الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْجُزْءُ الْثَّالِثُ وَالْثَّلَاثُونَ
كِتَابُ الْطَلَاقِ
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيه وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِي اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
بَابُ طَلَاقِ السُّنَّةِ وَطَلَاقِ الْبِدْعَةِ
فَصْلٌ:
مُخْتَصَرٌ فِيمَا " يَحِلُّ مِنْ الطَّلَاقِ وَيَحْرُمُ " وَهَلْ يَلْزَمُ الْمُحَرَّمُ؟ أَوْ لَا يَلْزَمُ؟ فَنَقُولُ: الطَّلَاقُ مِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمِ " فَالطَّلَاقُ الْمُبَاحُ " بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ - هُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ
امْرَأَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً؛ إذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضَتِهَا بَعْدَ أَنْ تَغْتَسِلَ وَقَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا ثُمَّ يَدَعَهَا فَلَا يُطَلِّقَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَهَذَا الطَّلَاقُ يُسَمَّى " طَلَاقَ السُّنَّةِ " فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ فَلَهُ ذَلِكَ بِدُونِ رِضَاهَا وَلَا رِضَا وَلِيِّهَا. وَلَا مَهْرٍ جَدِيدٍ. وَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى تَقْضِيَ الْعِدَّةَ: فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانِ فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ؛ لَكِنْ يَكُونُ بِعَقْدِ؛ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا ابْتِدَاءً أَوْ تَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ ثُمَّ ارْتَجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا؛ فَإِنَّهُ يُطَلِّقُهَا كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ إذَا ارْتَجَعَهَا أَوْ تَزَوَّجَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَإِنَّهُ يُطَلِّقُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَإِذَا طَلَّقَهَا الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ وَرَسُولُهُ وَحِينَئِذٍ فَلَا تُبَاحُ لَهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ النِّكَاحَ الْمَعْرُوفَ الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ إذَا كَانَ الرَّجُلُ رَاغِبًا فِي نِكَاحِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ يُفَارِقُهَا. فَأَمَّا إنْ تَزَوَّجَهَا بِقَصْدِ أَنْ يَحِلَّهَا لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا نَقَلَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَغَيْرِهِمْ وَكَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِمَّا لَا تَحِيضُ لِصِغَرِهَا أَوْ كِبَرِهَا؛ فَإِنَّهُ يُطَلِّقُهَا مَتَى شَاءَ سَوَاءٌ كَانَ وَطِئَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ يَطَؤُهَا؛ فَإِنَّ هَذِهِ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. فَفِي أَيِّ وَقْتٍ طَلَّقَهَا لِعِدَّتِهَا؛ فَإِنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِقُرُوءِ وَلَا بِحَمْلِ؛ لَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُسَمِّي هَذَا " طَلَاقَ سُنَّةٍ " وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُسَمِّيه " طَلَاقَ سُنَّةٍ " وَلَا " بِدْعَةٍ ".
وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا وَقَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا: فَهَذَا الطَّلَاقُ مُحَرَّمٌ وَيُسَمَّى " طَلَاقَ الْبِدْعَةِ " وَهُوَ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا وَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا: فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا. وَهَلْ يُسَمَّى هَذَا طَلَاقَ سُنَّةٍ؟ أَوْ لَا يُسَمَّى طَلَاقَ سُنَّةٍ وَلَا بِدْعَةٍ؟ فِيهِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ. وَهَذَا
" الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ "
فِي الْحَيْضِ وَبَعْدَ الْوَطْءِ وَقَبْلَ تَبَيُّنِ الْحَمْلِ هَلْ يَقَعُ؟ أَوْ لَا يَقَعُ؟ سَوَاءٌ كَانَتْ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ؛ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ. أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ. أَوْ يَقُولُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ يَقُولُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ يَقُولُ: أَنْتِ طَالِقٌ. أَوْ يَقُولُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. أَوْ عَشْرَ طَلَقَاتٍ أَوْ مِائَةَ طَلْقَةٍ أَوْ
أَلْفَ طَلْقَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ: فَهَذَا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا. وَمِنْ السَّلَفِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا. وَفِيهِ قَوْلٌ رَابِعٌ مُحْدَثٌ مُبْتَدِعٌ. " أَحَدُهَا ": أَنَّهُ طَلَاقٌ مُبَاحٌ لَازِمٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْقَدِيمَةِ عَنْهُ: اخْتَارَهَا الخرقي. " الثَّانِي " أَنَّهُ طَلَاقٌ مُحَرَّمٌ لَازِمٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهُ. اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْقُولٌ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ: مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِهِمْ. " الثَّالِثُ ": أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْقُولٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ الْقَوْلَانِ؛ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: مِثْلَ طَاوُوسٍ وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو؛ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ؛ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ؛ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَابْنِهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَلِهَذَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ مَنْ ذَهَبَ مِنْ الشِّيعَةِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ.
وَأَمَّا " الْقَوْلُ الرَّابِعُ " الَّذِي قَالَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ: فَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَالْقَوْلُ " الثَّالِثُ " هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ فَإِنَّ كُلَّ طَلَاقٍ شَرَعَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إنَّمَا هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ؛ لَمْ يُشَرِّعْ اللَّهُ لِأَحَدِ أَنْ يُطَلِّقَ الثَّلَاثَ جَمِيعًا وَلَمْ يُشَرِّعْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا طَلَاقًا باينا وَلَكِنْ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بَانَتْ مِنْهُ فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَانَتْ مِنْهُ.
فَالطَّلَاقُ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ:
" الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ " وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي الْعِدَّةِ وَرِثَهُ الْآخَرُ.
وَ " الطَّلَاقُ الْبَائِنُ " وَهُوَ مَا يَبْقَى بِهِ خَاطِبًا مِنْ الْخِطَابِ لَا تُبَاحُ لَهُ إلَّا بِعَقْدِ جَدِيدٍ. " والطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ لَهَا " لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَهُوَ فِيمَا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ كَمَا أَذِنَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ: أَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ. أَوْ يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا. أَوْ يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ. فَهَذَا الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ لَهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا طَلَاقٌ بَائِنٌ يُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ. وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ. وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ.
ودَاوُد وَابْنِ خُزَيْمَة وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ " الْخُلْعَ " فَسْخٌ لِلنِّكَاحِ وَفُرْقَةٌ بَائِنَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لَا يُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ. وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ: كَابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان: وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ؛ وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ وَهُوَ قَوْلُ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه؛ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَعْرُوفَةٌ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَبَيْنَ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْخُلْعَ طَلَاقًا؛ لَكِنْ ضَعَّفَهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ: كَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ؛ وَابْنِ خُزَيْمَة؛ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِي وَغَيْرِهِمْ. كَمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ.
و" الْخُلْعُ " أَنْ تَبْذُلَ الْمَرْأَةُ عِوَضًا لِزَوْجِهَا؛ لِيُفَارِقَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُطْلِقَاتِ بَعْدَ الدُّخُولِ يَتَرَبَّصْنَ أَيْ يَنْتَظِرْنَ ثَلَاثَ قُرُوءٍ. " وَالْقُرْءُ " عِنْدَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ: كَعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِمْ: الْحَيْضُ. فَلَا تَزَالُ فِي الْعِدَّةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَيْضَةُ الثَّالِثَةُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِطَعْنِهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَهِيَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} ثُمَّ قَالَ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} أَيْ فِي ذَلِكَ التَّرَبُّصِ. ثُمَّ قَالَ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} فَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ أَحَقَّ بِرَدِّهَا: هُوَ (مَرَّتَانِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ كَمَا إذَا قِيلَ لِلرَّجُلِ: سَبِّحْ مَرَّتَيْنِ. أَوْ سَبِّحْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. أَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ. فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ. سُبْحَانَ اللَّهِ. حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْعَدَدَ. فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُجْمِلَ
ذَلِكَ فَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ. لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: الطَّلَاقُ طَلْقَتَانِ. بَلْ قَالَ: مَرَّتَانِ فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ عَشْرًا أَوْ أَلْفًا. لَمْ يَكُنْ قَدْ طَلَّقَهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً {وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ جُوَيْرِيَّةَ: لَقَدْ قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْته مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ. سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ. سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ. سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ} أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ التَّسْبِيحَ بِعَدَدِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ} لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ سَبَّحَ تَسْبِيحًا بِقَدْرِ ذَلِكَ. فَالْمِقْدَارُ تَارَةً يَكُونُ وَصْفًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ وَفِعْلُهُ مَحْصُورٌ. وَتَارَةً يَكُونُ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ فَذَاكَ الَّذِي يَعْظُمُ قَدْرُهُ؛ وَإِلَّا فَلَوْ قَالَ الْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ. لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَلَمَا شَرَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُحَمَّدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُكَبَّرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ. فَلَوْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ خَلْقَهُ. لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَلَا نَعْرِفُ أَنَّ أَحَدًا طَلَّقَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ فَأَلْزَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالثَّلَاثِ وَلَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا حَسَنٌ وَلَا نَقَلَ أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُعْتَدِّ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ شَيْئًا؛
بَلْ رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ بَلْ مَوْضُوعَةٌ؛ بَلْ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ: طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً. فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ وَغَيْرِهِ عَنْ طَاوُوسٍ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَتَعْلَمُ إنَّمَا كَانَتْ الثَّلَاثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَثَلَاثًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ: وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَاتِ مِنْ هَنَاتِك أَلَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً؟ قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ حَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ. {طَلَّقَ ركانة بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أَخُو بَنِي الْمُطَّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا؛ قَالَ: فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ طَلَّقْتهَا؟ قَالَ: طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا. قَالَ؛ فَقَالَ: فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّمَا تِلْكَ وَحْدَةٌ فَأَرْجِعْهَا إنْ شِئْت قَالَ: فَرَجَعَهَا} . فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ؛ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ المقدسي فِي كِتَابِهِ " الْمُخْتَارَةِ " الَّذِي هُوَ أَصَحُّ مِنْ " صَحِيحِ الْحَاكِمِ ". وَهَكَذَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ
وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ} مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِي مَجَالِسَ لَأَمْكَنَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ قَدْ ارْتَجَعَهَا؛ فَإِنَّهَا عِنْدَهُ وَالطَّلَاقُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ يَقَعُ. وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ فِي جَانِبِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ تَفْصِيلٌ كَقَوْلِهِ: {إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ أَوْ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ} وَهُوَ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَقَدْ يَحْمِلُ الْخَبَثَ وَقَدْ لَا يَحْمِلُهُ. وَقَوْلُهُ {فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ} وَهِيَ إذَا لَمْ تَكُنْ سَائِمَةً قَدْ يَكُونُ فِيهَا الزَّكَاةُ - زَكَاةُ التِّجَارَةِ - وَقَدْ لَا يَكُونُ فِيهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ} وَمَنْ لَمْ يَقُمْهَا فَقَدْ يُغْفَرُ لَهُ بِسَبَبِ آخَرَ. وَكَقَوْلِهِ: {مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ} وقَوْله تَعَالَى تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَقَدْ يَعْمَلُ عَمَلًا آخَرَ يَرْجُو بِهِ رَحْمَةَ اللَّهِ مَعَ الْإِيمَانِ وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. فَلَوْ كَانَ فِي مَجَالِسَ فَقَدْ يَكُونُ لَهُ فِيهَا رَجْعَةٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ: بِخِلَافِ الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ صَاحِبِهِ بِأَنَّهُ لَا يُرَاجِعُهَا فِيهِ؛ فَإِنَّ لَهُ فِيهِ الرَّجْعَةَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ: {ارْجِعْهَا إنْ شِئْت} وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: {مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا} فَأَمَرَهُ بِالرَّجْعَةِ وَالرَّجْعَةُ يَسْتَقِلُّ بِهَا الزَّوْجُ؛ بِخِلَافِ الْمُرَاجَعَةِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ {أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: مَا أَرَدْت بِهَا إلَّا وَاحِدَةً.
فَرَّدَهَا إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم} وَأَبُو دَاوُد لَمَّا لَمْ يَرْوِ فِي سُنَنِهِ الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ: حَدِيثُ " أَلْبَتَّةَ " أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جريج {أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا} لِأَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ أَعْلَمُ؛ لَكِنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَكَابِرَ الْعَارِفُونَ بِعِلَلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فِيهِ: كَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ: ضَعَّفُوا حَدِيثَ أَلْبَتَّةَ وَبَيَّنُوا أَنَّ رُوَاتَهُ قَوْمٌ مَجَاهِيلُ؛ لَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُمْ وَضَبْطُهُمْ وَأَحْمَد أَثْبَتَ حَدِيثَ الثَّلَاثِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ الصَّوَابُ مِثْلَ قَوْلِهِ: حَدِيثُ ركانة لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدِيثُ ركانة فِي أَلْبَتَّةَ لَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنَّ ابْنَ إسْحَاقَ يَرْوِيه عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا} وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا طَلَّقَ أَلْبَتَّةَ وَأَحْمَد إنَّمَا عَدَلَ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ الثَّلَاثَ جَائِزَةٌ مُوَافَقَةً لِلشَّافِعِيِّ. فَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: حَدِيثُ ركانة مَنْسُوخٌ. ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ طَلَاقٌ مُبَاحٌ إلَّا الرَّجْعِيُّ عَدَلَ: عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ أَفْتَى بِخِلَافِهِ وَهَذَا عِلَّةٌ عِنْدَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى الَّتِي عَلَيْهَا أَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ الْعَمَلَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَعْذَارَ الْأَئِمَّةَ الْمُجْتَهِدِينَ رضي الله عنهم الَّذِينَ أَلْزَمُوا مَنْ أَوْقَعَ جُمْلَةَ الثَّلَاثِ بِهَا مِثْلَ عُمَرَ رضي الله عنه فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ جَمْعِ الثَّلَاثِ وَلَا يَنْتَهُونَ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِعُقُوبَةِ:
رَأَى عُقُوبَتَهُمْ بِإِلْزَامِهَا؛ لِئَلَّا يَفْعَلُوهَا. إمَّا مِنْ نَوْعِ التَّعْزِيرِ الْعَارِضِ الَّذِي يُفْعَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا كَانَ يَضْرِبُ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ وَيَحْلِقُ الرَّأْسَ وَيَنْفِي وَكَمَا مَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ الِاجْتِمَاعِ بِنِسَائِهِمْ. وَإِمَّا ظَنًّا أَنْ جَعْلَهَا وَاحِدَةً كَانَ مَشْرُوطًا بِشَرْطِ وَقَدْ زَالَ كَمَا ذَهَبَ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي مُتْعَةِ الْحَجِّ: إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مُتْعَةَ الْفَسْخِ.
وَالْإِلْزَامُ بِالْفُرْقَةِ لِمَنْ لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ: مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ؛ لَكِنْ تَارَةً يَكُونُ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ. كَمَا فِي الْعِنِّينِ وَالْمَوْلَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَالْعَاجِزِ عَنْ النَّفَقَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ. وَتَارَةً يُقَالُ: إنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ كَمَا فِي تَفْرِيقِ الْحُكْمَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ إذَا لَمْ يَجْعَلَا وَكِيلَيْنِ وَكَمَا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالْمَوْلَى عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إذَا لَمْ يَفِ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَكَمَا قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: إنَّهُمَا إذَا تَطَاوَعَا فِي الْإِتْيَانِ فِي الدُّبُرِ فُرِّقَ بَيْنِهِمَا وَالْأَبُ الصَّالِحُ إذَا أَمَرَ ابْنَهُ بِالطَّلَاقِ لِمَا رَآهُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَلَدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَهُ كَمَا قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ كَمَا {أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنْ يُطِيعَ أَبَاهُ لَمَّا أَمَرَهُ أَبُوهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ} . فَالْإِلْزَامُ إمَّا مِنْ الشَّارِعِ. وَإِمَّا مِنْ الْإِمَامِ. بِالْفُرْقَةِ إذَا لَمْ يَقُمْ الزَّوْجُ بِالْوَاجِبِ: هُوَ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ. فَلَمَّا كَانَ النَّاسُ إذَا لَمْ يُلْزِمُوا بِالثَّلَاثِ يَفْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ رَأَى عُمَرُ إلْزَامَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْزَمُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ؛ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ نَازَعُوا مَنْ قَالَ ذَلِكَ؛ إمَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا التَّعْزِيزَ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَإِمَّا لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُعَاقِبْ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَهَذَا فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ. وَأَمَّا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِجَهْلِ أَوْ تَأْوِيلٍ فَلَا وَجْهَ لِإِلْزَامِهِ بِالثَّلَاثِ. وَهَذَا شَرْعٌ شَرَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا شَرَعَ نَظَائِرَهُ لَمْ يَخُصَّهُ: وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إنَّ مَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ - التَّمَتُّعُ كَمَا أَمَرَ بِهِ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ - هُوَ شَرْعٌ مُطْلَقٌ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ {لِمَا سُئِلَ أَعُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا؟ أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: لَا؛ بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} . وَإِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّمَا شُرِعَ لِلشُّيُوخِ لِمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهِمْ مِثْلَ بَيَانِ جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ: قَوْلٌ فَاسِدٌ؛ لِوُجُوهِ مَبْسُوطَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ تَنَازُعِهِمْ بِرَدِّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. فَمَا تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُوجِبُ الْإِلْزَامَ بِالثَّلَاثِ بِمَنْ أَوْقَعَهَا جُمْلَةً بِكَلِمَةِ أَوْ كَلِمَاتٍ بِدُونِ رَجْعَةٍ أَوْ عُقْدَةٍ؛ بَلْ إنَّمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْإِلْزَامُ بِذَلِكَ مَنْ طَلَّقَ الطَّلَاقَ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَعَلَى هَذَا
يَدُلُّ الْقِيَاسُ وَالِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ أُصُولِ الشَّرْعِ؛ فَإِنَّ كُلَّ عَقْدٍ يُبَاحُ تَارَةً وَيَحْرُمُ تَارَةً - كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ - إذَا فُعِلَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا نَافِذًا كَمَا يَلْزَمُ الْحَلَالُ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا حَرَمَهُ اللَّهُ مِنْ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَمِنْ النِّكَاحِ. فِي الْعِدَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَقَعُ بَاطِلًا غَيْرَ لَازِمٍ وَكَذَلِكَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْعِ الْمُحْرِمَاتِ: كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؛ وَالْمَيْتَةِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا كَانَ مُحَرَّمُ الْجِنْسِ كَالظِّهَارِ وَالْقَذْفِ وَالْكَذِبِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا يَسْتَحِقُّ مِنْ فِعْلِهِ الْعُقُوبَةَ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَارَةً حَلَالًا وَتَارَةً حَرَامًا حَتَّى يَكُونَ تَارَةً صَحِيحًا وَتَارَةً فَاسِدًا. وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مُبَاحًا مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ - كَافْتِدَاءِ الْأَسِيرِ وَاشْتِرَاءِ الْمَجْحُودِ عِتْقَهُ وَرِشْوَةِ الظَّالِمِ لِدَفْعِ ظُلْمَةٍ أَوْ لِبَذْلِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ وَكَاشْتِرَاءِ الْإِنْسَانِ الْمُصَرَّاةَ وَمَا دُلِّسَ عَيْبُهُ وَإِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لِيَفْعَلَ الْوَاجِبَ أَوْ لِيَتْرُكَ الْمُحَرَّمَ وَكَبَيْعِ الْجَالِبِ لِمَنْ تَلَقَّى مِنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ - الْمَظْلُومَ يُبَاحُ لَهُ فِعْلُهُ وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَلَهُ أَنْ يُمْضِيَهُ؛ بِخِلَافِ الظَّالِمِ فَإِنَّ مَا فَعَلَهُ لَيْسَ بِلَازِمِ. وَالطَّلَاقُ هُوَ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَارَةً وَحَرَّمَهُ أُخْرَى. فَإِذَا فَعَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا نَافِذًا كَمَا يَلْزَمُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:
{مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا - وَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ - (مَرَّتَانِ وَبَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ: إمَّا {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} بِأَنْ يُرَاجِعَهَا فَتَبْقَى زَوْجَتَهُ وَتَبْقَى مَعَهُ عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِمَّا {تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} بِأَنْ يُرْسِلَهَا إذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَهَذَا هُوَ الْخُلْعُ سَمَّاهُ " افْتِدَاءً " لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَفْتَدِي نَفْسهَا مِنْ أَسْرِ زَوْجِهَا كَمَا يَفْتَدِي الْأَسِيرُ وَالْعَبْدُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَا يَبْذُلُهُ. قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يَعْنِي الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} . {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يَعْنِي هَذَا الزَّوْجَ الثَّانِيَ {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} يَعْنِي عَلَيْهَا وَعَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ {أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} . وَفِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ عَنْ {عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ. فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ. مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إنْ شَاءَ بَعْدُ أَمْسَكَهَا. وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا. فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ} وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا} وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ " قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ: الطَّلَاقُ عَلَى " أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ": وَجْهَانِ حَلَالٌ. وَوَجْهَانِ حَرَامٌ. فَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَلَالٌ فَأَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ طَاهِرًا فِي غَيْرِ جِمَاعٍ. أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا. وَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَرَامٌ فَأَنْ يُطَلِّقَهَا حَائِضًا. أَوْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْجِمَاعِ لَا يَدْرِي اشْتَمَلَ الرَّحِمُ عَلَى وَلَدٍ أَمْ لَا رَوَاهُ الدارقطني وَغَيْرُهُ. وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إلَّا إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا؛ وَهَذَا هُوَ الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ. أَيْ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ الطُّهْرَ أَوْ الْعِدَّةَ. فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ يَكُونُ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ وَيَكُونُ قَدْ طَوَّلَ عَلَيْهَا التَّرَبُّصَ وَطَلَّقَهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِهِ إلَى
طَلَاقِهَا. وَالطَّلَاقُ فِي الْأَصْلِ مِمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَهُوَ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا أَبَاحَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ كَمَا تُبَاحُ الْمُحَرَّمَاتُ لِلْحَاجَةِ؛ فَلِهَذَا حَرَّمَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ عُقُوبَةً لَهُ لِيَنْتَهِيَ الْإِنْسَانُ عَنْ إكْثَارِ الطَّلَاقِ. فَإِذَا طَلَّقَهَا لَمْ تَزَلْ فِي الْعِدَّةِ مُتَرَبِّصَةً ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَهُوَ مَالِكٌ لَهَا يَرِثُهَا وَتَرِثُهُ وَلَيْسَ لَهُ فَائِدَةٌ فِي تَعْجِيلِ الطَّلَاقِ قَبْلَ وَقْتِهِ؛ كَمَا لَا فَائِدَةَ فِي مُسَابَقَةِ الْإِمَامِ؛ وَلِهَذَا لَا يُعْتَدُّ لَهُ بِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ؛ بَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إذَا تَعَمَّدَ ذَلِكَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ لَا يَزَالُ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُسَلِّمَ.
وَلِهَذَا جَوَّزَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْخُلْعَ فِي الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى قَوْلِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِطَلَاقِ؛ بَلْ فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ وَهُوَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةِ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَد؛ وَلِأَنَّهَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا بِالِاخْتِلَاعِ فَلَهُمَا فَائِدَةٌ فِي تَعْجِيلِ الْإِبَانَةِ لِرَفْعِ الشَّرِّ الَّذِي بَيْنَهُمَا؛ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَعْجِيلِهِ قَبْلَ وَقْتِهِ؛ بَلْ ذَلِكَ شَرٌّ بِلَا خَيْرٍ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ طَلَاقٌ فِي وَقْتٍ لَا يَرْغَبُ فِيهَا وَقَدْ لَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ؛ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَقْتَ الرَّغْبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ حَاجَةٍ. {وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عُمَرَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا} مِمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فِي مُرَادِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَفَهِمَ مِنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ لَزِمَهُ فَأَمَرَ أَنْ يَرْتَجِعَهَا؛ ثُمَّ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ إنْ شَاءَ. وَتَنَازَعَ
هَؤُلَاءِ: هَلْ الِارْتِجَاعُ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي؟ وَفِي حِكْمَةِ هَذَا النَّهْيِ؟ أَقْوَالٌ: ذَكَرْنَاهَا وَذَكَرْنَا مَأْخَذَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَفَهِمَ طَائِفَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ وَلَكِنَّهُ لَمَّا فَارَقَهَا بِبَدَنِهِ كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ مِنْ الرَّجُلِ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ اعْتَزَلَهَا بِبَدَنِهِ وَاعْتَزَلَتْهُ بِبَدَنِهَا؛ {فَقَالَ لِعُمَرِ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا} وَلَمْ يَقُلْ: فَلْيَرْتَجِعْهَا. " وَالْمُرَاجَعَةُ " مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ: أَيْ تَرْجِعُ إلَيْهِ بِبَدَنِهَا فَيَجْتَمِعَانِ كَمَا كَانَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَلْزَمْهُ فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي أَبَاحَ اللَّهُ فِيهِ الطَّلَاقَ طَلَّقَهَا حِينَئِذٍ إنْ شَاءَ. قَالَ هَؤُلَاءِ: وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ لَزِمَ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَمْرِ بِالرَّجْعَةِ لِيُطَلِّقَهَا طَلْقَةً ثَانِيَةً فَائِدَةٌ؛ بَلْ فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِمَا؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي الطَّلَاقِ مَعَ الْأَوَّلِ تَكْثِيرُ الطَّلَاقِ؛ وَتَطْوِيلُ الْعِدَّةِ وَتَعْذِيبُ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ؛ بَلْ إذَا وَطِئَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا؛ أَوْ تَطْهُرَ الطُّهْرَ الثَّانِيَ. وَقَدْ يَكُونُ زَاهِدًا فِيهَا يَكْرَهُ أَنْ يَطَأَهُمَا فَتَعْلَقَ مِنْهُ؛ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبْ الْوَطْءَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَكِنْ أَخَّرَ الطَّلَاقَ إلَى الطُّهْرِ الثَّانِي. وَلَوْلَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَوَّلًا لَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ لَهُ الطَّلَاقُ فِي
الطُّهْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ فِي إمْسَاكِهَا فَائِدَةٌ مَقْصُودَةٌ بِالنِّكَاحِ إذَا كَانَ لَا يُمْسِكُهَا إلَّا لِأَجْلِ الطَّلَاقِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَحْصُلْ إلَّا زِيَادَةُ ضَرَرٍ عَلَيْهِمَا وَالشَّارِعُ لَا يَأْمُرُ بِذَلِكَ فَإِذَا كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ طَلَاقِهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ لِيَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْوَطْءِ الَّذِي لَا يُعْقِبُهُ طَلَاقٌ؛ فَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا أَوْ وَطِئَهَا أَوْ حَاضَتْ بَعْدَ ذَلِكَ: فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا؛ وَلِأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ وَطْئِهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الثَّانِي: دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى طَلَاقِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِيهَا إذْ لَوْ كَانَتْ لَهُ فِيهَا رَغْبَةٌ لَجَامَعَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ. قَالُوا لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ ابْنَ عُمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ وَهُوَ يَرْتَجِعُهَا لَأُمِرَ بِالْإِشْهَادِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ آيَةٍ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِالرَّجْعَةِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ؛ بَلْ قَالَ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} فَخَيَّرَ الزَّوْجَ إذَا قَارَبَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهَا بِمَعْرُوفٍ - وَهُوَ الرَّجْعَةُ - وَبَيْنَ أَنْ يُسَيِّبَهَا فَيُخَلِّيَ سَبِيلَهَا إذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ؛ وَلَا يَحْبِسُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَمَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ قَدْ لَزِمَ لَكَانَ حَصَلَ الْفَسَادُ الَّذِي كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَذَلِكَ الْفَسَادُ لَا يَرْتَفِعُ بِرَجْعَةِ يُبَاحُ لَهُ الطَّلَاقُ
بَعْدَهَا وَالْأَمْرُ بِرَجْعَةِ لَا فَائِدَةَ فِيهَا مِمَّا تَنَزَّهَ عَنْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ رَاغِبًا فِي الْمَرْأَةِ فَلَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا وَإِنْ كَانَ رَاغِبًا عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فَلَيْسَ فِي أَمْرِهِ بِرَجْعَتِهَا مَعَ لُزُومِ الطَّلَاقِ لَهُ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ؛ بَلْ زِيَادَةُ مَفْسَدَةٍ وَيَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْأَمْرِ بِمَا يَسْتَلْزِمُ زِيَادَةَ الْفَسَادِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ لِمَنْعِ الْفَسَادِ فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِمَا يَسْتَلْزِمُ زِيَادَةَ الْفَسَادِ وَقَوْلُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ أَشْبَهُ بِالْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُتَنَاقِضٌ؛ إذْ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ: أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودَ الْمُحَرَّمَةَ إذَا فُعِلَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً صَحِيحَةً وَهَذَا وَإِنْ كَانَ نَازَعَ فِيهِ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَالصَّوَابُ مَعَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ كَانُوا يَسْتَدِلُّونَ عَلَى فَسَادِ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَةِ بِتَحْرِيمِ الشَّارِعِ لَهَا وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُمْ. وَأَيْضًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِهَا لَمْ يَكُنْ عَنْ الشَّارِعِ مَا يُبَيِّنُ الصَّحِيحَ مِنْ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا: النَّهْيُ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ. قَالُوا: نَعْلَمُ صِحَّةَ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودِ وَفَسَادَهَا بِجَعْلِ الشَّارِعِ هَذَا شَرْطًا أَوْ مَانِعًا وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ
هَذَا صَحِيحٌ. وَلَيْسَ بِصَحِيحِ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ مِثْلَ قَوْلِهِ: الطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ وَالْكُفْرُ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَهَذَا الْعَقْدُ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ لَا تَصِحُّ. وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ بَلْ إنَّمَا فِي كَلَامِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالتَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ وَفِي نَفْيِ الْقَبُولِ وَالصَّلَاحِ كَقَوْلِهِ: {لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ} وَقَوْلِهِ: {هَذَا لَا يَصْلُحُ} وَفِي كَلَامِهِ: {إنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ كَذَا} وَفِي كَلَامِهِ: الْوَعْدُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ فَلَمْ نَسْتَفِدْ الصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ وَهُوَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ بَيَّنَ ذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ قَطْعًا. وَأَيْضًا فَالشَّارِعُ يُحَرِّمُ الشَّيْءَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ. وَمَقْصُودُهُ بِالتَّحْرِيمِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ الْفَسَادِ وَجَعْلُهُ مَعْدُومًا. فَلَوْ كَانَ مَعَ التَّحْرِيمِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَلَالِ فَيَجْعَلُهُ لَازِمًا نَافِذًا كَالْحَلَالِ لَكَانَ ذَلِكَ إلْزَامًا مِنْهُ بِالْفَسَادِ الَّذِي قَصَدَ عَدَمَهُ. فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَسَادُ قَدْ أَرَادَ عَدَمَهُ مَعَ أَنَّهُ أَلْزَمَ النَّاسَ بِهِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ الشَّارِعُ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: إنَّهُ إنَّمَا حَرَّمَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لِئَلَّا يَنْدَمَ الْمُطَلِّقُ: دَلَّ عَلَى لُزُومِ النَّدَمِ لَهُ إذَا فَعَلَهُ. وَهَذَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ.
فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا يَتَضَمَّنُ أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ يَكُونُ صَحِيحًا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ. فَيُقَالُ: إنْ كَانَ مَا قَالَهُ هَذَا صَحِيحًا هُنَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ؛ إذْ لَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ تَحْصُلْ الْقَطِيعَةُ وَهَذَا جَهْلٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ بَيَّنَ حِكْمَتَهُ فِي مَنْعِهِ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَوْ أَبَاحَهُ لَلَزِمَ الْفَسَادُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} وَقَوْلُهُ عليه السلام {لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا خَالَتِهَا؛ فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ} وَنَحْوَ ذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْفِعْلَ لَوْ أُبِيحَ لَحَصَلَ بِهِ الْفَسَادُ فَحُرِّمَ مَنْعًا مِنْ هَذَا الْفَسَادِ. ثُمَّ الْفَسَادُ يَنْشَأُ مِنْ إبَاحَتِهِ وَمِنْ فِعْلِهِ. إذَا اعْتَقَدَ الْفَاعِلُ أَنَّهُ مُبَاحٌ أَوْ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَأَمَّا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ بَاطِلٌ وَالْتِزَامِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا تَحْصُلُ الْمَفْسَدَةُ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْمَفْسَدَةُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَالْمَفَاسِدُ فِيهَا فِتْنَةٌ وَعَذَابٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَوْلُ الْقَائِلِ: لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ غَيْرَ لَازِمٍ لَمْ يَحْصُلْ الْفَسَادُ. فَيُقَالُ: هَذَا هُوَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ صلى الله عليه وسلم فَنَهَى عَنْهُ وَحَكَمَ بِبُطْلَانِهِ لِيَزُولَ الْفَسَادُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَفَعَلَهُ النَّاسُ وَاعْتَقَدُوا صِحَّتَهُ فَيَلْزَمُ الْفَسَادُ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ وَأَنَّهُ شَرْعِيٌّ وَأَنَّهُ يُسَمَّى بَيْعًا وَنِكَاحًا وَصَوْمًا. كَمَا يَقُولُونَ فِي نَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ الشَّغَارِ وَلَعْنِهِ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا
وَنَهْيِهِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَيُقَالُ: أَمَّا تَصَوُّرُهُ حِسًّا فَلَا رَيْبَ فِيهِ. وَهَذَا كَنَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَعَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ؛ وَيُدْهَنُ الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ. فَقَالَ: لَا هُوَ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمُلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا} فَتَسْمِيَتُهُ لِهَذَا نِكَاحًا وَبَيْعًا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا بَاطِلًا بَلْ دَلَّ عَلَى إمْكَانِهِ حِسًّا. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهُ شَرْعِيٌّ. إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُسَمَّى بِمَا أَسْمَاهُ بِهِ الشَّارِعُ: فَهَذَا صَحِيحٌ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِيهِ: فَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ وَجَعَلَهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَيُلْزِمُ النَّاسَ حُكْمَهُ؛ كَمَا فِي الْمُبَاحِ فَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي أَكْثَرِ الصُّوَرِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ فِي صُورَةٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يَحْتَجُّ بِهِ هَؤُلَاءِ بِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ؛ فَلَيْسَ مَعَهُمْ صُورَةٌ قَدْ ثَبَتَ فِيهَا مَقْصُودُهُمْ؛ لَا بِنَصِّ وَلَا إجْمَاعٍ. وَكَذَلِكَ " الْمُحَلِّلُ " الْمَلْعُونُ لَعَنَهُ لِأَنَّهُ قَصَدَ التَّحْلِيلَ لِلْأَوَّلِ بِعَقْدِهِ؛ لَا لِأَنَّهُ أَحَلَّهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ لَكَانَ قَدْ أَحَلَّهَا بِالْإِجْمَاعِ؛ وَهَذَا غَيْرُ مَلْعُونٍ بِالْإِجْمَاعِ
فَعُلِمَ أَنَّ اللَّعْنَةَ لِمَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ. وَعُلِمَ أَنَّ الْمَلْعُونَ لَمْ يُحَلِّلْهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَدَلَّتْ اللَّعْنَةُ عَلَى تَحْرِيمِ فِعْلِهِ وَالْمُنَازِعُ يَقُولُ فِعْلُهُ مُبَاحٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ مَعَهُمْ بَلْ الصَّوَابُ مَعَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَمَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ جَوَابٌ صَحِيحٌ وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضَ كَمَا تَنَاقَضَ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذِهِ. وَالْأُصُولُ الَّتِي لَا تَنَاقُضَ فِيهَا مَا أَثْبَتَ بِنَصِّ أَوْ إجْمَاعٍ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَالتَّنَاقُضُ مَوْجُودٌ فِيهِ وَلَيْسَ هُوَ حُجَّةً عَلَى أَحَدٍ. وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَتَنَاقَضُ هُوَ مُوَافِقٌ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ؛ بَلْ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ قَدْ دَلَّ عَلَى الْحُكْمِ؛ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَهَذَا مَعْنَى الْعِصْمَةِ؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْمَعْصُومِ لَا يَتَنَاقَضُ وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَعْصُومٌ فِيمَا شَرَعَهُ لِلْأُمَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ أَيْضًا مَعْصُومَةٌ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ؛ بِخِلَافِ مَا سِوَى ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ الْإِيمَانَ بِهِ وَطَاعَتَهُ وَتَحْلِيلَ مَا حَلَّلَهُ وَتَحْرِيمَ مَا حَرَّمَهُ وَهُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ. فَالْمُؤْمِنُونَ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ الْهُدَى وَالرَّشَادِ: هُمْ مُتَّبِعُونَ. وَالْكُفَّارُ أَهْلُ النَّارِ وَأَهْلُ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ هُمْ الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوهُ.
وَمَنْ آمَنَ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَاجْتَهَدَ فِي مُتَابَعَتِهِ: فَهُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ فِي بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ فَلَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ لَمْ يَفْهَمْهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ قَالَ: قَدْ فَعَلْت} وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ؛ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظِّ وَافِرٍ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} فَقَدْ خَصَّ أَحَدَ النَّبِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ بِالتَّفْهِيمِ مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ أُوتِيَ عِلْمًا وَحُكْمًا. فَهَكَذَا إذَا خَصَّ اللَّهُ أَحَدَ الْعَالِمَيْنِ بِعِلْمِ أَمْرٍ وَفَهْمِهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ ذَمُّ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ مِنْ الْعُلَمَاءِ. بَلْ كُلُّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّينِ مَا فَهِمَهُ غَيْرُهُ. وَقَدْ {قَالَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ - وَبَعْضُهُمْ يَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَأَدْرَكَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَلَمْ يُدْرِكْهُ فَلَهُ أَجْرٌ} . وَهَذَا يُوَافِقُ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ العاص وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ} . وَهَذِهِ الْأُصُولُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ مِمَّا يَقُولُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. إنَّهُ لَازِمٌ. وَالسَّلَفُ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْجُمْهُورِ يُسَلِّمُونَ: أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي
الْفَسَادَ. وَلَا يَذْكُرُونَ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ هَذِهِ الصُّورَةِ فَرْقًا صَحِيحًا. وَهَذَا مِمَّا تَسَلَّطَ بِهِ عَلَيْهِمْ مَنْ نَازَعُوهُمْ فِي أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ. وَاحْتَجَّ بِمَا سَلَّمُوهُ لَهُ مِنْ الصُّوَرِ؛ وَهَذِهِ حُجَّةٌ جَدَلِيَّةٌ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ قَوْلِهِ؛ وَإِنَّمَا تُفِيدُ أَنَّ مُنَازَعِيهِ أَخْطَئُوا: إمَّا فِي صُوَرِ النَّقْضِ وَإِمَّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَخَطَؤُهُمْ فِي إحْدَاهُمَا لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَطَأُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ بَلْ هَذَا الْأَصْلُ أَصْلٌ عَظِيمٌ عَلَيْهِ مَدَارُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ بِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ مَعَهُمْ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ؛ بَلْ الْأُصُولُ وَالنُّصُوصُ لَا تُوَافِقُ بَلْ تُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ. وَمَنْ تَدَبَّرَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُشَرِّعْ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ جُمْلَةً قَطُّ. وَأَمَّا الطَّلَاقُ الْبَائِنُ فَإِنَّهُ شَرَعَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَطَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ لِمَنْ لَمْ يَجْعَلْ الثَّلَاثَ الْمَجْمُوعَةَ إلَّا وَاحِدَةً: أَنْتُمْ خَالَفْتُمْ عُمَرَ؛ وَقَدْ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى الْتِزَامِ ذَلِكَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ ذَلِكَ إجْمَاعًا فَيَقُولُ لَهُمْ: أَنْتُمْ خَالَفْتُمْ عُمَرَ فِي الْأَمْرِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ؛ بَلْ وَفِي الْأَمْرِ الَّذِي مَعَهُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُجَوِّزُ التَّحْلِيلَ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَا أُوتِيَ بِمُحَلِّلِ وَلَا مُحَلَّلَ لَهُ إلَّا رَجَمْتهمَا. وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ: مِثْلَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ؛ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَعَادَ الْمَرْأَةَ إلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ. وَعُمَرُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ مَعَهُمْ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ {كَلَعْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ} وَقَدْ خَالَفَهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ اجْتِهَادًا. وَاَللَّهُ يَرْضَى عَنْ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: إنَّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَأَكْثَرُهُمْ يُخَالِفُونَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ خَيَّرَ الْمَفْقُودَ إذَا رَجَعَ فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ تَزَوَّجَتْ خَيَّرَهُ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ الْمَهْرِ. وَهَذَا أَيْضًا مَعْرُوفٌ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ: كَعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ. وَذَكَرَهُ أَحْمَد عَنْ ثَمَانِيَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَالَ: إلَى أَيِّ شَيْءٍ يَذْهَبُ الَّذِي يُخَالِفُ هَؤُلَاءِ وَمَعَ هَذَا فَأَكْثَرُهُمْ يُخَالِفُونَ عُمَرَ وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْقُضُ حُكْمَ مَنْ حَكَمَ بِهِ. وَعُمَرُ وَالصَّحَابَةُ جَعَلُوا الْأَرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً؛ كَأَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْمَغْرِبِ: فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ؛ وَلَمْ يُقَسِّمْ عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ أَرْضًا فَتَحَهَا عَنْوَةً وَلَمْ يَسْتَطِبْ عُمَرُ أَنْفُسَ جَمِيعِ الْغَانِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِينَ؛ وَإِنْ ظَنَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ اسْتَطَابُوا أَنْفُسَهُمْ فِي السَّوَادِ؛ بَلْ طَلَبَ مِنْهُمْ بِلَالٌ وَالزُّبَيْرُ وَغَيْرُهُمَا قِسْمَةَ أَرْضِ الْعَنْوَةِ فَلَمْ يُجِبْهُمْ وَمَعَ هَذَا فَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ يُخَالِفُ عُمَرَ وَالصَّحَابَةَ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ مِنْ زَمَنِهِمْ؛ بَلْ يَنْقُضُ حُكْمَ مَنْ حَكَمَ بِحُكْمِهِمْ أَيْضًا. فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ لَمْ يُخَمِّسُوا قَطُّ مَالَ فَيْءٍ وَلَا خَمَّسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا جَعَلُوا خُمُسَ الْغَنِيمَةِ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ مُتَسَاوِيَةٍ وَمَعَ هَذَا: فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ.
وَالْأَصْلُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَظُنَّ بِالصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ شَرِيعَتِهِ. بَلْ هَذَا مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ؛ وَلَا يَجُوزُ دَعْوَى نَسْخِ مَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ بِإِجْمَاعِ أَحَدٍ بَعْدَهُ كَمَا يَظُنُّ طَائِفَةٌ مِنْ الغالطين؛ بَلْ كُلُّ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَا مُخَالِفًا لَهُ بَلْ كُلُّ نَصٍّ مَنْسُوخٍ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَمَعَ الْأُمَّةِ النَّصُّ النَّاسِخُ لَهُ؛ تَحْفَظُ الْأُمَّةُ النَّصَّ النَّاسِخَ كَمَا تَحْفَظُ النَّصَّ الْمَنْسُوخَ وَحِفْظُ النَّاسِخِ أَهَمُّ عِنْدَهَا وَأَوْجَبُ عَلَيْهَا مِنْ حِفْظِ الْمَنْسُوخِ وَيَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ مَعَهُ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ نَصِّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ قَدْ يَجْتَهِدُ الْوَاحِدُ وَيُنَازِعُهُ غَيْرُهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ. هَذَا مِنْهَا كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا. وَلِهَذَا لَمَّا رَأَى عُمَرُ رضي الله عنه أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ فَظَنَّ أَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَيْهِ نَازَعَهُ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهَا السُّكْنَى فَقَطْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى. وَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ وَهِيَ الَّتِي رَوَتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. أَنَّهُ قَالَ: {لَيْسَ لَك نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى} فَلَمَّا احْتَجُّوا عَلَيْهَا بِحُجَّةِ عُمَرَ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {لَا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قَالَتْ هِيَ وَغَيْرُهَا مِنْ الصَّحَابَةِ - كَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا - هَذَا فِي الرَّجْعِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ ابْنِ حَنْبَلٍ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ مَعَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِي " الطَّلَاقِ " لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ؛ فَإِنَّهُ لَوْ شَرَعَ إيقَاعَ الثَّلَاثِ عَلَيْهِ لَكَانَ الْمُطَلِّقُ يَنْدَمُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ إلَى رَجْعَتِهَا: فَيَحْصُلُ لَهُ ضَرَرٌ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى أَيْضًا بَعْدَ ذَلِكَ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لَا يَكُونُ فِي الثَّلَاثِ وَلَا فِي الْبَائِنِ.
وَقَالَ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} فَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهَا مَأْمُورٌ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ: قِيلَ: أَمْرُ إيجَابٍ. وَقِيلَ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ: أَنَّ الْإِشْهَادَ هُوَ الطَّلَاقُ وَظَنَّ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي لَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ لَا يَقَعُ. وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَخِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِهِ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ أَذِنَ فِيهِ أَوَّلًا وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهِ
بِالْإِشْهَادِ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ حِينَ قَالَ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} . وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْمُفَارَقَةِ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهَا إذَا قَضَتْ الْعِدَّةَ وَهَذَا لَيْسَ بِطَلَاقِ وَلَا بِرَجْعَةِ وَلَا نِكَاحٍ. وَالْإِشْهَادُ فِي هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَعُلِمَ أَنَّ الْإِشْهَادَ إنَّمَا هُوَ عَلَى الرَّجْعَةِ. وَمِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ: أَنَّهُ قَدْ يُطَلِّقُهَا وَيَرْتَجِعُهَا فَيُزَيِّنُ لَهُ الشَّيْطَانُ كِتْمَانَ ذَلِكَ حَتَّى يُطَلِّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقًا مُحَرَّمًا وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ فَتَكُونُ مَعَهُ حَرَامًا فَأَمَرَ اللَّهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الرَّجْعَةِ لِيُظْهِرَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَتْ بِهِ طَلْقَةٌ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ وَجَدَ اللُّقَطَةَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهَا؛ لِئَلَّا يُزَيِّنَ الشَّيْطَانُ كِتْمَانَ اللُّقَطَةِ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا بَلْ خَلَّى سَبِيلَهَا فَإِنَّهُ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَنَّهَا لَيْسَتْ امْرَأَتَهُ؛ بَلْ هِيَ مُطَلَّقَةٌ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا بَقِيَتْ زَوْجَةً عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي النَّاسُ أَطَلَّقَهَا أَمْ لَمْ يُطَلِّقْهَا.
وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ وَاِتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَلِهَذَا مَضَتْ السُّنَّةُ بِإِعْلَانِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَالسِّفَاحِ مَكْتُومًا؛ لَكِنْ: هَلْ الْوَاجِبُ مُجَرَّدُ الْإِشْهَادِ؟ أَوْ مُجَرَّد الْإِعْلَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إشْهَادٌ؟ أَوْ يَكْفِي أَيُّهُمَا كَانَ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَدْ ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ. وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى مُرَادَةٌ مِنْ هَذَا النَّصِّ الْعَامِّ فَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ فِي الطَّلَاقِ فَطَلَّقَ كَمَا
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى غَيْرِهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَيَفْعَلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَمَنْ كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ طَلَاقِ الْبِدْعَةِ فَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ مُحَرَّمٌ أَوْ إنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ: فَهَذَا إذَا عَرَفَ التَّحْرِيمَ وَتَابَ صَارَ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ فَاسْتَحَقَّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا. وَمَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ وَفَعَلَ الْمُحَرَّمَ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا مَنْ يُفْتِيه بِأَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ: فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عُقُوبَةً بِقَدْرِ ظُلْمِهِ كَمُعَاقَبَةِ أَهْلِ السَّبْتِ بِمَنْعِ الْحِيتَانِ أَنْ تَأْتِيَهُمْ فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَعُوقِبَ بِالضِّيقِ. وَإِنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَعَرَّفَهُ الْحَقَّ وَأَلْهَمَهُ التَّوْبَةَ وَتَابَ: فَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنَبَ لَهُ وَحِينَئِذٍ فَقَدَ دَخَلَ فِيمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ فَيَسْتَحِقُّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا فَإِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم نَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ. فَكُلُّ مَنْ تَابَ فَلَهُ فَرَجٌ فِي شَرْعِهِ؛ بِخِلَافِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْهُمْ كَانَ يُعَاقَبُ بِعُقُوبَاتِ: كَقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا يَقُولُ لَهُ: لَوْ اتَّقَيْت اللَّهَ لَجَعَلَ لَك مَخْرَجًا. وَكَانَ تَارَةً يُوَافِقُ عُمَرَ فِي الْإِلْزَامِ بِذَلِكَ لِلْمُكْثِرِينَ مِنْ فِعْلِ الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِمْ؛ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ تَارَةً لَا يَلْزَمُ إلَّا وَاحِدَةً. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَغْضَبُ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ وَيَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَتَى الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ فَقَدْ تَبَيَّنَ لَهُ؛ وَإِلَّا فَوَاَللَّهِ مَا لَنَا طَاقَةٌ بِكُلِّ مَا تُحَدِّثُونَ.
وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَبِي بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ؛ وَلَا عُثْمَانَ؛ وَلَا عَلِيٍّ " نِكَاحُ تَحْلِيلٍ " ظَاهِرٌ تَعْرِفُهُ الشُّهُودُ وَالْمَرْأَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ أَنَّهُمْ أَعَادُوا الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يُطَلِّقُونَ فِي الْغَالِبِ طَلَاقَ السُّنَّةِ. وَلَمْ يَكُونُوا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ نَقْلٌ خَاصٌّ فِي الْحَلِفِ؛ وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْهُمْ الْكَلَامُ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ؛ لَا فِي الْحَلِفِ بِهِ. وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِهِ كَمَا يُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّذْرِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ حَاجَةً فَقَالَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرَضِي. أَوْ قَضَى دَيْنِي أَوْ خَلَّصَنِي مِنْ هَذِهِ الشِّدَّةِ؛ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. أَوْ أَصُومَ شَهْرًا؛ أَوْ أَعْتِقَ رَقَبَةً: فَهَذَا تَعْلِيقُ نَذْرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَإِذَا عُلِّقَ النَّذْرُ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ فَقَالَ: إنْ سَافَرْت مَعَكُمْ إنْ زَوَّجْت فُلَانًا. أَنْ أَضْرِبَ فُلَانًا. إنْ لَمْ أُسَافِرْ مِنْ عِنْدِكُمْ: فَعَلَيَّ الْحَجُّ. أَوْ: فَمَالِي صَدَقَةٌ. أَوْ: فَعَلَيَّ عِتْقٌ. فَهَذَا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ هُوَ حَالِفٌ بِالنَّذْرِ؛ لَيْسَ بِنَاذِرِ: فَإِذَا لَمْ يَفِ بِمَا الْتَزَمَهُ أَجْزَأَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَكَذَلِكَ أَفْتَى الصَّحَابَةُ فِيمَنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ. أَنَّهُ يَمِينٌ يَجْزِيه فِيهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ التَّابِعِينَ فِي هَذَا كُلِّهِ لَمَّا أَحْدَثَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ تَحْلِيفَ النَّاسِ بِأَيْمَانِ الْبَيْعَةِ - وَهُوَ التَّحْلِيفُ بِالطَّلَاقِ؛ وَالْعَتَاقِ؛ وَالتَّحْلِيفُ بِاسْمِ اللَّهِ؛ وَصَدَقَةُ الْمَالِ. وَقِيلَ: كَانَ فِيهَا التَّحْلِيفُ بِالْحَجِّ -
نُكَلِّمُ حِينَئِذٍ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ وَتَكَلَّمُوا فِي بَعْضِهَا عَلَى ذَلِكَ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إذَا حَنِثَ بِهَا لَزِمَهُ مَا الْتَزَمَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَلْزَمُهُ إلَّا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هَذَا جِنْسُ إيمَانِ أَهْلِ الشِّرْكِ؛ لَا يَلْزَمُ بِهَا شَيْءٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هِيَ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ يَلْزَمُ فِيهَا مَا يَلْزَمُ فِي سَائِرِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ. وَاتَّبَعَ هَؤُلَاءِ مَا نُقِلَ فِي هَذَا الْجِنْسِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
و" الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ لَمْ تَكُنْ امْرَأَةٌ تُرَدُّ إلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ وَكَانَ إنَّمَا يُفْعَلُ سِرًّا؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ؛ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ وَلَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَلَعَنَ صلى الله عليه وسلم فِي الرِّبَا: الْآخِذَ وَالْمُعْطِيَ وَالشَّاهِدَيْنِ وَالْكَاتِبَ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ يُكْتَبُ وَيُشْهَدُ عَلَيْهِ وَلَعَنَ فِي التَّحْلِيلِ: الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَلَمْ يَلْعَنْ الشَّاهِدَيْنِ وَالْكَاتِبَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِهِ تُكْتَبُ الصَّدَاقَاتِ فِي كِتَابٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ لِصَدَاقِ فِي الْعَادَةِ الْعَامَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا يَبْقَى دِينَارٌ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى كِتَابٍ وَشُهُودٍ وَكَانَ الْمُحَلِّلُ يَكْتُمُ ذَلِكَ هُوَ وَالزَّوْجُ الْمُحَلَّلُ لَهُ. وَالْمَرْأَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ وَالشُّهُودُ لَا يَدْرُونَ بِذَلِكَ. {وَلَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ} إذْ كَانُوا هُمْ الَّذِينَ فَعَلُوا الْمُحَرَّمَ؛ دُونَ هَؤُلَاءِ. وَالتَّحْلِيلُ لَمْ يَكُونُوا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ إذْ كَانَ الرَّجُلُ إنَّمَا يَقَعُ مِنْهُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ إذَا طَلَّقَ بَعْدَ رَجْعَةٍ أَوْ عَقْدٍ فَلَا يَنْدَمُ بَعْدَ الثَّلَاثِ إلَّا نَادِرٌ مِنْ النَّاسِ؛ وَكَانَ
يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ عِصْيَانِهِ وَتَعَدِّيه لِحُدُودِ اللَّهِ فَيَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ فَيَلْعَنُ مَنْ يَقْصِدُ تَحْلِيلَ الْمَرْأَةِ لَهُ؛ وَيَلْعَنُ هَؤُلَاءِ أَيْضًا: لِأَنَّهُمَا تَعَاوَنَا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. فَلَمَّا حَدَثَ " الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ " وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ. أَنَّ الْحَانِثَ يَلْزَمُهُ مَا أَلْزَمَهُ نَفْسَهُ وَلَا تَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ يُلْزِمُ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ يَقَعُ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ يَقَعُ. وَكَانَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الصَّحَابَةُ؛ وَبَعْضُهَا مِمَّا قِيلَ بَعْدَهُمْ: كَثُرَ اعْتِقَادُ النَّاسِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مَعَ مَا يَقَعُ مِنْ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ وَالْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِمُفَارَقَةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فَصَارَ الْمُلْزَمُونَ بِالطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا " حِزْبَيْنِ ". " حِزْبًا " اتَّبَعُوا مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ فِي تَحْرِيمِ التَّحْلِيلِ فَحَرَّمُوا هَذَا مَعَ تَحْرِيمِهِمْ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ فَصَارَ فِي قَوْلِهِمْ مِنْ الْأَغْلَالِ وَالْآصَارِ وَالْحَرَجِ الْعَظِيمِ الْمُفْضِي إلَى مَفَاسِدَ عَظِيمَةٍ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا أُمُورٌ. مِنْهَا: رِدَّةُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمَّا أُفْتِيَ بِلُزُومِ مَا الْتَزَمَهُ. وَمِنْهَا سَفْكُ الدَّمِ الْمَعْصُومِ. وَمِنْهَا زَوَالُ الْعَقْلِ. وَمِنْهَا الْعَدَاوَةُ بَيْنَ النَّاسِ. وَمِنْهَا تَنْقِيصُ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْآثَامِ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْعِظَامِ. " وَحِزْبًا " رَأَوْا أَنْ يُزِيلُوا ذَلِكَ الْحَرَجَ الْعَظِيمَ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْحِيَلِ الَّتِي بِهَا تَعُودُ الْمَرْأَةُ إلَى زَوْجِهَا.
وَكَانَ مِمَّا أُحْدِثَ أَوَّلًا " نِكَاحُ التَّحْلِيلِ ". وَرَأَى طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ فَاعِلَهُ يُثَابُ؛ لِمَا رَأَى فِي ذَلِكَ مِنْ إزَالَةِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ بِإِعَادَةِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا وَكَانَ هَذَا حِيلَةً فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لِرَفْعِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ. ثُمَّ أُحْدِثَ فِي " الْأَيْمَانِ " حِيَلٌ أُخْرَى. فَأُحْدِثَ أَوَّلًا الِاحْتِيَالُ فِي لَفْظِ الْيَمِينِ ثُمَّ أُحْدِثَ الِاحْتِيَالُ بِخُلْعِ الْيَمِينِ؛ ثُمَّ أُحْدِثَ الِاحْتِيَالُ بِدَوْرِ الطَّلَاقِ ثُمَّ أُحْدِثَ الِاحْتِيَالُ بِطَلَبِ إفْسَادِ النِّكَاحِ. وَقَدْ أَنْكَرَ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّتُهُمْ هَذِهِ الْحِيَلَ وَأَمْثَالَهَا وَرَأَوْا أَنَّ فِي ذَلِكَ إبْطَالَ حِكْمَةِ الشَّرِيعَةِ وَإِبْطَالَ حَقَائِقِ الْأَيْمَانِ الْمُودَعَةِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْمُخَادَعَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ حَتَّى قَالَ أَيُّوبُ السختياني فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ لَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ ثُمَّ تَسَلَّطَ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى الْقَدْحِ فِي الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ وَنَصَرَهُ وَعَزَّرَهُ وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَصُدُّونَ بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَمْنَعُونَ مَنْ أَرَادَ الْإِيمَانَ بِهِ وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَمْتَنِعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِهِ عَنْ الْإِيمَانِ كَمَا أَخْبَرَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَبَيَّنُ لَهُ مَحَاسِنُ الْإِسْلَامِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ " التَّحْلِيلِ " فَإِنَّهُ الَّذِي لَا يَجِدُ فِيهِ مَا يَشْفِي الْغَلِيلَ. وقد قَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فَوَصَفَ رَسُولَهُ بِأَنَّهُ يَأْمُرُ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ وَيُحِلُّ كُلَّ طَيِّبٍ وَيُحَرِّمَ كُلَّ خَبِيثٍ وَيَضَعُ الْآصَارَ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ. وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمَرْجُوحَةِ فَهِيَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ الَّتِي أَحْسَنُ أَحْوَالِهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ الشَّرْعِ الْمَنْسُوخِ الَّذِي رَفَعَهُ اللَّهُ بِشَرْعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إنْ كَانَ قَائِلُهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأُمَّةِ وَأَجَلِّهَا وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ مُجْتَهِدٌ قَدْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَهُوَ مُثَابٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَتَقْوَاهُ مَغْفُورٌ لَهُ خَطَؤُهُ فَلَا يَلْزَمُ الرَّسُولَ قَوْلٌ قَالَهُ غَيْرُهُ بِاجْتِهَادِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ} وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ {كَانَ يَقُولُ لِمَنْ بَعَثَهُ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَجَيْشٍ: وَإِذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك} . وَهَذَا يُوَافِقُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ لَمَّا حَكَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَاصَرَهُمْ فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ. فَأَنْزَلَهُمْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُمْ حِلْفًا وَهُمْ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنْ يُحْسِنَ إلَيْهِمْ وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ خِلَافَ مَا يَظُنُّ بِهِ بَعْضُ قَوْمِهِ: كَانَ مُقَدِّمًا لِرِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى رِضَا
قَوْمِهِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا مَاتَ اهْتَزَّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ فَرَحًا بِقُدُومِ رُوحِهِ فَحَكَّمَ فِيهِمْ: أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى حَرِيمُهُمْ وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ} وَفِي رِوَايَةٍ. {لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ} وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} فَهَذَانِ نَبِيَّانِ كَرِيمَانِ فِي حُكُومَةٍ وَاحِدَةٍ فَخَصَّ اللَّهُ أَحَدَهُمَا بِفَهْمِهَا مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ آتَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا فَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدُونَ رضي الله عنهم لِلْمُصِيبِ مِنْهُمْ أَجْرَانِ وَلِلْآخَرِ أَجْرٌ. وَكُلٌّ مِنْهُمْ مُطِيعٌ لِلَّهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ وَلَا يُكَلِّفُهُ اللَّهُ مَا عَجَزَ عَنْ عِلْمِهِ. وَمَعَ هَذَا فَلَا يَلْزَمُ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قَوْلُ غَيْرِهِ وَلَا يَلْزَمُ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحْدَثَةِ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ شَنِيعَةً. وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ إذَا تَكَلَّمُوا بِاجْتِهَادِهِمْ يُنَزِّهُونَ شَرْعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَطَئِهِمْ وَخَطَأِ غَيْرِهِمْ. كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوَّضَةِ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي؛ فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الصِّدِّيقِ فِي الْكَلَالَةِ وَكَذَلِكَ عَنْ عُمَرَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ؛ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصِيبُونَ فِيمَا يَقُولُونَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى يُوجَدَ النَّصُّ مُوَافِقًا لِاجْتِهَادِهِمْ كَمَا وَافَقَ النَّصُّ اجْتِهَادَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ
وَإِنَّمَا كَانُوا أَعْلَمَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِمَا يَجِبُ مِنْ تَعْظِيمِ شَرْعِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُضِيفُوا إلَيْهِ إلَّا مَا عَلِمُوهُ مِنْهُ؛ وَمَا أَخْطَئُوا فِيهِ - وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ - قَالُوا: إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} وَقَالَ: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} وَقَالَ: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} . وَلِهَذَا تَجِدُ الْمَسَائِلَ الَّتِي تَنَازَعَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ عَلَى أَقْوَالٍ؛ وَإِنَّمَا الْقَوْلُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَاحِدٌ مِنْهَا وَسَائِرُهَا إذَا كَانَ أَهْلُهَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ: فَهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَأْجُورُونَ غَيْرُ مَأْزُورِينَ؛ كَمَا إذَا خَفِيَتْ جِهَةُ الْقِبْلَةِ فِي السَّفَرِ اجْتَهَدَ كُلُّ قَوْمٍ فَصَلَّوْا إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ؛ فَإِنَّ الْكَعْبَةَ لَيْسَتْ إلَّا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَسَائِرُ الْمُصَلِّينَ مَأْجُورُونَ عَلَى صَلَاتِهِمْ حَيْثُ اتَّقَوْا مَا اسْتَطَاعُوا. وَمِنْ آيَاتِ مَا بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ مَعَ غَيْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبِينِ ظَهَرَ النُّورُ وَالْهُدَى عَلَى مَا بُعِثَ بِهِ؛ وَعُلِمَ أَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ؛ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قَالَ سبحانه وتعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} وَهَذَا التَّحَدِّي
وَالتَّعْجِيزُ. ثَابِتٌ فِي لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعْنَاهُ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنْ أَمْثَالِ ذَلِكَ: مَا تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ مِنْ مَسَائِلِ الطَّلَاقِ فَإِنَّك تَجِدُ الْأَقْوَالَ فِيهِ " ثَلَاثَةً ": قَوْلٌ فِيهِ آصَارٌ وَأَغْلَالٌ. وَقَوْلٌ فِيهِ خِدَاعٌ وَاحْتِيَالٌ. وَقَوْلٌ فِيهِ عِلْمٌ وَاعْتِدَالٌ. وَقَوْلٌ يَتَضَمَّنُ نَوْعًا مِنْ الظُّلْمِ وَالِاضْطِرَابِ. وَقَوْلٌ يَتَضَمَّنُ نَوْعًا مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَاحِشَةِ وَالْعَارِ. وَقَوْلٌ يَتَضَمَّنُ سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَتَجِدُهُمْ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بِالنَّذْرِ؛ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. قَوْلٌ يُسْقِطُ أَيْمَانَ الْمُسْلِمِينَ وَيَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ أَيْمَانِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَوْلٌ يَجْعَلُ الْأَيْمَانَ اللَّازِمَةَ لَيْسَ فِيهَا كَفَّارَةٌ وَلَا تَحِلَّةٌ كَمَا كَانَ شَرْعُ غَيْرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَقَوْلٌ يُقِيمُ حُرْمَةَ أَيْمَانِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ؛ وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَيْمَانِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْأَوْثَانِ وَيَجْعَلُ فِيهَا مِنْ الْكَفَّارَةِ وَالتَّحْلِيلِ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ وَالتَّنْزِيلُ وَاخْتَصَّ بِهِ أَهْلَ الْقُرْآنِ دُونَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَهَذَا هُوَ الشَّرْعُ الَّذِي جَاءَ بِهِ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ؛ وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ؛ وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:
فَصْلٌ:
مُخْتَصَرٌ جَامِعٌ فِي مَسَائِلِ " الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ " وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ اتِّفَاقٍ وَافْتِرَاقٍ؛ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ دُونَ الطَّلَاقِ. وَقَدْ تَكُونُ مِنْ مَسَائِلِ الطَّلَاقِ دُونَ الْأَيْمَانِ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ مَسَائِلِ النَّوْعَيْنِ. فَإِنَّ الْكَلَامَ الْمُتَعَلِّقَ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ. وَالْأَيْمَانُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ. أَمَّا الْكَلَامُ الْمُتَعَلِّقُ بِالطَّلَاقِ فَهُوَ: إمَّا صِيغَةُ تَنْجِيزٍ. وَإِمَّا صِيغَةُ تَعْلِيقٍ. وَإِمَّا صِيغَةُ قَسَمٍ. أَمَّا " صِيغَةُ التَّنْجِيزِ " فَهُوَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا مُرْسَلًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِصِفَةِ وَلَا يَمِينٍ؛ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. أَوْ مُطَلَّقَةٌ. أَوْ: فُلَانَةٌ طَالِقٌ. أَوْ: أَنْتِ الطَّلَاقُ. أَوْ: طَلَّقْتُك وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ أَوْ الْمَصْدَرِ أَوْ اسْمِ الْفَاعِلِ أَوْ اسْمِ الْمَفْعُولِ: فَهَذَا يُقَالُ لَهُ: طَلَاقٌ مُنْجَزٌ. وَيُقَالُ. طَلَاقٌ مُرْسَلٌ. وَيُقَالُ: طَلَاقٌ مُطْلَقٌ. أَيْ غَيْرُ مُعَلَّقٍ بِصِفَةِ. فَهَذَا إيقَاعٌ لِلطَّلَاقِ وَلَيْسَ هَذَا
بِيَمِينِ يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْحِنْثِ وَعَدَمِهِ؛ وَلَا كَفَّارَةَ فِي هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْفُقَهَاءِ فِي عُرْفِهِمْ الْمَعْرُوفِ بَيْنَهُمْ لَا يُسَمُّونَ هَذَا يَمِينًا وَلَا حَلِفًا؛ وَلَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: حَلَفْت بِالطَّلَاقِ. وَمُرَادُهُ أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ.
وَأَمَّا " صِيغَةُ الْقَسَمِ " فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا. فَيَحْلِفُ بِهِ عَلَى حَضٍّ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ مَنْعٍ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ عَلَى تَصْدِيقِ خَبَرٍ أَوْ تَكْذِيبِهِ: فَهَذَا يَدْخُلُ فِي مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَالْأَيْمَانِ فَإِنَّ هَذَا يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ؛ فَإِنَّهَا صِيغَةُ قَسَمٍ وَهُوَ يَمِينٌ أَيْضًا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّهَا تُسَمَّى يَمِينًا؛ وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي حُكْمِهَا. فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ غَلَّبَ عَلَيْهَا جَانِبَ الطَّلَاقِ فَأَوْقَعَ بِهِ الطَّلَاقَ إذَا حَنِثَ. وَمِنْهُمْ مَنْ غَلَّبَ عَلَيْهِ جَانِبَ الْيَمِينِ فَلَمْ يُوقِعْ بِهِ الطَّلَاقَ بَلْ قَالَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. أَوْ قَالَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِحَالِ. وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا حَلَفَ بِالنَّذْرِ فَقَالَ: إذَا فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ؛ لَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ اُشْتُهِرَ الْكَلَامُ فِيهِ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالُوا: إنَّهُ أَيْمَانٌ تَجْزِي فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ هَذَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ؛ بِخِلَافِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيهِ إنَّمَا عُرِفَ عَنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَتَنَازَعُوا فِيهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ.
وَالثَّالِثُ " صِيغَةُ تَعْلِيقِ " كَقَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَيُسَمَّى هَذَا طَلَاقًا بِصِفَةِ. فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُ صَاحِبِهِ الْحَلِفَ وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الصِّفَةِ. " فَالْأَوَّلُ " حُكْمُهُ حُكْمُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَلَوْ قَالَ: إنْ حَلَفْت يَمِينًا فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَحِلْفٌ بِالطَّلَاقِ حَنِثَ بِلَا نِزَاعٍ نَعْلَمُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لِقَصْدِ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ أَوْ هَدْيٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ: الْعِتْقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا وَعَلَيَّ الْحَجُّ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ الْمُؤَخَّرَ فِي صِيغَةِ الشَّرْطِ مُقَدَّمٌ فِي صِيغَةِ الْقَسَمِ وَالْمَنْفِيُّ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ مُثْبَتٌ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ. " وَالثَّانِي " وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الصِّفَةِ. فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ كَمَا يَقَعُ الْمُنْجَزُ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَكَذَلِكَ إذَا وَقَّتَ الطَّلَاقَ بِوَقْتِ؛ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ. وَقَدّ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُقُوعِ هَذَا الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ وَلَمْ يَعْلَمْ فِيهِ خِلَافًا قَدِيمًا؛ لَكِنْ ابْنُ حَزْمٍ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ مَعَ أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ ذَكَرَ فِي " كِتَابِ الْإِجْمَاعِ " إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ
وَذَكَرَ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ: هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ؟ أَوْ لَا يَقَعُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؟ أَوْ يَكُونُ يَمِينًا مُكَفِّرَةً؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: كَمَا أَنَّ نَظَائِرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَيْمَانِ فِيهَا هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ. وَهَذَا الضَّرْبُ وَهُوَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِصِفَةِ يَقْصِدُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَهَا وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْحَضِّ وَالْمَنْعِ كَقَوْلِهِ: إنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَنْتِ طَالِقٌ. هَلْ هُوَ يَمِينٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ " أَحَدُهُمَا " هُوَ يَمِينٌ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. " الثَّانِي " أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلِ الْآخَرِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ شَرْعًا. وَلُغَةً. وَأَمَّا الْعُرْفُ فَيَخْتَلِفُ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا أَنْوَاعُ الْأَيْمَانِ الثَّلَاثَةِ " فَالْأَوَّلُ ". أَنْ يَعْقِدَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ. و " الثَّانِي " أَنْ يَعْقِدَهَا لِلَّهِ. " وَالثَّالِثُ " أَنْ يَعْقِدَهَا بِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ لِغَيْرِ اللَّهِ. فَأَمَّا " الْأَوَّلُ " فَهُوَ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ. فَهَذِهِ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ مُكَفِّرَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا " الثَّالِثُ " وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَهَا بِمَخْلُوقِ أَوْ لِمَخْلُوقِ مِثْلَ: أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّوَاغِيتِ؛ أَوْ بِأَبِيهِ. أَوْ الْكَعْبَةِ: أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ: فَهَذِهِ يَمِينٌ غَيْرُ
مُحْتَرَمَةٍ لَا تَنْعَقِدُ وَلَا كَفَّارَةَ بِالْحِنْثِ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ لَكِنَّ نَفْسَ الْحَلِفِ بِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: واللات وَالْعُزَّى. فَلْيَقُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْحَلِفُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ إلَّا أَنَّ فِي الْحَلِفِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " قَوْلَيْنِ " فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا. وَأَمَّا عَقْدُهَا لِغَيْرِ اللَّهِ فَمِثْلَ أَنْ يُنْذِرَ لِلْأَوْثَانِ وَالْكَنَائِسِ أَوْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ فَيَقُولُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ لِلْكَنِيسَةِ كَذَا أَوْ لِقَبْرِ فُلَانٍ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَهَذَا إنْ كَانَ نَذْرًا فَهُوَ شِرْكٌ وَإِنْ كَانَ يَمِينًا: فَهُوَ شِرْكٌ إذَا كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ هَدْيٌ وَأَمَّا إذَا قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْبُغْضِ لِذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ. أَوْ نَصْرَانِيٌّ فَهَذَا لَيْسَ مُشْرِكًا وَفِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ لَهُ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ. وَمَا كَانَ مِنْ نَذْرِ شِرْكٍ أَوْ يَمِينِ شِرْكٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّهِ مِنْ عَقْدِهَا؛ لَيْسَ فِيهَا وَفَاءٌ وَلَا كَفَّارَةٌ إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا كَانَ لِلَّهِ أَوْ بِاَللَّهِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُودُ لِلَّهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ. " أَحَدُهُمَا " أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ؛ لَا مُجَرَّدُ أَنْ يَحُضَّ أَوْ يَمْنَعَ. وَهَذَا هُوَ النَّذْرُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:
{كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ} وَثَبَتَ عَنْهُ أَنْ قَالَ: {مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ} . فَإِذَا كَانَ قَصْدُ الْإِنْسَانِ أَنْ يُنْذِرَ لِلَّهِ طَاعَةً فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَإِنْ نَذَرَ مَا لَيْسَ بِطَاعَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ. وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لَكِنْ إذَا لَمْ يُوفِ بِالنَّذْرِ لِلَّهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. قِيلَ: مُطْلَقًا. وَقِيلَ: إذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ. " وَالثَّانِي " أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ الْحَضَّ أَوْ الْمَنْعَ أَوْ التَّصْدِيقَ أَوْ التَّكْذِيبَ فَهَذَا هُوَ الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالظِّهَارُ وَالْحَرَامُ كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ وَصَوْمُ سَنَةٍ وَمَالِي صَدَقَةٌ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنِسَائِي طَوَالِقُ. فَهَذَا الصِّنْفُ يَدْخُلُ فِي مَسَائِلِ " الْأَيْمَانِ " وَيَدْخُلُ فِي مَسَائِلِ " الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ وَالظِّهَارِ ". وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. " أَحَدُهَا " أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا حَلَفَ بِهِ إذَا حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْجَزَاءَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَلْزَمُهُ: كَنَذْرِ التَّبَرُّرِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ. " وَالْقَوْلُ الثَّانِي ": هَذِهِ يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ فَلَا شَيْءَ فِيهَا إذَا حَنِثَ؛ لَا كَفَّارَةَ وَلَا وُقُوعَ؛ لِأَنَّ هَذَا حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَسْكُتْ} وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ {: لَا تَحْلِفُوا إلَّا بِاَللَّهِ} "
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ " أَنَّ هَذِهِ أَيْمَانٌ مُكَفِّرَةٌ إذَا حَنِثَ فِيهَا كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَيْمَانِ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا عَقَدَهُ لِلَّهِ مِنْ الْوُجُوبِ - وَهُوَ الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ - وَمَا عَقَدَهُ لِلَّهِ مِنْ تَحْرِيمٍ - وَهُوَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ - فَقَالُوا فِي الْأَوَّلِ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إذَا حَنِثَ. وَقَالُوا فِي الثَّانِي: يَلْزَمُهُ مَا عَلَّقَهُ وَهُوَ الَّذِي حَلَفَ بِهِ إذَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ فِي الْأَوَّلِ فِعْلٌ وَاجِبٌ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِفِعْلِهِ فَيُمْكِنُهُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْمُلْتَزِمُ فِي الثَّانِي وُقُوعُ حُرْمَةٍ. وَهَذَا يَحْصُلُ بِالشَّرْطِ فَلَا يَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ. و " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ أَقْوَالِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْجُمْلَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ} وَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ لَفْظًا وَمَعْنًى. أَمَّا اللَّفْظُ فَلِقَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} وَهَذَا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَيْمَانِهِمْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا
وَالْحِلْفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ شِرْكٌ لَيْسَ مِنْ أَيْمَانِهِمْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ أَبُو دَاوُد
وَغَيْرُهُ فَلَا تَدْخُلُ هَذِهِ فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا مَا عَقَدَهُ بِاَللَّهِ أَوْ لِلَّهِ فَهُوَ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَيْمَانُ الْبِيعَةِ تَلْزَمُنِي وَنَوَى دُخُولَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ: دَخَلَ فِي ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحَلِفُ بِالْكَعْبَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِذَا كَانَتْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ تَنَاوَلَهَا الْخِطَابُ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الْكَفَّارَةَ فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِئَلَّا تَكُونَ الْيَمِينُ مُوجِبَةً عَلَيْهِمْ أَوْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ لَا مَخْرَجَ لَهُمْ كَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تُشْرَعَ الْكَفَّارَةُ؛ لَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِ مَخْرَجٌ إلَّا الْوَفَاءُ بِالْيَمِينِ فَلَوْ كَانَ مِنْ الْأَيْمَانِ مَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ كَانَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ مَوْجُودَةً. وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} نَهَاهُمْ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلُوا الْحَلِفَ بِاَللَّهِ مَانِعًا لَهُمْ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ؛ لِئَلَّا يَمْتَنِعُوا عَنْ طَاعَتِهِ بِالْيَمِينِ الَّتِي حَلَفُوهَا فَلَوْ كَانَ فِي الْأَيْمَانِ مَا يَنْعَقِدُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ لَكَانَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ إذَا حَلَفُوا بِهِ. وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، " وَالْإِيلَاءُ " هُوَ الْحَلِفُ وَالْقَسَمُ وَالْمُرَادُ بِالْإِيلَاءِ هُنَا أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنْ لَا يَطَأَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ إذَا حَلَفَ بِمَا عَقَدَهُ بِاَللَّهِ كَانَ مُولِيًا وَإِنْ حَلَفَ بِمَا عَقَدَهُ لِلَّهِ
كَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ كَانَ مُولِيًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ وَأَحْمَد. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعًا كَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِ وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ يَمِينٍ مَنَعَتْ جِمَاعًا فَهِيَ إيلَاءٌ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى قَدْ جَعَلَ الْمُولِيَ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ: إمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ. وَالْفِيئَةُ هِيَ الْوَطْءُ: خَيْرٌ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ بِمَعْرُوفِ وَالتَّسْرِيحِ بِإِحْسَانِ. فَإِنْ فَاءَ فَوَطِئَهَا حَصَلَ مَقْصُودُهَا وَقَدْ أَمْسَكَ بِمَعْرُوفِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَمَغْفِرَتُهُ وَرَحْمَتُهُ لِلْمُولِي تُوجِبُ رَفْعَ الْإِثْمِ عَنْهُ وَبَقَاءَ امْرَأَتِهِ. وَلَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فَبَيَّنَ أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بِمَا فَرَضَهُ مِنْ تَحِلَّةِ الْأَيْمَانِ حَيْثُ رَحِمَ عِبَادَهُ بِمَا فَرَضَهُ لَهُمْ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَغَفَرَ لَهُمْ بِذَلِكَ نَقْضَهُمْ لِلْيَمِينِ الَّتِي عَقَدُوهَا؛ فَإِنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ الْوَفَاءُ لَوْلَا مَا فَرَضَهُ مِنْ التَّحِلَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا تَحِلُّ عُقْدَةَ الْيَمِينِ. وَإِنْ كَانَ الْمُولِي لَا يَفِيءُ؛ بَلْ قَدْ عَزَمَ عَلَى الطَّلَاقِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. فَحَكَمَ الْمُولِي فِي كِتَابِ اللَّهِ: أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ يَعْزِمَ الطَّلَاقَ. فَإِنْ فَاءَ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا
" الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ "
فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ فَلَا يَكْفُرُ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنْ فَاءَ الْمُولِي بِالطَّلَاقِ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ عَزَمَ الطَّلَاقَ فَأَوْقَعَهُ وَقَعَ بِهِ
الطَّلَاقُ. فَالطَّلَاقُ عَلَى قَوْلِهِ لَازِمٌ سَوَاءٌ أَمَسَكَ بِمَعْرُوفِ؛ أَوْ سَرَّحَ بِإِحْسَانِ. وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُولِيَ مُخَيَّرٌ: إمَّا أَنْ يَفِيءَ؛ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ. فَإِذَا فَاءَ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ؛ بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْحِنْثِ إذَا قِيلَ بِأَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ؛ فَإِنَّ الْمُولِيَ بِالْحَلِفِ بِاَللَّهِ إذَا فَاءَ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ الْحِنْثِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَفِيهِ قَوْلٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِحَالِ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ} . فَإِنْ قِيلَ الْمُولِي بِالطَّلَاقِ إذَا فَاءَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَأْخِيرِ الْوَطْءِ لِلزَّوْجَةِ وَإِنْ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَرَحِمَهُ بِذَلِكَ؟ " قِيلَ ": هَذَا لَا يَصِحُّ. فَإِنَّ أَحَدَ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا أَنْ لَا يَطَأَ امْرَأَتَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا بِحَالِ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَوْلَجَ حَنِثَ وَكَانَ النَّزْعُ فِي أَجْنَبِيَّةٍ وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. " وَالثَّانِي " يَجُوزُ لَهُ وَطْأَةُ وَاحِدَةٍ يَنْزِعُ عَقِبَهَا وَتَحْرُمُ بِهَا عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيلَاءَ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْمَرْأَةِ فِي الْوَطْءِ وَالْمَرْأَةُ لَا تَخْتَارُ وَطْأَةً يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَقِبَهَا إلَّا إذَا كَانَتْ كَارِهَةً لَهُ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهَا بِهَذِهِ الْفِيئَةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا فَائِدَةَ فِي
التَّأْجِيلِ؛ بَلْ تَعْجِيلُ الطَّلَاقِ أَحَبُّ إلَيْهَا لِتَقْضِيَ الْعِدَّةَ لِتُبَاحَ لِغَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ الطَّلَاقِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: كَانَ التَّأْجِيلُ ضَرَرًا مَحْضًا لَهَا وَهَذَا خِلَافُ مَقْصُودِ الْإِيلَاءِ الَّذِي شُرِعَ لِنَفْعِ الْمَرْأَةِ؛ لَا لِضَرِّهَا. وَمَا ذَكَرْته مِنْ النُّصُوصِ قَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ الصَّحَابَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْجِنْسِ فَأَفْتَوْا مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي هَدْيٌ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنَحْوَ ذَاكَ: بِأَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ فَجَعَلُوا هَذَا يَمِينًا مُكَفِّرَةً؛ وَكَذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ جَعَلُوا هَذَا مُتَنَاوِلًا لِلْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَيْمَانِ وَجَعَلُوا كُلَّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا الْحَالِفُ فَفِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَإِنْ عَظُمَتْ. وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ فِيهِ شِبْهٌ مِنْ النَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَشِبْهٌ مِنْ الْأَيْمَانِ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ هَذِهِ أَيْمَانٌ مَحْضَةٌ؛ لَيْسَتْ نَذْرًا وَلَا طَلَاقًا. وَلَا عَتَاقًا وَإِنَّمَا يُسَمِّيهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ " نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " تَسْمِيَةً مُقَيَّدَةً وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي اسْمِ النَّذْرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَأَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الصَّحَابَةَ بَيَّنُوا أَنَّ هَذِهِ أَيْمَانٌ مَحْضَةٌ كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا فِي الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ؛ لَكِنْ هِيَ أَيْمَانٌ عَلَّقَ الْحِنْثَ فِيهَا عَلَى شَيْئَيْنِ " أَحَدُهُمَا " فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ: و " الثَّانِي " عَدَمُ إيقَاعِ الْمَحْلُوفِ بِهِ.
فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ هَذَا الْعَامَ. بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا لَأَحُجَّن هَذَا الْعَامَ وَهُوَ لَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ إلَّا إذَا فَعَلَ وَلَمْ يَحُجَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَذَلِكَ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ هَذَا الْعَامَ. إنَّمَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إذَا فَعَلَهُ وَلَمْ يَحُجَّ ذَلِكَ الْعَامَ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدِي. أَوْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي؛ فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا فَعَلَهُ وَلَمْ يُطَلِّقْ وَلَمْ يُعْتِقْ وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَوَاَللَّهِ لَأُطَلِّقَن امْرَأَتِي وَلَأُعْتِقَن عَبْدِي. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا لَيَقَعَن بِي الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَلَأُوقِعَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَهُوَ إذَا فَعَلَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَإِذَا لَمْ يُوقِعْهُ لَمْ يَقَعْ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ مُعَلَّقٌ بِشَرْطَيْنِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ قَدْ يَكُونُ وُجُوبًا وَقَدْ يَكُونُ وُقُوعًا. فَإِذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ. فَالْمُعَلَّقُ وُجُوبُ الصَّوْمِ. وَإِذَا قَالَ: فَعَبْدِي حُرٌّ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ فَالْمُعَلَّقُ وُقُوعُ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُعَلَّقَ إنْ كَانَ قَصْدُهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَقَعَ كَمَا إذَا كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا أَبْرَأَتْهُ مِنْ الصَّدَاقِ فَقَالَ: إنْ أبرأتيني مِنْ صَدَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَهُنَا إذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ وَقَعَ الطَّلَاقُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ الْحَلِفَ وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَهَذَا حَالِفٌ كَمَا لَوْ قَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهُ الْتَزَمَ الطَّلَاقَ عِنْدَ الشَّرْطِ فَيَلْزَمُهُ: فَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ أَوْجُهٍ. " أَحَدُهَا " أَنَّ الْحَالِفَ بِالْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ. وَقَوْلُ الذِّمِّيِّ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ: هُوَ الْتِزَامٌ لِلْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وُقُوعَهُ عِنْدَ الشَّرْطِ؛ بَلْ قَصَدَ الْحَلِفَ بِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحِلْفِ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ. " الثَّانِي " أَنَّهُ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي: لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِالِاتِّفَاقِ إذَا فَعَلَهُ. " الثَّالِثُ " أَنَّ الْمُلْتَزِمَ لِأَمْرِ عِنْدَ الشَّرْطِ إنَّمَا يُلْزِمُهُ بِشَرْطَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " أَنْ يَكُونَ الْمُلْتَزِمُ قِرْبَةً. " وَالثَّانِي " أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ بِهِ؛ لَا الْحَلِفُ بِهِ. فَلَوْ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةِ كَالتَّطْلِيقِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَمْ يَلْزَمْهُ. وَلَوْ الْتَزَمَ قُرْبَةً: كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ: وَالْحَجِّ: عَلَى وَجْهِ الْحَلِفِ بِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ؛ بَلْ تَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد؛ وَآخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ.
وَهُنَا الْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ هُوَ الْتَزَمَ وُقُوعُهُ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ؛ وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ كَمَا يَكْرَهُ وُقُوعَ الْكُفْرِ إذَا حَلَفَ بِهِ؛ وَكَمَا يَكْرَهُ وُجُوبَ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ إذَا حَلَفَ بِهَا. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ هَذَا حَالِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ؟ " فَيُقَالُ ": النَّصُّ وَرَدَ فِيمَنْ حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَهُ شِرْكًا؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ؛ فَمَنْ عَقَدَ الْيَمِينَ لِلَّهِ فَهُوَ أَبْلَغُ مِمَّنْ عَقَدَهَا بِاَللَّهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّذْرُ أَبْلَغَ مِنْ الْيَمِينِ؛ فَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِيمَا عَقَدَ لِلَّهِ أَوْلَى مِنْ وُجُوبِهَا فِيمَا عَقَدَ بِاَللَّهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْحَلِفِ " وَإِيضَاحِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ؟
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
الصِّيَغُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ".
" النَّوْعُ الْأَوَّلُ " صِيغَةُ التَّنْجِيزِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: امْرَأَتِي طَالِقٌ. أَوْ: أَنْتِ طَالِقٌ. أَوْ: فُلَانَةٌ طَالِقٌ. أَوْ هِيَ مُطَلَّقَةٌ. وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَلَا تَنْفَعُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا فِيهِ كَفَّارَةٌ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ. أَوْ عَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ. أَوْ: عِتْقُ رَقَبَةٍ. أَوْ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ. أَوْ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي: فَهَذِهِ كُلُّهَا إيقَاعَاتٌ لِهَذِهِ الْعُقُودِ بِصِيَغِ التَّنْجِيزِ وَالْإِطْلَاقِ. " وَالنَّوْعُ الثَّانِي " أَنْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ فَيَقُولُ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا. أَوْ يَحْلِفُ عَلَى غَيْرِهِ - كَعَبْدِهِ وَصَدِيقِهِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ يَبَرُّ قَسَمَهُ - لَيَفْعَلَنَّ كَذَا. أَوْ لَا يَفْعَلُ كَذَا. أَوْ يَقُولُ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. أَوْ لَا أَفْعَلُهُ. أَوْ يَقُولُ: عَلَيَّ الْحَجُّ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. أَوْ لَا أَفْعَلُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَهَذِهِ صِيَغُ قَسَمٍ وَهُوَ حَالِفٌ بِهَذِهِ الْأُمُورِ؛ لَا مَوْقِعَ لَهَا. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. " أَحَدُهَا " أَنَّهُ إذَا حَنِثَ لَزِمَهُ مَا حَلَفَ بِهِ. " وَالثَّانِي " لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. و " الثَّالِثُ " يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَلِفِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَقَالَ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَأَبِي
مُوسَى أَنَّهُ قَالَ: {وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ} وَجَاءَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مُوسَى وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ حَلَفَ بِيَمِينِ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَحَنِثَ أَجْزَأَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَمَنْ حَلَفَ بِإِيمَانِ الشِّرْكِ: مِثْلَ أَنْ يَحْلِفَ بِتُرْبَةِ أَبِيهِ؛ أَوْ الْكَعْبَةِ أَوْ نِعْمَةِ السُّلْطَانِ أَوْ حَيَاةِ الشَّيْخِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ: فَهَذِهِ الْيَمِينُ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا إذَا حَنِثَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. " وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ " مِنْ الصِّيَغِ: أَنْ يُعَلِّقَ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ أَوْ النَّذْرَ بِشَرْطِ؛ فَيَقُولُ: إنْ كَانَ كَذَا فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ. أَوْ الْحَجُّ. أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ. وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَهَذَا يُنْظَرُ إلَى مَقْصُودِهِ فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ لَيْسَ غَرَضُهُ وُقُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ - كَمَنْ لَيْسَ غَرَضُهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إذَا وَقَعَ الشَّرْطُ - فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحَالِفِ؛ وَهُوَ مِنْ " بَابِ الْيَمِينِ ". وَأَمَّا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ وُقُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ: كَمَنَ غَرَضُهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ: مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: إنَّ أبرأتيني مِنْ طَلَاقِك أَنْتِ طَالِقٌ. فَتُبَرِّئُهُ. أَوْ يَكُونُ عَرْضُهُ أَنَّهَا إذَا فَعَلَتْ فَاحِشَةً أَنْ يُطَلِّقَهَا فَيَقُولُ: إذَا فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ غَرَضُهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا لِيَمْنَعَهَا؛ وَلَوْ فَعَلَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي طَلَاقِهَا فَإِنَّهَا تَارَةً يَكُونُ طَلَاقُهَا أُكْرِهَ إلَيْهِ مِنْ الشَّرْطِ فَيَكُونُ حَالِفًا. وَتَارَةً يَكُونُ الشَّرْطُ الْمَكْرُوهُ أَكْرَهَ إلَيْهِ مِنْ طَلَاقِهَا؛ فَيَكُونُ مُوقِعًا لِلطَلَاقِ إذَا وُجِدَ
ذَلِكَ الشَّرْطُ فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ فَشُفِيَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ. فَالْأَصْلُ فِي هَذَا: أَنْ يُنْظَرَ إلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَقْصُودِهِ فَإِنْ كَانَ غَرَضُهُ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْأُمُورُ وَقَعَتْ مُنْجَزَةً أَوْ مُعَلَّقَةً إذَا قُصِدَ وُقُوعُهَا عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ. وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَحْلِفَ بِهَا؛ وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَهَا إذَا حَنِثَ وَإِنْ وَقْعَ الشَّرْطُ فَهَذَا حَالِفٌ بِهَا؛ لَا مُوقِعٌ لَهَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ مِنْ " بَابِ الْيَمِينِ "؛ لَا مِنْ " بَابِ التَّطْلِيقِ وَالنَّذْرِ " فَالْحَالِفُ هُوَ الَّذِي يَلْتَزِمُ مَا يَكْرَهُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ؛ أَوْ نَصْرَانِيٌّ وَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَعَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَمِينٌ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَقْصِدُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ مِنْ نَاذِرٍ وَمُطَلِّقٍ وَمُعَلِّقٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْصِدُ وَيَخْتَارُ لُزُومَ مَا الْتَزَمَهُ وَكِلَاهُمَا مُلْتَزِمٌ؛ لَكِنَّ هَذَا الْحَالِفَ يَكْرَهُ وُقُوعَ اللَّازِمِ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ الْمَلْزُومُ كَمَا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ فَإِنَّ هَذَا يَكْرَهُ الْكُفْرَ وَلَوْ وَقَعَ الشَّرْطُ: فَهَذَا حَالِفٌ. وَالْمَوْقِعُ يَقْصِدُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ اللَّازِمِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ الْمَلْزُومِ؛ سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ مُرَادًا لَهُ أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ غَيْرَ مُرَادٍ لَهُ. فَهَذَا مُوقِعٌ لَيْسَ بِحَالِفِ. وَكِلَاهُمَا مُلْتَزِمٌ مُعَلِّقٌ؛ لَكِنَّ هَذَا الْحَالِفَ يَكْرَهُ وُقُوعَ اللَّازِمِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَكَابِرِ التَّابِعِينَ وَعَلَيْهِ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهَا: فِي تَعْلِيقِ النَّذْرِ. قَالُوا: إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ النَّذْرَ فَقَالَ: لَئِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ الْحَجُّ. فَهُوَ نَاذِرٌ إذَا شَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ لَزِمَهُ الْحَجُّ فَهَذَا حَالِفٌ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَا حَجَّ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ. وَزَيْنَبَ رَبِيبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مَنْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ. قَالُوا: يَكْفُرُ عَنْ يَمِينِهِ. وَلَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ. هَذَا مَعَ أَنَّ الْعِتْقَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ؛ فَالطَّلَاقُ لَا يَلْزَمُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ وَالْعِتْقُ مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يَقَعُ بِمَنْ غَرَضُهُ أَنْ يُوقِعَهُ؛ لَا لِمَنْ يَكْرَهُ وُقُوعَهُ كَالْحَالِفِ بِهِ وَالْمُكْرَهِ عَلَيْهِ وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كُلُّ يَمِينٍ وَإِنْ عَظُمَتْ فَكَفَّارَتُهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ. وَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ: مِنْ الْحِلْفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ مَذْهَبُ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ لَكِنْ فِيهِمْ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ: كدَاوُد وَأَصْحَابِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ: كَطَاوُوسِ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَ
الْأَيْمَانُ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا الْخَلْقُ
ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ. " أَحَدُهَا " يَمِينٌ مُحْتَرَمَةٌ مُنْعَقِدَةٌ: كَالْحَلِفِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى: فَهَذِهِ فِيهَا الْكَفَّارَةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
" الثَّانِي " الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ: كَالْحَالِفِ بِالْكَعْبَةِ. فَهَذِهِ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. " وَالثَّالِثُ " أَنْ يَعْقِدَ الْيَمِينَ لِلَّهِ فَيَقُولُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ. أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ. أَوْ فَنِسَائِي طَوَالِقُ. أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذِهِ فِيهَا الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ: إمَّا لُزُومُ الْمَحْلُوفِ بِهِ وَإِمَّا الْكَفَّارَةُ وَإِمَّا لَا هَذَا وَلَا هَذَا. وَلَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا يَمِينَانِ: يَمِينٌ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا الْكَفَّارَةُ. أَوْ يَمِينٌ لَيْسَتْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ: فَهَذِهِ لَا شَيْءَ فِيهَا إذَا حَنِثَ. فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ إنْ كَانَتْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا كَفَّارَةٌ؛ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَلْزَمْ بِهَا شَيْءٌ. فَأَمَّا إثْبَاتُ يَمِينٍ يَلْزَمُ الْحَالِفُ بِهَا مَا الْتَزَمَهُ وَلَا تُجْزِئُهُ فِيهَا كَفَّارَةٌ: فَهَذَا لَيْسَ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ حُكْمَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَذَكَرَ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا حُكْمَ طَلَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} وَقَالَ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حُكْمَ الطَّلَاقِ وَبَيَّنَ فِي تِلْكَ حُكْمَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْرِفُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَيَعْرِفُوا مَا يَدْخُلُ فِي الطَّلَاقِ وَمَا يَدْخُلُ فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَيَحْكُمُوا فِي هَذَا بِمَا حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ فَيَجْعَلُوا حُكْمَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكْمَ طَلَاقِهِمْ حُكْمَ أَيْمَانِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ اشْتَبَهَ بَعْضُ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَاَلَّذِينَ مَيَّزُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هُمْ أَجَلُّ قَدْرًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ هَذَا وَهَذَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} فَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالِاعْتِبَارُ - الَّذِي هُوَ أَصَحُّ الْقِيَاسِ وَأَجْلَاهُ - إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ صَلَاحِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إذَا
فَرَّقُوا بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُ فَإِنَّ الَّذِينَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا أَوْقَعَهُمْ هَذَا الِاشْتِبَاهُ: إمَّا فِي آصَارٍ وَأَغْلَالٍ وَإِمَّا فِي مَكْرٍ وَاحْتِيَالٍ: كَالِاحْتِيَالِ فِي أَلْفَاظِ الْأَيْمَانِ وَالِاحْتِيَالِ بِطَلَبِ إفْسَادِ النِّكَاحِ وَالِاحْتِيَالِ بِدَوْرِ الطَّلَاقِ وَالِاحْتِيَالِ بِخُلْعِ الْيَمِينِ وَالِاحْتِيَالِ بِالتَّحْلِيلِ. وَاَللَّهُ أَغْنَى الْمُسْلِمِينَ بِنَبِيِّهِمْ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} أَيْ يُخَلِّصُهُمْ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ؛ وَمِنْ الدُّخُولِ فِي مُنْكَرَاتِ أَهْلِ الْحِيَلِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ.
" فَالْأَوَّلُ " أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِلْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مَكْرُوهًا لَهُ؛ لَكِنَّهُ إذَا وَجَدَ الشَّرْطَ فَإِنَّهُ يُرِيدُ الطَّلَاقَ؛ لِكَوْنِ الشَّرْطِ أُكْرِهَ إلَيْهِ مِنْ الطَّلَاقِ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَكْرَهُ طَلَاقَهَا وَيَكْرَهُ الشَّرْطَ؛ لَكِنْ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ طَلَاقَهَا: مِثْلَ أَنْ يَكُونَ كَارِهًا لِلتَّزَوُّجِ بِامْرَأَةٍ بَغِيٍّ أَوْ فَاجِرَةٍ أَوْ خَائِنَةٍ أَوْ هُوَ لَا يَخْتَارُ طَلَاقَهَا؛ لَكِنْ إذَا فَعَلَتْ هَذِهِ الْأُمُورَ: اخْتَارَ طَلَاقَهَا؛ فَيَقُولُ إنْ زَنَيْت أَوْ سَرَقْت أَوْ خُنْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَمُرَادُهُ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَهَا: إمَّا عُقُوبَةً لَهَا؛ وَإِمَّا كَرَاهَةً لِمُقَامِهِ مَعَهَا
عَلَى هَذَا الْحَالِ: فَهَذَا مُوقِعٌ لِلطَّلَاقِ عِنْدَ الصِّفَةِ؛ لَا حَالِفٌ: وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ: كَابْنِ مَسْعُودٍ؛ وَابْنِ عُمَرَ؛ وَعَنْ التَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ؛ وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ قَالَ فِي مِثْلِ هَذَا: إنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؛ وَلَكِنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الشِّيعَةِ وَطَائِفَةٌ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ. وَهَذَا لَيْسَ بِحَالِفِ؛ وَلَا يَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَلَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ سَمَّى هَذَا حَالِفًا كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي كُلَّ مُعَلِّقٍ حَالِفًا؛ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي كُلَّ مُنْجِزٍ لِلطَّلَاقِ حَالِفًا. وَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتُ الثَّلَاثَةُ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي اللُّغَةِ؛ وَلَا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَلَا كَلَامِ الصَّحَابَةِ؛ وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَلِكَ يَمِينًا لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَمِينِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ عِنْدَ الْمُسَمَّى. وَهُوَ ظَنُّهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الصِّفَةِ. وَأَمَّا التَّعْلِيقُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ فَيُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْ مَعْنَاهُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْ مَعْنَاهُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ. وَهَذَا الْقَسَمُ إذَا ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ فَإِنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ كَارِهًا لِلْجَزَاءِ؛ وَهُوَ أَكْرَهُ إلَيْهِ مِنْ الشَّرْطِ: فَيَكُونُ كَارِهًا لِلشَّرْطِ؛ وَهُوَ لِلْجَزَاءِ أَكْرَهُ وَيَلْتَزِمُ أَعْظَمَ الْمَكْرُوهَيْنِ عِنْدَهُ لِيَمْتَنِعَ بِهِ مِنْ أَدْنَى الْمَكْرُوهَيْنِ. فَيَقُولُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ. أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ. أَوْ عَلَيَّ الْحَجُّ وَنَحْوَ ذَلِكَ. أَوْ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: إنْ زَنَيْت أَوْ سَرَقْت أَوْ خُنْت: فَأَنْتِ طَالِقٌ يَقْصِدُ زَجْرَهَا أَوْ تَخْوِيفَهَا بِالْيَمِينِ لَا إيقَاعَ الطَّلَاقِ إذَا فَعَلَتْ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُرِيدًا لَهَا وَإِنْ
فَعَلَتْ ذَلِكَ؛ لِكَوْنِ طَلَاقِهَا أَكْرَهَ إلَيْهِ مِنْ مُقَامِهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَهُوَ عَلَّقَ بِذَلِكَ لِقَصْدِ الْحَظْرِ وَالْمَنْعِ؛ لَا لِقَصْدِ الْإِيقَاعِ: فَهَذَا حَالِفٌ لَيْسَ بِمُوقِعِ. وَهَذَا هُوَ الْحَالِفُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ الَّذِي تُجْزِئُهُ الْكَفَّارَةُ. وَالنَّاسُ يَحْلِفُونَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَقَدْ يَحْلِفُونَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ الَّتِي فِي مَعْنَاهَا؛ فَإِنْ عَلِمَ هَذَا وَهَذَا سَوَاءٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَبْنَى أَحْكَامِ أُصُولِ الدِّينِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَتَقَدَّمَ.
فَصْلٌ:
" وَالطَّلَاقُ نَوْعَانِ "
نَوْعٌ أَبَاحَهُ اللَّهُ وَنَوْعٌ حَرَّمَهُ. فَاَلَّذِي أَبَاحَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ بَعْدَ أَنْ تَطْهُرَ مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا وَيُسَمَّى " طَلَاقَ السُّنَّةِ " فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ طَلَّقَهَا أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا فَإِنْ طَلَّقَهَا بِالْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا: كَانَ هَذَا طَلَاقًا مُحَرَّمًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي وُقُوعِهِ " قَوْلَانِ " لِلْعُلَمَاءِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ
وَطَلَاقُ السُّنَّةِ الْمُبَاحِ: إمَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً وَيَدَعَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَتَبِينُ أَوْ يُرَاجِعُهَا فِي الْعِدَّةِ. فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ طَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ أَوْ الثَّالِثَةَ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ: فَهَذَا حَرَامٌ وَفَاعِلُهُ مُبْتَدِعٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ أَوْ الْعَقْدِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِمَا؛ وَلَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ؟ أَوْ ثَلَاثٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. قِيلَ: يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الثَّلَاثَةِ. وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ؛ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ؛ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ: طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً} . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَنَّ ركانة بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هِيَ وَاحِدَةٌ} وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِسْنَادِ ثَابِتٍ أَنَّهُ أَلْزَمَ بِالثَّلَاثِ لِمَنْ طَلَّقَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً؛ وَحَدِيثُ ركانة الَّذِي يَرْوِي فِيهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ؛ وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم " سَأَلَهُ "؛ وَقَالَ: " مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً "؟ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ: ضَعَّفَهُ أَحْمَد، وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ حَزْمٍ؛ بِأَنَّ رُوَاتَهُ لَيْسُوا مَوْصُوفِينَ بِالْعَدْلِ وَالضَّبْطِ. وَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ الصَّحِيحَ فِي حَدِيثِ ركانة أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَجَعَلَهَا وَاحِدَةً. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:
إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ يَمِينًا مِنْ الْأَيْمَانِ، فَ
الْأَيْمَانُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
" أَحَدُهَا " مَا لَيْسَ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ. كَالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ وَالْآبَاءِ؛ وَتُرْبَتِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَهَذِهِ يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ بَلْ هِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّهْيِ نَهْيَ تَحْرِيمٍ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِمْ. فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} وَقَالَ {إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ} وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} . " وَالثَّانِي " الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ. فَهَذِهِ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ فِيهَا الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْحَلِفِ بِاَللَّهِ مَقْصُودُ الْحَالِفِ بِهَا تَعْظِيمَ الْخَالِقِ - لَا الْحَلِفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ - كَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالْحَرَامِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ أَوْ الْحَجُّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ. أَوْ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا. أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَا أَمْلِكُهُ حَرَامٌ. أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. أَوْ لَا أَفْعَلُهُ. أَوْ إنْ
فَعَلْته فَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَكُلُّ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ. وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. قِيلَ إذَا حَنِثَ لَزِمَهُ مَا عَلَّقَهُ وَحَلَفَ بِهِ. وَقِيلَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ يَجْزِيه فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَالْحِلْفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يَلْزَمُهُ مَا حَلَفَ بِهِ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُوَافِقُ لِلْأَقْوَالِ الثَّابِتَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ} فَإِذَا قَالَ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا. أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا. أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ. أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ: أَجْزَأَهُ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَإِنْ كَفَّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ فَهُوَ أَحْسَنُ. وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ يُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ الْعِتْقِ أَوْ إطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتِهِمْ وَإِذَا أَطْعَمَهُمْ أَطْعَمَ كُلَّ وَاحِدٍ جِرَايَةً مِنْ الْجِرَايَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي بَلَدِهِ: مِثْلَ أَنْ يُطْعِمَ ثَمَانِ أَوَاقٍ أَوْ تِسْعَ أَوَاقٍ بِالشَّامِيِّ وَيُطْعِمُ مَعَ ذَلِكَ إدَامَهَا؛ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ الشَّامِ فِي إعْطَاءِ الْجِرَايَاتِ خُبْزًا وَإِدَامًا. وَإِذَا كَفَّرَ يَمِينَهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ.
وَأَمَّا إذَا قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ: مِثْلَ أَنْ يُنَجِّزَ الطَّلَاقَ فَيُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ: فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِصِفَةِ يَقْصِدُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَهَا: مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِلطَّلَاقِ إذَا فَعَلَتْ أَمْرًا مِنْ الْأُمُورِ. فَيَقُولُ لَهَا: إنْ فَعَلْته فَأَنْتِ طَالِقٌ. قَصْدُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا فَعَلَتْهُ: فَهَذَا مُطَلِّقٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ السَّلَفِ وَجَمَاهِيرِ الْخَلَفِ؛ بِخِلَافِ مَنْ قَصْدُهُ أَنْ يَنْهَاهَا وَيَزْجُرَهَا بِالْيَمِينِ؛ وَلَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ الَّذِي يَكْرَهُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَلِّقَهَا؛ بَلْ هُوَ مُرِيدٌ لَهَا وَإِنْ فَعَلَتْهُ؛ لَكِنَّهُ قَصَدَ الْيَمِينَ لِمَنْعِهَا عَنْ الْفِعْلِ؛ لَا مُرِيدًا أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِنْ فَعَلَتْهُ: فَهَذَا حَلِفٌ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ مَنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ بَلْ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
فَصْلٌ:
وَالطَّلَاقُ الَّذِي يَقَعُ بِلَا رَيْبٍ هُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ وَأَبَاحَهُ وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا أَوْ بَعْدَ مَا يَبِينُ حَمْلُهَا: طَلْقَةً وَاحِدَةً
فَأَمَّا " الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ " مِثْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْحَيْضِ أَوْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ أَنْ يَطَأَهَا وَقَبْلَ أَنْ يَبِينَ حَمْلُهَا: فَهَذَا الطَّلَاقُ مُحَرَّمٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ أَوْ كَلِمَاتٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ: فَهُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَتَنَازَعُوا فِيمَا يَقَعُ بِهَا. فَقِيلَ: يَقَعُ بِهَا الثَّلَاثُ. وَقِيلَ: لَا يَقَعُ بِهَا إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ فِي الْحَيْضِ وَبَعْدَ الْوَطْءِ: هَلْ يَلْزَمُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَمَا لَا يَلْزَمُ النِّكَاحُ الْمُحَرَّمُ وَالْبَيْعُ الْمُحَرَّمُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ: طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً} . وَثَبَتَ أَيْضًا فِي مُسْنَدِ أَحْمَد: {أَنَّ ركانة بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هِيَ وَاحِدَةٌ} وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِلَافَ هَذِهِ السُّنَّةِ بَلْ مَا يُخَالِفُهَا إمَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ؛ بَلْ مَرْجُوحٌ. وَإِمَّا أَنَّهُ صَحِيحٌ لَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
الطَّلَاقُ مِنْهُ طَلَاقُ سُنَّةٍ أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَطَلَاقُ بِدْعَةٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ. فَطَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا؛ أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا. فَإِنْ طَلَّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ وَطِئَهَا وَطَلَّقَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا فَهَذَا " طَلَاقٌ مُحَرَّمٌ " بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يَلْزَمُ؟ أَوْ لَا يَلْزَمُ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ ". وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ. وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ أَوْ بِكَلِمَاتِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ قَبْلَ أَنْ يُرَاجِعَهَا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ. ثَلَاثًا. أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفَ طَلْقَةٍ. أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ. وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ: فَهَذَا حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا: فَهُوَ أَيْضًا حَرَامٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ. وَأَمَّا " السُّنَّةُ " إذَا طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً لَمْ يُطَلِّقْهَا الثَّانِيَةَ حَتَّى يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ يَتَزَوَّجَهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِيَةَ
وَكَذَلِكَ الثَّالِثَةَ فَإِذَا طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ.
وَأَمَّا لَوْ طَلَّقَهَا " الثَّلَاثَ " طَلَاقًا مُحَرَّمًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةً جُمْلَةً وَاحِدَةً: فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ " أَحَدُهُمَا " يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ. و " الثَّانِي " لَا يَلْزَمُهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ وَيَنْكِحَهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ. وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد ابْنِ حَنْبَلٍ؛ وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ؛ لِدَلَائِلَ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ وَاحِدَةً} . وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ {ركانة بْنَ عَبْدٍ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ وَرَدَّهَا عَلَيْهِ} وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ثَبَّتَهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ. وَضَعَّفَ أَحْمَد وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمْ مَا رُوِيَ {أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ وَقَدْ اسْتَحْلَفَهُ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً؟} فَإِنَّ رُوَاةَ هَذَا مَجَاهِيلُ لَا يُعْرَفُ حِفْظُهُمْ وَعَدْلُهُمْ؛ وَرُوَاةُ الْأَوَّلِ مَعْرُوفُونَ بِذَلِكَ. وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِسْنَادِ مَقْبُولٍ أَنَّ أَحَدًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ فَأَلْزَمَهُ الثَّلَاثَ؛ بَلْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كُلُّهَا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ وَلَكِنْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ: {أَنَّ فُلَانًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا} . أَيْ ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَةً. وَجَاءَ {أَنَّ الْمُلَاعِنَ طَلَّقَ ثَلَاثًا} وَتِلْكَ امْرَأَةٌ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى رَجْعَتِهَا؛ بَلْ هِيَ
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ سَوَاءٌ طَلَّقَهَا أَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا كَمَا لَوْ طَلَّقَ الْمُسْلِمُ امْرَأَتَهُ إذَا ارْتَدَّتْ ثَلَاثًا. وَكَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ الْيَهُودِيِّ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا؛ أَوْ أَسْلَمَ زَوْجُ الْمُشْرِكَةِ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا. وَإِنَّمَا الطَّلَاقُ الشَّرْعِيُّ أَنْ يُطَلِّقَ مَنْ يَمْلِكُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا أَوْ يَتَزَوَّجَهَا بِعِقْدِ جَدِيدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ: (*)
إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِالْحَرَامِ
فَقَالَ: الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا. أَوْ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ فَعَلْت كَذَا. أَوْ مَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ يَحْرُمُ عَلَيَّ إنْ فَعَلْت كَذَا. أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَلَهُ زَوْجَةٌ: فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ وَلَكِنَّ الْقَوْلَ الرَّاجِحَ أَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ مِنْ الْأَيْمَانِ لَا يَلْزَمُهُ بِهَا طَلَاقٌ وَلَوْ قَصَدَ بِذَلِكَ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد الْمَشْهُورُ عَنْهُ حَتَّى لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَهُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَقَصَدَ بِهِ الطَّلَاقَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الظِّهَارَ طَلَاقًا وَالْإِيلَاءَ طَلَاقًا فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَجَعَلَ فِي الظِّهَارِ الْكَفَّارَةَ الْكُبْرَى. وَجَعَلَ الْإِيلَاءَ يَمِينًا يَتَرَبَّصُ فِيهَا الرَّجُلُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ: فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوفِ أَوْ يُسَرِّحَ بِإِحْسَانِ. كَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إنَّهُ إذَا كَانَ مُزَوَّجًا فَحَرَّمَ امْرَأَتَهُ أَوْ حَرَّمَ الْحَلَالَ مُطْلَقًا كَانَ مُظَاهِرًا وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَد وَإِذَا حَلَفَ بِالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَحَنِثَ
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 239):
هذا الفصل غير متعلق بالفصل المذكور قبله، بل هو مستل من فتوى للشيخ رحمه مذكورة بكاملها في المجلد نفسه: 33/ 144 - 161، وهذا الفصل مذكور بنصه في آخر الفتوى المذكورة: 33/ 160، 161.
وثمّ فوارق يسيرة جدا - من النساخ - بين الموضعين تقرب من سنة فروق، إلا أن أهمها هو قوله 33/ 75:(كما أفتى به [جماعة] من السلف والخلف).
فـ[جماعة] من وضع الجامع لأنها بين معقوفتين، والعبارة كما في 33/ 161 (كما أفتى به من أفتى من السلف والخلف) فانتقل نظر الناسخ من (أفتى به) الأولى إلى الثانية فحصل الخلل في العبارة.
فِي يَمِينِهِ أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ فِي مَذْهَبِهِ؛ لَكِنْ قِيلَ إنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَسَوَاءٌ حَلَفَ أَوْ أَوْقَعَ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَد. وَقِيلَ: بَلْ إنْ حَلَفَ بِهِ أَجْزَأَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَإِنْ أَوْقَعَهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ. وَهَذَا أَقْوَى وَأَقْيَسُ عَلَى أُصُولِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. فَالْحَالِفُ بِالْحَرَامِ يَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا يُجْزِئُ الْحَالِفُ بِالنَّذْرِ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ. أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ كَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالْعِتْقِ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ كَذَلِكَ الْحَلِفُ. بِالطَّلَاقِ يُجْزِئُ فِيهِ أَيْضًا كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا أَفْتَى بِهِ [جَمَاعَةٌ] مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ لَا يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ بَلْ مَعْنَاهُ يُوَافِقُهُ. فَكُلُّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ فِي أَيْمَانِهِمْ فَفِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ أَنْ يُعْتِقَ أَوْ أَنْ يُظَاهِرَ: فَهَذَا يَلْزَمُهُ مَا أَوْقَعَهُ سَوَاءٌ كَانَ مُنْجِزًا أَوْ مُعَلِّقًا وَلَا يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَمَّنْ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ: هَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ:
أَمَّا قَوْلُهُ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهِيَ حَائِضٌ فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ " أَحَدِهِمَا " أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّهُ
لَا يُعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ نِزَاعٌ وَهُوَ طَلَاقٌ بِدْعَةٍ. وَأَمَّا " طَلَاقُ السُّنَّةِ " أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَا يَمَسُّهَا فِيهِ أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا؛ فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ؛ أَوْ بَعْدَ مَا وَطِئَهَا وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ حَمْلُهَا لَهُ: فَهُوَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} . وَفِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ: أَنَّ {ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ فِيهَا النِّسَاءُ} . وَأَمَّا جَمْعُ " الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ " فَفِيهِ قَوْلَانِ " أَحَدُهُمَا " مُحَرَّمٌ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَقَالَ أَحْمَد: تَدَبَّرْت الْقُرْآنَ فَإِذَا كُلُّ طَلَاقٍ فِيهِ فَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ - يَعْنِي طَلَاقَ الْمَدْخُولِ بِهَا - غَيْرَ قَوْلِهِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَهَلْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ بِأَنْ يُفَرِّقَ الطَّلَاقَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ فَيُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً؟ فِيهِ " قَوْلَانِ " هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد " إحْدَاهُمَا " لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. " وَالثَّانِيَةُ " لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد الَّتِي اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَصْحَابِهِ. " وَالْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ؛ بَلْ هُوَ تَرْكُ الْأَفْضَلِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد: اخْتَارَهَا الخرقي. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ {فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَبُو حَفْصِ بْنُ الْمُغِيرَةِ ثَلَاثًا وَبِأَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا وَبِأَنَّ
الْمُلَاعِنَ
طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ} . وَأَجَابَ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ وَامْرَأَةِ رِفَاعَةَ إنَّمَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ هَكَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الثَّالِثَةَ آخِرُ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ؛ لَمْ يُطَلِّقْ ثَلَاثًا لَا هَذَا وَلَا هَذَا مُجْتَمَعَاتٍ. وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ: طَلَّقَ ثَلَاثًا. يَتَنَاوَلُ مَا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ. بِأَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا. وَهَذَا طَلَاقٌ سُنِّيٌّ وَاقِعٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ ثَلَاثًا. وَأَمَّا جَمْعُ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةِ فَهَذَا كَانَ مُنْكِرًا عِنْدَهُمْ إنَّمَا يَقَعُ قَلِيلًا؛ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْقَلِيلِ الْمُنْكَرِ دُونَ الْكَثِيرِ الْحَقِّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يُطَلِّقُ مُجْتَمِعَاتٍ لَا هَذَا وَلَا هَذَا؛ بَلْ هَذَا قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ؛ بَلْ هُوَ بِخِلَافِ الدَّلِيلِ. وَأَمَّا الْمُلَاعَنُ فَإِنَّ طَلَاقَهُ وَقَعَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ؛ أَوْ بَعْدَ وُجُوبِ الْإِبَانَةِ الَّتِي تَحْرُمُ بِهَا الْمَرْأَةُ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْرُمُ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ فَكَانَ مُؤَكِّدًا لِمُوجَبِ اللِّعَانِ
وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي طَلَاقِ مَنْ يُمْكِنُهُ إمْسَاكُهَا؛ لَا سِيَّمَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الثَّلَاثِ لَمْ يَقَعْ بِهَا ثَلَاثٌ وَلَا غَيْرُهَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا دَلَّ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ لَمْ يَقَعْ بِهَا إذْ لَوْ وَقَعَتْ لَكَانَتْ قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَامْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يُفَرِّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا أَجْنَبِيَّيْنِ وَلَكِنْ غَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: حَرَّمَهَا عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا. فَيُقَالُ: فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا؛ فَلَمَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا دَلَّ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ وَأَنَّ الثَّلَاثَ لَمْ تَقَعْ جَمِيعًا؛ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ إنَّهُ يَقَعُ بِهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فَإِنَّهُ يُمْكِنُ فِيهِ حِينَئِذٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا. وَقَوْلُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: طَلَّقَهَا ثَلَاثًا. فَأَنْفَذَهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ احْتَاجَ إلَى إنْفَاذِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاخْتِصَاصِ الْمُلَاعَنِ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ مِنْ شَرْعِهِ أَنَّهَا تَحْرُمُ بِالثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُلَاعِنِ اخْتِصَاصٌ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إنْفَاذٍ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ الْمُلَاعِنَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ أَنْفَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَقْصُودَهُ؛ بَلْ زَادَهُ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَ اللِّعَانِ أَبْلَغُ مِنْ تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ؛ إذْ تَحْرِيمُ اللِّعَانِ لَا يَزُولُ وَإِنْ نَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ وَهُوَ مُؤَبَّدٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لَا يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ. وَاسْتَدَلَّ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِحْ إلَّا الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ وَإِلَّا الطَّلَاقَ لِلْعِدَّةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} إلَى قَوْلِهِ: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الرَّجْعِيِّ. وَقَوْلُهُ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إرْدَافُ الطَّلَاقِ لِلطَّلَاقِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ أَوْ يُرَاجِعَهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ الطَّلَاقَ لِلْعِدَّةِ. أَيْ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ فَمَتَى طَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ بَنَتْ عَلَى الْعِدَّةِ وَلَمْ تَسْتَأْنِفْهَا بِاتِّفَاقِ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ عَنْ خِلَاسٍ وَابْنِ حَزْمٍ فَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ فَإِنَّ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ إضْرَارَ امْرَأَتِهِ طَلَّقَهَا حَتَّى إذَا شَارَفَتْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لِيُطِيلَ حَبْسَهَا فَلَوْ كَانَ إذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى أَنْ يُرَاجِعَهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى قَصَرَهُمْ عَلَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ دَفْعًا لِهَذَا الضَّرَرِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَ اللَّهِ أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تُسْتَأْنَفُ بِدُونِ رَجْعَةٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ؟ أَوْ يَقَعُ وَلَا يُسْتَأْنَفُ لَهُ الْعِدَّةَ؟ وَابْنُ حَزْمٍ إنَّمَا أَوْجَبَ اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ بِأَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ فَلَا يَكُونُ طَلَاقٌ إلَّا يَتَعَقَّبُهُ عِدَّةٌ؛ إذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَلَزِمَهُ عَلَى ذَلِكَ هَذَا الْقَوْلُ الْفَاسِدُ. وَأَمَّا مَنْ أَخَذَ بِمُقْتَضَى الْقُرْآنِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ هُوَ مَا يَتَعَقَّبُهُ الْعِدَّةُ وَمَا كَانَ صَاحِبُهُ مُخَيَّرًا فِيهَا بَيْنَ الْإِمْسَاكِ بِمَعْرُوفِ وَالتَّسْرِيحِ بِإِحْسَانِ وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ فَلَا
يَكُونُ جَائِزًا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا لِلْعِدَّةِ وَلِأَنَّهُ قَالَ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الرَّجْعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَدَعَهَا تَقْضِي الْعِدَّةَ فَيُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانِ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَانِيَةً قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَمْ يُمْسِكْ بِمَعْرُوفِ وَلَمْ يُسَرِّحْ بِإِحْسَانِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا حَالُ كُلِّ مُطَلَّقَةٍ فَلَمْ يُشَرِّعْ إلَّا هَذَا الطَّلَاقَ ثُمَّ قَالَ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} أَيْ هَذَا الطَّلَاقُ الْمَذْكُورُ (مَرَّتَانِ. وَإِذَا قِيلَ: سَبِّحْ مَرَّتَيْنِ. أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَنْطِقَ بِالتَّسْبِيحِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ: طَلَّقَ مَرَّتَيْنِ إلَّا إذَا طَلَّقَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. أَوْ مَرَّتَيْنِ: لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: طَلَّقَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ؛ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ طَلَّقَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ؛ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ " {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فَهَذِهِ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ إلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ مَرَّتَيْنِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} الْآيَةَ. وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ طَلَاقٍ فَعُلِمَ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ. وَدَلَائِلُ تَحْرِيمِ الثَّلَاثِ
كَثِيرَةٌ قَوِيَّةٌ: مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَالْآثَارُ وَالِاعْتِبَارُ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ " الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ " وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْهُ قَدْرُ الْحَاجَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّ إبْلِيسَ يَنْصِبُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ وَيَبْعَثُ سَرَايَاهُ: فَأَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً فَيَأْتِيه الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: مَا زِلْت بِهِ حَتَّى فَعَلَ كَذَا؛ حَتَّى يَأْتِيَهُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: مَازِلْت بِهِ حَتَّى فَرَّقْت بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ؛ فَيُدْنِيه مِنْهُ؛ وَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ وَيَلْتَزِمُهُ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّ السِّحْرِ: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إنَّ الْمُخْتَلِعَاتِ وَالْمُنْتَزِعَاتِ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ} وَفِي السُّنَنِ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ} وَلِهَذَا لَمْ يُبَحْ إلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَإِذَا كَانَ إنَّمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ فَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِوَاحِدَةٍ فَمَا زَادَ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى الْحَظْرِ.
" الْأَصْلُ الثَّانِي " أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ الَّذِي يُسَمَّى " طَلَاقَ الْبِدْعَةِ " إذَا أَوْقَعَهُ الْإِنْسَانُ هَلْ يَقَعُ أَمْ لَا؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ بِوُقُوعِهِ مَعَ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَقَعُ. مِثْلَ طَاوُوسٍ وَعِكْرِمَةَ وَخِلَاسٍ وَعُمَرَ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَحَجَّاجِ بْنِ أرطاة وَأَهْلِ الظَّاهِرِ:
كدَاوُد وَأَصْحَابِهِ. وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَيُرْوَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: دَاوُد وَأَصْحَابُهُ؛ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَقُولُ بِتَحْرِيمِ الثَّلَاثِ. وَمِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ مَجْمُوعُ الثَّلَاثِ إذَا أَوْقَعَهَا جَمِيعًا؛ بَلْ يَقَعُ مِنْهَا وَاحِدَةٌ وَلَمْ يُعْرَفْ قَوْلُهُ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ؛ وَلَكِنْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ جَمِيعًا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالشِّيعَةِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إذَا أَوْقَعَ الثَّلَاثَ جُمْلَةً لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ أَصْلًا؛ لَكِنَّ هَذَا قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ لَا يُعْرَفُ لِقَائِلِهِ سَلَفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالشِّيعَةِ؛ لَكِنْ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ لَا يَقُولُ بِتَحْرِيمِ جَمْعِ الثَّلَاثِ؛ فَلِذَا يُوقِعُهَا وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ عَرَفَ قَوْلَهُ فِي الثَّلَاثِ وَلَمْ يَعْرِفْ قَوْلَهُ فِي الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ كَمَنْ يَنْقُلْ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَابْنِ عُمَرَ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ. وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى أَشْهَرَ وَأَثْبَتَ: أَنَّهُ يَقَعُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدٍ. وَأَمَّا " جَمْعُ الثَّلَاثِ " فَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فِيهَا كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ: رُوِيَ الْوُقُوعُ فِيهَا عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَغَيْرِهِمْ. وَرُوِيَ عَدَمُ الْوُقُوعِ فِيهَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَنْ عُمَرَ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعَنْ الزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُغِيثٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْمُقْنِعُ فِي أُصُولِ الْوَثَائِقِ. وَبَيَانُ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الدَّقَائِقِ ": وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مُطْلَقٌ كَمْ يَلْزَمُهُ مِنْ الطَّلَاقِ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما يَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " ثَلَاثًا " لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُخْبِرًا عَمَّا مَضَى فَيَقُولُ: طَلَّقْت ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يُخْبِرُ عَنْ ثَلَاثِ طَلَقَاتٍ أَتَتْ مِنْهُ فِي ثَلَاثَةِ أَفْعَالٍ كَانَتْ مِنْهُ فَذَلِكَ يَصِحُّ. وَلَوْ طَلَّقَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَالَ: طَلَّقْتهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَكَانَ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ ثَلَاثًا يُرَدِّدُ الْحَلِفَ كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ وَأَمَّا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ فَقَالَ: أَحْلِفُ بِاَللَّهِ ثَلَاثًا لَمْ يَكُنْ حَلَفَ إلَّا يَمِينًا وَاحِدَةً وَالطَّلَاقُ مِثْلُهُ. قَالَ: وَمِثْلُ ذَلِكَ قَالَ الزُّبَيْرُ ابْنُ الْعَوَّامِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. روينا ذَلِكَ كُلَّهُ عَنْ ابْنِ وَضَّاحٍ يَعْنِي الْإِمَامَ مُحَمَّدَ بْنَ وَضَّاحٍ الَّذِي يَأْخُذُ عَنْ طَبَقَةِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وسحنون بْنِ سَعِيدٍ وَطَبَقَتُهُمْ. قَالَ: وَبِهِ قَالَ مِنْ شُيُوخِ قُرْطُبَةَ ابْنُ زنباع شَيْخُ هُدًى وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْحُسَيْنِيُّ فَقِيهُ عَصْرِهِ وَابْنُ بقي بْنِ مخلد وأصبغ ابْنُ الحباب وَجَمَاعَةٌ سِوَاهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ وَذَكَرَ هَذَا عَنْ بِضْعَةَ عَشَرَ فَقِيهًا مِنْ فُقَهَاءِ طُلَيْطِلَةَ الْمُتَعَبِّدِينَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. قُلْت: وَقَدْ ذَكَرَهُ التِّلْمِسَانِيُّ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِي مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ حَكَاهُ عَنْ الْمَازِنِيَّ وَغَيْرِهِ وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا رِوَايَةً عَنْ
مَالِكٍ وَكَانَ يُفْتِي بِذَلِكَ أَحْيَانًا الشَّيْخُ أَبُو الْبَرَكَاتِ ابْنُ تَيْمِيَّة وَهُوَ وَغَيْرُهُ يَحْتَجُّونَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ {ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقَ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا أَمْرًا كَانَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ؛ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ} . وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ {أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَاتِ مِنْ هَنَاتِك أَلَمْ يَكُنْ طَلَاقُ الثَّلَاثِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً؟ قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ وَأَجَازَهُ} . وَاَلَّذِينَ رَدُّوا هَذَا الْحَدِيثَ تَأَوَّلُوهُ بِتَأْوِيلَاتِ ضَعِيفَةٍ وَكَذَلِكَ كَلُّ حَدِيثٍ فِيهِ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَلْزَمَ الثَّلَاثَ بِيَمِينِ أَوْقَعَهَا جُمْلَةً. أَوْ أَنَّ أَحَدًا فِي زَمَنِهِ أَوْقَعَهَا جُمْلَةً فَأَلْزَمَهُ بِذَلِكَ} مِثْلَ حَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَآخَرَ عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ وَآخَرَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكُلُّهَا أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ وَيُعْرَفُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِنَقْدِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَقْوَى مَا رَدُّوهُ بِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ أَفْتَى بِلُزُومِ الثَّلَاثِ.
وَجَوَابُ الْمُسْتَدِلِّينَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُهَا وَاحِدَةً؛ وَثَبَتَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُوَافِقُ حَدِيثَ طَاوُوسٍ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ خِلَافَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَالْمَرْفُوعُ {أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا؛ فَرَّدَهَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم} قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ؛ حَدَّثَنَا أَبِي؛ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ حَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: {طَلَّقَ ركانة بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أَخُو بَنِي الْمُطَّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؛ فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا قَالَ: فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. كَيْفَ طَلَّقْتهَا؟ قَالَ: فَقَالَ: طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا قَالَ: فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ. فَإِنَّهَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ فَارْجِعْهَا إنْ شِئْت قَالَ فَرَاجَعَهَا؛} وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إنَّمَا الطَّلَاقُ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ. قُلْت وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ فِيهِ ابْنُ إسْحَاقَ حَدَّثَنِي دَاوُد؛ ودَاوُد مِنْ شُيُوخِ مَالِكٍ وَرِجَالِ الْبُخَارِيِّ؛ وَابْنِ إسْحَاقَ إذَا قَالَ. حَدَّثَنِي. فَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَهَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ؛ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو دَاوُد هَذَا الطَّرِيقَ الْجَيِّدَ؛ فَلِذَلِكَ ظَنَّ أَنَّ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً بَائِنًا أَصَحُّ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ بَلْ الْإِمَامُ أَحْمَد رَجَّحَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى تِلْكَ؛ وَهُوَ كَمَا قَالَ أَحْمَد. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَهَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ ركانة مِنْ وَجْهَيْنِ وَهُوَ رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ {رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ ركانة وَنَافِعِ بْنِ عَجِيرٍ: أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ وأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَحْلَفَهُ فَقَالَ: مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً؟} فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَجَاهِيلُ لَا تُعْرَفُ أَحْوَالُهُمْ وَلَيْسُوا فُقَهَاءَ وَقَدْ ضَعَّفَ حَدِيثَهُمْ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: حَدِيثُ ركانة فِي أَلْبَتَّةَ لَيْسَ بِشَيْءِ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدِيثُ ركانة لَا يُثْبِتُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّ ابْنَ إسْحَاقَ يَرْوِيه عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا} وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ " ثَلَاثًا " أَلْبَتَّةَ. فَقَدْ اسْتَدَلَّ أَحْمَد عَلَى بُطْلَانِ حَدِيثِ أَلْبَتَّةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَبَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا طَلَّقَ أَلْبَتَّةَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ وَقَدْ بَيَّنَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ وَهَذَا الْإِسْنَادُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ إسْنَادٌ ثَابِتٌ عِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ رُوِيَ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ} وَصَحَّحَ ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَابْنُ إسْحَاقَ إذَا قَالَ: حَدَّثَنِي فَحَدِيثُهُ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ إنَّمَا يُخَافُ عَلَيْهِ التَّدْلِيسُ إذَا عَنْعَنَ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَكِلَاهُمَا يُوَافِقُ حَدِيثَ طَاوُوسٍ عَنْهُ وَأَحْمَد كَانَ يُعَارِضُ حَدِيثَ طَاوُوسٍ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَنَحْوَهُ.
وَكَانَ أَحْمَد يَرَى جَمْعَ الثَّلَاثِ جَائِزًا ثُمَّ رَجَعَ أَحْمَد عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ تَدَبَّرْت الْقُرْآنَ فَوَجَدْت الطَّلَاقَ الَّذِي فِيهِ هُوَ الرَّجْعِيُّ. أَوْ كَمَا قَالَ. وَاسْتَقَرَّ مَذْهَبُهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَتَبَيَّنَ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ؛ لَا مَجْمُوعَةً وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ حَدِيثَانِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَنْ جَمَعَ ثَلَاثًا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا وَاحِدَةٌ. وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ بَلْ الْقُرْآنُ يُوَافِقُ ذَلِكَ وَالنَّهْيُ عِنْدَهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ. فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ الثَّابِتَةُ عَنْهُ تَقْتَضِي مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا وَاحِدَةٌ وَعُدُولُهُ عَنْ الْقَوْلِ بِحَدِيثِ ركانة وَغَيْرِهِ كَانَ أَوَّلًا لَمَّا عَارَضَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مِنْ جَوَازِ جَمْعِ الثَّلَاثِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ؛ ثُمَّ إنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْمُعَارَضَةِ وَتَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ هَذَا الْمُعَارِضِ. وَأَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ لَا يَجُوزُ: فَوَجَبَ عَلَى أَصْلِهِ الْعَمَلُ بِالنُّصُوصِ السَّالِمَةِ عَنْ الْمُعَارِضِ وَلَيْسَ يُعَلُّ حَدِيثِ طَاوُوسٍ بِفُتْيَا ابْنِ عَبَّاسٍ بِخِلَافِهِ؛ وَهَذَا عِلْمُهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ وَلَكِنْ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ عُذْرَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي الْإِلْزَامِ. بِالثَّلَاثِ. وَابْنُ عَبَّاسٍ عُذْرُهُ هُوَ الْعُذْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ لَمَّا تَتَابَعُوا فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ اسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ عَلَى ذَلِكَ فَعُوقِبُوا بِلُزُومِهِ؛ بِخِلَافِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُكْثِرِينَ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ.
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُمْ لَمَّا أَكْثَرُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَاسْتَخَفُّوا بِحَدِّهَا كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ فِيهَا ثَمَانِينَ وَيَنْفِي فِيهَا وَيَحْلِقُ الرَّأْسَ؛ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَمَا قَاتَلَ عَلِيٌّ بَعْضَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ هُوَ مِمَّا كَانُوا يُعَاقِبُونَ بِهِ أَحْيَانًا: إمَّا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ وَإِمَّا بِدُونِهِ. فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَالْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ عُقُوبَةً لَهُ لِيَمْتَنِعَ عَنْ الطَّلَاقِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَمَالِكِ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ حَرَّمُوا الْمَنْكُوحَةَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى النَّاكِحِ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فَعُوقِبَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ وَالْحُكْمَانِ لَهُمَا عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ أَنْ يُفَرِّقَا بَيْنَهُمَا بِلَا عِوَضٍ إذَا رَأَيَا الزَّوْجَ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَنْعِهِ مِنْ الظُّلْمِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الزَّوْجَةِ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِلْزَامُ عُمَرَ بِالثَّلَاثِ لَمَّا أَكْثَرُوا مِنْهُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ رَآهُ عُقُوبَةً تُسْتَعْمَلُ وَقْتَ الْحَاجَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَآهُ شَرْعًا لَازِمًا؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الرُّخْصَةَ كَانَتْ لَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يُوقِعُونَهُ إلَّا قَلِيلًا: وَهَكَذَا كَمَا اخْتَلَفَ كَلَامُ النَّاسِ فِي نَهْيِهِ عَنْ الْمُتْعَةِ: هَلْ كَانَ نَهْيَ اخْتِيَارٍ لِأَنَّ إفْرَادَ الْحَجِّ بِسَفْرَةِ وَالْعُمْرَةِ بِسَفْرَةِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ التَّمَتُّعِ؟ أَوْ كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ الْفَسْخِ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِالصَّحَابَةِ؟ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالصَّحَابَةُ قَدْ
نَازَعُوهُ فِي ذَلِكَ وَخَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى وَغَيْرِهِمْ: فِي الْمُتْعَةِ وَفِي الْإِلْزَامِ بِالثَّلَاثِ. وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ وَجَبَ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ كَمَا أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَرَى أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى وَنَازَعَهُ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَوْلِهِمْ. وَكَانَ هُوَ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَرَيَانِ أَنَّ الْجُنُبَ لَا يَتَيَمَّمُ وَخَالَفَهُمَا عَمَّارٌ وَأَبُو مُوسَى وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَطْبَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ؛ لَمَّا كَانَ مَعَهُمْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا كَثِيرٌ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَا أَخَذَ النَّاسُ بِهِ. وَاَلَّذِينَ لَا يَرَوْنَ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ لَازِمًا يَقُولُونَ: هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ: كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ: أَنَّ إيقَاعَاتِ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ لَا تَقَعُ لَازِمَةً: كَالْبَيْعِ الْمُحَرَّمِ وَالنِّكَاحِ الْمُحَرَّمِ وَالْكِتَابَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَلِهَذَا أَبْطَلُوا نِكَاحَ الشَّغَارِ وَنِكَاحَ الْمُحَلِّلِ وَأَبْطَلَ مَالِكٌ وَأَحْمَد الْبَيْعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ النِّدَاءِ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ الظِّهَارِ الْمُحَرَّمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَفْسَهُ مُحَرَّمٌ؛ كَمَا يَحْرُمُ الْقَذْفُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَسَائِرُ الْأَقْوَالِ الَّتِي هِيَ نَفْسُهَا مُحَرَّمَةٌ: فَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَسِمَ إلَى صَحِيحٍ وَغَيْرِ صَحِيحٍ؛ بَلْ صَاحِبُهَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِكُلِّ حَالٍ فَعُوقِبَ الْمُظَاهِرُ بِالْكَفَّارَةِ وَلَمْ يَحْصُلْ مَا قَصَدَهُ بِهِ مِنْ الطَّلَاقِ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهِ الطَّلَاقَ وَهُوَ مُوجِبُ لَفْظِهِ؛ فَأَبْطَلَ الشَّارِعُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مُحَرَّمٌ؛ وَأَوْجَبَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ. أَمَّا الطَّلَاقُ فَجِنْسُهُ مَشْرُوعٌ: كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ؛ فَهُوَ يَحُلُّ تَارَةً وَيَحْرُمُ تَارَةً
فَيَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ كَمَا يَنْقَسِمُ الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ. وَالنَّهْيُ فِي هَذَا الْجِنْسِ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُطْلِقُونَ بِالظِّهَارِ فَأَبْطَلَ الشَّارِعُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مُحَرَّمٌ: كَانَ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ مُحَرَّمٍ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِلَّا فَهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ الطَّلَاقَ بِلَفْظِ الظِّهَارِ؛ كَلَفْظِ الْحَرَامِ وَهَذَا قِيَاسُ أَصْلِ الْأَئِمَّةِ: مَالِكٍ؛ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَلَكِنْ الَّذِينَ خَالَفُوا قِيَاسَ أُصُولِهِمْ فِي الطَّلَاقِ خَالَفُوهُ لِمَا بَلَغَهُمْ مِنْ الْآثَارِ. فَلَمَّا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اعْتَدَّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ الَّتِي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالُوا: هُمْ أَعْلَمُ بِقِصَّتِهِ فَاتَّبَعُوهُ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ نَازَعَهُمْ يَقُولُ: مَازَالَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ يَرْوُونَ أَحَادِيثَ وَلَا تَأْخُذُ الْعُلَمَاءُ بِمَا فَهِمُوهُ مِنْهَا؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا رَوَوْهُ؛ لَا بِمَا رَأَوْهُ وَفَهِمُوهُ. وَقَدْ تَرَكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ قَوْلَهُ: " فَاقْدُرُوا لَهُ " وَتَرَكَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا تَفْسِيرَهُ لِحَدِيثِ {الْبَيِّعَيْنِ بِالْخِيَارِ} مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. وَتَرَكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ تَفْسِيرَهُ لِقَوْلِهِ: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . وَقَوْلِهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا. وَكَذَلِكَ إذَا خَالَفَ الرَّاوِي مَا رَوَاهُ كَمَا تَرَكَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا؛ مَعَ أَنَّهُ رَوَى حَدِيثَ {بَرِيرَةَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَهَا بَعْدَ أَنْ بِيعَتْ وَعَتَقَتْ} فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا رَوَوْهُ لَا مَا رَأَوْهُ وَفَهِمُوهُ.
وَلِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ عَنْ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ أَلْزَمُوا بِالثَّلَاثِ الْمَجْمُوعَةِ قَالُوا: لَا يُلْزِمُونَ بِذَلِكَ إلَّا وَذَلِكَ مُقْتَضَى الشَّرْعِ؛ وَاعْتَقَدَ طَائِفَةٌ لُزُومَ هَذَا الطَّلَاقِ وَأَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعٌ؛ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَعْلَمُوا خِلَافًا ثَابِتًا؛ لَا سِيَّمَا وَصَارَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ مَعْرُوفًا عَنْ الشِّيعَةِ الَّذِينَ لَمَّ يَنْفَرِدُوا عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِحَقِّ. قَالَ الْمُسْتَدِلُّونَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ بَعْضُ الشِّيعَةِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَقُولُونَ جَامِعُ الثَّلَاثِ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ: هَذَا الْقَوْلُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ؛ بَلْ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِجْمَاعُ عَلَى بَعْضِهِ؛ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ هَلْ يَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ؟ أَوْ يَقَعُ ثَلَاثٌ؟ وَالنِّزَاعُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ ثَابِتٌ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ؛ وَلَيْسَ مَعَ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ شَرْعًا لَازِمًا لِلْأُمَّةِ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا: مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ احْتَجَّ عَلَى هَذَا بِالْكِتَابِ وَبَعْضُهُمْ بِالسُّنَّةِ وَبَعْضُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ؛ وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِحُجَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ الْمُنَازِعَ يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا حُجَجٌ ضَعِيفَةٌ وَأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالِاعْتِبَارَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ اللُّزُومِ وَتُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا إجْمَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ بَلْ الْآثَارُ الثَّابِتَةُ عَمَّنْ أَلْزَمَ بِالثَّلَاثِ مَجْمُوعَةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِمَّا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ شَرْعًا لَازِمًا كَمَا شَرَعَ تَحْرِيمَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ؛ بَلْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِي الْعُقُوبَةِ بِإِلْزَامِ ذَلِكَ إذَا كَثُرَ وَلَمْ يَنْتَهِ النَّاسُ عَنْهُ.
وَقَدْ ذُكِرَتْ الْأَلْفَاظُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ الصَّحَابَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَلْزَمُوا بِالثَّلَاثِ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ بِإِيقَاعِهَا جُمْلَةً فَأَمَّا مَنْ كَانَ يَتَّقِي اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} فَمَنْ لَا يَعْلَمُ التَّحْرِيمَ حَتَّى أَوْقَعَهَا ثُمَّ لَمَّا عَلِمَ التَّحْرِيمَ تَابَ وَالْتَزَمَ أَنْ لَا يَعُودَ إلَى الْمُحَرَّمِ: فَهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَاقَبَ؛ وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ: مَا يُوجِبُ لُزُومَ الثَّلَاثِ لَهُ وَنِكَاحُهُ ثَابِتٌ بِيَقِينِ وَامْرَأَتُهُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْغَيْرِ بِيَقِينِ وَفِي إلْزَامِهِ بِالثَّلَاثِ إبَاحَتُهَا لِلْغَيْرِ مَعَ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَذَرِيعَةٌ إلَى
نِكَاحِ التَّحْلِيلِ
الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. و " نِكَاحُ التَّحْلِيلِ " لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ. وَلَمْ يُنْقَلْ قَطُّ أَنَّ امْرَأَةً أُعِيدَتْ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى عَهْدِهِمْ إلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ؛ بَلْ {لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ} و {لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ} وَلَمْ يَذْكُرْ فِي التَّحْلِيلِ الشُّهُودَ وَلَا الزَّوْجَةَ وَلَا الْوَلِيَّ؛ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ الَّذِي كَانَ يُفْعَلُ كَانَ مَكْتُومًا بِقَصْدِ الْمُحَلِّلِ أَوْ يَتَوَاطَأُ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُطَلِّقُ الْمُحَلَّلُ لَهُ. وَالْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا لَا يَعْلَمُونَ قَصْدَهُ وَلَوْ عَلِمُوا لَمْ يَرْضَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْتَقْبَحَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ عِنْدَ النَّاسِ؛ وَلِأَنَّ عَادَاتِهِمْ لَمْ تَكُنْ بِكِتَابَةِ الصَّدَاقِ فِي كِتَابٍ وَلَا إشْهَادٍ عَلَيْهِ؛ بَلْ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ وَيُعْلِنُونَ النِّكَاحَ وَلَا يَلْتَزِمُونَ أَنْ يُشْهِدُوا عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ وَقْتَ الْعَقْدِ كَمَا هُوَ
مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. هَكَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رضي الله عنه تَحْلِيلٌ ظَاهِرٌ وَرَأْيٌ فِي إنْفَاذِ الثَّلَاثِ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ الْمُحَرَّمِ: فَعَلَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ. أَمَّا إذَا كَانَ الْفَاعِلُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَإِنْفَاذُ الثَّلَاثِ يُفْضِي إلَى وُقُوعِ التَّحْلِيلِ الْمُحَرَّمِ - بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - وَالِاعْتِقَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَالَ مَفْسَدَةٌ حَقِيقِيَّةٌ بِمَفَاسِدَ أَغْلَظَ مِنْهَا؛ بَلْ جَعَلَ الثَّلَاثَ وَاحِدَةً فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ كَمَا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ أَوْلَى؛ وَلِهَذَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِثْلُ أَبِي الْبَرَكَاتِ يُفْتُونَ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ كَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ. وَهَذَا: إمَّا لِكَوْنِهِمْ رَأَوْهُ مِنْ " بَابِ التَّعْزِيرِ " الَّذِي يَجُوزُ فِعْلُهُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ؛ كَالزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعِينَ فِي الْخَمْرِ وَالنَّفْيِ فِيهِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ. وَإِمَّا لِاخْتِلَافِ اجْتِهَادِهِمْ: فَرَأَوْهُ تَارَةً لَازِمًا. وَتَارَةً غَيْرَ لَازِمٍ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ " شَرْعًا لَازِمًا " إنَّمَا لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ نَسْخٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِأَحَدِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْصِدَ هَذَا؛ لَا سِيَّمَا الصَّحَابَةُ؛ لَا سِيَّمَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ؛ وَإِنَّمَا يَظُنُّ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ أَهْلُ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ: كَالرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ أَوْ يُفَسِّقُونَهُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ أَحَدًا فَعَلَ ذَلِكَ
لَمْ يُقِرَّهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا إقْرَارٌ عَلَى أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ وَالْأُمَّةُ مَعْصُومَةٌ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ: كَعِيسَى بْنِ أَبَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ يُنْسَخُ بِهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُنَّا نَتَأَوَّلُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَدُلُّ عَلَى نَصٍّ نَاسِخٍ فَوَجَدْنَا مَنْ ذَكَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْإِجْمَاعَ نَفْسَهُ نَاسِخًا فَإِنْ كَانُوا أَرَادُوا ذَلِكَ فَهَذَا قَوْلٌ يَجُوزُ تَبْدِيلُ الْمُسْلِمِينَ دِينَهُمْ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى مِنْ: أَنَّ الْمَسِيحَ سَوَّغَ لِعُلَمَائِهِمْ أَنْ يُحَرِّمُوا مَا رَأَوْا تَحْرِيمَهُ مَصْلَحَةً؛ وَيُحِلُّوا مَا رَأَوْا تَحْلِيلَهُ مَصْلَحَةً وَلَيْسَ هَذَا دِينُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُسَوِّغُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ. وَمَنْ اعْتَقَدَ فِي الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ كَمَا يُسْتَتَابُ أَمْثَالُهُ؛ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْحَاكِمُ وَالْمُفْتِي فَيُصِيبُ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ وَيُخْطِئُ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ.
وَمَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " شَرْعًا مُعَلَّقًا بِسَبَبِ " إنَّمَا يَكُونُ مَشْرُوعًا عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ: كَإِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ؛ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَبَعْضُ النَّاسِ ظَنَّ أَنَّ هَذَا نُسِخَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ أَغْنَى عَنْ التَّأَلُّفِ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ وَهَذَا الظَّنُّ غَلَطٌ؛ وَلَكِنْ عُمَرُ اسْتَغْنَى فِي زَمَنِهِ عَنْ إعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ فَتَرَكَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ؛ لَا لِنَسْخِهِ كَمَا لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ عُدِمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ابْنُ السَّبِيلِ وَالْغَارِمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
و " مُتْعَةُ الْحَجِّ " قَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ نَهَى عَنْهَا وَكَانَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ يَقُولُونَ: لَمْ يُحَرِّمْهَا؛ وَإِنَّمَا قَصَدَ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالْأَفْضَلِ وَهُوَ أَنْ يَعْتَمِرَ أَحَدُهُمْ مِنْ دويرة أَهْلِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُمْرَةَ أَفْضَلُ مِنْ عُمْرَةِ الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ حَتَّى إنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد مَنْصُوصٌ عَنْهُ: أَنَّهُ إذَا اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَفْرَدَ الْحَجَّ فِي أَشْهُرِهِ: فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ مُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ؛ مَعَ قَوْلِهِمَا بِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ الْمُجَرَّدِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنَّ عُمَرَ أَرَادَ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ. قَالُوا إنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ بِهِ لَا يَجُوزُ وَأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ مِنْ الْفَسْخِ كَانَ خَاصًّا بِهِمْ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَآخَرُونَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ قَابَلُوا هَذَا وَقَالُوا: بَلْ الْفَسْخُ وَاجِبٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ أَحَدٌ إلَّا مُتَمَتِّعًا: مُبْتَدِئًا أَوْ فَاسِخًا كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَالشِّيعَةِ. و " الْقَوْلُ الثَّالِثُ ": أَنَّ الْفَسْخَ جَائِزٌ وَهُوَ أَفْضَلُ. وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُفْسَخَ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ؛ وَلَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانَ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً مُجْمَعًا عَلَيْهَا إلَّا أَنْ يَحُجَّ مُتَمَتِّعًا ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ. فَأَمَّا حَجُّ الْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ: فَفِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ كَمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَجَوَازِ الْإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الصَّوْمِ وَالْقَصْرِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَعُمَرُ لَمَّا نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ: كَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ؛ بِخِلَافِ نَهْيِهِ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَإِنَّ عَلِيًّا وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ وَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَنْكَرَ عَلِيٌّ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إبَاحَةَ الْمُتْعَةِ قَالَ: إنَّك امْرُؤٌ تَائِهٌ؛ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ مُتْعَةَ النِّسَاءِ وَحَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ عَامَ خَيْبَرَ فَأَنْكَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إبَاحَةَ الْحُمُرِ وَإِبَاحَةَ مُتْعَةِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُبِيحُ هَذَا وَهَذَا فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عَلِيٌّ ذَلِكَ وَذَكَرَ لَهُ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ الْمُتْعَةَ وَحَرَّمَ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ} وَيَوْمَ خَيْبَرَ كَانَ تَحْرِيمُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ. وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهَا حُرِّمَتْ؛ ثُمَّ أُبِيحَتْ ثُمَّ حُرِّمَتْ. فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ ثَلَاثًا؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَنَفَذْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَنْفَذَهُ عَلَيْهِمْ: هُوَ بَيَانُ أَنَّ النَّاسَ أَحْدَثُوا مَا اسْتَحَقُّوا عِنْدَهُ أَنْ يُنَفِّذَ عَلَيْهِمْ الثَّلَاثَ فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ كَالنَّهْيِ عَنْ مُتْعَةِ الْفَسْخِ؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِالصَّحَابَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ هَذَا كَانَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ. وَبِهَذَا أَيْضًا تَبْطُلُ دَعْوَى مَنْ ظَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخًا كَنَسْخِ مُتْعَةِ النِّسَاءِ. وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ عُمَرَ رَأَى ذَلِكَ لَازِمًا فَهُوَ اجْتِهَادٌ مِنْهُ اجتهده فِي الْمَنْعِ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ؛ لِظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا
وَهَذَا قَوْلٌ مَرْجُوحٌ قَدْ أَنْكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَعَ مَنْ أَنْكَرَهُ. وَهَكَذَا الْإِلْزَامُ بِالثَّلَاثِ. مَنْ جَعَلَ قَوْلَ عُمَرَ فِيهِ شَرْعًا لَازِمًا. قِيلَ لَهُ: فَهَذَا اجْتِهَادُهُ قَدْ نَازَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ وَجَبَ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَالْحُجَّةِ مَعَ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ الْمَرْجُوحَ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُمَرُ جَعَلَ هَذَا عُقُوبَةً تُفْعَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَهَذَا أَشْبَهُ الْأَمْرَيْنِ بِعُمَرِ ثُمَّ الْعُقُوبَةُ بِذَلِكَ يَدْخُلُهَا الِاجْتِهَادُ مِنْ " وَجْهَيْنِ " مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ بِذَلِكَ: هَلْ تُشْرَعُ؟ أَمْ لَا؟ فَقَدْ يَرَى الْإِمَامُ أَنْ يُعَاقِبَ بِنَوْعِ لَا يَرَى الْعُقُوبَةَ بِهِ غَيْرُهُ كَتَحْرِيقِ عَلِيٌّ الزَّنَادِقَةَ بِالنَّارِ؛ وَقَدْ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ إنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا فَمَنْ كَانَ مِنْ (الْمُتَّقِينَ اسْتَحَقَّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهَ لَهُ فَرْجًا وَمَخْرَجًا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعُقُوبَةَ. وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ تَابَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنْ لَا يُطَلِّقَ إلَّا طَلَاقًا سُنِّيًّا. فَإِنَّهُ مِنْ (الْمُتَّقِينَ فِي بَابِ الطَّلَاقِ. فَمِثْلُ هَذَا لَا يَتَوَجَّهُ إلْزَامُهُ بِالثَّلَاثِ مَجْمُوعَةً؛ بَلْ يُلْزَمُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ عَظِيمَةٌ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ مُجَلَّدَيْنِ؛ وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهَا هَاهُنَا تَنْبِيهًا لَطِيفًا. وَاَلَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّعْزِيرِ الَّذِي يَجُوزُ فِعْلُهُ بِحَسَبِ (الْحَاجَةِ: كَالزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعِينَ فِي الْخَمْرِ.
وَإِمَّا لِاخْتِلَافِ اجْتِهَادِهِمْ فَرَأَوْهُ لَازِمًا وَتَارَةً غَيْرَ لَازِمٍ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِكَوْنِ لُزُومِ الثَّلَاثِ شَرْعًا لَازِمًا كَسَائِرِ الشَّرَائِعِ: فَهَذَا لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الرَّاجِحِ لِهَذَا الْمَوْقِعِ أَنْ يَلْتَزِمَ طَلْقَةً وَاحِدَةً وَيُرَاجِعَ امْرَأَتَهُ؛ وَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَائِضًا إذَا كَانَ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ وَتَابَ مِنْ الْبِدْعَةِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا " الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ " فَمَنْشَأُ النِّزَاعِ فِي وُقُوعِهِ: أَنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ} فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: " فَلْيُرَاجِعْهَا " أَنَّهَا رَجْعَةُ الْمُطَلَّقَةِ. وَبَنَوْا عَلَى هَذَا أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ فِي الْحَيْضِ يُؤْمَرُ بِرَجْعَتِهَا مَعَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ. وَهَلْ هُوَ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ؟ أَوْ أَمْرُ إيجَابٍ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ " هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد. وَالِاسْتِحْبَابُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَالْوُجُوبُ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَهَلْ يُطَلِّقُهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي يَلِي حَيْضَةَ الطَّلَاقِ؟ أَوْ لَا يُطَلِّقُهَا إلَّا فِي طُهْرٍ مِنْ حَيْضَةٍ ثَانِيَةٍ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ " أَيْضًا هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَوَجْهَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ الثَّانِي؟ جُمْهُورُهُمْ لَا يُوجِبُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُهُ وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد؛ وَهُوَ قَوِيٌّ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَنْ يُوقِعُ الطَّلَاقَ؛ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ فِي الدَّلِيلِ.
وَتَنَازَعُوا فِي عِلَّةِ مَنْعِ طَلَاقِ الْحَائِضِ: هَلْ هُوَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ أَحْمَد؟ أَوْ لِكَوْنِهِ حَالَ الزُّهْدِ فِي وَطْئِهَا فَلَا تَطْلُقُ إلَّا فِي حَالِ رَغْبَةٍ فِي الْوَطْءِ؛ لِكَوْنِ الطَّلَاقِ مَمْنُوعًا لَا يُبَاحُ إلَّا لِحَاجَةِ كَمَا يَقُولُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد؟ أَوْ هُوَ تَعَبُّدٌ لَا يَعْقِلُ مَعْنَاهُ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: قَوْلُهُ: {مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا} لَا يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بَلْ لَمَّا طَلَّقَهَا طَلَاقًا مُحَرَّمًا حَصَلَ مِنْهُ إعْرَاضٌ عَنْهَا وَمُجَانَبَةٌ لَهَا؛ لِظَنِّهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى مَا كَانَتْ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {لِمَنْ بَاعَ صَاعًا بِصَاعَيْنِ: هَذَا هُوَ الرِّبَا فَرُدَّهُ} وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ {رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ فَجَزَّأَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَرَدَّ أَرْبَعَةً لِلرِّقِّ} وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي العاص بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ} فَهَذَا رَدٌّ لَهَا. {وَأَمَرَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَرُدَّ الْغُلَامَ الَّذِي بَاعَهُ دُونَ أَخِيهِ} . {وَأَمَرَ بَشِيرًا أَنْ يَرُدَّ الْغُلَامَ الَّذِي وَهَبَهُ لِابْنِهِ} . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ. وَلَفْظُ
" الْمُرَاجِعَةِ "
يَدُلُّ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْحَالِ الْأَوَّلِ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِعَقْدِ جَدِيدٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} وَقَدْ يَكُونُ بِرُجُوعِ بَدَنِ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ هُنَاكَ طَلَاقٌ كَمَا
إذَا أَخْرَجَ الزَّوْجَةَ أَوْ الْأَمَةَ مِنْ دَارِهِ فَقِيلَ لَهُ: رَاجِعْهَا. فَأَرْجِعْهَا كَمَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: حِينَ رَاجَعَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ. وَفِي كِتَابِ عُمَرَ لِأَبِي مُوسَى: وَأَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ. وَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ " الْمُرَاجَعَةِ " يَقْتَضِي الْمُفَاعَلَةَ. وَالرَّجْعَةُ مِنْ الطَّلَاقِ يَسْتَقِلُّ بِهَا الزَّوْجُ بِمُجَرَّدِ كَلَامِهِ فَلَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ فِيهَا لَفْظُ الْمُرَاجَعَةِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّ بَدَنَ الْمَرْأَةِ إلَيْهِ فَرَجَعَتْ بِاخْتِيَارِهَا فَإِنَّهُمَا قَدْ تَرَاجَعَا كَمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالْعَقْدِ بِاخْتِيَارِهِمَا بَعْدَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَأَلْفَاظُ الرَّجْعَةِ مِنْ الطَّلَاقِ: هِيَ الرَّدُّ وَالْإِمْسَاكُ. وَتُسْتَعْمَلُ فِي اسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَلَاقٌ وَقَالَ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَالْمُرَادُ بِهِ الرَّجْعَةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ. وَالرَّجْعَةُ يَسْتَقِلُّ بِهَا الزَّوْجُ وَيُؤْمَرُ فِيهَا بِالْإِشْهَادِ. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ ابْنَ عُمَرَ بِالْإِشْهَادِ وَقَالَ: " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا " وَلَمْ يَقُلْ: لِيَرْتَجِعَهَا " وَأَيْضًا " فَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ: كَانَ ارْتِجَاعُهَا لِيُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي زِيَادَةً وَضَرَرًا عَلَيْهَا وَزِيَادَةً فِي الطَّلَاقِ الْمَكْرُوهِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لَا لَهُ وَلَا لَهَا؛ بَلْ فِيهِ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ بِارْتِجَاعِهِ لِيُطَلِّقَ مَرَّةً ثَانِيَةً زِيَادَةُ ضَرَرٍ وَهُوَ لَمْ يَمْنَعْهُ عَنْ الطَّلَاقِ؛ بَلْ أَبَاحَهُ لَهُ فِي اسْتِقْبَالِ
الطُّهْرِ مَعَ كَوْنِهِ مُرِيدًا لَهُ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَمْسَحَهَا وَأَنْ يُؤَخِّرَ الطَّلَاقَ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُبَاحُ فِيهِ كَمَا يُؤْمَرُ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا قَبْلَ وَقْتِهِ أَنْ يَرُدَّ مَا فَعَلَ وَيَفْعَلَهُ إنْ شَاءَ فِي وَقْتِهِ. لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ} وَالطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ. وَأَمَرَهُ بِتَأْخِيرِ الطَّلَاقِ إلَى الطُّهْرِ الثَّانِي لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْوَطْءِ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِيهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَلِّقَهَا إلَّا قَبْلَ الْوَطْءِ فَلَمْ يَكُنْ فِي أَمْرِهِ بِإِمْسَاكِهَا إلَيْهِ إلَّا بِزِيَادَةِ ضَرَرٍ عَلَيْهَا إذَا طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ. " وَأَيْضًا " فَإِنَّ ذَلِكَ مُعَاقَبَةٌ لَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فَعُوقِبَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ. وَبُسِطَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاسْتِيفَاءُ كَلَامِ الطَّائِفَتَيْنِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْأَقْوَالِ وَمَأْخَذُهَا. لَا رَيْبَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ وَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى زَوَالِهِ بِالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ؛ بَلْ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ تَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ طَلَاقِ السَّكْرَانِ وَنَحْوَهُ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:
عَنْ " السَّكْرَانِ غَائِبِ الْعَقْلِ " هَلْ يَحْنَثُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذِهِ الْمُسَالَةُ فِيهَا " قَوْلَانِ " لِلْعُلَمَاءِ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ فَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُ السَّكْرَانِ وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ إذَا طَلَّقَ وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عفان؛ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فِيمَا أَعْلَمُ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: كَعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد: اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: كالطَّحَاوِي. وَهُوَ مَذْهَبُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ {مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ لَمَّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يستنكهوه} لِيَعْلَمُوا هَلْ هُوَ سَكْرَانُ؟ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ سَكْرَانَ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ؛ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ عُلِمَ أَنَّ أَقْوَالَهُ بَاطِلَةٌ كَأَقْوَالِ الْمَجْنُونِ؛ وَلِأَنَّ
السَّكْرَانَ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا فِي الشُّرْبِ فَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ {وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} . وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ تَنَاوَلَ شَيْئًا مُحَرَّمًا جَعَلَهُ مَجْنُونًا؛ فَإِنَّ جُنُونَهُ وَإِنْ حَصَلَ بِمَعْصِيَةِ فَلَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ وَمَقَاصِدَهَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ وَأَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِالسَّكْرَانِ قَوْلٌ لَيْسَ لَهُ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا؛ وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ مُحَقِّقِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ كَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي - يَجْعَلُونَ الشَّرَائِعَ فِي النَّشْوَانِ فَأَمَّا الَّذِي عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ فَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ بِلَا رَيْبٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا مِمَّنْ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ كَمَا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صِلَاتُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَنْ لَا تَصِحُّ صِلَاتُهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَقَدْ قَالَ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ " تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ ".
قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَفِيهِ النِّزَاعُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَجْوِبَةِ أَحْمَد فِيهِ كَانَ التَّوَقُّفُ. وَالْأَقْوَالُ الْوَاقِعَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: الْقَوْلُ بِصِحَّةِ تَصَرُّفَاتِهِ مُطْلَقًا: أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ. وَالْقَوْلُ بِفَسَادِهَا مُطْلَقًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا. وَالْفَرْقُ
بَيْنَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ. وَمَا يَنْفَرِدُ بِهِ وَمَا لَا يَنْفَرِدُ بِهِ. وَهَذَا التَّنَازُعُ مَوْجُودٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. ثُمَّ تَنَازَعُوا فِيمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِغَيْرِ سُكْرٍ " كَالْبَنْجِ " هَلْ يَلْحَقُ بِالسَّكْرَانِ؟ أَوْ الْمَجْنُونِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَكُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد يَتَمَسَّكُ فِي ذَلِكَ بِشَيْءِ مِنْ كَلَامِهِ؛ وَلَيْسَ عَنْهُ رِوَايَةٌ وَوَجْهًا؛ بَلْ رِوَايَتَانِ مُتَأَوَّلَتَانِ. وَتَنَازَعُوا فِيمَنْ " أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ " هَلْ يَأْثَمُ بِذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد كَالْخَلَّالِ: مَنْ يَنْصُرُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقُهُ. وَمِنْهُمْ كَالْقَاضِي مَنْ يَنْصُرُ وُقُوعَ طَلَاقِهِ. وَاَلَّذِينَ أَوْقَعُوا طَلَاقَهُ لَهُمْ " ثَلَاثَةُ. مَآخِذَ "" أَحَدُهَا " أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ. وَصَاحِبُ هَذَا قَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُعَاقِبْ أَحَدًا بِهَذَا الْجِنْسِ مِنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ أَوْ عَدَمِ إيقَاعِهِ؛ وَلِأَنَّ فِي هَذَا مِنْ الضَّرَرِ عَلَى زَوْجَتِهِ الْبَرِيئَةِ وَغَيْرِهَا مَا لَا يَجُوزُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ الشَّخْصُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ السَّكْرَانَ عُقُوبَتُهُ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْجَلْدِ وَنَحْوِهِ فَعُقُوبَتُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِحُدُودِ الشَّرِيعَةِ؛ وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا عَاقَبَتْهُ بِمَا السُّكْرُ مَظِنَّتُهُ؛ وَهُوَ الْهَذَيَانُ وَالِافْتِرَاءُ
فِي الْقَوْلِ: عَلَى أَنَّهُ إذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ. فَبَيَّنَ أَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى السُّكْرِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الِافْتِرَاءِ يَلْحَقُهُ بِالْمُقْدِمِ عَلَى الِافْتِرَاءِ؛ إقَامَةً لِمَظِنَّةِ الْحِكْمَةِ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ هُنَا خَفِيَّةٌ مُسْتَتِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُعْلَمُ افْتِرَاؤُهُ وَلَا مَتَى يَفْتَرِي وَلَا عَلَى مَنْ يَفْتَرِي؛ كَمَا أَنَّ الْمُضْطَجِعَ يُحْدِثُ وَلَا يَدْرِي هَلْ هُوَ أَحْدَثَ أَمْ لَا فَقَامَ النَّوْمُ مَقَامَ الْحَدَثِ. فَهَذَا فِقْهٌ مَعْرُوفٌ فَلَوْ كَانَتْ تَصَرُّفَاتُهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ: لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَطْلُقَ امْرَأَتُهُ سَوَاءٌ طَلَّقَ أَوْ لَمْ يُطَلِّقْ كَمَا يُحَدُّ حَدَّ الْمُفْتَرِي سَوَاءٌ افْتَرَى أَوْ لَمْ يَفْتَرِ. وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ. " الْمَأْخَذُ الثَّانِي " أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ زَوَالَ عَقْلِهِ إلَّا بِقَوْلِهِ وَهُوَ فَاسِقٌ بِشُرْبِهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ الْعَقْلِ وَالسُّكْرِ. وَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْبَاطِنِ؛ وَلَكِنْ فِي الظَّاهِرِ لَا يَقْبَلُ دَعْوَى الْمُسْقِطِ. وَمَنْ قَالَ بِهَذَا قَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ. " الْمَأْخَذُ الثَّالِثُ " وَهُوَ مَأْخَذُ الْأَئِمَّةِ مَنْصُوصًا عَنْهُمْ: الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد: أَنَّ حُكْمَ التَّكْلِيفِ جَارٍ عَلَيْهِ؛ لَيْسَ كَالْمَجْنُونِ الْمَرْفُوعِ عَنْهُ الْقَلَمُ وَلَا النَّائِمِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانُ مُعَاقِبٌ كَمَا ذَكَرَهُ الصَّحَابَةُ. وَلَيْسَ مَأْخَذٌ أَجْوَدَ مِنْ هَذَا. وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد: مَا قِيلَ فِيهِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا. وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ وَقْتَ السُّكْرِ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى فَهَذَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ مَنْ
لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا يَفْهَمُ الْخِطَابَ لَمْ يَدْرِ بِشَرْعِ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى؛ بَلْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ تَنْفِي أَنْ يُخَاطَبَ مِثْلَ هَذَا. وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ قَدْ يُؤَاخَذُ بِمَا يَفْعَلُهُ فِي سُكْرِهِ: فَهَذَا صَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ؛ لَكِنَّ هَذَا لِأَنَّهُ خُوطِبَ فِي صَحْوِهِ بِأَنْ لَا يَشْرَبَ الْخَمْرَ الَّذِي يَقْتَضِي تِلْكَ الْجِنَايَاتِ فَإِذَا فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ كَمَا قُلْت فِي سُكْرِ الْأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ: إذَا كَانَ سَبَبُ السُّكْرِ مَحْذُورًا لَمْ يَكُنْ السَّكْرَانُ مَعْذُورًا. هَذَا الَّذِي قُلْته قَدْ يَقْتَضِي أَنَّهُ فِي الْحُدُودِ كَالصَّاحِي وَهَذَا قَرِيبٌ. وَأَنَا إنَّمَا تَكَلَّمْت عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ: صِحَّتُهَا وَفَسَادُهَا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَهُوَ نَهْيٌ لَهُمْ أَنْ يَسْكَرُوا سُكْرًا يُفَوِّتُونَ بِهِ الصَّلَاةَ أَوْ نَهْيٌ لَهُمْ عَنْ الشُّرْبِ قَرِيبَ الصَّلَاةِ أَوْ نَهْيٌ لِمَنْ يَدِبُّ فِيهِ أَوَائِلُ النَّشْوَةِ. وَأَمَّا فِي حَالِ السُّكْرِ فَلَا يُخَاطَبُ بِحَالِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ وُجُوهٌ:
" أَحَدُهَا " حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لَمَّا {أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِاسْتِنْكَاهِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ} .
" الثَّانِي " أَنَّ عِبَادَتَهُ كَالصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْ قُرْبِ الصَّلَاةِ مَعَ السُّكْرِ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُهُ وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى هَذَا؛ بِخِلَافِ الشَّارِبِ غَيْرِ السَّكْرَانِ فَإِنَّ عِبَادَتَهُ تَصِحُّ بِشُرُوطِهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ صَلَاتَهُ إنَّمَا لَمْ تَصِحَّ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ؛ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ. فَنَقُولُ: كُلُّ مَنْ بَطَلَتْ
عِبَادَتُهُ لِعَدَمِ عَقْلِهِ فَبُطْلَانُ عُقُودِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى كَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ قَدْ تَصِحُّ عِبَادَاتُ مَنْ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ؛ لِنَقْصِ عَقْلِهِ: كَالصَّبِيِّ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهِ. " الثَّالِثُ " أَنَّ جَمِيعَ الْأَقْوَالِ وَالْعُقُودِ مَشْرُوطَةٌ بِوُجُودِ التَّمْيِيزِ وَالْعَقْلِ. فَمَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ وَلَا عَقْلَ لَيْسَ لِكَلَامِهِ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارٌ أَصْلًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ قَدْ زَالَ عَقْلُهُ الَّذِي بِهِ يَتَكَلَّمُ وَيَتَصَرَّفُ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ. أَوْ إثْبَاتُ مِلْكٍ أَوْ إزَالَتُهُ. وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ مَعَ تَقْرِيرِ الشَّارِعِ لَهُ. " وَالرَّابِعُ " أَنَّ الْعُقُودَ وَغَيْرَهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَشْرُوطَةٌ بالقصود. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} وَقَدْ قَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي " كِتَابِ بَيَانِ الدَّلِيلِ. عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ " وَقَرَّرَتْ: أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ؛ لَسَهْوٌ وَسَبْقُ لِسَانٍ وَعَدَمُ عَقْلٍ: فَإِنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ. وَأَمَّا إذَا قُصِدَ اللَّفْظُ وَلَمْ يُقْصَدْ مَعْنَاهُ: كَالْهَازِلِ؛ فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ. وَالْمُرَادُ هُنَا " بِالْقَصْدِ " الْقَصْدُ الْعَقْلِيِّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْعَقْلِ. فَأَمَّا الْقَصْدُ الْحَيَوَانِيُّ الَّذِي يَكُونُ لِكُلِّ حَيَوَانٍ: فَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي وُجُودِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَفْعَالِ وَهَذَا وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ فِي صِحَّةِ الْعُقُودِ وَالْأَقْوَالِ؛ فَإِنَّ الْمَجْنُونَ وَالصَّبِيَّ وَغَيْرَهُمَا لَهُمَا
هَذَا الْقَصْدُ كَمَا هُوَ لِلْبَهَائِمِ وَمَعَ هَذَا فَأَصْوَاتُهُمْ وَأَلْفَاظُهُمْ بَاطِلَةٌ مَعَ عَدَمِ التَّمْيِيزِ؛ لَكِنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ وَالْمَجْنُونَ الَّذِي يُمَيِّزُ أَحْيَانًا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ حِينَ التَّمْيِيزِ. " الْخَامِسُ " أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ؛ لَا مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ: وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ السَّكْرَانَ مُعَاقَبًا أَوْ غَيْرَ مُعَاقَبٍ لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِصِحَّةِ عُقُودِهِ وَفَسَادِهَا؛ فَإِنَّ الْعُقُودَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُثَابُ عَلَيْهَا وَلَا الْجِنَايَاتِ الَّتِي يُعَاقَبُ عَلَيْهَا؛ بَلْ هِيَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَالْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ وُجُودِ الْخَلْقِ؛ فَإِنَّ الْعُهُودَ وَالْوَفَاءَ بِهَا أَمْرٌ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ الْآدَمِيِّينَ إلَّا بِهَا؛ لِاحْتِيَاجِ بَعْضِ النَّاسِ إلَى بَعْضٍ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ؛ وَإِنَّمَا تَصْدُرُ عَنْ الْعَقْلِ. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقْلٌ وَلَا تَمْيِيزٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَاهَدَ وَلَا حَلَفَ وَلَا بَاعَ وَلَا نَكَحَ وَلَا طَلَّقَ وَلَا أَعْتَقَ.
يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَانَ كَلَامُ السَّكْرَانِ بَاطِلًا بِالِاتِّفَاقِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا تَكَلَّمَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه فِي سُكْرِهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ: هَلْ أَنْتُمْ إلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي. لَمْ يَكُنْ مُؤَاخَذًا عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَمَّا خَلَطَ الْمُخَلِّطُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} قَبْلَ النَّهْيِ لَمْ يُعْتَبْ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ لَوْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَعَاهَدُوا وَشَرَطُوا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ بِالِاتِّفَاقِ وَمَنْ سَكِرَ سُكْرًا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ مِثْلُ أَنْ يَشْرَبَ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُسْكِرُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَأَمَّا مَنْ سَكِرَ بِشُرْبِ مُحَرَّمٍ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَأْثَمُ
بِذَلِكَ وَيَسْتَحِقُّ مِنْ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا جَاءَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذَا الْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ سَكِرَ سُكْرًا يُعْذَرُ فِيهِ فَأَمَّا كَوْنُ عَهْدِهِ الَّذِي يُعَاهِدُ بِهِ الْآدَمِيِّينَ مُنْعَقِدًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَيَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُهُ: فَهَذَا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ سُكْرِ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ؛ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا كَانَ الْمُوجِبُ لِصِحَّتِهِ أَنَّ صَاحِبَهُ فَعَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ مُمَيِّزٌ؛ لَا أَنَّهُ بَرٌّ وَفَاجِرٌ. وَالشَّرْعُ لَمْ يَجْعَلْ السَّكْرَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّاحِي أَصْلًا.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ اخْتَصَمَ مَعَ زَوْجَتِهِ خُصُومَةً شَدِيدَةً؛ بِحَيْثُ تَغَيَّرَ عَقْلُهُ فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا: فَهَلْ يَجِبُ بِذَلِكَ أَمْ لَا.
فَأَجَابَ:
إذَا بَلَغَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ لَا يَعْقِلَ مَا يَقُولُ - كَالْمَجْنُونِ - لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ رحمه الله:
عَنْ رَجُلٍ غَضِبَ فَقَالَ: طَالِقٌ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ زَوْجَتَهُ؛ وَاسْمَهَا؟
فَأَجَابَ:
إنْ لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ تَطْلِيقَهَا لَمْ يَقَعْ بِهَذَا اللَّفْظِ طَلَاقٌ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ؟
فَأَجَابَ:
إذَا أُكْرِهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَى الطَّلَاقِ لَمْ يَقَعْ بِهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكِ. وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ حِينَ الطَّلَاقِ قَدْ أَحَاطَ بِهِ أَقْوَامٌ يُعْرَفُونَ بِأَنَّهُمْ يُعَادُونَهُ أَوْ يَضْرِبُونَهُ وَلَا يُمْكِنُهُ إذْ ذَاكَ أَنْ يَدْفَعَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ وَادَّعَى أَنَّهُمْ أَكْرَهُوهُ عَلَى الطَّلَاقِ: قُبِلَ قَوْلُهُ. فَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ بِالطَّلَاقِ يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ وَادَّعَى الْإِكْرَاهَ: قُبِلَ قَوْلُهُ وَفِي تَحْلِيفِهِ نِزَاعٌ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ مُسِكَ وَضُرِبَ وَسَجَنُوهُ وَغَصَبُوهُ عَلَى طَلَاقِ زَوْجَتِهِ فَطَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً وَرَاحَتْ وَهِيَ حَامِلَةٌ مِنْهُ؟
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذَا الطَّلَاقُ لَا يَقَعُ. وَأَمَّا نِكَاحُهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَهُوَ نِكَاحٌ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ وَقَعَ وَيُعَزَّرُ مَنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الطَّلَاقِ وَمَنْ تَوَلَّى هَذَا النِّكَاحَ الْمُحَرَّمَ الْبَاطِلَ. وَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَقْضِيَ الْعِدَّةَ مِنْ الْأَوَّلِ بِالْوَضْعِ. وَالْعِدَّةُ مِنْ الثَّانِي فِيهَا خِلَافٌ. إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ النِّكَاحَ مُحَرَّمٌ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا إنْ كَانَ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ النِّكَاحِ فَلَا بُدَّ أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي.
وَسُئِلَ رحمه الله:
عَنْ رَجُلٍ قَالَ: أَنَا مَا أُرِيدُك قُومِي؛ رُوحِي إلَى أَهْلِك أَنَا أَبَا أُطَلِّقُكِ وَنَوَى بِهَذَا اللَّفْظِ الطَّلَاقَ: فَهَلْ يُشْرَعُ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَيَتَزَوَّجَهَا بِصَدَاقِ ثَانٍ. أَفْتُونَا؟
فَأَجَابَ:
الْوَعْدُ بِالطَّلَاقِ لَا يَقَعُ وَلَوْ كَثُرَتْ أَلْفَاظُهُ وَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَذَا الْوَعْدِ وَلَا يُسْتَحَبُّ. وَأَمَّا إذَا أَوْقَعَ بِهَا الطَّلَاقَ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ: اذْهَبِي إلَى بَيْتِ أُمِّك وَأَرَادَ يَذْكُرُ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا؛ لَا أَنَّهُ سَيُطَلِّقُهَا: فَهَذَا يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا لَمْ يَنْوِ أَكْثَرَ وَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ بِلَا رِضَاهَا وَبِلَا وَلِيٍّ وَلَا مَهْرٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ وَلَهُ أَوْلَادٌ وَوَالِدَتُهُ تَكْرَهُ الزَّوْجَةَ وَتُشِيرُ عَلَيْهِ بِطَلَاقِهَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ طَلَاقُهَا؟
فَأَجَابَ:
لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِقَوْلِ أُمِّهِ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَبَرَّ أُمَّهُ وَلَيْسَ تَطْلِيقُ امْرَأَتِهِ مِنْ بَرِّهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ رحمه الله:
عَنْ امْرَأَةٍ وَزَوْجِهَا مُتَّفِقِينَ وَأُمُّهَا تُرِيدُ الْفُرْقَةَ فَلَمْ تُطَاوِعْهَا الْبِنْتُ: فَهَلْ عَلَيْهَا إثْمٌ فِي دُعَاءِ أُمِّهَا عَلَيْهَا؟
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا تَزَوَّجَتْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَ أَبَاهَا وَلَا أُمَّهَا فِي فِرَاقِ زَوْجِهَا وَلَا فِي زِيَارَتِهِمْ وَلَا يَجُوزُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ؛ بَلْ طَاعَةُ زَوْجِهَا عَلَيْهَا إذَا لَمْ يَأْمُرْهَا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ أَحَقُّ مِنْ طَاعَةِ أَبَوَيْهَا {وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا رَاضٍ دَخَلَتْ الْجَنَّةَ} وَإِذَا كَانَتْ الْأُمُّ تُرِيدُ التَّفْرِيقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا فَهِيَ
مِنْ جِنْسِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ لَا طَاعَةَ لَهَا فِي ذَلِكَ وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهَا. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَا مُجْتَمِعَيْنِ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَوْ يَكُونَ أَمْرُهُ لِلْبِنْتِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالْأُمُّ تَأْمُرُهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ نَوَى أَنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ إذَا حَاضَتْ وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِطَلَاقِ؛ فَلَمَّا أَنْ حَاضَتْ عَلِمَ أَنَّهَا طَلُقَتْ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَقَالَ لِلشُّهُودِ: آنَ طَلْقَة زَوْجَتِي. قَالُوا: مَتَى طَلَّقْتهَا؟ قَالَ: أَوَّلَ أَمْسِ؛ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ فَلَمَّا مَضَى حَيْضَتَانِ غَيْرَ الْحَيْضَةِ الَّتِي ظَنَّ أَنَّهَا طَلُقَتْ فِيهَا زَوَّجَهَا الشُّهُودُ بِرَجُلِ آخَرَ ثُمَّ مَكَثَتْ عِنْدَهُ وَطَلَّقَهَا ثُمَّ وَفَتْ عِدَّتَهَا ثُمَّ أَرَادَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ رَدَّهَا: فَهَلْ هِيَ حَلَالٌ لَهُ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ أَمْ يَجِبُ عَقْدٌ جَدِيدٌ.؟
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا إذَا نَوَى أَنَّهُ سَيُطَلِّقُهَا إذَا حَاضَتْ فَهَذَا لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ. وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ تِلْكَ النِّيَّةَ طَلَاقٌ فَأَقَرَّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِتِلْكَ النِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الْإِقْرَارِ فِي الْبَاطِنِ؛ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْحُكْمِ. وَإِذَا لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى زَوْجِيَّتِهِ فِي الْبَاطِنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَأُمُّهُ مَا تُرِيدُ الزَّوْجَةَ فَطَلَّقَ الزَّوْجَةَ ثُمَّ قَالَ. كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِنْ هَذِهِ الْمَدِينَةِ الَّتِي دَاخِلِ السُّورِ: لَا امْرَأَتُهُ وَلَا غَيْرُهَا. فَإِنْ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ أَوْ تَزَوَّجَ غَيْرَهَا مِنْ الْمَدِينَةِ يَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا؟
فَأَجَابَ:
بَلْ يَتَزَوَّجُ إنْ شَاءَ مِنْ الْمَدِينَةِ؛ وَإِنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهَا وَيَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا.
وَسُئِلَ رحمه الله:
عَنْ رَجُلٍ تَخَاصَمَ مَعَ زَوْجَتِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ: هِيَ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً فَسَبَقَ لِسَانُهُ فَقَالَ ثَلَاثَةً؛ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نِيَّتَهُ: فَمَا الْحُكْمُ؟
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا سَبَقَ لِسَانُهُ بِالثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَإِنَّمَا قَصَدَ وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ؛ بَلْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: طَاهِرٌ. فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِطَالِقِ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ:
عَنْ امْرَأَةٍ دَايَنَتْ زَوْجَهَا ثُمَّ قَالَتْ لَهُ: إنِّي أَخَافُ أَنَّك لَا تُوَفِّينِي. فَقَالَ لَهَا: إنْ لَمْ أُوَفِّيك إلَى آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ هَذَا وَإِلَّا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَالزَّوْجُ غَائِبٌ فِي قوص وَمَا وَكَّلَ أَحَدًا: فَهَلْ إذَا أَبْرَأَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مِنْ الدِّينِ وَمَضَى الشَّهْرُ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا تَبَرَّعَ أَحَدٌ (بِقَضَاءِ الدَّيْنِ: فَهَلْ يَسْقُطُ الدَّيْنُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُضِيِّ الشَّهْرِ؟ أَوْ يَقَعُ؟
فَأَجَابَ:
أَمَّا إذَا أَبْرَأَتْهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ؛ لِوَجْهَيْنِ: " أَحَدِهِمَا " أَنَّهُ بِالْإِبْرَاءِ تَعَذَّرَ الْوَفَاءُ فَصَارَ الْإِيفَاءُ مُمْتَنِعًا. " الثَّانِي " أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَى فِعْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُورِ بِفِعْلِهِ؛ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِوَفَاءِ الدَّيْنِ مَا كَانَ ثَابِتًا؛ فَكَذَلِكَ الْيَمِينُ وَعُرْفُ النَّاسِ فَهَذَا كَهَذَا؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ إنَّمَا يَقْصِدُ بِهَذَا فِي الْعَادَةِ تَبْرِئَةَ ذِمَّتِهِ وَقَطْعَ مُطَالَبَةِ الْغَرِيمِ لَهُ وَوَفَاءَهُ إذَا كَانَ الدَّيْنُ بَاقِيًا. وَكَذَلِكَ إذَا وَفَى الدَّيْنَ عَنْهُ مُوَفٍّ: فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ الدَّيْنِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ؛ كَمَا يَبْرَأُ بِالْإِبْرَاءِ وَتَعَذَّرَ الْإِيفَاءُ مِنْ جِهَتِهِ وَحَصَلَ مَقْصُودُ الْغَرِيمِ فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَضَاءَ الدَّيْنِ عَلَى الْغَرِيمِ كَقَضَائِهِ حَيْثُ قَالَ: {أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ {عَلَى أُمِّك دَيْنٌ فقضيتيه عَنْهَا أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْهُ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ اللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا وَهِيَ بِكْرٌ: فَهَلْ لَهُ سَبِيلٌ فِي مُرَاجَعَتِهَا؟
فَأَجَابَ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ، الطَّلَاقُ ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ سَوَاءٌ فِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِذَلِكَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.
وَسُئِلَ رحمه الله:
عَنْ رَجُلٍ عَقَدَ الْعَقْدَ عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ بَالِغًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ عَقَدَ عَلَيْهَا شَخْصٌ آخَرُ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا: فَهَلْ يَجُوزُ لِلَّذِي طَلَّقَهَا أَوَّلًا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ: إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَهُوَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَيُدْخَلَ بِهَا فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ عَلَيَّ حَرَامٌ. فَهَلْ تَحْرُمُ امْرَأَتُهُ وَأَمَتُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ:
أَمَّا غَيْرُ الزَّوْجَةِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا نِزَاعٌ. هَلْ تَطْلُقُ؟ أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ؟ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ. هُوَ طَلَاقٌ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَمَذْهَبُ أَحْمَد عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ؛ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ فَفِيهِ نِزَاعٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ.
وَسُئِلَ رحمه الله:
عَنْ رَجُلٍ خَاصَمَ زَوْجَتَهُ وَضَرَبَهَا فَقَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي. فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ: فَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ:
أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ. قِيلَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ إذَا أَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا. وَقِيلَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَهَا أَوْلَادٌ وَبَنَاتٌ مِنْهُ وَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا ثُمَّ إنَّهُ كَتَبَ وَكَالَةً لِزَوْجَتِهِ الْجَدِيدَةِ وَقَالَ: مَتَى رَدَدْت أُمَّ أَوْلَادِي كَانَ طَلَاقُهَا بِيَدِك وَوَكَّلَهَا فِي طَلَاقِهَا مُدَّةَ عَشَرَةِ سِنِينَ؛ وَقَدْ طَلَّقَ الَّتِي بِيَدِهَا الْوَكَالَةُ: فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الْوَكَالَةُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا صَحَّتْ: فَهَلْ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِطَلَاقِ الْمُوَكَّلَةِ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ رحمه الله:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ يَظُنُّ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الْوَكَالَةَ بِحَالِهَا؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا وَكَّلَ امْرَأَتَهُ فِي بَيْعٍ وَنَحْوَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ بِالتَّطْلِيقِ كَمَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ؛ لَكِنْ هَذِهِ لَيْسَتْ تِلْكَ. وَالصَّوَابُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمَسْئُولُ عَنْهَا أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالتَّطْلِيقِ لِأَنَّهُ هُنَا لَمْ يُرِدْ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَقَدْ اسْتَنَابَ غَيْرَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ مَتَاعَهُ فَيُوكِلُ شَخْصًا؛ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَمْكِينُهَا هِيَ مِنْ الطَّلَاقِ لِيَكُونَ أَمْرُهَا بِيَدِ هَذِهِ الزَّوْجَةِ فَإِنْ شَاءَتْ طَلُقَتْ وَإِنْ شَاءَتْ لَمْ تُطَلِّقْهَا؛ وَهُوَ قَدْ اشْتَرَطَ لَهَا أَنْ يَكُونَ أَمْرُ هَذِهِ بِيَدِهَا؛ لِئَلَّا تُبْقِيَ زَوْجَتَهُ إلَّا بِرِضَاهَا. فَالْمَقْصُودُ أَنِّي لَا أَتَزَوَّجُهَا إلَّا بِرِضَاك. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنِّي لَا أَجْمَعَ بَيْنَك وَبَيْنَهَا؛ لِمَا تَكْرَهُ الْمَرْأَةُ مِنْ الضَّرَّةِ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ مَوَانِعِ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْعَقْدِ مِنْ الْقَسْمِ وَنَحْوِهِ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يُبْقِ لَهَا عَلَيْهِ حَقُّ قَسْمٍ
وَلَا نَحْوَهُ فَلَا تُزَاحِمُهَا تِلْكَ فِي الْحُقُوقِ وَلَا تَكُونُ ضَرَّةً لَهَا وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا فِي تَزَوُّجِهِ بِتِلْكَ. فَإِنَّ الرَّجُلَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَقْصِدُ إرْضَاءَ الْمَرْأَةَ بِتَرْكِ زَوْجَتِهِ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ فَأَمَّا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَلَا يَقْصِدُ إرْضَاءَهَا فَكَيْفَ وَهُوَ قَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهَذَا غَايَةُ إسْخَاطِهَا فَمَنْ أَسْخَطَهَا بِذَلِكَ كَيْفَ يَقْصِدُ إرْضَاءَهَا بِمَا هُوَ دُونَهُ وَبِهَذَا وَنَحْوِهِ يُعْلَمُ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنَّ هَذَا إنَّمَا جُعِلَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا مَا دَامَتْ هَذِهِ الْمُمْكِنَةُ زَوْجَةً؛ فَإِذَا صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً لَمْ يَكُنْ بِيَدِهَا شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ تِلْكَ. وَهَذَا كُلُّهُ إذَا جُعِلَ هَذَا الشَّرْطُ لَازِمًا فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ شَرْطًا لَازِمًا فَيَكُونُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا ابْتِدَاءً: أَمْرُك بِيَدِك. أَوْ: أَمْرُ فُلَانَةَ بِيَدِك. وَهَذَا لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ. وَأَمَّا صُورَةُ السُّؤَالِ فِيهِ أَنَّهُ مَشْرُوطٌ فِي الْعَقْدِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ طَوَائِفَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَعَمْرِو بْنِ العاص وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَطَاوُوسٍ؛ وَالْأَوْزَاعِي وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ: إذَا اشْتَرَطَ لَهَا أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا كَانَ الشَّرْطُ صَحِيحًا. وَإِذَا تَزَوَّجَ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ كَوْنِهِ يُشْتَرَطُ لَهَا أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ فَأَمْرُ الزَّوْجَةِ بِيَدِهَا؛ وَمَقْصُودُهَا وَاحِدٌ؛ وَفِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ إنَّمَا يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ مَا دَامَتْ زَوْجَةً.
وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فَعِنْدَهُمَا هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ لَا يُلْزِمُ؛ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا كَمَا لَوْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ. وَالْوَكَالَةُ عَقْدٌ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ عَقْدَ الْوَكَالَةِ. وَإِذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَمْرُك بِيَدِك فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا: هُوَ كَالتَّوْكِيلِ. وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إنَّهُ كَالتَّمْلِيكِ. فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ يَدِهَا وَلَكِنْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَقَعَتْ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا لِمَنْ يَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْعَقْدِ لَهَا مَا تَمْلِكُ بِهِ الطَّرْقَ إذَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا. وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ نِكَاحُهَا بَاقِيًا. فَإِذَا أَبَانَهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الشَّرْطِ حَقٌّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ كَلَامٌ وَكَانَ عَلَى عَزْمِ السَّفَرِ فَقَالَ لِوَكِيلِهِ: إنْ كَانَتْ تَرْضَى بِهَذِهِ النَّفَقَةِ الْعَادَةِ فَسَلِّمْ إلَيْهَا النَّفَقَةَ وَإِنْ لَمْ تَرْضَ بِالنَّفَقَةِ فَسَلِّمْ إلَيْهَا كِتَابَهَا وَأَنَّ الْوَكِيلَ بَعْدَمَا سَافَرَ الْمُوَكِّلُ سَلَّمَ إلَيْهَا كِتَابَهَا وَطَلَّقَ عَلَيْهَا طَلْقَة رَجْعِيَّةً وَسَيَّرَ عِلْمَ الْمُوَكِّلُ أَنَّهُ قَدْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَجْعِيَّةً فَلَمَّا عَلِمَ الْمُوَكِّلُ مَا هَانَ عَلَيْهِ فَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ رَاجَعَهَا وَسَيَّرَ طَلَبَهَا فَلَمَّا سَمِعَ الْوَكِيلُ أَنَّهُ رَاجَعَ زَوْجَتَهُ ذَكَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا: فَهَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الْمُرَاجَعَةُ لِزَوْجَتِهِ بَعْدَ قَوْلِ الْوَكِيلِ ذَلِكَ؟
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَوْلُهُ: يُسَلِّمُ إلَيْهَا كِتَابَهَا. كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ فَإِذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ: إنَّهُ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ: مَلَكَ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً وَلَمْ يَمْلِكْ الْوَكِيلُ أَنْ يُطَلِّقَ ثَلَاثًا إلَّا بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ. وَإِذَا قَالَ لِلْوَكِيلِ لَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا قَبْلَ قَوْلِهِ؛ وَلَمْ يُمْكِنْ الْوَكِيلُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا وَإِذَا طَلَّقَهَا الْوَكِيلُ وَاحِدَةً ثُمَّ رَاجَعَهَا الزَّوْجُ صَحَّتْ الرَّجْعَةُ.
بَابُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:
عَنْ يَمِينِ الْغَمُوسِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَعَنْ رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: لَا يَدْخُلُ أَهْلُك بَيْتِي فَصَعُبَ عَلَيْهِ: فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ مَا قَالَهُ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَالَهُ.
فَأَجَابَ:
الْأَيْمَانُ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا النَّاسُ نَوْعَانِ: " أَحَدُهُمَا " أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ. و " الثَّانِي " أَيْمَانُ الْمُشْرِكِينَ فَالْقِسْمُ الثَّانِي الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ: كَالْحَلِفِ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ وَالْآبَاءِ وَالسَّيْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْلِفُ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ لَا حُرْمَةَ لَهَا؛ بَلْ هِيَ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ حَنِثَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ مَنْ حَلَفَ بِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُوَحِّدَ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ. {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ
وَأَكْثَرِهِمْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنْهَا؛ بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا قَالَ: وَهَذَا لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنْ الْكَذِبِ. وَالنَّذْرُ لِلْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمُ مِنْ الْحَلِفِ بِهَا فَمَنْ نَذَرَ لِمَخْلُوقِ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ وَلَا وَفَاءَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ: مِثْلَ مَنْ يُنْذِرُ لِمَيِّتِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ كَمَنْ يُنْذِرُ لِلشَّيْخِ جاكير. وَأَبِي الْوَفَاءِ أَوْ الْمُنْتَظِرِ أَوْ السِّتِّ نَفِيسَةَ أَوْ لِلشَّيْخِ رَسْلَانَ أَوْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ: زَيْتًا أَوْ شَمْعًا أَوْ سُتُورًا أَوْ نَقْدًا: ذَهَبًا أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: فَكُلُّ هَذِهِ النُّذُورِ مُحَرَّمَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَجِبُ؛ بَلْ وَلَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يُوفِي بِالنَّذْرِ إذَا كَانَ لِلَّهِ عز وجل وَكَانَ طَاعَةً؛ فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ عِبَادَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ إلَّا بِمَا شَرَعَ. فَمَنْ نَذَرَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ أَعْظَمُ مِنْ شِرْكِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ كَالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَلَوْ نَذَرَ مَا لَيْسَ عِبَادَةً - كَمَا لَوْ نَذَرَتْ الْمَرْأَةُ صَوْمَ أَيَّامِ الْحَيْضِ - لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ صِيَامُ أَيَّامِ الْحَيْضِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِيه} وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ إلَى قَبْرِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ شَيْخٍ مِنْ الْمَشَايِخِ؛ أَوْ مَشْهَدِهِ؛ أَوْ مَقَامِهِ أَوْ مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ بِنَذْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.
وَكَذَلِكَ
مَنْ نَذَرَ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا
أَوْ صَدَقَةً أَوْ اعْتِكَافًا أَوْ أُضْحِيَّةً أَوْ هَدْيًا أَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ إلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ الْمَقْدِسِ: فَفِيهِ " قَوْلَانِ " لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ. " أَحَدُهُمَا " لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ بِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمَنْ أَصْلُهُ أَنْ لَا يَجِبَ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ: كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ: فَيَجِبُ بِالنَّذْرِ لِأَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَعِنْدَ مَالِكٍ؛ فَلِهَذَا وَجَبَ عِنْدَهُ. وَإِتْيَانُ الْمَسْجِدِ لَيْسَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ فَلَا يَجِبُ عِنْدَهُ بِالنَّذْرِ. و " الْقَوْلُ الثَّانِي " يَجِبُ الْوَفَاءُ إذَا نَذَرَ إتْيَانَ الْمَسْجِدَيْنِ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَاعَةٌ لِلَّهِ. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ} هَذَا إنْ كَانَ قَصَدَ أَنْ يُسَافِرَ لِلْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ وَلِلِاعْتِكَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ نَفْسَ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا لِلْعِبَادَةِ فِي مَسْجِدِهِ لَمْ يَفِ بِهَذَا النَّذْرِ؛ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ وَلَيْسَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
فَمَنْ نَذَرَ سَفَرًا إلَى بُقْعَةٍ لِيُعَظِّمَهَا غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ كَالسَّفَرِ إلَى الطُّورِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ أَوْ غَارِ حِرَاءٍ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَنَّثُ فِيهِ أَوْ غَارِ ثَوْرٍ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ} لَمْ يَفِ بِهَذَا النَّذْرِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ فَكَيْفَ بِمَا سَوَّى ذَلِكَ مِنْ الْغِيَرَانِ وَالْكُهُوفِ وَكَذَلِكَ لَوْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ عليه السلام أَوْ قَبْرِ أَبِي بريد أَوْ قَبْرِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ أَوْ قُبُورِ أَهْلِ الْبَقِيعِ؛ فَإِنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ مَشْرُوعَةٌ لِمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا وَكَانَ مَقْصُودُهُ الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ. فَأَمَّا السَّفَرُ إلَيْهَا فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ (هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَعَنْهُ تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ.
فَصْلٌ:
" النَّوْعُ الثَّانِي " أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ حَلَفَ بِاسْمِ اللَّهِ فَهِيَ أَيْمَانٌ مُنْعَقِدَةٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ. وَإِذَا حَلَفَ بِمَا يَلْتَزِمُهُ لِلَّهِ كَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ. أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ. أَوْ: عَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ. أَوْ: فَنِسَائِي طَوَالِقُ: أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ. أَوْ يَقُولُ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا. أَوْ
الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا. أَوْ إلَّا فَعَلْت كَذَا. وَإِنْ فَعَلْت كَذَا فَنِسَائِي طَوَالِقُ. أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهِيَ أَيْمَانٌ مُنْعَقِدَةٌ. وَقَالَ طَائِفَةٌ: بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ فَلَا تَنْعَقِدُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّ عُمَرَ وَابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ. وَكَانُوا يَأْمُرُونَ مَنْ حَلَفَ بِالنَّوْعِ الثَّانِي أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا يَنْهَوْنَهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ وَالنَّذْرِ لِلَّهِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ} فَقَوْلُ الْقَائِلِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا. إنْ قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ فَهُوَ يَمِينٌ؛ كَمَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا. أَوْ إنْ أَقْتُلَ فُلَانًا فَعَلَيَّ كَفَّارَةٌ: فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الخراسانيون فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. فَاَلَّذِينَ قَالُوا: هَذَا يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ. مِنْهُمْ مَنْ أَلْزَمَ الْحَالِفَ بِمَا الْتَزَمَهُ فَأَلْزَمَهُ إذَا حَنِثَ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا. وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النَّذْرِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَبُو ثَوْرٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ كُلُّهَا فِيهَا كَفَّارَةٌ إذَا حَنِثَ وَلَا يَلْزَمُهُ إذَا حَنِثَ لَا نَذْرٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ وَلَا حَرَامٌ. وَهَذَا مَعْنَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَقَدْ ثَبَتَ النَّقْلُ عَنْهُمْ صَرِيحٌ بِذَلِكَ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ وَالنَّذْرِ. وَتَعْلِيلُهُمْ وَعُمُومُ كَلَامِهِمْ
يَتَنَاوَلُ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ طَلَاقًا كَمَا ثَبَتَ عَنْ طَاوُوسٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَجَعْفَرِ ابْنِ مُحَمَّدٍ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ أَلْزَمَ الْكَفَّارَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُلْزِمْهُ الْكَفَّارَةَ. فَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ أَكْثَرُ مِنْ " أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ " قِيلَ: يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا؛ كَقَوْلِ الْأَرْبَعَةِ. وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا؛ كَقَوْلِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقِيلَ: إنْ قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ لَمْ يَلْزَمْهُ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ؛ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ " الْيَمِينُ ".
فَفِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ " قَوْلَانِ " أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ فَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى مَاضٍ أَوْ حَاضِرٍ قَصْدُهُ بِهِ الْخَبَرَ - لَا الْحَضَّ وَالْمَنْعَ - كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَقَدْ فَعَلْت كَذَا. أَوْ لَمْ أَفْعَلْهُ. وَقَوْلُهُ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَقَدْ فَعَلْت كَذَا. أَوْ لَمْ أَفْعَلْهُ. أَوْ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَقَدْ فَعَلْت كَذَا. فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَقِدًا صِدْقَ نَفْسِهِ؛ أَوْ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ؛ فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ صِدْقَ نَفْسِهِ " فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ". " أَحَدُهَا " لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَيْمَانِ؛ وَهَذَا أَظْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَد. فَمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ أَوْ غَيْرِهِمَا
عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ. " وَالثَّانِي " يَكُونُ كَالْحَلِفِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْجَمِيعِ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَد. فَعَلَى هَذَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِيمَا يُكَفِّرُهُ " وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ " أَنَّ يَمِينَهُ إذَا كَانَتْ مُكَفِّرَةً كَالْحَلِفِ بِسْمِ اللَّهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ بَلْ هَذَا مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ؛ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُكَفِّرَةٍ كَالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ فَإِذَا كَانَتْ الْيَمِينُ غَمُوسًا - وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ كَاذِبًا عَالِمًا بِكَذِبِ نَفْسِهِ - فَهَذِهِ الْيَمِينُ يَأْثَمُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ مِنْهَا وَهِيَ كَبِيرَةٌ مِنْ الْكَبَائِرِ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ} ثُمَّ إنْ كَانَتْ مِمَّا يُكَفِّرُ: فَفِيهَا كَفَّارَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَقَالُوا: هَذِهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. قَالُوا: وَالْكَبَائِرُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا كَمَا لَا كَفَّارَةَ فِي السَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْعَمْدِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَإِذَا حَلَفَ بِالْتِزَامِ يَمِينٍ غَمُوسٍ كَالصُّورَةِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا السَّائِلُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: الْحِلُّ عَلَيْهِ حَرَامٌ مَا فَعَلْت كَذَا. أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مَا فَعَلْت كَذَا. أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا. فَمَالِي صَدَقَةٌ. أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ. أَوْ فَنِسَائِي طَوَالِقُ. أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ. فَقِيلَ: تَلْزَمُهُ هَذِهِ اللَّوَازِمُ إذَا قُلْنَا لَا كَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ؛ وَإِنْ قُلْنَا: هَذِهِ أَيْمَانٌ مُكَفِّرَةٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ لَخَلَتْ هَذِهِ الْأَيْمَانُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَلُزُومُ مَا الْتَزَمَهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ " جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ " وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيَّ: مَنْ حَلَفَ بِالْكُفْرِ يَمِينًا غَمُوسًا كَفَّرَ. " وَالْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ هَذَا كَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِاَللَّهِ هِيَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَلَا يَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ النَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْحَرَامِ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَقْصِدْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ نَذْرٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ وَلَا حَرَامٌ سَوَاءٌ كَانَتْ الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةً أَوْ كَانَتْ غَمُوسًا أَوْ كَانَتْ لَغْوًا وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنَّذْرُ لِمَنْ قَصَدَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ " نَوْعَانِ " نَوْعٌ يُقْصَدُ بِهِ وُقُوعُ الْجَزَاءِ إذَا وَقَعَ الشَّرْطُ: فَهَذَا تَعْلِيقٌ لَازِمٌ. فَإِذَا عَلَّقَ النَّذْرَ أَوْ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَزِمَهُ. فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا تَطَهَّرْت مِنْ الْحَيْضِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. أَوْ إذَا تَبَيَّنَ حَمْلُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ عِنْدَ الصِّفَةِ وَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَهُ بِالْهِلَالِ وَكَذَلِكَ لَوْ نَهَاهَا عَنْ أَمْرٍ وَقَالَ: إنْ فَعَلْته فَأَنْتِ طَالِقٌ: وَهُوَ إذَا فَعَلَتْهُ يُرِيدُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَنَحْوَ هَذَا.
بِخِلَافِ مِثْلَ أَنْ يَنْهَاهَا عَنْ فَاحِشَةٍ أَوْ خِيَانَةٍ أَوْ ظُلْمٍ فَيَقُولُ: إنْ فعلتيه أَنْتِ طَالِقٌ. فَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَكْرَهُ طَلَاقَهَا؛ لَكِنْ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ الْمُنْكَرَ كَانَ طَلَاقُهَا أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ أَوْقَعُوا الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ إذَا كَانَ قَصْدُهُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الشَّرْطِ كَمَا أَلْزَمُوهُ بِالنَّذْرِ؛ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ قَصْدُهُ الْيَمِينَ. وَاَلَّذِي قَصْدُهُ الْيَمِينَ هُوَ مِثْلَ الَّذِي يَكْرَهُ الشَّرْطَ وَيَكْرَهُ الْجَزَاءَ وَإِنْ وَقْعَ الشَّرْطُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إنْ سَافَرْت مَعَكُمْ فَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَمَالِي صَدَقَةٌ وَعَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ. وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا يُعْرَفُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ تَلْزَمَهُ هَذِهِ الْأُمُورُ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ. فَهَذَا هُوَ الْحَالِفُ. فَيَجِبُ الْفَرْقُ فِي جَمِيعِ التَّعْلِيقَاتِ وَمَنْ قَصْدُهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ وَمَنْ قَصْدُهُ الْيَمِينَ. فَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِصِفَةِ يَقْصِدُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَهَا: وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا كَانَ حَلَالًا وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ أَوْ حَامِلٌ قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا. " وَأَمَّا
الطَّلَاقُ الْحَرَامُ "
كَمَا لَوْ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ أَوْ الطُّهْرِ بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا وَقَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا: فَفِيهِ نِزَاعٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَمَا لَا يَلْزَمُ النِّكَاحُ الْمُحَرَّمُ وَنَحْوُهُ. وَجَمْعُ الثَّلَاثِ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. فَإِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا: فَهَلْ يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ؟ أَوْ وَاحِدَةٌ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا وَاحِدَةٌ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
إذَا " حَلَفَ الرَّجُلُ بِالطَّلَاقِ " فَقَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَن كَذَا؛ أَوْ لَا أَفْعَلُهُ. أَوْ الطَّلَاقُ لَازِمٌ لِي لَأَفْعَلَنهُ. أَوْ إنْ لَمْ أَفْعَلْهُ فَالطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي. أَوْ لَازِمٌ وَنَحْوُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْتِزَامَ الطَّلَاقِ فِي يَمِينِهِ ثُمَّ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ: فَهَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؟ فِيهِ " قَوْلَانِ " لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مَذَاهِبِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: كَالْقَفَّالِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي صَاحِبِ " التَّتِمَّةِ " وَبِهِ يُفْتِي وَيَقْضِي فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ فِي بِلَادِ الشَّرْقِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْحِجَازِ وَالْيُمْنِ وَغَيْرِهَا. وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ - كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ - كَانُوا يُفْتُونَ وَيَقْضُونَ فِي بِلَادِ فَارِسَ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ إلَى الْيَوْمِ فَإِنَّهُمْ خَلْقٌ عَظِيمٌ وَفِيهِمْ قُضَاةٌ وَمُفْتُونَ عَدَدٌ كَثِيرٌ. وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ كَطَاوُوسِ وَغَيْرِ طَاوُوسٍ، وَبِهِ يُفْتِي كَثِيرٌ مِنْ
عُلَمَاءِ الْمَغْرِبِ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِ مِصْرَ يُفْتِي بِذَلِكَ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ وَأُصُولُ مَذْهَبِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
وَلَوْ " حَلَفَ بِالثَّلَاثِ " فَقَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي ثَلَاثًا لَأَفْعَلَن كَذَا ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ فَكَانَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ يُفْتُونَ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الثَّلَاثُ؛ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ يُوقِعُ بِهِ وَاحِدَةً وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي التَّنْجِيزِ؛ فَضْلًا عَنْ التَّعْلِيقِ وَالْيَمِينِ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ اتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد ودَاوُد فِي التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ وَالْحَلِفِ. وَمِنْ السَّلَفِ طَائِفَةٌ مِنْ أَعْيَانِهِمْ فَرَّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا. وَاَلَّذِينَ لَمَّ يُوقِعُوا طَلَاقًا بِمَنْ قَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَن كَذَا: مِنْهُمْ مَنْ لَا يُوقِعُ بِهِ طَلَاقًا؛ وَلَا يَأْمُرُهُ بِكَفَّارَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْمُرُهُ بِكَفَّارَةٍ. وَبِكُلِّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَفْتَى كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ بُسِطَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَأَلْفَاظُهُمْ وَمَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ؛ وَالْكُتُبُ الْمَوْجُودُ ذَلِكَ فِيهَا؛ وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ تَبْلُغُ عِدَّةَ مُجَلَّدَاتٍ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْته فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ وَهُوَ فِيمَا إذَا حَلَفَ بِصِيغَةِ اللُّزُومِ مِثْلَ قَوْلِهِ. الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهَذَا النِّزَاعُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ أَوْ مَحْلُوفًا بِهِ: فَفِي الْمَذْهَبَيْنِ: هَلْ ذَلِكَ صَرِيحٌ؟ أَوْ كِنَايَةٌ؟ أَوْ لَا صَرِيحٌ وَلَا كِنَايَةٌ فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَاهُ؟ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد قَوْلَانِ هَلْ ذَلِكَ صَرِيحٌ؛ أَوْ كِنَايَةٌ. وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ أَوْ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْحَلِفُ: فَالنِّزَاعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ هَذِهِ الصِّيغَةِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ مَنْ أَفْتَى بِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَخَالَفَ كُلَّ قَوْلٍ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ؛ وَاقْتَفَى مَا لَا عِلْمَ بِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} بَلْ أَجْمَعَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَتْبَاعُهُمْ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ مِثْلَهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَنْ قَضَى بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمِهِ. وَمَنْ أَفْتَى بِهِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا سَاغَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا عَلَى مَنْ قَلَّدَهُ. وَلَوْ قَضَى أَوْ أَفْتَى بِقَوْلِ سَائِغٍ يَخْرُجُ عَنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا ثَبَتَ فِيهِ النِّزَاعُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُخَالِفْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا مَعْنَى ذَلِكَ؛ بَلْ كَانَ الْقَاضِي بِهِ وَالْمُفْتِي بِهِ يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ - كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - فَإِنَّ هَذَا يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَيُفْتِيَ بِهِ.
وَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ نَقْضُ حُكْمِهِ إذَا حَكَمَ وَلَا مَنْعُهُ مِنْ الْحُكْمِ بِهِ وَلَا مِنْ الْفُتْيَا بِهِ وَلَا مَنْعِ أَحَدٍ مِنْ تَقْلِيدِهِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يُسَوِّغُ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ بَلْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالرَّدِّ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَهُوَ الرَّدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُرَدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ بَلْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُ قَوْلِنَا دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا - كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَتَجِبُ اسْتِتَابَةُ مِثْلِ هَذَا وَعُقُوبَتُهُ كَمَا يُعَاقَبُ أَمْثَالُهُ. فَإِذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَتَمَسَّكَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؛ لَمْ يُحْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ - كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - وَلَيْسَ مَعَ صَاحِبِ الْقَوْلِ الْآخَرِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَبْطُلُ بِهِ قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ حُجَّةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ الَّذِي يَحْتَجُّ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ جَوَّزَ أَنْ يَمْنَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْقَوْلِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَوْجَبَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ الْقَوْلِ الَّذِي يُنَاقِضُهُ بِلَا حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ تُوجِبُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ هَذَا الْقَوْلِ وَتُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ ذَلِكَ الْقَوْلِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ انْسَلَخَ مِنْ الدِّينِ تَجِبُ اسْتِتَابَتُهُ وَعُقُوبَتُهُ
كَأَمْثَالِهِ وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا فَيُعْذَرُ بِالْجَهْلِ أَوَّلًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَدَلَائِلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنْ أَصَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ: فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَكُلُّ يَمِينٍ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ عز وجل: مِثْلُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالْحَلِفِ بِالْحَجِّ وَالْمَشْيِ وَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ سَوَاءٌ حَلَفَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ فَقَالَ: الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي: أَوْ الْعِتْقُ يَلْزَمُنِي: لَأَفْعَلَن كَذَا. أَوْ حَلَفَ بِصِيغَةِ الْعِتْقِ فَقَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَرَامُ وَنِسَائِي طَوَالِقُ أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ وَعَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاتَّفَقَتْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ يَسُوغُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ جَمِيعِهَا بِأَنَّهُ إذَا حَنِثَ لَا يَلْزَمُهُ مَا حَلَفَ بِهِ؛ بَلْ إمَّا أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَإِمَّا أَنْ تَجْزِيَهُ الْكَفَّارَةُ. وَيَسُوغُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ. وَمَا زَالَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُفْتِي بِذَلِكَ مِنْ حِينِ حَدَثَ الْحَلِفُ بِهَا. وَإِلَى هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ. مِنْهُمْ مَنْ يُفْتِي بِالْكَفَّارَةِ فِيهَا. وَمِنْهُمْ يُفْتِي بِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَلَا لُزُومَ الْمَحْلُوفِ بِهِ كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُفْتِي بِلُزُومِ الْمَحْلُوفِ بِهِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يُفْتِي بِهَا بِالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْحَرَامِ وَالنَّذْرِ. وَأَمَّا إذَا حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
فَالْأَيْمَانُ " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ": أَمَّا الْحَلِفُ بِاَللَّهِ فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ؛ إلَّا الْحَلِفَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " قَوْلَانِ " فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَقَدْ عَدَّى بَعْضُ أَصْحَابِ ذَلِكَ إلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ. وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا عَقَدَ مِنْ الْأَيْمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ هَذِهِ الْأَيْمَانُ فَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فِي بَعْضِهَا: فَهَذَا كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ النِّزَاعِ يَدَّعِي فِيهَا الْإِجْمَاعَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ النِّزَاعَ وَمَقْصُودُهُ أَنِّي لَا أَعْلَمُ نِزَاعًا. فَمَنْ عَلِمَ النِّزَاعَ وَأَثْبَتَهُ كَانَ مُثْبِتًا عَالِمًا وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ فِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ مَنْ أَلْزَمَ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ نَصُّ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ: كَانَ الْقَوْلُ بِنَفْيِ لُزُومِهِ سَائِغًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَمْنَعَ قَاضِيًا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ وَلَا يَمْنَعَ مُفْتِيًا يَصْلُحُ لِلْفُتْيَا أَنْ يُفْتِيَ بِذَلِكَ؛ بَلْ هُمْ يُسَوِّغُونَ الْفُتْيَا وَالْقَضَاءَ فِي أَقْوَالٍ ضَعِيفَةٍ؛ لِوُجُودِ الْخِلَافِ فِيهَا فَكَيْفَ يَمْنَعُونَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الشَّرْعِيُّ وَالْقَوْلُ بِهِ ثَابِتٌ عَنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ بَلْ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ثَبَتَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَفْتَوْا فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الطَّلَاقِ: أَنَّهُ لَا يُلْزِمُ الْحَالِفَ بِهِ؛ بَلْ يَجْزِيه
كَفَّارَةُ يَمِينٍ. فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُمْ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ؟ وَهَلْ يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِيمَنْ حَلَفَ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ الطَّاعَاتِ - كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ هَذِهِ الطَّاعَاتِ بَلْ يَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ وَيَقُولُونَ فِيمَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ؛ بَلْ يُبْغِضُهُ: إنَّهُ يَلْزَمُ مَنْ حَلَفَ بِهِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ بِالْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ كُفْرٌ وَلَا إسْلَامٌ. فَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ وَفِعْلُهُ لَمْ يَصِرْ يَهُودِيًّا بِالِاتِّفَاقِ. وَهَلْ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ "" أَحَدُهُمَا " يَلْزَمُهُ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. " وَالثَّانِي " لَا يَلْزَمُهُ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ؛ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَد؛ وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَصِيرُ كَافِرًا إذَا حَنِثَ وَحَلَفَ بِهِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ. قَالُوا: لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ لِلْكُفْرِ. وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: لَا يَكْفُرُ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْكُفْرُ؛ فَلِبُغْضِهِ لَهُ حَلَفَ بِهِ. وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ إنَّمَا يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِفَرْطِ بُغْضِهِ لَهُ. وَبِهَذَا فَرَّقَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ " نَذْرِ التَّبَرُّرِ " و " نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " قَالُوا: لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَصْدُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ؛ بِخِلَافِ الثَّانِي. فَإِذَا قَالَ: إنْ شَفَى اللَّهُ
مَرِيضِي فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ. أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ: لَزِمَهُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ. أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ. وَقَصْدُهُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ فَهَذَا مَوْضِعُ النِّزَاعِ: هَلْ يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ فِي الصُّورَتَيْنِ؟ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ فِي الصُّورَتَيْنِ؟ أَوْ يَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ؟ أَوْ يَجْزِيه الْكَفَّارَةُ فِي تَعْلِيقِ الْوُجُوبِ دُونَ تَعْلِيقِ الْوُقُوعِ؟ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي الطَّلَاقِ وَلَوْ قَالَ الْيَهُودِيُّ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ وَفَعَلَهُ لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْحَالِفَ حَلَفَ بِمَا يَلْزَمُهُ وُقُوعُهُ وَهَكَذَا إذَا قَالَ الْمُسْلِمُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ؛ وَأَنَا يَهُودِيٌّ: وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ نِسَاءَهُ وَيَعْتِقَ عَبِيدَهُ وَيُفَارِقَ دِينَهُ مَعَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وُقُوعُ الْعِتْقِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَبْعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ: مِثْلَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ رَبِيبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَجَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا قَالُوا هُمْ وَأَئِمَّةُ التَّابِعِينَ إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ الْمَحْلُوفُ بِهِ؛ بَلْ يَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ - مَعَ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. فَكَيْفَ يَسُوغُ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ أَنْ يُلْزِمَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ مَا لَهُمْ مِنْ مَصْلَحَةِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ فَإِنَّ
فِي ذَلِكَ مِنْ صِيَانَةِ أَنْفُسِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ وَصِلَةِ أَرْحَامِهِمْ؛ وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: مَا يُوجِبُ تَرْجِيحَهُ لِمَنْ لَا يَكُونُ عَارِفًا بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ عَارِفًا بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَإِنَّ الْقَائِلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ الْحُجَّةِ مَا يُقَاوِمُ قَوْلَ مَنْ نَفَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ. وَلَوْ اجْتَهَدَ مَنْ اجْتَهَدَ فِي إقَامَةِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ سَالِمٍ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْحَالِفِ لَعَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا عَجَزَ عَنْ تَحْدِيدِ ذَلِكَ. فَهَلْ يَسُوغُ لِأَحَدِ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا يُخَالِفُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَيَخْرُجَ عَنْ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَهُوَ لَمْ يُعَارَضْ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا وَلَا مَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَيُقَدِّمُ عَلَيْهِ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ لَيْسَ لِأَحَدِ الْمَنْعُ مِنْ الْفُتْيَا بِهِ وَالْقَضَاءِ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ رُجْحَانُهُ فَكَيْفَ إذَا ظَهَرَ رُجْحَانُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ مَا لِلَّهِ فِيهِ مِنْ الْمِنَّةِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ} وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: {إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلَتْهَا} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لَأَنْ يَلِجَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ الْكَفَّارَةَ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ} . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مَنْ اسْتَلَجَ فِي أَهْلِهِ فَهُوَ أَعْظَمُ إثْمًا. فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " يَلِجُ " مِنْ اللَّجَاجِ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ هَذِهِ الْأَيْمَانُ " نُذُرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ ".
وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ". " صِيغَةُ التَّنْجِيزِ. وَالْإِرْسَالُ " كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ مُطَلَّقَةٌ فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. " الثَّانِي " صِيغَةُ قَسَمٍ كَقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَن كَذَا. أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا. فَهَذَا يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَاتِّفَاقِ طَوَائِفِ الْفُقَهَاءِ وَاتِّفَاقِ الْعَامَّةِ وَاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَرْضِ. " الثَّالِثُ " صِيغَةُ تَعْلِيقٍ كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ. فَهَذِهِ إنْ كَانَ قَصْدُهُ بِهِ الْيَمِينَ - وَهُوَ الَّذِي يَكْرَهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا كَمَا يَكْرَهُ.
الِانْتِقَالَ عَنْ دِينِهِ - إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ. أَوْ يَقُولُ الْيَهُودِيُّ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ: فَهُوَ يَمِينٌ حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. فَإِنَّ الْيَمِينَ هِيَ مَا تَضَمَّنَتْ حَضًّا أَوْ مَنْعًا أَوْ تَصْدِيقًا أَوْ تَكْذِيبًا بِالْتِزَامِ مَا يَكْرَهُ الْحَالِفُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ. فَالْحَالِفُ لَا يَكُونُ حَالِفًا إلَّا إذَا كَرِهَ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ. فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا سَوَاءٌ كَانَ يُرِيدُ الشَّرْطَ وَحْدَهُ وَلَا يَكْرَهُ الْجَزَاءَ عِنْدَ وُقُوعِهِ أَوْ كَانَ يُرِيدُ الْجَزَاءَ عِنْدَ وُقُوعِهِ غَيْرَ مُرِيدٍ لَهُ أَوْ كَانَ مُرِيدًا لَهُمَا. فَأَمَّا إذَا كَانَ كَارِهًا لِلشَّرْطِ وَكَارِهًا لِلْجَزَاءِ مُطْلَقًا - يَكْرَهُ وُقُوعَهُ؛ وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ الشَّرْطِ؛ أَوْ لِيَحُضَّ بِذَلِكَ - فَهَذَا يَمِينٌ. وَإِنْ قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ وُجُودِ الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ؛ إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِذَا طَهُرْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِذَا زَنَيْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَقَصْدُهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْفَاحِشَةِ؛ لَا مُجَرَّدُ الْحَلِفِ عَلَيْهَا: فَهَذَا لَيْسَ بِيَمِينِ؛ وَلَا كَفَارَّةٍ فِي هَذَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ؛ بَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا وَجَدَ الشَّرْطَ عِنْدَ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
فَالْيَمِينُ الَّتِي يَقْصِدُ بِهَا الْحَضَّ أَوْ الْمَنْعَ أَوْ التَّصْدِيقَ؛ أَوْ التَّكْذِيبَ - بِالْتِزَامِهِ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ مَا يَكْرَهُ وُقُوعَهُ - سَوَاءٌ كَانَتْ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ؛ أَوْ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ: يَمِينٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْخَلْقِ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ كَوْنَ الْكَلَامِ يَمِينًا مِثْلَ كَوْنِهِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا وَخَبَرًا. وَهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ: الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا تَتَنَوَّعُ اللُّغَاتُ فِي الْأَلْفَاظِ؛ لَا فِي الْمَعَانِي؛ بَلْ مَا كَانَ مَعْنَاهُ يَمِينًا أَوْ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا عِنْدَ الْعَجَمِ فَكَذَلِكَ مَعْنَاهُ يَمِينٌ أَوْ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَهَذَا أَيْضًا يَمِينُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَمِينٌ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ وَيَمِينٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كُلِّهِمْ. وَإِذَا كَانَ " يَمِينًا " فَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِلْيَمِينِ إلَّا حُكْمَانِ. إمَّا أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةً مُحْتَرَمَةً فَفِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ مُنْعَقِدَةً مُحْتَرَمَةً - كَالْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ: مِثْلَ الْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ - فَهَذَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ. فَأَمَّا يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ؛ مُحْتَرَمَةٌ غَيْرُ مُكَفِّرَةٍ: فَهَذَا حُكْمٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ سَالِمٌ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَامِ. فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ دَخَلَتْ فِي قَوْله تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَيْمَانِهِمْ؛ بَلْ كَانَتْ مِنْ الْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ: فَلَا يَجِبُ بِالْحِنْثِ لَا كَفَّارَةَ وَلَا غَيْرَهَا فَتَكُونُ مَهْدَرَةً.
فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِلْزَامَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لِلْحَالِفِ فِي يَمِينِهِ حَكَمٌ يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَحَسَبُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ. فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ الْعَمَلُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْقَوْلِ: فَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ مَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ النِّزَاعِ وَالْأَدِلَّةِ. وَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ وَخَفِيَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ كَانَ حَسْبُهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ سَائِغًا لَا يَمْنَعُ مِنْ الْحُكْمِ بِهِ وَالْفُتْيَا بِهِ. أَمَّا إلْزَامُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَمَنْعُهُمْ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ: فَهَذَا خِلَافُ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ. فَمَنْ مَنَعَ الْحُكْمَ وَالْفُتْيَا بِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَتَقْلِيدِ مَنْ نَفَى بِذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَهَذَا حَسْبُهُ أَنْ يُعْذَرَ؛ لَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَمُعَانِدٌ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ إذَا ظَهَرَ لَهُ وَلَا يُصْغِي لِمَنْ يَقُولُهُ لِيَعْرِفَ مَا قَالَ؛ بَلْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} فَإِنَّهُ: إمَّا مُقَلِّدٌ وَإِمَّا مُجْتَهِدٌ. فَالْمُقَلِّدُ لَا يُنْكِرُ الْقَوْلَ الَّذِي يُخَالِفُ مَتْبُوعُهُ إنْكَارَ مَنْ يَقُولُ هُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُحْرَمَ الْقَوْلَ بِهِ وَيُوجِبَ الْقَوْلَ بِقَوْلِ سَلَفِهِ. وَالْمُجْتَهِدُ يَنْظُرُ وَيُنَاظِرُ وَهُوَ مَعَ ظُهُورِ قَوْلِهِ لَا يُسَوِّغُ قَوْلَ مُنَازِعِيهِ الَّذِي سَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَهُوَ مَا لَمْ يَظْهَرْ أَنَّهُ خَالَفَ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا فَمَنْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ
التَّقْلِيدِ السَّائِغِ وَالِاجْتِهَادِ كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ الَّذِينَ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} وَكَانَ مَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ. وَمَنْ قَالَ إنَّهُ اتَّبَعَ هَذِهِ الْفُتْيَا فَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ وَلَدُ زِنًا: كَانَ هَذَا الْقَائِلُ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْمُشَاقَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ إذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ بِهِ قُرْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى يَقْصِدُ بِهِ الْقُرْبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى: لَزِمَهُ فِعْلُهُ أَوْ الْكَفَّارَةُ. وَلَوْ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ: كَالتَّطْلِيقِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَمِثْلِ ذَلِكَ: لَمْ يَلْزَمْهُ؛ بَلْ يَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ يُكْرَهُ وُقُوعُهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ كَمَا يُكْرَهُ وُقُوعُ الْكُفْرِ: فَلَا يَقَعُ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَمَّنْ قَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ: هَلْ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ كَمَا قَالَ؟ أَمْ كَيْفَ الْحُكْمُ؟.
فَأَجَابَ:
وَأَمَّا قَوْلُ الْحَالِفِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي عَلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَلْزَمُهُ بِالطَّلَاقِ؛ لَا مَنْ يَجُوزُ فِي الْحَلِف بِهِ كَفَّارَةٌ. أَوْ فَعَلَيَّ
الْحَجُّ: عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَلْزَمُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ. أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى أَغْلَظِ قَوْلٍ قِيلَ فِي الْإِسْلَامِ. أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا أَنِّي لَا أَسْتَفْتِي مَنْ يُفْتِينِي بِالْكَفَّارَةِ فِي الْحَلِف بِالطَّلَاقِ. أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا وَلَا أَسْتَفْتِي مَنْ يُفْتِينِي بِحِلِّ يَمِينِي أَوْ رَجْعَةٍ فِي يَمِينِي وَنَحْوَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَغْلُظُ فِيهَا اللُّزُومُ تَغْلِيظًا يُؤَكِّدُ بِهِ لُزُومَ الْمُعَلِّقِ عِنْدَ الْحِنْثِ؛ لِئَلَّا يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ عِنْدَ الْيَمِينِ يُرِيدُ تَأْكِيدَ يَمِينِهِ بِكُلِّ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّأْكِيدِ وَيُرِيدُ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ الْحِنْثِ فِيهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُهُ وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يُخْرِجُ هَذِهِ الْعُقُودَ عَنْ أَنْ تَكُونَ أَيْمَانًا مُكَفِّرَةً وَلَوْ غَلَّظَ الْأَيْمَانَ الَّتِي شَرَعَ اللَّهُ فِيهَا الْكَفَّارَةَ بِمَا غَلَّظَ وَلَوْ قَصَدَ أَلَّا يَحْنَثَ فِيهَا بِحَالِ: فَذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ شَرْعَ اللَّهِ. وَأَيْمَانُ الْحَالِفِينَ لَا تُغَيِّرُ شَرَائِعَ الدِّينِ؛ بَلْ مَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِهِ قَبْلَ يَمِينِهِ فَقَدْ أَمَرَ بِهِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَالْيَمِينُ مَا زَادَتْهُ إلَّا تَوْكِيدًا. وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُفْتِيَ أَحَدًا بِتَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَلَا بِفِعْلِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَوْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ؟ وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ: مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَطَاعَةِ السُّلْطَانِ وَمُنَاصَحَتِهِ وَتَرْكِ الْخُرُوجِ وَمُحَارَبَتِهِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ كَانَتْ قَبْلَ الْيَمِينِ وَاجِبَةً وَهِيَ بَعْدَ الْيَمِينِ أَوْجَبُ.
وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا قَبْلَ الْيَمِينِ فَهُوَ بَعْدَ الْيَمِينِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ يُبَايِعُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى طَاعَتِهِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ وَلَوْ لَمْ يُبَايِعُوهُ فَالْبَيْعَةُ أَكَّدَتْهُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَنْقُضَ مِثْلَ هَذَا الْعَقْدِ. وَكَذَلِكَ مُبَايَعَةُ السُّلْطَانِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَنْقُضَهَا وَلَوْ لَمْ يَحْلِفْ فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ بَلْ لَوْ عَاقَدَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ عَلَى بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ نِكَاحٍ: لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ وَلَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا الْعَقْدِ فَكَيْفَ بِمُعَاقَدَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ: مِنْ طَاعَتِهِمْ وَمُنَاصَحَتِهِمْ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ. فَكُلُّ عَقْدٍ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ بِدُونِ الْيَمِينِ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ كَانَتْ الْيَمِينُ مُوَكَّدَةً لَهُ وَلَوْ لَمْ يَجُزْ فَسْخُ مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ} . وَمَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الْيَمِينِ إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ حَرَامًا؛ بَلْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فِعْلُهُ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ وَاجِبًا عَلَيْهِ بَلْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَلَا يَفْعَلُهُ وَلَوْ غَلَّظَ فِي الْيَمِينِ بِأَيِّ شَيْءٍ غَلَّظَهَا؛ فَأَيْمَانُ الْحَالِفِينَ لَا تُغَيَّرُ شَرَائِعَ الدِّينِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُحَرِّمَ بِيَمِينِهِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَلَا يُوجِبَ بِيَمِينِهِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ. هَذَا هُوَ شَرْعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَمَّا شَرْعُ مَنْ قَبْلَهُ فَكَانَ فِي شَرْعِ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ شَيْئًا حُرِّمَ عَلَيْهِ وَإِذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِمْ كَفَّارَةٌ فَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} فَإِسْرَائِيلُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا فَحُرِّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّنَا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَهَذَا الْفَرْضُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا كَفَّارَةٌ بَلْ كَانَتْ الْيَمِينُ تُوجِبُ عَلَيْهِمْ فِعْلَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَمَرَ اللَّهُ أَيُّوبَ أَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ ضِغْثًا فَيَضْرِبُ بِهِ وَلَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَوْ كَانَ فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَانَ ذَلِكَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرْبِ امْرَأَتِهِ وَلَوْ بِضِغْثِ؛ فَإِنَّ أَيُّوبَ كَانَ قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَا يُوجِبُونَهُ بِالْيَمِينِ بِمَنْزِلَةِ مَا
يَجِبُ بِالشَّرْعِ. كَانَتْ الْيَمِينُ عِنْدَهُمْ كَالنَّذْرِ. وَالْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ قَدْ يُرَخَّصُ فِيهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يُرَخَّصُ فِي الْجَلْدِ الْوَاجِبِ فِي الْحَدِّ إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ؛ بِخِلَافِ مَا الْتَزَمَهُ الْإِنْسَانُ بِيَمِينِهِ فِي شَرْعِنَا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالشَّرْعِ فَيَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ وَلَهُ مَخْرَجٌ مِنْ ذَلِكَ فِي شَرْعِنَا بِالْكَفَّارَةِ. وَلَكِنْ بَعْضُ عُلَمَائِنَا لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ الْأَيْمَانَ مِمَّا لَا مَخْرَجَ لِصَاحِبِهِ مِنْهُ بَلْ يَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ فَطِنُوا أَنَّ شَرْعَنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَشَرْعِ بَنِي إسْرَائِيلَ احْتَاجُوا إلَى الِاحْتِيَالِ فِي الْأَيْمَانِ: إمَّا فِي لَفْظِ الْيَمِينِ وَإِمَّا بِخُلْعِ الْيَمِينِ وَإِمَّا بِدَوْرِ الطَّلَاقِ وَإِمَّا بِجَعْلِ النِّكَاحِ فَاسِدًا فَلَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ. وَإِنْ غَلَبُوا عَنْ هَذَا كُلِّهِ دَخَلُوا فِي التَّحْلِيلِ وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ وَمَا وَضَعَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وَصَارَ مَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ هُوَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَمَا أَحْدَثَ غَيْرُهُ غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ مَعَ شَرْعِهِ؛ وَإِنْ كَانَ
الَّذِينَ قَالُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ لَهُمْ سَعْيٌ مَشْكُورٌ وَعَمَلٌ مَبْرُورٌ وَهُمْ مَأْجُورُونَ عَلَى ذَلِكَ مُثَابُونَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ مَسَائِلِ النِّزَاعِ الَّتِي تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ فَأَصْوَبُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ: مَنْ أَصَابَ هَذَا الْقَوْلَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنْ لَمْ يُؤَدِّهِ اجْتِهَادُهُ إلَّا إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ؛ وَالْقَوْلُ الْمُوَافِقُ لِسُنَّتِهِ مَعَ الْقَوْلِ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ سَهْلٍ مُخَصَّبٍ يُوَصِّلُ إلَى الْمَقْصُودِ وَتِلْكَ الْأَقْوَالُ فِيهَا بُعْدٌ وَفِيهَا وُعُورَةٌ وَفِيهَا حدوثة. فَصَاحِبُهَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّعَبِ وَالْجُهْدِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي الطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَلِهَذَا أَذَاعُوا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ مِنْ لُزُومِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: مِنْ الْقَطِيعَةِ وَالْفُرْقَةِ؛ وَتَشْتِيتِ الشَّمْلِ وَتَخْرِيبِ الدِّيَارِ وَمَا يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ وَالسَّحَرَةُ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَمَا يَظْهَرُ مَا فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ لِكُلِّ عَاقِلٍ. ثُمَّ إمَّا أَنْ يَلْزَمُوا هَذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَيَدْخُلُوا فِي الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ. وَإِمَّا أَنْ يَدْخُلُوا فِي مُنْكَرَاتِ أَهْلِ الِاحْتِيَالِ وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ مِنْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِمَا أَغْنَاهُمْ بِهِ مِنْ الْحَلَالِ. " فَالطُّرُقُ ثَلَاثَةٌ ": أَمَّا الطَّرِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمَحْضَةُ الْمُوَافِقَةُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهِيَ طَرِيقُ أَفَاضِلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانِ. وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَالْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ وَإِنْ كَانَ مَنْ سَلَكَهَا مِنْ سَادَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا أُتُوا بِهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ
الْمَأْمُورِ بِهِ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} . وَهَذَا كَالْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ إذَا أَدَّى اجْتِهَادَ كُلِّ فِرْقَةٍ إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ: فَكُلُّهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مُقِيمُونَ لِلصَّلَاةِ؛ لَكِنْ الَّذِي أَصَابَ الْقِبْلَةَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَهُ أَجْرَانِ وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ: بِمَعْنَى أَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ؛ وَلَكِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَكْفِيرَهُ مِنْ الْأَيْمَانِ هُوَ مُكَفَّرٌ وَلَوْ غَلَّظَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ غَلَّظَ وَلَوْ الْتَزَمَ أَنْ لَا يُكَفِّرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَهُ فَإِنَّ الْتِزَامَهُ أَنْ لَا يُكَفِّرَهُ الْتِزَامٌ لِتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ بَلْ عَلَيْهِ فِي يَمِينِهِ الْكَفَّارَةُ. فَهَذَا الْمُلْتَزِمُ لِهَذَا الِالْتِزَامِ الْغَلِيظِ هُوَ يَكْرَهُ لُزُومَهُ إيَّاهُ وَكُلَّمَا غَلَّظَ كَانَ لُزُومُهُ لَهُ أَكْرَهَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ لِقَصْدِهِ الْحَظْرَ وَالْمَنْعَ؛ لِيَكُونَ لُزُومُهُ لَهُ مَانِعًا مِنْ الْحِنْثِ؛ لَمْ يَلْتَزِمْهُ لِقَصْدِ لُزُومِهِ إيَّاهُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَصْدَ يُنَاقِضُ عَقْدَ الْيَمِينِ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ لَا يَحْلِفُ إلَّا بِالْتِزَامِ مَا يَكْرَهُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ؛ وَلَا يَحْلِفُ قَطُّ إلَّا بِالْتِزَامِهِ مَا يُرِيدُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ فَلَا يَقُولُ حَالِفٌ إنْ فَعَلْت كَذَا غَفَرَ اللَّهُ لِي وَلَا أَمَاتَنِي عَلَى الْإِسْلَامِ؛ بَلْ يَقُولُ: إنْ فَعَلْت
كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ نِسَائِي طَوَالِقُ أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ. أَوْ كُلُّ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ أَوْ عَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ حَافِيًا مَكْشُوفَ الرَّأْسِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَوْ فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى أَغْلَظِ قَوْلٍ. وَقَدْ يَقُولُ مَعَ ذَلِكَ: عَلَيَّ أَنْ لَا أَسْتَفْتِيَ مَنْ يُفْتِينِي بِالْكَفَّارَةِ وَيَلْتَزِمُ عِنْدَ غَضَبِهِ مِنْ اللَّوَازِمِ مَا يَرَى أَنَّهُ لَا مَخْرَجَ لَهُ مِنْهُ إذَا حَنِثَ. لِيَكُونَ لُزُومُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ الْحِنْثِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَقْصِدُ قَطُّ أَنْ يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ اللَّوَازِمِ وَإِنْ وَقَعَ الشَّرْطُ أَوْ لَمْ يَقَعْ وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهَا تَلْزَمُهُ الْتَزَمَهَا لِاعْتِقَادِهِ لُزُومَهَا إيَّاهُ مَعَ كَرَاهَتِهِ لِأَنْ يَلْتَزِمَهُ؛ لَا مَعَ إرَادَتِهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ وَهَذَا هُوَ الْحَالِفُ وَاعْتِقَادُ لُزُومِ الْجَزَاءِ غَيْرُ قَصْدِهِ لِلُزُومِ الْجَزَاءِ. فَإِنْ قَصَدَ لُزُومَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ: لَزِمَهُ مُطْلَقًا؛ وَلَوْ كَانَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ فَلَوْ كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَوْ إذَا فَعَلَ هُوَ ذَلِكَ الْأَمْرَ. فَقَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا تَفْعَلِينَ كَذَا. وَقَصْدُهُ أَنَّهَا تَفْعَلُهُ فَتَطْلُقُ؛ لَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَنْهَاهَا عَنْ الْفِعْلِ وَلَا هُوَ كَارِهٌ لِطَلَاقِهَا؛ بَلْ هُوَ مُرِيدٌ لِطَلَاقِهَا: طَلُقَتْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ حَالِفًا؛ بَلْ هُوَ مُعَلِّقٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَمَعْنَى كَلَامِهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ هُنَا عِنْدَ الْحِنْثِ فِي اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ. وَمَقْصُودُهُ مَقْصُودُ التَّعْلِيقِ. وَالطَّلَاقُ هُنَا إنَّمَا
وَقَعَ عِنْدَ الشَّرْطِ الَّذِي قُصِدَ إيقَاعُهُ عِنْدَهُ؛ لَا عِنْدَ مَا هُوَ حِنْثٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ إذًا لِاعْتِبَارِ بِقَصْدِهِ وَمُرَادِهِ؛ لَا بِظَنِّهِ وَاعْتِقَادِهِ: فَهُوَ الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى} . وَالسَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَجَمَاهِيرِ الْخَلَفِ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ إذَا قُصِدَ بِهِ الطَّلَاقُ فَهُوَ طَلَاقٌ وَإِنْ قُصِدَ بِهِ غَيْرُ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا. وَلَيْسَ لِلطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ؛ فَلِهَذَا يَقُولُونَ: إنَّهُ يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ. وَلَفْظُ الصَّرِيحِ عِنْدَهُمْ كَلَفْظِ الطَّلَاقِ لَوْ وَصَلَهُ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ طَلَاقِ الْمَرْأَةِ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقِ الْحَبْسِ أَوْ مِنْ الزَّوْجِ الَّذِي كَانَ قَبْلِي وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَالْمَرْأَةُ إذَا أَبْغَضَتْ الرَّجُلَ كَانَ لَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وَهَذَا الْخُلْعُ تَبِينُ بِهِ الْمَرْأَةُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ إلَّا بِرِضَاهَا وَلَيْسَ هُوَ كَالطَّلَاقِ الْمُجَرَّدِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ رَجْعِيًّا لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ بِدُونِ رِضَاهَا؛ لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْخُلْعِ: هَلْ يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ مَحْسُوبَةٌ مِنْ الثَّلَاثِ؟ أَوْ
تَقَعُ بِهِ فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ وَلَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بَلْ هُوَ فَسْخٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ. و " الْأَوَّلُ " مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِك وَكَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَنُقِلَ عَنْ طَائِفَة مِنْ الصَّحَابَةِ؛ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَلْ ضَعَّفَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ خُزَيْمَة وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ. و " الثَّانِي " أَنَّهُ فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ وَلَيْسَ مِنْ الثَّلَاثِ وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِهِ: كطاوس وَعِكْرِمَةَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه؛ وَأَبِي ثَوْرٍ ودَاوُد وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ خُزَيْمَة وَغَيْرِهِمْ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْخُلْعَ بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا. ثُمَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ تَنَازَعُوا: هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْخُلْعُ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ؟ أَوْ لَا يَكُونُ إلَّا بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ وَالْمُفَادَاةِ وَيُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَنْوِيَ الطَّلَاقَ؟ أَوْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَهُ أَوْ لَا يَنْوِيَهُ وَهُوَ خُلْعٌ بِأَيِّ لَفْظٍ وَقَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ؟ عَلَى أَوْجُهٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: أَصَحُّهَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَخِيرُ وَهُوَ: أَنَّ الْخُلْعَ هُوَ الْفُرْقَةُ بِعِوَضِ فَمَتَى فَارَقَهَا بِعِوَضِ فَهِيَ
مُفْتَدِيَةٌ لِنَفْسِهَا بِهِ وَهُوَ خَالِعٌ لَهَا بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ لَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَلَا عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْخُلْعِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ بَلْ كَلَامُهُمْ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ. وَالشَّافِعِيُّ رضي الله عنه لَمَّا ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْخُلْعِ هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَأَحْسَبُ الَّذِينَ قَالُوا هُوَ طَلَاقٌ هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ؟ وَلِهَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ والطَّحَاوِي أَنَّ هَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَحْكِ عَنْ أَحَدٍ هَذَا؛ بَلْ ظَنَّ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ. وَهَذَا بَنَاهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا وَاحِدًا فَإِنَّ حُكْمَهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ. وَفِي مَذْهَبِهِ فِي نِزَاعٍ فِي الْأَصْلِ وَأَمَّا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فَإِنَّ أُصُولَهُ وَنُصُوصَهُ وَقَوْلَ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ بِمَعَانِيهَا لَا بِالْأَلْفَاظِ وَفِي مَذْهَبِهِ قَوْلٌ آخَرَ: أَنَّهُ تَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ وَهَذَا يُذْكَرُ فِي التَّكَلُّمِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَفِي الْمُزَارَعَةِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَلْفَاظَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَلْفَاظَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَبَيَّنَّا أَنَّهَا بَيِّنَةٌ فِي عَدَمِ التَّفْرِيقِ. وَأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ لَا تَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ وَكَذَلِكَ أَصُولُ أَحْمَد. وَسَبَبُهُ ظَنُّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ الْآثَارَ الثَّابِتَةَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ تَدُلُّ دَلَالَةً بَيِّنَةً أَنَّهُ خُلْعٌ؛ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ تُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ. وَالطَّلَاقُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ.
قَالَ هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ طَلَاقٌ بَائِنٌ مَحْسُوبٌ مِنْ الثَّلَاثِ أَصْلًا بَلْ كُلُّ طَلَاقٍ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ. وَقَالَ هَؤُلَاءِ: وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةً لَمْ يَقَعْ بِهَا إلَّا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ. قَالُوا: وَتَقْسِيمُ الطَّلَاقِ إلَى رَجْعِيٍّ وَبَائِنٍ تَقْسِيمٌ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَهَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد؛ فَإِنَّ كُلَّ طَلَاقٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا يَقَعُ إلَّا رَجْعِيًّا وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةً أَوْ طَلَاقًا بَائِنًا: لَمْ يَقَعْ بِهِ عِنْدَهُمَا إلَّا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَأَمَّا الْخُلْعُ فَفِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِهِمَا. فَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الصَّحِيحِ طَرَدَ هَذَا الْأَصْلَ وَاسْتَقَامَ قَوْلُهُ وَلَمْ يَتَنَاقَضْ كَمَا يَتَنَاقَضُ غَيْرُهُ؛ إلَّا مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: إنَّ الْخُلْعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ يَقَعُ طَلَاقًا بَائِنًا فَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا فِي الْجُمْلَةِ طَلَاقًا بَائِنًا مَحْسُوبًا مِنْ الثَّلَاثِ فَنَقَضُوا أَصْلَهُمْ الصَّحِيحَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَقَالَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ: إذَا وَقَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ كَانَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا؛ لَا بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَجْعَلْهُ طَلَاقًا بَائِنًا لِمُخَالَفَةِ الْقُرْآنِ؛ وَظَنَّ أَنَّهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ يَكُونُ طَلَاقًا فَجَعَلَهُ رَجْعِيًّا وَهَذَا خَطَأٌ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَ الِافْتِدَاءِ لَا يَحْصُلُ إلَّا مَعَ الْبَيْنُونَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ حُصُولُ الْبَيْنُونَةِ بِالْخُلْعِ مِمَّا لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ؛ لَكِنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَهُ جَائِزًا؛ فَقَالَ: لِلزَّوْجِ أَنْ يَرُدَّ الْعِوَضَ وَيُرَاجِعَهَا؛ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الزَّوْجَ وَحْدَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ وَلَكِنْ لَوْ اتَّفَقَا عَلَى فَسْخِهِ كَالتَّقَايُلِ: فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ آخَرُ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ يُبَيِّنُ أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يَكُونُ إلَّا رَجْعِيًّا وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ طَلَاقٌ بَائِنٌ إلَّا قَبْلَ الدُّخُولِ. وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى وَهِيَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِالثَّلَاثِ لَا بِطَلْقَةِ وَاحِدَةٍ مُطْلَقَةٍ؛ لَا يَحْصُلُ بِهَا لَا بَيْنُونَةٌ كُبْرَى وَلَا صُغْرَى. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ. إنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ عَامَّةً طَلَاقُهُمْ الْفِدَاءُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ الْفِدَاءُ بِطَلَاقِ. وَرَدَّ الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ وَخُلْعٍ مَرَّةً. وَبِهَذَا أَخَذَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ لَكِنْ تَنَازَعَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ: هَلْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَعْنَى إذَا كَانَ وَاحِدًا فَالِاعْتِبَارُ بِأَيِّ لَفْظٍ وَقَعَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَقَاصِدِ الْعُقُودِ وَحَقَائِقِهَا لَا بِاللَّفْظِ وَحْدَهُ فَمَا كَانَ خُلْعًا فَهُوَ خُلْعٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَمَا كَانَ طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَمَا كَانَ يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَمَا كَانَ إيلَاءٌ فَهُوَ إيلَاءٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَمَا كَانَ ظِهَارًا فَهُوَ ظِهَارٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ " الطَّلَاقُ " و " الْيَمِينُ " و " الظِّهَارُ " و " الْإِيلَاءُ " و " الِافْتِدَاءُ " وَهُوَ الْخُلْعُ وَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ حُكْمًا فَيَجِبُ أَنْ نَعْرِفَ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَنَدْخُلَ فِي الطَّلَاقِ مَا كَانَ طَلَاقًا وَفِي الْيَمِينِ مَا كَانَ يَمِينًا وَفِي الْخُلْعِ مَا كَانَ خُلْعًا وَفِي الظِّهَارِ مَا كَانَ ظِهَارًا؛ وَفِي الْإِيلَاءِ مَا كَانَ إيلَاءً. وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهِمْ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بَعْضُ ذَلِكَ بِبَعْضِ
فَيَجْعَلُ مَا هُوَ ظِهَارٌ طَلَاقًا: فَيَكْثُرُ بِذَلِكَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ الَّذِي يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَحْتَاجُونَ إمَّا إلَى دَوَامِ الْمَكْرُوه؛ وَإِمَّا إلَى زَوَالِهِ بِمَا هُوَ أَكْرَهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ وَهُوَ " نِكَاحُ التَّحْلِيلِ ". وَأَمَّا الطَّلَاقُ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ إذَا أَرَادَ طَلَاقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ أَوْ كَانَتْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا ثُمَّ يَدَعُهَا تَتَرَبَّصُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا غَرَضٌ:؟ سَرَّحَهَا بِإِحْسَانِ. ثُمَّ إنْ بَدَا لَهُ بَعْدَ هَذَا إرْجَاعُهَا يَتَزَوَّجُهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ ثُمَّ إذَا أَرَادَ ارْتِجَاعَهَا أَوْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلَّقَهَا فَهَذَا
طَلَاقُ السُّنَّةِ
الْمَشْرُوعِ. وَمَنْ لَمْ يُطَلِّقْ إلَّا طَلَاقَ السُّنَّةِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ وَغَيْرِهِ؛ بَلْ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ لَهُ فِي كُلِّ طَلْقَةٍ رَجْعَةٌ أَوْ عَقْدٌ جَدِيدٌ: فَهُنَا قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَلَا يَجُوزُ عَوْدُهَا إلَيْهِ بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ أَصْلًا؛ بَلْ قَدْ {لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ} وَاتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُهُ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ فَلَا يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَحَدًا مِنْ خُلَفَائِهِ أَوْ أَصْحَابِهِ أَعَادَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا إلَى زَوْجِهَا بَعْدَ نِكَاحِ تَحْلِيلٍ أَبَدًا وَلَا كَانَ نِكَاحُ التَّحْلِيلِ ظَاهِرًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَلْ كَانَ مَنْ يَفْعَلُهُ سِرًّا وَقَدْ لَا تَعْرِفُ الْمَرْأَةُ وَلَا وَلِيُّهَا وَقَدْ {لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ} وَفِي الرِّبَا قَالَ: {لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ} فَلَعَنَ الْكَاتِبَ وَالشُّهُودَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشْهِدُونَ عَلَى دِينِ الرِّبَا وَلَمْ يَكُونُوا يُشْهِدُونَ عَلَى نِكَاحِ التَّحْلِيلِ.
و " أَيْضًا " فَإِنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُكْتَبُ فِيهِ صَدَاقٌ كَمَا تُكْتَبُ الدُّيُونُ وَلَا كَانُوا يَشْهَدُونَ فِيهِ لِأَجْلِ الصَّدَاقِ؛ بَلْ كَانُوا يَعْقِدُونَهُ بَيْنَهُمْ وَقَدْ عَرَفُوا بِهِ وَيَسُوقُ الرَّجُلُ الْمَهْرَ لِلْمَرْأَةِ فَلَا يَبْقَى لَهَا عَلَيْهِ دِينٌ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ رَسُولُ اللَّهِ فِي نِكَاحِ التَّحْلِيلِ الْكَاتِبَ وَالشُّهُودَ كَمَا ذَكَرَهُمْ فِي الرِّبَا. وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ حَدِيثٌ. وَنِزَاعُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. فَقِيلَ: يَجِبُ الْإِعْلَانُ أَشْهَدُوا أَوْ لَمْ يُشْهِدُوا فَإِذَا أَعْلَنُوهُ وَلَمْ يَشْهَدُوا تَمَّ الْعَقْدُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ. وَقِيلَ: يَجِبُ الْإِشْهَادُ: أَعْلَنُوهُ أَوْ لَمْ يُعْلِنُوهُ فَمَتَى أَشْهَدُوا وَتَوَاصَوْا بِكِتْمَانِهِ لَمْ يَبْطُلْ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ. وَقِيلَ: يَجِبُ الْأَمْرَانِ الْإِشْهَادُ وَالْإِعْلَانُ. وَقِيلَ: يَجِبُ أَحَدُهُمَا. وَكِلَاهُمَا يُذْكَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.
وَأَمَّا " نِكَاحُ السِّرِّ " الَّذِي يَتَوَاصَوْنَ بِكِتْمَانِهِ وَلَا يُشْهِدُونَ عَلَيْهِ أَحَدًا: فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ السِّفَاحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعِهَا.
وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ؛ وَبَيْنَ الْأَقْوَالِ الْمَرْجُوحَةِ وَأَنَّ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَجْمَعُ مَصَالِحَ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ؛ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ فِي شَرِيعَتِهِ مَا فَرَّقَهُ شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْكَمَالِ؛ إذْ لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ فَكَمُلَ بِهِ الْأَمْرُ كَمَا كَمُلَ بِهِ الدِّينُ. فَكِتَابُهُ أَفْضَلُ الْكُتُبِ وَشَرْعُهُ أَفْضَلُ الشَّرَائِعِ وَمِنْهَاجُهُ أَفْضَلُ الْمَنَاهِجِ وَأُمَّتُهُ خَيْرُ الْأُمَمِ وَقَدْ عَصَمَهَا اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ فَلَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ؛ وَلَكِنْ يَكُونُ عِنْدَ بَعْضِهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ بَعْضٍ وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} فَهَذَانِ نَبِيَّانِ كَرِيمَانِ حَكَمَا فِي قِصَّةٍ فَخَصَّ اللَّهُ أَحَدَهُمَا بِالْفَهْمِ؛ وَلَمْ يَعِبْ الْآخَرَ؛ بَلْ أَثْنَى عَلَيْهِمَا جَمِيعًا بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ. وَهَذَا حُكْمُ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَخُلَفَاءُ الرُّسُلِ الْعَامِلِينَ بِالْكِتَابِ. وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ الَّتِي قَضَى فِيهَا دَاودُ وَسُلَيْمَانُ لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا وَمَا يُشْبِهُهَا أَيْضًا قَوْلَانِ. مِنْهُمْ مَنْ يَقْضِي بِقَضَاءِ دَاوُد. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْضِي بِقَضَاءِ سُلَيْمَانَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَقُولُ بِهِ؛ بَلْ قَدْ لَا يَعْرِفُهُ. وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَأَمَّا إذَا " حَلَفَ بِالْحَرَامِ " فَقَالَ: الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ فَعَلْت كَذَا أَوْ مَا يَحِلُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَحْرُمُ عَلَيَّ إنْ فَعَلْت كَذَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَلَهُ زَوْجَةٌ. فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ لَكِنَّ الْقَوْلَ الرَّاجِحَ أَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ لَا يَلْزَمُهُ بِهَا طَلَاقٌ وَلَوْ قَصَدَ بِذَلِكَ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد الْمَشْهُورُ عَنْهُ حَتَّى لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَهُ. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَقَصَدَ بِهِ الطَّلَاقَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الظِّهَارَ طَلَاقًا وَالْإِيلَاءَ طَلَاقًا: فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَجَعَلَ فِي الظِّهَارِ الْكَفَّارَةَ الْكُبْرَى وَجَعَلَ الْإِيلَاءَ يَمِينًا يَتَرَبَّصُ فِيهَا الرَّجُلُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوفِ أَوْ يُسَرِّحَ بِإِحْسَانِ. وَكَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إنَّهُ إذَا كَانَ مُزَوِّجًا فَحَرَّمَ امْرَأَتَهُ أَوْ حَرَّمَ الْحَلَالَ مُطْلَقًا كَانَ مُظَاهِرًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد. وَإِذَا حَلَفَ بِالظِّهَارِ أَوْ الْحَرَامِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَحَنِثَ فِي يَمِينِهِ: أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ فِي مَذْهَبِهِ؛ لَكِنْ قِيلَ: إنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ سَوَاءٌ حَلَفَ
أَوْ أَوْقَعَ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَد. وَقِيلَ: بَلْ إنْ حَلَفَ بِهِ أَجْزَأَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَإِنْ أَوْقَعَهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَهَذَا أَقْوَى وَأَقْيَسُ عَلَى أَصْلِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. فَالْحَالِفُ بِالْحَرَامِ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا تُجْزِئُ الْحَالِفَ بِالنَّذْرِ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ. وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالْعِتْقِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكَذَلِكَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ تُجْزِئُ أَيْضًا فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا أَفْتَى مَنْ أَفْتَى بِهِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ لَا يُخَالِفُ ذَاكَ؛ بَلْ مَعْنَاهُ يُوَافِقُهُ. وَكُلُّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْمَانِهِمْ فَفِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يَعْتِقَ أَوْ أَنْ يُظَاهِرَ: فَهَذَا يَلْزَمُهُ مَا أَوْقَعَهُ سَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلِّقًا فَلَا تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ قَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مَا بَقِيت أَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ؛ إلَّا إنْ كُنْت سَاهِيًا؛ أَوْ غالطا. لِأَنَّهُ تَخَاصَمَ مَعَ شَخْصٍ وَحَصَلَ لَهُ حَرَجٌ فَقَالَ: أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ تَلْزَمُنِي. أَوْ الْأَيْمَانُ تَلْزَمُنِي عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ: لَا بُدَّ أَنْ أَشْكُوَك إلَى الْمُحْتَسِبِ. وَلَمْ يَكُنْ ذَكَرَ الْيَمِينَ الْأَوَّلَ؛ وَهُوَ شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ: فَمَا يَجِبُ عَلَى الْيَمِينِ؟.
فَأَجَابَ:
إذَا كَانَ نَاسِيًا لِلْيَمِينِ الْأَوَّلِ وَحَلَفَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ ذَكَرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ رحمه الله:
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مَتَى رَأَيْت فُلَانَةً عِنْدَك طَلَّقْتُك: فَهَلْ يَحْنَثُ إذَا طَلَعَتْ وَلَمْ يَرَهَا أَوْ اجْتَمَعُوا ثَلَاثَتُهُمْ فِي مَكَانٍ غَيْرَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ؟
فَأَجَابَ رضي الله عنه:
إذَا طَلَعَتْ وَلَمْ يَرَهَا أَوْ اجْتَمَعَ بِهَا فِي بَيْتِ غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ؛ أَوْ [فِي](1) سَبَبِ الْيَمِينِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(1)
ما بين معقوفتين غير موجود في المطبوع، ولم أقف عليه في كتاب صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف
أسامة بن الزهراء - منسق الكتاب للموسوعة الشاملة
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ خَرَجَتْ زَوْجَتُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ثُمَّ قَالَ لَهَا: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي ثَلَاثًا مَا بَقِيت أَرْفَعُ الْعَصَا عَنْك؛ وَنِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ إذَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ: فَهَلْ يَجِبُ الطَّلَاقُ بِالْحَالِ؛ أَوْ إذَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ؟ وَهَلْ إذَا أَذِنَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ؟
فَأَجَابَ:
لَا طَلَاقَ عَلَيْهِ بِالْحَالِ؛ بَلْ إذَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَنِثَ فَإِنْ أَذِنَ لَهَا إذْنًا عَامًّا جَازَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ سَبَبٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ اتَّهَمَ زَوْجَتَهُ بِسَرِقَةِ دَرَاهِمَ؛ فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا أَخَذْت شَيْئًا. فَقَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مِنْك ثَلَاثًا إنْ لَمْ تُحْضِرِي الدَّرَاهِمَ: مَا تَكُونُ لَهُ زَوْجَتُهُ؟
فَأَجَابَ:
إنْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَأْخُذْ الدَّرَاهِمَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُمْتَنِعٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِرَدِّهَا إلَّا إذَا كَانَتْ أَخَذَتْهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ جَرَى مِنْهُ كَلَامٌ فِي زَوْجَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ فَقَالَ: إنْ جَاءَتْ زَوْجَتِي بِبِنْتٍ فَهِيَ طَالِقٌ ثُمَّ إنَّهُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ جَرَى بَيْنَهُمْ كَلَامٌ فَنَزَلَ عَنْ طَلْقَةٍ ثُمَّ إنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَضَعَتْ بِنْتًا. فَهَلْ يَقَعُ عَلَى الزَّوْجِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ:
إنْ كَانَ قَدْ أَبَانَهَا بِالطَّلْقَةِ بِأَنْ تَكُونَ الطَّلْقَة بِعِوَضِ أَوْ وَدَّعَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا: فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ. وَفِيهَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ " أَحَدُهُمَا " يَقَعُ وَهُوَ رِوَايَةٌ مُخَرَّجَةٌ فَيَذْهَبُ أَحْمَد. وَإِنْ كَانَ لَمْ يُبِنْهَا بَلْ رَاجَعَ فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ فَإِنْ وَجَدَتْ الصِّفَةَ الْمُعَلِّقَ بِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ تَخَاصَمَا هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَانْجَرَحَ مِنْهَا؛ فَقَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مِنْك ثَلَاثًا: إنْ قُلْت طَلِّقْنِي طَلَّقْتُك. فَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ لِأُمِّهَا: أَيُّ شَيْءٍ يَقُولُ؟ قَالَتْ أُمُّهَا يَقُولُ كَذَا. قُولِي لَهُ: طَلِّقْنِي: ثُمَّ قَالَتْ الْمَرْأَةُ: طَلِّقْنِي. فَهَلْ يَقَعُ طَلَاقٌ بِوَاحِدَةٍ؛ أَوْ بِثَلَاثِ؟ أَوْ لَا يَقَعُ؟
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا لَمْ يَنْوِ بِقَوْلِهِ: إذَا قُلْت طَلِّقْنِي طَلَّقْتُك. أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ؛ بَلْ يُطَلِّقُهَا عِنْدَ الشُّهُودِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يَحْنَثْ إذَا افْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ لَكِنْ يُطَلِّقُهَا بَعْدَ ذَلِكَ الطَّلَاقِ الَّذِي قَصَدَ بِيَمِينِهِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا وَلَا اثْنَتَيْنِ أَجْزَأَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً. هَذَا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ إجَابَةَ سُؤَالِهَا مُطْلَقًا. وَأَمَّا إذَا قَصَدَ إجَابَةَ سُؤَالِهَا إذَا كَانَتْ طَالِبَةً لِلطَّلَاقِ فَإِذَا رَجَعَتْ وَقَالَتْ؛ لَا أُرِيدُ الطَّلَاقَ: لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ إذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَهُوَ سَاكِنٌ بِهَا فِي غَيْرِ مَنْزِلٍ سَكَنَهَا: إنْ قَعَدْت عِنْدَكُمْ فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ وَإِنْ سَكَنْت عِنْدَكُمْ فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ ثُمَّ قَالَ أَيْضًا: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ؛ ثُمَّ انْتَقَلَ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ دُونَ زَوْجَتِهِ إلَى مَكَانٍ آخَرَ؛ وَعَادَتْ زَوْجَتُهُ إلَى مَكَانِهَا الْأَوَّلِ؛ فَإِذَا عَادَ وَقَعَدَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ يَقَعُ عَلَيْهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ؟ أَمْ طَلْقَتَانِ؟ وَهَلْ السَّكَنُ هُوَ الْقُعُودُ؟ أَوْ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ؟ وَإِذَا لَمْ يَنْوِ بِالْحَرَامِ الطَّلَاقَ: هَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ نَوَى؟ وَهَلْ إذَا كَانَ مَذْهَبٌ تَزُولُ بِهِ هَذِهِ الصُّورَةُ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِهِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إنْ قَعَدْت عِنْدَكُمْ وَإِنْ سَكَنْت عِنْدَكُمْ فَإِنْ كَانَ نِيَّةُ الْحَالِفِ بِالْقُعُودِ إذَا انْتَقَضَ سَبَبُ تِلْكَ الْحَالِ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ دُعِيَ إلَى غَدَاءٍ فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَتَغَدَّى؛ فَإِنَّ سَبَبَ الْيَمِينِ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْغَدَاءَ الْمُعَيَّنَ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِغَدَاءِ غَيْرِ ذَلِكَ: وَهَكَذَا إذَا كَانَ قَدْ زَارَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ قَوْمًا فَرَأَى مِنْ الْأَحْوَالِ مَا كَرِهَ أَنْ تُقِيمَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ عِنْدَهُمْ فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يُقِيمُ وَلَا يَسْكُنُ وَقَصَدَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَوْ كَانَ سَبَبُ الْيَمِينِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا إنْ كَانَ قَدْ نَوَى الْعُمُومَ بِحَيْثُ قَصَدَ أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ عِنْدَهُمْ وَلَا يُسَاكِنُهُمْ بِحَالِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِالْقُعُودِ. وَإِنْ أَطْلَقَ الْيَمِينَ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَحَيْثُ يَحْنَثُ بِالْقُعُودِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْقُعُودُ الَّذِي قَصَدَهُ هُوَ السُّكْنَى لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْثَرَ مِنْ طَلْقَةٍ؛ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ كَمَا لَوْ كَرَّرَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ كَانَ الْقُعُودُ دَاخِلًا فِي ضِمْنِ السُّكْنَى - كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ - فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدَاخُلُ الصِّفَاتِ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ أَكَلْت تُفَّاحَةً وَاحِدَةً: فَقَدْ قِيلَ: تَقَعُ طَلْقَتَانِ؛ لِوُجُودِ الصِّفَتَيْنِ. وَقِيلَ: لَا يَقَعُ إلَّا طَلْقَة وَاحِدَةٌ أَيْضًا. وَهُوَ أَقْوَى فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّك طَالِقٌ سَوَاءٌ أَكَلَتْ تُفَّاحَةً كَامِلَةً أَوْ نِصْفَهَا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إنْ قَعَدْت. فَالْقُعُودُ " لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ " يُرَادُ بِهِ السُّكْنَى مُشْتَمِلًا عَلَى الْعُقُودِ وَيَكُونُ
أَوَّلًا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ ثُمَّ حَلَفَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ السُّكْنَى فَإِذَا سَكَنَ كَانَ الْأَوَّلُ بَعْضَ الثَّانِي فَلَا يَقَعُ أَكْثَرُ مِنْ طَلْقَةٍ إذَا قِيلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ عَلَى أَقْوَى الْقَوْلَيْنِ. وَأَمَّا
قَوْلُهُ: " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ "
فَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا فَفَعَلَهُ: فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ؛ بَلْ حَرَّمَهَا تَحْرِيمًا: فَهَذَا عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ فِي الصُّورَتَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: يَقُولُونَ: إنَّ الْحَرَامَ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ إذَا لَمْ يَنْوِهِ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَتْبَاعِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ صَارَ بِحُكْمِ الْعُرْفِ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ: فَهَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ. وَقَدْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَرَوْنَ لَفْظَ " الظِّهَارِ " صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي حَتَّى تَظَاهَرَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ امْرَأَتِهِ الْمُجَادِلَةِ الَّتِي ثَبَتَ حُكْمُهَا فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ} وَأَفْتَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلًا بِالطَّلَاقِ حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ وَجَعَلَ الظِّهَارَ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ.
" وَالْحَرَامَ " نَظِيرَ الظِّهَارِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ لَهَا بِالْمُحَرَّمَةِ وَهَذَا نُطْقٌ بِالتَّحْرِيمِ وَكِلَاهُمَا مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ فَقَدْ دَلَّ كِتَابُ اللَّهِ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ بِقَوْلِهِ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلَى قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . مَعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ. وَأَمَّا تَقْلِيدُ الْمُسْتَفْتِي لِلْمُفْتِي فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ وَلَا شَرْعٍ لَهُ الْتِزَامُ قَوْلِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فِي كُلِّ مَا يُوجِبُهُ وَيُحَرِّمُهُ وَيُبِيحُهُ؛ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَلَى الْمُسْتَفْتِي أَنْ يُقَلِّدَ الْأَعْلَمَ الْأَرْوَعَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ اسْتِفْتَاؤُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْمُفْتِينَ وَإذَا كَانَ لَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ فَقَدْ قِيلَ: يَتَّبِعُ أَيَّ الْقَوْلَيْنِ أَرْجَحُ عِنْدِهِ بِحَسَبِ تَمْيِيزِهِ فَإِنَّ هَذَا أَوْلَى مِنْ التَّخْيِيرِ الْمُطْلَقِ. وَقِيلَ: لَا يَجْتَهِدُ إلَّا إذَا صَارَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ. فَإِذَا تَرَجَّحَ عِنْدَ الْمُسْتَفْتِي أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إمَّا لِرُجْحَانِ دَلِيلِهِ بِحَسَبِ تَمْيِيزِهِ وَإِمَّا لِكَوْنِ قَائِلِهِ أَعْلَمَ وَأَرْوَعَ: فَلَهُ ذَلِكَ وَإِنْ خَالَفَ قَوْلُهُ الْمَذْهَبَ.
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِحَمَاتِهِ: إنْ لَمْ تَبِيعِينِي جَارِيَتَك وَإِلَّا ابْنَتُك طَالِقٌ ثَلَاثًا. فَقَالُوا: مَا نَبِيعُك الْجَارِيَةَ. فَقَالَ؛ ابْنَتُكُمْ طَالِقٌ ثَلَاثًا. وَنِيَّتُهُ إنْ لَمْ تُعْطِينِي الْجَارِيَةَ؟
فَأَجَابَ:
إنْ كَانَ قَدْ نَوَى الشَّرْطَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ الطَّلَاقَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ:
عَنْ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ. فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَدَخَلَتْ نَاسِيَةً؟
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ نَاسِيَةً لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ مَكَّةَ. كَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَابْنِ جريج وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الشُّجَاعُ الْمِقْدَامُ لَيْثُ الْحُرُوبِ وَأَسَدُ السُّنَّةِ؛ الصَّابِرُ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَلَى الْمِحْنَةِ الْعَلَمُ الْحُجَّةُ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّة رحمه الله رَبُّ الْبَرِيَّةِ:
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّ الْقُرْآنَ صَوْتٌ وَحَرْفٌ وَأَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى: عَلَى مَا يُفِيدُهُ الظَّاهِرُ وَيَفْهَمُهُ النَّاسُ مِنْ ظَاهِرِهِ هَلْ يَحْنَثُ فِي هَذَا؟ أَمْ لَا؟ (*)
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 240):
وهنا أمران:
الأول: أن هذه الفتيا تسمى (الفتيا الدمشقية)، وقد ذكرها الشيخ رحمه الله في (التسعينية) 2/ 547 - 573.
والثاني: أن هناك تصحيفات يسيرة بين الموضعين تتضح عند المقارنة، وأهمها:
1 -
33/ 172 (وكذلك ذكر الشهرستاني)، وصوابه (ولذلك ذكر الشهرستاني) كما في (التسعينية) 2/ 551.
2 -
33/ 181 (وسيأتي الكلام الذي يعين أحد محتملات اللفظ)، وصوابه (وسياق الكلام الذي يعين أحد محتملات اللفظ) كما في (التسعينية) 2/ 566.
3 -
33/ 185 (ولفظ " العلم " لم تستعمله العرب في خصوص العرف القائم بقلب البشر)، وصوابه (. . . في خصوص العرض القائم بقلب البشر) كما في (التسعينية) 2/ 572.
4 -
33/ 186 (لا من جهة مجرد اللفظ [ففرق - أصلحك الله - بين ما دل عليه مجرد اللفظ] الذي هو لفظ الفعل وما يدل عليه بخصوص إضافته إلى الفاعل المعين)، وما بين المعقوفتين ساقط بسبب انتقال نظر الناسخ، وهو في (التسعينية) 2/ 573.
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إنْ كَانَ مَقْصُودُ هَذَا الْحَالِفِ أَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ وَالْمِدَادِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ حُرُوفَ الْقُرْآنِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ: فَقَدْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ. وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يَقُولُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُكْرَهُ تَجْرِيدُ الْكَلَامِ فِي الْمِدَادِ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ وَفِي صَوْتِ الْعَبْدِ لِئَلَّا يَتَذَرَّعَ بِذَلِكَ إلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَوْتِ الْعَبْدِ وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي نَقْرَؤُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهُ حَقِيقَةً؛ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَأَنَّ الَّذِي بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً؛ لَكِنْ مَا عَلِمْت أَحَدًا حَكَمَ عَلَى مَجْمُوعِ الْمِدَادِ الْمَكْتُوبِ بِهِ وَصَوْتِ الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ: بِأَنَّهُ قَدِيمٌ. وَلَكِنْ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَكَلَامِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ فِي " بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ " إلَّا الْمَعَانِيَ الَّتِي تَلِيقُ بِالْخَلْقِ؛ لَا بِالْخَالِقِ ثُمَّ يُرِيدُونَ تَحْرِيفَ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ إذَا وَجَدُوا ذَلِكَ فِيهَا وَإِنْ وَجَدُوهُ فِي كَلَامِ التَّابِعِينَ لِلسَّلَفِ افْتَرَوْا الْكَذِبَ عَلَيْهِمْ وَنَقَلُوا عَنْهُمْ بِحَسَبِ الْفَهْمِ الْبَاطِلِ الَّذِي فَهِمُوهُ أَوْ زَادُوا عَلَيْهِمْ فِي الْأَلْفَاظِ وَغَيَّرُوهَا قَدْرًا وَوَصْفًا كَمَا نَسْمَعُ مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ وَنَرَى فِي كُتُبِهِمْ. ثُمَّ بَعْضُ مَنْ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهَؤُلَاءِ النَّقْلَةِ قَدْ يَحْكِي هَذَا الْمَذْهَبَ عَمَّنْ حَكَوْهُ عَنْهُمْ وَيَذُمُّ وَيَبْحَثُ مَعَ مَنْ لَا وُجُودَ لَهُ وَذَمُّهُ وَاقِعٌ عَلَى مَوْصُوفٍ غَيْرِ
مَوْجُودٍ نَظِيرَ مَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ: {أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ قُرَيْشٍ يَشْتُمُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ} . وَهَذَا نَظِيرُ مَا تَحْكِي الرَّافِضَةُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ وَالْمَعْرِفَةِ أَنَّهُمْ نَاصِبَةٌ وَتَحْكِي الْقَدَرِيَّةُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مُجْبِرَةٌ وَتَحْكِي الْجَهْمِيَّة عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مُشَبِّهَةٌ وَيَحْكِي مَنْ خَالَفَ الْحَدِيثَ وَنَابَذَ أَهْلَهُ عَنْهُمْ: أَنَّهُمْ نَابِتَةٌ وَحَشْوِيَّةٌ وَغُثَاءٌ وَغَثَرًا. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَكْذُوبَةِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ كُتُبَ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَجَدَهُمْ لَا يَبْحَثُونَ فِي الْغَالِبِ أَوْ فِي الْجَمِيعِ إلَّا مَعَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي مَا عَلِمْنَا لِقَائِلِهِ وُجُودًا. وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الْحَالِفِ: أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هُوَ هَذِهِ الْمِائَةُ وَالْأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً: حُرُوفُهَا وَمَعَانِيهَا وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ هُوَ الْحُرُوفُ دُونَ الْمَعَانِي وَلَا الْمَعَانِي دُونَ الْحُرُوفِ؛ بَلْ هُوَ مَجْمُوعُ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي وَأَنَّ تِلَاوَتَنَا لِلْحُرُوفِ وَتَصَوُّرَنَا لِلْمَعَانِي لَا يُخْرِجُ الْمَعَانِيَ وَالْحُرُوفَ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِنَا: فَهَذَا مَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يقرؤه الْمُسْلِمُونَ وَيَكْتُبُونَهُ فِي مَصَاحِفِهِمْ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةً؛ لَا مَجَازًا وَأَنَّهُ
لَا يَجُوزُ نَفْيُ كَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ؛ إذْ الْكَلَامُ يُضَافُ حَقِيقَةً لِمَنْ قَالَهُ مُتَّصِفًا بِهِ مُبْتَدِيًا وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا وَهُوَ كَلَامٌ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهِ مُبْتَدِيًا؛ لَا مَنْ بَلَغَهُ مُؤَدِّيًا. فَإِنَّا بِالِاضْطِرَارِ نَعْلَمُ مِنْ دِينِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدِينِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: إنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ - حُرُوفُ الْقُرْآنِ - مَا هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ اسْمٌ لِمُجَرَّدِ الْمَعَانِي: لَأَنْكَرُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ غَايَةَ الْإِنْكَارِ وَكَانَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ جَسَدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي اسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا هَذَا اسْمٌ لِلرُّوحِ دُونَ الْجَسَدِ. أَوْ يَقُولُ: إنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ اسْمًا لِحَرَكَاتِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ؛ وَإِنَّمَا هِيَ اسْمٌ لِأَعْمَالِ الْقَلْبِ فَقَطْ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الشَّهْرَستَانِي - وَهُوَ مِنْ أَخْبَرِ النَّاسِ بِالْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْمَقَالَاتِ فِي نِهَايَةِ الْإِقْدَامِ - أَنَّ الْقَوْلَ بِحُدُوثِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ وَأَنَّ مَذْهَبَ سَلَفِ الْأُمَّةِ نَفْيُ الْخَلْقِ عَنْهَا؛ وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الطَّائِفَةِ الْقَائِلَةِ بِحُدُوثِهَا. وَلَا يَحْسَبُ اللَّبِيبُ أَنَّ فِي الْعَقْلِ أَوْ فِي السَّمْعِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ بَلْ مَنْ تَبَحَّرَ فِي الْمَقُولَاتِ وَوَقَفَ عَلَى أَسْرَارِهَا: عَلِمَ قَطْعًا أَنْ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا يَكْذِبُ قَطُّ مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ؛ بَلْ يُخَالِفُ
مَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ الْمُنَازِعُونَ لَهُمْ بِظُلْمَةِ قُلُوبِهِمْ وَأَهْوَاءِ نُفُوسِهِمْ؛ أَوْ مَا قَدْ يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ التَّقْوَى وَقِلَّةِ الدِّينِ. وَلَوْ فُرِضَ - عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ - أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ الَّذِي لَا يُكَذِّبُ يُنَاقِضُ بَعْضَ الْأَخْبَارِ: لِلُزُومِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا تَكْذِيبُ النَّاقِلِ. أَوْ تَأْوِيلُ الْمَنْقُولِ؛ لَكِنْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - هَذَا لَمْ يَقَعْ؛ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ قَطُّ فَإِنَّ حِفْظَ اللَّهِ لِمَا أَنْزَلَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَأْبَى ذَلِكَ. نَعَمْ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا فِي أَحَادِيثَ وَضَعَتْهَا الزَّنَادِقَةُ لِيَشِينُوا بِهَا أَهْلَ الْحَدِيثِ كَحَدِيثِ " عَرَقِ الْخَيْلِ " و " الْجَمَلِ الْأَوْرَقِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُ الْعُلَمَاءُ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ كَذِبٌ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا مَا قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ: مِثْلَ الشَّافِعِيِّ والحميدي؟ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمْ: مِنْ إنْكَارِهِمْ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَالْآثَارُ بِذَلِكَ مَشْهُورَةٌ فِي كِتَابِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَكِتَابِ اللكائي؛ تِلْمِيذِ أَبِي حَامِدٍ الإسفراييني وَكِتَابِ الطَّبَرَانِي؛ وَكِتَابِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَطُولُ ذِكْرُهُ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ التَّقْرِيرِ بِالْأَدِلَّةِ وَالْأَسْوِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُرَادُ الْحَالِفِ بِذِكْرِ الصَّوْتِ: التَّصْدِيقُ بِالْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَحَابَتِهِ وَتَابِعِيهِمْ الَّتِي وَافَقَتْ الْقُرْآنَ وَتَلَقَّاهَا السَّلَفُ بِالْقَبُولِ: مِثْلَ مَا خَرَّجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ {أَنَّ اللَّهَ يُنَادِي آدَمَ بِصَوْتِ} وَمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ {أَنَّ اللَّهَ يُنَادِي عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَوْتِ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ} وَمِثْلَ {أَنَّ اللَّهَ إذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ - الْقُرْآنِ؛ أَوْ غَيْرِهِ - سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ صَوْتَهُ} وَفِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَمِعُوا صَوْتَ الْجَبَّارِ. وَأَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى بِصَوْتِ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ الَّتِي قَالَهَا: إمَّا ذَاكِرًا وَإِمَّا آثِرًا: مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أنيس وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمَسْرُوقٍ أَحَدِ أَعْيَانِ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَحَدِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ؛ وَمَنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةً. وَلَا يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَلَا قَالَ خِلَافَهُ؛ بَلْ كَانَتْ الْآثَارُ مَشْهُورَةٌ بَيْنَهُمْ مُتَدَاوَلَةٌ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ؛ بَلْ أَنْكَرَ ذَلِكَ شَخْصٌ فِي وَقْتِ الْإِمَامِ أَحْمَد؛ وَهُوَ أَوَّلُ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي نَبَغَتْ فِيهَا الْبِدَعُ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى النُّصُوصِ وَإِلَّا فَقَبْلَهُ قَدْ نَبَغَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ فَهَجَرَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ مَا أَنْكَرَ ذَلِكَ. وَصَارَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَالْجَمَلِ الْأَجْرَبِ. فَإِنْ أَرَادَ الْحَالِفُ مَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ السَّلَفِ نَقْلًا صَحِيحًا فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ
وَأَمَّا حَلِفُهُ: أَنَّ " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " عَلَى مَا يُفِيدُهُ الظَّاهِرُ وَيَفْهَمُهُ النَّاسُ مِنْ ظَاهِرِهِ: فَلَفْظَةُ " الظَّاهِرِ " قَدْ صَارَتْ مُشْتَرِكَةً؛ فَإِنَّ الظَّاهِرَ فِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ وَاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَالدِّينِ الْقَيِّمِ وَلِسَانِ السَّلَفِ غَيْرُ الظَّاهِرِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. فَإِنْ أَرَادَ الْحَالِفُ بِالظَّاهِرِ شَيْئًا مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ الْمُحَدِّثِينَ أَوْ مَا يَقْتَضِي نَوْعَ نَقْصٍ: بِأَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مِثْلَ اسْتِوَاءِ الْأَجْسَامِ عَلَى الْأَجْسَامِ أَوْ كَاسْتِوَاءِ الْأَرْوَاحِ إنْ كَانَتْ لَا تَدْخُلُ عِنْدَهُ فِي اسْمِ الْأَجْسَامِ: فَقَدْ حَنِثَ فِي ذَلِكَ وَكَذَبَ؛ وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ ذَلِكَ؛ إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ مِثْلِ دَاوُد الجواربي الْبَصْرِيِّ وَمُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْخُرَاسَانِيِّ وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ الرَّافِضِيَّ؛ وَنَحْوِهِمْ؛ إنْ صَحَّ النَّقْلُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ؛ لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَإِنَّ مُبَايَنَتَهُ لِلْمَخْلُوقِينَ وَتَنَزُّهَهُ عَنْ مُشَارَكَتِهِمْ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِمَّا يَعْرِفُهُ الْعَارِفُونَ مِنْ خَلِيقَتِهِ وَيَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ. وَإِنَّ كُلَّ صِفَةٍ تَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا غَيْرَ الْحُدُوثِ فَيَجِبُ نَفْيُهَا عَنْهُ. وَمَنْ حَكَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ قَاسَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ: فَهُوَ إمَّا كَاذِبٌ؛ أَوْ مُخْطِئٌ. وَإِنْ أَرَادَ الْحَالِفُ بِالظَّاهِرِ مَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي فِطَرِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ظُهُورِ الْأَهْوَاءِ وَتَشَتُّتِ الْآرَاءِ؛ وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
كَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي سَائِرِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ كَالْحَيَاةِ؛ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ؛ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ؛ وَالْكَلَامِ؛ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا كَقَوْلِهِ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} و {يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إذَا أُطْلِقَتْ عَلَيْنَا أَنْ تَكُونَ أَعْرَاضًا أَوْ أَجْسَامًا؛ لِأَنَّ ذَوَاتَنَا كَذَلِكَ؛ وَلَيْسَ ظَاهِرُهَا إذَا أُطْلِقَتْ عَلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى إلَّا مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَيُنَاسِبُ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ؛ فَكَمَا أَنَّ لَفْظَ " ذَاتٍ " و " وُجُودٍ " و " حَقِيقَةٍ ": تُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى عِبَادِهِ وَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْإِطْلَاقَيْنِ؛ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ ظَاهِرُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ مُسَاوِيًا لِظَاهِرِهِ فِي حَقِّنَا. وَلَا مُشَارِكًا لَهُ: فِيمَا يُوجِبُ نَقْصًا أَوْ حُدُوثًا سَوَاءٌ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُتَوَاطِئَةً أَوْ مُشْتَرَكَةً؛ أَوْ مُشَكِّكَةً كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} و {إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . الْبَابُ فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ. وَكَانَ قُدَمَاءُ " الْجَهْمِيَّة " يُنْكِرُونَ جَمِيعَ الصِّفَاتِ لِلَّهِ الَّتِي هِيَ فِينَا أَعْرَاضٌ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ. أَوْ أَجْسَامٍ: كَالْيَدِ وَالْوَجْهِ. وحدثاؤهم أَقَرُّوا بِكَثِيرِ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِينَا أَعْرَاضٌ: كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ. وَأَنْكَرُوا بَعْضَهَا وَالصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِينَا أَجْسَامٌ. وَفِيهِمْ مَنْ أَقَرَّ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِينَا أَجْسَامٌ كَالْيَدِ.
" وَأَمَّا السَّلَفِيَّةُ " فَعَلَى مَا حَكَاهُ الخطابي وَأَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا: مَذْهَبُ السَّلَفِ إجْرَاءُ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِ الصِّفَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا. مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا؛ فَلَا نَقُولُ: إنَّ مَعْنَى الْيَدِ الْقُدْرَةُ وَلَا إنَّ مَعْنَى السَّمْعِ الْعِلْمُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ يُحْتَذَى فِيهِ حَذْوَهُ وَيُتَّبَعُ فِيهِ مِثَالُهُ. فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ الذَّاتِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّةٍ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ. فَقَدْ أَخْبَرَك الخطابي وَالْخَطِيبُ - وَهُمَا إمَامَانِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مُتَّفَقٌ عَلَى عِلْمِهِمَا بِالنَّقْلِ وَعِلْمُ الخطابي بِالْمَعَانِي - أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ إجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا. وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي قَدْ بَالَغْت فِي الْبَحْثِ عَنْ مَذَاهِبِ السَّلَفِ فَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْهُمْ خَالَفَ ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ. فَيَجِبُ لِمَنْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ " الظَّاهِرُ " الَّذِي يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِ لَا بِالْخَالِقِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مُرَادٌ فَهُوَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ كَافِرٌ. فَهُنَا " بَحْثَانِ ": لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ. أَمَّا الْمَعْنَوِيّ: فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ فِي قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَنَحْوِهِ. أَنْ يُقَالَ: اسْتِوَاءٌ كَاسْتِوَاءِ
مَخْلُوقٍ: أَوْ يُفَسَّرُ بِاسْتِوَاءِ مُسْتَلْزَمٍ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا: فَهَذَا الَّذِي يَحْكِي عَنْ الضُّلَّالِ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا بِالْقُرْآنِ وَبِالْعَقْلِ. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: مَا ثَمَّ اسْتِوَاءٌ حَقِيقِيٌّ أَصْلًا وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ وَلَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ: فَهَذَا مَذْهَبُ الضَّالَّةِ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا بِمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لِمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي الْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ وَبِمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَلِيقَتَهُ مِنْ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ فَوْقَ خَلْقِهِ كَإِقْرَارِهِمْ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَا زَالَتْ الْأُمَمُ عَرَبُهَا وَعَجَمُهَا فِي جَاهِلِيَّتِهَا وَإِسْلَامِهَا مُعْتَرِفَةً بِأَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ أَيْ عَلَى السَّمَاءِ. أَوْ يُقَالُ: بَلْ اسْتَوَى سُبْحَانَهُ عَلَى الْعَرْشِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَيُنَاسِبُ كِبْرِيَاءَهُ وَأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ حَامِلٌ لِلْعَرْشِ وَلِحَمَلَةِ الْعَرْشِ وَإِنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفَ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانَ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالَ عَنْهُ بِدْعَةٌ كَمَا قَالَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. فَهَذَا مَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ اسْتَوَى عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَاقِينَ عَلَى الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ الَّتِي لَمْ تَنْحَرِفْ إلَى تَعْطِيلٍ وَلَا إلَى تَمْثِيلٍ. هَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ الْوَاسِطِيَّ الْمُتَّفَقُ عَلَى إمَامَتِهِ وَجَلَالَتِهِ وَفَضْلِهِ وَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ حَيْثُ قَالَ
مَنْ زَعَمَ أَنَّ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} خِلَافَ مَا يَقَرُّ فِي نُفُوسِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جهمي فَإِنَّ الَّذِي أَقَرَّهُ اللَّهُ فِي فِطَرِ عِبَادِهِ وَجَبَلَهُمْ عَلَيْهِ أَنَّ رَبَّهُمْ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ كَمَا {أَنْشَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
شَهِدْت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
…
وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافَ
…
وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا}
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ - الَّذِي أَجْمَعَتْ فِرَقُ الْأُمَّةِ عَلَى إمَامَتِهِ وَجَلَالَتِهِ حَتَّى قِيلَ: إنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَقِيلَ: مَا أَخْرَجَتْ خُرَاسَانُ مِثْلَ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَقَدْ أَخَذَ عَنْ عَامَّةِ عُلَمَاءِ وَقْتِهِ: مِثْلَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِي وَطَبَقَتِهِمْ - قِيلَ لَهُ: بِمَاذَا نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ: بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة - الْمُلَقَّبُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ مِمَّنْ يُعَرِّجُ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ بِمَا يَنْصُرُهُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَيَكَادُ يُقَالُ: لَيْسَ فِيهِمْ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُ -: مَنْ لَمْ يَقُلْ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ باين مِنْ خَلْقِهِ: وَجَبَ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ؛ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِنَتِنِ رِيحِهِ أَهْلُ الْمِلَّةِ وَلَا أَهْلُ الذِّمَّةِ وَكَانَ مَالُهُ فَيْئًا. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ الْإِمَامُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ وَهُوَ مَشْهُورٌ
عَنْهُ: إنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ؛ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: مِثْلَ مَا قَالَ مَالِكٌ وَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ. وَالْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ بِذَلِكَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ مَنْ تَتَبَّعَهَا؟ وَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا مُصَنَّفَاتٍ صِغَارًا وَكِبَارًا؛ وَمَنْ تَتَبَّعَ الْآثَارَ عَلِمَ أَيْضًا قَطْعًا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ حَرْفٌ وَاحِدٌ يُنَاقِضُ ذَلِكَ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَعَقِيدَةٍ وَاحِدَةٍ؛ يُصَدِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؛ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَعْلَمَ مِنْ بَعْضٍ؛ كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمَ بِخَصَائِصِ النُّبُوَّةِ وَمَزَايَاهَا وَحُقُوقِهَا وَمُوجِبَاتِهَا وَحَقِيقَتِهَا وَصِفَاتِهَا. ثُمَّ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَالَ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ: ظَاهِرُ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ؛ وَلَا قَالَ هَذِهِ الْآيَةُ أَوْ هَذَا الْحَدِيثُ مَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ؛ مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْمَصْرُوفَةِ عَنْ عُمُومِهَا وَظَاهِرِهَا؛ وَتَكَلَّمُوا فِيمَا يَسْتَشْكِلُ مِمَّا قَدْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ تَنَاقَضَ. وَهَذَا مَشْهُورٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ أَطْلَقُوهَا بِسَلَامَةِ وَطَهَارَةٍ وَصَفَاءٍ لَمْ يَشُوبُوهُ بِكَدَرِ وَلَا غِشٍّ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ لَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ سَلَفُ الْأُمَّةِ قَالُوا لِلْأُمَّةِ: الظَّاهِرُ الَّذِي تَفْهَمُونَهُ غَيْرُ مُرَادٍ وَلَكَانَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْآيَةَ وَغَيْرَهَا.
فَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ زَاغَ قَلْبُهُ حَتَّى صَارَ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ الْآيَةِ مَعْنًى فَاسِدٌ مِمَّا يَقْتَضِي حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا: فَلَا شَكَّ أَنَّ الظَّاهِرَ لِهَذَا الزايغ غَيْرُ مُرَادٍ. وَإِذَا رَأَيْنَا رَجُلًا يَفْهَمُ مِنْ الْآيَةِ هَذَا الظَّاهِرَ الْفَاسِدَ قَرَّرْنَا عِنْدَهُ " أَوَّلًا ": أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مَفْهُومًا مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ. ثُمَّ قَرَّرْنَا عِنْدَهُ " ثَانِيًا " أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مَعْنًى فَاسِدٌ. حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ - وَإِنْ كَانَ هَذَا فَرْضُ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ - لَوَجَبَ صَرْفُ الْآيَةِ عَنْ ظَاهِرِهَا كَسَائِرِ الظَّوَاهِرِ الَّتِي عَارَضَهَا مَا أَوْجَبَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا غَيْرُ الظَّاهِرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ لَمْ يُحَكِّمْ دَلَالَاتِ اللَّفْظِ وَيَعْلَمْ أَنَّ ظُهُورَ الْمَعْنَى مِنْ اللَّفْظِ: تَارَةً يَكُونُ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ؛ أَوْ الْعُرْفِيِّ؛ أَوْ الشَّرْعِيِّ؛ إمَّا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ وَإِمَّا فِي الْمُرَكَّبَةِ. وَتَارَةً بِمَا اقْتَرَنَ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ مِنْ التَّرْكِيبِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ دَلَالَتُهُ فِي نَفْسِهِ. وَتَارَةً بِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي تَجْعَلُهُ مَجَازًا. وَتَارَةً بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَالُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ وَالْمُتَكَلَّمِ فِيهِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ الَّذِي يُعَيِّنُ أَحَدَ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ أَوْ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ مَجَازُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُعْطِي اللَّفْظَ صِفَةَ الظُّهُورِ؛ وَإِلَّا فَقَدْ يَتَخَبَّطُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. نَعَمْ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِاللَّفْظِ قَطُّ شَيْءٌ مِنْ الْقَرَائِنِ الْمُتَّصِلَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ؛ بَلْ عَلِمَ مُرَادَهُ بِدَلِيلِ آخَرَ لَفْظِيٍّ مُنْفَصِلٍ: فَهُنَا أُرِيدَ بِهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ. كَالْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ بِدَلِيلِ مُنْفَصِلٍ. وَإِنْ كَانَ الصَّارِفُ عَقْلِيًّا ظَاهِرًا: فَفِي تَسْمِيَةِ الْمُرَادِ خِلَافُ الظَّاهِرِ. خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ ".
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِذَا عُرِفَ الْمَقْصُودُ فَقَوْلُنَا: هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. أَوْ لَيْسَ هُوَ الظَّاهِرَ: خِلَافٌ لَفْظِيٌّ؛ فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ فِي عُرْفِ خِطَابِهِ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ مَا هُوَ مُمَاثِلٌ لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ: فَقَدْ حَنِثَ. وَإِنْ كَانَ فِي عُرْفِ خِطَابِهِ أَنَّ ظَاهِرَهَا هُوَ مَا يَلِيقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عُرْفَ أَهْلِ نَاحِيَتِهِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ: وَلَمْ يَكُنْ سَبَبٌ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مُرَادِهِ وَتَعَذَّرَ الْعِلْمُ بِنِيَّتِهِ: فَقَدْ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَعْنًى صَحِيحًا وَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَعْنًى بَاطِلًا: فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ. وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ. كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ حَنِثَ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يُحَنِّثْهُ فَالْحُكْمُ فِي يَمِينِهِ ظَاهِرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ مَنْ يُنْكِرُ هَذِهِ الصِّفَةَ وَأَمْثَالَهَا إذَا بَحَثْت عَنْ الْوَجْهِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَجَدْتهمْ قَدْ اعْتَقَدُوا أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ. أَوْ اسْتِوَاءٍ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا ثُمَّ حَكَوْا عَنْ مُخَالِفِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ ثُمَّ تَبِعُوا فِي إقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِهِ ثُمَّ يَقُولُونَ: فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ: إمَّا بِالِاسْتِيلَاءِ أَوْ بِالظُّهُورِ وَالتَّجَلِّي أَوْ بِالْفَضْلِ وَالرُّجْحَانِ الَّذِي هُوَ عُلُوُّ الْقَدْرِ وَالْمَكَانَةِ. وَيَبْقَى " الْمَعْنَى الثَّالِثُ " وَهُوَ: اسْتِوَاءٌ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ يَكُونُ دَلَالَةُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَيْهِ كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَلَى مَعَانِيهَا: قَدْ دَلَّ السَّمْعُ عَلَيْهِ
بَلْ مَنْ أَكْثَرَ النَّظَرَ فِي آثَارِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ أَلْقَى إلَى الْأُمَّةِ إنَّ رَبَّكُمْ الَّذِي تَعْبُدُونَهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ. فَوْقَ الْعَرْشِ وَفَوْقَ السَّمَوَاتِ. وَعَلِمَ أَنَّ عَامَّةَ السَّلَفِ كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِثْلَ مَا عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّهُ لَا يُنْقَلُ عَنْ وَاحِدٍ لَفْظٌ يَدُلُّ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ إنَّ رَبَّنَا لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ عَلَى الْعَرْشِ كَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْبَحْرِ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تُرَّهَاتِ الْجَهْمِيَّة وَلَا مَثَّلَ اسْتِوَاءَهُ بِاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ وَلَا أَثْبَتَ لَهُ صِفَةً تَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا. وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ لَك خَطَأَ مَنْ أَطْلَقَ " الظَّاهِرَ " عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَلِيقُ بِالْخَلْقِ: أَنَّ الْأَلْفَاظَ " نَوْعَانِ ". " أَحَدُهُمَا " مَا مَعْنَاهُ مُفْرَدٌ: كَلَفْظِ الْأَسَدِ وَالْحِمَارِ وَالْبَحْرِ وَالْكَلْبِ. فَهَذِهِ إذَا قِيلَ: " أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ " أَوْ قِيلَ لِلْبَلِيدِ: حِمَارٌ. أَوْ لِلْعَالِمِ أَوْ السَّخِيِّ أَوْ الْجَوَادِ مِنْ الْخَيْلِ: بَحْرٌ. أَوْ قِيلَ لِلْأَسَدِ: كَلْبٌ. فَهَذَا مَجَازٌ؛
ثُمَّ إنْ قُرِنَتْ بِهِ قَرِينَةٌ تَبَيَّنَ الْمُرَادُ {كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِفَرَسِ أَبِي طَلْحَةَ: إنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا} وَقَوْلِهِ: {إنَّ خَالِدًا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ} {وَقَوْلِهِ لِعُثْمَانِ: إنَّ اللَّهَ يقمصك قَمِيصًا} وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ اسْتَلَمَهُ وَصَافَحَهُ فَكَأَنَّمَا بَايَعَ رَبَّهُ. أَوْ كَمَا قَالَ. وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَهَذَا اللَّفْظُ فِيهِ تَجَوُّزٌ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ ظَهَرَ مِنْ اللَّفْظِ مُرَادُ صَاحِبِهِ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ فِي اسْتِعْمَالِ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ؟ لَا عَلَى الظَّاهِرِ فِي الْوَضْعِ الْأَوَّلِ وَكُلُّ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْقَوْلَ عَلِمَ الْمُرَادَ بِهِ وَسَبَقَ ذَلِكَ إلَى ذِهْنِهِ لِاسْتِحَالَةِ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ نَصًّا؛ لَا مُحْتَمَلًا. وَلَيْسَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ فِي شَيْءٍ. وَهَذَا أَحَدُ مثارات غَلَطِ الغالطين فِي هَذَا الْبَابِ حَيْثُ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ وَأَنَّ اللَّفْظَ مُتَأَوَّلٌ. " النَّوْعُ الثَّانِي " مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا فِي مَعْنَاهُ إضَافَةٌ: إمَّا بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إضَافَةً مَحْضَةً: كَالْعُلُوِّ وَالسُّفُولِ وَفَوْقُ وَتَحْتُ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى ثُبُوتِيًّا فِيهِ إضَافَةٌ: كَالْعِلْمِ وَالْحُبِّ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ
وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ لَهُ مَعْنًى مُفْرَدٌ بِحَسَبِ بَعْضِ مَوَارِدِهِ؛ لِوَجْهَيْنِ. " أَحَدِهِمَا " أَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مُفْرَدًا قَطُّ. " الثَّانِي " أَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ أَوْ الْمَجَازُ؛ بَلْ يُجْعَلُ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ مَوَارِدِهِ. وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ اسْتَوَى لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ فِي خُصُوصِ جُلُوسِ الْآدَمِيِّ - مَثَلًا - عَلَى سَرِيرِهِ حَقِيقَةً حَتَّى يَصِيرَ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا: كَمَا أَنَّ لَفْظَ " الْعِلْمِ " لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ فِي خُصُوصِ الْعُرْفِ الْقَائِمِ بِقَلْبِ الْبَشَرِ الْمُنْقَسِمِ إلَى " ضَرُورِيٍّ " و " نَظَرِيٍّ " حَقِيقَةً وَاسْتَعْمَلَتْهُ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا؛ بَلْ الْمَعْنَى تَارَةً: يُسْتَعْمَلُ بِلَا تَعْدِيَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} . وَتَارَةً: يُعَدَّى بِحَرْفِ الْغَايَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} . وَتَارَةً: يُعَدَّى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ. ثُمَّ هَذَا تَارَةً: يَكُونُ صِفَةً لِلَّهِ. وَتَارَةً: يَكُونُ صِفَةً لِخَلْقِهِ. فَلَا يَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةً وَفِي الْآخَرِ مَجَازًا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ اسْتِوَاءِ اللَّهِ الْخَاصِّيَّةَ الَّتِي تَثْبُتُ لِلْمَخْلُوقِ دُونَ الْخَالِقِ؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} وقَوْله تَعَالَى {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وقَوْله
تَعَالَى {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وقَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} فَهَلْ يَسْتَحِلُّ مُسْلِمٌ أَنْ يُثْبِتَ لِرَبِّهِ خَاصِّيَّةَ الْآدَمِيِّ الْبَانِي الصَّانِعِ الْكَاتِبِ الْعَامِلِ؟ أَمْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ حَقِيقَةَ الْعَمَلِ وَالْبِنَاءِ كَمَا يَخْتَصُّ بِهِ وَيَلِيقُ بِجَلَالِهِ؟ أَمْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَصْرُوفَةٌ عَنْ ظَاهِرِهَا؟ أَمْ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: عَمَلُ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِهِ فَكَمَا أَنَّ ذَاتَهُ لَيْسَتْ مِثْلَ ذَوَاتِ خَلْقِهِ: فَعَمَلُهُ وَصُنْعُهُ وَبِنَاؤُهُ؛ لَيْسَ مِثْلَ عَمَلِهِمْ وَصُنْعِهِمْ وَبِنَائِهِمْ. وَنَحْنُ لَمْ نَفْهَمْ مِنْ قَوْلِنَا: بَنَى فُلَانٌ. وَكَتَبَ فُلَانٌ: مَا فِي عَمَلِهِ مِنْ الْمُعَالَجَةِ وَالتَّأَثُّرِ إلَّا مِنْ جِهَةِ عِلْمِنَا بِحَالِ الْبَانِي؛ لَا مِنْ جِهَةِ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ الْفِعْلِ وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِخُصُوصِ إضَافَتِهِ إلَى الْفَاعِلِ الْمُعَيَّنِ. وَبِهَذَا يَنْكَشِفُ لَك كَثِيرٌ مِمَّا يُشْكِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ وَتَرَى مَوَاقِعَ اللَّبْسِ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. وَيَجْمَعُ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِنَفْسِهِ وَبَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَاحِبِ الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنْ لَا يَدْخُلَ دَارَ جَارِهِ ثُمَّ اُضْطُرَّ إلَى الدُّخُولِ فَدَخَلَ: فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى لُزُومِهَا؟
فَأَجَابَ رضي الله عنه فَقَالَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ يَمِينًا تَقْتَضِي حَضًّا أَوْ مَنْعًا كَقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ أَوْ الْعِتْقُ يَلْزَمُهُ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا يَفْعَلُ كَذَا. أَوْ قَوْلُهُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ. أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ. وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. " أَحَدُهَا " أَنَّهُ إذَا حَنِثَ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. " وَالثَّانِي " لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَأْثُورٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد وَابْنِ حَزْمٍ. وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة شَيْخُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لَا يُفْتِي بِالْوُقُوعِ؛ فَإِنَّهُ رَوَى
عَنْ طاوس عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ شَيْئًا. فَقِيلَ لَهُ: أَكَانَ يَرَاهُ يَمِينًا قَالَ: لَا أَدْرِي. فَجَزَمَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوقِعُ الطَّلَاقَ وَشَكَّ هَلْ كَانَ يَجْعَلُهُ يَمِينًا فِيهَا كَفَّارَةٌ؟ " وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ " أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهَذَا مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْعِتْقِ كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ وَزَيْنَبَ رَبِيبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُمْ أَفْتَوْا مَنْ قَالَ لِفُلَانِ: إنْ لَمْ أُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ امْرَأَتِك فَمَالِي صَدَقَةٌ وَأَرِقَّائِي أَحْرَارٌ. فَقَالُوا: كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك وَدَعْ الرَّجُلَ مَعَ امْرَأَتِهِ: يَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي الْعِتْقِ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِي " جَامِعِهِ " عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ. أَنَّهُ سَأَلَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ إنْ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ. فَقَالَ: يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي مُسْنَدِهِ ثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ ثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ قَالَ أَبِي: ثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي أَبُو رَافِعٍ قَالَ قَالَتْ مَوْلَاتِي لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ؛ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا مُحَرَّرٌ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُطَلِّقْ امْرَأَتَك أَوْ تُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ امْرَأَتِك. قَالَ: فَأَتَيْت زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ - وَكَانَتْ إذَا ذُكِرَتْ امْرَأَةٌ بِالْمَدِينَةِ فَقِيهَةٌ ذُكِرَتْ زَيْنَبُ قَالَ: فَأَتَيْتهَا فَجَاءَتْ - يَعْنِي إلَيْهَا -
فَقَالَتْ: فِي الْبَيْتِ هَارُوتُ وَمَارُوتُ قَالَتْ يَا زَيْنَبُ جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاك: إنَّهَا قَالَتْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا مُحَرَّرٌ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ. فَقَالَتْ: يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ يَعْنِي وَكَفِّرِي يَمِينَك. فَأَتَيْت حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهَا فَأَتَتْهَا؛ فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاك: إنَّهَا قَالَتْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا مُحَرَّرٌ وَكُلُّ مَالٍ هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ. فَقَالَتْ يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِك. يَعْنِي وَكَفِّرِي عَنْ يَمِينِك. فَأَتَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَجَاءَ يَعْنِي إلَيْهَا؛ فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَسَلَّمَ؛ فَقَالَتْ (سا أَنْتَ وسا أَبُوك؛ فَقَالَ: أَمِنْ حِجَارَةٍ أَنْتِ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ أَنْتِ؟ . مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ أَفْتَتْك زَيْنَبُ وَأَفْتَتْك حَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ تَقْبَلِي فُتْيَاهُمَا فَقَالَتْ: يَا أبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك: إنَّهَا قَالَتْ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ. فَقَالَ: يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك وَخَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ. وَهَذَا الْأَثَرُ مَعْرُوفٌ؛ قَدْ رَوَاهُ حميد أَيْضًا وَغَيْرُهُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المزني. وَرَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَذَكَرُوا أَنَّ الثَّلَاثَةَ أَفْتَوْهَا بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ لَكِنْ سُلَيْمَانُ التيمي ذَكَرَ فِي رِوَايَتِهِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ حميد وَغَيْرُهُ. وَبِهَذَا أَجَابَ أَحْمَد لَمَّا فَرَّقَ بَيْنَ الْحَلِف بِالْعِتْقِ وَالْحَلِفِ بِغَيْرِهِ.
وَعَارَضَ ذَلِكَ أَثَرٌ آخَرُ ذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ المروذي: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إذَا قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ: فَيُعْتِقُ عَلَيْهِ إذَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ لَيْسَ فِيهِمَا كَفَّارَةٌ. وَقَالَ: لَيْسَ قَوْلُ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ. فِي حَدِيثِ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ. وَحَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ وَحَفْصَةَ. وَزَيْنَبَ وَذَكَرَتْ الْعِتْقَ فَأَفْتَوْهَا بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَأَمَّا حميد وَغَيْرُهُ فَلَمْ يَذْكُرُوا الْعِتْقَ. قَالَ: وَسَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قِصَّةَ امْرَأَتِهِ وَأَنَّهَا سَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ وَحَفْصَةَ فَأَمَرُوهَا بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ قُلْت فِيهَا الْمَشْيُ؟ قَالَ: نَعَمْ. أَذْهَبُ إلَى أَنَّ فِيهَا كَفَّارَةَ يَمِينٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَتْ تَقُولُ فِيهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ إلَّا (1) قُلْت: فَإِذَا حَلَفَ بِعِتْقِ مَمْلُوكِهِ يَحْنَثُ؟ قَالَ: يَعْتِقُ كَذَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا لِلْجَارِيَةِ تَعْتِقُ ثُمَّ قَالَ: مَا سَمِعْنَا إلَّا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ. وَقُلْت: فإيش إسْنَادُهُ؟ قَالَ: مَعْمَرٌ؛ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ: إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ وَأَيُّوبُ بْنُ مُوسَى: مَكِّيَّانِ. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَهُوَ يُحْرِمُ بِحَجَّةِ وَهُوَ يَهْدِي وَمَالُهُ فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ وَكُلُّ يَمِينٍ يُكَفِّرُ عِنْدَهَا عَقْدُ يَمِينٍ يَحْلِفُ عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّمَا هِيَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عَلَى حَدِيثِ بَكْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ فِي قِصَّةِ حَفْصَةَ. حَلَفَتْ لَتُفَرِّقَن بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا فَقَالَتْ: يَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك وَاعْتِقِي جَارِيَتَك فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ عَنْ الْعِتْقِ: فَهَذَا أَفْضَلُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَلَا اسْتِثْنَاءٌ. وَالِاسْتِثْنَاءُ
(1)
بياض بالأصل
قال الشيه ناصر بن حمد الفهد (ص 241):
وصحة العبارة مع موضع البياض: (ليس يقول فيه (كل مملوك) إلا التيمي) يعني انفرد سليمان التيمي بهذا، كما نقل الشيخ رحمه هذا في: 35/ 261.
دَائِمًا يَكُونُ فِي الْيَمِينِ الَّتِي تُكَفِّرُ فَأَوْجَبَ الْعِتْقَ؛ وَجَعَلَ فِي غَيْرِهِ كَفَّارَةً. قُلْت: فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد رضي الله عنه فِي أَجْوِبَتِهِ؛ وَلَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ [إلَّا](1) فِي الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ: بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ نَقَلَ عَنْ أَحْمَد " الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإسفراييني " وَمَنْ اتَّبَعَهُ: الْفَرْقُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَذَلِكَ غَلَطٌ عَلَى أَحْمَد؛ إنَّمَا هَذَا قَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْمَشِيئَةَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالْعِتْقِ طَاعَةٌ؛ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ. فَإِذَا قَالَ: عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَعَ الْعِتْقُ. وَإِذَا قَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ. وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مُسْنَدًا مِنْ رِوَايَةِ أَهْلِ الشَّامِ عَنْ مُعَاذٍ وَهُوَ مِمَّا وَضَعَتْهُ الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ كَانُوا بِالشَّامِ. وَسَبَبُ الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ أَحْمَد قَالَ فِيمَنْ قَالَ: إنْ مَلَكْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَمَلَكَهُ عَتَقَ. وَقَالَ فِيمَنْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةً فَهِيَ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ
(1)
ما بين معقوفتين غير موجود في المطبوع، ولم أقف عليه في كتاب صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف
أسامة بن الزهراء - منسق الكتاب للموسوعة الشاملة
فَتَزَوَّجَهَا لَمْ تَطْلُقْ. فَفَرْقٌ بَيْنَ التَّعْلِيقَيْنِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ بِالْمِلْكِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقُرَبِ كَالنَّذْرِ فَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الْمِلْكِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} وَالْعِتْقُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِالْمِلْكِ؛ وَلِهَذَا يَصِحُّ بَيْعُ الْعَبْدِ بِشَرْطِ عِتْقِهِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ. فَلَوْ قِيلَ: إنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِلنِّكَاحِ فَائِدَةٌ وَالْعُقُودُ الَّتِي لَا يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُهَا بَاطِلَةٌ. فَلَمَّا فَرَّقَ أَحْمَد فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ اعْتَقَدَ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّ الْفَرْقَ لِأَجْلِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ وَذَلِكَ غَلَطٌ عَلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ يَتَنَوَّعُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ؛ أَوْ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ نَفَعَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَإِذَا قَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كَأَبِي مُحَمَّدٍ وَأَبِي الْبَرَكَاتِ - هُنَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ قَوْلًا وَاحِدًا. وَقِيلَ: بَلْ الرِّوَايَتَانِ فِي صِيغَةِ الْقَسَمِ وَفِي صِيغَةِ التَّعْلِيقِ؛ وَهَذَا أَشْبَهُ بِكَلَامِ أَحْمَد؛ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ؛ فَإِنَّ لَهُمْ فِي النَّوْعَيْنِ قَوْلَيْنِ فَإِذَا كَانَ أَحْمَد فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْحَلِف بِالْعِتْقِ سَوَاءٌ كَانَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ أَوْ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ مَعَ قَوْلِهِ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ - لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ مِنْ الْأَيْمَانِ الْمُكَفِّرَةِ. قَالَ فِي رِوَايَةِ
أَبِي طَالِبٍ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فَقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يُكَفِّرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} فَكُلُّ يَمِينٍ فِيهَا كَفَّارَةٌ؛ غَيْرُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَأَمَّا كَوْنُ سُلَيْمَانَ التيمي هُوَ الَّذِي ذَكَرَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ. فَسُلَيْمَانُ التيمي ثِقَةٌ ثَبْتٌ؛ وَهُوَ أَجَلُّ مَنْ الَّذِينَ لَمْ يَذْكُرُوا الزِّيَادَةَ؛ وَسَبَبُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ لَمْ يَذْكُرُوا الْعِتْقَ هَابُوهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ النِّزَاعِ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ الْعِتْقَ فِي ذَلِكَ عَنْ التيمي أَيْضًا مَعَ أَنَّ التيمي كَانَ يَذْكُرُ الْعِتْقَ بِلَا نِزَاعٍ. قَالَ الْمَيْمُونِيَّ: قَالَ أَحْمَد وَابْنُ أَبِي عَدِيّ: لَمْ يَذْكُرُوا فِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ عَتَقَ. قُلْت: وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيّ هُوَ أَجَلُّ مَنْ رَوَى عَنْ التيمي فَعَلِمَ أَنَّ مِنْ الرُّوَاةِ مَنْ كَانَ يَتْرُكُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مَعَ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي الْحَدِيثِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ثَبَتَتْ عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ أَخَذَ بِهَا. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فَقَدْ قَالَ أَحْمَد مَا سَمِعْنَاهُ إلَّا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَعَنْ مَعْمَرٍ. وَعُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ قَدْ قِيلَ: إنَّهُ سَمِعَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ أَبُو زَرْعَةَ: هُوَ يَمَانِيٌّ حِمْيَرِيٌّ ثِقَةٌ وَقَدْ رَوَى لَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه. وَالْأَثَرُ الْأَوَّلُ أَثْبَتُ؛ وَرِجَالُهُ وَرُوَاتُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا يَرْوُونَ؛ وَهَذَا الْأَثَرُ فِيهِ تَمْوِيهٌ؛ وَلَمْ يُضْبَطْ لَنَا لَفْظُهُ. وَقَدْ بُسِطَ
الْكَلَامُ عَلَى تَضْعِيفِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ فَإِنْ صَحَّ كَانَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَثَرًا فِي الطَّلَاقِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَكُونَ مِنْهُ. " وَبِالْجُمْلَةِ " فَالنِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَابِتٌ بَيْنَ السَّلَفِ: كَعَطَاءِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي فِي شَرْحِ قَوْلِ الخرقي: " وَمَنْ حَلَفَ بِعِتْقِ مَا يَمْلِكُ فَحَنِثَ عَتَقَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَمْلِكُ: مِنْ عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ وَمُكَاتِبِيهِ وَمُدَبِّرِيهِ وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَشِقْصٍ يَمْلِكُهُ مِنْ مَمْلُوكٍ ". فَقَالَ: مَعْنَاهُ إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ وَعَتِيقٌ. أَوْ: فَكُلُّ مَا أَمْلِكُ حُرٌّ؛ فَإِنَّ هَذَا إذَا حَنِثَ عَتَقَ مَمَالِيكُهُ وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ كَفَّارَةٌ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى؛ وَالثَّوْرِيُّ؛ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِي؛ وَاللَّيْثُ؛ وَالشَّافِعِيُّ؛ وَإِسْحَاقُ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ؛ وَأَبِي هُرَيْرَةَ؛ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ: يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي رَافِعٍ الْمُتَقَدِّمِ قَالَ: وَلَنَا أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ عَلَى شَرْطٍ وَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّعْلِيقِ فَيَنْتَفِعُ بِوُجُودِ شَرْطِهِ كَالطَّلَاقِ وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ فِي مَعْنَاهُ؛ وَلِأَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ بِيَمِينِ فِي الْحَقِيقَةِ؛ إنَّمَا هُوَ تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ. قَالَ: فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ فَإِنَّ أَحْمَد
قَالَ فِيهِ: كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك. وَاعْتِقْ جَارِيَتَك؛ وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَمْلُوكٌ سِوَاهَا. قُلْت: الْقِيَاسُ الْمَذْكُورُ عِنْدَهُمْ مُنْتَقِضٌ بِكُلِّ مَا يُعَلِّقُهُ بِالشَّرْطِ: مِنْ صَدَقَةِ الْمَالِ وَالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ وَالْهَدْيِ وَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ أَوْ أُطَلِّقَ وَقَوْلُهُ: إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا صِيغَتُهُ صِيغَةُ الشَّرْطِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ يَمِينٌ اعْتِبَارًا بِمَعْنَاهُ. وَالْأَصْلُ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ فِيهِ نِزَاعٌ؛ بَلْ إذَا لَمْ يُوقِعُوا الْعَتَاقَ مَعَ كَوْنِهِ قُرْبَةً فَأَوْلَى أَلَّا يُوقِعُوا الطَّلَاقَ. وَأَبُو ثَوْرٍ لَمْ يُسَلِّمْ الطَّلَاقَ؛ لَكِنْ قَالَ: إنْ كَانَ فِيهِ إجْمَاعٌ فَالْإِجْمَاعُ أَوْلَى مَا اتَّبَعَ؛ وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ كَالْعَتَاقِ - وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إجْمَاعٌ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ وَأَنَّهُمْ قَالُوا: اعْتِقِي جَارِيَتَك. فَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَحَدٌ أَنَّهُمْ قَالُوا: اعْتِقِي جَارِيَتَك وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَد والجوزجاني وَالْأَثْرَمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَحَرْبٌ الكرماني وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ: فَلَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ. وَكَلَامُ أَحْمَد فِي عَامَّةِ أَجْوِبَتِهِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَحْمَد عَنْهُمْ ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا أَجَابَ بِكَوْنِ الْحَلِفِ بِعِتْقِ الْمَمْلُوكِ إنَّمَا ذَكَرَهُ التيمي. وَأَبُو مُحَمَّدٍ نَقَلَ ذَلِكَ مِنْ " جَامِعِ الْخَلَّالِ " وَالْخَلَّالُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ مَسْأَلَةِ أَبِي طَالِبٍ
كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ. وَذَلِكَ غَلَطٌ عَلَى أَحْمَد. وَأَبُو طَالِبٍ لَهُ أَحْيَانًا غَلَطَاتٌ فِي فَهْمِ مَا يَرْوِيه: هَذَا مِنْهَا. وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَد مِنْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ: فَهَذَا نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَد غَيْرُ وَاحِدٍ مَعَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ ثِقَةٌ وَالْغَالِبُ عَلَى رِوَايَتِهِ الصِّحَّةُ؛ وَلَكِنْ رُبَّمَا غَلِطَ فِي اللَّفْظِ. فَأَمَّا نَقْلُهُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيمَا يُكَفِّرُ فَلَمْ يَغْلَطْ فِيهِ؛ بَلْ نَقَلَهُ كَمَا نَقَلَهُ غَيْرُهُ. قَالَ هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَلَيْسَ قَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ حِينٍ؟ قَالَ: إنَّمَا هَذَا فِي الْقَوْلِ؛ لَيْسَ فِي الْيَمِينِ؛ كَانَ يَذْهَبُ إلَى قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إنَّمَا هَذَا فِي الْقَوْلِ؛ لَيْسَ فِي الْيَمِينِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزًا فِيمَا تَكُونُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا يَكْفُرُ. فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ فَإِذَا كَانَ قَدْ نَصَّ مَعَ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَزِمَهُ إجْرَاءُ الْكَفَّارَةِ فِي ذَلِكَ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ مُقْتَضَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} فَجَعَلَ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ فِي عَقْدِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا وَجَعَلَ ذَلِكَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ إذَا حَلَفْنَا
وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم {مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ} فَمَا دَخَلَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ الْمُنَجَّزَانِ لَا يَدْخُلَانِ فِي مُسَمَّى الْيَمِينِ وَالْحَلِفِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ بِخِلَافِ الْحَلِفِ عَلَى الْحَضِّ وَالْمَنْعِ وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ فَإِنَّهُ يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.
وَأَمَّا
التَّعْلِيقُ الْمَحْضُ
كَقَوْلِهِ: إنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لَهُمْ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ أَحْمَد فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لَيْسَ بِيَمِينِ كَاخْتِيَارِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِ أَحْمَد فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ: هُوَ يَمِينٌ كَاخْتِيَارِ أَبِي الْخَطَّابِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ} وَهَذَا عَامٌّ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ فِيهَا هَذَا فَمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ هَذَا فَلَيْسَ بِيَمِينِ. " وَالْمَقْصُودُ " هُنَا ذَكَرَ تَحْرِيرِ الْمَنْقُولِ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الدَّلَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا طَلَاقَ إلَّا عَنْ وَطَرٍ وَلَا عِتْقَ إلَّا مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ
اللَّهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ بِالطَّلَاقِ وَلَا هُوَ مُتَقَرِّبٌ بِالْعِتْقِ؛ بَلْ هُوَ حَالِفٌ بِهِمَا؛ وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ فِيهِ كَفَّارَةً. وَقِيلَ: لَا كَفَّارَةَ فِيهِ. وَهَذَا الثَّانِي قَوْلُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ. وَالشِّيعَةُ يَقُولُونَ: لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ. وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ بِلُزُومِ الطَّلَاقِ وَعَدَمِ التَّكْفِيرِ ضَعِيفًا أَيْضًا وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ. وَالْقَوْلُ بِلُزُومِ الْكَفَّارَةِ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ طَاوُوسٍ وَغَيْرِهِ؛ وَهُوَ مُقْتَضَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَبِهِ أَفْتَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفْتِينَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الطَّلَاقَ أَوْلَى أَلَّا يَقَعَ مِنْ الْعِتْقِ فَإِذَا أَفْتَى الصَّحَابَةُ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ فَالطَّلَاقُ أَوْلَى؛ وَلَكِنَّ أَبَا ثَوْرٍ لَمْ يَبْلُغْهُ فِي الطَّلَاقِ شَيْءٌ فَقَالَ؛ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ أَيْضًا؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ إجْمَاعٌ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ.
وَأَمَّا إذَا قَالَ: إذَا فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدِي أَوْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي وَمَالِي صَدَقَةٌ وَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَعَلَيَّ صَوْمُ كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُنَا يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ. وَيُقَالُ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ إلَيْهَا وَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَيُسَمِّيه الْفُقَهَاءُ " نَذَرَ اللَّجَاجَ وَالْغَضَبَ ". هَذَا إذَا كَانَ الْمَنْذُورُ قُرْبَةً: كَانَ الْعِتْقُ وَنَحْوُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً كَالطَّلَاقِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِك وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ؛ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ: أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ.
" فَنَذْرُ التَّبَرُّرِ " مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ النَّاذِرِ حُصُولَ الشَّرْطِ وَيَلْتَزِمُ فِعْلَ الْجَزَاءِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى؛ كَقَوْلِهِ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ أَنْ أَصُومَ كَذَا أَوْ أَتَصَدَّقَ بِكَذَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ: فَهَذَا النَّذْرُ عَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ بِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَمَّا " نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " فَقَصْدُ النَّاذِرِ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّرْطُ وَلَا الْجَزَاءُ: مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لَهُ: سَافِرْ مَعَ فُلَانٍ. فَيَقُولُ: إنْ سَافَرْت فَعَلَيَّ صَوْمُ كَذَا وَكَذَا أَوْ عَلَيَّ الْحَجُّ. فَمَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ الشَّرْطَ وَلَا الْجَزَاءَ وَكَمَا لَوْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا. أَوْ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فَلَا يَكْفُرُ بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: إنْ أَعْطَيْتُمُونِي الدَّرَاهِمَ كَفَرْت فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ؛ بَلْ يُنَجَّزُ كُفْرُهُ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ حُصُولَ الْكُفْرِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ. فَطَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ نَظَرُوا إلَى لَفْظِ النَّاذِرِ فَقَالُوا: قَدْ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِشَرْطِ فَيَجِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ " نَذْرِ اللَّجَاجِ " و " نَذْرِ التَّبَرُّرِ ". وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْمُحَقِّقُونَ فَقَالُوا: الِاعْتِبَارُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ. وَالْمُشْتَرِطُ هُنَا قَصْدُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ؛ وَهُنَاكَ قَصْدُهُ أَنْ لَا يَكُونَ
هَذَا وَلَا هَذَا؛ وَلِهَذَا يَحْلِفُ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ تَارَةً. وَبِصِيغَةِ الْقَسَمِ أُخْرَى. مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ الْحَجُّ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا فَعَلْت كَذَا أَوْ عَلَيَّ الْعِتْقُ إنْ فَعَلْت كَذَا أَوْ لَا فَعَلْت كَذَا. وَهَذَا حُجَّةُ مَنْ أَمَرَهُ بِكَفَّارَةٍ فِي الْعِتْقِ وَكَذَا فِي الطَّلَاقِ؛ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ: سَافِرْ. فَقَالَ: عَلَيْهِ الْعِتْقُ أَوْ الطَّلَاقُ لَا يَفْعَلُ كَذَا أَوْ إنْ فَعَلَ كَذَا فَعَبْدُهُ حُرٌّ أَوْ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ: فَقَصْدُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّرْطُ وَلَا الْجَزَاءُ: فَهُوَ حَالِفٌ بِذَلِكَ؛ لَا مُوقِعَ لَهُ. قَالُوا: وَهَذَا الْحَالِفُ الْتَزَمَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَهُوَ كَمَا لَوْ الْتَزَمَ إيقَاعَهُ بِأَنْ يَقُولَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ أَوْ أُطَلِّقَ. وَلَوْ قَالَ هَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُطَلِّقَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ لَكِنْ فِي وُجُوبِ الْإِعْتَاقِ قَوْلَانِ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ؛ لَكِنْ الشَّافِعِيُّ يُلْزِمُهُ الْكَفَّارَةَ إذَا لَمْ يُعْتِقْ وَلَا يُلْزِمُهُ الْكَفَّارَةَ إذَا لَمْ يُطَلِّقْ. فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَأَحْمَد يُلْزِمُهُ الْكَفَّارَةَ فِيهِمَا عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ إذَا لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِعْلُهُ بِالِاتِّفَاقِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ الْمَشْهُورِ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ. وَمَذْهَبُ أَحْمَد الْمَشْهُورُ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. قَالَ هَؤُلَاءِ: الْتِزَامُهُ الْوُقُوعَ كَالْتِزَامِهِ الْكُفْرَ؛ وَلَوْ الْتَزَمَهُ لَمْ يَكْفُرْ بِالِاتِّفَاقِ؛ بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي إحْدَى الْقَوْلَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ الْمُوقِعُونَ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ هُنَا الْتَزَمَ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَهُوَ الْوُقُوعُ وَهُنَاكَ الْتَزَمَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِهِ وَهُوَ الْإِيقَاعُ كَقَوْلِهِ: فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ عَلَيَّ الصَّوْمُ أَوْ عَلَيَّ الصَّدَقَةُ وَهُوَ فِي الْفِعْلِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيُكَفِّرَ؛ بِخِلَافِ الْحُكْمِ فَإِنَّهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالُوا: وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ أَعْطَيْتِنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَعْطَتْهُ إيَّاهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ. فَيُقَاسُ عَلَيْهِ سَائِرُ الشُّرُوطِ إذَا عُلِّقَ بِهَا الطَّلَاقُ وَقَعَ وَكَذَلِكَ ثَبَتَ جَوَازُ الْكِتَابَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِي مَعْنَاهَا مَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ حُرٌّ؛ وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ. فَهَذَا مُنْتَهَى مَا يَحْتَجُّ بِهِ هَؤُلَاءِ. وَأَمَّا أُولَئِكَ فَيَقُولُونَ. قَوْلُكُمْ إنَّ اللَّازِمَ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَهُنَاكَ فِعْلُ غَلَطٍ؛ بَلْ اللَّازِمُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ؛ لَكِنْ فِي إحْدَاهُمَا وُقُوعٌ وَفِي الْآخِرَةِ وُجُوبٌ. فَقَوْلُهُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ. إنَّمَا يَكُونُ فِيهِ وُجُوبُ الْحَجِّ؛ لَا نَفْسُ فِعْلِهِ. ثُمَّ يُقَالُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ حُكْمًا شَرْعِيًّا أَوْ أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لَهُ. كَالسَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ اللَّازِمِ لَهُ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا. فَقَدْ الْتَزَمَ حُكْمًا وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ بِلَا نِزَاعٍ. وَأَيْضًا فَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الصَّوْمُ؛ أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ. فَالْجَزَاءُ وُجُوبُ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ. ثُمَّ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ بِحُكْمِ الْوُجُوبِ فَالْوُجُوبُ
هُوَ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ؛ لَيْسَ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ نَفْسَ فِعْلِهِ؛ إذْ لَوْ كَانَ الْمُعَلَّقُ نَفْسَ فِعْلِهِ لَوُجِدَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ اللُّغَوِيِّ وَلَكِنَّ الْمُعَلَّقَ وُجُوبُ الْإِعْتَاقِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْتِزَامِ هَذَا الْوُجُوبِ؛ وَبَيْنَ التَّكْفِيرِ. وَفِيمَا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ. فَالْجَزَاءُ نَفْسُ الْحُرِّيَّةِ وَمُقْتَضَاهَا تَحْرِيمُ اسْتِعْبَادِهِ وَكَذَلِكَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مُوجِبُهُ تَحْرِيمُ اسْتِمْتَاعِهِ. فَالتَّحْرِيمُ هُنَا مُوجِبُ الْجَزَاءِ؛ لَا نَفْسُ الْجَزَاءِ. وَهَذَا مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ؛ وَذَلِكَ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي صَدَقَةٌ؛ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ يَصِيرَ الْمَالُ صَدَقَةً. فَهَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ؛ لَا فِعْلٌ؛ لَكِنْ إذَا صَارَ صَدَقَةً لَزِمَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ. وَلَوْ قَالَ: فَعَبْدِي حُرٌّ الْتَزَمَ أَنْ يَصِيرَ حُرًّا فَلَوْ قَالَ. فَعَلَيَّ أَنَّ أَعْتِقَ هَذَا فَالْمُلْتَزِمُ وُجُوبُ الْعِتْقِ. ثُمَّ إذَا وَجَبَ كَانَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ. وَمَعَ هَذَا فَلَهُ رَفْعُ الْوُجُوبِ؛ وَإِذَا قَالَ: فَهُوَ حُرٌّ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ نَفْسَ الْحُرِّيَّةِ وَهُوَ إذَا صَارَ حُرًّا كَانَ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا صَارَتْ طَالِقَةً ثَلَاثًا كَانَ عَلَيْهِ إرْسَالُهَا وَأَنْ لَا يَخْلُوَ بِهَا وَلَا يَطَأَهَا. فَالنَّاذِرُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْتَزَمَ الْحُكْمَ وَالْفِعْلُ يَتْبَعُهُ. ثُمَّ إذَا فَعَلَ مَا أَوْجَبَهُ فَهُوَ الْإِيقَاعُ لِلطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ: حَصَلَ الْوُقُوعُ. فَمُوجِبُ التَّعْلِيقِ وُجُوبٌ يَتْبَعُهُ إيقَاعٌ وَوُقُوعٌ. ثُمَّ إذَا قَصَدَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ الْيَمِينَ صَارَ يَمِينًا؛ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْوُجُوبُ وَلَا الْإِيقَاعُ وَلَا الْوُقُوعُ. فَإِذَا كَانَ قَصْدُ الْيَمِينِ مَنْعَ الثَّلَاثَةِ فَلَأَنْ يُمْنَعَ وَاحِدٌ مِنْهَا وَهُوَ الْوُقُوعُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمُظَاهِرَ وَالْمُحَرِّمَ إذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. إنَّمَا الْتَزَمَ حُكْمًا شَرْعِيًّا؛ لَمْ يُلْتَزَمْ فِعْلًا. وَمَعَ هَذَا فَدَخَلَتْ فِي ذَلِكَ الْكَفَّارَةُ. قَالُوا: فَكَمَا أَنَّهُ يُخَيَّرُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ وُجُوبَ الْعِتْقِ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَهُ أَوْ يُكَفِّرَ فَكَذَلِكَ إذَا الْتَزَمَ وُقُوعَهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ وُقُوعَهُ فَيُعْتِقَهُ وَيُرْسِلَ الْعَبْدَ فَيَكُونُ إعْتَاقُهُ إرْسَالَهُ إمْضَاءً لِلْمَنْذُورِ؛ وَبَيْنَ أَنْ لَا يُعْتِقَهُ وَلَا يُرْسِلَهُ فَلَا يُكَفِّرَ إمْضَاءً لَهُ؛ بَلْ يَكُونُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ كَمَا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَهَذَا الْمَالُ صَدَقَةٌ أَوْ هَذَا الْبَعِيرُ هَدْيٌ وَحِنْثٌ. فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْمَالِ وَيُرْسِلَ الْبَعِيرَ هَدْيًا؛ فَيَكُونُ قَدْ الْتَزَمَ مُوجِبَ كَوْنِهِ صَدَقَةً وَهَدْيًا؛ وَبَيْنَ أَنْ يُكَفِّرَ وَيُمْسِكَ الْمَالَ وَالْهَدْيَ فَلَا يُرْسِلُهُ. وَأَمَّا إذَا الْتَزَمَ مُحَرَّمًا؛ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ إهَانَةُ الْمُصْحَفِ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَهُنَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ النِّزَاعُ الْمُتَقَدِّمُ؛ وَكَذَلِكَ إذَا الْتَزَمَ حُكْمًا لَا يَجُوزُ الْتِزَامُهُ مِثْلَ قَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ. فَهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ الْتِزَامُ الْكُفْرِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَلَوْ قَصَدَ ذَلِكَ لَكَانَ كَافِرًا بِالْقَصْدِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ لَا فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعُرْفِ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ الْحُكْمَ الْمُوجِبَ عَلَيْهِ فِعْلًا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْفِعْلَ حُكْمًا آخَرَ يَقْتَضِي وُجُوبَ فِعْلٍ أَوْ تَحْرِيمِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ الْحُكْمَ الْمُقْتَضِيَ لِوُجُوبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ تَحْرِيمِهِ. فَالْتِزَامُ وُجُوبِ الْفِعْلِ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ الْحُكْمَ كَمَا إذَا قَالَ: فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ أَوْ أَعْتِقَ. فَإِنَّهُ
الْتَزَمَ وُجُوبَ الطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ وَالتَّطْلِيقِ وَذَلِكَ فِعْلٌ مِنْهُ يُوجِبُ حُكْمًا وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْتِزَامَهُ لِوُجُوبِ الْفِعْلِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْوُقُوعُ أَقْوَى مِنْ الْتِزَامِهِ الْوُقُوعَ؛ فَإِنَّهُ هُنَاكَ الْتَزَمَ حُكْمَيْنِ وَفِعْلَيْنِ وَهُوَ هُنَا الْتَزَمَ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ وَأَحَدَ الْفِعْلَيْنِ فَاَلَّذِي الْتَزَمَهُ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ فِي بَعْضِ مَا الْتَزَمَهُ فِي مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ. فَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَلْتَزِمَ هَذَا فَذَاكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. فَهُوَ فِي مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ إذَا قَصَدَ بِالتَّعْلِيقِ الْيَمِينَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْنَثَ وَيُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُوفِيَ بِمَا الْتَزَمَهُ فَيُوقِعُ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ وَالصَّدَقَةَ فَكَذَلِكَ الَّذِي الْتَزَمَهُ فِي مَوَاقِعِ النِّزَاعِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَالْحِنْثُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ يَكُونُ بِأَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ وَلَا يُوجَدَ الْجَزَاءُ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ. فَإِذَا قَالَ: إذَا فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ الْعِتْقُ أَوْ الطَّلَاقُ: لَمْ يَحْنَثْ إلَّا إذَا فَعَلَهُ وَلَمْ يُوجَدْ الْجَزَاءُ الْمُعَلَّقُ بِهِ فَإِنْ أَوْقَعَ الْجَزَاءَ الْمُعَلَّقَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ كَمَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ الْتَزَمَ فِعْلًا كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا عَتَقَ عَبْدِي أَوْ طَلُقَتْ امْرَأَتِي. فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ: فَعَلَيَّ عِتْقُ عَبْدِي أَوْ طَلَاقُ امْرَأَتِي. فَالْتِزَامُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مُتَضَمِّنٌ لِالْتِزَامِ الْآخَرِ؛ فَإِنَّ الْوُجُوبَ يَقْتَضِي أَنَّ عَلَيْهِ فِعْلَ الْوَاجِبِ وَالتَّحْرِيمَ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ فِعْلَ الْمُحَرَّمِ. وَالْإِيجَابُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْوُجُوبِ؛ وَالتَّحْرِيمُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُرْمَةِ. وَالْوُجُوبُ يَقْتَضِي الْفِعْلَ وَالْإِيقَاعُ مُسْتَلْزِمُ الْوُقُوعِ مُقْتَضٍ لِلْحُرْمَةِ وَالْحُرْمَةُ مُقْتَضِيَةٌ لِلتَّرْكِ. فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ الْإِيجَابَ
وَالْوُجُوبَ وَالْفِعْلَ أَوْ التَّحْرِيمَ أَوْ الْحُرْمَةَ أَوْ الْإِيقَاعَ أَوْ الْوُقُوعَ أَوْ الْحُرْمَةَ الَّتِي هِيَ مُوجَبُ ذَلِكَ. قَالَ هَؤُلَاءِ: وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ احْتَجَّ بِالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَتَعْلِيقِ ذَلِكَ بِعِوَضِ فَجَوَابُهُ عِنْدَ أَهْلِ الظَّاهِرِ - ابْنِ حَزْمٍ وَنَحْوِهِ - أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ وَمَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِإِبَاحَتِهِ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ. وَلَا يَكْتَفُونَ فِي ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالشُّرُوطِ وَالْعَهْدِ وَتَحْرِيمِ الْغَدْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ مَنْسُوخَةٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاسْمُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ الْمُنْجَزَ وَالْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الشَّرْطِ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى التَّطْلِيقِ؛ بِخِلَافِ مَا يُكْرَهُ وُقُوعُهُ عِنْدَ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ يَمِينٌ دَاخِلُ فِي مُسَمَّى التَّطْلِيقِ. وَعَلَى هَذَا فَالْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ الْأَئِمَّةِ وَالْجُمْهُورِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمَقْصُودِ وُجُودُهُ وَالشَّرْطِ الْمَقْصُودِ عَدَمُهُ وَعَدَمِ الْجَزَاءِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْحَلِفُ وَلَا يُرَادُ بِهِ وُقُوعُ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ هُوَ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ؛ لَا يُعْرَفُ عَنْهُمْ فِيهِ خِلَافٌ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ
وَالْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. فَيُقَالُ: إنَّهُ هُنَا قَصَدَ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ كَمَا قَصَدَ ذَاكَ نَذْرَ التَّبَرُّرِ. فَكَمَا أَنَّهُ فَرَّقَ فِي النُّذُورِ الْمُعَلَّقَةِ بِالشُّرُوطِ بَيْنَ مَا يَقْصِدُ فِيهِ ثُبُوتَهَا وَبَيْنَ مَا يَقْصِدُ فِيهِ نَفْيَهَا؛ كَذَلِكَ هَذَا. فَإِنَّ هَذَا جَمِيعُهُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَهِيَ أَحْكَامٌ مُعَلَّقَةٌ بِشُرُوطِ وَإِذَا كَانَ الشَّرْعُ أَوْ الْعَقْلُ وَالْعُرْفُ تَفَرَّقَ فِي الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِالشُّرُوطِ اللُّغَوِيَّةِ بَيْنَ مَا يَقْصِدُ ثُبُوتَهُ وَبَيْنَ مَا يَقْصِدُ انْتِفَاءَهُ - كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - لَمْ يَجُزْ تَسْوِيَةُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الِاحْتِجَاجُ بِالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ كُلُّ مَنْ يَمْنَعُ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ جُمْلَةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ وَالْإِمَامِيَّةِ أَوْ بَعْضِهِمْ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطِ لَا يَقَعُ بِحَالِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ عِنْدَهُمْ مِنْ الطَّلَاقِ إلَّا مَا ثَبَتَ أَنَّ الشَّارِعَ أَذِنَ فِيهِ. قَالُوا: وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ أَذِنَ فِي هَذَا فَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالْقِيَاسِ وَجَعَلُوا مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الْحَلِف بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ حُجَّةً لَهُمْ؛ وَلَيْسَ بِحُجَّةِ لَهُمْ؛ فَإِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ طاوس أَنَّهُ لَا يَرَى الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ شَيْئًا وَهَذَا لَا يَقْضِي أَنَّهُ لَا يَرَى تَعْلِيقَهُ بِالشُّرُوطِ بِحَالِ بَلْ قَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمَقْصُودِ ثُبُوتُهُ وَالْمَقْصُودِ عَدَمُهُ كَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ قَوْلُ طَاوُوسٍ وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمَا فِي مَسْأَلَةِ " نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ "
وَلِهَذَا لَمَّا دَخَلَ الشَّافِعِيُّ مِصْرَ سَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَعَلَيَّ الصَّوْمُ. فَأَفْتَاهُ الشَّافِعِيُّ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ قَوْلَ مَالِكٍ: إنَّ عَلَيْهِ الْحَجَّ وَالصَّوْمَ. وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا حَنِثَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَاسِمُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ أَفْتَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْقَاسِمُ - الَّذِي هُوَ الْعُمْدَةُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ. وَقَالَ: أَفْتَيْتُك بِقَوْلِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَإِنْ عُدْت أَفْتَيْتُك بِقَوْلِ مَالِكٍ. وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ مَالِكٍ يُرَجِّحُونَ الْإِفْتَاءَ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَهُوَ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ آخِرًا. وَأَمَّا جُمْهُورُ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَبَيْنَ فِعْلِ الْمُلْتَزِمِ. وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَةٌ: أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ عَيْنًا وَيَذْكُرُ قَوْلًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. كَذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفْتِينَ أَصْحَابِ مَالِكٍ يُفْتُونَ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَيَحْتَجُّونَ بِمَا رَوَوْهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كُلُّ يَمِينٍ وَإِنْ عَظُمَتْ فَكَفَّارَتُهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ. وَهَذَا قَوْلُ طاوس وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَسَائِلُ جَلِيلَةٌ تَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ طَوِيلٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَالْإِفْتَاءُ بِهَذَا الْأَصْلِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْغَالِبِ؛ بَلْ غَالِبُ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالنَّذْرِ وَالْحَرَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَوَاعِدَ. " الْقَاعِدَةُ الْأُولَى " إذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ أَوْ جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ. فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. " أَحَدُهَا " لَا يَحْنَثُ بِحَالِ فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَكِّيِّينَ: كَعَطَاءِ وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَغَيْرِهِمْ وَمَذْهَبُ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ بَلْ أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَنَظَرْت جَوَابَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَوَجَدْت النَّاقِلِينَ لَهُ بِقَدْرِ النَّاقِلِينَ لِجَوَابِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ صَاحِبُهُ والخرقي وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالْيَمِينِ الَّتِي لَا تُكَفِّرُ - عَلَى مَنْصُوصِهِ - وَهِيَ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. و " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ عَنْهُ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْحَضَّ وَالْمَنْعَ فِي الْيَمِينِ بِمَنْزِلَةِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَبْدِهِ أَوْ قَرَابَتِهِ أَوْ صَدِيقِهِ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُطِيعُهُ هُوَ طَالِبٌ لِمَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ مَانِعٌ لِمَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ وَقَدْ وَكَّدَ طَلَبَهُ وَمَنَعَهُ بِالْيَمِينِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمُؤَكَّدِ. وَقَدْ اسْتَقَرَّ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ عَاصِيًا مُخَالِفًا: فَكَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حَانِثًا مُخَالِفًا لِيَمِينِهِ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ مُتَأَوِّلًا أَوْ مُقَلِّدًا لِمَنْ أَفْتَاهُ أَوْ مُقَلِّدًا لِعَالِمِ مَيِّتٍ أَوْ مُجْتَهِدًا مُصِيبًا أَوْ مُخْطِئًا. فَحَيْثُ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْمُخَالَفَةَ؛ وَلَكِنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْيَمِينِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حَانِثًا. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا إذَا خَالَعَ وَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَ الْخُلْعِ لَمْ تَتَنَاوَلْهُ يَمِينُهُ فَهَذِهِ الصُّورَةُ تَدْخُلُ فِي يَمِينِ الْجَاهِلِ الْمُتَأَوِّلِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ هَذَا الْخُلْعَ خُلْعَ الْأَيْمَانِ بَاطِلٌ وَهُوَ أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ صَحِيحًا فَذَلِكَ يَقُولُ: إنَّهُ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ الْبَيْنُونَةِ وَالْمَرْأَةُ لَوْ فَعَلَتْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَمْ يَحْنَثْ الرَّجُلُ بِالِاتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَتْهُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ؛ فَيَحْنَثُ عِنْدَهُ إذَا وَجَدَتْ الصِّفَةَ فِي زَمَنِ الْبَيْنُونَةِ وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ عَامِّيًّا فَقِيلَ لَهُ: خَالِعْ امْرَأَتَك وَافْعَلْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْرِفْ مَعْنَى الْخُلْعِ فَظَنَ أَنَّهُ طَلَاقٌ مُجَرَّدٌ
فَطَلَّقَهَا ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِذَلِكَ: لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ مَنْ لَا يَحْنَثُ الْجَاهِلُ الْمُتَأَوِّلُ وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ لَهُ: زِلْهَا بِطَلْقَةِ. فَأَزَالَهَا بِطَلْقَةِ ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ: لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ طَلْقَةً ثَانِيَةً وَإِنْ كَانَتْ الطَّلْقَةُ الْأَوْلَى رَجْعِيَّةً؛ لَكِنْ فِي صُورَةِ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ وَالْجَهْلِ لَا يَحْنَثُ وَتَبْقَى الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ؛ وَلَيْسَ فِيهِ نِزَاعٌ إلَّا وَجْهٌ ضَعِيفٌ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ.
" الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ " إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ. فَهَذَا أَوْلَى بِعَدَمِ التَّحْنِيثِ مِنْ مَسْأَلَةِ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا؛ وَلِهَذَا فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَصُورَةِ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ فَقَالُوا هُنَا لَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُنَاكَ يَحْنَثُ. قَالُوا: لِأَنَّهُ هنا كانت الْيَمِينُ عَلَى الْمَاضِي فَلَمْ تَنْعَقِدْ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ عَلَى مَاضٍ إنْ كَانَ عَالِمًا فَهُوَ: إمَّا صَادِقٌ بَارٌّ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ فَتَكُونُ يَمِينُهُ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا مُعْتَقِدًا أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ: فَهَذَا لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ عَلَى فَاعِلِهِ إثْمُ الْكَذَّابِ. وَهَذَا هُوَ لَغْوُ الْيَمِينِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَمِثْلُ هَذَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ النِّسْيَانُ كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ وَكَانَ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَسِيَ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: بَلَى قَدْ نَسِيت. فَقَالَ: أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: نَعَمْ} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {أَنَّهُ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ خَمْسًا فَقَالُوا لَهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ: أَزِيدُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا صَلَّيْت خَمْسًا. قَالَ: إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيَتْ فَذَكِّرُونِي} .
قَالُوا:
وَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهَا مُنْعَقِدَةٌ وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَاقِعٌ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْعَقْدِ فَلِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ. وَأَمَّا فِي الطَّلَاقِ فَقَالُوا أَيْضًا فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ كَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَحْنَثُ الْجَاهِلُ وَالنَّاسِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَكَذَلِكَ لَا يَحْنَثُ الْمُخْطِئُ حِينَ عَقَدَ الْيَمِينَ الَّذِي حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا: إنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَحْنَثُ فِي الْمَاضِي؛ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَكَذَلِكَ لَا يَحْنَثُ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ سَلَكَهَا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: كَأَبِي الْبَرَكَاتِ فِي " مُحَرَّرِهِ ". وَأَصْحَابُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَقُولُونَ: إنَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَحْنَثُ إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ: فَيَلْزَمُهُ أَلَّا يَحْنَثَ مِنْ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا. وَيُضَعِّفُونَ قَوْلَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَرْقِ وَقِيلَ: بَلْ لَا يَحْنَثُ فِي الْمَاضِي قَوْلًا وَاحِدًا وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ قَوْلَانِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد سَلَكُوا مَسْلَكَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ: فَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَقَالُوا: إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا فَفِيهِ
رِوَايَتَانِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ فِي " الْفُصُولِ " وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي؛ وَغَيْرِهِمْ فَجَعَلُوا النِّزَاعَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي. وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
" لَغْوُ الْيَمِينِ "
هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ بِلَا نِزَاعٍ. وَأَمَّا إذَا سَبَقَ لِسَانُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ: فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ فِي " الْفُصُولِ "؛ وَاخْتَارَ الْقَاضِي فِي " خِلَافِهِ " أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ لَيْسَ بِلَغْوِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا يَسْبِقُ عَلَى اللِّسَانِ هُوَ لَغْوٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَفِيمَا إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ رِوَايَتَانِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ. " وَالصَّوَابُ " أَنَّ النِّزَاعَ فِي الصُّورَتَيْنِ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ عَنْهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ؛ وَلَكِنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا لَغْوٌ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَكَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ كِلَا النَّوْعَيْنِ لَغْوٌ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ وَلِهَذَا جَزَمَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَحْمَد بِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا. وَلَمْ يَذْكُرُوا نِزَاعًا؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ كِلَيْهِمَا لَغْوٌ فِي جَوَابِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الخرقي وَابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَذَكَرَ طَائِفَةٌ عَنْهُ فِي اللَّغْوِ " رِوَايَتَيْنِ " رِوَايَةً كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَرِوَايَةً كَقَوْلِ
الشَّافِعِيِّ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ: مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُمَا. وَصَرَّحَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ - كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ - بِأَنَّهُ إذَا قِيلَ: إنَّ اللَّغْوَ هُوَ أَنْ يَسْبِقَ عَلَى لِسَانِهِ الْيَمِينُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَإِنَّهُ إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ حَنِثَ. فَلِهَذَا صَارَ فِي مَذْهَبِهِ عِدَّةُ طُرُقٍ. " طَرِيقَةُ الْقُدَمَاءِ " أَنَّ كِلَيْهِمَا لَغْوٌ قَوْلًا وَاحِدًا. " وَطَرِيقَةُ الْقَاضِي " أَنَّ الْمَاضِيَ لَغْوٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَفِي سَبْقِ اللِّسَانِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ رِوَايَتَانِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ تُوَافِقُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. " وَطَرِيقَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ " أَنَّ سَبْقَ اللِّسَانِ لَغْوٌ قَوْلًا وَاحِدًا. وَفِي الْمَاضِي رِوَايَتَانِ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ تُوَافِقُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ. " وَالطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ " وَهِيَ أَضْعَفُ الطُّرُقِ: أَنَّ اللَّغْوَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ هَذَا دُونَ هَذَا وَفِي الْأُخْرَى هَذَا دُونَ هَذَا. " وَالطَّرِيقَةُ الْخَامِسَةُ " وَهِيَ الْجَامِعَةُ بَيْنَ الطُّرُقِ: أَنَّ فِي مَذْهَبِهِ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ فَإِذَا سَبَقَ عَلَى لِسَانِهِ: لَا وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ: فَهَذَا لَغْوٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ.وَإِذَا سَبَقَ عَلَى لِسَانِهِ الْيَمِينُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ تَعَمَّدَ الْيَمِينَ عَلَى أَمْرٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ: فَفِي الصُّورَتَيْنِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ؛ هِيَ الرِّوَايَاتُ الثَّلَاثُ عَنْ أَحْمَد. " أَحَدُهَا " أَنَّ الْجَمِيعَ لَغْوٌ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَهِيَ وَمَذْهَبُهُ فِي إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ بِلَا نِزَاعٍ عَنْهُ. وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَقَدْ فَسَّرَ اللَّغْوَ بِهَذَا. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. " وَالثَّانِي " أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْمَاضِي دُونَ مَا سَبَقَ عَلَى لِسَانِهِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا. " وَالثَّالِثُ " بِالْعَكْسِ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُخْطِئَ فِي عَقْدِ الْيَمِينِ الَّذِي حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ هُوَ فِي إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ كَالنَّاسِي وَالْجَاهِلِ وَفِي الْأُخْرَى لَا يَحْنَثُ قَوْلًا وَاحِدًا. وَالْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ أَحْمَد. وَعَلَى هَذَا فَالْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ عَلَى أَمْرٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ لَا يَحْنَثُ إذَا لَمْ يَحْنَثْ النَّاسِي وَالْجَاهِلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ: إمَّا تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا. وَإِمَّا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى اخْتِلَافِ الطَّرِيقَتَيْنِ. وَهَكَذَا ذَكَرَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ.
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ كَالسَّامِرِيِّ صَاحِبِ " الْمُسْتَوْعِبِ " أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى أَمْرٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا لَغْوَ فِيهِ وَهَذَا خَطَأٌ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَقُولُ إنَّ الطَّلَاقَ لَا لَغْوَ فِيهِ هُوَ الَّذِي يَحْنَثُ النَّاسِي وَالْجَاهِلُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَحْنَثْ النَّاسِي وَالْجَاهِلُ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ لَا لَغْوَ فِي الطَّلَاقِ - إذَا فَسَّرَ اللَّغْوَ بِأَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ - فَإِنَّ عَدَمَ الْحِنْثِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْحِنْثِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ أَوْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهَا؛ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ. وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى امْرَأَتِهِ لَا يَفْعَلُهُ فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ وَيَقُولُ إذَا حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ الْمُقَارَنَ لِعَقْدِ الْيَمِينِ أَخَفُّ مِنْ الْجَهْلِ الْمُقَارِنِ لِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَغَايَتِهِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ؛ وَلِأَنَّ الْيَمِينَ الْأُولَى مُنْعَقِدَةٌ اتِّفَاقًا. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَفِي انْعِقَادِهَا نِزَاعٌ بَيْنَهُمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:
عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ ثُمَّ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ: هَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ:
الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ.
" أَحَدُهَا " أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ حَتَّى اعْتَقَدَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعٌ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ عَامَّتُهُمْ عَلَيْهِ حُجَّةً وَحُجَّتُهُمْ عَلَيْهِ ضَعِيفَةٌ جِدًّا وَهِيَ: أَنَّهُ الْتَزَمَ أَمْرًا عِنْدَ وُجُودِ شَرْطٍ فَلَزِمَهُ مَا الْتَزَمَهُ. وَهَذَا مَنْقُوضٌ بِصُوَرِ كَثِيرَةٍ وَبَعْضُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ: كَنَذْرِ الطَّلَاقِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْمُبَاحِ وَكَالْتِزَامِ الْكُفْرِ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ؛ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يُقَاسُ بِهِ إلَّا وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ فِي الشَّرْعِ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٌ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُوجِبُ الْعَقْدِ لُزُومَ مَا الْتَزَمَهُ صَارَ يَظُنُّ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَازِمٌ وَهَذَا يُوَافِقُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ مُوجِبَةً وَمُحَرَّمَةً كَمَا يُقَالُ: إنَّهُ كَانَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا. لَكِنْ نَسَخَ هَذَا شَرْعُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَفَرَضَ لِلْمُسْلِمِينَ تَحِلَّةَ أَيْمَانِهِمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَنْ يُحِلُّوا عَقْدَ الْيَمِينِ بِمَا فَرَضَهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِلَا رَيْبٍ؛ إلَّا عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ يُرْوَى عَنْ شريح وَيُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد فِيمَا إذَا قَدَّمَ الطَّلَاقَ. وَإِذَا قِيلَ: يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؛ فَإِنْ نَوَى بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ تَوْكِيدَ الْأُولَى - لَا إنْشَاءَ يَمِينٍ أُخْرَى - لَمْ يَقَعْ بِهِ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ وَإِنْ أَطْلَقَ وَقَعَ بِهِ ثَلَاثٌ وَقِيلَ: لَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ.
و " الْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ وَطَوَائِفَ مِنْ الشِّيعَةِ. وَيَذْكُرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ؛ بَلْ هُوَ مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ صَرِيحًا كَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ رَاوِيَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالنَّذْرِ: لَغْوٌ كَالْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ. وَيُفْتِي بِهِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا بِالْتِزَامِ الطَّلَاقِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ: كَالْقَفَّالِ وَصَاحِبِ " التَّتِمَّةِ " وَيَنْقُلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصًّا؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي أَوْ لَازِمٌ لِي وَنَحْوَ ذَلِكَ: صِيغَةُ نَذْرٍ؛ لَا صِيغَةُ إيقَاعٍ كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ. وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُطَلِّقَ لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقٌ بِلَا نِزَاعٍ؛ وَلَكِنْ فِي لُزُومِهِ الْكَفَّارَةَ لَهُ قَوْلَانِ. " أَحَدُهُمَا " يَلْزَمُهُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إمَّا مُطْلَقًا. وَإِمَّا إذَا قُصِدَ بِهِ الْيَمِينُ. " وَالثَّانِي " لَا. وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الخراسانيين مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَالْقَفَّالِ والبغوي وَغَيْرِهِمَا. فَمَنْ جَعَلَ هَذَا نَذْرًا وَلَمْ يُوجِبْ الْكَفَّارَةَ
فِي نَذْرِ الطَّلَاقِ: يُفْتِي بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا أَفْتَى بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ قَالَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ لَزِمَهُ عَلَى قَوْلِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا يُفْتَى بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَأَمَّا " الْحَنَفِيَّةُ " فَبَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِنَذْرِ الْمَعَاصِي وَالْمُبَاحَاتِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَكَذَلِكَ يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِتَفْرِيقِهِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ نَذْرٌ. فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ: إنْ فَعَلْته فَعَلَيَّ نَذْرٌ. فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. فَفَرَّقَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ نَذْرِ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِنَذْرِ الطَّلَاقِ.
وَأَحْمَد عِنْدَهُ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ: أَنَّ نَذْرَ الطَّلَاقِ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَالْحَلِفُ بِنَذْرِهِ عَلَيْهِ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ وَافَقَهُ مِنْ الخراسانيين مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجَعَلَهُ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا هُوَ الْمُرَجَّحَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرُوا ذَلِكَ فِي نَذْرِ جَمِيعِ الْمُبَاحَاتِ؛ لَكِنَّ قَوْلَهُ: الطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ فِيهِ صِيغَةُ إيقَاعٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد فَإِنْ نَوَى بِذَلِكَ النَّذْرَ فَفِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَهُ.
وَ " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ: أَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجْرِي فِيهَا مَا يَجْرِي فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحِنْثِ؛
إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْحَالِفُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فَلَهُ أَنْ يُوقِعَهُ وَلَا كَفَّارَةَ. وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: كَطَاوُوسِ وَغَيْرِهِ. وَهُوَ مُقْتَضَى الْمَنْقُولِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْبَابِ وَبِهِ يُفْتِي كَثِيرٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى يُقَالَ: إنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ مَنْ يُفْتِي بِذَلِكَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مُقْتَضَى نُصُوصِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأُصُولُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِذَا كَرَّرَ الْيَمِينَ الْمُكَفِّرَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ: فَهَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؟ أَوْ كَفَّارَاتٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد. أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ تَجْزِيه كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ حَكَاهَا ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ فِي الْحَلِف بِالطَّلَاقِ كَمَا حَكَوْهَا فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ وَالنَّذْرِ وَغَيْرِهِمَا فَإِذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ: فَفِيهَا الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ؛ لَكِنْ هُنَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ: إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ كَمَا قَالُوا ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ. فَيَصِحُّ نَذْرُهُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ. وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ. وَرَوَوْهُ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ.
وَأُمِّ سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ؛ كَطَاوُوسِ وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمَا وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ صَحَابِيٍّ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ لَا فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَلَا فِي الْحَلِفِ بِالْعَتَاقِ؛ بَلْ إذَا قَالَ الصَّحَابَةُ: إنَّ الْحَالِفَ بِالْعِتْقِ لَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ فَالْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ أَوْلَى عِنْدَهُمْ. وَهَذَا كَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ مِثْلَ: أَنْ يَقُولَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ. أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ. أَوْ ثُلُثُ مَالِي صَدَقَةٌ. فَإِنَّ هَذَا يَمِينٌ تُجْزِئُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ التَّابِعِينَ: كَطَاوُوسِ وَعَطَاءٍ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ وَمَذْهَبُ أَحْمَد بِلَا نِزَاعٍ عَنْهُ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اخْتَارَهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ كَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ أَبِي الْغَمْرِ وَأَفْتَى ابْنُ الْقَاسِمِ ابْنَهُ بِذَلِكَ. وَالْمَعْرُوفُ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ أَوْ النَّذْرِ: إمَّا أَنْ تُجْزِئَهُ الْكَفَّارَةُ فِي كُلِّ يَمِينٍ. وَإِمَّا أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِمَّا أَنْ يُلْزِمَهُ كَمَا حَلَفَ بِهِ؛ بَلْ إذَا كَانَ قَوْلُهُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ رَقَبَةً. وَقَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ لَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ؛ بَلْ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَوْ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ لَزِمَهُ
بِالِاتِّفَاقِ فَقَوْلُهُ: فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْلَى أَلَّا يَلْزَمَهُ لِأَنَّ قَصْدَ الْيَمِينِ إذَا مَنَعَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْوُجُوبُ فِي الْإِعْتَاقِ وَالْعِتْقِ فَلَأَنْ يَمْنَعَ لُزُومَ الْعِتْقِ وَحْدَهُ أَوْلَى " وَأَيْضًا " فَإِنَّ ثُبُوتَ الْحُقُوقِ فِي الذِّمَمِ أَوْسَعُ نُفُوذًا؛ فَإِنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ وَالْعَبْدَ قَدْ تَثْبُتُ الْحُقُوقُ فِي ذِمَمِهِمْ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُمْ فَإِذَا كَانَ قَصْدُ الْيَمِينِ مَعَ ثُبُوتِ الْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ فِي الذِّمَّةِ مَمْنُوعٌ فَلَأَنْ يُمْنَعَ وُقُوعُهُ أَوْلَى وَأَحْرَى وَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ الَّذِي يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ لَا يَلْزَمُهُ إذَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ فَالطَّلَاقُ الَّذِي لَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ أَوْلَى أَنْ لَا يُلْزِمَ إذَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ؛ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ إنَّمَا يَلْزَمُ فِيهِ الْجَزَاءُ إذَا قَصَدَ وُجُوبَ الْجَزَاءِ عِنْدَ وُجُوبِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: إنْ أبرأتيني مِنْ صَدَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَثُلُثُ مَالِي صَدَقَةٌ وَأَمَّا إذَا كَانَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ لِيَحُضَّ نَفْسَهُ أَوْ يَمْنَعَهَا أَوْ يَحُضَّ غَيْرَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ: فَهَذَا مُخَالِفٌ كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ وَمَالِي صَدَقَةٌ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ وَصَوْمٌ: فَهَذَا حَالِفٌ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ وَسَائِرِ الطَّوَائِفِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ} وَهَذَا يَتَنَاوَلُ
أَيْمَانَ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لَفْظًا وَمَعْنًى؛ وَلَمْ يَخُصَّهُ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ؛ بَلْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ تُحَقِّقُ عُمُومَهُ.
وَالْيَمِينُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ " نَوْعَانِ ": نَوْعٌ مُحْتَرَمٌ مُنْعَقِدٌ مُكَفِّرٌ كَالْحَلِفِ بِاَللَّهِ. وَنَوْعٌ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ؛ وَلَا مُنْعَقِدٍ وَلَا مُكَفِّرٍ وَهُوَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ. فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَهِيَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ مِنْ الثَّانِي. وَأَمَّا إثْبَاتُ يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ؛ غَيْرِ مُكَفِّرَةٍ فَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَتَقْسِيمُ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ إلَى يَمِينٍ مُكَفِّرَةٍ وَغَيْرِ مُكَفِّرَةٍ كَتَقْسِيمِ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ إلَى خَمْرٍ وَغَيْرِ خَمْرٍ. وَتَقْسِيمِ السَّفَرِ إلَى طَوِيلٍ وَقَصِيرٍ. وَتَقْسِيمِ الْمُيَسَّرِ إلَى مُحَرَّمٍ وَغَيْرِ مُحَرَّمٍ؛ بَلْ الْأُصُولُ تَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ. وَبَسْطُ الْكَلَامِ لَهُ مَوْضُوعٌ آخَرُ لَكِنَّ هَذَا " الْقَوْلَ الثَّالِثَ " وَهُوَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ الْكَفَّارَةِ فِي جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي لَا تَتَنَاقَضُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَكَابِرِ التَّابِعِينَ:
إمَّا فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ. وَإِمَّا فِي بَعْضِهَا. وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَمِينٌ. وَالتَّعْلِيلُ بِذَلِكَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ. وَالصِّيَغُ ثَلَاثَةٌ " صِيغَةُ تَنْجِيزٍ " كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَهَذِهِ لَيْسَتْ يَمِينًا وَلَا كَفَّارَةَ فِي هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ " وَالثَّانِي " صِيغَةُ قَسَمٍ كَمَا إذَا قَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَهَذِهِ يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْفُقَهَاءِ. " وَالثَّالِثُ " صِيغَةُ تَعْلِيقٍ. فَهَذِهِ إنْ قَصَدَ بِهَا الْيَمِينَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الثَّانِي بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا إنْ قَصَدَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الشَّرْطِ: مِثْلَ أَنْ يَخْتَارَ طَلَاقَهَا إذَا أَعْطَتْهُ الْعِوَضَ فَيَقُولُ: إنْ أَعْطَيْتِنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَيَخْتَارُ طَلَاقَهَا إذَا أَتَتْ كَبِيرَةً فَيَقُولُ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ زَنَيْت أَوْ سَرَقْت. وَقَصْدُهُ الْإِيقَاعَ عِنْدَ الصِّفَةِ؛ لَا الْحَلِفِ: فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالصِّفَةِ رُوِيَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ: كَعَلِيِّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاوِيَةَ وَكَثِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ
وَمَا عَلِمْت أَحَدًا نَقَلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ الطَّلَاقَ بِالصِّفَةِ لَا يَقَعُ وَإِنَّمَا عُلِمَ النِّزَاعُ فِيهِ عَنْ بَعْضِ الشِّيعَةِ وَعَنْ ابْنِ حَزْمٍ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ. وَهَؤُلَاءِ الشِّيعَةُ بَلَغَتْهُمْ فَتَاوَى عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْبَيْتِ فِيمَنْ قَصْدُهُ الْحَلِفُ: فَظَنُّوا أَنَّ كُلَّ تَعْلِيقٍ كَذَلِكَ كَمَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْجُمْهُورِ بَلَغَتْهُمْ فَتَاوَى عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِيمَنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِصِفَةِ أَنَّهُ يَقَعُ عِنْدَهَا: فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يَمِينٌ. وَجَعَلُوا كُلَّ تَعْلِيقٍ يَمِينًا كَمَنْ قَصْدُهُ الْيَمِينَ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ؛ كَمَا لَمْ يُفَرِّقْ أُولَئِكَ بَيْنَهُمَا فِي نَفْسِ الطَّلَاقِ. وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَفْتَى فِي الْيَمِينِ بِلُزُومِ الطَّلَاقِ. كَمَا لَمْ أَعْلَمِ أَحَدًا مِنْهُمْ أَفْتَى فِي التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ حَتَّى قَالَ بِهِ دَاوُد وَأَصْحَابُهُ. فَفَرَّقُوا بَيْنَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فِي تَعْلِيقِ النَّذْرِ وَغَيْرِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ وَإِنْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ كَقَوْلِ الْمُسْلِمِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ: فَهُوَ يَكْرَهُ الْكُفْرَ وَإِنْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ؛ إنَّمَا الْتِزَامُهُ لِئَلَّا يُلْزِمَ وَلِيَمْتَنِعَ بِهِ مِنْ الشَّرْطِ؛ لَا لِقَصْدِ وُجُودِهِ عِنْدَ الصِّفَةِ. وَهَكَذَا الْحَلِفُ بِالْإِسْلَامِ لَوْ قَالَ الذِّمِّيُّ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ. وَالْحَالِفُ بِالنَّذْرِ وَالْحَرَامِ وَالظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنِسَائِي طَوَالِقُ وَمَالِي صَدَقَةٌ
فَهُوَ يَكْرَهُ هَذِهِ اللَّوَازِمَ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَإِنَّمَا عَلَّقَهَا لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ مِنْ الشَّرْطِ؛ لَا لِقَصْدِ وُقُوعِهَا وَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فَالتَّعْلِيقُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ مِنْ بَابِ الْإِيقَاعِ وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ مِنْ بَابِ الْيَمِينِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَحْكَامَ الطَّلَاقِ وَأَحْكَامَ الْإِيمَانِ. وَإِذَا قَالَ: إنْ سَرَقْت إنْ زَنَيْت: فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَهَذَا قَدْ يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقَامُهَا مَعَ هَذَا الْفِعْلِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ طَلَاقِهَا؛ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ زَجْرُهَا وَتَخْوِيفُهَا لِئَلَّا تَفْعَلُ: فَهَذَا حَلِفٌ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَقَدْ يَكُونُ قَصْدُهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِرَاقُهَا أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ الْمُقَامِ مَعَهَا مَعَ ذَلِكَ فَيَخْتَارُ إذَا فَعَلَتْهُ أَنْ تَطْلُقَ مِنْهُ: فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَ
سُئِلَ:
عَمَّنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صِهْرَ أَخِيهِ
وَحَلَفَ بِالثَّلَاثِ مَا يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ: ثُمَّ دَخَلَ بِغَيْرِ رِضَاهُ؟
فَأَجَابَ:
إذَا كَانَ الْحَالِفُ قَدْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ يُطِيعُهُ وَيَبَرُّ يَمِينَهُ وَلَا يَدْخُلُ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ؛ فَتَبَيَّنَ لَهُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَمْ يَحْلِفْ. فَفِي حِنْثِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَالْأَقْوَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ:
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ لَا يَسْكُنُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَقَدْ انْتَقَلَ وَأَخْلَاهُ: فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعُودَ؟ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ:
إنْ كَانَ السَّبَبُ الَّذِي حَلَفَ لِأَجْلِهِ قَدْ زَالَ فَلَهُ أَنْ يَعُودَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهَا لَا تَحُطُّ يَدَهَا فِي خَرِيطَتِهِ وَلَا تَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا وَقَالَ ذَلِكَ مُدَّةَ أَرْبَعِ شُهُورٍ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَلَفَ يَمِينًا ثَانِيًا أَنَّهَا لَا تَنْقُلُ مَا سَمِعَتْ إلَى أَحَدٍ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَقَلَتْهُ لِلنَّاسِ فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا: مَا حَلَفْت عَلَيْك بِالطَّلَاقِ أَنَّك لَا تَنْقُلِيهِ إلَى أَحَدٍ وَقَدْ نَقَلْته؟ قَالَتْ: نَقَلْته وَمَا عَلِمْت عَلَيَّ يَمِينًا. فَقَالَ: الْآنَ قَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ. قُومِي أَعْطِنِي خَرِيطَتِي وَأَعْطِنِي مِنْهَا الْخَيْطَ فَمَا بَقِيَ عَلَيَّ يَمِينٌ وَقَدْ وَقَعَ عَلَيَّ الطَّلَاقِ.
قَالَتْ: أَنَا مَا عَلِمْت أَنَّ عَلَيْنَا يَمِينًا بِالدَّائِمِ؛ إنَّمَا اعْتَقَدْت الْيَمِينَ مُدَّةَ خَمْسَةِ أَوْ سِتَّةِ أَيَّامٍ. فَقَالَ لَهَا: أَنَا مَا أَعْرِفُ؛ أَنْتِ السَّاعَةَ طَالِقٌ مِنِّي بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ: فَهَلْ يَلْزَمُهَا الطَّلَاقُ مِنْ أَوَّلِ يَمِينٍ؟ أَوْ مِنْ الثَّانِي؟
فَأَجَابَ:
إنْ كَانَتْ قَدْ اعْتَقَدَتْ أَنَّ حُكْمَ يَمِينِهِ قَدْ انْقَضَى وَفَعَلَتْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ: لَمْ يَحْنَثْ الْحَالِفُ. وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ أَنْتِ السَّاعَةَ طَالِقٌ مِنِّي ثَلَاثًا؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ: لَمْ يَقَعْ بِذَلِكَ شَيْءٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ كَاتَبَ عَبْدَهُ وَحَصَلَ مِنْهُ حَرَجٌ أَوْجَبَ أَنَّهُ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ مِنْ الضَّرْبِ وَالتَّرْسِيمِ إلَى حَيْثُ يُحْضِرُ إلَيْهِ حِسَابَهُ أَوْ يُعِيدُ إلَيْهِ مَا الْتَمَسَهُ مِنْ الجامكية: فَهَلْ يَجُوزُ خَلَاصُهُ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ الشَّرْعِيَّةِ؟ أَفْتُونَا.
فَأَجَابَ رضي الله عنه:
إنْ كَانَ إحْضَارُ الْحِسَابِ الْمَطْلُوبِ قَدْ عَجَزَ عَنْهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَعَنْ إعَادَةِ الْمَطْلُوبِ مِنْ الجامكية: لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالَبَ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا؛ بَلْ يُلْزَمُ وَلِيُّ الْأَمْرِ الْحَالِفِ بِفِرَاقِهِ وَإِذَا أَلْزَمَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ؛ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ طَلَاقٌ سَوَاءٌ أَلْزَمَهُ بِذَلِكَ وَالِي حَرْبِ السُّلْطَانِ وَنَحْوُهُ أَوْ وَالِي حُكْمٍ أَوْ كَاتِبٍ فَوْقَهُ يَنْفُذُ حُكْمُهُ فِيهِ بِالْعَدْلِ وَهَكَذَا إنْ
لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إحْضَارُ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فِي الشَّرْعِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَجَبَ إلْزَامُهُ بِفِرَاقِهِ وَإِذَا فَارَقَهُ وَالْحَالُ هَذِهِ لَمْ يَحْنَثْ. كَذَلِكَ إنْ اعْتَقَدَ الْحَالِفُ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى صِفَةٍ فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ: مِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ فِي الْحِسَابِ كَشْفَ أُمُورٍ يَجِبُ كَشْفُهَا فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ إذَا فَارَقَهُ وَكَذَلِكَ إنْ اعْتَقَدَ أَنَّ إعَادَةَ الجامكية وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ؛ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ: فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ قَادِرٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَاجِزٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَهُوَ أَحْسَنُ الْقَوْلَيْنِ وَأَقْوَاهُمَا فِي الشَّرْعِ وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ خَانَ أَوْ سَرَقَ مَالًا: فَحَلَفَ عَلَى إعَادَتِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَخُنْ وَلَمْ يَسْرِقْ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ رحمه الله:
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَهُوَ غَضْبَانُ: أَنَّهَا مَا تَدْخُلُ بَيْتَ عَمَّتِهَا وَرُزِقَتْ زَوْجَتُهُ وَلَدًا؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ دَخَلَتْ الْمَرْأَةُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا بَيْتَ عَمَّتِهَا وَكَانَ قَدْ قَالَ لِلْحَالِفِ نَاسٌ: إنَّهُ إذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ وَدَخَلَتْ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ أَفْتُونَا؟ .
فَأَجَابَ:
إذَا كَانَ الْحَالِفُ قَدْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وُلِدَ لَهَا وَلَدٌ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَدَخَلَتْ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ: فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ؛ لَكِنَّ يَمِينَهُ بَاقِيَةٌ فَإِذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عَالِمًا عَامِدًا حَنِثَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ:
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ فَقَالَ لَهَا: إنْ خَرَجْت وَأَنَا غَائِبٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا؛ فَلَمَّا قَدِمَ مِنْ السَّفَرِ قَالَتْ لَهُ: وَاَللَّهِ احْتَجْت إلَى الْحَمَّامِ وَلَمْ أَقْدِرْ لِلْغَسْلِ بِالْبَيْتِ؟
فَأَجَابَ:
إنْ كَانَتْ اعْتَقَدَتْ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي يَمِينِهِ وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ مُخَالِفَةً لِيَمِينِهِ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ: لَمْ يَحْنَثْ الْحَالِفُ فِي يَمِينِهِ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَتَانِ فَعُدِمَ مِنْ بَيْتِهِ مَبْلَغٌ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مِنْ الْجَدِيدَةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَطَّلِعْ لِهَذَا الْمَبْلَغِ الَّذِي عُدِمَ مِنْ بَيْتِهِ مَا يُخَلِّي الْعَتِيقَةَ فِي بَيْتِهِ وَكَانَ فِي عَقِيدَتِهِ أَنَّ الْعَتِيقَةَ هِيَ الَّتِي خَانَتْ فِي الْمَبْلَغِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ؟
فَأَجَابَ - أَيَّدَهُ اللَّهُ -:
إذَا كَانَ قَدْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَتِيقَةَ قَدْ خَانَتْهُ فَحَلَفَ إنْ لَمْ تَأْتِ بِذَلِكَ لَأَخْرَجَهَا؛ لِأَجْلِ ذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَخُنْهُ: لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَهَا وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ:
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ مَا يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ لِرَجُلِ مُعَيَّنٍ ثُمَّ إنَّهُ زَوَّجَهَا بِغَيْرِهِ ثُمَّ بَانَتْ مِنْ الثَّانِي بِالثَّلَاثِ: فَهَلْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا لِلرَّجُلِ الَّذِي كَانَ قَدْ حَلَفَ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ:
إنْ كَانَ نِيَّةُ الْحَالِفِ أَوْ سَبَبُ الْيَمِينِ يَقْتَضِي الْحَلِفَ عَلَى ذَلِكَ التَّزْوِيجِ خَاصَّةً: جَازَ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ: مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ امْتَنَعَ لِتَزْوِيجِهِ؛ لِكَوْنِهِ طَلَبَ مِنْهُ جِهَازًا كَثِيرًا ثُمَّ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ قَنِعَ بِهَا بِلَا جِهَازٍ. وَأَمَّا إنْ كَانَ السَّبَبُ بَاقِيًا: حَنِثَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ حَجَّ لَهُ زَوْجَتَانِ وَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ لَا يُطْعِمُهُمْ شَيْئًا.
فَأَجَابَ:
إنْ كَانَ نِيَّتُهُ أَنَّ سَبَبَ الْيَمِينِ يَقْتَضِي أَنَّهُ امْتَنَعَ لِسَبَبِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ السَّبَبُ انْحَلَّتْ يَمِينُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ رحمه الله:
عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنَّهَا لَا تَنْزِلُ مَنْ بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ ثُمَّ إنَّهَا قَالَتْ: أَنَا الْيَوْمَ أَتَغَدَّى أَنَا وَأُمُّك فَاعْتَقَدَ أَنَّ أُمَّهُ تَجِيءُ إلَى عِنْدِهَا وَاعْتَقَدَتْ الزَّوْجَةُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهَا: فَذَهَبَتْ إلَى عِنْدِ أُمِّهِ.
فَأَجَابَ:
الطَّلَاقُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَا يَقَعُ بِهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا هُوَ إحْدَى قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد؛ فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ مَسْأَلَةُ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي وَالنِّزَاعُ فِيهَا مَشْهُورٌ هَلْ يَحْنَثُ؟ أَمْ لَا يَحْنَثُ؟ أَمْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ وَغَيْرِهَا؟ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ مُطْلَقًا؟ لِأَنَّ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ فِي الْيَمِينِ بِمَنْزِلَةِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ؛ إذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ جُمْلَةً طَلَبِيَّةً. فَإِنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ: إمَّا " جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ " فَيَكُونُ مَقْصُودُ الْحَالِفِ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ. وَإِمَّا " جُمْلَةٌ طَلَبِيَّةٌ " فَيَكُونُ مَقْصُودُ الْحَالِفِ
الْحَيْضَ وَالْمَنْعَ فَهُوَ يَحُضُّ نَفْسَهُ أَوْ مَنْ يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَيَمْنَعُ نَفْسَهُ أَوْ مَنْ يَحْلِفُ عَلَيْهِ فَهُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ. فَالْحِنْثُ فِي ذَلِكَ كَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ فِي الشَّرِيعَةِ: أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَنْهِيَّ - كَأَهْلِ التَّأْوِيلِ السَّائِغِ - فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ هَذَا الْفَاعِلُ آثِمًا وَلَا عَاصِيًا كَمَا قَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ الْيَمِينَ؛ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ لَيْسَ هُوَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ؛ لِتَأْوِيلِ؛ أَوْ غَلَطٍ: كَسَمْعِ وَنَحْوِهِ: لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا الْيَمِينَ فَلَا يَكُونُ حَالِفًا. فَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِسَائِرِ الْأَيْمَانِ؛ إذْ الْأَيْمَانُ يَفْتَرِقُ حُكْمُهَا فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ. أَمَّا فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَلَا فَرْقَ وَالْكَلَامُ هُنَا فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ؛ لَا فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ تَعْلِيقًا مَحْضًا: كَالتَّعْلِيقِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا مَقْصُودُهُ وُقُوعَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ: كَنَذْرِ التَّبَرُّرِ وَكَالتَّعْلِيقِ عَلَى الْعِوَضِ فِي مِثْلِ الْخُلْعِ؛ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ حَضَّ نَفْسِهِ أَوْ مَنْعَ مَنْ حَلَفَ عَلَيْهِ وَمَنْعَ نَفْسِهِ أَوْ مَنْ حَلَفَ عَلَيْهِ؛ كَمَا يَقْصِدُ ذَلِكَ النَّاذِرُ: نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَسْمِيَةِ ذَلِكَ يَمِينًا وَكَانَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ جَوَازَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ الْمَحْضِ فَإِنَّهُ إيقَاعٌ مُؤَقَّتٌ فَلَيْسَ هُوَ يَمِينٌ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَا يَنْفَعُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ عِنْدَ مَنْ لَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيقَاعِ: كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ وَجَدَ ابْنَ خَالَتِهِ عِنْدَ زَوْجَتِهِ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ: أَنَّ ابْنَ خَالَتِهِ كَانَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ وَكَذَلِكَ كَانَ عِنْدَهَا؟
فَأَجَابَ:
إذَا كَانَ الْحَالِفُ صَادِقًا فِي يَمِينِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إذَا اعْتَقَدَ صِدْقَ نَفْسِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ؛ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ: فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ رحمه الله:
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ مَا يَتَزَوَّجُ فُلَانَةً؛ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟
فَأَجَابَ - نَوَّرَ اللَّهُ مَرْقَدَهُ وَضَرِيحَهُ -:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ إذَا تَزَوَّجَهَا عِنْدَ جُمْهُورِ السَّلَفِ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ امْتَنَعَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ مِنْ مُجَامَعَتِهَا؛ فَانْجَرَحَ مِنْ امْتِنَاعِهَا عَلَيْهِ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَكَانَتْ حَامِلًا أَنْ لَا يُجَامِعَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ: فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ إنْ جَامَعَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَنْظُرُ إلَى السَّبَبِ الْمُهَيِّجِ لِلْيَمِينِ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ:
إذَا جَامَعَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ وَسَبَبِ الْيَمِينِ فَإِنْ كَانَ حَلَفَ لِسَبَبِ وَزَالَ السَّبَبُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ: فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ لِسَبَبِ: كَأَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْبَلَدَ لِظُلْمِ رَآهُ فِيهِ ثُمَّ يَزُولُ الظُّلْمُ. أَوْ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا ثُمَّ يَزُولُ الْفِسْقُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَفِي حِنْثِهِ حِينَئِذٍ " قَوْلَانِ " فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَضَّ وَالْمَنْعَ فِي الْيَمِينِ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: فَالْحَلِفُ كُلُّ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ النَّاهِي عَنْ الْفِعْلِ. وَمَنْ نَهَى عَنْ دُخُولِ بَلَدٍ أَوْ كَلَامٍ شُخِّصَ لِمَعْنَى ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى زَالَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ كَمَا إذَا امْتَنَعَ أَنْ يَبْدَأَ رَجُلًا بِالسَّلَامِ؛ لِكَوْنِهِ كَافِرًا فَأَسْلَمَ. وَأَنْ لَا يَدْخُلَ بَلَدًا؛ لِكَوْنِهِ دَارَ حَرْبٍ فَصَارَ دَارَ إسْلَامٍ. وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةِ زَالَ بِزَوَالِهَا
فَالرَّجُلُ إذَا حَلَفَ لَا يُوَاقِعُ امْرَأَتَهُ إذَا كَانَ قَصْدُهُ عُقُوبَتَهَا؛ لِكَوْنِهَا تُمَاطِلُهُ وَتَنْشُزُ عَلَيْهِ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ؛ فَإِذَا تَابَتْ مِنْ ذَلِكَ وَصَارَتْ مُطِيعَةً مُوَافِقَةً زَالَ سَبَبُ الْهَجْرِ الَّذِي عَلَّقَهَا بِهِ كَمَا لَوْ هَجَرَهَا لِنُشُوزِ ثُمَّ زَالَ. وَأَمَّا إنْ كَانَ قَصْدُهُ الِامْتِنَاعَ مِنْ وَطْئِهَا أَبَدًا؛ لِأَجْلِ الذَّنْبِ الْمُتَقَدِّمِ. تَابَتْ أَوْ لَمْ تَتُبْ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَ أَنَّهَا تَتُوبُ تَوْبَةً صَحِيحَةً كَانَ مَقْصُودُهُ عُقُوبَتَهَا عَلَى مَا مَضَى كَمَا يُعَاقِبُ الرَّجُلُ غَيْرَهُ لِذَنْبِ مَاضٍ تَابَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَتُبْ؛ لَا لِغَرَضِ الزَّجْرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ؛ بَلْ لِمُجَرَّدِ شِفَاءِ غَيْظِهِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ مَا يَطَؤُهَا لِسِتَّةِ شُهُورٍ وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ لَهَا غَيْرُ طَلْقَةٍ وَنِيَّتُهُ أَنْ لَا يَطَأَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ: فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ مَاذَا يَفْعَلُ؟
فَأَجَابَ:
إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَلَهُ وَطْؤُهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ تُطَالِبْهُ بِالْوَطْءِ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ. وَالْجُمْهُورِ. وَهُوَ يُسَمَّى " مُولِيًا ".
وَسُئِلَ رحمه الله:
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَجَارِيَةٌ فَتَسَرَّى بِالْجَارِيَةِ فَغَارَتْ الْمَرْأَةُ: فَحَلَفَ إلَّا يَعُودَ يَطَأُ الْجَارِيَةَ ثُمَّ أَعْتَقَهَا؛ وَتَزَوَّجَتْ الْجَارِيَةُ فَأَقَامَتْ مَعَ الزَّوْجِ مُدَّةً وَتُوُفِّيَ عَنْهَا: فَهَلْ لِلْمُعْتِقِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؟
فَأَجَابَ:
إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ أَوْ سَبَبُ الْيَمِينِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا بِمِلْكٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَطَأَهَا؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا بِحَالِ لَا مِلْكٍ وَلَا عَقْدٍ حَنِثَ إذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ رحمه الله:
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ مَبْلَغٌ لِشَخْصَيْنِ قَالَ: الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ أَنَّ الشَّهْرَ مَا يَنْفَصِلُ حَتَّى يُعْطِيَهُمَا الْمَبْلَغَ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حَبَسَهُ. وَالْآنَ مَا حَصَلَ وَالشَّهْرُ بَقِيَ فِيهِ الْيَوْمُ؛ وَهُوَ خَائِفٌ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ الْحِنْثُ: فَإِذَا خَالَعَ الزَّوْجَةَ بِطَلْقَةِ وَاحِدَةٍ يُفِيدُهُ هَذَا وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ؛ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ:
إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْيَمِينِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ بِأَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ وَفَاءِ الدَّيْنِ
وَأُكْرِهَ عَلَى الْيَمِينِ وَإِلَّا حُبِسَ وَضُرِبَ: لَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينُهُ وَلَا حِنْثَ فِيهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ رحمه الله:
عَنْ رَجُلٍ يَشْتَرِي الْبَقْلَ بِشَيْءِ يَزِنُ عَلَيْهِ الْحَقَّ؛ وَالْبَعْضَ يَشْتَرِيه بِلَا حَقٍّ وَحَضَرَ لَهُ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ؛ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ أَيُّ شَيْءٍ اشْتَرَيْته تَزِنُ حَقَّهُ: فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْفَلْتَ؟
فَأَجَابَ:
إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْيَمِينِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ؛ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ أَعْوَانِ الضَّمَانِ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ حَقٌّ؛ لَا فِي الشَّرْعِ؛ وَلَا فِي الْعَادَةِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَهُ حَقٌّ لَمْ يَحْنَثْ بِتَرْكِ إعْطَائِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَ
سُئِلَ:
عَنْ رَجُلٍ وَضَعَ حُجَّةً فِي بَيْتِ أَخِيهِ فَعُدِمَتْ
ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ طَلَبَهَا وَلَمْ يَجِدْهَا فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ مَا يَدْخُلُ بَيْتَ أَخِيهِ حَتَّى يُعْطَى الْحُجَّةَ مُعْتَقِدًا وُجُودَهَا؟
فَأَجَابَ:
إنْ كَانَتْ الْحُجَّةُ قَدْ عُدِمَتْ قَبْلَ الْيَمِينِ وَلَكِنْ اعْتَقَدَ بَقَاءَهَا: فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ لِوَجْهَيْنِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى مُمْتَنِعٍ لِذَاتِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِيهِ. وَهَذَا لَا يَحْنَثُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. و " الثَّانِي " اعْتَقَدَ بَقَاءَهَا وَإِمْكَانَ إعْطَائِهَا فَحَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِ تِلْكَ الصِّفَةِ.
بَابُ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله:
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ اسْتَثْنَى بَعْدَ هُنَيْهَةٍ بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْكَلَامُ؟
فَأَجَابَ:
لَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَالْحَالُ هَذِهِ. وَلَوْ قِيلَ لَهُ: قُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ أَيْضًا؛ وَلَوْ لَمْ يَخْطُرْ لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا لِمَا قِيلَ لَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ رحمه الله:
عَنْ رَجُلٍ حَنِقَ مِنْ زَوْجَتِهِ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ: قُلْ السَّاعَةَ قَالَ السَّاعَةَ وَنَوَى الِاسْتِثْنَاءَ؟ .
فَأَجَابَ: إنْ كَانَ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَمَقْصُودُهُ تَخْوِيفُهَا بِهَذَا الْكَلَامِ؛ لَا إيقَاعُ الطَّلَاقِ: لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ. فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ لَا يَقَعُ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد يَقَعُ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لَكِنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ مَقْصُودُهُ وَاعْتِقَادُهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ صَارَ الْكَلَامُ عِنْدَهُ كَلَامًا لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ فَلَمْ يُقْصَدْ التَّكَلُّمُ بِالطَّلَاقِ. وَإِذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِكَلَامِ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ: مِثْلَ مَا لَوْ تَكَلَّمَ الْعَجَمِيُّ بِلَفْظِ وَهُوَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ لَمْ يَقَعْ وَطَلَاقُ الْهَازِلِ: وَقَعَ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُتَكَلِّمِ الطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ إيقَاعَهُ. وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ لَا هَذَا؛ وَلَا هَذَا وَهُوَ يُشْبِهُ مَا لَوْ رَأَى امْرَأَةً فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً؛ فَبَانَتْ امْرَأَتُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ اعْتَقَدَ مَسْأَلَةَ " الدَّوْرِ " الْمُسْنَدَةِ لِابْنِ سُرَيْجٍ ثُمَّ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى شَيْءٍ لَا يَفْعَلُهُ ثُمَّ فَعَلَهُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَرَاجَعَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ: فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ؟ أَمْ يَسْتَعْمِلُ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى: الْمُشَارَ إلَيْهَا؟
فَأَجَابَ:
" الْمَسْأَلَةُ السريجية " بَاطِلَةٌ فِي الْإِسْلَامِ " مُحْدَثَةٌ لَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّ مَا قَالَهُ أُولَئِكَ يَظْهَرُ فَسَادُهُ مِنْ وُجُوهٍ. مِنْهَا أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الطَّلَاقَ كَمَا أَبَاحَ النِّكَاحَ وَأَنَّ دِينَ الْمُسْلِمِينَ مُخَالِفٌ لِدِينِ النَّصَارَى الَّذِينَ لَا يُبِيحُونَ الطَّلَاقَ فَلَوْ كَانَ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ الطَّلَاقُ لَصَارَ دِينُ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ دِينِ النَّصَارَى.
" وَشُبْهَةُ هَؤُلَاءِ " أَنَّهُمْ قَالُوا: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقًا مُنَجَّزًا: لَزِمَ أَنْ يَقَعَ الْمُعَلَّقُ وَلَوْ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ فَكَانَ وُقُوعُهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُقُوعِهِ: فَلَا يَقَعُ؛ وَهَذَا خَطَأٌ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْ وَقَعَ الْمُنَجَّزُ لَوَقَعَ الْمُعَلَّقُ. إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بَاطِلًا لَا يَلْزَمُ وُقُوعُ التَّعْلِيقِ. وَالتَّعْلِيقُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَضْمُونَهُ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثِ وَوُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثِ بَاطِلٌ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَضْمُونُهُ أَيْضًا إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي لَمْ يَقَعْ عَلَيْك طَلَاقِي. وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَقَعْ الشَّرْطُ لَمْ يَقَعْ الْجَزَاءُ. وَإِذَا وَقَعَ الشَّرْطُ لَزِمَ الْوُقُوعُ. فَلَوْ قِيلَ: لَا يَقَعُ مَعَ ذَلِكَ. لَزِمَ أَنْ يَقَعَ وَلَا يَقَعَ وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وَأَيْضًا فَالطَّلَاقُ إذَا وَقَعَ لَمْ يَرْتَفِعْ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَلَمَّا كَانَ كَلَامُ الْمُطَلِّقِ يَتَضَمَّنُ مُحَالًا فِي الشَّرِيعَةِ - وَهُوَ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثِ - وَمُحَالًا فِي الْعَقْلِ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَعَدَمِ وُقُوعِهِ: كَانَ الْقَائِلُ بِالتَّسْرِيجِ مُخَالِفًا لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ؛ لَكِنْ إذَا اعْتَقَدَ الْحَالِفُ صِحَّةَ هَذَا الْيَمِينِ بِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ وَطَلَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ: لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ التَّكَلُّمَ بِمَا يَعْتَقِدُهُ طَلَاقًا؛ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ الْعَجَمِيُّ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَهُوَ لَا يَفْهَمُهُ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ لَوْ خَاطَبَ مَنْ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً بِالطَّلَاقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ: فَإِنَّهُ لَا لَا يَقَعُ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ التَّسْرِيجِ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ
لَمْ يَكُنْ ظُهُورُ الْحَقِّ لَهُ فِيمَا بَعْدُ مُوجِبًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إنْ احْتَاطَ فَرَاجَعَ امْرَأَتَهُ خَوْفًا أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ وَقَعَ بِهِ أَوْ مُعْتَقِدًا وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِهِ: لَمْ يَقَعْ. وَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ التَّسْرِيجِ أَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الْإِقْرَارِ شَيْءٌ وَلَوْ اعْتَقَدَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَرَاجَعَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ قَدْ حَنِثَ فِيهِ مَرَّةً فَلَا يَحْنَثُ فِي مَرَّةٍ ثَانِيَةٍ: لَمْ يَقَعْ بِهِ: فَهَذَا الْفِعْلُ شَيْءٌ وَالْيَمِينُ الَّتِي حَلَفَ بِهَا أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الشَّيْءَ بَاقِيَةٌ فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْيَمِينِ بَاقِيًا فِي بَاقِيَةٍ وَإِنْ زَالَ سَبَبُ الْيَمِينِ فَلَهُ فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ؛ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَحْنَثْ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْبَيْنُونَةَ حَصَلَتْ وَانْقَطَعَ حُكْمُ الْيَمِينِ الْأُولَى لَمْ يَحْنَثْ؛ لِاعْتِقَادِهِ زَوَالَ الْيَمِينِ كَمَا لَا يَحْنَثُ الْجَاهِلُ بِأَنَّ مَا فَعَلَهُ هُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا قَوْلُهُ لِزَوْجَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ تَقَعُ هَذِهِ الطَّلْقَةُ وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ بِهَذِهِ الطَّلْقَةِ قَدْ كَمُلَتْ ثَلَاثًا وَأَقَرَّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا: لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ شَيْءٌ وَلَا بِهَذَا الْإِقْرَارِ.
وَسُئِلَ رحمه الله:
مَا قَوْلُكُمْ فِي الْعَمَلِ " بالسريجية " وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى " مَسْأَلَةَ ابْنِ سُرَيْجٍ "؟
الْجَوَابُ:
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا؛ لَا مِنْ الصَّحَابَةِ؛ وَلَا التَّابِعِينَ؛ وَلَا أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعِينَ؛ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَلَا أَصْحَابِهِمْ الَّذِينَ أَدْرَكُوهُمْ: كَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ والمزني والبويطي وَابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمْ؛ لَمْ يُفْتِ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ وَإِنَّمَا أَفْتَى بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ هَؤُلَاءِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ كَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَكَانَ الْغَزَالِيُّ يَقُولُ بِهَا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا وَبَيَّنَ فَسَادَهَا وَقَدْ عُلِمَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ نِكَاحَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُ كَنِكَاحِ النَّصَارَى. وَالدَّوْرُ الَّذِي تَوَهَّمُوهُ فِيهَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ وَهُوَ إنَّمَا يَقَعُ لَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا؛ وَالتَّعْلِيقُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى مُحَالٍ فِي الشَّرِيعَةِ وَهُوَ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَالتَّسْرِيجُ يَتَضَمَّنُ لِهَذَا الْمُحَالِ فِي الشَّرِيعَةِ فَيَكُونُ بَاطِلًا. وَإِذَا كَانَ قَدْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ: فَلْيُمْسِكْ امْرَأَتَهُ وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى وَيَتُوبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ عَلَى الرَّاجِحِ وَلَا يَقَعُ مَعَهُ الْمُعَلَّقُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ وَهُوَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ لَمْ يَقَعْ الْمُنْجَزُ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى عَدَدِ الطَّلَاقِ وَإِذَا لَمْ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ
لَمْ يَقَعْ الْمُعَلَّقُ. وَقِيلَ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِأَنَّ وُقُوعَ الْمُنَجَّزِ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمُعَلَّقِ وَوُقُوعَ الْمُعَلَّقِ يَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِ الْمُنَجَّزِ وَهَذَا الْقِيلُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ. وَابْنُ سُرَيْجٍ بَرِيءٌ مِمَّا نُسِبَ إلَيْهِ فِيهَا قَالَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ.
وَسُئِلَ رحمه الله:
هَلْ تَصِحُّ " مَسْأَلَةُ ابْنِ سُرَيْجٍ " أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَصِحُّ فَمَنْ قَلَّدَهُ فِيهَا وَعَمِلَ فِيهَا فَلَمَّا عَلِمَ بُطْلَانَهَا اسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ؟
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ؛ وَلَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ وَإِنَّمَا أَفْتَى بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جَمَاعَةُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ قَلَّدَ فِيهَا شَخْصًا ثُمَّ تَابَ فَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَلَا يُفَارِقُ امْرَأَتَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِهَا إذَا كَانَ مُتَأَوِّلًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَجَاءَهُ مِنْهَا وَلَدٌ وَأَوْصَاهُ الشُّهُودُ أَوْ غَيْرُهُمْ: أَنَّهُ إذَا دَخَلَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ يَقُولَ لَهَا: إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ طَلَاقِك ثَلَاثًا. فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ الْعَقْدُ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، النِّكَاحُ صَحِيحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافٍ " وَالتَّسْرِيجُ " الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ لَا يُفْسِدُ النِّكَاحَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ لَكِنَّهُ إنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ: مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَكْثَرَ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ طَلَبَتْ مِنْهُ الطَّلَاقَ وَطَلَّقَهَا وَقَالَ: مَا بَقِيت أَعُودُ إلَيْهَا أَبَدًا فَوَجَدَهُ صَاحِبَهُ فَقَالَ: مَا أَصْدُقك عَلَى هَذَا إلَّا إنْ قُلْت: كُلَّمَا تَزَوَّجْت هَذِهِ كَانَتْ طَالِقًا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَلَمْ يَرَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ: فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؟
فَأُحَابِ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا إنْ قَصَدَ كُلَّمَا تَزَوَّجْتهَا بِرَجْعَةِ أَوْ عَقْدٍ جَدِيدٍ - وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ - فَمَتَى ارْتَجَعَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ طَلُقَتْ ثَانِيَةً ثُمَّ إنْ ارْتَجَعَهَا طَلُقَتْ ثَالِثَةً - وَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بَانَتْ مِنْهُ؛ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَمَنْ قَالَ: إنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا - كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ - قَالَ إنَّ هَذِهِ إذَا تَزَوَّجَهَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ - كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ - فَهَذِهِ لَمَّا عَلَّقَ طَلَاقَهَا كَانَتْ رَجْعِيَّةً وَالرَّجْعِيَّةُ كَالزَّوْجَةِ فِي مِثْلِ هَذَا؛ لَكِنْ تَخَلَّلَ الْبَيْنُونَةَ: هَلْ يَقْطَعُ
حُكْمَ الصِّفَةِ؟ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى الْفَرْقِ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى النِّكَاحِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي عِدَّةٍ أَوْ لَا يَكُونَ فَعَلَى مَذْهَبِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَا إذَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ: إنَّ الْبَيْنُونَةَ تَقْطَعُ حُكْمَ الصِّفَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ إذَا تَزَوَّجَهَا كَقَوْلِهِ إذَا دَخَلْت الدَّارَ. وَإِذَا بَانَتْ انْحَلَّتْ هَذِهِ الْيَمِينُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَقَعَ بِهِ طَلَاقٌ وَهُوَ الَّذِي يُرَجِّحُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ الْتِزَامٌ مِنْهُ لِمَذْهَبِ بِعَيْنِهِ وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ؛ بَلْ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا بِعِوَضِ وَالتَّعْلِيقُ بَعْدَ هَذَا فِي الْعِدَّةِ وَغَيْرُهُ تَعْلِيقٌ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ إذَا تَزَوَّجَهَا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلٍ شَافِعِيِّ الْمَذْهَبِ بَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ وَبَانَتْ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي؛ ثُمَّ أَرَادَتْ صُلْحَ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ لَهَا مِنْهُ أَوْلَادًا فَقَالَ لَهَا: إنَّنِي لَسْت قَادِرًا عَلَى النَّفَقَةِ؛ وَعَاجِزًا عَنْ الْكِسْوَةِ فَأَبَتْ ذَلِكَ: فَقَالَ لَهَا: كُلَّمَا حَلَلْت لِي حَرُمْت عَلَيَّ: فَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛ لَكِنْ فِيهَا قَوْلَانِ:" أَحَدُهُمَا " أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. و " الثَّانِي " عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ: إمَّا كَفَّارَةُ ظِهَارٍ فِي قَوْلٍ. وَإِمَّا كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي قَوْلٍ آخَرَ. وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَقَعَ بِهِ طَلَاقٌ؛ لَكِنْ فِي التَّكْفِيرِ نِزَاعٌ. وَإِنَّمَا. يَقُولُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمِثْلِ هَذِهِ مَنْ يُجَوِّزُ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ عَلَى النِّكَاحِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ؛ بِشَرْطِ أَنْ يَرَى الْحَرَامَ طَلَاقًا كَقَوْلِ مَالِكٍ وَإِذَا نَوَاهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فَعِنْدَهُمَا لَوْ قَالَ: كُلَّمَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ فَكَيْفَ فِي الْحَرَامِ؛ لَكِنَّ أَحْمَد يُجَوِّزُ عَلَيْهِ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ تَصْحِيحُ الظِّهَارِ قَبْلَ الْمِلْكِ؛ بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
آخِرُ الْمُجَلِّدِ الثَّالِثِ وَالثَّلَاثِينَ