِنٌ وَلِهَذَا مَعْدِنٌ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ فَقَالَ: أَتْقَاهُمْ. فَقَالُوا: لَسْنَا نَسْأَلُك عَنْ هَذِهِ؛ فَقَالَ: يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ. ابْنُ يَعْقُوبَ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ إسْحَاقَ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ. فَقَالُوا: لَسْنَا نَسْأَلُك عَنْ هَذَا. فَقَالَ: أَفَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} فَكَمَا أَنَّ قُرَيْشًا لَيْسَ أَصْلُهَا أَصْلَ تَمِيمٍ وَعَدْنَانُ لَيْسَ أَصْلُهَا أَصْلَ قَحْطَانَ وَالْعَرَبُ لَيْسَ أَصْلُهَا أَصْلَ الْعَجَمِ فَكَذَلِكَ لَيْسَ أَصْلُ الذَّهَبِ أَصْلَ الْفِضَّةِ وَلَا أَصْلُ الْفِضَّةِ أَصْلَ الذَّهَبِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ مَعْدِنَ الذَّهَبِ يَكُونُ فِيهِ فِضَّةٌ كَمَا يَكُونُ فِي مَعْدِنِ الْفِضَّةِ نُحَاسٌ فَكَذَلِكَ خَبَثُ الْمَعَادِنِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَخْرَجَ مِنْ الْمَعْدِنِ لَا بُدَّ مِنْ تَصْفِيَتِهِ مِنْ خُبْثِهِ وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ مَعَادِنِ الْفِضَّةِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا ذَهَبٌ. وَلَوْ كَانَتْ الْفِضَّةُ إذَا أُكْمِلَ طَبْخُهَا صَارَتْ ذَهَبًا لَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَعَادِنِ الْفِضَّةِ ذَهَبٌ؛ إلَّا أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ مِنْ طَبِيعَةِ ذَلِكَ الْمَعْدِنِ حَرَارَةُ طَبْخِهَا. فَيُقَالُ: هَذَا أَيْضًا مِمَّا يُبْطِلُ قَوْلَ الْكِيمَاوِيَّةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ

ص: 382

الذَّهَبَ فِي مَعَادِنَ بِحَرَارَةِ وَرُطُوبَةٍ وَيَخْلُقُهَا فِي الْمَعْدِنِ كَمَا يَخْلُقُ الْأَجِنَّةَ فِي بُطُونِ الْأَرْحَامِ وَكَمَا يَخْلُقُ فِي الْحَرْثِ مِنْ الْأَشْجَارِ وَالزَّرْعِ بِحَرَارَةٍ يَخْلُقُهَا وَمَا يَخْلُقُ بِهِ مِنْ الْحَرَارَةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا فِي تِلْكَ الْأَجْسَامِ لَا تَقُومُ مَقَامَهُ حَرَارَةُ النَّارِ الَّتِي نَصْنَعُهَا نَحْنُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَاسْتِقْرَاءُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ - أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَكُونُ مَصْنُوعًا وَالْمَصْنُوعُ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا وَأَنَّ الْأَنْوَاعَ الْمُفَضَّلَةَ بِخَوَاصِّهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَلَ مِنْهَا نَوْعٌ إلَى نَوْعٍ آخَرَ - يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ وَالدَّلَالَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَيْضًا فِي ذَلِكَ ثُمَّ مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ - وَسَوَّى بَيْنَ بِلَادِهِ - مِنْ إنْكَارِ ذَلِكَ وَعُقُوبَةُ فَاعِلِيهِ فِي الْجُمْلَةِ ظَاهِرَةٌ وَإِنْ فَعَلَهُ بَعْضُهُمْ بَاطِنًا. ثُمَّ إنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الْكِيمْيَاءَ وَيَدَّعُونَ أَنَّهَا حَقٌّ حَلَالٌ لَوْ بِيعَ لِأَحَدِهِمْ ذَهَبٌ وَقِيلَ لَهُ: هُوَ مِنْ عَمَلِ الْكِيمْيَاءِ لَمْ يَشْتَرِهِ كَمَا يَشْتَرِي الْمَعْدِنِيَّ وَإِنْ صُنِعَ بِهِ كَمَا يُصْنَعُ بِذَهَبِهِ الَّذِي يَعْلَمُهُ مِنْ الِاعْتِبَارِ؛ بَلْ قَدْ جُبِلَتْ قُلُوبُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا نَسَبُوهُ إلَى الْغِشِّ وَالزَّغَلِ وَالتَّمْوِيهِ وَالنَّاسُ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ فُضَلَاءَ أَهْلِ " الْكِيمْيَاءِ " يَضُمُّونَ إلَيْهَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ السِّيمَيَا كَمَا كَانَ يَصْنَعُ ابْنُ سَبْعِينَ وَالسُّهْرَوَرْدِي الْمَقْتُولُ وَالْحَلَّاجُ

ص: 383

وَأَمْثَالُهُمْ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ؛ بَلْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ السَّاحِرَ كَافِرٌ يَجِبُ قَتْلُهُ. وَقَدْ ثَبَتَ قَتْلُ السَّاحِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عفان وَحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ طُلَّابَ السِّحْرِ يَعْلَمُونَ أَنَّ صَاحِبَهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ: أَيْ مِنْ نَصِيبٍ وَلَكِنْ يَطْلُبُونَ بِهِ الدُّنْيَا: مِنْ الرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ. {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} لَحَصَلَ لَهُمْ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَطْلُبُونَهُ. وَلِهَذَا تَجِدُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي السِّحْرِ وَدَعْوَةِ الْكَوَاكِبِ

ص: 384

وَتَسْبِيحَاتِهَا فَيُخَاطِبُونَهَا يَسْجُدُونَ لَهَا إنَّمَا مَطْلُوبُ أَحَدِهِمْ الْمَالُ وَالرِّئَاسَةُ فَيَكْفُرُ وَيُشْرِكُ بِاَللَّهِ؛ لِأَجْلِ مَا يَتَوَهَّمُهُ مِنْ حُصُولِ رِئَاسَةٍ وَمَالٍ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا مَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْتِقْرَاءُ أَحْوَالِ الْعَالَمِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَدَّ مِنْ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ وَالسِّحْرَ وَقَتْلَ النَّفْسِ وَالرِّبَا وَالْفِرَارَ مِنْ الزَّحْفِ وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ. وَأَصْنَافُهُ مُتَنَوِّعَةٌ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّك تَجِدُ " السِّيمَيَا " الَّتِي هِيَ مِنْ السِّحْرِ كَثِيرًا مَا تَقْتَرِنُ بِالْكِيمْيَاءِ. وَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ السِّحْرَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِذَا كَانَتْ الْكِيمْيَاءُ تُقْرَنُ بِهِ كَثِيرًا وَلَا تَقْتَرِنُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ: عُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ؛ بَلْ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ وَصَلَ إلَى الْكِيمْيَاءِ وَعَمِلَهَا وَقَدَرَ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ مِنْهَا وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَأَكْثَرُ الطَّالِبِينَ لَهَا لَمْ يَتَوَصَّلُوا إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَمَنْ وَصَلَ مِنْهُمْ إلَى ذَلِكَ مَرَّةً تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ مَعَ حُصُولِ الْمُفْسِدَاتِ. وَمَنْ اسْتَقْرَأَ أَحْوَالَ طَالِبِيهَا وَجَدَ تَحْقِيقَ مَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ حَيْثُ قَالُوا:

ص: 385

مَنْ طَلَبَ الْمَالَ بِالْكِيمْيَاءِ أَفْلَسَ وَمَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ وَمَنْ طَلَبَ غَرَائِبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ. وَكَمْ أَنْفَقُوا فِيهَا مِنْ الْأَمْوَالِ وَكَمْ صَحِبُوا بِهَا مِنْ الرِّجَالِ وَكَمْ أَكْثَرُوا فِيهَا مِنْ الْقِيلِ وَالْقَالِ وَكَمْ عَلَّقُوا بِهَا الْأَطْمَاعَ وَالْآمَالَ وَكَمْ سَهِرُوا فِيهَا مِنْ اللَّيَالِي وَلَمْ يَظْفَرُوا إلَّا بِخَسَارَةِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَنَقْصِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَنَصْبِ الْعَرَضِ وَالذُّلِّ وَالصَّغَارِ وَالْحَاجَةِ وَالْإِقْتَارِ وَكَثْرَةِ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَصُحْبَةِ شِرَارِ الْأَقْرَانِ وَالِاشْتِغَالِ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الزَّادِ. لَا سِيَّمَا وَهِيَ كَثِيرًا مَا تَقُودُ أَصْحَابَهَا إلَى أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي وَالْفُسُوقِ؛ إذْ طَالِبُهَا يَبْغِيهَا بُغْيَةَ الْعَاشِقِ لِلْمَعْشُوقِ؛ بَلْ قَدْ تُؤَوَّلُ إلَى الْكُفْرِ بِالرَّحْمَنِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ وَالدُّخُولِ فِي أَضَالِيلِ الْمُشْرِكِينَ وَعُبَّادِ الْأَوْثَانِ وَهُوَ خَسَارَةُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ لَمْ يَحْصُلْ إلَّا عَلَى طَمَعٍ كَاذِبٍ كَالْبَرْقِ الْخَالِبِ وَالسَّرَابِ الَّذِي {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} فَهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَظُنُّ فِي أَهْلِ الْكُفْرِ مِنْ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ أَنَّهُمْ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَهْلِ الْإِيمَانِ أَوْ مَنْ يَظُنُّ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْكَذِبِ وَالتَّلْبِيسِ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

ص: 386

وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يُظَنُّ فِي الْمُتَنَبِّئِ الْكَذَّابِ: كَمُسَيْلَمَةَ وَالْعَنْسِيَّ وَنَحْوِهِمَا أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَنْبِيَاءِ الصَّادِقِينَ؛ كَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ. صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَاشْتِبَاهُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَاشْتِبَاهُ النَّبِيِّ بِالْمُتَنَبِّئِ وَالْمُتَكَلِّمِ بِعِلْمٍ بِالْمُتَكَلِّمِ بِجَهْلِ وَالْوَلِيِّ الصَّادِقِ بِالْمُرَائِي الْكَاذِبِ: هُوَ كَاشْتِبَاهِ الذَّهَبِ الْمَعْدِنِيِّ بِالذَّهَبِ الْمَصْنُوعِ وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَإِنَّمَا اهْتَدَى لِلْفَرْقِ التَّامِّ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَهِيَ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ الَّذِينَ هُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ عَلَى خَلْقِهِ فِي الْحَقِّ وَهُمْ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ. جَعَلَنَا اللَّهُ وَسَائِرَ إخْوَانِنَا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ وَالْمُقْتَدِينَ بِهِمْ وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ. وَمِنْ أَعْظَمِ حُجَجِ " الْكِيمَاوِيَّةِ ": اسْتِدْلَالُهُمْ بِالزُّجَاجِ قَالُوا:

ص: 387

فَإِنَّ الزُّجَاجَ مَعْمُولٌ مِنْ الرَّمْلِ وَالْحَصَى وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَاسُوا عَلَى ذَلِكَ مَا يَعْمَلُونَهُ مِنْ الْكِيمْيَاءِ وَهَذِهِ حُجَّةٌ فَاسِدَةٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يَخْلُقُ لِلنَّاسِ زُجَاجًا؛ لَا فِي مَعْدِنٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ؛ وَإِنَّمَا الزُّجَاجُ مِنْ قِسْمِ الْمَصْنُوعَاتِ كَالْآجُرِّ وَالْفَخَّارِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يُطْبَخُ فِي النَّارِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى جَعَلَ لِبَنِي آدَمَ قُدْرَةً عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا أَنْوَاعًا مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَكَذَلِكَ جَعَلَ لَهُمْ قُدْرَةً عَلَى مَا يَصْنَعُونَهُ مِنْ الْآنِيَةِ مِنْ الْفَخَّارِ وَالزُّجَاجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَلَمْ يَخْلُقْ لَهُمْ سَبِيلًا عَلَى أَنْ يَصْنَعُوا مِثْلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ. وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الزُّجَاجَ مِنْ قِسْمِ الْمَصْنُوعَاتِ دُونَ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ فِيهِ مَا يَشْتَبِهُ الْمَصْنُوعُ بِالْمَخْلُوقِ بَطَلَتْ حُجَّةُ الْكِيمْيَاءِ. فَإِنَّ أَصْلَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لَا يُمْكِنُ الْبَشَرُ أَنْ يَصْنَعُوا مِثْلَهَا وَلَا يُمْكِنُهُمْ نَقْلُ نَوْعٍ مَخْلُوقٍ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ إلَى نَوْعٍ آخَرَ مَخْلُوقٍ. وَهَذَا مُطَّرِدٌ لَا يُنْقَضُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ بَاعَ مِلْكًا وَعَقَارًا ثُمَّ خَرَجَ مُسْتَحِقًّا. فَهَلْ يُحَاسِبُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ مِنْ أُجْرَةِ الْمَبِيعِ إذَا كَانَ لَهُ أُجْرَةٌ؟ وَهَلْ يَتَوَقَّفُ اسْتِحْقَاقُ

ص: 388

الْأُجْرَةِ عَلَى انْتِفَاعِ الْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ؟ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ مِنْ الْأُجْرَةِ لِلْمَبِيعِ مُدَّةَ مَقَامِهِ فِي يَدِهِ أَوْ بِالثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْغَصْبِ فَهُوَ ظَالِمٌ ضَامِنٌ لِلْمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ انْتَفَعَ بِهَا أَوْ لَمْ يَنْتَفِعْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْبَائِعِ الظَّالِمِ وَإِذَا انْتَزَعَ الْمَبِيعَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ. وَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ الْأُجْرَةَ وَهُوَ مَغْرُورٌ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ الْغَارِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ يَقُولُ: أَنَّ " السِّيمَيَا " وَ " الْكِيمْيَاءَ " عِلْمَانِ مِنْ عُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ. وَيَرْوِي بَعْضُهُمْ فِي الْكِيمْيَاءِ - وَهُوَ الْفِضَّةُ الخدماء أَوْ الْخِدْمَة - مَنْ أَسْفَاهَا أَكَلَ الْحَلَالَ " وَنَحْوَ ذَلِكَ؟ .

فَأَجَابَ:

وَأَمَّا مَنْ قَالَ. إنَّ " السِّيمَيَا وَالْكِيمْيَاءَ " مِنْ عُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَكَاذِبٌ مُفْتَرٍ؛ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ تَكَلَّمَ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا وَلَا عَنْ وَلِيٍّ مَقْبُولٍ عِنْدَ الْأُمَّةِ. أَمَّا " السِّيمَيَا " فَإِنَّهَا مِنْ السِّحْرِ {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}

ص: 389

وَلَا رَيْبَ أَنَّ السَّحَرَةَ قَدْ يَشْتَبِهُونَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَيَأْتُونَ مَا يَظُنُّ أَنْ يُضَاهِيَ مَا تَأْتِي بِهِ الْأَنْبِيَاءُ كَمَا أَتَى سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ بِمَا يُضَاهُونَ بِهِ مُعْجِزَةَ مُوسَى {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} - إلَى قَوْلِهِ - {سَاجِدِينَ} . وَأَمَّا " الْكِيمْيَاءُ " فَهُوَ الْمُشَبَّهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْمَخْلُوقَيْنِ. وَالْكِيمْيَاءُ لَا تَخْتَصُّ بِهَذَيْنِ؛ بَلْ تَصْنَعُ كِيمْيَاءَ الْجَوَاهِرِ: كَاللُّؤْلُؤِ وَالزَّبَرْجَدِ. وَكِيمْيَاءَ الْمَشْمُومَاتِ: كَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْوَرْدِ وَكِيمْيَاءَ الْمَطْعُومَاتِ. وَهِيَ بَاطِلَةٌ طَبْعًا مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا} . " وَالْكِيمْيَاءُ " مِنْ الْغِشِّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا إلَّا بِقَدَرٍ وَالْخَلْقُ لَا يَصْنَعُونَ مِثْلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي؛ فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا شُعَيْرَةً} . وَالْفَلَاسِفَةُ يَقُولُونَ: إنَّ الصِّنَاعَةَ لَا تَعْمَلُ عَمَلَ الطَّبِيعَةِ: يَعْنِي أَنَّ الْمَصْنُوعَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا لَا يَكُونُ مِثْلَ الْمَطْبُوعِ الَّذِي خُلِقَ بِالْقُوَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ السَّارِيَةِ فِي الْأَجْسَامِ وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مَا صَنَعَ الْخَلْقُ مِثْلَهُ وَمَا يَصْنَعُهُ الْخَلْقُ لَمْ يَخْلُقْ لَهُمْ مِثْلَهُ فَهُمْ يَطْحَنُونَ

ص: 390

الطَّعَامَ وَيَنْسِجُونَ الثِّيَابَ وَيَبْنُونَ الْبُيُوتَ وَلَمْ يَخْلُقْ لَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الزُّجَاجُ يَصْنَعُونَهُ مِنْ الرَّمْلِ وَالْحَصَى وَلَمْ يَخْلُقْ مِثْلَهُ. وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْكِيمَاوِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ الْكِيمْيَاءِ وَهِيَ حُجَّةٌ بَاطِلَةٌ لِمَا ذُكِرَ فَإِنَّهُ لَوْ خُلِقَ زُجَاجٌ وَصُنِعَ زُجَاجٌ مِثْلُهُ: لَكَانَ فِي هَذَا حُجَّةٌ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَجَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِعِلْمٍ فِي هَذَا الْبَابِ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكِيمْيَاءَ مُشَبَّهٌ وَأَنَّ الذَّهَبَ الْمَخْلُوقَ مِنْ الْمَعَادِنِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُصْنَعَ مِثْلُهُ؛ بَلْ وَلَا يُصْنَعُ وَكُلٌّ يَنْكَشِفُ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا وَلَكِنْ مِنْهُ مَا هُوَ شَدِيدُ الشَّبَهِ وَمِنْهُ مَا هُوَ أَبْعَدُ شَبَهًا مِنْهُ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا سَلِيمًا مِنْ الْعَيْبِ ثُمَّ بَاعَهُ كَذَلِكَ فَسَرَقَ الْعَبْدُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي مَبْلَغًا وَأَبَقَ. فَهَلْ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ؟ أَوْ الثَّانِي؟ أَوْ بِالْأَرْشِ. أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَ بِالْأَرْشِ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَمَعْنَى

ص: 391

ذَلِكَ: أَنْ يَقُومَ الْعَبْدُ وَلَا عَيْبَ فِيهِ وَيَقُومُ وَبِهِ هَذَانِ الْعَيْبَانِ فَمَا نَقَصَ مِنْ الْقِيمَةِ نَقَصَ مِنْ الثَّمَنِ بِحِسَابِهِ فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ سَلِيمًا أَرْبَعَمِائَةٍ وَقِيمَتُهُ مَعِيبًا مِائَتَانِ: حُطَّ عَنْهُ نِصْفُ الثَّمَنِ. وَهَلْ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ عَلَى السَّيِّدِ الَّذِي دَلَّسَ الْعَيْبَ؟ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَنَصِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ. وَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ - بِذَلِكَ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً فَبَانَتْ عَاشِقَةً فِي سَيِّدِهَا الَّذِي بَاعَهَا. وَبَاعَهَا الثَّانِي لِثَالِثِ. فَهَلْ لِلثَّالِثِ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الثَّانِي؟ وَهَلْ يَرُدُّهَا الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

نَعَمْ هَذَا عَيْبٌ يُنْقِصُ الْقِيمَةَ فِي الْعَادَةِ نَقْصًا بَيِّنًا فَإِذَا ثَبَتَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى بَائِعِهِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي لَمْ يَعْلَمْ الْعَيْبَ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 392

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً صَحِيحَةً سَالِمَةً فَهَرَبَتْ مِنْ يَوْمِ ابْتَاعَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ وَلَا إجْحَافٍ. فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ قَبْلَ حُضُورِ الْجَارِيَةِ وَوُجُودِهَا أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مَعْرُوفَةً بِالْإِبَاقِ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَتَمَ الْبَائِعُ هَذَا الْعَيْبَ وَأَبَقَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ. وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يُطَالَبُ بِالْأَرْشِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَبَقَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَكِنْ أَبَقَتْ بِسَبَبِ مَا فَعَلَ بِهَا الْمُشْتَرِي فَلَا شَيْءَ عَلَى الْبَائِعِ. وَإِذَا حَدَثَ بِهِ عَيْبُ إبَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا رَدَّ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَأَمَّا مَالِكٌ فَيَقُولُ: لَهُ الرَّدُّ بِذَلِكَ إلَى تَمَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى سَنَةٍ وَلَهُ الرَّدُّ بِالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 393

وَسُئِلَ:

عَنْ دَابَّةٍ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِهَا عَيْبًا فَمَكَثَتْ عِنْدَهُ مِقْدَارَ شَهْرٍ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا ظَهَرَ بِهَا عَيْبٌ قَدِيمٌ قَبْلَ الْبَيْعِ وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِذَلِكَ الْعَيْبِ؛ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهِ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ بَاعَ قَمْحًا فَبَذَرَهُ فَتَلِفَ فَطَلَبَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِعِ خَرَاجَ الْأَرْضِ. فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ ذَلِكَ؟ وَهَلْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَهُ بِذَلِكَ؟ وَإِذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ مِنْ الْبَائِعِ؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا بَاعَهُ وَسَلَّمَ إلَيْهِ الْمَبِيعَ ثُمَّ تَلِفَ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَوْ بَذَرَهُ الْمُشْتَرِي فَتَلِفَ: فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ بَلْ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الثَّمَنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ عَيْبٌ أَوْ تَدْلِيسٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

ص: 394

وَإِنْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ تَلَفَهُ بِسَبَبِ عَيْبٍ كَانَ فِيهِ وَكَانَ ذَلِكَ الْقَمْحُ قَدْ اشْتَرَى مِنْهُ غَيْرُ هَذَا الْمُشْتَرِي وَشَهِدُوا أَنَّهُ سَلِيمٌ مِنْ الْعَيْبِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إذَا لَمْ يُقِمْ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً. وَأَيْضًا فَإِذَا قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: إنَّ الْمَعِيبَ لَا يُنْبِتُ النَّبَاتَ الْمُعْتَادَ. وَهَذَا قَدْ نَبَتَ النَّبَاتُ الْمُعْتَادُ ثُمَّ هَافَ: كَانَ حُجَّةً لِلْبَائِعِ.

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ بَاعَ زَوْجَتَهُ دَارًا بَيْعَ أَمَانَةٍ

بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَدْ اسْتَوْفَتْ الدَّرَاهِمَ مِنْ الْأُجْرَةِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهَا أَخْذُ شَيْءٍ آخَرَ وَقَدْ أَخَذَتْ الْأَرْبَعَمِائَةِ؟ فَهَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهَا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، الْمَقْصُودُ بِهَذَا وَأَمْثَالُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْمَالَ وَيَسْتَغِلَّ الْعَقَارَ عَنْ مَنْفَعَةِ الْمَالِ فَمَا دَامَ الْمَالُ فِي ذِمَّةِ الْآخِذِ فَإِنَّهُ يَسْتَغِلُّ الْعَقَارَ وَإِذَا رَدَّ عَلَيْهِ الْمَالَ أَخَذَ الْعَقَارَ وَهَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ قَصَدَا ذَلِكَ وَأَظْهَرَا صُورَةَ بَيْعٍ لَمْ يَجُزْ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا. وَمَنْ صَحَّحَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ شَرْعِيًّا فَإِذَا شَرَطَ أَنَّهُ

ص: 395

إذَا جَاءَ بِالثَّمَنِ أَعَادَ إلَيْهِ الْعَقَارَ: كَانَ هَذَا بَيْعًا بَاطِلًا. وَالشَّرْطُ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْعَقْدِ كَالْمُقَارِنِ لَهُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَحِينَئِذٍ فَمَا حَصَلَ لِلْمَرْأَةِ مِنْ الْأُجْرَةِ بَعْدَ أَنْ عَلِمَتْ التَّحْرِيمَ تَحْسَبُهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَمَا قَبَضَتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ: فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ وَإِنْ اصْطَلَحَا عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ أَحْسَنُ. وَمَا قَبَضَتْهُ بِعَقْدٍ مُخْتَلِفٍ تَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا رَدُّهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ طَلَبَ مِنْ إنْسَانٍ أَنْ يُقْرِضَهُ دَرَاهِمَ وَلِلرَّجُلِ كَرْمٌ فَامْتَنَعَ إلَّا أَنْ يَبِيعَهُ الْكَرْمَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَنَّهُ إذَا جَاءَ بِالدَّرَاهِمِ أَعَادَ إلَيْهِ الْكَرْمَ فَبَاعَهُ الْكَرْمَ بِهَذَا الشَّرْطِ وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّرْطَ فِي الْعَقْدِ ثُمَّ بَعْدَ الْعَقْدِ قَالَ الْمُشْتَرِي لِجَمَاعَةِ شُهُودٍ: اشْهَدُوا عَلَى أَنَّهُ مَتَى جَاءَ هَذَا بِدَرَاهِمِي أَعَدْت إلَيْهِ كَرْمَهُ. فَهَلْ يَكُونُ هَذَا الْبَيْعُ صَحِيحًا أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي الْقِيَامُ بِمَا شَرَطَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي إعَادَةِ الْكَرْمِ؟ وَإِذَا مَكَرَ الْمُشْتَرِي بِالْبَائِعِ. هَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ:

لَيْسَ هَذَا بَيْعًا لَازِمًا؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ كَرْمَهُ إذَا أَعْطَاهُ دَرَاهِمَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَمْكُرَ بِهِ.

ص: 396

وَسُئِلَ:

عَنْ امْرَأَةٍ اشْتَرَتْ خِرْقَةً تَخِيطُهَا ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ وَجَدْتهَا خامية وَفِيهَا فَزُور فَهَلْ تَلْزَمُ التَّاجِرَ إنْ رِدَّتَهَا إلَيْهِ؟

فَأَجَابَ:

لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ وَإِذَا كَانَ قَدْ نَقَصَ بِمَا أَحْدَثَتْهُ فِيهِ مِنْ الْعَيْبِ كَانَ لَهَا الرَّدُّ مَعَ أَرْشِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ بَاعَ مِلْكًا لِابْنَةٍ تَحْتَ حِجْرِهِ بِأَلْفِ وَثَمَانِينَ - بَيْعَ أَمَانَةٍ - وَهُوَ يُسَاوِي أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَتْ الشُّهُودُ وَذَكَرُوا فِي الْمَكْتُوبِ أَنَّ ابْنَةَ الْبَائِعِ أَذِنَتْ فِي الْبَيْعِ وَلَمْ يَكُنْ الشُّهُودُ حَضَرُوهَا وَلَا لَهَا جَلِيَّةٌ عِنْدَهُمْ. فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَيْعُ الْأَمَانَةِ بَيْعٌ بَاطِلٌ وَالْوَاجِبُ رَدُّ الْعِوَضِ وَبَيْعُ الْأَبِ مِثْلُهُ هَذَا الْغَبْنُ الْعَظِيمُ لَا يَجُوزُ وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهَا لَا يَصِحُّ

ص: 397

إذْنُهَا وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهَا بِالْإِذْنِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بَلْ إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فُسِخَ الْبَيْعُ بِكُلِّ حَالٍ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

هَلْ ذَكَرَ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ إذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَتَلِفَتْ يَكُونُ ضَامِنًا لَهَا؟ أَوْ أَنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ وَالضَّمَانِ مُتَلَازِمَانِ طَرْدًا وَعَكْسًا؟ فَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ؟

فَأَجَابَ:

الْقَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد: وَهُوَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ. والمتأخرون مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةِ يَقُولُونَ بِتَلَازُمِ التَّصَرُّفِ وَالضَّمَانِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَا دَخَلَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي جَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ وَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُهُ فِيهِ؛ وَلِهَذَا طَرَدَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ عَلَى الشَّجَرِ فَلَمْ يَقُلْ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ. بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا قَبَضَهَا وَجَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهَا صَارَ ضَمَانُهَا عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي مَذْهَبِ أَحْمَد الَّذِي ذَكَرَهُ الخرقي وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ أُصُولُ أَحْمَد: أَنَّ الضَّمَانَ وَالتَّصَرُّفَ لَا يَتَلَازَمَانِ؛ وَلِهَذَا كَانَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ الثِّمَارَ إذَا تَلِفَتْ قَبْلَ تَمَكُّنِ الْمُشْتَرِي

ص: 398

مِنْ جُذَاذِهَا. كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ فَجَوَّزَ تَصَرُّفَهُ فِيهَا مَعَ كَوْنِ ضَمَانِهَا عَلَى الْبَائِعِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَنَّ الثِّمَارَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إذَا بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ} . وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَنْهُ فِي مَنْعِ التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الثِّمَارِ يُرَافِقُ الطَّرِيقَةَ الْأُولَى. وَمِنْ الْحُجَّةِ لِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ: أَنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُؤَجِّرِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهَا إنْ تَلِفَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ كَمَوْتِ الدَّابَّةِ وَتَعَطَّلَتْ الْمَنَافِعُ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَائِهَا مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ التَّصَرُّفُ فِيهَا حَتَّى بِالْبَيْعِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَإِنْ كَانَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى لَا يُؤَجِّرُهَا بِأَكْثَرَ مِنْ الْأُجْرَةِ إذَا لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا زِيَادَةٌ؛ لِئَلَّا يَرْبَحَ فِيمَا لَمْ يَضْمَنْ وَهِيَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَبُو حَنِيفَةَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُمَلَّكُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا تُمَلَّكُ بِالِاسْتِيفَاءِ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ هُوَ وَغَيْرُهُ يُجَوِّزُونَ إجَارَتَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ الْأُجْرَةِ وَيَقُولُونَ: هَذَا لَيْسَ رِبْحًا لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَنَافِعَ مَضْمُونَةٌ عَلَى

ص: 399

الْمُشْتَرِي بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِيفَائِهَا فَلَمْ يَسْتَوْفِهَا كَانَتْ مِنْ ضَمَانِهِ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى الْبَائِعِ إذَا تَلِفَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَائِهَا وَلِهَذَا كَانَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد فِي (بَابِ الضَّمَانِ ضَمَانَ الْعَقْدِ - الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهِ وَمَا لَمْ يَتَمَكَّنْ لَيْسَ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ وَغَيْرِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الخرقي وَغَيْرَهُ يَقُولُونَ: إنَّ الصُّبْرَةَ الْمُتَعَيِّنَةَ الْمُبِيعَةَ جُزَافًا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ وَلَا يُجَوِّزُونَ لِلْمُشْتَرِي بَيْعَهَا حَتَّى يَنْقُلَهَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنُ عُمَرَ رَوَى الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا. قَالَ مِنْ السُّنَّةِ: أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ مِلْكِ الْمُبْتَاعِ وَقَالَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ: {كُنَّا نَبْتَاعُ الطَّعَامَ جُزَافًا فَنُهِينَا أَنْ نَبِيعَهُ فِي مَكَانِهِ حَتَّى نَنْقُلَهُ إلَى رِحَالِنَا} فَقَدْ جَازَ التَّصَرُّفُ حَيْثُ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا فِي الثِّمَارِ وَمَنْعُ التَّصَرُّفِ حَيْثُ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي كَالصُّبْرَةِ مِنْ الطَّعَامِ فَثَبَتَ عَدَمُ التَّلَازُمِ بَيْنَهُمَا. وَمِنْ حُجَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا دَخَلَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِدَلِيلِ الْمَقْبُوضِ قَبْضًا فَاسِدًا وَالْمَقْبُوضِ فِي قَبْضٍ فَاسِدٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَوْ اشْتَرَى قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ أَوْ رِطْلًا مِنْ زُبْرَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُشْتَرَطُ فِي إقْبَاضِهِ الْكَيْلُ أَوْ الْوَزْنُ: فَقَبَضَ الصُّبْرَةَ كُلَّهَا أَوْ الزُّبْرَةَ كُلَّهَا فَإِنَّ هَذَا قَبْضٌ فَاسِدٌ لَا يُبِيحُ لَهُ التَّصَرُّفُ إلَّا بِتَمَيُّزِ مِلْكِهِ

ص: 400

عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ؛ وَمَعَ هَذَا فَلَوْ تَلِفَتْ تَحْتَ يَدِهِ كَانَتْ مَضْمُونَةً. وَأَيْضًا فَلَيْسَ الْمُشْتَرِي مَمْنُوعًا مِنْ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ؛ بَلْ السُّنَّةُ إنَّمَا جَاءَتْ فِي الْبَيْعِ خَاصَّةً وَلَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدُ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَقَدْ صَحَّ إجْمَاعًا. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْهِبَةِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي غَلَّةِ الطَّعَامِ الْمَبِيعِ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ قَبْضِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ فِي النُّصُوصِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي تَفْرِيعِ هَذَا الْأَصْلِ. وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ تُوَافِقُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَى شَخْصٍ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ: كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَارِيَةِ. وَلَيْسَ كُلُّ مَا جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُتَصَرِّفِ؛ كَالْمَالِكِ: لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُعَارِ فَيَبِيعُ الْمَغْصُوبَ مِنْ غَاصِبِهِ وَمِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى تَخْلِيصِهِ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ كَمَا أَنَّ الضَّمَانَ بِالْخَرَاجِ فَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا اُتُّفِقَ مِلْكًا وَيَدًا. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمِلْكُ لِشَخْصٍ وَالْيَدُ لِآخَرَ؛ فَقَدْ يَكُونُ الْخَرَاجُ لِلْمَالِكِ وَالضَّمَانُ عَلَى الْقَابِضِ. وَأَيْضًا فَبَيْعُ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَعِنْدَ مَالِكٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ عَلَيْهِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد؛ مَعَ أَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ مَضْمُونًا عَلَى الْمَالِكِ. وَأَيْضًا فَالْبَائِعُ إذَا مَكَّنَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْقَبْضِ: فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ؛

ص: 401

وَإِنَّمَا الْمُشْتَرِي هُوَ الْمُفَرِّطُ بِتَرْكِ الْقَبْضِ فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْ الْقَبْضِ: بِأَنْ لَا يُوَفِّيَهُ التَّوْفِيَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ؛ فَلَا يَكِيلُهُ وَلَا يَزِنُهُ وَلَا يَعُدُّهُ فَإِنَّهُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يُوَفِّهِ إيَّاهُ مِنْ الدَّيْنِ. وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ الْبَائِعُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّوْفِيَةِ؛ كَانَ هُوَ الْمُفْرِطَ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ؛ إذْ التَّفْرِيطُ يُنَاسِبُ الضَّمَانَ. وَأَمَّا حِلُّ التَّصَرُّفِ وَحُرْمَتِهِ فَلَهُ أَسْبَابٌ أُخَرُ: فَقَدْ يَكُونُ السَّبَبُ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّسْلِيمِ حَتَّى لَا يُشَابِهَ بَيْعَ الْغَرَرِ. وَإِذَا لَمْ يَنْقُلْهُ مِنْ مَكَانِهِ: فَقَدْ يُنْكِرُ الْبَائِعُ الْبَيْعَ وَيُفْضِي إلَى النِّزَاعِ. وَقَدْ لَا يُمَكِّنُهُ الْبَائِعُ مِنْ التَّسْلِيمِ كَمَا اشْتَرَطَ فِي الرَّهْنِ الْقَبْضَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ الْمَرْهُونِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْ الرَّاهِنِ. وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ بِأَنْ يَكُونَ قَابِضًا لِلرَّهْنِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِيَدِ الرَّاهِنِ فَإِنَّهُ يَحُولُ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعُقُودِ هُوَ التَّقَابُضُ وَبِالْقَبْضِ يَتِمُّ الْعَقْدُ وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ؛ وَلِهَذَا إذَا أَسْلَمَ الْكُفَّارُ وَتَحَاكَمُوا إلَيْنَا وَقَدْ تَعَاقَدُوا عُقُودًا يُجَوِّزُونَهَا وتقابضوها: لَمْ نَفْسَخْهَا؛ وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّقَابُضِ نَقَضْنَاهَا؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى الْإِذْنِ بَعْدَ الِاسْمِ فِي قَبْضٍ مُحَرَّمٍ. فَالْبَيْعُ قَبْلَ قَبْضِهِ لَمْ يَتِمَّ مِلْكُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ؛

ص: 402

بَلْ هُوَ يَتَعَرَّضُ لِلْآفَاتِ شَرْعًا وَكَوْنًا فَكَانَ بَيْعُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ جِنْسِ بَيْعِ الْغَرَرِ؛ وَلِهَذَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَغَانِمِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ؛ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْقَبْضِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ الْحَدِيثَ مُتَنَاوِلًا لِلدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَيَجْعَلُ التَّسْلِيمَ مُسْتَثْنًى مِنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَخُصُّهُ بِالْعَيْنِ وَيُفَسِّرُهُ بِبَيْعِ عَيْنٍ لَمْ يَمْلِكْهَا وَيَجْعَلُ مَعْنَى " مَا لَيْسَ عِنْدَك ": مَا لَيْسَ فِي مِلْكِك. وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْمِلْكِ وَالْيَدِ جَمِيعًا أَوْ يَشْتَرِطُ فِي الْمَبِيعِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا مَقْبُوضًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَمْلُوكِ الَّذِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَسْلِيمِهِ وَهُوَ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ: كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْفَرَسِ الشَّارِدِ. وَهَذَا حُجَّةُ مَنْ مَنَعَ بَيْعَ الدَّيْنِ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ. قَالَ: لِأَنَّهُ غَرَرٌ لَيْسَ بِمَقْبُوضِ. وَمَنْ جَوَّزَهُ قَالَ: بَيْعُهُ كَالْحَوَالَةِ عَلَيْهِ وَكَبَيْعِ الْمُودَعِ وَالْمُعَارِ فَإِنَّهُ مَقْبُوضٌ حُكْمًا؛ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا بَيْعَ الثِّمَارِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى ثَمَرَةً بَادِيَةَ الصَّلَاحِ وَقَبَضَ ثَمَنَهَا فَإِنَّهَا تَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْقَبْضَ إلَى كَمَالِ الْجُذَاذِ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ جُذَاذِهَا وَلَكِنْ جَازَ تَمَكُّنُهُ مِنْهَا إذَا خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا: بِجَعْلِ التَّصَرُّفِ. وَقَبْضِهَا التَّخْلِيَةَ وَجَعَلَ فِي الضَّمَانِ قَبْضَهَا التَّمَكُّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ. وَلِغُمُوضِ مَأْخَذِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَثُرَ تَنَازُعُ الْفُقَهَاءِ فِيهَا وَلَمْ يَطَّرِدْ إلَى التَّوَهُّمِ فِيهَا قِيَاسٌ كَمَا تَرَاهُ.

ص: 403

وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَلْحَظُ فِيهَا مَعْنًى؛ بَلْ يَتَمَسَّكُ فِيهَا بِظَاهِرِ النُّصُوصِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ يَتَنَاقَضُ فِيهَا؛ لَكِنْ قَدْ جُعِلَ عَلَى حَمْلِ الْمَذَاهِبِ فِيهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى صُبْرَةً مُجَازَفَةً ثُمَّ تَلِفَتْ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِهَا ثُمَّ بَاعَهَا قَبْلَ قَبْضِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ تَلَفَهَا. فَإِذَا قُلْنَا: إنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهَا قَبْلَ قَبْضِهَا. فَتَلِفَتْ. فَهَلْ هِيَ مِنْ مَالِهِ؟ أَوْ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ؟ وَهَلْ ذَكَرَ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ إذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَتَلِفَتْ يَكُونُ ضَامِنًا لَهَا أَوْ أَنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ وَالضَّمَانِ مُتَلَازِمَانِ طَرْدًا وَعَكْسًا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ اللَّه، أَمَّا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ إذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ وَقْتَ الْعَقْدِ سَوَاءٌ بَاعَهَا بِالصِّفَةِ أَوْ بِغَيْرِ الصِّفَةِ أَوْ بَاعَهَا بِرُؤْيَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى الْعَقْدِ؛ بَلْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ لَوْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ وُجُودِهَا عَلَى الصِّفَةِ أَوْ الرُّؤْيَةِ الْأُولَى لَا يُفْسَخُ الْبَيْعُ. فَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ تَالِفَةً حِينَ الْعَقْدِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ بِلَا رَيْبٍ. وَأَمَّا ضَمَانُهَا فَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد أَنَّ التَّلَفَ مِنْ ضَمَانِ

ص: 404

الْمُشْتَرِي؛ لِمَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ حَدِيثِ الأوزاعي عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " مَضَتْ السُّنَّةُ إنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي " إذْ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ مَا كَانَ مُتَعَيَّنًا بِالْعَقْدِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَوْفِيَةٍ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ وَنَحْوِهِمَا؛ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمُشْتَرِي قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ قَبْضِهِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ: قَبَضَهُ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ. وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ: فَإِنَّهَا مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد وَاخْتَارَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ؛ لَكِنَّ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ مُتَنَوِّعٌ. فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَدْخُلُ الْمَبِيعُ كُلُّهُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي إلَّا بِالْقَبْضِ؛ إلَّا الْعَقَارَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْعَقَارُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد. وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَةٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَغَيْرِهِمَا. وَرِوَايَةٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ. وَرِوَايَةٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَطْعُومِ: الْمَكِيلِ الْمَوْزُونِ وَغَيْرِهِ. وَهَذَا فِي الْقَبْضِ عَنْهُ كَالرِّوَايَاتِ فِي الرِّبَا.

ص: 405

وَقَالَ رحمه الله:

‌فَصْلٌ: فِي الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ

أَصْلُهُ أَنَّ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ يُوجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ مِثْلُ مَا يُوجِبُ التَّقَابُضَ: فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ اللَّازِمَةِ فَإِنَّ لُزُومَهَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوَفَاءِ بِهَا وَتَحْرِيمَ نَقْضِهَا. وَأَمَّا " الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ " مِنْ الْوِكَالَاتِ بِأَنْوَاعِهَا وَالْمُشَارَكَاتِ بِأَصْنَافِهَا فَإِنَّهَا لَا تُوجِبُ الْوَفَاءَ مُطْلَقًا؛ إذْ الْعَقْدُ لَيْسَ بِلَازِمٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ بَلْ هُوَ جَائِزٌ مُبَاحٌ وَصَاحِبُهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إمْضَائِهِ وَفَسْخِهِ وَإِذَا فَسَخَهُ كَانَ نَقْضًا لَهُ؛ لَكِنْ مَا دَامَ الْعَقْدُ مَوْجُودًا فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمُوجِبِهِ مِنْ حِفْظِ الْمَالِ؛ فَإِنَّهُ عَقْدُ أَمَانَةٍ. وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْعُدْوَانِ كَالْخِيَانَةِ فَذَاكَ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ إذْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْعُدْوَانُ فِي مَالِ مَنْ ائْتَمَنَهُ وَغَيْرِهِ؛ لَكِنَّ الْعَقْدَ أَوْجَبَ ذَلِكَ أَيْضًا وَزَادَهُ تَوْكِيدًا.

ص: 406

وَأَمَّا وُجُوبُ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْعَامِلُ: فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ إذَا تَرَكَ التَّصَرُّفَ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ: مُفَرِّطًا فَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَمَا دَامَ مَوْجُودًا فَلَهُ مُوجِبَانِ: الْحِفْظُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ وَالتَّصَرُّفُ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ. وَهَذَا قِيَاسُ مَذْهَبِنَا؛ لِأَنَّا نُوجِبُ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ بِالْبَيْعِ وَالْعِمَارَةِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْآخَرُ فِي الْعُرْفِ: مِثْلُ عِمَارَةِ مَا استهدم. هَذَا فِي شَرِكَةِ الْأَمْلَاكِ فَكَذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْعُقُودِ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَهَا هُوَ التَّصَرُّفُ. فَتَرْكُ التَّصَرُّفِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِنْ تَرْكِ عِمَارَةِ الْمَكَانِ المستهدم فِي شَرِكَةِ الْأَمْلَاكِ. وَمَنْ تَرَكَ بَيْعَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ يُمْكِنُ الشَّرِيكَ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ وَهُنَا غَرَّهُ وَضَيَّعَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ مَالِهِ فَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا لَمْ يَثْبُتْ جَمِيعُ مُقْتَضَاهُ مِنْ وُجُوبِ التَّقَابُضِ وَالتَّصَرُّفِ وَحِلِّ التَّصَرُّفِ وَالِانْتِفَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ فَهُوَ قَبْضٌ مَأْذُونٌ فِيهِ بِعَقْدِ فَلَيْسَ مِثْلُ قَبْضِ الْغَاصِبِ الَّذِي هُوَ بِغَيْرِ إذْنٍ؟ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: مَا ضُمِنَ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ ضُمِنَ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَالْمَبِيعِ وَالْمُؤَجَّرِ. وَمَا لَمْ يُضْمَنْ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَا يُضْمَنُ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَالْأَمَانَاتِ: مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِوُجُودِ الْإِذْنِ. وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي حُصُولِ الْمِلْكِ بِالْقَبْضِ فِيهِ وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ

ص: 407

مِنْ الْعِوَضِ هَلْ هُوَ الْمُسَمَّى. أَوْ عِوَضُ الْمِثْلِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ قَبْضٌ بِغَيْرِ إذْن الْمَالِكِ وَهَذَا قَبْضٌ بِإِذْنِ الْمَالِكِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا قَبْضٌ اقْتَضَاهُ عَقْدٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَسَادٌ وَذَاكَ قَبْضٌ لَمْ يَقْتَضِهِ عَقْدٌ بِحَالِ؛ وَلِهَذَا نُوجِبُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَفِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ وَنَحْوِهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ بِهِ مَوْجُودًا وَأَرَادَ الرَّدَّ رَدَّهُ وَإِنْ كَانَ فَائِتًا رَدَّ مِثْلَهُ إذَا أَمْكَنَ. فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ أَوْ الْمِثْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّ عِوَضٍ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ بَلْ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ وَمِثْلُ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ بِالْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ وَمِثْلُ عَمَلِ الْعَامِلِ فِي الْمُشَارَكَةِ الْفَاسِدَةِ: مِنْ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهَا. فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يُوجِبُ رَدَّ الْقِيمَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ رَدَّ الْعَيْنَ أَوْ الْمَنْفَعَةَ وَقَدْ تَعَذَّرَ عَيْنُهُ وَمِثْلُهُ فَيُنْقَلُ إلَى الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ ضُمِّنَتْ بِالْإِتْلَافِ أَوْ الْغَصْبِ. وَطَرَدَ الشَّافِعِيُّ هَذَا فِي الْمُسَمَّى الْفَاسِدِ فِي النِّكَاحِ وَالْمَغْصُوبِ: فَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ رَدُّ الْبُضْعِ لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُ رَدَّ بَدَلَهُ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَخَالَفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ.

ص: 408

وَالْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ أَوْجَبُوا بَدَلَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى مِثْلُهُ أَوْ قِيمَتُهُ؛ لَا بَدَلَ الْبُضْعِ وَهُوَ الصَّوَابُ قَطْعًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ هُنَا لَمْ يَفْسُدْ فَلَمْ يَجِبْ رَدُّ الْمُسْتَحِقِّ بِهِ وَهُوَ الْبُضْعُ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ رَدُّ الْبُضْعِ لَمْ يَجِبْ رَدُّ بَدَلِهِ؛ بَلْ الْوَاجِبُ هُوَ إعْطَاءُ الْمُسَمَّى إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَبَدَلُهُ فَكَانَ بَدَلُ الْمُسَمَّى هُوَ الْوَاجِبُ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى مَا تَرَاضَوْا بِهِ مِنْ بَدَلِ الْبُضْعِ وَفِي سَائِرِ الْعُقُودِ إذَا فَسَدَتْ تُوجِبُ رَدَّ الْعَيْنِ أَوْ بَدَلَهَا. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَد أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمُشَارَكَةِ - مِثْلُ الْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهَا - الْمُسَمَّى أَيْضًا: كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى. بَلْ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْفَاسِدِ قِيمَةُ الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَوْ أَمْكَنَ رَدُّهَا أَوْ رَدُّ مِثْلِهَا لَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ؛ لَأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا انْتَفَى وَجَبَ إعَادَةُ كُلِّ حَقٍّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَالْمِثْلُ يَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ. أَمَّا إذَا كَانَ الْحَقُّ قَدْ فَاتَ مِثْلُ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالْعَمَلِ فِي الْمُؤَاجَرَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالْغَبْنِ فِي الْمَبِيعِ: فَالْقِيمَةُ لَيْسَتْ مِثْلًا لَهُ. وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ: كَالْمُتْلَفِ وَالْمَغْصُوبِ الَّذِي تَعَذَّرَ مِثْلُهُ؛ لِلضَّرُورَةِ؛ إذْ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يُوجَدُ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِنْ الْقِيمَةِ فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْعَدْلُ الْمُمْكِنُ كَمَا قُلْنَا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ

ص: 409

وَدِيَةِ الْخَطَأِ وَأَرْشِ الْجِرَاحِ. وَاعْتَبَرْنَا الْقِيمَةَ بِتَقْوِيمِ النَّاسِ؛ إذْ لَيْسَ هُنَاكَ مُتَعَاقِدَانِ تَرَاضَيَا بِشَيْءِ. وَأَمَّا هُنَا فَقَدْ تَرَاضَيَا بِأَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ وَالنَّاسُ يَرْضَوْنَ لَهَا بِبَدَلٍ آخَرَ فَكَانَ اعْتِبَارُ تَرَاضِيهِمَا أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ رِضَا النَّاسِ. فَإِنْ قِيلَ: هُمَا إنَّمَا تَرَاضَيَا بِهَذَا الْبَدَلِ فِي ضِمْنِ صِحَّةِ الْعَقْدِ؛ وَوُجُوبِ مُوجِبَاتِهِ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ هُنَا؟ قِيلَ: وَالنَّاسُ إنَّمَا يَجْعَلُونَ هَذَا قِيمَةً فِي ضِمْنِ عَقْدٍ صَحِيحٍ لَهُ مُوجِبَاتُهُ فَلَمَّا تَعَذَّرَ الْعَقْدُ هُنَا قَدَّرْنَا وُجُودَ عَقْدٍ يُعْرَفُ بِهِ الْبَدَلُ الْوَاجِبُ فِيهِ فَتَقْدِيرُ عَقْدِهِمَا الَّذِي عَقَدَاهُ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِ مَا لَمْ يُوجَدْ بِحَالِ وَلَا رَضِيَا بِهِ وَلَمْ يَعْقِدْهُ غَيْرُهُمَا. فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيرِ وَالتَّقْرِيبِ فَمَا كَانَ أَشْبَهَ بِالْوَاقِعِ كَانَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيرِ وَأَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ إيجَابَ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إنَّمَا هُوَ شَبِيهٌ لَهَا بِمَنْ يَتَزَوَّجُ مِنْ أَمْثَالِهَا نِكَاحًا صَحِيحًا لَازِمًا فَتَحْتَاجُ فِيهِ إلَى شَيْئَيْنِ: إلَى تَقْدِيرِ مِثْلِهَا وَتَقْدِيرِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فِيهِ مُسَمًّى. فَقِسْنَاهَا عَلَى أَمْثَالِهَا وَقِسْنَا فَاسِدَهَا عَلَى صَحِيحِ أُولَئِكَ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْمُسَمَّى فِي الْفَاسِدِ قِسْنَا فَاسِدَهَا بِصَحِيحِهَا وَهِيَ إلَى نَفْسِهَا أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهَا إلَيْهَا. ثُمَّ عَقْدُهُمَا الْفَاسِدُ وَعَقْدُهُمَا الصَّحِيحُ أَقْرَبُ مِنْ عَقْدِهِمَا الْفَاسِدِ إلَى عَقْدِ غَيْرِهِمَا الصَّحِيحِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ وَطِئَ بِشُبْهَةٍ بِلَا نِكَاحٍ فَهُنَا يُوجِبُ مَهْرَ مِثْلِهَا.

ص: 410

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

فَصْلٌ: قَاعِدَةٌ فِي الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ.

وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ يَعْتَقِدُ الْفَسَادَ وَيَعْلَمُهُ أَوْ لَا يَعْتَقِدُ الْفَسَادَ. فَالْأَوَّلُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ؛ حَيْثُ قَبَضَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ؛ لَكِنَّهُ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ وَكَوْنِ الْقَبْضَ عَنْ التَّرَاضِي هَلْ يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ أَوْ لَا يَمْلِكُهُ؟ أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ أَوْ لَا يَتَصَرَّفُ؟ هَذَا فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي الْمِلْكِ. هَلْ يَحْصُلُ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ؟ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْعَاقِدُ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ الْعَقْدِ: مِثْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا يَتَعَاقَدُونَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ؛ مِثْلُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالرِّبَا وَالْخِنْزِيرِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ إذَا اتَّصَلَ بِهَا الْقَبْضُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالتَّحَاكُمِ إلَيْنَا أُمْضِيَتْ لَهُمْ وَيَمْلِكُونَ مَا قَبَضُوهُ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ

ص: 411

مُؤْمِنِينَ} فَأَمَرَ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ. وَإِنْ أَسْلَمُوا أَوْ تَحَاكَمُوا قَبْلَ الْقَبْضِ فُسِخَ الْعَقْدُ وَوَجَبَ رَدُّ الْمَالِ إنْ كَانَ بَاقِيًا أَوْ بَدَلُهُ إنْ كَانَ فَائِتًا. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَدِّ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا فِي الذِّمَمِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّ مَا قَبَضُوهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَجَعَلَ لَهُمْ مَعَ مَا قَبَضُوهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ رُءُوسَ الْأَمْوَالِ. فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِهَذَا الْعَقْدِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ يَمْلِكُهُ صَاحِبُهُ أَمَّا إذَا طَرَأَ الْإِسْلَامُ وَبَيْنَهُمَا عَقْدُ رِبًا فَيَنْفَسِخُ وَإِذَا انْفَسَخَ مِنْ حِينِ الْإِسْلَامِ اسْتَحَقَّ صَاحِبُهُ مَا أَعْطَاهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الزِّيَادَةَ الرِّبَوِيَّةَ الَّتِي لَمْ تُقْبَضْ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مَا قَبَضَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ وَذَلِكَ الْعَقْدُ أَوْجَبَ ذَلِكَ الْقَبْضَ فَلَوْ أَوْجَبْنَاهُ عَلَيْهِ لَكُنَّا قَدْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ رَدَّهُ وَحَاسَبْنَاهُ بِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي اسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ وَذَلِكَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ. وَهَكَذَا كُلُّ عَقْدٍ اعْتَقَدَ الْمُسْلِمُ صِحَّتَهُ بِتَأْوِيلٍ مِنْ اجْتِهَادٍ أَوْ تَقْرِيرٍ: مِثْلُ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي يُبِيحُهَا مُجَوِّزُو الْحِيَلِ. وَمِثْلُ بَيْعِ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ. وَمِثْلُ بُيُوعِ الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ بَعْضَهَا؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ إذَا حَصَلَ فِيهَا التَّقَابُضُ مَعَ اعْتِقَادِ الصِّحَّةِ

ص: 412

لَمْ تُنْقَضْ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لَا بِحُكْمِ وَلَا بِرُجُوعٍ عَنْ ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا إذَا تَحَاكَمَ الْمُتَعَاقِدَانِ إلَى مَنْ يَعْلَمُ بُطْلَانَهَا قَبْلَ التَّقَابُضِ أَوْ اسْتَفْتَيَاهُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُمَا الْخَطَأُ فَرَجَعَ عَنْ الرَّأْيِ الْأَوَّلِ فَمَا كَانَ قَدْ قُبِضَ بِالِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ أُمْضِيَ. وَإِذَا كَانَ قَدْ بَقِيَ فِي الذِّمَّةِ رَأْسُ الْمَالِ وَزِيَادَةٌ رِبَوِيَّةٌ: أُسْقِطَتْ الزِّيَادَةُ وَرَجَعَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ. وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْقَابِضِ رَدُّ مَا قَبَضَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِالِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَوْلَى لِأَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ بَاطِلٌ قَطْعًا.

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

فَصْلٌ:

إذَا كَانَ إيجَابُ الْمُسَمَّى أَوْ مِثْلُهُ أَقْرَبَ إلَى التَّسْوِيَةِ فِي الْفَاسِدِ الَّذِي يَتَعَذَّرُ رَدُّهُ: رَدَّ الْمَقْبُوضَ أَوْ مِثْلَهُ مِنْ إيجَابِ مِثْلِ الْعِوَضِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ عَلَى مِثَالِ هَذَا الْمَضْمُونِ. فَنَقُولُ: الْمِثْلُ مِنْ فَاسِدٍ فَسَدَ مِثْلُهُ فَلَيْسَ الْمُؤَجَّلُ مِثْلَ الْحَالِّ وَلَا أَحَدُ النَّوْعَيْنِ مِثْلَ الْآخَرِ فَلَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ فِي شَيْءٍ سَلَمًا وَلَمْ

ص: 413

يَتَغَيَّرْ سِعْرُهُ وَقُلْنَا: هُوَ سَلَمٌ. فَإِنْ رَدَّ إلَيْهِ رَأْسَ مَالِهِ فِي الْحَالِ أَوْ مِثْلَهُ فَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ. وَأَمَّا إذَا أَخَّرَهُ إلَى حِينِ حُلُولِ السَّلَمِ ثُمَّ أَرَادَ رَدَّ مِثْلِ رَأْسِ مَالِهِ: فَلَيْسَ هَذَا مِثْلًا لَهُ. فَإِذَا أَوْجَبْنَا الْمُسْلَمَ فِيهِ بِقِيمَتِهِ وَقْتَ الْإِسْلَافِ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْعَدْلِ فَإِنَّهُمَا تَرَاضَيَا أَنْ يَأْخُذَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَا مِنْ غَيْرِهِ؛ لَكِنْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى الْقَدْرِ فَرَدُّهُمَا إلَى الْقِيمَةِ الْعَادِلَةِ هُوَ الْوَاجِبُ بِالْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُثَمَّنِ. وَلَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً لَمْ يَقْطَعْ فِيهَا وَقُلْنَا هُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ وَمِثْلِهَا: رُدَّتْ الْقِيمَةُ بِالسِّعْرِ وَقْتَ الْقَبْضِ فَكَمَا أَوْجَبْنَا هُنَا قِيمَةَ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْعِوَضِ نُوجِبُ هُنَاكَ قِيمَةَ الْمَقْبُوضِ مِنْ الدَّرَاهِمِ. وَنَظِيرُهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا لَمْ يُقْطَعْ ثَمَنُهُ؛ لَكِنَّهُ مُؤَجَّلٌ إلَى حَوْلٍ فَحِينَ يَحِلُّ الْأَجَلُ إنْ رَدَّ حِنْطَةً مِثْلًا لَمْ يَكُنْ مِثْلًا لِتِلْكَ الْمَقْبُوضَةِ؛ لِاخْتِلَافِ الْقِيمَةِ فَإِعْطَاءُ قِيمَةِ الْمَقْبُوضِ وَقْتَ قَبْضِ السِّلْعَةِ مُؤَجَّلًا إلَى حِينِ قَبْضِ الثَّمَنِ أَشْبَهُ بِالْعَدْلِ. فَهَذَا فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ سَوَاءٌ. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ وَتَرَاضَيَا بِهِ؛ كَانَ أَوْلَى بِالِاسْتِحْقَاقِ مِمَّا لَمْ يَتَعَاقَدَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَرَاضَيَا بِهِ وَأَنَّ

ص: 414

الْمَضْمُونَ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ بِالْقِيمَةِ لَا بِالْعُقُودِ فَتَقْدِيرُ الْمَضْمُونِ بِذَلِكَ الْعَقْدِ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِهِ بِالْمَضْمُونِ بِعَقْدٍ آخَرَ؛ لَكِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ " مَسْأَلَةُ الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ " مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْعَارِ يُؤَثِّرُ فِي التَّمَاثُلِ وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ عَاقَدَ رَجُلًا بِثَغْرِ الإسكندرية عَلَى غَلَّةٍ ذَكَرَ أَنَّهَا مُودَعَةٌ فِي نَاحِيَةٍ بِبَيْرُوتَ وَأَعْطَاهُ الثَّمَنَ وَأَرْسَلَ وَكِيلَهُ لِيُسَلِّمَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي فَلَمْ يَجِدْ الْغَلَّةَ؛ بَلْ وَجَدَهَا تَحْتَ الْحَوْطَةِ كُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَشْهَدَ الْمُشْتَرِي عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ تَسَلَّمَ الْغَلَّةَ الْمَذْكُورَةَ. فَهَلْ يَجُوزُ لِهَذَا الْبَائِعِ تَأْخِيرُ مَا قَبَضَهُ مِنْ الثَّمَنِ؟ وَهَلْ لَهُ فِي ذَلِكَ شُبْهَةٌ وَيُعْطِي الْبَائِعَ بِتَأْخِيرِ الثَّمَنِ عَمَّنْ سَلَّمَهُ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَبِيعَ الْغَائِبَ أَوْ وَجَدَهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ قَبْضِهِ فَلَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ إنْ كَانَتْ الْعَيْنُ مَغْصُوبَةً. وَإِنْ تَلِفَتْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَوَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الثَّمَنَ إذَا طَلَبَهُ الْمُشْتَرِي وَلَا يَنْفَعُهُ إشْهَادُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ إذَا كَانَ قَدْ أَشْهَدَ

ص: 415

قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالْإِقْرَارِ وَكَانَ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا: فَلَهُ تَحْلِيفُ الْبَائِعِ أَنَّ بَاطِنَ الْإِقْرَارِ كَظَاهِرِهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا إذَا عَلِمَ كَذِبَ الْإِقْرَارِ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْإِقْرَارُ كُلُّهُ - إذَا صَحَّ بَيْعُ الْغَائِبِ بِأَنْ يَبِيعَهُ بِالصِّفَةِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ. وَأَمَّا مَنْ أَبْطَلَ بَيْعَهُ مُطْلَقًا كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُصَحِّحُهُ مُطْلَقًا وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ؛ لَكِنْ لَهُ الْخِيَارُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ بِكُلِّ حَالٍ وَبِكُلِّ حَالٍ فَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَلَى الْبَائِعِ دَفْعَ الثَّمَنِ إذَا طَلَبَهُ الْمُشْتَرِي وَالْحَالَةُ هَذِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَمَّنْ بَاعَ بَيْعًا وَجَحَدَ الْبَيْعَ وَأَشْهَدَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْفَسْخِ فَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ:

إذَا جَحَدَ الْبَيْعَ وَفَسَخَهُ الْمُشْتَرِي كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ إلْزَامُ الْمُشْتَرِي ثَانِيًا بِالْقَبْضِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 416

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى مِلْكًا بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ. وَدَفَعَ الثَّمَنَ بِمَحْضَرِ شُهُودِ كِتَابِ التَّبَايُعِ وَثَبَتَ الْكِتَابُ وَحَكَمَ بِهِ حُكَّامُ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةُ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمِلْكَ الْمُشْتَرَى مُسْتَحِقٌّ غَيْرُ الْبَائِعِ وَأَثْبَتَ اسْتِحْقَاقَهُ بِذَلِكَ الشَّرْعِ وَرَفَعَ يَدَ الْمُشْتَرِي عَمَّا اشْتَرَاهُ مِنْهُ وَالرَّجُلُ يَوْمَئِذٍ غَائِبٌ فَوْقَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَلَهُ أَمْلَاكٌ حَاضِرَةٌ وَأَمْوَالٌ. فَهَلْ إذَا طَلَبَ الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ مِنْ الْحَاكِمِ الَّذِي بِبَلَدِ الْمُشْتَرِي الَّذِي حَكَمَ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ بِنَظِيرِ مَا قَبَضَ الْغَائِبُ مِنْ الرَّجُلِ الْمُشْتَرِي مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ يُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَعَمْ إذَا ظَهَرَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى مَنْ قَبَضَهُ مِنْهُ أَوْ بِبَدَلِهِ. فَإِذَا كَانَ الْقَابِضُ مِنْهُ غَائِبًا حُكِمَ عَلَيْهِ إذَا قَامَتْ الْحُجَّةُ وَسَلَّمَ إلَى الْمَحْكُومِ لَهُ حَقَّهُ مِنْ مَالِ الْغَائِبِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى حُجَّتِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 417

‌بَابُ الرِّبَا

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

عَنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا وَمَا يُفْعَلُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ النَّاسِ الْيَوْمَ؛ لِيَتَوَصَّلُوا بِهَا إلَى الرِّبَا وَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ يَكُونُ الْمَدْيُونُ مُعْسِرًا فَيَقْلِبُ الدَّيْنَ فِي مُعَامَلَةٍ أُخْرَى بِزِيَادَةِ مَالٍ وَمَا يَلْزَمُ وُلَاةُ الْأُمُورِ فِي هَذَا وَهَلْ يُرَدُّ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ رَأْسُ مَالِهِ دُونَ مَا زَادَ فِي مُعَامَلَةِ الرِّبَا؟

فَأَجَابَ:

الْمُرَابَاةُ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ {لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ. وَلَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. فَالِاثْنَانِ مَلْعُونَانِ. وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الرِّبَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ: أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ الْمَالُ الْمُؤَجَّلُ فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ قَالَ لَهُ: أَتَقْضِي؟ أَمْ تُرْبِي؟ . فَإِنْ وَفَّاهُ وَإِلَّا زَادَ هَذَا فِي الْأَجَلِ وَزَادَ هَذَا فِي الْمَالِ فَيَتَضَاعَفُ الْمَالُ.

ص: 418

وَالْأَصْلُ وَاحِدٌ. وَهَذَا الرِّبَا حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا إذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ وَلَكِنْ تَوَسَّلُوا بِمُعَامَلَةٍ أُخْرَى؛ فَهَذَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ أَنَّ هَذَا مَحْرَمٌ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَالْآثَارُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ. وَاَللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ الرِّبَا لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْمُحْتَاجِينَ وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ. وَأَمَّا إذَا حَلَّ الدَّيْنُ وَكَانَ الْغَرِيمُ مُعْسِرًا: لَمْ يَجُزْ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْلِبَ بِالْقَلْبِ لَا بِمُعَامَلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا؛ بَلْ يَجِبُ إنْظَارُهُ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا كَانَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَلْبِ لَا مَعَ يَسَارِهِ وَلَا مَعَ إعْسَارِهِ. وَالْوَاجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ بَعْدَ تَعْزِيرِ الْمُتَعَامِلِينَ بِالْمُعَامَلَةِ الرِّبَوِيَّةِ: بِأَنْ يَأْمُرُوا الْمَدِينَ أَنْ يُؤَدِّيَ رَأْسَ الْمَالِ. وَيُسْقِطُوا الزِّيَادَةَ الرِّبَوِيَّةَ فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا وَلَهُ مُغَلَّاتٌ يُوَفَّى مِنْهَا وَفِي دِينِهِ مِنْهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 419

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

‌فَصْلٌ: فِيمَنْ أَوْقَعَ الْعُقُودَ الْمُحَرَّمَةَ ثُمَّ تَابَ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الرِّبَا: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْخُلْعَ وَالطَّلَاقَ فَقَالَ فِي الْخُلْعِ: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ

ص: 420

حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} . فَالطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ: كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَفِي طُهْرٍ قَدْ أَصَابَهَا فِيهِ. حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَكَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ وَفَاعِلُهُ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} . وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ إذَا تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} فَهُوَ إذَا اسْتَغْفَرَهُ غَفَرَ لَهُ وَرَحِمَهُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ الْمُتَّقِينَ. فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} . وَاَلَّذِينَ أَلْزَمَهُمْ عُمَرُ وَمَنْ وَافَقَهُ بِالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ كَانُوا عَالِمِينَ بِالتَّحْرِيمِ وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُتَّقِينَ فَهُمْ ظَالِمُونَ لِتَعَدِّيهِمْ الْحُدُودَ مُسْتَحِقُّونَ لِلْعُقُوبَةِ. وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِبَعْضِ الْمُسْتَفْتِينَ: إنَّ عَمَّك لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ فَرَجًا وَلَا مَخْرَجًا. وَلَوْ اتَّقَى اللَّهَ

ص: 421

لَجَعَلَ لَهُ فَرَجًا وَمُخْرَجًا. وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَفَعَلَهُ. فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْلَمُ بِالتَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فَإِنَّهُ إذَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ تَابَ مِنْ عَوْدِهِ إلَيْهِ وَالْتَزَمَ أَلَّا يَفْعَلَهُ. وَاَلَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْعَلُ ثَلَاثَتَهُمْ وَاحِدَةً فِي حَيَاتِهِ كَانُوا يَتُوبُونَ وَكَذَلِكَ مَنْ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ كَمَا طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ فَكَانُوا يَتُوبُونَ فَيَصِيرُونَ مُتَّقِينَ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . فَحَصَرَ الظُّلْمَ فِيمَنْ لَمْ يَتُبْ فَمَنْ تَابَ فَلَيْسَ بِظَالِمِ فَلَا يُجْعَلُ مُتَعَدِّيًا لِحُدُودِ اللَّهِ بَلْ وُجُودُ قَوْلِهِ كَعَدَمِهِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ. فَعُمَرُ عَاقَبَهُمْ بِالْإِلْزَامِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَحْلِيلٌ فَكَانُوا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ النِّسَاءَ يَحْرُمْنَ عَلَيْهِمْ لَا يَقَعُونَ فِي الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ فَانْكَفُّوا بِذَلِكَ عَنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ. فَإِذَا صَارُوا يُوقِعُونَ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ ثُمَّ يَرُدُّونَ النِّسَاءَ بِالتَّحْلِيلِ الْمُحَرَّمِ: صَارُوا يَفْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ مَرَّتَيْنِ وَيَتَعَدَّوْنَ حُدُودَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ؛ بَلْ ثَلَاثًا؛ بَلْ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ طَلَاقَ الْأَوَّلِ كَانَ تَعَدِّيًا لِحُدُودِ اللَّهِ وَذَلِكَ نِكَاحُ الْمُحَلَّلِ لَهَا وَوَطْؤُهُ لَهَا قَدْ صَارَ بِذَلِكَ مَلْعُونًا هُوَ

ص: 422

وَالزَّوْجُ الْأَوَّلُ. فَقَدْ تَعَدَّيَا حَدَّ اللَّهِ هَذَا مَرَّةً أُخْرَى وَذَاكَ مَرَّةً. وَالْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا لَمَّا عَلِمُوا بِذَلِكَ وَفَعَلُوهُ كَانُوا مُتَعَدِّينَ لِحُدُودِ اللَّهِ فَلَمْ يَحْصُلْ بِالِالْتِزَامِ فِي هَذِهِ الْحَالِ انْكِفَافٌ عَنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ؛ بَلْ زَادَ التَّعَدِّي لِحُدُودِ اللَّهِ فَتَرَكَ الْتِزَامَهُمْ بِذَلِكَ - وَإِنْ كَانُوا ظَالِمِينَ غَيْرَ تَائِبِينَ - خَيْرٌ مِنْ إلْزَامِهِمْ بِهِ. فَذَلِكَ الزِّنَا يَعُودُ إلَى تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَإِذَا قِيلَ: فَاَلَّذِي اسْتَفْتَى ابْنَ عَبَّاسٍ وَنَحْوَهُ لَوْ قِيلَ لَهُ: تُبْ. لَتَابَ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُفْتِي أَحْيَانًا بِتَرْكِ اللُّزُومِ كَمَا نَقَلَ عَنْهُ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ. وَعُمَرُ مَا كَانَ يَجْعَلُ الْخَلِيَّةَ وَالْبَرِيَّةَ إلَّا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً. وَلَمَّا قَالَ. قَالَ عُمَرُ (1): {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} . وَإِذَا كَانَ الْإِلْزَامُ عَامًّا ظَاهِرًا كَانَ تَخْصِيصُ الْبَعْضِ بِالْإِعَانَةِ نَقْضًا لِذَلِكَ وَلَمْ يُوثَقْ بِتَوْبَتِهِ. فَالْمَرَاتِبُ أَرْبَعَةٌ. أَمَّا إذَا كَانُوا يَتَّقُونَ اللَّهَ وَيَتُوبُونَ فَلَا رَيْبَ أَنَّ تَرْكَ الْإِلْزَامِ - كَمَا كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ - خَيْرٌ. وَإِنْ كَانُوا لَا يَنْتَهُونَ إلَّا بِإِلْزَامٍ فَيَنْتَهُونَ حِينَئِذٍ وَلَا يُوقِعُونَ الْمُحَرَّمَ

(1)

بياض بالأصل

قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 224):

يظهر أنه قد وقع اضطراب في هذا الموضع بسبب السقط، ولعل موضع البياض هو قصة عمر رضي الله عنه مع المطلب بن حنطب، وهي كما رواها عبد الرزاق (6/ 356) والبيهقي (7/ 343) وغيرهما:

(أن المطلب بن حنطب جاء عمر فقال إني قلت لامرأتي أنت طالق البتة قال عمر وما حملك على ذلك قال القدر قال فتلا عمر " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ " وتلا " وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ " هذه الآية، ثم قال الواحدة تبتا ارجع امرأتك هي واحدة).

ص: 423

وَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى تَحْلِيلٍ. فَهَذَا هُوَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي فَعَلَهَا فِيهِمْ عُمَرُ. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَحْتَاجُوا إلَى التَّحْلِيلِ الْمُحَرَّمِ فَهُنَا تَرْكُ الْإِلْزَامِ خَيْرٌ. وَالرَّابِعَةُ: أَنَّهُمْ لَا يَنْتَهُونَ بَلْ يُوقِعُونَ الْمُحَرَّمَ وَيُلْزِمُونَ بِهِ بِلَا تَحْلِيلٍ. فَهُنَا لَيْسَ فِي إلْزَامِهِمْ بِهِ فَائِدَةٌ إلَّا آصَارٌ وَأَغْلَالٌ لَمْ تُوجِبْ لَهُمْ تَقْوَى اللَّهِ وَحِفْظَ حُدُودِهِ؛ بَلْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ نِسَاؤُهُمْ وَخَرِبَتْ دِيَارُهُمْ فَقَطْ. وَالشَّارِعُ لَمْ يُشَرِّعْ مَا يُوجِبُ حُرْمَةَ النِّسَاءِ وَتَخْرِيبَ الدِّيَارِ؛ بَلْ تَرَكَ إلْزَامَهُمْ بِذَلِكَ أَقَلَّ فَسَادًا وَإِنْ كَانُوا أَذْنَبُوا فَهُمْ مُذْنِبُونَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ؛ لَكِنَّ تَخْرِيبَ الدِّيَارِ أَكْثَرُ فَسَادًا وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَأَمَّا تَرْكُ الْإِلْزَامِ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ أَذْنَبَ ذَنْبًا بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ. وَهَذَا أَقَلُّ فَسَادًا مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي قَصَدَ الشَّارِعُ دَفْعَهُ وَمَنْعَهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ.

وَسُئِلَ:

عَمَّا إذَا أَبْدَلَ قَمْحًا بِقَمْحِ؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا أَبْدَلَ قَمْحًا بِقَمْحِ كَيْلًا بِكَيْلِ مِثْلًا بِمِثْلِ: جَازَ. وَإِنْ كَانَ بِزِيَادَةٍ لَمْ يَجُزْ.

ص: 424

وَسُئِلَ:

عَنْ امْرَأَةٍ بَاعَتْ أَسْوِرَةَ ذَهَبٍ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ إلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ هَلْ يَجُوزُ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا بِيعَتْ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ بَلْ يَجِبُ رَدُّ الْأَسْوِرَةِ إنْ كَانَتْ بَاقِيَةً أَوْ رَدُّ بَدَلِهَا إنْ كَانَتْ فَائِتَةً. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْحِيَاصَةِ بِنَسِيئَةِ بِزَائِدٍ عَنْ ثَمَنِهَا؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا الْحِيَاصَةُ الَّتِي فِيهَا ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ فَلَا تُبَاعُ إلَى أَجَلٍ بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ؛ لَكِنْ تُبَاعُ بِعَرَضٍ إلَى أَجَلٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 425

وَسُئِلَ:

عَنْ حَدِيثِ: {رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا} فَمَا خَرْصُهَا؟ وَ {نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَالْمُحَفَّلَةِ} ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا " الْمُصَرَّاةُ وَالْمُحَفَّلَةُ " فَهِيَ الْبَهِيمَةُ - مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَغَيْرِهِمَا - تُتْرَكُ حَتَّى يَجْتَمِعَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهَا أَيَّامًا ثُمَّ تُبَاعُ يَظُنُّ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا تَحْلِبُ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ ذَلِكَ. فَهَذَا مِنْ التَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ وَقَدْ حَرَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُمُومًا وَخُصُوصًا وَجَعَلَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ ثَلَاثًا إذَا حَلَبَهَا؛ إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَرَدَّ عِوَضَ اللَّبَنِ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَجَعَلَ صلى الله عليه وسلم عِوَضَهُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. وَأَمَّا بَيْعُ الْغَرَرِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْبَائِعُ تَسْلِيمَهُ مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ الْآبِقَ وَبَعِيرَهُ أَوْ فَرَسَهُ الشَّارِدَ أَوْ طَيْرَهُ الَّذِي خَرَجَ مِنْ قَفَصِهِ أَوْ مِنْ حَبْلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ بَيْعَ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ " بَابِ الْمُخَاطَرَةِ وَالْقِمَارِ " فَإِنَّ الْمَبِيعَ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَمَرَ الْبَائِعَ حَيْثُ أَخَذَ مَالَهُ بِدُونِ قِيمَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَمَرَ الْمُشْتَرِيَ

ص: 426

وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَكْلُ مَالِ الْآخَرِ بِالْبَاطِلِ. وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَبِيعَهُ مَا فِي بَطْنِ الدَّابَّةِ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ الثَّمَرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَهَذِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ. وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا عُمُومًا وَخُصُوصًا. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمَيْسِرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ. وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحَصَاةِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ إلَى حَيْثُ تَبْلُغُ هَذِهِ الْحَصَاةُ أَوْ بِعْتُك - مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ؟ أَوْ الشِّيَاهِ أَوْ الْغِلْمَانِ أَوْ غَيْرِهِ - مَا تَقَعُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحَصَاةُ فَيَكُونُ الْمَبِيعُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ أَوْ الْعَيْنِ أَوْ الْوَصْفِ. وَأَمَّا " الْعَرَايَا " فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَثْنَاهَا مِمَّا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْمُزَابَنَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ. " وَالْمُزَابَنَةُ " أَنْ يَشْتَرِيَ الرُّطَبَ فِي الشَّجَرِ بِخَرْصِهِ مِنْ التَّمْرِ. وَ " الْمُحَاقَلَةُ " أَنْ يَشْتَرِيَ الْحِنْطَةَ فِي سُنْبُلِهَا بِخَرْصِهَا مِنْ الْحِنْطَةِ. وَالْخَرْصُ هُوَ الْحَزْرُ وَالتَّقْدِيرُ. فَيُقَالُ: كَمْ فِي هَذِهِ النَّخْلَةِ؟ فَيُقَالُ: خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَيُقَالُ: اشْتَرَيْته بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ. أَوْ كَمْ فِي هَذَا الْحَقْلِ مِنْ الْبُرِّ فَيُقَالُ: خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَيُقَالُ: اشْتَرَيْته بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ. وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُبَاعُ إلَّا بِقَدْرِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا

ص: 427

الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ} . وَنَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنْ الطَّعَامِ لَا يُعْلَمُ كَيْلُهَا بِالطَّعَامِ الْمُسَمَّى. فَإِذَا بِيعَتْ هَذِهِ الْأَمْوَالُ بِمِثْلِهَا جُزَافًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِهَا إلَّا مُتَمَاثِلَةً فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ التَّمَاثُلُ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ وَلِهَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الْجَهْلُ بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ. وَالتَّمَاثُلُ يُعْلَمُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. وَأَمَّا الْخَرْصُ: فَهُوَ ظَنٌّ وَحُسْبَانٌ يُقَدَّرُ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ فَأَمَّا مَعَ إمْكَانِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَلَا. فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْزِرُونَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَأَبَاحَ ذَلِكَ فِي الْعَرَايَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْتَاجُ إلَى أَكْلِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ خَرْصًا؛ لِأَجْلِ حَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ. وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ فِي الْقَلِيلِ الَّذِي تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ وَهُوَ مَا دُونُ النِّصَابِ وَهُوَ مَا دُونُ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِحَاجَةِ الْبَائِعِ إلَى الْبَيْعِ. كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَلَفْظُ " الْعَرَايَا " مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ هِيَ النَّخَلَاتُ الَّتِي يُعِيرُهَا الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: أَيْ يُعْطِيهِ إيَّاهَا لِيَأْكُلَ ثَمَرَهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ يَمْدَحُ فِيهِ بِالْكَرَمِ:

ص: 428

فَلَيْسَتْ بِسَنْهَاء وَلَا رَجَبِيَّةٍ

وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ

وَهَذَا كَمَا يُقَالُ لِلْمَاشِيَةِ " الْمَنِيحَةِ ": مِثْلُ أَنْ يُعْطِيَهُ النَّاقَةَ أَوْ الشَّاةَ لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَيْهِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْعَارِيَةِ. وَهُوَ أَنْ يُعِيرَهُ دَارَهُ لِيَسْكُنَهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَيْهِ. وَمِنْهُ أَفَقَارُ الظَّهْرِ: وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَهُ دَابَّتَهُ لِيَرْكَبَ فَقَارَهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَيْهِ. فَهَذَا أَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ؛ لَكِنْ حُكْمُ الْعَرَايَا هَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا كَانَ مَوْهُوبًا لِلْمُشْتَرِي؟ أَوْ عَامٌّ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مَالِكٍ. وَالثَّانِي قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد الْقَوْلَانِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى قَمْحًا بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ إنَّهُ مَا حَصَلَ لِصَاحِبِ الْقَمْحِ شَيْءٌ ثُمَّ دَارَهُ عَقْدًا وَارْتَهَنَ عَلَيْهِ مِلْكًا وَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ بَيْعًا وَشِرَاءً بِذَلِكَ الْعَقْدِ فَهَلْ الْبَيْعُ جَائِزٌ؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا اشْتَرَى قَمْحًا بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ عَوَّضَ الْبَائِعُ عَنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ؛ فَإِنَّ هَذَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدِينِ. وَكَذَلِكَ

ص: 429

إنْ احْتَالَ عَلَى أَنْ يَزِيدَهُ فِي الثَّمَنِ وَيَزِيدَهُ ذَلِكَ فِي الْأَجَلِ بِصُورَةٍ يَظْهَرُ رِبَاهَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَهُ إلَّا الدَّيْنُ الْأَوَّلُ. فَإِنَّ هَذَا هُوَ الرِّبَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ لِغَرِيمِهِ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ تَقْضِي أَوْ تُرْبِي فَإِنْ قَضَاهُ وَإِلَّا زَادَهُ هَذَا فِي الدَّيْنِ وَزَادَهُ هَذَا فِي الْأَجَلِ فَحَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِقِتَالِ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ اُضْطُرَّ إلَى قَرْضِهِ دَرَاهِمَ فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُقْرِضُهُ إلَّا رَجُلٌ يَأْخُذُ الْفَائِدَةَ فَيَأْتِي السُّوقَ يَشْتَرِي لَهُ بِضَاعَةً بِخَمْسِينَ وَيَبِيعُهَا لَهُ بِرِبْحٍ مُعَيَّنٍ إلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فَهَلْ هِيَ قَنْطَرَةُ الرِّبَا؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا اشْتَرَى لَهُ بِضَاعَةً وَبَاعَهَا لَهُ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ أَوْ بَاعَهَا لِلثَّالِثِ صَاحِبُهَا الَّذِي اشْتَرَاهَا الْمُقْرِضُ مِنْهُ فَهَذَا رِبًا. وَالْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ: مِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ لِأُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَتْ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي ابْتَعْت مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ غُلَامًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً ثُمَّ ابْتَعْته مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ نَقْدًا. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَ

ص: 430

مَا شَرَيْت وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْت أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ. فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ أَجِدْ إلَّا رَأْسَ مَالِي؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. فَقَالَ: هَذَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ. وَأَمَّا الَّذِي لَمْ يَعُدْ إلَى الْبَائِعِ بِحَالِ بَلْ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ مَكَانٍ آخَرَ لِجَارِهِ فَهَذَا يُسَمَّى " التَّوَرُّقُ " وَقَدْ تُنُوزِعَ فِي كَرَاهَتِهِ. فَكَرِهَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رضي الله عنه فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. التَّوَرُّقُ آخِيَةُ الرِّبَا: أَيْ أَصْلُ الرِّبَا. وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ طَلَبَ مِنْ إنْسَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ بِأَلْفِ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ فَرَسًا أَوْ قُمَاشًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَاشْتَرَاهُ مِنْهُ بِأَلْفِ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ .

فَأَجَابَ:

لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ رِبًا بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ

ص: 431

الْعُلَمَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه عَنْ رَجُلٍ بَاعَ حَرِيرَةً ثُمَّ ابْتَاعَهَا لِأَجْلِ زِيَادَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ: دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ: هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ لِأُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فِي نَحْوِ ذَلِكَ بِئْسَ مَا شَرَيْت وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْت أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ. فَمَتَى كَانَ مَقْصُودُ الْمُتَعَامِلِ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ - فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى - فَسَوَاءٌ بَاعَ الْمُعْطِي الْأَجَلَ أَوْ بَاعَ الْأَجَلَ الْمُعْطَى ثُمَّ اسْتَعَادَ السِّلْعَةَ. وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا} وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ؛ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَرْفَعُهُ عَنْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُمْ} وَهَذَا كُلُّهُ فِي بَيْعِ الْعِينَةِ وَهُوَ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم. {لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. فَحَرَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ

ص: 432

شَيْئًا وَيُقْرِضُهُ مَعَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يُحَابِيهِ فِي الْبَيْعِ لِأَجْلِ الْقَرْضِ حَتَّى يَنْفَعَهُ فَهُوَ رِبًا. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَغَيْرُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ مَا تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الرَّجُلَانِ بِمَا يَقْصِدَانِ بِهِ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا إلَى أَجَلٍ فَإِنَّهُ رِبًا سَوَاءٌ كَانَ يَبِيعُ ثُمَّ يَبْتَاعُ أَوْ يَبِيعُ وَيُقْرِضُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ تَدَايَنَ دَيْنًا فَدَخَلَ بِهِ السُّوقَ فَاشْتَرَى شَيْئًا بِحَضْرَةِ الرَّجُلِ ثُمَّ بَاعَهُ عَلَيْهِ بِفَائِدَةِ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ مُوَاطَأَةٌ لَفْظِيَّةٌ أَوْ عُرْفِيَّةٌ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ مِنْ رَبِّ الْحَانُوتِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ عَلَى أَنْ يُعِيدَهَا إلَيْهِ. فَهَذَا أَيْضًا لَا يَجُوزُ فَقَدْ دَخَلَتْ أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي ابْتَعْت مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ غُلَامًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً ثُمَّ ابْتَعْته مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ نَقْدًا فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: بِئْسَ مَا شَرَيْت وَبِئْسَ

ص: 433

مَا اشْتَرَيْت أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا} وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ سِرًّا ثُمَّ يَبِيعُهَا لِلْمُسْتَدِينِ بَيَانًا فَيَبِيعُهَا أَحَدُهُمَا فَهَذِهِ تُسَمَّى " التَّوَرُّقُ "؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَيْسَ غَرَضُهُ فِي التِّجَارَةِ وَلَا فِي الْبَيْعِ وَلَكِنْ يَحْتَاجُ إلَى دَرَاهِمَ فَيَأْخُذُ مِائَةً وَيَبْقَى عَلَيْهِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ مَثَلًا. فَهَذَا قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْعُلَمَاءُ. وَالْأَقْوَى أَيْضًا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ التَّوَرُّقَ أَصْلُ الرِّبَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ أَخْذَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا إلَى أَجَلٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ ضَرَرِ الْمُحْتَاجِ وَأَكْلِ مَالِهِ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. وَإِنَّمَا الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ الْبَيْعَ وَالتِّجَارَةَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي غَرَضَهُ أَنْ يَتَّجِرَ فِيهَا. فَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ مُجَرَّدَ الدَّرَاهِمِ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا: فَهَذَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 434

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ يُدَايِنُ النَّاسَ كُلَّ مِائَةٍ بِمِائَةِ وَأَرْبَعِينَ وَيَجْعَلُ سَلَفًا عَلَى حَرِيرٍ فَإِذَا جَاءَ الْأَجَلُ وَأُعْسِرَ الْمَدْيُونُ عَنْ وَفَائِهِ قَالَ لَهُ: عَامِلْنِي فَيَأْخُذُ رَبُّ الْحَرِيرِ مِنْ عِنْدِهِ وَيَقُولُ لِلْمَدْيُونِ: اشْتَرَيْت مِنْ هَذَا الْحَرِيرِ بِمِائَةِ وَتِسْعِينَ إلَّا أَنَّهُ يَأْتِيهِ عَلَى حِسَابِ كُلِّ مِائَةٍ بِمِائَةِ وَأَرْبَعِينَ. وَإِذَا قَبَضَهُ الْمَدْيُونُ مِنْهُ قَالَ: أَوْفِنِي هَذَا الْحَرِيرَ عَنْ السَّلَفِ الَّذِي لِي عِنْدَك. وَإِذَا جَاءَتْ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ طَالَبَهُ بِالدَّرَاهِمِ الْمَذْكُورَةِ فَأُعْسِرَتْ عَلَيْهِ أَوْ بَعْضُهَا. قَالَ: عَامِلْنِي فَيَحْسِبُ الْمُتَبَقِّيَ وَالْأَصْلَ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ سَلَفًا عَلَى حَرِيرٍ. فَمَا يَجِبُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ؟

فَأَجَابَ:

هَذَا هُوَ عَيْنُ الرِّبَا الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ. فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ الدَّيْنُ فَيَأْتِي إلَيْهِ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ فَيَقُولُ: إمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ فَإِنْ وَفَّاهُ وَإِلَّا زَادَهُ الْمَدِينُ فِي الدَّيْنِ وَزَادَهُ الْغَرِيمُ فِي الْأَجَلِ حَتَّى يَتَضَاعَفَ الْمَالُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ

ص: 435

رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} . وَهَذِهِ الْمُعَامَلَةُ الَّتِي يَفْعَلُهَا مِثْلُ هَذَا الْمُرْبِي: مَقْصُودُهَا مَقْصُودُ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْمُرْبِينَ؛ لَكِنْ هَذَا أَظْهَرَ صُورَةَ الْمُعَامَلَةِ وَهَذَا لَا يَنْفَعُهُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ هَذَا الْمُرْبِي يَبِيعُهُ ذَلِكَ الْحَرِيرَ إلَى أَجَلٍ؛ لِيُوَفِّيَهُ إيَّاهُ عَنْ دَيْنِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهُ إلَى أَجَلٍ لِيَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ؛ وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ مِثْلِ هَذَا فَقَالَ: هَذَا حَرَامٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَسَأَلَتْ أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مِثْلِ هَذَا فَقَالَتْ: إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدٍ غُلَامًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ ابْتَعْته بِسِتِّمِائَةِ فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: بِئْسَ مَا اشْتَرَيْت وَبِئْسَ مَا بِعْت. أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ. قَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ أَجِدْ إلَّا رَأْسَ مَالِي. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا} . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ} فَنَهَى أَنْ يَبِيعَ وَيُقْرِضَ لِيُحَابِيَهُ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَجْلِ الْقَرْضِ. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} فَهَذَانِ الْمُتَعَامِلَانِ إنْ كَانَ قَصْدُهُمَا أَخْذَ

ص: 436

دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ تَوَصَّلَ إلَى ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَرَامٌ لَا يَحِلُّ قَصْدُهُ؛ بَلْ قَدْ نَهَى السَّلَفُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرَائِعِ: لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ. وَهَذَا الْمُرْبِي لَا يَسْتَحِقُّ فِي ذِمَمِ النَّاسِ إلَّا مَا أَعْطَاهُمْ أَوْ نَظِيرَهُ. فَأَمَّا الزِّيَادَاتُ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْهَا؛ لَكِنْ مَا قَبَضَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلِ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ. وَأَمَّا مَا بَقِيَ لَهُ فِي الذِّمَمِ فَهُوَ سَاقِطٌ؛ لِقَوْلِهِ: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ أَرَادَ الِاسْتِدَانَةَ مِنْ رَجُلٍ فَقَالَ أُعْطِيك كُلَّ مِائَةٍ بِكَسْبِ كَذَا وَتَبَايَعَا بَيْنَهُمَا شَيْئًا مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ فَلَمَّا اسْتَحَقَّ الدَّيْنَ طَلَبَهُ بِالدَّيْنِ فَعَجَزَ عَنْهُ. فَقَالَ: اقْلِبْ عَلَيَّ الدَّيْنَ بِكَسْبِ كَذَا وَكَذَا فِي الْمِائَةِ وَتَبَايَعَا بَيْنَهُمَا عَقَارًا وَفِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ يَفْعَلُ مَعَهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَفِي جَمِيعِ الْمُبَايَعَاتِ غَرَضُهُمْ الْحَلَالُ فَصَارَ الْمَالُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ. فَهَلْ يَحِلُّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مُطَالَبَةُ الرَّجُلِ بِمَا زَادَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ؟ وَهَلْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ إنْكَارُ ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

قَوْلُ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ: أُدِينُك كُلَّ مِائَةٍ بِكَسْبِ كَذَا وَكَذَا

ص: 437

حَرَام وَكَذَا إذَا حَلَّ الدَّيْنُ عَلَيْهِ وَكَانَ مُعْسِرًا فَإِنَّهُ يَجِبُ إنْظَارُهُ وَلَا يَجُوزُ إلْزَامُهُ بِالْقَلْبِ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَبِكُلِّ حَالٍ فَهَذِهِ الْمُعَامَلَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا بَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِأَكْثَرَ مِنْهَا إلَى أَجَلٍ هِيَ مُعَامَلَةٌ فَاسِدَةٌ رِبَوِيَّةٌ. وَالْوَاجِبُ رَدُّ الْمَالِ الْمَقْبُوضِ فِيهَا إنْ كَانَ بَاقِيًا وَإِنْ كَانَ فَانِيًا رَدَّ مِثْلَهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الدَّافِعُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ الْمَنْعُ مِنْ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ وَعُقُوبَةُ مَنْ يَفْعَلُهَا وَرَدُّ النَّاسِ فِيهَا إلَى رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ؛ دُونَ الزِّيَادَاتِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الرِّبَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَعَ رَجُلٍ مُعَامَلَةٌ فَتَأَخَّرَ لَهُ مَعَهُ دَرَاهِمُ فَطَالَبَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَاشْتَرَى لَهُ بِضَاعَةً مِنْ صَاحِبِ دُكَّانٍ وَبَاعَهَا لَهُ بِزِيَادَةِ مِائَةِ دِرْهَمٍ حَتَّى صَبَرَ عَلَيْهِ. فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ؟

ص: 438

فَأَجَابَ: لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ؛ بَلْ إنْ كَانَ الْغَرِيمُ مُعْسِرًا فَلَهُ أَنْ يَنْتَظِرَهُ. وَأَمَّا الْمُعَامَلَةُ الَّتِي يُزَادُ فِيهَا الدَّيْنُ وَالْأَجَلُ فَهِيَ مُعَامَلَةٌ رِبَوِيَّةٌ وَإِنْ أَدْخَلَا بَيْنَهُمَا صَاحِبَ الْحَانُوتِ. وَالْوَاجِبُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ لَا يُطَالِبُ إلَّا بِرَأْسِ مَالِهِ لَا يُطَالِبُ بِالزِّيَادَةِ الَّتِي لَمْ يَقْبِضْهَا.

وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

عَنْ " الْعِينَةِ ": هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ؟ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَ فِيهَا بَعْضَ مَنْ رَأَى جَوَازَهَا مِنْ الْفُقَهَاءِ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَاطَ لِدِينِهِ وَيَتَّبِعَ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ وَمَنْ تَابَ مِنْ " مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ " الْمَذْكُورَةِ: هَلْ يَحِلُّ لَهُ مَا رَبِحَهُ بِطَرِيقِهَا؟ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ الرِّبْحِ وَرَدِّهِ إلَى أَرْبَابِهِ إنْ قَدَرَ أَوْ التَّصَدُّقُ بِذَلِكَ؟ فَإِنْ عَادَ إلَيْهَا مُقَلِّدًا بَعْدَ الْعِلْمِ بِبُطْلَانِهَا: هَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟ وَكَذَلِكَ مَا تَقُولُونَ فِي " مَسْأَلَةِ الثُّلَاثِيَّةِ "؟ وَ " مَسْأَلَةِ التَّوَرُّقِ "؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُ الطَّالِبِ أَخْذَ دَرَاهِمَ بِأَكْثَرَ مِنْهَا إلَى أَجَلٍ وَالْمُعْطِي يَقْصِدُ إعْطَاءَهُ ذَلِكَ. فَهَذَا رِبًا لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِهِ وَإِنْ تَحَيَّلَا عَلَى ذَلِكَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ؛ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ

ص: 439

وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَإِنَّ هَذَيْنِ قَدْ قَصَدَا الرِّبَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِي تَحْرِيمِهِ الْقُرْآنَ وَهُوَ الرِّبَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} . وَكَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ دَيْنٌ فَيَأْتِيه عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ فَيَقُولُ لَهُ: إمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ فَإِنْ قَضَاهُ وَإِلَّا زَادَهُ الْمَدِينُ فِي الْمَالِ وَزَادَهُ الْغَرِيمُ فِي الْأَجَلِ فَيَكُونُ قَدْ بَاعَ الْمَالَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ إلَى أَجَلٍ فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ إذَا تَابُوا أَنْ لَا يُطَالِبُوا إلَّا بِرَأْسِ الْمَالِ وَأَهْلُ الْحِيَلِ يَقْصِدُونَ مَا تَقْصِدُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ؛ لَكِنَّهُمْ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَلَهُمْ طُرُقٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَبِيعَهُ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَبْتَاعُهَا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ نَقْدًا كَمَا قَالَتْ أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ لِعَائِشَةَ: إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدٍ غُلَامًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ وَابْتَعْته بِسِتِّمِائَةِ نَقْدًا. فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: بِئْسَ مَا شَرَيْت وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْت أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ قَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي فَقَرَأَتْ عَائِشَةُ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ} .

ص: 440

وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: رَجُلٌ بَاعَ حَرِيرَةً إلَى أَجَلٍ ثُمَّ ابْتَاعَهَا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ. وَسُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ نَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَ: هَذَا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا} وَهَؤُلَاءِ قَدْ بَاعُوا بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. وَكَذَلِكَ إذَا اتَّفَقَا عَلَى الْمُعَامَلَةِ الرِّبَوِيَّةِ ثُمَّ أَتَيَا إلَى صَاحِبِ حَانُوتٍ يَطْلُبَانِ مِنْهُ مَتَاعًا بِقَدْرِ الْمَالِ فَاشْتَرَاهُ الْمُعْطِي ثُمَّ بَاعَهُ الْآخِذُ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ أَعَادَهُ إلَى صَاحِبِ الْحَانُوتِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. فَيَكُونُ صَاحِبُ الْحَانُوتِ وَاسِطَةً بَيْنَهُمَا بِجُعْلِ فَهَذَا أَيْضًا مِنْ الرِّبَا الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ إذَا ضَمَّا إلَى الْقَرْضِ مُحَابَاةً فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُقْرِضَهُ مِائَةً وَيَبِيعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ أَوْ يُؤَجِّرُهُ حَانُوتًا يُسَاوِي كُرَاهُ مِائَةً بِخَمْسِينَ فَهَذَا أَيْضًا مِنْ الرِّبَا وَمِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. فَقَدْ حَرَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السَّلَفَ - وَهُوَ الْقَرْضُ - مَعَ الْبَيْعِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الشِّرَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ:

ص: 441

أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ مَنْ يَقْصِدُ الِانْتِفَاعَ بِهَا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالرُّكُوبِ وَالسُّكْنَى وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ الَّذِي أَحَلَّهُ اللَّهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِيَهَا مَنْ يَقْصِدُ أَنْ يَتَّجِرَ فِيهَا إمَّا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَإِمَّا فِي غَيْرِهِ فَهَذِهِ هِيَ التِّجَارَةُ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ مَقْصُودُهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا؛ بَلْ مَقْصُودُهُ دَرَاهِمَ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا. وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَسْلِفَ قَرْضًا أَوْ سَلَمًا فَيَشْتَرِي سِلْعَةً لِيَبِيعَهَا وَيَأْخُذَ ثَمَنَهَا فَهَذَا هُوَ " التَّوَرُّقُ " وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد؛ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: التَّوَرُّقُ أخية الرِّبَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدِ ثُمَّ بِعْت بِنَقْدِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدِ ثُمَّ بِعْت بِنَسِيئَةِ فَتِلْكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ. وَمَعْنَى كَلَامِهِ إذَا اسْتَقَمْت؛ إذَا قُوِّمَتْ. يَعْنِي: إذَا قُوِّمَتْ السِّلْعَةُ بِنَقْدِ وَابْتَعْتهَا إلَى أَجَلٍ فَإِنَّمَا مَقْصُودُك دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ هَكَذَا " التَّوَرُّقُ " يُقَوِّمُ السِّلْعَةَ فِي الْحَالِ ثُمَّ يَشْتَرِيهَا إلَى أَجَلٍ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: أُرِيدُ أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَكَمْ تَرْبَحُ؟ فَيَقُولُ: مِائَتَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. أَوْ يَقُولُ: عِنْدِي هَذَا الْمَالُ يُسَاوِي أَلْفُ

ص: 442

دِرْهَمٍ أَوْ يُحْضِرَانِ مَنْ يُقَوِّمُهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ يَبِيعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ إلَى أَجَلٍ فَهَذَا مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ. وَمَا اكْتَسَبَهُ الرَّجُلُ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالْمُعَامَلَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ كَهَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا وَغَيْرِهَا وَكَانَ مُتَأَوِّلًا فِي ذَلِكَ وَمُعْتَقِدًا جَوَازَهُ لِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ أَوْ تَشَبُّهٍ بِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ لِأَنَّهُ أَفْتَاهُ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الْأَمْوَالُ الَّتِي كَسَبُوهَا وَقَبَضُوهَا لَيْسَ عَلَيْهِمْ إخْرَاجُهَا وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الَّذِي أَفْتَاهُمْ أَخْطَأَ. فَإِنَّهُمْ قَبَضُوهَا بِتَأْوِيلِ فَلَيْسُوا أَسْوَأَ حَالًا مِمَّا اكْتَسَبَهُ الْكُفَّارُ بِتَأْوِيلٍ بَاطِلٍ. فَإِنَّ الْكُفَّارَ إذَا تَبَايَعُوا بَيْنَهُمْ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَ ذَلِكَ وَتَقَابَضُوا مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوْ تَعَامَلُوا بِرِبًا صَرِيحٍ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَهُ وَتَقَابَضُوا مِنْ الطَّرَفَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمُوا ثُمَّ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا: أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ وَجَازَ لَهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ لَهُمْ فِي الذِّمَمِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ مَا قَبَضُوهُ. وَكَانَ بَعْضُ نُوَّابِ عُمَرَ بِالْعِرَاقِ يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْجِزْيَةَ خَمْرًا ثُمَّ يَبِيعُهَا لَهُمْ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ: إنَّ رَسُولَ

ص: 443

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا} وَلَكِنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا أَثْمَانَهَا. فَنَهَاهُمْ عُمَرُ عَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَقَالَ وَلَوْ أَبِيعُهَا الْكُفَّارَ. فَإِذَا بَاعُوهَا هُمْ لِأَهْلِ دِينِهِمْ وَقَبَضُوا أَثْمَانَهَا جَازَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ الثَّمَنَ مِنْهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {أَيُّمَا قَسْمٍ قُسِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُسِمَ وَأَيُّمَا قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ فَهُوَ عَلَى قَسْمِ الْإِسْلَامِ} . بَلْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُونَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَهُوَ: أَنَّ الْكُفَّارَ الْمُحَارِبِينَ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُحَارَبَةِ ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ عَاهَدُوا فَإِنَّهَا تُقَرُّ بِأَيْدِيهِمْ كَمَا أَقَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا أَخَذُوهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ حَالَ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا تَحْرِيمَ ذَلِكَ وَقَدْ أَسْلَمُوا وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّمَا غَفَرَ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْأَعْمَالِ صَارُوا مُكْتَسِبِينَ لَهَا بِمَا لَا يَأْثَمُونَ بِهِ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ: فَالْمُسْلِمُ الْمُتَأَوِّلُ الَّذِي يَعْتَقِدُ جَوَازَ مَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُبَايَعَاتِ وَالْمُؤَاجَرَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يُفْتِي فِيهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إذَا أُقْبِضَ بِهَا أَمْوَالٌ وَتَبَيَّنَ لِأَصْحَابِهَا فِيمَا بَعْدُ أَنْ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ: لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ مَا قَبَضُوهُ بِالتَّأْوِيلِ كَمَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْكُفَّارِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ

ص: 444

مَا اكْتَسَبُوهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ بِالتَّأْوِيلِ وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ أَنْ يُعَامِلُوهُمْ فِيهِ؛ كَمَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُعَامِلَ الذِّمِّيَّ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَغَيْرِهِ؛ لَكِنْ عَلَيْهِمْ إذَا سَمِعُوا الْعِلْمَ أَنْ يَتُوبُوا مِنْ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ وَلَا يَصْلُحَ أَنْ يُقَلِّدَ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ يُفْتِي بِالْجَوَازِ تَقْلِيدًا لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ ثَابِتٌ بِالنُّصُوصِ وَالْآثَارِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ الصَّحَابَةُ فِي تَحْرِيمِهَا وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ شَاهِدَةٌ بِتَحْرِيمِهَا. وَالْمَفَاسِدُ الَّتِي لِأَجْلِهَا حَرَّمَ اللَّهُ الرِّبَا مَوْجُودَةٌ فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ مَعَ زِيَادَةِ مَكْرٍ وَخِدَاعٍ وَتَعَبٍ وَعَذَابٍ. فَإِنَّهُمْ يُكَلِّفُونَ مِنْ الرُّؤْيَةِ وَالصِّفَةِ وَالْقَبْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورٍ يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْبَيْعِ الْمَقْصُودِ وَهَذَا الْبَيْعُ لَيْسَ مَقْصُودًا لَهُمْ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَخْذُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ فَيَطُولُ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ الَّتِي يُؤْمَرُونَ بِهَا فَيَحْصُلُ لَهُمْ الرِّبَا فَهُمْ مِنْ أَهْلِ الرِّبَا الْمُعَذَّبِينَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ وَقُلُوبُهُمْ تَشْهَدُ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي يَفْعَلُونَهُ مَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَتَلْبِيسٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَيُّوبُ السختياني: يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ فَلَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ صَنَّفْت كِتَابًا كَبِيرًا فِي هَذَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 445

وَسُئِلَ:

عَنْ الرَّجُلِ يَبِيعُ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ حَالًّا. هَلْ يَجُوزُ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا إذَا بَاعَ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ وَاشْتَرَاهَا مِنْ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ حَالًّا فَهَذِهِ تُسَمَّى " مَسْأَلَةُ الْعِينَةِ " وَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ كَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ حَرِيرَةٍ بِيعَتْ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ اُشْتُرِيَتْ بِأَقَلَّ. فَقَالَ: دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ. وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدِ ثُمَّ بِعْت بِنَسِيئَةِ فَتِلْكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ. فَبَيَّنَ أَنَّهُ إذَا قَوَّمَ السِّلْعَةَ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ بَاعَهَا إلَى أَجَلٍ فَيَكُونُ مَقْصُودُهُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. وَهَذِهِ تُسَمَّى " التَّوَرُّقُ ". فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ تَارَةً يَشْتَرِي السِّلْعَةَ لِيَنْتَفِعَ بِهَا. وَتَارَةً يَشْتَرِيهَا

ص: 446

لِيَتَّجِرَ بِهَا فَهَذَانِ جَائِزَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَتَارَةً لَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ إلَّا أَخْذَ دَرَاهِمَ فَيَنْظُرُ كَمْ تُسَاوِي نَقْدًا فَيَشْتَرِي بِهَا إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَبِيعُهَا فِي السُّوقِ بِنَقْدِ فَمَقْصُودُهُ الْوَرِقُ فَهَذَا مَكْرُوهٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَأَمَّا عَائِشَةُ فَإِنَّهَا قَالَتْ لِأُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ لَمَّا قَالَتْ لَهَا: إنِّي ابْتَعْت مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ غُلَامًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ وَبِعْته مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَ مَا بِعْت وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْت. أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَطَلَ إلَّا أَنْ يَتُوبَ. قَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ} . وَفِي السُّنَنِ عَنْ {النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: لِمَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا} وَهَذَا إنْ تَوَاطَآ عَلَى أَنْ يَبِيعَ ثُمَّ يَبْتَاعُ فَمَا لَهُ إلَّا الْأَوْكَسُ وَهُوَ الثَّمَنُ الْأَقَلُّ أَوْ الرِّبَا. وَأَصْلُ هَذَا الْبَابِ: أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. فَإِنْ كَانَ قَدْ نَوَى مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فَلَا بَأْسَ وَإِنْ نَوَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَتَوَصَّلَ إلَيْهِ بِحِيلَةِ فَإِنَّ لَهُ مَا نَوَى. وَالشَّرْطُ بَيْنَ النَّاسِ

ص: 447

مَا عَدُّوهُ شَرْطًا كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ بَيْنَهُمْ مَا عَدُّوهُ بَيْعًا وَالْإِجَارَةُ بَيْنَهُمْ مَا عَدُّوهُ إجَارَةً وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمْ مَا عَدُّوهُ نِكَاحًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ وَغَيْرَهُمَا فِي كِتَابِهِ وَلَمْ يَرِدْ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَلَا لَهُ حَدٌّ فِي الْفِقْهِ. وَالْأَسْمَاءُ تُعْرَفُ حُدُودُهَا تَارَةً بِالشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَتَارَةً بِاللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَتَارَةً بِالْعُرْفِ كَالْقَبْضِ وَالتَّفْرِيقِ. وَكَذَلِكَ الْعُقُودُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَا تَوَاطَأَ النَّاسُ عَلَى شَرْطٍ وَتَعَاقَدُوا فَهَذَا شَرْطٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعُرْفِ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ دَيَّنَ رَجُلًا شَعِيرًا بِسِتِّينَ دِرْهَمٍ - الْغِرَارَةُ - إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَلَمَّا جَاءَ وَقْتُ الْأَجَلِ طَالَبَهُ فَقَالَ الْمَدْيُونُ: مَا أُعْطِيك غَيْرَ شَعِيرٍ وَكَانَ الشَّعِيرُ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا - الْغِرَارَةُ - فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَعِيرًا؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَمَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ

ص: 448

وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ؛ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. فَمَنْ بَاعَ مَالًا رِبَوِيًّا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِمَا إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ ثَمَنِهِ بِحِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يُقْبَضْ فَكَأَنَّهُ قَدْ بَاعَ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا بِحِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ إلَى أَجَلٍ مُتَفَاضِلًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: هَذَا يَجُوزُ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الثَّمَنَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَبِهِ اشْتَرَى فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَبَضَهُ ثُمَّ اشْتَرَى مِنْ غَيْرِهِ وَأَمَّا إنْ بَاعَ مَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْ الثَّمَنِ فَذَلِكَ جَائِزٌ بِلَا رَيْبٍ وَإِذَا كَانَ الْبَائِعُ قَدْ أَخَذَ الْحِنْطَةَ أَوْ الشَّعِيرَ بِدُونِ قِيمَتِهِ فَذَلِكَ أَخَفُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى أَرْبَعَ أَرَادِبَ قَمْحٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَعِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمِائَةِ وَجَدَهُ يَبِيعُ الْقَمْحَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كُلَّ إرْدَبٍّ. فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْمِائَةِ عَشَرَةَ أَرَادِبَ قَمْحٍ؟ أَوْ فُولٍ؟ أَوْ شَعِيرٍ؟ مِنْ الْحُبُوبِ؟ .

ص: 449

فَأَجَابَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ؛ إذَا بَاعَهُ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا أَوْ نَحْوَهُمَا مِنْ الرِّبَوِيَّاتِ إلَى أَجَلٍ وَاعْتَاضَ عَنْ ثَمَنِ ذَلِكَ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يُبَاعُ بِالْأَوَّلِ نَسْئًا. فَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَعِنْد أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَد.

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ يَبِيعُ فِضَّةً خَالِصَةً بِفِضَّةٍ مَغْشُوشَةٍ: الدِّرْهَمَ بِدِرْهَمِ وَنِصْفٍ؟ .

فَأَجَابَ:

لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ. وَإِذَا كَانَ الْغِشُّ الَّذِي فِي الْفِضَّةِ لَا يُقْصَدُ بِالْفِضَّةِ جَازَ. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ أَكْثَرَ مِنْ الْفِضَّةِ لَمْ يَجُزْ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ الَّتِي فِي الْمَغْشُوشِ أَكْثَرَ مِنْ الْخَالِصَةِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْجَهْلُ بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ.

ص: 450

وَسُئِلَ:

عَنْ بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ الْمَغْشُوشَةِ مُتَفَاضِلًا؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ فِي أَحَدِهِمَا بِقِدْرِ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ فِي الْأُخْرَى وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ وَالنُّحَاسُ يَذْهَبُ. وَقَدْ عُلِمَ قَدْرُ ذَلِكَ بِالتَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ. فَهَذَا يَجُوزُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الْمُفْرَدَةُ أَكْثَرَ مِنْ الْفِضَّةِ الْمَغْشُوشَةِ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ بِقِدْرِ النُّحَاسِ: فَهَذَا يَجُوزُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الْمَغْشُوشَةُ أَكْثَرَ مِنْ الْمُفْرَدَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

عَنْ بَيْعِ الأكاديس الْإِفْرِنْجِيَّةِ بِالدَّرَاهِمِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا يَسِيرٌ لَا يَقُومُ بِمُؤْنَةِ الضَّرْبِ؛ بَلْ فِضَّةُ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ أَكْثَرُ. هَلْ تَجُوزُ الْمُقَابَضَةُ بَيْنَهُمَا أَمْ لَا؟ .

ص: 451

فَأَجَابَ: هَذِهِ الْمُقَابَضَةُ تَجُوزُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَالْجَوَازُ فِيهِ لَهُ مَأْخَذَانِ؛ بَلْ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْفِضَّةَ مَعَهَا نُحَاسٌ وَتِلْكَ فِضَّةٌ خَالِصَةٌ وَالْفِضَّةُ الْمَقْرُونَةُ بِالنُّحَاسِ أَقَلُّ. فَإِذَا بِيعَ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ هَذِهِ بِسَبْعِينَ مَثَلًا مِنْ الدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ فَالْفِضَّةُ الَّتِي فِي الْمِائَةِ أَقَلُّ مِنْ سَبْعِينَ. فَإِذَا جَعَلَ زِيَادَةَ الْفِضَّةِ بِإِزَاءِ النُّحَاسِ جَازَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ مَسْأَلَةَ " مُدِّ عَجْوَةٍ " كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ إذَا كَانَ الرِّبَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ كَمَا إذَا بَاعَ شَاةً ذَاتَ لَبَنٍ بِلَبَنِ وَدَارًا مُمَوَّهَةً بِالذَّهَبِ بِذَهَبٍ وَالسَّيْفَ الْمُحَلَّى بِفِضَّةٍ بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا مِنْ مَسْأَلَةِ " مُدِّ عَجْوَةٍ " - وَهُوَ بَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ إذَا كَانَ مَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ - قَدْ عَلَّلَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ - مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - بِأَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى عِوَضَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ انْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالْقِيمَةِ وَهَذِهِ عِلَّةٌ ضَعِيفَةٌ؛ فَإِنَّ الِانْقِسَامَ: إذَا بَاعَ شِقْصًا مَشْفُوعًا وَمَا لَيْسَ بِمَشْفُوعِ - كَالْعَبْدِ وَالسَّيْفِ وَالثَّوْبِ - إذَا كَانَ لَا يَحِلُّ: عَادَ الشَّرِيكُ إلَى الْآخِذِ بِالشُّفْعَةِ. فَأَمَّا انْقِسَامُ الثَّمَنِ بِالْقِيمَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.

ص: 452

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ كَوْنُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الرِّبَا بِأَنْ يَبِيعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي كِيسٍ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَيَجْعَلُ الْأَلْفَ الزَّائِدَةَ فِي مُقَابَلَةِ الْكِيسِ كَمَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ مَنْ يُجَوِّزُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيْعُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ مُتَفَاضِلَةٍ فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ ذَلِكَ حَرُمَ التَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ الرِّبَوِيِّ؛ بَلْ يُخْرَصُ خَرْصًا؛ مِثْلُ {الْقِلَادَةِ الَّتِي بِيعَتْ يَوْمَ حنين وَفِيهَا خَرَزٌ مُعَلَّقٌ بِذَهَبِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا تُبَاعُ حَتَّى تَفْصِلَ} فَإِنَّ تِلْكَ الْقِلَادَةَ لَمَّا فُصِلَتْ كَانَ ذَهَبُ الْخَرَزِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الذَّهَبِ الْمُفْرَدِ فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ هَذَا بِهَذَا حَتَّى تُفْصَلَ؛ لِأَنَّ الذَّهَبَ الْمُفْرَدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ مِنْ الذَّهَبِ الْمَقْرُونِ فَيَكُونُ قَدْ بَاعَ ذَهَبًا بِذَهَبٍ مِثْلِهِ وَزِيَادَةَ خَرَزٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَإِذَا عُلِمَ الْأَخْذُ. فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ دَرَاهِمِ بِدَرَاهِمَ مِثْلِهَا وَكَانَ الْمُفْرَدُ أَكْثَرَ مِنْ الْمَخْلُوطِ كَمَا فِي الدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ بِالْمَغْشُوشَةِ؛ بِحَيْثُ تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْخَلْطِ؛ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا مِنْ مَفْسَدَةِ الرِّبَا شَيْءٌ إذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا وَلَا هُوَ بِمَا يَحْتَمِلُ أَنْ

ص: 453

يَكُونَ فِيهِ ذَلِكَ فَيَجُوزُ التَّفَاوُتُ. الْمَأْخَذُ الثَّانِي: مَأْخَذُ مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ بَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِالرِّبَوِيِّ عَلَى سَبِيلِ التَّحَرِّي وَالْخَرْصِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ الْكَيْلُ أَوْ الْوَزْنُ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا كَمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ خَرْصًا؛ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ. وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي كُلِّ الثِّمَارِ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَفِي الثَّانِي لَا يَجُوزُ وَفِي الثَّالِثِ يَجُوزُ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ خَاصَّةً كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَكَمَا يَقُولُ نَظِيرَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فِي بَيْعِ الْمَوْزُونِ عَلَى سَبِيلِ التَّحَرِّي عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخُبْزِ بِالْخُبْزِ عَلَى وَجْهِ التَّحَرِّي وَجَوَّزُوا بَيْعَ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ عَلَى وَجْهِ التَّحَرِّي فِي السَّفَرِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ وَلَا مِيزَانَ عِنْدَهُمْ فَيَجُوزُ كَمَا جَازَتْ الْعَرَايَا. وَفَرَّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْكَيْلِ؛ فَإِنَّ الْكَيْلَ مُمْكِنٌ وَلَوْ بِالْكَفِّ. وَإِذَا كَانَتْ السُّنَّةُ قَدْ مَضَتْ بِإِقَامَةِ التَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ مَقَامَ الْعِلْمِ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ عِنْدَ الْحَاجَةِ. فَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إلَى بَيْعِ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ بِهَذِهِ الْخَالِصَةِ وَقَدْ عَرَفُوا مِقْدَارَ مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ

ص: 454

بِأَخْبَارِ أَهْلِ الضَّرْبِ وَأَخْبَارِ الصَّيَارِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَبَكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ وَعَرَفَ قَدْرَ مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ فَلَمْ يَبْقَ فِي ذَلِكَ جَهْلٌ مُؤْثَرٌ؛ بَلْ الْعِلْمُ بِذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ الْعِلْمِ بِالْخَرْصِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَهُمْ إنَّمَا مَقْصُودُهُمْ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ بِقَدْرِ نَصِيبِهِمْ؛ لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ أَخْذَ فِضَّةٍ زَائِدَةٍ. وَلَوْ وَجَدُوا مَنْ يَضْرِبُ لَهُمْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ فِضَّةً خَالِصَةً مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ بِحَيْثُ تَبْقَى فِي بِلَادِهِمْ لَفَعَلُوا ذَلِكَ وَأَعْطَوْهُ أُجْرَتَهُ. فَهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِمَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ وَلَا يَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ أَرْبَابُ الْخَالِصَةِ إذَا أَخَذُوا هَذِهِ الدَّرَاهِمَ: فَهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ لَا يَتَضَرَّرُونَ. وَهَذَا " مَأْخَذٌ ثَالِثٌ " يُبَيِّنُ الْجَوَازَ وَهُوَ: أَنَّ الرِّبَا إنَّمَا حَرُمَ لِمَا فِيهِ مِنْ أَخْذِ الْفَضْلِ وَذَلِكَ ظُلْمٌ يَضُرُّ الْمُعْطِيَ فَحَرُمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ. وَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْ الْمُتَقَابِضَيْنِ مُقَابَضَةً أَنْفَعَ لَهُ مِنْ كَسْرِ دَرَاهِمِهِ وَهُوَ إلَى مَا يَأْخُذُهُ مُحْتَاجٌ؛ كَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَهُمَا هُمَا يَحْتَاجَانِ إلَيْهَا وَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِمَا. وَالشَّارِعُ لَا يَنْهَى عَنْ الْمَصَالِحِ الرَّاجِحَةِ وَيُوجِبُ الْمَضَرَّةَ الْمَرْجُوحَةَ كَمَا قَدْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنْ أَخَذَ " السَّفْتَجَةَ " مِنْ الْمُقْرِضِ وَهُوَ أَنْ يُقْرِضَهُ دَرَاهِمَ يَسْتَوْفِيهَا مِنْهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِضُ غَرَضُهُ حَمْلُ دَرَاهِمَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ. وَالْمُقْتَرِضُ لَهُ دَرَاهِمُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى دَرَاهِمَ فِي بَلَدِ الْمُقْرِضِ فَيَقْتَرِضُ مِنْهُ فِي بَلَدٍ دَرَاهِمَ الْمُقْرِضِ وَيَكْتُبُ

ص: 455

لَهُ سَفْتَجَةً - أَيْ وَرَقَةً - إلَى بَلَدِ دَرَاهِمِ الْمُقْتَرِضِ فَهَذَا يَجُوزُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ: يُنْهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً وَالْقَرْضُ إذَا جَرَّ مَنْفَعَةً كَانَ رِبًا وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ لِأَنَّ الْمُقْتَرِضَ رَأَى النَّفْعَ بِأَمْنِ خَطَرِ الطَّرِيقِ إلَى نَقْلِ دَرَاهِمِهِ إلَى بَلَدِ دَرَاهِمِ الْمُقْتَرِضِ فَكِلَاهُمَا مُنْتَفِعٌ بِهَذَا الِاقْتِرَاضِ. وَالشَّارِعُ لَا يَنْهَى عَمَّا يَنْفَعُ النَّاسَ وَيُصْلِحُهُمْ وَيَحْتَاجُونَ إلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا يَضُرُّهُمْ وَيُفْسِدُهُمْ وَقَدْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ عَنْهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ اشْتَرَى الْفُلُوسَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِرْطَاسًا بِدِرْهَمِ وَيَصْرِفُهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ بِدِرْهَمِ هَلْ يَجُوزُ؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا كَانَ يَصْرِفُهَا لِلنَّاسِ بِالسِّعْرِ الْعَامِّ جَازَ ذَلِكَ وَإِنْ اشْتَرَاهَا رَخِيصَةً. وَأَمَّا مَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِدَرَاهِمَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَضِيَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا فَلَوْسًا إلَّا بِاخْتِيَارِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَرَاهَا بِدَرَاهِمَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُوَفِّيَهَا دَرَاهِمَ فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى التَّعْوِيضِ عَنْ الثَّمَنِ؛ أَوْ بَعْضِهِ بِفُلُوسٍ بِالسِّعْرِ الْوَاقِعِ جَازَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 456

وَسُئِلَ:

عَنْ الْفُلُوسِ وَبَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ مُتَفَاضِلًا وَصَرْفِهَا بِالدَّرَاهِمِ مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ فِي الْحَالِ وَدَافِعُ الدِّرْهَمِ يَأْخُذُ بِبَعْضِهِ فَلَوْسًا وَبِبَعْضِهِ قِطْعَةً مِنْ فِضَّةٍ.

فَأَجَابَ:

إذَا دَفَعَ الدِّرْهَمَ فَقَالَ: أَعْطِنِي بِنِصْفِهِ فِضَّةً وَبِنِصْفِهِ فُلُوسًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَعْطِنِي بِوَزْنِ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ الثَّقِيلَةِ أَنْصَافًا أَوْ دَرَاهِمَ خِفَافًا؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَتْ مَغْشُوشَةً أَوْ خَالِصَةً. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ " مُدِّ عَجْوَةٍ " لِكَوْنِهِ بَاعَ فِضَّةً وَنُحَاسًا بِفِضَّةِ وَنُحَاسٍ. وَأَصْلُ مَسْأَلَةِ " مُدِّ عَجْوَةٍ " أَنْ يَبِيعَ مَالًا رِبَوِيًّا بِجِنْسِهِ وَمَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمَا فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: الْمَنْعُ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد.

ص: 457

وَالثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ الرِّبَوِيّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا أَوْ لَا يَكُونُ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. فَإِذَا بَاعَ تَمْرًا فِي نَوَاهٍ بِنَوَى أَوْ تَمْرًا مَنْزُوعَ النَّوَى. أَوْ شَاةً فِيهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ لَيْسَ فِيهَا لَبَنٌ أَوْ بِلَبَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمَا؛ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي مِنْدِيلٍ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ. فَمَنْ كَانَ قَصْدُهُ بَيْعَ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ تَبَعًا غَيْرَ مَقْصُودٍ جَازَ. وَمَالِكٌ رحمه الله يُقَدِّرُ ذَلِكَ بِالثُّلُثِ. وَهَكَذَا إذَا بَاعَ حِنْطَةً فِيهَا شَعِيرٌ يَسِيرٌ بِحِنْطَةٍ فِيهَا شَعِيرٌ يَسِيرٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ الدَّرَاهِمَ الَّتِي فِيهَا غِشٌّ بِجِنْسِهَا. فَإِنَّ الْغِشَّ غَيْرَ مَقْصُودٍ وَالْمَقْصُودُ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ. وَكَذَلِكَ صَرْفُ الْفُلُوسِ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ يَقُولُ مَنْ يَكْرَهُهُ: إنَّهُ بَيْعُ فِضَّةٍ وَنُحَاسٍ بِنُحَاسِ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ جَائِزٌ.

ص: 458

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

فَصْلٌ:

وَأَمَّا بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ: هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ كَصَرْفِ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد: إحْدَاهُمَا لَا بُدَّ مِنْ الْحُلُولِ وَالتَّقَابُضِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الصَّرْفِ؛ فَإِنَّ الْفُلُوسَ النَّافِقَةَ تُشْبِهُ الْأَثْمَانَ فَيَكُونُ بَيْعُهَا بِجِنْسِ الْأَثْمَانِ صَرْفًا. وَالثَّانِيَةُ لَا يُشْتَرَطُ الْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ فَإِنَّ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ فِي جِنْسِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ كَانَ ثَمَنًا أَوْ كَانَ صَرْفًا أَوْ كَانَ مَكْسُورًا؛ بِخِلَافِ الْفُلُوسِ. وَلِأَنَّ الْفُلُوسَ هِيَ فِي الْأَصْلِ مِنْ " بَابِ الْعُرُوضِ " والثمنية عَارِضَةٌ لَهَا. وَأَيْضًا هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الْآخَرِ وَهُوَ أَنَّ بَيْعَ النُّحَاسِ مُتَفَاضَلًا هَلْ يَجُوزُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ فِيهِ وَفِي سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ: كَالْحَدِيدِ بِالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ بِالرَّصَاصِ وَالْقُطْنِ بِالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ بِالْكَتَّانِ

ص: 459

وَالْحَرِيرِ بِالْحَرِيرِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجِنْسِ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَمَنْ قَالَ بِالتَّحْرِيمِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْمُولِ مِنْ ذَلِكَ: كَثِيَابِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالْأَسْطَالِ وَقُدُورِ النُّحَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. هَلْ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَصَحُّهَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُقْصَدُ وَزْنُهُ بَعْد الصَّنْعَةِ - كَثِيَابِ الْحَرِيرِ وَالْأَسْطَالِ وَنَحْوِهِمَا - وَبَيْنَ مَا لَا يُقْصَدُ وَزْنُهُ: كَثِيَابِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالْإِبَرِ وَغَيْرِهَا. وَعَلَى هَذَا فَالْفُلُوسُ يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ مَعْمُولَ النُّحَاسِ يَجْرِي فِيهِ وَمَنْ اعْتَبَرَ قَصْدَ الْوَزْنِ لَمْ يَجْرِ الرِّبَا فِيهَا عِنْدَهُ لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ وَزْنَهَا فِي الْعَادَةِ وَإِنَّمَا تُنْفَقُ عَدَدًا. لَكِنْ مَنْ قَالَ هِيَ أَثْمَانٌ. فَهَلْ يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لَهُمْ. وَكَذَلِكَ فِيهَا وَجْهَانِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا وَفِي إخْرَاجِهَا عَنْ الزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْوَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.

ص: 460

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِإِنْسَانِ: أَعْطِنِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ أَنْصَافًا قَالَ لَهُ: مَا يَجُوزُ. فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ لَكِنْ الْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ. فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي نَقَلَتْهَا الْفُقَهَاءُ مَسْأَلَةُ " مُدِّ عَجْوَةٍ " عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: يَجْمَعُهَا أَنَّهُ بَيْعٌ رِبَوِيٌّ بِجِنْسِهِ وَمَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمَا. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ رِبَوِيٍّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَيَضُمُّ إلَى الْأَقَلِّ غَيْرَ الْجِنْسِ حِيلَةً مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ أَلْفَيْ دِينَارٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي مِنْدِيلٍ أَوْ قَفِيزِ حِنْطَةٍ بِقَفِيزِ وَغِرَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ الصَّوَابَ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَإِلَّا فَلَا يَعْجِزُ أَحَدٌ فِي رِبَا الْفَضْلِ أَنْ يَضُمَّ إلَى الْقَلِيلِ شَيْئًا مِنْ هَذَا. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ غَيْرِ رِبَوِيٍّ مَعَ رِبَوِيٍّ وَإِنَّمَا دَخَلَ الرِّبَوِيُّ ضِمْنًا وَتَبَعًا كَبَيْعِ شَاةٍ ذَاتِ صُوفٍ وَلَبَنٍ بِشَاةِ ذَاتِ

ص: 461

صُوفٍ وَلَبَنٍ أَوْ سَيْفٍ فِيهِ فِضَّةٌ يَسِيرَةٌ بِسَيْفٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ دَارٍ مُمَوَّهَةٍ بِذَهَبٍ بِدَارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهُنَا الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد جَوَازُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ الرِّبَوِيِّ بِغَيْرِ الرِّبَوِيِّ مِثْلُ بَيْعِ الدَّارِ وَالسَّيْفِ وَنَحْوِهِمَا بِذَهَبِ أَوْ بَيْعِهِ بِجِنْسِهِ وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ. وَمَسْأَلَةُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ فِي زَمَانِنَا مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ الْفِضَّةَ الَّتِي فِي أَحَدِ الدِّرْهَمَيْنِ كَالْفِضَّةِ الَّتِي فِي الدِّرْهَمِ الْآخَرِ. وَأَمَّا النُّحَاسُ فَهُوَ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ. وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ جَوَازَ ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ كِلَاهُمَا مَقْصُودًا: مِثْلُ بَيْعِ مُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ أَوْ مُدَّيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ أَوْ بَيْعِ دِينَارٍ بِنِصْفِ دِينَارٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ بَيْعِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَرِطْلِ نُحَاسٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَرِطْلِ نُحَاسٍ فَمِثْلُ هَذِهِ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ. فَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَالشَّافِعِيُّ يُحَرِّمُهُ. وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ. وَلِمَالِكٍ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الثُّلُثِ وَغَيْرِهِ.

ص: 462

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ الذَّهَبِ الْمُخَيَّشِ إذَا عُلِمَ مِقْدَارُ مَا فِيهِ مِنْ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِأَحَدِهِمَا إذَا كَانَ الْمُفْرَدُ أَكْثَرَ مِنْ الَّذِي مَعَهُ غَيْرُهُ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ فِضَّةٍ بِفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا أَوْ بَيْعُ ذَهَبٍ بِذَهَبِ مُتَفَاضِلًا وَيَضُمُّ إلَى الْأَنْقَصِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ حِيلَةً فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَصْلًا. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ أَحَدِهِمَا وَبَيْعَ عَرَضٍ بِأَحَدِهِمَا وَفِي الْعَرَضِ مَا لَيْسَ مَقْصُودًا: مِثْلُ بَيْعِ السِّلَاحِ بِأَحَدِهِمَا وَفِيهِ حِلْيَةٌ يَسِيرَةٌ أَوْ بَيْعُ عَقَارٍ بِأَحَدِهِمَا وَفِي سَقْفِهِ وَحِيطَانِهِ كَذَلِكَ مِثْلُ بَيْعِ غَنَمٍ ذَاتِ صُوفٍ بِصُوفٍ وَذَاتِ لَبَنٍ بِلَبَنِ فَهَذَا يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَبَيْعُ الْفِضَّةِ الْمُخَيَّشَةِ بِذَهَبٍ يَذْهَبُ عِنْدَ السَّبْكِ بِفِضَّةِ مِثْلِهِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِذَا بِيعَتْ الْفِضَّةُ الْمَصْنُوعَةُ الْمُخَيَّشَةُ بِذَهَبِ أَوْ بِيعَتْ

ص: 463

بِذَهَبِ مَقْبُوضٍ جَازَ ذَلِكَ وَإِذَا بِيعَتْ الْفِضَّةُ الْمَصْنُوعَةُ بِفِضَّةٍ أَكْثَرَ مِنْهَا لِأَجْلِ الصِّنَاعَةِ لَمْ يَجُزْ. وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مَقْصُودًا: مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السِّلَاحِ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ كَثِيرٌ؛ فَهَذَا إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ وَبِيعَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ: فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ جَائِزٌ. وَإِذَا بِيعَتْ الْفِضَّةُ الْمَصْنُوعَةُ الْمُخَيَّشَةُ بِذَهَبِ أَوْ بِيعَتْ بِذَهَبٍ مَغْشُوشٍ جَازَ ذَلِكَ وَإِذَا بِيعَتْ الْفِضَّةُ الْمَصْنُوعَةُ بِفِضَّةٍ أَكْثَرَ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ رحمه الله:

فَصْلٌ:

وَأَمَّا بَيْعُ الدَّرَاهِمِ النُّقْرَةِ الَّتِي تَكُونُ فِضَّتُهَا نَحْوَ الثُّلُثَيْنِ بِالدَّرَاهِمِ السُّودِ الَّتِي يَكُونُ فِضَّتُهَا نَحْوَ الرُّبُعِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَهَذِهِ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ " مُدِّ عَجْوَةٍ ". وَجِمَاعُهَا أَنْ يَبِيعَ رِبَوِيًّا مَعَهُ غَيْرُهُ بِجِنْسِ ذَلِكَ الرِّبَوِيِّ وَالنَّاسُ فِيهَا بَيْنَ طَرَفَيْ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ وَبَيْنَ مُتَوَسِّطٍ.

ص: 464

فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَقَدْ أَدْخَلَ الْغَيْرَ حِيلَةً كَمَنَ يَبِيعُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فِي مِنْدِيلٍ أَوْ قَفِيزَيْ حِنْطَةٍ بِقَفِيزٍ فِي زِنْبِيلٍ: فَهَذَا لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِهِ. كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْبَيْعُ الْجَائِزُ وَمَا فِيهِ مِنْ مُقَابَلَةِ رِبَوِيٍّ بِرِبَوِيٍّ هُوَ دَاخِلٌ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ كَبَيْعِ الْغَنَمِ بِالْغَنَمِ وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا لَبَنٌ وَصُوفٌ أَوْ بَيْعِ غَنَمٍ ذَاتِ لَبَنٍ بِلَبَنِ وَبَيْعِ دَارٍ مُمَوَّهَةٍ بِذَهَبِ وَبَيْعِ الْحِلْيَةِ الْفِضِّيَّةِ بِذَهَبِ وَعَلَيْهِمَا ذَهَبٌ يَسِيرٌ مُوِّهَتْ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا الصَّوَابُ فِيهِ أَنَّهُ جَائِزٌ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ كَمَا جَازَ دُخُولُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فِي الْبَيْعِ تَبَعًا وَقَدْ جَاءَ مَعَ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ مَرْفُوعًا كَمَا رَوَاهُ سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ وَرَوَاهُ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: {مَنْ بَاعَ عَبْدًا لَهُ وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ} . وَأَمَّا إنْ كَانَ كِلَا الصِّنْفَيْنِ مَقْصُودًا فَفِيهِمَا النِّزَاعُ الْمَشْهُورُ. وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إلَى الرِّبَا وَإِمَّا لِكَوْنِ الصَّفْقَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى عِوَضَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالْقِيمَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ.

ص: 465

وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد: إذَا كَانَ الْمُفْرَدُ أَكْثَرَ مِنْ الَّذِي مَعَهُ غَيْرُهُ. إذَا عُرِفَ ذَلِكَ: فَبَيْعُ النُّقْرَةِ الْمَغْشُوشَةِ بِالنُّقْرَةِ الْمَغْشُوشَةِ جَائِزٌ عَلَى الصَّحِيحِ كَبَيْعِ الشَّاةِ اللَّبُونِ بِاللَّبُونِ إذَا تَمَاثَلَا فِي الصِّفَةِ أَوْ النُّحَاسِ. وَأَمَّا بَيْعُ النُّقْرَةِ بِالسَّوْدَاءِ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ فِضَّةً بِفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا فَإِنَّ النُّحَاسَ الَّذِي فِي السَّوْدَاءِ مَقْصُودٌ وَهِيَ قَرِينَةٌ بَيْنَ النُّقْرَةِ وَالْفُلُوسِ فَهَذِهِ تَخْرُجُ عَلَى النِّزَاعِ الْمَشْهُورِ فِي مَسْأَلَةِ " مُدِّ عَجْوَةٍ " إذْ قَدْ بَاعَ فِضَّةً وَنُحَاسًا بِفِضَّةِ وَنُحَاسٍ مَقْصُودَيْنِ وَالْأَشْبَهُ الْجَوَازُ فِي ذَلِكَ وَفِي سَائِرِ هَذَا الْبَابِ إذَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى الرِّبَا الْمُحَرَّمِ. وَالْأَصْلُ حَمْلُ الْعُقُودِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ وَحَدِيثُ الْخَرَزِ الْمُعَلَّقَةِ بِالذَّهَبِ لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُ الذَّهَبِ الْمُفْرَدِ أَكْثَرَ مِنْ الَّذِي مَعَ الْخَرَزِ وَالتَّقْوِيمُ فِي الْعِوَضَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ كَانَ لِلْحَاجَةِ. هَذَا إنْ كَانَ النُّحَاسُ يُنْتَفَعُ بِهِ إذَا تَخَلَّصَ مِنْ الْفِضَّةِ؛ فَإِنْ كَانَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ؛ فَذَلِكَ كَبَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّمَاثُلُ وَيُلْغَى فِيهِ مَا لَا خِبْرَةَ لِلنَّاسِ بِمِقْدَارِ الْفِضَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 466

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَنْ جَمَاعَةٍ تَبِيعُ بِدَرَاهِمَ وَتُوفِي عَنْ بَعْضِهَا فُلُوسًا

مُحَابَاةً ثُمَّ تُخْبِرُ عَنْ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى؟ .

فَأَجَابَ:

لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُوَفُّوا فُلُوسًا إلَّا بِرِضَا الْبَائِعِ وَإِذَا أَوْفَوْا فُلُوسًا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُوَفُّوهَا إلَّا بِالسِّعْرِ الْوَاقِعِ كَمَا {أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ لَمَّا قَالَ لَهُ: إنَّا نَبِيعُ بِالذَّهَبِ وَنَقْتَضِي الْوَرِقَ وَنَبِيعُ بِالْوَرِقِ وَنَقْتَضِي الذَّهَبَ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ بِسِعْرِ يَوْمِهِ إذَا افْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ} . وَحِينَئِذٍ فَتَخْيِيرُ الثَّمَنِ عَلَى التَّقْدِيرِ سَوَاءٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا رِبْحٌ فِيمَا لَمْ يُضْمَنْ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَجَمِيعُ الدُّيُونِ وَالِاعْتِيَاضُ عَنْهَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَيْنِ يَجْرِيَانِ مَجْرًى وَاحِدًا، فَاسْتِيفَاءُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ كَاسْتِيفَاءِ أَحَدِهِمَا عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ فَلَا تَجُوزُ فِيهِ الزِّيَادَةُ بِالشَّرْطِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْقَرْضِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُوجِبُ الْمُمَاثَلَةَ. فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُوَفِّيَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ: كَانَ كَالِاتِّفَاقِ

ص: 467

عَلَى أَنْ يُوَفِّيَ عَنْهُ أَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ؛ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَعَلَى هَذَا فَالْفُلُوسُ النَّافِقَةُ قَدْ يَكُونُ فِيهَا شَوْبٌ أَقْوَى مِنْ الْأَثْمَانِ فَتَوْفِيَتُهَا عَنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ كَتَوْفِيَةِ أَحَدِهِمَا عَنْ صَاحِبِهِ: فِيهِ الْعِلَّتَانِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. يَحْسَبُهَا بِنَقْدَيْنِ فِي الْحُكْمِ وَيَقْتَصِرُ بِهِ عَنْ الْأَثْمَانِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ الْفُلُوسِ تُشْتَرَى نَقْدًا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ وَتُبَاعُ إلَى أَجَلٍ بِزِيَادَةِ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ صَرْفُ الْفُلُوسِ النَّافِقَةِ بِالدَّرَاهِمِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْحُلُولُ؟ أَمْ يَجُوزُ فِيهَا النسأ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ هُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَد وَقَوْلُ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ بِالْحَرَامِ الْبَيِّنِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى

ص: 468

وَابْنِ عَقِيلٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد: أَنَّهُ يَجُوزُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ نَهْيَ أَحْمَد لِلْكَرَاهَةِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ يُشْبِهُ الصَّرْفَ. وَالْأَظْهَرُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْفُلُوسَ النَّافِقَةَ يَغْلِبُ عَلَيْهَا حُكْمُ الْأَثْمَانِ وَتُجْعَلُ مِعْيَارُ أَمْوَالِ النَّاسِ. وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَضْرِبَ لَهُمْ فُلُوسًا تَكُونُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ؛ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ لَهُمْ. وَلَا يَتَّجِرُ ذُو السُّلْطَانِ فِي الْفُلُوسِ أَصْلًا؛ بِأَنْ يَشْتَرِيَ نُحَاسًا فَيَضْرِبَهُ فَيَتَّجِرَ فِيهِ وَلَا بِأَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ الْفُلُوسَ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ وَيَضْرِبَ لَهُمْ غَيْرَهَا؛ بَلْ يَضْرِبُ مَا يَضْرِبُ بِقِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِ رِبْحٍ فِيهِ؛ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَيُعْطِي أُجْرَةَ الصُّنَّاعِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. فَإِنَّ التِّجَارَةَ فِيهَا بَابٌ عَظِيمٌ مِنْ أَبْوَابِ ظُلْمِ النَّاسِ وَأَكْلِ أَمْوَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ؛ فَإِنَّهُ إذَا حَرَّمَ الْمُعَامَلَةَ بِهَا حَتَّى صَارَتْ عَرَضًا وَضَرَبَ لَهُمْ فُلُوسًا أُخْرَى: أَفْسَدَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ بِنَقْصِ أَسْعَارِهَا فَيَظْلِمُهُمْ فِيهَا وَظُلْمُهُمْ فِيهَا بِصَرْفِهَا بِأَغْلَى سِعْرِهَا. وَأَيْضًا فَإِذَا اخْتَلَفَتْ مَقَادِيرُ الْفُلُوسِ: صَارَتْ ذَرِيعَةً إلَى أَنَّ الظَّلَمَةَ يَأْخُذُونَ صِغَارًا فَيَصْرِفُونَهَا وَيَنْقُلُونَهَا إلَى بَلَدٍ آخَرَ وَيُخْرِجُونَ صِغَارَهَا فَتَفْسُدُ أَمْوَالُ النَّاسِ وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ نَهَى عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْجَائِزَةِ بَيْنَهُمْ إلَّا مِنْ بَأْسٍ} فَإِذَا كَانَتْ مُسْتَوِيَةَ الْمِقْدَارِ بِسِعْرِ النُّحَاسِ وَلَمْ يَشْتَرِ وَلِيُّ الْأَمْرِ النُّحَاسَ وَالْفُلُوسَ الْكَاسِدَةَ لِيَضْرِبَهَا فُلُوسًا وَيَتَّجِرَ بِذَلِكَ: حَصَلَ بِهَا الْمَقْصُودُ

ص: 469

مِنْ الثمنية. وَكَذَلِكَ الدَّرَاهِمُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم {نَهَى عَنْ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَالدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ} {وَنَهَى عَنْ صَرْفِ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ، إلَّا يَدًا بِيَدِ} وَتَحْرِيمُ النسأ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ. وَتَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ يَدًا بِيَدِ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَقَالَ بِهِ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ وَلَكِنْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالنِّعْمَةِ التَّامَّةِ وَالرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ؛ مَا قَدْ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ " مَسَائِلِ الرِّبَا " قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ: هَلْ هُوَ التَّمَاثُلُ؟ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ. أَوْ هُوَ الثمنية وَالطَّعْمُ أَوْ هُوَ الثمنية وَالتَّمَاثُلُ مَعَ الطَّعْمِ وَالْقُوتِ وَمَا يُصْلِحُهُ؟ أَوْ النَّهْيُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ وَالْحُكْمُ مَقْصُورٌ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ؟ عَلَى أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ. وَ " الْأَوَّلُ " مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ. وَ " الثَّانِي " قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ. وَ " الثَّالِثُ " قَوْلُ أَحْمَد فِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ اخْتَارَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ وَقَوْلُ مَالِكٍ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ. وَ " الرَّابِعُ " قَوْلُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ وَيُرْوَى عَنْ قتادة. وَرَجَّحَ ابْنُ عَقِيلٍ هَذَا الْقَوْلَ فِي مُفْرَدَاتِهِ وَضَعَّفَ

ص: 470

الْأَقْوَالَ الْمُتَقَدِّمَةَ. وَفِيهَا قَوْلٌ شَاذٌّ: أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَالِيَّةَ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ وَلِإِجْمَاعِ السَّلَفِ. وَالِاتِّحَادُ فِي الْجِنْسِ شَرْطٌ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْكَلَامُ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ هُوَ الثمنية؛ لَا الْوَزْنُ كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَلَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ كَالرَّصَاصِ وَالْحَدِيدِ وَالْحَرِيرِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ إسْلَامِ النَّقْدَيْنِ فِي الْمَوْزُونَاتِ وَهَذَا بَيْعُ مَوْزُونٍ بِمَوْزُونٍ إلَى أَجَلٍ فَلَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ الْوَزْنَ لَمْ يَجُزْ هَذَا. وَالْمُنَازِعُ يَقُولُ: جَوَازُ هَذَا اسْتِحْسَانٌ وَهُوَ نَقِيضٌ لِلْعِلَّةِ. وَيَقُولُ: إنَّهُ جَوَّزَ هَذَا لِلْحَاجَةِ؛ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ تَحْرِيمُهُ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْعِلَّةَ الرِّبَا بِمَا ذَكَرَهُ. وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِهِ، وَتَخْصِيصُ الْعِلَّةِ الَّذِي قَدْ سُمِّيَ اسْتِحْسَانًا إنْ لَمْ يُبَيَّنْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يُوجِبُ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَاخْتِصَاصَ صُورَةِ التَّخْصِيصِ بِمَعْنَى يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَالْأَحَادِيثِ وَإِلَّا كَانَتْ الْعِلَّةُ فَاسِدَةً. وَالتَّعْلِيلُ بالثمنية تَعْلِيلٌ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَثْمَانِ أَنْ تَكُونَ مِعْيَارًا لِلْأَمْوَالِ يَتَوَسَّلُ بِهَا إلَى مَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ الْأَمْوَالِ وَلَا

ص: 471

يَقْصِدُ الِانْتِفَاعَ بِعَيْنِهَا. فَمَتَى بِيعَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ إلَى أَجَلٍ قُصِدَ بِهَا التِّجَارَةُ الَّتِي تُنَاقِضُ مَقْصُودَ الثمنية وَاشْتِرَاطُ الْحُلُولِ وَالتَّقَابُضِ فِيهَا هُوَ تَكْمِيلٌ لِمَقْصُودِهَا مِنْ التَّوَسُّلِ بِهَا إلَى تَحْصِيلِ الْمَطَالِبِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَبْضِهَا. لَا بِثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ؛ مَعَ أَنَّهَا ثَمَنٌ مِنْ طَرَفَيْنِ فَنَهَى الشَّارِعُ أَنْ يُبَاعَ ثَمَنٌ بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ. فَإِذَا صَارَتْ الْفُلُوسُ أَثْمَانًا صَارَ فِيهَا الْمَعْنَى فَلَا يُبَاعُ ثَمَنٌ بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ. كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم {نَهَى عَنْ‌

‌ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ}

وَهُوَ الْمُؤَخَّرُ بِالْمُؤَخَّرِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ بَيْعِ دَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ يَسْقُطُ إذَا بِيعَ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ يَسْقُطُ؛ فَإِنَّ هَذَا الثَّانِيَ يَقْتَضِي تَفْرِيغَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الذِّمَّتَيْنِ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ وَغَيْرِهِمَا؛ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ دَيْنًا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَيَشْغَلُهَا بِدَيْنِ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ كَالْمُسْلِمِ إذَا أَسْلَمَ فِي سِلْعَةٍ وَلَمْ يُقْبِضْهُ رَأْسَ الْمَالِ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَسْلِفِ دَيْنَ السَّلَمِ وَفِي ذِمَّةِ الْمُسْلِفِ رَأْسَ الْمَالِ وَلَمْ يَنْتَفِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِشَيْءِ. فَفِيهِ شَغْلُ ذِمَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعُقُودِ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ إلَى الْقَبْضِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ. كَمَا أَنَّ السِّلَعَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْأَثْمَانِ فَلَا يُبَاعُ ثَمَنٌ بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ كَمَا لَا يُبَاعُ كَالِئٌ بِكَالِئِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ الْمُنَافِي لِمَقْصُودِ الثمنية وَمَقْصُودِ الْعُقُودِ؛ بِخِلَافِ كَوْنِ الْمَالِ مَوْزُونًا وَمَكِيلًا؛ فَإِنَّ هَذَا صِفَةٌ لِمَا

ص: 472

بِهِ يُقَدَّرُ وَيُعْلَمُ قَدْرُهُ. وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَعْنًى يُنَاسِبُ تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ فِيهِ. فَإِذَا قِيلَ: الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ مُتَمَاثِلَةٌ وَعِلَّةُ التَّحْرِيمِ نَفْيُ التَّمَاثُلِ. قِيلَ: الْعَاقِلُ لَا يَبِيعُ شَيْئًا بِمِثْلِهِ إلَى أَجَلٍ وَلَكِنْ قَدْ يَقْرِضُ الشَّيْءَ. لِيَأْخُذَ مِثْلَهُ بَعْدَ حِينٍ. وَالْقَرْضُ هُوَ تَبَرُّعٌ مِنْ جِنْسِ الْعَارِيَةِ كَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنِيحَةُ وَرِقٍ أَوْ مَنِيحَةُ ذَهَبٍ} . فَالْمَالُ إذَا دُفِعَ إلَى مَنْ يَسْتَوْفِي مَنْفَعَتَهُ مُدَّةً ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَى صَاحِبِهِ كَانَ هَذَا تَبَرُّعًا مِنْ صَاحِبِهِ بِنَفْعِهِ تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ نَوْعٍ اسْمٌ خَاصٌّ. فَيُقَالُ فِي النَّخْلَةِ: عَارِيَةٌ وَيُقَالُ فِيمَا يُشْرَبُ لَبَنُهُ مَنِيحَةً. ثُمَّ قَدْ يُعِيدُ إلَيْهِ عَيْنَ الْمَالِ إنْ كَانَ مَقْصُودًا وَإِلَّا أَعَادَ مِثْلَهُ. وَالدَّرَاهِمُ لَا تُقْصَدُ عَيْنُهَا فَإِعَادَةُ الْمُقْتَرِضِ نَظِيرَهَا كَمَا يُعِيدُ الْمُضَارِبُ نَظِيرَهَا. وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ. وَلِهَذَا سُمِّيَ قَرْضًا وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُقْرِضُ إلَّا نَظِيرَ مَالِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَالْمُقْرِضُ يَسْتَحِقُّ مِثْلَ قَرْضِهِ فِي صِفَتِهِ كَمَا يَسْتَحِقُّ مِثْلَهُ فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَبِيعُهُ عَاقِلٌ وَإِنَّمَا يُبَاعُ الشَّيْءُ بِمِثْلِهِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَتْ الصِّفَةُ. وَالشَّارِعُ طَلَبَ إلْغَاءَ الصِّفَةِ فِي الْأَثْمَانِ فَأَرَادَ أَنْ تُبَاعَ الدَّرَاهِمُ بِمِثْلِ وَزْنِهَا وَلَا يُنْظَرُ إلَى اخْتِلَافِ الصِّفَاتِ مَعَ خِفَّةِ وَزْنِ كُلِّ دِرْهَمٍ. كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَطْلُبُ دَرَاهِمَ خِفَافًا إمَّا لِيُعْطِيَهَا لِلظُّلْمَةِ وَإِمَّا لِيَقْضِيَ بِهَا

ص: 473

وَأَمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَيُبَدِّلُ أَقَلَّ مِنْهَا عَدَدًا وَهُوَ مِثْلُهَا وَزْنًا فَيُرِيدُ الْمُرْبِي أَنْ لَا يُعْطِيَهُ ذَلِكَ إلَّا بِزِيَادَةٍ فِي الْوَزْنِ فَهَذَا إخْرَاجُ الْأَثْمَانِ عَنْ مَقْصُودِهَا وَهَذَا مِمَّا حَرَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَا رَيْبٍ بِخِلَافِ مَوَاضِعِ تَنَازُعِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:

عَمَّنْ يَبْخَسُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ؟

فَأَجَابَ:

أَمَّا بَخْسُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ فَهُوَ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَهْلَكَ اللَّهُ بِهَا قَوْمَ شُعَيْبٍ وَقَصَّ عَلَيْنَا قِصَّتَهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ؛ لِنَعْتَبِرَ بِذَلِكَ. وَالْإِصْرَارُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ وَصَاحِبُهُ مُسْتَوْجِبٌ تَغْلِيظَ الْعُقُوبَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ مَا بَخَسَهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ وَيُصْرَفَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يُمْكِنْ إعَادَتُهُ إلَى أَصْحَابِهِ. وَالْكَيَّالُ وَالْوَزَّانُ الَّذِي يَبْخَسُ الْغَيْرَ: هُوَ ضَامِنٌ مَحْرُومٌ مَأْثُومٌ، وَهُوَ مِنْ أَخْسَرِ النَّاسِ صَفْقَةً إذْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ. وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَ النَّاسِ كَيَّالًا أَوْ وَزَّانًا يَبْخَسُ أَوْ يُحَابِي كَمَا لَا يَحِلُّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ مُقَوِّمٌ يُحَابِي بِحَيْثُ يَكِيلُ أَوْ يَزِنُ أَوْ يُقَوِّمُ لِمَنْ يَرْجُوهُ أَوْ يَخَافُ مِنْ شَرِّهِ أَوْ يَكُونُ لَهُ جَاهٌ وَنَحْوُهُ بِخِلَافِ مَا يَكِيلُ أَوْ يَزِنُ

ص: 474

‌بَابُ بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ -:

عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى دَارًا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا بُرُوزٌ ثُمَّ إنَّهُ هَدَمَهَا وَعَمَّرَهَا وَأَحْدَثَ بُرُوزًا وَسُلَّمًا وَبَابًا فِي زُقَاقٍ غَيْرِ نَافِذٍ فَخَافَ مِنْ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَالْأَيْمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى: أَنَّهُ مَا أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الدَّارِ شَيْئًا، فَمَلَّكَهَا لِلْغَيْرِ وَذَكَرَ أَنَّهُ بَاعَهَا بِالْمُهْلَةِ وَعَمِلَ هَذَا الْبَيْعَ أُحْبُولَةً وَمُوَاطَأَةً حَتَّى يَضِيعَ الْحَقُّ، فَهَلْ تَلْزَمُ الْيَمِينُ لِمَنْ أَحْدَثَ وَبَاعَ؟ أَمْ تَلْزَمُ الَّذِي اشْتَرَى وَهُوَ لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَيْعُهَا لَا يُسْقِطُ الدَّعْوَى وَلَا الْيَمِينَ الْوَاجِبَةَ بِالدَّعْوَى وَصَاحِبُ الْحَقِّ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الْمُشْتَرِي الْمُسْتَوْلِي عَلَى مَا أَحْدَثَ لِيُزَالَ الْإِحْدَاثُ، وَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الْبَائِعِ الْمُحْدِثِ لَهُ الْمُمَكِّنِ لَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الِاسْتِيلَاءِ فَعَلَى أَيِّهِمَا ادَّعَى صَحَّتْ دَعْوَاهُ.

ص: 476

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ بَنَى دَارًا عَالِيَةً وَسَافِلَةً وَأَجْرَى الْعَالِيَةَ عَلَى السَّافِلَةِ ثُمَّ بَاعَهَا فِي صَفْقَتَيْنِ لِاثْنَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ لِمُشْتَرِي السُّفْلَى أَنَّ عَلَيْهِ حَقَّ مَاءٍ وَقَدْ تَضَرَّرَ؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا الْبَيْعُ فَيَقَعُ عَلَى الصُّورَةِ الْوَاقِعَةِ؛ لَكِنْ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي أَنَّ عَلَى سَطْحِهِ حَقًّا لِغَيْرِهِ، فَلَهُ الْفَسْخُ أَوْ الْأَرْشُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ بَاعَ زَرْعًا أَخْضَرَ قَبْلَ أَنْ يُدْرَكَ. هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ:

بَيْعُ الزَّرْعِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ بَاعَهُ مُطْلَقًا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ وَالْعِنَبَ حَتَّى يَسْوَدَّ} .

ص: 477

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ مِلْك بُسْتَانِ شَجَرِهِ مُخْتَلِفٌ مِنْهُ مَا يَبْدُو صَلَاحُهُ كَالْمِشْمِشِ، وَمِنْهُ مَا يَتَأَخَّرُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ: كَالرُّمَّانِ، وَمِنْهُ مَا يَبْدُو صَلَاحُهُ بَيْنَهُمَا كَالْعِنَبِ وَالتِّينِ وَالرُّطَبِ وَأَنْتُمْ لَا تُصَحِّحُونَ الْبَيْعَ إلَّا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ. فَكَيْفَ يُمْكِنُ الِاحْتِيَاطُ الشَّرْعِيُّ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي بُدُوِّ الصَّلَاحِ بِتَقَدُّمِهِ وَتَأَخُّرِهِ وَتَوَسُّطِهِ، فَإِنْ بَاعَ مَثَلًا الْمِشْمِشَ عِنْدَ صَلَاحِهِ وَلَمْ تُجَوِّزُوا بَيْعَ الْعِنَبِ حَيْثُ هُوَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حِصْرِمٌ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ. أَفْتُونَا؟ .

فَأَجَابَ رضي الله عنه:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا صُورَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنْ يَضْمَنَ الْبُسْتَانَ ضَمَانًا بِحَيْثُ يَكُونُ الضَّامِنُ هُوَ الَّذِي يَزْرَعُ أَرْضَهُ وَيَسْقِي شَجَرَهُ كَاَلَّذِي يَسْتَأْجِرُ الْأَرْضَ. وَالْأُخْرَى إنَّمَا يَكُونُ اشْتَرَى مُجَرَّدَ الثَّمَرَةِ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ مُؤْنَةُ السَّقْيِ وَالْإِصْلَاحِ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرِي لَيْسَ لَهُ إلَّا الثَّمَرَةُ وَلَا مُؤْنَةَ عَلَيْهِ.

ص: 478

فَأَمَّا " الصُّورَةُ الْأَوْلَى " فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا. وَعَلَى هَذَا فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَالُ عَلَى ذَلِكَ بِإِجَارَةِ الْأَرْضِ وَالْمُسَاقَاةِ عَلَى الشَّجَرِ كَمَا يَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَد: مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي " كِتَابِ إبْطَالِ الْحِيَلِ " وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد بُطْلَانُ هَذِهِ الْحِيَلِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ الصُّوَرِ تَكُونُ بَاطِلَةً بِالْإِجْمَاعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ كَثِيرَةً أَوْ قَلِيلَةً فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ وَالشَّجَرُ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ: جَازَ إجَارَةُ الْأَرْضِ وَدَخَلَ فِيهَا بَيْعُ الثَّمَرِ ضِمْنًا وَتَبَعًا وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَفِي وَقْفِ الثُّلُثِ قَوْلَانِ. الثَّالِثُ جَوَازُ ذَلِكَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتْ الْأَرْضُ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى حَرْبٌ الكرماني وَأَبُو زُرْعَةِ الدِّمَشْقِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ ثَابِتٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَبِلَ حَدِيقَةَ أسيد بْنَ حضير - لَمَّا مَاتَ - ثَلَاثَ سِنِينَ وَتَسَلَّفَ الْقَبَالَةَ وَوَفَّى بِهَا دَيْنًا كَانَ عَلَى أسيد. وَمِثْلُ

ص: 479

هَذِهِ الْقِصَّةِ لَا بُدَّ أَنْ تَنْتَشِرَ وَلَمْ يُنْكِرْهَا أَحَدٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِ الْخَرَاجِ - وَالْأَعْيَانُ وَالْخَرَاجُ أُجْرَةٌ: فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ - وَالْأَرْضُ ذَاتُ شَجَرٍ فَأَجَّرَ الْجَمِيعَ وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَبِهِ تُرِكَ الْخَرَاجُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَلَهُ مَأْخَذَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إجَارَةِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إلَّا مَعَ الشَّجَرِ فَجَازَ لِلْحَاجَةِ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّبْعِيضِ كَمَا أَنَّهُ إذَا بَدَا بَعْضُ ثَمَرِ الشَّجَرِ جَازَ بَيْعُ جَمِيعِهَا اتِّفَاقًا؛ بَلْ إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي شَجَرَةٍ كَانَ صَلَاحًا لِذَلِكَ النَّوْعِ فِي تِلْكَ الْحَدِيقَةِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَفِي سَائِرِ الْبَسَاتِينِ نِزَاعٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْفَرْدِ وَالْعُقُودِ تَبَعًا مَا لَا يَدْخُلُ اسْتِقْلَالًا كَمَا يَدْخُلُ أَسَاس الْحِيطَانِ وَدَوَاخِلُهَا وَعَمَلُ الْحَيَوَانَاتِ وَمَا يَدْخُلُ مِنْ الزِّيَادَةِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَكَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ} . وَإِذَا اشْتَرَطَ الْمُبْتَاعُ الثَّمَرَ الْمُؤَبَّرَ جَازَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَهُوَ ثَمَرٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ جَازَ بَيْعُهُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ لِلْحَاجَةِ مَا لَا يَجُوزُ بِدُونِهَا كَمَا جَازَ بَيْعُ الْعَرَايَا بِالتَّمْرِ وَكَمَا جَوَّزَ مَنْ جَوَّزَ الْمُضَارَبَةَ وَالْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ تَبَعًا، وَمِنْ الْقِيَاسِ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ إجَارَةٌ كَمَا

ص: 480

هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مُشَارَكَةً وَجَعَلَهَا أَصْلًا آخَرَ يَجُوزُ ذَلِكَ نَصًّا؛ لَا قِيَاسًا وَلَيْسَ هُوَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَطَوَائِفَ مِنْ الْخَلَفِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ كَصَاحِبَيْهِ وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كالخطابي وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَهُنَا أَتَمُّ نَظَرًا. وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا كَمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ قَبْلَ اشْتِدَادِهِ وَعَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ ثُمَّ إنَّهُ يَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إجَارَةُ الْأَرْضِ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى يَنْبُتَ الزَّرْعُ وَلَيْسَ ذَلِكَ تَبَعًا لِلْحَبِّ وَكَذَلِكَ تَقْبِيلُ الشَّجَرِ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى تُثْمِرَ لَيْسَ هُوَ تَبَعًا لِلثَّمَرَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَلَى الْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ الْأَرْضِ كَالْمُسَاقَاةِ عَلَى الشَّجَرِ بِجُزْءٍ مِنْ الثَّمَرِ وَأَنَّ إعَارَةَ الْأَرْضِ كَإِعَارَةِ الشَّجَرِ وَأَنَّ انْتِفَاعَ أَهْلِ الْوَقْفِ بِزَرْعِ الْأَرْضِ كَانْتِفَاعِهِمْ بِثَمَرِ الشَّجَرِ، فَالثَّمَرَةُ - وَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا - فَإِنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْفَوَائِدِ وَالنَّفْعِ فِي الْوَقْفِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخْلِفُ بَدَلَهَا كَمَا أَنَّ اسْتِرْضَاعَ الظِّئْرِ لَمَّا كَانَ مُسْتَخْلَفًا بَدَلُهُ جَرَى مَجْرَى النَّفْعِ؛ وَلِهَذَا فِي بَابِ بَيْعِ الثَّمَرِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ إنَّمَا تَكُونُ مُؤْنَةُ كَمَالِ الصَّلَاحِ عَلَى الْبَائِعِ. وَأَمَّا الْقُبَالَةُ الَّتِي فَعَلَهَا عُمَرُ: فَإِنَّمَا يَقُومُ فِيهَا بِسَقْيِ الشَّجَرِ وَمُؤْنَةِ حُصُولِ الثَّمَرِ الْمُتَقَبَّلِ فَلَا

ص: 481

يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا. وَيُعْلَمُ أَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ هَذِهِ الْقُبَالَةَ بِلَا رَيْبٍ. ثُمَّ إنْ قُدِّرَ أَنَّ الشَّجَرَ لَمْ يَطْلُعْ أَوْ تَلِفَ بَعْدَ إطْلَاعِهِ بِدُونِ تَفْرِيطِ الْمُتَقَبِّلِ؛ كَانَ بِمَنْزِلَةِ تَعَطُّلِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْإِجَارَةِ وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً إلَّا إذَا تَمَكَّنَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الِانْتِفَاعِ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي مُجَرَّدَ الثَّمَرَةِ فَقَطْ وَمُؤْنَةُ السَّقْيِ عَلَى الْبَائِعِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إذَا كَانَ الْبُسْتَانُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَنْوَاعٍ فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ - أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِ الْبُسْتَانِ إذَا صَلَحَ نَوْعٌ مِنْهُ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّوْعِ جَمِيعِهِ إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ فِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلنَّوْعِ قَدْ يَتَّفِقُ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ مَنْ يَشْتَرِي نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى مِنْ الْقَوْلِ الثَّانِي وَهُوَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَالْجَوَازُ هُنَا بِمُجَرَّدِ الْحَاجَةِ وَذَلِكَ أَنَّ بَيْعَ الْمُزَابَنَةِ أَعْظَمُ مِنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ فَإِنَّهُ بَيْعٌ رِبَوِيٌّ بِجِنْسِهِ خَرْصًا. وَالرِّبَا أَعْظَمُ مِنْ الْغَرَرِ لَا سِيَّمَا وَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا قَدْ خَصَّ مِنْهُ مَوَاضِعَ كَمَا خَصَّ بَيْعَهُ مَعَ الشَّجَرِ. فَعُلِمَ أَنَّ النَّهْيَ لَمْ يَتَنَاوَلْ بَيْعَهُ مَعَ غَيْرِهِ مُطْلَقًا؛ بَلْ قَدْ يُقَالُ: إنَّمَا

ص: 482

نُهِيَ عَنْهُ مُفْرَدًا كَمَا نُهِيَ عَنْ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ مُفْرَدًا وَيُبَاحُ مَعَ غَيْرِهِ مَا لَا يُبَاحُ مُفْرَدًا؛ وَلِأَنَّهُ بَيْعُ رَطْبٍ بِجِنْسِهِ الرِّبَوِيِّ يَابِسًا وَهَذَا مُحَرَّمٌ بِالنَّصِّ أَيْضًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَقَدْ جَازَ مِنْ دُخُولِ الْمَعْدُومِ فِي بَيْعِ الثَّمَرَةِ مَا لَمْ يَثْبُتْ نَظِيرُهُ فِي الْمُزَابَنَةِ. فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا اسْتِثْنَاءً مِنْ الْمُزَابَنَةِ لِلْحَاجَةِ فَلِأَنْ يَجُوزَ بَيْعُ النَّوْعِ تَبَعًا لِلنَّوْعِ مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ذَلِكَ أَشَدُّ وَأَوْلَى وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِهِ مُفْرَدًا مَنْعُهُ مَضْمُومًا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ وَبَيْعُ الْحَيَوَانِ الْحَامِلِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ اُشْتُرِطَ كَوْنُهُ حَامِلًا، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ. وَسِرُّ الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: أَنَّ الْفِعْلَ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ مُنِعَ مِنْهُ إلَّا إذَا عَارَضَهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ كَمَا فِي إبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ. وَبَيْعِ الْغَرَرِ نَهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الْمَيْسِرِ الَّذِي يُفْضِي إلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فَإِذَا عَارَضَ ذَلِكَ ضَرَرٌ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَبَاحَهُ دَفْعًا لِأَعْظَمِ الفسادين بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 483

وَقَالَ الشَّيْخُ رحمه الله:

فَصْلٌ:

وَأَمَّا بَيْعُ المقاثي كَالْبِطِّيخِ وَالْخِيَارِ وَالْقِثَّاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد مَنْ قَالَ: لَا يُبَاعُ إلَّا لُقَطَةً لُقَطَةً جَعَلَا ذَلِكَ مِنْ بَابِ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِعُرُوقِهَا جُمْلَةً كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ؛ لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَهُ مَأْخَذَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعُرُوقَ كَأُصُولِ الشَّجَرِ. فَبَيْعُ الْخَضْرَاوَات بِعُرُوقِهَا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا كَبَيْعِ الشَّجَرِ بِثَمَرِهِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ يَجُوزُ تَبَعًا. وَهَذَا مَأْخَذُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِنْ كَانَ هَذَا عَلَى خِلَافِ أُصُولِهِ. وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي: - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّ هَذِهِ لَمْ تَدْخُلْ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَلْ تَصِحُّ مَعَ الْعُقُودِ الَّذِي هُوَ اللُّقَطَةُ

ص: 484

الْمَوْجُودَةُ وَاللُّقَطَةُ الْمَعْدُومَةُ إلَى أَنْ تَيْبَسَ المقثاة وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ مَعْدُومَةً لَمْ تُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ بَيْعُهَا إلَّا كَذَلِكَ وَبَيْعُهَا لُقَطَةً لُقْطَةً مُتَعَذَّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ لِعَدَمِ التَّمْيِيزِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ شَرْعًا وَالشَّرِيعَةُ اسْتَقَرَّتْ عَلَى أَنَّ مَا يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا كَالْمَنَافِعِ وَأَجْرِ الثَّمَرِ الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ مَعَ الْأَصْلِ وَاَلَّذِي بَدَا صَلَاحُهُ مُطْلَقًا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هَذِهِ مَعْلُومَةٌ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَالْعِلْمِ بِالثِّمَارِ وَتَلَفِهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَتَلَفِ الثِّمَارِ بِالْجَائِحَةِ وَتَلَفِ مَنَافِعِ الْإِجَارَةِ مِنْ جِنْسِهِ. وَثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الْجَوَائِحَ تُوضَعُ بِلَا مَحْذُورٍ فِي ذَلِكَ أَصْلًا بَلْ الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِ ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِنْ كَانَ بَيْعُ ذَلِكَ قَدْ يُفْضِي إلَى نَوْعٍ مِنْ الْفَسَادِ فَالْفَسَادُ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ أَعْظَمُ فَيَجِبُ دَفْعُ أَعْظَمِ الفسادين بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا إذْ ذَلِكَ قَاعِدَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الشَّرِيعَةِ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ لَهُ سَوَاقِي يَزْرَعُ فِيهَا: اللِّفْتَ وَالْجَزَرَ وَالْفُجْلَ وَالْقَصَبَ وَالْقُلْقَاسَ فَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ .

فَأَجَابَ:

أَمَّا بَيْعُ الْقَصَبِ وَنَحْوِهِ سَوَاءٌ بِيعَ عَلَى أَنْ يُقْلَعَ أَوْ يُقْطَعَ مِنْ مَكَانٍ مَعْرُوفٍ فِي الْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ مُغَطَّى بِوَرَقِهِ فَإِنَّ هَذَا الْغِطَاءَ

ص: 485

لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ كَبَيْعِ الْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ وَكَبَيْعِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قشريه؛ فَإِنَّ بَيْعَ جَمِيعِ هَذَا جَائِزٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ والآخرين كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنِ نَبِيِّهِمْ إلَى هَذَا الزَّمَانِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ وَعَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ} فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ كَمَا دَلَّ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ فِي الْعَادَةِ. وَأَمَّا بَيْعُ الْجَزَرِ وَاللِّفْتِ وَالْفُجْلِ وَالْقُلْقَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ حَتَّى يُقْلَعَ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُغَيَّبٌ لَمْ يُرَ وَلَمْ يُوصَفْ؛ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ الَّتِي لَمْ تُرَ وَلَمْ تُوصَفْ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ إذَا رَأَى مَا ظَهَرَ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إلَّا بِهَذَا؛ فَإِنَّ تَأْخِيرَ بَيْعِهِ إلَى حِينِ قَلْعِهِ يَتَعَذَّرُ تَارَةً وَيَتَعَسَّرُ أُخْرَى وَيُفْضِي إلَى

ص: 486

فَسَادِ الْأَمْوَالِ. وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ مُغَيَّبًا فَيَكُونُ غَرَرًا: فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ إذَا رُئِيَ مِنْ الْمَبِيعِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا لَمْ يُرَ جَازَ الْبَيْعُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ: فِي مِثْلِ بَيْعِ الْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ. وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ الْحَرَجُ بِمَعْرِفَةِ جَمِيعِهِ يُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ مَا يُمْكِنُ مِنْهُ كَمَا فِي بَيْعِ الْحِيطَانِ. وَمَا مَأْكُولِهِ فِي جَوْفِهِ وَالْحَيَوَانِ الْحَامِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَالصَّوَابُ جَوَازُ بَيْعِ مِثْلِ هَذَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ بَيْعِ مَا فِي بَطْنِ الْأَرْضِ مِنْ اللِّفْتِ وَالْجَزَرِ وَالْقُلْقَاسِ وَنَحْوِهِ: هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا.

فَأَجَابَ:

أَمَّا بَيْعُ الْمَغْرُوسِ فِي الْأَرْضِ الَّذِي يَظْهَرُ وَرَقُهُ كَاللِّفْتِ وَالْجَزَرِ وَالْقُلْقَاسِ وَالْفُجْلِ وَالثُّومِ وَالْبَصَلِ وَشِبْهِ ذَلِكَ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا. قَالُوا: لِأَنَّ هَذِهِ أَعْيَانٌ غَائِبَةٌ لَمْ تُرَ وَلَمْ تُوصَفْ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ؛ وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 487

عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ بَيْعَ ذَلِكَ جَائِزٌ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ لِوُجُوهِ. مِنْهَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْغَرَرِ؛ بَلْ أَهْلُ الْخِبْرَةِ يَسْتَدِلُّونَ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْوَرِقِ عَلَى الْمُغَيَّبِ فِي الْأَرْضِ كَمَا يَسْتَدِلُّونَ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْعَقَارِ مِنْ ظَوَاهِرِهِ عَلَى بَوَاطِنِهِ وَكَمَا يَسْتَدِلُّونَ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْحَيَوَانِ عَلَى بَوَاطِنِهِ. وَمَنْ سَأَلَ أَهْلَ الْخِبْرَةِ أَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَيْهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلْمَ فِي جَمِيعِ الْمَبِيعِ يُشْتَرَطُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ فَمَا ظَهَرَ بَعْضُهُ وَخَفِيَ بَعْضُهُ وَكَانَ فِي إظْهَارِ بَاطِنِهِ مَشَقَّةٌ وَحَرَجٌ: اُكْتُفِيَ بِظَاهِرِهِ؛ كَالْعَقَارِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ أَسَاسِهِ وَدَوَاخِلُ الْحِيطَانِ وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ وَكَذَلِكَ أَمْثَالُ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَا اُحْتِيجَ إلَى بَيْعِهِ فَإِنَّهُ يُوَسَّعُ فِيهِ مَا لَا يُوَسَّعُ فِي غَيْرِهِ؛ فَيُبِيحُهُ الشَّارِعُ لِلْحَاجَةِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْخَاصِّ كَمَا أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا وَأَقَامَ الْخَرْصَ مَقَامَ الْكَيْلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ مِنْ الْمُزَابَنَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا: فَإِنَّ الْمُزَابَنَةَ بَيْعُ الْمَالِ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً إذَا كَانَ

ص: 488

رِبَوِيًّا بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ رِبَوِيٍّ فَعَلَى قَوْلَيْنِ وَكَذَلِكَ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ابْتِيَاعِ الثَّمَرِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ مَعَ أَنَّ إتْمَامَ الثَّمَرِ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ وَلَمْ يُرَ. فَجَعَلَ مَا لَمْ يُوجَدْ وَلَمْ يُخْلَقْ وَلَمْ يُعْلَمْ تَابِعًا لِذَلِكَ وَالنَّاسُ مُحْتَاجُونَ إلَى بَيْعِ هَذِهِ النَّبَاتَاتِ فِي الْأَرْضِ. وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ بَيْعُ المقاثي كمقاثي الْبِطِّيخِ وَالْخِيَارِ وَالْقِثَّاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مَنْ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إلَّا لُقَطَةً لُقَطَةً. وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا قَالُوا: إنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا مُطْلَقًا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ بَيْعَهَا لَا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَبَيْعُهَا لُقَطَةً لُقَطَةً إمَّا مُتَعَذِّرٌ وَإِمَّا مُتَعَسِّرٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ لُقَطَةٌ عَنْ لُقَطَةٍ؛ إذْ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الْتِقَاطُهُ وَيُمْكِنُ تَأْخِيرُهُ. فَبَيْعُ المقثاة بَعْدَ ظُهُورِ صَلَاحِهَا كَبَيْعِ ثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمَبِيعِ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ وَلَمْ يُرَ؛ وَلِهَذَا إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِ الشَّجَرَةِ كَانَ صَلَاحًا لِبَاقِيهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَيَكُونُ صَلَاحُهَا صَلَاحًا لِسَائِرِ مَا فِي الْبُسْتَانِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَقَوْلِ جُمْهُورِهِمْ: بَلْ يَكُونُ صَلَاحًا لِجَمِيعِ ثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنْ يُبَاعَ جُمْلَةً فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ وَغَيْرُهَا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْجَوَابِ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

ص: 489

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ بَيْعِ قَصَبِ السُّكَّرِ وَالْقُلْقَاسِ وَاللِّفْتِ وَالْجَزَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهُوَ قَائِمٌ فِي الْأَرْضِ وَفِي بَيْعِ الْبِطِّيخِ وَنَحْوِهِ مِنْ المقاثي؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا بَيْعُ قَصَبِ السُّكَّرِ فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ إلَّا مَا يُذْكَرُ مِنْ كَوْنِهِ فِي قِشْرِهِ الَّذِي يَكُونُ صَوْنًا لَهُ فَبَيْعُهُ كَبَيْعِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ والباقلا فِي قشريه وَبَيْعُ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَعَمَلُهَا الْمُتَّصِلُ مِنْ لَدُنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى هَذَا الزَّمَانِ وَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إلَّا بِذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا مَرِضَ أَمَرَ أَنْ يُشْتَرَى لَهُ باقلا أَخْضَرَ وَذَلِكَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ نَهْيِهِ الَّذِي فِي كُتُبِهِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ {صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ} وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ ذَلِكَ بَعْدَ اسْوِدَادِهِ وَاشْتِدَادِهِ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ

ص: 490

وَهُوَ مِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ كالباقلا فِي قشريه. وَاَلَّذِي كَرِهَ بَيْعَ ذَلِكَ يَظُنُّهُ مِنْ الْغَرَرِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُشْتَرِينَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ كَمَا يَعْلَمُونَ كَثِيرًا مِنْ الْمَبِيعَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا؛ بَلْ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ أَقْوَى مِنْ عِلْمِهِمْ بِكَثِيرٍ مِنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ فِي ذَلِكَ جَهْلًا فَالشَّرِيعَةُ اسْتَقَرَّتْ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ مَعَ الْغَرَرِ؛ وَلِهَذَا أَذِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْعِ الثِّمَارِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُبْقَاةً إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ. ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ إذَا أَصَابَتْهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَذِنَ فِي بَيْعِ الْعَقَارِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {مَنْ كَانَ لَهُ شِرْكٌ فِي أَرْضٍ أَوْ رِبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ} . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْعَقَارِ مَعَ أَنَّ أَسَاسَ الْحِيطَانِ وَدَاخِلَهَا مُغَيَّبٌ. وَكَذَلِكَ أَذِنَ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا تَبَعًا لِلْأَصْلِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: {مَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرًا فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ} وَذَلِكَ أَنَّ بَيْعَ الْغَرَرِ نَهَى عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَيْسِرِ وَالْقِمَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. فَإِذَا

ص: 491

كَانَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مِنْ فَوَاتِ الْأَمْوَالِ وَفَسَادِهَا وَنَقْصِهَا عَلَى أَصْحَابِهَا بِتَحْرِيمِ الْبَيْعِ أَعْظَمُ مِمَّا فِيهَا مَعَ حِلِّهِ لَمْ يَجُزْ دَفْعُ الْفَسَادِ الْقَلِيلِ بِالْتِزَامِ الْفَسَادِ الْكَثِيرِ؛ بَلْ الْوَاجِبُ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَهُوَ تَحْصِيلُ أَعْظَمِ الصلاحين بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَدَفْعِ أَعْظَمِ الفسادين بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا وَالْفُتْيَا لَا تَحْتَمِلُ الْبَسْطَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا.

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

فَصْلٌ:

وَأَمَّا بَيْعُ الْقُلْقَاسِ وَالْجَزَرِ وَاللِّفْتِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ - كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ كَوْنُ الْمَبِيعِ مَعْلُومًا الْعِلْمَ الْمُعْتَبَرَ فِي الْمَبِيعِ فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ. وَأَهْلُ الْخِبْرَةِ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فِي حَالِ كَوْنِهِ فِي الْأَرْضِ بِحَيْثُ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ غَرَرًا؛ وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَقْلَعُونَهُ مِنْهُ كَمَا يُعْلَمُ

ص: 492

الْمَبِيعُ الْمُنْفَصِلُ عَنْ الْأَرْضِ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهِ إذَا كَانَ مُتَشَابِهَ الْأَجْزَاءِ. ثُمَّ إنْ ظَهَرَ الْخَفِيُّ دُونَ الظَّاهِرِ بِمَا لَمْ تُجَرِّبْهُ الْعَادَةُ: كَانَ ذَلِكَ إمَّا غَبْنًا وَإِمَّا تَدْلِيسًا. بَلْ أَهْلُ الْخِبْرَةِ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْلَمُونَ كَثِيرًا مِنْ الْمُنْفَصِلِ. وَكَوْنُ الْمَبِيعِ مَعْلُومًا أَوْ غَيْرَ مَعْلُومٍ لَا يُؤْخَذُ عَنْ الْفُقَهَاءِ بِخُصُوصِهِمْ؛ بَلْ يُؤْخَذُ عَنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ؛ وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذُ عَنْهُمْ مَا انْفَرَدُوا بِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ بِأَدِلَّتِهَا. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} وَالْإِيمَانُ بِالشَّيْءِ مَشْرُوطٌ بِقِيَامِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْأُمُورَ الْغَائِبَةَ عَنْ الْمُشَاهَدَةِ قَدْ تُعْلَمُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فَإِذَا قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَة: إنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ كَانَ الْمَرْجِعُ إلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ دُونَ مَنْ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ بِالدِّينِ مِنْهُمْ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ فِي تَأْبِيرِ النَّخْلِ: {أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِدُنْيَاكُمْ. فَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ} . ثُمَّ يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ عَلَى مَا تَعْلَمُهُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ كَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّقْوِيمِ وَالْقِيَامَةِ وَالْخَرْصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ص: 493

وَسُئِلَ:

عَنْ إنْسَانٍ عَاقَدَ إنْسَانًا عَلَى قَصَبٍ وَقُلْقَاسٍ وَهُوَ تَحْتَ الْأَرْضِ قَبْلَ إدْرَاكِهِ فَعِنْدَ إدْرَاكِهِ غَرِقَ وَقَدْ طَلَبَ مِنْهُ ثَمَنَهُ بِلَا مُكَاتَبَةٍ وَلَا تَسْلِيمٍ فَمَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ؟

الْجَوَابُ

فَأَجَابَ: مَا تَلِفَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ سَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنْ بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك مِنْ ثَمَنِهَا شَيْءٌ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟} .

ص: 494

‌بَابُ السَّلَمِ

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

عَنْ السَّلَمِ فِي الزَّيْتُونِ هَلْ يَجُوزُ؟

فَأَجَابَ:

وَأَمَّا السَّلَمُ فِي الزَّيْتُونِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ فَيَجُوزُ وَمَا عَلِمْت بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ فِي غَيْرِ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ كَالْحَيَوَانِ وَنَحْوِهِ. وَفِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ أَشْهَرُهُمَا جَوَازُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ قَمْحٌ قِيمَتُهُ وَزْنُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا. بَاعَهُ إلَى أَجَلٍ بِخَمْسَةِ وَعِشْرِينَ هَلْ يَجُوزُ؟ وَالسَّلَمُ فِي الْغَلَّةِ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ؟

فَأَجَابَ:

أَمَّا السَّلَفُ فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ

ص: 495

إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ} . وَأَمَّا إذَا قَوَّمَ السِّلْعَةَ بِقِيمَةِ حَالَّةٍ وَبَاعَهَا إلَى أَجَلٍ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدِ ثُمَّ بِعْت بِنَقْدِ فَلَا بَأْسَ وَإِذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدِ ثُمَّ بِعْت بِنَسِيئَةِ فَتِلْكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: اسْتَقَمْت. أَيْ قَوَّمْت وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ امْرَأَةٍ تَشْتَرِي قُمَاشًا بِثَمَنِ حَالٍّ وَتَبِيعُهُ بِزَائِدِ الثُّلُثِ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، فَهَلْ هَذَا رِبًا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي يَشْتَرِيهَا لِيَنْتَفِعَ بِهَا أَوْ يَتَّجِرَ بِهَا - لَا يَشْتَرِيهَا لِيَبِيعَهَا وَيَأْخُذَ ثَمَنَهَا لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ - فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لَكِنْ يَنْبَغِي إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُحْتَاجًا أَنْ يَرْبَحَ عَلَيْهِ الرِّبْحَ الَّذِي جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَ‌

‌سُئِلَ:

هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ بِشَاةٍ إلَى أَجَلٍ؟

فَأَجَابَ:

يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ بِشَاةٍ إلَى أَجَلٍ.

ص: 496

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ يَشْتَرِي عُشَّ الْحَمَّامَاتِ وَيُقَدِّمُ الْفِضَّةَ عَلَى عُشِّ السَّنَةِ كُلِّهَا وَنَصَّ عِنْدَ الشُّهُودِ عَلَى أَرَادِبَ مَعْلُومَةٍ وَلَيْسَ ثَمَّ كَيْلًا أَصْلًا؛ بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَصِحَّ السَّلَمُ وَكَانَ الْعَادَةُ إذَا تَحَصَّلَ مِنْهُ شَيْءٌ جُعِلَ فِي وِعَائِهِ وَخُتِمَ عَلَيْهِ كُلُّهُ وَبِيعَ فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّ هَذَا الْمُنْعَقِدَ مِنْ الدُّخَانِ هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ؟ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَنِزَاعٌ، وَإِنْ كَانَ الْوَقُودُ طَاهِرًا كَوَقُودِ الْأَفْرَانِ وَكَالْوَقُودِ الطَّاهِرِ لِلْحَمَّامِ فَذَلِكَ الْمُنْعَقِدُ طَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ الْوَقُودُ بِنَجَاسَةٍ فَهَلْ يَكُونُ هَذَا الْمُنْعَقِدُ طَاهِرًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ نَجَاسَةٍ اسْتَحَالَتْ كَالرَّمَادِ والقصرمل والجرسيف وَنَحْوُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِيلًا عَنْ نَجَاسَةٍ فَهَذَا نَجِسٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد أَنَّهُ طَاهِرٌ وَهَذَا الْقَوْلُ

ص: 497

أَقْوَى فِي دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ. فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ إذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ طَاهِرَةً وَهَذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَفْظُ التَّحْرِيمِ وَلَا مَعْنَاهُ فَلَا يَكُونُ مُحَرَّمًا نَجِسًا. فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ طَاهِرٌ جَوَّزَ بَيْعَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ بَيْعَهُ مَعَ نَجَاسَتِهِ وَالْخِلَافُ فِيهِ مَشْهُورٌ فِي " مَسْأَلَةِ السِّرْجِينِ النَّجِسِ ". وَ " الْأَصْلُ الثَّانِي ": أَنَّهُ إذَا جَازَ بَيْعُهُ فَلَا يُقَالُ يُبَاعُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَفُ فِيهِ وَلَيْسَ السُّؤَالُ عَنْ بَيْعِهِ مُعَيَّنًا حَتَّى يَشْتَرِطَ الرُّؤْيَةَ وَنَحْوَهَا؛ لَكِنْ إذَا أَسْلَفَ فِيهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُسْلِفَ فِي قَدْرٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَأَنْ يَقْبِضَ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ السَّلَمِ. فَإِذَا كَانُوا قَدْ أَظْهَرُوا صُورَةَ السَّلَمِ وَكَانَ الْمُسْلِمُ يَقْبِضُ مَا تَحَصَّلَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْبَاطِنِ سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْمِقْدَارِ أَوْ أَقَلَّ: فَهَذَا عَقْدٌ بَاطِلٌ يَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ وَمَنْعُ فَاعِلِهِ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ مُحْتَاجٍ إلَى تَاجِرٍ عِنْدَهُ قُمَاشٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ

ص: 498

فَقَالَ التَّاجِرُ مُشْتَرَاهَا بِثَلَاثِينَ وَمَا أَبِيعُهَا إلَّا بِخَمْسِينَ إلَى أَجَلٍ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

الْمُشْتَرِي عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ السِّلْعَةَ يَنْتَفِعُ بِهَا لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ التِّجَارَةَ فِيهَا فَهَذَانِ نَوْعَانِ جَائِزَانِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُضْطَرًّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ مِثْلَ أَنْ يُضْطَرَّ الْإِنْسَانُ إلَى مُشْتَرَى طَعَامٍ لَا يَجِدُهُ إلَّا عِنْدَ شَخْصٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهُ بِالْقِيمَةِ قِيمَةِ الْمِثْلِ. وَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ إلَّا بِأَكْثَرَ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَإِذَا أَعْطَاهُ إيَّاهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا قِيمَةُ الْمِثْلِ وَإِذَا بَاعَهُ إيَّاهُ بِالْقِيمَةِ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ فَإِنَّ الْأَجَلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا يُرِيدُ بِهِ دَرَاهِمَ مَثَلًا لِيُوَفِّيَ بِهَا دَيْنًا وَاشْتَرَى بِهَا شَيْئًا فَيَتَّفِقَانِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ مَثَلًا الْمِائَةَ بِمِائَةِ وَعِشْرِينَ إلَى أَجَلٍ فَهَذَا كُلُّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُعِيدَ

ص: 499

السِّلْعَةَ إلَيْهِ؛ فَهُوَ " بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ ". وَإِنْ أَدْخَلَا ثَالِثًا يَشْتَرِي مِنْهُ السِّلْعَةَ ثُمَّ تُعَادُ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ بَاعَهُ وَأَقْرَضَهُ فَكَذَلِكَ وَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يَأْخُذُ السِّلْعَةَ فَيَبِيعُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يَشْتَرِيهَا بِمِائَةِ وَيَبِيعُهَا بِسَبْعِينَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ إلَى دَرَاهِمَ. فَهَذِهِ تُسَمَّى: " مَسْأَلَةُ التَّوَرُّقِ " وَفِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَقْوَى أَيْضًا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَأَنَّهَا أَصْلُ الرِّبَا كَمَا قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَغَيْرُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ يُخْرِجُ عَلَى الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَالْفُولِ وَالْحِمَّصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِذَا جَاءَ أَوَانُ أَخْذِهِ بَاعَهُ لِلَّذِي هُوَ عِنْدَهُ بِسِعْرِ مَا يَسْوَى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْهُ. فَهَلْ هَذَا حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ؟ وَمَا عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى مِنْ السِّنِينَ؟ وَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ؟

فَأَجَابَ:

هَذَا يُسَمَّى " السَّلَمُ " وَ " السَّلَفُ " وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ هَذَا الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ دَيْنُ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا مِنْ الْمُسْتَلِفِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ بَلْ هَذَا يَدْخُلُ فِيمَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ. وَقَدْ يَدْخُلُ فِي رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ

ص: 500

أَيْضًا وَإِذَا وَقَعَ هَذَا الْبَيْعُ فَهُوَ فَاسِدٌ وَلَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الْبَائِعُ السَّلَفَ إلَّا دَيْنَ السَّلَمِ؛ دُونَ مَا جَعَلَهُ عِوَضًا عَنْهُ. وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ هَذَا الْعِوَضَ إنْ كَانَ قَبَضَهُ وَيُطَالِبَ بِدَيْنِ السَّلَمِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ أَوْ لَا يَعْرِفَ ذَلِكَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلْيَأْخُذْ بِقَدْرِ دَيْنِ السَّلَمِ مِنْ تِلْكَ الْأَعْوَاضِ وَلْيَتَصَدَّقْ بِالرِّبْحِ فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَ مِثْلَ دَيْنِ السَّلَمِ فَقَدْ أَخَذَ قَدْرَ حَقِّهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ وَالزِّيَادَةُ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَهِيَ لَا تَحِلُّ لَهُ فَلْيَتَصَدَّقْ بِهَا عَنْ أَصْحَابِهَا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْبَحْ شَيْئًا وَإِنَّمَا بَاعَهُ الْمُسْتَلِفُ بِسِعْرِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إخْرَاجُ مَالِهِ

وَسُئِلَ

عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ فَرَسٌ شَرَاهُ بِمِائَةِ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا فَطَلَبَهُ مِنْهُ إنْسَانٌ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى مُدَّةِ ثَلَاثَةِ شُهُورٍ فَهَلْ يَحِلُّ ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إنْ كَانَ الَّذِي يَشْتَرِيهِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ أَوْ يَتَّجِرَ بِهِ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ إلَى أَجَلٍ؛ لَكِنَّ الْمُحْتَاجَ لَا يَرْبَحُ عَلَيْهِ إلَّا الرِّبْحَ الْمُعْتَادَ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ ضَرُورَتِهِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى دَرَاهِمَ فَاشْتَرَاهُ لِيَبِيعَهُ فِي الْحَالِ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ فَهَذَا مَكْرُوهٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.

ص: 501

وَسُئِلَ:

عَنْ شَخْصٍ عِنْدَهُ صِنْفٌ. دَفَعَ لَهُ فِيهِ رَجُلٌ أَلْفَيْنِ وَمِائَةً بِالْوَزْنِ وَدَفَعَ لَهُ آخَرُ أَلْفَيْنِ وَسَبْعَمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ؟

فَأَجَابَ:

إنْ كَانَ الَّذِي يَشْتَرِيهَا إلَى أَجَلٍ يَشْتَرِيهَا لِيَتَّجِرَ فِيهَا أَوْ يَنْتَفِعَ بِهَا: جَازَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَبِيعَهَا إنْ شَاءَ بِالنَّقْدِ وَإِنْ شَاءَ إلَى أَجَلٍ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مَقْصُودُهُ الدَّرَاهِمَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهَا إذَا اشْتَرَاهَا وَيَأْخُذَ الدَّرَاهِمَ فَهَذَا يُسَمَّى: " التَّوَرُّقَ " وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.

ص: 502

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ أَسْلَفَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فِي رِطْلِ حَرِيرٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ جَاءَ الْأَجَلُ فَتَعَذَّرَ الْحَرِيرُ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ الْحَرِيرِ؟ أَوْ يَأْخُذَ عِوَضَهُ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد. إحْدَاهُمَا: لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ دَيْنِ السَّلَمِ بِغَيْرِهِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ} وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ مُتَأَخَّرِي أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا الخرقي وَغَيْرُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ دَيْنِ السَّلَمِ وَفِي الْمَبِيعِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَجَعَلَ دَيْنَ السَّلَمِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَبِيعَاتِ. فَإِذَا أَخَذَ عِوَضًا غَيْرَ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ بِقَدْرِ دَيْنِ السَّلَمِ حِينَ الِاعْتِيَاضِ لَا بِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ أَوْ أَخَذَ مِنْ نَوْعِهِ بِقَدْرِهِ: مِثْلَ أَنْ يُسْلِمَ فِي حِنْطَةٍ فَيَأْخُذَ

ص: 503

شَعِيرًا بِقَدْرِ الْحِنْطَةِ أَوْ يُسْلِمَ فِي حَرِيرٍ فَيَأْخُذَ عَنْهُ عِوَضًا مِنْ خَيْلٍ، أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ - كَابْنِ أَبِي مُوسَى والسامري صَاحِبِ الْمُسْتَوْعِب - لَكِنْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا قَالَ فِي " الْمُسْتَوْعِبِ ": وَمَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ بِحَالِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي الْأُخْرَى يَجُوزُ وَأَنْ يَأْخُذَ مَا دُونَ الْحِنْطَةِ مِنْ الْحُبُوبِ كَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهِ بِمِقْدَارِ كَيْلِ الْحِنْطَةِ لَا أَكْثَرَ مِنْهَا وَلَا بِقِيمَتِهَا نَصَّ عَلَيْهِ. قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: إذَا أَسْلَفْت فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَأَخَذْت شَعِيرًا فَلَا بَأْسَ وَهُوَ دُونَ حَقِّك وَلَا تَأْخُذْ مَكَانَ الشَّعِيرِ حِنْطَةً. وَأَمَّا الْمُطَّلِعُونَ عَلَى نُصُوصِ أَحْمَد فَذَكَرُوا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ دَيْنِ السَّلَمِ بِغَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مُطْلَقًا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَفْصٍ العكبري فِي مَجْمُوعِهِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بِخَطِّهِ فَإِنْ كَانَ مَا أَسْلَمَ فِيهِ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَأَخَذَ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ مِثْلَ كَيْلِهِ مِمَّا هُوَ دُونَهُ فِي الْجَوْدَةِ جَازَ. وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَ قِيمَتَهُ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ كَيْفَ شَاءَ. نَقَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَحْمَد: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إذَا لَمْ يَجِدْ مَا أَسْلَمَ فِيهِ وَوَجَدَ غَيْرَهُ مِنْ جِنْسِهِ يَأْخُذُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ إذَا كَانَ دُونَ الشَّيْءِ الَّذِي لَهُ قُلْت فَإِنَّمَا أَسْلَمَ فِي قَفِيزِ حِنْطَةٍ موصلي فَقَالَ: فَيَأْخُذُ مَكَانَهُ سُلْتَيْ أَوْ قَفِيزَ شَعِيرٍ بِكَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ

ص: 504

لَا يَزْدَادُ وَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ فَلَا يَأْخُذُ وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ طاوس عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إذَا أَسْلَمْت فِي شَيْءٍ فَجَاءَ الْأَجَلُ فَلَمْ تَجِدْ الَّذِي أَسْلَمْت فَخُذْ عِوَضًا بِأَنْقَصَ مِنْهُ وَلَا تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ. وَنَقَلَ أَيْضًا أَحْمَد بْنُ أَصْرَمَ سُئِلَ أَحْمَد عَنْ رَجُلٍ أَسْلَمَ فِي طَعَامٍ إلَى أَجَلٍ؟ فَإِذَا جَاءَ الْأَجَلُ يَشْتَرِي مِنْهُ عَقَارًا أَوْ دَارًا. فَقَالَ: نَعَمْ يَشْتَرِي مِنْهُ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ. وَقَالَ حَرْبٌ الكرماني: سَأَلْت أَحْمَد قُلْت: رَجُلٌ أَسْلَفَ رَجُلًا دَرَاهِمَ فِي بُرٍّ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَقَالَ قَوْمٌ: الشَّعِيرُ بِالدَّرَاهِمِ فَخُذْ مِنْ الشَّعِيرِ. قَالَ: لَا يَأْخُذُ مِنْهُ الشَّعِيرَ إلَّا مِثْلَ كَيْلِ الْبُرِّ، أَوْ أَنْقَصَ. قُلْت: إذَا كَانَ الْبُرُّ عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ أَيَأْخُذُ الشَّعِيرَ عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَكَذَلِكَ نَقَلَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ عَنْ أَحْمَد وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَكْثَرُ فِي نُصُوصِ أَحْمَد وَهِيَ أَشْبَهُ بِأُصُولِهِ فَإِنَّ عِلَّتَهُ فِي مَنْعِ بَيْعِ دَيْنِ السَّلَمِ كَوْنُهُ مَبِيعًا فَلَا يُبَاعُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ مُطْلَقًا؛ بَلْ لَهُ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَأَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ، وَلِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَ الْبَيْعِ مِنْ الْبَائِعِ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ إذَا كَانَ عِوَضًا مِنْ بَائِعِهِ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ وَأَقَلَّ. وَلَا يَجُوزُ بِأَكْثَرَ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الطَّعَامِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا أَسْلَفْت فِي شَيْءٍ

ص: 505

فَحَلَّ الْأَجَلُ فَإِنْ وَجَدْت مَا أَسْلَفْت فِيهِ وَإِلَّا فَخُذْ عِوَضًا بِأَنْقَصَ مِنْهُ. وَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ} قَالَ: وَلَا أَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي " مُغْنِيهِ ". لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ الخرقي: وَبَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ بَائِعِهِ أَوْ غَيْرِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَاسِدٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: بَيْعُ الْمُسْلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يُعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ خِلَافٌ. فَقَالَ رحمه الله بِحَسَبِ مَا عَلِمَهُ؛ وَإِلَّا فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَسْلِفِ كَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ سَائِرِ الدُّيُونِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَهَذَا أَيْضًا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَد نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ بَيْعِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ كَمَا نَصَّ عَلَى بَيْعِ دَيْنِ السَّلَمِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ وَكِلَاهُمَا مَنْصُوصٌ عَنْ أَحْمَد فِي أَجْوِبَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَجْوِبَتِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ فِي كُتُبِ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ وَهُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ دَيْنَ السَّلَمِ مَبِيعٌ وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ وَفِي ضَمَانِ ذَلِكَ فَالشَّافِعِيُّ يَمْنَعُهُ مُطْلَقًا وَيَقُولُ: هُوَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ أَحْمَد. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُهُ إلَّا فِي الْعَقَارِ وَيَقُولُ: هُوَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ. وَهَؤُلَاءِ يُعَلِّلُونَ الْمَنْعَ

ص: 506

بِتَوَالِي الضَمَانَيْنِ. وَأَمَّا مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرُهُمَا فَيَقُولُونَ: مَا تَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِهِ وَهُوَ الْمُتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ - كَالْعَبْدِ وَالْفَرَسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي. عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ وَنِزَاعِ فِي بَعْضِ الْمُتَعَيِّنَاتِ؛ لِمَا رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي " فَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد: أَنَّ النَّاقِلَ لِلضَّمَانِ إلَى الْمُشْتَرِي هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْقَبْضِ؛ لَا نَفْسُ الْقَبْضِ. فَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فِيهِ لَيْسَ مُلَازِمًا لِلضَّمَانِ وَلَا مَبْنِيًّا عَلَيْهِ؛ بَلْ قَدْ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ حَيْثُ يَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ كَمَا ذَكَرَ فِي الثَّمَرَةِ وَمَنَافِعِ الْإِجَارَةِ وَبِالْعَكْسِ كَمَا فِي الصُّبْرَةِ الْمُعَيَّنَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الخرقي فِي " مُخْتَصَرِهِ " هَذَا وَهَذَا فَقَالَ: إذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ دُونَ الْأَصْلِ فَتَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ مِنْ السَّمَاءِ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ. وَقَالَ الْأَصْحَابُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ التَّصَرُّفِ تَمَامُ الْقَبْضِ بِدَلِيلِ الْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَةِ ثُمَّ قَالَ الخرقي: وَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ فَتَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَهُوَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ مَا بِيعَ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْعَدَدِ سَوَاءٌ كَانَ مُتَعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ. ثُمَّ قَالَ الخرقي: وَمَنْ اشْتَرَى مَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ

ص: 507

حَتَّى يَقْبِضَهُ. فَفَرَّقَ بَيْنَ مَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبْضِ وَمَا لَا يَحْتَاجُ فَمَا لَا يَحْتَاجُ يَكْفِي فِيهِ التَّمَكُّنُ كَالْمُودَعِ. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى صُبْرَةَ طَعَامٍ لَمْ يَبِعْهَا حَتَّى يَنْقُلَهَا فَالصُّبْرَةُ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالتَّمَكُّنِ وَالتَّخْلِيَةِ فَلَا يَبِيعُهَا حَتَّى يَنْقُلَهَا؟ وَهَذَا كُلُّهُ مَنْصُوصُ أَحْمَد لَكِنْ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ بَيْنَ الْأَصْحَابِ وَرِوَايَاتٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد قَدْ يَكُونُ الْمَبِيعُ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ كَالثَّمَرِ إذَا بِيعَ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ فَإِنَّهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَهُوَ قَوْلٌ مُعَلَّقٌ لِلشَّافِعِيِّ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إذَا بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ} . وَمَعَ هَذَا فَيَجُوزُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبِيعَ هَذَا الثَّمَرَ مَعَ أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَهَذَا كَمَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَجِّرَ مَا اسْتَأْجَرَهُ بِمِثْلِ الْأُجْرَةِ بِلَا نِزَاعٍ. وَإِنْ كَانَتْ الْمَنَافِعُ مَضْمُونَةً عَلَى الْبَائِعِ. وَلَكِنْ إذَا أَجَّرَهَا بِزِيَادَةٍ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ زِيَادَةٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: " إحْدَاهُمَا " يَجُوزُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. " وَالثَّانِيَةُ " لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ

ص: 508

أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ عَطَّلَ الْمَكَانَ الَّذِي اكْتَرَاهُ. وَقَبَضَهُ لَتَلِفَتْ مَنَافِعُهُ مِنْ ضَمَانِهِ وَلَكِنْ لَوْ انْهَدَمَتْ الدَّارُ لَتَلِفَتْ مِنْ مَالِ الْمُؤَجِّرِ. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعِهَا. وَالْمَقْصُودُ هُنَا. أَنَّ أَصْلَ أَحْمَد وَمَالِكٍ جَوَازُ التَّصَرُّفِ وَأَنَّهُ يُوَسَّعُ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ انْتِقَالِ الضَّمَانِ إلَى الْمُشْتَرِي؛ بِخِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِهِمَا إلَّا إذَا انْتَقَلَ الضَّمَانُ إلَى الْمُشْتَرِي وَصَارَ الْمَبِيعُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ قَالُوا: لِئَلَّا يَتَوَالَى الضمانان؛ فَإِنَّ الْمَبِيعَ يَكُونُ مَضْمُونًا قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ؛ فَإِذَا بِيعَ قَبْلَ أَنْ يَضْمَنَهُ الْمُشْتَرِي صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَيَتَوَالَى عَلَيْهِ الضمانان. وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد الْمَشْهُورِ عَنْهُ: هَذَا مَأْخَذٌ ضَعِيفٌ لَا مَحْذُورَ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْمَبِيعَ إذَا تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ. كَانَ عَلَى الْبَائِعِ أَدَاءُ الثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، فَالْوَاجِبُ بِضَمَانِ هَذَا غَيْرُ الْوَاجِبِ بِضَمَانِ هَذَا. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا: فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِ دَيْنِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُسْلِفُ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَلَا يَبِيعُ مَا لَمْ يُضْمَنْ. وَعَلَى

ص: 509

قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ بِرِبْحِ؛ بَلْ لَا يُبَاعُ إلَّا بِالْقِيمَةِ؛ لِئَلَّا يَرْبَحَ الْمُسْلِفُ فِيمَا لَا يُضْمَنُ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّهُ نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ} . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الثَّمَنَ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنَّا نَبِيعُ الْإِبِلَ بِالنَّقِيعِ - وَالنَّقِيعُ بِالنُّونِ: هُوَ سُوقُ الْمَدِينَةِ. وَالْبَقِيعُ بِالْبَاءِ هُوَ مَقْبَرَتُهَا. قَالَ: - كُنَّا نَبِيعُ بِالذَّهَبِ وَنَقْضِي الْوَرِقَ وَنَبِيعُ بِالْوَرِقِ وَنَقْضِي الذَّهَبَ. فَسَأَلْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا بَأْسَ إذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ إذَا تَفَرَّقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ} . فَقَدْ جَوَّزَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يعتاضوا عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ بِغَيْرِهِ مَعَ أَنَّ الثَّمَنَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى ضَمَانِ الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ الْمَبِيعُ الَّذِي هُوَ دَيْنُ السَّلَمِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى ضَمَانِ الْمُشْتَرِي. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا جَوَّزَ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ إذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ؛ لِئَلَّا يَرْبَحَ فِيمَا لَمْ يُضْمَنْ. وَهَكَذَا قَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ فِي بَدَلِ الْقَرْضِ وَغَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ إنَّمَا يَعْتَاضُ عَنْهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ رِبْحًا فِيمَا لَا يُضْمَنُ وَهَكَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا أَجَابَ فِي السَّلَمِ أَنْ قَالَ إذَا أَسْلَمْت

ص: 510

فِي شَيْءٍ فَجَاءَ الْأَجَلُ وَلَمْ تَجِدْ الَّذِي أَسْلَمْت فِيهِ فَخُذْ عِوَضًا بِأَنْقَصَ مِنْهُ وَلَا تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ. وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يُجَوِّزُ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ كَمَا أَجَابَ بِهِ أَحْمَد وَنَقَلَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمَالِكٌ اسْتَثْنَى الطَّعَامَ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ بَيْعَ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يَجُوزُ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد وَأَحْمَد فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ بِمَكِيلِ وَمَوْزُونٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ: مِثْلَ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ بِخَيْلٍ أَوْ بَقَرٍ فَإِنَّهُ جَوَّزَ هَذَا كَمَا جَوَّزَهُ مَالِكٌ وَقَبْلَهُمَا ابْنُ عَبَّاسٍ. إذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ. وَأَمَّا إذَا اعْتَاضَ عَنْهُ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مِثْلَ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ الْحِنْطَةِ بِشَعِيرٍ كَرِهَهُ؛ إلَّا إذَا كَانَ بِقَدْرِهِ؛ فَإِنَّ بَيْعَ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ؛ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ. وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ إلَّا يَدًا بِيَدِ وَلَا بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ إلَّا يَدًا بِيَدِ. وَالْمُسْلِمُ لَمْ يَقْبِضْ دَيْنَ الْمُسْلَمِ فَكَرِهَ هَذَا كَمَا يَكْرَهُ هُوَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: بَيْعَ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا عَلَى أَنَّهُ بَاعَ مَا لَمْ يَضْمَنْهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ. وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ

ص: 511

وَأَحْمَد: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مَقْبُوضٌ لِلْمَدِينِ؛ لَكِنْ إنْ بَاعَهُ بِمَا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً اشْتَرَطَ فِيهِ الْحُلُولَ وَالْقَبْضَ؛ لِئَلَّا يَكُونَ رِبًا. وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ بِمَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ. وَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِهِمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يُشْتَرَطُ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِي غَيْرِهِمَا. وَالثَّانِي يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْقَبْضِ نَسِيئَةٌ كَبَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَمَالِكٌ لَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَ دَيْنِ السَّلَمِ إذَا كَانَ طَعَامًا؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ. وَأَحْمَد جَوَّزَ بَيْعَهُ وَإِنْ كَانَ طَعَامًا أَوْ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مِنْ بَائِعِهِ إذَا بَاعَهُ بِغَيْرِ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ هُوَ فِي الطَّعَامِ الْمُعَيَّنِ وَأَمَّا مَا فِي الذِّمَّةِ فَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِيفَاءِ. وَفَائِدَتُهُ سُقُوطُ مَا فِي ذِمَّتِهِ عَنْهُ لَا حُدُوثُ مِلْكٍ لَهُ فَلَا يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا. فَإِنَّ الْبَيْعَ الْمَعْرُوفَ هُوَ أَنْ يَمْلِكَ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ وَهُنَا لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا: بَلْ سَقَطَ الدَّيْنُ مِنْ ذِمَّتِهِ. وَهَذَا لَوْ وَفَّاهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ بَاعَهُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ بَلْ يُقَالُ: وَفَّاهُ حَقَّهُ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهُ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةً بِدَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ؛ فَإِنَّهُ بَيْعٌ فَلَمَّا كَانَ فِي الْأَعْيَانِ إذَا بَاعَهَا بِجِنْسِهَا لَمْ يَكُنْ بَيْعًا فَكَذَلِكَ إذَا أَوْفَاهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا لَمْ يَكُنْ بَيْعًا. بَلْ هُوَ إيفَاءٌ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ.

ص: 512

وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ فِي غَد فَأَعْطَاهُ عِوَضًا بَرَّ فِي يَمِينِهِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ فَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ يُرِيدُ بِهِ بَيْعَهُ مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ فِيهِ نِزَاعٌ. وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَلَّلَهُ بِتَوَالِي الضَّمَانِ يَطْرُدُ النَّهْيَ وَأَمَّا مَنْ عَلَّلَ النَّهْيَ بِتَمَامِ الِاسْتِيفَاءِ وَانْقِطَاعٍ عَلَّقَ الْبَائِعَ حَتَّى لَا يَطْمَعَ فِي الْفَسْخِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِقْبَاضِ إذَا رَأَى الْمُشْتَرِيَ قَدْ رَبِحَ فِيهِ فَهُوَ يُعَلِّلُ بِذَلِكَ فِي الصُّبْرَةِ قَبْلَ نَقْلِهَا وَإِنْ كَانَتْ مَقْبُوضَةً وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي بَيْعِهِ مِنْ الْبَائِعِ. وَأَيْضًا فَبَيْعُهُ مِنْ الْبَائِعِ يُشْبِهُ الْإِقَالَةَ وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ تَجُوزُ الْإِقَالَةُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَالْإِقَالَةُ هَلْ هِيَ فَسْخٌ أَوْ بَيْعٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد فَإِذَا قُلْنَا: هِيَ فَسْخٌ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِمِثْلِ الثَّمَنِ. وَإِذَا قُلْنَا هِيَ بَيْعٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ وَدَيْنُ السَّلَمِ تَجُوزُ الْإِقَالَةُ فِيهِ بِلَا نِزَاعٍ. فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي دَيْنِ السَّلَمِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ: حَيْثُ كَانَ الْأَكْثَرُونَ لَا يُجَوِّزُونَ بَيْعَ الْمَبِيعِ لِبَائِعِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ وَيُجَوِّزُونَ الْإِقَالَةَ فِي دَيْنِ السَّلَمِ. وَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ يَجُوزُ كَمَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ؛ لَكِنْ إنَّمَا يَكُونُ إقَالَةً إذَا أَخَذَ رَأْسَ مَالِهِ أَوْ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَ مَعَ زِيَادَةٍ أَمَّا إذَا بَاعَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ إقَالَةً بَلْ هُوَ اسْتِيفَاءٌ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ لِمَا لَمْ يُقْبَضْ. وَأَحْمَد جَوَّزَ بَيْعَ دَيْنِ السَّلَمِ مِنْ الْمُسْتَسْلِفِ؛ اتِّبَاعًا لِابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنُ

ص: 513

عَبَّاسٍ يَقُولُ: {نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ} وَلَا أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ، فَابْنُ عَبَّاسٍ لَا يُجَوِّزُ الْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَجَوَّزَ بَيْعَ دَيْنِ السَّلَمِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَرْبَحْ، وَلَمْ يُفَرِّقْ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيْنَ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ وَلَا بَيْنَ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ وَغَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ هُنَا مِنْ الْبَائِعِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي يَقْبِضُهُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ؛ بَلْ لَيْسَ هُنَا قَبْضٌ؛ لَكِنْ يَسْقُطُ عَنْهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي أَخْذِهِ مِنْهُ ثُمَّ إعَادَتُهُ إلَيْهِ وَهَذَا مِنْ فِقْهِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمَالِكٌ جَعَلَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فَمَنَعَ بَيْعَ الطَّعَامِ الْمُسْلَفِ فِيهِ مِنْ الْمُسْتَلِفِ وَأَحْمَد لَمْ يَجْعَلْهُ كَبَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا قَالَ مَالِكٌ؛ بَلْ جَوَّزَهُ بِغَيْرِ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ كَمَا أَجَازَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَكَرِهَهُ لِئَلَّا يُشْبِهَ بَيْعَ الْمَكِيل بِالْمَكِيلِ مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ إذَا كَانَ لَمْ تُوجَدْ حَقِيقَةُ التَّقَابُضِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ. وَأَمَّا إذَا أَخَذَ عَنْهُ مِنْ جِنْسِهِ بِقَدْرِ مَكِيلِهِ مَا هُوَ دُونَهُ فَجَوَّزَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْجِنْسِ؛ لَا مِنْ بَابِ الْبَيْعِ كَمَا يَسْتَوْفِي عَنْ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ. وَالْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ قَدْ يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْجِنْسِ الْوَاحِدِ؛ وَلِهَذَا فِي جَوَازِ بَيْعِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا رِوَايَتَانِ:

إحْدَاهُمَا: الْمَنْعُ كَقَوْلِ مَالِكٍ.

ص: 514

وَالثَّانِيَةُ: الْجَوَازُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ مِنْ أَحْمَد فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ؛ قَدْ يُقَالُ هِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْزِيهِ. أَوْ يَكُونُ إذَا أَخَّرَ الْقَبْضَ. وَهَذَا الثَّانِي أَشْبَهُ بِأُصُولِ أَحْمَد وَنُصُوصِهِ وَهُوَ مُوجِبُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا بَاعَ الْمَكِيل بِمَكِيلٍ أَوْ الْمَوْزُونَ بِمَوْزُونٍ اشْتَرَطَ فِيهِ الْحُلُولَ وَالتَّقَابُضَ، فَإِنْ بَاعَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَعَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ هِيَ التَّمَاثُلُ وَهُوَ مَكِيلُ جِنْسٍ أَوْ مَوْزُونُ جِنْسٍ. فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْبُرِّ وَالتَّمْرِ. وَالشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ بَعْضُهُ بِبَعْضِ نَسَاءً لَا يَجُوزُ. فَمَنْ جَعَلَ الْعِلَّةَ التَّمَاثُلَ - وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ أَوْ الطَّعْمُ أَوْ مَجْمُوعُهُمَا - حَرَّمَ النَّسَاءَ فِيمَا جَمَعَهُمَا عِلَّةً وَاحِدَةً. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ هِيَ رِوَايَاتٌ عَنْ أَحْمَد. فَالتَّمَاثُلُ وَهُوَ مَكِيلُ جِنْسٍ أَوْ مَوْزُونُ جِنْسٍ: هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالطَّعْمُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَمَجْمُوعُهُمَا قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ. وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَهُوَ الْقُوتُ وَمَا يُصْلِحُهُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَدَيْنُ السَّلَمِ وَغَيْرُهُ مِنْ الدُّيُونِ إذَا عُوِّضَ عَنْهُ بِمَكِيلٍ وَجَبَ قَبْضُهُ فِي مَجْلِسِ التَّعْوِيضِ. وَكَذَلِكَ الْمَوْزُونُ إذَا عُوِّضَ

ص: 515

عَنْهُ بِمَوْزُونِ: مِثْلَ أَنْ يُعَوَّضَ عَنْ الْحَرِيرِ بِقُطْنٍ أَوْ كَتَّانٍ. فَإِذَا بِيعَ الْمَكِيلُ بِالْمَكِيلِ بَيْعًا مُطْلَقًا بِحَيْثُ لَا يُقْبَضُ الْعِوَضُ فِي الْمَجْلِسِ لَمْ يَجُزْ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا بِيعَ بِحَيَوَانٍ أَوْ عَقَارٍ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ، فَكَلَامُ أَحْمَد يَخْرُجُ عَلَى هَذَا. وَنَهْيُهُ عَنْ الْبَيْعِ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا. وَلِهَذَا قَالَ: إذَا حَلَّ الْأَجَلُ يَشْتَرِي مِنْهُ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ. فَأَطْلَقَ الْإِذْنَ فِي ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَإِنَّهُ لَا يَشْتَرِي مُطْلَقًا؛ بَلْ يَقْبِضُ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا إذَا بِيعَ بِعَيْنِ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَحْمَد اتَّبَعَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ. وَابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا أَسْلَمْت فِي شَيْءٍ فَجَاءَ الْأَجَلُ وَلَمْ تَجِدْ الَّذِي أَسْلَمْت فِيهِ فَخُذْ عِوَضًا بِأَنْقَصَ وَلَا تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ. فَإِنَّمَا نَهَاهُ عَنْ الرِّبْحِ فِيهِ: بِأَنْ يَبِيعَهُ دَيْنَ السَّلَمِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُسَاوِي وَقْتَ الِاسْتِيفَاءِ؛ وَلِهَذَا أَحْمَد مَنَعَ إذَا اسْتَوْفَى عَنْهُ مَكِيلًا - كَالشَّعِيرِ - أَنْ يَكُونَ بِزِيَادَةِ. وَلَمْ يُفَرِّقْ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ بِغَيْرِهِمَا. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ رِبَا الْفَضْلِ فَيُقَالُ: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يُجِيزُ رِبَا الْفَضْلِ؛ بَلْ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ إلَى أَجَلٍ حَرَامٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ إلَى أَجَلٍ. وَهَذَا قِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مَقْبُوضٌ فَإِذَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا وَبَاعَهُ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ وَلَمْ يَقْبِضْهُ فَقَدْ بَاعَ مَكِيلًا بِمَكِيلٍ وَلَمْ يَقْبِضْهُ وَأَمَّا إذَا قَبَضَهُ فَهَذَا جَائِزٌ.

ص: 516

وَقَدْ ثَبَتَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّهُ إذَا بَاعَ بِذَهَبِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ وَرِقًا وَإِذَا بَاعَ بِوَرِقٍ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ ذَهَبًا فِي الْمَجْلِسِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَهَذَا أَخَذَ عَنْ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ. فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي الثَّمَنِ جَازَ فِي الْمُثَمَّنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: هَذَا مَبِيعٌ لَمْ يُقْبَضْ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَقَدْ ظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْمَأْخَذِ فِي السَّلَمِ. وَابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِي مَنَعَ هَذَا جَوَّزَ هَذَا وَأَنَّ بَيْعَ دَيْنِ السَّلَمِ مِنْ بَائِعِهِ لَيْسَ فِيهِ مَحْذُورٌ أَصْلًا كَمَا فِي بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ؛ لَا بِتَوَالِي الضَّمَانِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَنْ مَنَعَ بَيْعَ دَيْنِ السَّلَمِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ} فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ بِهِ أَنْ لَا يَجْعَلَ السَّلَفَ سَلَمًا فِي شَيْءٍ آخَرَ. فَيَكُونُ مَعْنَاهُ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِهِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ إلَى أَجَلٍ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. وَلِهَذَا قَالَ: {لَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ} أَيْ لَا يَصْرِفُ الْمُسْلَمَ فِيهِ إلَى مُسْلَمٍ فِيهِ آخَرَ. وَمَنْ اعْتَاضَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ قَابِضًا لِلْعِوَضِ لَمْ يَكُنْ قَدْ جَعَلَهُ سَلَمًا فِي غَيْرِهِ. وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْجَوَابُ. لَكِنَّ الرُّخْصَةَ فِي هَذَا الْبَابِ ثَابِتَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهِيَ مَذْهَبُ

ص: 517

مَالِكٍ. وَأَحْمَد رَخَّصَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ مَالِكٍ. وَمَا ذَكَرَهُ الخرقي وَغَيْرُهُ قَدْ قِيلَ: إنَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ لَا دَلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ الرَّجُلِ يُسْلِمُ فِي شَيْءٍ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ غَيْرَهُ. كَمَنْ أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ؟ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بَدَلَهَا شَعِيرًا سَوَاءٌ تَعَذَّرَ الْمُسْلَمُ فِيهِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

إذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ فَاعْتَاضَ عَنْهَا شَعِيرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَهَذِهِ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ السَّلَمِ بِغَيْرِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ إذَا كَانَ بِسِعْرِ الْوَقْتِ أَوْ أَقَلَّ. وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَيْثُ جَوَّزَ إذَا أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضًا بِقِيمَتِهِ وَلَا يَرْبَحَ مَرَّتَيْنِ. وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد حَيْثُ يُجَوِّزُ أَخْذَ الشَّعِيرِ عَنْ الْحِنْطَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ أَغْلَى مِنْ

ص: 518

قِيمَةِ الْحِنْطَةِ. وَقَالَ: بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ يُجَوِّزُ الِاعْتِيَاضَ عَنْ الطَّعَامِ وَالْعَرَضَ بِعَرَضِ. وَالْأَوَّلُونَ احْتَجُّوا بِمَا فِي السُّنَنِ. عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ} قَالُوا: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَبِيعَ دَيْنَ السَّلَمِ لَا مِنْ صَاحِبِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَصَحُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ دَيْنَ السَّلَمِ دَيْنٌ ثَابِتٌ فَجَازَ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ كَبَدَلِ الْقَرْضِ وَكَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي الْبَيْعِ فَجَازَ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، كَالْعِوَضِ الْآخَرِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَفِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ وَإِنْ صَحَّ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ دَيْنَ السَّلَمِ سَلَفًا فِي شَيْءٍ آخَرَ؛ وَلِهَذَا قَالَ:{فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ} أَيْ لَا يَصْرِفْهُ إلَى سَلَفٍ آخَرَ. وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الرِّبْحَ فِيمَا لَمْ يُضْمَنُ وَكَذَلِكَ إذَا اعْتَاضَ عَنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَالْقَرْضِ فَإِنَّمَا يَعْتَاضُ عَنْهُ بِسِعْرِهِ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ {ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: إنَّا نَبِيعُ الْإِبِلَ بِالنَّقِيعِ بِالذَّهَبِ وَنَقْبِضُ الْوَرِقَ وَنَبِيعُ بِالْوَرِقِ وَنَقْبِضُ الذَّهَبَ. فَقَالَ: لَا بَأْسَ إذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ إذَا افْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ} فَيَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ بِالسِّعْرِ لِئَلَّا يَرْبَحَ فِيمَا لَمْ يُضْمَنْ. فَإِنْ قِيلَ فَدَيْنُ السَّلَمِ يَتْبَعُ ذَلِكَ فَنُهِيَ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ. قِيلَ: النَّهْيُ إنَّمَا كَانَ فِي الْأَعْيَانِ لَا فِي الدُّيُونِ.

ص: 519

وَقَالَ رحمه الله:

فَصْلٌ:

عِوَضُ الْمِثْلِ كَثِيرُ الدَّوَرَانِ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ - وَهُوَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْعَدْلِ الَّذِي بِهِ تَتِمُّ مَصْلَحَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الشَّرِيعَةِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: قِيمَةُ الْمِثْلِ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ} . وَفِي حَدِيثٍ أَنَّهُ قَضَى فِي بروع بِنْتِ وَاشِقٍ بِمَهْرِ مِثْلِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ - يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِيمَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْمَنَافِعِ وَمَا يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْمَنَافِعِ وَبَعْضِ النُّفُوسِ. وَمَا يُضْمَنُ بِالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَالصَّحِيحَةِ أَيْضًا؛ لِأَجْلِ الْأَرْشِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ.

ص: 520

وَيُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمُعَاوَضَةِ لِلْغَيْرِ مِثْلَ مُعَاوَضَةِ الْوَلِيِّ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِلْيَتِيمِ وَلِلْوَقْفِ وَغَيْرِهِمْ. وَمُعَاوَضَةِ الْوَكِيلِ كَالْوَكِيلِ فِي الْمُعَاوَضَةِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ وَمُعَاوَضَةِ مَنْ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ حَقُّ الْغَيْرِ كَالْمَرِيضِ. وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ فِيمَا يَجِبُ شِرَاؤُهُ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَاءِ الطَّهَارَةِ وَسُتْرَةِ الصَّلَاةِ وَآلَاتِ الْحَجِّ أَوْ لِلْآدَمِيِّينَ: كَالْمُعَاوَضَةِ الْوَاجِبَةِ مِثْلَ. وَمَدَارُهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ لِلشَّيْءِ بِمِثْلِهِ. وَهُوَ نَفْسُ الْعَدْلِ وَنَفْسُ الْعُرْفِ الدَّاخِلِ فِي قَوْلِهِ: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} وَقَوْلُهُ: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّهُ اعْتِبَارٌ فِي أَعْيَانِ الْأَحْكَامِ لَا فِي أَنْوَاعِهَا. وَهُوَ مِنْ مَعْنَى الْقِسْطِ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ لَهُ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ لَهُ الْكُتُبَ. وَهُوَ مُقَابَلَةُ الْحَسَنَةِ بِمِثْلِهَا؛ وَالسَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ} وَقَالَ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} وَقَالَ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وَقَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَقَالَ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَقَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} . لَكِنَّ مُقَابَلَةَ الْحَسَنَةِ بِمِثْلِهَا عَدْلٌ وَاجِبٌ وَالزِّيَادَةُ إحْسَانٌ مُسْتَحَبٌّ

ص: 521

وَالنَّقْصُ ظُلْمٌ مُحَرَّمٌ وَمُقَابَلَةُ السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا عَدْلٌ جَائِزٌ وَالزِّيَادَةُ مُحَرَّمٌ وَالنَّقْصُ إحْسَانٌ مُسْتَحَبٌّ فَالظُّلْمُ لِلظَّالِمِ وَالْعَدْلُ لِلْمُقْتَصِدِ وَالْإِحْسَانُ الْمُسْتَحَبِّ لِلسَّابِقِ بِالْخَيْرَاتِ. وَالْأُمَّةُ ثَلَاثَةٌ: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمُقْتَصِدٌ وَسَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ. وَكَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَيَتَنَازَعُونَ فِي حَقِيقَةِ عِوَضِ الْمِثْلِ فِي جِنْسِهِ وَمِقْدَارِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ لِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَعْوَاضِ وَالْمُعَوَّضَاتِ والمتعاوضين. فَنَقُولُ: " عِوَضُ الْمِثْلِ " هُوَ مِثْلُ الْمُسَمَّى فِي الْعُرْفِ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: السِّعْرُ وَالْعَادَةُ فَإِنَّ الْمُسَمَّى فِي الْعُقُودِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ اعْتَادَهُ النَّاسُ وَعَرَفُوهُ فَهُوَ الْعِوَضُ الْمَعْرُوفُ الْمُعْتَادُ. وَنَوْعٌ نَادِرٌ؛ لِفَرْطِ رَغْبَةٍ أَوْ مُضَارَّةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَيُقَالُ فِيهِ ثَمَنُ الْمِثْلِ وَيُقَالُ فِيهِ الْمِثْلُ؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ مِثْلِ الْعَيْنِ ثُمَّ يَقُومُ بِثَمَنِ مِثْلِهَا. فَالْأَصْلُ فِيهِ اخْتِيَارُ الْآدَمِيِّينَ وَإِرَادَتُهُمْ وَرَغْبَتُهُمْ. وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: قِيمَةُ الْمِثْلِ مَا يُسَاوِي الشَّيْءَ فِي نُفُوسِ ذَوِي الرَّغَبَاتِ. وَلَا بُدَّ أَنْ يُقَالَ: فِي الْأَمْرِ الْمُعْتَادِ. فَالْأَصْلُ فِيهِ إرَادَةُ النَّاسِ وَرَغْبَتُهُمْ. وَقَدْ عُلِمَ بِالْعُقُولِ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ وَهَذَا مِنْ الْعَدْلِ وَالْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ وَضَرْبُ الْمَثَلِ الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَيْهِ

ص: 522

فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ إرَادَتَهُمْ الْمَعْرُوفَةَ لِلشَّيْءِ بِمِقْدَارِ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ ثَمَنُ مِثْلِهِ وَهُوَ قِيمَتُهُ وَقِيمَةُ مِثْلِهِ؛ لَكِنْ إنْ كَانَتْ تِلْكَ الرَّغْبَةُ وَالْإِرَادَةُ لِغَرَضٍ مُحَرَّمٍ، كَصَنْعَةِ الْأَصْنَامِ وَالصُّلْبَانِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. كَانَ ذَلِكَ الْعِوَضُ مُحَرَّمًا فِي الشَّرْعِ. فَعِوَضُ الْمِثْلِ فِي الشَّرِيعَةِ يُعْتَبَرُ بِالْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ التَّسْمِيَةُ شَرْعِيَّةً وَهِيَ الْمُبَاحَةُ. فَأَمَّا التَّسْمِيَةُ الْمَحْظُورَةُ إمَّا لِجِنْسِهَا: كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. وَإِمَّا لِمَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ فِي الْعَيْنِ: كَالْعِنَبِ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا أَوْ الْغُلَامِ لِمَنْ يَفْجُرُ بِهِ. وَإِمَّا لِكَوْنِهِ تَسْمِيَةَ مُبَاهَاةٍ وَرِيَاءٍ لَا يُقْصَدُ أَدَاؤُهَا. أَوْ فِيهَا ضَرَرٌ بِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَالْمُهُورِ الَّتِي لَا يُقْصَدُ أَدَاؤُهَا وَهِيَ تَضُرُّ الزَّوْجَ إلَى أَجَلٍ كَمَا يَفْعَلُهُ جُفَاةُ الْأَعْرَابِ وَالْحَاضِرَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَسْمِيَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَلَيْسَ هُوَ مِيزَانًا شَرْعِيًّا يُعْتَبَرُ بِهِ الْمَثَلُ حَيْثُ لَا مُسَمَّى. فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ نَافِعٌ خُصُوصًا فِي هَذِهِ الصَّدَقَاتِ الثَّقِيلَةِ الْمُؤَخَّرَةِ الَّتِي قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهَا وَرَسُولُهُ؛ فَإِنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَعْتَبِرُهَا فِي مِثْلِ كَوْنِ الْأَيِّمِ لَا تُزَوَّجُ إلَّا بِمَهْرِ مِثْلِهَا فَيَرَى تَرْكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ خِلَافًا لِلشَّرِيعَةِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَهْرُ الْمِثْلِ حَتَّى فِي مِثْلِ تَزْوِيجِ الْأَبِ وَنَحْوِهِ فَهَذَا أَصْلٌ. . . (1) إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَرَغْبَةُ النَّاسِ كَثِيرَةُ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَوُّعِ فَإِنَّهَا

(1)

بياض بالأصل

ص: 523

تَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ الْمَطْلُوبِ وَقِلَّتِهِ. فَعِنْدَ قِلَّتِهِ يَرْغَبُ فِيهِ مَا لَا يَرْغَبُ فِيهِ عِنْدَ الْكَثْرَةِ. وَبِكَثْرَةِ الطُّلَّابِ وَقِلَّتِهِمْ؛ فَإِنَّمَا كَثُرَ طَالِبُوهُ يَرْتَفِعُ ثَمَنُهُ؛ بِخِلَافِ مَا قَلَّ طَالِبُوهُ. وَبِحَسَبِ قِلَّةِ الْحَاجَةِ وَكَثْرَتِهَا وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا فَعِنْدَ كَثْرَةِ الْحَاجَةِ وَقُوَّتِهَا تَرْتَفِعُ الْقِيمَةُ مَا لَا تَرْتَفِعُ عِنْدَ قِلَّتِهَا وَضَعْفِهَا. وَبِحَسَبِ الْمُعَاوِضِ. فَإِنْ كَانَ مَلِيًّا دَيْنًا: يَرْغَبُ فِي مُعَاوَضَتِهِ بِالثَّمَنِ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُبْذَلُ بِمِثْلِهِ لِمَنْ يَظُنُّ عَجْزَهُ أَوْ مَطْلَهُ أَوْ جَحْدَهُ. وَالْمَلِيُّ الْمُطْلَقُ عِنْدَنَا: هُوَ الْمَلِيُّ بِمَالِهِ وَقَوْلِهِ وَبَدَنِهِ. هَكَذَا نَصَّ أَحْمَد. وَهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ قَدْ اعْتَبَرُوهُ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ فَهُوَ يُعْتَبَرُ أَيْضًا فِي ثَمَنِ الْمِثْلِ وَأُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَبِحَسَبِ الْعِوَضِ فَقَدْ يُرَخَّصُ فِيهِ إذَا كَانَ بِنَقْدٍ رَائِجٍ مَا لَا يُرَخَّصُ فِيهِ إذَا كَانَ بِنَقْدٍ آخَرَ دُونَهُ فِي الرَّوَاجِ: كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِدِمَشْقَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ؛ فَإِنَّ الْمُعَاوَضَةَ بِالدَّرَاهِمِ هُوَ الْمُعْتَادُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْعُقُودِ هُوَ التَّقَابُضُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَإِذَا كَانَ الْبَاذِلُ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ مُوفِيًا بِالْعَهْدِ كَانَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ مَعَهُ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ تَامَّ الْقُدْرَةِ أَوْ تَامَّ الْوَفَاءِ. وَمَرَاتِبُ الْقُدْرَةِ وَالْوَفَاءِ تَخْتَلِفُ وَهُوَ الْخَيْرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} قَالُوا: قُوَّةٌ عَلَى الْكَسْبِ وَوَفَاءٌ لِلْعَهْدِ.

ص: 524

وَهَذَا يَكُونُ فِي الْبَائِعِ وَفِي الْمُشْتَرِي وَفِي الْمُؤَجَّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالنَّاكِحِ وَالْمَنْكُوحَةِ فَإِنَّ الْمَبِيعَ قَدْ يَكُونُ حَاضِرًا وَقَدْ يَكُونُ غَائِبًا فَسِعْرُ الْحَاضِرِ أَقَلُّ مِنْ سِعْرِ الْغَائِبِ وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي قَدْ يَكُونُ قَادِرًا فِي الْحَالِ عَلَى الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ مَعَهُ مَالًا وَقَدْ لَا يَكُونُ مَعَهُ لَكِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقْتَرِضَ أَوْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ فَالثَّمَنُ مَعَ الْأَوَّلِ أَخَفُّ. وَكَذَلِكَ الْمُؤَجَّرُ قَدْ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْعَقْدِ بِحَيْثُ يَسْتَوْفِيهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِلَا كُلْفَةٍ وَقَدْ لَا يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إلَّا بِكُلْفَةِ؛ كَالْقُرَى الَّتِي يَنْتَابُهَا الظَّلَمَةُ مِنْ ذِي سُلْطَانٍ أَوْ لُصُوصٍ أَوْ تَنْتَابُهَا السِّبَاعُ فَلَيْسَتْ قِيمَتُهَا كَقِيمَةِ الْأَرْضِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ: بَلْ مِنْ الْعَقَارِ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَنْفَعَتَهُ إلَّا ذُو قُدْرَةٍ يَدْفَعُ الضَّرَرَ مِنْ مَنْفَعَتِهِ لِأَعْوَانِهِ وَأَنْصَارِهِ أَوْ يَسْتَوْفِي غَيْرُهُ مِنْهُ مَنْفَعَةً يَسِيرَةً وَذُو الْقُدْرَةِ يَسْتَوْفِي كَمَالَ مَنْفَعَتِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ. وَعَلَى هَذَا يَخْتَلِفُ الِانْتِفَاعُ بِالْمُسْتَأْجِرِ بَلْ وَالْمُشْتَرِي وَالْمَنْكُوحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَنْتَفِعُ بِهِ ذُو الْقُدْرَةِ أَضْعَافَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ؛ لِقُدْرَتِهِ عَلَى جَلْبِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَكْثُرُ الِانْتِفَاعُ وَعَلَى دَفْعِ الْمَوَانِعِ الْمَانِعَةِ مِنْ الِانْتِفَاعِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كَثْرَةُ الِانْتِفَاعِ بِمَا أَقَامَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَدَفْعُهُ مِنْ الْمَوَانِعِ مُوجِبًا لِأَنْ يَدْخُلَ ذَلِكَ التَّقْوِيمُ إلَّا إذَا فَرَضَ مِثْلَهُ فَقَدْ تَكُونُ الْأَرْضُ تُسَاوِي أُجْرَةً قَلِيلَةً لِوُجُودِ الْمَوَانِعِ مِنْ الْمُعْتَدِينَ أَوْ السِّبَاعِ أَوْ لِاحْتِيَاجِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إلَّا قُوَّةٍ وَمَالٍ.

ص: 525

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: تَبِيعُهَا بِمِائَةِ وَخَمْسِينَ، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إنْ كَانَتْ مُؤَجَّلَةً فَبَاعَهَا بِأَقَلَّ مِنْهَا حَالَّةٍ فَهَذَا رِبًا وَإِنْ كَانَتْ حَالَّةً فَأَخَذَ الْبَعْضَ وَأَبْرَأَهُ مِنْ الْبَعْضِ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ أَحْسَنَ.

وَسُئِلَ:

عَنْ دَيْنِ سَلَمٍ حَلَّ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُسْتَسْلِفِ وَفَاءٌ فَقَالَ: بِعْنِيهِ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ؟

فَأَجَابَ:

لَا يَجُوزُ بَيْعُ دَيْنِ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَلَا بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ: فَهَذَا حَرَامٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَمِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ: أَنَّهُ إنْ كَانَ بَاعَهُ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ مِثْلَ مَنْ بَاعَ رِبًا نَسِيئَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ ثَمَنِهِ

ص: 526

بِمَا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً كَذَلِكَ مَنْ اشْتَرَى دَيْنًا بِنَسِيئَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ بِمَا لَا يُبَاعُ بِثَمَنِهِ نَسِيئَةً. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ الرَّجُلِ يَتَدَيَّنُ ثُمَّ يُعْسِرُ وَيَمُوتُ هَلْ يُطَالَبُ بِهِ؟

فَأَجَابَ:

نَعَمْ يَسْتَوْفِيهِ صَاحِبُهُ فَإِنَّ الدَّيْنَ لَا بُدَّ مِنْ وَفَائِهِ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّ الشَّهِيدَ يُغْفَرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الدَّيْنَ} .

ص: 527

‌بَابُ الْقَرْضِ

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:

عَنْ رَجُلٍ أَقْرَضَ لِرَجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَطَالَبَهُ فَقَالَ: أَنَا مُعْسِرٌ أَنَا أَشْتَرِي مِنْك صِنْفًا بِزَائِدٍ إلَى أَنْ تَصْبِرَ سِتَّةَ شُهُورٍ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ:

قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ} فَإِذَا بَاعَهُ وَأَقْرَضَهُ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَكِلَاهُمَا يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ إذَا كَانَ قَدْ بَلَغَهُ النَّهْيُ وَيَجِبُ رَدُّ الْقَرْضِ وَالسِّلْعَةِ إلَى صَاحِبِهَا فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا بَدَلُ الْقَرْضِ وَإِلَّا بَدَلُ السِّلْعَةِ قِيمَةُ الْمِثْلِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 528

وَسُئِلَ:

عَنْ إنْسَانٍ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ إنْسَانٍ دَرَاهِمَ قَرْضًا يَعْمُرُ بِهَا مِلْكَهُ يَشْتَرِي بِهَا أَرْضًا إلَى مُدَّةِ سَنَةٍ وَبِلَا كَسْبٍ مَا يُعْطَى أَحَدٌ مَالَهُ فَكَيْفَ الْعَمَلُ فِي مَكْسَبِهِ حَتَّى يَكُونَ بِطَرِيقِ الْحِلِّ.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَهُ طَرِيقٌ بِأَنْ يُكْرِيَ الْمِلْكَ أَوْ بَعْضَهُ يَتَسَلَّفُهَا وَيَعْمُرَ بِالْأُجْرَةِ. وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْمِلْكِ خَرَابًا وَاشْتَرَطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عِمَارَةً مَوْصُوفَةً جَازَ ذَلِكَ فَهَذَا طَرِيقٌ شَرْعِيٌّ يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ هَذَا وَهَذَا. وَأَمَّا إذَا تَوَاطَآ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ وَتَحَيَّلَا عَلَى ذَلِكَ بِبَعْضِ الطُّرُقِ لَمْ يُبَارِكْ اللَّهُ لَا لِهَذَا وَلَا لِهَذَا: مِثْلَ أَنْ يَبِيعَهُ بَعْضَ الْمِلْكِ بَيْعَ أَمَانَةٍ عَلَى أَنَّهُ يَشْتَرِي مِنْهُ الْمِلْكَ فِيمَا بَعْدُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ فَهَذَا مِنْ الرِّبَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْمُعْطِي سِلْعَةً يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْآخِذُ كَرُضَاضٍ يَعْمُرُ بِهِ الْحَمَّامَ جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ بِمَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ الرِّبْحِ؛ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْبَحَ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَّا مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ؟ .

ص: 529

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ أَقْرَضَ رَجُلًا قَرْضًا وَامْتَنَعَ أَنْ يُوَفِّيَهُ إيَّاهُ إلَّا فِي بَلَدٍ آخَرَ مُحْتَاجٌ فِيهِ الْمُقْرِضُ إلَى سَفَرٍ وَحَمْلٍ، فَهَلْ عَلَيْهِ كُلْفَةُ سَفَرٍ؟ .

فَأَجَابَ:

يَجِبُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ أَنْ يُوَفِّيَ الْمُقْرِضَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي اقْتَرَضَ فِيهِ وَلَا يُكَلِّفُهُ شَيْئًا مِنْ مُؤْنَةِ السَّفَرِ وَالْحَمْلِ. فَإِنْ قَالَ: مَا أُوَفِّيك إلَّا فِي بَلَدٍ آخَرَ غَيْرَ هَذَا: كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا يُنْفِقُهُ بِالْمَعْرُوفِ.

وَسُئِلَ:

عَمَّا إذَا أَقْرَضَ رَجُلٌ رَجُلًا دَرَاهِمَ لِيَسْتَوْفِيَهَا مِنْهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

إذَا أَقْرَضَهُ دَرَاهِمَ لِيَسْتَوْفِيَهَا مِنْهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ: مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِضُ غَرَضُهُ حَمْلُ الدَّرَاهِمِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ وَالْمُقْتَرِضُ لَهُ دَرَاهِمُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى دَرَاهِمَ فِي بَلَدِ الْمُقْرِضِ فَيَقْتَرِضُ مِنْهُ وَيَكْتُبُ لَهُ " سَفْتَجَةً " أَيْ: وَرَقَةً إلَى بَلَدِ الْمُقْتَرِضِ فَهَذَا يَصِحُّ فِي

ص: 530

أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ: نُهِيَ عَنْهُ لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً وَالْقَرْضُ إذَا جَرَّ مَنْفَعَةً كَانَ رِبًا وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَرِضَ رَأَى النَّفْعَ بِأَمْنِ خَطَرِ الطَّرِيقِ فِي نَقْلِ دَرَاهِمِهِ إلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَقَدْ انْتَفَعَ الْمُقْتَرِضُ أَيْضًا بِالْوَفَاءِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَأَمِنَ خَطَرَ الطَّرِيقِ، فَكِلَاهُمَا مُنْتَفِعٌ بِهَذَا الِاقْتِرَاضِ وَالشَّارِعُ لَا يَنْهَى عَمَّا يَنْفَعُهُمْ وَيُصْلِحُهُمْ وَإِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا يَضُرُّهُمْ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

هَلْ يَجُوزُ قَرْضُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ، وَيَأْخُذُهَا عَدَدًا؟

فَأَجَابَ:

يَجُوزُ قَرْضُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ إذَا كَانَتْ مُتَسَاوِيَةَ الْغِشِّ: مِثْلَ دَرَاهِمِ النَّاسِ الَّتِي يَتَعَامَلُونَ بِهَا. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْغِشُّ مُتَفَاوِتًا يَسِيرًا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ قَرْضُهَا بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي يُقَالُ عِيَارُهَا سَبْعُونَ وَعِيَارُ غَيْرِهَا تِسْعَةٌ وَسِتُّونَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ قَرْضُ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْحُبُوبِ وَإِنْ كَانَتْ مَغْشُوشَةً بِالتُّرَابِ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّ " بَابَ الْقَرْضِ " أَسْهَلُ مِنْ " بَابِ الْبَيْعِ ". وَلِهَذَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ قَرْضُ الْخُبْزِ عَدَدًا وَقَرْضُ الْخَمِيرِ

ص: 531

وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ عَدَدًا. وَيَجُوزُ فِي الْقَرْضِ أَنْ يَرُدَّ خَيْرًا مِمَّا اقْتَرَضَ بِغَيْرِ شَرْطٍ كَمَا {اسْتَلَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا وَرَدَّ خَيْرًا مِنْهُ. وَقَالَ: خَيْرُ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً} . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ قَرْضُ الْبَيْضِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمَعْدُودَاتِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اقْتَرَضَ حَيَوَانًا وَالْحَيَوَانُ أَكْثَرُ اخْتِلَافًا مِنْ الْبَيْضِ.

وَسُئِلَ:

عَنْ جُنْدِيٍّ لَهُ إقْطَاعٌ وَيَجِيءُ إلَيَّ عِنْدَ فَلَّاحِيهِ فَيُطْعِمُوهُ هَلْ يَأْكُلُ؟

فَأَجَابَ:

إذَا أَكَلَ وَأَعْطَاهُمْ عِوَضَ مَا أَكَلَ فَلَا بَأْسَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ مُعَلِّمٍ لَهُ دَيْنٌ عِنْدَ صَانِعٍ يَسْتَعْمِلُهُ لِأَجْلِهِ يَأْكُلُ مِنْ أُجْرَتِهِ؟

فَأَجَابَ:

لَا يَجُوزُ لِلْأُسْتَاذِ أَنْ يُنْقِصَ الصَّانِعَ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ؛ لِأَجْلِ مَالِهِ عِنْدَهُ مِنْ الْقَرْضِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِرِضَاهُ كَانَ مُرَابِيًا ظَالِمًا عَاصِيًا مُسْتَحِقًّا لِلتَّعْزِيرِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْسِفَهُ فِي اقْتِضَاءِ دَيْنِهِ.

ص: 532

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ لَهُ إقْطَاعُ أَرْضٍ يَعْمَلُ لَهُ أَرْبَعَمِائَةِ إرْدَبٍّ فَأَعْطَى الْفَلَّاحِينَ قُوَّةً تُقَارِبُ مِائَتَيْ إرْدَبٍّ فَيُسَجِّلُوهُ بسبعمائة دِرْهَمٍ فَهَلْ ذَلِكَ رِبًا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا؛ مِثْلَ أَنْ يُبَايِعَهُ أَوْ يُؤَاجِرَهُ وَيُحَابِيَهُ فِي الْمُبَايَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ لِأَجْلِ قَرْضِهِ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ} . فَإِنَّهُ إذَا أَقْرَضَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي مِائَةً بِمِائَةِ وَخَمْسِينَ كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ رِبًا. وَكَذَلِكَ إذَا أَقْرَضَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَاسْتَأْجَرَهُ بِدِرْهَمَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ أُجْرَتُهُ تُسَاوِي ثَلَاثَةً؛ بَلْ مَا يَصْنَعُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعَلِّمِينَ بِصَنَائِعِهِمْ يُقْرِضُونَهُمْ لِيُحَابُوهُمْ فِي الْأُجْرَةِ فَهُوَ رِبًا. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ أَوْ الدَّارُ أَوْ الْحَانُوتُ تُسَاوِي أُجْرَتَهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَأَكْرَاهَا بِمِائَةِ وَخَمْسِينَ؛ لِأَجْلِ الْمِائَةِ الَّتِي أَقْرَضَهَا إيَّاهُ فَهُوَ رِبًا. وَأَمَّا " الْقُوَّةُ " فَلَيْسَتْ قَرْضًا مَحْضًا؛ فَإِنَّهُ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ فِيهَا أَنْ

ص: 533

يَبْذُرَهَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ عَامِلًا وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْجِرًا. فَكَأَنَّهُ أَجَّرَهُ أَرْضًا يُقَوِّيهَا بِالْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ فَإِذَا انْقَضَتْ الْإِجَارَةُ اسْتَرْجَعَ الْأَرْضَ وَنَظِيرُهُ الْقُوَّةُ. وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمَنْفَعَةُ هُنَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمُقْرِضِ وَالْمُقْرَضِ: فَإِنَّ الْمُقْرِضَ لَهُ غَرَضٌ فِي عِمَارَةِ أَرْضِهِ مِثْلَ " السَّفْتَجَةِ " وَهُوَ أَنْ يُقْرِضَهُ بِبَلَدٍ لِيَسْتَوْفِيَ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَيَرْبَحُ الْمُقْرِضُ خَطَرَ الطَّرِيقِ وَمَئُونَةَ الْحَمْلِ وَيَرْبَحُ الْمُقْرَضُ مَنْفَعَةَ الِاقْتِرَاضِ. وَكَذَلِكَ " الْقُوَّةُ " لَيْسَ مَقْصُودُ الْمُقَوِّي يَأْخُذُ زِيَادَةً عَلَى قُوَّتِهِ؛ بَلْ مُحْتَاجٌ إلَى إجَارَةِ أَرْضِهِ وَذَلِكَ مُحْتَاجٌ إلَى اسْتِئْجَارِهَا فَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهَا إلَّا بِقُوَّةٍ مِنْ الْمُؤَجِّرِ لِحَاجَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَفِي التَّحْقِيقِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْقُوَّةِ الْقَرْضَ بَلْ تَقْوِيَتُهُ بِالْبَذْرِ كَمَا لَوْ قَوَّاهُ بِالْبَقَرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ الْقَرْضِ الَّذِي يَجُرُّ مَنْفَعَةً إنَّمَا الْقُوَّةُ مِنْ تَمَامِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَ الْأَرْضِ بَقَرٌ لِيَحْرُثَ عَلَيْهَا فَيَكُونُ قَدْ أَجَّرَ أَرْضًا وَبَقَرًا: فَهَذَا جَائِزٌ بِلَا رَيْبٍ وَلَكِنَّ الْقُوَّةَ نَفْسَهَا لَا تَبْقَى وَلَكِنْ يَرْجِعُ فِي نَظِيرِهَا كَمَا يَرْجِعُ فِي الْمُضَارَبَةِ فِي نَظِيرِ رَأْسِ الْمَالِ. فَلِهَذَا مَنَعَ مَنْ مَنَعَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُرْجِعُ نَفْسَ الْعَيْنِ فِيهَا إلَى الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرُ قَدْ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي

ص: 534

الْقَرْضِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ إلَّا رَدُّ الْمِثْلِ بِلَا زِيَادَةٍ. وَلَوْ أَجَّرَهُ حِنْطَةً أَوْ نَحْوَهَا لِيَنْتَفِعَ بِهَا ثُمَّ يَرُدَّ إلَيْهِ مِثْلَهَا مَعَ الْأُجْرَةِ: فَهَذَا هُوَ الْقَرْضُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى الْمِثْلِ. وَهَذَا النِّزَاعُ إذَا أَكْرَاهُ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَأَقْرَضَهُ الْقُوَّةَ وَنَحْوَهَا مِمَّا يَسْتَعِينُ بِهِ الْمُكْتَرِي كَمَا لَوْ أَكْرَاهُ حَانُوتًا لِيَعْمَلَ فِيهِ صِنَاعَةً أَوْ تِجَارَةً وَأَقْرَضَهُ مَا يُقِيمُ بِهِ صِنَاعَتَهُ أَوْ تِجَارَتَهُ. فَأَمَّا إنْ أَكْرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْمِثْلِ لِأَجْلِ الْقَرْضِ فَهَذَا لَا خَيْرَ فِيهِ؛ بَلْ هُوَ الْقَرْضُ الَّذِي يَجُرُّ الرِّبَا.

ص: 535

‌بَابُ الرَّهْنِ

سُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ أَرْهَنَ دَارَهُ عِنْدَ رَجُلٍ عَلَى مَالٍ إلَى أَجَلٍ، فَحَلَّ الْأَجَلُ وَهُوَ عَاجِزٌ فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بِعْنِي الدَّارَ بِشَرْطِ إنْ وَفَّيْتِنِي أَخَذْتهَا بِالثَّمَنِ وَإِنْ سَكَنْتهَا لَمْ آخُذْ مِنْك أُجْرَةً فَهَلْ الْبَيْعُ صَحِيحٌ؟ وَقَدْ عَمَّرَ الْمُشْتَرِي فَوْقَهَا بِنَاءً، فَمَا حُكْمُهُ؟

فَأَجَابَ:

لَيْسَ هَذَا بَيْعًا صَحِيحًا؛ بَلْ تُعَادُ الدَّارُ إلَى صَاحِبِهَا وَيُوَفِّي الدَّيْنَ الْمُسْتَحَقَّ، وَالْعِمَارَةُ الَّتِي عَمَّرَهَا الْمُشْتَرِي تُحْسَبُ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ لَهُ نِصْفُ بُسْتَانٍ وَالْبَاقِي لِرَجُلٍ آخَرَ وَاسْتَعَارَ مِنْ شَرِيكِهِ نِصْفَهُ لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنِ إلَى أَجَلٍ وَعَرَّفَهُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ وَالْأَجْلِ فَأَعَارَهُ وَرَهَنَ الْبُسْتَانَ عِنْدَ صَاحِبِ الدَّيْنِ ثُمَّ إنَّهُ فَكَّ نَصِيبَهُ وَبَاعَهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَتَقَاصَّا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ يَبْقَى نَصِيبُ

ص: 536

الْمُعِيرِ مَرْهُونًا عَلَى بَاقِي الدَّيْنِ؟ أَمْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي كُلِّ وَقْتٍ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَعَمْ يَجُوزُ لِلْمَدِينِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ كَمَا ذَكَرُوا وَإِذَا بَاعَهُ وَكَانَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ فَلِلشَّرِيكِ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ. وَأَمَّا نَصِيبُ الْمُعِيرِ فَيَبْقَى مَرْهُونًا عَلَى بَاقِي الدَّيْنِ كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْمُعِيرِ الرُّجُوعُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعَارِيَةِ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ رَهْنٌ عَلَى مَبْلَغٍ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فَلَمَّا انْقَضَى الْأَجَلُ دَفَعَ إلَى رَبِّ الدَّيْنِ حَقَّهُ إلَّا مِائَةً ثُمَّ قُطِعَتْ الْقُبَالَةَ الْأُولَى وَكَتَبَ بِالْمِائَةِ دِرْهَمٍ حُجَّةً وَلَمْ يُعِدْ فِيهِ ذِكْرَ الرَّهْنِ، فَهَلْ لِهَذِهِ الْمِائَةِ الْبَاقِيَةِ بِالرَّهْنِ الْمَذْكُورِ تَعَلُّقٌ؟

فَأَجَابَ:

إذَا أَوْفَى الْغَرِيمُ بَعْضَ الدَّيْنِ وَبَقِيَ بَعْضُهُ فَالرَّهْنُ بَاقٍ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْحَقِّ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مَا يُوجِبُ فِكَاكَهُ: مِثْلَ فَكِّ الْمُرْتَهِنِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ص: 537

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ أَرْهَنَ دَارَهُ ثُمَّ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ عِوَضُ امْرَأَتِهِ بِالدَّارِ عَنْ حَقِّهَا مِنْ مُدَّةِ عَشْرِ سِنِينَ فَهَلْ يَبْطُلُ الرَّهْنُ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُؤَجِّرَ الدَّارَ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا يُقْبَلُ إقْرَارُ الرَّاهِنِ بِمَا يُبْطِلُ الرَّهْنَ وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِالرَّهْنِ فَلِلْمُقِرِّ لَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ بِمُوجِبِ إقْرَارِهِ بِلَا رَيْبٍ لِأَنَّهُ إذَا أَقَرَّ أَنَّ الرَّهْنَ كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ وَأَنَّهُ رَهَنَهُ بِدُونِ إذْنِهِ لَمْ يَبْطُلْ الرَّهْنُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ لَهُ عَلَى شَخْصٍ دَيْنٌ وَأَرْهَنَ عَلَيْهِ رَهْنًا وَالدَّيْنُ حَالٌّ وَرَبُّ الدَّيْنِ مُحْتَاجٌ إلَى دَرَاهِمِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الرَّهْنِ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

إذَا كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ جَازَ وَإِلَّا بَاعَ الْحَاكِمُ إنْ أَمْكَنَ وَوَفَّاهُ حَقَّهُ مِنْهُ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: إذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ دَفَعَهُ إلَى ثِقَةٍ يَبِيعُهُ وَيَحْتَاطُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ وَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 538

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ أَمَرَ أَجِيرَهُ أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا عِنْدَ شَخْصٍ فَرَهَنَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ فَعَدِمَ الرَّهْنَ فَحَلَفَ صَاحِبُ الرَّهْنِ إنْ لَمْ يَأْتِهِ بِهِ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَمْ يَعْدَمْ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ عَدَمُهُ، فَهَلْ يَحْنَثُ إذَا اسْتَعْمَلَهُ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا كَانَ حِينَ حَلَفَ مُعْتَقِدًا أَنَّ الرَّهْنَ بَاقٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يُعْدَمْ فَحَلَفَ لِيُحْضِرَهُ لَمْ يَحْنَثْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَهْنٍ عِنْدَ رَجُلٍ عَلَى مَبْلَغٍ إلَى مُدَّةٍ وَقَدْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ ثُمَّ إنَّهُ أَرْهَنَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ عَلَى الْمَبْلَغِ عِنْدَ إنْسَانٍ آخَرَ وَقَدْ طَلَبَ الرَّاهِنُ الثَّانِي مَا عَلَى الرَّهْنِ وَحَبَسَ لِأَجْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يستفكه، فَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

نَعَمْ يَجُوزُ بَيْعُ الرَّهْنِ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؛ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَذِنَ الرَّاهِنُ الْأَوَّلُ فِي الرَّهْنِ عَلَى الدَّيْنِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ

ص: 539

حِينَئِذٍ لِاسْتِيفَاءِ هَذَا الْحَقِّ مِنْهُ فَإِذَا أَمْكَنَ بَيْعُهُ وَاسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ حَبْسُ الْغَرِيمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ امْرَأَةٍ أُسِرَتْ وَلَهَا مِلْكٌ وَزَوْجٌ وَأَخٌ فأرهنوا مِلْكَهَا عَلَى دَرَاهِمَ لِأَجْلِ فِكَاكِهَا وَرَاحَ أَخُوهَا بِالدَّرَاهِمِ فِي طَلَبِهَا فَوَجَدَهَا حَصَلَتْ بِلَا ثَمَنٍ فَرَجَعَتْ إلَى بَلَدِهَا وَتَخَلَّفَ أَخُوهَا فِي حَوَائِجِهِ فَلَمَّا وَصَلَتْ وَوَجَدَتْ مِلْكَهَا مَرْهُونًا عَلَى الدَّرَاهِمِ فَقَالَتْ: يَرْهَنُ مَالِي بِغَيْرِ أَمْرِي؟ وَأَنْكَرَتْ أَنَّ أَخَاهَا سَلَّمَ إلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الدَّرَاهِمِ، فَهَلْ يَلْزَمُهَا الرَّهْنُ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بَلْ يُعَادُ إلَيْهَا مَا قَبَضَهُ أَخُوهَا وَيُفَكُّ الرَّهْنُ عَلَى مِلْكِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 540

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ أَقْرَضَ عَمَّهُ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ثُمَّ إنَّ ابْنَ عَمِّهِ تَدَيَّنَ دَرَاهِمَ مِنْ نَاسٍ آخَرِينَ وَاشْتَرَى خَمْسَةَ غِلْمَانٍ وَجَارِيَةً وَكَتَبَ مَكْتُوبًا أَنَّ الْخَمْسَةَ الْغِلْمَانَ دُونَ الْجَارِيَةِ رَهْنٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الدَّيْنِ ثُمَّ إنَّهُ بَاعَ الْغِلْمَانَ وَأَوْصَلَهُمَا لِمَنْ كَانُوا رَهْنًا عِنْدَهُ ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْخَمْسَةِ آلَافٍ اشْتَرَى الْجَارِيَةَ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ فَمَسَكُوهُ أَصْحَابُ الدَّيْنِ الَّذِينَ أَخَذُوا ثَمَنَ الْغِلْمَانِ؛ لِيَأْخُذُوهَا مِنْ دَيْنِهِمْ أَيْضًا. فَهَلْ لَهُمْ ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا وَلَا كَفِيلًا؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا لَمْ تَكُنْ الْجَارِيَةُ مَرْهُونَةً عِنْدَ أَهْلِ الدَّيْنِ الثَّانِي: لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ هَذَا الدَّيْنِ اخْتِصَاصٌ بِهَا دُونَ بَقِيَّةِ الْغُرَمَاءِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ يَكُونُ إذَا كَانَ قَدْ وَفَّاهَا مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي لِغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ الْعَدْلَ فِي الْوَفَاءِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَأَمَّا قَبْلَ الْحَجْرِ فَفِيهِ نِزَاعٌ.

ص: 541

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ لَهُ دَيْنٌ عَلَى إنْسَانٍ فَوَجَدَ وَلَدَهُ رَاكِبًا عَلَى فَرَسٍ فَأَخَذَ الْفَرَسَ مِنْهُ فَحَضَرَ الْمَدْيُونُ إلَى صَاحِبِ الْفَرَسِ فَطَالَبَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِدَيْنِهِ فَقَالَ لَهُ: خُذْ هَذِهِ الْفَرَسَ عِنْدَك حَتَّى أُوَفِّيَك دَيْنَك فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ: لِي عِنْدَك فِضَّةٌ مَالِي عِنْدَك فَرَسٌ وَهَذَا حَيَوَانٌ وَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ بِيَدِ اللَّهِ سبحانه وتعالى فَقَالَ لَهُ الْمَدْيُونُ: أَبْرَأَك اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْفِضَّةِ فَمَهْمَا حَدَثَ كَانَ فِي دَرْكِي فَقَعَدَتْ عِنْدَ صَاحِبِ الدَّيْنِ أَيَّامًا يَعْلِفُهَا وَيَسْقِيهَا وَلَا يَرْكَبُهَا فَأُسْقِطَتْ الْفَرَسُ مَيِّتَةً لَمْ تَسْتَهِلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ فَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ غَيْرُ الْمَدْيُونِ ادَّعَى أَنَّ الْفَرَسَ لَهُ وَطَالَبَ بِسِقْطِ الْفَرَسِ. فَقَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ: أَنَا لَا أَعْرِفُك وَلَا لَك مَعِي كَلَامٌ وَأَحْلِفُ لَك أَنِّي مَا رَكِبْت الْفَرَسَ وَلَا رَكِبَهَا أَحَدٌ عِنْدِي وَلَا ضَرَبْتهَا. فَهَلْ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ؟ أَوْ عَلَى الَّذِي أَرْهَنَ الْفَرَسَ قِيمَةَ السِّقْطِ أَمْ لَا؟ وَكَمْ يَكُونُ قِيمَةُ السِّقْطِ؟

فَأَجَابَ:

إذَا قَبَضْت الْفَرَسَ مِنْ مَالِكِهَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُ ضَمَانُ مَا نَقَصَتْ وَهُوَ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ الْقِيمَاتِ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهَا غَاصِبًا مُتَعَدِّيًا

ص: 542

فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَغْرُورًا وَلَمْ يُتْلَفْ بِسَبَبٍ مِنْهُ فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ الَّذِي غَرَّهُ وَضَمِنَ لَهُ الدَّرْكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ تَحْتَ يَدِهِ رَهْنٌ عَلَى دَيْنٍ ثُمَّ بَاعَهُ مَالِكُهُ فَأَرَادَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يُثْبِتَ عَقْدَ الرَّهْنِ وَيَفْسَخَ الْبَيْعَ فَعَلَى مَنْ يَدَّعِي؟

فَأَجَابَ:

بَيْعُ الرَّهْنِ اللَّازِمِ بِدُونِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ لَا يَجُوزُ وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَطْلُبَ دَيْنَهُ مِنْ الرَّاهِنِ الْمَدِينِ إنْ كَانَ قَدْ حَلَّ وَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ عَوْدَ الرَّهْنِ أَوْ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ مِنْهُ، وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ الْبَائِعَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ الْمُشْتَرِيَ لَهُ لَكِنَّ؛ الْمُشْتَرِيَ إنْ كَانَ مَغْرُورًا فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْبَائِعِ يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ أُجْرَةِ الْمَبِيعِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِصُورَةِ الْحَالِ فَهُوَ ظَالِمٌ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ.

ص: 543

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

عَنْ رَجُلٍ أَرْهَنَ حِيَاصَةً فَاسْتَعْمَلَهَا الْمُرْتَهِنُ فَقَطَعَ سَيْرَهَا وَعَدِمَ طَلْيَهَا؟

فَأَجَابَ:

إنْ كَانَتْ نَقَصَتْ بِاسْتِعْمَالِ الْمُرْتَهِنِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ بِالِاسْتِعْمَالِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ص: 544

‌بَابُ الضَّمَانِ

سُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ ضَامِنٍ مُعَيَّنًا وَقَدْ طَلَبَهُ غَرِيمُهُ بِالْمَالِ وَلَمْ يَكُنْ لِلضَّامِنِ مَقْدِرَةٌ وَقَدْ ادَّعَى غَرِيمُهُ عَلَيْهِ وَادَّعَى الْإِعْسَارَ، فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ؟ أَوْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؟

فَأَجَابَ:

إذَا كَانَ الضَّامِنُ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَادَّعَى الْإِعْسَارَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي ذَلِكَ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ بَيِّنَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا ذَكَرُوهُ عَنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَحَكَى مَنْعَ ذَلِكَ أَيْضًا بَلْ هُوَ حَقِيقَةُ مَذْهَبِهِ فَإِنَّهُ لَا يحوجه إلَى بَيِّنَةٍ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَالَ عَلَى مَا ذَكَرُوا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 545

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ ضَمِنَ آخَرَ بِدَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ:

نَعَمْ يَصِحُّ ضَمَانُ مَا فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَيُطَالَبُ الْمُسْتَحِقُّ لِلضَّامِنِ. لَكِنْ إذَا قَضَاهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْغَرِيمِ. فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْمَدِينِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ. قِيلَ: يَرْجِعُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَقِيلَ: لَا يَرْجِعُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؟ وَالشَّافِعِيِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ تَحْتَ حِجْرِ وَالِدِهِ وَضَمِنَ بِغَيْرِ رِضَا وَالِدِهِ ضَمِنَ أَقْوَامًا مُسْتَأْجِرِينَ بُسْتَانًا أَرْبَعَ سِنِينَ وَتَفَاصَلُوا مِنْ الْإِجَارَةِ الَّتِي ضَمِنَهُمْ وَقَدْ فَضَّلَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا كَتَبَ عَلَيْهِمْ بِهِ حُجَّةً بِغَيْرِ الْإِجَارَةِ وَقَدْ طَلَبَ الضَّامِنُ لَهُمْ، فَهَلْ يَجُوزُ طَلَبُهُ بَعْدَ فَسْخِ الْإِجَارَةِ؟

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إنْ كَانَ ضَمِنَهُمْ ضَمَانًا شَرْعِيًّا بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ

ص: 546

الدَّيْنِ فَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يُطَالِبَ الضَّامِنَ بِذَلِكَ الْحَقِّ أَوْ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِغَيْرِ مَا ضَمِنَهُ. وَإِنْ كَانَ تَحْتَ حِجْرِ أَبِيهِ لَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ، وَلِلضَّامِنِ أَنْ يَطْلُبَ الْغُرَمَاءَ إذَا طَلَبَ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ ضَمِنَ أَمْلَاكًا فِي ذِمَّتِهِ وَقَدْ اُسْتُحِقَّتْ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ دَرَاهِمُ وَلَهُ مَوْجُودٌ مِلْكٌ يُحْرِزُ الْقِيمَةَ وَزِيَادَةً فَهَلْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَعْتَقِلَ الضَّامِنَ قَبْلَ بَيْعِ الْمَوْجُودِ؟ أَمْ لَا؟ وَإِذَا اعْتَقَلَ الضَّامِنَ وَسَأَلَ خُرُوجَهُ مَعَ تَرْسِيمٍ أَوْ تَسْلِيمِ الْمِلْكِ لِمَنْ يَبِيعُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْغَرِيمُ؟

فَأَجَابَ:

إذَا بَذَلَ بَيْعَ مَالِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ لَمْ يَجُزْ عُقُوبَتُهُ بِحَبْسٍ وَلَا غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ وَهُوَ إذَا بَذَلَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْوَفَاءِ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَرَكَ وَاجِبًا؛ لَكِنْ إنْ خَافَ الْغَرِيمُ أَنْ يَغِيبَ أَوْ لَا يَفِي بِمَا عَلَيْهِ؛ فَلَهُ أَنْ يَحْتَاطَ عَلَيْهِ؛ إمَّا بِمُلَازَمَتِهِ وَإِمَّا بِعَائِنٍ فِي وَجْهِهِ. وَالتَّرْسِيمُ عَلَيْهِ مُلَازَمَةٌ. وَمَتَى اعْتَقَلَهُ الْحَاكِمُ ثُمَّ بَذَلَ بَيْعَ مَالِهِ وَسَأَلَ التَّمْكِينَ مِنْ ذَلِكَ يُمْكِنُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ إمَّا أَنْ يَخْرُجَ مَعَ تَرْسِيمٍ وَإِمَّا أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَبِيعُ

ص: 547

الْمِلْكَ وَيُسَلِّمُهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ إلَّا بِخُرُوجِهِ. فَفِي الْجُمْلَةِ لَا تَجُوزُ عُقُوبَتُهُ بِحَبْسٍ مَعَ عَدَمِ تَرْكِهِ الْوَاجِبَ؛ لَكِنْ يَحْتَاطُ بِالْمُلَازَمَةِ.

وَسُئِلَ:

عَنْ ضَامِنٍ عَلَى أَنَّ دَوَابَّ قَوْمٍ تَنْزِلُ فِي خَانِ البراة وَلَهُ عَلَى النَّاسِ وَظِيفَةٌ عَلَى نُزُولِهِمْ وَعَلَفِهِمْ، فَزَادَ فِي الْوَظِيفَةِ؟

فَأَجَابَ:

لَيْسَ لِلضَّامِنِ؛ لَا فِي الشَّرِيعَةِ النَّبَوِيَّةِ وَلَا فِي السِّيَاسَةِ السُّلْطَانِيَّةِ تَغْيِيرُ الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَا أَنْ يُحْدِثَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ مَوْضُوعًا بِأَمْرِ وُلَاةِ الْأُمُورِ؛ بَلْ الْوَاجِبُ مِنْهُ مِنْ ذَلِكَ وَعُقُوبَتُهُ عَلَيْهِ وَاسْتِرْجَاعُ مَا قَبَضَهُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِغَيْرِ إذْنٍ. وَأَمَّا حُكْمُ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّهُ يَنْزِلُ صَاحِبُ الدَّابَّةِ حَيْثُ أَحَبَّ مَا لَمْ تَكُنْ مَفْسَدَةً شَرْعِيَّةً وَيَعْلِفُهَا هُوَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يَكْتَرِيَ لَهَا أَوْ يَشْتَرِيَ مِنْ أَحَدٍ وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ زِيَادَةٌ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ؛ بَلْ أَخْذُ الزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ الْمَيِّتِ حَرَامٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 548

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَمَّنْ يَكْتُبُ ضَمَانَ الْأَسْوَاقِ وَغَيْرَهَا مِنْ الْكِتَابَةِ الَّتِي لَا تَجُوزُ فِي الشَّرْعِ هَلْ عَلَى الْكَاتِبِ إثْمٌ؟ فَإِنَّهُ يَكْتُبُ وَيَشْهَدُ عَلَى مَنْ حَضَرَ بِمَا يَرْضَى فَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ فَإِنَّ الْكِتَابَ لَا يَخْلُوَنَّ مِنْ ذَلِكَ، فَهَلْ يَأْثَمُونَ بِذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ:

ضَمَانُ السُّوقِ وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ الضَّامِنُ مَا يَجِبُ عَلَى التَّاجِرِ مِنْ الدُّيُونِ وَمَا يَقْبِضُهُ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ ضَمَانٌ صَحِيحٌ وَهُوَ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ وَضَمَانُ الْمَجْهُولِ وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ. وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ كَقَوْلِهِ: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} . وَالشَّافِعِيُّ يُبْطِلُهُ فَيَجُوزُ لِلْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ أَنْ يَكْتُبَهُ وَيَشْهَدَ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَرَ جَوَازَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَوَلِيُّ الْأَمْرِ يَحْكُمُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ.

ص: 549

وَسُئِلَ:

عَمَّنْ ضَمِنَ رَجُلًا ضَمَانَ السُّوقِ بِإِذْنِهِ فَطَلَبَ مِنْهُ فَهَرَبَ حَتَّى عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ وَغَرِمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَمْوَالًا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا خَسِرَهُ فِي ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ:

لَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا أَنْفَقَهُ بِسَبَبِ ضَمَانِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ رَجُلٍ ضَمِنَ رَجُلًا فِي الذِّمَّةِ عَلَى مَبْلَغٍ وَعِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبْلَغِ مَسَكَ الْغَرِيمُ الضَّامِنَ وَاعْتَقَلَهُ فِي السِّجْنِ فَطَلَبَ الْغَرِيمُ صَاحِبَ الدَّيْنِ فَأَخَذَهُ وَاعْتَقَلَهُ وَبَقِيَ الضَّامِنُ وَالْمَضْمُونُ فِي الْحَبْسِ، فَهَلْ يَجُوزُ اعْتِقَالُ الضَّامِنِ؟

فَأَجَابَ:

مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد أَنَّ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَطْلُبَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا فَإِذَا اسْتَوْفَى لَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةٌ، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمَا جَمِيعًا.

ص: 550

وَ‌

‌سُئِلَ:

عَمَّنْ طَلَبَ بِمَالٍ عَلَى وَلَدِهِ فَتَغَيَّبَ الْوَلَدُ

فَطَلَبَ مِنْ جِهَةِ وَالِدِهِ؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا وَلَدَهُ وَلَا لَهُ عِنْدَهُ مَالٌ لَمْ تَجُزْ مُطَالَبَتُهُ بِمَا عَلَيْهِ. لَكِنْ إنْ أَمْكَنَ الْوَالِدُ مُعَاوَنَةَ صَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى إحْضَارِ وَلَدِهِ بِالتَّعْرِيفِ بِمَكَانِهِ وَنَحْوِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَا تَحِلُّ مُطَالَبَتُهُ بِشَيْءٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ كَفُّ الْعُدْوَانِ عَنْهُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ كَاتِبٍ عِنْدَ أَمِيرٍ وَاقْتَرَضَ الْأَمِيرُ مِنْ إنْسَانٍ فَأَلْزَمَهُ الْأَمِيرُ بِالْغَصْبِ أَنْ يَضْمَنَ فِي ذِمَّتِهِ وَضَمِنَهُ وَالْكَاتِبُ تَحْتَ الْحَجْرِ مِنْ وَالِدِهِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ مَا ضَمِنَهُ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ضَامِنٌ بِإِقْرَارٍ وَبَيِّنَةٍ أَوْ خَطِّهِ: لَزِمَهُ مَا ضَمِنَهُ؛ فَإِنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ الزَّعِيمَ غَارِمٌ} . فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِالتَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ: لَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ؛

ص: 551

وَلَكِنْ لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ الْحَجْرَ. وَإِنْ قَالَ: إنَّ الْمَضْمُونَ لَهُ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْت مَحْجُورًا عَلَيَّ فَلَهُ تَحْلِيفُهُ وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى الْإِكْرَاهَ فَلَهُ تَحْلِيفُ الْمَضْمُونِ لَهُ.

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ ضَامِنٍ يَطْلُبُ مِنْهُ السُّلْطَانُ عَلَى الْأَفْرَاحِ الَّتِي يَحْصُلُ فِيهَا بَعْضُ الْمُنْكَرَاتِ: مِنْ غِنَاءِ النِّسَاءِ الْحَرَائِرِ لِلرِّجَالِ الْأَجَانِبِ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِإِبْطَالِ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَبْطَلَهُ وَطَالَبَ الضَّامِنَ بِالْمَالِ الَّذِي لَمْ يَلْتَزِمْهُ إلَّا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الضَّمَانِ وَجَبَ لِذَلِكَ الْفِعْلِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الضَّمَانِ وَالضَّامِنُ يَعْتَقِدُ دُخُولَهُ؛ لِجَرَيَانِ عَادَةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ الضَّمَانِ بِهِ وَأَنَّ الضَّمَانَ وَقَعَ عَلَى الْحَالَةِ وَالْعَادَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.

فَأَجَابَ:

ظُلْمُ الضَّامِنِ بِمُطَالَبَتِهِ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا أَبْلَغُ تَحْرِيمًا مِنْ غِنَاءِ الْأَجْنَبِيَّةِ لِلرِّجَالِ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَمَّا هَذَا الْغَنَاءُ فَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَدْعُو إلَى الزِّنَا كَمَا حَرَّمَ النَّظَرَ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ خِلَافًا شَاذًّا؛ وَلِأَنَّ غِنَاءَ الْإِمَاءِ الَّذِي يَسْمَعُهُ الرَّجُلُ قَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَسْمَعُونَهُ فِي

ص: 552

الْعُرْسَاتِ كَمَا كَانُوا يَنْظُرُونَ إلَى الْإِمَاءِ لِعَدَمِ الْفِتْنَةِ فِي رُؤْيَتِهِنَّ وَسَمَاعِ أَصْوَاتِهِنَّ فَتَحْرِيمُ هَذَا أَخَفُّ مِنْ تَحَرِّي الظُّلْمِ فَلَا يُدْفَعُ أَخَفُّ الْمُحَرَّمَيْنِ بِالْتِزَامِ أَشَدِّهِمَا. وَأَمَّا غِنَاءُ الرِّجَالِ لِلرِّجَالِ فَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ كَانَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ. يَبْقَى غِنَاءُ النِّسَاءِ لِلنِّسَاءِ فِي الْعُرْسِ وَأَمَّا غِنَاءُ الْحَرَائِرِ لِلرِّجَالِ بِالدُّفِّ فَمَشْرُوعٌ فِي الْأَفْرَاحِ كَحَدِيثِ النَّاذِرَةِ وَغِنَاهَا مَعَ ذَلِكَ. وَلَكِنْ نَصْبُ مُغَنِّيَةٍ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ: هَذَا مُنْكَرٌ بِكُلِّ حَالٍ؛ بِخِلَافِ مَنْ لَيْسَتْ صَنْعَتُهَا وَكَذَلِكَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ:

عَنْ رَجُلٍ ضَمِنَ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ مِنْ الْمَضْمُونِ وَالضَّامِنُ مُتَزَوِّجٌ ابْنَةَ الْمَضْمُونِ فَأَقَامَ الضَّامِنُ فِي السِّجْنِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَأَنْفَقَ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَلْ يَلْزَمُ الْمَضْمُونَ النَّفَقَةُ الَّتِي أَنْفَقَهَا فِي مُدَّةِ الِاعْتِقَالِ؟ .

فَأَجَابَ:

نَعَمْ مَا أُلْزِمَ الضَّامِنُ بِسَبَبِ عُدْوَانِ الْمَضْمُونِ؛ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ فَيَغِيبُ حَتَّى أَمْسَكَ الْغَرِيمُ لِلضَّامِنِ وَغَرَّمَهُ مَا غَرَّمَهُ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْمَضْمُونِ الَّذِي ظَلَمَهُ.

ص: 553

وَسُئِلَ رحمه الله:

عَنْ جَمَاعَةٍ ضَمَّنُوا شَخْصًا لِرَجُلِ وَكَانَ الضَّامِنُ ضَامِنًا وَجْهَ الْمَضْمُونِ فِي حَبْسِ الشَّرْعِ، فَهَلْ يُلْزِمُهُمْ بِإِحْضَارِهِ إلَى بَيْتِهِ؟ .

فَأَجَابَ:

إذَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ فِي حَبْسِ الشَّرْعِ بَرِئَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَلْزَمْهُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَبْسِ لَهُ؛ لَكِنَّ الْمَضْمُونَ لَهُ يَطْلُبُ حَقَّهُ مِنْهُ وَيَسْتَوْفِيهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ حِينَئِذٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَبْسِ وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْحَبْسِ حَتَّى يُحَاكِمَ غَرِيمَهُ ثُمَّ يُعِيدَهُ إلَيْهِ. وَلَا يَلْزَمُهُ إحْضَارُهُ إلَيْهِ وَهُوَ فِي حَبْسِ الشَّرْعِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَجَابَ أَيْضًا: إذَا سَلَّمَهُ ضَامِنُ الْوَجْهِ الَّذِي ضَمَّنُوهُ ضَمَانَ إحْضَارٍ فِي حَبْسِ الشَّرْعِ؛ فَقَدْ بَرِئُوا مِنْ الضَّمَانِ وَكَانَ لِأَهْلِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفُوا حَقَّهُمْ مِنْهُ حِينَئِذٍ وَإِنْ احْتَاجُوا إلَى الدَّعْوَى عَلَيْهِ مُكِّنُوا مِنْ إخْرَاجِهِ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَالدَّعْوَى عَلَيْهِ. هَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا.

ص: 554

وَسُئِلَ:

عَنْ جَمَّالٍ رَبَطَ جِمَالَهُ فِي الرَّبِيعِ وَلِكُلِّ مَكَانٍ خُفَرَاءُ ثُمَّ سُرِقَ مِنْ الْجَمَّالِ جَمَلٌ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الْخُفَرَاءِ حَاضِرًا بَائِنًا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؟ أَمْ لَا؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا كَانُوا مُسْتَأْجِرِينَ عَلَى حِفْظِهِمْ فَعَلَيْهِمْ الضَّمَانُ بِمَا تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:

عَنْ صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ اسْتَدَانَ دَيْنًا وَكَفَلَهُ أَبُوهُ وَثَلَاثَةٌ أُخَرُ بِإِذْنِهِ ثُمَّ غَابَ أَبُوهُ فَطَلَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ مِنْ أَحَدِ الْكُفَلَاءِ الْمَالَ وَأَلْزَمَهُ بِوَزْنِهِ، فَهَلْ لِهَذَا الَّذِي وَزَنَ الْمَالَ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا وَزَنَهُ عَلَى الصَّبِيِّ أَوْ عَلَى مَالِ أَبِيهِ الْغَائِبِ وَعَلَى رِفَاقِهِ فِي الْكَفَالَةِ أَمْ يَرُوحُ مَا وَزَنَهُ مَجَّانًا؟ .

فَأَجَابَ:

لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى مَنْ كَفَلَهُ؛ فَإِنَّ كَفَالَةَ أَبِيهِ لَهُ تَقْتَضِي

ص: 555

أَنَّهُ تَصَرَّفَ بِإِذْنِ أَبِيهِ فَيَلْزَمُهُ الدَّيْنُ وَتَصِحُّ كَفَالَتُهُ. وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ قَدْ اسْتَدَانَ لِأَبِيهِ وَلَكِنْ أَبُوهُ أَمَرَهُ فَالِاسْتِدَانَةُ لِلْأَبِ وَإِلَّا فَلَهُ تَحْلِيفُ الْأَبِ أَنَّ الِاسْتِدَانَةَ لَمْ تَكُنْ لَهُ.

وَسُئِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ:

عَمَّنْ سَلَّمَ غَرِيمَهُ إلَى السَّجَّانِ فَفَرَّطَ فِيهِ حَتَّى هَرَبَ؟ .

فَأَجَابَ:

إنَّ السَّجَّانَ وَنَحْوَهُ مِمَّنْ هُوَ وَكِيلٌ عَلَى بَدَنِ الْغَرِيمِ؛ بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ لِلْوَجْهِ عَلَيْهِ إحْضَارُ الْخَصْمِ فَإِنْ تَعَذَّرَ إحْضَارُهُ - كَمَا لَوْ لَمْ يَحْضُرْ الْمَكْفُولُ - يَضْمَنُ مَا عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ.

ص: 556

‌بَابُ الْحَوَالَةِ

سُئِلَ رحمه الله:

عَمَّنْ أَحَالَ بِدَيْنٍ عَلَى صَدَاقٍ حَالٍّ ثُمَّ إنَّ الْمُحِيلَ قَبَضَ الدَّيْنَ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ. فَهَلْ تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِذَلِكَ؟ وَهَلْ يَكُونُ هَذَا الْقَبْضُ صَحِيحًا مُبْرِئًا لِذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ؟ وَهَلْ لِلْمُحَالِ مُطَالَبَةُ الْمُحِيلِ الْقَابِضِ لِمَا قَبَضَهُ وَيَرْجِعُ؟ .

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَعَمْ تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِشُرُوطِهَا وَلَيْسَ لِلْمُحِيلِ لَهُ قَبْضُ الْمُحَالِ بِهِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِالْإِقْبَاضِ لَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِ الْمُحَالِ. وَلِلْمُحْتَالِ أَنْ يَطْلُبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِيُعَادَ مِنْهُ فِي ذِمَّتِهِ وَمِنْ الْقَابِضِ دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَإِنْ كَانَ قَبْضُ الْغَاصِبِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ بِمَنْزِلَةِ غَصْبِ الْمُشَاعِ فَإِنَّ التَّعْيِينَ بِالْغَصْبِ كَالْقِسْمَةِ فَمَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْغَاصِبَ بِالْقِسْمَةِ. وَلِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيلِ بِمَا قَبَضَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لَكِنْ لِلْخَصْمِ تَحْلِيفُ الْمُقِرِّ لَهُ؛ أَنَّ بَاطِنَ هَذَا الْإِقْرَارِ كَظَاهِرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

آخِرُ المُجَلَّدِ التَاسِعِ وَالعِشْرِينَ

ص: 557