الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْجُزْءُ الْخَامِسُ
كِتَابُ الْأَسْمَاءِ وَالْصِفَاتِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: الْعَالِمُ الرَّبَّانِيُّ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
مَا قَوْلُ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الدِّينِ فِي " آيَاتِ الصِّفَاتِ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَ " أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ " كَقَوْلِهِ: صلى الله عليه وسلم {إنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ} وَقَوْلِهِ: {يَضَعُ الْجَبَّارُ قَدَمَهُ فِي النَّارِ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَمَا قَالَتْ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَابْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَأَجَابَ رضي الله عنه:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَوْلُنَا فِيهَا مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ: مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ؛ وَمَا قَالَهُ أَئِمَّةُ الْهُدَى بَعْدَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وَشَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ بَعَثَهُ دَاعِيًا إلَيْهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} . فَمِنْ الْمُحَالِ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ أَنْ يَكُونَ السِّرَاجُ الْمُنِيرُ الَّذِي أَخْرَجَ اللَّهُ بِهِ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَأَنْزَلَ مَعَهُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ؛ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ إلَى مَا بُعِثَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَهُوَ يَدْعُو إلَى اللَّهِ وَإِلَى سَبِيلِهِ بِإِذْنِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ دِينَهُمْ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ - مُحَالٌ مَعَ هَذَا وَغَيْرِهِ: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ بَابَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْعِلْمِ بِهِ مُلْتَبِسًا مُشْتَبِهًا وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ مَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلْيَا وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ مَعْرِفَةَ هَذَا أَصْلُ الدِّينِ وَأَسَاسُ الْهِدَايَةِ وَأَفْضَلُ وَأَوْجَبُ مَا اكْتَسَبَتْهُ الْقُلُوبُ وَحَصَّلَتْهُ النُّفُوسُ وَأَدْرَكَتْهُ الْعُقُولُ فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ الْكِتَابُ وَذَلِكَ الرَّسُولُ وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ لَمْ يُحْكِمُوا هَذَا الْبَابَ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا
وَمِنْ الْمُحَالِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَلَّمَ أُمَّتَهُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ وَقَالَ: {تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ} وَقَالَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ أَيْضًا: {مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ} . وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إلَّا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا. وَقَالَ {عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا فَذَكَرَ بَدْءَ الْخَلْقِ؛ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَمُحَالٌ مَعَ تَعْلِيمِهِمْ كُلَّ شَيْءٍ لَهُمْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي الدِّينِ - وَإِنْ دَقَّتْ - أَنْ يَتْرُكَ تَعْلِيمَهُمْ مَا يَقُولُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيَعْتَقِدُونَهُ فِي قُلُوبِهِمْ فِي رَبِّهِمْ وَمَعْبُودِهِمْ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي مَعْرِفَتُهُ غَايَةُ الْمَعَارِفِ وَعِبَادَتُهُ أَشْرَفُ الْمَقَاصِدِ وَالْوُصُولُ إلَيْهِ غَايَةُ الْمَطَالِبِ. بَلْ هَذَا خُلَاصَةُ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ وَزُبْدَةُ الرِّسَالَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ إيمَانٍ وَحِكْمَةٍ أَنْ لَا يَكُونَ بَيَانُ هَذَا الْبَابِ قَدْ وَقَعَ مِنْ الرَّسُولِ عَلَى غَايَةِ التَّمَامِ ثُمَّ إذَا كَانَ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ: فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ أُمَّتِهِ وَأَفْضَلُ قُرُونِهَا قَصَّرُوا فِي هَذَا الْبَابِ زَائِدِينَ فِيهِ أَوْ نَاقِصِينِ عَنْهُ. ثُمَّ مِنْ الْمُحَالِ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْقُرُونُ الْفَاضِلَةُ - الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - كَانُوا غَيْرَ
عَالِمِينَ وَغَيْرَ قَائِلِينَ فِي هَذَا الْبَابِ بِالْحَقِّ الْمُبِينِ لِأَنَّ ضِدَّ ذَلِكَ إمَّا عَدَمُ الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ وَإِمَّا اعْتِقَادُ نَقِيضِ الْحَقِّ وَقَوْلِ خِلَافِ الصِّدْقِ. وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى حَيَاةٍ وَطَلَبٍ لِلْعِلْمِ أَوْ نَهْمَةٍ فِي الْعِبَادَةِ يَكُونُ الْبَحْثُ عَنْ هَذَا الْبَابِ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ فِيهِ أَكْبَرَ مَقَاصِدِهِ وَأَعْظَمَ مَطَالِبِهِ؛ أَعْنِي بَيَانَ مَا يَنْبَغِي اعْتِقَادُهُ لَا مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ. وَلَيْسَتْ النُّفُوسُ الصَّحِيحَةُ إلَى شَيْءٍ أَشْوَقَ مِنْهَا إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الْأَمْرِ. وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الوجدية فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مَعَ قِيَامِ هَذَا الْمُقْتَضِي - الَّذِي هُوَ مَنْ أَقْوَى الْمُقْتَضَيَاتِ - أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ فِي أُولَئِكَ السَّادَةِ فِي مَجْمُوعِ عُصُورِهِمْ هَذَا لَا يَكَادُ يَقَعُ فِي أَبْلَدِ الْخَلْقِ وَأَشَدِّهِمْ إعْرَاضًا عَنْ اللَّهِ وَأَعْظَمِهِمْ إكْبَابًا عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَالْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَكَيْفَ يَقَعُ فِي أُولَئِكَ؟ وَأَمَّا كَوْنُهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ فِيهِ غَيْرَ الْحَقِّ أَوْ قَائِلِيهِ: فَهَذَا لَا يَعْتَقِدُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ عَرَفَ حَالَ الْقَوْمِ. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْهُمْ: أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ سَطْرُهُ فِي هَذِهِ الْفَتْوَى وَأَضْعَافِهَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ طَلَبَهُ وَتَتَبَّعَهُ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْخَالِفُونَ أَعْلَمَ مِنْ السَّالِفِينَ كَمَا قَدْ يَقُولُهُ بَعْضُ الْأَغْبِيَاءِ مِمَّنْ لَمْ يُقَدِّرْ قَدْرَ السَّلَفِ؛ بَلْ وَلَا عَرَفَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ حَقِيقَةَ الْمَعْرِفَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا: مِنْ أَنَّ " طَرِيقَةَ السَّلَفِ أَسْلَمُ
وَطَرِيقَةَ الْخَلَفِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ " - وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ إذَا صَدَرَتْ مِنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ قَدْ يَعْنِي بِهَا مَعْنًى صَحِيحًا. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ طَرِيقَةَ الْخَلَفِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ: إنَّمَا أَتَوْا مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا: أَنَّ طَرِيقَةَ السَّلَفِ هِيَ مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ فِقْهٍ لِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ} وَأَنَّ طَرِيقَةَ الْخَلَفِ هِيَ اسْتِخْرَاجُ مَعَانِي النُّصُوصِ الْمَصْرُوفَةِ عَنْ حَقَائِقِهَا بِأَنْوَاعِ الْمَجَازَاتِ وَغَرَائِبِ اللُّغَاتِ. فَهَذَا الظَّنُّ الْفَاسِدُ أَوْجَبَ " تِلْكَ الْمَقَالَةَ " الَّتِي مَضْمُونُهَا نَبْذُ الْإِسْلَامِ وَرَاءَ الظَّهْرِ وَقَدْ كَذَبُوا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ وَضَلُّوا فِي تَصْوِيبِ طَرِيقَةِ الْخَلَفِ؛ فَجَمَعُوا بَيْنَ الْجَهْلِ بِطَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِمْ. وَبَيْنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ بِتَصْوِيبِ طَرِيقَةِ الْخَلَفِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صِفَةٌ دَلَّتْ عَلَيْهَا هَذِهِ النُّصُوصُ بِالشُّبُهَاتِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي شَارَكُوا فِيهَا إخْوَانَهُمْ مِنْ الْكَافِرِينَ؛ فَلَمَّا اعْتَقَدُوا انْتِفَاءَ الصِّفَاتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ لَا بُدَّ لِلنُّصُوصِ مِنْ مَعْنًى بَقُوا مُتَرَدِّدِينَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّفْظِ وَتَفْوِيضِ الْمَعْنَى - وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا طَرِيقَةَ السَّلَفِ - وَبَيْنَ صَرْفِ اللَّفْظِ إلَى مَعَانٍ بِنَوْعِ تَكَلُّفٍ - وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا طَرِيقَةَ الْخَلَفِ - فَصَارَ هَذَا الْبَاطِلُ مُرَكَّبًا مِنْ فَسَادِ الْعَقْلِ وَالْكُفْرِ بِالسَّمْعِ؛ فَإِنَّ النَّفْيَ إنَّمَا اعْتَمَدُوا فِيهِ
عَلَى أُمُورٍ عَقْلِيَّةٍ ظَنُّوهَا بَيِّنَاتٍ وَهِيَ شُبُهَاتٌ وَالسَّمْعُ حَرَّفُوا فِيهِ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. فَلَمَّا ابْتَنَى أَمْرُهُمْ عَلَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ الكفريتين الْكَاذِبَتَيْنِ: كَانَتْ النَّتِيجَةُ اسْتِجْهَالَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ واستبلاههم وَاعْتِقَادَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا أُمِّيِّينَ بِمَنْزِلَةِ الصَّالِحِينَ مِنْ الْعَامَّةِ؛ لَمْ يَتَبَحَّرُوا فِي حَقَائِقِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَلَمْ يَتَفَطَّنُوا لِدَقَائِقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَأَنَّ الْخَلَفَ الْفُضَلَاءَ حَازُوا قَصَبَ السَّبْقِ فِي هَذَا كُلِّهِ. ثُمَّ هَذَا الْقَوْلُ إذَا تَدَبَّرَهُ الْإِنْسَانُ وَجَدَهُ فِي غَايَةِ الْجَهَالَةِ؛ بَلْ فِي غَايَةِ الضَّلَالَةِ. كَيْفَ يَكُونُ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ - لَا سِيَّمَا وَالْإِشَارَةُ بِالْخَلَفِ إلَى ضَرْبٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ كَثُرَ فِي بَابِ الدِّينِ اضْطِرَابُهُمْ وَغَلُظَ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ حُجَّابُهُمْ وَأَخْبَرَ الْوَاقِفُ عَلَى نِهَايَةِ إقْدَامِهِمْ بِمَا انْتَهَى إلَيْهِ أَمْرُهُمْ حَيْثُ يَقُولُ:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْت الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا
…
وَسَيَّرْت طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فَلَمْ أَرَ إلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ
…
عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ
وَأَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا قَالُوهُ مُتَمَثِّلِينَ بِهِ أَوْ مُنْشِئِينَ لَهُ فِيمَا صَنَّفُوهُ مِنْ كُتُبِهِمْ كَقَوْلِ بَعْضِ رُؤَسَائِهِمْ:
نِهَايَةُ إقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ
…
وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مَنْ جُسُومِنَا
…
وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثَنَا طُولَ عُمُرِنَا
…
سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا
لَقَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ؛ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَرَأَيْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ. اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَاقْرَأْ فِي النَّفْيِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي اهـ. وَيَقُولُ الْآخَرُ مِنْهُمْ: لَقَدْ خُضْت الْبَحْرَ الْخِضَمَّ وَتَرَكْت أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَعُلُومَهُمْ وَخُضْت فِي الَّذِي نَهَوْنِي عَنْهُ وَالْآنَ إنْ لَمْ يَتَدَارَكْنِي رَبِّي بِرَحْمَتِهِ فَالْوَيْلُ لِفُلَانِ وَهَا أَنَا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي اهـ. وَيَقُولُ الْآخَرُ مِنْهُمْ: أَكْثَرُ النَّاسِ شَكَا عِنْدَ الْمَوْتِ أَصْحَابَ الْكَلَامِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُخَالِفُونَ لِلسَّلَفِ إذَا حَقَّقَ عَلَيْهِمْ الْأَمْرَ: لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُمْ مِنْ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَخَالِصِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ خَبَرٌ وَلَمْ يَقَعُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ كَيْفَ يَكُونُ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ الْمُفْضَلُونَ الْمَنْقُوصُونَ الْمَسْبُوقُونَ الْحَيَارَى الْمُتَهَوِّكُونَ: أَعْلَمَ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحْكَمَ فِي بَابِ ذَاتِهِ وَآيَاتِهِ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَخُلَفَاءِ الرُّسُلِ وَأَعْلَامِ الْهُدَى وَمَصَابِيحِ الدُّجَى الَّذِينَ بِهِمْ قَامَ الْكِتَابُ وَبِهِ قَامُوا وَبِهِمْ نَطَقَ الْكِتَابُ وَبِهِ نَطَقُوا الَّذِينَ وَهَبَهُمْ اللَّهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مَا بَرَزُوا بِهِ عَلَى سَائِرِ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْأُمَمِ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ وَأَحَاطُوا مِنْ حَقَائِقِ الْمَعَارِفِ وَبَوَاطِنِ الْحَقَائِقِ بِمَا لَوْ جُمِعَتْ حِكْمَةُ غَيْرِهِمْ إلَيْهَا لَاسْتَحْيَا مَنْ يَطْلُبُ الْمُقَابَلَةَ
ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ خَيْرُ قُرُونِ الْأُمَّةِ أَنْقَصَ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ - لَا سِيَّمَا الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَأَحْكَامِ أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ - مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَصَاغِرِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ؟ أَمْ كَيْفَ يَكُونُ أَفْرَاخُ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَأَتْبَاعُ الْهِنْدِ وَالْيُونَانِ وَوَرَثَةُ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ وَضُلَّالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَأَشْكَالُهُمْ وَأَشْبَاهُهُمْ: أَعْلَمَ بِاَللَّهِ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَهْلِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ وَإِنَّمَا قَدَّمْت " هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ " لِأَنَّ مَنْ اسْتَقَرَّتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ عِنْدَهُ عَرَفَ طَرِيقَ الْهُدَى أَيْنَ هُوَ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ وَعَلِمَ أَنَّ الضَّلَالَ وَالتَّهَوُّكَ إنَّمَا اسْتَوْلَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِنَبْذِهِمْ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَمَّا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى وَتَرْكِهِمْ الْبَحْثَ عَنْ طَرِيقَةِ السَّابِقِينَ وَالتَّابِعِينَ وَالْتِمَاسِهِمْ عِلْمَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ اللَّهَ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَبِشَهَادَةِ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ وَبِدَلَالَاتِ كَثِيرَةٍ؛ وَلَيْسَ غَرَضِي وَاحِدًا مُعَيَّنًا وَإِنَّمَا أَصِفُ نَوْعَ هَؤُلَاءِ وَنَوْعَ هَؤُلَاءِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا ثُمَّ عَامَّةُ كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ثُمَّ كَلَامُ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ: مَمْلُوءٌ بِمَا هُوَ إمَّا نَصٌّ وَإِمَّا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى وَهُوَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَإِنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ: مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} {إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ} {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} {أَمْ أَمِنْتُمْ
مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ} {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكَادُ يُحْصَى إلَّا بِكُلْفَةِ. وَفِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ مَا لَا يُحْصَى إلَّا بِالْكُلْفَةِ مِثْلَ قِصَّةِ مِعْرَاجِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إلَى رَبِّهِ وَنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَصُعُودِهَا إلَيْهِ؛ وَقَوْلِهِ فِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: فَيَخْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ إلَى رَبِّهِمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ. وَفِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الْخَوَارِجِ: {أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً} وَفِي حَدِيثِ الرُّقْيَةِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ {رَبُّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُك أَمْرُك فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا رَحْمَتُك فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَك فِي الْأَرْضِ اغْفِرْ لَنَا حَوْبَنَا وَخَطَايَانَا أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِك وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِك عَلَى هَذَا الْوَجَعِ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {إذَا اشْتَكَى أَحَدٌ مِنْكُمْ أَوْ اشْتَكَى أَخٌ لَهُ فَلْيَقُلْ: رَبُّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ} وَذَكَرَهُ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ {وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ
مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِلْجَارِيَةِ {أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ فِي السَّمَاءِ قَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ} . وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ مَوْضُوعٍ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي} وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ قَبْضِ الرُّوحِ {حَتَّى يَعْرُجَ بِهَا إلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ تَعَالَى} . {وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ الَّذِي أَنْشَدَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ:
شَهِدْت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
…
وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافَ
…
وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا}
وَقَوْلُ {أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ الَّذِي أَنْشَدَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ شِعْرِهِ فَاسْتَحْسَنَهُ وَقَالَ: آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ حَيْثُ قَالَ:
مَجِّدُوا اللَّهَ فَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ
…
رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيرًا
بِالْبِنَاءِ الْأَعْلَى الَّذِي سَبَقَ النَّاسَ
…
وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ سَرِيرًا
شَرْجَعًا مَا يَنَالُهُ بَصَرُ الْعَيْـ
…
ـنِ تُرَى دُونَهُ الْمَلَائِكُ صُوَرًا}
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ: {إنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا} . وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: {يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ
يَا رَبِّ يَا رَبِّ} إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ مِمَّا هُوَ مِنْ أَبْلَغِ الْمُتَوَاتِرَاتِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي تُورِثُ عِلْمًا يَقِينًا مِنْ أَبْلَغِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم الْمُبَلِّغَ عَنْ اللَّهِ أَلْقَى إلَى أُمَّتِهِ الْمَدْعُوِّينَ - أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ كَمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعَ الْأُمَمِ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ؛ إلَّا مَنْ اجْتَالَتْهُ الشَّيَاطِينُ عَنْ فِطْرَتِهِ. ثُمَّ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا لَوْ جُمِعَ لَبَلَغَ مَائِينَ أَوْ أُلُوفًا.
ثُمَّ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ - لَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا عَنْ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا زَمَنَ الْأَهْوَاءِ وَالِاخْتِلَافِ - حَرْفٌ وَاحِدٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ إنَّ اللَّهَ لَيْسَ فِي السَّمَاءِ وَلَا إنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ وَلَا إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَلَا إنَّ جَمِيعَ الْأَمْكِنَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ وَلَا إنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا إنَّهُ لَا مُتَّصِلٌ وَلَا مُنْفَصِلٌ وَلَا إنَّهُ لَا تَجُوزُ الْإِشَارَةُ الْحِسِّيَّةُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ وَنَحْوِهَا؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَطَبَ خُطْبَتَهُ الْعَظِيمَةَ يَوْمَ عَرَفَاتٍ فِي أَعْظَمِ مَجْمَعٍ حَضَرَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَقُولُ: أَلَا هَلْ بَلَّغْت؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَرْفَعُ إصْبَعَهُ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ يَنْكُبُهَا إلَيْهِمْ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ غَيْرَ مَرَّةٍ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. فَلَئِنْ كَانَ الْحَقُّ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ السَّالِبُونَ النَّافُونَ لِلصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ فِي
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ وَنَحْوِهَا؛ دُونَ مَا يُفْهَمُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إمَّا نَصًّا وَإِمَّا ظَاهِرًا فَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عَلَى خَيْرِ الْأُمَّةِ: أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ دَائِمًا بِمَا هُوَ إمَّا نَصٌّ وَإِمَّا ظَاهِرٌ فِي خِلَافِ الْحَقِّ ثُمَّ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ لَا يَبُوحُونَ بِهِ قَطُّ وَلَا يَدُلُّونَ عَلَيْهِ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا؛ حَتَّى يَجِيءَ أَنْبَاطُ الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَفُرُوخُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْفَلَاسِفَةُ يُبَيِّنُونَ لِلْأُمَّةِ الْعَقِيدَةَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَوْ كُلِّ فَاضِلٍ أَنْ يَعْتَقِدَهَا. لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُتَكَلِّفُونَ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْوَاجِبُ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أُحِيلُوا فِي مَعْرِفَتِهِ عَلَى مُجَرَّدِ عُقُولِهِمْ وَأَنْ يَدْفَعُوا بِمَا اقْتَضَى قِيَاسَ عُقُولِهِمْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا؛ لَقَدْ كَانَ تَرْكُ النَّاسِ بِلَا كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ: أَهْدَى لَهُمْ وَأَنْفَعَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ؛ بَلْ كَانَ وُجُودُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ضَرَرًا مَحْضًا فِي أَصْلِ الدِّينِ. فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ: إنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعِبَادِ لَا تَطْلُبُوا مَعْرِفَةَ اللَّهِ عز وجل وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الصِّفَاتِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لَا مِنْ الْكِتَابِ وَلَا مِنْ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ طَرِيقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ. وَلَكِنْ اُنْظُرُوا أَنْتُمْ فَمَا وَجَدْتُمُوهُ مُسْتَحِقًّا لَهُ مِنْ الصِّفَاتِ فَصِفُوهُ بِهِ - سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ - وَمَا لَمْ تَجِدُوهُ مُسْتَحِقًّا لَهُ فِي عُقُولِكُمْ فَلَا تَصِفُوهُ بِهِ.
ثُمَّ هُمْ هَهُنَا فَرِيقَانِ: أَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ: مَا لَمْ تُثْبِتْهُ عُقُولُكُمْ فَانْفُوهُ - وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ تَوَقَّفُوا فِيهِ - وَمَا نَفَاهُ قِيَاسُ عُقُولِكُمْ - الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ وَمُضْطَرِبُونَ اخْتِلَافًا أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ - فَانْفُوهُ وَإِلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فَارْجِعُوا. فَإِنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي تَعَبَّدْتُكُمْ بِهِ؛ وَمَا كَانَ مَذْكُورًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يُخَالِفُ قِيَاسَكُمْ هَذَا أَوْ يُثْبِتُ مَا لَمْ تُدْرِكْهُ عُقُولُكُمْ - عَلَى طَرِيقَةِ أَكْثَرِهِمْ - فَاعْلَمُوا أَنِّي أَمْتَحِنُكُمْ بِتَنْزِيلِهِ لَا لِتَأْخُذُوا الْهُدَى مِنْهُ؛ لَكِنْ لِتَجْتَهِدُوا فِي تَخْرِيجِهِ عَلَى شَوَاذِّ اللُّغَةِ وَوَحْشِيِّ الْأَلْفَاظِ وَغَرَائِبِ الْكَلَامِ. أَوْ أَنْ تَسْكُتُوا عَنْهُ مُفَوِّضِينَ عِلْمَهُ إلَى اللَّهِ مَعَ نَفْيِ دَلَالَتِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ؛ هَذَا حَقِيقَةُ الْأَمْرِ عَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَهَذَا الْكَلَامُ قَدْ رَأَيْته صَرَّحَ بِمَعْنَاهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَهُوَ لَازِمٌ لِجَمَاعَتِهِمْ لُزُومًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ وَمَضْمُونُهُ: أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ لَا يَهْتَدِي بِهِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَأَنَّ الرَّسُولَ مَعْزُولٌ عَنْ التَّعْلِيمِ وَالْإِخْبَارِ بِصِفَاتِ مَنْ أَرْسَلَهُ وَأَنَّ النَّاسَ عِنْدَ التَّنَازُعِ لَا يَرُدُّونَ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ؛ بَلْ إلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَإِلَى مِثْلِ مَا يَتَحَاكَمُ إلَيْهِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْأَنْبِيَاءِ كالبراهمة وَالْفَلَاسِفَةِ - وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ - وَالْمَجُوسُ وَبَعْضُ الصَّابِئِينَ. وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّدُّ لَا يَزِيدُ الْأَمْرَ إلَّا شِدَّةً؛ وَلَا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ بِهِ؛ إذْ لِكُلِّ فَرِيقٍ طَوَاغِيتُ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَيْهِمْ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِمْ. وَمَا أَشْبَهَ حَالُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ
أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} {فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا دُعُوا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَإِلَى الرَّسُولِ - وَالدُّعَاءُ إلَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ هُوَ الدُّعَاءُ إلَى سُنَّتِهِ - أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّا قَصَدْنَا الْإِحْسَانَ عِلْمًا وَعَمَلًا بِهَذِهِ الطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكْنَاهَا وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ. ثُمَّ عَامَّةُ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا دَلَائِلَ: إنَّمَا تَقَلَّدُوا أَكْثَرَهَا عَنْ طَاغُوتٍ مِنْ طَوَاغِيتِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ الصَّابِئِينَ أَوْ بَعْضِ وَرَثَتِهِمْ الَّذِينَ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِمْ مِثْلُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ أَوْ عَمَّنْ قَالَ كَقَوْلِهِمْ؛ لِتَشَابُهِ قُلُوبِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} الْآيَةَ. وَلَازِمُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: أَنْ لَا يَكُونَ الْكِتَابُ هُدًى لِلنَّاسِ وَلَا بَيَانًا وَلَا شِفَاءً
لِمَا فِي الصُّدُورِ وَلَا نُورًا وَلَا مَرَدًّا عِنْدَ التَّنَازُعِ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّفُونَ: إنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ: لَمْ يُدَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا. وَإِنَّمَا غَايَةُ الْمُتَحَذْلِقِ أَنْ يَسْتَنْتِجَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} . وَبِالِاضْطِرَارِ يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ مَنْ دَلَّ الْخَلْقَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ وَلَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} لَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ وَهُوَ إمَّا مُلْغِزٌ وَإِمَّا مُدَلِّسٌ لَمْ يُخَاطِبْهُمْ بِلِسَانِ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَلَازِمُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: أَنْ يَكُونَ تَرْكُ النَّاسِ بِلَا رِسَالَةٍ: خَيْرًا لَهُمْ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ. لِأَنَّ مَرَدَّهُمْ قَبْلَ الرِّسَالَةِ وَبَعْدَهَا وَاحِدٌ؛ وَإِنَّمَا الرِّسَالَةُ زَادَتْهُمْ عَمًى وَضَلَالَةً. يَا سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ لَمْ يَقُلْ الرَّسُولُ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ: هَذِهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ لَا تَعْتَقِدُوا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ. وَلَكِنْ اعْتَقِدُوا الَّذِي تَقْتَضِيهِ مَقَايِيسُكُمْ أَوْ اعْتَقِدُوا كَذَا وَكَذَا. فَإِنَّهُ الْحَقُّ وَمَا خَالَفَ ظَاهِرَهُ فَلَا تَعْتَقِدُوا ظَاهِرَهُ أَوْ اُنْظُرُوا فِيهَا فَمَا وَافَقَ قِيَاسَ عُقُولِكُمْ فَاقْبَلُوهُ وَمَا لَا فَتَوَقَّفُوا فِيهِ أَوْ انْفُوهُ؟ . ثُمَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَقَدْ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ. ثُمَّ قَالَ: {إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ} . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ {هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي} . فَهَلَّا قَالَ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ أَوْ بِمَفْهُومِ الْقُرْآنِ أَوْ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ: فَهُوَ ضَالٌّ؟ وَإِنَّمَا الْهُدَى رُجُوعُكُمْ إلَى مَقَايِيسِ عُقُولِكُمْ وَمَا يُحْدِثُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْكُمْ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ - فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ - وَإِنْ كَانَ قَدْ نَبَغَ أَصْلُهَا فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ. ثُمَّ أَصْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ - مَقَالَةِ التَّعْطِيلِ لِلصِّفَاتِ - إنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ تَلَامِذَةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ وَضُلَّالِ الصَّابِئِينَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ حُفِظَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي الْإِسْلَامِ - أَعْنِي أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً وَأَنَّ مَعْنَى اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَنَحْوَ ذَلِكَ - هُوَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَأَخَذَهَا عَنْهُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ؛ وَأَظْهَرَهَا فَنُسِبَتْ مُقَالَةُ الْجَهْمِيَّة إلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْجَعْدَ أَخَذَ مَقَالَتَهُ عَنْ أَبَانَ بْنِ سَمْعَانَ وَأَخَذَهَا أَبَانُ عَنْ طَالُوتَ بْنِ أُخْتِ لَبِيَدِ بْنِ الْأَعْصَمِ وَأَخَذَهَا طَالُوتُ مِنْ لَبِيَدِ بْنِ الْأَعْصَمِ: الْيَهُودِيِّ السَّاحِرِ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
وَكَانَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ هَذَا - فِيمَا قِيلَ - مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ وَكَانَ فِيهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الصَّابِئَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ - بَقَايَا أَهْلِ دِينِ نمرود والكنعانيين الَّذِينَ صَنَّفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي سِحْرِهِمْ - ونمرود هُوَ مَلِكُ الصَّابِئَةِ الْكَلْدَانِيِّينَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا أَنَّ كِسْرَى مَلِكُ الْفُرْسِ وَالْمَجُوسِ وَفِرْعَوْنَ مَلِكُ مِصْرَ وَالنَّجَاشِيَّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ وَبَطْلَيْمُوسَ مَلِكُ الْيُونَانِ وَقَيْصَرَ مَلِكُ الرُّومِ. فَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ لَا اسْمَ عَلَمٍ. فَكَانَتْ الصَّابِئَةُ - إلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ - إذْ ذَاكَ عَلَى الشِّرْكِ وَعُلَمَاؤُهُمْ هُمْ الْفَلَاسِفَةُ وَإِنْ كَانَ الصَّابِئُ قَدْ لَا يَكُونُ مُشْرِكًا؛ بَلْ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا كُفَّارًا أَوْ مُشْرِكِينَ؛ كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا وَصَارُوا كُفَّارًا أَوْ مُشْرِكِينَ فَأُولَئِكَ الصَّابِئُونَ - الَّذِينَ كَانُوا إذْ ذَاكَ - كَانُوا كُفَّارًا أَوْ مُشْرِكِينَ وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَبْنُونَ لَهَا الْهَيَاكِلَ.
وَمَذْهَبُ الْنُّفَاةِ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي الرَّبِّ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا صِفَاتٌ سَلْبِيَّةٌ أَوْ إضَافِيَّةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا وَهُمْ الَّذِينَ بَعَثَ إلَيْهِمْ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ الْجَعْدُ قَدْ أَخَذَهَا عَنْ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ. وَكَذَلِكَ أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ دَخَلَ حَرَّانَ وَأَخَذَ عَنْ فَلَاسِفَةِ الصَّابِئِينَ تَمَامَ فَلْسَفَتِهِ وَأَخَذَهَا الْجَهْمُ أَيْضًا - فِيمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ - لَمَّا نَاظَرَ " السمنية " بَعْضَ فَلَاسِفَةِ الْهِنْدِ - وَهُمْ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ مِنْ الْعُلُومِ مَا سِوَى الْحِسِّيَّاتِ - فَهَذِهِ أَسَانِيدُ جَهْمٍ تَرْجِعُ إلَى الْيَهُودِ وَالصَّابِئِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْفَلَاسِفَةُ الضَّالُّونَ هُمْ إمَّا مِنْ الصَّابِئِينَ وَإِمَّا مِنْ الْمُشْرِكِينَ. ثُمَّ لَمَّا عُرِّبَتْ الْكُتُبُ الرُّومِيَّةُ وَالْيُونَانِيَّةُ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ: زَادَ الْبَلَاءُ؛ مَعَ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الضُّلَّالِ ابْتِدَاءً مِنْ جِنْسِ مَا أَلْقَاهُ فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ: انْتَشَرَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ الَّتِي كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَهَا مَقَالَةَ الْجَهْمِيَّة؛ بِسَبَبِ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ المريسي وَطَبَقَتِهِ وَكَلَامِ الْأَئِمَّةِ مِثْلَ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَبِشْرٍ الْحَافِي وَغَيْرِهِمْ: كَثِيرٌ فِي ذَمِّهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ.
وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ الْمَوْجُودَةُ الْيَوْمَ بِأَيْدِي النَّاسِ - مِثْلُ أَكْثَرِ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ فورك فِي كِتَابِ التَّأْوِيلَاتِ وَذَكَرَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِي فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " تَأْسِيسَ التَّقْدِيسِ " وَيُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي كَلَامِ خَلْقٍ كَثِيرٍ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِثْلَ أَبِي عَلِيٍّ الجبائي وَعَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَد الهمداني وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمْ - هِيَ بِعَيْنِهَا تَأْوِيلَاتُ بِشْرٍ المريسي الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ رَدُّ التَّأْوِيلِ وَإِبْطَالُهُ أَيْضًا وَلَهُمْ كَلَامٌ حَسَنٌ فِي أَشْيَاءَ. فَإِنَّمَا بَيَّنْت أَنَّ عَيْنَ تَأْوِيلَاتِهِمْ هِيَ عَيْنُ تَأْوِيلَاتِ بِشْرٍ المريسي وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كِتَابُ الرَّدِّ الَّذِي صَنَّفَهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْمَشَاهِيرِ فِي زَمَانِ الْبُخَارِيِّ صَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ: (رَدُّ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ عَلَى الْكَاذِبِ الْعَنِيدِ فِيمَا افْتَرَى عَلَى اللَّهِ فِي التَّوْحِيدِ حَكَى فِيهِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ بِأَعْيَانِهَا عَنْ بِشْرٍ المريسي بِكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَرِيسَيَّ أَقْعَدَ بِهَا وَأَعْلَمَ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ اتَّصَلَتْ إلَيْهِمْ مِنْ جِهَتِهِ وَجِهَةِ غَيْرِهِ ثُمَّ رَدَّ ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ بِكَلَامِ إذَا طَالَعَهُ الْعَاقِلُ الذَّكِيُّ: عَلِمَ حَقِيقَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَتَبَيَّنَ لَهُ ظُهُورُ الْحُجَّةِ لِطَرِيقِهِمْ وَضَعْفُ حُجَّةِ مَنْ خَالَفَهُمْ. ثُمَّ إذَا رَأَى الْأَئِمَّةَ - أَئِمَّةَ الْهُدَى - قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى ذَمِّ المريسية وَأَكْثَرُهُمْ
كَفَّرُوهُمْ أَوْ ضَلَّلُوهُمْ وَعَلِمَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ السَّارِيَ فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ هُوَ مَذْهَبُ المريسي: تَبَيَّنَ الْهُدَى لِمَنْ يُرِيدُ اللَّهُ هِدَايَتَهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَالْفَتْوَى لَا تَحْتَمِلُ الْبَسْطَ فِي هَذَا الْبَابِ وَإِنَّمَا أُشِيرُ إشَارَةً إلَى مَبَادِئِ الْأُمُورِ وَالْعَاقِلُ يَسِيرُ وَيَنْظُرُ. وَكَلَامُ السَّلَفِ فِي هَذَا الْبَابِ مَوْجُودٌ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ نَذْكُرَ هَهُنَا إلَّا قَلِيلًا مِنْهُ؛ مِثْلَ كِتَابِ السُّنَنِ للالكائي وَالْإِبَانَةِ لِابْنِ بَطَّةَ وَالسُّنَّةِ لِأَبِي ذَرٍّ الهروي وَالْأُصُولِ لِأَبِي عَمْرٍو الطلمنكي وَكَلَامِ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ للبيهقي وَقَبْلَ ذَلِكَ السُّنَّةُ للطبراني وَلِأَبِي الشَّيْخِ الأصبهاني وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده وَلِأَبِي أَحْمَد الْعَسَّالِ الأصبهانيين. وَقَبْلَ ذَلِكَ السُّنَّةِ لِلْخَلَّالِ وَالتَّوْحِيدِ لِابْنِ خُزَيْمَة وَكَلَامُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَالرَّدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّة لِجَمَاعَةِ: مِثْلَ الْبُخَارِيِّ وَشَيْخِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الجعفي وَقَبْلَ ذَلِكَ السُّنَّةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد وَالسُّنَّةُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَثْرَمِ وَالسُّنَّةُ لِحَنْبَلِ وللمروزي وَلِأَبِي دَاوُد السجستاني وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَالسُّنَّةُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ وَكِتَابُ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لِلْبُخَارِيِّ وَكِتَابُ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة لِعُثْمَانِ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَغَيْرِهِمْ. وَكَلَامُ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيِّ صَاحِبِ الْحَيْدَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَكَلَامُ نُعَيْمٍ بْنِ حَمَّادٍ الخزاعي وَكَلَامُ غَيْرِهِمْ وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ
وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ. وَقَبْلُ: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَمْثَالِهِ وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ. وَعِنْدَنَا مِنْ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ. وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ الْنُّفَاةِ لَهُمْ شُبُهَاتٌ مَوْجُودَةٌ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا فِي الْفَتْوَى فَمَنْ نَظَرَ فِيهَا وَأَرَادَ إبَانَةَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الشُّبَهِ فَإِنَّهُ يَسِيرٌ. فَإِذَا كَانَ أَصْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ - مَقَالَةِ التَّعْطِيلِ وَالتَّأْوِيلِ - مَأْخُوذًا عَنْ تَلَامِذَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ وَالْيَهُودِ فَكَيْفَ تَطِيبُ نَفْسُ مُؤْمِنٍ - بَلْ نَفْسُ عَاقِلٍ - أَنْ يَأْخُذَ سَبِيلَ هَؤُلَاءِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ أَوْ الضَّالِّينَ وَيَدَعَ سَبِيلَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
فَصْلٌ:
ثُمَّ الْقَوْلُ الشَّامِلُ فِي جَمِيعِ هَذَا الْبَابِ: أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ السَّابِقُونَ؛ الْأَوَّلُونَ لَا يَتَجَاوَزُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد رضي الله عنه لَا يُوصَفُ اللَّهُ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَتَجَاوَزُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ. وَمَذْهَبُ السَّلَفِ: أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَنَعْلَمُ أَنَّ مَا وُصِفَ اللَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ لُغْزٌ وَلَا أَحَاجِيٌّ؛ بَلْ مَعْنَاهُ يُعْرَفُ مِنْ حَيْثُ يُعْرَفُ مَقْصُودُ الْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِهِ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِمَا يَقُولُ وَأَفْصَحَ الْخَلْقِ فِي بَيَانِ الْعِلْمِ وَأَفْصَحَ الْخَلْقِ فِي الْبَيَانِ وَالتَّعْرِيفِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِرْشَادِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَذْكُورَةِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَكَمَا نَتَيَقَّنُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَهُ ذَاتٌ حَقِيقَةً وَلَهُ أَفْعَالٌ حَقِيقَةً: فَكَذَلِكَ لَهُ صِفَاتٌ حَقِيقَةً وَهُوَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نَقْصًا أَوْ حُدُوثًا فَإِنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ حَقِيقَةً فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْكَمَالِ الَّذِي لَا غَايَةَ فَوْقَهُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْحُدُوثُ لِامْتِنَاعِ الْعَدَمِ
عَلَيْهِ وَاسْتِلْزَامُ الْحُدُوثِ سَابِقَةُ الْعَدَمِ؛ وَلِافْتِقَارِ الْمُحْدَثِ إلَى مُحْدِثٍ وَلِوُجُوبِ وُجُودِهِ بِنَفْسِهِ سبحانه وتعالى. وَمَذْهَبُ السَّلَفِ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ فَلَا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِ اللَّهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ كَمَا لَا يُمَثِّلُونَ ذَاتَه بِذَاتِ خَلْقِهِ وَلَا يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ. فَيُعَطِّلُوا أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَيُحَرِّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيُلْحِدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ فَرِيقَيْ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ: فَهُوَ جَامِعٌ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ. أَمَّا الْمُعَطِّلُونَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصَفَاتِهِ إلَّا مَا هُوَ اللَّائِقُ بِالْمَخْلُوقِ ثُمَّ شَرَعُوا فِي نَفْيِ تِلْكَ الْمَفْهُومَاتِ؛ فَقَدْ جَمَعُوا بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ مَثَّلُوا أَوَّلًا وَعَطَّلُوا آخِرًا وَهَذَا تَشْبِيهٌ وَتَمْثِيلٌ مِنْهُمْ لِلْمَفْهُومِ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بِالْمَفْهُومِ مِنْ أَسْمَاءِ خَلْقِهِ وَصِفَاتِهِمْ وَتَعْطِيلٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ هُوَ سُبْحَانَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ اللَّائِقَةِ بِاَللَّهِ سبحانه وتعالى. فَإِنَّهُ إذَا قَالَ الْقَائِلُ: لَوْ كَانَ اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ لَلَزِمَ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْ الْعَرْشِ أَوْ أَصْغَرَ أَوْ مُسَاوِيًا وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَالِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ: فَإِنَّهُ لَمْ يُفْهَمْ مِنْ كَوْنِ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ إلَّا مَا يَثْبُتُ لِأَيِّ جِسْمٍ كَانَ عَلَى أَيِّ جِسْمٍ كَانَ وَهَذَا اللَّازِمُ تَابِعٌ لِهَذَا الْمَفْهُومِ. إمَّا اسْتِوَاءٌ يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَخْتَصُّ بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ اللَّوَازِمِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي يَجِبُ نَفْيُهَا كَمَا يَلْزَمُ مِنْ سَائِرِ الْأَجْسَامِ وَصَارَ هَذَا مِثْلَ قَوْلِ الْمَثَلِ: إذَا كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعٌ فَإِمَّا أَنْ
يَكُونُ جَوْهَرًا أَوْ عَرَضًا. وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ؛ إذْ لَا يَعْقِلُ مَوْجُودٌ إلَّا هَذَانِ. وَقَوْلُهُ: إذَا كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ فَهُوَ مُمَاثِلٌ لِاسْتِوَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى السَّرِيرِ أَوْ الْفَلَكِ؛ إذْ لَا يُعْلَمُ الِاسْتِوَاءُ إلَّا هَكَذَا فَإِنَّ كِلَيْهِمَا مَثَّلَ وَكِلَيْهِمَا عَطَّلَ حَقِيقَةَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَامْتَازَ الْأَوَّلُ بِتَعْطِيلِ كُلِّ اسْمٍ لِلِاسْتِوَاءِ الْحَقِيقِيِّ وَامْتَازَ الثَّانِي بِإِثْبَاتِ اسْتِوَاءٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ.
وَالْقَوْلُ الْفَاصِلُ: هُوَ مَا عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ؛ مِنْ أَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَيَخْتَصُّ بِهِ فَكَمَا أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ خَصَائِصُ الْأَعْرَاضِ الَّتِي لِعِلْمِ الْمَخْلُوقِينَ وَقُدْرَتِهِمْ فَكَذَلِكَ هُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا يَثْبُتُ لِفَوْقِيَّتِهِ خَصَائِصُ فَوْقِيَّةِ الْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَلَوَازِمهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ النَّقْلِ الصَّحِيحِ مَا يُوجِبُ مُخَالَفَةَ الطَّرِيقِ السَّلَفِيَّةِ أَصْلًا؛ لَكِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ لَا يَتَّسِعُ لِلْجَوَابِ عَنْ الشُّبُهَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْحَقِّ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ شُبْهَةٌ وَأَحَبَّ حَلَّهَا فَذَلِكَ سَهْلٌ يَسِيرٌ. ثُمَّ الْمُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ - مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ لِهَذَا الْبَابِ - فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ الرُّؤْيَةَ يَزْعُمُ أَنَّ الْعَقْلَ يُحِيلُهَا وَأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهَا إلَى التَّأْوِيلِ وَمَنْ يُحِيلُ أَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَأَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَنَحْوَ
ذَلِكَ يَقُولُ: إنَّ الْعَقْلَ أَحَالَ ذَلِكَ فَاضْطَرَّ إلَى التَّأْوِيلِ؛ بَلْ مَنْ يُنْكِرُ حَقِيقَةَ حَشْرِ الْأَجْسَادِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْجَنَّةِ: يَزْعُمُ أَنَّ الْعَقْلَ أَحَالَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى التَّأْوِيلِ وَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ: يَزْعُمُ أَنَّ الْعَقْلَ أَحَالَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى التَّأْوِيلِ. وَيَكْفِيك دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ: إنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ قَاعِدَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ فِيمَا يُحِيلُهُ الْعَقْلُ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْعَقْلَ جَوَّزَ وَأَوْجَبَ مَا يَدَّعِي الْآخَرُ أَنَّ الْعَقْلَ أَحَالَهُ. فَيَا لَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ عَقْلٍ يُوزَنُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؟ فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ حَيْثُ قَالَ: " أَوَكُلَّمَا جَاءَنَا رَجُلٌ أَجْدَلُ مِنْ رَجُلٍ تَرَكْنَا مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِجَدَلِ هَؤُلَاءِ ". وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَخْصُومٌ بِمَا خُصِمَ بِهِ الْآخَرُ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: - (أَحَدُهَا بَيَانُ أَنَّ الْعَقْلَ لَا تُحِيلُ ذَلِكَ. وَ (الثَّانِي أَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ. وَ (الثَّالِثُ أَنَّ عَامَّةَ هَذِهِ الْأُمُورِ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم جَاءَ بِهَا بِالِاضْطِرَارِ كَمَا أَنَّهُ جَاءَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ. فَالتَّأْوِيلُ الَّذِي يُحِيلُهَا عَنْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ تَأْوِيلِ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَسَائِرِ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّاتُ. (الرَّابِعُ: أَنْ يُبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ يُوَافِقُ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ؛ وَإِنْ
كَانَ فِي النُّصُوصِ مِنْ التَّفْصِيلِ مَا يَعْجِزُ الْعَقْلُ عَنْ دَرْكِ التَّفْصِيلِ وَإِنَّمَا يَعْلَمُهُ مُجْمَلًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ. عَلَى أَنَّ الْوُجُوهَ الْأَسَاطِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفُحُولِ: مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْعَقْلَ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْيَقِينِ فِي عَامَّةِ الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ. وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَالْوَاجِبُ تَلَقِّي عِلْمِ ذَلِكَ مِنْ النُّبُوَّاتِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا وَأَنَّهُ بَيَّنَ لِلنَّاسِ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ أُمُورِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْخَلْقِ وَالْبَعْثِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مَا هَدَى اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ وَكَشَفَ بِهِ مُرَادَهُ. وَمَعْلُومٌ لِلْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمُ مَنْ غَيْرِهِ بِذَلِكَ وَأَنْصَحُ مَنْ غَيْرِهِ لِلْأُمَّةِ وَأَفْصَحُ مَنْ غَيْرِهِ عِبَارَةً وَبَيَانًا بَلْ هُوَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِذَلِكَ وَأَنْصَحُ الْخَلْقِ لِلْأُمَّةِ وَأَفْصَحُهُمْ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ كَمَالُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَوْ الْفَاعِلَ إذَا كَمُلَ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَإِرَادَتُهُ:
كَمُلَ كَلَامُهُ وَفِعْلُهُ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ النَّقْصُ إمَّا مِنْ نَقْصِ عِلْمِهِ وَإِمَّا مَنْ عَجْزِهِ عَنْ بَيَانِ عِلْمِهِ وَإِمَّا لِعَدَمِ إرَادَتِهِ الْبَيَانَ. وَالرَّسُولُ هُوَ الْغَايَةُ فِي كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْغَايَةُ فِي كَمَالِ إرَادَةِ الْبَلَاغِ الْمُبِينِ وَالْغَايَةُ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى الْبَلَاغِ الْمُبِينِ - وَمَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ: يَجِبُ وُجُودُ الْمُرَادِ؛ فَعُلِمَ قَطْعًا أَنَّ مَا بَيَّنَهُ مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: حَصَلَ بِهِ مُرَادُهُ مِنْ الْبَيَانِ وَمَا أَرَادَهُ مِنْ الْبَيَانِ فَهُوَ مُطَابِقٌ لِعِلْمِهِ وَعِلْمُهُ بِذَلِكَ أَكْمَلُ الْعُلُومِ. فَكُلُّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ غَيْرَ الرَّسُولِ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنْهُ أَوْ أَكْمَلُ بَيَانًا مِنْهُ أَوْ أَحْرَصُ عَلَى هَدْيِ الْخَلْقِ مِنْهُ: فَهُوَ مِنْ الْمُلْحِدِينَ لَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقَامَةِ.
وَأَمَّا الْمُنْحَرِفُونَ عَنْ طَرِيقِهِمْ: فَهُمْ " ثَلَاثُ طَوَائِفَ ": أَهْلُ التَّخْيِيلِ وَأَهْلُ التَّأْوِيلِ وَأَهْلُ التَّجْهِيلِ.
فَأَهْلُ التَّخْيِيلِ: هُمْ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَمُتَصَوِّفٍ وَمُتَفَقِّهٍ. فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ لِلْحَقَائِقِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ الْجُمْهُورُ لَا أَنَّهُ بَيَّنَ بِهِ الْحَقَّ وَلَا هَدَى بِهِ الْخَلْقَ وَلَا أَوْضَحَ بِهِ الْحَقَائِقَ. ثُمَّ هُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَعْلَمْ الْحَقَائِقَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ. وَيَقُولُونَ: إنَّ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ مَنْ عَلِمَهَا وَكَذَلِكَ مِنْ الْأَشْخَاصِ
الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ الْأَوْلِيَاءَ مَنْ عَلِمَهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ الْمُرْسَلِينَ. وَهَذِهِ مَقَالَةُ غُلَاةِ الْمُلْحِدِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ: بَاطِنِيَّةِ الشِّيعَةِ وَبَاطِنِيَّةِ الصُّوفِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ الرَّسُولُ عَلِمَهَا لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِمَا يُنَاقِضُهَا وَأَرَادَ مِنْ الْخَلْقِ فَهْمَ مَا يُنَاقِضُهَا؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي لَا تُطَابِقُ الْحَقَّ. وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلَى اعْتِقَادِ التَّجْسِيمِ مَعَ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَإِلَى اعْتِقَادِ مَعَادِ الْأَبْدَانِ مَعَ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَعْوَةُ الْخَلْقِ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ. فَهَذَا قَوْلُ هَؤُلَاءِ فِي نُصُوصِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. (وَأَمَّا الْأَعْمَالُ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُجْرِيهَا هَذَا الْمَجْرَى. وَيَقُولُ: إنَّمَا يُؤْمَرُ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَيُؤْمَرُ بِهَا الْعَامَّةُ دُونَ الْخَاصَّةِ فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْبَاطِنِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ والْإِسْمَاعِيلِيَّة وَنَحْوِهِمْ. (وَأَمَّا أَهْلُ التَّأْوِيلِ فَيَقُولُونَ: إنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي الصِّفَاتِ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الرَّسُولُ أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ الْبَاطِلَ وَلَكِنْ قَصَدَ بِهَا مَعَانِيَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ تِلْكَ الْمَعَانِيَ وَلَا دَلَّهُمْ عَلَيْهَا؛ وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرُوا فَيَعْرِفُوا الْحَقَّ بِعُقُولِهِمْ ثُمَّ يَجْتَهِدُوا فِي صَرْفِ تِلْكَ النُّصُوصِ عَنْ مَدْلُولِهَا وَمَقْصُودُهُ امْتِحَانُهُمْ وَتَكْلِيفُهُمْ
وَإِتْعَابُ أَذْهَانِهِمْ وَعُقُولِهِمْ فِي أَنْ يَصْرِفُوا كَلَامَهُ عَنْ مَدْلُولِهِ وَمُقْتَضَاهُ وَيَعْرِفُ الْحَقَّ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ وَهَذَا قَوْلُ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَاَلَّذِينَ قَصَدْنَا الرَّدَّ فِي هَذِهِ الْفُتْيَا عَلَيْهِمْ: هُمْ هَؤُلَاءِ؛ إذْ كَانَ نُفُورُ النَّاسِ عَنْ الْأَوَّلِينَ مَشْهُورًا بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ تَظَاهَرُوا بِنَصْرِ السُّنَّةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَهُمْ - فِي الْحَقِيقَةِ - لَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِلْفَلَاسِفَةِ كَسَرُوا؛ لَكِنَّ أُولَئِكَ الْمَلَاحِدَةَ أَلْزَمُوهُمْ فِي النُّصُوصِ - نُصُوصِ الْمَعَادِ - نَظِيرَ مَا ادَّعُوهُ فِي نُصُوصِ الصِّفَاتِ. فَقَالُوا لَهُمْ: نَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرُّسُلَ جَاءَتْ بِمَعَادِ الْأَبْدَانِ وَقَدْ عَلِمْنَا فَسَادَ الشُّبَهِ الْمَانِعَةِ مِنْهُ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ لَهُمْ: وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرُّسُلَ جَاءَتْ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ. وَنُصُوصُ الصِّفَاتِ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ: أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ نُصُوصِ الْمَعَادِ. وَيَقُولُونَ لَهُمْ: مَعْلُومٌ أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْمَعَادَ وَقَدْ أَنْكَرُوهُ عَلَى الرَّسُولِ وَنَاظَرُوهُ عَلَيْهِ؛ بِخِلَافِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ شَيْئًا مِنْهَا أَحَدٌ مِنْ الْعَرَبِ. فَعُلِمَ أَنَّ إقْرَارَ الْعُقُولِ بِالصِّفَاتِ: أَعْظَمُ مِنْ إقْرَارِهَا بِالْمَعَادِ وَأَنَّ إنْكَارَ الْمَعَادِ أَعْظَمُ مِنْ إنْكَارِ الصِّفَاتِ فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ لَيْسَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ وَمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْمَعَادِ هُوَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ
وَأَيْضًا؛ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدّ ذَمَّ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى مَا حَرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْرَاةَ مَمْلُوءَةٌ مِنْ ذِكْرِ الصِّفَاتِ فَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا بُدِّلَ وَحُرِّفَ لَكَانَ إنْكَارُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَوْلَى فَكَيْفَ وَكَانُوا إذَا ذَكَرُوا بَيْنَ يَدَيْهِ الصِّفَاتِ يَضْحَكُ تَعَجُّبًا مِنْهُمْ وَتَصْدِيقًا لَهَا وَلَمْ يَعِبْهُمْ قَطُّ بِمَا تَعِيبُ الْنُّفَاةِ أَهْلَ الْإِثْبَاتِ مِثْلَ لَفْظِ التَّجْسِيمِ وَالتَّشْبِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ بَلْ عَابَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} وَقَوْلِهِمْ: {إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} وَقَوْلِهِمْ: إنَّهُ اسْتَرَاحَ لَمَّا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} . وَالتَّوْرَاةُ مَمْلُوءَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُطَابِقَةِ لِلصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ؛ وَلَيْسَ فِيهَا تَصْرِيحٌ بِالْمَعَادِ كَمَا فِي الْقُرْآنِ. فَإِذَا جَازَ أَنْ تَتَأَوَّلَ الصِّفَاتُ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْكِتَابَانِ فَتَأْوِيلُ الْمَعَادِ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُمَا أَوْلَى وَالثَّانِي مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ. (وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّالِثُ وَهُمْ (أَهْلُ التَّجْهِيلِ فَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ. يَقُولُونَ: إنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْرِفْ مَعَانِيَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَلَا جِبْرِيلُ يَعْرِفُ مَعَانِيَ الْآيَاتِ وَلَا السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ عَرَفُوا ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ: إنَّ مَعْنَاهَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ تَكَلَّمَ بِهَا ابْتِدَاءً فَعَلَى قَوْلِهِمْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ.
وَهَؤُلَاءِ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ اتَّبَعُوا قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} فَإِنَّهُ وَقَفَ أَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} . وَهُوَ وَقْفٌ صَحِيحٌ لَكِنْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَعْنَى الْكَلَامِ وَتَفْسِيرِهِ؛ وَبَيْنَ " التَّأْوِيلِ " الَّذِي انْفَرَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ؛ وَظَنُّوا أَنَّ التَّأْوِيلَ الْمَذْكُورَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ " التَّأْوِيلُ " الْمَذْكُورُ فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَغَلِطُوا فِي ذَلِكَ. فَإِنَّ لَفْظَ " التَّأْوِيلِ " يُرَادُ بِهِ ثَلَاثُ مَعَانٍ: " فَالتَّأْوِيلُ " فِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ هُوَ: صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ لِدَلِيلِ يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مَعْنَى اللَّفْظِ الْمُوَافِقِ لِدَلَالَةِ ظَاهِرِهِ تَأْوِيلًا عَلَى اصْطِلَاحِ هَؤُلَاءِ؛ وَظَنُّوا أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ ذَلِكَ وَأَنَّ لِلنُّصُوصِ تَأْوِيلًا يُخَالِفُ مَدْلُولَهَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُهُ الْمُتَأَوِّلُونَ. ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: تَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهَا فَظَاهِرُهَا مُرَادٌ مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ لَهَا تَأْوِيلًا بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ: مِنْ أَصْحَابِ " الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ " وَغَيْرِهِمْ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي " أَنَّ التَّأْوِيلَ " هُوَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ - سَوَاءٌ وَافَقَ ظَاهِرَهُ أَوْ لَمْ يُوَافِقْهُ - وَهَذَا هُوَ " التَّأْوِيلُ " فِي اصْطِلَاحِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا " التَّأْوِيلُ " يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِوَقْفِ مَنْ وَقَفَ
مِنْ السَّلَفِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَابْنِ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِمْ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ بِاعْتِبَارِ. كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ وَلِهَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا وَهَذَا وَكِلَاهُمَا حَقٌّ. وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ أَنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي يُؤَوَّلُ الْكَلَامُ إلَيْهَا - وَإِنْ وَافَقَتْ ظَاهِرَهُ - فَتَأْوِيلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْجَنَّةِ - مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - هُوَ الْحَقَائِقُ الْمَوْجُودَةُ أَنْفُسُهَا؛ لَا مَا يُتَصَوَّرُ مِنْ مَعَانِيهَا فِي الْأَذْهَانِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ وَهَذَا هُوَ " التَّأْوِيلُ " فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} .
وَهَذَا التَّأْوِيلُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. وَتَأْوِيلُ " الصِّفَاتِ " هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي انْفَرَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا وَهُوَ الْكَيْفُ الْمَجْهُولُ الَّذِي قَالَ فِيهِ السَّلَفُ - كَمَالِكِ وَغَيْرِهِ -: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ؛ فَالِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ - يُعْلَمُ مَعْنَاهُ وَيُفَسَّرُ وَيُتَرْجَمُ بِلُغَةِ أُخْرَى - وَهُوَ مِنْ
التَّأْوِيلِ الَّذِي يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ الِاسْتِوَاءِ فَهُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ فِي تَفْسِيرِهِمْ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: - تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ عز وجل فَمَنْ ادَّعَى عَلِمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ. وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ} . وَكَذَلِكَ عِلْمُ وَقْتِ السَّاعَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ كُنَّا نَفْهَمُ مَعَانِيَ مَا خُوطِبْنَا بِهِ وَنَفْهَمُ مِنْ الْكَلَامِ مَا قُصِدَ إفْهَامُنَا إيَّاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وَقَالَ: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} فَأَمَرَ بِتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ لَا بِتَدَبُّرِ بَعْضِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرَءُونَنَا الْقُرْآنَ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَتَجَاوَزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا ابْتَدَعَ أَحَدٌ بِدْعَةً إلَّا وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بَيَانُهَا وَقَالَ مَسْرُوقٌ: مَا سُئِلَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَعِلْمُهُ فِي الْقُرْآنِ وَلَكِنْ عِلْمُنَا قَصُرَ عَنْهُ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أُصُولِ " الْمَقَالَاتِ الْفَاسِدَةِ " الَّتِي أَوْجَبَتْ الضَّلَالَةَ فِي بَابِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ مَنْ جَعَلَ الرَّسُولَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْهِ وَلَا جِبْرِيلُ - جَعَلَهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِالسَّمْعِيَّاتِ وَلَمْ يَجْعَلْ الْقُرْآنَ هُدًى وَلَا بَيَانًا لِلنَّاسِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ الْعَقْلِيَّاتِ فِي هَذَا الْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَجْعَلُونَ عِنْدَ الرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ فِي " بَابِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عز وجل " لَا عُلُومًا عَقْلِيَّةً وَلَا سَمْعِيَّةً؛ وَهُمْ قَدْ شَارَكُوا الْمَلَاحِدَةَ فِي هَذِهِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَهُمْ مُخْطِئُونَ فِيمَا نَسَبُوا إلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَإِلَى السَّلَفِ مِنْ الْجَهْلِ كَمَا أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ وَسَائِرُ أَصْنَافِ الْمَلَاحِدَةِ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ " أَلْفَاظِ السَّلَفِ " بِأَعْيَانِهَا " وَأَلْفَاظِ مَنْ نُقِلَ مَذْهَبُهُمْ " - إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ بِحَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ - مَا يُعْلَمُ بِهِ مَذْهَبُهُمْ.
رَوَى أَبُو بَكْرٍ البيهقي فِي " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ الأوزاعي قَالَ: كُنَّا - وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ -: نَقُولُ إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - فَوْقَ عَرْشِهِ وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ فِيهِ السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ. وَقَدْ حَكَى الأوزاعي - وَهُوَ أَحَدُ " الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ " فِي عَصْرِ تَابِعِ التَّابِعِينَ: الَّذِينَ هُمْ " مَالِكٌ " إمَامُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَ " الأوزاعي " إمَامُ أَهْلِ الشَّامِ وَ " اللَّيْثُ " إمَامُ أَهْلِ مِصْرَ وَ " الثَّوْرِيُّ " إمَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ - حَكَى شُهْرَةَ الْقَوْلِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ بِالْإِيمَانِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ وَبِصِفَاتِهِ السَّمْعِيَّةِ. وَإِنَّمَا قَالَ الأوزاعي هَذَا بَعْدَ ظُهُورِ مَذْهَبِ جَهْمٍ الْمُنْكِرِ لِكَوْنِ اللَّهِ فَوْقَ عَرْشِهِ وَالنَّافِي لِصِفَاتِهِ؛ لِيَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ خِلَافُ ذَلِكَ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " عَنْ الأوزاعي قَالَ: سُئِلَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ عَنْ تَفْسِيرِ الْأَحَادِيثِ فَقَالَا: - أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ. وَرَوَى أَيْضًا عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَاللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِي: عَنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الصِّفَاتِ. فَقَالُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالُوا أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ. فَقَوْلُهُمْ رضي الله عنهم " أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ " رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ وَقَوْلُهُمْ: " بِلَا كَيْفٍ " رَدٌّ عَلَى الْمُمَثِّلَةِ. وَالزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ: هُمَا أَعْلَمُ التَّابِعِينَ فِي زَمَانِهِمْ
وَالْأَرْبَعَةُ الْبَاقُونَ أَئِمَّةُ الدُّنْيَا فِي عَصْرِ تَابِعِي التَّابِعِينَ وَمِنْ طَبَقَتِهِمْ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَأَمْثَالُهُمَا. وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ الأزجي بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ إذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ مَنْ يَدْفَعُ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ يَقُولُ: قَالَ " عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ": سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوُلَاةُ الْأَمْرِ بَعْدَهُ سُنَنًا. الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى تَغْيِيرُهَا وَلَا النَّظَرُ فِي شَيْءٍ خَالَفَهَا مَنْ اهْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ وَمَنْ اسْتَنْصَرَ بِهَا فَهُوَ مَنْصُورٌ وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِ - كُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ - عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة. قَالَ: سُئِلَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى. قَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَمِنْ اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ. وَهَذَا الْكَلَامُ مَرْوِيٌّ عَنْ " مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ " تِلْمِيذِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. (مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ الأصبهاني وَأَبُو بَكْرٍ البيهقي عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى؛ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ؛ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ:
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ بِرَأْسِهِ حَتَّى عَلَاهُ الرُّحَضَاءُ ثُمَّ قَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. وَمَا أَرَاك إلَّا مُبْتَدِعًا؛ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُخْرَجَ. فَقَوْلُ رَبِيعَةَ وَمَالِكٍ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الْبَاقِينَ: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ فَإِنَّمَا نَفَوْا عِلْمَ الْكَيْفِيَّةِ وَلَمْ يَنْفُوا حَقِيقَةَ الصِّفَةِ. وَلَوْ كَانَ الْقَوْمُ قَدْ آمَنُوا بِاللَّفْظِ الْمُجَرَّدِ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِمَعْنَاهُ - عَلَى مَا يَلِيقُ بِاَللَّهِ - لَمَا قَالُوا: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلَمَا قَالُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ فَإِنَّ الِاسْتِوَاءَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مَعْلُومًا بَلْ مَجْهُولًا بِمَنْزِلَةِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى نَفْيِ عِلْمِ الْكَيْفِيَّةِ إذَا لَمْ يُفْهَمْ عَنْ اللَّفْظِ مَعْنًى؛ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى نَفْيِ عِلْمِ الْكَيْفِيَّةِ إذَا أُثْبِتَتْ الصِّفَاتُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ يَنْفِي الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ - أَوْ الصِّفَاتِ مُطْلَقًا - لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَقُولَ بِلَا كَيْفٍ فَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ بِلَا كَيْفٍ فَلَوْ كَانَ مَذْهَبُ السَّلَفِ نَفْيَ الصِّفَاتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمَا قَالُوا بِلَا كَيْفٍ. وَأَيْضًا: فَقَوْلُهُمْ: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ يَقْتَضِي إبْقَاءَ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا جَاءَتْ أَلْفَاظٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانٍ؛ فَلَوْ كَانَتْ دَلَالَتُهَا مُنْتَفِيَةً لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ
يُقَالَ: أَمِرُّوا لَفْظَهَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهَا غَيْرُ مُرَادٍ؛ أَوْ أَمِرُّوا لَفْظَهَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُوصَفُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَحِينَئِذٍ فَلَا تَكُونُ قَدْ أُمِرَّتْ كَمَا جَاءَتْ وَلَا يُقَالُ حِينَئِذٍ بِلَا كَيْفٍ؛ إذْ نَفْيُ الْكَيْفِ عَمَّا لَيْسَ بِثَابِتِ لَغْوٌ مِنْ الْقَوْلِ.
وَرَوَى الْأَثْرَمُ فِي " السُّنَّةِ " وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي " الْإِبَانَةِ " وَأَبُو عَمْرو الطلمنكي وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الماجشون - وَهُوَ أَحَدُ " أَئِمَّةِ الْمَدِينَةِ الثَّلَاثَةِ " الَّذِينَ هُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَابْنُ الماجشون وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ - وَقَدْ سُئِلَ عَمَّا جَحَدَتْ بِهِ الْجَهْمِيَّة: " أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ فَهِمْت مَا سَأَلْت فِيمَا تَتَابَعَتْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ خَلْفَهَا فِي صِفَةِ " الرَّبِّ الْعَظِيمِ " الَّذِي فَاقَتْ عَظَمَتُهُ الْوَصْفَ وَالتَّدَبُّرَ وَكَلَّتْ الْأَلْسُنُ عَنْ تَفْسِيرِ صِفَتِهِ وَانْحَصَرَتْ الْعُقُولُ دُونَ مَعْرِفَةِ قُدْرَتِهِ وَرَدَّتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغًا فَرَجَعَتْ خَاسِئَةً وَهِيَ حَسِيرَةٌ. وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِيمَا خَلَقَ بِالتَّقْدِيرِ وَإِنَّمَا يُقَالُ " كَيْفَ " لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَرَّةً ثُمَّ كَانَ. فَأَمَّا الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ وَلَمْ يَزَلْ وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ إلَّا هُوَ. وَكَيْفَ يُعْرَفُ قَدْرَ مَنْ لَمْ يَبْدَأْ وَمَنْ لَا يَمُوتُ وَلَا يَبْلَى؟ وَكَيْفَ يَكُونُ لِصِفَةِ شَيْءٍ مِنْهُ حَدٌّ أَوْ مُنْتَهَى - يَعْرِفُهُ عَارِفٌ أَوْ يَحُدُّ قَدْرَهُ وَاصِفٌ؟ - عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ لَا حَقَّ أَحَقُّ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ أَبْيَنَ مِنْهُ. الدَّلِيلُ عَلَى عَجْزِ الْعُقُولِ عَنْ تَحْقِيقِ صِفَتِهِ عَجْزُهَا عَنْ تَحْقِيقِ
صِفَةِ أَصْغَرِ خَلْقِهِ لَا تَكَادُ تَرَاهُ صِغَرًا يَجُولُ وَيَزُولُ وَلَا يُرَى لَهُ سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ؛ لِمَا يَتَقَلَّبُ بِهِ وَيَحْتَالُ مِنْ عَقْلِهِ أَعْضَلُ بِك وَأَخْفَى عَلَيْك مِمَّا ظَهَرَ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وَخَالِقُهُمْ وَسَيِّدُ السَّادَةِ وَرَبُّهُمْ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . اعْرِفْ - رَحِمَك اللَّهُ - غِنَاك عَنْ تَكَلُّفِ صِفَةِ مَا لَمْ يَصِفْ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ بِعَجْزِك عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِ مَا وَصَفَ مِنْهَا؛ إذَا لَمْ تَعْرِفْ قَدْرَ مَا وَصَفَ فَمَا تُكَلِّفُك عِلْمَ مَا لَمْ يَصِفْ؟ هَلْ تَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ طَاعَتِهِ أَوْ تَزْدَجِرُ بِهِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَعْصِيَتِهِ؟ فَأَمَّا الَّذِي جَحَدَ مَا وَصَفَ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ تَعَمُّقًا وَتَكَلُّفًا فَقَدَ {اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} فَصَارَ يَسْتَدِلُّ - بِزَعْمِهِ - عَلَى جَحْدِ مَا وَصَفَ الرَّبُّ وَسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ: لَا بُدَّ إنْ كَانَ لَهُ كَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ كَذَا فَعَمَى عَنْ الْبَيْنِ بِالْخَفِيِّ فَجَحَدَ مَا سَمَّى الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ لِصَمْتِ الرَّبِّ عَمَّا لَمْ يُسَمِّ مِنْهَا فَلَمْ يَزَلْ يُمْلِي لَهُ الشَّيْطَانُ حَتَّى جَحَدَ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فَقَالَ: لَا يَرَاهُ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَجَحَدَ وَاَللَّهِ أَفْضَلَ كَرَامَةِ اللَّهِ الَّتِي أَكْرَمَ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ وَنَضْرَتِهِ إيَّاهُمْ {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} قَدْ قَضَى أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فَهُمْ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ يَنْضُرُونَ. إلَى أَنْ قَالَ: - وَإِنَّمَا جَحَدَ رُؤْيَةَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إقَامَةً لِلْحُجَّةِ الضَّالَّةِ الْمُضِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ
قَدْ عَرَفَ أَنَّهُ إذَا تَجَلَّى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَأَوْا مِنْهُ مَا كَانُوا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مُؤْمِنِينَ وَكَانَ لَهُ جَاحِدًا. {وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ. قَالُوا: لَا. قَالَ: فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَئِذٍ كَذَلِكَ} . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {لَا تَمْتَلِئُ النَّارُ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ وَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ} {وَقَالَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: لَقَدْ ضَحِكَ اللَّهُ مِمَّا فَعَلْت بِضَيْفِك الْبَارِحَةَ} {وَقَالَ فِيمَا بَلَغَنَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَضْحَكُ مِنْ أَزَلِّكُمْ وَقُنُوطِكُمْ وَسُرْعَةِ إجَابَتِكُمْ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ إنَّ رَبَّنَا لَيَضْحَكُ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ لَا نَعْدَمُ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا} . إلَى أَشْبَاهٍ لِهَذَا مِمَّا لَا نُحْصِيهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . فَوَاَللَّهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى عِظَمِ مَا وَصَفَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَمَا تُحِيطُ بِهِ قَبْضَتُهُ: إلَّا صِغَرُ نَظِيرِهَا مِنْهُمْ عِنْدَهُمْ إنَّ ذَلِكَ الَّذِي أُلْقِيَ فِي رَوْعِهِمْ وَخُلِقَ عَلَى مَعْرِفَةِ قُلُوبِهِمْ
فَمَا وَصَفَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ وَسَمَّاهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم سَمَّيْنَاهُ كَمَا سَمَّاهُ وَلَمْ نَتَكَلَّفْ مِنْهُ صِفَةَ مَا سِوَاهُ - لَا هَذَا وَلَا هَذَا - لَا نَجْحَدُ مَا وَصَفَ وَلَا نَتَكَلَّفُ مَعْرِفَةَ مَا لَمْ يَصِفْ. اعْلَمْ - رَحِمَك اللَّهُ - أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي الدِّينِ أَنْ تَنْتَهِيَ فِي الدِّينِ حَيْثُ انْتَهَى بِك وَلَا تُجَاوِزْ مَا قَدْ حَدَّ لَك فَإِنَّ مِنْ قِوَامِ الدِّينِ مَعْرِفَةَ الْمَعْرُوفِ وَإِنْكَارَ الْمُنْكَرِ فَمَا بُسِطَتْ عَلَيْهِ الْمَعْرِفَةُ وَسَكَنَتْ إلَيْهِ الْأَفْئِدَةُ وَذُكِرَ أَصْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَوَارَثَتْ عِلْمَهُ الْأُمَّةُ: فَلَا تَخَافَنَّ فِي ذِكْرِهِ وَصِفَتِهِ مِنْ رَبِّك مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ عَيْبًا؛ وَلَا تَتَكَلَّفَنَّ بِمَا وُصِفَ لَك مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا. وَمَا أَنْكَرَتْهُ نَفْسُك وَلَمْ تَجِدْ ذِكْرَهُ فِي كِتَابِ رَبِّك وَلَا فِي حَدِيثٍ عَنْ نَبِيِّك - مِنْ ذِكْرِ صِفَةِ رَبِّك - فَلَا تُكَلِّفَنَّ عَلَمَهُ بِعَقْلِك؛ وَلَا تَصِفْهُ بِلِسَانِك؛ وَاصْمُتْ عَنْهُ كَمَا صَمَتَ الرَّبُّ عَنْهُ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ تَكَلُّفَك مَعْرِفَةَ مَا لَمْ يَصِفْ مِنْ نَفْسِهِ مِثْلُ إنْكَارِ مَا وَصَفَ مِنْهَا؛ فَكَمَا أَعْظَمْت مَا جَحَدَهُ الْجَاحِدُونَ مِمَّا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ: فَكَذَلِكَ أَعْظِمْ تَكَلُّفَ مَا وَصَفَ الْوَاصِفُونَ مِمَّا لَمْ يَصِفْ مِنْهَا. فَقَدَ - وَاَللَّهِ - عَزَّ الْمُسْلِمُونَ؛ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْمَعْرُوفَ وَبِهِمْ يُعْرَفُ؛ وَيُنْكِرُونَ الْمُنْكَرَ وَبِإِنْكَارِهِمْ يُنْكَرُ؛ يَسْمَعُونَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِهِ وَمَا بَلَغَهُمْ مِثْلُهُ عَنْ نَبِيِّهِ فَمَا مَرِضَ مِنْ ذِكْرِ هَذَا وَتَسْمِيَتِهِ قَلْبُ مُسْلِمٍ وَلَا تَكَلَّفَ صِفَةَ قَدْرِهِ وَلَا تَسْمِيَةَ غَيْرِهِ مِنْ الرَّبِّ مُؤْمِنٌ.
وَمَا ذُكِرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَمَّاهُ مِنْ صِفَةِ رَبِّهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا سُمِّيَ وَمَا وَصَفَ الرَّبُّ تَعَالَى مِنْ نَفْسِهِ. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ - الْوَاقِفُونَ حَيْثُ انْتَهَى عِلْمُهُمْ الْوَاصِفُونَ لِرَبِّهِمْ بِمَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ التَّارِكُونَ لِمَا تَرَكَ مِنْ ذِكْرِهَا - لَا يُنْكِرُونَ صِفَةَ مَا سُمِّيَ مِنْهَا جَحْدًا وَلَا يَتَكَلَّفُونَ وَصْفَهُ بِمَا لَمْ يُسَمِّ تَعَمُّقًا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ تَرْكُ مَا تَرَكَ وَتَسْمِيَةُ مَا سَمَّى وَمَنْ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا وَهَبَ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ حُكْمًا وَأَلْحَقَنَا بِالصَّالِحِينَ ". وَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ ابْنِ الماجشون الْإِمَامِ " فَتَدَبَّرْهُ وَانْظُرْ كَيْفَ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ وَنَفَى عِلْمَ الْكَيْفِيَّةِ - مُوَافِقًا لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ - وَكَيْفَ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ نَفَى الصِّفَاتِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ مِنْ إثْبَاتِهَا كَذَا وَكَذَا كَمَا تَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة - أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا أَوْ عَرَضًا فَيَكُونُ مُحْدِثًا.
وَفِي كِتَابِ " الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ " الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ الَّذِي رَوَوْهُ بِالْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ " الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البلخي " قَالَ: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ فَقَالَ: لَا تُكَفِّرَنَّ أَحَدًا بِذَنْبِ وَلَا تَنْفِ أَحَدًا بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ؛ وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؛ وَتَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَك لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَك وَمَا أَخْطَأَك لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَك وَلَا تَتَبَرَّأْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا تُوَالِي أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ؛ وَأَنْ تَرُدَّ أَمْرَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ إلَى اللَّهِ عز وجل.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْفِقْهُ الْأَكْبَرُ فِي الدِّينِ خَيْرٌ مِنْ الْفِقْهِ فِي الْعِلْمِ؛ وَلَأَنْ يَفْقَهَ الرَّجُلُ كَيْفَ يَعْبُدُ رَبَّهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْمَعَ الْعِلْمَ الْكَثِيرَ. قَالَ أَبُو مُطِيعٍ: " الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ " قُلْت: أَخْبِرْنِي عَنْ أَفْضَلِ الْفِقْهِ. قَالَ: تَعَلُّمُ الرَّجُلِ الْإِيمَانَ وَالشَّرَائِعَ وَالسُّنَنَ وَالْحُدُودَ وَاخْتِلَافَ الْأَئِمَّةِ. وَذَكَرَ مَسَائِلَ " الْإِيمَانِ " ثُمَّ ذَكَرَ مَسَائِلَ " الْقَدَرِ " وَالرَّدِّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ بِكَلَامِ حَسَنٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. ثُمَّ قَالَ: قُلْت: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَتْبَعُهُ عَلَى ذَلِكَ أُنَاسٌ فَيَخْرُجُ عَلَى الْجَمَاعَةِ هَلْ تَرَى ذَلِكَ؟ قَالَ لَا. قُلْت: وَلِمَ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ؟ قَالَ هُوَ كَذَلِكَ؛ لَكِنْ مَا يُفْسِدُونَ أَكْثَرُ مِمَّا يُصْلِحُونَ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَاسْتِحْلَالِ الْحَرَامِ. قَالَ: وَذَكَرَ الْكَلَامَ فِي قَتْلِ الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ. إلَى أَنْ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَمَّنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ: فَقَدْ كَفَرَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ. قُلْت: فَإِنْ قَالَ إنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَكِنَّهُ يَقُولُ لَا أَدْرِي الْعَرْشَ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ هُوَ كَافِرٌ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فِي السَّمَاءِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلُ - وَفِي لَفْظٍ - سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ يَقُولُ لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ. قَالَ قَدْ كَفَرَ. قَالَ لِأَنَّ اللَّهَ
يَقُولُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ قَالَ فَإِنَّهُ يَقُولُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَكِنْ لَا يَدْرِي الْعَرْشَ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي السَّمَاءِ قَالَ إذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَقَدْ كَفَرَ. فَفِي هَذَا الْكَلَامِ الْمَشْهُورِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ: أَنَّهُ كَفَرَ الْوَاقِفُ الَّذِي يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ الْجَاحِدُ النَّافِي الَّذِي يَقُولُ لَيْسَ فِي السَّمَاءِ؛ أَوْ لَيْسَ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ؟ وَاحْتَجَّ عَلَى كُفْرِهِ بِقَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قَالَ: وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ. وَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ بِنَفْسِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ. ثُمَّ إنَّهُ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِتَكْفِيرِ مَنْ قَالَ إنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَكِنْ تَوَقَّفَ فِي كَوْنِ الْعَرْشِ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ قَالَ: لِأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ؛ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلُ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِتَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ؛ وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلُ وَكُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ فِطْرِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَفْطُورَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ
فِي الْعُلُوِّ وَعَلَى أَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلُ وَقَدْ جَاءَ اللَّفْظُ الْآخَرُ صَرِيحًا عَنْهُ بِذَلِكَ. فَقَالَ: إذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَقَدْ كَفَرَ. وَرَوَى هَذَا اللَّفْظَ بِإِسْنَادِ عَنْهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ الهروي فِي " كِتَابِ الْفَارُوقِ " وَرَوَى أَيْضًا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَنَّ هِشَامَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِي - صَاحِبَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - قَاضِي الرَّيِّ حَبَسَ رَجُلًا فِي التَّجَهُّمِ فَتَابَ؛ فَجِيءَ بِهِ إلَى هِشَامٍ لِيُطْلِقَهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ اللَّهِ عَلَى التَّوْبَةِ؛ فَامْتَحَنَهُ هِشَامٌ؛ فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ؟ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ؛ وَلَا أَدْرِي مَا بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. فَقَالَ: رُدُّوهُ إلَى الْحَبْسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتُبْ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِي " أَنَّهُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ بَائِنٌ مِنْ الْخَلْقِ وَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا؛ لَا يَشُكُّ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ إلَّا جهمي رَدِيءٌ ضِلِّيلٌ وَهَالِكٌ مُرْتَابٌ يَمْزُجُ اللَّهَ بِخَلْقِهِ وَيَخْلِطُ مِنْهُ الذَّاتَ بِالْأَقْذَارِ والأنتان. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ الْمَدِينِيِّ لَمَّا سُئِلَ مَا قَوْلُ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ؟ قَالَ: يُؤْمِنُونَ بِالرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى؛ فَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} فَقَالَ: اقْرَأْ مَا قَبْلَهَا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ: هُوَ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا وَصَفَ فِي كِتَابِهِ؛ وَعِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِي أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فَقَالَ: تَفْسِيرُهُ كَمَا يُقْرَأُ هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ وَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ. وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ اللالكائي " الْحَافِظُ. الطبري؛ صَاحِبُ أَبِي حَامِدٍ الإسفرائيني فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ فِي " أُصُولِ السُّنَّةِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ - مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ - عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ؛ الَّتِي جَاءَ بِهَا الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صِفَةِ الرَّبِّ عز وجل: مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ؛ وَلَا وَصْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ؛ فَمَنْ فَسَّرَ الْيَوْمَ شَيْئًا مِنْهَا فَقَدْ خَرَجَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوا وَلَمْ يُفَسِّرُوا؛ وَلَكِنْ أَفْتَوْا بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ سَكَتُوا؛ فَمَنْ قَالَ: بِقَوْلِ جَهْمٍ فَقَدْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَهُ بِصِفَةِ لَا شَيْءَ. مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَخَذَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَطَبَقَتِهِمَا مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ حَكَى هَذَا الْإِجْمَاعَ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْجَهْمِيَّة تَصِفُهُ بِالْأُمُورِ السَّلْبِيَّةِ غَالِبًا أَوْ دَائِمًا. وَقَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ: أَرَادَ بِهِ تَفْسِيرَ " الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ " الَّذِينَ ابْتَدَعُوا تَفْسِيرَ الصِّفَاتِ بِخِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِنْ الأثبات.
وَرَوَى البيهقي وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سلام قَالَ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا {ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غَيْرِهِ} {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رَبُّك فِيهَا قَدَمَهُ} {وَالْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ} وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي " الرُّؤْيَةِ " هِيَ عِنْدَنَا حَقٌّ حَمَلَهَا الثِّقَاتُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ؛ غَيْرَ أَنَّا إذَا سُئِلْنَا عَنْ تَفْسِيرِهَا لَا نُفَسِّرُهَا وَمَا أَدْرَكْنَا أَحَدًا يُفَسِّرُهَا.
أَبُو عُبَيْدٍ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: الَّذِينَ هُمْ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ؛ وَلَهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِالْفِقْهِ وَاللُّغَةِ وَالتَّأْوِيلِ: مَا هُوَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ وَقَدْ كَانَ فِي الزَّمَانِ الَّذِي ظَهَرَتْ فِيهِ الْفِتَنُ وَالْأَهْوَاءُ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَا أَدْرَكَ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ يُفَسِّرُهَا: أَيْ تَفْسِيرَ الْجَهْمِيَّة. وَرَوَى اللالكائي وَالْبَيْهَقِي بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنِّي أَكْرَهُ الصِّفَةَ - عَنَى صِفَةَ الرَّبِّ - فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: وَأَنَا أَشَدُّ النَّاسِ كَرَاهِيَةً لِذَلِكَ وَلَكِنْ إذَا نَطَقَ الْكِتَابُ بِشَيْءِ قُلْنَا بِهِ وَإِذَا جَاءَتْ الْآثَارُ بِشَيْءِ جَسَرْنَا عَلَيْهِ وَنَحْوُ هَذَا. أَرَادَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَنَّا نَكْرَهُ أَنْ نَبْتَدِئَ بِوَصْفِ اللَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا حَتَّى يَجِيءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالْآثَارُ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ:
بِمَاذَا نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ: بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا نَقُولُ كَمَا تَقُولُ الْجَهْمِيَّة إنَّهُ هَهُنَا فِي الْأَرْضِ - وَهَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ الْإِمَامِ سَمِعْت حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ وَذَكَرَ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة. فَقَالَ: إنَّمَا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة " عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ الضبعي - إمَامِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عِلْمًا وَدِينًا مِنْ شُيُوخِ الْإِمَامِ أَحْمَد - أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ الْجَهْمِيَّة فَقَالَ: أَشَرُّ قَوْلًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَدْ أَجْمَعَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَأَهْلُ الْأَدْيَانِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ وَهُمْ قَالُوا: لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة إمَامُ الْأَئِمَّةِ مَنْ لَمْ يَقُلْ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَجَبَ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقَهُ ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِرِيحِهِ أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَلَا أَهْلُ الذِّمَّةِ ذَكَرَهُ عَنْهُ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَد بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ - الواسطي إمَامِ أَهْلِ وَاسِطَ مِنْ طَبَقَةِ شُيُوخِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - قَالَ: كَلَّمْت بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ وَأَصْحَابَ بِشْرٍ؛ فَرَأَيْت آخِرَ كَلَامِهِمْ يَنْتَهِي أَنْ يَقُولُوا: لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي أَصْحَابِ
الْأَهْوَاءِ شَرٌّ مِنْ أَصْحَابِ جَهْمٍ يَدُورُونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا: لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ أَرَى وَاَللَّهِ أَنْ لَا يُنَاكَحُوا وَلَا يوارثوا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة " عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ: أَصْحَابُ جَهْمٍ يُرِيدُونَ أَنْ يَقُولُوا إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى وَيُرِيدُونَ أَنْ يَقُولُوا: لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ أَرَى أَنْ يُسْتَتَابُوا فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا. وَعَنْ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: قَدِمَتْ امْرَأَةُ جَهْمٍ فَنَزَلَتْ بِالدَّبَّاغِينَ فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهَا: اللَّهُ عَلَى عَرْشِهِ. فَقَالَتْ: مَحْدُودٌ عَلَى مَحْدُودٍ فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كَفَرَتْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ - شَيْخِ أَحْمَد وَالْبُخَارِيِّ وَطَبَقَتِهِمَا - قَالَ: نَاظَرْت جهميا؛ فَتَبَيَّنَ مِنْ كَلَامِهِ أَنْ لَا يُؤْمِنَ أَنَّ فِي السَّمَاءِ رَبًّا. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ الشيباني قَالَ: أَخْبَرَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعٍ الصَّائِغَ قَالَ: سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ لَا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: خِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حَقٌّ قَضَاهُ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَجَمَعَ عَلَيْهِ قُلُوبَ عِبَادِهِ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَتْ زَيْنَبُ تَفْتَخِرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ " زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ ". وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقِصَّةُ أَبِي يُوسُفَ - صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ - مَشْهُورَةٌ فِي اسْتِتَابَةِ بِشْرٍ المريسي حَتَّى هَرَبَ مِنْهُ لَمَّا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ قَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زمنين " الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي " أُصُولِ السُّنَّةِ " قَالَ فِيهِ: بَابُ الْإِيمَانِ بِالْعَرْشِ قَالَ: " وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ عز وجل خَلَقَ الْعَرْشَ وَاخْتَصَّهُ بِالْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ فَوْقَ جَمِيعِ مَا خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيْهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ. فَسُبْحَانَ مَنْ بَعُدَ وَقَرُبَ بِعِلْمِهِ فَسَمِعَ النَّجْوَى. وَذَكَرَ حَدِيثَ {أَبِي رَزِينٍ العقيلي؛ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ قَالَ:
فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ} قَالَ مُحَمَّدٌ: الْعَمَاءُ السَّحَابُ الْكَثِيفُ الْمُطْبِقُ - فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَلِيلُ - وَذَكَرَ آثَارًا أُخَرَ.
ثُمَّ قَالَ: بَابُ الْإِيمَانِ بِالْكُرْسِيِّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: " وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْكُرْسِيَّ بَيْنَ يَدَيْ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ. ثُمَّ ذَكَرَ {حَدِيثَ أَنَسٍ الَّذِي فِيهِ التَّجَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْآخِرَةِ وَفِيهِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ هَبَطَ مِنْ عِلِّيِّينَ عَلَى كُرْسِيِّهِ ثُمَّ يَحُفُّ الْكُرْسِيَّ عَلَى مَنَابِرَ مَنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ بِالْجَوَاهِرِ؛ ثُمَّ يَجِيءُ النَّبِيُّونَ فَيَجْلِسُونَ عَلَيْهَا} . وَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ: يَحْيَى بْنُ سَالِمٍ " صَاحِبُ التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورِ ": حَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: إنَّ الْكُرْسِيَّ الَّذِي وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ؛ وَلَا يَعْلَمُ قَدْرَ الْعَرْشِ إلَّا الَّذِي خَلَقَهُ. وَذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ أَسَدِ بْنِ مُوسَى؛ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ زِرٍّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَاَلَّتِي تَلِيهَا مَسِيرَةُ خَمْسمِائَةِ عَامٍ وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْكُرْسِيِّ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ وَالْمَاءِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ وَاَللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ فِي بَابِ الْإِيمَانِ بِالْحُجُبِ قَالَ: وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ إنَّ اللَّهَ بَائِنٌ
مِنْ خَلْقِهِ يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ بِالْحُجُبِ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا} وَذَكَرَ آثَارًا فِي الْحُجُبِ.
ثُمَّ قَالَ فِي بَابِ الْإِيمَانِ بِالنُّزُولِ قَالَ: وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَيُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحِدُّوا فِيهِ حَدًّا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي وَهْبٌ عَنْ ابْنِ وَضَّاحٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّادٍ. قَالَ: وَمَنْ أَدْرَكْت مِنْ الْمَشَايِخِ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ وفضيل بْنِ عِيَاضٍ وَعِيسَى بْنِ الْمُبَارَكِ وَوَكِيعٍ: كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ النُّزُولَ حَقٌّ قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: وَسَأَلْت يُوسُفَ بْنَ عَدِيٍّ عَنْ النُّزُولِ قَالَ: نَعَمْ أُومِنُ بِهِ وَلَا أَحُدُّ فِيهِ حَدًّا وَسَأَلْت عَنْهُ ابْنَ مَعِينٍ فَقَالَ: نَعَمْ أُقِرُّ بِهِ وَلَا أَحُدُّ فِيهِ حَدًّا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ عز وجل عَلَى الْعَرْشِ فِي السَّمَاءِ دُونَ الْأَرْضِ وَهُوَ أَيْضًا بَيِّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَفِي غَيْرِ حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ تَعَالَى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} وَقَالَ تَعَالَى: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَقَالَ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ} وَقَالَ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} . وَذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ: {قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْجَارِيَةِ: أَيْنَ اللَّهُ؟
قَالَتْ فِي السَّمَاءِ. قَالَ مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: فَأَعْتِقْهَا} . قَالَ وَالْأَحَادِيثُ مِثْلُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا فَسُبْحَانَ مَنْ عِلْمُهُ بِمَا فِي السَّمَاءِ كَعِلْمِهِ بِمَا فِي الْأَرْضِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي " الْإِيمَانِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ " قَالَ: وَاعْلَمْ بِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ يَرَوْنَ الْجَهْلَ بِمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ عِلْمًا وَالْعَجْزَ عَنْ مَا لَمْ يَدْعُ إلَيْهِ إيمَانًا وَأَنَّهُمْ إنَّمَا يَنْتَهُونَ مِنْ وَصْفِهِ بِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ إلَى حَيْثُ انْتَهَى فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَان نَبِيِّهِ. وَقَدْ قَالَ - وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ - {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} وَقَالَ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وَقَالَ: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وَقَالَ: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وَقَالَ: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وَقَالَ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وَقَالَ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وَقَالَ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وَقَالَ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةَ وَقَالَ: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ
فَهُوَ تبارك وتعالى نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَهُ وَجْهٌ وَنَفْسٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَيَسْمَعُ وَيَرَى وَيَتَكَلَّمُ هُوَ الْأَوَّلُ لَا شَيْءَ قَبْلَهُ وَالْآخِرُ الْبَاقِي إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ وَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ وَالظَّاهِرُ الْعَالِي فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْبَاطِنُ بَطَنَ عِلْمُهُ بِخَلْقِهِ فَقَالَ: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قَيُّومُ حَيٌّ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ. وَذَكَرَ: " أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ " ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ صِفَاتُ رَبِّنَا الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَوَصَفَهُ بِهَا نَبِيُّهُ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا تَحْدِيدٌ وَلَا تَشْبِيهٌ وَلَا تَقْدِيرٌ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} لَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ فَتَحُدُّهُ كَيْفَ هُوَ؟ وَلَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ فِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ اهـ.
وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَطْوَلُ وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَسَعَ هَذِهِ الْفُتْيَا عُشْرَهُ. وَكَذَلِكَ كَلَامُ النَّاقِلِينَ لِمَذْهَبِهِمْ. مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الخطابي فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي " الغنية عَنْ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ " قَالَ: " فَأَمَّا مَا سَأَلْت عَنْهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَمَا جَاءَ مِنْهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ إثْبَاتُهَا وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَنَفْيُ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا وَقَدْ نَفَاهَا قَوْمٌ فَأَبْطَلُوا مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَحَقَّقَهَا قَوْمٌ مِنْ الْمُثْبِتِينَ فَخَرَجُوا فِي ذَلِكَ إلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّكْيِيفِ وَإِنَّمَا الْقَصْدُ فِي سُلُوكِ الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَدِينُ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي وَالْمُقَصِّرِ عَنْهُ.
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا: أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ وَيُحْتَذَى فِي ذَلِكَ حَذْوُهُ وَمِثَالُهُ. فَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ إثْبَاتَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ إنَّمَا هُوَ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّةٍ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ صِفَاتِهِ إنَّمَا هُوَ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ تَحْدِيدٍ وَتَكْيِيفٍ. فَإِذَا قُلْنَا يَدٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَمَا أَشْبَهَهَا فَإِنَّمَا هِيَ صِفَاتٌ أَثْبَتَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ؛ وَلَسْنَا نَقُولُ: إنَّ مَعْنَى الْيَدِ الْقُوَّةُ أَوْ النِّعْمَةُ وَلَا مَعْنَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ الْعِلْمُ؛ وَلَا نَقُولُ إنَّهَا جَوَارِحُ وَلَا نُشَبِّهُهَا بِالْأَيْدِي وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ الَّتِي هِيَ جَوَارِحُ وَأَدَوَاتٌ لِلْفِعْلِ وَنَقُولُ: إنَّ الْقَوْلَ إنَّمَا وَجَبَ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيفَ وَرَدَ بِهَا؛ وَوَجَبَ نَفْيُ التَّشْبِيهِ عَنْهَا لِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ؛ وَعَلَى هَذَا جَرَى قَوْلُ السَّلَفِ فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ " هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الخطابي.
وَهَكَذَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ فِي رِسَالَةٍ لَهُ أَخْبَرَ فِيهَا أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ الخطابي قَدْ نَقَلَ نَحْوًا مِنْهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَالْإِمَامِ يَحْيَى بْنِ عَمَّارٍ السجزي وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي إسْمَاعِيلَ الهروي صَاحِبِ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " وَ " ذَمِّ الْكَلَامِ " وَهُوَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي عُثْمَانَ الصَّابُونِيِّ وَأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النمري إمَامِ الْمَغْرِبِ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني صَاحِبُ " الْحِلْيَةِ " فِي عَقِيدَةٍ لَهُ قَالَ فِي أَوَّلِهَا: " طَرِيقَتُنَا طَرِيقَةُ الْمُتَّبِعِينَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ؛ قَالَ فَمِمَّا اعْتَقَدُوهُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ثَبَتَتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَرْشِ وَاسْتِوَاءِ اللَّهِ يَقُولُونَ بِهَا؛ وَيُثْبِتُونَهَا مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَأَنَّ اللَّهَ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَالْخَلْقُ بَائِنُونَ مِنْهُ: لَا يَحِلُّ فِيهِمْ وَلَا يَمْتَزِجُ بِهِمْ وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ فِي سَمَائِهِ دُونَ أَرْضِهِ وَخَلْقِهِ ". وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِهِ " مَحَجَّةُ الْوَاثِقِينَ وَمَدْرَجَةُ الْوَامِقِينَ " تَأْلِيفُهُ: " وَأَجْمَعُوا أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ مُسْتَوٍ عَلَيْهِ لَا مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ الْجَهْمِيَّة إنَّهُ بِكُلِّ مَكَانٍ؛ خِلَافًا لِمَا نَزَلَ فِي كِتَابِهِ: "{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} لَهُ الْعَرْشُ الْمُسْتَوِي عَلَيْهِ وَالْكُرْسِيُّ الَّذِي وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} . وَكُرْسِيُّهُ جِسْمٌ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَالسَّمَوَاتُ السَّبْعُ عِنْدَ الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةِ فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ؛ وَلَيْسَ كُرْسِيُّهُ عِلْمُهُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة؛ بَلْ يُوضَعُ كُرْسِيُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ؛ كَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ - تَعَالَى وَتَقَدَّسَ - يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا صَفًّا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَزَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ
مُذْنِبِي الْمُوَحِّدِينَ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} . وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَارِفُ مَعْمَرُ بْنُ أَحْمَد الأصبهاني - شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ فِي بِلَادِهِ - قَالَ: أَحْبَبْت أَنْ أُوصِيَ أَصْحَابِي بِوَصِيَّةٍ مِنْ السُّنَّةِ وَمَوْعِظَةٍ مِنْ الْحِكْمَةِ؛ وَأَجْمَعُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ بِلَا كَيْفٍ وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصَوُّفِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين قَالَ فِيهَا: " وَإِنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَأْوِيلٍ وَالِاسْتِوَاءُ مَعْقُولٌ وَالْكَيْفُ فِيهِ مَجْهُولٌ. وَأَنَّهُ عز وجل مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَالْخَلْقُ مِنْهُ بَائِنُونَ؛ بِلَا حُلُولٍ وَلَا مُمَازَجَةٍ وَلَا اخْتِلَاطٍ وَلَا مُلَاصَقَةٍ؛ لِأَنَّهُ الْفَرْدُ الْبَائِنُ مِنْ الْخَلْقِ الْوَاحِدُ الْغَنِيُّ عَنْ الْخَلْقِ. وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَلِيمٌ خَبِيرٌ يَتَكَلَّمُ وَيَرْضَى وَيَسْخَطُ وَيَضْحَكُ وَيَعْجَبُ وَيَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَاحِكًا وَيَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ شَاءَ: {فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ} وَنُزُولُ الرَّبِّ إلَى السَّمَاءِ بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَأْوِيلٍ. فَمَنْ أَنْكَرَ النُّزُولَ أَوْ تَأَوَّلَ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ وَسَائِرُ الصَّفْوَةِ مِنْ الْعَارِفِينَ عَلَى هَذَا " اهـ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " ثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ يَعْنِي الْعَبَّادِيَّ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ
بْن يَحْيَى قَالَ: سَمِعْت إبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْعَثِ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ صَاحِبُ الْفُضَيْل - قَالَ: سَمِعْت الْفُضَيْل بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ: لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَوَهَّمَ فِي اللَّهِ كَيْفَ هُوَ؟ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ فَأَبْلَغَ فَقَالَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} فَلَا صِفَةَ أَبْلَغُ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. وَكُلُّ هَذَا النُّزُولِ وَالضَّحِكِ وَهَذِهِ الْمُبَاهَاةِ وَهَذَا الِاطِّلَاعِ؛ كَمَا يَشَاءُ أَنْ يَنْزِلَ وَكَمَا يَشَاءُ أَنْ يُبَاهِيَ وَكَمَا يَشَاءُ أَنْ يَضْحَكُ وَكَمَا يَشَاءُ أَنْ يَطَّلِعَ. فَلَيْسَ (لَنَا أَنْ نَتَوَهَّمَ كَيْفَ وَكَيْفَ؟ . فَإِذَا قَالَ الجهمي: أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَزُولُ عَنْ مَكَانِهِ. فَقُلْ: بَلْ أُومِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَنَقَلَ هَذَا عَنْ الْفُضَيْل جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْبُخَارِيُّ فِي " أَفْعَالِ الْعِبَادِ ". وَنَقَلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بِإِسْنَادِهِ فِي كِتَابِهِ " الْفَارُوقِ " فَقَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ ثَنَا أَبِي ثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ ثَنَا حرمي بْنُ عَلِيٍّ الْبُخَارِيُّ وَهَانِئُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ الْفُضَيْل. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْمَكِّيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " التَّعَرُّفُ بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ والمتعبدين " قَالَ: (بَابُ مَا يَجِيءُ بِهِ الشَّيْطَانُ لِلتَّائِبِينَ وَذَكَرَ أَنَّهُ يُوقِعُهُمْ فِي الْقُنُوطِ ثُمَّ فِي الْغُرُورِ وَطُولِ الْأَمَلِ ثُمَّ فِي التَّوْحِيدِ. فَقَالَ: " مِنْ أَعْظَمِ مَا يُوَسْوِسُ فِي " التَّوْحِيدِ " بِالتَّشَكُّلِ أَوْ فِي صِفَاتِ الرَّبِّ بِالتَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ أَوْ بِالْجَحْدِ لَهَا وَالتَّعْطِيلِ. فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ الْوَسْوَسَةِ:
وَاعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ أَنَّ كُلَّ مَا تَوَهَّمَهُ قَلْبُك أَوْ سَنَحَ فِي مَجَارِي فِكْرِك أَوْ خَطَرَ فِي مُعَارَضَاتِ قَلْبِك مِنْ حُسْنٍ أَوْ بَهَاءٍ أَوْ ضِيَاءٍ أَوْ إشْرَاقٍ أَوْ جَمَالٍ أَوْ سَنْحِ مَسَائِلَ أَوْ شَخْصٍ مُتَمَثَّلٍ: فَاَللَّهُ تَعَالَى بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ تَعَالَى أَعْظَمُ وَأَجَلُّ وَأَكْبَرُ أَلَا تَسْمَعُ لِقَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} أَيْ لَا شَبِيهَ وَلَا نَظِيرَ وَلَا مُسَاوِيَ وَلَا مِثْلَ أَوَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا تَجَلَّى لِلْجَبَلِ تَدَكْدَكَ لِعَظْمِ هَيْبَتِهِ؟ وَشَامِخِ سُلْطَانِهِ؟ فَكَمَا لَا يَتَجَلَّى لِشَيْءِ إلَّا انْدَكَّ: كَذَلِكَ لَا يَتَوَهَّمُهُ أَحَدٌ إلَّا هَلَكَ. فَرَدَّ بِمَا بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ نَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ التَّشْبِيهَ وَالْمِثْلَ وَالنَّظِيرَ وَالْكُفُؤَ. فَإِنْ اعْتَصَمْت بِهَا وَامْتَنَعْت مِنْهُ أَتَاك مِنْ قِبَلِ التَّعْطِيلِ لِصِفَاتِ الرَّبِّ - تَعَالَى وَتَقَدَّسَ - فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَك: إذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِكَذَا أَوْ وَصَفْته أَوْجَبَ لَهُ التَّشْبِيهَ فَأُكَذِّبُهُ؛ لِأَنَّهُ اللَّعِينُ إنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَزِلَّك وَيُغْوِيَك وَيُدْخِلَك فِي صِفَاتِ الْمُلْحِدِينَ الزَّائِغِينَ الْجَاحِدِينَ لِصِفَةِ الرَّبِّ تَعَالَى. وَاعْلَمْ - رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا كَالْآحَادِ فَرْدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ - إلَى أَنْ قَالَ - خَلَصَتْ لَهُ الْأَسْمَاءُ السَّنِيَّةُ فَكَانَتْ وَاقِعَةً فِي قَدِيمِ الْأَزَلِ بِصِدْقِ الْحَقَائِقِ لَمْ يَسْتَحْدِثْ تَعَالَى صِفَةً كَانَ مِنْهَا خَلِيًّا وَاسْمًا كَانَ مِنْهُ بَرِّيًّا تبارك وتعالى؛ فَكَانَ هَادِيًا سَيَهْدِي وَخَالِقًا سَيَخْلُقُ وَرَازِقًا سَيَرْزُقُ وَغَافِرًا سَيَغْفِرُ وَفَاعِلًا سَيَفْعَلُ وَلَمْ يَحْدُثُ لَهُ
الِاسْتِوَاءُ إلَّا وَقَدْ كَانَ فِي صِفَةٍ أَنَّهُ سَيَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ فَهُوَ يُسَمَّى بِهِ فِي جُمْلَةِ فِعْلِهِ. كَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} بِمَعْنَى أَنَّهُ سَيَجِيءُ؛ فَلَمْ يَسْتَحْدِثْ الِاسْمَ بِالْمَجِيءِ وَتَخَلَّفَ الْفِعْلُ لِوَقْتِ الْمَجِيءِ فَهُوَ جَاءَ سَيَجِيءُ وَيَكُونُ الْمَجِيءُ مِنْهُ مَوْجُودًا بِصِفَةِ لَا تَلْحَقُهُ الْكَيْفِيَّةُ وَلَا التَّشْبِيهُ لِأَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الرُّبُوبِيَّةِ فَيَسْتَحْسِرُ الْعَقْلُ وَتَنْقَطِعُ النَّفْسُ عِنْدَ إرَادَةِ الدُّخُولِ فِي تَحْصِيلِ كَيْفِيَّةِ الْمَعْبُودِ فَلَا تَذْهَبُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ؛ لَا مُعَطِّلًا وَلَا مُشَبِّهًا وَارْضَ لِلَّهِ بِمَا رَضِيَ بِهِ لِنَفْسِهِ وَقِفْ عِنْدَ خَبَرِهِ لِنَفْسِهِ مُسَلِّمًا مُسْتَسْلِمًا مُصَدِّقًا؛ بِلَا مُبَاحَثَةِ التَّنْفِيرِ وَلَا مُنَاسِبَةِ التَّنْقِيرِ. إلَى أَنْ قَالَ: " فَهُوَ تبارك وتعالى الْقَائِلُ: أَنَا اللَّهُ لَا الشَّجَرَةُ الْجَائِي قَبْلَ أَنْ يَكُونَ جَائِيًا؛ لَا أَمْرُهُ الْمُتَجَلِّي لِأَوْلِيَائِهِ فِي الْمَعَادِ؛ فَتَبْيَضُّ بِهِ وُجُوهُهُمْ وَتُفَلِّجُ بِهِ عَلَى الْجَاحِدِينَ حُجَّتَهُمْ الْمُسْتَوِي عَلَى عَرْشِهِ بِعَظَمَةِ جَلَالِهِ فَوْقَ كُلِّ مَكَانٍ تبارك وتعالى الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا. وَأَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ فَسَمِعَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ؟ لِأَنَّهُ قَرَّبَهُ نَجِيًّا. تَقَدَّسَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ مَخْلُوقًا أَوْ مُحْدَثًا أَوْ مَرْبُوبًا الْوَارِثُ بِخَلْقِهِ لِخَلْقِهِ السَّمِيعُ لِأَصْوَاتِهِمْ النَّاظِرُ بِعَيْنِهِ إلَى أَجْسَامِهِمْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ وَهُمَا غَيْرُ نِعْمَتِهِ خَلَقَ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ - وَهُوَ أَمْرُهُ - تَعَالَى وَتَقَدَّسَ أَنْ يَحِلَّ بِجِسْمِ أَوْ يُمَازِجَ بِجِسْمِ أَوْ يُلَاصِقَ بِهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا الشَّائِي لَهُ الْمَشِيئَةُ الْعَالِمُ لَهُ الْعِلْمُ الْبَاسِطُ يَدَيْهِ بِالرَّحْمَةِ النَّازِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لِيَتَقَرَّبَ
إلَيْهِ خَلْقُهُ بِالْعِبَادَةِ وَلِيَرْغَبُوا إلَيْهِ بِالْوَسِيلَةِ الْقَرِيبُ فِي قُرْبِهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ الْبَعِيدُ فِي عُلُوِّهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ بَعِيدٍ وَلَا يُشَبَّهُ بِالنَّاسِ. إلَى أَنْ قَالَ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . الْقَائِلُ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} تَعَالَى وَتَقَدَّسَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ كَمَا هُوَ فِي السَّمَاءِ جَلَّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا " اهـ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَسَدٍ المحاسبي فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى " فَهْمَ الْقُرْآنِ " قَالَ فِي كَلَامِهِ عَلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَأَنَّ النَّسْخَ لَا يَجُوزُ فِي الْأَخْبَارِ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ مَدْحَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَلَا أَسْمَاءَهُ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ مِنْهَا شَيْءٌ. إلَى أَنْ قَالَ: وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إذَا أَخْبَرَ أَنَّ صِفَاتِهِ حَسَنَةٌ عُلْيَا أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ أَنَّهَا دَنِيَّةٌ سُفْلَى فَيَصِفُ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِبَعْضِ الْغَيْبِ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْغَيْبِ وَأَنَّهُ لَا يُبْصِرُ مَا قَدْ كَانَ وَلَا يَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا كَلَامَ كَانَ مِنْهُ وَأَنَّهُ تَحْتَ الْأَرْضِ لَا عَلَى الْعَرْشِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ ذَلِكَ. فَإِذَا عَرَفْت ذَلِكَ وَاسْتَيْقَنْته: عَلِمْت مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّسْخُ وَمَا لَا يَجُوزُ فَإِنْ تَلَوْت آيَةً فِي ظَاهِرِ تِلَاوَتِهَا تَحْسَبُ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِبَعْضِ أَخْبَارِهِ كَقَوْلِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ: {حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ} الْآيَاتِ وَقَالَ: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ}
وَقَالَ: قَدْ تَأَوَّلَ قَوْمٌ: أَنَّ اللَّهَ عَنَى أَنْ يُنْجِيَهُ بِبَدَنِهِ مِنْ النَّارِ لِأَنَّهُ آمَنَ عِنْدَ الْغَرَقِ وَقَالَ: إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ يَدْخُلُونَ النَّارَ دُونَهُ وَقَالَ: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} وَقَالَ: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} وَلَمْ يَقُلْ بِفِرْعَوْنَ. قَالَ: وَهَكَذَا الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} فَأَقَرَّ التِّلَاوَةَ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْعِلْمِ مِنْ اللَّهِ عز وجل عَنْ أَنْ يَسْتَأْنِفَ عِلْمًا بِشَيْءِ لِأَنَّهُ مَنْ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَصْنَعَهُ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَهُ - نَجِدُهُ ضَرُورَةً - قَالَ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} قَالَ: وَإِنَّمَا قَوْلُهُ {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ} إنَّمَا يُرِيدُ حَتَّى نَرَاهُ فَيَكُونُ مَعْلُومًا مَوْجُودًا؛ لِأَنَّهُ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ يَعْلَمُ الشَّيْءَ مَعْدُومًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكُونَ؛ وَيَعْلَمُهُ مَوْجُودًا كَانَ قَدْ كَانَ؛ فَيَعْلَمُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مَعْدُومًا مَوْجُودًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَهَذَا مُحَالٌ. وَذَكَرَ كَلَامًا فِي هَذَا فِي الْإِرَادَةِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ سَمْعًا وَلَا تَكَلُّفَ بِسَمْعِ مَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ " أَهْلِ السُّنَّةِ " أَنَّ اللَّهَ اسْتِمَاعًا فِي ذَاتِهِ فَذَهَبُوا إلَى أَنَّ مَا يَعْقِلُ مِنْ أَنَّهُ يَحْدُثُ مِنْهُمْ عِلْمُ سَمْعٍ لِمَا كَانَ مِنْ قَوْلٍ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ إذَا سَمِعَ حَدَثَ لَهُ عَقْلٌ فَهِمَ عَمَّا أَدْرَكَتْهُ أُذُنُهُ مِنْ الصَّوْتِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} لَا يَتَحَدَّثُ بَصَرًا مُحْدَثًا فِي ذَاتِهِ وَإِنَّمَا يَحْدُثُ الشَّيْءُ فَيَرَاهُ مُكَوَّنًا كَمَا لَمْ يَزَلْ يَعْلَمُهُ قَبْلَ كَوْنِهِ.
إلَى أَنْ قَالَ: " وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وَقَوْلُهُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَوْلُهُ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وَقَوْلُهُ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . وَقَالَ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ} وَقَالَ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} وَقَالَ لِعِيسَى: {إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ وَقَالَ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} . وَذَكَرَ الْآلِهَةَ: أَنْ لَوْ كَانَ آلِهَةٌ لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا حَيْثُ هُوَ فَقَالَ: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} أَيْ طَلَبَهُ وَقَالَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَلَنْ يَنْسَخَ ذَلِكَ لِهَذَا أَبَدًا. كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} وَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} وَقَوْلُهُ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} الْآيَةَ فَلَيْسَ هَذَا بِنَاسِخِ لِهَذَا وَلَا هَذَا ضِدٌّ لِذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ لَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْكَوْنَ بِذَاتِهِ فَيَكُونُ فِي أَسْفَلِ الْأَشْيَاءِ أَوْ يَنْتَقِلُ فِيهَا لِانْتِقَالِهَا وَيَتَبَعَّضُ فِيهَا عَلَى أَقْدَارِهَا وَيَزُولُ عَنْهَا عِنْدَ فَنَائِهَا جَلَّ وَعَزَّ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ نَزَعَ بِذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الضَّلَالِ؛ فَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ بِنَفْسِهِ كَائِنًا كَمَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ؛ لَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ ثُمَّ أَحَالُوا فِي النَّفْيِ بَعْدَ تَثْبِيتِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ مَا نَفَوْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يُثْبِتُ شَيْئًا فِي الْمَعْنَى ثُمَّ نَفَاهُ بِالْقَوْلِ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ نَفْيُهُ بِلِسَانِهِ وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ شَيْءٍ بِنَفْسِهِ كَائِنًا ثُمَّ نَفَوْا مَعْنَى مَا أَثْبَتُوهُ فَقَالُوا: لَا كَالشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ. قَالَ: " أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَنَا قَوْلُهُ: {حَتَّى نَعْلَمَ} {فَسَيَرَى اللَّهُ} {إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ حَتَّى يَكُونَ الْمَوْجُودُ فَيَعْلَمُهُ مَوْجُودًا وَيَسْمَعُهُ مَسْمُوعًا وَيُبْصِرُهُ مُبْصِرًا لَا عَلَى اسْتِحْدَاثِ عِلْمٍ وَلَا سَمْعٍ وَلَا بَصَرٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِذَا أَرَدْنَا} إذَا جَاءَ وَقْتُ كَوْنِ الْمُرَادِ فِيهِ. وَإِنَّ قَوْلَهُ: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} الْآيَةَ. {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} {إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} فَهَذَا وَغَيْرُهُ مِثْلُ قَوْلِهِ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} هَذَا مُنْقَطِعٌ يُوجِبُ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا مُنَزَّهٌ عَنْ الدُّخُولِ فِي خَلْقِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَبَانَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ بِنَفْسِهِ فَوْقَ عِبَادِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} يَعْنِي فَوْقَ الْعَرْشِ وَالْعَرْشُ عَلَى السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدْ كَانَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى السَّمَاءِ فِي السَّمَاءِ وَقَدْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} يَعْنِي عَلَى الْأَرْضِ؛ لَا يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي جَوْفِهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} يَعْنِي عَلَى الْأَرْضِ؛ لَا يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي جَوْفِهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} يَعْنِي فَوْقَهَا عَلَيْهَا.
وَقَالَ {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} ثُمَّ فَصَّلَ فَقَالَ: {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} وَلَمْ يَصِلْ فَلَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ مَعْنًى - إذَا فَصَّلَ قَوْلَهُ: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} ثُمَّ اسْتَأْنَفَ التَّخْوِيفَ بِالْخَسْفِ - إلَّا أَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ السَّمَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ} وَقَالَ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} . فَبَيَّنَ عُرُوجَ الْأَمْرِ وَعُرُوجَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ وَصَفَ وَقْتَ صُعُودِهَا بِالِارْتِفَاعِ صَاعِدَةً إلَيْهِ فَقَالَ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فَقَالَ: صُعُودُهَا إلَيْهِ وَفَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِ إلَيْهِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَصْعَدُ إلَى فُلَانٍ فِي لَيْلَةٍ أَوْ يَوْمٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي الْعُلُوِّ وَإِنَّ صُعُودَك إلَيْهِ فِي يَوْمٍ فَإِذَا صَعِدُوا إلَى الْعَرْشِ فَقَدْ صَعِدُوا إلَى اللَّهِ عز وجل وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَرَوْهُ وَلَمْ يُسَاوُوهُ فِي الِارْتِفَاعِ فِي عُلُوِّهِ فَإِنَّهُمْ صَعِدُوا مِنْ الْأَرْضِ وَعَرَجُوا بِالْأَمْرِ إلَى الْعُلُوِّ قَالَ تَعَالَى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} وَلَمْ يَقُلْ عِنْدَهُ. وَقَالَ فِرْعَوْنُ: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى} ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْكَلَامَ فَقَالَ: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} فِيمَا قَالَ لِي إنَّ إلَهَهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ سبحانه وتعالى أَنَّ فِرْعَوْنَ ظَنَّ بِمُوسَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا قَالَ: وَعَمَدَ لِطَلَبِهِ حَيْثُ قَالَهُ مَعَ الظَّنِّ بِمُوسَى أَنَّهُ كَاذِبٌ وَلَوْ أَنَّ مُوسَى قَالَ: إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ لَطَلَبَهُ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي بَدَنِهِ أَوْ حَشِّهِ. فَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُجْهِدْ نَفْسَهُ بِبُنْيَانِ الصَّرْحِ
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَأَمَّا الْآيُ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا قَدْ وَصَلَهَا - وَلَمْ يَقْطَعْهَا كَمَا قَطَعَ الْكَلَامَ الَّذِي أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ - فَقَالَ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فَأَخْبَرَ بِالْعِلْمِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَعَ كُلِّ مُنَاجٍ ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِالْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ وَخَتَمَ بِالْعِلْمِ: فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يَعْلَمُهُمْ حَيْثُ كَانُوا؛ لَا يَخْفُونَ عَلَيْهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مُنَاجَاتُهُمْ. وَلَوْ اجْتَمَعَ الْقَوْمُ فِي أَسْفَلُ وَنَاظَرَ إلَيْهِمْ فِي الْعُلُوِّ. فَقَالَ: إنِّي لَمْ أَزَلْ أَرَاكُمْ وَأَعْلَمُ مُنَاجَاتَكُمْ لَكَانَ صَادِقًا - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى أَنْ يُشْبِهَ الْخَلْقَ - فَإِنْ أَبَوْا إلَّا ظَاهِرَ التِّلَاوَةِ وَقَالُوا: هَذَا مِنْكُمْ دَعْوَى خَرَجُوا عَنْ قَوْلِهِمْ فِي ظَاهِرِ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ مَعَ الِاثْنَيْنِ فَأَكْثَرُ؛ هُوَ مَعَهُمْ لَا فِيهِمْ وَمَنْ كَانَ مَعَ شَيْءٍ خَلَا جِسْمِهِ وَهَذَا خُرُوجٌ مِنْ قَوْلِهِمْ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} لِأَنَّ مَا قَرُبَ مِنْ الشَّيْءِ لَيْسَ هُوَ فِي الشَّيْءِ فَفِي ظَاهِرِ التِّلَاوَةِ عَلَى دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حَبْلِ الْوَرِيدِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} لَمْ يَقُلْ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ قَطَعَ - كَمَا قَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ثُمَّ قَطَعَ فَقَالَ: {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} - فَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ} يَعْنِي إلَهَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَإِلَهَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي " اللُّغَةِ " تَقُولُ: فُلَانٌ أَمِيرٌ فِي خُرَاسَانَ وَأَمِيرٌ فِي بلخ وَأَمِيرٌ فِي سَمَرْقَنْدَ؛ وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَيَخْفَى عَلَيْهِ مَا وَرَاؤُهُ فَكَيْفَ الْعَالِي فَوْقَ الْأَشْيَاءِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ يُدَبِّرُهُ فَهُوَ إلَهٌ فِيهِمَا
إذْ كَانَ مُدَبِّرًا لَهُمَا وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ تَعَالَى عَنْ الْأَشْبَاهِ وَالْأَمْثَالِ " اهـ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " اعْتِقَادُ التَّوْحِيدِ بِإِثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " قَالَ فِي آخِرِ خُطْبَتِهِ: فَاتَّفَقَتْ أَقْوَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ عز وجل وَمَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَقَضَائِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَشَرْعًا ظَاهِرًا وَهُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ حَتَّى قَالَ {عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَحَدِيثَ {لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا} قَالَ: فَكَانَتْ كَلِمَةُ الصَّحَابَةِ عَلَى الِاتِّفَاقِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ - وَهُمْ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِالْأَخْذِ عَنْهُمْ إذْ لَمْ يَخْتَلِفُوا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَحْكَامِ التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الدِّينِ مِنْ " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْفُرُوعِ وَلَوْ كَانَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ لَنُقِلَ إلَيْنَا؛ كَمَا نُقِلَ سَائِرُ الِاخْتِلَافِ - فَاسْتَقَرَّ صِحَّةُ ذَلِكَ عِنْدَ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ؛ حَتَّى أَدَّوْا ذَلِكَ إلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ فَاسْتَقَرَّ صِحَّةُ ذَلِكَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ؛ حَتَّى نَقَلُوا ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ كَانَ عِنْدَهُمْ فِي الْأَصْلِ كُفْرٌ وَلِلَّهِ الْمِنَّةُ. ثُمَّ إنِّي قَائِلٌ - وَبِاَللَّهِ أَقُولُ - إنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامِ التَّوْحِيدِ وَذِكْرِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَلَى خِلَافِ مَنْهَجِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَخَاضُوا فِي ذَلِكَ مَنْ لَمْ يُعْرَفُوا بِعِلْمِ الْآثَارِ وَلَمْ يَعْقِلُوا قَوْلَهُمْ بِذِكْرِ الْأَخْبَارِ وَصَارَ مِعْوَلُهُمْ عَلَى أَحْكَامِ هَوَى حُسْنِ النَّفْسِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالتَّعَلُّقِ مِنْهُمْ بِآيَاتِ لَمْ يُسْعِدْهُمْ فِيهَا مَا وَافَقَ النُّفُوسَ فَتَأَوَّلُوا عَلَى مَا وَافَقَ هَوَاهُمْ
وَصَحَّحُوا بِذَلِكَ مَذْهَبَهُمْ: احْتَجْت إلَى الْكَشْفِ عَنْ صِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَمَأْخَذِ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْهَاجِ الْأَوَّلِينَ؛ خَوْفًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي جُمْلَةِ أَقَاوِيلِهِمْ الَّتِي حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ وَمَنَعَ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُ حَتَّى حَذَّرَهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ خُرُوجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقَدَرِ وَغَضَبَهُ وَحَدِيثَ {لَا ألفين أَحَدَكُمْ} وَحَدِيثَ {سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً} فَإِنَّ النَّاجِيَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ؛ ثُمَّ قَالَ: فَلَزِمَ الْأُمَّةَ قَاطِبَةً مَعْرِفَةُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَكُنْ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَةِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ الْمَعْرُوفِينَ بِنَقْلِ الْأَخْبَارِ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ الْمَذَاهِبَ الْمُحْدَثَةَ. فَيَتَّصِلُ ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ مِمَّنْ عُرِفُوا بِالْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَةِ الْحَافِظِينَ عَلَى الْأُمَّةِ مَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ إثْبَاتِ السُّنَّةِ. إلَى أَنْ قَالَ: فَأَوَّلُ مَا نَبْتَدِئُ بِهِ مَا أَوْرَدْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ أَجْلِهَا ذَكَرَ " أَسْمَاءَ اللَّهِ عز وجل " فِي كِتَابِهِ وَمَا بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم مِنْ " صِفَاتِهِ " فِي سُنَّتِهِ وَمَا وَصَفَ بِهِ عز وجل مِمَّا سَنَذْكُرُ قَوْلَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ لَنَا فِي ذَلِكَ أَنْ نَرُدَّهُ إلَى أَحْكَامِ عُقُولِنَا بِطَلَبِ الْكَيْفِيَّةِ بِذَلِكَ وَمِمَّا قَدْ أُمِرْنَا بِالِاسْتِسْلَامِ لَهُ - إلَى أَنْ قَالَ: - ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَرَّفَ إلَيْنَا بَعْدَ إثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ بِالْأُلُوهِيَّةِ: أَنْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بَعْدَ التَّحْقِيقِ بِمَا بَدَأَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَكَّدَ عليه السلام بِقَوْلِهِ
فَقَبِلُوا مِنْهُ كَقَبُولِهِمْ لِأَوَائِلِ التَّوْحِيدِ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. إلَى أَنْ قَالَ بِإِثْبَاتِ نَفْسِهِ بِالتَّفْصِيلِ مِنْ الْمُجْمَلِ. فَقَالَ: لِمُوسَى عليه السلام {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} وَقَالَ: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} . وَلِصِحَّةِ ذَلِكَ وَاسْتِقْرَارِ مَا جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ عليه السلام فَقَالَ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} وَقَالَ عز وجل: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} . وَأَكَّدَ عليه السلام صِحَّةَ إثْبَاتِ ذَلِكَ فِي سُنَّتِهِ فَقَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي} وَقَالَ: {كَتَبَ كِتَابًا بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ: إنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي} وَقَالَ: {سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ} وَقَالَ فِي مُحَاجَّةِ آدَمَ لِمُوسَى: {أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ وَاصْطَنَعَك لِنَفْسِهِ} فَقَدْ صَرَّحَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: أَنَّهُ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ نَفْسًا وَأَثْبَتَ لَهُ الرَّسُولُ ذَلِكَ فَعَلَى مَنْ صَدَّقَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ اعْتِقَادُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . ثُمَّ قَالَ: " فَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ قَبُولُ كُلِّ مَا وَرَدَ عَنْهُ عليه السلام بِنَقْلِ الْعَدْلِ عَنْ الْعَدْلِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ مِمَّا قَضَى اللَّهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَرَدَتْ السُّنَّةُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ أَنْ قَالَ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ثُمَّ قَالَ عَقِيبَ ذَلِكَ: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} وَبِذَلِكَ دَعَاهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى: {حِجَابُهُ النُّورِ - أَوْ النَّارِ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبَحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ} وَقَالَ: سَبَحَاتُ وَجْهِهِ جَلَالُهُ وَنُورُهُ نَقَلَهُ عَنْ الْخَلِيلِ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَقَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: نُورُ السَّمَوَاتِ نُورُ وَجْهِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَمِمَّا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ أَنَّهُ حَيٌّ وَذَكَرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . وَالْحَدِيثَ: {يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيثُ} . قَالَ: وَمِمَّا تَعَرَّفَ اللَّهُ إلَى عِبَادِهِ أَنْ وَصَفَ نَفْسَهُ أَنَّ لَهُ وَجْهًا مَوْصُوفًا بِالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ وَجْهًا - وَذَكَرَ الْآيَاتِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الْمُتَقَدِّمَ فَقَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَوْصَافِ اللَّهِ عز وجل لَا يَنَامُ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} وَأَنَّ لَهُ " وَجْهًا " مَوْصُوفًا بِالْأَنْوَارِ وَأَنَّ لَهُ " بَصَرًا " كَمَا عَلَّمَنَا فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. ثُمَّ ذَكَرَ الْأَحَادِيثَ فِي إثْبَاتِ الْوَجْهِ وَفِي إثْبَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَرَّفَ إلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ قَالَ: لَهُ يَدَانِ قَدْ بَسَطَهُمَا بِالرَّحْمَةِ وَذَكَرَ الْأَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ شِعْرَ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ: {يُلْقَى فِي النَّارِ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رِجْلَهُ} وَهِيَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يَضَعُ عَلَيْهَا قَدَمَهُ. ثُمَّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ الْبَطِينُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْكُرْسِيَّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ وَأَنَّ الْعَرْشَ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إلَّا اللَّهُ وَذَكَرَ قَوْلَ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ نَفْسِهِ وَقَوْلَ السدي وَقَوْلَ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَأَبِي مَالِكٍ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ وَاضِعَ رِجْلَيْهِ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: " فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ قَدْ رُوِيَتْ عَنْ هَؤُلَاءِ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُوَافَقَةً لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُتَدَاوَلَةً فِي الْأَقْوَالِ وَمَحْفُوظَةً فِي الصَّدْرِ وَلَا يُنْكِرُ خَلَفٌ عَنْ السَّلَفِ وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ نُظَرَائِهِمْ نَقَلَتْهَا الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ مُدَوَّنَةٌ فِي كُتُبِهِمْ إلَى أَنْ حَدَثَ فِي آخِرِ الْأُمَّةِ مَنْ قَلَّلَ اللَّهُ عَدَدَهُمْ مِمَّنْ حَذَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَمُكَالَمَتِهِمْ وَأُمِرْنَا أَنْ لَا نَعُودَ مَرْضَاهُمْ وَلَا نُشَيِّعَ جَنَائِزَهُمْ فَقَصَدَ هَؤُلَاءِ إلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَضَرَبُوهَا بِالتَّشْبِيهِ وَعَمَدُوا إلَى الْأَخْبَارِ فَعَمِلُوا فِي دَفْعِهَا إلَى أَحْكَامِ الْمَقَايِيسِ وَكُفْرِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَنْكَرُوا عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ وَرَدُّوا عَلَى الْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. ثُمَّ ذَكَرَ: الْمَأْثُورَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَوَابَهُ لنجدة الحروري؛ ثُمَّ حَدِيثَ " الصُّورَةِ " وَذَكَرَ أَنَّهُ صَنَّفَ فِيهِ كِتَابًا مُفْرَدًا وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِي تَأْوِيلِهِ.
ثُمَّ قَالَ: " وَسَنَذْكُرُ أُصُولَ السُّنَّةِ وَمَا وَرَدَ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِيمَا نَعْتَقِدُهُ مِمَّا خَالَفْنَا فِيهِ أَهْلَ الزَّيْغِ وَمَا وَافَقْنَا فِيهِ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ مِنْ الْمُثْبِتَةِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ -. ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي الْإِمَامَةِ وَاحْتَجَّ عَلَيْهَا وَذَكَرَ اتِّفَاقَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى تَقْدِيمِ " الصِّدِّيقِ " وَأَنَّهُ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ. ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي " خَلْقِ الْأَفْعَالِ " هَلْ هِيَ مُقَدَّرَةٌ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَقَوْلُنَا فِيهَا أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مُقَدَّرَةٌ مَعْلُومَةٌ وَذَكَرَ إثْبَاتَ الْقَدَرِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي أَهْلِ " الْكَبَائِرِ " وَمَسْأَلَةَ " الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " وَقَالَ: قَوْلُنَا فِيهَا إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُمْ. وَقَالَ: أَصْلُ " الْإِيمَانِ " مَوْهِبَةٌ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا أَفْعَالُ الْعِبَادِ فَيَكُونُ أَصْلَ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ وَالْأَعْمَالِ وَذَكَرَ الْخِلَافَ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ. وَقَالَ: قَوْلُنَا إنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. قَالَ: ثُمَّ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَوْلُنَا وَقَوْلُ أَئِمَّتِنَا إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَإِنَّهُ صِفَةُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ قَوْلًا وَإِلَيْهِ يَعُودُ حُكْمًا. ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي الرُّؤْيَةِ وَقَالَ: قَوْلُنَا وَقَوْلُ أَئِمَّتِنَا فِيمَا نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْقِيَامَةِ وَذَكَرَ الْحُجَّةَ. ثُمَّ قَالَ: اعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ أَنِّي ذَكَرْت أَحْكَامَ الِاخْتِلَافِ عَلَى مَا وَرَدَ مِنْ تَرْتِيبِ الْمُحَدِّثِينَ فِي كُلِّ الْأَزْمِنَةِ وَقَدْ بَدَأْت أَنْ أَذْكُرَ أَحْكَامَ الْجُمَلِ مِنْ الْعُقُودِ. فَنَقُولُ: وَنَعْتَقِدُ: أَنَّ اللَّهَ عز وجل لَهُ عَرْشٌ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ
بِكُلِّ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ} وَلَا نَقُولُ إنَّهُ فِي الْأَرْضِ كَمَا هُوَ فِي السَّمَاءِ عَلَى عَرْشِهِ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَجْرِي عَلَى عِبَادِهِ {ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ} . إلَى أَنْ قَالَ: " وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَإِنَّهُمَا مَخْلُوقَتَانِ لِلْبَقَاءِ؛ لَا لِلْفَنَاءِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَجَ بِنَفْسِهِ إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. إلَى أَنْ قَالَ: " وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ قَبَضَ قَبْضَتَيْنِ فَقَالَ: " هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ ".
وَنَعْتَقِدُ أَنَّ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم " حَوْضًا " وَنَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَذَكَرَ " الصِّرَاطَ " وَ " الْمِيزَانَ " وَ " الْمَوْتَ " وَأَنَّ الْمَقْتُولَ قُتِلَ بِأَجَلِهِ وَاسْتَوْفَى رِزْقَهُ. إلَى أَنْ قَالَ: " وَمِمَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخَرِ؛ فَيَبْسُطُ يَدَهُ فَيَقُولُ: " أَلَا هَلْ مِنْ سَائِلٍ " الْحَدِيثَ وَلَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَعَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا. وَاِتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَأَنَّ الْخُلَّةَ غَيْرُ الْفَقْرِ؛ لَا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْبِدَعِ. وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالرُّؤْيَةِ. وَاِتَّخَذَهُ خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اُخْتُصَّ بِمِفْتَاحِ خَمْسٍ مِنْ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ {إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الْآيَةَ.
وَنَعْتَقِدُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ: ثَلَاثًا لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ وَنَعْتَقِدُ الصَّبْرَ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ قُرَيْشٍ؛ مَا كَانَ مِنْ جَوْرٍ أَوْ عَدْلٍ. مَا أَقَامَ الصَّلَاةَ مِنْ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ. وَالْجِهَادُ مَعَهُمْ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ حَيْثُ يُنَادَى لَهَا وَاجِبٌ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ أَوْ مَانِعٌ وَالتَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ؛ وَنَشْهَدُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَمْدًا فَهُوَ كَافِرٌ وَالشَّهَادَةُ وَالْبَرَاءَةُ بِدْعَةٌ وَالصَّلَاةُ عَلَى مَنْ مَاتَ مَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ سُنَّةٌ؛ وَلَا نُنَزِّلُ أَحَدًا جَنَّةً وَلَا نَارًا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ يُنَزِّلُهُمْ؛ وَالْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ فِي الدِّينِ بِدْعَةٌ. وَنَعْتَقِدُ أَنَّ مَا شَجَرَ بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ وَنَتَرَحَّمُ عَلَى عَائِشَةَ ونترضى عَنْهَا؛ وَالْقَوْلُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَلْفُوظِ؛ وَكَذَلِكَ فِي الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى بِدْعَةٌ؛ وَالْقَوْلُ فِي الْإِيمَانِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِدْعَةٌ. وَاعْلَمْ أَنِّي ذَكَرْت اعْتِقَادَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى ظَاهِرِ مَا وَرَدَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مُجْمَلًا مِنْ غَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ؛ إذْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ مِنْ مَشَايِخِنَا الْمَعْرُوفِينَ مَنْ أَهْلِ الْإِبَانَةِ وَالدِّيَانَةِ إلَّا أَنِّي أَحْبَبْت أَنْ أَذْكُرَ " عُقُودَ أَصْحَابِنَا الْمُتَصَوِّفَةِ " فِيمَا أَحْدَثَتْهُ طَائِفَةٌ نُسِبُوا إلَيْهِمْ مَا قَدْ تخرصوا مِنْ الْقَوْلِ بِمَا نَزَّهَ اللَّهَ تَعَالَى الْمَذْهَبُ وَأَهْلُهُ مِنْ ذَلِكَ. إلَى أَنْ قَالَ: وَقَرَأْت لِمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ " التَّبْصِيرَ " كَتَبَ بِذَلِكَ إلَى أَهْلِ طبرستان فِي اخْتِلَافٍ عِنْدَهُمْ؛ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُصَنِّفَ لَهُمْ
مَا يَعْتَقِدُهُ وَيَذْهَبُ إلَيْهِ؛ فَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ اخْتِلَافَ الْقَائِلِينَ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَذَكَرَ عَنْ طَائِفَةٍ إثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَنَسَبَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إلَى " الصُّوفِيَّةِ " قَاطِبَةً لَمْ يَخُصَّ طَائِفَةً. فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى جَهَالَةٍ مِنْهُ بِأَقْوَالِ الْمُخْلَصِينَ مِنْهُمْ؛ وَكَانَ مَنْ نُسِبَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْقَوْلُ - بَعْدَ أَنْ ادَّعَى عَلَى الطَّائِفَةِ - ابْنِ أُخْتِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَحِلِّهِ عِنْدَ الْمُخْلَصِينَ؛ فَكَيْفَ بِابْنِ أُخْتِهِ. وَلَيْسَ إذَا أَحْدَثَ الزَّائِغُ فِي نِحْلَتِهِ قَوْلًا نُسِبَ إلَى الْجُمْلَةِ؛ كَذَلِكَ فِي الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ لَيْسَ مَنْ أَحْدَثَ قَوْلًا فِي الْفِقْهِ؛ وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ يُنَاسِبُ ذَلِكَ؛ يُنْسَبُ ذَلِكَ إلَى جُمْلَةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ " الصُّوفِيَّةِ " وَعُلُومَهُمْ تَخْتَلِفُ فَيُطْلِقُونَ أَلْفَاظَهُمْ عَلَى مَوْضُوعَاتٍ لَهُمْ وَمَرْمُوزَاتٍ وَإِشَارَاتٍ تَجْرِي فِيمَا بَيْنَهُمْ فَمَنْ لَمْ يُدَاخِلْهُمْ عَلَى التَّحْقِيقِ وَنَازَلَ مَا هُمْ عَلَيْهِ رَجَعَ عَنْهُمْ وَهُوَ خَاسِئٌ وَحَسِيرٌ. ثُمَّ ذَكَرَ إطْلَاقَهُمْ لَفْظَ " الرُّؤْيَةِ " بِالتَّقْيِيدِ. فَقَالَ: كَثِيرًا مَا يَقُولُونَ رَأَيْت اللَّهَ يَقُولُ. وَذَكَرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَوْلُهُ لَمَّا سُئِلَ: هَلْ رَأَيْت اللَّهَ حِينَ عَبَدْته؟ قَالَ رَأَيْت اللَّهَ ثُمَّ عَبَدْته. فَقَالَ السَّائِلُ كَيْفَ رَأَيْته؟ فَقَالَ: لَمْ تَرَهُ الْأَبْصَارُ بِتَحْدِيدِ الْأَعْيَانِ؛ وَلَكِنْ رُؤْيَةُ الْقُلُوبِ بِتَحْقِيقِ الْإِيقَانِ ثُمَّ قَالَ: " وَإِنَّهُ تَعَالَى يُرَى فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ وَذَكَرَهُ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم. هَذَا قَوْلُنَا وَقَوْلُ أَئِمَّتِنَا دُونَ الْجُهَّالِ مِنْ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ فِينَا.
وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَبْلُغُ مَعَ اللَّهِ إلَى دَرَجَةٍ يُبِيحُ الْحَقَّ لَهُ مَا حُظِرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ - إلَّا الْمُضْطَرَّ عَلَى حَالٍ يَلْزَمُهُ إحْيَاءٌ لِلنَّفْسِ لَوْ بَلَغَ الْعَبْدُ مَا بَلَغَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَاتِ - فَذَلِكَ كُفْرٌ بِاَللَّهِ وَقَائِلٌ ذَلِكَ قَائِلٌ بِالْإِبَاحَةِ وَهُمْ المنسلخون مِنْ الدِّيَانَةِ. وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُهُ تَرْكُ إطْلَاقِ تَسْمِيَةِ " الْعِشْقِ " عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِاشْتِقَاقِهِ وَلِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ. وَقَالَ: أَدْنَى مَا فِيهِ إنَّهُ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ وَفِيمَا نَصَّ اللَّهُ مِنْ ذِكْرِ الْمَحَبَّةِ كِفَايَةٌ.
وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُهُ: أَنَّ اللَّهَ لَا يَحِلُّ فِي الْمَرْئِيَّاتِ وَأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِكَمَالِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ - حَيْثُ مَا تُلِيَ وَدُرِّسَ وَحُفِظَ - وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَاِتَّخَذَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم خَلِيلًا وَحَبِيبًا وَالْخُلَّةُ لَهُمَا مِنْهُ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ: إنَّ الْخُلَّةَ الْفَقْرُ وَالْحَاجَةُ. إلَى أَنْ قَالَ: " وَالْخُلَّةُ وَالْمَحَبَّةُ صِفَتَانِ لِلَّهِ هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِمَا وَلَا تَدْخُلُ أَوْصَافُهُ تَحْتَ التَّكْيِيفِ وَالتَّشْبِيهِ وَصِفَاتُ الْخَلْقِ مِنْ الْمَحَبَّةِ وَالْخُلَّةِ جَائِزٌ عَلَيْهَا الْكَيْفُ؛ فَأَمَّا صِفَاتُهُ تَعَالَى فَمَعْلُومَةٌ فِي الْعِلْمِ وَمَوْجُودَةٌ فِي التَّعْرِيفِ قَدْ انْتَفَى عَنْهُمَا التَّشْبِيهُ فَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَاسْمُ الْكَيْفِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ سَاقِطٌ.
وَمِمَّا نَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الْمَكَاسِبَ وَالتِّجَارَاتِ وَالصِّنَاعَاتِ وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْغِشَّ وَالظُّلْمَ وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ تِلْكَ الْمَكَاسِبِ فَهُوَ ضَالٌّ مُضِلٌّ مُبْتَدِعٌ؛ إذْ لَيْسَ الْفَسَادُ وَالظُّلْمُ وَالْغِشُّ مِنْ التِّجَارَاتِ وَالصِّنَاعَاتِ فِي شَيْءٍ إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْفَسَادَ؛ لَا الْكَسْبَ وَالتِّجَارَاتِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جَائِزٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِأَكْلِ الْحَلَالِ ثُمَّ يُعْدِمُهُمْ الْوُصُولَ إلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ؛ لِأَنَّ مَا طَالَبَهُمْ بِهِ مَوْجُودٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ وَالْمُعْتَقَدُ أَنَّ الْأَرْضَ تَخْلُو مِنْ الْحَلَالِ وَالنَّاسَ يَتَقَلَّبُونَ فِي الْحَرَامِ؛ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ إلَّا أَنَّهُ يَقِلُّ فِي مَوْضِعٍ وَيَكْثُرُ فِي مَوْضِعٍ؛ لَا أَنَّهُ مَفْقُودٌ مِنْ الْأَرْضِ.
وَمِمَّا نَعْتَقِدُهُ أَنَّا إذَا رَأَيْنَا مَنْ ظَاهِرُهُ جَمِيلٌ لَا نَتَّهِمُهُ فِي مَكْسَبِهِ وَمَالِهِ وَطَعَامِهِ؛ جَائِزٌ أَنْ يُؤْكَلَ طَعَامُهُ وَالْمُعَامَلَةَ فِي تِجَارَتِهِ؛ فَلَيْسَ عَلَيْنَا الْكَشْفُ عَمَّا قَالَهُ. فَإِنْ سَأَلَ سَائِلٌ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ؛ جَازَ إلَّا مِنْ دَاخِلِ الظُّلْمَةِ. وَمَنْ يَنْزِعُ عَنْ الظُّلْمِ وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ بِالْبَاطِلِ وَمَعَهُ غَيْرُ ذَلِكَ: فَالسُّؤَالُ وَالتَّوَقِّي؛ كَمَا سَأَلَ الصِّدِّيقُ غُلَامَهُ؛ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْمَالِ سِوَى ذَلِكَ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ فَاخْتَلَطَا فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْحَلَالُ وَلَا الْحَرَامُ إلَّا أَنَّهُ مُشْتَبَهٌ؛ فَمَنْ سَأَلَ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ. وَأَجَازَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَسَلْمَانُ الْأَكْلَ مِنْهُ وَعَلَيْهِ التَّبِعَةُ وَالنَّاسُ طَبَقَاتٌ وَالدِّينُ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ.
وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَبْدَ مَا دَامَ أَحْكَامُ الدَّارِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ
الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ وَكُلُّ مَنْ ادَّعَى " الْأَمْنَ " فَهُوَ جَاهِلٌ بِاَللَّهِ وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} وَقَدْ أَفْرَدْت كَشْفَ عَوْرَاتِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ. وَنَعْتَقِدُ: أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ الْعَبْدِ مَا عَقَلَ وَعَلِمَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ فَيَبْقَى عَلَى أَحْكَامِ الْقُوَّةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ؛ إذْ لَمْ يُسْقِطْ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ إلَى فَضَاءِ الْحُرِّيَّةِ بِإِسْقَاطِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُرُوجِ إلَى أَحْكَامِ الأحدية الْمُسْدِيَةِ بِعَلَائِقِ الآخرية: فَهُوَ كَافِرٌ لَا مَحَالَةَ؛ إلَّا مَنْ اعْتَرَاهُ عِلَّةٌ أَوْ رَأْفَةٌ؛ فَصَارَ مَعْتُوهًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مبرسما وَقَدْ اخْتَلَطَ عَقْلُهُ أَوْ لَحِقَهُ غَشْيَةٌ يَرْتَفِعُ عَنْهُ بِهَا أَحْكَامُ الْعَقْلِ وَذَهَبَ عَنْهُ التَّمْيِيزُ وَالْمَعْرِفَةُ؛ فَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ الْمِلَّةِ مُفَارِقٌ لِلشَّرِيعَةِ. وَمَنْ زَعَمَ الْإِشْرَافَ عَلَى الْخَلْقِ: يَعْلَمُ مَقَامَاتِهِمْ وَمِقْدَارَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ - بِغَيْرِ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ مِنْ قَوْلِ رَسُولٍ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْمِلَّةِ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْرِفُ مَآلَ الْخَلْقِ وَمُنْقَلَبَهُمْ وَعَلَى مَاذَا يَمُوتُونَ عَلَيْهِ وَيُخْتَمُ لَهُمْ - بِغَيْرِ الْوَحْيِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ وَقَوْلِ رَسُولِهِ - فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبِ مِنْ اللَّهِ. وَ " الْفِرَاسَةُ " حَقٌّ عَلَى أُصُولِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا رَسَمْنَاهُ فِي شَيْءٍ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ صِفَاتِهِ تَعَالَى بِصِفَاتِهِ - وَيُشِيرُ فِي ذَلِكَ إلَى غَيْرِ آيَةِ الْعَظَمَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ - وَأَشَارَ إلَى صِفَاتِهِ عز وجل الْقَدِيمَةِ: فَهُوَ حُلُولِيٌّ قَائِلٌ بِاللَّاهُوتِيَّةِ وَالِالْتِحَامِ وَذَلِكَ كُفْرٌ لَا مَحَالَةَ.
وَنَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَرْوَاحَ كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ. وَمَنْ قَالَ إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَقَدْ ضَاهَى قَوْلَ النَّصَارَى - النسطورية - فِي الْمَسِيحِ وَذَلِكَ كُفْرٌ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ حَالٌّ فِي الْعَبْدِ؛ أَوْ قَالَ بِالتَّبْعِيضِ عَلَى اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ؛ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَلَا حَالٍّ فِي مَخْلُوقٍ؛ وَأَنَّهُ كَيْفَمَا تُلِيَ وَقُرِئَ وَحُفِظَ: فَهُوَ صِفَةُ اللَّهِ عز وجل؛ وَلَيْسَ الدَّرْسُ مِنْ الْمَدْرُوسِ وَلَا التِّلَاوَةُ مِنْ الْمَتْلُوِّ لِأَنَّهُ عز وجل بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ قَالَ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ.
وَنَعْتَقِدُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ " الْمُلَحَّنَةَ " بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ. وَأَنَّ " الْقَصَائِدَ " بِدْعَةٌ. وَمَجْرَاهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: فَالْحَسَنُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَ آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ وَإِظْهَارِ نَعْتِ الصَّالِحِينَ وَصِفَةِ الْمُتَّقِينَ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَتَرْكُهُ وَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ أَوْلَى بِهِ وَمَا جَرَى عَلَى وَصْفِ الْمَرْئِيَّاتِ وَنَعْتِ الْمَخْلُوقَاتِ فَاسْتِمَاعُ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ كُفْرٌ وَاسْتِمَاعُ الْغِنَاءِ والربعيات عَلَى اللَّهِ كُفْرٌ وَالرَّقْصُ بِالْإِيقَاعِ وَنَعْتُ الرَّقَّاصِينَ عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ فِسْقٌ وَعَلَى أَحْكَامِ التَّوَاجُدِ وَالْغِنَاءِ لَهْوٌ وَلَعِبٌ. وَحَرَامٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْقَصَائِدَ والربعيات الْمُلَحَّنَةَ - الْجَائِي بَيْنَ أَهْلِ الْأَطْبَاعِ - عَلَى أَحْكَامِ الذِّكْرِ إلَّا لِمَنْ تَقَدَّمَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ التَّوْحِيدِ وَمَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ؛ وَمَا لَا يَلِيقُ بِهِ عز وجل مِمَّا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فَيَكُونُ اسْتِمَاعُهُ كَمَا قَالَ: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} الْآيَةَ.
وَكُلُّ مَنْ جَهِلَ ذَلِكَ وَقَصَدَ اسْتِمَاعَهُ عَلَى اللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَفْصِيلِهِ فَهُوَ كُفْرٌ لَا مَحَالَةَ فَكُلُّ مَنْ جَمَعَ الْقَوْلَ وَأَصْغَى بِالْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إلَّا لِمَنْ عُرِفَ بِمَا وَصَفْت مِنْ ذَكَرَ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ وَمَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ عز وجل مِمَّا لَيْسَ لِلْمَخْلُوقِينَ فِيهِ نَعْتٌ وَلَا وَصْفٌ؛ بَلْ تَرْكُ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْوَطُ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا بِدْعَةٌ وَالْفِتْنَةُ فِيهَا غَيْرُ مَأْمُونَةٍ عَلَى اسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ. وَ " الربعيات " بِدْعَةٌ وَذَلِكَ مِمَّا أَنْكَرَهُ المطلبي وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ أَوْلَى مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ لَا يُعْرَفُونَ فِي الدِّينِ وَلَا لَهُمْ قَدَمٌ عِنْدَ الْمُخْلَصِينَ. وَبَلَغَنِي أَنَّهُ قِيلَ لِبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ: إنَّ أَصْحَابَك قَدْ أَحْدَثُوا شَيْئًا يُقَالُ لَهُ الْقَصَائِدُ. قَالَ مِثْلُ أيش؟ قَالَ مِثْلُ قَوْلِهِ: اصْبِرِي يَا نَفْسُ حَتَّى تَسْكُنِي دَارَ الْجَلِيلِ فَقَالَ: حَسَنٌ وَأَيْنَ يَكُونُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ذَلِكَ؟ قَالَ قُلْت بِبَغْدَادَ فَقَالَ كَذَبُوا - وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ - لَا يَسْكُنُ بِبَغْدَادَ مَنْ يَسْتَمِعُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَمِمَّا نَقُولُ - وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّتِنَا - إنَّ الْفَقِيرَ إذَا احْتَاجَ وَصَبَرَ وَلَمْ يَتَكَفَّفْ إلَى وَقْتٍ يَفْتَحُ اللَّهُ لَهُ كَانَ أَعْلَى فَمَنْ عَجَزَ عَنْ الصَّبْرِ كَانَ السُّؤَالُ أَوْلَى بِهِ عَلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {لَأَنْ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ} الْحَدِيثَ وَنَقُولُ: إنَّ تَرْكَ الْمَكَاسِبِ غَيْرُ جَائِزٍ إلَّا بِشَرَائِطَ مَوْسُومَةٍ مِنْ التَّعَفُّفِ وَالِاسْتِغْنَاءِ
عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ؛ وَمَنْ جَعَلَ السُّؤَالَ حِرْفَةً - وَهُوَ صَحِيحٌ - فَهُوَ مَذْمُومٌ فِي الْحَقِيقَةِ خَارِجٌ. وَنَقُولُ: إنَّ الْمُسْتَمِعَ إلَى " الْغِنَاءِ وَالْمَلَاهِي " فَإِنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ عليه السلام {الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ} وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ فَهُوَ فِسْقٌ لَا مَحَالَةَ.
وَاَلَّذِي نَخْتَارُ: قَوْلَ أَئِمَّتِنَا: إنَّ
تَرْكَ الْمِرَاءِ فِي الدِّينِ
وَالْكَلَامِ فِي الْإِيمَانِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم وَاسِطٌ يُؤَدِّي وَأَنَّ الْمُرْسَلَ إلَيْهِمْ أَفْضَلُ: فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَمَنْ قَالَ بِإِسْقَاطِ الْوَسَائِطِ عَلَى الْجُمْلَةِ فَقَدْ كَفَرَ اهـ.
وَمِنْ مُتَأَخَّرِيهِمْ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ أَبِي صَالِحٍ الجيلاني " قَالَ فِي كِتَابِ " الغنية ": أَمَّا مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ فَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ وَيَتَيَقَّنَ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ. إلَى أَنْ قَالَ: وَهُوَ بِجِهَةِ الْعُلُوِّ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ مُحْتَوٍ عَلَى الْمُلْكِ مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِالْأَشْيَاءِ {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} وَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ بَلْ يُقَالُ إنَّهُ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
وَذَكَرَ آيَاتِ وَأَحَادِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: وَيَنْبَغِي إطْلَاقُ صِفَةِ الِاسْتِوَاءِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَأَنَّهُ اسْتِوَاءُ الذَّاتِ عَلَى الْعَرْشِ (قَالَ: وَكَوْنُهُ عَلَى الْعَرْشِ: مَذْكُورٌ فِي كُلِّ كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أُرْسِلَ بِلَا كَيْفٍ وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ وَذَكَرَ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ نَحْوَ هَذَا. وَلَوْ ذَكَرْت مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا لَطَالَ الْكِتَابُ جِدًّا. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ": رَوَيْنَا عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَس وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَالْأَوْزَاعِي وَمَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ " فِي أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ " أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ قَالُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ؛ قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَقْلِ الثِّقَاتِ أَوْ جَاءَ عَنْ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم فَهُوَ عِلْمٌ يُدَانُ بِهِ؛ وَمَا أُحْدِثَ بَعْدَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِيمَا جَاءَ عَنْهُمْ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ. وَقَالَ فِي " شَرْحِ الْمُوَطَّأِ " لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ النُّزُولِ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتُ النَّقْلِ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهِ وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ طُرُقٍ - سِوَى هَذِهِ - مِنْ أَخْبَارِ الْعُدُولِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ كَمَا قَالَتْ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ مِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى " الْمُعْتَزِلَةِ " فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ قَوْلُ اللَّهِ - وَذَكَرَ بَعْضَ الْآيَاتِ -
إلَى أَنْ قَالَ: وَهَذَا أَشْهَرُ وَأَعْرَفُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى أَكْثَرَ مِنْ حِكَايَتِهِ لِأَنَّهُ اضْطِرَارٌ لَمْ يُوقِفْهُمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ مُسْلِمٌ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ حُمِلَ عَنْهُمْ التَّأْوِيلَ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ أَيْضًا: أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ كُلِّهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لَا عَلَى الْمَجَازِ إلَّا إنَّهُمْ لَا يُكَيِّفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَحُدُّونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً. وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ كُلُّهَا وَالْخَوَارِجُ: فَكُلُّهُمْ يُنْكِرُونَهَا وَلَا يَحْمِلُونَ شَيْئًا مِنْهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ وَهُمْ عِنْدَ مَنْ أَقَرَّ بِهَا نَافُونَ لِلْمَعْبُودِ وَالْحَقُّ فِيمَا قَالَهُ الْقَائِلُونَ: بِمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ أَئِمَّةُ الْجَمَاعَةِ. هَذَا كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ إمَامِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ.
وَفِي عَصْرِهِ الْحَافِظُ " أَبُو بَكْرٍ البيهقي " مَعَ تَوَلِّيهِ لِلْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَذَبِّهِ عَنْهُمْ قَالَ: فِي كِتَابِهِ " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ ". بَابُ مَا جَاءَ فِي إثْبَاتِ الْيَدَيْنِ صِفَتَيْنِ - لَا مِنْ حَيْثُ الْجَارِحَةِ - لِوُرُودِ خَبَرِ
الصَّادِقِ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا إبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَقَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} . وَذَكَرَ الْأَحَادِيثَ الصِّحَاحَ فِي هَذَا الْبَابِ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: {يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ} وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: {أَنْتَ مُوسَى اصْطَفَاك اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَك الْأَلْوَاحَ بِيَدِهِ} وَفِي لَفْظٍ: {وَكَتَبَ لَك التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ} وَمِثْلُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ {أَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَرَسَ كَرَامَةَ أَوْلِيَائِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ بِيَدِهِ} وَمِثْلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يتكفؤها الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ؛ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ} . وَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِثْلَ قَوْلِهِ: {بِيَدِي الْأَمْرُ} {وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْك} {وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ} و {أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ} وَقَوْلُهُ: {الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ} وَقَوْلُهُ: {يَطْوِي اللَّهُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْضِينَ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟} . وَقَوْلُهُ: {يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ
وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقِسْطُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ} وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي الصِّحَاحِ. وَذَكَرَ أَيْضًا قَوْلَهُ: {إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ قَالَ لَهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ اخْتَرْ أَيَّهمَا شِئْت. قَالَ: اخْتَرْت يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ} وَحَدِيثَ {إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ بِيَدِهِ} إلَى أَحَادِيثَ أُخَرَ ذَكَرَهَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ. ثُمَّ قَالَ " البيهقي ": أَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُفَسِّرُوا مَا كَتَبْنَا مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي " الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ " وَسَائِرِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ؛ مَعَ أَنَّهُ يَحْكِي قَوْلَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ " إبْطَالِ التَّأْوِيلِ " لَا يَجُوزُ رَدُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَلَا التَّشَاغُلُ بِتَأْوِيلِهَا وَالْوَاجِبُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَنَّهَا صِفَاتُ اللَّهِ لَا تُشْبِهُ صِفَاتِ سَائِرِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَا مِنْ الْخَلْقِ؛ وَلَا يَعْتَقِدُ التَّشْبِيهَ فِيهَا؛ لَكِنْ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ. وَذَكَرَ بَعْضَ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ وَمَكْحُولٍ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَوَكِيعٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَالْأُسُودِ بْنِ سَالِمٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ. وَفِي حِكَايَةِ أَلْفَاظِهِمْ طُولٌ.
إلَى أَنْ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى إبْطَالِ التَّأْوِيلِ: أَنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ حَمَلُوهَا عَلَى ظَاهِرِهَا؛ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِتَأْوِيلِهَا وَلَا صَرَفُوهَا عَنْ ظَاهِرِهَا؛ فَلَوْ كَانَ التَّأْوِيلُ سَائِغًا لَكَانُوا أَسْبَقَ إلَيْهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ التَّشْبِيهِ وَرَفْعِ الشُّبْهَةِ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ " الْمُتَكَلِّمُ صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ فِي الْكَلَامِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي " اخْتِلَافِ الْمُصَلِّينَ وَمَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ " وَذَكَرَ فِرَقَ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرَهُمْ. ثُمَّ قَالَ (مَقَالَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ جُمْلَةً. قَوْلُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ: الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِمَا جَاءَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَرُدُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ فَرْدٌ صَمَدٌ لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَكَمَا قَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وَأَنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} . وَأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُقَالُ: إنَّهَا غَيْرُ اللَّهِ كَمَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ. وَأَقَرُّوا أَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا كَمَا قَالَ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وَكَمَا قَالَ: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا
تَضَعُ إلَّا بِعِلْمِهِ} وَأَثْبَتُوا لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَلَمْ يَنْفُوا ذَلِكَ عَنْ اللَّهِ كَمَا نَفَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الْقُوَّةَ كَمَا قَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وَذَكَرَ مَذْهَبَهُمْ فِي الْقَدَرِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَيَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَالْكَلَامُ فِي اللَّفْظِ وَالْوَقْفِ مَنْ قَالَ بِاللَّفْظِ وَبِالْوَقْفِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ عِنْدَهُمْ لَا يُقَالُ اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَلَا يُقَالُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَيُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ يُرَى بِالْأَبْصَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يُرَى الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَلَا يَرَاهُ الْكَافِرُونَ؛ لِأَنَّهُمْ عَنْ اللَّهِ مَحْجُوبُونَ قَالَ عز وجل: {كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وَذَكَرَ قَوْلَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ وَأَشْيَاءَ. إلَى أَنْ قَالَ: وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَلَا يَقُولُونَ مَخْلُوقٌ وَلَا يَشْهَدُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ بِالنَّارِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَيُنْكِرُونَ الْجَدَلَ وَالْمِرَاءَ فِي الدِّينِ وَالْخُصُومَةَ وَالْمُنَاظَرَةَ فِيمَا يَتَنَاظَرُ فِيهِ أَهْلُ الْجَدَلِ وَيَتَنَازَعُونَ فِيهِ مِنْ دِينِهِمْ وَيُسَلِّمُونَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الثِّقَاتُ عَدْلٌ عَنْ عَدْلٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَقُولُونَ كَيْفَ وَلَا لِمَ؟ لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ عِنْدَهُمْ. إلَى أَنْ قَالَ: وَيُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ
صَفًّا صَفًّا} وَأَنَّ اللَّهَ يَقْرَبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ؛ كَمَا قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} إلَى أَنْ قَالَ: وَيَرَوْنَ مُجَانَبَةَ كُلِّ دَاعٍ إلَى بِدْعَةٍ وَالتَّشَاغُلَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَكِتَابَةَ الْآثَارِ وَالنَّظَرَ فِي الْآثَارِ؛ وَالنَّظَرَ فِي الْفِقْهِ مَعَ الِاسْتِكَانَةِ وَالتَّوَاضُعِ؛ وَحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ بَذْلِ الْمَعْرُوفِ؛ وَكَفَّ الْأَذَى وَتَرْكَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالشِّكَايَةِ وَتَفَقُّدَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ. قَالَ: فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ وَيَسْتَسْلِمُونَ إلَيْهِ وَيَرَوْنَهُ وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ نَقُولُ وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ؛ وَمَا تَوْفِيقُنَا إلَّا بِاَللَّهِ وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا فِي " اخْتِلَافِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فِي الْعَرْشِ " فَقَالَ: قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ: إنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمِ؛ وَلَا يُشْبِهُ الْأَشْيَاءَ وَإِنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؛ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَلَا نَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ فِي الْقَوْلِ؛ بَلْ نَقُولُ اسْتَوَى بِلَا كَيْفٍ وَإِنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} . وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ كَمَا قَالَ {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَأَنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ كَمَا قَالَ: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وَأَنَّهُ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ كَمَا قَالَ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} . وَأَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا إلَّا مَا وَجَدُوهُ فِي
الْكِتَابِ أَوْ جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: إنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَذَكَرَ مَقَالَاتٍ أُخْرَى.
وَقَالَ أَيْضًا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْإِبَانَةَ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ " وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ آخِرُ كِتَابٍ صَنَّفَهُ وَعَلَيْهِ يَعْتَمِدُونَ فِي الذَّبِّ عَنْهُ عِنْدَ مَنْ يَطْعَنُ عَلَيْهِ - فَقَالَ: - (فَصْلٌ فِي إبَانَةِ قَوْلِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة والحرورية وَالرَّافِضَةِ وَالْمُرْجِئَةِ؛ فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمْ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ وَدِيَانَتَكُمْ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُنَا الَّذِي نَقُولُ بِهِ وَدِيَانَتُنَا الَّتِي نَدِينُ بِهَا التَّمَسُّكُ بِكَلَامِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ وَبِمَا كَانَ يَقُولُ بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ - نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَفَعَ دَرَجَتَهُ وَأَجْزَلَ مَثُوبَتَهُ - قَائِلُونَ وَلَمَّا خَالَفَ قَوْلَهُ مُخَالِفُونَ؛ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ؛ وَالرَّئِيسُ الْكَامِلُ؛ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ وَدَفَعَ بِهِ الضَّلَالَ؛ وَأَوْضَحَ بِهِ الْمِنْهَاجَ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ؛ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ إمَامٍ مُقَدَّمٍ وَجَلِيلٍ مُعَظَّمٍ وَكَبِيرٍ مُفْهِمٍ. " وَجُمْلَةُ قَوْلِنَا " أَنَّا نُقِرُّ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا نَرُدُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؛
وَأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَرْدٌ صَمَدٌ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا؛ وَأَنَّ " مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حُقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَأَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَكَمَا قَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} وَأَنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} - وَأَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ غَيْرُهُ كَانَ ضَالًّا وَذَكَرَ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرَ فِي الْفَرْقِ إلَى أَنْ قَالَ: وَنَقُولُ إنَّ الْإِسْلَامَ أَوْسَعُ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ كُلُّ إسْلَامٍ إيمَانًا وَنَدِينُ بِأَنَّ اللَّهَ يُقَلِّبُ الْقُلُوبَ بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عز وجل وَأَنَّهُ عز وجل يَضَعُ السَّمَوَاتِ عَلَى أُصْبُعٍ وَالْأَرْضِينَ عَلَى أُصْبُعٍ كَمَا جَاءَتْ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. إلَى أَنْ قَالَ: " وَإِنَّ الْإِيمَانَ " قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَنُسَلِّمُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي رَوَاهَا الثِّقَاتُ عَدْلًا عَنْ عَدْلٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَنْ قَالَ: وَنُصَدِّقُ بِجَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي أَثْبَتَهَا أَهْلُ النَّقْلِ مِنْ النُّزُولِ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّ الرَّبَّ عز وجل يَقُولُ {هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟} وَسَائِرُ مَا نَقَلُوهُ وَأَثْبَتُوهُ خِلَافًا لِمَا قَالَ أَهْلُ الزَّيْغِ وَالتَّضْلِيلِ:
وَنُعَوِّلُ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ إلَى كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ وَلَا نَبْتَدِعُ فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَنَا بِهِ وَلَا نَقُولُ عَلَى اللَّهِ مَا لَا نَعْلَمُ. وَنَقُولُ إنَّ اللَّهَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَإِنَّ اللَّهَ يَقْرُبُ مِنْ عِبَادِهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَكَمَا قَالَ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} . إلَى أَنْ قَالَ: وَسَنَحْتَجُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِنَا وَمَا بَقِيَ مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ بَابًا بَابًا. ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُرَى وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ؛ ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى مَنْ وَقَفَ فِي الْقُرْآنِ وَقَالَ لَا أَقُولُ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَرَدَّ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: (بَابُ ذِكْرِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ فَقَالَ إنَّ قَالَ قَائِلٌ مَا تَقُولُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ؟ قِيلَ لَهُ: نَقُولُ إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ تَعَالَى: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَقَالَ تَعَالَى {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ}
{أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} كَذَّبَ مُوسَى فِي قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَقَالَ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} فَالسَّمَوَاتُ فَوْقَهَا الْعَرْشُ فَلَمَّا كَانَ الْعَرْشُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ قَالَ {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} لِأَنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَكُلُّ مَا عَلَا فَهُوَ سَمَاءٌ فَالْعَرْشُ أَعْلَى السَّمَوَاتِ وَلَيْسَ إذَا قَالَ {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} يَعْنِي جَمِيعَ السَّمَوَاتِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْعَرْشَ الَّذِي هُوَ أَعْلَى السَّمَوَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ عز وجل ذَكَرَ السَّمَوَاتِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ الْقَمَرَ يَمْلَؤُهُنَّ وَأَنَّهُ فِيهِنَّ جَمِيعًا وَرَأَيْنَا الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إذَا دَعَوْا نَحْوَ السَّمَاءِ: لِأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ لَمْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ نَحْوَ الْعَرْشِ كَمَا لَا يَحُطُّونَهَا إذَا دَعَوْا إلَى الْأَرْضِ. ثُمَّ قَالَ:
فَصْلٌ:
وَقَدْ قَالَ الْقَائِلُونَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة والحرورية إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أَنَّهُ اسْتَوْلَى وَقَهَرَ وَمَلَكَ وَأَنَّ اللَّهَ عز وجل فِي كُلِّ مَكَانٍ وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ وَذَهَبُوا فِي
الِاسْتِوَاءِ إلَى الْقُدْرَةِ فَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوهُ كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرْشِ وَالْأَرْضِ السَّابِعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْأَرْضِ فَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا وَعَلَى الْحُشُوشِ وَعَلَى كُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ - وَهُوَ عز وجل مُسْتَوْلٍ عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا - لَكَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى الْأَرْضِ وَعَلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْحُشُوشِ وَالْأَقْذَارِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْأَشْيَاءِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى الْحُشُوشِ والأخلية لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ الِاسْتِيلَاءَ الَّذِي هُوَ عَامٌّ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ يَخْتَصُّ الْعَرْشَ دُونَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. وَذَكَرَ دَلَالَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْعَقْلِ. ثُمَّ قَالَ: (بَابُ الْكَلَامِ فِي الْوَجْهِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْبَصَرِ وَالْيَدَيْنِ وَذِكْرِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ. وَرَدَّ عَلَى الْمُتَأَوِّلِينَ لَهَا بِكَلَامِ طَوِيلٍ لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِحِكَايَتِهِ: مِثْلُ قَوْلِهِ فَإِنْ سُئِلْنَا أَتَقُولُونَ لِلَّهِ يَدَانِ؟ قِيلَ: نَقُولُ ذَلِكَ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وقَوْله تَعَالَى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ {إنَّ اللَّهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ بِيَدِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ وَخَلَقَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ} وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وَخَلَقَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ وَغَرَسَ شَجَرَةَ طُوبَى بِيَدِهِ}
وَلَيْسَ يَجُوزُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَلَا فِي عَادَةِ أَهْلِ الْخِطَابِ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ عَمِلْت كَذَا بِيَدِي وَيُرِيدَ بِهَا النِّعْمَةَ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ إنَّمَا خَاطَبَ الْعَرَبَ بِلُغَتِهَا وَمَا يَجْرِي مَفْهُومًا فِي كَلَامِهَا وَمَعْقُولًا فِي خِطَابِهَا وَكَانَ لَا يَجُوزُ فِي خِطَابِ أَهْلِ الْبَيَانِ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: فَعَلْت كَذَا بِيَدِي وَيَعْنِي بِهَا النِّعْمَةَ: بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {بِيَدَيَّ} النِّعْمَةَ. وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا فِي تَقْرِيرِ هَذَا وَنَحْوِهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَانِي الْمُتَكَلِّمُ - وَهُوَ أَفْضَلُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ؛ لَيْسَ فِيهِمْ مِثْلُهُ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ - قَالَ فِي " كِتَابِ الْإِبَانَةِ " تَصْنِيفُهُ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ وَجْهًا وَيَدًا؟ قِيلَ لَهُ قَوْلُهُ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} وقَوْله تَعَالَى {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ وَجْهًا وَيَدًا. فَإِنْ قَالَ: فَلِمَ أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ وَيَدُهُ جَارِحَةً إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْقِلُونَ وَجْهًا وَيَدًا إلَّا جَارِحَةً؟ قُلْنَا لَا يَجِبُ هَذَا كَمَا لَا يَجِبُ إذَا لَمْ نَعْقِلْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا جِسْمًا أَنْ نَقْضِيَ نَحْنُ وَأَنْتُمْ بِذَلِكَ عَلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى وَكَمَا لَا يَجِبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَانَ قَائِمًا بِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا؛ لِأَنَّا وَإِيَّاكُمْ لَمْ نَجِدْ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فِي شَاهِدِنَا إلَّا كَذَلِكَ
وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لَهُمْ إنْ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ وَحَيَاتُهُ وَكَلَامُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَسَائِرُ صِفَاتِ ذَاتِهِ عَرَضًا وَاعْتَلُّوا بِالْوُجُودِ. وَقَالَ: " فَإِنْ قَالَ فَهَلْ تَقُولُونَ إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ "؟ . قِيلَ لَهُ: مَعَاذَ اللَّهِ بَلْ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَقَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} . قَالَ: وَلَوْ كَانَ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَكَانَ فِي بَطْنِ الْإِنْسَانِ وَفَمِهِ وَالْحُشُوشِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يَرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهَا؛ وَلَوَجَبَ أَنْ يَزِيدَ بِزِيَادَةِ الْأَمْكِنَةِ إذَا خَلَقَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا إذَا بَطَلَ مِنْهَا مَا كَانَ؛ وَلَصَحَّ أَنْ يَرْغَبَ إلَيْهِ إلَى نَحْوِ الْأَرْضِ وَإِلَى خَلْفِنَا وَإِلَى يَمِينِنَا وَإِلَى شِمَالِنَا وَهَذَا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِهِ وَتَخْطِئَةِ قَائِلِهِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي هَذَا الْكِتَابِ: صِفَاتُ ذَاتِهِ الَّتِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِهَا: هِيَ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالْإِرَادَةُ وَالْبَقَاءُ وَالْوَجْهُ وَالْعَيْنَانِ وَالْيَدَانِ وَالْغَضَبُ وَالرِّضَا. وَقَالَ فِي " كِتَابِ التَّمْهِيدِ " كَلَامًا أَكْثَرَ مِنْ هَذَا - لَكِنْ لَيْسَتْ النُّسْخَةُ حَاضِرَةً عِنْدِي - وَكَلَامُهُ وَكَلَامُ غَيْرِهِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ لِمَنْ يَطْلُبُهُ وَإِنْ كُنَّا مُسْتَغْنِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ عَنْ كُلِّ كَلَامٍ.
" وَمِلَاكُ الْأَمْرِ " أَنْ يَهَبَ اللَّهُ لِلْعَبْدِ حِكْمَةً وَإِيمَانًا بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ عَقْلٌ وَدِينٌ حَتَّى يَفْهَمَ وَيَدِينَ ثُمَّ نُورُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُغْنِيهِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ قَدْ صَارَ مُنْتَسِبًا إلَى بَعْضِ طَوَائِفِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمُحْسِنًا لِلظَّنِّ بِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ وَمُتَوَهِّمًا أَنَّهُمْ حَقَّقُوا فِي هَذَا الْبَابِ مَا لَمْ يُحَقِّقْهُ غَيْرُهُمْ؛ فَلَوْ أَتَى بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعَهَا حَتَّى يُؤْتَى بِشَيْءِ مِنْ كَلَامِهِمْ. ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا مُخَالِفُونَ لِأَسْلَافِهِمْ غَيْرُ مُتَّبِعِينَ لَهُمْ؛ فَلَوْ أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِالْهُدَى: الَّذِي يَجِدُونَهُ فِي كَلَامِ أَسْلَافِهِمْ لَرُجِيَ لَهُمْ مَعَ الصِّدْقِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ أَنْ يَزْدَادُوا هُدًى وَمَنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ إلَّا مِنْ طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ ثُمَّ لَا يَتَمَسَّكُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ الْحَقِّ: فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَإِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لَا نُؤْمِنُ إلَّا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَيْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ يَقُولُ سبحانه وتعالى لَا لَمَّا جَاءَتْكُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُكُمْ تَتَّبِعُونَ وَلَا لَمَّا جَاءَتْكُمْ بِهِ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ تَتَّبِعُونَ وَلَكِنْ إنَّمَا تَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَكُمْ فَهَذَا حَالُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْحَقَّ لَا مِنْ طَائِفَتِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا مَعَ كَوْنِهِ يَتَعَصَّبُ لِطَائِفَتِهِ بِلَا بُرْهَانٍ مِنْ اللَّهِ وَلَا بَيَانٍ.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي فِي كِتَابِهِ " الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ " اخْتَلَفَ مَسَالِكُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الظَّوَاهِرِ؛ فَرَأَى بَعْضُهُمْ تَأْوِيلَهَا وَالْتَزَمَ ذَلِكَ فِي آي
الْكِتَابِ وَمَا يَصِحُّ مِنْ السُّنَنِ وَذَهَبَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ إلَى الِانْكِفَافِ عَنْ التَّأْوِيلِ وَإِجْرَاءِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَوَارِدِهَا وَتَفْوِيضِ مَعَانِيهَا إلَى الرَّبِّ. فَقَالَ: وَاَلَّذِي نَرْتَضِيهِ رَأْيًا وَنَدِينُ اللَّهَ بِهِ عَقِيدَةً: اتِّبَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ الْقَاطِعُ فِي ذَلِكَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَهُوَ حُجَّةٌ مُتَّبَعَةٌ وَهُوَ مُسْتَنَدُ مُعْظَمِ الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ دَرَجَ صَحْبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِمَعَانِيهَا وَدَرْكِ مَا فِيهَا - وَهُمْ صَفْوَةُ الْإِسْلَامِ والمستقلون بِأَعْبَاءِ الشَّرِيعَةِ وَكَانُوا لَا يَأْلُونَ جَهْدًا فِي ضَبْطِ قَوَاعِدِ الْمِلَّةِ وَالتَّوَاصِي بِحِفْظِهَا وَتَعْلِيمِ النَّاسِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْهَا - فَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ مُسَوَّغًا أَوْ مَحْتُومًا: لَأَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ اهْتِمَامُهُمْ بِهَا فَوْقَ اهْتِمَامِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَإِذَا انْصَرَمَ عَصْرُهُمْ وَعَصْرُ التَّابِعِينَ عَلَى الْإِضْرَابِ عَنْ التَّأْوِيلِ: كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَجْهُ الْمُتَّبَعُ فَحَقٌّ عَلَى ذِي الدِّينِ أَنْ يَعْتَقِدَ تَنَزُّهَ الْبَارِي عَنْ صِفَاتِ الْمُحَدِّثِينَ وَلَا يَخُوضُ فِي تَأْوِيلِ الْمُشْكِلَاتِ وَيَكِلُ مَعْنَاهَا إلَى الرَّبِّ تَعَالَى؛ فَلْيُجْرِ آيَةَ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ. وَقَوْلُهُ {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} وَقَوْله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وَمَا صَحَّ مِنْ أَخْبَارِ الرَّسُولِ كَخَبَرِ النُّزُولِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. قُلْت: وَلْيَعْلَمْ السَّائِلُ أَنَّ الْغَرَضَ " مِنْ هَذَا الْجَوَابِ " ذِكْرُ أَلْفَاظِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ نَقَلُوا مَذْهَبَ السَّلَفِ فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا شَيْئًا مِنْ قَوْلِهِ - مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ - يَقُولُ بِجَمِيعِ مَا نَقُولُهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ؛ وَلَكِنَّ الْحَقَّ يُقْبَلُ مِنْ كُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ؛ وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ فِي كَلَامِهِ.
الْمَشْهُورِ عَنْهُ؛ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ: اقْبَلُوا الْحَقَّ مِنْ كُلِّ مَنْ جَاءَ بِهِ؛ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا - أَوْ قَالَ فَاجِرًا - وَاحْذَرُوا زيغة الْحَكِيمِ. قَالُوا: كَيْفَ نَعْلَمُ أَنَّ الْكَافِرَ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ: إنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا أَوْ قَالَ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ. فَأَمَّا تَقْرِيرُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ وَإِمَاطَةُ مَا يَعْرِضُ مِنْ الشُّبَهِ وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ عَلَى وَجْهٍ يَخْلُصُ إلَى الْقَلْبِ مَا يَبْرُدُ بِهِ مِنْ الْيَقِينِ وَيَقِفُ عَلَى مَوَاقِفِ آرَاءِ الْعِبَادِ فِي هَذِهِ الْمَهَامِهِ فَمَا تَتَّسِعُ لَهُ هَذِهِ الْفَتْوَى وَقَدْ كَتَبْت شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ هَذَا وَخَاطَبْت بِبَعْضِ ذَلِكَ بَعْضَ مَنْ يُجَالِسُنَا وَرُبَّمَا أَكْتُبُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ. وَجِمَاعُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَحْصُلُ مِنْهُمَا كَمَالُ الْهُدَى وَالنُّورِ لِمَنْ تَدَبَّرَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ وَقَصَدَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَأَعْرَضَ عَنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَالْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ. وَلَا يَحْسَبُ الْحَاسِبُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يُنَاقِضُ بَعْضَهُ بَعْضًا أَلْبَتَّةَ؛ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ يُخَالِفُهُ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم {إذْ قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ} وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا غَلَطٌ.
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ مَعَنَا حَقِيقَةً وَهُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ حَقِيقَةً كَمَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ مَعَنَا أَيْنَمَا كُنَّا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ: {وَاَللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} . وَذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ (مَعَ فِي اللُّغَةِ إذَا أُطْلِقَتْ فَلَيْسَ ظَاهِرُهَا فِي اللُّغَةِ إلَّا الْمُقَارَنَةَ الْمُطْلَقَةَ؛ مِنْ غَيْرِ وُجُوبِ مُمَاسَّةٍ أَوْ مُحَاذَاةٍ عَنْ يَمِينٍ أَوْ شِمَالٍ؛ فَإِذَا قُيِّدَتْ بِمَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي دَلَّتْ عَلَى الْمُقَارَنَةِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى. فَإِنَّهُ يُقَالُ: مَا زِلْنَا نَسِيرُ وَالْقَمَرَ مَعَنَا أَوْ وَالنَّجْمَ مَعَنَا. وَيُقَالُ: هَذَا الْمَتَاعُ مَعِي لِمُجَامَعَتِهِ لَك؛ وَإِنْ كَانَ فَوْقَ رَأْسِك. فَاَللَّهُ مَعَ خَلْقِهِ حَقِيقَةً وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ حَقِيقَةً. ثُمَّ هَذِهِ " الْمَعِيَّةُ " تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِحَسَبِ الْمَوَارِدِ فَلَمَّا قَالَ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} إلَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . دَلَّ ظَاهِرُ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ وَمُقْتَضَاهَا أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْكُمْ؛ شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَمُهَيْمِنٌ عَالِمٌ بِكُمْ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: إنَّهُ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ وَهَذَا ظَاهِرُ الْخِطَابِ وَحَقِيقَتُهُ.
وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} الْآيَةَ. وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبِهِ فِي الْغَارِ: {لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} كَانَ هَذَا أَيْضًا حَقًّا عَلَى ظَاهِرِهِ وَدَلَّتْ الْحَالُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ هُنَا مَعِيَّةُ الِاطِّلَاعِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى وَهَارُونَ: {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . هُنَا الْمَعِيَّةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَحُكْمُهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ النَّصْرُ وَالتَّأْيِيدُ. وَقَدْ يَدْخُلُ عَلَى صَبِيٍّ مَنْ يُخِيفُهُ فَيَبْكِي فَيُشْرِفُ عَلَيْهِ أَبُوهُ مِنْ فَوْقِ السَّقْفِ فَيَقُولُ: لَا تَخَفْ؛ أَنَا مَعَك أَوْ أَنَا هُنَا؛ أَوْ أَنَا حَاضِرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. يُنَبِّهُهُ عَلَى الْمَعِيَّةِ الْمُوجِبَةِ بِحُكْمِ الْحَالِ دَفْعَ الْمَكْرُوهِ؛ فَفَرْقٌ بَيْنَ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ وَبَيْنَ مُقْتَضَاهَا؛ وَرُبَّمَا صَارَ مُقْتَضَاهَا مِنْ مَعْنَاهَا. فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ. فَلَفْظُ " الْمَعِيَّةِ " قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي مَوَاضِعَ يَقْتَضِي فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أُمُورًا لَا يَقْتَضِيهَا فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ؛ فَإِمَّا أَنْ تَخْتَلِفَ دَلَالَتُهَا بِحَسَبِ الْمَوَاضِعِ أَوْ تَدُلَّ عَلَى قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ جَمِيعِ مَوَارِدِهَا - وَإِنْ امْتَازَ كُلُّ مَوْضِعٍ بِخَاصِّيَّةٍ - فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَيْسَ مُقْتَضَاهَا أَنْ تَكُونَ ذَاتُ الرَّبِّ عز وجل مُخْتَلِطَةً بِالْخَلْقِ حَتَّى يُقَالَ قَدْ صُرِفَتْ عَنْ ظَاهِرِهَا.
وَنَظِيرُهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ " الرُّبُوبِيَّةُ وَالْعُبُودِيَّةُ " فَإِنَّهُمَا وَإِنْ اشْتَرَكَتَا فِي أَصْلِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ فَلَمَّا قَالَ: {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} كَانَتْ رُبُوبِيَّةُ مُوسَى وَهَارُونَ لَهَا اخْتِصَاصٌ زَائِدٌ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْخَلْقِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ الْكَمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى غَيْرَهُ فَقَدْ رَبَّهُ وَرَبَّاهُ رُبُوبِيَّةً وَتَرْبِيَةً أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} وَ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} . فَإِنَّ الْعَبْدَ تَارَةً يَعْنِي بِهِ الْمَعْبَدَ فَيَعُمُّ الْخَلْقَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} وَتَارَةً يَعْنِي بِهِ الْعَابِدَ فَيَخُصُّ؛ ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ فَمَنْ كَانَ أَعْبَدَ عِلْمًا وَحَالًا كَانَتْ عُبُودِيَّتُهُ أَكْمَلَ؛ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ فِي حَقِّهِ أَكْمَلَ مَعَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يُسَمِّيهَا بَعْضُ النَّاسِ " مُشَكِّكَةً " لِتَشَكُّكِ الْمُسْتَمِعِ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي اللَّفْظِ فَقَطْ وَالْمُحَقِّقُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا لَيْسَتْ خَارِجَةً عَنْ جِنْسِ الْمُتَوَاطِئَةِ؛ إذْ وَاضِعُ اللُّغَةِ إنَّمَا وَضَعَ اللَّفْظَ بِإِزَاءِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَإِنْ كَانَتْ نَوْعًا مُخْتَصًّا مِنْ الْمُتَوَاطِئَةِ فَلَا بَأْسَ بِتَخْصِيصِهَا بِلَفْظِ. وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ " الْمَعِيَّةَ " تُضَافُ إلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ - كَإِضَافَةِ
الرُّبُوبِيَّةِ مَثَلًا - وَأَنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الشَّيْءِ لَيْسَ إلَّا لِلْعَرْشِ وَأَنَّ اللَّهَ يُوصَفُ بِالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَلَا يُوصَفُ بِالسُّفُولِ وَلَا بِالتَّحْتِيَّةِ قَطُّ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا: عَلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ. ثُمَّ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ كَوْنَ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ بِمَعْنَى أَنَّ السَّمَاءَ تُحِيطُ بِهِ وَتَحْوِيهِ فَهُوَ كَاذِبٌ - إنْ نَقَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ - وَضَالٌّ - إنْ اعْتَقَدَهُ فِي رَبِّهِ - وَمَا سَمِعْنَا أَحَدًا يَفْهَمُ هَذَا مِنْ اللَّفْظِ وَلَا رَأْيَنَا أَحَدًا نَقَلَهُ عَنْ وَاحِدٍ وَلَوْ سُئِلَ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ هَلْ تَفْهَمُونَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ " إنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ " إنَّ السَّمَاءَ تَحْوِيهِ لَبَادَرَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَى أَنْ يَقُولَ هَذَا شَيْءٌ لَعَلَّهُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِنَا. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا: فَمِنْ التَّكَلُّفِ أَنْ يَجْعَلَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ شَيْئًا مُحَالًا لَا يَفْهَمُهُ النَّاسُ مِنْهُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَتَأَوَّلَهُ؛ بَلْ عِنْدَ النَّاسِ " أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ "" وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ " وَاحِدٌ؛ إذْ السَّمَاءُ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْعُلُوَّ فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فِي الْعُلُوِّ لَا فِي السُّفْلِ وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ كُرْسِيَّهُ سبحانه وتعالى وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنَّ الْكُرْسِيَّ فِي الْعَرْشِ كَحَلْقَةِ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ وَأَنَّ الْعَرْشَ خَلْقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ لَا نِسْبَةَ لَهُ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ خَلْقًا يَحْصُرُهُ وَيَحْوِيهِ؟ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وَقَالَ: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} بِمَعْنَى (عَلَى وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهُوَ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا وَهَذَا يَعْلَمُهُ مَنْ عَرَفَ حَقَائِقَ مَعَانِي الْحُرُوفِ وَأَنَّهَا مُتَوَاطِئَةٌ فِي الْغَالِبِ لَا مُشْتَرَكَةٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم {إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ فَلَا يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ} الْحَدِيثَ. حَقٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ قِبَلَ وَجْهِ الْمُصَلِّي؛ بَلْ هَذَا الْوَصْفُ يَثْبُتُ لِلْمَخْلُوقَاتِ. فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ أَنَّهُ يُنَاجِي السَّمَاءَ أَوْ يُنَاجِي الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَكَانَتْ السَّمَاءُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فَوْقَهُ وَكَانَتْ أَيْضًا قِبَلَ وَجْهِهِ. وَقَدْ ضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَثَلَ بِذَلِكَ - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّمْثِيلِ بَيَانُ جَوَازِ هَذَا وَإِمْكَانُهُ؛ لَا تَشْبِيهُ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ - فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَرَى رَبَّهُ مُخْلِيًا بِهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو رَزِينٍ العقيلي: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَنَحْنُ جَمِيعٌ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَأُنْبِئُك بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ هَذَا الْقَمَرُ كُلُّكُمْ يَرَاهُ مُخْلِيًا بِهِ وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ؛ فَاَللَّهُ أَكْبَرُ} أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ: {إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَرْئِيُّ مُشَابِهًا لِلْمَرْئِيِّ فَالْمُؤْمِنُونَ إذَا رَأَوْا رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنَاجَوْهُ كُلٌّ يَرَاهُ فَوْقَهُ قِبَلَ وَجْهِهِ؛ كَمَا يَرَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَلَا مُنَافَاةَ أَصْلًا. وَمَنْ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ: يَكُونُ إقْرَارُهُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مَا هُمَا عَلَيْهِ أَوْكَدَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: مَذْهَبُ السَّلَفِ إقْرَارُهَا عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ مَعَ اعْتِقَادٍ أَنَّ ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ وَهَذَا اللَّفْظُ " مُجْمَلٌ " فَإِنَّ قَوْلَهُ: ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالظَّاهِرِ نُعُوتَ الْمَخْلُوقِينَ وَصِفَاتِ المحدثين؛ مِثْلُ أَنْ يُرَادَ بِكَوْنِ " اللَّهِ قَبِلَ وَجْهِ الْمُصَلِّي " أَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ فِي الْحَائِطِ الَّذِي يُصَلِّي إلَيْهِ وَإِنَّ " اللَّهَ مَعَنَا " ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إلَى جَانِبِنَا وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ فَقَدْ أَصَابَ فِي الْمَعْنَى لَكِنْ أَخْطَأَ بِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا ظَاهِرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَإِنَّ هَذَا الْمُحَالَ لَيْسَ هُوَ الظَّاهِرُ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى الْمُمْتَنِعُ صَارَ يَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ فَيَكُونُ الْقَائِلُ لِذَلِكَ مُصِيبًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مَعْذُورًا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ. فَإِنَّ الظُّهُورَ وَالْبُطُونَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَهُوَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ. وَكَانَ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ لِمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الظَّاهِرَ حَتَّى يَكُونَ قَدْ أَعْطَى كَلَامَ اللَّهِ وَكَلَامَ رَسُولِهِ حَقَّهُ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَإِنْ كَانَ النَّاقِلُ عَنْ السَّلَفِ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: الظَّاهِرُ غَيْرُ مُرَادٍ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مِمَّا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ وَلَا يَخْتَصُّ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ لِلَّهِ أَوْ جَائِزَةٌ عَلَيْهِ جَوَازًا ذِهْنِيًّا أَوْ جَوَازًا خَارِجِيًّا
غَيْرَ مُرَادٍ فَهَذَا قَدْ أَخْطَأَ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ السَّلَفِ أَوْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ؛ فَمَا يُمْكِنُ أَحَدٌ قَطُّ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ مَا يَدُلُّ - لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا - أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَلَا يَدٌ حَقِيقَةً. وَقَدْ رَأَيْت هَذَا الْمَعْنَى يَنْتَحِلُهُ بَعْضُ مَنْ يَحْكِيهِ عَنْ السَّلَفِ وَيَقُولُونَ إنَّ طَرِيقَةَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ طَرِيقَةُ السَّلَفِ - بِمَعْنَى أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ لَمْ تَدُلَّ عَلَى صِفَاتِ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَلَكِنَّ السَّلَفَ أَمْسَكُوا عَنْ تَأْوِيلِهَا والمتأخرون رَأَوْا الْمَصْلَحَةَ فِي تَأْوِيلِهَا لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يُعَيِّنُونَ الْمُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ وَأُولَئِكَ لَا يُعَيِّنُونَ لِجَوَازِ أَنْ يُرَادَ غَيْرُهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَذِبٌ صَرِيحٌ عَلَى السَّلَفِ: أَمَّا فِي كَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ فَقَطْعًا: مِثْلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ السَّلَفِ الْمَنْقُولَ عَنْهُمْ - الَّذِي لَمْ يُحْكَ هُنَا عُشْرُهُ - عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُصَرِّحِينَ بِأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ حَقِيقَةً وَأَنَّهُمْ مَا اعْتَقَدُوا خِلَافَ هَذَا قَطُّ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ قَدْ صَرَّحَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ وَمُطَالَعَةِ مَا أَمْكَنَ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ مَا رَأَيْت كَلَامَ أَحَدٍ مِنْهُمْ يَدُلُّ - لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا وَلَا بِالْقَرَائِنِ - عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ
فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ بَلْ الَّذِي رَأَيْته أَنَّ كَثِيرًا مِنْ كَلَامِهِمْ يَدُلُّ - إمَّا نَصًّا وَإِمَّا ظَاهِرًا - عَلَى تَقْرِيرِ جِنْسِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا أَنْقُلُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إثْبَاتَ كُلِّ صِفَةٍ؛ بَلْ الَّذِي رَأَيْته أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ جِنْسَهَا فِي الْجُمْلَةِ؛ وَمَا رَأَيْت أَحَدًا مِنْهُمْ نَفَاهَا. وَإِنَّمَا يَنْفُونَ التَّشْبِيهَ وَيُنْكِرُونَ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ؛ مَعَ إنْكَارِهِمْ عَلَى مَنْ يَنْفِي الصِّفَاتِ أَيْضًا؛ كَقَوْلِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ الخزاعي شَيْخِ الْبُخَارِيِّ: مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ وَلَيْسَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولُهُ تَشْبِيهًا. وَكَانُوا إذَا رَأَوْا الرَّجُلَ قَدْ أَغْرَقَ فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ قَالُوا: هَذَا جهمي مُعَطِّلٌ؛ وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي كَلَامِهِمْ فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ إلَى الْيَوْمِ يُسَمُّونَ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ مُشَبِّهًا - كَذِبًا مِنْهُمْ وَافْتِرَاءً - حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ غَلَا وَرَمَى الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ ثُمَامَةُ بْنُ الْأَشْرَسِ مِنْ رُؤَسَاءَ الْجَهْمِيَّة: ثَلَاثَةٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مُشَبِّهَةٌ؛ مُوسَى حَيْثُ قَالَ: {إنْ هِيَ إلَّا فِتْنَتُكَ} وَعِيسَى حَيْثُ قَالَ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ: {يَنْزِلُ رَبُّنَا} . وَحَتَّى إنَّ جُلَّ الْمُعْتَزِلَةِ تُدْخِلُ عَامَّةَ الْأَئِمَّةِ: مِثْلَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَالْأَوْزَاعِي وَأَصْحَابِهِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد وَأَصْحَابِهِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ فِي قِسْمِ الْمُشَبِّهَةِ.
وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو إسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ دِرْبَاسٍ الشَّافِعِيُّ جُزْءًا سَمَّاهُ: " تَنْزِيهُ أَئِمَّةِ الشَّرِيعَةِ عَنْ الْأَلْقَابِ الشَّنِيعَةِ " ذَكَرَ فِيهِ كَلَامَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ فِي مَعَانِي هَذَا الْبَابِ وَذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ يُلَقِّبُ " أَهْلَ السُّنَّةِ " بِلَقَبِ افْتَرَاهُ - يَزْعُمُ أَنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى رَأْيِهِ الْفَاسِدِ - كَمَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُلَقِّبُونَ النَّبِيَّ بِأَلْقَابِ افْتَرَوْهَا. فَالرَّوَافِضُ تُسَمِّيهِمْ نَوَاصِبَ وَالْقَدَرِيَّةُ يُسَمُّونَهُمْ مُجْبِرَةً وَالْمُرْجِئَةُ تُسَمِّيهِمْ شَكَّاكًا وَالْجَهْمِيَّة تُسَمِّيهِمْ مُشَبِّهَةً وَأَهْلُ الْكَلَامِ يُسَمُّونَهُمْ حَشْوِيَّةً وَنَوَابِتَ وَغُثَاءً وَغُثْرًا إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ. كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمِّي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَارَةً مَجْنُونًا وَتَارَةً شَاعِرًا وَتَارَةً كَاهِنًا وَتَارَةً مُفْتَرِيًا. قَالُوا فَهَذِهِ عَلَامَةُ الْإِرْثِ الصَّحِيحِ وَالْمُتَابَعَةِ التَّامَّةِ فَإِنَّ السُّنَّةَ هِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ اعْتِقَادًا وَاقْتِصَادًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا؛ فَكَمَا أَنَّ الْمُنْحَرِفِينَ عَنْهُ يُسَمُّونَهُمْ بِأَسْمَاءِ مَذْمُومَةٍ مَكْذُوبَةٍ - وَإِنْ اعْتَقَدُوا صِدْقَهَا بِنَاءً عَلَى عَقِيدَتِهِمْ الْفَاسِدَةِ - فَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ لَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ الَّذِينَ هُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ؛ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَأَمَّا الَّذِينَ وَافَقُوهُ بِبَوَاطِنِهِمْ وَعَجَزُوا عَنْ إقَامَةِ الظَّوَاهِرِ وَاَلَّذِينَ وَافَقُوهُ بِظَوَاهِرِهِمْ وَعَجَزُوا عَنْ تَحْقِيقِ الْبَوَاطِنِ وَاَلَّذِينَ وَافَقُوهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ: فَلَا بُدَّ لِلْمُنْحَرِفِينَ عَنْ سُنَّتِهِ أَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهِمْ نَقْصًا يَذُمُّونَهُمْ بِهِ
وَيُسَمُّونَهُمْ بِأَسْمَاءِ مَكْذُوبَةٍ - وَإِنْ اعْتَقَدُوا صِدْقَهَا - كَقَوْلِ الرافضي: مَنْ لَمْ يُبْغِضْ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه وَعُمَرَ: فَقَدْ أَبْغَضَ عَلِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِعَلِيِّ إلَّا بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمَا ثُمَّ يَجْعَلُ مَنْ أَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ ناصبيا؛ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي اعْتَقَدَهَا صَحِيحَةً أَوْ عَانَدَ فِيهَا وَهُوَ الْغَالِبُ. وَكَقَوْلِ الْقَدَرِيِّ: مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْكَائِنَاتِ وَخَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ: فَقَدْ سَلَبَ مِنْ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارَ وَالْقُدْرَةَ وَجَعَلَهُمْ مَجْبُورِينَ كَالْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا إرَادَةَ لَهَا وَلَا قُدْرَةَ. وَكَقَوْلِ الجهمي: مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ: فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مَحْصُورٌ وَأَنَّهُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مَحْدُودٌ وَأَنَّهُ مُشَابِهٌ لِخَلْقِهِ. وَكَقَوْلِ الْجَهْمِيَّة الْمُعْتَزِلَةِ: مَنْ قَالَ إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ وَأَنَّهُ مُشَبِّهٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْرَاضُ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجَوْهَرِ مُتَحَيِّزٍ وَكُلُّ مُتَحَيِّزٍ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ أَوْ جَوْهَرٌ فَرْدٌ وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ مُشَبِّهٌ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ. وَمَنْ حَكَى عَنْ النَّاسِ " الْمَقَالَاتِ " وَسَمَّاهُمْ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَكْذُوبَةِ - بِنَاءً عَلَى عَقِيدَتِهِ الَّتِي هُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ فِيهَا - فَهُوَ وَرَبُّهُ وَاَللَّهُ مِنْ وَرَائِهِ بِالْمِرْصَادِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلَّا بِأَهْلِهِ.
وَجِمَاعُ الْأَمْرِ: أَنَّ الْأَقْسَامَ الْمُمْكِنَةَ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا " سِتَّةُ أَقْسَامٍ " كُلُّ قِسْمٍ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. " قِسْمَانِ " يَقُولَانِ: تَجْرِي عَلَى ظَوَاهِرِهَا. و " قِسْمَانِ " يَقُولَانِ: هِيَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهَا. و " قِسْمَانِ " يَسْكُتُونَ. أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقِسْمَانِ: (أَحَدُهُمَا مَنْ يُجْرِيهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَيَجْعَلُ ظَاهِرَهَا مِنْ جِنْسِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَهَؤُلَاءِ الْمُشْبِهَةُ وَمَذْهَبُهُمْ بَاطِلٌ أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَإِلَيْهِمْ يَتَوَجَّهُ الرَّدُّ بِالْحَقِّ. (الثَّانِي: مَنْ يُجْرِيهَا عَلَى ظَاهِرِهَا اللَّائِقِ بِجَلَالِ اللَّهِ كَمَا يُجْرِي ظَاهِرَ اسْمِ الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالرَّبِّ وَالْإِلَهِ وَالْمَوْجُودِ وَالذَّاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ عَلَى ظَاهِرِهَا اللَّائِقِ بِجَلَالِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ ظَوَاهِرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ إمَّا جَوْهَرٌ مُحْدَثٌ وَإِمَّا عَرَضٌ قَائِمٌ بِهِ. فَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ وَالْمَشِيئَةُ وَالرَّحْمَةُ وَالرِّضَا وَالْغَضَبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: فِي حَقِّ الْعَبْدِ أَعْرَاضٌ؛ وَالْوَجْهُ وَالْيَدُ وَالْعَيْنُ فِي حَقِّهِ أَجْسَامٌ فَإِذَا كَانَ
اللَّهُ مَوْصُوفًا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ بِأَنَّ لَهُ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَكَلَامًا وَمَشِيئَةً - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَرَضًا؛ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ - جَازَ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ اللَّهِ وَيَدَاهُ صِفَاتٌ لَيْسَتْ أَجْسَامًا يَجُوزُ عَلَيْهَا مَا يَجُوزُ عَلَى صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ. وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي حَكَاهُ الخطابي وَغَيْرُهُ عَنْ السَّلَفِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ جُمْهُورِهِمْ وَكَلَامُ الْبَاقِينَ لَا يُخَالِفُهُ؛ وَهُوَ أَمْرٌ وَاضِحٌ فَإِنَّ الصِّفَاتِ كَالذَّاتِ. فَكَمَا أَنَّ ذَاتَ اللَّهِ ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمَخْلُوقَاتِ فَصِفَاتُهُ ثَابِتَةٌ حَقِيقِيَّةً مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ. فَمَنْ قَالَ: لَا أَعْقِلُ عِلْمًا وَيَدًا إلَّا مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْيَدِ الْمَعْهُودَيْنِ. قِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ تَعْقِلُ ذَاتًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ ذَوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ؛ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ صِفَاتِ كُلِّ مَوْصُوفٍ تُنَاسِبُ ذَاتَه وَتُلَائِمُ حَقِيقَتَهُ؛ فَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ - الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ - إلَّا مَا يُنَاسِبُ الْمَخْلُوقَ فَقَدْ ضَلَّ فِي عَقْلِهِ وَدِينِهِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا قَالَ لَك الجهمي كَيْفَ اسْتَوَى أَوْ كَيْفَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا أَوْ كَيْفَ يَدَاهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَقُلْ لَهُ: كَيْفَ هُوَ فِي ذَاتِهِ؟ فَإِذَا قَالَ لَك لَا يَعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ وَكُنْهُ الْبَارِي تَعَالَى غَيْرَ مَعْلُومٍ لِلْبَشَرِ. فَقُلْ لَهُ: فَالْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ الْمَوْصُوفِ؛ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تَعْلَمَ كَيْفِيَّةَ صِفَةٍ لِمَوْصُوفِ
لَمْ تَعْلَمْ كَيْفِيَّتَهُ وَإِنَّمَا تَعْلَمُ الذَّاتَ وَالصِّفَاتِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي لَك. بَلْ هَذِهِ " الْمَخْلُوقَاتُ فِي الْجَنَّةِ " قَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُ لَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. فَإِذَا كَانَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ وَهُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَذَلِكَ فَمَا ظَنُّك بِالْخَالِقِ سبحانه وتعالى. وَهَذِهِ " الرُّوحُ " الَّتِي فِي بَنِي آدَمَ قَدْ عَلِمَ الْعَاقِلُ اضْطِرَابَ النَّاسِ فِيهَا وَإِمْسَاكَ النُّصُوصِ عَنْ بَيَانِ كَيْفِيَّتِهَا؛ أَفَلَا يَعْتَبِرُ الْعَاقِلُ بِهَا عَنْ الْكَلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى؟ مَعَ أَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ الرُّوحَ فِي الْبَدَنِ وَأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَعْرُجُ إلَى السَّمَاءِ؛ وَأَنَّهَا تُسَلُّ مِنْهُ وَقْتَ النَّزْعِ كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ لَا نُغَالِي فِي تَجْرِيدِهَا غُلُوَّ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ - حَيْثُ نَفَوْا عَنْهَا الصُّعُودَ وَالنُّزُولَ وَالِاتِّصَالَ بِالْبَدَنِ وَالِانْفِصَالَ عَنْهُ وَتَخَبَّطُوا فِيهَا حَيْثُ رَأَوْهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْبَدَنِ وَصِفَاتِهِ فَعَدَمُ مُمَاثَلَتِهَا لِلْبَدَنِ لَا يَنْفِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَاتُ ثَابِتَةً لَهَا بِحَسْبِهَا إلَّا أَنْ يُفَسِّرُوا كَلَامَهُمْ بِمَا يُوَافِقُ النُّصُوصَ؛ فَيَكُونُونَ قَدْ أَخْطَئُوا فِي اللَّفْظِ وَأَنَّى لَهُمْ بِذَلِكَ. وَلَا نَقُولُ إنَّهَا مُجَرَّدُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ كَالدَّمِ وَالْبُخَارِ مَثَلًا؛ أَوْ صِفَةٌ مِنْ
صِفَاتِ الْبَدَنِ وَالْحَيَاةِ وَأَنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الْأَجْسَادِ وَمُسَاوِيَةٌ لِسَائِرِ الْأَجْسَادِ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةُ كَمَا يَقُولُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ بَلْ نَتَيَقَّنُ أَنَّ الرُّوحَ عَيْنٌ مَوْجُودَةٌ غَيْرَ الْبَدَنِ؛ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لَهُ؛ وَهِيَ مَوْصُوفَةٌ بِمَا نَطَقَتْ بِهِ النُّصُوصُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا؛ فَإِذَا كَانَ مَذْهَبُنَا فِي حَقِيقَةِ " الرُّوحِ " وَصِفَاتِهَا بَيْنَ الْمُعَطِّلَةِ وَالْمُمَثِّلَةِ: فَكَيْفَ الظَّنُّ بِصِفَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ . وَأَمَّا الْقِسْمَانِ اللَّذَانِ يَنْفِيَانِ ظَاهِرَهَا؛ أَعْنِي الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ لَهَا فِي الْبَاطِنِ مَدْلُولٌ هُوَ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى قَطُّ وَأَنَّ اللَّهَ لَا صِفَةَ لَهُ ثُبُوتِيَّةً؛ بَلْ صِفَاتُهُ إمَّا سَلْبِيَّةٌ وَإِمَّا إضَافِيَّةٌ وَإِمَّا مُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا أَوْ يُثْبِتُونَ بَعْضَ الصِّفَاتِ - وَهِيَ الصِّفَاتُ السَّبْعَةُ أَوْ الثَّمَانِيَةُ أَوْ الْخَمْسَةَ عَشَرَ - أَوْ يُثْبِتُونَ الْأَحْوَالَ دُونَ الصِّفَاتِ وَيُقِرُّونَ مِنْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ دُونَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا قَدْ عُرِفَ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُتَكَلِّمِينَ. فَهَؤُلَاءِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَتَأَوَّلُونَهَا وَيُعَيِّنُونَ الْمُرَادَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى؛ أَوْ بِمَعْنَى عُلُوِّ الْمَكَانَةِ وَالْقَدْرِ أَوْ بِمَعْنَى ظُهُورِ نُورِهِ لِلْعَرْشِ؛ أَوْ بِمَعْنَى انْتِهَاءِ الْخَلْقِ إلَيْهِ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقِسْمٌ يَقُولُونَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ بِهَا؛ لَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إثْبَاتَ صِفَةٍ خَارِجِيَّةٍ عَمَّا عَلِمْنَاهُ:
وَأَمَّا الْقِسْمَانِ الْوَاقِفَانِ:
فَقَوْمٌ يَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهَا الْمُرَادَ اللَّائِق بِجَلَالِ اللَّهِ؛ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ صِفَةَ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَوْمٌ يُمْسِكُونَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ وَلَا يَزِيدُونَ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةِ الْحَدِيثِ مُعْرِضِينَ بِقُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ. فَهَذِهِ " الْأَقْسَامُ السِّتَّةُ " لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ عَنْ قِسْمٍ مِنْهَا. وَالصَّوَابُ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا؛ الْقَطْعُ بِالطَّرِيقَةِ الثَّابِتَةِ كَالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى فَوْقَ عَرْشِهِ وَيَعْلَمُ طَرِيقَةَ الصَّوَابِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ؛ دَلَالَةٌ لَا تَحْتَمِلُ النَّقِيضَ؛ وَفِي بَعْضِهَا قَدْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ مَعَ احْتِمَالِ النَّقِيضِ وَتَرَدُّدُ الْمُؤْمِنِ فِي ذَلِكَ هُوَ بِحَسَبِ مَا يُؤْتَاهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ. وَمَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوْ غَيْرُهُ فَلْيَدْعُ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ {عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ؛ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك؛ إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد: {أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ فِي صِلَاتِهِ ثُمَّ يَقُولُ ذَلِكَ} .
فَإِذَا افْتَقَرَ الْعَبْدُ إلَى اللَّهِ وَدَعَاهُ وَأَدْمَنَ النَّظَرَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: انْفَتَحَ لَهُ طَرِيقُ الْهُدَى؛ ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ خُبِّرَ نِهَايَاتِ أَقْدَامِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَعَرَفَ أَنَّ غَالِبَ مَا يَزْعُمُونَهُ بُرْهَانًا هُوَ شُبْهَةٌ وَرَأَى أَنَّ غَالِبَ مَا يَعْتَمِدُونَهُ يُؤَوَّلُ إلَى دَعْوَى لَا حَقِيقَةَ لَهَا؛ أَوْ شُبْهَةٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْ قِيَاسٍ فَاسِدٍ؛ أَوْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ لَا تَصِحُّ إلَّا جُزْئِيَّةً؛ أَوْ دَعْوَى إجْمَاعٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ أَوْ التَّمَسُّكِ فِي الْمَذْهَبِ وَالدَّلِيلِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ. ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ إذَا رُكِّبَ بِأَلْفَاظِ كَثِيرَةٍ طَوِيلَةٍ غَرِيبَةٍ عَمَّنْ لَمْ يَعْرِفُ اصْطِلَاحَهُمْ - أَوْهَمَتْ الْغِرَّ مَا يُوهِمُهُ السَّرَابُ لِلْعَطْشَانِ - ازْدَادَ إيمَانًا وَعِلْمًا بِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ " الضِّدَّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ " وَكُلُّ مَنْ كَانَ بِالْبَاطِلِ أَعْلَمُ كَانَ لِلْحَقِّ أَشَدَّ تَعْظِيمًا وَبِقَدْرِهِ أَعْرَفَ إذَا هُدِيَ إلَيْهِ. فَأَمَّا الْمُتَوَسِّطُونَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فَيُخَافُ عَلَيْهِمْ مَا لَا يُخَافُ عَلَى مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ وَعَلَى مَنْ قَدْ أَنْهَاهُ نِهَايَتُهُ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ فَهُوَ فِي عَافِيَةٍ وَمَنْ أَنْهَاهُ فَقَدْ عَرَفَ الْغَايَةَ فَمَا بَقِيَ يَخَافُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ وَهُوَ عَطْشَانُ إلَيْهِ قَبْلَهُ وَأَمَّا الْمُتَوَسِّطُ فَيَتَوَهَّمُ بِمَا يَتَلَقَّاهُ مِنْ الْمَقَالَاتِ الْمَأْخُوذَةِ تَقْلِيدًا لِمُعَظِّمَةِ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: أَكْثَرُ مَا يُفْسِدُ الدُّنْيَا: نِصْفٌ مُتَكَلِّمٌ وَنِصْفٌ
مُتَفَقِّهٌ وَنِصْفٌ مُتَطَبِّبٌ وَنِصْفٌ نَحْوِيٌّ هَذَا يُفْسِدُ الْأَدْيَانَ وَهَذَا يُفْسِدُ الْبُلْدَانَ وَهَذَا يُفْسِدُ الْأَبْدَانَ وَهَذَا يُفْسِدُ اللِّسَانَ. وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْغَالِبِ {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يَعْلَمُ الذَّكِيُّ مِنْهُمْ وَالْعَاقِلُ: أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ فِيمَا يَقُولُهُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَأَنَّ حُجَّتَهُ لَيْسَتْ بِبَيِّنَةٍ وَإِنَّمَا هِيَ كَمَا قِيلَ فِيهَا: - حُجَجٌ تهافت كَالزَّجَّاجِ تَخَالُهَا حَقًّا وَكُلُّ كَاسِرٍ مَكْسُورٌ وَيَعْلَمُ الْعَلِيمُ الْبَصِيرُ بِهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ وَجْهٍ مُسْتَحِقُّونَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه حَيْثُ قَالَ: حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَيُطَافُ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ وَيُقَالُ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ إذَا نَظَرْت إلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْقَدَرِ - وَالْحَيْرَةُ مُسْتَوْلِيَةٌ عَلَيْهِمْ وَالشَّيْطَانُ مُسْتَحْوِذٌ عَلَيْهِمْ - رَحِمَتْهُمْ وَتُرُفِّقْت بِهِمْ؛ أُوتُوا ذَكَاءً وَمَا أُوتُوا ذَكَاءً وَأُعْطُوا فُهُومًا وَمَا أُعْطُوا عُلُومًا وَأُعْطُوا سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . وَمَنْ كَانَ عَلِيمًا بِهَذِهِ الْأُمُورِ: تَبَيَّنَ لَهُ بِذَلِكَ حِذْقُ السَّلَفِ وَعِلْمُهُمْ وَخِبْرَتُهُمْ
حَيْثُ حَذَّرُوا عَنْ الْكَلَامِ وَنَهَوْا عَنْهُ وَذَمُّوا أَهْلَهُ وَعَابُوهُمْ وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَمْ يَزْدَدْ مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا. فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ آمِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: (*)
عَنْ " عُلُوِّ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ "؟
فَأَجَابَ:
قَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ " بِالْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْفَوْقِيَّةِ " فِي كِتَابِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ حَتَّى قَالَ بَعْضُ أَكَابِرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: فِي الْقُرْآنِ " أَلْفُ دَلِيلٍ " أَوْ أَزْيَدُ: تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالٍ عَلَى الْخَلْقِ وَأَنَّهُ فَوْقَ عِبَادِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِيهِ " ثَلَاثُمِائَةِ " دَلِيلٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ مِثْلُ قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِأَنَّ مَعْنَى عِنْدَهُ فِي قُدْرَتِهِ - كَمَا يَقُولُ الجهمي - لَكَانَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِنْدَهُ؛ فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ فِي قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ. كَمَا أَنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِيلَاءَ عَلَيْهِ لَكَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَكَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ دَائِمًا وَالِاسْتِوَاءُ
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 44 - 46):
هذه الفتوى مختصرة من رسالته عن (الجمع بين العلو والقرب) في (5/ 226 - 255)، والذي اختصرها غير الشيخ رحمه الله لبعض الأدلة الظاهرة على الاختصار، منها على سبيل المثال:
1 -
قوله ص 123 (فليس قبلك شيء إلخ)، وهذا اختصار نص موجود في ص 228.
2 -
قوله ص 134 (ثم قال بعد كلام طويل: هذا يبين أن كل من أقر بالله. . .) والكلام المتروك انظره ص 249 - 245، والإشارة في قوله (ثم قال) إلى شيخ الإسلام قبله.
ومن المقابلة بين النصين هناك بعض التنبيهات:
1 -
في الأصل ص 226 (فلو كان المراد بأن معنى (عنده) في قدرته كما يقول الجهمية لكان الخلق كلهم [عنده، فإنهم] في قدرته ومشيئته)، قلت: وما بين المعقوفتين سقطت من الأصل بسبب انتقال النظر، وتم استدراكها من المختصر ص 121.
2 -
في المختصر ص 123 (وهذا أعدل الوجهين عن أحمد)، وفي الأصل ص 258 (وهذا أحد الوجهين) وهو الأظهر.
3 -
في المختصر ص 123 (وفي نصوصهم ما يبين نقيض قولهم)، وفي الأصل ص 228 (وفي النصوص) ما يبين تناقضهم) وهو الأظهر.
4 -
في المختصر ص 124 (فالمسمى بالمحدثات هي العلية هي لذاتها)، و (هي) الثانية لا وجود لها في الأصل ص 229 وهو الصواب.
5 -
في المختصر ص 124 (ولهذا كان أبو علي الأهوازي - الذي صنف مثالب ابن أبي بشر، ورد على أبي القاسم بن عساكر - هو من السالمية) وهو كذلك أيضاً في الأصل ص 229، وهو تصحيف صوابه (ورد عليه أبو القاسم بن عساكر)، لأن ابن عساكر ألف كتاب (تبيين كذب المفتري) رداً على أبي علي الأهوازي هذا، كما ذكره الشيخ رحمه الله في 5/ 484.
6 -
في المختصر ص 127 (وهكذا كثير مما يصف الرب نفسه بالعلم بأعمال العباد تحذيرا وتخويفا ورغبة للنفوس في الخير) وفي الأصل ص 232 (وهكذا كثيراً ما يصف الرب نفسه بالعلم، وبالأعمال: تحذيرا، وتخويفا، وترغيبا للنفوس في الخير).
ويظهر أن صحة العبارة (وهكذا كثيرا ما يصف الرب نفسه بالعلم بأعمال العباد تحذيرا وتخويفا وترغيبا للنفوس في الخير).
7 -
في المختصر ص 128 (كما يقول الملك: نحن فتحنا هذا البلد، وهو منا هذا الجيش ونحو ذلك)، وفي الأصل ص 233 (وهزمنا الجيش) وهو الصواب.
8 -
في المختصر ص 135 (قد حصل له إيمان يعبد الله به) وفي الأصل ص 255 (إيمان يعرف الله به) وهو الأظهر المناسب للسياق).
9 -
في المختصر ص 135 (فهذا أصل عظيم في تعليم الناس ومخاطبتهم، والخطاب العام بالنصوص التي اشتركوا في سماعها)، وفي الأصل ص 255 (فهذا أصل عظيم في تعليم الناس ومخاطبتهم بالخطاب العام بالنصوص) وهو الأظهر.
مُخْتَصٌّ بِالْعَرْشِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَارَةً كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ وَتَارَةً لَمْ يَكُنْ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعُلُوُّ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالسَّمْعِ مَعَ الْعَقْلِ؛ وَالشَّرْعِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْمُثْبِتَةِ وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ: فَمِنْ الصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالسَّمْعِ فَقَطْ دُونَ الْعَقْلِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْمَعِيَّةِ وَبِالْقُرْبِ. وَ " الْمَعِيَّةُ " مَعِيَّتَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ. فَالْأُولَى قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . وَالثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَأَمَّا " الْقُرْبُ " فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} وَقَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ} . وَافْتَرَقَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ (أَرْبَعَ فِرَقٍ: " فالْجَهْمِيَّة " الْنُّفَاةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا هُوَ دَاخِلُ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجُ الْعَالَمِ وَلَا فَوْقَ وَلَا تَحْتَ؛ لَا يَقُولُونَ بِعُلُوِّهِ وَلَا بِفَوْقِيَّتِهِ؛ بَلْ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ مُتَأَوِّلٌ أَوْ مُفَوِّضٌ وَجَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ قَدْ يَتَمَسَّكُونَ بِنُصُوصِ؛ كَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ إلَّا الْجَهْمِيَّة؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعَهُمْ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُوَافِقُ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ النَّفْيِ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: " الْجَهْمِيَّة " خَارِجُونَ عَنْ
الثَّلَاثِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَهَذَا أَعْدَلُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَد ذَكَرَهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ. (وَقِسْمٌ ثَانٍ يَقُولُونَ: إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ النجارية وَكَثِيرٌ مِنْ الْجَهْمِيَّة عُبَّادِهِمْ وَصُوفِيَّتِهِمْ وَعَوَامِّهِمْ. وَيَقُولُونَ: إنَّهُ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ. كَمَا يَقُولُهُ: " أَهْلُ الْوَحْدَةِ " الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ وَمَنْ يَكُونُ قَوْلُهُ مُرَكَّبًا مِنْ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ. وَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِنُصُوصِ " الْمَعِيَّةِ " وَ " الْقُرْبِ " وَيَتَأَوَّلُونَ نُصُوصَ الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ وَكُلُّ نَصٍّ يَحْتَجُّونَ بِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ " الْمَعِيَّةَ " أَكْثَرُهَا خَاصَّةً بِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَفِي نُصُوصِهِمْ مَا يُبَيِّنُ نَقِيضَ قَوْلِهِمْ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَكُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يُسَبِّحُ وَالْمُسَبِّحُ غَيْرُ الْمُسَبَّحِ. وَقَالَ: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُلْكَ لَهُ؛ ثُمَّ قَالَ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وَفِي الصَّحِيحِ: {أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ} . . . إلَخْ. فَإِذَا كَانَ هُوَ الْأَوَّلُ: كَانَ هُنَاكَ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ وَإِذَا كَانَ آخِرًا كَانَ هُنَاكَ مَا الرَّبُّ بَعْدَهُ وَإِذَا كَانَ ظَاهِرًا لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ كَانَ هُنَاكَ مَا الرَّبُّ ظَاهِرٌ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ بَاطِنًا لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ كَانَ هُنَاكَ أَشْيَاءُ نَفَى عَنْهَا أَنْ تَكُونَ دُونَهُ.
وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ: مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الْعَلِيُّ عَلَى مَنْ يَكُونُ عَلِيًّا وَمَا ثَمَّ إلَّا هُوَ وَعَنْ مَاذَا يَكُونُ عَلِيًّا وَمَا هُوَ إلَّا هُوَ فَعُلُوُّهُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ؛ فَالْمُسَمَّى مُحْدَثَاتٌ هِيَ الْعَلِيَّةُ هِيَ لِذَاتِهَا وَلَيْسَتْ إلَّا هُوَ. قَالَ الْخَرَّازُ: وَهُوَ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْحَقِّ وَلِسَانٌ مِنْ أَلْسِنَتِهِ يَنْطِقُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يُعْرَفُ بِجَمْعِهِ بَيْنَ الْأَضْدَادِ فَهُوَ عَيْنُ مَا ظَهَرَ وَهُوَ عَيْنُ مَا بَطَنَ فِي حَالِ ظُهُورِهِ؛ وَمَا ثَمَّ مَنْ تَرَاهُ غَيْرُهُ؛ وَمَا ثَمَّ مَنْ يُبْطِنُ عَنْهُ سِوَاهُ فَهُوَ ظَاهِرٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ بَاطِنٌ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ الْمُسَمَّى أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ اهـ. وَ " الْمَعِيَّةُ " لَا تَدُلُّ عَلَى الْمُمَازَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْقُرْبِ " فَإِنَّ عِنْدَ الْحُلُولِيَّةِ أَنَّهُ فِي حَبْلِ الْوَرِيدِ كَمَا هُوَ عِنْدَهُمْ فِي سَائِرِ الْأَعْيَانِ؛ وَكُلُّ هَذَا كُفْرٌ وَجَهْلٌ بِالْقُرْآنِ. (الثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَيَقُولُ: أَنَا أُقِرُّ بِهَذِهِ النُّصُوصِ وَهَذِهِ لَا أَصْرِفُ وَاحِدًا مِنْهَا عَنْ ظَاهِرِهِ؛ وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ ذَكَرَهُمْ الْأَشْعَرِيُّ فِي " الْمَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ " وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ السالمية وَالصُّوفِيَّةِ وَيُشْبِهُ هَذَا مَا فِي كَلَامِ أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَابْنِ برجان وَغَيْرِهِمَا مَعَ مَا فِي كَلَامِ أَكْثَرِهِمْ مِنْ التَّنَاقُضِ. وَلِهَذَا كَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ - الَّذِي صَنَّفَ مَثَالِبَ ابْنِ أَبِي بِشْرٍ وَرَدَّ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ - هُوَ مِنْ السالمية.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: أَنَّ جَمَاعَةً أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي طَالِبٍ بَعْضَ كَلَامِهِ فِي الصِّفَاتِ. وَهَذَا " الصِّنْفُ الثَّالِثُ " وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى التَّمَسُّكِ بِالنُّصُوصِ وَأَبْعَدَ عَنْ مُخَالَفَتِهَا مِنْ الصِّنْفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَتَّبِعْ شَيْئًا مِنْ النُّصُوصِ؛ بَلْ خَالَفَهَا كُلَّهَا. و " الثَّانِي " تَرَكَ النُّصُوصَ الْكَثِيرَةَ الْمَحْكَمَةَ الْمُبَيِّنَة وَتَعَلَّقَ بِنُصُوصِ قَلِيلَةٍ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ مَعَانِيهَا. وَأَمَّا هَذَا الصِّنْفُ فَيَقُولُ: أَنَا اتَّبَعْت النُّصُوصَ كُلَّهَا؛ لَكِنَّهُ غَالَطَ أَيْضًا؛ فَكُلُّ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ؛ وَلِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَلِلْأَدِلَّةِ الْكَثِيرَةِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ أَقْوَالًا مُتَنَاقِضَةً. يَقُولُونَ: إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَيَقُولُونَ: نَصِيبُ الْعَرْشِ مِنْهُ كَنَصِيبِ قَلْبِ الْعَارِفِ؛ كَمَا يَذْكُرُ مِثْلَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَلْبَ الْعَارِفِ نُصِيبُهُ مِنْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْإِيمَانُ؛ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْعَرْشَ كَذَلِكَ نَقَضُوا قَوْلَهُمْ: إنَّهُ نَفْسُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَإِنْ قَالُوا بِحُلُولِهِ بِذَاتِهِ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ؛ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِالْحُلُولِ الْخَاصِّ.
وَقَدْ وَقَعَ طَائِفَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ - حَتَّى صَاحِبُ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " فِي تَوْحِيدِهِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ الْمَنَازِلِ - فِي مِثْلِ هَذَا الْحُلُولِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْقَوْمِ يُحَذِّرُونَ عَنْ مِثْلِ هَذَا. سُئِلَ الْجُنَيْد عَنْ التَّوْحِيدِ. فَقَالَ: هُوَ إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ. فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُوَحِّدِ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْقَدِيمِ الْخَالِقِ وَالْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ فَلَا يَخْلِطُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَالشِّيعَةُ فِي أَئِمَّتِهَا؛ وَكَثِيرٌ مِنْ الْحُلُولِيَّةِ وَالْإِبَاحِيَّةِ يُنْكِرُ عَلَى الْجُنَيْد وَأَمْثَالِهِ مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا قَالُوهُ مِنْ نَفْيِ الْحُلُولِ وَمَا قَالُوهُ فِي إثْبَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَيَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يُكَمِّلُوا مَعْرِفَةَ الْحَقِيقَةِ كَمَا كَمَّلَهَا هُوَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْحُلُولِيَّةِ وَالْإِبَاحِيَّةِ. (الرَّابِعُ هُمْ " سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا " أَئِمَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ شُيُوخِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ؛ فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَآمَنُوا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ؛ أَثْبَتُوا أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ؛ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَهُمْ بَائِنُونَ مِنْهُ. وَهُوَ أَيْضًا مَعَ الْعِبَادِ عُمُومًا بِعِلْمِهِ وَمَعَ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَالْكِفَايَةِ وَهُوَ أَيْضًا قَرِيبٌ مُجِيبٌ؛ فَفِي آيَةِ النَّجْوَى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: {اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ؛
وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ} فَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ فِي سَفَرِهِ وَمَعَ أَهْلِهِ فِي وَطَنِهِ؛ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ مُخْتَلِطَةً بِذَوَاتِهِمْ كَمَا قَالَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أَيْ عَلَى الْإِيمَانِ. لَا أَنَّ ذَاتَه فِي ذَاتِهِمْ؛ بَلْ هُمْ مُصَاحِبُونَ لَهُ. وَقَوْلُهُ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَتِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَمُوَالَاتِهِمْ؛ فَاَللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِعِبَادِهِ وَهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا وَعِلْمُهُ بِهِمْ مِنْ لَوَازِمِ الْمَعِيَّةِ؛ كَمَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ: زَوْجِي طَوِيلُ النِّجَادِ؛ عَظِيمُ الرَّمَادِ؛ قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنْ الناد فَهَذَا كُلُّهُ حَقِيقَةٌ وَمَقْصُودُهَا: أَنْ تَعْرِفَ لَوَازِمَ ذَلِكَ وَهُوَ طُولُ الْقَامَةِ وَالْكَرْمُ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ؛ وَقُرْبُ الْبَيْتِ مِنْ مَوْضِعِ الْأَضْيَافِ. وَفِي الْقُرْآنِ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} فَإِنَّهُ يُرَادُ بِرُؤْيَتِهِ وَسَمْعِهِ إثْبَاتُ عِلْمِهِ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ يَعْلَمُ هَلْ ذَلِكَ خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ؟ فَيُثِيبُ عَلَى الْحَسَنَاتِ وَيُعَاقِبُ عَلَى السَّيِّئَاتِ. وَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخَلْقِ؛ كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} وَقَوْلُهُ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَالْمُرَادُ التَّخْوِيفُ بِتَوَابِعِ السَّيِّئَاتِ وَلَوَازِمِهَا: مِنْ الْعُقُوبَةِ وَالِانْتِقَامِ. وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِمَّا يَصِفُ الرَّبُّ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ؛ تَحْذِيرًا وَتَخْوِيفًا وَرَغْبَةً لِلنُّفُوسِ فِي الْخَيْرِ. وَيَصِفُ نَفْسَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْكِتَابِ فَمَدْلُولُ اللَّفْظِ مُرَادٌ مِنْهُ وَقَدْ أُرِيدَ أَيْضًا لَازِمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى. فَقَدْ أُرِيدَ مَا يَدُلُّ
عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِالْمُطَابَقَةِ وَالِالْتِزَامِ؛ فَلَيْسَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي اللَّازِمِ فَقَطْ بَلْ أُرِيدَ بِهِ مَدْلُولُهُ الْمَلْزُومُ وَذَلِكَ حَقِيقَةً. وَأَمَّا " الْقُرْبُ " فَذَكَرَهُ تَارَةً بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ} وَفِي الْحَدِيثِ: {أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} إلَى أَنْ قَالَ {إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} . وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {نَتْلُوا عَلَيْكَ} و {نَقُصُّ عَلَيْكَ} و {عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} وَ {عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فَالْقِرَاءَةُ هُنَا حِينَ يَسْمَعُهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالْبَيَانُ هُنَا بَيَانُهُ لِمَنْ يَبْلُغُهُ الْقُرْآنُ. وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَخَلَفِهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ الْقُرْآنَ مِنْ جِبْرِيلَ وَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ عز وجل وَأَمَّا قَوْلُهُ: نَتَلُوا وَنَقُصُّ وَنَحْوُهُ؛ فَهَذِهِ الصِّيغَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْوَاحِدِ الْعَظِيمِ؛ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ يُطِيعُونَهُ فَإِذَا فَعَلَ أَعْوَانُهُ فِعْلًا بِأَمْرِهِ قَالَ: نَحْنُ فَعَلْنَا. كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ: نَحْنُ فَتَحْنَا هَذَا الْبَلَدَ. وَهُوَ مِنَّا هَذَا الْجَيْشُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَوَفَّاهَا بِرُسُلِهِ الَّذِينَ مُقَدِّمُهُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ كَمَا قَالَ {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} وَكَذَلِكَ ذَوَاتُ الْمَلَائِكَةِ تَقْرُبُ مِنْ الْمُحْتَضَرِ. وَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} .
فَإِنَّهُ سبحانه وتعالى هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ: يَعْلَمُونَ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُ الْعَبْدِ مِنْ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ وَالْهَمَّ فِي النَّفْسِ قَبْلَ الْعَمَلِ. فَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} هُوَ قُرْبُ ذَوَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَقُرْبُ عِلْمِ اللَّهِ؛ فَذَاتُهُمْ أَقْرَبُ إلَى قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ؛ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ إلَى بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِ الْآيَةِ: {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} فَقَوْلُهُ (إذْ) ظَرْفٌ. فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ حِينَ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ مَا يَقُولُ. فَهَذَا كُلُّهُ خَبَرٌ عَنْ الْمَلَائِكَةِ. وَقَوْلُهُ: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} " وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ " هَذَا إنَّمَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ الْعِبَادِ فِي كُلِّ حَالٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً} فَقُرْبُ الشَّيْءِ مِنْ الشَّيْءِ مُسْتَلْزِمٌ لِقُرْبِ الْآخَرِ مِنْهُ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ قُرْبُ الثَّانِي هُوَ اللَّازِمُ مِنْ قُرْبِ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ مِنْهُ أَيْضًا قُرْبٌ بِنَفْسِهِ. (فَالْأَوَّلُ: كَمَنْ تَقَرَّبَ إلَى مَكَّةَ أَوْ حَائِطِ الْكَعْبَةِ فَكُلَّمَا قَرُبَ مِنْهُ قَرُبَ الْآخَرُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِعْلٌ.
وَالثَّانِي: كَقُرْبِ الْإِنْسَانِ إلَى مَنْ يَتَقَرَّبُ هُوَ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْأَثَرِ " الْإِلَهِيِّ ". فَتَقَرُّبُ الْعَبْدِ إلَى اللَّهِ وَتَقْرِيبُهُ لَهُ نَطَقَتْ بِهِ نُصُوصٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا قُرْبُ الرَّبِّ نَفْسِهِ إلَى عَبِيدِهِ وَهُوَ مِثْلُ نُزُولِهِ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَيُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ} فَهَذَا الْقُرْبُ كُلُّهُ خَاصٌّ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - قَطُّ - قُرْبُ ذَاتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي كُلِّ حَالٍ؛ فَعُلِمَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِ الْحُلُولِيَّةِ؛ فَإِنَّهُمْ عَمَدُوا إلَى الْخَاصِّ الْمُقَيَّدِ فَجَعَلُوهُ عَامًّا مُطْلَقًا؛ كَمَا جَعَلَ إخْوَانُهُمْ الِاتِّحَادِيَّةُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {كُنْت سَمْعَهُ} وَقَوْلِهِ {فَيَأْتِيهِمْ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ} وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ: {سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ} وَكُلُّ هَذِهِ النُّصُوصِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. فَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ؛ فَالدَّاعِي وَالسَّاجِدُ يُوَجِّهُ رُوحَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ وَالرُّوحُ لَهَا عُرُوجٌ يُنَاسِبُهَا. فتقرب إلَى اللَّهِ بِلَا رَيْبٍ بِحَسَبِ تَخَلُّصِهَا مِنْ الشَّوَائِبِ فَيَكُونُ اللَّهُ عز وجل مِنْهَا قَرِيبًا قُرْبًا يَلْزَمُ مِنْ تَقَرُّبِهَا؛ وَيَكُونُ مِنْهُ قُرْبٌ آخَرُ؛ كَقُرْبِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَفِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَإِلَى مَنْ تَقَرَّبَ مِنْهُ شِبْرًا تَقَرَّبَ مِنْهُ ذِرَاعًا. وَالنَّاسُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يَكُونُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ التَّوَجُّهِ وَالتَّقَرُّبِ وَالرِّقَّةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ
ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِنُزُولِهِ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَقَوْلُهُ: {هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ} ؟ . ثُمَّ إنَّ هَذَا النُّزُولَ: هَلْ هُوَ كَدُنُوِّهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ؟ لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِ الْحَاجِّ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ - إذْ لَيْسَ بِهَا وُقُوفٌ مَشْرُوعٌ وَلَا مُبَاهَاةُ الْمَلَائِكَةِ وَكَمَا أَنَّ تَفْتِيحَ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَتَغْلِيقَ أَبْوَابِ النَّارِ وَتَصْفِيدَ الشَّيَاطِينِ إذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ: إنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَصُومُونَ رَمَضَانَ؛ لَا الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ لَهُ حُرْمَةً وَكَذَلِكَ اطِّلَاعُهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَوْلُهُ لَهُمْ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} كَانَ مُخْتَصًّا بِأُولَئِكَ - أَمْ هُوَ عَامٌّ؟ فِيهِ كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْقُرْبِ: مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ فِي نُزُولِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ وَدُنُوِّهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى مِنْ الشَّجَرَةِ وَقَوْلِهِ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا قَالَهُ السَّلَفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ: مِثْلُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَإِسْحَاقِ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمَا؛ مِنْ أَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِمَّنْ يَدَّعِي السُّنَّةَ يَظُنُّ خُلُوَّ الْعَرْشِ مِنْهُ.
وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ منده فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا وَزَيَّفَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَضَعَّفَ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ
فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ وَطَعَنَ فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ. وَقَالَ: إنَّهَا مَكْذُوبَةٌ عَلَى أَحْمَد وَتَكَلَّمَ عَلَى رَاوِيهَا " البردعي أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدٍ ". وَقَالَ: إنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ فِي أَصْحَابِ أَحْمَد. وَطَائِفَةٌ تَقِفُ لَا تَقُولُ: يَخْلُو وَلَا: لَا يَخْلُو وَتُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ. مِنْهُمْ: الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ المقدسي. وَأَمَّا مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ السَّمَوَاتِ تَنْفَرِجُ ثُمَّ تَلْتَحِمُ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ وَإِنْ وَقْعَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الرِّجَالِ. وَالصَّوَابُ: قَوْلُ " السَّلَفِ ": أَنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَرُوحُ الْعَبْدِ فِي بَدَنِهِ لَا تَزَالُ لَيْلًا وَنَهَارًا إلَى أَنْ يَمُوتَ وَوَقْتُ النَّوْمِ تَعْرُجُ وَقَدْ تَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَهِيَ لَمْ تُفَارِقْ جَسَدَهُ. وَكَذَلِكَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ وَرُوحُهُ فِي بَدَنِهِ وَأَحْكَامُ الْأَرْوَاحِ مُخَالِفٌ لِأَحْكَامِ الْأَبْدَانِ فَكَيْفَ بِالْمَلَائِكَةِ فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَاللَّيْلُ يَخْتَلِفُ: فَيَكُونُ ثُلْثُ اللَّيْلِ بِالْمَشْرِقِ قَبْلَ ثُلْثِهِ بِالْمَغْرِبِ وَنُزُولُهُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ إلَى سَمَاءِ هَؤُلَاءِ فِي ثُلُثِ لَيْلِهِمْ وَإِلَى سَمَاءِ هَؤُلَاءِ فِي ثُلُثِ لَيْلِهِمْ. لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ وَكَذَلِكَ سُبْحَانَهُ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ. وَلَا تُغَلِّطُهُ الْمَسَائِلُ؛ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يُكَلِّمُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُحَاسِبُهُمْ لَا يَشْغَلُهُ هَذَا عَنْ هَذَا.
وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلُّهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ قَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُمْ كُلَّهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الدُّنْيَا يَسْمَعُ دُعَاءَ الدَّاعِينَ وَيُجِيبُ السَّائِلِينَ مَعَ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَفُنُونِ الْحَاجَاتِ وَالْوَاحِدُ مِنَّا قَدْ يَكُونُ لَهُ قُوَّةُ سَمْعٍ يَسْمَعُ كَلَامَ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْمُقْرِئِينَ يَسْمَعُ قِرَاءَةً عِدَّةً؛ لَكِنْ لَا يَكُونُ إلَّا عَدَدًا قَلِيلًا قَرِيبًا مِنْهُ وَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ قُرْبًا وَدُنُوًّا وَمَيْلًا إلَى بَعْضِ النَّاسِ الْحَاضِرِينَ وَالْغَائِبِينَ دُونَ بَعْضٍ وَيَجِدُ تَفَاوُتَ ذَلِكَ الدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ. وَ " الرَّبُّ تَعَالَى " وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتِ كُلَّهَا وَعَطَاؤُهُ الْحَاجَاتِ كُلَّهَا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ غَلِطَ فَظَنَّ أَنَّ قُرْبَهُ مَنْ جِنْسِ حَرَكَةِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ: إذَا مَالَ إلَى جِهَةٍ انْصَرَفَ عَنْ الْأُخْرَى وَهُوَ يَجِدُ عَمَلَ رُوحِهِ يُخَالِفُ عَمَلَ بَدَنِهِ؛ فَيَجِدُ نَفْسَهُ تَقْرُبُ مِنْ نُفُوسِ كَثِيرِينَ مِنْ النَّاسِ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْصَرِفَ قُرْبُهَا إلَى هَذَا عَنْ قُرْبِهَا إلَى هَذَا. وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَقُرْبُ الرَّبِّ مِنْ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَقُرْبُ قُلُوبِهِمْ مِنْهُ: أَمْرٌ مَعْرُوفٌ لَا يُجْهَلُ؛ فَإِنَّ الْقُلُوبَ تَصْعَدُ إلَيْهِ عَلَى قَدْرِ مَا فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالذِّكْرِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّوَكُّلِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ؛ بِخِلَافِ الْقُرْبِ
الَّذِي قَبْلَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا يُنْكِرُهُ الجهمي الَّذِي يَقُولُ: لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ يُعْبَدُ وَلَا إلَهٌ يُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ وَهَذَا كُفْرٌ وَفَنَدٌ. وَ " الْأَوَّلُ ": يُنْكِرُهُ الْكُلَّابِيَة وَمَنْ يَقُولُ: لَا تَقُومُ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ بِهِ وَمِنْ أَتْبَاعِ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مَنْ يَجْعَلُ الرِّضَا وَالْغَضَبَ وَالْفَرَحَ وَالْمَحَبَّةَ: هِيَ الْإِرَادَةُ وَتَارَةً يَجْعَلُونَهَا صِفَاتٍ أُخَرَ قَدِيمَةً غَيْرَ الْإِرَادَةِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ: هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَقَرَّ بِاَللَّهِ فَعِنْدَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِحَسَبِ ذَلِكَ ثُمَّ مَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ: لَمْ يَكْفُرْ بِجَحْدِهِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الصَّلَاةِ مُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ اعْتِقَادَاتُهُمْ فِي مَعْبُودِهِمْ وَصِفَاتِهِ؛ إلَّا مَنْ كَانَ مُنَافِقًا يُظْهِرُ الْإِيمَانَ بِلِسَانِهِ وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ بِالرَّسُولِ؛ فَهَذَا لَيْسَ بِمُؤْمِنِ. وَكُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا فَهُوَ مُؤْمِنٌ. لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِحَسَبِ مَا أُوتِيَهُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّنْ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ وَلَوْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا جَمِيعُ الْمُتَنَازِعِينَ فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ عَلَى اخْتِلَافِ عَقَائِدِهِمْ؛ وَلَوْ كَانَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ يَعْرِفُ اللَّهَ كَمَا يَعْرِفُهُ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ تَدْخُلْ أُمَّتُهُ الْجَنَّةَ؛ فَإِنَّهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ؛ بَلْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَتَكُونُ مَنَازِلُهُمْ مُتَفَاضِلَةً بِحَسَبِ إيمَانِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ.
وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ حَصَلَ لَهُ إيمَانٌ يَعْبُدُ اللَّهَ بِهِ وَأُتِيَ آخَرُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ عَجَزَ عَنْهُ الْأَوَّلُ لَمْ يَحْمِلْ مَا لَا يُطِيقُ وَإِنْ يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ فِتْنَةٌ: لَمْ يُحَدِّثْ بِحَدِيثِ يَكُونُ لَهُ فِيهِ فِتْنَةٌ. فَهَذَا " أَصْلٌ عَظِيمٌ " فِي تَعْلِيمِ النَّاسِ وَمُخَاطَبَتِهِمْ وَالْخِطَابُ الْعَامُّ بِالنُّصُوصِ الَّتِي اشْتَرَكُوا فِي سَمَاعِهَا؛ كَالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله أَيْضًا -:
عَنْ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ مَخْلُوقَاتِهِ؟ .
فَأَجَابَ:
أَمَّا " عُلُوُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَائِرِ مَخْلُوقَاتِهِ " وَأَنَّهُ كَامِلُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى: فَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْهَا " الْكِتَابُ " قَوْله تَعَالَى {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَقَوْلُهُ: {إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ} وَقَوْلُهُ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} ؟ وَقَوْلُهُ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} وَقَوْلُهُ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} وَقَوْلُهُ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ} وَقَوْلُهُ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} . وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ؛ وَقَوْلُهُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَوْلُهُ إخْبَارًا عَنْ فِرْعَوْنَ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى} وَقَوْلُهُ: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وَقَوْلُهُ: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ " السُّنَّةِ " قِصَّةُ مِعْرَاجِ الرَّسُولِ إلَى رَبِّهِ وَنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَصُعُودِهَا إلَيْهِ وَقَوْلُهُ: فِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَتَعَاقَبُونَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: {فَيَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ إلَى رَبِّهِمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ} . وَفِي حَدِيثِ الْخَوَارِجِ: {أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وَفِي حَدِيثِ الرُّقْيَةِ: {رَبُّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُك} وَفِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ: {وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} وَفِي حَدِيثِ قَبْضِ الرُّوحِ {حَتَّى يَعْرُجَ بِهَا إلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ} . وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُد " عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: {أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَهَدَتْ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَهَلَكَ الْمَالُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك؛ فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ وَقَالَ: وَيْحَك أَتَدْرِي مَا اللَّهُ؟ إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ وَإِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ كَهَكَذَا وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَطَبَ خُطْبَةً عَظِيمَةً يَوْمَ عَرَفَاتٍ فِي أَعْظَمِ جَمْعٍ حَضَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَقُولُ: أَلَا هَلْ بَلَّغْت؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَرْفَعُ إصْبَعَهُ إلَى السَّمَاءِ
وَيَنْكُبُهَا إلَيْهِمْ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ غَيْرَ مَرَّةٍ} . وَحَدِيثُ {الْجَارِيَةِ لَمَّا سَأَلَهَا: أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. فَأَمَرَ بِعِتْقِهَا وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِإِيمَانِهَا} . وَأَمْثَالُهُ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ " الْإِجْمَاعِ " فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ زَيْنَبُ تَفْتَخِرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتِهِ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: بِمَ نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ: بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة: إنَّهُ هَاهُنَا فِي الْأَرْضِ.
وَبِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ - الْإِمَامِ - سَمِعْت حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ - وَذَكَرَ الْجَهْمِيَّة - فَقَالَ: إنَّمَا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَقُولُوا: لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ الضبعي - إمَامِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عِلْمًا وَدِينًا - أَنَّهُ ذَكَرَ عِنْدَهُ الْجَهْمِيَّة فَقَالَ: هُمْ شَرٌّ قَوْلًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَدْ اجْتَمَعَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ وَقَالُوا هُمْ: لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ شَيْءٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة - إمَامُ الْأَئِمَّةِ -: مَنْ لَمْ يَقُلْ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مَنْ خَلْقِهِ وَجَبَ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِهِ أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَلَا أَهْلُ الذِّمَّةِ.
وَرَوَى " الْإِمَامُ أَحْمَد " قَالَ: أنا شريح بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعٍ الصَّائِغَ قَالَ: سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ لَا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ. وَحَكَى الأوزاعي - أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي عَصْرِ تَابِعِيِّ التَّابِعِينَ الَّذِينَ هُمْ مَالِكٌ إمَامُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْأَوْزَاعِي إمَامُ أَهْلِ الشَّامِ وَاللَّيْثُ إمَامُ أَهْلِ مصر وَالثَّوْرِيُّ إمَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ؛ حَكَى - شُهْرَةَ الْقَوْلِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ بِالْإِيمَانِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ وَبِصِفَاتِهِ السَّمْعِيَّةِ وَإِنَّمَا قَالَهُ بَعْدَ ظُهُورِ جَهْمٍ الْمُنْكِرُ لِكَوْنِ اللَّهِ فَوْقَ عَرْشِهِ النَّافِي لِصِفَاتِهِ لِيَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ خِلَافُهُ. وَرَوَى الْخَلَّالُ بِأَسَانِيدَ - كُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ - عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة قَالَ: سُئِلَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ قَالَ الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَمِنْ اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَمِنْ الرَّسُولِ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ: عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ تِلْمِيذِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَوْ نَحْوِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: خِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ حَقٌّ قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سَمَائِهِ وَجَمَعَ عَلَيْهِ قُلُوبَ عِبَادِهِ. وَلَوْ يُجْمَعُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ لَكَانَ فِيهِ كِفَايَةٌ؛ وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ الْمَكِّيُّ لَهُ كِتَابُ: " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة " وَقَرَّرَ فِيهِ "
" مَسْأَلَةَ الْعُلُوِّ " وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ عَرْشِهِ. وَالْأَئِمَّةُ فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ وَالتَّصَوُّفِ الْمَائِلُونَ إلَى الشَّافِعِيِّ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا لَهُ كَلَامٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ يَطُولُ ذِكْرُهُ. وَفِي كِتَابِ: " الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ " الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَرْوُونَهُ بِأَسَانِيدَ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ " الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ " قَالَ: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ " الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ " فَقَالَ: لَا تُكَفِّرَنَّ أَحَدًا بِذَنْبِ؛ إلَى أَنْ قَالَ: عَمَّنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ فَقَدْ كَفَرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ - قُلْت: فَإِنْ قَالَ: إنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَلَكِنْ لَا أَدْرِي الْعَرْشَ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: هُوَ كَافِرٌ - وَإِنَّهُ يَدَّعِي مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلَ. وَسُئِلَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْ قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} الْآيَةَ؟ قَالَ: اقْرَأْ مَا قَبْلَهُ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ: هُوَ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا وَصَفَ فِي كِتَابِهِ وَعِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَأَبُو يُوسُفَ لَمَّا بَلَغَهُ عَنْ المريسي أَنَّهُ يُنْكِرُ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ؛ أَرَادَ ضَرْبَهُ فَهَرَبَ؛ فَضَرَبَ رَفِيقَهُ ضَرْبًا بَشِعًا وَعَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا لَا يُحْصَى.
وَنُقِلَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ نَصَّ عَلَى اسْتِتَابَةِ الدُّعَاةِ إلَى " مَذْهَبِ جَهْمٍ " وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ. وَمِنْ أَصْحَابِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زمنين الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ قَالَ: فِي الْكِتَابِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي " أُصُولِ السُّنَّةِ ".
بَابُ الْإِيمَانِ بِالْعَرْشِ
قَالَ: وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ وَخَصَّهُ بِالْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ فَوْقَ جَمِيعِ مَا خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيْهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} إلَى أَنْ قَالَ: فَسُبْحَانَ مَنْ بَعُدَ فَلَا يُرِي وَقَرُبَ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَأَمَّا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابُهُ فَهُمْ أَشْهَرُ فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَبِهِ ائْتَمَّ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ الْمُتَكَلِّمُ - صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ - قَالَ:
فَصْلٌ فِي إبَانَةِ قَوْلِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ؛ وَالْقَدَرِيَّةِ؛ وَالْجَهْمِيَّة؛ والحرورية وَالرَّافِضَةِ؛ وَالْمُرْجِئَةِ فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمْ الَّذِي تَقُولُونَ وَدِيَانَتَكُمْ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ قِيل لَهُ: قَوْلُنَا الَّذِي نَقُولُ بِهِ وَدِيَانَتُنَا الَّتِي بِهَا نَدِينُ اللَّهَ: التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. وَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ. وَبِمَا كَانَ يَقُولُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ - نَضَّرَ اللَّهُ وَجَّهَهُ وَرَفَعَ دَرَجَتَهُ وَأَجْزَلَ مَثُوبَتَهُ - قَائِلُونَ وَلِمَا خَالَفَ قَوْلَهُ مُخَالِفُونَ؛ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ
الْفَاضِلُ وَالرَّئِيسُ الْكَامِلُ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ عِنْدَ ظُهُورِ الضَّلَالِ وَأَوْضَحَ بِهِ الْمِنْهَاجَ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِينَ؛ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ إمَامٍ مُقَدَّمٍ؛ وَجَلِيلٍ مُعَظَّمٍ وَكَبِيرٍ مُفْهِمٍ. وَجُمْلَةُ قَوْلِنَا: بِأَنَّا نُقِرُّ بِاَللَّهِ؛ وَمَلَائِكَتِهِ؛ وَكُتُبِهِ؛ وَرُسُلِهِ؛ وَبِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ وَبِمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا نَرُدُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَرْدٌ صَمَدٌ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَأَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَنَعُودُ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ إلَى كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ إلَى أَنْ قَالَ: (بَابُ ذِكْرِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ إلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا تَقُولُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
فَصْلٌ:
وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة والحرورية: إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أَنَّهُ اسْتَوْلَى وَمَلَكَ وَقَهَرَ وَأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ وَذَهَبُوا بِالِاسْتِوَاءِ إلَى الْقُدْرَةِ؛ فَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا ذَكَرُوا كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرْشِ وَالْأَرْضِ السَّابِعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. إلَى أَنْ قَالَ - وَأَكْثَرُوا فِي هَذَا - وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ جَمِيعُهُمْ مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ: وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صِفَةِ الرَّبِّ عز وجل مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ وَلَا وَصْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ فَمَنْ فَسَّرَ الْيَوْمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوا وَلَمْ يُفَسِّرُوا؛ وَلَكِنْ أَقَرُّوا بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ سَكَتُوا؛ فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فَقَدْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ؛ فَإِنَّهُ وَصَفَهُ بِصِفَةِ لَا شَيْءٍ.
فَصْلٌ:
وَالْمُبْطِلُ لِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ لَمْ يُفَسِّرْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يُفَسِّرْهُ أَحَدٌ فِي الْكُتُبِ الصَّحِيحَةِ عَنْهُمْ بَلْ أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: بَعْضُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ؛ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ " الْمَقَالَاتِ " وَكِتَابِ " الْإِبَانَةِ ".
الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَشْهُورٌ؛ وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قَالَا: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. وَلَا يُرِيدُ أَنَّ: الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ فِي اللُّغَةِ دُونَ الْآيَةِ - لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الِاسْتِوَاءِ فِي الْآيَةِ كَمَا يَسْتَوِي النَّاسُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْلُومًا فِي اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ كَانَ مَعْلُومًا فِي الْقُرْآنِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ فِي الْآيَةِ مَعْلُومًا لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَقُولَ: الْكَيْفُ مَجْهُولٌ لِأَنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ بِالْكَيْفِ لَا يَنْفِي إلَّا مَا قَدْ عُلِمَ أَصْلُهُ كَمَا نَقُولُ إنَّا نُقِرُّ بِاَللَّهِ وَنُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ.
الْخَامِسُ: الِاسْتِيلَاءُ سَوَاءٌ كَانَ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ أَوْ الْقَهْرِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ هُوَ عَامٌّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كَالرُّبُوبِيَّةِ وَالْعَرْشِ وَإِنْ كَانَ أَعْظَمَ الْمَخْلُوقَاتِ وَنِسْبَةُ الرُّبُوبِيَّةِ إلَيْهِ لَا تَنْفِي نِسْبَتَهَا إلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وَكَمَا فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ؛ فَلَوْ كَانَ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى - كَمَا هُوَ عَامٌّ فِي الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا - لَجَازَ مَعَ إضَافَتِهِ إلَى الْعَرْشِ أَنْ يُقَالَ: اسْتَوَى عَلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْهَوَى وَالْبِحَارِ وَالْأَرْضِ وَعَلَيْهَا وَدُونَهَا وَنَحْوِهَا؛ إذْ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ. فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ: اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَلَا يُقَالُ: اسْتَوَى عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَعَ أَنَّهُ يُقَالُ اسْتَوْلَى عَلَى الْعَرْشِ وَالْأَشْيَاءِ عُلِمَ أَنَّ مَعْنَى اسْتَوَى خَاصٌّ بِالْعَرْشِ لَيْسَ عَامًّا كَعُمُومِ الْأَشْيَاءِ.
السَّادِسُ؛ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَأَخْبَرَ أَنَّ عَرْشَهُ كَانَ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ خَلْقِهَا وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ {كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} مَعَ أَنَّ الْعَرْشَ كَانَ مَخْلُوقًا قَبْلَ ذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا زَالَ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ
قَبْلُ وَبَعْدُ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِيلَاءُ الْعَامُّ هَذَا الِاسْتِيلَاءَ الْخَاصَّ بِزَمَانِ كَمَا كَانَ مُخْتَصًّا بِالْعَرْشِ. (السَّابِعُ: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنْ لَفَظَ اسْتَوَى فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى؛ إذْ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ عُمْدَتُهُمْ الْبَيْتُ الْمَشْهُورُ:
ثُمَّ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ
…
مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ
وَلَمْ يَثْبُتْ نَقْلٌ صَحِيحٌ أَنَّهُ شِعْرٌ عَرَبِيٌّ وَكَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ أَنْكَرُوهُ وَقَالُوا: إنَّهُ بَيْتٌ مَصْنُوعٌ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ احْتَجَّ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَاحْتَاجَ إلَى صِحَّتِهِ فَكَيْفَ بِبَيْتِ مِنْ الشِّعْرِ لَا يُعْرَفُ إسْنَادُهُ وَقَدْ طَعَنَ فِيهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ؛ وَذَكَرَ عَنْ الْخَلِيلِ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ فِي كِتَابِهِ " الْإِفْصَاحِ " قَالَ: سُئِلَ الْخَلِيلُ هَلْ وَجَدْت فِي اللُّغَةِ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى؟ فَقَالَ: هَذَا مَا لَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ؛ وَلَا هُوَ جَائِزٌ فِي لُغَتِهَا وَهُوَ إمَامٌ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ حَالِهِ فَحِينَئِذٍ حَمْلُهُ عَلَى مَا لَا يُعْرَفُ حَمْلٌ بَاطِلٌ.
الثَّامِنُ: أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى إلَّا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ عَاجِزًا ثُمَّ ظَهَرَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وَالْعَرْشُ لَا يُغَالِبُهُ فِي حَالٍ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى. فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَقَوْلُ الشَّاعِرِ: ثُمَّ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ
لَفْظٌ مَجَازِيٌّ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى إرَادَتِهِ وَاللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخِطَابِ قَرِينَةٌ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْآيَةِ الِاسْتِيلَاءَ. " وَأَيْضًا " فَأَهْلُ اللُّغَةِ قَالُوا: لَا يَكُونُ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى إلَّا فِيمَا كَانَ مُنَازِعًا مُغَالِبًا فَإِذَا غَلَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ قِيلَ: اسْتَوْلَى؛ وَاَللَّهُ لَمْ يُنَازِعْهُ أَحَدٌ فِي الْعَرْشِ فَلَوْ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْأَخَصِّ مَعَ النِّزَاعِ فِي إرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَعَمِّ لَمْ يَجِبْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ مَعَ تَنَازُعِهِمْ فِيهِ وَهَؤُلَاءِ ادَّعَوْا أَنَّهُ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى فِي اللُّغَةِ مُطْلَقًا وَالِاسْتِوَاءُ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِثْلُ قَوْلِهِ: {اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} وَفِي حَدِيثِ عَدِيٍّ: {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى بِدَابَّتِهِ فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ. فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ} . (التَّاسِعُ: أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ وَلَوْ كَانَ مِنْ لَفْظِ بَعْضِ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ مِنْ لُغَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُ؛ وَلَوْ كَانَ مِنْ لُغَتِهِ لَكَانَ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَعْنًى آخَرَ. (الْعَاشِرُ: أَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَأَدَّى إلَى مَحْذُورٍ يَجِبُ تَنْزِيهُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ
عَنْهُ؛ فَضْلًا عَنْ الصَّحَابَةِ؛ فَضْلًا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَلَامًا نَفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى وَيُرِيدُونَ بِهِ آخَرَ لَكَانَ فِي ذَلِكَ تَدْلِيسٌ وَتَلْبِيسٌ وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُ هَذَا الشَّاعِرِ هَذَا اللَّفْظَ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ حَقِيقَةً بِالِاتِّفَاقِ؛ بَلْ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِيهِ لَلَزِمَ الِاشْتِرَاكُ الْمَجَازِيُّ فِيهِ وَإِذَا كَانَ مَجَازًا عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَوْ مَجَازًا اخْتَرَعَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَفَتُتْرَكُ اللُّغَةُ الَّتِي يُخَاطِبُ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ. (الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ - الَّذِي تَكَرَّرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالدَّوَاعِي مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى فَهْمِ مَعْنَاهُ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ عَادَةً وَدِينًا - إنْ جَعَلَ الطَّرِيقَ إلَى فَهْمِهِ بَيْتَ شِعْرٍ أَحْدَثَ فَيُؤَدِّي إلَى مَحْذُورٍ؛ فَلَوْ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى هَذَا الْبَيْتِ لَلَزِمَ تَخْطِئَةُ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ لَهُمْ مُصَنَّفَاتٌ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ؛ وَلَكَانَ يُؤَدِّي إلَى الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ وَلَلَزِمَ أَنَّ اللَّهَ امْتَحَنَ عِبَادَهُ بِفَهْمِ هَذَا دُونَ هَذَا مَعَ مَا تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِهِمْ وَمَا وَرَدَ بِهِ نَصُّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ. (الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ مَعْلُومٌ عِلْمًا ظَاهِرًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ فَيَكُونُ التَّفْسِيرُ الْمُحْدَثُ بَعْدَهُ بَاطِلًا قَطْعًا وَهَذَا قَوْلُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ الواسطي؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّ مَنْ قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
خِلَافَ مَا تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جهمي. وَمِنْهُ قَوْلُ مَالِكٍ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْقُرْآنِ مَعْلُومٌ كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: اسْتَوَى أَمْ لَا؟ أَوْ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْكَيْفِيَّةِ وَمَالِكٌ جَعَلَهَا مَعْلُومَةً. وَالسُّؤَالُ عَنْ النُّزُولِ وَلَفْظُ الِاسْتِوَاءِ لَيْسَ بِدْعَةً وَلَا الْكَلَامِ فِيهِ؛ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَإِنَّمَا الْبِدْعَةُ السُّؤَالُ عَنْ الْكَيْفِيَّةِ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَزْدَادَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ نُورًا فَلْيَنْظُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْهَيْئَةِ وَهِيَ الْإِحَاطَةُ وَالْكُرَوِيَّةُ وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْإِحَاطَةِ لِيُعْلَمَ ذَلِكَ.
فَصْلٌ:
اعْلَمْ أَنَّ " الْأَرْضَ " قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا كُرَوِيَّةُ الشَّكْلِ وَهِيَ فِي الْمَاءِ الْمُحِيطِ بِأَكْثَرِهَا؛ إذْ الْيَابِسُ السُّدُسُ وَزِيَادَةٌ بِقَلِيلِ وَالْمَاءُ أَيْضًا مُقَبَّبٌ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِلْأَرْضِ وَالْمَاءُ الَّذِي فَوْقَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا مِمَّا يَلِي رُءُوسَنَا وَلَيْسَ تَحْتَ وَجْهِ الْأَرْضِ إلَّا وَسَطُهَا وَنِهَايَةُ التَّحْتِ الْمَرْكَزُ؛ فَلَا يَكُونُ لَنَا جِهَةٌ بَيِّنَةٌ إلَّا جِهَتَانِ: الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الْجِهَاتُ بِاخْتِلَافِ الْإِنْسَانِ. فَعُلُوُّ الْأَرْضِ وَجْهُهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَأَسْفَلُهَا مَا تَحْتَ وَجْهِهَا - وَنِهَايَةُ الْمَرْكَزِ - هُوَ الَّذِي يُسَمَّى مَحَطَّ الْأَثْقَالِ فَمِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ وَالْمَاءُ مِنْ كُلِّ وُجْهَةٍ إلَى الْمَرْكَزِ يَكُونُ هُبُوطًا وَمِنْهُ إلَى وَجْهِهَا صُعُودًا وَإِذَا كَانَتْ سَمَاءُ الدُّنْيَا فَوْقَ الْأَرْضِ مُحِيطَةٌ بِهَا فَالثَّانِيَةُ كُرَوِيَّةٌ وَكَذَا الْبَاقِي. وَالْكُرْسِيُّ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ كُلِّهَا وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْكُرْسِيِّ وَنِسْبَةُ الْأَفْلَاكِ وَمَا فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةِ فِي فَلَاةٍ وَالْجُمْلَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَرْشِ كَحَلْقَةِ فِي فَلَاةٍ. وَالْأَفْلَاكُ مُسْتَدِيرَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ " الْفُلْكِ " يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي فَلْكَةٍ كَفَلْكَةِ الْمِغْزَلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَفَلَّكَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إذَا اسْتَدَارَ. وَأَهْلُ الْهَيْئَةِ وَالْحِسَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا " الْعَرْشُ " فَإِنَّهُ مُقَبَّبٌ؛ لِمَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ؛ {أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَهَدَتْ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ وَإِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ كَهَكَذَا} وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ. وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ فَلَكٌ مُسْتَدِيرٌ مُطْلَقًا بَلْ ثَبَتَ أَنَّهُ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ وَأَنَّ لَهُ قَوَائِمَ: كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: {جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِك لَطَمَ وَجْهِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اُدْعُوهُ فَدَعَوْهُ. فَقَالَ: لِمَ لَطَمْت وَجْهَهُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي مَرَرْت بِالسُّوقِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاَلَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ. فَقُلْت: يَا خَبِيثُ وَعَلَى مُحَمَّدٍ فَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْته. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ} . وَفِي " عُلُوِّهِ " قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم {إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ} -. فَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَسَقْفُهَا وَأَنَّهُ مُقَبَّبٌ وَأَنَّ لَهُ
قَوَائِمَ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ فَوْقُ سَوَاءٌ كَانَ مُحِيطًا بِالْأَفْلَاكِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَالِقِ سبحانه وتعالى فِي غَايَةِ الصِّغَرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الْآيَةَ.
قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ فِي إثْبَاتِ عُلُوِّهِ تَعَالَى:
وَهُوَ وَاجِبٌ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَالْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الصَّحِيحَةِ. وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ ثُمَّ خَلَقَ الْعَالَمَ؛ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ خَلْقُهُ فِي نَفْسِهِ وَانْفَصَلَ عَنْهُ وَهَذَا مُحَالٌ: تَعَالَى اللَّهُ عَنْ مُمَاسَّةِ الْأَقْذَارِ وَغَيْرِهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَلْقُهُ خَارِجًا عَنْهُ ثُمَّ دَخَلَ فِيهِ وَهَذَا مُحَالٌ أَيْضًا تَعَالَى أَنْ يَحِلَّ فِي خَلْقِهِ - وَهَاتَانِ لَا نِزَاعَ فِيهِمَا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ - وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَلْقُهُ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَلَمْ يَحِلَّ فِيهِ فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ وَلَا يَلِيقُ بِاَللَّهِ إلَّا هُوَ. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ لِلْإِمَامِ أَحْمَد مِنْ حُجَجِهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة فِي زَمَنِ الْمِحْنَةِ. وَذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي " الْمَقَالَاتِ " مَقَالَةَ مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ الَّذِي ائْتَمَّ بِهِ الْأَشْعَرِيُّ: أَنَّهُ يَعْرِفُ بِالْعَقْلِ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَالِاسْتِوَاءَ بِالسَّمْعِ وَبِأَخْبَارِ الرُّسُلِ الَّذِينَ بُعِثُوا بِتَكْمِيلِ الْفِطَرِ وَلَا تَبْدِيلَ لِفِطْرَةِ اللَّهِ وَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِهَا خِلَافًا لِأَهْلِ الضَّلَالِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ قَلَبُوا الْحَقَائِقَ. اهـ.
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فَرِيدُ الزَّمَانِ بَحْرُ الْعُلُومِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة رحمه الله:
عَنْ رَجُلَيْنِ تَبَاحَثَا فِي " مَسْأَلَةِ الْإِثْبَاتِ لِلصِّفَاتِ وَالْجَزْمِ بِإِثْبَاتِ الْعُلُوِّ عَلَى الْعَرْشِ ".
فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مَعْرِفَةُ هَذَا وَلَا الْبَحْثُ عَنْهُ؛ بَلْ يُكْرَهُ لَهُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ لِلسَّائِلِ: وَمَا أَرَاك إلَّا رَجُلُ سُوءٍ. وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ وَيَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ فِي مُلْكِهِ وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ وَمَلِيكُهُ؛ بَلْ وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا فَهُوَ مُجَسِّمٌ حَشْوِيٌّ. فَهَلْ هَذَا الْقَائِلُ لِهَذَا الْكَلَامِ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ؟ فَإِذَا كَانَ مُخْطِئًا فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَعْتَقِدُوا إثْبَاتَ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ عَلَى الْعَرْشِ - الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ - وَيَعْرِفُوهُ؟ وَمَا مَعْنَى التَّجْسِيمِ وَالْحَشْوِ؟ . أَفْتُونَا وَابْسُطُوا الْقَوْلَ بَسْطًا شَافِيًا يُزِيلُ الشُّبُهَاتِ فِي هَذَا مُثَابِينَ مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ أَوْ السُّنَّةُ الْمَعْلُومَةُ وَجَبَ عَلَى الْخَلْقِ الْإِقْرَارُ بِهِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا عِنْدَ الْعِلْمِ بِالتَّفْصِيلِ؛ فَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَمَنْ شَهِدَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ شَهِدَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ هَذَا حَقِيقَةُ الشَّهَادَةِ بِالرِّسَالَةِ؛ إذْ الْكَاذِبُ لَيْسَ بِرَسُولِ فِيمَا يُكَذِّبُهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} . وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ؛ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْرِيرِهِ هُنَا؛ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . وَمِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ: رِضَاهُ عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ؛ وَعَمَّنْ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} . وَمِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ: إخْبَارُهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ الدِّينَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} . وَمِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ أَمْرُ اللَّهِ لَهُ بِالْبَلَاغِ الْمُبِينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ كَمَا أُمِرَ وَلَمْ يَكْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا؛ فَإِنَّ كِتْمَانَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ إلَيْهِ يُنَاقِضُ مُوجِبَ الرِّسَالَةِ؛ كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ يُنَاقِضُ مُوجِبَ الرِّسَالَةِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ الْكِتْمَانِ لِشَيْءِ مِنْ الرِّسَالَةِ كَمَا أَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ الْكَذِبِ فِيهَا. وَالْأُمَّةُ تَشْهَدُ لَهُ بِأَنَّهُ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَبَيَّنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ الدِّينَ؛ وَإِنَّمَا
كَمُلَ بِمَا بَلَّغَهُ؛ إذْ الدِّينُ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِتَبْلِيغِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ بَلَّغَ جَمِيعَ الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم {تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ} . وَقَالَ: {مَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ وَمَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُبْعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ} . وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إلَّا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَقَدْ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى: مِنْ " أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ " مِمَّا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَفِي السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ الَّذِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ تَلَقَّوْا عَنْهُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَكَانُوا يَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي: لَقَدْ {حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ كَعُثْمَانِ بْنِ عفان وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا} . وَقَدْ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - وَهُوَ مِنْ أَصَاغِرِ الصَّحَابَةِ - فِي تَعَلُّمِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَجْلِ الْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا أَنَّ الْعَادَةَ الْمُطَّرِدَةَ الَّتِي جَبَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا بَنِي آدَمَ تُوجِبُ اعْتِنَاءَهُمْ بِالْقُرْآنِ - الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِمْ - لَفْظًا وَمَعْنًى؛ بَلْ أَنْ يَكُونَ اعْتِنَاؤُهُمْ بِالْمَعْنَى أَوْكَدَ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ مَنْ قَرَأَ كِتَابًا فِي الطِّبِّ أَوْ الْحِسَابِ أَوْ النَّحْوِ أَوْ الْفِقْهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ رَاغِبًا فِي فَهْمِهِ وَتَصَوُّرِ مَعَانِيهِ فَكَيْفَ بِمَنْ قَرَءُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَ إلَيْهِمْ الَّذِي بِهِ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَبِهِ عَرَّفَهُمْ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ وَالْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالْهُدَى وَالضَّلَالَ وَالرَّشَادَ وَالْغَيَّ. فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ رَغْبَتَهُمْ فِي فَهْمِهِ وَتَصَوُّرِ مَعَانِيهِ أَعْظَمُ الرَّغَبَاتِ؛ بَلْ إذَا سَمِعَ الْمُتَعَلِّمُ مِنْ الْعَالِمِ حَدِيثًا فَإِنَّهُ يَرْغَبُ فِي فَهْمِهِ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ؛ بَلْ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ رَغْبَةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي تَعْرِيفِهِمْ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْ رَغْبَتِهِ فِي تَعْرِيفِهِمْ حُرُوفَهُ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْحُرُوفِ بِدُونِ الْمَعَانِي لَا تُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ إذَا اللَّفْظُ إنَّمَا يُرَادُ لِلْمَعْنَى. (الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قَدْ حَضَّهُمْ عَلَى تَدَبُّرِهِ وَتَعَقُّلِهِ وَاتِّبَاعِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . فَإِذَا كَانَ قَدْ حَضَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ عَلَى تَدَبُّرِهِ: عُلِمَ أَنَّ مَعَانِيَهُ مِمَّا يُمْكِنُ
الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ فَهْمُهَا وَمَعْرِفَتُهَا فَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مُمْكِنًا لِلْمُؤْمِنِينَ؛ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعَانِيَهُ كَانَتْ مَعْرُوفَةً بَيِّنَةً لَهُمْ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ عَرَبِيًّا لِأَنْ يَعْقِلُوا وَالْعَقْلُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِمَعَانِيهِ. (الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّهُ ذَمَّ مَنْ لَا يَفْهَمُهُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} فَلَوْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لَا يَفْقَهُونَهُ أَيْضًا لَكَانُوا مُشَارِكِينَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِيمَا ذَمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ. (الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنَّهُ ذَمَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ حَظُّهُ مِنْ السَّمَاعِ إلَّا سَمَاعَ الصَّوْتِ دُونَ فَهْمِ الْمَعْنَى وَاتِّبَاعِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ سَمِعُوا صَوْتَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَفْهَمُوا وَقَالُوا: مَاذَا قَالَ آنِفًا؟ أَيْ السَّاعَةَ وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَفْقَهْ قَوْلَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} . فَمَنْ جَعَلَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ غَيْرَ عَالِمِينَ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ جَعَلَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِيمَا ذَمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم فَسَّرُوا لِلتَّابِعِينَ الْقُرْآنَ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ أَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا. وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَأَتَيْته وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ نُقِلَ عَنْهُ مِنْ التَّفْسِيرِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ. وَالنُّقُولُ بِذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ثَابِتَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا؛ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ عَنْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ.
فَيُقَالُ: الِاخْتِلَافُ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ؛ بَلْ وَعَنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ وُجُوهٍ: - (أَحَدُهَا أَنْ يُعَبِّرَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَنْ مَعْنَى الِاسْمِ بِعِبَارَةِ غَيْرِ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ فَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ وَكُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْآخَرُ مَعَ أَنَّ كِلَاهُمَا حَقٌّ؛ بِمَنْزِلَةِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَتَسْمِيَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِأَسْمَائِهِ وَتَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ بِأَسْمَائِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . فَإِذَا قِيلَ: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ فَهِيَ كُلُّهَا أَسْمَاءٌ لِمُسَمَّى وَاحِدٍ سبحانه وتعالى وَإِنْ كَانَ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى نَعْتٍ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْآخَرُ. وَمِثَالُ " هَذَا التَّفْسِيرِ " كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فَهَذَا يَقُولُ: هُوَ الْإِسْلَامُ وَهَذَا يَقُولُ هُوَ الْقُرْآنُ أَيْ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ وَهَذَا يَقُولُ: السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ وَهَذَا يَقُولُ: طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ وَهَذَا يَقُولُ: طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّرَاطَ يُوصَفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كُلِّهَا وَيُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ كُلِّهَا وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دَلَّ الْمُخَاطَبَ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ الصِّرَاطُ وَيَنْتَفِعُ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ النَّعْتِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَذْكُرَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَنْ تَفْسِيرِ " الِاسْمِ " بَعْضَ أَنْوَاعِهِ أَوْ أَعْيَانِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِلْمُخَاطَبِ؛ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ وَالْإِحَاطَةِ كَمَا لَوْ سَأَلَ أَعْجَمِيٌّ عَنْ مَعْنَى لَفْظِ " الْخُبْزِ " فَأُرَى رَغِيفًا وَقِيلَ هَذَا هُوَ فَذَاكَ مِثَالٌ لِلْخُبْزِ وَإِشَارَةٌ إلَى جِنْسِهِ؛ لَا إلَى ذَلِكَ الرَّغِيفِ خَاصَّةً. وَمِنْ هَذَا مَا جَاءَ عَنْهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} . فَالْقَوْلُ الْجَامِعُ أَنَّ " الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ " هُوَ الْمُفَرِّطُ بِتَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ وَ " الْمُقْتَصِدُ ": الْقَائِمُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَ " السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ ": بِمَنْزِلَةِ الْمُقَرَّبِ الَّذِي يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ حَتَّى يُحِبَّهُ الْحَقُّ. ثُمَّ إنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَذْكُرُ نَوْعًا مِنْ هَذَا. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: " الظَّالِمُ " الْمُؤَخِّرُ لِلصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا وَ " الْمُقْتَصِدُ " الْمُصَلِّي لَهَا فِي وَقْتِهَا وَ " السَّابِقُ " الْمُصَلِّي لَهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا حَيْثُ يَكُونُ التَّقْدِيمُ أَفْضَلَ. وَقَالَ آخَرُ: " الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ " هُوَ الْبَخِيلُ الَّذِي لَا يَصِلُ رَحِمَهُ وَلَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ وَ " الْمُقْتَصِدُ " الْقَائِمُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَقِرَى الضَّيْفِ وَالْإِعْطَاءِ فِي النَّائِبَةِ وَ " السَّابِقُ " الْفَاعِلُ الْمُسْتَحَبَّ بَعْدَ الْوَاجِبِ كَمَا
فَعَلَ الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ حِينَ جَاءَ بِمَالِهِ كُلِّهِ؛ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ هَذَا يَأْخُذُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا. وَقَالَ آخَرُ: " الظَّالِمُ لِنَفَسِهِ " الَّذِي يَصُومُ عَنْ الطَّعَامِ لَا عَنْ الْآثَامِ وَ " الْمُقْتَصِدُ " الَّذِي يَصُومُ عَنْ الطَّعَامِ وَالْآثَامِ وَ " السَّابِقُ " الَّذِي يَصُومُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى - وَأَمْثَالُ ذَلِكَ - لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَنَافِيَةً بَلْ كُلٌّ ذَكَرَ نَوْعًا مِمَّا تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَذْكُرَ أَحَدُهُمْ لِنُزُولِ الْآيَةِ " سَبَبًا " وَيَذْكُرَ الْآخَرُ " سَبَبًا " آخَرَ - لَا يُنَافِي الْأَوَّلَ - وَمِنْ الْمُمْكِنِ نُزُولُهَا لِأَجْلِ السَّبَبَيْنِ جَمِيعًا أَوْ نُزُولُهَا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً لِهَذَا وَمَرَّةً لِهَذَا. وَأَمَّا مَا صَحَّ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ: اخْتَلَفُوا فِيهِ " اخْتِلَافَ تَنَاقُضٍ " فَهَذَا قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ كَمَا أَنَّ تَنَازُعَهُمْ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ السُّنَّةِ - كَبَعْضِ مَسَائِلِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْفَرَائِضِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ هَذِهِ السُّنَنِ مَأْخُوذًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجُمَلُهَا مَنْقُولَةٌ عَنْهُ بِالتَّوَاتُرِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ؛ وَأَمَرَ أَزْوَاجَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِهِنَّ (مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) .
وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: إنَّ " الْحِكْمَةَ " هِيَ السُّنَّةُ؛ وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم {أَلَا إنِّي أُوتِيت الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ} . فَمَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ السُّنَّةِ فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ؛ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّهُ فِي الْقُرْآنِ؛ وَلَمْ نَفْهَمْهُ نَحْنُ أَوْ قِيلَ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؛ كَمَا أَنَّ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ؛ فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَّبِعَهُمْ فِيهِ؛ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّهُ كَانَ مَنْصُوصًا فِي السُّنَّةِ وَلَمْ يَبْلُغْنَا ذَلِكَ أَوْ قِيلَ إنَّهُ مِمَّا اسْتَنْبَطُوهُ وَاسْتَخْرَجُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ: فَوُجُوبُ إثْبَاتِ " الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى " وَنَحْوِهِ يَتَبَيَّنُ مِنْ وُجُوهٍ: -
أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ الْمُسْتَفِيضَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَغَيْرَ الْمُتَوَاتِرَةِ وَكَلَامَ السَّابِقِينَ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ: مَمْلُوءٌ بِمَا فِيهِ إثْبَاتُ الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ بِأَنْوَاعِ مِنْ الدَّلَالَاتِ وَوُجُوهٍ مِنْ الصِّفَاتِ وَأَصْنَافٍ مِنْ الْعِبَارَاتِ؛ تَارَةً يُخْبِرُ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. وَقَدْ ذَكَرَ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ. وَتَارَةً يُخْبِرُ بِعُرُوجِ الْأَشْيَاءِ وَصُعُودِهَا وَارْتِفَاعِهَا إلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} {إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ} {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} وقَوْله تَعَالَى {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . وَتَارَةً يُخْبِرُ بِنُزُولِهَا مِنْهُ أَوْ مِنْ عِنْدِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} {حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {حم. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} .
وَتَارَةً يُخْبِرُ " بِأَنَّهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . وَتَارَةً يُخْبِرُ بِأَنَّهُ فِي " السَّمَاءِ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} . فَذَكَرَ السَّمَاءَ دُونَ الْأَرْضِ وَلَمْ يُعَلِّقْ بِذَلِكَ أُلُوهِيَّةً أَوْ غَيْرَهَا كَمَا ذَكَرَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} وَقَالَ تَعَالَى {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} . وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ؟} {وَقَالَ لِلْجَارِيَةِ: أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ فِي السَّمَاءِ. قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ} . وَتَارَةً يَجْعَلُ بَعْضَ الْخَلْقِ " عِنْدَهُ " دُونَ بَعْضٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . وَيُخْبِرُ عَمَّنْ عِنْدَهُ بِالطَّاعَةِ كَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} فَلَوْ كَانَ مُوجِبُ الْعِنْدِيَّةِ مَعْنًى عَامًّا كَدُخُولِهِمْ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ: لَكَانَ كُلُّ مَخْلُوقٍ عِنْدَهُ؛ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ بَلْ مُسَبِّحًا لَهُ سَاجِدًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وَهُوَ
سُبْحَانَهُ وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِذَلِكَ رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَأَمْثَالُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ لَا يُحْصَى إلَّا بِكُلْفَةِ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ عَنْ " الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ " فَلَا يُحْصِيهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى. فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا اشْتَرَكَتْ فِيهِ هَذِهِ النُّصُوصُ مِنْ إثْبَاتِ عُلُوِّ اللَّهِ نَفْسِهِ عَلَى خَلْقِهِ هُوَ الْحَقُّ أَوْ الْحَقُّ نَقِيضُهُ؛ إذْ الْحَقُّ لَا يَخْرُجُ عَنْ النَّقِيضَيْنِ؛ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسُهُ فَوْقَ الْخَلْقِ؛ أَوْ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْخَلْقِ - كَمَا تَقُولُ الْجَهْمِيَّة -. ثُمَّ تَارَةً يَقُولُونَ: لَا فَوْقَهُمْ وَلَا فِيهِمْ وَلَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَ وَلَا محايث وَتَارَةً يَقُولُونَ: هُوَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَفِي الْمَقَالَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا يَدْفَعُونَ أَنْ يَكُونَ هُوَ نَفْسُهُ فَوْقَ خَلْقِهِ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ إثْبَاتَ ذَلِكَ؛ أَوْ نَفْيَهُ فَإِنْ كَانَ نَفْيُ ذَلِكَ هُوَ الْحَقَّ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُبَيِّنْ هَذَا قَطُّ - لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا - وَلَا الرَّسُولُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لَا أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ نَفَى ذَلِكَ أَوْ أَخْبَرَ بِهِ. وَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ الْإِثْبَاتِ عَنْ هَؤُلَاءِ: فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى أَوْ يُحْصَرَ
فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ هُوَ النَّفْيَ - دُونَ الْإِثْبَاتِ - وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ إنَّمَا دَلَّ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ النَّفْيَ أَصْلًا: لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ لَمْ يَنْطِقُوا بِالْحَقِّ فِي هَذَا الْبَابِ؛ بَلْ نَطَقُوا بِمَا يَدُلُّ - إمَّا نَصًّا وَإِمَّا ظَاهِرًا - عَلَى الضَّلَالِ وَالْخَطَأِ الْمُنَاقِضِ لِلْهُدَى وَالصَّوَابِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ هَذَا فِي " الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ " فَلَهُ أَوْفَرُ حَظٍّ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} . فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: هَذِهِ النُّصُوصُ أُرِيدَ بِهَا خِلَافُ مَا يُفْهَمُ مِنْهَا أَوْ خِلَافُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إثْبَاتُ عُلُوِّ اللَّهِ نَفْسِهِ عَلَى خَلْقِهِ؛ وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهَا عُلُوُّ الْمَكَانَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ - كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَيُقَالُ لَهُ: فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ التَّصْدِيقُ (بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ بَلْ وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يَدُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يُرَدْ بِهِ مَفْهُومُهُ وَمُقْتَضَاهُ؛ فَإِنَّ غَايَةَ مَا يُقَدَّرُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْمَجَازِ الْمُخَالِفِ لِلْحَقِيقَةِ وَالْبَاطِنِ الْمُخَالِفِ لِلظَّاهِرِ. وَمَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ: أَنَّ الْمُخَاطَبَ الْمُبِينَ إذَا تَكَلَّمَ بِمُجَازٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْرِنَ بِخِطَابِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ؛ فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ الْمُبَلِّغُ الْمُبَيِّنُ الَّذِي بَيَّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَامِ خِلَافُ مَفْهُومِهِ وَمُقْتَضَاهُ كَانَ
عَلَيْهِ أَنْ يَقْرِنَ بِخِطَابِهِ مَا يَصْرِفُ الْقُلُوبَ عَنْ فَهْمِ الْمَعْنَى الَّذِي لَمْ يُرِدْ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ بَاطِلًا لَا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ فِي اللَّهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَعْتَقِدُوا فِي اللَّهِ مَا لَا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ مَخُوفًا عَلَيْهِمْ؛ وَلَوْ لَمْ يُخَاطِبْهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَكَيْفَ إذَا كَانَ خِطَابُهُ هُوَ الَّذِي يَدُلُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ الَّذِي تَقُولُ الْنُّفَاةِ: هُوَ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ؟ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ وَلَا كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مَا يُوَافِقُ قَوْلَ الْنُّفَاةِ أَصْلًا؛ بَلْ هُمْ دَائِمًا لَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا بِالْإِثْبَاتِ امْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادُهُمْ الْإِثْبَاتَ وَأَنْ يَكُونَ النَّفْيُ هُوَ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ وَيَعْتَمِدُونَهُ وَهُمْ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ قَطُّ وَلَمْ يُظْهِرُوهُ؛ وَإِنَّمَا أَظْهَرُوا مَا يُخَالِفُهُ وَيُنَافِيهِ وَهَذَا كَلَامٌ مُبَيَّنٌ؛ لَا مخلص لِأَحَدِ عَنْهُ؛ لَكِنْ للجهمية الْمُتَكَلِّمَةِ هُنَا كَلَامٌ وللجهمية الْمُتَفَلْسِفَةِ كَلَامٌ. أَمَّا " الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْقَرَامِطَةُ " فَيَقُولُونَ؛ إنَّ الرُّسُلَ كَلَّمُوا الْخَلْقَ بِخِلَافِ مَا هُوَ الْحَقُّ وَأَظْهَرُوا لَهُمْ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ وَرُبَّمَا يَقُولُونَ إنَّهُمْ كَذَبُوا لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْعَامَّةِ لَا تَقُومُ إلَّا بِإِظْهَارِ الْإِثْبَاتِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَاطِلًا. وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الزَّنْدَقَةِ الْبَيِّنَةِ وَالْكُفْرِ الْوَاضِحِ: قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ وَالرُّسُلُ مِنْ جِنْسِ رُؤَسَائِكُمْ؛
لَكَانَ خَوَاصُّ الرُّسُلِ يَطَّلِعُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلَكَانُوا يُطْلِعُونَ خَوَاصَّهُمْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ؛ فَكَأَنْ يَكُونَ النَّفْيُ مَذْهَبَ خَاصَّةِ الْأُمَّةِ وَأَكْمَلِهَا عَقْلًا وَعِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ " السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ " وَجَدَ أَعْلَمَ الْأُمَّةِ - عِنْدَ الْأُمَّةِ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَمْثَالِهِمْ؛ هُمْ أَعْظَمُ الْخَلْقِ إثْبَاتًا. وَكَذَلِكَ أَفْضَلُ التَّابِعِينَ: مِثْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَمْثَالِهِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَمْثَالِهِ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَأَمْثَالِهِ وَأَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُمْ مِنْ أَجَلِّ التَّابِعِينَ. بَلْ النُّقُولُ عَنْ هَؤُلَاءِ فِي الْإِثْبَاتِ يَجْبُنُ عَنْ إثْبَاتِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَعَلَى ذَلِكَ تَأَوَّلَ يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ وَصَاحِبُهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ مَا يُرْوَى: {أَنَّ مِنْ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ فَإِذَا ذَكَرُوهُ لَمْ يُنْكِرْهُ إلَّا أَهْلُ الْغِرَّةِ بِاَللَّهِ} تَأَوَّلُوا ذَلِكَ عَلَى مَا جَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالسَّابِقِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ بِخِلَافِ النَّفْيِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ عَنْهُمْ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ جَمَعَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ مِنْ الْمَنْقُولِ عَنْ السَّلَفِ فِي الْإِثْبَاتِ مَا لَا يُحْصِي
عَدَدَهُ إلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ عَنْهُمْ فِي النَّفْيِ بِحَرْفِ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي يَنْقُلُهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ كَلَامِهِمْ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَمَسَّكُ " بِمُجْمَلَاتِ " سَمِعَهَا: بَعْضُهَا كَذِبٌ وَبَعْضُهَا صِدْقٌ مِثْلُ مَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: {كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ يَتَحَدَّثَانِ وَكُنْت كَالزِّنْجِيِّ بَيْنَهُمَا} .
فَهَذَا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَثَرِ؛ وَبِتَقْدِيرِ صِدْقِهِ فَهُوَ مُجْمَلٌ. فَإِذَا قَالَ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ كَانَ مَا يَتَكَلَّمَانِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِمُوَافَقَتِهِ مَا نُقِلَ عَنْهُمَا كَانَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْنُّفَاةِ إنَّهُمَا يَتَكَلَّمَانِ بِالنَّفْيِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ جِرَابِ {أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا قَالَ: حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِرَابَيْنِ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْته فِيكُمْ وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْته لَقَطَعْتُمْ هَذَا الْبُلْعُومَ.} فَإِنَّ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ؛ لَكِنَّهُ مُجْمَلٌ. وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا: أَنَّ الْجِرَابَ الْآخَرَ كَانَ فِيهِ حَدِيثُ الْمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ فِيهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ؛ بَلْ الثَّابِتُ الْمَحْفُوظُ مِنْ أَحَادِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَحَدِيثِ " إتْيَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وَحَدِيثِ " النُّزُولِ " وَ " الضَّحِكِ " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كُلُّهَا عَلَى الْإِثْبَاتِ؛ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْنُّفَاةِ.
وَأَمَّا " الْجَهْمِيَّة الْمُتَكَلِّمَةُ " فَيَقُولُونَ: إنَّ الْقَرِينَةَ الصَّارِفَةَ لَهُمْ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ هُوَ الْعَقْلُ؛ فَاكْتَفَى بِالدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِمَذْهَبِ الْنُّفَاةِ.
فَيُقَالُ لَهُمْ " أَوَّلًا ": فَحِينَئِذٍ إذَا كَانَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ إنَّمَا يُفِيدُهُمْ مُجَرَّدُ الضَّلَالِ؛ وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُونَ الْهُدَى مِنْ عُقُولِهِمْ: كَانَ الرَّسُولُ قَدْ نَصَبَ لَهُمْ أَسْبَابَ الضَّلَالِ وَلَمْ يَنْصِبْ لَهُمْ أَسْبَابَ الْهُدَى وَأَحَالَهُمْ فِي الْهُدَى عَلَى نُفُوسِهِمْ فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّ تَرْكَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الرِّسَالَةِ الَّتِي لَمْ تَنْفَعْهُمْ؛ بَلْ ضَرَّتْهُمْ. وَيُقَالُ لَهُمْ " ثَانِيًا ": فَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم قَدْ بَيَّنَ الْإِثْبَاتَ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ فِي الْعَقْلِ مِنْ قَوْلِ الْنُّفَاةِ؛ مِثْلُ ذِكْرِهِ لِخَلْقِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَعِلْمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تُعْلَمُ بِالْعَقْلِ - أَعْظَمَ مِمَّا يُعْلَمُ نَفْيُ الْجَهْمِيَّة وَهُوَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا يُنَاقِضُ هَذَا الْإِثْبَاتَ فَكَيْفَ يُحِيلُهُمْ عَلَى مُجَرَّدِ الْعَقْلِ فِي النَّفْيِ الَّذِي هُوَ أَخْفَى وَأَدَقُّ؟ وَكَلَامُهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ؛ بَلْ دَلَّ عَلَى نَقِيضِهِ وَضِدِّهِ وَمَنْ نَسَبَ هَذَا إلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَاَللَّهُ حَسِيبُهُ عَلَى مَا يَقُولُ. وَ " الْمَرَاتِبُ ثَلَاثٌ ": إمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْهُدَى أَوْ بِالضَّلَالِ أَوْ يَسْكُتُ عَنْهُمَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّكُوتَ عَنْهُمَا خَيْرٌ مِنْ التَّكَلُّمِ بِمَا يَضِلُّ وَهُنَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ أَنَّ الْإِثْبَاتَ لَمْ يَسْكُتْ عَنْهُ؛ بَلْ بَيَّنَهُ وَكَانَ مَا جَاءَ بِهِ السَّمْعُ مُوَافِقًا لِلْعَقْلِ؛ فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيمَا يَنْفِيهِ الْعَقْلُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهِ بِالنَّفْيِ؛ كَمَا فَعَلَ فِيمَا يُثْبِتُهُ الْعَقْلُ وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ السُّكُوتُ عَنْهُ أَسْلَمُ لِلْأُمَّةِ. أَمَّا إذَا تَكَلَّمَ فِيهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَأَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَعْتَقِدُوا إلَّا النَّفْيَ؛ لِكَوْنِ مُجَرَّدِ عُقُولِهِمْ تَعْرِفُهُمْ بِهِ فَإِضَافَةُ هَذَا إلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ.
وَيُقَالُ لَهُمْ " ثَالِثًا " مَنْ الَّذِي سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّ الْعَقْلَ يُوَافِقُ مَذْهَبَ الْنُّفَاةِ؛ بَلْ الْعَقْلُ الصَّرِيحُ إنَّمَا يُوَافِقُ مَا أَثْبَتَهُ الرَّسُولُ وَلَيْسَ بَيْنَ الْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ وَالْمَنْقُولِ الصَّحِيحِ تَنَاقُضٌ أَصْلًا وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي " مَوَاضِعَ " بَيَّنَّا فِيهَا أَنَّ مَا يَذْكُرُونَ مِنْ الْمَعْقُولِ الْمُخَالِفِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا هُوَ جَهْلٌ وَضَلَالٌ تَقَلَّدَهُ مُتَأَخِّرُوهُمْ عَنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَسَمَّوْا ذَلِكَ عَقْلِيَّاتٍ وَإِنَّمَا هِيَ جهليات وَمَنْ طُلِبَ مِنْهُ تَحْقِيقُ مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ الضَّلَالِ بِالْمَعْقُولِ لَمْ يَرْجِعْ إلَّا إلَى مُجَرَّدِ تَقْلِيدِهِمْ. فَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالشَّرْعِ وَيُخَالِفُونَ الْعَقْلَ تَقْلِيدًا لِمَنْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْعَقْلِيَّاتِ. وَهُمْ مَعَ " أَئِمَّتِهِمْ الضُّلَّالِ " كَقَوْمِ فِرْعَوْنَ مَعَهُ حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} وَفِرْعَوْنُ هُوَ إمَامُ الْنُّفَاةِ. وَلِهَذَا صَرَّحَ مُحَقِّقُو الْنُّفَاةِ بِأَنَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ الِاتِّحَادِيَّةُ مِنْ الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ؛ إذْ هُوَ أَنْكَرَ الْعُلُوَّ وَكَذَّبَ مُوسَى فِيهِ وَأَنْكَرَ تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} .
وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ أَنْكَرَ " الصَّانِعَ " بِلِسَانِهِ فَقَالَ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَطَلَبَ أَنْ يَصْعَدَ لِيَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُوسَى أَخْبَرَهُ أَنَّ إلَهَهُ فَوْقُ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ هُوَ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِهِ فَإِذَا لَمْ يُخْبِرُهُ مُوسَى بِهِ لَمْ يَكُنْ إثْبَاتُ الْعُلُوِّ لَا مِنْهُ وَلَا مِنْ مُوسَى؛ فَلَا يَقْصِدُ الِاطِّلَاعَ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَا قَصَدَهُ مِنْ التَّلْبِيسِ عَلَى قَوْمِهِ بِأَنَّهُ صَعِدَ إلَى إلَهِ مُوسَى؛ وَلَكَانَ صُعُودُهُ إلَيْهِ كَنُزُولِهِ إلَى الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ وَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ؛ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفِ الصَّرْحِ. {وَنَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم لَمَّا عُرِجَ بِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَجَدَ فِي السَّمَاءِ الْأُولَى آدَمَ عليه السلام وَفِي الثَّانِيَةِ يَحْيَى وَعِيسَى ثُمَّ فِي الثَّالِثَةِ يُوسُفَ ثُمَّ فِي الرَّابِعَةِ إدْرِيسَ ثُمَّ فِي الْخَامِسَةِ هَارُونَ ثُمَّ وَجَدَ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ ثُمَّ عَرَجَ إلَى رَبِّهِ فَفَرَضَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً ثُمَّ رَجَعَ إلَى مُوسَى. فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِك فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ قَالَ: فَرَجَعْت إلَى رَبِّي فَسَأَلْته التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِي وَذَكَرَ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى مُوسَى ثُمَّ رَجَعَ إلَى رَبِّهِ مِرَارًا} فَصَدَقَ مُوسَى فِي أَنَّ رَبَّهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَفِرْعَوْنُ كَذَّبَ مُوسَى فِي ذَلِكَ. " وَالْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ ": مُوَافِقُونَ لِآلِ فِرْعَوْنَ أَئِمَّةِ الضَّلَالِ. وَ " أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْإِثْبَاتِ ": مُوَافِقُونَ لِآلِ إبْرَاهِيمَ أَئِمَّةِ الْهُدَى وَقَالَ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} وَمُوسَى وَمُحَمَّدٌ مِنْ آلِ إبْرَاهِيمَ؛ بَلْ هُمْ سَادَاتُ آلِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَبْيِينِ وُجُوبِ الْإِقْرَارِ بِالْإِثْبَاتِ وَعُلُوِّ اللَّهِ عَلَى السَّمَوَاتِ أَنْ يُقَالَ: مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْمَلَ الدِّينَ وَأَتَمَّ النِّعْمَةَ؛ وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ؛ وَأَنَّ مَعْرِفَةَ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ وَمَا يُنَزَّهُ عَنْهُ هُوَ مِنْ أَجَلِّ أُمُورِ الدِّينِ وَأَعْظَمِ أُصُولِهِ؛ وَأَنَّ بَيَانَ هَذَا وَتَفْصِيلَهُ أَوْلَى مَنْ كُلِّ شَيْءٍ. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَابُ لَمْ يُبَيِّنْهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُفَصِّلْهُ وَلَمْ يُعْلِمْ أُمَّتَهُ مَا يَقُولُونَ فِي هَذَا الْبَابِ وَكَيْفَ يَكُونُ الدِّينُ قَدْ كَمُلَ وَقَدْ تُرِكُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْبَيْضَاءِ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ بِمَاذَا يَعْرِفُونَ رَبَّهُمْ: أَبِمَا تَقُولُهُ الْنُّفَاةِ أَوْ بِأَقْوَالِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَنْ فِيهِ أَدْنَى مَحَبَّةٍ لِلْعِلْمِ أَوْ أَدْنَى مَحَبَّةٍ لِلْعِبَادَةِ: لَا بُدَّ أَنْ يَخْطِرَ بِقَلْبِهِ هَذَا الْبَابُ وَيَقْصِدَ فِيهِ الْحَقَّ وَمَعْرِفَةَ الْخَطَأِ مِنْ الصَّوَابِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ كُلُّهُمْ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْ هَذَا لَا يَسْأَلُونَ عَنْهُ وَلَا يَشْتَاقُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَلَا تَطْلُبُ قُلُوبُهُمْ الْحَقَّ وَهُمْ لَيْلًا وَنَهَارًا يَتَوَجَّهُونَ بِقُلُوبِهِمْ إلَيْهِ وَيَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَرَغَبًا وَرَهَبًا وَالْقُلُوبُ مَجْبُولَةٌ مَفْطُورَةٌ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ بِهَذَا وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِيهِ وَهِيَ مُشْتَاقَةٌ إلَيْهِ أَكْثَرَ مَنْ شَوْقِهَا إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ وَمَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ وَالْقُدْرَةِ يَجِبُ حُصُولُ
الْمُرَادِ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى سُؤَالِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَسُؤَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَقَدْ سَأَلُوهُ عَمَّا هُوَ دُونَ هَذَا: سَأَلُوهُ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَأَجَابَهُمْ {وَسَأَلَهُ أَبُو رَزِينٍ: أَيَضْحَكُ رَبُّنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا} . ثُمَّ إنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ (الرُّؤْيَةِ) قَالَ: {إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ؛ لَا الْمَرْئِيَّ بِالْمَرْئِيِّ. والْنُّفَاةِ لَا يَقُولُونَ يُرَى كَمَا تُرَى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ؛ بَلْ قَوْلُهُمْ الْحَقِيقِيُّ أَنَّهُ لَا يُرَى بِحَالِ وَمَنْ قَالَ يُرَى مُوَافَقَةً لِأَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَمُنَافَقَةً لَهُمْ: فَسَّرَ الرُّؤْيَةَ بِمَزِيدِ عِلْمٍ فَلَا تَكُونُ كَرُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ رَبِّهِمْ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ وَإِذَا سَأَلُوهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُجِيبَهُمْ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَا تَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ التَّبْلِيغِ عَنْهُ وَإِنَّمَا نَقَلُوا عَنْهُ مَا يُوَافِقُ قَوْلَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ. (الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ يُقَالَ: إمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُحِبُّ مِنَّا أَنْ نَعْتَقِدَ قَوْلَ الْنُّفَاةِ أَوْ نَعْتَقِدَ قَوْلَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ أَوْ لَا نَعْتَقِدَ وَاحِدًا مِنْهُمَا. فَإِنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ مِنَّا اعْتِقَادَ قَوْلِ الْنُّفَاةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ؛ وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ
السَّمَوَاتِ رَبٌّ وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَوَاتِ فَقَطْ لَا إلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَعْرُجُ إلَى اللَّهِ بَلْ إلَى مَلَكُوتِهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِلُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَصْعَدُ إلَيْهِ شَيْءٌ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانُوا يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِعِبَارَاتِ مُبْتَدَعَةٍ فِيهَا إجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ وَإِيهَامٌ كَقَوْلِهِمْ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَا جِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا هُوَ فِي جِهَةٍ وَلَا مَكَانٍ؛ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الَّتِي تَفْهَمُ مِنْهَا الْعَامَّةُ تَنْزِيهَ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ النَّقَائِصِ وَمَقْصِدُهُمْ بِهَا أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ؛ وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ يُعْبَدُ وَلَا عُرِجَ بِالرَّسُولِ إلَى اللَّهِ. وَ (الْمَقْصُودُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ لَنَا أَنْ نَعْتَقِدَ هَذَا النَّفْيَ؛ فَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ أَفْضَلُ مِنَّا فَقَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ هَذَا النَّفْيَ وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَقِدُهُ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَرْضَاهُ لَنَا وَهُوَ إمَّا وَاجِبٌ عَلَيْنَا أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَنَا؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْمُرَنَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْنَا وَيَنْدُبُنَا إلَى مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ لَنَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ عَنْهُ وَعَنْ الْمُؤْمِنِينَ مَا فِيهِ إثْبَاتٌ لِمَحْبُوبِ اللَّهِ وَمُرْضِيهِ وَمَا يُقَرِّبُ إلَيْهِ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} لَا سِيَّمَا وَالْجَهْمِيَّة تَجْعَلُ هَذَا أَصْلَ الدِّينِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ " التَّوْحِيدُ " الَّذِي لَا يُخَالِفُهُ إلَّا شَقِيٌّ فَكَيْفَ لَا يُعَلِّمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ التَّوْحِيدَ؟ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ " التَّوْحِيدُ " مَعْرُوفًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؟ . وَالْفَلَاسِفَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ
وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ يُسَمُّونَ مَذْهَبَ الْنُّفَاةِ " التَّوْحِيدَ " وَقَدْ سَمَّى صَاحِبُ الْمُرْشِدَةِ أَصْحَابَهُ الْمُوَحِّدِينَ؛ إذْ عِنْدَهُمْ مَذْهَبُ الْنُّفَاةِ هُوَ " التَّوْحِيدُ ". وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِمَذْهَبِ الْنُّفَاةِ. فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ؛ بَلْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ " التَّوْحِيدِ " الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ. وَإِنْ كَانَ يُحِبُّ مِنَّا مَذْهَبَ الْإِثْبَاتِ؛ وَهُوَ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ؛ فَلَا بُدَّ أَيْضًا أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لَنَا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ إثْبَاتِ " الْعُلُوِّ وَالصِّفَاتِ " أَعْظَمُ مِمَّا فِيهِمَا مِنْ إثْبَاتِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَالصِّيَامِ وَتَحْرِيمِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ؛ وَخَبِيثِ الْمَطَاعِمِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ " الشَّرَائِعِ ". فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ يَكُونُ الدِّينُ كَامِلًا وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مُبَلِّغًا مُبَيِّنًا؛ وَالتَّوْحِيدُ عَنْ السَّلَفِ مَشْهُورًا مَعْرُوفًا. وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا؛ وَالسَّلَفُ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَطَرِيقُهُمْ أَفْضَلُ الطُّرُقِ. وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ إضْلَالٌ وَلَا دَلَّ عَلَى كُفْرٍ وَمُحَالٍ؛ بَلْ هُوَ الشِّفَاءُ وَالْهُدَى وَالنُّورُ. وَهَذِهِ كُلُّهَا لَوَازِمُ مُلْتَزَمَةٌ وَنَتَائِجُ مَقْبُولَةٌ؛ فَقَوْلُهُمْ مُؤْتَلِفٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ وَمَقْبُولٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ.
وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنَّا أَنْ لَا نُثْبِتَ وَلَا نَنْفِيَ؛ بَلْ نَبْقَى فِي الْجَهْلِ الْبَسِيطِ وَفِي ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ لَا نَعْرِفُ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ وَلَا الْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ وَلَا الصِّدْقَ مِنْ الْكَذِبِ؛ بَلْ نَقِفُ بَيْنَ الْمُثْبِتَةِ والْنُّفَاةِ مَوْقِفَ الشَّاكِّينَ الْحَيَارَى {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ} لَا مُصَدِّقِينَ وَلَا مُكَذِّبِينَ: لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُحِبُّ مِنَّا عَدَمَ الْعِلْمِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَعَدَمَ الْعِلْمِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى مِنْ الصِّفَاتِ التَّامَّاتِ وَعَدَمَ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ وَيُحِبُّ مِنَّا الْحَيْرَةَ وَالشَّكَّ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْجَهْلَ وَلَا الشَّكَّ وَلَا الْحَيْرَةَ وَلَا الضَّلَالَ؛ وَإِنَّمَا يُحِبُّ الدِّينَ وَالْعِلْمَ وَالْيَقِينَ. وَقَدْ ذَمَّ " الْحَيْرَةَ " بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ} . وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُولَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يُصَلِّي يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ؛ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . فَهُوَ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ رَبَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ فَكَيْفَ يَكُونُ مَحْبُوبُ اللَّهِ عَدَمَ الْهُدَى فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} . وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {زِدْنِي فِيك تَحَيُّرًا} كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَدِيثِهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ هَذَا سُؤَالٌ مَنْ هُوَ حَائِرٌ وَقَدْ سَأَلَ الْمَزِيدَ مِنْ الْحَيْرَةِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَسْأَلَ وَيَدْعُوَ بِمَزِيدِ الْحَيْرَةِ إذَا كَانَ حَائِرًا؛ بَلْ يَسْأَلُ الْهُدَى وَالْعِلْمَ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ هَادِي الْخَلْقِ مِنْ الضَّلَالَةِ؟ . وَإِنَّمَا يُنْقَلُ مِثْلُ هَذَا عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ الَّذِينَ لَا يُقْتَدَى بِهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا إنْ صَحَّ النَّقْلُ عَنْهُ، وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ الْوَاقِفَةِ الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ وَلَا يَنْفُونَ وَيُنْكِرُونَ الْجَزْمَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: يَلْزَمُ عَلَيْهِ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا أَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا: فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْنُّفَاةِ؛ فَإِنَّهُمْ ابْتَدَعُوا أَلْفَاظًا وَمَعَانِيَ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ. وَأَمَّا الْمُثْبِتَةُ إذَا اقْتَصَرُوا عَلَى النُّصُوصِ: فَلَيْسَ لَهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ وَهَؤُلَاءِ
الْوَاقِفَةُ هُمْ فِي الْبَاطِنِ يُوَافِقُونَ الْنُّفَاةِ أَوْ يُقِرُّونَهُمْ وَإِنَّمَا يُعَارِضُونَ الْمُثْبِتَةَ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا أَهْلَ الْبِدْعَةِ وَعَادُوا أَهْلَ السُّنَّةِ.
الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ لَيْسَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ.
الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ: الشَّكُّ وَالْحَيْرَةُ لَيْسَتْ مَحْمُودَةً فِي نَفْسِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالنَّفْيِ وَلَا الْإِثْبَاتِ يَسْكُتُ. فَأَمَّا مَنْ عَلِمَ الْحَقَّ بِدَلِيلِهِ الْمُوَافِقِ لِبَيَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لِلْوَاقِفِ الشَّاكِّ الْحَائِرِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى هَذَا الْعَالِمِ الْجَازِمِ الْمُسْتَبْصِرِ الْمُتَّبِعِ لِلرَّسُولِ الْعَالِمِ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ.
الرَّابِعُ أَنْ يُقَالَ: السَّلَفُ كُلُّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ وَقَالُوا بِالْإِثْبَاتِ وَأَفْصَحُوا بِهِ وَكَلَامُهُمْ فِي الْإِثْبَاتِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى الْنُّفَاةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ إثْبَاتُهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ الْمَشَاهِيرِ: مِثْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَأَبِي حَنِيفَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: مَوْجُودٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصِيهِ أَحَدٌ. وَجَوَابُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ صَرِيحٌ فِي الْإِثْبَاتِ فَإِنَّ السَّائِلَ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ مَالِكٌ: الِاسْتِوَاءُ
مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَفِي لَفْظٍ: اسْتِوَاؤُهُ مَعْلُومٌ - أَوْ مَعْقُولٌ - وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. فَقَدْ أَخْبَرَ رضي الله عنه بِأَنَّ نَفْسَ الِاسْتِوَاءِ مَعْلُومٌ وَأَنَّ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِوَاءِ مَجْهُولَةٌ وَهَذَا بِعَيْنِهِ قَوْلُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ. وَأَمَّا " الْنُّفَاةِ " فَمَا يُثْبِتُونَ اسْتِوَاءً حَتَّى تُجْهَلَ كَيْفِيَّتُهُ؛ بَلْ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ الشَّاكِّ وَأَمْثَالِهِ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مَجْهُولٌ: غَيْرُ مَعْلُومٍ وَإِذَا كَانَ الِاسْتِوَاءُ مَجْهُولًا لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُقَالَ: الْكَيْفُ مَجْهُولٌ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الِاسْتِوَاءُ مُنْتَفِيًا فَالْمُنْتَفِي الْمَعْدُومُ لَا كَيْفِيَّةَ لَهُ حَتَّى يُقَالَ: هِيَ مَجْهُولَةٌ أَوْ مَعْلُومَةٌ. وَكَلَامُ مَالِكٍ صَرِيحٌ فِي إثْبَاتِ الِاسْتِوَاءِ وَأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَأَنَّ لَهُ كَيْفِيَّةً؛ لَكِنَّ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةَ مَجْهُولَةٌ لَنَا لَا نَعْلَمُهَا نَحْنُ. وَلِهَذَا بَدَّعَ السَّائِلَ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ فَإِنَّ السُّؤَالَ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ أَمْرٍ مَعْلُومٍ لَنَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ اسْتِوَائِهِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ مَعْلُومًا وَلَهُ كَيْفِيَّةٌ تَكُونُ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ مَعْلُومَةً لَنَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَغَيْرَ الْمَالِكِيَّةِ نَقَلُوا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ مَكِّيٌّ - خَطِيبُ قُرْطُبَةَ - فِي " كِتَابِ التَّفْسِيرِ " الَّذِي جَمَعَهُ مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ وَنَقَلَهُ أَبُو عَمْرو الطَّلَمَنْكِيُّ وَأَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي الْمُخْتَصَرِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَنَقَلَهُ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ: مِثْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأَثْرَمِ وَالْخَلَّالِ والآجري وَابْنِ بَطَّةَ وَطَوَائِفَ
غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي السُّنَّةِ وَلَوْ كَانَ مَالِكٌ مِنْ الْوَاقِفَةِ أَوْ الْنُّفَاةِ لَمْ يُنْقَلْ هَذَا الْإِثْبَاتُ. وَالْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ: قَالَهُ قَبْلَهُ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ - شَيْخُهُ - كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الماجشون كَلَامًا طَوِيلًا يُقَرِّرُ مَذْهَبَ الْإِثْبَاتِ وَيَرُدُّ عَلَى الْنُّفَاةِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَكَلَامُ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَمِّ الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِهِمْ وَكَلَامُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَقُدَمَائِهِمْ فِي الْإِثْبَاتِ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ؛ حَتَّى عُلَمَاءَهُمْ حَكَوْا إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فَوْقَ عَرْشِهِ وَابْنُ أَبِي زَيْدٍ إنَّمَا ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ سَائِرُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ خَالَفَ ابْنَ أَبِي زَيْدٍ فِي هَذَا. وَهُوَ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا فِي مُقَدِّمَةِ الرِّسَالَةِ لِتُلَقَّنَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي يُلَقَّنُهَا كُلُّ أَحَدٍ. وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى " ابْنِ أَبِي زَيْدٍ " فِي هَذَا إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ لَمْ يَعْتَمِدْ مَنْ خَالَفَهُ عَلَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ وَلَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَلَكِنْ زَعَمَ مَنْ خَالَفَ ابْنَ أَبِي زَيْدٍ وَأَمْثَالُهُ أَنَّ مَا قَالَهُ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ. وَقَالُوا: إنَّ ابْنَ أَبِي زَيْدٍ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ فَنَّ الْكَلَامِ الَّذِي يَعْرِفُ فِيهِ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ عز وجل وَمَا لَا يَجُوزُ.
وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى ابْنِ أَبِي زَيْدٍ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ تَلَقَّوْا هَذَا الْإِنْكَارَ عَنْ مُتَأَخِّرِي الْأَشْعَرِيَّةِ - كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَتْبَاعِهِ - وَهَؤُلَاءِ تَلَقَّوْا هَذَا الْإِنْكَارَ عَنْ الْأُصُولِ الَّتِي شَارَكُوا فِيهَا الْمُعْتَزِلَةَ وَنَحْوَهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة فالْجَهْمِيَّة - مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ - هُمْ أَصْلُ هَذَا الْإِنْكَارِ. وَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِثْبَاتِ رَادُّونَ عَلَى الْوَاقِفَةِ والْنُّفَاةِ مِثْلُ مَا رَوَاهُ البيهقي وَغَيْرُهُ عَنْ الأوزاعي قَالَ: كُنَّا - وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ - نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ. وَقَالَ أَبُو مُطِيعٍ البلخي فِي كِتَابِ " الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ " الْمَشْهُورِ: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ يَقُولُ لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: قَدْ كَفَرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ فَقُلْت إنَّهُ يَقُولُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَكِنْ لَا يَدْرِي الْعَرْشُ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ؛ فَقَالَ إذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ كَفَرَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ؛ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ: اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَقَالَ معدان: سَأَلْت سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} قَالَ عِلْمُهُ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فِيمَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبُخَارِيُّ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ: إنَّمَا يَدُورُ كَلَامُ الْجَهْمِيَّة عَلَى أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: بِمَاذَا نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ؛ بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. قُلْت بِحَدِّ؟ قَالَ: بِحَدِّ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ وَهَذَا مَشْهُورٌ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ ثَابِتٌ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ؛ وَهُوَ أَيْضًا صَحِيحٌ ثَابِتٌ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ خِفْت اللَّهَ مِنْ كَثْرَةِ مَا أَدْعُو عَلَى الْجَهْمِيَّة. قَالَ: لَا تَخَفْ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ إلَهَك الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَيْسَ بِشَيْءِ. وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ؛ كَلَامُ الْجَهْمِيَّة أَوَّلُهُ شَهْدٌ وَآخِرُهُ سُمٌّ وَإِنَّمَا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ إلَهٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَرَوَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ ثَابِتَةٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ: إنَّ الْجَهْمِيَّة أَرَادُوا أَنْ يَنْفُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عز وجل كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَرْشِ أَرَى أَنْ يُسْتَتَابُوا فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى عَلَى خِلَافِ مَا يَقِرُّ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جهمي. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ الضبعي - وَذَكَرَ عِنْدَهُ الْجَهْمِيَّة فَقَالَ - هُمْ أَشَرُّ قَوْلًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ وَقَالُوا هُمْ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ الواسطي: كَلَّمْت بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ وَأَصْحَابَهُ فَرَأَيْت آخِرَ كَلَامِهِمْ يَنْتَهِي إلَى أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ أَرَى وَاَللَّهِ أَنْ لَا يُنَاكَحُوا وَلَا يوارثوا. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ. وَهَكَذَا ذَكَرَ أَهْلُ الْكَلَامِ الَّذِينَ يَنْقُلُونَ مَقَالَاتِ النَّاسِ " مَقَالَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ " كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي " اخْتِلَافِ الْمُصَلِّينَ وَمَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ " فَذَكَرَ فِيهِ أَقْوَالَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: ذَكَرَ " مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ " وَجُمْلَةُ قَوْلِهِمْ: الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ عز وجل وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَرُدُّونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا - إلَى أَنْ قَالَ - وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَأَقَرُّوا أَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا كَمَا قَالَ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إلَّا بِعِلْمِهِ} وَأَثْبَتُوا السَّمْعَ وَالْبَصَرَ؛ وَلَمْ يَنْفُوا ذَلِكَ عَنْ اللَّهِ كَمَا نَفَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَقَالُوا: إنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ خَيْرٍ وَلَا شَرٍّ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَإِنَّ الْأَشْيَاءَ تَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ كَمَا قَالَ {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} إلَى أَنْ قَالَ: وَيَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ وَيُصَدِّقُونَ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ: {إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟} كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. وَيُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَأَنَّ اللَّهَ يَقْرَبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَذَكَرَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً إلَى أَنْ قَالَ: فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ ويستعملونه وَيَرَوْنَهُ وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ نَقُولُ وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ.
قَالَ الْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا فِي " مَسْأَلَةِ الِاسْتِوَاءِ " قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا يُشْبِهُ الْأَشْيَاءَ وَأَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَلَا نَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْقَوْلِ بَلْ نَقُولُ اسْتَوَى بِلَا كَيْفٍ وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . وَأَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ: وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى.
وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةُ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ " فِي بَابِ الِاسْتِوَاءِ إنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا تَقُولُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ؟ قِيلَ: نَقُولُ لَهُ إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَقَالَ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} . وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} كَذَّبَ فِرْعَوْنُ مُوسَى فِي قَوْلِهِ:
إنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} فَالسَّمَوَاتُ فَوْقَهَا الْعَرْشُ وَكُلُّ مَا عَلَا فَهُوَ سَمَاءٌ وَلَيْسَ إذَا قَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} يَعْنِي جَمِيعَ السَّمَوَاتِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْعَرْشَ الَّذِي هُوَ أَعْلَى السَّمَوَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ السَّمَوَاتِ فَقَالَ: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَمْلَأُ السَّمَوَاتِ جَمِيعًا؟ وَرَأَيْنَا الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إذَا دَعَوْا نَحْوَ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ لَمْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ نَحْوَ الْعَرْشِ.
وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة والحرورية: أَنَّ مَعْنَى اسْتَوَى اسْتَوْلَى وَمَلَكَ وَقَهَرَ وَأَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ وَذَهَبُوا فِي الِاسْتِوَاءِ إلَى الْقُدْرَةِ فَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرْشِ وَالْأَرْضِ السَّابِعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْأَرْضُ فَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا وَعَلَى الْحُشُوشِ والأخلية فَلَوْ كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَعَلَى الْحُشُوشِ والأخلية بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ الِاسْتِيلَاءُ الَّذِي هُوَ عَامٌّ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. وَقَدْ نَقَلَ هَذَا عَنْ الْأَشْعَرِيِّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ كَابْنِ فورك وَالْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَمَعَهُ فِي " تَبْيِينِ كَذِبِ الْمُفْتَرِي فِيمَا يُنْسَبُ
إلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ " وَذَكَرَ اعْتِقَادَهُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ " الْإِبَانَةِ " وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة والحرورية وَالرَّافِضَةِ وَالْمُرْجِئَةِ فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمْ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ وَدِيَانَتَكُمْ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ قِيل لَهُ: قَوْلُنَا الَّذِي بِهِ نَقُولُ وَدِيَانَتُنَا الَّتِي نَدِينُ بِهَا التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ - نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ - قَائِلُونَ وَلِمَا خَالَفَ قَوْلَهُ مُجَانِبُونَ؛ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ وَالرَّئِيسُ الْكَامِلُ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ عِنْدَ ظُهُورِ الضَّلَالِ وَأَوْضَحَ الْمِنْهَاجَ بِهِ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ إمَامٍ مُقَدَّمٍ وَكَبِيرٍ مُفْهِمٍ وَعَلَى جَمِيعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. " وَجُمْلَةُ قَوْلِنَا ": إنَّا نُقِرُّ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ وَغَيْرِهِ مِنْ جُمَلٍ كَثِيرَةٍ أُورِدَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الآجري فِي " كِتَابِ الشَّرِيعَةِ " الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ فِي السَّمَوَاتِ الْعُلَى وَجَمِيعِ مَا فِي سَبْعِ أَرْضِينَ يُرْفَعُ إلَيْهِ أَفْعَالُ الْعِبَادِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَيُّ شَيْءٍ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} الْآيَةَ قِيلَ لَهُ عِلْمُهُ وَاَللَّهُ عَلَى عَرْشِهِ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ
بِهِمْ؛ كَذَا فَسَّرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ. وَالْآيَةُ يَدُلُّ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا أَنَّهُ الْعِلْمُ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ هَذَا قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ. وَالْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ " مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ " وَأَنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدُ بِذَاتِهِ وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِعِلْمِهِ قَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْمُبْطِلِينَ بِأَنْ رَفَعَ الْمَجِيدَ. وَمُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَجِيدُ بِذَاتِهِ وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ جَهْلٌ وَاضِحٌ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: الرَّحْمَنُ بِذَاتِهِ وَالرَّحِيمُ بِذَاتِهِ وَالْعَزِيزُ بِذَاتِهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي خُطْبَةِ " الرِّسَالَةِ " أَيْضًا عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَعَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى فَفَرَّقَ بَيْنَ الِاسْتِوَاءِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى قَاعِدَةِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ صَرَّحَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي " الْمُخْتَصَرِ " بِأَنَّ اللَّهَ فِي سَمَائِهِ دُونَ أَرْضِهِ هَذَا لَفْظُهُ وَاَلَّذِي قَالَهُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ مَا زَالَتْ تَقُولُهُ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي الْإِمَامُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ ": أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ اسْتَوَى بِذَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَافِظُ الْكُوفَةِ فِي طَبَقَةِ الْبُخَارِيِّ وَنَحْوِهِ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ السجستاني الْإِمَامُ فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي السُّنَّةِ الَّتِي كَتَبَهَا إلَى مَلِكِ بِلَادِهِ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو نَصْرٍ السجزي الْحَافِظُ فِي كِتَابِ " الْإِبَانَةِ " لَهُ. قَالَ: وَأَئِمَّتُنَا كَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَابْنِ عُيَيْنَة وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وفضيل بْنِ عِيَاضٍ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ: مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ بِذَاتِهِ؛ وَأَنَّ عِلْمَهُ بِكُلِّ مَكَانٍ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ الطَّرْقِيُّ وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الجيلي وَمَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَشُيُوخِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني - صَاحِبُ " حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ الْمَشْهُورَةِ فِي الِاعْتِقَادِ الَّذِي جَمَعَهُ: - طَرِيقُنَا طَرِيقُ السَّلَفِ الْمُتَّبِعِينَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ. قَالَ: وَمِمَّا اعْتَقَدُوهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ كَامِلًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ الْقَدِيمَةِ لَا يَزُولُ وَلَا يَحُولُ؛ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِعِلْمِ بَصِيرًا بِبَصَرِ سَمِيعًا بِسَمْعِ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ وَأَحْدَثَ الْأَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ كَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ مَقْرُوءًا وَمَتْلُوًّا وَمَحْفُوظًا وَمَسْمُوعًا وَمَكْتُوبًا وَمَلْفُوظًا كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا حِكَايَةً وَلَا تَرْجَمَةً وَأَنَّهُ بِأَلْفَاظِنَا كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْوَاقِفَةَ وَاللَّفْظِيَّةَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَأَنَّ مَنْ قَصَدَ الْقُرْآنَ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ يُرِيدُ بِهِ خَلْقَ كَلَامِ اللَّهِ فَهُوَ عِنْدُهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَأَنَّ الجهمي عِنْدَهُمْ كَافِرٌ. وَذَكَرَ أَشْيَاءَ إلَى أَنْ قَالَ:
وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ثَبَتَتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي " الْعَرْشِ وَاسْتِوَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِ " يَقُولُونَ بِهَا وَيُثْبِتُونَهَا مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَأَنَّ اللَّهَ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَالْخَلْقَ بَائِنُونَ مِنْهُ؛ لَا يَحِلُّ فِيهِمْ وَلَا يَمْتَزِجُ بِهِمْ وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ فِي سَمَائِهِ دُونَ أَرْضِهِ. وَذَكَرَ سَائِرَ اعْتِقَادِ السَّلَفِ وَإِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ فِي " رِسَالَتِهِ ": لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة إنَّهُ بِدَاخِلِ الْأَمْكِنَةِ وَمُمَازِجٌ كُلَّ شَيْءٍ وَلَا نَعْلَمُ أَيْنَ هُوَ؛ بَلْ نَقُولُ هُوَ بِذَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَقُدْرَتُهُ مُدْرِكَةٌ لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . وَقَالَ الشَّيْخُ الْعَارِفُ مَعْمَرُ بْنُ أَحْمَد " شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ: فِي هَذَا الْعَصْرِ أَحْبَبْت أَنْ أُوصِيَ أَصْحَابِي بِوَصِيَّةٍ مِنْ السُّنَّةِ وَأَجْمَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصَوُّفِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين؛ فَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ الْوَصِيَّةِ إلَى أَنْ قَالَ فِيهَا: وَإِنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَأْوِيلٍ وَالِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ؛ وَإِنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَالْخَلْقُ بَائِنُونَ مِنْهُ بِلَا حُلُولٍ وَلَا مُمَازَجَةٍ وَلَا مُلَاصَقَةٍ وَإِنَّهُ عز وجل سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَلِيمٌ خَبِيرٌ يَتَكَلَّمُ وَيَرْضَى وَيَسْخَطُ وَيَضْحَكُ وَيَعْجَبُ وَيَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَاحِكًا وَيَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ شَاءَ بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَأْوِيلٍ وَمَنْ أَنْكَرَ النُّزُولَ أَوْ تَأَوَّلَ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُثْمَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّابُونِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ فِي كِتَابِ " الرِّسَالَةِ فِي السُّنَّةِ " لَهُ: وَيَعْتَقِدُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَيَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُهُ وَعُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَأَعْيَانُ سَلَفِ الْأُمَّةِ؛ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ وَعَرْشَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ. قَالَ: وَإِمَامُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ احْتَجَّ فِي كِتَابِهِ " الْمَبْسُوطِ " فِي مَسْأَلَةِ إعْتَاقِ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ فِي الْكَفَّارَةِ وَأَنَّ الرَّقَبَةَ الْكَافِرَةَ لَا يَصِحُّ التَّكْفِيرُ بِهَا بِخَبَرِ {مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ وَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَعْتِقَ الْجَارِيَةَ السَّوْدَاءَ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ وَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ إعْتَاقِهِ إيَّاهَا فَامْتَحَنَهَا لِيَعْرِفَ أَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ أَمْ لَا فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ رَبُّك؟ فَأَشَارَتْ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ} فَحَكَمَ بِإِيمَانِهَا لَمَّا أَقَرَّتْ أَنَّ رَبَّهَا فِي السَّمَاءِ وَعَرَفْت رَبَّهَا بِصِفَةِ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ البيهقي: " بَابُ الْقَوْلِ فِي الِاسْتِوَاءِ ": قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وَأَرَادَ مَنْ فَوْقِ السَّمَاءِ؛ كَمَا قَالَ: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} بِمَعْنَى عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ. وَقَالَ {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} أَيْ عَلَى الْأَرْضِ وَكُلُّ مَا عَلَا فَهُوَ سَمَاءٌ وَالْعَرْشُ أَعْلَى السَّمَوَاتِ. فَمَعْنَى الْآيَةِ أَأَمِنْتُمْ مَنْ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ. قَالَ:
وَفِيمَا كَتَبْنَا مِنْ الْآيَاتِ دَلَالَةٌ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ مِنْ الْجَهْمِيَّة: أَنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} إنَّمَا أَرَادَ بِعِلْمِهِ لَا بِذَاتِهِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " شَرْحِ الْمُوَطَّأِ " لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ النُّزُولِ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَات؛ كَمَا قَالَتْ الْجَمَاعَةُ؛ وَهُوَ مِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ قَالَ: وَهَذَا أَشْهَرُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَأَعْرَفُ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ إلَى أَكْثَرَ مِنْ حِكَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ اضْطِرَارٌ لَمْ يُوقِفْهُمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ؛ وَلَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ مُسْلِمٌ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ أَيْضًا: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ حُمِلَ عَنْهُمْ التَّأْوِيلُ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ وَمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ. فَهَذَا مَا تَلَقَّاهُ الْخَلَفُ عَنْ السَّلَفِ؛ إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ؛ إذْ هُوَ الْحَقُّ الظَّاهِرُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ؛ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَخْتِمَ لَنَا بِخَيْرِ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ لَا يَزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا؛ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ إنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رُكْنُ الشَّرِيعَةِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّة " - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ -:
عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا} هَلْ الِاسْتِوَاءُ وَالنُّزُولُ حَقِيقَةً أَمْ لَا؟ وَمَا مَعْنَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً؟ وَهَلْ الْحَقِيقَةُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ كَمَا يَقُولُهُ الْأُصُولِيُّونَ أَمْ لَا؟ وَمَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ آيَاتِ الصِّفَاتِ حَقِيقَةً؟ .
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْقَوْلُ فِي الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ كَالْقَوْلِ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى " سَمَّى نَفْسَهُ بِأَسْمَاءِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَاتِ " سَمَّا نَفْسَهُ: حَيًّا عَلِيمًا حَكِيمًا قَدِيرًا سَمِيعًا بَصِيرًا غَفُورًا رَحِيمًا إلَى سَائِرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} وَقَالَ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}
وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وَقَالَ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أَيْ بِقُوَّةِ وَقَالَ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} . وَقَالَ عَنْ مَلَائِكَتِهِ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} وَقَالَ: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وَقَالَ: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} وَقَالَ: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} وَقَالَ: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَقَالَ: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} وَقَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} وَقَالَ: {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وَقَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} وَقَالَ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَقَالَ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ؛ فَالْقَوْلُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي بَعْضٍ. وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ؛ وَلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. فَلَا يَجُوزُ نَفْيُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ؛ وَلَا يَجُوزُ تَمْثِيلُهَا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ؛ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ.
وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الخزاعي: مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ وَلَيْسَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَرَسُولُهُ تَشْبِيهًا. وَمَذْهَبُ السَّلَفِ بَيْنَ مَذْهَبَيْنِ وَهُدًى بَيْنَ ضلالتين: إثْبَاتُ الصِّفَاتِ وَنَفْيُ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رَدٌّ عَلَى أَهْلِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} - رَدٌّ عَلَى أَهْلِ النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ فَالْمُمَثِّلُ أَعْشَى وَالْمُعَطِّلُ أَعْمَى: الْمُمَثِّلُ يَعْبُدُ صَنَمًا وَالْمُعَطِّلُ يَعْبُدُ عَدَمًا. وَقَدْ اتَّفَقَ جَمِيعُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ حَيٌّ حَقِيقَةً عَلِيمٌ حَقِيقَةً قَدِيرٌ حَقِيقَةً سَمِيعٌ حَقِيقَةً بَصِيرٌ حَقِيقَةً مُرِيدٌ حَقِيقَةً مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً؛ حَتَّى الْمُعْتَزِلَةُ الْنُّفَاةِ لِلصِّفَاتِ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً؛ كَمَا قَالُوا - مَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ - إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَقِيقَةً قَدِيرٌ حَقِيقَةً؛ بَلْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كَأَبِي الْعَبَّاسِ الناشي إلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ حَقِيقَةٌ لِلَّهِ مَجَازٌ لِلْخَلْقِ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ مَعَ الْمُتَكَلِّمَةِ الصفاتية - مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ الْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة والسالمية وَأَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ - فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ حَقِيقَةٌ لِلْخَالِقِ سبحانه وتعالى؛ وَإِنْ كَانَتْ تُطْلَقُ عَلَى خَلْقِهِ حَقِيقَةً أَيْضًا. وَيَقُولُونَ: إنَّ لَهُ عِلْمًا حَقِيقَةً وَقُدْرَةً حَقِيقَةً وَسَمْعًا حَقِيقَةً وَبَصَرًا حَقِيقَةً.
وَإِنَّمَا يُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ حَقِيقَةً الْنُّفَاةِ مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة الْبَاطِنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَنْفُونَ عَنْ اللَّهِ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى وَيَقُولُونَ: لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا عَالِمٍ وَلَا جَاهِلٍ وَلَا قَادِرٍ وَلَا عَاجِزٍ وَلَا مَوْجُودٍ وَلَا مَعْدُومٍ؛ فَهَؤُلَاءِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ يَنْفُونَ أَنْ تَكُونَ لَهُ حَقِيقَةً ثُمَّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسَمِّيهِمْ الْمُسْلِمُونَ الْمَلَاحِدَةَ؛ لِأَنَّهُمْ أَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} . فَإِنَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ إنَّمَا أَنْكَرُوا اسْمَ الرَّحْمَنِ فَقَطْ وَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَسْمَاءَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ؛ وَلِهَذَا كَانُوا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَكْفَرَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَلَوْ كَانَتْ أَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ مَجَازًا يَصِحُّ نَفْيُهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ لَكَانَ يَجُوزُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا عَلِيمٍ وَلَا قَدِيرٍ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا يُحِبُّهُمْ وَلَا يُحِبُّونَهُ وَلَا اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ النَّفْيِ عَلَى مَا أَثْبَتَهُ
اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ؛ بَلْ هَذَا جَحْدٌ لِلْخَالِقِ وَتَمْثِيلٌ لَهُ بِالْمَعْدُومَاتِ وَقَدْ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ كُلِّهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ؛ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُكَيِّفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَلَا يَحُدُّونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً وَأَمَّا " أَهْلُ الْبِدَعِ " مَنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ فَيُنْكِرُونَهَا وَلَا يَحْمِلُونَهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ وَهُمْ عِنْدَ مَنْ أَقَرَّ بِهَا نَافُونَ لِلْمَعْبُودِ لَا مُثْبِتُونَ. وَالْحَقُّ فِيمَا قَالَهُ الْقَائِلُونَ بِمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُمْ وَأَئِمَّةُ الْجَمَاعَةِ. وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ هُوَ فِي بَعْضِ مَا يَنْفُونَهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَأَمَّا فِيمَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ كَالْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالْمُتَكَلِّمِ فَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ وَمَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ حَقِيقَةً إنَّمَا أَنْكَرَهُ لِجَهْلِهِ مُسَمَّى الْحَقِيقَةِ أَوْ لِكُفْرِهِ وَتَعْطِيلِهِ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ إطْلَاقَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ مُمَاثِلًا لِلْخَالِقِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً وَالْعَبْدَ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً؛ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلُ هَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى لَهُ ذَاتٌ حَقِيقَةً وَالْعَبْدُ لَهُ ذَاتٌ حَقِيقَةً وَلَيْسَ ذَاتُهُ كَذَوَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَكَذَلِكَ لَهُ عِلْمٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ حَقِيقَةً وَلِلْعَبْدِ عِلْمٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ حَقِيقَةً؛ وَلَيْسَ
عِلْمُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ مِثْلَ عِلْمِ اللَّهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَلِلَّهِ كَلَامٌ حَقِيقَةً وَلِلْعَبْدِ كَلَامٌ حَقِيقَةً؛ وَلَيْسَ كَلَامُ الْخَالِقِ مِثْلَ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ. وَلِلَّهِ تَعَالَى اسْتِوَاءٌ عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً وَلِلْعَبْدِ اسْتِوَاءٌ عَلَى الْفُلْكِ حَقِيقَةً؛ وَلَيْسَ اسْتِوَاءُ الْخَالِقِ كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى شَيْءٍ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَحْمِلُ الْعَرْشَ وَحَمَلَتَهُ بِقُدْرَتِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ: إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اسْتِوَاؤُهُ مِثْلَ اسْتِوَاءِ الْعَبْدِ عَلَى الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ لَهُ عِلْمٌ حَقِيقَةً وَسَمْعٌ حَقِيقَةً وَبَصَرٌ حَقِيقَةً وَكَلَامٌ حَقِيقَةً يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَكَلَامُهُ مِثْلَ الْمَخْلُوقِينَ وَسَمْعِهِمْ وَبَصَرِهِمْ وَكَلَامِهِمْ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: مَا مَعْنَى كَوْنِ ذَلِكَ حَقِيقَةً؟ " فَالْحَقِيقَةُ " هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لِلَّفْظِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ فِيهِ. فَالْحَقِيقَةُ أَوْ الْمَجَازُ هِيَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ وَقَدْ يَجْعَلُونَهُ مِنْ عَوَارِضِ الْمَعَانِي لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَشْهَرُ وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ لَمْ تُوضَعْ لِخَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلَا عِنْدَ الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إلَيْهِمْ. فَاسْمُ الْعِلْمِ يُسْتَعْمَلُ مُطْلَقًا وَيُسْتَعْمَلُ مُضَافًا إلَى الْعَبْدِ كَقَوْلِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} وَيُسْتَعْمَلُ مُضَافًا إلَى اللَّهِ كَقَوْلِهِ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ} فَإِذَا أُضِيفَ الْعِلْمُ إلَى الْمَخْلُوقِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ عِلْمُ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُ الْمَخْلُوقِ كَعِلْمِ الْخَالِقِ وَإِذَا أُضِيفَ إلَى الْخَالِقِ كَقَوْلِهِ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ عِلْمُ الْمَخْلُوقِينَ وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُهُ كَعِلْمِهِمْ. وَإِذَا قِيلَ: الْعِلْمُ مُطْلَقًا أَمْكَنَ تَقْسِيمُهُ فَيُقَالُ: الْعِلْمُ يَنْقَسِمُ إلَى الْعِلْمِ الْقَدِيمِ وَالْعِلْمِ الْمُحْدَثِ؛ فَلَفْظُ الْعِلْمِ عَامٌّ فِيهِمَا مُتَنَاوِلٌ لَهُمَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَكَذَلِكَ إذَا
قِيلَ: الْوُجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَوَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ؛ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ فِي الِاسْتِوَاءِ: يَنْقَسِمُ إلَى اسْتِوَاءِ الْخَالِقِ وَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ؛ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: الْإِرَادَةُ وَالرَّحْمَةُ وَالْهِبَةُ تَنْقَسِمُ إلَى إرَادَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِرَادَةِ الْعَبْدِ وَمَحَبَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ " الْحَقِيقَةَ " إنَّمَا تَتَنَاوَلُ صِفَةَ الْعَبْدِ الْمَخْلُوقَةَ الْمُحْدَثَةَ دُونَ صِفَةِ الْخَالِقِ كَانَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ؛ فَإِنَّ صِفَةَ اللَّهِ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ وَأَحَقُّ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فَلَا نِسْبَةَ بَيْنَ صِفَةِ الْعَبْدِ وَصِفَةِ الرَّبِّ كَمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَ ذَاتِهِ وَذَاتِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْعَبْدُ مُسْتَحِقًّا لِلْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى حَقِيقَةً: فَيَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ: عَالِمٌ قَادِرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ؛ وَالرَّبُّ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ إلَّا مَجَازًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ حَصَلَ لِلْمَخْلُوقِ فَهُوَ مِنْ الرَّبِّ سبحانه وتعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى؛ فَكُلُّ كَمَالٍ حَصَلَ لِلْمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِهِ؛ وَكُلُّ نَقْصٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ فَالْخَالِقُ أَحَقُّ أَنْ يُنَزَّهَ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ اللَّهُ " الْمَثَلُ الْأَعْلَى " فَإِنَّهُ لَا يُقَاسُ بِخَلْقِهِ وَلَا يُمَثَّلُ بِهِمْ وَلَا تُضْرَبُ لَهُ الْأَمْثَالُ. فَلَا يَشْتَرِكُ هُوَ وَالْمَخْلُوقُ فِي قِيَاسِ تَمْثِيلٍ بِمَثَلِ؛ وَلَا فِي قِيَاسِ شُمُولٍ تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ بَلْ {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي هَذِهِ الْأَسْمَاءَ " الْمُشَكِّكَةَ " لِكَوْنِ الْمَعْنَى فِي أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ أَكْمَلَ مِنْهُ فِي الْآخَرِ فَإِنَّ الْوُجُودَ بِالْوَاجِبِ أَحَقُّ مِنْهُ بِالْمُمْكِنِ وَالْبَيَاضَ بِالثَّلْجِ أَحَقُّ مِنْهُ بِالْعَاجِ وَأَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِهَا عَلَى
وَجْهٍ لَا يُمَاثِلُ أَحَدًا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ كُلِّ قِسْمَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَذَلِكَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ مُسَمَّى اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَإِذَا قُيِّدَ بِأَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ تَقَيَّدَ بِهِ. فَإِذَا قِيلَ: وُجُودٌ وَمَاهِيَّةٌ وَذَاتٌ كَانَ هَذَا الِاسْمُ مُتَنَاوِلًا لِلْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَإِنْ كَانَ الْخَالِقُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا. فَإِذَا قِيلَ: وُجُودُ اللَّهِ وَمَاهِيَّتُهُ وَذَاتُهُ اخْتَصَّ هَذَا بِاَللَّهِ؛ وَلَمْ يَبْقَ لِلْمَخْلُوقِ دُخُولٌ فِي هَذَا الْمُسَمَّى وَكَانَ حَقِيقَةً لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ وَذَاتُهُ اخْتَصَّ ذَلِكَ بِالْمَخْلُوقِ وَكَانَ حَقِيقَةً لِلْمَخْلُوقِ. فَإِذَا قِيلَ: وُجُودُ الْعَبْدِ وَمَاهِيَّتُهُ وَحَقِيقَتُهُ لَمْ يَدْخُلْ الْخَالِقُ فِي هَذَا الْمُسَمَّى وَكَانَ حَقِيقَةً لِلْمَخْلُوقِ وَحْدَهُ. وَالْجَاهِلُ يَظُنُّ أَنَّ اسْمَ الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمَخْلُوقَ وَحْدَهُ وَهَذَا ضَلَالٌ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ فِي " الْعُقُولِ " وَ " الشَّرَائِعِ " و " اللُّغَاتِ " فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ بَيْنَ كُلِّ مَوْجُودَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَقَدْرًا مُمَيَّزًا وَالدَّالُّ عَلَى مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ وَحْدَهُ لَا يَسْتَلْزِمُ مَا بِهِ الِامْتِيَازَ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ مُسْتَحِقٌّ لِلْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَقَدْ سَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ كَمَا سَمَّى الْعَبْدَ سَمِيعًا بَصِيرًا وَحَيًّا وَعَلِيمًا وَحَكِيمًا وَرَءُوفًا رَحِيمًا وَمَلِكًا وَعَزِيزًا وَمُؤْمِنًا وَكَرِيمًا وَغَيْرَ ذَلِكَ. مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الِاتِّفَاقَ فِي الِاسْمِ لَا يُوجِبُ مُمَاثِلَةَ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا فَقَطْ؛ مَعَ أَنَّ الْمُمَيِّزَ الْفَارِقَ أَعْظَمُ مِنْ الْمُشْتَرَكِ الْجَامِعِ.
وَأَمَّا " اللُّغَاتُ " فَإِنَّ جَمِيعَ أَهْلِ اللُّغَاتِ - مِنْ الْعَرَبِ وَالرُّومِ وَالْفُرْسِ وَالتُّرْكِ وَالْبَرْبَرِ وَغَيْرِهِمْ - يَقَعُ مِثْلُ هَذَا فِي لُغَاتِهِمْ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي لُغَاتِ جَمِيعِ الْأُمَمِ؛ بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ قَادِرًا فَاعِلًا مِنْ الْعَبْدِ؛ وَأَنَّ اسْتِحْقَاقَ اسْمِ الرَّبِّ الْقَادِرِ لَهُ حَقِيقَةٌ أَعْظَمُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْعَبْدِ لِذَلِكَ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى.
وَقَوْلُ النَّاسِ: إنَّ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا لَا يُرِيدُونَ بِأَنْ يَكُونَ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ أَمْرًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ مَخْلُوقٍ وَمَخْلُوقٍ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ؛ وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ هَذَا مَنْ تَوَهَّمَهُ مَنْ أَهْلِ " الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ " وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ فِي الْخَارِجِ مَاهِيَّاتٍ مُطْلَقَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْأَعْيَانِ الْمَحْسُوسَةِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُجَرِّدُهَا عَنْ الْأَعْيَانِ كَأَفْلَاطُونَ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا تَنْفَكُّ عَنْ الْأَعْيَانِ: كَأَرِسْطُو وَابْنِ سِينَا وَأَشْبَاهِهِمَا. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا مَا دَخَلَ عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الضَّلَالِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي " الْمَنْطِقِ وَالْإِلَهِيَّاتِ " حَتَّى إنَّ طَوَائِفَ مِنْ النُّظَّارِ قَالُوا: إنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ وُجُودَ الرَّبِّ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ - كَمَا هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَمُتَكَلِّمَةِ أَهْلِ الصِّفَاتِ: كَابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا - يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ " الْوُجُودِ " مَقُولًا عَلَيْهِمَا بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَهُمْ؛
بَلْ مَذْهَبُهُمْ: أَنَّ لَفْظَ " الْوُجُودِ " مَقُولٌ بِالتَّوَاطُؤِ وَأَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ وُجُودَ الرَّبِّ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْوُجُودِ عِنْدَهُمْ كَلَفْظِ الْمَاهِيَّةِ. وَكَمَا أَنَّ الْمَاهِيَّةَ وَالذَّاتَ تَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمَةٍ وَمُحْدَثَةٍ وَمَاهِيَّةُ الرَّبِّ عَيْنُ ذَاتِهِ فَكَذَلِكَ الْوُجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَوُجُودُ الرَّبِّ عَيْنُ ذَاتِهِ وَوُجُودُ الْعَبْدِ عَيْنُ ذَاتِهِ وَذَاتُ الشَّيْءِ هِيَ مَاهِيَّتُهُ. فَاللَّفْظُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ وَلَكِنْ بِالْإِضَافَةِ يَخُصُّ أَحَدَ الْمُسَمَّيَيْنِ وَالْمُسَمَّيَانِ إذَا اشْتَرَكَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَالذَّاتِ وَالْمَاهِيَّةِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فِي الْخَارِجِ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ يَكُونُ زَائِدًا عَلَى خُصُوصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ كَمَا يَظُنُّهُ أَرِسْطُو وَابْنُ سِينَا وَالرَّازِي وَأَمْثَالُهُمْ؛ بَلْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ وُجُودٌ مُطْلَقٌ وَلَا مَاهِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ وَلَا ذَاتٌ مُطْلَقَةٌ. أَمَّا الْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ فَقَدْ اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ وَأَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ عَنْ أَفْلَاطُونَ وَأَتْبَاعِهِ هُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ ضَرُورَةً. وَأَمَّا الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ فِي الْخَارِجِ وَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنِ وَهَذَا غَلَطٌ؛ بَلْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا الْمُعَيَّنَاتِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ مُطْلَقٌ يَكُونُ جُزْءُ مُعَيَّنٍ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ بِالْجُزْءِ مَا هُوَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلْمَوْصُوفِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ
الْمَوْصُوفَ مُرَكَّبٌ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَجْزَاءَ الذَّاتِيَّةَ. كَمَا يَقُولُونَ: الْإِنْسَانُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّاطِقِ؛ أَوْ مِنْ الْحَيَوَانِيَّةِ والناطقية؛ وَهَذَا التَّرْكِيبُ تَرْكِيبٌ ذِهْنِيٌّ؛ فَالْمَاهِيَّةُ الْمُرَكَّبَةُ فِي الذِّهْنِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَهِيَ أَجْزَاءُ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ. وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ فَهِيَ مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ؛ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْوُجُودُ الذِّهْنِيِّ بِالْخَارِجِيِّ وَهَذَا الْغَلَطُ وَقَعَ كَثِيرًا فِي أَقْوَالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ؛ فَأَوَائِلُهُمْ كَأَصْحَابِ فيثاغورس كَانُوا يَقُولُونَ بِوُجُودِ أَعْدَادٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ الْمَعْدُودَاتِ فِي الْخَارِجِ؛ وَأَصْحَابُ أَفْلَاطُونَ يَقُولُونَ: بِوُجُودِ الْمُثُلِ الأفلاطونية وَهِيَ الْحَقَائِقُ الْمُطْلَقَةُ عَنْ الْمُعَيَّنَاتِ فِي الْخَارِجِ. وَهَذِهِ الْحَقَائِقُ مُقَارِنَةٌ لِلْمُعَيَّنَاتِ فِي الْخَارِجِ كَمَا أَثْبَتُوا جَوَاهِرَ عَقْلِيَّةً؛ وَهِيَ الْمُجَرَّدَاتُ: كَالْمَادَّةِ وَالْهَيُولَى؛ وَالْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِلْمَاهِيَّةِ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْأَنْوَاعُ وَيُسَمُّونَهَا الْأَجْنَاسَ وَالْفُصُولَ؛ وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ اللَّازِمَةِ لِلْمَاهِيَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا خَوَّاصًا وَأَعْرَاضًا عَامَّةً؛ وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ هِيَ الْكُلِّيَّاتُ وَهِيَ الْجِنْسُ وَالْفَصْلُ وَالنَّوْعُ وَالْعَرَضُ الْعَامُّ وَالْخَاصَّةُ وَقَدْ وَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ الْغَلَطِ فِي " مَنْطِقِهِمْ " وَفِي " الْإِلَهِيَّاتِ " مَا ضَلَّ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْخَلْقِ؛ وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ؛ وَلِهَذَا كَانَ لَفْظُ الْمُرَكَّبِ
عِنْدَهُمْ يُقَالُ عَلَى خَمْسَةِ مَعَانٍ: عَلَى الْمُرَكَّبِ مِنْ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ وَالْمُرَكَّبِ مِنْ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْمُرَكَّبِ مِنْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَالْمُرَكَّبِ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَالْقَائِلُونَ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ يُثْبِتُونَ التَّرْكِيبَ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ. وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ أَنَّ تَسْمِيَةَ مِثْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي تَرْكِيبًا أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ وَهُوَ إمَّا أَمْرٌ ذِهْنِيٌّ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إلَى صِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ قَائِمَةٍ بِالْمَوْصُوفِ وَهَذَا حَقٌّ. فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: إثْبَاتُ الصِّفَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ بَلْ صِفَاتُ الْكَمَالِ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ ذَاتِهِ بِدُونِ صِفَاتِ الْكَمَالِ اللَّازِمَةِ لَهُ؛ بَلْ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ ذَاتٍ مِنْ الذَّوَاتِ عَرِيَّةً عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَهَذَا كُلُّهُ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ إذَا قِيلَ هَذَا إنْسَانٌ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ بِهَذَا الْمُسَمَّى بِإِنْسَانِ؛ وَلَيْسَ الْإِنْسَانُ الْمُطْلَقُ جُزْءًا مِنْ هَذَا وَلَيْسَ الْإِنْسَانُ هُنَا إلَّا مُقَيَّدًا وَإِنَّمَا يُوجَدُ مُطْلَقًا فِي الذِّهْنِ؛ لَا فِي الْخَارِجِ. وَإِذَا قِيلَ هَذَا فِي الْإِنْسَانِيَّةِ فَالْمَعْنَى أَنَّ بَيْنَهُمَا تَشَابُهًا فِيهَا؛ لَا أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا مَوْجُودًا فِي الْأَعْيَانِ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ. فَلْيَتَدَبَّرْ اللَّبِيبُ هَذَا فَإِنَّهُ يَحُلُّ شُبُهَاتٍ كَثِيرَةً وَمَنْ فَهِمَ هَذَا الْمَوْضِعَ تَبَيَّنَ لَهُ غَلَطُ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَقُولَةً بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ لَا الْمَعْنَوِيِّ وَغَلَطُ مَنْ جَعَلَ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى أَعْلَامًا مَحْضَةً لَا تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْخَارِجِ
حَقَائِقَ مُطْلَقَةً يَشْتَرِكُ فِيهَا الْأَعْيَانُ وَعَلِمَ أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّ الرَّبُّ لِنَفْسِهِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرَهُ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَلَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ. وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ فَقَدْ يُمَاثِلُهُ غَيْرُهُ فِي صِفَاتِهِ لَكِنْ لَا يُشْرِكُهُ فِي غَيْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْهَا وَالْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ الْمَقُولَةُ عَلَى هَذَا وَهَذَا حَقِيقَةٌ فِي هَذَا وَهَذَا. فَإِذَا كَانَتْ عَامَّةً لَهُمَا تَنَاوَلَتْهُمَا وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً لَمْ يَمْنَعْ تَصَوُّرُهُمَا مِنْ اشْتِرَاكِهِمَا فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً اخْتَصَّتْ بِمَحَلِّهَا. فَإِذَا قَالَ: وُجُودُ اللَّهِ وَذَاتُ اللَّهِ وَعِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَةُ اللَّهِ وَسَمْعُ اللَّهِ وَبَصَرُ اللَّهِ وَإِرَادَةُ اللَّهِ. وَكَلَامُ اللَّهِ؛ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَغَضَبُ اللَّهِ وَاسْتِوَاءُ اللَّهِ وَنُزُولُ اللَّهِ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ؛ وَإِرَادَةُ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ كُلُّهَا حَقِيقَةً لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يُمَاثِلَهُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ. وَإِذَا قَالَ: وُجُودُ الْعَبْدِ وَذَاتُهُ وَمَاهِيَّتُهُ وَعِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَكَلَامُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ؛ وَنُزُولُهُ: كَانَ هَذَا حَقِيقَةٌ لِلْعَبْدِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُمَاثِلَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمُشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ والمناكح مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ فِيهَا لَبَنًا؛ وَعَسَلًا وَخَمْرًا وَلَحْمًا؛ وَحَرِيرًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً وَحُورًا وَقُصُورًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ.
فَتِلْكَ الْحَقَائِقُ الَّتِي فِي الْآخِرَةِ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِهَذِهِ الْحَقَائِقِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ مُشَابِهَةً لَهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَالِاسْمِ يَتَنَاوَلُهَا حَقِيقَةً. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَالِقَ أَبْعَدُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ فِيمَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مُمَاثِلًا لِمَخْلُوقَاتِهِ؟ وَأَنْ يُقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِحَقِيقَةِ وَهَلْ يَكُونُ أَحَقُّ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلْيَا مِنْ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَعَ أَنَّ مُبَايَنَتَهُ لِلْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمُ مِنْ مُبَايَنَةِ كُلِّ مَخْلُوقٍ. وَالْجَاهِلُ يَضِلُّ بِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إنَّ الْعَرَبَ وَضَعُوا لَفْظَ الِاسْتِوَاءِ لِاسْتِوَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْمَنْزِلِ أَوْ الْفُلْكِ أَوْ اسْتِوَاءِ السَّفِينَةِ عَلَى الْجُودِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ اسْتِوَاءِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ فَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إنَّمَا وَضَعُوا لَفْظَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ لِمَا يَكُونُ مَحَلُّهُ حَدَقَةً وَأَجْفَانًا وَأَصْمِخَةً وَأُذُنًا وَشَفَتَيْنِ وَهَذَا ضَلَالٌ فِي الشَّرْعِ وَكَذِبٌ وَإِنَّمَا وَضَعُوا لَفْظَ الرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ لِمَا يَكُونُ مَحَلُّهُ مُضْغَةَ لَحْمٍ وَفُؤَادٍ وَهَذَا كُلُّهُ جَهْلٌ مِنْهُ. فَإِنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا وَضَعَتْ لِلْإِنْسَانِ مَا أَضَافَتْهُ إلَيْهِ فَإِذَا قَالَتْ: سَمْعُ الْعَبْدِ وَبَصَرُهُ وَكَلَامُهُ وَعِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ وَرَحْمَتُهُ فَمَا يَخُصُّ بِهِ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ خَصَائِصَ الْعَبْدِ. وَإِذَا قِيلَ: سَمْعُ اللَّهِ وَبَصَرُهُ وَكَلَامُهُ وَعِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ وَرَحْمَتُهُ كَانَ هَذَا مُتَنَاوِلًا لِمَا يُخَصُّ بِهِ الرَّبُّ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا الِاسْتِوَاءَ إذَا كَانَ حَقِيقَةً يَتَنَاوَلُ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مَعَ كَوْنِ النَّصِّ قَدْ خَصَّهُ بِاَللَّهِ كَانَ جَاهِلًا جِدًّا بِدَلَالَاتِ اللُّغَاتِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
وَهَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ يُمَثِّلُونَ فِي ابْتِدَاءِ فَهْمِهِمْ صِفَاتِ الْخَالِقِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِ: ثُمَّ يَنْفُونَ ذَلِكَ وَيُعَطِّلُونَهُ فَلَا يَفْهَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ وَيَنْفُونَ مَضْمُونَ ذَلِكَ وَيَكُونُونَ قَدْ جَحَدُوا مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ مِنْ خَصَائِصِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَخَرَجُوا عَنْ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ وَالنَّصِّ الشَّرْعِيِّ فَلَا يَبْقَى بِأَيْدِيهِمْ لَا مَعْقُولٌ صَرِيحٌ وَلَا مَنْقُولٌ صَحِيحٌ ثُمَّ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إثْبَاتِ بَعْضِ مَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَإِذَا أَثْبَتُوا الْبَعْضَ وَنَفَوْا الْبَعْضَ قِيلَ لَهُمْ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مِمَّا أَثْبَتُّمُوهُ وَنَفَيْتُمُوهُ؟ وَلِمَ كَانَ هَذَا حَقِيقَةً وَلَمْ يَكُنْ هَذَا حَقِيقَةً؟ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ أَصْلًا وَظَهَرَ بِذَلِكَ جَهْلُهُمْ وَضَلَالُهُمْ شَرْعًا وَقَدْرًا. وَقَدْ تَدَبَّرْت كَلَامَ عَامَّةِ مَنْ يَنْفِي شَيْئًا مِمَّا أَثْبَتَهُ الرُّسُلُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَوَجَدْتهمْ كُلَّهُمْ مُتَنَاقِضِينَ؛ فَإِنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ لِمَا نَفَوْهُ بِنَظِيرِ مَا يَحْتَجُّ بِهِ النَّافِي لِمَا أَثْبَتُوهُ؛ فَيَلْزَمُهُمْ إمَّا إثْبَاتُ الْأَمْرَيْنِ وَإِمَّا نَفْيُهُمَا؛ فَإِذَا نَفَوْهُمَا فَلَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِالْوَاجِبِ الْوُجُودِ وَعَدَمِهِ جَمِيعًا وَهَذَا نِهَايَةُ هَؤُلَاءِ الْنُّفَاةِ الْمَلَاحِدَةِ الْغُلَاةِ مِنْ الْقَرَامِطَةِ وَغُلَاةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ؛ فَإِنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا يَنْفُونَ النَّقِيضَيْنِ جَمِيعًا؛ فَالنَّقِيضَانِ كَمَا أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ؛ فَلَا يَرْتَفِعَانِ. وَمِنْ جِهَةِ إنَّ مَا يَسْلُبُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَصَوَّرُوهُ وَأَنْ يُعَبِّرُوا عَنْهُ؛ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ مَسْبُوقٌ بِالتَّصَوُّرِ وَمَتَى تَصَوَّرُوهُ وَعَبَّرُوا عَنْهُ كَقَوْلِهِمْ الثَّابِتِ وَالْوَاجِبِ أَوْ أَيُّ شَيْءٍ قَالُوهُ لَزِمَهُمْ فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ نَظِيرُ مَا يَلْزَمُهُمْ فِيمَا نَفَوْهُ
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَصَوَّرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِمْ: أَسْمَاءُ اللَّهِ مَقُولَةٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَقَطْ. فَإِنَّ الْمُشْتَرِكِينَ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا لَا مَعْنَوِيًّا كَلَفْظِ الْمُشْتَرَى الْمَقُولِ عَلَى الْكَوْكَبِ وَالْمُبْتَاعِ وَسُهَيْلٍ الْمَقُولِ عَلَى الْكَوْكَبِ وَعَلَى ابْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ إذَا سَمِعَ الْمُسْتَمِعُ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ: جَاءَنِي سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَذَا هُوَ الْمُشْتَرِي لِهَذِهِ السِّلْعَةِ لَمْ يَفْهَمْ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ كَوْكَبًا أَصْلًا إلَّا أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لَهُ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ أَسْمَاؤُهُ مُتَوَاطِئَةً لَمْ يَفْهَمْ الْعِبَادُ مِنْ أَسْمَائِهِ شَيْئًا أَصْلًا إلَّا أَنْ يَعْرِفُوا مَا يَخُصُّ ذَاتَهُ وَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مَا يَخُصُّ ذَاتَهُ فَلَمْ يَعْرِفُوا شَيْئًا.
ثُمَّ إنَّ الْعِلْمَ بِانْقِسَامِ الْوُجُودِ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ فَالْقَادِحُ سوفسطائي. وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِأَنَّ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ. وَإِذَا قِيلَ: إنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا لَمْ يَحْتَجْ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَكُونَ أَهْلُ اللُّغَةِ قَدْ تَكَلَّمُوا بِاللَّفْظِ مُطْلَقًا فَعَبَّرُوا عَنْ الْمَعْنَى الْمُطْلَقِ الْمُشْتَرَكِ؛ فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي لَا تَكُونُ إلَّا مُضَافَةً إلَى غَيْرِهَا: كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالِاسْتِوَاءِ؛ بَلْ وَالْيَدُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ إلَّا صِفَةً قَائِمَةً بِغَيْرِهِ أَوْ جِسْمًا قَائِمًا بِغَيْرِهِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مُجَرَّدًا عَنْ مَحَلِّهِ. وَلَكِنَّ أَهْلَ النَّظَرِ لَمَّا أَرَادُوا تَجْرِيدَ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ عَبَّرُوا عَنْهَا بِالْأَلْفَاظِ الْكُلِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَأَهْلُ اللُّغَةِ فِي ابْتِدَاءِ خِطَابِهِمْ يَقُولُونَ - مَثَلًا -: جَاءَ زَيْدٌ وَهَذَا وَجْهُ زَيْدٍ؛ وَيُشِيرُونَ إلَى مَا قَامَ بِهِ مِنْ الْمَجِيءِ وَالْوَجْهِ فَيَفْهَمُ الْمُخَاطَبُ ذَلِكَ.
ثُمَّ يَقُولُونَ تَارَةً أُخْرَى: جَاءَ عَمْرٌو وَرَأَيْت وَجْهَ عَمْرٍو وَجَاءَ الْفَرَسُ وَرَأَيْت وَجْهَ الْفَرَسِ فَيَفْهَمُ الْمُسْتَمِعُ أَنَّ بَيْنَ هَذِهِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَقَدْرًا مُمَيَّزًا وَأَنَّ لِعَمْرٍو مَجِيئًا وَوَجْهًا نِسْبَتُهُ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ مَجِيءِ زَيْدٍ وَوَجْهِهِ إلَيْهِ فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ عَمْرًا مِثْلُ زَيْدٍ عُلِمَ أَنَّ مَجِيئَهُ مِثْلُ مَجِيئِهِ وَوَجْهَهُ مِثْلُ وَجْهِهِ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْفَرَسَ لَيْسَتْ مِثْلُ زَيْدٍ بَلْ تُشَابِهُهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ عُلِمَ أَنَّ مَجِيئَهَا وَوَجْهَهَا لَيْسَ مَجِيءَ زَيْدٍ وَوَجْهَهُ بَلْ تُشْبِهُهُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: جَاءَتْ الْمَلَائِكَةُ وَرَأَتْ الْأَنْبِيَاءُ وُجُوهَ الْمَلَائِكَةِ عُلِمَ أَنَّ لِلْمَلَائِكَةِ مَجِيئًا وَوُجُوهًا نِسْبَتُهَا إلَيْهَا كَنِسْبَةِ مَجِيءِ الْإِنْسَانِ وَوَجْهِهِ إلَيْهِ ثُمَّ مَعْرِفَتُهُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ تَبَعُ مَعْرِفَتِهِ بِحَقِيقَةِ الْمَلَائِكَةِ؛ فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْمَلَائِكَةَ: إلَّا مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ كَيْفِيَّتَهُمْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجِيئِهِمْ وَوُجُوهِهِمْ لَا يَعْرِفُهَا إلَّا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَلَا يُتَصَوَّرُ كَيْفِيَّتُهَا. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: جَاءَتْ الْجِنُّ فَاللَّفْظُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يَدُلُّ عَلَى مَعَانِيهَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ بَلْ إذَا قِيلَ: حَقِيقَةُ الْمَلَكِ وَمَاهِيَّتُهُ لَيْسَتْ مِثْلَ حَقِيقَةِ الْجِنِّيِّ وَمَاهِيَّتِهِ كَانَ لَفْظُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَاهِيَّةِ مُسْتَعْمَلًا فِيهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ وَكَانَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ مَعَ أَنَّ الْمُسَمَّيَاتِ قَدْ صَرَّحَ فِيهَا بِنَفْيِ التَّمَاثُلِ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ خَمْرُ الدُّنْيَا لَيْسَ كَمِثْلِ خَمْرِ الْآخِرَةِ وَلَا ذَهَبُهَا مِثْلُ ذَهَبِهَا وَلَا لَبَنُهَا مِثْلُ لَبَنِهَا وَلَا
عَسَلُهَا مِثْلُ عَسَلِهَا كَانَ قَدْ صَرَّحَ فِي ذَلِكَ بِنَفْيِ التَّمَاثُلِ مَعَ أَنَّ الِاسْمَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ. وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: هَذَا الْمَخْلُوقُ مَا هُوَ مِثْلُ هَذَا الْمَخْلُوقِ وَهَذَا الْحَيَوَانُ الَّذِي هُوَ النَّاطِقُ لَيْسَ مِثْلَ الْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ الصَّامِتُ أَوْ هَذَا اللَّوْنُ الَّذِي هُوَ الْأَبْيَضُ لَيْسَ مِثْلَ الْأَسْوَدِ أَوْ الْمَوْجُودُ الَّذِي هُوَ الْخَالِقُ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْمَوْجُودِ الَّذِي هُوَ الْمَخْلُوقُ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ مُسْتَعْمَلَةً عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ فِي الْمُسَمَّيَيْنِ الَّذِينَ صَرَّحَ بِنَفْيِ التَّمَاثُلِ بَيْنَهُمَا فَالْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ إنَّمَا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّيَانِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ مُتَضَادَّيْنِ.
فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ إذَا كَانَتْ حَقِيقَةً لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِلْمَخْلُوقِينَ وَأَنَّ صِفَاتِهِ مُمَاثِلَةٌ لِصِفَاتِهِمْ كَانَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَكَانَ أَوَّلُ كَلَامِهِ سَفْسَطَةً وَآخِرُهُ زَنْدَقَةً لِأَنَّهُ يَقْتَضِي نَفْيَ جَمِيعِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَهَذَا هُوَ غَايَةُ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ. وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ صِفَةٍ وَصِفَةٍ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي أَسْبَابِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ: كَانَ مُتَنَاقِضًا فِي قَوْلِهِ مُتَهَافِتًا فِي مَذْهَبِهِ مُشَابِهًا لِمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرَ بِبَعْضِ. وَإِذَا تَأَمَّلَ اللَّبِيبُ الْفَاضِلُ هَذِهِ الْأُمُورَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ
فِي غَايَةِ الِاسْتِقَامَةِ وَالسَّدَادِ وَالصِّحَّةِ وَالِاطِّرَادِ وَأَنَّهُ مُقْتَضَى الْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ وَالْمَنْقُولِ الصَّحِيحِ وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهُ كَانَ مَعَ تَنَاقُضِ قَوْلِهِ الْمُخْتَلِفِ الَّذِي يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ خَارِجًا عَنْ مُوجَبِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ مُخَالِفًا لِلْفِطْرَةِ وَالسَّمْعِ وَاَللَّهُ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا وَعَلَى سَائِرِ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَجْمَعُ لَنَا وَلَهُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} فَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ مَنْ اتَّخَذَ إلَهًا جَسَدًا؛ وَ " الْجَسَدُ " هُوَ الْجِسْمُ؛ فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ ذَمَّ مَنْ اتَّخَذَ إلَهًا هُوَ جِسْمٌ. وَإِثْبَاتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَهَذَا مُنْتَفٍ بِهَذَا الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ. فَهَذَا خُلَاصَةُ مَا يَقُولُهُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْتَمِدُ فِي ذَلِكَ عَلَى الشَّرْعِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا أَنَّ هَذَا إذَا دَلَّ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ جَسَدًا؛ لَا عَلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَالْجِسْمُ فِي اصْطِلَاحِ هَؤُلَاءِ - نفاة الصِّفَاتِ - أَعَمُّ مِنْ الْجَسَدِ. فَإِنَّ الْجِسْمَ يَنْقَسِمُ عِنْدَهُمْ إلَى كَثِيفٍ وَلَطِيفٍ؛ بِخِلَافِ الْجَسَدِ. فَإِنْ أَرَدْت بِقَوْلِك الْجِسْمَ اللُّغَوِيَّ - وَهُوَ الَّذِي قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ إنَّهُ هُوَ
الْجَسَدُ - قِيلَ لَك: لَا يَلْزَمُ مِنْ إثْبَاتِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ أَنْ يَكُونَ جَسَدًا وَهُوَ الْجِسْمُ اللُّغَوِيُّ. فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْهَوَاءَ يَعْلُو عَلَى الْأَرْضِ وَلَيْسَ هُوَ بِجَسَدِ؛ وَالْجَسَدُ هُوَ الْجِسْمُ اللُّغَوِيُّ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: لَوْ كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ لَكَانَ جِسْمًا. وَالْجِسْمُ هُوَ الْجَسَدُ وَالْجَسَدُ مُنْتَفٍ بِالشَّرْعِ: كَلَامٌ مُلَبِّسٌ. فَإِنَّهُ إنْ عَنَى بِالْجِسْمِ الْجَسَدَ: كَانَتْ الْمُقَدِّمَةُ الْأَوْلَى مَمْنُوعَةً؛ فَإِنَّ عَاقِلًا لَا يَقُولُ إنَّهُ لَوْ كَانَ فَوْقَ الْعَرْشِ لَكَانَ جَسَدًا؛ وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ: لَكَانَ جَسَدًا وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ: إنَّهُ لَوْ كَانَ يَرَى وَيَتَكَلَّمُ لَكَانَ جَسَدًا وَبَدَنًا. فإن الْمَلَائِكَةَ لَهُمْ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَتَرَى وَتَتَكَلَّمُ وَكَذَلِكَ الْجِنُّ وَكَذَلِكَ الْهَوَاءُ يَعْلُو عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِجَسَدِ. وَإِنْ عَنَى بِالْجِسْمِ مَا يَعْنِيه أَهْلُ الْكَلَامِ؛ مِنْ أَنَّهُ الَّذِي يُشَارُ إلَيْهِ وَجَعَلُوا كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ جِسْمًا وَكُلَّ مَا يُرَى جِسْمًا أَوْ كُلَّ مَا يُمْكِنُ أَنَّهُ يُرَى أَوْ يُوصَفُ بِالصِّفَاتِ فَهُوَ جِسْمٌ أَوْ كُلَّ مَا يَعْلُو عَلَى غَيْرِهِ وَيَكُونُ فَوْقَهُ فَهُوَ جِسْمٌ. فَيُقَالُ لَهُ: فَالْجَسَدُ وَالْجِسْمُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ الْكَلَامِيِّ لَيْسَ هُوَ جَسَدًا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ؛ بَلْ هُوَ مُنْقَسِمٌ إلَى غَلِيظٍ وَرَقِيقٍ إلَى مَا هُوَ جَسَدٌ وَإِلَى مَا لَيْسَ بِجَسَدِ.
وَلِذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: النَّجَاسَةُ إنْ كَانَتْ مُتَجَسِّدَةً كَالْمَيْتَةِ فَحُكْمُهَا كَذَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَجَسِّدَةٍ كَالْبَوْلِ فَحُكْمُهَا كَذَا. وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِجَسَدِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ لَا يَكُونُ جِسْمًا بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ أَعَمُّ عِنْدَهُمْ مِنْ الْجَسَدِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْخَاصِّ نَفْيُ الْعَامِّ؛ كَمَا إذَا قُلْت لَيْسَ هُوَ بِإِنْسَانِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيَوَانِ. فَلَفْظُ الْجِسْمِ فِيهِ اشْتِرَاكٌ بَيْنَ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ وَمَعْنَاهُ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْكَلَامِ؛ فَإِذَا كَانَ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ هُوَ مَعْنَى الْجَسَدِ - وَهَذَا مُنْتَفٍ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الدَّلِيلِ - بَطَلَ قَوْلُ مَنْ نَفَى الِاسْتِوَاءَ بِالذَّاتِ؛ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الصِّفَاتِ. بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ: لَكَانَ جِسْمًا فَإِنَّ التَّلَازُمَ حِينَئِذٍ مُنْتَفٍ فَإِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَةٌ؛ إمَّا الْأُولَى وَإِمَّا الثَّانِيَةُ. وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ لَكَانَ مَحَلًّا لِلْأَعْرَاضِ وَمَا كَانَ مَحَلًّا لِلْأَعْرَاضِ فَهُوَ مَحَلُّ الْآفَاتِ وَالْعُيُوبِ فَلَا يَكُونُ قُدُّوسًا وَلَا سَلَامًا لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: الْعَرَضُ بِالتَّحْرِيكِ مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ فَلَوْ جَازَ أَنْ تَقُومَ بِهِ هَذِهِ لَكَانَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ مَعِيبًا نَاقِصًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ عَنْ ذَلِكَ؛ إذْ هُوَ السَّلَامُ الْقُدُّوسُ. فَيُقَالُ: لَفْظُ الْعَرَضِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ مَا ذَكَرَ مِنْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ وَبَيْنَ مَعْنَاهُ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْكَلَامِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ - عِنْدَ مَنْ يُسَمِّي الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ
مُطْلَقًا عَرَضًا - مَا قَامَ بِغَيْرِهِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَرَكَةِ. وَالسُّكُونِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: هُوَ مَا لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ. وَيَقُولُونَ: إنَّ صِفَاتِ الْخَالِقِ بَاقِيَةٌ بِخِلَافِ مَا يَقُومُ بِالْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الصِّفَاتِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ إذَا قَالَ لَوْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ لَكَانَ عَرَضًا وَمَا قَامَ بِهِ الْعَرَضُ قَامَتْ بِهِ الْآفَاتُ كَلَامٌ فِيهِ تَلْبِيسٌ؛ فَإِنَّ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَةٌ. فَإِنَّ لَفْظَ الْعَرَضِ إنْ فُسِّرَ بِالصِّفَةِ فَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ؛ وَإِنْ فُسِّرَ بِمَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ فَالْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى بَاطِلَةٌ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ قَدْ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ لَكَانَ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا وَقَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ فِعْلٌ حَادِثٌ - كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ - فَلَوْ قَامَ بِهِ الِاسْتِوَاءُ لَقَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ وَمَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ فَقَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا} وَلِقَوْلِهِ: {وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} . فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: الْحَادِثُ فِي اللُّغَةِ مَا كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ؛ فَمَا مِنْ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ إلَّا وَقَدْ حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ.
وَأَمَّا الْمُحْدَثَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَهِيَ الْمُحْدَثَاتُ فِي الدِّينِ وَهُوَ أَنْ يُحْدِثَ الرَّجُلُ بِدْعَةً فِي الدِّينِ لَمْ يَشْرَعْهَا اللَّهُ وَالْإِحْدَاثُ فِي الدِّينِ مَذْمُومٌ مِنْ الْعِبَادِ وَاَللَّهُ يُحْدِثُ مَا يَشَاءُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. فَاللَّفْظُ الْمُشْتَبِهُ الْمُجْمَلُ إذَا خُصَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَقَعَ فِيهِ الضَّلَالُ وَالْإِضْلَالُ. وَقَدْ قِيلَ إنَّ أَكْثَرَ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ بُطْلَانِ مَا ذَكَرَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ: لَا أَجْسَادَ الْآدَمِيِّينَ وَلَا أَرْوَاحَهُمْ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْ جِنْسِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ تَكُونُ حَقِيقَتُهُ كَحَقِيقَتِهِ لَلَزِمَ أَنْ يَجُوزَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَجُوزُ عَلَى الْآخَرِ وَيَجِبُ لَهُ مَا يَجِبُ لَهُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ؛ غَيْرَ قَدِيمٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَأَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ الَّذِي يَمْتَنِعُ غِنَاهُ غَنِيًّا يَمْتَنِعُ افْتِقَارُهُ إلَى الْخَالِقِ؛ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَنَاقِضَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى نَزَّهَ نَفْسَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ كُفُؤٌ أَوْ مِثْلٌ أَوْ سَمِيٌّ أَوْ نِدٌّ.
فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ يُعْلَمُ بِهَا تَنَزُّهُ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ أَجْسَادِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لَكِنَّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} اسْتَدَلَّ بِحُجَّةِ ضَعِيفَةٍ فَإِنَّ " الْجَسَدَ " وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّ الْجَسَدَ هُوَ الْبَدَنُ يُقَالُ مِنْهُ تَجَسَّدَ كَمَا يُقَالُ: مِنْ الْجِسْمِ تَجَسَّمَ وَالْجَسَدُ أَيْضًا الزَّعْفَرَانُ وَنَحْوُهُ مِنْ الصَّبْغِ وَهُوَ الدَّمُ أَيْضًا. كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
وَمَا أُرِيقَ عَلَى الْأَصْنَامِ مِنْ جَسَدٍ
فَلَيْسَ الْمُرَاد بِالْجَسَدِ فِي الْقُرْآنِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَلَيْسَ الْمُرَاد مِنْ الْعِجْلِ أَنَّ لَهُ بَدَنًا مِثْلُ بَدَنِ الْآدَمِيِّينَ وَلَا بَدَنًا كَأَبْدَانِ الْبَقَرِ فَإِنَّ الْعِجْلَ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَالْعَرَبُ تَقُولُ جَسِدَ بِهِ الدَّمُ يَجْسَدُ جَسَدًا إذَا لَصِقَ بِهِ فَهُوَ جَاسِدٌ وَجَسِدٌ. قَالَ الشَّاعِر:
سَاعِدٌ بِهِ جَسِدٌ مُوَرَّسُ
…
مِنْ الدِّمَاءِ مَائِعٌ وَيَبِسُ
وَالْجَسَدُ الْأَحْمَرُ وَالْجَسَدُ مَا أُشْبِعَ صَبْغُهُ مِنْ الثِّيَابِ؛ لِكَمَالِ مَا لَصِقَ بِهِ مِنْ الصَّبْغِ فَاللَّفْظُ فِيهِ مَعْنَى التَّكَاثُفِ وَالتَّلَاصُقِ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ نَجَاسَةٌ مُتَجَسِّدَةٌ وَغَيْرُ مُتَجَسِّدَةٍ وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ الْجَسَدُ الْمُصْمَتُ الْمُتَلَاصِقُ الْمُتَكَاثِفُ أَوْ الَّذِي لَا حَيَاةَ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَفْظَةَ الْجَسَدِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} وَقَالَ تَعَالَى:
{وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} وَقَالَ: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} كَأَنَّهُ عِجْلٌ مُصْمَتٌ لَا جَوْفَ لَهُ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ خَارَ خورة. وَلَمْ يَقُلْ عِجْلًا لَهُ جَسَدٌ لَهُ بَدَنٌ لَهُ جِسْمٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ عِجْلٍ لَهُ جَسَدٌ هُوَ بَدَنُهُ وَهُوَ جِسْمُهُ وَالْعِجْلُ الْمَعْرُوفُ جَسَدٌ فِيهِ رُوحٌ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مَا أَخْرَجَهُ كَانَ جَسَدًا مُصْمَتًا لَا رُوحَ فِيهِ حَتَّى تَبَيَّنَ نَقْصُهُ وَأَنَّهُ كَانَ مَسْلُوبَ الْحَيَاةِ وَالْحَرَكَةِ. وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّهُ إنَّمَا خَارَ خورة وَاحِدَةً وَقَدْ يُقَالُ: إنْ أُرِيدَ بِالْجَسَدِ الْمُصْمَتُ أَوْ الْغَلِيظُ وَنَحْوُهُ فَلِمَ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ ذَكَرَ لِبَيَانِ نَقْصِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ بَلْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ضَلُّوا بِهِ وَإِنَّمَا كَانَ النَّقْصُ مِنْ جِهَةِ {أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} وَقَدْ يُقَالُ: إذَا كَانَ لَا حَيَاةَ فِيهِ فَالنَّقْصُ كَانَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْحَيَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ؛ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ لَهُ بَدَنٌ أَوْ لَيْسَ لَهُ بَدَنٌ؛ فَالْآدَمِيُّ لَهُ بَدَنٌ. وَلَوْ أَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا كَسَائِرِ الْعُجُولِ أَوْ آدَمِيًّا كَامِلًا أَوْ فَرَسًا حَيًّا أَوْ جَمَلًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْحَيَوَانِ: لَكَانَ أَيْضًا لَهُ بَدَنٌ وَلَكِنَّ ذَلِكَ أُعْجُوبَةٌ عَظِيمَةٌ وَكَانَتْ الْفِتْنَةُ بِهِ أَشَدَّ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّ الْمُخْرَجَ كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ النَّقْصِ يُحَقِّقُ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} فَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا عَابَهُ بِهِ كَوْنَهُ ذَا جَسَدٍ؛ وَلَكِنْ ذَكَرَ فِيمَا عَابَهُ بِهِ {أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} وَلَوْ كَانَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ ذَا بَدَنٍ عَيْبًا وَنَقْصًا لَذَكَرَ ذَلِكَ. فَعُلِمَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى نَقْصِ حُجَّةِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَى أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ ذَا بَدَنٍ عَيْبًا وَنَقْصًا وَهَذِهِ الْحُجَّةُ نَظِيرُ احْتِجَاجِهِمْ بِالْأُفُولِ فَإِنَّهُمْ غَيَّرُوا مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ وَجَعَلُوهُ الْحَرَكَةَ فَظَنُّوا أَنَّ إبْرَاهِيمَ احْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوهُ: لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ. (الْوَجْهُ الرَّابِعُ) : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ثُمَّ قَالَ: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} وَقَالَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} فَلَمْ يَقْتَصِرْ فِي وَصْفِهِ عَلَى مُجَرَّدِ كَوْنِهِ جَسَدًا. بَلْ وَصَفَهُ بِأَنَّ لَهُ خُوَارًا وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا. فَالْمُوجِبُ لِنَقْصِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَ الصِّفَاتِ أَوْ بَعْضَهَا أَوْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا؛ فَإِنْ كَانَ الْمَجْمُوعَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ نَقْصَهَا وَاحِدَةً نَقْصٌ وَإِنْ كَانَ بَعْضَهَا فَلَيْسَ كَوْنُهُ جَسَدًا بِأَوْلَى مِنْ كَوْنِهِ لَهُ خُوَارٌ. وَلَيْسَ هَذَا وَهَذَا بِأَوْلَى مِنْ كَوْنِهِ مَسْلُوبَ
التَّكَلُّمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ إنَّمَا ضَلُّوا بِخُوَارِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ التَّكَلُّمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ. (الْوَجْهُ الْخَامِسُ) : أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ جَسَدًا وَكَوْنَهُ لَهُ خُوَارٌ صِفَةَ نَقْصٍ؛ وَإِنَّمَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ كَوْنَهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعِهِمْ وَضَرِّهِمْ نَقْصٌ يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّ الْخُوَارَ هُوَ الصَّوْتُ وَالْإِنْسَانُ الَّذِي يُصَوِّتُ؛ وَيُقَالُ: خَارَ يَخُورُ الثَّوْرُ وَهُوَ يُكَلِّمُ غَيْرَهُ وَقَدْ يَهْدِيه السَّبِيلُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّ صِفَاتِ الْعِجْلِ نَاقِصَةٌ عَنْ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يُكَلِّمُ غَيْرَهُ وَيَهْدِيه؛ فَالْعَابِدُ أَكْمَلُ مِنْ الْمَعْبُودِ يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَلَّمَهُمْ لَكَانَ أَيْضًا مُصَوِّتًا فَلَوْ كَانَ ذِكْرُ الصَّوْتِ لِبَيَانِ نَقْصِهِ لَبَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ} فَإِنَّ تَكْلِيمَهُ لَهُمْ لَوْ كَلَّمَهُمْ إنَّمَا كَانَ يَكُونُ بِصَوْتِ يَسْمَعُونَهُ مِنْهُ. فَعُلِمَ أَنَّ ذِكْرَ التَّصْوِيتِ لَمْ يَكُنْ لِكَوْنِهِ صِفَةَ نَقْصٍ فَكَذَلِكَ ذِكْرُ الْجَسَدِ. وَبِالْجُمْلَةِ: مَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى هَذَا وَهَذَا هُوَ الْعَيْبُ الَّذِي عَابَهُ بِهِ وَجَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ إلَهِيَّتِهِ؛ فَقَدْ قَالَ عَلَى الْقُرْآنِ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ بَلْ هُوَ عَلَى نَقِيضِهِ أَدَلُّ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ عَنْ الْخَلِيلِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ} {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} فَاحْتَجَّ عَلَى نَفْيِ إلَهِيَّتِهَا بِكَوْنِهَا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ؛ مَعَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا لَهُ بَدَنٌ وَجِسْمٌ سَوَاءٌ كَانَ حَجَرًا أَوْ غَيْرَهُ. فَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ هَذَا الِاحْتِجَاجِ كَافِيًا لَذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ؛ بَلْ إنَّمَا احْتَجُّوا بِمِثْلِ مَا احْتَجَّ اللَّهُ بِهِ مِنْ نَفْيِ صِفَاتِ الْكَمَالِ عَنْهَا: كَالتَّكَلُّمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَرَكَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى إمَّا أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى أَنَّ الْإِلَهُ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِبَعْضِ هَذِهِ الصِّفَاتِ؛ وَإِمَّا أَنْ لَا يَدُلَّ. فَإِنْ لَمْ يَدُلَّ بَطَلَ مَا ذَكَرُوهُ؛ وَإِنْ دَلَّ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ التَّكْلِيمُ لِلْعِبَادِ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْقُدْرَةُ وَالنَّفْعُ وَالضُّرُّ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْآيَاتُ دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ الصِّفَاتِ؛ لَا عَلَى نَفْيِهَا، ونفاة الصِّفَاتِ إنَّمَا نَفَوْهَا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ إثْبَاتَهَا يَقْتَضِي التَّجْسِيمَ وَالتَّجْسِيدَ. فَالْآيَاتُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا هِيَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ. وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ وَجَدْنَاهُ مُطَّرِدًا فِي عَامَّةِ مَا يَحْتَجُّ بِهِ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْآيَاتِ فَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ مَطْلُوبِهِمْ لَا عَلَى مَطْلُوبِهِمْ.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ إذَا كَانَ كُلُّ جِسْمٍ جَسَدًا وَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: أَجْسَامًا وَهِيَ أَجْسَادٌ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ ذَكَرَ هَذَا فِي الْعِجْلِ لِيَنْفِيَ بِهِ عَنْهُ الْإِلَهِيَّةَ: لَزِمَ أَنْ يَطَّرِدَ هَذَا الدَّلِيلُ فِي جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي غَيْرِ الْعِجْلِ: أَنَّهُ ذَكَرَ كَوْنَهُ جَسَدًا لِبَيَانِ سَبَبِ افْتِتَانِهِمْ بِهِ لَا أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ هُوَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ؛ بَلْ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْأَعْرَافِ: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} وَلِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِهَذِهِ النَّقَائِصِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْعَابِدَ أَكْمَلُ مِنْ الْمَعْبُودِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْبُودَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِنَقِيضِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بِمِثْلِهِ فِي آيَةِ الْعِجْلِ. فَلَا يَكُونُ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِصِفَاتِ الْإِلَهِ؛ وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي: وَجَبَ أَنْ يَتَّصِفَ الرَّبُّ تَعَالَى بِمَا نَفَاهُ عَنْ الْأَصْنَامِ. وَحِينَئِذٍ: فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ أَجْسَامًا كَانَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ مُعَارِضَةٌ
لِمَا ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَجْسَامًا بَطَلَ نَفْيُهُمْ لَهَا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَوَجَبَ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ عز وجل بِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الْأَيْدِي وَغَيْرِهَا وَلَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَجْسَامًا وَلَا يَكُونُ تَجْسِيمًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا تَجْسِيمًا فَإِثْبَاتُ الْعُلُوِّ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ تَجْسِيمًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ تَجْسِيمًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ مُنَاقِضٌ لِمَا ذَكَرُوهُ. (الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) : أَنْ يُقَالَ: دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّهُ نَفْسُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ؛ كَقَوْلِهِ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَقَوْلِهِ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} . وَقَدْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ يَبْلُغُ ثَلَاثَمِائَةِ آيَةٍ وَهِيَ دَلَائِلُ جَلِيَّةٌ بَيِّنَةٌ مَفْهُومَةٌ: مِنْ الْقُرْآنِ مَعْقُولَةٌ: مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ كَانَ إثْبَاتُ هَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جِسْمًا وَجَسَدًا: لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ مُوجِبِ هَذِهِ النُّصُوصِ بِمَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ الْعِجْلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ جَسَدًا هُوَ النَّقْصُ - الَّذِي عَابَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ مَانِعًا مِنْ إلَهِيَّتِهِ - وَإِنْ كَانَ إثْبَاتُ الْعُلُوِّ وَالصِّفَاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَجَسَدًا بَطَلَ أَصْلُ كَلَامِهِمْ؛ فِي - أَنَّ عُمْدَتَهُمْ - أَنَّ إثْبَاتَ الْعُلُوِّ يَقْتَضِي التَّجْسِيمَ وَالتَّجَسُّدَ؛ فَإِذَا سَلَّمُوا أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ وَالتَّجَسُّدَ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ.
وَحِينَئِذٍ فَإِذَا دَلَّتْ قِصَّةُ الْعِجْلِ أَوْ غَيْرِهَا عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِ الرَّبِّ تَعَالَى جَسَدًا أَوْ جِسْمًا؛ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ النُّصُوصِ مُنَافَاةٌ؛ بَلْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ نَفْسُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ سبحانه وتعالى. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الشَّرْعَ لَيْسَ فِيهِ مَا يُوَافِقُ الْنُّفَاةِ لِلْعُلُوِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصِّفَاتِ؛ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:
فَصْلٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ " عُلُوِّ الرَّبِّ عز وجل وَبَيْنَ قُرْبِهِ ": مِنْ دَاعِيهِ وَعَابِدِيهِ.
فَنَقُولُ: قَدْ وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ بِالْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْفَوْقِيَّةِ فِي كِتَابِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ حَتَّى قَالَ بَعْضُ كِبَارِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: فِي الْقُرْآنِ أَلْفُ دَلِيلٍ أَوْ أَزْيَدُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَالٍ عَلَى الْخَلْقِ وَأَنَّهُ فَوْقَ عِبَادِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِيهِ ثَلَاثُمِائَةِ دَلِيلٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِأَنَّ مَعْنَى " عِنْدَهُ " فِي قُدْرَتِهِ كَمَا يَقُولُ الْجَهْمِيَّة لَكَانَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ فِي قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؛ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ؛ كَمَا أَنَّ الِاسْتِوَاءَ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِيلَاءَ لَكَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ وَلَكَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ دَائِمًا. وَالِاسْتِوَاءُ مُخْتَصٌّ بِالْعَرْشِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي
كِتَابِهِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَارَةً كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ وَتَارَةً لَمْ يَكُنْ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعُلُوُّ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالسَّمْعِ مَعَ الْعَقْلِ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُثْبِتَةِ وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ فَمِنْ الصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالسَّمْعِ لَا بِالْعَقْلِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ أَيْضًا بِالْمَعِيَّةِ وَالْقُرْبِ. وَالْمَعِيَّةُ مَعِيَّتَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ. فَالْأُولَى كَقَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وَالثَّانِيَةُ كَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَأَمَّا " الْقُرْبُ " فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} . وَقَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ} وَقَدْ افْتَرَقَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ " أَرْبَعُ فِرَقٍ ". " فالْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَ الْعَالَمِ وَلَا فَوْقَ وَلَا تَحْتَ لَا يَقُولُونَ بِعُلُوِّهِ وَلَا بِفَوْقِيَّتِهِ بَلْ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ مُتَأَوِّلٌ أَوْ مُفَوِّضٌ. وَجَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ قَدْ يَتَمَسَّكُونَ بِنُصُوصِ: كَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ إلَّا الْجَهْمِيَّة فَإِنَّهُمْ لَيْسَ مَعَهُمْ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُوَافِقُ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ النَّفْيِ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ:
إنَّ الْجَهْمِيَّة خَارِجُونَ عَنْ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَد ذَكَرَهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ. " وَقِسْمٌ ثَانٍ " يَقُولُونَ: إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ كَمَا يَقُولُ النجارية وَكَثِيرٌ مِنْ الْجَهْمِيَّة - عُبَّادُهُمْ وَصُوفِيَّتُهُمْ وَعَوَامُّهُمْ - يَقُولُونَ: إنَّهُ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَقُولُهُ " أَهْلُ الْوَحْدَةِ " الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ وَمَنْ يَكُونُ قَوْلُهُ مُرَكَّبًا مِنْ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ؛ وَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِنُصُوصِ " الْمَعِيَّةِ وَالْقُرْبِ "؛ وَيَتَأَوَّلُونَ نُصُوصَ " الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ ". وَكُلُّ نَصٍّ يَحْتَجُّونَ بِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ أَكْثَرُهَا خَاصَّةً بِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَفِي النُّصُوصِ مَا يُبَيِّنُ نَقِيضَ قَوْلِهِمْ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَكُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يُسَبِّحُ وَالْمُسَبِّحُ غَيْرُ الْمُسَبَّحِ ثُمَّ قَالَ: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُلْكَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وَفِي الصَّحِيحِ: {أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ؛} فَإِذَا كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ كَانَ هُنَاكَ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ وَإِذَا كَانَ آخِرًا كَانَ هُنَاكَ مَا الرَّبُّ بَعْدَهُ وَإِذَا كَانَ ظَاهِرًا لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ كَانَ هُنَاكَ مَا الرَّبُّ ظَاهِرٌ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ بَاطِنًا لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ كَانَ هُنَاكَ أَشْيَاءُ نُفِيَ عَنْهَا أَنْ تَكُونَ دُونَهُ.
وَلِهَذَا قَالَ " ابْنُ عَرَبِيٍّ ": مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى " الْعَلِيُّ " عَلَى مَنْ يَكُونُ عَلِيًّا وَمَا ثَمَّ إلَّا هُوَ وَعَلَى مَاذَا يَكُونُ عَلِيًّا وَمَا يَكُونُ إلَّا هُوَ؛ فَعُلُوُّهُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ فَالْمُسَمَّى مُحْدَثَاتٌ هِيَ الْعَلِيَّةُ لِذَاتِهَا وَلَيْسَتْ إلَّا هُوَ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْخَرَّازُ: وَهُوَ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْحَقِّ وَلِسَانٌ مِنْ أَلْسِنَتِهِ يَنْطِقُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يُعْرَفُ بِجَمْعِهِ بَيْنَ الْأَضْدَادِ؛ فَهُوَ عَيْنُ مَا ظَهَرَ وَهُوَ عَيْنُ مَا بَطَنَ فِي حَالِ ظُهُورِهِ وَمَا ثَمَّ مَنْ تَرَاهُ غَيْرُهُ وَمَا ثَمَّ مَنْ بَطَنَ عَنْهُ سِوَاهُ؛ فَهُوَ ظَاهِرٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ بَاطِنٌ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ الْمُسَمَّى " أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ ".
" وَالْمَعِيَّةُ " لَا تَدُلُّ عَلَى الْمُمَازَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْقُرْبِ؛ فَإِنَّ عِنْدَ الْحُلُولِيَّةِ أَنَّهُ فِي حَبْلِ الْوَرِيدِ كَمَا هُوَ عِنْدَهُمْ فِي سَائِرِ الْأَعْيَانِ وَكُلُّ هَذَا كُفْرٌ وَجَهْلٌ بِالْقُرْآنِ. " وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ " مَنْ يَقُولُ: هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَيَقُولُ: أَنَا أُقِرُّ بِهَذِهِ النُّصُوصِ وَهَذِهِ لَا أَصْرِفُ وَاحِدًا مِنْهَا عَنْ ظَاهِرِهِ. وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ ذَكَرَهُمْ الْأَشْعَرِيُّ فِي " الْمَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ " وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ السالمية وَالصُّوفِيَّةِ. وَيُشْبِهُ هَذَا مَا فِي كَلَامِ أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَابْنِ برجان وَغَيْرِهِمَا مَعَ مَا فِي كَلَامِ أَكْثَرِهِمَا مِنْ التَّنَاقُضِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ - الَّذِي صَنَّفَ " مَثَالِبَ ابْنِ أَبِي بِشْرٍ " وَرَدَّ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ - هُوَ مِنْ السالمية وَكَذَلِكَ ذَكَرَ " الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ ": أَنَّ جَمَاعَةً أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي طَالِبٍ كَلَامَهُ فِي الصِّفَاتِ.
وَهَذَا الصِّنْفُ الثَّالِثُ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى التَّمَسُّكِ بِالنُّصُوصِ وَأَبْعَدَ عَنْ مُخَالَفَتِهَا مِنْ الصِّنْفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَتَّبِعْ شَيْئًا مِنْ النُّصُوصِ؛ بَلْ خَالَفَهَا كُلَّهَا. وَالثَّانِي تَرَكَ النُّصُوصَ الْكَثِيرَةَ الْمُحْكَمَةَ الْمُبَيَّنَةَ وَتَعَلَّقَ بِنُصُوصِ قَلِيلَةٍ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ مَعَانِيهَا. وَأَمَّا هَذَا الصِّنْفُ فَيَقُولُ: أَنَا اتَّبَعَتْ النُّصُوصَ كُلَّهَا لَكِنَّهُ غالط أَيْضًا. فَكُلُّ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ وَلِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَلِلْأَدِلَّةِ الْكَثِيرَةِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ أَقْوَالًا مُتَنَاقِضَةً يَقُولُونَ: إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَيَقُولُونَ: نَصِيبُ الْعَرْشِ مِنْهُ كَنَصِيبِ قَلْبِ الْعَارِفِ كَمَا يَذْكُرُ مِثْلَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَلْبَ الْعَارِفِ نَصِيبُهُ مِنْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْإِيمَانُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْعَرْشَ كَذَلِكَ نَقَضُوا قَوْلَهُمْ: إنَّهُ نَفْسُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَإِنْ قَالُوا بِحُلُولِهِ بِذَاتِهِ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِالْحُلُولِ الْخَالِصِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ " الصُّوفِيَّةِ " حَتَّى صَاحِبُ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " فِي تَوْحِيدِهِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ الْمَنَازِلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحُلُولِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْقَوْمِ يُحَذِّرُونَ مِنْ مِثْلِ هَذَا. سُئِلَ " الْجُنَيْد " عَنْ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: هُوَ إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ. فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُوَحِّدِ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْقَدِيمِ الْخَالِقِ وَالْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ
فَلَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَالشِّيعَةِ فِي أَئِمَّتِهَا؛ وَكَثِيرٌ مِنْ الْحُلُولِيَّةِ وَالْإِبَاحِيَّةِ يُنْكِرُ عَلَى الْجُنَيْد وَأَمْثَالِهِ مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا قَالُوهُ مِنْ نَفْيِ الْحُلُولِ وَمَا قَالُوهُ فِي إثْبَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَيَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يُكْمِلُوا مَعْرِفَةَ الْحَقِيقَةِ كَمَا كَمَّلَهَا هُوَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْحُلُولِيَّةِ وَالْإِبَاحِيَّةِ. وَأَمَّا " الْقِسْمُ الرَّابِعُ " فَهُمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا: أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ شُيُوخِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَآمَنُوا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ لِلْكَلِمِ أَثْبَتُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ سَمَوَاتِهِ وَأَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَهُمْ مِنْهُ بَائِنُونَ وَهُوَ أَيْضًا مَعَ الْعِبَادِ عُمُومًا بِعِلْمِهِ وَمَعَ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَالْكِفَايَةِ وَهُوَ أَيْضًا قَرِيبٌ مُجِيبٌ؛ فَفِي آيَةِ النَّجْوَى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: {اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ الْمُسَافِرِ فِي سَفَرِهِ وَمَعَ أَهْلِهِ فِي وَطَنِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ مُخْتَلِطَةً بِذَوَاتِهِمْ كَمَا قَالَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أَيْ (مَعَهُ عَلَى الْإِيمَانِ) لَا أَنَّ ذَاتَهمْ فِي ذَاتِهِ بَلْ هُمْ مُصَاحِبُونَ لَهُ. وَقَوْلُهُ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَتِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَمُوَالَاتِهِمْ فَاَللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِعِبَادِهِ وَهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا وَعِلْمُهُ بِهِمْ مِنْ لَوَازِمِ الْمَعِيَّةِ؛ كَمَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ: زَوْجِي طَوِيلُ النِّجَادِ عَظِيمُ الرَّمَادِ قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنْ الناد: فَهَذَا كُلُّهُ
حَقِيقَةٌ وَمَقْصُودُهَا: أَنْ تُعَرِّفَ لَوَازِمَ ذَلِكَ وَهُوَ طُولُ الْقَامَةِ وَالْكَرَمُ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ وَقُرْبُ الْبَيْتِ مِنْ مَوْضِعِ الْأَضْيَافِ. وَفِي الْقُرْآنِ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ} الْآيَةَ فَإِنَّهُ يُرَادُ بِرُؤْيَتِهِ وَسَمْعِهِ إثْبَاتُ عِلْمِهِ بِذَلِكَ؛ وَأَنَّهُ يَعْلَمُ هَلْ ذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ شَرٌّ فَيُثِيبُ عَلَى الْحَسَنَاتِ وَيُعَاقِبُ عَلَى السَّيِّئَاتِ. وَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخَلْقِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} وَقَوْلُهُ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَالْمُرَادُ التَّخْوِيفُ بِتَوَابِعِ السَّيِّئَاتِ وَلَوَازِمِهَا مِنْ الْعُقُوبَةِ وَالِانْتِقَامِ. وَهَكَذَا كَثِيرًا مَا يَصِفُ الرَّبُّ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ وَبِالْأَعْمَالِ: تَحْذِيرًا وَتَخْوِيفًا وَتَرْغِيبًا لِلنُّفُوسِ فِي الْخَيْرِ. وَيَصِفُ نَفْسَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْكِتَابِ فَمَدْلُولُ اللَّفْظِ مُرَادٌ مِنْهُ وَقَدْ أُرِيدُ أَيْضًا لَازِمُ ذَلِكَ الْمَعْنَى؛ فَقَدْ أُرِيدُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِالْمُطَابَقَةِ وَبِالِالْتِزَامِ؛ فَلَيْسَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي اللَّازِمِ فَقَطْ بَلْ أُرِيدَ بِهِ مَدْلُولُهُ الْمَلْزُومُ وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ. وَأَمَّا لَفْظُ " الْقُرْبِ " فَقَدْ ذَكَرَهُ تَارَةً بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْجَمْعِ؛
فَالْأَوَّلُ إنَّمَا جَاءَ فِي إجَابَةِ الدَّاعِي: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ: {أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {نَتْلُوا عَلَيْكَ} {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} وَ {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} و {عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . فَالْقُرْآنُ هُنَا حِينَ يَسْمَعُهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالْبَيَانُ هُنَا بَيَانُهُ لِمَنْ يَبْلُغُهُ الْقُرْآنُ. وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَخَلَفِهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ الْقُرْآنَ مِنْ جِبْرِيلِ وَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ عز وجل. وَأَمَّا قَوْلُهُ. {نَتْلُوا} و {نَقُصُّ} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} فَهَذِهِ الصِّيغَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْوَاحِدِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ يُطِيعُونَهُ فَإِذَا فَعَلَ أَعْوَانُهُ فِعْلًا بِأَمْرِهِ قَالَ: نَحْنُ فَعَلْنَا: كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ: نَحْنُ فَتَحْنَا هَذَا الْبَلَدَ وَهَزَمْنَا هَذَا الْجَيْشَ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ بِأَعْوَانِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وَلَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وَهُوَ مَعَ هَذَا خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ أَفْعَالِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ؛ وَلَيْسَ هُوَ كَالْمَلِكِ الَّذِي يَفْعَلُ أَعْوَانُهُ بِقُدْرَةِ وَحَرَكَةٍ يَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْهُ فَكَانَ قَوْلُهُ لِمَا فَعَلَهُ بِمَلَائِكَتِهِ: نَحْنُ فَعَلْنَا أَحَقُّ وَأَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمُلُوكِ.
وَهَذَا اللَّفْظُ هُوَ مِنْ " الْمُتَشَابِهِ " الَّذِي ذَكَرَ أَنَّ النَّصَارَى احْتَجُّوا بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّثْلِيثِ لَمَّا وَجَدُوا فِي الْقُرْآنِ {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ} وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَذَمَّهُمْ اللَّهُ حَيْثُ تَرَكُوا الْمُحْكَمَ مِنْ الْقُرْآنِ: أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ وَتَمَسَّكُوا بِالْمُتَشَابِهِ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْوَاحِدَ الَّذِي مَعَهُ نَظِيرُهُ: وَاَلَّذِي مَعَهُ أَعْوَانُهُ الَّذِينَ هُمْ عَبِيدُهُ وَخَلْقُهُ وَاتَّبَعُوا الْمُتَشَابِهَ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ الْفِتْنَةَ وَهِيَ فِتْنَةُ الْقُلُوبِ بِتَوَهُّمِ آلِهَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُمَا قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ وَكِلَاهُمَا حَقٌّ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ قَالَ: - إنَّ تَأْوِيلَهُ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ وَهُوَ مَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ إنَّا وَنَحْنُ - هُمْ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يُدَبِّرُ بِهِمْ أَمْرَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَأُولَئِكَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُ صِفَتَهُمْ غَيْرُهُ وَلَا يَعْلَمُ كَيْفَ يَأْمُرُهُمْ يَفْعَلُونَ إلَّا هُوَ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ} وَكُلٌّ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَإِنْ عَلِمَ حَالَ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ؛ فَلَا يَعْلَمُ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ وَلَا جَمِيعَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ قَالَ: " التَّأْوِيلُ " هُوَ التَّفْسِيرُ وَهُوَ إعْلَامُ النَّاسِ بِالْخِطَابِ. فَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ وَمَا بَيَّنَ اللَّهُ مِنْ مَعَانِيهِ كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ عَنْ السَّلَفِ. فَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ أَنَّ قَوْلَهُ:
(نَحْنُ) إنَّ اللَّهَ فَعَلَ ذَلِكَ بِمَلَائِكَتِهِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ عَدَدَ الْمَلَائِكَةِ وَلَا أَسْمَاءَهُمْ وَلَا صِفَاتِهِمْ وَحَقَائِقَ ذَوَاتِهِمْ؛ لَيْسَ الرَّاسِخُونَ كَالْجُهَّالِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ (إنَّا) و (نَحْنُ) ؛ بَلْ يَقُولُونَ: أَلْفَاظًا لَا يَعْرِفُونَ مَعَانِيَهَا أَوْ يُجَوِّزُونَ أَنْ تَكُونَ الْآلِهَةُ ثَلَاثَةً مُتَعَدِّدَةً أَوْ وَاحِدًا لَا أَعْوَانَ لَهُ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَوَفَّاهَا بِرُسُلِهِ كَمَا قَالَ: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} {يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} فَإِنَّهُ يَتَوَفَّاهَا بِرُسُلِهِ الَّذِينَ مُقَدَّمُهُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} هُوَ قِرَاءَةُ جِبْرِيلَ لَهُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ قَرَأَهُ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ كَمَا قَالَ: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَهُوَ مُكَلِّمٌ لِمُحَمَّدِ بِلِسَانِ جِبْرِيلَ وَإِرْسَالِهِ إلَيْهِ وَهَذَا ثَابِتٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} وَإِنْبَاءُ اللَّهِ لَهُمْ إنَّمَا كَانَ بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدٍ إلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا} {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} فَهُوَ أُنْزِلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدٍ. وَكَذَلِكَ ذَوَاتُ الْمَلَائِكَةِ تَقْرُبُ مِنْ ذَاتِ الْمُحْتَضِرِ؛ وَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ يَعْلَمُونَ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُ الْعَبْدِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: {إذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: اُكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا قَالَ: اُكْتُبُوهَا لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ}
إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. فَالْمَلَائِكَةُ يَعْلَمُونَ مَا يَهُمُّ بِهِ مِنْ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ وَ " الْهَمُّ " إنَّمَا يَكُونُ فِي النَّفْسِ قَبْلَ الْعَمَلِ. وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَهُوَ يُوَسْوِسُ لَهُ بِمَا يَهْوَاهُ فَيَعْلَمُ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ. فَقَوْلُهُ:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} هُوَ قُرْبُ ذَوَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَقُرْبُ عِلْمِ اللَّهِ مِنْهُ وَهُوَ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا إلَّا بِأَمْرِهِ؛ فَذَاتُهُمْ أَقْرَبُ إلَى قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ بَعْضٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِ الْآيَةِ: {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} فَقَوْلُهُ إذْ ظَرْفٌ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ {أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} حِينَ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ مَا يَقُولُ {عَنِ الْيَمِينِ} قَعِيدٌ {وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} ثُمَّ قَالَ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أَيْ شَاهِدٌ لَا يَغِيبُ. فَهَذَا كُلُّهُ خَبَرٌ عَنْ الْمَلَائِكَةِ فَقَوْلُهُ: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} و {هُوَ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} فَهَذَا إنَّمَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ الْعِبَادِ فِي كُلِّ حَالٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وَالْمُرَادُ الْقُرْبُ مِنْ الدَّاعِي فِي سُجُودِهِ كَمَا قَالَ: {وَأَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ الدُّعَاءِ فَقَمِنَ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ} فَأَمَرَ
بِالِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ مَعَ قُرْبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ. وَقَدْ أُمِرَ الْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ: {سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى} رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: {إذَا سَجَدَ الْعَبْدُ فَقَالَ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ: {أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِاللَّيْلِ صَلَاةً قَرَأَ فِيهَا بِالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانَ ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ نَحْوَ قِرَاءَتِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَفِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى} وَذَلِكَ أَنَّ السُّجُودَ غَايَةُ الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ مِنْ الْعَبْدِ وَغَايَةُ تَسْفِيلِهِ وَتَوَاضُعِهِ: بِأَشْرَفِ شَيْءٍ فِيهِ لِلَّهِ - وَهُوَ وَجْهُهُ - بِأَنْ يَضَعَهُ عَلَى التُّرَابِ فَنَاسَبَ فِي غَايَةِ سُفُولِهِ أَنْ يَصِفَ رَبَّهُ بِأَنَّهُ الْأَعْلَى، وَالْأَعْلَى أَبْلَغُ مِنْ الْعَلِيِّ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ؛ هُوَ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ عَدَمٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ نَصِيبٌ. وَكَذَلِكَ فِي " الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ " لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ يُرِيدُ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ: كَفِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَحْصُلُ لَهُ الْعُلُوُّ بِالْإِيمَانِ؛ لَا بِإِرَادَتِهِ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . فَلَمَّا كَانَ السُّجُودُ غَايَةَ سُفُولِ الْعَبْدِ وَخُضُوعِهِ سَبَّحَ اسْمَ رَبِّهِ الْأَعْلَى فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْأَعْلَى وَالْعَبْدُ الْأَسْفَلُ كَمَا أَنَّهُ الرَّبُّ وَالْعَبْدُ الْعَبْدُ وَهُوَ الْغَنِيُّ وَالْعَبْدُ
الْفَقِيرُ وَلَيْسَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ إلَّا مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ فَكُلَّمَا كَمَّلَهَا قَرُبَ الْعَبْدُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَرٌّ جَوَادٌ مُحْسِنٌ يُعْطِي الْعَبْدَ مَا يُنَاسِبُهُ فَكُلَّمَا عَظُمَ فَقْرُهُ إلَيْهِ كَانَ أَغْنَى؛ وَكُلَّمَا عَظُمَ ذُلُّهُ لَهُ كَانَ أَعَزَّ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ - لِمَا فِيهَا مِنْ أَهْوَائِهَا الْمُتَنَوِّعَةِ وَتَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ لَهَا - تَبْعُدُ عَنْ اللَّهِ حَتَّى تَصِيرَ مَلْعُونَةً بَعِيدَةً مِنْ الرَّحْمَةِ. " وَاللَّعْنَةُ " هِيَ الْبُعْدُ؛ وَمِنْ أَعْظَمِ ذُنُوبِهَا إرَادَةُ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ؛ وَالسُّجُودُ فِيهِ غَايَةُ سُفُولِهَا؛ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . وَفِي الصَّحِيحِ: {لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ} وَقَالَ لإبليس {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} وَقَالَ: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} فَهَذَا وَصْفٌ لَهَا ثَابِتٌ. لَكِنْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْلِيَ غَيْرَهَا جُوهِدَ وَقَالَ: {مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . و " كَلِمَةُ اللَّهِ " هِيَ خَبَرُهُ وَأَمْرُهُ: فَيَكُونُ أَمْرُهُ مُطَاعًا مُقَدَّمًا عَلَى أَمْرِ غَيْرِهِ وَخَبَرُهُ مُطَاعًا مُقَدَّمًا عَلَى خَبَرِ غَيْرِهِ وَقَالَ: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} " وَالدِّينُ " هُوَ الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ وَالذُّلُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ يُقَالُ: دِنْته فَدَانَ: أَيْ ذَلَّلْتُهُ فَذَلَّ. كَمَا قِيلَ:
هُوَ دَانَ أذكر هو الدِّيـ
…
ـنَ دِرَاكًا بِغَزْوَةِ وَصِيَالٍ
ثُمَّ دَانَتْ بَعْدُ الرَّبَابُ وَكَانَتْ
…
كَعَذَابِ عُقُوبَةُ الْأَقْوَالِ
فَإِذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ وَالذُّلُّ لَهُ تُحَقِّقُ أَنَّهُ أَعْلَى فِي نُفُوسِ الْعِبَادِ عِنْدَهُمْ كَمَا هُوَ الْأَعْلَى فِي ذَاتِهِ كَمَا تَصِيرُ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا فِي نُفُوسِهِمْ كَمَا هِيَ الْعُلْيَا فِي نَفْسِهَا وَكَذَلِكَ التَّكْبِيرُ يُرَادُ بِهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْعَبْدِ أَكْبَرَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: {يَا عَدِيُّ مَا يَفِرُّك؟ أيفرك أَنْ يُقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إلَهٍ إلَّا اللَّهَ؟ يَا عَدِيُّ مَا يفرك؟ أيفرك أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ؟ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ أَكْبَرُ مِنْ اللَّهِ؟} وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ أَكْبَرَ بِمَعْنَى كَبِيرٍ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ} وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ؛ لَا لِغَيْرِهِ بِأَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ لَهُ وَالذُّلُّ وَهُوَ حَقِيقَةُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا سِوَى هَذَا لَا يُقْبَلُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُطَاعُ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِمَا أَمَرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ؛ فَلَا إسْلَامَ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلَّا فِيمَا جَاءَ بِهِ وَطَاعَتِهِ وَهِيَ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ الَّتِي لَا يَرْغَبُ عَنْهَا إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَهُوَ " الْأُمَّةُ " الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ كَمَا أَنَّ " الْقُدْوَةَ " هُوَ الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ وَهُوَ " الْإِمَامُ " كَمَا فِي قَوْلِهِ {إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا} وَهُوَ " الْقَانِتُ " وَالْقُنُوتُ دَوَامُ الطَّاعَةِ وَهُوَ الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ دَائِمًا وَالْحَنِيفُ الْمُسْتَقِيمُ إلَى رَبِّهِ دُونَ مَا سِوَاهُ.
وَقَوْلُهُ: {مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا
تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً} فَقُرْبُ الشَّيْءِ مِنْ الشَّيْءِ مُسْتَلْزِمٌ لِقُرْبِ الْآخَرِ مِنْهُ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ قُرْبُ الثَّانِي هُوَ اللَّازِمَ مِنْ قُرْبِ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ مِنْهُ أَيْضًا قُرْبٌ بِنَفْسِهِ فَالْأَوَّلُ كَمَنْ تَقَرَّبَ إلَى مَكَّةَ أَوْ حَائِطِ الْكَعْبَةِ فَكُلَّمَا قَرُبَ مِنْهُ قَرُبَ الْآخَرُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِعْلٌ وَالثَّانِي كَقُرْبِ الْإِنْسَانِ إلَى مَنْ يَتَقَرَّبُ هُوَ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ فَتَقَرُّبُ الْعَبْدِ إلَى اللَّهِ وَتَقْرِيبُهُ لَهُ نَطَقَتْ بِهِ نُصُوصٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} {فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} {وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} {وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ} الْحَدِيثَ. وَفِي الْحَدِيثِ {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ} . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَمَقَالَاتِ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي " جَوَابِ الْأَسْئِلَةِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الْفُتْيَا الحموية " فَهَذَا قُرْبُ الرَّبِّ نَفْسِهِ إلَى عَبْدِهِ وَهُوَ مِثْلُ نُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إنَّ اللَّهَ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ} الْحَدِيثَ فَهَذَا الْقُرْبُ كُلُّهُ خَاصٌّ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَطُّ قُرْبُ ذَاتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي كُلِّ حَالٍ؛ فَعُلِمَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِ الْحُلُولِيَّةِ؛ فَإِنَّهُمْ عَمَدُوا إلَى الْخَاصِّ الْمُقَيَّدِ فَجَعَلُوهُ عَامًّا مُطْلَقًا كَمَا جَعَلَ إخْوَانُهُمْ " الِاتِّحَادِيَّةُ " ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {كُنْت سَمْعَهُ} وَفِي قَوْلِهِ: {فَيَأْتِيهِمْ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ} وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ: {سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ} .
وَكُلُّ هَذِهِ النُّصُوصِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِذَا فَصَلَ تَبَيَّنَ ذَلِكَ؛ فَالدَّاعِي وَالسَّاجِدُ يُوَجِّهُ رُوحَهُ إلَى اللَّهِ وَالرُّوحُ لَهَا عُرُوجٌ يُنَاسِبُهَا فَتَقْرُبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا رَيْبٍ بِحَسَبِ تَخَلُّصِهَا مِنْ الشَّوَائِبِ فَيَكُونُ اللَّهُ عز وجل مِنْهَا قَرِيبًا قُرْبًا يَلْزَمُ مَنْ قُرْبِهَا وَيَكُونُ مِنْهُ قُرْبٌ آخَرُ كَقُرْبِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَفِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَإِلَى مَنْ تَقَرَّبَ مِنْهُ شِبْرًا تَقَرَّبَ مِنْهُ ذِرَاعًا وَفِي الزُّهْدِ لِأَحْمَدَ عَنْ عِمْرَانَ الْقَصِيرِ {أَنَّ مُوسَى عليه السلام قَالَ: يَا رَبِّ أَيْنَ أَبْغِيكَ؟ قَالَ: ابْغِنِي عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ إنِّي أَدْنُو مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ بَاعًا لَوْلَا ذَلِكَ لَانْهَدَمُوا} فَقَدْ يُشْبِهُ هَذَا قَوْلَهُ: {قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ} إلَى آخِرِهِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَ نَعْتُهُ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ مَا يَلْزَمُ مِنْ قُرْبِ الدَّاعِي وَالسَّاجِدِ وَدُنُوِّهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ هُوَ لِمَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ لَيْلَتئِذٍ مِنْ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالتَّوْبَةِ؛ وَإِلَّا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ الدُّنُوُّ إلَيْهِمْ. فَإِنَّهُ يُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَحَدٌ لَمْ يَحْصُلْ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى قُرْبِهِ مِنْهُمْ بِسَبَبِ تَقَرُّبِهِمْ إلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآخَرُ. وَالنَّاسُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يَكُونُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ التَّوَجُّهِ وَالتَّقَرُّبِ وَالرِّقَّةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِنُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَقَوْلِهِ: {هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ} . ثُمَّ إنَّ هَذَا النُّزُولَ هَلْ هُوَ كَدُنُوِّهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ مُعَلَّقٌ بِأَفْعَالِ؟ فَإِنَّ فِي بِلَادِ
الْكُفْرِ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُومُ اللَّيْلَ فَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ هَذَا النُّزُولُ كَمَا أَنَّ دُنُوَّهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِ الْحُجَّاجِ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ؛ إذْ لَيْسَ لَهَا وُقُوفٌ مَشْرُوعٌ وَلَا مُبَاهَاةُ الْمَلَائِكَةِ وَكَمَا أَنَّ تَفْتِيحَ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَتَغْلِيقَ أَبْوَابِ النَّارِ وَتَصْفِيدَ الشَّيَاطِينِ إذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانِ - إنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَصُومُونَهُ لَا الْكُفَّارُ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ لَهُ حُرْمَةً. وَكَذَلِكَ اطِّلَاعُهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَوْلُهُ لَهُمْ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} كَانَ مُخْتَصًّا بِأُولَئِكَ أَمْ هُوَ عَامٌّ؟ فِيهِ كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا " الْقُرْبِ " مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ فِي نُزُولِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ وَدُنُوِّهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى مِنْ الشَّجَرَةِ وَقَوْلِهِ {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرْنَا مَا قَالَهُ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ: كَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِمَّنْ يَدَّعِي السُّنَّةَ يَظُنُّ خُلُوَّ الْعَرْشِ مِنْهُ وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ منده فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا وَزَيَّفَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَضَعَّفَ مَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد فِي رِسَالَةِ مُسَدَّدٍ وَقَالَ: إنَّهَا مَكْذُوبَةٌ عَلَى أَحْمَد وَتَكَلَّمَ عَلَى رَاوِيهَا البردعي أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدٍ وَقَالَ: إنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ فِي أَصْحَابِ أَحْمَد. " وَطَائِفَةٌ " تَقِفُ لَا تَقُولُ: يَخْلُو وَلَا: لَا يَخْلُو وَتُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ
مِنْهُمْ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ المقدسي. وَأَمَّا مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ السَّمَوَاتِ تَنْفَرِجُ ثُمَّ تَلْتَحِمُ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ؛ وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الرِّجَالِ. وَأَمَّا مَنْ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ فَهُوَ لَا يَعْتَقِدُ نُزُولَهُ: لَا بِخُلُوِّ وَلَا بِغَيْرِ خُلُوٍّ وَقَالَ بَعْضُ أَكَابِرِهِمْ لِبَعْضِ الْمُثْبِتِينَ: يَنْزِلُ أَمْرُهُ. فَقَالَ: مِنْ عِنْدِ مَنْ يَنْزِلُ؟ أَنْتَ لَيْسَ عِنْدَك هُنَاكَ أَحَدٌ؛ أَثْبَتَ أَنَّهُ هُنَاكَ ثُمَّ قُلْ: يَنْزِلُ أَمْرُهُ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه بِحَضْرَةِ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ. وَالصَّوَابُ قَوْلُ السَّلَفِ: أَنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَرُوحُ الْعَبْدِ فِي بَدَنِهِ لَا تَزَالُ لَيْلًا وَنَهَارًا إلَى أَنْ يَمُوتَ وَوَقْتُ النَّوْمِ تَعْرُجُ وَقَدْ تَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَهِيَ لَمْ تُفَارِقْ جَسَدَهُ وَكَذَلِكَ {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} وَرُوحُهُ فِي بَدَنِهِ وَأَحْكَامُ الْأَرْوَاحِ مُخَالِفٌ لِأَحْكَامِ الْأَبْدَانِ؛ فَكَيْفَ بِالْمَلَائِكَةِ؟ فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؟ . وَاللَّيْلُ يَخْتَلِفُ فَيَكُونُ - ثُلْثُهُ بِالْمَشْرِقِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ثُلْثُهُ بِالْمَغْرِبِ وَنُزُولُهُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ إلَى سَمَاءِ هَؤُلَاءِ فِي ثُلْثِ لَيْلِهِمْ وَإِلَى سَمَاءِ هَؤُلَاءِ فِي ثُلْثِ لَيْلِهِمْ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ وَكَذَلِكَ قُرْبُهُ مِنْ الدَّاعِي الْمُتَقَرِّبِ إلَيْهِ وَالسَّاجِدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِحَسَبِهِ حَيْثُ كَانَ وَأَيْنَ كَانَ وَالرَّجُلَانِ يَسْجُدَانِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ قُرْبٌ يَخُصُّهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ الْآخَرُ.
وَالنُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِيهَا الْهُدَى وَالشِّفَاءُ وَاَلَّذِي بَلَّغَهَا بَلَاغًا مُبِينًا هُوَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِرَبِّهِ وَأَنْصَحُهُمْ لِخَلْقِهِ وَأَحْسَنُهُمْ بَيَانًا؛ وَأَعْظَمُهُمْ بَلَاغًا؛ فَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَعْلَمَ وَيَقُولَ: مِثْلَ مَا عَلِمَهُ الرَّسُولُ، وَقَالَهُ. وَكُلُّ مَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِبَصِيرَةٍ فِي قَلْبِهِ تَكُونُ مَعَهُ مَعْرِفَةٌ بِهَذَا؛ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وَقَالَ فِي ضِدِّهِمْ: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وقَوْله تَعَالَى {الظَّاهِرُ} ضُمِّنَ مَعْنَى الْعَالِي كَمَا قَالَ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} وَيُقَالُ: ظَهَرَ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَظَاهِرُ الثَّوْبِ أَعْلَاهُ بِخِلَافِ بِطَانَتِهِ. وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ الْبَيْتِ أَعْلَاهُ وَظَاهِرُ الْقَوْلِ مَا ظَهَرَ مِنْهُ وَبَانَ وَظَاهِرُ الْإِنْسَانِ خِلَافُ بَاطِنِهِ فَكُلَّمَا عَلَا الشَّيْءُ ظَهَرَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ} فَأَثْبَتَ الظُّهُورَ وَجَعَلَ مُوجِبَ الظُّهُورِ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَلَمْ يَقُلْ لَيْسَ شَيْءٌ أَبْيَنَ مِنْك وَلَا أَعْرَفَ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ خَطَأُ مَنْ فَسَّرَ (الظَّاهِرَ) بِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ الظَّاهِرُ بِالدَّلِيلِ الْبَاطِنِ بِالْحِجَابِ كَمَا فِي كَلَامِ أَبِي الْفَرَجِ وَغَيْرِهِ فَلَمْ يَذْكُرْ مُرَادَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي ذَكَرَهُ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ وَقَالَ: {أَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ} فِيهِمَا مَعْنَى الْإِضَافَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْبُطُونُ وَالظُّهُورُ لِمَنْ
يَظْهَرُ وَيُبْطِنُ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا مَعْنَى التَّجَلِّي وَالْخَفَاءِ وَمَعْنًى آخَرُ كَالْعُلُوِّ فِي الظُّهُورِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُوصَفُ بِالسُّفُولِ. وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي الْإِحَاطَةِ لَكِنْ إنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ الْجِهَةِ الْعَالِيَةِ عَلَيْنَا فَهُوَ يُظْهِرُ عِلْمًا بِالْقُلُوبِ وَقَصْدًا لَهُ وَمُعَايَنَةً إذَا رُئِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ بَادٍ عَالٍ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يَبْطُنُ فَلَا يُقْصَدُ مِنْهَا وَلَا يُشْهَدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَدْنَى مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ فَلَا شَيْءَ دُونَهُ سُبْحَانَهُ.
فَصْلٌ: فِي تَمَامِ الْكَلَامِ فِي الْقُرْبِ
وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ وَلَا تُغْلِطُهُ الْمَسَائِلُ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يُكَلِّمُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُحَاسِبُهُمْ لَا يَشْغَلُهُ هَذَا عَنْ هَذَا. قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلُّهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ قَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم {مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَخْلُو بِهِ رَبُّهُ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ} . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الدُّنْيَا يَسْمَعُ دُعَاءَ الدَّاعِينَ وَيُجِيبُ السَّائِلِينَ؛ مَعَ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَفُنُونِ الْحَاجَاتِ. وَالْوَاحِدُ مِنَّا قَدْ يَكُونُ لَهُ قُوَّةُ سَمْعٍ يَسْمَعُ كَلَامَ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْمُقْرِئِينَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ عِدَّةٍ؛ لَكِنْ لَا يَكُونُ إلَّا عَدَدًا قَلِيلًا قَرِيبًا مِنْهُ وَالْوَاحِدُ مِنَّا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ قُرْبًا وَدُنُوًّا وَمَيْلًا إلَى بَعْضِ النَّاسِ الْحَاضِرِينَ وَالْغَائِبِينَ؛ دُونَ بَعْضٍ وَيَجِدُ تَفَاوُتَ ذَلِكَ الدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ. وَالرَّبُّ تَعَالَى وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ كُلَّهَا وَعَطَاؤُهُ الْحَاجَاتِ كُلَّهَا.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ غَلِطَ فَظَنَّ أَنَّ قُرْبَهُ مَنْ جِنْسِ حَرَكَةِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ إذَا مَالَ إلَى جِهَةٍ انْصَرَفَ عَنْ الْأُخْرَى وَهُوَ يَجِدُ عَمَلَ رُوحِهِ يُخَالِفُ عَمَلَ بَدَنِهِ فَيَجِدُ نَفْسَهُ تَقْرُبُ مِنْ نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْصَرِفَ قُرْبُهَا إلَى هَذَا عَنْ قُرْبِهَا إلَى هَذَا. وَكَذَلِكَ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ خُضُوعًا لِبَعْضِ النَّاسِ وَمَحَبَّةً وَيَجِدُ فِيهَا نَأْيًا وَبُعْدًا عَنْ آخَرِينَ وَارْتِفَاعًا وَإِقْبَالًا عَلَى قَوْمٍ وَإِعْرَاضًا عَنْ قَوْمٍ غَيْرَ مَا هُوَ قَائِمٌ بِالْبَدَنِ. فَفِي الْجُمْلَةِ: مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ قُرْبِ الرَّبِّ مِنْ عَابِدِيهِ وَدَاعِيهِ هُوَ مُقَيَّدٌ مَخْصُوصٌ؛ لَا مُطْلَقٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ فَبَطَلَ قَوْلُ الْحُلُولِيَّةِ كَمَا قَالَ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} فَهَذَا قُرْبُهُ مِنْ دَاعِيهِ. وَأَمَّا قُرْبُهُ مِنْ عَابِدِيهِ فَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} . وَقَوْلُهُ: {مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْته عَلَيْهِ} وَقَالَ: {مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا} فَهَذَا قُرْبُهُ إلَى عَبْدِهِ وَقُرْبُ عَبْدِهِ إلَيْهِ؛ وَدُنُوُّهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَا يَخْرُجُ عَنْ الْقِسْمَيْنِ؛ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ} فَدُنُوُّهُ لِدُعَائِهِمْ. وَأَمَّا نُزُولُهُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ؛ فَإِنْ كَانَ لِمَنْ يَدْعُوهُ وَيَسْأَلُهُ وَيَسْتَغْفِرُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ يَحْصُلُ فِيهِ مَنْ قُرْبِ الرَّبِّ إلَى عَابِدِيهِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي غَيْرِهِ
فَهُوَ مِنْ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَيَكُونُ بِسَبَبِ الزَّمَانِ كَوْنُهُ يَصْلُحُ لِهَذَا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِيهِ. وَنَظِيرُهُ " سَاعَةُ الْإِجَابَةِ " يَوْمَ الْجُمُعَةِ رُوِيَ أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِفِعْلِ الْجُمُعَةِ وَهِيَ مِنْ حِينِ يَصْعَدُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الصَّلَاةُ؛ وَلِهَذَا تَكُونُ مُقَيَّدَةً بِفِعْلِ الْجُمُعَةِ فَمَنْ لَمْ يُصَلِّ الْجُمْعَةَ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَيَعْتَقِدْ وُجُوبَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا نَصِيبٌ وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ الْجُمُعَةَ ثُمَّ مَرِضَ أَوْ سَافَرَ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ وَكَذَلِكَ الْمَحْبُوسُ وَنَحْوُهُ فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ شَهِدَ الْجُمُعَةَ فَيَكُونُ دُعَاؤُهُمْ كَدُعَاءِ مَنْ شَهِدَهَا. وَقَدْ تَكُونُ الرَّحْمَةُ الَّتِي تَنْزِلُ عَلَى الْحُجَّاجِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَعَلَى مَنْ شَهِدَ الْجُمُعَةَ تَنْتَشِرُ بَرَكَاتُهَا إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ فَيَكُونُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ إجَابَةِ الدُّعَاءِ وَحَظٌّ مَعَ مَنْ شَهِدَ ذَلِكَ كَمَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَهَذَا مَوْجُودٌ لِمَنْ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْعِبَادَةِ فَيَحْصُلُ لِقَلْبِهِ تَقَرُّبٌ إلَى اللَّهِ وَيَوَدُّ لَوْ كَانَ مَعَهُمْ. وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ الَّذِي لَا يَرَى الْحَجَّ بِرًّا وَلَا الْجُمُعَةَ فَرْضًا وَبِرًّا بَلْ هُوَ مُعْرِضٌ عَنْ مَحَبَّةِ ذَلِكَ وَإِرَادَتِهِ فَهَذَا قَلْبُهُ بَعِيدٌ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فَإِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ وَهَذَا لَيْسَ مِنْهُمْ. وَرُوِيَ فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ أَنَّهَا آخِرُ النَّهَارِ فَيَكُونُ سَبَبُهَا الْوَقْتَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ فِي اللَّيْلِ سَاعَةً يُسْتَجَابُ الدُّعَاءُ فِيهَا كَمَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَذَلِكَ كُلُّ لَيْلَةٍ وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ} .
فَصْلٌ:
وَأَمَّا قُرْبُ الرَّبِّ مِنْ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَقُرْبُ قُلُوبِهِمْ مِنْهُ: فَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ لَا يُجْهَلُ؛ فَإِنَّ الْقُلُوبَ تَصْعَدُ إلَيْهِ عَلَى قَدْرِ مَا فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالذِّكْرِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ؛ بِخِلَافِ الْقُرْبِ الَّذِي قَبْلَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا يُنْكِرُهُ الجهمي الَّذِي يَقُولُ: لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ يُعْبَدُ وَلَا إلَهٌ يُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ وَهَذَا كُفْرٌ وَفَنَدٌ. وَالْأَوَّلُ تُنْكِرُهُ الْكُلَّابِيَة وَمَنْ يَقُولُ: لَا تَقُومُ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ بِهِ. وَمِنْ أَتْبَاعِ " الْأَشْعَرِيِّ " مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مَنْ يَجْعَلُ الرِّضَا وَالْغَضَبَ وَالْفَرَحَ وَالْمَحَبَّةَ: هِيَ الْإِرَادَةُ. وَتَارَةً يَجْعَلُونَهَا صِفَاتٍ أُخْرَى قَدِيمَةً غَيْرَ الْإِرَادَةِ وَهَذَا الْقُرْبُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ هُوَ قُرْبُ الْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ فِي الْحَقِيقَةِ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِمَحَبَّتِهِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَخْصًا تَمَثَّلَ فِي قَلْبِهِ وَوَجَدَهُ قَرِيبًا إلَى قَلْبِهِ وَإِذَا ذَكَرَهُ حَضَرَ فِي قَلْبِهِ وَقَدْ يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ بِمَحْبُوبِهِ الْمَخْلُوقِ فَنَاءٌ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي
وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: حَاضِرٌ فِي الْقَلْبِ أُبْصِرُهُ
…
لَسْت أَنْسَاهُ فَأَذْكُرُهُ
وَقَوْلُ الْآخَرِ: مِثَالُك فِي عَيْنِي وَذِكْرُك فِي فَمِي
…
وَمَثْوَاك فِي قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ
وَهَذَا هُوَ " الْمَثَلُ الْأَعْلَى " الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} وَكَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} وَهُوَ " الْمَثَلُ " فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ أَصْلًا فَنَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ لَا يُمَاثِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَصِفَاتُهَا لَا يُمَاثِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ وَمَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَعَارِفِ وَمَحَبَّتُهُ لَا يُمَاثِلُهَا شَيْءٌ فَلَهُ " الْمَثَلُ الْأَعْلَى " كَمَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ الْأَعْلَى. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَيُشَبَّهُ مَثَلُ هَذَا بِمَثَلِ هَذَا وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ ذَاتِ هَذَا بِذَاتِ هَذَا؛ فَإِنَّ الْخَبَرَ عَنْ الْأَشْيَاءِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَوَّلًا عَنْ " الْمَثَلِ الْعِلْمِيِّ " الَّذِي يُسَمَّى الصُّورَةَ الذِّهْنِيَّةَ ثُمَّ إذَا كَانَ الْخَبَرُ صَادِقًا فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ مُطَابِقَةٌ لِمَا تَصَوَّرَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ إنَّمَا يُعَبِّرُونَ عَنْ الشَّيْءِ وَيَصِفُونَهُ بِمَا يَعْرِفُونَهُ وَتَتَنَوَّعُ أَسْمَاؤُهُ عِنْدَهُمْ لِتَنَوُّعِ مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ صِفَاتِهِ. وَمَنْ رَأَى اللَّهَ عز وجل فِي الْمَنَامِ فَإِنَّهُ يَرَاهُ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ بِحَسَبِ حَالِ الرَّائِي إنْ كَانَ صَالِحًا رَآهُ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ؛ وَلِهَذَا رَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ. وَ " الْمُشَاهَدَاتُ " الَّتِي قَدْ تَحْصُلُ لِبَعْضِ الْعَارِفِينَ فِي الْيَقَظَةِ كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ لَمَّا خَطَبَ إلَيْهِ ابْنَتَهُ فِي الطَّوَافِ: أَتُحَدِّثُنِي فِي النِّسَاءِ وَنَحْنُ نَتَرَاءَى اللَّهَ عز وجل فِي طَوَافِنَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ الْمَشْهُودِ لَكِنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِرَبِّهِ فِيهَا كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ؛ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ. فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَخْصُوصٌ بِمَا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَهَذَا الْمِثَالُ الْعِلْمِيُّ يَتَنَوَّعُ فِي الْقُلُوبِ بِحَسَبِ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ تَنَوُّعًا لَا يَنْحَصِرُ؛ بَلْ الْخَلْقُ فِي إيمَانِهِمْ " بِاَللَّهِ " وَ " كِتَابِهِ " و " رَسُولِهِ " مُتَنَوِّعُونَ؛
فَلِكُلِّ مِنْهُمْ فِي قَلْبِهِ لِلْكِتَابِ وَالرَّسُولِ مِثَالٌ عِلْمِيٌّ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمْ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَبِرَسُولِهِ - فَهُمْ مُتَنَوِّعُونَ فِي ذَلِكَ مُتَفَاضِلُونَ. وَكَذَلِكَ إيمَانُهُمْ بِالْمَعَادِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ وَكَذَلِكَ مَا يُخْبِرُ بِهِ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ هُوَ كَذَلِكَ بَلْ يُشَاهِدُونَ الْأُمُورَ وَيَسْمَعُونَ الْأَصْوَاتَ وَهُمْ مُتَنَوِّعُونَ فِي الرُّؤْيَةِ وَالسَّمَاعِ فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَتَبَيَّنُ لَهُ مَنْ حَالِ الْمَشْهُودِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لِلْآخَرِ حَتَّى قَدْ يَخْتَلِفُونَ فَيُثْبِتُ هَذَا مَا لَا يُثْبِتُ الْآخَرُ فَكَيْفَ فِيمَا أُخْبِرُوا بِهِ مِنْ الْغَيْبِ. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُمْ عَنْ الْغَيْبِ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَلَيْسَ كُلُّهُمْ سَمِعَهَا مُفَصَّلَةً وَاَلَّذِينَ سَمِعُوا مَا سَمِعُوا لَيْسَ كُلُّهُمْ فَهِمَ مُرَادَهُ بَلْ هُمْ مُتَفَاضِلُونَ فِي السَّمْعِ وَالْفَهْمِ كَتَفَاضُلِ مَعْرِفَتِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ بِحَسَبِ ذَلِكَ حَتَّى يُثْبِتَ أَحَدُهُمْ أُمُورًا كَثِيرَةً وَالْآخَرُ لَا يُثْبِتُهَا لَا سِيَّمَا مَنْ عَلِقَ بِقَلْبِهِ شُبَهُ الْنُّفَاةِ؛ فَهُوَ يَنْفِي مَا أَثْبَتَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَقِّ. وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ - وَإِنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي الْإِيمَانِ - إلَّا مَنْ شَاقَّ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ هُمْ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمْ أَكْثَرَ مَحَبَّةً لِلَّهِ وَذِكْرًا وَعِبَادَةً كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَهُ أَقْوَى وَأَرْسَخَ مِنْ حَيْثُ الْمَحَبَّةُ وَالْعِبَادَةُ لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْعِلْمِ بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مَا لَيْسَ لَهُ.
فَصَاحِبُ الْمَحَبَّةِ وَالذِّكْرِ وَالتَّأَلُّهِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ حُضُورِ الرَّبِّ فِي قَلْبِهِ وَأُنْسِهِ بِهِ مَا لَا يَحْصُلُ لِمَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ. وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ قَدْ يَكُونُ أَحَدُ الشَّخْصَيْنِ أَعْلَمَ بِصِفَاتِهِ وَالْآخَرُ أَكْثَرَ مَحَبَّةً لَهُ وَكَذَلِكَ الْأَشْخَاصُ - الْمَشْهُورُونَ - قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ أَعْلَمَ بِمَا رَأَى وَالْآخَرُ أَكْثَرَ مَحَبَّةً لَهُ وَ {الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ} وَتَعَارُفُهَا تَنَاسُبُهَا وَتَشَابُهُهَا فِيمَا تَعْلَمُهُ وَتُحِبُّهُ وَتَكْرَهُهُ. وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعِبَادِ الَّذِي يَشْهَدُ قَلْبُهُ الصُّورَةَ الْمِثَالِيَّةَ وَيَفْنَى فِيمَا شَهِدَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ رَأَى اللَّهَ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى قَلْبِهِ سُلْطَانُ الشُّهُودِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ عَقْلٌ يُمَيِّزُ بِهِ وَالْمُشَاهِدُ لِلْأُمُورِ هُوَ الْقَلْبُ لَكِنْ تَارَةً شَاهَدَهَا بِوَاسِطَةِ الْحِسِّ الظَّاهِرِ وَتَارَةً بِنَفْسِهِ فَلَا يَبْقَى أَيْضًا يُمَيِّزُ بَيْنَ الشهودين فَإِنْ غَابَ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الشهودين ظَنَّ أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ؛ وَإِنْ غَابَ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ ظَنَّ أَنَّهُ هُوَ كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْجُبَّةِ إلَّا اللَّهُ. وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ: غِبْت بِك عَنِّي؛ فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي وَكَانَ الْمَحْبُوبُ قَدْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ فَأَلْقَى الْمُحِبُّ نَفْسَهُ خَلْفَهُ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ قُوَّةِ شُهُودِ الْقَلْبِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ؛ فَإِنَّهُ لِغَيْبَةِ عَقْلِهِ بِالنَّوْمِ يَظُنُّ أَنَّ مَا يَرَاهُ هُوَ بِعَيْنِهِ الظَّاهِرَةِ وَمَا يَسْمَعُهُ يَسْمَعُهُ
بِأُذُنِهِ الظَّاهِرَةِ وَمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ يَتَكَلَّمُ بِهِ بِلِسَانِهِ بِالْحِسِّ الظَّاهِرِ؛ وَعَيْنُهُ مُغْمَضَةٌ وَلِسَانُهُ سَاكِتٌ. وَقَدْ يَقْوَى تَصَوُّرُهُ الْخَيَالِيُّ فِي النَّوْمِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِالْحِسِّ الظَّاهِرِ فَيَبْقَى النَّائِمُ يَقْرَأُ بِلِسَانِهِ وَيَتَكَلَّمُ بِلِسَانِهِ تَبَعًا لِخَيَالِهِ وَمَعَ هَذَا فَعَقْلُهُ غَائِبٌ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ كَمَا يَحْصُلُ مِثْلُ ذَلِكَ لِلسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ وَغَيْرِهِمَا. وَلِهَذَا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا إلَّا فِيمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبِ مُحَرَّمٍ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَقَرَّ بِاَللَّهِ فَعِنْدَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِحَسَبِ ذَلِكَ ثُمَّ مَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ لَمْ يَكْفُرْ بِجَحْدِهِ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الصَّلَاةِ مُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ - وَإِنْ اخْتَلَفَتْ اعْتِقَادَاتُهُمْ فِي مَعْبُودِهِمْ وَصِفَاتِهِ - إلَّا مَنْ كَانَ مُنَافِقًا - يُظْهِرُ الْإِيمَانَ بِلِسَانِهِ وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ بِالرَّسُولِ - فَهَذَا لَيْسَ بِمُؤْمِنِ؛ وَكُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا فَهُوَ مُؤْمِنٌ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِحَسَبِ مَا أوتيه مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّنْ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ وَلَوْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا جَمِيعُ الْمُتَنَازِعِينَ فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ عَلَى اخْتِلَافِ عَقَائِدِهِمْ. وَلَوْ كَانَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ يَعْرِفُ اللَّهَ كَمَا يَعْرِفُهُ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ تَدْخُلْ أُمَّتُهُ الْجَنَّةَ؛ فَإِنَّهُمْ - أَوْ أَكْثَرُهُمْ - لَا يَسْتَطِيعُونَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ؛ بَلْ يَدْخُلُونَهَا
وَتَكُونُ مَنَازِلُهُمْ مُتَفَاضِلَةً بِحَسَبِ إيمَانِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ حَصَلَ لَهُ إيمَانٌ يَعْرِفُ اللَّهَ بِهِ وَأَتَى آخَرُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ عَجَزَ عَنْهُ لَمْ يُحَمَّلْ مَا لَا يُطِيقُ وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ فِتْنَةٌ لَمْ يُحَدِّثْ بِحَدِيثِ يَكُونُ لَهُ فِيهِ فِتْنَةٌ. فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي تَعْلِيمِ النَّاسِ وَمُخَاطَبَتِهِمْ بِالْخِطَابِ الْعَامِّ بِالنُّصُوصِ الَّتِي اشْتَرَكُوا فِي سَمَاعِهَا: كَالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ.
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة رحمه الله:
عَنْ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الِاعْتِقَادِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَنْ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى فِي السَّمَاءِ فَهُوَ ضَالٌّ. وَقَالَ الْآخَرُ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي مَكَانٍ وَهُمَا شَافِعِيَّانِ فَبَيِّنُوا لَنَا مَا نَتَّبِعُ مِنْ عَقِيدَةِ " الشَّافِعِيِّ " رضي الله عنه وَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ؟
الْجَوَابُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، اعْتِقَادُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَاعْتِقَادُ " سَلَفِ الْإِسْلَامِ "(*) كَمَالِكِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه؛ وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمَشَايِخِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ كالْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَغَيْرِهِمْ. فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ نِزَاعٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - فَإِنَّ الِاعْتِقَادَ الثَّابِتَ عَنْهُ فِي التَّوْحِيدِ وَالْقَدَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِاعْتِقَادِ هَؤُلَاءِ وَاعْتِقَادُ هَؤُلَاءِ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَهُوَ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 46 - 47):
وهذه الفتوى مختصره، ففيها ما يدل على ذلك، كقوله في:
1 -
ص 257 (إلى أن قال: وهو الذي خلق السماوات والأرض. .).
2 -
وفي ص 258 (إلى أن قال: فمن اعتقد أن الله في جوف السماء. . .).
3 -
وفي ص 259 (وذكر بعد كلام طويل الحديث (كل مولود يولد على الفطرة). . .).
وهذا مما يدل على كلام للشيخ رحمه الله محذوف.
ولم أجد أصلها في المطبوع من كتبه، والله أعلم.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ خُطْبَةِ " الرِّسَالَةِ ": الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَفَوْقَ مَا يَصِفُهُ بِهِ خَلْقُهُ. فَبَيَّنَ رحمه الله أَنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يُوصَفُ اللَّهُ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ بَلْ يُثْبِتُونَ لَهُ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلْيَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} لَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؛ وَهُوَ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا؛ وَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَجَعَلَهُ دَكًّا؛ وَلَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَلَيْسَ كَعِلْمِهِ عِلْمُ أَحَدٍ وَلَا كَقُدْرَتِهِ قُدْرَةُ أَحَدٍ وَلَا كَرَحْمَتِهِ رَحْمَةُ أَحَدٍ وَلَا كَاسْتِوَائِهِ اسْتِوَاءُ أَحَدٍ وَلَا كَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ سَمْعُ أَحَدٍ وَلَا بَصَرُهُ وَلَا كَتَكْلِيمِهِ تَكْلِيمُ أَحَدٍ وَلَا كَتَجَلِّيهِ تَجَلِّي أَحَدٍ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّ فِي الْجَنَّةِ لَحْمًا وَلَبَنًا وَعَسَلًا وَمَاءً وَحَرِيرًا وَذَهَبًا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْآخِرَةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ.
فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ الْغَائِبَةُ لَيْسَتْ مِثْلَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُشَاهَدَةِ - مَعَ اتِّفَاقِهَا فِي الْأَسْمَاءِ - فَالْخَالِقُ أَعْظَمُ عُلُوًّا وَمُبَايَنَةً لِخَلْقِهِ مِنْ مُبَايَنَةِ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ وَإِنْ اتَّفَقَتْ الْأَسْمَاءُ. وَقَدْ سَمَّى نَفْسَهُ حَيًّا عَلِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا وَبَعْضُهَا رَءُوفًا رَحِيمًا؛ وَلَيْسَ الْحَيُّ كَالْحَيِّ وَلَا الْعَلِيمُ كَالْعَلِيمِ وَلَا السَّمِيعُ كَالسَّمِيعِ وَلَا الْبَصِيرُ كَالْبَصِيرِ وَلَا الرَّءُوفُ كَالرَّءُوفِ وَلَا الرَّحِيمُ كَالرَّحِيمِ. وَقَالَ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ الْمَعْرُوفِ: {أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ} لَكِنْ لَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ فِي جَوْفِ السَّمَاءِ وَأَنَّ السَّمَوَاتِ تَحْصُرُهُ وَتَحْوِيهِ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا؛ بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ؛ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ - إلَى أَنْ قَالَ -: فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ فِي جَوْفِ السَّمَاءِ مَحْصُورٌ مُحَاطٌ بِهِ وَأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى الْعَرْشِ أَوْ غَيْرِ الْعَرْشِ - مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ - أَوْ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ عَلَى كُرْسِيِّهِ: فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ جَاهِلٌ وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ إلَهٌ يُعْبَدُ وَلَا عَلَى الْعَرْشِ رَبٌّ يُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى رَبِّهِ؛ وَلَا نَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِهِ: فَهُوَ مُعَطِّلٌ فِرْعَوْنِيٌّ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ - وَقَالَ - بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ - وَالْقَائِلُ الَّذِي قَالَ: مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ فَهُوَ ضَالٌّ:
إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ فِي جَوْفِ السَّمَاءِ بِحَيْثُ تَحْصُرُهُ وَتُحِيطُ بِهِ: فَقَدْ أَخْطَأَ. وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ: فَقَدْ أَصَابَ فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ يَكُونُ مُكَذِّبًا لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مُتَّبِعًا لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ؛ بَلْ يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَطِّلًا لِرَبِّهِ نَافِيًا لَهُ؛ فَلَا يَكُونُ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ إلَهٌ يَعْبُدُهُ وَلَا رَبٌّ يَسْأَلُهُ وَيَقْصِدُهُ. وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ فِرْعَوْنَ الْمُعَطِّلِ. وَاَللَّهُ قَدْ فَطَرَ الْعِبَادَ - عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ - عَلَى أَنَّهُمْ إذَا دَعَوْا اللَّهَ تَوَجَّهَتْ قُلُوبُهُمْ إلَى الْعُلُوِّ وَلَا يَقْصِدُونَهُ تَحْتَ أَرْجُلِهِمْ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَا قَالَ عَارِفٌ قَطُّ: يَا اللَّهُ إلَّا وَجَدَ فِي قَلْبِهِ - قَبْلَ أَنْ يَتَحَرَّكَ لِسَانُهُ - مَعْنًى يَطْلُبُ الْعُلُوَّ لَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً. وَذَكَرَ مِنْ بَعْدِ كَلَامٍ طَوِيلٍ - الْحَدِيثَ: {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ} . وَلِأَهْلِ الْحُلُولِ وَالتَّعْطِيلِ فِي هَذَا الْبَابِ شُبُهَاتٌ يُعَارِضُونَ بِهَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. وَمَا أَجْمَعَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا؛ وَمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الصَّحِيحَةُ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ كُلَّهَا مُتَّفِقَةٌ
عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ مَخْلُوقَاتِهِ عَالٍ عَلَيْهَا قَدْ فَطَرَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَجَائِزَ وَالصِّبْيَانَ وَالْأَعْرَابَ فِي الْكُتَّابِ؛ كَمَا فَطَرَهُمْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْخَالِقِ تَعَالَى. وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ؛ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟} ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: عَلَيْك بِدِينِ الْأَعْرَابِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْكُتَّابِ وَعَلَيْك بِمَا فَطَرَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى الْحَقِّ وَالرُّسُلُ بُعِثُوا بِتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ وَتَقْرِيرِهَا لَا بِتَحْوِيلِ الْفِطْرَةِ وَتَغْيِيرِهَا. وَأَمَّا أَعْدَاءُ الرُّسُلِ كالْجَهْمِيَّة الْفِرْعَوْنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ: فَيُرِيدُونَ أَنْ يُغَيِّرُوا فِطْرَةَ اللَّهِ وَيُورِدُونَ عَلَى النَّاسِ شُبُهَاتٍ بِكَلِمَاتِ مُشْتَبِهَاتٍ لَا يَفْهَمُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَقْصُودَهُمْ بِهَا؛ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُجِيبَهُمْ. وَأَصْلُ ضَلَالَتِهِمْ تَكَلُّمُهُمْ بِكَلِمَاتِ مُجْمَلَةٍ؛ لَا أَصْلَ لَهَا فِي كِتَابِهِ؛ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ؛ وَلَا قَالَهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَلَفْظِ التَّحَيُّزِ وَالْجِسْمِ وَالْجِهَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَمَنْ كَانَ عَارِفًا بِحَلِّ شُبُهَاتِهِمْ بَيَّنَهَا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِذَلِكَ فَلْيُعْرِضْ عَنْ كَلَامِهِمْ وَلَا يَقْبَلْ إلَّا مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا قَالَ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ
يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} . وَمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بِمَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِالْبَاطِلِ. وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَنْسُبُ إلَى أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَقُولُوهُ؛ فَيَنْسِبُونَ إلَى الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ: مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ مَا لَمْ يَقُولُوا. وَيَقُولُونَ لِمَنْ اتَّبَعَهُمْ: هَذَا اعْتِقَادُ الْإِمَامِ الْفُلَانِيِّ؛ فَإِذَا طُولِبُوا بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ عَنْ الْأَئِمَّةِ تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ: أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ وَيُقَالَ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي: مَنْ طَلَبَ الدِّينِ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ. قَالَ أَحْمَد: مَا ارْتَدَى أَحَدٌ بِالْكَلَامِ فَأَفْلَحَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُعَطِّلُ يَعْبُدُ عَدَمًا وَالْمُمَثِّلُ يَعْبُدُ صَنَمًا. الْمُعَطِّلُ أَعْمَى وَالْمُمَثِّلُ أَعْشَى؛ وَدِينُ اللَّهِ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وَالسُّنَّةُ فِي الْإِسْلَامِ كَالْإِسْلَامِ فِي الْمِلَلِ. انْتَهَى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:
عَمَّنْ يَعْتَقِدُ " الْجِهَةَ " هَلْ هُوَ مُبْتَدِعٌ أَوْ كَافِرٌ أَوْ لَا؟
فَأَجَابَ:
أَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ الْجِهَةَ؛ فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ فِي دَاخِلِ الْمَخْلُوقَاتِ تَحْوِيهِ الْمَصْنُوعَاتُ وَتَحْصُرُهُ السَّمَوَاتُ وَيَكُونُ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ فَوْقَهُ وَبَعْضُهَا تَحْتَهُ فَهَذَا مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يَفْتَقِرُ إلَى شَيْءٍ يَحْمِلُهُ - إلَى الْعَرْشِ أَوْ غَيْرِهِ - فَهُوَ أَيْضًا مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ. وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ صِفَاتِ اللَّهِ مِثْلَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَيَقُولُ: اسْتِوَاءُ اللَّهِ كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ أَوْ نُزُولُهُ كَنُزُولِ الْمَخْلُوقِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مَعَ الْعَقْلِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا تُمَاثِلُهُ الْمَخْلُوقَاتُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُبَايِنٌ الْمَخْلُوقَاتِ عَالٍ عَلَيْهَا. وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْخَالِقَ تَعَالَى بَائِنٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ؛ وَأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَرْشِ وَعَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى شَيْءٍ مِنْ
الْمَخْلُوقَاتِ؛ بَلْ هُوَ مَعَ اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ يَحْمِلُ الْعَرْشَ وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ بِقُدْرَتِهِ وَلَا يُمَثَّلُ اسْتِوَاءُ اللَّهِ بِاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ؛ بَلْ يُثْبِتُ اللَّهُ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَيُنْفَى عَنْهُ مُمَاثَلَةُ الْمَخْلُوقَاتِ وَيُعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ: لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا أَفْعَالِهِ. فَهَذَا مُصِيبٌ فِي اعْتِقَادِهِ مُوَافِقٌ لِسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَجَعَلَهُ دَكًّا هَشِيمًا. وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؛ وَيُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ وَيُثْبِتُونَ لَهُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ كُفُؤٌ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ قَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الخزاعي: مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ وَلَيْسَ فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولُهُ تَشْبِيهًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
حِكَايَةُ مُنَاظِرَةٍ فِي الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ
صُورَةُ مَا طُلِبَ مِنْ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّة رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ - حِينَ جِيءَ بِهِ مِنْ دِمَشْقَ عَلَى الْبَرِيدِ وَاعْتُقِلَ بِالْجُبِّ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ بَعْدَ عَقْدِ الْمَجْلِسِ بِدَارِ النِّيَابَةِ وَكَانَ وُصُولُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَعُقِدَ الْمَجْلِسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَفِيهِ اُعْتُقِلَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَصُورَةُ مَا طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَ نَفْيَ الْجِهَةِ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزِ؛ وَأَنْ لَا يَقُولَ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ؛ بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ؛ وَأَنَّهُ سبحانه وتعالى لَا يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ إشَارَةً حِسِّيَّةً وَيُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامِّ وَلَا يَكْتُبُ بِهَا إلَى الْبِلَادِ وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا.
فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ:
أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَ نَفْيَ الْجِهَةِ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزِ: فَلَيْسَ فِي كَلَامِي إثْبَاتُ هَذَا اللَّفْظِ لِأَنَّ إطْلَاقَ هَذَا اللَّفْظِ نَفْيًا بِدْعَةٌ وَأَنَا لَمْ أَقُلْ إلَّا مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ. فَإِنْ أَرَادَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ
إلَهٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى رَبِّهِ وَمَا فَوْقَ الْعَالَمِ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ. وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَا تُحِيطُ بِهِ مَخْلُوقَاتُهُ وَلَا يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَوْجُودَاتِ فَهَذَا مَذْكُورٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِي؛ فَإِنِّي قَائِلُهُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَجْدِيدِهِ؟ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا يَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ؛ بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ: فَلَيْسَ فِي كَلَامِي هَذَا أَيْضًا وَلَا قُلْته قَطُّ؛ بَلْ قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ بِدْعَةٌ وَقَوْلُهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ: بِدْعَةٌ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَأَنَا لَيْسَ فِي كَلَامِي شَيْءٌ مِنْ الْبِدَعِ؛ بَلْ فِي كَلَامِي مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ إشَارَةً حِسِّيَّةً فَلَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ فِي كَلَامِي؛ بَلْ فِي كَلَامِي إنْكَارُ مَا ابْتَدَعَهُ الْمُبْتَدِعُونَ مِنْ الْأَلْفَاظِ النَّافِيَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ إنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا النَّفْيَ أَيْضًا بِدْعَةٌ. فَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ أَنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ: فَهَذَا حَقٌّ؛ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مَنْ دَعَا اللَّهَ لَا يَرْفَعُ إلَيْهِ يَدَيْهِ؛ فَهَذَا خِلَافُ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِنْ رَفْعِ الْأَيْدِي إلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إنَّ اللَّهَ يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا} .
وَإِذَا سَمَّى الْمُسَمِّي ذَلِكَ إشَارَةً حِسِّيَّةً وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ. لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا يَتَعَرَّضُ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامِّ: فَأَنَا مَا فَاتَحْت عَامِّيًّا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَطُّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لِلْمُسْتَرْشِدِ الْمُسْتَهْدِي؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} . وَلَا يُؤْمَرُ الْعَالِمُ بِمَا يُوجِبُ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله عَنْ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
يَا سَادَةَ الْعُلَمَاءِ أَفْتُونَا بِمَا
…
يَشْفِي الْغَلِيلَ فَمَاءُ صَبْرِي آسِنٌ
عَنْ قَوْلِ نَاظِمِ عِقْدِ أَصْلِ عَقِيدَةٍ
…
فِي حَقِّ حَقِّ الْحَقِّ لَيْسَ يُدَاهِنُ
يَا مُنْكِرًا أَنَّ الْإِلَهَ مُبَايِنٌ
…
لِلْخَلْقِ يَا مَفْتُونُ بَلْ يَا فَاتِنُ
هَبْ قَدْ ضَلَلْت فَأَيْنَ أَنْتَ فَإِنْ تَكُنْ
…
أَنْتَ الْمُبَايِنُ فَهُوَ أَيْضًا بَائِنُ
أَوْ قُلْتَ لَسْت مُبَايِنًا قُلْنَا إذَنْ
…
فَبِالِاتِّحَادِ أَوْ الْحُلُولِ تُشَاحِنُ
أَوْ قُلْتَ يَلْزَمُ مِنْهُ شَيْءٌ دَاخِلًا
…
قُلْنَا نَعَمْ مَا الرَّبُّ فِينَا سَاكِنٌ
إنْ قُلْتَ يَلْزَمُ أَنَّهُ فِي حَيِّزٍ
…
أَوْ صَارَ فِي جِهَةٍ فَعَقْلُك وَاهِنٌ
فَلَقَدْ كَذَبْت فَإِنَّهُ لَا حَيِّزٌ
…
إلَّا مَكَانٌ وَهُوَ مِنْهُ بَائِنٌ
وَكَذَا الْجِهَاتُ فَإِنَّهَا عَدَمِيَّةٌ
…
فِي حَقِّهِ وَالْحَقُّ فِي ذَا بَائِنُ
إذْ لَيْسَ فَوْقَ الْحَقِّ ذَاتٌ غَيْرُهُ
…
حَتَّى تُقَدِّرَ وَهُوَ فِيهَا قَاطِنُ
أَوْ قُلْتَ مَا هُوَ دَاخِلٌ أَوْ خَارِجٌ
…
هَذَا يَدُلُّ بِأَنَّ مَا هُوَ كَائِنُ
إذْ قَدْ جَمَعْت نَقَائِضًا وَوَصَفْته
…
عَدَمًا بِهَا هَلْ أَنْتَ عَنْهَا ظَاعِنُ
مَا قَالَ مَا هُوَ ظَاهِرٌ أَوْ بَاطِنٌ
…
لَكِنَّهُ هُوَ ظَاهِرٌ هُوَ بَاطِنُ
فَارْجِعْ وَتُبْ مَنْ قَالَ مِثْلُك إنَّهُ
…
لَمُعَطِّلٌ وَالْكُفْرُ فِيهِ كَامِنُ
وَتَفَضَّلُوا بِجَوَابِهِ مَنْ نَظْمِكُمْ
…
هَلْ صَادَقَ فِيمَا ادَّعَى أَوْ ماين
فَصْلًا بِفَصْلِ ظَاهِرٍ فَاَللَّهُ للـ
…
ـمُفْتِي الْمُصِيبِ بِخَيْرِ آخِرٍ ضَامِنُ
فَأَجَابَ رضي الله عنه:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، جَوَابُ الْمُنَازِعِينَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ خَارِجٌ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: الْجَوَابُ عَنْ حُجَّةِ مَنْ نَفَى ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْقَوْلَ بِالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ وَهُمَا بَاطِلَانِ وَبُطْلَانُ اللَّازِمِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الْمَلْزُومِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ فَإِنَّ مَضْمُونَهُ أَنَّك إمَّا أَنْ تَكُونَ مُبَايِنًا لِلْخَالِقِ وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ مُبَايِنًا فَإِنْ قُلْت: إنَّك مُبَايِنٌ لَزِمَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لَك؛ لِأَنَّ
الْمُبَايَنَةَ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهَا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ثُبُوتُهَا فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ عَقْلًا، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي اللُّغَةِ إلَّا فِي مَوَاضِعَ قِيلَ إنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ بَلْ مُتَأَوَّلَةٌ: مِثْلُ قَوْلِهِمْ: عَاقَبْت اللِّصَّ وداققت النَّعْلَ وَعَافَاك اللَّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْت: لَسْت مُبَايِنًا لَهُ لَزِمَك الْقَوْلُ بِالْحُلُولِ أَوْ الِاتِّحَادِ؛ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ مُتَمَيِّزًا عَنْهُ كَانَ مُجَامِعًا لَهُ مُدَاخِلًا لَهُ بِحَيْثُ هُوَ يحايثه وَيُجَامِعُهُ وَيُدَاخِلُهُ كَمَا تحايث الصِّفَةُ مَحَلَّهَا الَّذِي قَامَتْ بِهِ وَالصِّفَةُ الْمُشَارِكَةُ لَهَا بِالْقِيَامِ بِهِ؛ فَإِنَّ التُّفَّاحَةَ مَثَلًا طَعْمُهَا وَلَوْنُهَا لَيْسَ هُوَ بِمُبَايِنِ لَهَا بَلْ هُوَ محايث لَهَا وَمُجَامِعٌ لَهَا وَذَلِكَ الطَّعْمُ محايث اللَّوْنِ، وَالْمُبَايَنَةُ هِيَ الْمُفَارَقَةُ وَهِيَ ضِدُّ الْمُجَامَعَةِ فَلَمَّا كَانَتْ الصِّفَةُ الَّتِي تُسَمَّى الْعَرَضَ تحايث مَحَلَّهَا - الَّذِي يُسَمَّى الْجِسْمُ - وتحايث عَرَضًا آخَرَ كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مُنْتَفٍ عَنْ اللَّهِ سبحانه وتعالى؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَرَضِ وَلَا صِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ؛ بَلْ هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مُسْتَغْنٍ عَنْ مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ محايثة الْمَخْلُوقَاتِ وَالْحُلُولِ؛ إذْ الْقَوْلُ بِنَفْيِ الْجِسْمِ مَعَ إثْبَاتِ هَذَا التَّقْسِيمِ تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُسْتَلْزِمًا لِلتَّجْسِيمِ لَزِمَهُ مَا يَلْزَمُ الْقَائِلِينَ بِالتَّجْسِيمِ وَقَدْ خَاطَبَ نفاة ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مَفْتُونُونَ وَفَاتِنُونَ وَادَّعَى أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُعَطِّلٌ وَأَنَّ " الْكُفْرَ فِي قَوْلِهِ كَامِنٌ ". وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ تَكْفِيرَ مَنْ نَفَى التَّجْسِيمَ وَقَدْ عُلِمَ مَا فِي الْقَوْلِ مِنْ الْوَبَالِ الْعَظِيمِ. قَالَتْ الْمُثْبِتَةُ نَحْنُ نُجِيبُكُمْ بِجَوَابَيْنِ: إجْمَالِيٌّ وَتَفْصِيلِيٌّ.
أَمَّا الْجَوَابُ الْإِجْمَالِيُّ فَإِنَّا نَقُولُ قَوْلَكُمْ: " لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ ضَرُورِيَّةٌ " مَنْعٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ فَإِنَّ الْمُقَدِّمَاتِ الضَّرُورِيَّةَ لَا يَجُوزُ مَنْعُهَا وَلَوْ جَازَ مَنْعُ الضَّرُورِيَّاتِ لَمْ يُمْكِنْ الِاسْتِدْلَالُ وَلَا إقَامَةُ حُجَّةٍ عَلَى مُنْكِرٍ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَدِلَّ غَايَتُهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِدَلِيلِ مُؤَلَّفٍ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ؛ فَلَوْ جَازَ مَنْعُ الضَّرُورِيَّةِ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ؛ وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِضَرُورِيَّةٍ أَوْ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ لَا يُقْبَلُ أَيْضًا؛ فَإِنَّ الضَّرُورِيَّاتِ هِيَ الْأَصْلُ لِلنَّظَرِيَّاتِ؛ فَلَوْ جَازَ الْقَدْحُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ بِالنَّظَرِيَّاتِ لَكَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي الْأَصْلِ بِفَرْعِهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ جَمِيعًا؛ فَإِنَّ الْفَرْعَ إذَا كَانَ فَاسِدًا لَمْ تَجُزْ الْمُعَارَضَةُ بِهِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ صَحِيحًا؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَادِحًا فِي الْأَصْلِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَجُوزُ مُعَارَضَةُ الضَّرُورِيَّاتِ بِالنَّظَرِيَّاتِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الضَّرُورِيَّةِ أَنْ تُمَانَعَ وَلَا أَنْ تُعَارَضَ بِالنَّظَرِيَّاتِ؛ فَإِذَا ادَّعَى الْمُسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ ضَرُورِيَّةٌ فَهَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَى مُنَاظِرِهِ. قِيلَ: لَيْسَ مُجَرَّدُ دَعْوَاهُ الضَّرُورِيَّةَ حُجَّةً عَلَى خَصْمِهِ لَكِنْ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْقَضِيَّةَ ضَرُورِيَّةٌ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ وَهُوَ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ؛ وَسَوَاءٌ عَلِمَهَا غَيْرُهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهَا؛ وَسَوَاءٌ سَلَّمَهَا لَهُ أَوْ نَازَعَهُ فِيهَا. فَمَا عَلِمَهُ هُوَ ضَرُورَةً لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَشُكَّ فِيهِ.
وَأَمَّا طَرِيقُ إلْزَامِهِ لِمُنَازِعِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ بِتَسْلِيمِ أَرْبَابِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ الَّتِي لَمْ يُعَارِضْهَا عَقْدٌ وَلَا قَصْدٌ يُخَالِفُ فِطْرَتَهَا فَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ الَّتِي لَا هَوَى لَهَا وَلَا اعْتِقَادَ يُخَالِفُ ذَلِكَ تُقِرُّ بِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ مَعْلُومَةٌ عِنْدَهُمْ بِالضَّرُورَةِ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَأَنَّ الْمُنَازِعَ فِيهَا قَدْ تَغَيَّرَتْ فِطْرَتُهُ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا لِاعْتِقَادِ أَوْ هَوًى فَإِنَّ الْحِسَّ كَمَا قَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يُوجِبُ غَلَطَهُ فَكَذَلِكَ الْعَقْلُ يَعْرِضُ لَهُ مَا يُوجِبُ غَلَطَهُ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ حَقٌّ أَنَّ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ جَاءُوا بِمَا يُوَافِقُهَا لَا بِمَا يُخَالِفُهَا وَكَذَلِكَ " سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ " مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ يُوَافِقُونَ مُقْتَضَاهَا؛ لَا يُخَالِفُونَهَا. وَلَمْ يُخَالِفْ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الضَّرُورِيَّةَ مَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ؛ بَلْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ يَقُولُونَ بِمُوجِبِهَا وَإِنَّمَا خَالَفَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ: كَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ؛ وَاَلَّذِينَ خَالَفُوهَا - عُقَلَاؤُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ - تَنَاقَضُوا فِي ذَلِكَ وَادَّعَوْا الضَّرُورَةَ فِي قَضَايَا مَنْ جِنْسِهَا وَهِيَ أَبْيَنُ مِنْهَا وَمَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ ذَلِكَ أَدَّى بِهِ الْأَمْرُ إلَى جَحْدِ عَامَّةِ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحِسِّيَّاتِ فَالْمُنْكِرُ لِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ هُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَ جَحْدَ عَامَّةِ الضَّرُورِيَّاتِ وَإِمَّا أَنْ يُقِرَّ بِقَضَايَا - مِنْ جِنْسِهَا ضَرُورِيَّةً - دُونَ هَذِهِ فِي الْقُوَّةِ وَالْجَلَاءِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ هُوَ جِسْمٌ وَلَا مُتَحَيِّزٌ تَنَازَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ: هَلْ هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ أَمْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ؟ فَقَالَ طَوَائِفُ
كَثِيرَةٌ: هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ بَلْ هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ مَعَ هَذَا لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ. وَهَذَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ الْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَطَوَائِفَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ: لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَلَا فَوْقَ الْعَالَمِ شَيْءٌ أَصْلًا وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ شَيْءٌ. وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَطَوَائِفَ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ الْنُّفَاةِ؛ وَالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ أَوْ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ عُبَّادِهِمْ وَمُتَكَلَّمِيهِمْ وَصُوفِيَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ هُوَ دَاخِلًا فِيهِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ وَلَا حَالًّا فِيهِ وَلَيْسَ فِي مَكَانٍ مِنْ الْأَمْكِنَةِ؛ فَهَؤُلَاءِ يَنْفُونَ عَنْهُ الْوَصْفَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ جَمِيعًا وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ مُتَكَلِّمِيهِمْ وَنُظَّارِهِمْ. وَ (الْأَوَّلُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى عَامَّتِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ مِنْهُمْ وَ (الثَّانِي هُوَ الْغَالِبُ عَلَى نُظَّارِهِمْ وَمُتَكَلِّمِيهِمْ وَأَهْلِ الْبَحْثِ مِنْهُمْ وَالْقِيَاسِ فِيهِمْ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ؛ فَفِي حَالِ نَظَرِهِ وَبَحْثِهِ يَقُولُ بِسَلْبِ الْوَصْفَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ كِلَيْهِمَا فَيَقُولُ: لَا هُوَ دَاخِلُ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجُهُ. وَفِي حَالِ تَعَبُّدِهِ وَتَأَلُّهِهِ يَقُولُ بِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يُصَرِّحُونَ
بِالْحُلُولِ فِي كُلِّ مَوْجُودٍ - مِنْ الْبَهَائِمِ وَغَيْرِهَا - بَلْ " بِالِاتِّحَادِ " بِكُلِّ شَيْءٍ؛ بَلْ يَقُولُونَ " بِالْوَحْدَةِ " الَّتِي مَعْنَاهَا أَنَّهُ عَيْنُ وُجُودِ الْمَوْجُودَاتِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ الدُّعَاءَ وَالْعِبَادَةَ وَالْقَصْدَ وَالْإِرَادَةَ وَالتَّوَجُّهَ يَطْلُبُ مَوْجُودًا؛ بِخِلَافِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ وَالْكَلَامِ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْكَلَامَ وَالْبَحْثَ وَالْقِيَاسَ وَالنَّظَرَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْقَلْبُ فِي عِبَادَةٍ وَتَوَجُّهٍ وَدُعَاءٍ سَهُلَ عَلَيْهِ النَّفْيُ وَالسَّلْبُ وَأَعْرَضَ عَنْ الْإِثْبَاتِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي حَالِ الدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ يَطْلُبُ مَوْجُودًا يَقْصِدُهُ وَيَسْأَلُهُ وَيَعْبُدُهُ وَالسَّلْبُ لَا يَقْتَضِي إلَّا النَّفْيَ وَالْعَدَمَ فَلَا يَنْفِي فِي السَّلْبِ مَا يَكُونُ مَقْصُودًا أَوْ مَعْبُودًا. فَالْمُخَالِفُ لِهَذَا النَّظْمِ إذَا كَانَ مِنْ الْنُّفَاةِ لِلْمُتَقَابِلِينَ يَقُولُ: أَنَا أَقُولُ: لَا هُوَ مُبَايِنٌ وَلَا أَقُولُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فَلِمَ قُلْت: إنِّي إذَا لَمْ أَقُلْ بِالْمُبَايَنَةِ يَلْزَمُنِي الْقَوْلُ بِالْحُلُولِ أَوْ الِاتِّحَادِ؟ هَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ أَئِمَّةُ الْنُّفَاةِ لِمِثْلِ هَذَا النَّاظِمِ؛ وَحِينَئِذٍ فَيَقُولُ الْمُثْبِتَةُ الْقَائِلُونَ بِالْمُبَايَنَةِ وَالْخُرُوجِ - وَمَنْ قَالَ مِنْ الْنُّفَاةِ إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقَوْلِ مُحَقِّقِيهِمْ وَعَارِفِيهِمْ - نَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَوْجُودَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ محايثا وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ مَوْجُودَيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا دَاخِلًا فِي الْآخَرِ - محايثا لَهُ - وَلَا خَارِجًا عَنْهُ - مُبَايِنًا لَهُ - فَقَدْ خَالَفَ ضَرُورَةَ الْعَقْلِ؛ وَهَذَا الْعِلْمُ مَرْكُوزٌ فِي فِطَرِ جَمِيعِ النَّاسِ إلَّا مَنْ يُقَلِّدُ قَوْلَ الْنُّفَاةِ.
وَنَفْيُ هَذَيْنِ جَمِيعًا هُوَ مِنْ أَقْوَالِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَئِمَّةُ الْجَهْمِيَّة؛ فَإِنَّ جَهْمًا مَعَ الْقَرَامِطَةِ وَغُلَاةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ يَقُولُونَ: لَا نَقُولُ: هُوَ شَيْءٌ وَلَا لَيْسَ بِشَيْءِ كَمَا يَقُولُونَ: لَا نَقُولُ: هُوَ مَوْجُودٌ وَلَا مَعْدُومٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ وَلَا عَالِمٌ وَلَا جَاهِلٌ وَلَا قَدِيمٌ وَلَا مُحْدَثٌ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ فَسَادُهَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَوَاطَأَ عَلَيْهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ؛ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَ مَذْهَبًا تَلَقَّاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ - يَجُوزُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى جَحْدِ الضَّرُورِيَّاتِ كَمَا يَجُوزُ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْكَذِبِ مَعَ المواطئة وَالِاتِّفَاقِ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ كَالنَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ مَنْ يُصِرُّ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ. وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ مَا يَمْتَنِعُ عَلَى " أَهْلِ التَّوَاتُرِ " وَهُوَ اتِّفَاقُ الْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ عَلَى الْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ وَلَا اتِّفَاقٍ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ جَحْدُ مَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهُ بِالِاضْطِرَارِ وَإِثْبَاتُ مَا يُعْلَمُ نَفْيُهُ بِالِاضْطِرَارِ؛ لِأَنَّ هَذَا اتِّفَاقٌ عَلَى الْكَذِبِ. وَأَهْلُ التَّوَاتُرِ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ الْكَذِبُ؛ فَأَمَّا إذَا لُقِّنُوا قَوْلًا بِشُبْهَةِ وَحُجَجٍ وَاعْتَقَدُوا صِحَّتَهُ جَازَ أَنْ يُصِرُّوا عَلَى اعْتِقَادِهِ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً عَظِيمَةً؛ وَلِهَذَا يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكُفَّارِ فَلَا يَعْرِفُونَ الْحَقَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}
وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ الضَّرُورِيَّاتُ مِنْ الْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ وَالْعُقُولِ الْمُسْتَقِيمَةِ: الَّتِي لَمْ تَمْرَضْ بِمَا تَقَلَّدَتْهُ مِنْ الْعَقَائِدِ وَتَعَوَّدَتْهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ.
وَالْمُثْبِتَةُ يَقُولُونَ: مَنْ ذُكِرَ لَهُ قَوْلُ الْنُّفَاةِ - مِنْ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ السَّلِيمَةِ الْفِطَرِ - عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ فَسَادُهُ؛ وَكُلَّمَا كَانَ أَذْكَى وَاحِدٍ ذِهْنًا كَانَ عِلْمُهُ بِفَسَادِهِ أَشَدَّ؛ بَلْ هُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْعِلْمَ بِالْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَطْلُوبَ إثْبَاتُهَا " وَهُوَ عُلُوُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَالَمِ " مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ وَالضَّرُورَةِ وَيَعْلَمُونَ بُطْلَانَ نَقِيضِهَا بِالْفِطْرَةِ وَالضَّرُورَةِ؛ فَيَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ الْقَضِيَّةَ الْعَامَّةَ وَالْقَضِيَّةَ الْخَاصَّةَ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ الْخَالِقَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَيَعْلَمُونَ امْتِنَاعَ وُجُودِ مَوْجُودَيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا مُبَايِنًا لِلْآخَرِ وَلَا مُدَاخِلًا لَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُبَايِنًا كَانَ مُدَاخِلًا محايثا فَيُلْزَمُ الْحُلُولُ وَالِاتِّحَادُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأُمَمِ مِنْ بَنِي آدَمَ أَمَّا مَنْ يُثْبِتُ الْعُلُوَّ وَالْمُبَايَنَةَ فَقَوْلُهُ ظَاهِرٌ وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يُقِرُّونَ بِالْعُلُوِّ وَالْمُبَايَنَةِ فَجُمْهُورُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ضِدَّ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَلَوْ عُرِضَ عَلَيْهِمْ نَفْيُ هَذَا وَهَذَا لَمْ يَتَصَوَّرُوهُ وَلَمْ يَعْقِلُوهُ وَبِهَذَا احْتَجَّ أَهْلُ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ - مِنْ مُحَقِّقِيهِمْ - كَالصَّدْرِ القونوي وَأَمْثَالِهِ عَلَى نفاة ذَلِكَ مِنْهُمْ فَقَالَ: قَدْ سَلَّمْتُمْ لَنَا أَنَّهُ لَيْسَ خَارِجَ الْعَالَمِ وَلَا مُبَايِنًا لَهُ؛ وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يُعْقَلْ إلَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمُمْكِنَاتِ أَوْ فِي وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ؛ إذْ لَا يُعْقَلُ إلَّا هَذَا؛ أَوْ هَذَا. ثُمَّ هَذَا وَأَمْثَالُهُ يَقُولُونَ: هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَإِنَّ فَرْقَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَشْيَاءِ فَرْقُ مَا بَيْنَ
الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ وَهَذَا يُشْبِهُ الْفَرْقَ بَيْنَ جِنْسِ الْإِنْسَانِ وَأَعْيَانِ النَّاسِ وَجِنْسِ الْحَيَوَانِ وَأَعْيَانِ الْحَيَوَانِ فَيَكُونُ الرَّبُّ مِثْلَ الْجِنْسِ أَوْ الْعَرَضِ الْعَامِّ لِسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ لَهُ وُجُودٌ مُتَمَيِّزٌ بِنَفْسِهِ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ؛ إذْ الْكُلِّيَّاتُ - كَالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْفَصْلِ وَالْخَاصَّةِ وَالْعَرَضِ الْعَامِّ - لَا تُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مُنْفَصِلَةً عَنْ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ. وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ وَإِنَّمَا يُحْكَى الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ عَنْ شِيعَةِ أَفْلَاطُونَ " وَنَحْوِهِ: الَّذِينَ يَقُولُونَ بِإِثْبَاتِ " الْمُثُلِ الأفلاطونية " وَهِيَ الْكُلِّيَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ الْأَعْيَانِ خَارِجَ الذِّهْنِ وَعَنْ شِيعَةِ " فيثاغورس " فِي إثْبَاتِ الْعَدَدِ الْمُطْلَقِ خَارِجَ الذِّهْنِ. وَالْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ " أَرِسْطُو " وَأَتْبَاعُهُ مُتَّفِقُونَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَلَوْ ظَنُّوا أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَوَقَعُوا فِيمَا فَرُّوا مِنْهُ؛ فَإِنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ مُبَايَنَتَهُ لِوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ وَانْفِصَالِهِ عَنْهَا؛ مَعَ أَنَّ عَاقِلًا لَا يَقُولُ: إنَّ صِفَةً تَكُونُ مُبْدِعَةً لِلْمَوْصُوفِ وَلَا إنَّ " الْكُلِّيَّاتِ " هِيَ الْمُبْدِعَةُ لِمُعَيِّنَاتِهَا. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ جَمَاهِيرَ الْخَلَائِقِ مِنْ مُثْبِتَةِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَمِنْ نفاة ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ يَقُولُونَ بِإِثْبَاتِ هَذَا التَّقْسِيمِ وَالْحَصْرِ وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ محايثا مُدَاخِلًا؛ فَإِذَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ. وَيَقُولُونَ: إنَّ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ قَالَ الْنُّفَاةِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ
ضَرُورِيَّةٌ؛ بِدَلِيلِ أَنَّا نَعْقِلُ الْإِنْسَانِيَّةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ الْأَنَاسِيِّ وَغَيْرِهَا مِنْ الْكُلِّيَّاتِ الْمَعْقُولَةِ وَغَيْرِهَا وَلَيْسَتْ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعَهُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ. وَطَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَثْبَتُوا أَنَّ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ كَذَلِكَ وَالْعُقُولَ وَالنُّفُوسَ وَلَمْ يَكُونُوا قَائِلِينَ بِمَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ يَعْلَمُ تَقْسِيمَ الشَّيْءِ إلَى مُبَايِنٍ ومحايث وَمَا لَيْسَ بِمُبَايِنِ وَلَا محايث وَتَقْسِيمَهُ إلَى دَاخِلٍ وَخَارِجٍ وَمَا لَيْسَ بِدَاخِلِ وَلَا خَارِجٍ وَتَقْسِيمِهِ إلَى مُتَحَيِّزٍ وَقَائِمٍ بِالْمُتَحَيِّزِ وَمَا لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَا قَائِمٍ بِمُتَحَيِّزِ. وَلَا يُعْلَمُ فَسَادُ هَذَا التَّقْسِيمِ بِالِاضْطِرَارِ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ. وَأَيْضًا فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ لُزُومِ الْمُبَايَنَةِ والمحايثة وَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ إنَّمَا يُعْقَلُ فِيمَا هُوَ جِسْمٌ مُتَحَيِّزٌ فَإِذَا قَدَّرْنَا مُتَحَيِّزَيْنِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا إمَّا دَاخِلًا فِي الْآخَرِ أَوْ خَارِجًا مِنْهُ فَأَمَّا إذَا قَدَّرْنَا مَوْجُودًا لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ وَلَا محايثا لَهُ وَلَا دَاخِلًا فِيهِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ بَلْ يُنْفَى عَنْ الْقِسْمَيْنِ وَحِينَئِذٍ فَهَذَا التَّقْسِيمُ وَالْحَصْرُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْبَارِي جِسْمًا مُتَحَيِّزًا فِي جِهَةٍ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَلَا نُرِيدُ بِالتَّحَيُّزِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحَاطَ بِهِ " حَيِّزٌ " وُجُودِيٌّ كَمَا أَجَابَ عَنْهُ النَّاظِمُ وَلَا بِالْجِهَةِ أَنْ يَكُونَ فِي " أَيْنَ " مَوْجُودٌ كَمَا أَجَابَ النَّاظِمُ أَيْضًا بَلْ نُرِيدُ بِالتَّحَيُّزِ الَّذِي فِي الْجِهَةِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُشَارُ إلَيْهِ بِالْحِسِّ أَنَّهُ هَاهُنَا أَوْ هُنَاكَ
وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا كَانَ فَوْقَ الْعَالَمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُشَارَ إلَيْهِ بِأَنَّهُ هُنَاكَ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ بِالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ عِنْدَنَا. وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّقْسِيمُ مُسْتَلْزِمًا لِإِثْبَاتِ الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّقْسِيمُ صَحِيحًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِالْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ صَحِيحًا وَالنَّاظِمُ لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ وَالْجِسْمِ.
ثُمَّ نَقُولُ الْأَدِلَّةُ النَّظَرِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى نَفْيِ التَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ وَالْجِسْمِ تَنْفِي صِحَّةَ هَذَا التَّقْسِيمِ وَالْحَصْرِ؛ فَإِنَّهُ إذَا قُدِّرَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ وَلَا فِي جِهَةٍ أَمْكَنَ أَنْ يُعْقَلَ أَنَّهُ لَيْسَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ وَلَا محايثا لَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلَّمَا يُنْفَى الْقَوْلُ بِالتَّجْسِيمِ يَبْطُلُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ. وَكَذَلِكَ " الِاتِّحَادُ " فَإِنَّ الِاتِّحَادَ إذَا كَانَ مَعَ بَقَاءِ الِاثْنَيْنِ عَلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ فَلَا اتِّحَادَ بَلْ هُمَا اثْنَانِ بَاقِيَانِ عَلَى صِفَاتِهِمَا كَمَا كَانَا وَإِنْ عَنَى بِهِ اسْتِحَالَةَ إلَى نَوْعٍ ثَالِثٍ كَمَا يَتَّحِدُ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ وَالْمَاءُ وَالْخَمْرُ فَيَصِيرَانِ نَوْعًا ثَالِثًا لَا هُوَ مَاءٌ مَحْضٌ وَلَا لَبَنٌ مَحْضٌ فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ اسْتِحَالَةِ أَحَدِهِمَا وَفَسَادٍ يَعْرِضُ لِذَاتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ هُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ قَدِيمٌ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ عَدَمُ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَيَمْتَنِعُ فِي حَقِّهِ الِاسْتِحَالَةُ وَالْفَسَادُ بِمَضْمُونِ الدَّلِيلِ أَنَّ الْمَخْلُوقَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِلْخَالِقِ وَالْخَالِقَ مُبَايِنٌ وَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَ الْحُلُولُ وَالِاتِّحَادُ وَهُمَا بَاطِلَانِ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ.
وَاعْتِرَاضُ الْمُنَازِعِ عَلَى هَذَا يَكُونُ بَعْدَ بَيَانِ مَعْنَى الْمُبَايَنَةِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ يُطْلِقُونَ الْمُبَايَنَةَ بِإِزَاءِ " ثَلَاثَةِ " مَعَانٍ؛ بَلْ " أَرْبَعَةٌ ".
أَحَدُهَا الْمُبَايَنَةُ الْمُقَابِلَةُ لِلْمُمَاثَلَةِ وَالْمُشَابَهَةِ وَالْمُقَارَبَةِ
وَالثَّانِي: الْمُبَايَنَةُ الْمُقَابِلَةُ للمحايثة وَالْمُجَامَعَةِ وَالْمُدَاخَلَةِ وَالْمُخَارَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ.
وَالثَّالِثُ الْمُبَايَنَةُ الْمُقَابِلَةُ لِلْمُمَاسَّةِ وَالْمُلَاصَقَةِ؛ فَهَذِهِ الْمُبَايَنَةُ أَخَصُّ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا؛ فَإِنَّ مَا بَايَنَ الشَّيْءَ فَلَمْ يُدَاخِلْهُ قَدْ يَكُونُ مُمَاسًّا لَهُ مُتَّصِلًا بِهِ وَقَدْ يَكُونُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ غَيْرَ مُجَاوِرٍ لَهُ هَذِهِ الْمُبَايَنَةُ الثَّالِثَةُ وَمُقَابِلُهَا تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ خَاصَّةً: كَالْأَجْسَامِ فَيُقَالُ: هَذِهِ الْعَيْنُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُمَاسَّةً لِهَذِهِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُبَايِنَةً. وَأَمَّا الْمُبَايِنَةُ الَّتِي قَبْلَهَا وَمَا يُقَابِلُهَا فَإِنَّهَا تَعُمُّ مَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَمَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ وَالْعَرَضُ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ لَيْسَ مُبَايِنًا لَهُ. وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ مُمَاسٌّ لَهُ فَيُقَالُ: هَذَا اللَّوْنُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِهَذِهِ الْعَيْنِ أَوْ لِهَذَا الطَّعْمِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ محايثا لَهُ مُجَامِعًا مُدَاخِلًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ؛ وَإِنْ اسْتَعْمَلَ مُسْتَعْمِلٌ لَفْظَ الْمُمَاسَّةِ وَالْمُلَاصَقَةِ فِي قِيَامِ الصِّفَةِ بِمَوْصُوفِهَا كَانَ ذَلِكَ نِزَاعًا لَفْظِيًّا.
وَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَكَمَا يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْنَاهُمْ مُتَقَارِبِينَ فِي الْعَافِيَةِ فَإِذَا جَاءَ الْبَلَاءُ تَبَايَنُوا تَبَايُنًا عَظِيمًا أَيْ تَفَاضَلُوا وَتَفَاوَتُوا. وَيُقَالُ: هَذَا قَدْ بَانَ عَنْ نُظَرَائِهِ أَيْ خَرَجَ عَنْ مُمَاثَلَتِهِمْ وَمُشَابَهَتِهِمْ وَمُقَارَبَتِهِمْ بِمَا امْتَازَ بِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ. وَيُقَالُ: بَيْنَ هَذَا وَهَذَا بَوْنٌ بَعِيدٌ وَبَيْنٌ بَعِيدٌ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ لَمَّا قِيلَ لَهُ: بِمَاذَا نَعْرِفُ رَبَّنَا قَالَ: بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا نَقُولُ كَمَا تَقُولُ الْجَهْمِيَّة: إنَّهُ هَاهُنَا. وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَة وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ رضي الله عنهم وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ خِلَافُ ذَلِكَ. وَحَبَسَ هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِي - صَاحِبُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَجُلًا حَتَّى يَقُولَ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَقَدْ أَقَرَّ بِذَلِكَ فَقَالَ: أَتَقُولُ إنَّهُ مُبَايِنٌ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: رُدُّوهُ فَإِنَّهُ جهمي فَالْمُبَايَنَةُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ لَمْ يُرِيدُوا بِهَا عَدَمَ الْمُمَاثَلَةِ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُنَازِعْ فِيهِ أَحَدٌ وَلَا أَلْزَمُوا النَّاسَ بِأَنْ يُقِرُّوا بِالْمُبَايَنَةِ الْخَاصَّةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَمْ يَقُولُوا: بَائِنٌ مِنْ الْعَرْشِ وَحْدَهُ فَجَعَلُوا الْمُبَايَنَةَ بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ عُمُومًا وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْعَرْشُ وَغَيْرُهُ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا فِي هَذِهِ الْمُبَايَنَةِ لِإِثْبَاتِ مُلَاصَقَةٍ وَلَا نَفْيِهَا. وَلَكِنْ قَدْ يَقُولُ بَعْضُ الْنُّفَاةِ: أَنَا أُرِيدُ بِالْمُبَايَنَةِ عَدَمُ المحايثة وَالْمُدَاخَلَةِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُدْخِلَ فِي ذَلِكَ مَعْنَى الْخُرُوجِ. وَقَدْ يُوصَفُ الْمَعْدُومُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُبَايَنَةِ فَيَقُولُ: إنَّ الْمَعْدُومَ مُبَايِنٌ لِلْمَوْجُودِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَهَذَا مَعْنًى " رَابِعٌ " مِنْ مَعَانِي الْمُبَايَنَةِ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ " الْمُبَايَنَةَ " قَدْ يُرِيدُ بِهَا النَّاسُ هَذَا وَهَذَا فَلَا رَيْبَ أَنْ
" الْمَعْنَى الْأَوَّلَ " ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَأَنَّ مُبَايَنَتَهُ لِلْمَخْلُوقِينَ فِي صِفَاتِهِمْ أَعْظَمُ مِنْ مُبَايَنَةِ كُلِّ مَخْلُوقٍ لِمَخْلُوقِ وَأَنَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ مُقَارِبًا لَهُ فِي صِفَاتِهِ؛ لَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ الَّذِي قَصَدَهُ النَّاظِمُ وَلَا قَصَدَ أَيْضًا " الْمَعْنَى الثَّالِثَ " لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْيَ الْمُبَايَنَةِ يَسْتَلْزِمُ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ " الْمَعْنَى الثَّانِي " وَإِلَّا " فَالْمَعْنَى الثَّالِثُ " نَفْيُهُ يَسْتَلْزِمُ الْمُلَاصَقَةَ وَالْمُمَاسَّةَ وَالنَّاظِمُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ. وَهَذَا الْمَعْنَى " الثَّالِثُ " يَسْتَلْزِمُ الثَّانِيَ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ؛ فَإِنَّ الْمُبَايَنَةَ الْخَاصَّةَ الْمُقَابِلَةَ لِلْمُلَاصَقَةِ صِفَةٌ تَسْتَلْزِمَ الْمُبَايَنَةَ الْعَامَّةَ الْمُقَابِلَةَ لِلْمُدَاخَلَةِ والمحايثة مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ النَّاظِمَ أَرَادَ هَذِهِ الْمُبَايَنَةَ الْعَامَّةَ وَهِيَ الْمُبَايَنَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي اللُّغَةِ وَكَلَامِ النَّاسِ وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْمُنَازِعِينَ لَهُ يَقُولُونَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُبَايِنًا لَزِمَ الْحُلُولُ أَوْ الِاتِّحَادُ؛ فَإِنَّ هَذَا مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ: إذَا لَمْ يَكُنْ خَارِجًا عَنْ الْعَالَمِ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخَالِفَ لَهُ يَقُولُ: لَا هُوَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا هُوَ خَارِجَهُ فَكَذَلِكَ يَقُولُ: لَا مُبَايِنَ وَلَا محايث وَلَا مُجَامِعَ وَلَا مُفَارِقَ وَيَقُولُ: إنَّمَا نَفَيْت الْمُبَايَنَةَ والمحايثة جَمِيعًا وَالْحُلُولُ وَالِاتِّحَادُ يَدْخُلَانِ فِي المحايثة فَلَا أُسَلِّمُ إذَا لَمْ أَكُنْ مُبَايِنًا لِلْخَالِقِ أَنْ يَكُونَ حَالًّا فِيَّ أَوْ مُتَّحِدًا بِي. وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِ الْنُّفَاةِ؛ فَإِنَّ " الْنُّفَاةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْخَالِقَ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ مُبَايِنًا لَهُ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ حَالٌّ فِيهِ أَوْ مُتَّحِدٌ بِهِ
وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَمُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْفُونَ عُلُوَّهُ بِنَفْسِهِ عَلَى الْعَالَمِ هُمْ فِي رُؤْيَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ وَذَلِكَ وَاقِعٌ فِي الْآخِرَةِ وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مَنْ انْتَسَبَ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ كالْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَقَوْلِ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَاطِبَةً وَشُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ؛ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الرُّؤْيَةَ: كَابْنِ حَزْمٍ وَأَبِي حَامِدٍ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ. و (الْقَوْلُ الثَّانِي قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ الرُّؤْيَةَ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَذَلِكَ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ وَيَقُولُونَ بِإِثْبَاتِ ذَاتٍ بِلَا صِفَاتٍ وَهَلْ يُوصَفُ بِالْأَحْوَالِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَوْ يَقُولُونَ بِإِثْبَاتِ وُجُودٍ مُطْلَقٍ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يُوصَفُ بِشَيْءِ مِنْ الْأُمُورِ الثُّبُوتِيَّةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ مَعَ قَوْلِهِمْ فِي أُصُولِهِمْ الْمَنْطِقِيَّةِ: إنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ لَكِنَّهُ هَلْ هُوَ نَفْسُ الْمُعَيَّنِ أَوْ كُلِّيٌّ مُقَارِبٌ لِلْمُعَيَّنِ.
فَالصَّوَابُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْأَوَّلُ وَلَكِنَّ الثَّانِيَ هُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْمَنْطِقِ مَعَ تَنَاقُضِ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ وَبَنَوْا عَلَى هَذَا مِنْ الْجَهَالَاتِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى؛ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا جُعِلَ هُوَ الْمَوْجُودُ الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ. وَقِيلَ: إنَّ الْمُطْلَقَ جُزْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنِ مُلَازِمٌ لَهُ كَانَ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ جُزْءًا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ الْمُمْكِنَةِ وَإِذَا قِيلَ: لَيْسَ فِي الْخَارِجِ مُطْلَقٌ مُغَايِرٌ لِلْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ وَهُوَ الصَّوَابُ. إذْ لَيْسَ فِي هَذَا الْإِنْسَانِ جَوَاهِرُ بِعَدَدِ مَا يُوصَفُ فَإِذَا قِيلَ هُوَ جِسْمٌ حَسَّاسٌ قَائِمٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ نَاطِقٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْإِنْسَانِ الْمُعَيَّنِ جَوَاهِرُ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا غَيْرَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ وَهَذَا الْمَعْلُومُ بِالضَّرُورَةِ. وَعَلَى هَذَا فَإِذَا قِيلَ إنَّ الْحَقَّ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ كَانَ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ هُوَ عَيْنَ وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ مَوْجُودَانِ أَحَدُهُمَا وَاجِبٌ وَالْآخَرُ مُمْكِنٌ وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ وَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُبْدِعِ لِلْمَوْجُودَاتِ الْمُمْكِنَةِ وَتَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْوُجُودَ الْوَاجِبَ يَقْبَلُ الْعَدَمَ وَالْحُدُوثَ كَمَا نُشَاهِدُهُ مِنْ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ وَعَدَمِهَا وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ كُفْرٌ صَرِيحٌ فَهُوَ مَنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ الْقَبِيحِ وَكُلُّ مَنْ قَالَ: إنَّ الرَّبَّ وُجُودٌ مُطْلَقٌ لَزِمَتْهُ هَذِهِ الْأَقْوَالُ وَنَحْوُهَا الَّتِي مَضْمُونُهَا نَفْيُ وُجُودِهِ؛ وَكَذَلِكَ إثْبَاتُ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ أَمْرٌ يُقَدِّرُهُ الذِّهْنُ وَإِلَّا فَوُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ مُمْتَنِعٌ وَلَفْظُ ذَاتٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ ذَاتَ هِيَ فِي الْأَصْلِ تَأْنِيثُ ذُو وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ ذَاتُ الصِّفَاتِ أَيْ: النَّفْسُ ذَاتُ الصِّفَاتِ فَلَفْظُ الذَّاتِ مَعْنَاهُ الصَّاحِبَةُ والمستلزمة لِلصِّفَاتِ هَذَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَلِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَقِيقَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا يَتَمَيَّزُ بِهَا عَمَّا سِوَاهُ وَكُلٌّ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ يُقَالُ لَهُ: ذَاتٌ فَكُلُّهَا مُشْتَرِكَةٌ فِي مُسَمَّى الذَّاتِ كَمَا هِيَ مُشْتَرِكَةٌ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ مِنْ الذَّاتَيْنِ مَا تَخْتَصُّ بِهِ عَنْ الْأُخْرَى كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مِنْ الْمَوْجُودَيْنِ مَا يُمَيِّزُهُ عَنْ الْآخَرِ فَإِذَا قُدِّرَ ذَاتٌ مُطْلَقَةٌ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا كَوُجُودِ مُطْلَقٍ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ. فَلَا بُدَّ أَنْ تَخْتَصَّ كُلُّ ذَاتٍ بِمَا يَخُصُّهَا وَذَلِكَ الَّذِي يَخُصُّهَا مَا تُوصَفُ بِهِ مِنْ الْخَصَائِصِ فَذَاتٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا تُوصَفُ بِهَا مُحَالٌ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ عَلَى مَجَامِعِ مَقَالَاتِ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَإِنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَلْزَمُهُمْ الْقَوْلُ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ وَهُوَ امْتِنَاعُ وُجُودِ مَوْجُودَيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا دَاخِلًا فِي الْآخَرِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ وَلَا مُبَايِنًا لَهُ وَلَا محايثا لَهُ وَامْتِنَاعُ وُجُودِ مَوْجُودٍ لَا يُشَارُ إلَيْهِ وَلَا إلَى مَحَلِّهِ وَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ لَزِمَهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إمَّا الْإِقْرَارُ بِقَضَايَا ضَرُورِيَّةٍ هَذِهِ أَبْيَنُ مِنْهَا. وَإِمَّا جَحْدُ عَامَّةِ الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةِ الْحِسِّيَّةِ. وَذَكَرْت مَقَالَاتِ النَّاسِ لِيَتَبَيَّنَ مُنَاظَرَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. فَيَقُولُ الْمُثْبِتُونَ لِمُبَايَنَةِ اللَّهِ: مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ فَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى عَرْشِهِ ثَابِتٌ بِالسَّمْعِ وَعُلُوُّهُ وَمُبَايَنَتُهُ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ مَعَ السَّمْعِ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَحَيِّزًا بَطَلَتْ دَلَائِلُ الْنُّفَاةِ لِكَوْنِهِ عَلَى الْعَرْشِ: كَقَوْلِهِمْ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْ الْعَرْشِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْغَرَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْعَرْشِ. وَكَقَوْلِهِمْ: إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ لَهُ مِقْدَارٌ مَخْصُوصٌ فَيَسْتَدْعِي مُخَصِّصًا وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْمُثْبِتَةَ تَقُولُ لَهُمْ: هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ جِسْمًا مُتَحَيِّزًا؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَمْ يَكُنْ جِسْمًا مُتَحَيِّزًا لَمْ يَلْزَمْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ اللَّوَازِمِ.
وَحِينَئِذٍ فنفاة الْعُلُوِّ هُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إنْ سَلَّمُوا أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ بَطَلَ كُلُّ دَلِيلٍ لَهُمْ عَلَى نَفْيِ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ؛ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عُلُوَّهُ عَلَى الْعَرْشِ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِهِ جِسْمًا مُتَحَيِّزًا وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ فَيَنْتَفِي الْمَلْزُومُ؛ فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الْمُلَازَمَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى النَّفْيِ وَلَا يَبْقَى لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - بِإِثْبَاتِ عُلُوِّهِ عَلَى الْعَالَمِ مَا يُعَارِضُهَا وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ. وَإِنْ قَالُوا: مَتَى قُلْتُمْ: عَلَى الْعَرْشِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا أَوْ جَوْهَرًا مُنْفَرِدًا وَإِثْبَاتُ الْعُلُوِّ عَلَى الْعَرْشِ مَعَ نَفْيِ التَّحَيُّزِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ. قِيلَ لَهُمْ: لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ مِنْ إثْبَاتِ مَوْجُودٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ؛ فَإِنَّا إذَا عَرَضْنَا عَلَى عُقُولِ الْعُقَلَاءِ قَوْلَ قَائِلَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَقُولُ بِوُجُودِ مَوْجُودٍ خَارِجٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَآخَرُ يَقُولُ بِوُجُودِ مَوْجُودٍ خَارِجَ الْعَالَمِ وَلَيْسَ بِجِسْمِ كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَبْعَدَ عَنْ الْمَعْقُولِ
وَكَانَتْ الْفِطْرَةُ وَالضَّرُورَةُ لِلْأَوَّلِ أَعْظَمَ إنْكَارًا فَإِنْ كَانَ حُكْمُ هَذِهِ الْفِطْرَةِ وَالضَّرُورَةِ مَقْبُولًا لَزِمَ بُطْلَانُ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا لَمْ يَجُزْ إنْكَارُهُمْ لِلْقَوْلِ الثَّانِي وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَبْقَى لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجِ الْعَالَمِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَهَذَا تَقْرِيرٌ لَا حِيلَةَ لَهُمْ فِيهِ يَبِينُ بِهِ تَنَاقُضُ أُصُولِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَقْبَلُونَ حُكْمَ الْفِطْرَةِ وَيَرُدُّونَهُ بِالتَّشَهِّي وَالتَّحَكُّمِ؛ بَلْ يَرُدُّونَ مِنْ أَحْكَامِ الْفِطْرَةِ وَالضَّرُورَةِ مَا هُوَ أَقْوَى وَأَبْيَنُ وَأَبْدَهُ لِلْعُقُولِ مِمَّا يَقْبَلُونَهُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ أَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ خَارِجٌ عَنْهُ وَهُمْ إنَّمَا يَنْفُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا: إمَّا جِسْمًا وَإِمَّا جَوْهَرًا مُنْفَرِدًا وَذَلِكَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَا يُحَاذِي هَذَا الْجَانِبَ مِنْ الْعَرْشِ غَيْرَ مَا يُحَاذِي هَذَا الْجَانِبَ كَانَ مُنْقَسِمًا وَكَانَ جِسْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرَهُ كَانَ فِي الصِّغَرِ بِمَنْزِلَةِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. فَإِذَا قَالَ لَهُمْ طَوَائِفُ مِنْ الْمُثْبِتَةِ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا يَقْبَلُ إثْبَاتَ هَذِهِ الْمُحَاذَاةِ وَلَا نَفْيَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ مُتَحَيِّزًا؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَحَيِّزًا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَلَا يُوصَفُ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ وَلَا بِنَفْيِهِ وَقَالُوا: إثْبَاتُ الْعُلُوِّ مَعَ عَدَمِ الْمُحَاذَاةِ وَالْمُسَامَتَةِ غَيْرُ مَعْقُولٍ أَوْ مَعْلُومُ الْفَسَادِ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: إثْبَاتُ الْوُجُودِ مَعَ عَدَمِ الْمُبَايَنَةِ والمحايثة وَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ أَبْعَدُ عَنْ الْعَقْلِ وَأَبْيَنُ فَسَادًا فِي الْمَعْقُولِ، وَكُلُّ عَاقِلٍ سَلِيمِ الْفِطْرَةِ إذَا عَرَضْت عَلَيْهِ وُجُودَ مَوْجُودٍ خَارِجَ الْعَالَمِ غَيْرَ محايث لِلْعَالَمِ وَوُجُودَ مَوْجُودٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ تَكُونُ نَفْرَةُ فِطْرَتِهِ عَنْ الثَّانِي أَعْظَمَ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ فِطْرَتَهُ تَقْبَلُ الثَّانِيَ فَقَبُولُهَا لِلْأَوَّلِ أَعْظَمُ. وَحِينَئِذٍ فَمَا يَذْكُرُهُ الْنُّفَاةِ مِنْ إمْكَانِ وُجُودِ مَوْجُودٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا بَطَلَ أَصْلُ قَوْلِهِمْ وَإِنْ كَانَ مَقْبُولًا فَكُلَّمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى إمْكَانِ وُجُودِ مَوْجُودٍ خَارِجَ الْعَالَمِ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ أَقْوَى وَأَظْهَرَ؛ فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا مُمْكِنٌ فِي الْعَقْلِ فَذَاكَ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا لَمْ يَكُنْ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى نَفْيِ التَّحَيُّزِ نَافِيًا لِعُلُوِّهِ عَلَى الْعَالَمِ وَارْتِفَاعِهِ عَلَى عَرْشِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِذَا بَطَلَ مَا يَنْفُونَ بِهِ ذَلِكَ - فَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّمْعِيَّاتِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إمَّا دَلَالَةً قَطْعِيَّةً وَإِمَّا ظَاهِرَةً وَالظَّوَاهِرُ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا عَنْ ظَوَاهِرِهَا؛ فَكَيْفَ إذَا قِيلَ: إنَّ الْعُلُوَّ وَالْمُبَايَنَةَ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ وَالضَّرُورَةِ وَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ النَّظَرِيَّةِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ الْنُّفَاةِ إذَا أَثْبَتُوا مَوْجُودًا لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ فَإِنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَهُ بِضَرُورَةِ - لَا وُجُودَهُ وَلَا إمْكَانَ وُجُودِهِ - بَلْ كِلَاهُمَا يُثْبِتُونَهُ
بِالنَّظَرِ؛ بِخِلَافِ الْمُثْبِتَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: امْتِنَاعُ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَقَدْ يَقُولُونَ: عُلُوُّ الْخَالِقِ مَعْلُومٌ أَيْضًا بِالْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا الَّتِي هِيَ مِنْ أَقْوَى الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ؛ فَإِنَّ مَا فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَارِفِ أَقْوَى مِنْ كَوْنِهِمْ مُضْطَرِّينَ إلَيْهِ مِنْ الْمَعَارِفِ الَّتِي لَا يَضْطَرُّونَ إلَيْهَا إلَّا بَعْدَ تَصَوُّرِ طَرَفَيْهَا؛ أَوْ بَعْدَ نَوْعٍ مِنْ التَّأَمُّلِ. وَالضَّرُورِيُّ قَدْ يُفَسَّرُ بِمَا يَلْزَمُ نَفْسَ الْمَخْلُوقِ لُزُومًا لَا يُمْكِنُهُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ وَقَدْ يُفَسَّرُ بِمَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ بِدُونِ كَسْبِهِ وَاخْتِيَارِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُودِ مَوْجُودٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ إنَّهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ لَوَازِمِ هَذَا الْقَوْلِ: مِثْلُ كَوْنِهِ لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ: إنَّ هَذَا النَّفْيَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ؛ بَلْ عَامَّةُ مَا يُدَّعَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعُلُومُ النَّظَرِيَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تَنْتَهِيَ إلَى مُقَدِّمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ؛ وَإِلَّا لَزِمَ " الدَّوْرُ القبلي " و " التَّسَلْسُلُ " فِيمَا لَهُ مَبْدَأٌ حَادِثٌ وَكُلُّ هَذَيْنِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ مُتَّفَقٌ عَلَى فَسَادِهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَمَا مِنْ مُقَدِّمَةٍ ضَرُورِيَّةٍ يُبْنَى عَلَيْهَا الْإِمْكَانُ أَوْ الْإِثْبَاتُ: كَوُجُودِ مَوْجُودٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ؛ إلَّا وَانْتِفَاءُ هَذِهِ النَّتِيجَةِ أَقْوَى فِي الْعَقْلِ مِنْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ وَالْجَزْمُ بِكَوْنِهَا ضَرُورِيَّةً أَقْوَى مِنْ الْجَزْمِ بِكَوْنِ مُقَدِّمَةِ الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ ضَرُورِيَّةً
يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُعَارِضَ غَايَتُهُ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ خَارِجَ الْعَالَمِ لَكَانَ جِسْمًا أَوْ لَكَانَ مُتَحَيِّزًا وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فَلَا يَكُونُ خَارِجَ الْعَالَمِ؛ وَالدَّلِيلُ الَّذِي يَنْفُونَ بِهِ ذَلِكَ: مُقَدِّمَاتُهُ فِيهَا مِنْ الْخَفَاءِ وَالِاشْتِبَاهِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ نَظَرَ فِي ذَلِكَ. وَبِسَبَبِ مَا فِيهَا مِنْ الْخَفَاءِ وَالِاشْتِبَاهِ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَحُسْنُ ظَنِّهِمْ بِهَا مُسْتَنِدٌ إلَى تَقْلِيدِ مَنْ قَالَهَا؛ لَا إلَى جَزْمِ عُقُولِهِمْ بِهَا؛ فَهُمْ يَنْهَوْنَ الْعَامَّةَ عَنْ تَقْلِيدِ الرُّسُلِ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْعَقْلَ عَارَضَهَا؛ مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ الرُّسُلَ لَا تَقُولُ إلَّا حَقًّا. وَهُمْ يُقَلِّدُونَ رُءُوسَهُمْ فِي مُعَارَضَةِ ذَلِكَ بِمُقَدِّمَاتِ يَزْعُمُونَهَا عَقْلِيَّاتٍ وَأَتْبَاعُهُمْ لَمْ تَجْزِمْ بِهَا عُقُولُهُمْ لَكِنَّهُمْ يُقَلِّدُونَ رُءُوسَهُمْ فِيهَا. وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ إذَا حَقَّقُوا الْأَمْرَ فِيهَا وَنُوزِعُوا فِيهَا وَبُيِّنَ لَهُمْ مُسْتَنَدُ الْمَنْعِ فِيهَا لَجَئُوا إلَى الْجَهْلِ الصَّرِيحِ فَإِمَّا أَنْ يُحِيلُوا بِالْجَوَابِ عَلَى مَنْ مَاتَ وَغَابَ - وَهُوَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ أوغل مِنْهُمْ فِي الِارْتِيَابِ وَالِاضْطِرَابِ - وَإِمَّا أَنْ يَخْرُجُوا عَمَّا يَجِبُ فِي الْمُنَاظَرَةِ وَالْجِدَالِ إلَى حَالِ أَهْلِ الظُّلْمِ وَسُفَهَاءِ الرِّجَالِ. وَإِمَّا أَنْ يَتَوَهَّمُوا أَنَّ هَذَا كُفْرٌ يُخَالِفُ الدِّينَ. وَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ قَدْ خَالَفُوا الْكِتَابَ وَالرَّسُولَ وَاتَّبَعُوا غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالُوا مَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا غَيْرُهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْنُّفَاةِ لَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ وَاحِدٌ اتَّفَقُوا عَلَى
مُقَدِّمَاتِهِ؛ بَلْ كُلُّ طَائِفَةٍ تَقْدَحُ فِي دَلِيلِ الْأُخْرَى؛ فَالْفَلَاسِفَةُ تَقْدَحُ فِي دَلِيلِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ؛ بَلْ عَلَى نَفْيِ الْجِسْمِ وَالتَّحَيُّزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْمُعْتَزِلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلصِّفَاتِ وَالْحَرَكَاتِ فَلَا يَكُونُ جِسْمًا وَلَا مُتَحَيِّزًا؛ لِأَنَّ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ وَهُمْ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى حُدُوثِ الْجِسْمِ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ وَالْحَرَكَاتِ وَأَنَّ الْجِسْمَ لَا يَخْلُو مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ. بَلْ الْأَشْعَرِيُّ نَفْسُهُ ذَكَرَ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَهْلِ الثَّغْرِ: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ - وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ بِحُدُوثِ أَعْرَاضِهَا - هُوَ دَلِيلٌ مُحَرَّمٌ فِي شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَذَكَرَ فِي مُصَنَّفٍ لَهُ آخِرَ بَيَانَ عَجْزِ الْمُعْتَزِلَةِ عَنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِ أَنَّهُ جِسْمٌ وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ النَّظَرِ بَيَّنُوا فَسَادَ طَرِيقِ الْفَلَاسِفَةِ الَّتِي نَفَوْا بِهَا الصِّفَاتِ وَبَيَّنُوا عَجْزَهُمْ عَنْ إقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَى نَفْيِ أَنَّهُ جِسْمٌ؛ بَلْ وَعَجْزُهُمْ عَنْ إقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَى التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ نَفْيُ الْجِسْمِ إلَّا بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ الْأَشْعَرِيُّ مَا ذَكَرَ. فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْ أَذْكِيَاءِ النُّظَّارِ وَفُضَلَائِهِمْ يَقْدَحُ فِي مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ بُنِيَ عَلَيْهِ النَّفْيُ كَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ لَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً؛ إذْ الضَّرُورِيَّاتُ لَا يُمْكِنُ الْقَدْحُ فِيهَا وَإِنْ قِيلَ: إنَّ هَؤُلَاءِ
قَدَحُوا فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الضَّرُورِيَّةِ. قِيلَ: فَإِذَا جَوَّزْتُمْ عَلَى أَئِمَّةِ الْنُّفَاةِ أَنْ يَقْدَحُوا بِالْبَاطِلِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الضَّرُورِيَّةِ فَالَتِي يَسْتَدِلُّ بِهَا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَقَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ الْكَلَامُ عَلَى أَدِلَّةِ الْنُّفَاةِ وَمُقَدِّمَاتِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ بِحَيْثُ يَبِينُ لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ خُرُوجُ أَصْحَابِهَا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَأَنَّهُمْ قَوْمٌ سَفْسَطُوا فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَقَرْمَطُوا فِي السَّمْعِيَّاتِ لَيْسَ مَعَهُمْ عَلَى نَفْيِهِمْ لَا عَقْلٌ وَلَا سَمْعٌ وَلَا رَأْيٌ سَدِيدٌ وَلَا شَرْعٌ؛ بَلْ مَعَهُمْ شُبُهَاتٌ يَظُنُّهَا مَنْ يَتَأَمَّلُهَا بَيِّنَاتٍ {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} . وَلِهَذَا تَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الْحَيْرَةُ وَالِارْتِيَابُ وَالشَّكُّ وَالِاضْطِرَابُ. وَقَدْ صَارَتْ تِلْكَ الشُّبُهَاتُ عِنْدَهُمْ مُقَدِّمَاتٍ مُسَلَّمَةً يَظُنُّونَهَا عَقْلِيَّاتٍ أَوْ بُرْهَانِيَّاتٍ وَإِنَّمَا هِيَ مُسَلَّمَاتٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَالِاشْتِبَاهِ فَلَا تَجِدُ لَهُمْ مُقَدِّمَةٌ إلَّا وَفِيهَا أَلْفَاظٌ مُشْتَبِهَةٌ فِيهَا مِنْ الْإِجْمَالِ وَالِالْتِبَاسِ مَا يَضِلُّ بِهَا مَنْ يَضِلُّ مِنْ النَّاسِ وَكَيْفَ تَكُونُ النَّتِيجَةُ الْمُثْبَتَةُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ دَافِعَةً لِتِلْكَ الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّاتِ؟ وَهَذَا الَّذِي قَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: كُلَّمَا أَمْعَنَ النَّاظِرُ فِيهِ وَفِيمَا تَكَلَّمَ أَهْلُ النَّفْيِ فِيهِ: ازْدَادَ بَصِيرَةً وَمَعْرِفَةً بِمَا فِيهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُبْنَى النَّفْيُ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ تُسَاوِي فِي جَزْمِ الْعَقْلِ بِهَا مُقَدِّمَاتِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ الْجَازِمَةِ
لِفَسَادِ نَتِيجَتِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إنَّهُ مَوْجُودٌ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ جَزْمًا لَا يُسَاوِيهِ فِيهِ جَزْمُ الْعَقْلِ بِالْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا هَذِهِ النَّتِيجَةُ الثَّابِتَةُ؛ امْتَنَعَ أَنْ يَزُولَ ذَلِكَ الْجَزْمُ الْعَقْلِيُّ الضَّرُورِيُّ بِنَتِيجَةِ مُقَدِّمَاتٍ لَيْسَتْ مِثْلَهُ فِي الْجَزْمِ. وَهَذَا الْكَلَامُ قَبْلَ النَّظَرِ فِي تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ الْمُعَارِضَةِ لِهَذَا الْجَزْمِ هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ أَوْ فَاسِدَةٌ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْمُنَاظَرَةِ وَلَا يُقْبَلُ فِي الْمُنَاظَرَةِ أَنْ يُعَارَضَ هَذَا الْجَزْمُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الْفِطْرَةِ بِمَا يَزْعُمُهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَهَذَا الْمَقَامُ كَافٍ فِي دَفْعِهِ؛ وَإِنْ لَمْ تَحُلَّ شُبُهَاتِهِ كَمَا يَكْفِي فِي دَفْعِ السُّوفِسْطَائِيِّ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا تَنْفِيهِ قَضَايَا ضَرُورِيَّةٌ فَلَا يَقْبَلُ نَفْيَهَا بِمَا يَذْكُرُ مِنْ الشُّبَهِ النَّظَرِيَّةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي التَّفْصِيلِيُّ: فَهُوَ بَيَانُ فَسَادِ حُجَجِ الْنُّفَاةِ عَلَى إمْكَانِ مَا ادَّعَوْهُ. قَالَتْ الْمُثْبِتَةُ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الْحُجَجِ عَلَى إثْبَاتِ مَوْجُودٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ حُجَجُ سوفسطائي. أَمَّا الْإِنْسَانِيَّةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الْأَنَاسِيِّ وَنَحْوِهَا مِنْ " الْكُلِّيَّاتِ " فَهَذِهِ لَا يُقَالُ إنَّهَا مَوْجُودَةٌ خَارِجَ الذِّهْنِ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ؛ فَإِنَّهَا أُمُورٌ ثَابِتَةٌ فِي الذِّهْنِ وَالتَّصَوُّرِ وَإِذَا قِيلَ إنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا أَوْ صِفَةً قَائِمَةً بِالْعَيْنِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا لَا تُوجَدُ فِي الْخَارِجِ كُلِّيَّةً مُطْلَقَةً بِشَرْطِ مَا هُوَ مَعْقُولٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا تُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مُعَيَّنَةً مُشَخَّصَةً.
فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ التَّفْتِيشَ يُخْرِجُ مِنْ الْمَحْسُوسِ مَا هُوَ مَعْقُولٌ: إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مَعْقُولٌ ثَابِتٌ فِي الْعَقْلِ فَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْعَقْلِ لَيْسَ هُوَ الْمَوْجُودَ فِي الْخَارِجِ بِعَيْنِهِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ فِي الْمَحْسُوسِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ أَمْرًا مَعْقُولًا لَيْسَ هُوَ فِي الذِّهْنِ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ فَلَيْسَ فِي الْإِنْسَانِ الْمُعَيَّنِ إلَّا مَا هُوَ مُعَيَّنٌ وَهُوَ هَذَا الْإِنْسَانُ الْمُعَيَّنُ - بَدَنُهُ وَرُوحُهُ وَصِفَاتُهُ - وَهَذَا كُلُّهُ أَمْرٌ مُعَيَّنٌ؛ مُقَيَّدٌ مُشَخَّصٌ لَيْسَ هُوَ كُلِّيًّا وَلَا مُطْلَقًا. وَمَا ذَكَرَهُ مَعَ إثْبَاتِ الْمُتَبَايِنِينَ - عُقُولًا وَنُفُوسًا - لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ لَيْسَ بِحُجَّةِ بَلْ هُمْ مخصومون بِهَذِهِ الْحُجَّةِ وَغَيْرِهَا كَمَا يُخْصَمُ بِهَا نُظَرَاؤُهُمْ؛ لَا سِيَّمَا وَقَوْلُهُمْ بِذَلِكَ أَبْيَنُ فَسَادًا وَأَدْحَضُ حُجَّةً مِنْ أَقْوَالِ نفاة الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْقَوْلِ بِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ وَأَبْعَدُ عَنْ الْحَقِّ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ عَامَّةَ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ يَرُدُّونَ هَذَا عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بِذَلِكَ قَائِلِينَ مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ؛ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ الْمُثْبِتَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَوْجُودَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِنَيْنِ أَوْ متحايثين يَقُولُونَ: إنَّ مَا ادَّعَاهُ هَؤُلَاءِ مِمَّا يُخَالِفُ هَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ. بَلْ أَئِمَّةُ " أَهْلِ الْكَلَامِ " النَّافُونَ لِلْعُلُوِّ يَدَّعُونَ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ: بِأَنَّ الْمُمْكِنَ إمَّا جِسْمٌ أَوْ قَائِمٌ بِجِسْمِ وَإِنَّمَا أَثْبَتَهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ مِنْ مَوْجُودَاتٍ
مُمْكِنَةٍ لَيْسَتْ أَجْسَامًا وَلَا أَعْرَاضًا قَائِمَةً بِالْأَجْسَامِ: كَالْعَقْلِ وَالنَّفْسِ وَالْهَيُولَى وَالصُّورَةُ الَّتِي يَدَّعُونَ أَنَّهَا جَوَاهِرُ عَقْلِيَّةٌ مَوْجُودَةٌ خَارِجَ الذِّهْنِ لَيْسَتْ أَجْسَامًا وَلَا أَعْرَاضًا لِأَجْسَامِ. فَإِنَّ أَئِمَّةَ " أَهْلِ النَّظَرِ " يَقُولُونَ: إنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَئِمَّةِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ. وَمَنْ لَمْ يَهْتَدِ لِهَذَا كالشَّهْرَستَانِي وَالرَّازِي والآمدي وَنَحْوِهِمْ فَهُمْ نَاظَرُوا الْفَلَاسِفَةَ مُنَاظَرَةً ضَعِيفَةً وَلَمْ يُثْبِتُوا فَسَادَ أُصُولِهِمْ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ أَئِمَّةُ النَّظَرِ الَّذِينَ هُمْ أَجَلُّ مِنْهُمْ وَسَلَّمَ هَؤُلَاءِ لِلْفَلَاسِفَةِ مُنَاظَرَةً ضَعِيفَةً وَلَمْ يُبَيِّنُوا فَسَادَ أُصُولِهِمْ؛ إلَى مُقَدِّمَاتٍ بَاطِلَةٍ اسْتَزَلُّوهُمْ بِهَا عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ الْحَقِّ بِخِلَافِ أَئِمَّةِ أَهْلِ النَّظَرِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَيْصَمِ الكرامي وَأَبِي الْوَفَاءِ عَلِيِّ بْنِ عَقِيلٍ. وَمِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ: مِثْلُ أَبِي عَلِيٍّ الجبائي وَابْنِهِ أَبِي هَاشِمٍ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى النوبختي. وَمِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ: كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ كَرَّامٍ وَابْنِ كُلَّابٍ وَجَعْفَرِ بْنِ مُبَشِّرٍ وَجَعْفَرِ بْنِ حَرْبٍ وَأَبِي إسْحَاقَ النَّظَّامِ وَأَبِي الهذيل الْعَلَّافِ وَعَمْرِو بْنِ بَحْرٍ الْجَاحِظِ؛ وَهِشَامٍ الجواليقي وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وَحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّجَّارِ وَضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو الْكُوفِيِّ وَأَبِي عِيسَى مُحَمَّدٍ بْنِ عِيسَى
بُرْغُوثٍ وَحَفْصٍ الْفَرْدِ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ مِنْ أَئِمَّة أَهْلِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ؛ فَإِنَّ مُنَاظَرَةَ هَؤُلَاءِ لِلْمُتَفَلْسِفَةِ خَيْرٌ مِنْ مُنَاظَرَةِ أُولَئِكَ. وَهَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ لَا يُسَلِّمُونَ لِلْفَلَاسِفَةِ إمْكَانَ وُجُودِ مُمْكِنٍ لَا هُوَ جِسْمٌ وَلَا قَائِمٌ بِجِسْمِ. بَلْ قَدْ صَرَّحَ أَئِمَّتُهُمْ بِأَنَّ بُطْلَانَ هَذَا " الْقَسَمَ الثَّالِثَ " مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ بَلْ قَدْ بَيَّنَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ إمَامُ الصفاتية: كَأَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ انْحِصَارِ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْمُبَايِنِ والمحايث وَأَنَّ قَوْلَ مَنْ أَثْبَتَ مَوْجُودًا غَيْرَ مُبَايِنٍ وَلَا محايث مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ مِثْلُ مَا بَيْنَ أُولَئِكَ انْحِصَارُ الْمُمْكِنَاتِ فِي الْأَجْسَامِ وَأَعْرَاضِهَا وَأَبْلَغُ. وَطَوَائِفُ مِنْ النُّظَّارِ قَالُوا؛ مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ إلَّا جِسْمٌ أَوْ قَائِمٌ بِجِسْمِ - إذَا فُسِّرَ الْجِسْمُ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ؛ لَا اللُّغَوِيُّ كَمَا هُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ الْعَامَّةِ. وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ وَكَذَلِكَ أَيْضًا الْأَئِمَّةُ الْكِبَارُ كَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَعَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيِّ فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمَا بَيَّنُوا أَنَّ مَا ادَّعَاهُ الْنُّفَاةِ مِنْ إثْبَاتِ قِسْمٍ ثَالِثٍ لَيْسَ بِمُبَايِنِ وَلَا محايث مَعْلُومِ الْفَسَادِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَأَنَّ هَذِهِ مِنْ الْقَضَايَا الْبَيِّنَةِ الَّتِي يَعْلَمُهَا الْعُقَلَاءُ بِعُقُولِهِمْ وَإِثْبَاتُ لَفْظِ الْجِسْمِ وَنَفْيُهُ بِدْعَةٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ؛ كَمَا لَمْ يُثْبِتُوا
لَفْظَ التَّحَيُّزِ وَلَا نَفَوْهُ وَلَا لَفْظَ الْجِهَةِ وَلَا نَفَوْهُ وَلَكِنْ أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَنَفَوْا مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَمَنْ نَظَرَ فِي كَلَامِ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ وَجَدَ عَامَّةَ الْمَشْهُورِينَ بِالْعَقْلِ وَالْعِلْمِ يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ إثْبَاتَ وُجُودِ مَوْجُودٍ لَا محايث لِلْآخَرِ وَلَا مُبَايِنَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مَعْلُومُ [الْفَسَادِ أَوِ الْبُطْلَانِ](*) بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَضَرُورَتِهِ.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ فَقَوْلُهُ: إنَّ الْعَقْلَ يُقَسِّمُ الْمَعْلُومَ إلَى مُبَايِنٍ ومحايث وَمَا لَيْسَ بِمُبَايِنِ وَلَا محايث وَنَظَائِرِهِ. فَيُقَالُ لَهُ: التَّقْسِيمُ الْمَعْلُومُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُمْكِنٍ وَإِلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَمَا لَيْسَ بِقَدِيمِ وَلَا مُحْدَثٍ وَإِلَى قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَقَائِمٍ بِغَيْرِهِ وَمَا لَيْسَ بِقَائِمِ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ تَقْدِيرَاتِ الذِّهْنِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى إمْكَانِ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ فَلَيْسَ كُلُّ مَا فَرَضَهُ الذِّهْنُ مِنْ الْأَقْسَامِ وَالتَّقْدِيرَاتِ فِي الْأَذْهَانِ يَكُونُ مُمْكِنًا أَوْ مَوْجُودًا فِي الْأَعْيَانِ بَلْ الذِّهْنُ يُقَسِّمُ مَا يَخْطِرُ لَهُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْتَنِعٍ وَمُمْكِنٍ وَإِلَى مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ؛ فَالذِّهْنُ يُقَدِّرُ كُلَّ مَا يَخْطِرُ بِالْبَالِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمُمْتَنِعَاتِ مَا لَا يَجُوزُ وُجُودُهُ خَارِجَ الذِّهْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ التَّقْسِيمَ إلَى مُبَايِنٍ ومحايث لَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ كَمَا لَا يُعْلَمُ فَسَادُ أَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ. فَنَقُولُ: إنَّ الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 47):
سقط ما بين المعقوفتين فانقلب المعنى.
تَكُونَ مُفْرَدَاتُهَا بَيِّنَةً لِكُلِّ أَحَدٍ؛ بَلْ شَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ مُفْرَدَاتُهَا إذَا تُصُوِّرَتْ جَزَمَ الْعَقْلُ بِهَا وَتَصَوُّرُ الْوَاحِدِ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ بَيِّنٌ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ فَلِهَذَا كَانَ التَّصْدِيقُ التَّابِعُ لَهُ أَبْيَنَ مِنْ غَيْرِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْعَقْلِ كَبَيَانِ أَنَّ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ وَرُبْعًا وَثُمُنًا: نِصْفُ مِائَةٍ وَعَشَرَةٍ وَنِصْفٌ وَرُبْعٌ وَكِلَاهُمَا ضَرُورِيٌّ. وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ وَمَعْنَى الْمُبَايِنِ والمحايث لَيْسَ بَيِّنًا ابْتِدَاءً إذْ اللَّفْظُ فِيهِ إجْمَالٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَكِنْ إذَا بُيِّنَ مَعْنَاهُ لِأَهْلِ الْعَقْلِ جَزَمُوا بِانْتِفَاءِ " قِسْمٍ ثَالِثٍ " كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيِّنًا بِنَفْسِهِ لِعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ لَمْ يَجْزِمُوا بِانْحِصَارِ الْمَوْجُودِ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ؛ فَإِذَا بُيِّنَ لَهُمْ الْمَعْنَى جَزَمُوا بِذَلِكَ. فَإِذَا قِيلَ لِلْعُقَلَاءِ: مَوْجُودَانِ قَائِمَانِ بِأَنْفُسِهِمَا لَا يَكُونُ هَذَا خَارِجًا عَنْ الْآخَرِ مُبَايِنًا لَهُ وَلَا دَاخِلًا فِيهِ وَلَا بَعِيدًا وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ وَلَا بَعِيدًا عَنْهُ وَلَا فَوْقَهُ وَلَا تَحْتَهُ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ وَلَا أَمَامَهُ وَلَا وَرَاءَهُ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُشِيرَ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ وَلَا يَذْهَبَ إلَيْهِ وَلَا يَقْرُبَ مِنْهُ وَلَا يَبْعُدَ عَنْهُ وَلَا يَتَحَرَّكَ إلَيْهِ وَلَا عَنْهُ وَلَا يُقْبِلُ إلَيْهِ وَلَا يُعْرِضُ عَنْهُ وَلَا يَحْتَجِبُ عَنْهُ وَلَا يَتَجَلَّى لَهُ وَلَا يَظْهَرُ لِعَيْنِهِ وَلَا يَسْتَتِرُ عَنْهُ. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي يَقُولُهَا الْنُّفَاةِ عَلِمَ الْعُقَلَاءُ بِالِاضْطِرَارِ امْتِنَاعَ وُجُودِ مِثْلِ هَذَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُعَارِضِ: إنَّ هَذَا إنَّمَا يُعْقَلُ فِيمَا هُوَ جِسْمٌ مُتَحَيِّزٌ فَإِذَا قُدِّرَ مَا لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ خَلَا عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَلَمْ تَنْحَصِرْ الْقِسْمَةُ حِينَئِذٍ فِي أَحَدِهِمَا. فَيُقَالُ: أَوَّلًا لَفْظُ " الْجِسْمِ " و " الْحَيِّزِ " و " الْجِهَةِ " أَلْفَاظٌ فِيهَا إجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ وَهِيَ أَلْفَاظٌ " اصْطِلَاحِيَّةٌ " وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَعَانٍ مُتَنَوِّعَةٌ وَلَمْ يَرِدْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ وَلَا جَاءَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا فِيهَا نَفْيٌ وَلَا إثْبَاتٌ أَصْلًا؛ فَالْمُعَارَضَةُ بِهَا لَيْسَتْ مُعَارَضَةً بِدَلَالَةِ شَرْعِيَّةٍ؛ لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ؛ بَلْ وَلَا أَثَرٍ لَا عَنْ صَاحِبٍ أَوْ تَابِعٍ وَلَا إمَامٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَلْ الْأَئِمَّةُ الْكِبَارُ أَنْكَرُوا عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَا وَجَعَلُوهَا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ الْمُبْتَدَعِ؛ وَقَالُوا فِيهِمْ أَقْوَالًا غَلِيظَةً مَعْرُوفَةً عَنْ الْأَئِمَّةِ؛ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ: أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ؛ وَيُقَالُ هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَلْفَاظَ " نَوْعَانِ ": لَفْظٌ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ؛ فَهَذَا اللَّفْظُ يَجِبُ الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ سَوَاءٌ فَهِمْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَفْهَمْهُ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ.
وَالثَّانِي: لَفْظٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ كَهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ هَذَا يَقُولُ: هُوَ مُتَحَيِّزٌ. وَهَذَا يَقُولُ. لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَهَذَا يَقُولُ: هُوَ فِي جِهَةٍ. وَهَذَا يَقُولُ: لَيْسَ هُوَ فِي جِهَةٍ. وَهَذَا يَقُولُ: هُوَ جِسْمٌ أَوْ جَوْهَرٌ. وَهَذَا يَقُولُ: لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا جَوْهَرٍ. فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِيهَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ حَتَّى يَسْتَفْسِرَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ أَثْبَتَ حَقًّا أَثْبَتَهُ وَإِنْ أَثْبَتَ بَاطِلًا رَدَّهُ وَإِنْ نَفَى بَاطِلًا نَفَاهُ وَإِنْ نَفَى حَقًّا لَمْ يَنْفِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يُجْمِعُونَ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ: فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ فِي جِهَةٍ وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ دَاخِلٌ مَحْصُورٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ - كَائِنًا مَنْ كَانَ - لَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ هَذَا الْإِثْبَاتُ وَهَذَا قَوْلُ الْحُلُولِيَّةِ. وَإِنْ قَالَ: إنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ فَوْقَهَا لَمْ يُمَانَعْ فِي هَذَا الْإِثْبَاتِ؛ بَلْ هَذَا ضِدُّ قَوْلِ الْحُلُولِيَّةِ. وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي جِهَةٍ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ وَلَا فَوْقَهُ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ هَذَا النَّفْيُ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمُتَحَيِّزِ يُرَادُ بِهِ مَا أَحَاطَ بِهِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ} وَيُرَادُ بِهِ مَا انْحَازَ عَنْ غَيْرِهِ وَبَايَنَهُ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ مُتَحَيِّزٌ
بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ وَمَنْ أَرَادَ أَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ سُلِّمَ لَهُ الْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يُطْلِقْ اللَّفْظَ. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَإِذَا قَالَ هَذَا قَائِلٌ: هَذَا التَّقْسِيمُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا إنَّمَا يُعْقَلُ فِي مُتَحَيِّزٍ أَوْ ذِي جِهَةٍ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا قَادِحًا فِيمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ بَلْ يَقُولُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا لَازِمًا وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا بَطَلَ السُّؤَالُ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا فَلَازِمُ الضَّرُورِيِّ حَقٌّ؛ فَإِنَّ الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةَ إذَا كَانَتْ مُسْتَلْزِمَةً لِأُمُورِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ تِلْكَ اللَّوَازِمِ وَلَمْ يَكُنْ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى بُطْلَانِهَا بِنَفْيِ تِلْكَ اللَّوَازِمِ؛ لِأَنَّ نَفْيَهَا نَظَرِيٌّ وَالنَّظَرِيُّ لَا يَقْدَحُ فِي الضَّرُورِيِّ. وَقَوْلُهُ: إذَا قُدِّرَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَا فِي جِهَةٍ يَصِحُّ فِيهِ هَذَا التَّقْسِيمُ فَيُقَالُ لَهُ: ثُبُوتُهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ثَابِتًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَهَذَا التَّقْسِيمُ يَنْفِي ثُبُوتَ هَذَا التَّقْدِيرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِذَا كَانَ التَّقْسِيمُ مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ كَانَ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ انْتِفَاءُ هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يُقْبَلُ إثْبَاتُ هَذَا التَّقْدِيرِ بِالنَّظَرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْقَدْحَ فِي الضَّرُورِيِّ بِالنَّظَرِيِّ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَى إثْبَاتِ هَذَا التَّقْدِيرِ سَبِيلٌ لَمْ يَضُرَّ فَسَادُ التَّقْسِيمِ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ فَسَادَ التَّقْسِيمِ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِ مَا لَمْ يَثْبُتْ وَلَا يُمْكِنْ إثْبَاتُهُ
وَأَيْضًا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ إثْبَاتَ هَذَا التَّقْدِيرِ مُمْكِنٌ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ؛ لَا مِنْ بَابِ مَنْعِ شَيْءٍ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْمُعَارَضَةُ تَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ ابْتِدَاءً وَسَوْفَ نَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَنَا أَمْنَعُ صِحَّةَ التَّقْسِيمِ وَأَجْعَلُ هَذَا سَنَدَ مَنْعِي لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: الْمَنْعُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَدِّمَةً لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا وَالْمُسْتَدِلُّ قَدْ بَيَّنَ صِحَّةَ التَّقْسِيمِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يَصِحُّ مَنْعُهُ لَكِنْ إذَا أَثْبَتَ إمْكَانَ وُجُودِ مَوْجُودٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ كَانَ هَذَا اسْتِدْلَالًا عَلَى نَقِيضِ قَوْلِ الْمُنَازِعِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ غَاصِبًا لِمَنْصِبِ الِاسْتِدْلَالِ؛ فَإِنَّ الْغَصْبَ هُوَ مَنْعُ الْمُقَدِّمَةِ بِإِثْبَاتِ نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ. وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ صَحَّ دَلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ لَفَسَدَ مَذْهَبِي وَمَذْهَبِي لَمْ يَفْسُدْ لِكَيْت وَكَيْت؛ فَهَذَا غَصْبٌ لِمَنْصِبِ الِاسْتِدْلَالِ فَلَا يُقْبَلُ. وَهَكَذَا هَذَا: إذَا مَنَعَ التَّقْسِيمَ بِإِثْبَاتِ هَذَا التَّقْدِيرِ؛ فَهَذَا التَّقْدِيرُ هُوَ مَذْهَبُهُ. إذْ يَدَّعِي وُجُودَ مَوْجُودٍ لَا يَقْبَلُ هَذَا التَّقْسِيمَ وَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ. فَإِذَا اسْتَدَلَّ عَلَى إمْكَانِهِ كَانَ غَاصِبًا فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الدَّلَالَةَ تَامَّةٌ. وَصَارَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: إذَا قُدِّرَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِقَدِيمِ وَلَا مُحْدَثٍ لَمْ يَصِحَّ تَقْسِيمُ الْمَوْجُودِ إلَى مُحْدَثٍ وَقَدِيمٍ؛ وَإِذَا قُدِّرَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُمْكِنٍ وَلَا قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَلَا قَائِمٍ بِغَيْرِهِ لَمْ يَصِحَّ تَقْسِيمُ الْمَوْجُودِ إلَى الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ وَالْقَائِمِ بِغَيْرِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّقْسِيمَ الْمَعْلُومَ
بِالِاضْطِرَارِ لَا يَفْسُدُ بِتَقْدِيرِ نَقِيضِهِ أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُ نَقِيضَهُ وَإِنَّمَا يَفْسُدُ التَّقْسِيمُ بِثُبُوتِ مَا يُنَاقِضُهُ فَإِذَا كَانَ الْمُنَاقِضُ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالنَّظَرِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مُنَاقِضًا فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ مُعَارَضَةِ الضَّرُورِيِّ بِالنَّظَرِيِّ فَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا وَلَا يَكُونُ حَقًّا.
ثُمَّ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: هَذَا التَّقْسِيمُ مَعْقُولٌ مُطْلَقًا - وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَا أَتَكَلَّمُ فِي ثُبُوتِهِ وَلَا نَفْيِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ بِالنَّظَرِيَّاتِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ بِمَنْزِلَةِ حُجَجِ السوفسطائية. فَإِنَّ مَا عَلِمْنَاهُ بِالِاضْطِرَارِ وَقَدَحَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ بِالنَّظَرِ وَالْجَدَلِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْنَا أَنْ نُجِيبَ عَنْ الْمُعَارِضِ جَوَابًا مُفَصَّلًا يُبَيِّنُ حِلَّهُ بَلْ يَكْفِينَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ عَارَضَ الضَّرُورِيَّ وَمَا عَارَضَهُ فَهُوَ فَاسِدٌ - وَهَذَا جَوَابُ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ مِثْلِ هَذَا. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: لَا أَقُولُ: إنَّهُ مُتَحَيِّزٌ وَلَا غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ؛ وَلَا فِي جِهَةٍ وَلَا فِي غَيْرِ جِهَةٍ بَلْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَا مُبَايِنًا وَلَا مُدَاخِلًا. وَهَذَا كَمَا قَالَ القرمطي الْبَاطِنِيُّ: لَا أَقُولُ: هُوَ مَوْجُودٌ وَلَا مَعْدُومٌ وَلَا عَالِمٌ وَلَا جَاهِلٌ وَلَا قَادِرٌ وَلَا عَاجِزٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ. فَإِنَّ الْجِسْمَ يَنْقَسِمُ إلَى حَيٍّ وَمَيِّتٍ وَعَالِمٍ وَجَاهِلٍ وَقَادِرٍ وَعَاجِزٍ وَمَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ فَإِذَا
قَدَّرْنَا مَا لَيْسَ بِجِسْمِ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا وَلَا جَاهِلًا وَلَا قَادِرًا وَلَا عَاجِزًا وَلَا حَيًّا وَلَا مَيِّتًا كَانَ كَلَامُ القرمطي هَذَا بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة؛ أَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ. وَقَوْلُ جَهْمٍ وَالْقَرَامِطَةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ كَمَا نَقَلَهُ عَنْ الْفَرِيقَيْنِ أَصْحَابُ الْمَقَالَاتِ وَقَالُوا: إنَّهُ لَا يُقَالُ: هُوَ شَيْءٌ وَلَا لَيْسَ بِشَيْءِ. فَمَنْ نَفَى عَنْهُ هَذِهِ الْمُتَقَابِلَاتِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْمَوْجُودِ مِنْ أَحَدِهِمَا لِمَنْ يُمْكِنُهُ قَطْعُ الْقَرَامِطَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ مُنَاظَرَةُ هَؤُلَاءِ لِلْقَرَامِطَةِ مُنَاظَرَةً ضَعِيفَةً كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. (الْجَوَابُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ؛ بَلْ أَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَا فِي جِهَةٍ وَأَقُولُ مَعَ ذَلِكَ: إنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ. وَهَذَا قَوْل مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ وَلَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا مُتَحَيِّزٍ؛ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مَنْ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ، والكَرَّامِيَة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ. فَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ: إثْبَاتُ مُبَايِنٍ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ مُخَالِفٌ لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ قَالُوا: إثْبَاتُ مَوْجُودٍ لَا محايث وَلَا مُبَايِنٍ أَظْهَرُ فَسَادًا فِي ضَرُورَةِ الْعَقْلِ مِنْ هَذَا؛ فَإِنْ كَانَ قَضَاءُ الْعَقْلِ مَقْبُولًا كَانَ قَوْلُكُمْ فَاسِدًا وَحِينَئِذٍ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ مِنْ كَوْنِهِ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ. وَإِنْ كَانَ قَضَاءُ الْعَقْلِ مَرْدُودًا بَطَلَتْ حُجَّتُكُمْ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِنَا: إنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ مُبَايِنٌ لَهُ وَلَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا جَوْهَرٍ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ حُجَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ
كَوْنِهِ فَوْقَ الْعَالَمِ لَمْ يَجُزْ نَفْيُ ذَلِكَ؛ وَحِينَئِذٍ فَالسَّمْعِيَّاتُ قَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْفِطْرَةِ فَلَزِمَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ. فَهَذَا " تَحْقِيقٌ جَيِّدٌ " قَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْنُّفَاةِ يَجْعَلُونَ الْعَقْلَ حُجَّةً لَهُمْ وَلَا يَجْعَلُونَهُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَيَحْتَجُّونَ عَلَى خُصُومِهِمْ بِقَضَايَا ضَرُورِيَّةٍ وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةِ فِيمَا هُوَ أَبْيَنُ مِنْهَا وَكُلُّ مَا يَطْعَنُونَ بِهِ حُجَّةٌ عَلَى مُخَالِفَتِهِمْ: مِثْلُ قَوْلِهِمْ: هَذَا مِنْ قَضَايَا الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ؛ لَا مِنْ قَضَايَا الْعَقْلِ فَيَطْعَنُ بِهِ فِي حُجَّتِهِمْ هَذِهِ. فَيُقَالُ: نَفْيُكُمْ لِوُجُودِ مَوْجُودٍ مُبَايِنٍ لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا مُتَحَيِّزٍ هُوَ مِنْ قَضَايَا الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ؛ لَا مِنْ قَضَايَا الْعَقْلِ فَلْيَتَدَبَّرْ الْفَاضِلُ هَذَا الْمَقَامَ. (الْجَوَابُ الثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ يَلْتَزِمُ أَنَّهُ مُتَحَيِّزٌ أَوْ فِي جِهَةٍ أَوْ أَنَّهُ جِسْمٌ وَيَقُولُ: لَا دَلَالَةَ عَلَى نَفْيِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَدِلَّةُ الْنُّفَاةِ لِذَلِكَ أَدِلَّةٌ فَاسِدَةٌ. فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ نَفْيَ ذَلِكَ لَيْسَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ وَإِنَّمَا يَدَّعُونَ النَّظَرَ ونفاة ذَلِكَ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى دَلِيلٍ وَاحِدٍ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَطْعَنُ فِي دَلِيلِ الْآخَرِ - فَالْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ يَنْفُونَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ يَطْعَنُ الْنُّفَاةِ مَنْ أَهْلِ الْكَلَام مَعَ غَيْرِهِمْ - مِنْ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلِ الْإِثْبَاتِ - فِي أَدِلَّتِهِمْ بالطعون الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ فَسَادَ أَدِلَّتِهِمْ، والمتكلمون الَّذِينَ يَنْفُونَ ذَلِكَ يَطْعَنُونَ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ الْنُّفَاةِ - مَعَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلِ الْإِثْبَاتِ - فِي أَدِلَّتِهِمْ وَهُوَ الدَّلِيلُ الْمَبْنِيُّ عَلَى حُدُوثِ مَا قَامَتْ بِهِ الْأَعْرَاضُ وَالْأَفْعَالُ.
وَالْكَلَامُ عَلَى أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ الْمُثْبِتَةِ لِفَسَادِ أَدِلَّةِ الْنُّفَاةِ وَمَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُشْتَبِهَةِ وَالْكَلَامِ الدَّقِيقِ وَالْبُحُوثِ الْعَقْلِيَّةِ: مَبْسُوطٌ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. (الْجَوَابُ الرَّابِعُ: جَوَابُ أَهْلِ الاستفصال وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَفْظُ " التَّحَيُّزِ " و " الْجِهَةِ " و " الْجَوْهَرُ " وَنَحْوُ ذَلِكَ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا قَالَهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا: فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا. وَحِينَئِذٍ فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِنَفْيِهَا أَوْ إثْبَاتِهَا لَيْسَ مِنْ مَذْهَبِ " أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " بِلَا رَيْبٍ وَلَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ؛ بَلْ الْإِطْلَاقُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ مِمَّا ابْتَدَعَهُ " أَهْلُ الْكَلَامِ " الْخَائِضُونَ فِي ذَلِكَ فَإِذَا تَكَلَّمْنَا مَعَهُمْ بِالْبَحْثِ الْعَقْلِيِّ استفصلناهم عَمَّا أَرَادُوهُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ. فَإِنْ قَالَ الْمُثْبِتُ: الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مُتَحَيِّزًا وَجِسْمًا وَفِي جِهَةٍ: إنَّهُ فِي جَوْفِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ أَوْ إنَّ الْمَخْلُوقَاتِ تَحُوزُهُ أَوْ إنَّهُ يُمَاثِلُهَا أَوْ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَهَذَا بَاطِلٌ. وَمُبَايَنَتُهُ لِلْعَالَمِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُتَحَيِّزًا وَلَا فِي جِهَةٍ وَلَا جِسْمًا. وَإِنْ قَالَ النَّافِي لِذَلِكَ: إنَّ مَا كَانَ فَوْقَ الْعَالَمِ فَهُوَ فِي جِهَةٍ وَهُوَ مُتَحَيِّزٌ وَهُوَ جِسْمٌ وَذَلِكَ مُحَالٌ.
قِيلَ لَهُ: نَفْيُ أَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ بَاطِلٌ وَمَلْزُومُ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ فَإِذَا كَانَ نَفْيُ مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَلْزُومًا لِنَفْيِ الْمُبَايَنَةِ كَانَ نَفْيُهَا بَاطِلًا؛ وَالْأَدِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى نَفْيِ مُسَمَّاهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ بَاطِلَةٌ. وَيَقُولُ الْمُثْبِتُ نَفْيُ مُبَايَنَتِهِ لِلْعَالَمِ وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ بَاطِلٌ؛ بَلْ هَذِهِ الْأُمُورُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ فِيمَا أَثْبَتَهُ لِرَبِّهِ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ وَهُوَ كُفْرٌ أَيْضًا لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ يَكْفُرُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الْمُثْبِتَةُ لِكُفْرِهِ فَإِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ كَفَرَ حِينَئِذٍ؛ بَلْ نَفْيُ هَذِهِ الْأُمُورِ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّكْفِيرِ لِلرَّسُولِ فِيمَا أَثْبَتَهُ لِرَبِّهِ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ؛ بَلْ نَفْيٌ لِلصَّانِعِ وَتَعْطِيلٌ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ. وَإِذَا كَانَ نَفْيُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُسْتَلْزِمًا لِلْكُفْرِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَقَدْ نَفَاهَا طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَلَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبِ؛ إلَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَهُ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ فَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَنْفُونَ أَلْفَاظًا أَوْ يُثْبِتُونَهَا بَلْ يَنْفُونَ مَعَانِيَ أَوْ يُثْبِتُونَهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِأُمُورِ هِيَ كُفْرٌ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِالْمُلَازَمَةِ بَلْ يَتَنَاقَضُونَ وَمَا أَكْثَرَ تَنَاقُضِ النَّاسِ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْبَابِ وَلَيْسَ التَّنَاقُضُ كُفْرًا. وَيَقُولُ النَّاظِمُ: أَنَا أُخْبِرْت أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: هُوَ مَفْتُونٌ وَفَاتِنٌ وَهَذَا حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ فَتَنَ غَيْرَهُ بِقَوْلِهِ وَفَتَنَهُ غَيْرُهُ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ فَتَنَ يَكُونُ كَافِرًا وَادَّعَيْت أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ مُسْتَلْزِمًا لِلتَّعْطِيلِ؛ فَيَكُونُ الْكُفْرُ كَامِنًا
فِي قَوْلِهِ. وَالْكَامِنُ فِي الشَّيْءِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا فِيهِ وَلَوْ كَانَ الْكُفْرُ ظَاهِرًا فِي قَوْلِهِ لَلَزِمَ تَكْفِيرُ الْقَائِلِ. أَمَّا إذَا كَانَ كَامِنًا وَهُوَ خَفِيٌّ لَمْ يَكْفُرْ بِهِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْكُفْرِ وَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِلْكُفْرِ وَمُسْتَلْزِمًا لَهُ.
وَأَمَّا لَفْظُ " التَّجْسِيمِ " فَهَذَا لَفْظٌ مُجْمَلٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ؛ فَنَفْيُهُ وَإِثْبَاتُهُ يَفْتَقِرُ إلَى تَفْصِيلٍ وَدَلِيلٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا إنْ قَالَ الْمُثْبِتُ لِذَلِكَ: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ وَمُبَايِنٌ لَهُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ وَإِنْ قَالَ النَّافِي لِذَلِكَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا تَحُوزُهُ الْمَخْلُوقَاتُ وَلَا تُمَاثِلُهُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلَيْكُمَا؛ فَإِنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ مُبَايِنٌ لَهُ وَالْمَخْلُوقَاتُ لَا تَحْصُرُهُ وَلَا تَحُوزُهُ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى الْعَرْشِ وَلَا غَيْرِهِ؛ مَعَ أَنَّهُ عَالٍ عَلَيْهَا مُبَايِنٌ لَهَا وَلَيْسَ مُمَاثِلًا لَهَا وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهَا. فَهَذِهِ الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ مِنْ النَّافِي وَالْمُثْبِتِ مَقْبُولَةٌ؛ وَتِلْكَ الْمَعَانِي مِنْهُمَا مَرْدُودَةٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَلِأَنَّ هَذَا الَّذِي يُجِيبُ بِهِ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ لِلدَّهْرِيَّةِ: مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ الَّتِي يَشَاؤُهَا وَيَقْدِرُ عَلَيْهَا وَبِذَلِكَ يَخْلُقُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُنْفَصِلَةَ عَنْهُ مُطَابِقٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ الْمَأْثُورَةُ عَنْ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. وَقَبْلَ: اسْتِوَائِهِ
عَلَى الْعَرْشِ: {اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا جَاءَ فِي مَبْدَأِ الْخَلْقِ. وَأَمَّا الْإِعَادَةُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ؛ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ؛ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: يَطْوِي اللَّهُ السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ وَيَقْبِضُ الْأَرْضَ بِيَدِهِ الْأُخْرَى ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْقُدُّوسُ أَنَا السَّلَامُ أَنَا الْمُؤْمِنُ؛ أَنَا الْمُهَيْمِنُ؛ أَنَا الْعَزِيزُ أَنَا الْجَبَّارُ؛ أَنَا الْمُتَكَبِّرُ؛ أَنَا الَّذِي بَدَأْت الدُّنْيَا وَلَمْ تَكُنْ شَيْئًا أَنَا الَّذِي أُعِيدُهَا وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبِضُ بِيَدَيْهِ وَيَبْسُطُهُمَا. وَالْمِنْبَرُ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِهِ حَتَّى إنِّي لَأَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.} وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إلَّا كَخَرْدَلَةِ فِي كَفِّ أَحَدِكُمْ " وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: " يَرْمِي بِهَا كَمَا يَرْمِي الصَّبِيُّ بِالْكُرَةِ ". فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَفْلَاكَ لَا نِسْبَةَ لَهَا إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ كَوْنِهِ سبحانه وتعالى يَطْوِي السَّمَاءَ وَيَقْبِضُ الْأَرْضَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّ اللَّهَ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ يُمْسِكُ السَّمَاءَ عَلَى إصْبَعٍ وَالْأَرْضَ عَلَى إصْبَعٍ وَالشَّجَرَ وَالثَّرَى عَلَى إصْبَعٍ وَالْجِبَالَ عَلَى إصْبَعٍ وَالْخَلَائِقَ عَلَى إصْبَعٍ. قَالَ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ؛ ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الْآيَةَ.} فَهَذَا بَيِّنٌ مِنْ عَمَلِ الرَّبِّ تبارك وتعالى مَا يَدْفَعُ شُبَهَ الْمُتَفَلْسِفَةِ.
فَصْلٌ: (*)
وَهَذَا " التَّقْسِيمُ " الَّذِي ذَكَرَهُ السَّائِلُ هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةُ يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ: كَمُبَايَنَتِهِ لِخَلْقِهِ وَعُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ قَالَ (الْإِمَامُ أَحْمَد فِي كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ فِي " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالزَّنَادِقَةِ ". (بَيَانُ مَا أَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّة الضُّلَّالُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فَقَالُوا هُوَ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ كَمَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَفِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ وَلَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ وَيَتْلُونَ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} . قُلْنَا: قَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَمَاكِنَ كَثِيرَةً لَيْسَ فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الرَّبِّ شَيْءٌ فَقَالُوا: أَيُّ شَيْءٍ؟ قُلْنَا: أَحْشَاؤُكُمْ وَأَجْوَافُكُمْ وَأَجْوَافُ الْخَنَازِيرِ وَالْحُشُوشِ وَالْأَمَاكِنُ الْقَذِرَةُ لَيْسَ فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الرَّبِّ شَيْءٌ؛ وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَقَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} وَقَدْ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ}
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 47 - 50):
وقد حصل تصحيف وسقط في النقول عن السلف في هذا الفصل، وبيان ما وقفت عليه كالتالي:
1 -
ص 310: (قال الإمام أحمد في كتابه الذي كتبه في (الرد على الجهمية والزنادقة). (بيان ما أنكرت الجهمية الضلال أن يكون الله على العرش [فقلنا لهم: لم أنكرتم أن الله فوق العرش] وقد قال تعالى: " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ").
قلت: سقط ما بين المعقوفتين، كما في (الرد على الزنادقة) ص 92 من عقائد السلف)، وكما في (الدرء) 1/ 138.
2 -
ص 313 (فلما ظهرت الحجة على الجهمي بما ادعى على الله أنه مع خلقه [، قال: هو] في كل شيء من غير أن يكون مماسا للشيء ولا مباينا له. . .).
قلت: وقد سقط ما بين المعقوفتين من هذا الموضع، وكذلك سقط في (الدرء) 1/ 147، وهو في (عقائد السلف) ص 97، والسياق يقتضيه فإن كلام أحمد رحمه الله السابق أبطل فيه قوله: إن الله مه خلقه، فلما ظهرت الحجة عليه ذهب إلى قول آخر وهو (إن الله في كل شيء من غير أن يكون مماسا للشيء ولا مباينا له).
3 -
ص 314: وهذا منقول عن كلام عبد العزيز المكي في كتابه (الرد على الزنادقة والجهمية)، والمقابلة مع نفس النقل في (درء التعارض) 6/ 117 وما بعدها:
قال (إن الله أخبر أنه خلق العرش قبل خلق السموات والأرض [في ستة أيام] ثم استوى على عرشه. .).
قلت: لعل ما بين قوسين مقحم، لأنه لا معنى له في السياق، كما في الدرء 6/ 115.
4 -
ص 315: (فيقال: أخبرني كيف استوى على العرش، أهو كما يقول: استوى فلان على السرير؛ فيكون السرير قد حوى فلانا وحده إذا كان عليه؟).
قلت: في الدرء: 6/ 117: (فقال الجهمي: أخبرني كيف استوى. . .) وهو الصواب.
5 -
ص 316: (قد أخبرنا أنه " اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ " ولم يخبرنا كيف استوى [فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش، وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى؟] لأنه لم يخبرهم كيف ذلك. . .).
قلت: سقط ما بين المعقوفتين بسبب انتقال نظر الناسخ من (كيف استوى) الأولى إلى الثانية فأسقط ما بينهما، وأنظر (الدرء) 6/ 118.
6 -
ص 317: (لأنه لو كان شيئا داخلا في القياس والمعقول لأن يكون داخلا في الشيء أو خارجا عنه فلما لم يكن في قولك شيئا استحال أن يكون الشيء في الشيء أو خارجا من الشيء).
قلت: وصواب العبارة: كما في مخطوطة نقض التأسيس: (لأنه لو كان شيئا، ما خلا في القياس والمعقول: أن يكون داخلاً في الشيء، أو خارجا منه. . .).
7 -
ص 318: وهو من كلام ابن كلاب، والمقابلة مع النص نفسه في الدرء 6/ 120:(وقيل لهم: أليس لا يقال لما هو ثابت في الإنسان لا مماس ولا مباين؟. . .)
قلت: صواب العبارة: (وقيل لهم: أليس لا يقال لما ليس بثابت في الإنسان مماس ومباين)، كما في الدرء 6/ 120، يعني أن المدموم من الإنسان (ما ليس بثابت فيه) لا يقال عنه (مماس) ولا (مباين) وهو أصل حجة ابن كلاب، وأما عبارة الفتاوى فهي عن وصف (الموجود)، والله أعلم.
وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {ذِي الْمَعَارِجِ} {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . قَالَ فَهَذَا خَبَرُ اللَّهِ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ. وَوَجَدْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي أَسْفَلُ مَذْمُومًا يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} . وَقُلْنَا لَهُمْ: أَلَيْسَ تَعْلَمُونَ أَنَّ إبْلِيسَ مَكَانُهُ مَكَانٌ وَالشَّيَاطِينَ مَكَانُهُمْ مَكَانٌ؟ . فَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَجْتَمِعَ هُوَ وَإِبْلِيسُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَلَكِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عز وجل: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} يَقُولُ: هُوَ إلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَإِلَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَقَدْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِمَا دُونَ الْعَرْشِ؛ لَا يَخْلُو مِنْ عِلْمِ اللَّهِ مَكَانٌ وَلَا يَكُونُ عِلْمُ اللَّهِ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} . وَقَالَ مِنْ الِاعْتِبَارِ فِي ذَلِكَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِي يَدِهِ قَدَحٌ مِنْ قَوَارِيرَ صَافٍ وَفِيهِ شَيْءٌ صَافٍ لَكَانَ نَظَرُ ابْنِ آدَمَ قَدْ أَحَاطَ بِالْقَدْحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَكُونَ ابْنُ آدَمَ فِي الْقَدَحِ وَاَللَّهُ - وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ. وَخَصْلَةٌ أُخْرَى: لَوْ أَنَّ رَجُلًا بَنَى دَارًا بِجَمِيعِ مَرَافِقِهَا ثُمَّ أَغْلَقَ بَابَهَا وَخَرَجَ. كَانَ ابْنُ آدَمَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ كَمْ بَيْتٌ فِي دَارِهِ وَكَمْ سِعَةُ كُلِّ بَيْتٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الدَّارِ فِي جَوْفِ الدَّارِ فَاَللَّهُ عز وجل وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ وَعَلِمَ كَيْفَ هُوَ؟ وَمَا هُوَ؟ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي شَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ. وَمَا تَأَوَّلَ الْجَهْمِيَّة مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} فَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ عز وجل مَعَنَا وَفِينَا. وَقُلْنَا: لِمَ قَطَعْتُمْ الْخَبَرَ مِنْ قَوْلِهِ؟ إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ} يَعْنِي بِعِلْمِهِ فِيهِمْ {أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فَفَتَحَ الْخَبَرَ بِعِلْمِهِ وَخَتَمَهُ بِعِلْمِهِ. وَيُقَالُ للجهمي: إنَّ اللَّهَ إذَا كَانَ مَعَنَا بِعَظَمَةِ نَفْسِهِ: هَلْ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ؟ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُبَايِنٌ خَلْقَهُ وَأَنَّ خَلْقَهُ دُونَهُ. وَإِنْ قَالَ: لَا كَفَرَ. قَالَ: وَإِذَا أَرَدْت أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الجهمي كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَلَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ فَقُلْ لَهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ كَانَ وَلَا شَيْءَ؟
فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَقُلْ لَهُ: حِينَ خَلَقَ الشَّيْءَ خَلَقَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ؟ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى " ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ ": وَاحِدٌ مِنْهَا: إنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي نَفْسِهِ قَدْ كَفَرَ حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ فِي نَفْسِهِ. وَإِنْ قَالَ: خَلَقَهُمْ خَارِجًا مِنْ نَفْسِهِ ثُمَّ دَخَلَ فِيهِمْ: كَانَ هَذَا أَيْضًا كُفْرًا حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ دَخَلَ فِي مَكَانٍ رِجْسٍ وَقَذِرٍ رَدِيءٍ. وَإِنْ قَالَ: خَلَقَهُمْ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ أَجْمَعَ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ. فَقَدْ بَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَد مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَالْفِطْرَةِ الْبَدِيهِيَّةِ؛ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْخَلْقِ دَاخِلًا فِي نَفْسِهِ أَوْ خَارِجًا عَنْهُ وَأَنَّهُ إذَا كَانَ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَلَّ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَزَلْ مُبَايِنًا فَذَكَرَ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ. وَقَالَ أَيْضًا فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ: فَلَمَّا ظَهَرَتْ الْحُجَّةُ عَلَى الجهمي بِمَا ادَّعَى عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ مَعَ خَلْقِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُمَاسًّا لِلشَّيْءِ وَلَا مُبَايِنًا لَهُ فَقُلْنَا إذَا كَانَ غَيْرَ مُبَايِنٍ أَلَيْسَ هُوَ مُمَاسًّا؟ قَالَ: لَا. قُلْنَا: فَكَيْفَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ غَيْرِ
مُمَاسٍّ لَهُ وَلَا مُبَايِنٍ؟ فَلَمْ يُحْسِنْ الْجَوَابَ. فَقَالَ: بِلَا كَيْفٍ. فَخَدَعَ الْجُهَّالَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَمَوَّهَ عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ صَاحِبُ " الْحَيْدَةِ " الْمَشْهُورَةِ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة قَالَ: بَابُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . زَعَمَتْ الْجَهْمِيَّة أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} إنَّمَا الْمَعْنَى اسْتَوْلَى كَقَوْلِ الْعَرَبِ اسْتَوَى فُلَانٌ عَلَى مِصْرَ اسْتَوَى عَلَى الشَّامِ يُرِيدُ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا.
بَابُ الْبَيَانِ لِذَلِكَ:
يُقَالُ لَهُ: أَيَكُونُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَتَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لَيْسَ اللَّهُ بِمُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ فَإِذَا قَالَ: لَا. قِيلَ: فَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ قَالَ: مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ. يُقَالُ لَهُ: يَلْزَمُك أَنْ تَقُولَ: إنَّ الْعَرْشَ قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لَيْسَ اللَّهُ بِمُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْعَرْشَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بَعْدَ خَلْقِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَالَ اللَّهُ عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} وَقَوْلُهُ؛ {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فَيَلْزَمُك أَنْ تَقُولَ: الْمُدَّةُ الَّذِي كَانَ الْعَرْشُ فِيهَا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَيْسَ اللَّهُ بِمُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ إذْ كَانَ {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} مَعْنَاهُ عِنْدَك اسْتَوْلَى فَإِنَّمَا اسْتَوْلَى بِزَعْمِك فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا قَبْلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ قَالُوا: بَشَّرْتنَا فَأَعْطِنَا. قَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ قَالُوا؛ قَبِلْنَا فَأَخْبِرْنَا عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ كَيْفَ كَانَ؟ قَالَ: كَانَ اللَّهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ ذِكْرَ كُلِّ شَيْءٍ} " وَرُوِيَ عَنْ {أَبِي رَزِينٍ العقيلي - وَكَانَ يُعْجِبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسْأَلَتُهُ - أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ قَالَ: فِي عَمَاءٍ فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَتَحْتَهُ هَوَاءٌ} . فَيُقَالُ: أَخْبِرْنِي كَيْفَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؟ أَهُوَ كَمَا يَقُولُ: اسْتَوَى فُلَانٌ عَلَى السَّرِيرِ؛ فَيَكُونُ السَّرِيرُ قَدْ حَوَى فُلَانًا وَحْدَهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ؟ فَيَلْزَمُك أَنْ تَقُولَ: إنَّ الْعَرْشَ قَدْ حَوَى اللَّهَ وَحْدَهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْقِلُ الشَّيْءَ عَلَى الشَّيْءِ إلَّا هَكَذَا.
فَيُقَالُ: أَمَّا قَوْلُك: كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجْرِي عَلَيْهِ كَيْفَ وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَلَمْ يُخْبِرْنَا كَيْفَ اسْتَوَى. لِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهُمْ كَيْفَ ذَلِكَ وَلَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ فِي الدُّنْيَا فَتَصِفُهُ بِمَا رَأَتْ وَحَرُمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ فَآمَنُوا بِخَبَرِهِ عَنْ الِاسْتِوَاءِ ثُمَّ رَدُّوا عِلْمَ كَيْفَ اسْتَوَى إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَلَكِنْ يَلْزَمُك أَيُّهَا الجهمي أَنْ تَقُولَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَحْدُودٌ وَقَدْ حَوَتْهُ الْأَمَاكِنُ إذْ زَعَمْت فِي دَعْوَاك أَنَّهُ فِي الْأَمَاكِنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ شَيْءٌ فِي مَكَانٍ إلَّا وَالْمَكَانُ قَدْ حَوَاهُ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ فِي الْبَيْتِ وَالْمَاءُ فِي الْجُبِّ فَالْبَيْتُ قَدْ حَوَى فُلَانًا وَالْجُبُّ قَدْ حَوَى الْمَاءَ. وَيَلْزَمُك أَشْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّك قُلْت أَفْظَعَ مِمَّا قَالَتْ بِهِ النَّصَارَى وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ عز وجل فِي عِيسَى وَعِيسَى بَدَنُ إنْسَانٍ وَاحِدٍ فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَقِيلَ لَهُمْ: مَا عَظَّمْتُمْ اللَّهَ إذْ جَعَلْتُمُوهُ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ. وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَفِي بُطُونِ النِّسَاءِ كُلِّهِنَّ وَبَدَنِ عِيسَى وَأَبْدَانِ النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَيَلْزَمُك أَيْضًا أَنْ تَقُولَ: إنَّهُ فِي أَجْوَافِ الْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ لِأَنَّهَا أَمَاكِنُ وَعِنْدَك أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. قَالَ: فَلَمَّا شَنَّعْت مَقَالَتَهُ قَالَ: أَقُولُ: إنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَا كَالشَّيْءِ
فِي الشَّيْءِ وَلَا كَالشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ وَلَا كَالشَّيْءِ خَارِجًا عَنْ الشَّيْءِ وَلَا مُبَايِنًا لِلشَّيْءِ. قَالَ: يُقَالُ لَهُ: أَصْلُ قَوْلِك الْقِيَاسُ وَالْمَعْقُولُ فَقَدْ دَلَّلْت بِالْقِيَاسِ وَالْمَعْقُولِ عَلَى أَنَّك لَا تَعْبُدُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْئًا دَاخِلًا فِي الْقِيَاسِ وَالْمَعْقُولِ لَأَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الشَّيْءِ أَوْ خَارِجًا عَنْهُ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِك شَيْئًا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ فِي الشَّيْءِ أَوْ خَارِجًا مِنْ الشَّيْءِ فَوَصَفْت - لَعَمْرِي - مُلْتَبِسًا لَا وُجُودَ لَهُ وَهُوَ دِينُك وَأَصْلُ مَقَالَتِك التَّعْطِيلُ. فَهَذَا " عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ " قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْقِيَاسَ وَالْمَعْقُولَ يُوجِبُ أَنَّ مَا لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الشَّيْءِ وَلَا خَارِجًا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَيْئًا وَأَنَّ ذَلِكَ صِفَةُ الْمَعْدُومِ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ فَالْقِيَاسُ هُوَ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْمَعْقُولُ الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ. وَكَذَلِكَ قَالَ: " أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ " إمَامُ الْمُتَكَلِّمَةِ الصفاتية: كالقلانسي وَالْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ فِيمَا جَمَعَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فورك مِنْ كَلَامِ الْأَشْعَرِيِّ أَيْضًا فَذَكَرَ ابْنُ فورك كَلَامَ ابْنِ كُلَّابٍ أَنَّهُ قَالَ: وَأَخْرَجَ مِنْ النَّظَرِ وَالْخَبَرِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: لَا هُوَ فِي الْعَالَمِ وَلَا خَارِجٌ مِنْهُ فَنَفَاهُ نَفْيًا مُسْتَوِيًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ: صِفْهُ بِالْعَدَمِ مَا قَدَرَ أَنْ يَقُولَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَرَدَّ أَخْبَارَ اللَّهِ نَصًّا وَقَالَ فِي ذَلِكَ مَا لَا يَجُوزُ فِي نَصٍّ وَلَا مَعْقُولٍ وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الْخَالِصُ وَالنَّفْيُ الْخَالِصُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْإِثْبَاتُ الْخَالِصُ وَهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ قَيَّاسُونَ.
قَالَ: فَإِنْ قَالُوا: هَذَا إفْصَاحٌ بِخُلُوِّ الْأَمَاكِنِ مِنْهُ وَانْفِرَادِ الْعَرْشِ بِهِ قِيلَ: إنْ كُنْتُمْ تَعْنُونَ بِخُلُوِّ الْأَمَاكِنِ مِنْ تَدْبِيرِهِ وَأَنَّهُ عَالِمٌ فَلَا. وَإِنْ كُنْتُمْ تَذْهَبُونَ إلَى خُلُوِّهِ مِنْ اسْتِوَائِهِ عَلَيْهَا كَمَا اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فَنَحْنُ لَا نَحْتَشِمُ أَنْ نَقُولَ: اسْتَوَى اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَنَحْتَشِمُ أَنْ نَقُولَ: اسْتَوَى عَلَى الْأَرْضِ وَاسْتَوَى عَلَى الْجِدَارِ وَفِي صَدْرِ الْبَيْتِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ كُلَّابٍ أَيْضًا: يُقَالُ لَهُمْ: أَهُوَ فَوْقَ مَا خَلَقَ: فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ. قِيلَ: مَا تَعْنُونَ بِقَوْلِكُمْ إنَّهُ فَوْقَ مَا خَلَقَ فَإِنْ قَالُوا: بِالْقُدْرَةِ وَالْعِزَّةِ. قِيلَ لَهُمْ: لَيْسَ هَذَا سُؤَالُنَا. وَإِنْ قَالُوا: الْمَسْأَلَةُ خَطَأٌ. قِيلَ لَهُمْ: فَلَيْسَ هُوَ فَوْقُ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ لَيْسَ هُوَ فَوْقُ قِيلَ لَهُمْ: وَلَيْسَ هُوَ تَحْتُ فَإِنْ قَالُوا: وَلَا تَحْتُ أَعْدَمُوهُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ لَا تَحْتُ وَلَا فَوْقُ فَعَدَمٌ. وَإِنْ قَالُوا: هُوَ تَحْتُ وَهُوَ فَوْقُ قِيلَ لَهُمْ: فَوْقُ تَحْتُ وَتَحْتُ فَوْقُ. وَقَالَ ابْنُ كُلَّابٍ أَيْضًا: يُقَالُ لَهُمْ: إذَا قُلْنَا: الْإِنْسَانُ لَا مُمَاسَّ وَلَا مُبَايِنَ لِلْمَكَانِ فَهَذَا مُحَالٌ فَلَا بُدَّ مِنْ نَعَمْ قِيلَ لَهُمْ. فَهُوَ لَا مُبَايِنٌ وَلَا مُمَاسٌّ؟ فَإِذَا قَالُوا نَعَمْ قِيلَ لَهُمْ: فَهُوَ بِصِفَةِ الْمُحَالِ الَّذِي لَا يَكُونُ وَلَا يَثْبُتُ فِي الْوَهْمِ؟ فَإِذَا قَالُوا: نَعَمْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِصِفَةِ الْمُحَالِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ كَمَا كَانَ بِصِفَةِ الْمُحَالِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. وَقِيلَ لَهُمْ: أَلَيْسَ لَا يُقَالُ لِمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْإِنْسَانِ لَا مُمَاسَّ وَلَا مُبَايِنَ؟
فَإِذَا قَالُوا: نَعَمْ قِيلَ: فَأَخْبِرُونَا عَنْ مَعْبُودِكُمْ مُمَاسٌّ هُوَ أَوْ مُبَايِنٌ؟ فَإِذَا قَالُوا: لَا يُوصَفُ بِهِمَا قِيلَ لَهُمْ: فَصِفَةُ إثْبَاتِ الْخَالِقِ كَصِفَةِ عَدَمِ الْمَخْلُوقِ فَلِمَ لَا يَقُولُونَ عَدَمٌ كَمَا يَقُولُونَ لِلْإِنْسَانِ عَدَمٌ؛ إذَا وَصَفْتُمُوهُ بِصِفَةِ الْعَدَمِ؟ . وَقِيلَ لَهُمْ: إذَا كَانَ عَدَمُ الْمَخْلُوقِ وُجُودًا لَهُ كَانَ جَهْلُ الْمَخْلُوقِ عِلْمًا لَهُ؛ لِأَنَّكُمْ وَصَفْتُمْ الْعَدَمَ الَّذِي هُوَ لِلْمَخْلُوقِ وُجُودًا لَهُ وَإِذَا كَانَ الْعَدَمُ وُجُودًا كَانَ الْجَهْلُ عِلْمًا وَالْعَجْزُ قُدْرَةً. وَقَالَ ابْنُ كُلَّابٍ أَيْضًا: وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ وَخِيرَتُهُ مِنْ بَرِيَّتِهِ وَأَعْلَمُهُمْ جَمِيعًا يُجِيزُ " الْأَيْنَ " وَيَقُولُهُ وَيَسْتَصْوِبُ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنَّهُ فِي السَّمَاءِ وَشَهِدَ لَهُ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ ذَلِكَ؛ وَجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَصْحَابُهُ لَا يُجِيزُونَ " الْأَيْنَ " وَيُحَرِّمُونَ الْقَوْلَ بِهِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ خَطَأً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَقَّ بِالْإِنْكَارِ لَهُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهَا: لَا تَقُولِي ذَلِكَ فَتَوَهَّمِي أَنَّهُ عز وجل مَحْدُودٌ وَأَنَّهُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ. وَلَكِنْ قُولِي إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ دُونَ مَا قُلْت. كَلَّا فَلَقَدْ أَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ عِلْمِهِ بِمَا فِيهِ وَأَنَّهُ أَصْوَبُ الْإِيمَانِ بَلْ الْأَمْرُ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْإِيمَانُ لِقَائِلِهِ وَمِنْ أَجْلِهِ شَهِدَ لَهَا بِالْإِيمَانِ حِينَ قَالَتْهُ وَكَيْفَ يَكُونُ الْحَقُّ فِي خِلَافِ ذَلِكَ وَالْكِتَابُ نَاطِقٌ بِهِ وَشَاهِدٌ لَهُ؟ قَالَ: وَلَوْ لَمْ يَشْهَدْ بِصِحَّةِ مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ فِي هَذَا الْفَنِّ خَاصَّةً إلَّا مَا ذَكَرْنَا
مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَكَانَ فِيهِ مَا يَكْفِي وَقَدْ غَرَسَ فِي تَبَيُّنِهِ فِي الْفِطْرَةِ وَمَعَارِفِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا شَيْءَ أَبْيَنُ مِنْهُ وَلَا أَوْكَدُ؛ لِأَنَّك لَا تَسْأَلُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ عَنْهُ عَرَبِيًّا وَلَا عَجَمِيًّا وَلَا مُؤْمِنًا وَلَا كَافِرًا فَتَقُولُ: أَيْنَ رَبُّك؟ إلَّا قَالَ فِي السَّمَاءِ. إنْ أَفْصَحَ أَوْ أَوْمَأَ بِيَدِهِ أَوْ أَشَارَ بِطَرْفِهِ - إنْ كَانَ لَا يُفْصِحُ؛ وَلَا يُشِيرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَرْضٍ وَلَا سَهْلٍ وَلَا جَبَلٍ. وَلَا رَأَيْنَا أَحَدًا إذَا دَعَاهُ إلَّا رَافِعًا يَدَهُ إلَى السَّمَاءِ وَلَا وَجَدْنَا أَحَدًا غَيْرَ الْجَهْمِيَّة يُسْأَلُ عَنْ رَبِّهِ فَيَقُولُ: فِي كُلِّ مَكَانٍ كَمَا يَقُولُونَ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ كُلِّهِمْ فَتَاهَتْ الْعُقُولُ وَسَقَطَتْ الْأَخْبَارُ وَاهْتَدَى جَهْمٌ وَرَجُلَانِ مَعَهُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ كَلَامُ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَعَنْهُ أَخَذَ الْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ فِي كِتَابِ " فَهْمِ الْقُرْآنِ " هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَإِنَّ كَلَامَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا وَشَيْخُنَا - شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَقُدْوَةُ الْأَنَامِ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ -:
فِي رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي " حَدِيثِ النُّزُولِ ": أَحَدُهُمَا مُثْبِتٌ وَالْآخَرُ نَافٍ.
فَقَالَ الْمُثْبِتُ: يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَقَالَ النَّافِي: كَيْفَ يَنْزِلُ؟ فَقَالَ الْمُثْبِتُ: يَنْزِلُ بِلَا كَيْفٍ فَقَالَ النَّافِي: يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَمْ لَا يَخْلُو؟ فَقَالَ الْمُثْبِتُ: هَذَا قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ وَرَأْيٌ مُخْتَرَعٌ فَقَالَ النَّافِي: لَيْسَ هَذَا جَوَابِي بَلْ هُوَ حَيْدَةٌ عَنْ الْجَوَابِ فَقَالَ لَهُ الْمُثْبِتُ: هَذَا جَوَابُك. فَقَالَ النَّافِي: إنَّمَا يَنْزِلُ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ فَقَالَ الْمُثْبِتُ: أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ يَنْزِلَانِ كُلَّ سَاعَةٍ وَالنُّزُولُ قَدْ وَقَّتَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُلُثَ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَقَالَ النَّافِي: اللَّيْلُ لَا يَسْتَوِي وَقْتُهُ فِي الْبِلَادِ فَقَدْ يَكُونُ اللَّيْلُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ
خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً وَنَهَارُهَا تِسْعَ سَاعَاتٍ وَيَكُونُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ سِتَّ عَشْرَةَ سَاعَةً وَالنَّهَارُ ثَمَانِ سَاعَاتٍ وَبِالْعَكْسِ؛ فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي طُولِ اللَّيْلِ وَقِصَرِهِ بِحَسَبِ الْأَقَالِيمِ وَالْبِلَادِ وَقَدْ يَسْتَوِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَقَدْ يَطُولُ اللَّيْلُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ أَكْثَرَ الْأَرْبَعِ وَعِشْرِينَ سَاعَةً وَيَبْقَى النَّهَارُ عِنْدَهُمْ وَقْتٌ يَسِيرٌ؛ فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ ثُلُثُ اللَّيْلِ دَائِمًا وَيَكُونُ الرَّبُّ دَائِمًا نَازِلًا إلَى السَّمَاءِ. وَالْمَسْئُولُ إزَالَةُ الشُّبَهِ وَالْإِشْكَالِ وَقَمْعِ أَهْلِ الضَّلَالِ.
فَأَجَابَ رضي الله عنه:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا الْقَائِلُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرَ نَصَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ أَصَابَ فِيمَا قَالَ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ؛ قَدْ اسْتَفَاضَتْ بِهِ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى تَصْدِيقِ ذَلِكَ وَتَلَقِّيه بِالْقَبُولِ. وَمَنْ قَالَ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَقَوْلُهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَانِي؛ كَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَفْهَمْ مَا فِيهِ مِنْ الْمَعَانِي؛ فَإِنَّ أَصْدَقَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَمْثَالَهُ عَلَانِيَةً وَبَلَّغَهُ الْأُمَّةَ تَبْلِيغًا عَامًّا لَمْ يَخُصَّ بِهِ أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ وَلَا كَتَمَهُ عَنْ أَحَدٍ وَكَانَتْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ تَذْكُرُهُ وَتَأْثُرُهُ وَتُبَلِّغُهُ
وَتَرْوِيهِ فِي الْمَجَالِسِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَاشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ كُتُبُ الْإِسْلَامِ الَّتِي تُقْرَأُ فِي الْمَجَالِسِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ: " كَصَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ "" وَمُوَطَّأِ مَالِكٍ "" وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد "" وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد " وَالتِّرْمِذِيِّ " وَالنَّسَائِي " وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ. لَكِنَّ مَنْ فَهِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْهُ كَتَمْثِيلِهِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَوَصْفِهِ بِالنَّقْصِ الْمُنَافِي لِكَمَالِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ؛ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ وَإِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ مُنِعَ مِنْهُ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَيَقْتَضِيهِ فَقَدْ أَخْطَأَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ. فَإِنَّ وَصْفَهُ سبحانه وتعالى فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالنُّزُولِ هُوَ كَوَصْفِهِ بِسَائِرِ الصِّفَاتِ؛ كَوَصْفِهِ بِالِاسْتِوَاءِ إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ وَوَصْفِهِ بِأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَوَصْفِهِ بِالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} وَقَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} وَقَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَقَوْلِهِ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} وَقَوْلِهِ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي
وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا نَفْسَهُ الَّتِي تُسَمِّيهَا النُّحَاةُ أَفْعَالًا مُتَعَدِّيَةً وَهِيَ غَالِبُ مَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ يُسَمُّونَهَا لَازِمَةً لِكَوْنِهَا لَا تَنْصِبُ الْمَفْعُولَ بِهِ بَلْ لَا تَتَعَدَّى إلَيْهِ إلَّا بِحَرْفِ الْجَرِّ: كَالِاسْتِوَاءِ إلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْعَرْشِ وَالنُّزُولِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ. وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْأَقْوَالِ اللَّازِمَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} وَقَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وقَوْله تَعَالَى {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} وَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} وَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} وَقَوْلِهِ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} وَقَوْلِهِ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} . وَكَذَلِكَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ وَالرَّحْمَةِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} وَقَوْلِهِ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ.
وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى قَدْ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقِينَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ كُفُوًا لَهُ وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَمِيٌّ وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . فَفِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ: مِنْ تَنْزِيهِهِ عَنْ الْكُفُؤِ وَالسَّمِيِّ وَالْمِثْلِ وَالنِّدِّ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ لَهُ؛ بَيَانُ أَنْ لَا مِثْلَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ؛ وَلَا أَفْعَالِهِ؛ فَإِنَّ التَّمَاثُلَ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ يَتَضَمَّنُ التَّمَاثُلَ فِي الذَّاتِ فَإِنَّ الذَّاتَيْنِ المختلفتين يَمْتَنِعُ تَمَاثُلُ صِفَاتِهِمَا وَأَفْعَالِهِمَا إذْ تَمَاثُلُ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ يَسْتَلْزِمُ تَمَاثُلَ الذَّوَاتِ فَإِنَّ الصِّفَةَ تَابِعَةٌ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا وَالْفِعْلُ أَيْضًا تَابِعٌ لِلْفَاعِلِ؛ بَلْ هُوَ مِمَّا يُوصَفُ بِهِ الْفَاعِلُ فَإِذَا كَانَتْ الصِّفَتَانِ مُتَمَاثِلَتَيْنِ كَانَ الْمَوْصُوفَانِ مُتَمَاثِلَيْنِ حَتَّى إنَّهُ يَكُونُ بَيْنَ الصِّفَاتِ مِنْ التَّشَابُهِ وَالِاخْتِلَافِ بِحَسَبِ مَا بَيْنَ الْمَوْصُوفَيْنِ: كَالْإِنْسَانَيْنِ كَمَا كَانَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ فَتَخْتَلِفُ مَقَادِيرُهُمَا وَصِفَاتُهُمَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ ذَاتَيْهِمَا وَيَتَشَابَهُ ذَلِكَ بِحَسَبِ تَشَابُهِ ذَلِكَ. كَذَلِكَ إذَا قِيلَ: بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَس تَشَابُهٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا حَيَوَانٌ وَهَذَا
حَيَوَانٌ وَاخْتِلَافٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا نَاطِقٌ وَهَذَا صَاهِلٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ؛ كَانَ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ مِنْ التَّشَابُهِ وَالِاخْتِلَافِ بِحَسَبِ مَا بَيْنَ الذَّاتَيْنِ: وَذَلِكَ أَنَّ الذَّاتَ الْمُجَرَّدَةَ عَنْ الصِّفَةِ لَا تُوجَدُ إلَّا فِي الذِّهْنِ فَالذِّهْنُ يُقَدِّرُ ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ الصِّفَةِ وَيُقَدِّرُ وُجُودًا مُطْلَقًا لَا يَتَعَيَّنُ وَأَمَّا الْمَوْجُودَاتُ فِي أَنْفُسِهَا فَلَا يُمْكِنُ فِيهَا وُجُودُ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ كُلِّ صِفَةٍ وَلَا وُجُودٌ مُطْلَقٌ لَا يَتَعَيَّنُ وَلَا يَتَخَصَّصُ.
وَإِذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لِلصِّفَاتِ: " أَنَا أُثْبِتُ صِفَاتِ اللَّهِ زَائِدَةً عَلَى ذَاتِهِ ": فَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّا نُثْبِتُهَا زَائِدَةً عَلَى مَا أَثْبَتَهَا الْنُّفَاةِ مِنْ الذَّاتِ. فَإِنَّ الْنُّفَاةِ اعْتَقَدُوا ثُبُوتَ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ الصِّفَاتِ فَقَالَ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ: نَحْنُ نَقُولُ بِإِثْبَاتِ صِفَاتٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا أَثْبَتَهُ هَؤُلَاءِ. وَأَمَّا الذَّاتُ نَفْسُهَا الْمَوْجُودَةُ فَتِلْكَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَتَحَقَّقَ بِلَا صِفَةٍ أَصْلًا بَلْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: أُثْبِتُ إنْسَانًا؛ لَا حَيَوَانًا وَلَا نَاطِقًا وَلَا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَلَا لَهُ قُدْرَةٌ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا حَرَكَةٌ وَلَا سُكُونٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ أَوْ قَالَ: أُثْبِتُ نَخْلَةً لَيْسَ لَهَا سَاقٌ وَلَا جِذْعٌ وَلَا لِيفٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا يُثْبِتُ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَلَا يُعْقَلُ.
وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ يُسَمُّونَ نفاة الصِّفَاتِ " مُعَطِّلَةً " لِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ تَعْطِيلُ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَإِنْ كَانُوا هُمْ قَدْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ قَوْلَهُمْ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّعْطِيلِ؛ بَلْ يَصِفُونَهُ بِالْوَصْفَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ فَيَقُولُونَ: هُوَ مَوْجُودٌ قَدِيمٌ وَاجِبٌ؛ ثُمَّ يَنْفُونَ
لَوَازِمَ وُجُودِهِ؛ فَيَكُونُ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمَوْجُودِ حَقٌّ لَيْسَ بِحَقِّ خَالِقٌ لَيْسَ بِخَالِقِ فَيَنْفُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ: إمَّا تَصْرِيحًا بِنَفْيِهِمَا وَإِمَّا إمْسَاكًا عَنْ الْإِخْبَارِ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا. وَلِهَذَا كَانَ مُحَقِّقُوهُمْ " وَهُمْ الْقَرَامِطَةُ " يَنْفُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ فَلَا يَقُولُونَ: مَوْجُودٌ وَلَا لَا مَوْجُودٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا لَا حَيٌّ وَلَا عَالِمٌ وَلَا لَا عَالِمٌ. قَالُوا: لِأَنَّ وَصْفَهُ بِالْإِثْبَاتِ تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْمَوْجُودَاتِ وَوَصْفَهُ بِالنَّفْيِ فِيهِ تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْمَعْدُومَاتِ. فَآلَ بِهِمْ إغْرَاقُهُمْ فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ إلَى أَنْ وَصَفُوهُ بِغَايَةِ التَّعْطِيلِ. ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَخْلُصُوا مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ بَلْ يَلْزَمُهُمْ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمْ أَنْ يَكُونُوا قَدْ شَبَّهُوهُ بِالْمُمْتَنِعِ الَّذِي هُوَ أَخَسُّ مِنْ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ. فَفَرُّوا فِي زَعْمِهِمْ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَوَصَفُوهُ بِصِفَاتِ الْمُمْتَنِعَاتِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْوُجُودَ بِخِلَافِ الْمَعْدُومَاتِ الْمُمْكِنَاتِ. وَتَشْبِيهُهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ شَرٌّ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ الْمُمْكِنَاتِ. وَمَا فَرَّ مِنْهُ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ لَيْسَ بِمَحْذُورِ. فَإِنَّهُ إذَا سُمِّيَ حَقًّا مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ حَيًّا عَلِيمًا رَءُوفًا رَحِيمًا وَسُمِّيَ الْمَخْلُوقُ بِذَلِكَ؛ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِلْمَخْلُوقِ أَصْلًا. وَلَوْ كَانَ هَذَا حَقًّا لَكَانَ كُلُّ مَوْجُودٍ مُمَاثِلًا لِكُلِّ مَوْجُودٍ؛ وَلَكَانَ كُلُّ مَعْدُومٍ مُمَاثِلًا لِكُلِّ مَعْدُومٍ. وَلَكَانَ كُلُّ مَا يُنْفَى عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ مُمَاثِلًا لِكُلِّ مَا يُنْفَى عَنْهُ ذَلِكَ الْوَصْفُ.
فَإِذَا قِيلَ: السَّوَادُ مَوْجُودٌ كَانَ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ قَدْ جَعَلْنَا كُلَّ مَوْجُودٍ مُمَاثِلًا لِلسَّوَادِ. وَإِذَا قُلْنَا: الْبَيَاضُ مَعْدُومٌ كُنَّا قَدْ جَعَلْنَا كُلَّ مَعْدُومٍ مُمَاثِلًا لِلْبَيَاضِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَيَكْفِي هَذَا خِزْيًا لِحِزْبِ الْإِلْحَادِ. وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي السَّوَادِ الَّذِي لَهُ أَمْثَالٌ بِلَا رَيْبٍ؛ فَإِذَا قِيلَ فِي خَالِقِ الْعَالَمِ إنَّهُ مَوْجُودٌ لَا مَعْدُومٌ حَيٌّ لَا يَمُوتُ قَيُّومٌ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِكُلِّ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ وَحَيٍّ وَقَائِمٍ؛ وَلِكُلِّ مَا يُنْفَى عَنْهُ الْعَدَمُ وَمَا يُنْفَى عَنْهُ صِفَةُ الْعَدَمِ وَمَا يُنْفَى عَنْهُ الْمَوْتُ وَالنَّوْمُ كَأَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ لَا يَنَامُونَ وَلَا يَمُوتُونَ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْعَامَّةَ الْمُتَوَاطِئَةَ الَّتِي تُسَمِّيهَا النُّحَاةُ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ مَعَانِيهَا فِي مَحَالِّهَا أَوْ تَفَاضَلَتْ كَالسَّوَادِ وَنَحْوِهِ؛ وَسَوَاءٌ سُمِّيَتْ مُشَكِّكَةً وَقِيلَ: إنَّ الْمُشَكِّكَةَ نَوْعٌ مِنْ الْمُتَوَاطِئَةِ - إمَّا أَنْ تُسْتَعْمَلَ " مُطْلَقَةً وَعَامَّةً " كَمَّا إذَا قِيلَ الْمَوْجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَقَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَخَالِقٍ وَمَخْلُوقٍ وَالْعِلْمُ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ. وَإِمَّا أَنْ تُسْتَعْمَلَ " خَاصَّةً مُعَيَّنَةً " كَمَا إذَا قِيلَ: وُجُودُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَعِلْمُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَذَاتُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو. فَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ خَاصَّةً مُعَيَّنَةً دَلَّتْ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسَمَّى لَمْ تَدُلَّ عَلَى مَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فِي الْخَارِجِ؛ فَإِنَّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسَمَّى لَا شَرِكَةَ فِيهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ.
فَإِذَا قِيلَ: عِلْمُ زَيْدٍ وَنُزُولُ زَيْدٍ وَاسْتِوَاءُ زَيْدٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لَمْ يَدُلَّ هَذَا إلَّا عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ زَيْدٌ مِنْ عِلْمٍ وَنُزُولٍ وَاسْتِوَاءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى مَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ. لَكِنْ لَمَّا عَلِمْنَا أَنَّ زَيْدًا نَظِيرُ عَمْرٍو وَعَلِمْنَا أَنَّ عِلْمَهُ نَظِيرُ عِلْمِهِ وَنُزُولَهُ نَظِيرُ نُزُولِهِ وَاسْتِوَاءَهُ نَظِيرُ اسْتِوَائِهِ فَهَذَا عَلِمْنَاهُ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالْمَعْقُولِ وَالِاعْتِبَارِ لَا مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ؛ فَذَلِكَ فِي الْخَالِقِ أَوْلَى. فَإِذَا قِيلَ: عِلْمُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَنُزُولُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَوُجُودُهُ وَحَيَاتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى مُمَاثَلَةِ الْغَيْرِ لَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا دَلَّ فِي زَيْدٍ وَعَمْرٍو لِأَنَّا هُنَاكَ عَلِمْنَا التَّمَاثُلَ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ لِكَوْنِ زَيْدٍ مِثْلَ عَمْرو؛ وَهُنَا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا كُفُوَ وَلَا نِدَّ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَفْهَمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَهُ مِثْلُ عِلْمِ غَيْرِهِ وَلَا كَلَامَهُ مِثْلُ كَلَامِ غَيْرِهِ وَلَا اسْتِوَاءَهُ مِثْلُ اسْتِوَاءِ غَيْرِهِ وَلَا نُزُولَهُ مِثْلُ نُزُولِ غَيْرِهِ وَلَا حَيَاتَهُ مِثْلُ حَيَاةِ غَيْرِهِ.
وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ وَنَفْيَ مُمَاثَلَتِهَا لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ. فَاَللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ مُطْلَقًا وَمُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ غَيْرُهُ فِي صِفَاتِ كَمَالِهِ. فَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ جَمَعَا التَّنْزِيهَ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} . فَالِاسْمُ " الصَّمَدُ " يَتَضَمَّنُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالِاسْمُ " الْأَحَدُ " يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْمِثْلِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ.
فَالْقَوْلُ فِي صِفَاتِهِ كَالْقَوْلِ فِي ذَاتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ؛ لَكِنْ يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ نِسْبَةَ هَذِهِ الصِّفَةِ إلَى مَوْصُوفِهَا كَنِسْبَةِ هَذِهِ الصِّفَةِ إلَى مَوْصُوفِهَا. فَعِلْمُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ وَنُزُولُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ هُوَ كَمَا يُنَاسِبُ ذَاتَهُ وَيَلِيقُ بِهَا كَمَا أَنَّ صِفَةَ الْعَبْدِ هِيَ كَمَا تُنَاسِبُ ذَاتَه وَتَلِيقُ بِهَا وَنِسْبَةُ صِفَاتِهِ إلَى ذَاتِهِ كَنِسْبَةِ صِفَاتِ الْعَبْدِ إلَى ذَاتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا قَالَ لَك السَّائِلُ: كَيْفَ يَنْزِلُ أَوْ كَيْفَ اسْتَوَى أَوْ كَيْفَ يَعْلَمُ أَوْ كَيْفَ يَتَكَلَّمُ وَيُقَدِّرُ وَيَخْلُقُ؟ فَقُلْ لَهُ: كَيْفَ هُوَ فِي نَفْسِهِ؟ فَإِذَا قَالَ: أَنَا لَا أَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ؛ فَقُلْ لَهُ: وَأَنَا لَا أَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ صِفَاتِهِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ يَتْبَعُ الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الْمَوْصُوفِ. فَهَذَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ وَالتَّعْيِينِ - وَهَذَا هُوَ الْوَارِدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - وَأَمَّا إذَا قِيلَتْ مُطْلَقَةً وَعَامَّةً - كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ النُّظَّارِ: الْمَوْجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَالْعِلْمُ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَهَذَا مُسَمَّى اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ وَالْعَامِّ وَالْعِلْمُ مَعْنًى مُطْلَقٌ وَعَامٌّ وَالْمَعَانِي لَا تَكُونُ مُطْلَقَةً وَعَامَّةً إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ؛ فَلَا يَكُونُ مَوْجُودٌ وُجُودًا مُطْلَقًا أَوْ عَامًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ وَلَا يَكُونُ مُطْلَقٌ أَوْ عَامٌّ إلَّا فِي الذِّهْنِ وَلَا يَكُونُ إنْسَانٌ أَوْ حَيَوَانٌ مُطْلَقٌ وَعَامٌّ إلَّا فِي الذِّهْنِ؛ وَإِلَّا فَلَا تَكُونُ الْمَوْجُودَاتُ فِي أَنْفُسِهَا إلَّا مُعَيَّنَةً مَخْصُوصَةً مُتَمَيِّزَةً عَنْ غَيْرِهَا. فَلْيَتَدَبَّرْ الْعَاقِلُ هَذَا الْمَقَامَ الْفَارِقَ فَإِنَّهُ زَلَّ فِيهِ خَلْقٌ مِنْ أُولِي النَّظَرِ الْخَائِضِينَ
فِي الْحَقَائِقِ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْعَامَّةَ الْمُطْلَقَةَ الْكُلِّيَّةَ تَكُونُ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ كَذَلِكَ؛ وَظَنُّوا أَنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ اللَّهَ عز وجل مَوْجُودٌ حَيٌّ عَلِيمٌ وَالْعَبْدَ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَلِيمٌ؛ أَنَّهُ يَلْزَمُ وُجُودُ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الرَّبُّ وَالْعَبْدُ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَوْجُودُ بِعَيْنِهِ فِي الْعَبْدِ وَالرَّبِّ بَلْ وَفِي كُلِّ مَوْجُودٍ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِلرَّبِّ مَا يُمَيِّزُهُ عَنْ الْمَخْلُوقِ فَيَكُونُ فِيهِ جُزْءَانِ:
أَحَدُهُمَا: لِكُلِّ مَخْلُوقٍ وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ.
وَالثَّانِي: يَخْتَصُّ بِهِ وَهُوَ الْمُمَيِّزُ لَهُ عَنْ سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ ثُمَّ لَا يَذْكُرُونَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ إلَّا مَا يَلْزَمُ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ.
فَإِذَا قَالُوا: يَمْتَازُ بِذَاتِهِ أَوْ بِحَقِيقَتِهِ أَوْ مَاهِيَّتِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ؛ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ يَمْتَازُ بِوُجُودِهِ؛ فَإِنَّ الذَّاتَ وَالْحَقِيقَةَ وَالْمَاهِيَّةَ تُسْتَعْمَلُ مُطْلَقًا وَمُعَيَّنًا كَلَفْظِ الْوُجُودِ سَوَاءً. وَهَذَا الْمَقَامُ حَارَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ أَئِمَّةِ النُّظَّارِ حَتَّى قَالَ طَائِفَةٌ: إنَّ لَفْظَ الْوُجُودِ وَغَيْرَهُ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَقَطْ وَحَكَوْا ذَلِكَ عَنْ كُلِّ مَنْ قَالَ بِنَفْيِ الْأَحْوَالِ - وَهُمْ عَامَّةُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ - فَصَارَ مَضْمُونُ نَقْلِهِمْ أَنَّ مَذْهَبَ عَامَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَمُتَكَلِّمَةِ الْإِثْبَاتِ - كَابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ كَرَّامٍ وَغَيْرِهِمْ بَلْ وَمُحَقِّقِي الْمُعْتَزِلَةِ: كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ - أَنَّ لَفْظَ الْمَوْجُودِ وَغَيْرِهِ - مِمَّا يُسَمَّى اللَّهُ بِهِ وَيُسَمَّى بِهِ الْمَخْلُوقُ - إنَّمَا يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ مَعْنًى عَامٌّ: كَلَفْظِ الْمُشْتَرِي إذَا سُمِّيَ بِهِ الْمُبْتَاعُ وَالْكَوْكَبُ وَلَفْظِ سُهَيْلٍ الْمَقُولِ عَلَى الْكَوْكَبِ وَالرَّجُلِ
وَهَذَا النَّقْلُ غَلَطٌ عَظِيمٌ عَمَّنْ نَقَلُوهُ عَنْهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ عَامَّةٌ مُتَوَاطِئَةٌ - كَالتَّوَاطُؤِ الْعَامِّ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْمُشَكِّكُ - تَقْبَلُ التَّقْسِيمَ وَالتَّنْوِيعَ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ كَمَا نَقُولُ: الْمَوْجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَوَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ. بَلْ هَؤُلَاءِ النَّاقِلُونَ بِأَعْيَانِهِمْ: كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَجْمَعُونَ فِي كَلَامِهِمْ بَيْنَ دَعْوَى الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَقَطْ وَبَيْنَ هَذَا التَّقْسِيمِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ؛ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ التَّقْسِيمَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ الْمُشْتَرَكَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى لَا يَكُونُ فِي الْمُشْتَرَكِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا. وَمِنْ جُمْلَتِهَا الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمُشَكِّكَةَ لَا يَكُونُ التَّقْسِيمُ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَيْسَ بَيْنَهَا مَعْنًى مُشْتَرَكٌ عَامٌّ. فَهَذَا تَنَاقُضُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَشْهَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ - بِالنَّظَرِ وَالتَّحْقِيقِ لِلْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ قَدْ ضَلُّوا فِي هَذَا النَّقْلِ - وَهَذَا الْبَحْثُ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَصْلِ ضَلَالٌ لَا يَقَعُ فِيهِ أَضْعَفُ الْعَوَامِّ - وَذَلِكَ لِمَا تَلَقَّوْهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي هِيَ عَنْ الْهُدَى وَالرُّشْدِ حَائِدَةٌ؛ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ الْمُطْلَقَةَ ثَابِتَةٌ فِي الْخَارِجِ جُزْءًا مِنْ الْمُعَيَّنَاتِ؛ وَأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَرْكِيبَ الْمُعَيَّنِ مِنْ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ الْمُشْتَرَكِ وَمِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ؛ فَلَزِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى الْوَاجِبُ الْوُجُودِ مُرَكَّبًا مِنْ الْوُجُودِ الْمُشْتَرَكِ وَمِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْوُجُوبِ أَوْ الْوُجُودِ أَوْ الْمَاهِيَّةِ. مَعَ أَنَّهُ مِنْ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ إنَّمَا تَكُونُ كُلِّيَّاتٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ.
وَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ لَا تَشْتَرِكُ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ فِيهَا أَصْلًا؛ بَلْ كُلُّ مَوْجُودٍ مُتَمَيِّزٌ بِنَفْسِهِ وَبِمَا لَهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَأَنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ حَيٌّ مُتَكَلِّمٌ أَوْ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ مَا لَهُ مِنْ الْحَيَوَانِيَّةِ أَوْ الناطقية أَوْ النُّطْقِ وَالْحَيَاةِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بَلْ لَهُ مَا يَخُصُّهُ وَلِغَيْرِهِ مَا يَخُصُّهُ وَلَكِنْ تَشَابَهَا وَتَمَاثَلَا بِحَسَبِ تَشَابُهِ حيوانيتهما وَنُطْقِيَّتِهِمَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِمَا. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِمَّا بِهِ الِاشْتِرَاكُ: وَهُوَ الْحَيَوَانِيَّةُ وَمَا بِهِ مِنْ الِامْتِيَازِ: وَهُوَ النُّطْقُ؛ فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا تَرْكِيبٌ ذِهْنِيٌّ - فَإِنَّا إذَا تَصَوَّرْنَا فِي أَذْهَانِنَا حَيَوَانًا نَاطِقًا؛ كَانَ الْحَيَوَانُ جُزْءَ هَذَا الْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ وَالنُّطْقُ جُزْأَهُ الْآخَرَ وَكَانَ الْحَيَوَانُ جُزْءًا لَهُ أَشْبَاهٌ أَكْثَرُ مِنْ أَشْبَاهِ النَّاطِقِ. وَإِذَا تَصَوَّرْنَا مُسَمَّى حَيَوَانٍ وَمُسَمَّى نَاطِقٍ؛ كَانَ مُسَمَّى الْحَيَوَانِ يَعُمُّ الْإِنْسَانَ وَغَيْرَهُ وَكَانَ مُسَمَّى النَّاطِقِ يَخُصُّهُ - فَدَعْوَى التَّرْكِيبِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ صَحِيحٌ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا ضَابِطًا. بَلْ هُوَ بِحَسَبِ مَا يَتَصَوَّرُهُ الْإِنْسَانُ سَوَاءٌ كَانَ تَصَوُّرُهُ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا. وَمَتَى أُرِيدَ بِجُزْءِ الْمَاهِيَّةِ الدَّاخِلِ فِيهَا مَا يَدْخُلُ فِي هَذَا التَّصَوُّرِ وَبِجُزْئِهَا الْخَارِجِ عَنْهَا اللَّازِمِ لِوُجُودِهَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظُ بِالتَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ وَأَرَادَ بِتَمَامِ الْمَاهِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا بِالْمُطَابَقَةِ؛ فَهَذَا صَحِيحٌ لَكِنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ
تَكُونَ الْحَقَائِقُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ مُرَكَّبَةً مِنْ الصِّفَاتِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَلَا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ صِفَاتِهَا اللَّازِمَةِ دَاخِلَةً فِي الْحَقِيقَةِ ذَاتِيًّا لَهَا وَبَعْضُهَا خَارِجًا عَنْ الْحَقِيقَةِ عَارِضًا لَهَا؛ كَمَا يَزْعُمُهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا ضَلُّوا فِيهِ وَضَلَّ بِسَبَبِ ضَلَالِهِمْ فِيهِ الطَّوَائِفُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ النُّظَّارِ وَقَلَّدَهُمْ فِي ذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ وَلَوَازِمَهُ وَلَمْ يَتَصَوَّرْهُ تَصَوُّرًا تَامًّا. وَإِنْ أَرَادُوا بِالتَّرْكِيبِ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْحَيَاةِ وَالنُّطْقِ - وَإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ يُوجَدُ نَظِيرُهَا فِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالْأُخْرَى مُخْتَصَّةٌ بِالْإِنْسَانِ - فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ. وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ حَيَوَانِيَّتَهُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَقَدْ غَلِطُوا فَإِنَّ حَيَوَانِيَّةَ كُلِّ حَيَوَانٍ كناطقية كُلِّ نَاطِقٍ وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِمَحَلِّهِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادُوا بِالتَّرْكِيبِ أَنَّ هُنَا مَوْجُودًا مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ غَيْرُ الْمَوْجُودِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ نَاطِقٌ وَصَاهِلٌ وَأَنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذَا الْمَوْجُودِ وَهَذَا الْمَوْجُودُ وَالْفَرَسُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذَا الْمَوْجُودِ وَهَذَا الْمَوْجُودِ؛ فَقَدْ غَلِطُوا بَلْ لَا مَوْجُودَ إلَّا هَذَا الْإِنْسَانُ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ وَهَذَا الْفَرَسُ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ صَاهِلٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ وَالْمَوْجُودَاتِ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: الْإِنْسَانُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا إذَا أُرِيدَ بِهِ أَنَّ هُنَا شَيْئًا
مُرَكَّبًا وَأَنَّ لَهُ جُزْأَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا؛ كَانَ جَاهِلًا بَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مَوْصُوفٌ بِصِفَتَيْنِ لَا يُوجَدُ إلَّا بِصِفَتَيْهِ وَلَا تُوجَدُ صِفَتَاهُ إلَّا بِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ: وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ وَأَنَّهُ نَاطِقٌ حَقِيقَةً وَأَنَّهُ ذَاتٌ مُسْتَلْزِمَةٌ لِصِفَاتِهَا لَا يُوجَدُ الْمَوْصُوفُ بِدُونِ صِفَتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ. لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي الْخَارِجِ تَرْكِيبًا، وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ صِفَةٌ لَازِمَةٌ ذَاتِيَّةٌ وَأُخْرَى عَرَضِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِلْمَاهِيَّةِ وَأُخْرَى لَازِمَةٌ لِوُجُودِهِ بَلْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا الْمَوْجُودُ الْمُعَيَّنُ وَصِفَاتُهُ تَنْقَسِمُ إلَى: لَازِمَةٍ لَهُ وَعَارِضَةٍ وَهُوَ لَا يُوجَدُ بِدُونِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ؛ فَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ لَازِمٌ لِلذَّاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ وَلَكِنْ لَيْسَ بِلَازِمِ لَهَا بَلْ لَازِمٌ لِلْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ؛ كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ مَنْ يَظُنُّهُ مِنْ الْمَنْطِقِيِّينَ. وَأَصْلُ خَطَئِهِمْ أَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَذْهَانِ بِمَا يُوجَدُ فِي الْأَعْيَانِ فَإِنَّ الذِّهْنَ يَتَصَوَّرُ الْمُثَلَّثَ قَبْلَ وُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ وَظَنُّوا أَنَّ الْمَاهِيَّةَ مُغَايِرَةٌ لِلْوُجُودِ وَهُوَ صَحِيحٌ إذَا فُسِّرَتْ الْمَاهِيَّةُ بِمَا يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ. وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْخَارِجِ مُثَلَّثٌ: لَهُ مَاهِيَّةٌ ثَابِتَةٌ فِي الْخَارِجِ غَيْرُ الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ؛ فَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ. فَإِذَا فُهِمَ هَذَا فِي صِفَةِ الْمَخْلُوقِ؛ فَالْخَالِقُ أَبْعَدُ عَمَّا سَمَّاهُ هَؤُلَاءِ تَرْكِيبًا.
فَإِذَا قِيلَ: إنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ؛ فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ الْحَيُّ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ. وَإِذَا قِيلَ: هُوَ مَوْجُودٌ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالْوُجُودِ وَالْوُجُوبِ فَلَا مُشَارَكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ وَلَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ جُزْأَيْنِ؛ وَلَا صِفَاتٍ مُقَوَّمَةٍ تَكُونُ أَجْزَاءً لِوُجُودِهِ وَلَا نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُدَّعَى مِنْ التَّرْكِيبِ الَّذِي هُوَ مُمْتَنِعٌ فِي الْمَخْلُوقِ؛ فَهُوَ فِي الْخَالِقِ أَشَدُّ امْتِنَاعًا. وَلَكِنَّ لَفْظَ التَّرْكِيبِ مُجْمَلٌ يَدْخُلُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ فِيهِ اتِّصَافُ الْمَوْصُوفِ بِصِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمَعْقُولَ مِنْ لَفْظِ التَّرْكِيبِ وَهَؤُلَاءِ أَحْدَثُوا اصْطِلَاحًا لَهُمْ فِي لَفْظِ التَّرْكِيبِ لَمْ يَسْبِقْهُمْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ؛ وَلَا مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَجَعَلُوا لَفْظَ التَّرْكِيبِ يَتَنَاوَلُ " خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ ":
أَحَدُهَا: التَّرْكِيبُ مِنْ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ؛ لِظَنِّهِمْ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ مُمْكِنٍ فِي الْخَارِجِ غَيْرُ مَاهِيَّتِهِ وَمَتَى أُرِيدَ بِجُزْءِ الْمَاهِيَّةِ الدَّاخِلُ فِيهَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْمُتَصَوَّرِ ويلازمها الْخَارِجُ عَنْهَا مَا يَلْزَمُ هَذَا التَّصَوُّرَ. وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ هُمَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ.
وَالثَّانِي: التَّرْكِيبُ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ كَقَوْلِهِمْ: إنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْحَيَوَانِيَّةِ والناطقية وَقَدْ يَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ التَّرْكِيبَ مِنْ الْمَعْنَى الْعَامِّ وَالْخَاصِّ؛ يُسَمَّى تَرْكِيبًا مِنْ جِنْسٍ وَفَصْلٍ أَوْ مِنْ خَاصَّةٍ وَعَرَضٍ عَامٍّ.
الثَّالِثُ: التَّرْكِيبُ مِنْ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ كَمُسَمَّى الْحَيِّ الْعَالِمِ الْقَادِرِ
وَتَرْكِيبِ الْجِسْمِ مِنْ أَجْزَائِهِ الْحِسِّيَّةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ (1)، أَوْ تَرْكِيبُهُ مَنْ الْجُزْأَيْنِ الْعَقْلِيَّيْنِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ. وَأَمَّا التَّرْكِيبُ " الْأَوَّلُ " وَ " الثَّانِي " فَنَازَعَهُمْ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ فِي ثُبُوتِهِمَا فِي الْخَارِجِ وَيَقُولُونَ: لَيْسَ فِي الْخَارِجِ تَرْكِيبٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَالتَّرْكِيبُ " الرَّابِعُ " وَ " الْخَامِسُ ": فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ فِي الْجِسْمِ أَحَدَ التَّرْكِيبَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَيْسَ مُرَكَّبًا لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا. وَأَمَّا " الرَّابِعُ " فَيُوَافِقُهُمْ عَلَى ثُبُوتِهِ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مَا أَعْلَمُ مَنْ يُنَازِعُهُمْ فِيهِ نِزَاعًا مَعْنَوِيًّا (*)؛ لَكِنْ حُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ؛ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كيسان الْأَصَمِّ وَغَيْرِهِ؛ أَنَّهُمْ نَفَوْا الْأَعْرَاضَ وَلَمْ يُثْبِتُوا الْأَعْرَاضَ زَائِدَةً عَلَى الْجِسْمِ وَنَفَوْا كَوْنَ الْحَرَكَةِ زَائِدَةً عَلَى الْجِسْمِ. وَخَالَفَهُمْ الْأَكْثَرُونَ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَهُوَ أَنَّ مُسَمَّى الْجِسْمِ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْجِسْمَ بِأَعْرَاضِهِ أَمْ تَكُونُ الْأَعْرَاضُ زَائِدَةً عَلَى مُسَمَّى الْجِسْمِ؟ وَإِلَّا فَعَاقِلٌ لَا يُنْكِرُ وُجُودَ الطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ وَالْحَرَكَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمَوْصُوفَاتِ.
(1)
بالأصل كلمة لم تتضح
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 51):
وأنبه هنا إلى أمرين:
الأول: أن (النوع الرابع) من أنواع التركيب هو: تركيب الجسم من أجزائه الحسية عند من يقول إنه مركب بالجواهر المفردة.
و (النوع الخامس) هو: تركيبه من الجزأين العقليين عند من يقول إنه مركب من المادة والصورة.
وهما مذكوران فيما سبق، إلا أنهما بم يتميزا، وقد ذكر الشيخ رحمه الله هذه الأنواع في مواضع من كتبه ورسائله، منها قوله في (الصفدية) 1/ 105 (الرابع: التركيب في الكم وهو تركيب الجسم من أبعاضه: إما من الجواهر المفردة وهو التركيب الحسي، وإما من المادة والصورة وهو التركيب العقلي، وهذان النوعان هما الرابع والخامس).
الثاني: أن قوله (وأما (الرابع) فيوافقهم على ثبوته جماهير العلماء. . .) لعله وهم من الناسخ، والصواب (الثالث) وهو التركيب من (الذات) و (الصفات)، وهو الذي عليه الكلام الذي بعده.
وقد تكرر هذا في الصفحة التي بعدها ص 338 حيث قال (وأما النوع الرابع: فمن نازع في أن الصفات هل هي زائدة على الذات أم لا؟ فهذا نزاع لفظي. . .)، والمراد (النوع الثالث) لا (الرابع).
وَهَذَا يُشْبِهُ نِزَاعَ النَّاسِ فِي أَنَّ الصِّفَاتِ هَلْ هِيَ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ أَمْ لَا؟ فَمَنْ أَرَادَ بِالذَّاتِ " الذَّاتَ الْمُجَرَّدَةَ " فَالصِّفَاتُ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا وَمَنْ أَرَادَ بِالذَّاتِ " الذَّاتَ الْمَوْصُوفَةَ " فَلَيْسَتْ الصِّفَاتُ مُبَايِنَةً لِلذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتِهَا اللَّازِمَةِ لَهَا. ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَنْفُونَ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ؛ فَأَمَّا " الْأَنْوَاعُ الْأَرْبَعَةُ " فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا مُنْتَفِيَةٌ عَنْ الْمَخْلُوقِ فَهِيَ عَنْ الْخَالِقِ أَشَدُّ انْتِفَاءً؛ وَأَمَّا " النَّوْعُ الرَّابِعُ ": فَمَنْ نَازَعَ فِي أَنَّ الصِّفَاتِ هَلْ هِيَ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ أَمْ لَا؟ فَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَمَنْ نَازَعَ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَنَفَى أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَمَشِيئَةٌ وَجَعَلَ هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ الْأُخْرَى وَالصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفُ: فَهَذَا قَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بَعْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ. وَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَمَعْنَى كَوْنِهِ حَيًّا لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِهِ عَلِيمًا وَمَعْنَى كَوْنِهِ عَلِيمًا لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِهِ قَدِيرًا؛ فَهَذَا هُوَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ. فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ؛ إنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ عَلِيمًا هُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ مُرِيدًا قَدِيرًا حَيًّا؛ فَهَذَا مُكَابَرَةٌ. وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ هِيَ مَعْنَى الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِهَا. وَإِنْ اعْتَرَفَ بِثُبُوتِ هَذِهِ الْمَعَانِي لِلَّهِ وَقَالَ: أَنَا أَنْفِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُفْتَقِرًا إلَى ذَوَاتٍ أَوْ مَعَانٍ بِهَا يَصِيرُ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا: فَهَذَا مُنَاظَرَةٌ مِنْهُ لِمُثْبِتَةِ الْأَحْوَالِ
كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّ لَهُ عِلْمًا وعالمية؛ وعالميته مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى عِلْمِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ: قَوْلُ بَعْضِ الصفاتية؛ وَجُمْهُورُهُمْ يُنْكِرُونَ هَذَا. وَيَقُولُونَ: بَلْ مَعْنَى الْعِلْمِ هُوَ مَعْنَى الْعَالِمِ.
وَفِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ " ثَلَاثَةُ أُمُورٍ ":
أَحَدُهَا: الْخَبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ؛ فَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى إثْبَاتِهِ وَهَذَا يُسَمَّى الْحُكْمَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ مَعَانٍ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَهَذَا أَيْضًا أَثْبَتَهُ مُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَالْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ عَامَّةِ الطَّوَائِفِ.
وَالثَّالِثُ: الْأَحْوَالُ. وَهُوَ العالمية وَالْقَادِرِيَّةُ وَهَذِهِ قَدْ تَنَازَعَ فِيهَا مُثْبِتُو الصِّفَاتِ وَنُفَاتُهَا؛ فَأَبُو هَاشِمٍ وَأَتْبَاعُهُ يُثْبِتُونَ الْأَحْوَالَ دُونَ الصِّفَاتِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَأَتْبَاعُهُ يُثْبِتُونَ الْأَحْوَالَ وَالصِّفَاتِ وَأَكْثَرُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ يَنْفُونَ الْأَحْوَالَ وَالصِّفَاتِ.
وَأَمَّا جَمَاهِيرُ " أَهْلِ السُّنَّةِ " فَيُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ دُونَ الْأَحْوَالِ وَهَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْكَلَامُ عَلَى التَّرْكِيبِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَبَيَانُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ فِيهِ اصْطِلَاحٌ مُخَالِفٌ لِجُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ وَأَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى الْإِقْرَارِ بِثُبُوتِ مَا نَفَوْهُ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: هَذَا اشْتِرَاكٌ وَالِاشْتِرَاكُ تَشْبِيهٌ وَيَقُولُونَ: هَذِهِ أَجْزَاءٌ وَهَذَا تَرْكِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ ثُمَّ إنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْيِ هَذَا الَّذِي سَمَّوْهُ اشْتِرَاكًا وَتَشْبِيهًا وَلَا عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي سَمَّوْهَا أَجْزَاءً وَتَرْكِيبًا وَتَقْسِيمًا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ عَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَعَقْلٌ وَلَذِيذٌ وَلَذَّةٌ وَمُلْتَذٌّ وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وَعِشْقٌ. وَقَدْ يَقُولُونَ: هُوَ عَالِمٌ قَادِرٌ مُرِيدٌ ثُمَّ يَقُولُونَ: الْعِلْمُ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقُدْرَةُ هِيَ الْإِرَادَةُ؛ فَيَجْعَلُونَ كُلَّ صِفَةٍ هِيَ الْأُخْرَى. وَيَقُولُونَ: الْعِلْمُ هُوَ الْعَالَمُ - وَقَدْ يَقُولُونَ: هُوَ الْمَعْلُومُ - فَيَجْعَلُونَ الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفَ أَوْ هِيَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَهَذِهِ أَقْوَالُ رُؤَسَائِهِمْ وَهِيَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ فِي صَرِيحِ الْمَعْقُولِ؛ فَهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى الْإِقْرَارِ بِمَا يُسَمُّونَهُ تَشْبِيهًا وَتَرْكِيبًا وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ التَّشْبِيهَ وَالتَّرْكِيبَ وَالتَّقْسِيمَ؛ فَلْيَتَأَمَّلْ اللَّبِيبُ كَذِبَهُمْ وَتَنَاقُضَهُمْ وَحَيْرَتَهُمْ وَضَلَالَهُمْ؛ وَلِهَذَا يَئُولُ بِهِمْ الْأَمْرُ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ أَوْ الْخُلُوِّ عَنْ النَّقِيضَيْنِ. ثُمَّ إنَّهُمْ يَنْفُونَ عَنْ اللَّهِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم لِزَعْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ وَتَرْكِيبٌ. وَيَصِفُونَ أَهْلَ الْإِثْبَاتِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَهُمْ الَّذِينَ أَلْزَمُوهَا بِمُقْتَضَى أُصُولِهِمْ وَلَا حِيلَةَ لَهُمْ فِي دَفْعِهَا. فَهُمْ: كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ
وَهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا هَذَا التَّنَاقُضَ؛ وَلَكِنْ أَوْقَعَتْهُمْ فِيهِ قَوَاعِدُهُمْ الْفَاسِدَةُ الْمَنْطِقِيَّةُ الَّتِي زَعَمُوا فِيهَا تَرْكِيبَ الْمَوْصُوفَاتِ مِنْ صِفَاتِهَا وَوُجُودِ الْكُلِّيَّاتِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي أَعْيَانِهَا. فَتِلْكَ الْقَوَاعِدُ الْمَنْطِقِيَّةُ الْفَاسِدَةُ الَّتِي جَعَلُوهَا قَوَانِينَ تَمْنَعُ مُرَاعَاتُهَا الذِّهْنَ أَنْ يَضِلَّ فِي فِكْرِهِ أَوْقَعَتْهُمْ فِي هَذَا الضَّلَالِ وَالتَّنَاقُضِ. ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْقَوَانِينَ فِيهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ؛ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَنَاقُضِهِمْ وَجَهْلِهِمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَرَّرُوا فِي الْقَوَانِينِ الْمَنْطِقِيَّةِ: أَنَّ الْكُلِّيَّ هُوَ الَّذِي لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ؛ بِخِلَافِ الْجُزْئِيِّ. وَقَرَّرُوا أَيْضًا أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ لَا تَكُونُ كُلِّيَّةً إلَّا فِي الْأَذْهَانِ: دُونَ الْأَعْيَانِ. وَأَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ وَهَذِهِ قَوَانِينُ صَحِيحَةٌ. ثُمَّ يَدَّعُونَ مَا ادَّعَاهُ أَفْضَلُ مُتَأَخِّرِيهِمْ أَنَّ الْوَاجِبَ الْوُجُودِ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ. أَوْ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: إنَّهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ وَسَلْبِيٍّ؛ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّشَيُّعِ وَالْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّصَوُّفِ. أَوْ يَقُولُهُ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ: إنَّهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ كَمَا تَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ. وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ عَنْ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ وَالْعَدَمِيَّةِ
لَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ مَوْجُودًا.
فَالْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ؛ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَوْجُودًا. فَإِنَّ الْمُقَيَّدَ بِسَلْبِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ نِسْبَتُهُ إلَيْهِمَا سَوَاءٌ وَالْمُقَيَّدَ بِسَلْبِ الْوُجُودِ يَخْتَصُّ بِالْعَدَمِ دُونَ الْوُجُودِ وَالْمُطْلَقَ لَا بِشَرْطِ إنَّمَا يُوجَدُ مُطْلَقًا فِي الْأَذْهَانِ. وَإِذَا قِيلَ: هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ؛ فَذَلِكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مُقَيَّدًا لَا أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مُطْلَقًا فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ؛ وَإِنْ كَانَتْ طَائِفَةٌ تَدَّعِيهِ. فَمَنْ تَصَوَّرَ هَذَا تَصَوُّرًا تَامًّا؛ عَلِمَ بُطْلَانَ قَوْلِهِمْ وَهَذَا حَقٌّ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. فَهَذَا الْقَانُونُ الصَّحِيحُ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ فِي إثْبَاتِ وُجُودِ الرَّبِّ؛ بَلْ جَعَلُوهُ مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ عَنْ النَّقِيضَيْنِ أَوْ عَنْ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ. أَوْ لَا بِشَرْطِ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْأَذْهَانِ. وَالْقَوَانِينُ الْفَاسِدَةُ أَوْقَعَتْهُمْ فِي ذَلِكَ التَّنَاقُضِ وَالْهَذَيَانِ وَهُمْ يَفِرُّونَ مِنْ التَّشْبِيهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ؛ ثُمَّ يَقُولُونَ: الْوُجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى: وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ فَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ وَالذَّاتِ. وَمَهْمَا قِيلَ: هُوَ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ. وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَقْسَامِ فَقَدْ اشْتَرَكَتْ الْأَقْسَامُ فِي الْمَعْنَى الْعَامِّ الْكُلِّيِّ الشَّامِلِ لِمَا تَشَابَهَتْ فِيهِ فَهَذَا تَشْبِيهٌ يَقُولُونَ بِهِ وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ كُلَّ مَا يُسَمَّى تَشْبِيهًا حَتَّى نَفَوْا الْأَسْمَاءَ فَكَانَ الْغُلَاةُ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْبَاطِنِيَّةِ لَا يُسَمُّونَهُ شَيْئًا فِرَارًا مِنْ ذَلِكَ.
وَأَيُّ شَيْءٍ أَثْبَتُوهُ؛ لَزِمَهُمْ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ وُجُودُ وَاجِبِ الْوُجُودِ مُمْكِنًا وَقَدِيمًا وَمُحْدَثًا وَأَنَّ الْمُحْدَثَ وَالْمُمْكِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْوُجُودَ فِيهِ مُحْدَثٌ مُمْكِنٌ وَأَنَّ الْمُحْدَثَ الْمُمْكِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ؛ فَثُبُوتُ النَّوْعَيْنِ ضَرُورِيٌّ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ لَفْظَ الْمُطْلَقِ قَدْ يُعْنَى بِهِ مَا هُوَ كُلِّيٌّ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُ مَعْنَاهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ. وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ قَائِمًا بِنَفْسِهِ أَوْ صِفَةً لِغَيْرِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ كَذَلِكَ. وَقَدْ يُرَادُ بِالْمُطْلَقِ: الْمُجَرَّدُ عَنْ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ أَوْ عَنْ الثُّبُوتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ جَمِيعًا؛ وَالْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ. وَهَذَا إذَا قُدِّرَ جُعِلَ مُعَيَّنًا خَاصًّا لَا كُلِّيًّا فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ أَعْظَمُ مِنْ امْتِنَاعِ الْكُلِّيَّاتِ الْمُطْلَقَةِ بِشَرْطِ لِكَوْنِهَا كُلِّيَّةً. فَإِنَّ تِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ لَهَا جُزْئِيَّاتٌ مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ وَالْكُلِّيَّاتُ مُطَابِقَةٌ لَهَا. وَأَمَّا وُجُودُ شَيْءٍ مُجَرَّدٍ عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ وَسَلْبِيَّةٍ؛ فَهَذَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ فِي الْخَارِجِ كُلِّيًّا وَجُزْئِيًّا. وَكَذَلِكَ الْمُجَرَّدُ عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ بَلْ هَذَا أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا قَدْ شَارَكَ سَائِرَ الْمَوْجُودَاتِ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَلَمْ يُمَيَّزْ عَنْهَا إلَّا بِالْقُيُودِ السَّلْبِيَّةِ وَهِيَ قَدْ امْتَازَتْ عَنْهُ بِالْقُيُودِ الْوُجُودِيَّةِ؛
كَانَ كُلُّ مُمْكِنٍ فِي الْوُجُودِ أَكْمَلَ مِنْ هَذَا الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ فَإِنَّ الْوُجُودَ الْكُلِّيَّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَلَمْ يُمَيَّزْ عَنْهَا إلَّا بِعَدَمِ وَامْتَازَتْ عَنْهُ بِوُجُودِ فَكَانَ مَا امْتَازَتْ بِهِ عَنْهُ أَكْمَلَ مِمَّا امْتَازَ بِهِ هُوَ عَنْهَا إذْ الْوُجُودُ أَكْمَلُ مِنْ الْعَدَمِ. وَأَمَّا إذَا قِيلَ: هُوَ الْوُجُودُ لَا بِشَرْطِ. فَهَذَا هُوَ الْوُجُودُ الْكُلِّيُّ وَالطَّبِيعِيُّ الْمُطَابِقُ لِكُلِّ مَوْجُودٍ وَهَذَا لَا يَكُونُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ. وَأَمَّا فِي الْخَارِجِ؛ فَلَا يُوجَدُ إلَّا مُعَيَّنًا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا الْكُلِّيَّ جُزْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنَاتِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابَ؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ مَعْدُومًا فِي الْخَارِجِ أَوْ أَنْ يَكُونَ عَيْنُ الْوَاجِبِ عَيْنَ الْمُمْكِنِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابَ؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ جُزْءًا مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ؛ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ جُزْءًا مِنْ وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ جُزْءَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ هُوَ الْخَالِقَ لَهُ كُلِّهِ بَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِنَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِمَا هُوَ بَعْضُهُ إذْ الْكُلُّ أَعْظَمُ مِنْ الْجُزْءِ فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِلْجُزْءِ؛ فَامْتِنَاعُ كَوْنِهِ خَالِقًا لِلْكُلِّ أَظْهَرُ وَأَظْهَرُ. فَصَحِيحُ الْمَنْطِقِ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَبَاطِلُ الْمَنْطِقِ أَوْقَعَهُمْ فِي غَايَةِ الْكَذِبِ وَالْجَهْلِ بِاَللَّهِ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} وَ {اللَّهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ} . وَهُوَ الْقَائِلُ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} وَهُوَ الْقَائِلُ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: {اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ؛ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
فَصْلٌ:
وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّك تَعْلَمُ أَنَّا لَا نَعْلَمُ مَا غَابَ عَنَّا إلَّا بِمَعْرِفَةِ مَا شَهِدْنَاهُ فَنَحْنُ نَعْرِفُ أَشْيَاءَ بِحِسِّنَا الظَّاهِرِ أَوْ الْبَاطِنِ وَتِلْكَ مَعْرِفَةٌ مُعَيَّنَةٌ مَخْصُوصَةٌ ثُمَّ إنَّا بِعُقُولِنَا نَعْتَبِرُ الْغَائِبَ بِالشَّاهِدِ فَيَبْقَى فِي أَذْهَانِنَا قَضَايَا عَامَّةٌ كُلِّيَّةٌ ثُمَّ إذَا خُوطِبْنَا بِوَصْفِ مَا غَابَ عَنَّا لَمْ نَفْهَمْ مَا قِيلَ لَنَا إلَّا بِمَعْرِفَةِ الْمَشْهُودِ لَنَا. فَلَوْلَا أَنَّا نَشْهَدُ مِنْ أَنْفُسِنَا جُوعًا وَعَطَشًا وَشِبَعًا وَرِيًّا وَحُبًّا وَبُغْضًا وَلَذَّةً وَأَلَمًا وَرِضًى وَسُخْطًا لَمْ نَعْرِفْ حَقِيقَةَ مَا نُخَاطَبُ بِهِ إذَا وُصِفَ لَنَا ذَلِكَ وَأُخْبِرْنَا بِهِ عَنْ غَيْرِنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ نَعْلَمْ مَا فِي الشَّاهِدِ: حَيَاةً وَقُدْرَةً وَعِلْمًا وَكَلَامًا لَمْ نَفْهَمْ مَا نُخَاطَبُ بِهِ إذَا وُصِفَ الْغَائِبُ عَنَّا بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ نَشْهَدْ مَوْجُودًا لَمْ نَعْرِفْ وُجُودَ الْغَائِبِ عَنَّا فَلَا بُدَّ فِيمَا شَهِدْنَاهُ وَمَا غَابَ عَنَّا مِنْ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ هُوَ مُسَمَّى اللَّفْظِ الْمُتَوَاطِئِ. فَبِهَذِهِ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُشَارَكَةِ وَالْمُشَابَهَةِ وَالْمُوَاطَأَةِ نَفْهَمُ الْغَائِبَ وَنُثْبِتُهُ وَهَذَا خَاصَّةُ الْعَقْلِ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ نَعْلَمْ إلَّا مَا نُحِسُّهُ وَلَمْ نَعْلَمْ أُمُورًا عَامَّةً وَلَا أُمُورًا غَائِبَةً عَنْ إحْسَاسِنَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَلِهَذَا مَنْ لَمْ يُحِسَّ الشَّيْءَ وَلَا نَظِيرَهُ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ.
ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا بِمَا وَعَدَنَا بِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَة مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ وَأَخْبَرَنَا بِمَا يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ وَيُنْكَحُ وَيُفْرَشُ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَلَوْلَا مَعْرِفَتُنَا بِمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا؛ لَمْ نَفْهَمْ مَا وَعَدَنَا بِهِ؛ وَنَحْنُ نَعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْحَقَائِقَ لَيْسَتْ مِثْلَ هَذِهِ؛ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ وَهَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ. فَبَيْنَ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ فِي الدُّنْيَا وَتِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْآخِرَةِ مُشَابَهَةٌ وَمُوَافَقَةٌ وَاشْتِرَاكٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَبِهِ فَهِمْنَا الْمُرَادَ وَأَحْبَبْنَاهُ وَرَغِبْنَا فِيهِ أَوْ أَبْغَضْنَاهُ وَنَفَرْنَا عَنْهُ وَبَيْنَهُمَا مُبَايَنَةٌ وَمُفَاضَلَةٌ لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهَا فِي الدُّنْيَا. وَهَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ بَلْ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: " إنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ " حَقًّا وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: " إنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ " حَقًّا. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَأْثُورٌ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ. فَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَهُ وَمَعْنَاهُ وَإِلَّا فَهَلْ يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَقُولَ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يَعْرِفُ مَعْنَى مَا يَقُولُهُ وَيُبَلِّغُهُ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ بَلْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِأَلْفَاظِ لَهَا مَعَانٍ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَهَا وَمَنْ قَالَ: إنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ تَأْوِيلَهُ؛ أَرَادُوا بِهِ الْكَيْفِيَّةَ الثَّابِتَةَ الَّتِي اُخْتُصَّ
اللَّهُ بِعِلْمِهَا: وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ: كَرَبِيعَةَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا يَقُولُونَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ. وَهَذَا قَوْلُ سَائِرِ السَّلَفِ كَابْنِ الماجشون وَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ. وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ. فَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ مَعْلُومٌ وَهُوَ التَّأْوِيلُ وَالتَّفْسِيرُ الَّذِي يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ وَالْكَيْفِيَّةُ هِيَ التَّأْوِيلُ الْمَجْهُولُ لِبَنِي آدَمَ وَغَيْرِهِمْ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ سبحانه وتعالى. وَكَذَلِكَ مَا وَعَدَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ تَعْلَمُ الْعِبَادُ تَفْسِيرَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ} ".
فَمَا أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ: نَعْلَمُ تَفْسِيرَهُ وَمَعْنَاهُ وَنَفْهَمُ الْكَلَامَ الَّذِي خُوطِبْنَا بِهِ وَنَعْلَمُ مَعْنَى الْعَسَلِ وَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَالْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنُفَرِّقُ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَأَمَّا حَقَائِقُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْلَمَهَا نَحْنُ وَلَا نَعْلَمَ مَتَى تَكُونُ السَّاعَةُ. وَتَفْصِيلُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ عز وجل لِعِبَادِهِ لَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. بَلْ هَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تبارك وتعالى. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي هَذَيْنِ الْمَخْلُوقَيْنِ فَالْأَمْرُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ أَعْظَمُ؛
فَإِنَّ مُبَايَنَةَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ وَعَظَمَتَهُ وَكِبْرِيَاءَهُ وَفَضْلَهُ: أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِمَّا بَيْنَ مَخْلُوقٍ وَمَخْلُوقٍ. فَإِذَا كَانَتْ صِفَاتُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ مَعَ مُشَابَهَتِهَا لِصِفَاتِ هَذَا الْمَخْلُوقِ: بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاضُلِ وَالتَّبَايُنِ مَا لَا نَعْلَمُهُ فِي الدُّنْيَا - وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْلَمَهُ؛ بَلْ هُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تبارك وتعالى فَصِفَاتُ الْخَالِقِ عز وجل أَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ مِنْ التَّبَايُنِ وَالتَّفَاضُلِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تبارك وتعالى وَأَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمَهُ كُلُّ أَحَدٍ بَلْ مِنْهُ مَا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ وَمِنْهُ مَا يَعْلَمُهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ وَمِنْهُ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: إنَّ التَّفْسِيرَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ تَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ. وَلَفْظُ " التَّأْوِيلِ " فِي كَلَامِ السَّلَفِ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا التَّفْسِيرُ أَوْ الْحَقِيقَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ الَّتِي يُؤَوَّلُ إلَيْهَا: كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} الْآيَةَ. وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ التَّأْوِيلِ: بِمَعْنَى أَنَّهُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ لِدَلِيلِ يَقْتَرِنُ بِهِ أَوْ مُتَأَخِّرٍ أَوْ لِمُطْلَقِ الدَّلِيلِ؛ فَهَذَا اصْطِلَاحُ
بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ مَا يُرَادُ مِنْهُ بِالتَّأْوِيلِ هَذَا الْمَعْنَى. ثُمَّ لَمَّا شَاعَ هَذَا بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ: صَارُوا يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} . ثُمَّ طَائِفَةٌ تَقُولُ: لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ. وَكِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ غالطة؛ فَإِنَّ هَذَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ انْتِفَاءَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ. وَهَذَا مِثْلُ تَأْوِيلَاتِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالْبِدَعِ. وَتِلْكَ التَّأْوِيلَاتُ بَاطِلَةٌ وَاَللَّهُ لَمْ يُرِدْهَا بِكَلَامِهِ وَمَا لَمْ يُرِدْهُ لَا نَقُولُ إنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُرَادُهُ فَإِنَّ هَذَا كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ عز وجل. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لَا يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ تبارك وتعالى الْكَذِبَ؛ وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ قَدْ عَلِمْنَا بِطَرِيقِ خَبَرِ اللَّهِ عز وجل عَنْ نَفْسِهِ - بَلْ وَبِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - أَنَّ اللَّهَ يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ: مَوْصُوفٌ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَهَذِهِ صِفَاتُ كَمَال. وَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ الْمَخْلُوقِ. فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَّصِفَ الْمَخْلُوقُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ دُونَ الْخَالِقِ. وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مُشْتَرَكٍ كُلِّيٍّ: يَقْتَضِي مِنْ الْمُوَاطَأَةِ وَالْمُوَافَقَةِ وَالْمُشَابَهَةِ مَا بِهِ تُفْهَمُ وَتُثْبَتُ هَذِهِ الْمَعَانِي لِلَّهِ؛ لَمْ نَكُنْ قَدْ عَرَفْنَا عَنْ اللَّهِ شَيْئًا وَلَا صَارَ فِي قُلُوبِنَا إيمَانٌ بِهِ وَلَا عِلْمٌ وَلَا مَعْرِفَةٌ وَلَا مَحَبَّةٌ
وَلَا إرَادَةٌ لِعِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ وَسُؤَالِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ. فَإِنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ وَلَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ إلَّا بِإِثْبَاتِ " تِلْكَ الْمَعَانِي " الَّتِي فِيهَا مِنْ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُوَاطَأَةِ مَا بِهِ حَصَلَ لَنَا مَا حَصَلَ مِنْ الْعِلْمِ لِمَا غَابَ عَنْ شُهُودِنَا. وَمَنْ فَهِمَ هَذِهِ الْحَقَائِقَ الشَّرِيفَةَ وَالْقَوَاعِدَ الْجَلِيلَةَ النَّافِعَةَ؛ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَانْجَابَ عَنْهُ مِنْ الشُّبَهِ وَالضَّلَالِ وَالْحَيْرَةِ مِمَّا يَصِيرُ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَفْضَلِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ وَمِنْ سَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْقَوْلَ فِي بَعْضِ " صِفَاتِ اللَّهِ " كَالْقَوْلِ فِي سَائِرِهَا وَأَنَّ الْقَوْلَ فِي صِفَاتِهِ كَالْقَوْلِ فِي " ذَاتِهِ " وَأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ صِفَةً دُونَ صِفَةٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مَعَ مُشَارَكَةِ أَحَدِهِمَا الْأُخْرَى فِيمَا بِهِ نَفَاهَا؛ كَانَ مُتَنَاقِضًا. فَمَنْ نَفَى النُّزُولَ وَالِاسْتِوَاءَ أَوْ الرِّضَى وَالْغَضَبَ أَوْ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ أَوْ اسْمَ الْعَلِيمِ أَوْ الْقَدِيرِ أَوْ اسْمَ الْمَوْجُودِ فِرَارًا بِزَعْمِهِ مِنْ تَشْبِيهِ تَرْكِيبٍ وَتَجْسِيمٍ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ نَظِيرُ مَا أَلْزَمَهُ لِغَيْرِهِ فِيمَا نَفَاهُ هُوَ وَأَثْبَتَ الْمُثْبِتُ. فَكُلُّ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ النُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ وَالرِّضَى وَالْغَضَبِ: يُمْكِنُ مُنَازِعَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِنَظِيرِهِ عَلَى نَفْيِ الْإِرَادَةِ؛ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ. وَكُلُّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ: يُمْكِنُ مُنَازِعَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِنَظِيرِهِ عَلَى نَفْيِ الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ. وَكُلُّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ: يُمْكِنُ مُنَازِعَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْمَوْجُودِ وَالْوَاجِبِ.
وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَوْجُودٍ قَدِيمٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ؛ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ: إمَّا مُمْكِنٌ وَمُحْدَثٌ؛ وَإِمَّا وَاجِبٌ وَقَدِيمٌ. وَالْمُمْكِنُ الْمُحْدَثُ لَا يُوجَدُ إلَّا بِوَاجِبِ قَدِيمٍ فَإِذَا كَانَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَوْجُودِ الْوَاجِبِ الْقَدِيمِ وَنَفْيُ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَوْجُودِ مُطْلَقًا؛ عُلِمَ أَنَّ مَنْ عَطَّلَ شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ كَانَ قَوْلُهُ مُسْتَلْزِمًا تَعْطِيلَ الْمَوْجُودِ الْمَشْهُودِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا قَالَ: النُّزُولُ وَالِاسْتِوَاءُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ النُّزُولُ وَالِاسْتِوَاءُ إلَّا لِجِسْمِ مُرَكَّبٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ اللَّوَازِمِ؛ فَيَلْزَمُ تَنْزِيهُهُ عَنْ الْمَلْزُومِ. أَوْ قَالَ؛ هَذِهِ حَادِثَةٌ وَالْحَوَادِثُ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ مُرَكَّبٍ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: الرِّضَا وَالْغَضَبُ وَالْفَرَحُ وَالْمَحَبَّةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ. فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: وَكَذَلِكَ الْإِرَادَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ: مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ فَإِنَّا كَمَا لَا نَعْقِلُ مَا يَنْزِلُ وَيَسْتَوِي وَيَغْضَبُ وَيَرْضَى إلَّا جِسْمًا؛ لَمْ نَعْقِلْ مَا يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيُرِيدُ وَيَعْلَمُ وَيُقَدِّرُ إلَّا جِسْمًا. فَإِذَا قِيلَ: سَمْعُهُ لَيْسَ كَسَمْعِنَا وَبَصَرُهُ لَيْسَ كَبَصَرِنَا وَإِرَادَتُهُ لَيْسَتْ كَإِرَادَتِنَا وَكَذَلِكَ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ: قِيلَ لَهُ: وَكَذَلِكَ رِضَاهُ لَيْسَ كَرِضَانَا وَغَضَبُهُ لَيْسَ كَغَضَبِنَا وَفَرَحُهُ لَيْسَ كَفَرَحِنَا وَنُزُولُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ لَيْسَ كَنُزُولِنَا وَاسْتِوَائِنَا.
فَإِذَا قَالَ: لَا يُعْقَلُ فِي الشَّاهِدِ غَضَبٌ إلَّا غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ وَلَا يُعْقَلُ نُزُولٌ إلَّا الِانْتِقَالُ وَالِانْتِقَالُ يَقْتَضِي تَفْرِيغَ حَيِّزٍ وَشَغْلَ آخَرَ فَلَوْ كَانَ يَنْزِلُ؛ لَمْ يَبْقَ فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ. قِيلَ: وَلَا يُعْقَلُ فِي الشَّاهِدِ إرَادَةٌ إلَّا مَيْلُ الْقَلْبِ إلَى جَلْبِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَنْفَعُهُ وَيَفْتَقِرُ فِيهِ إلَى مَا سِوَاهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ فِي حَدِيثِهِ الْإِلَهِيِّ: {يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي} فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ الْإِرَادَةِ الَّتِي لَا يُعْقَلُ فِي الشَّاهِدِ. إلَّا هِيَ. وَكَذَلِكَ السَّمْعُ لَا يُعْقَلُ فِي الشَّاهِدِ إلَّا بِدُخُولِ صَوْتٍ فِي الصِّمَاخِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي أَجْوَفَ؛ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ مُنَزَّهٌ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ بَلْ وَكَذَلِكَ الْبَصَرُ وَالْكَلَامُ لَا يُعْقَلُ فِي الشَّاهِدِ إلَّا فِي مَحَلٍّ أَجْوَفَ؛ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَخَلْقٌ مِنْ السَّلَفِ: " الصَّمَدُ " الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ؛ فَإِنَّ لَفْظَ " الصَّمَدِ " فِي اللُّغَةِ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا وَالصَّمَدُ فِي اللُّغَةِ السَّيِّدُ؛ " وَالصَّمَدُ " أَيْضًا الْمُصَمَّدُ وَالْمُصَمَّدُ الْمُصْمَتُ وَكِلَاهُمَا مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ.
وَلِهَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: الْمَلَائِكَةُ صَمَدٌ وَالْآدَمِيُّونَ جَوْفٌ. وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ آخَرُ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ - وَهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنْ النُّورِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ " {خُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ نَارٍ؛ وَخُلِقَ آدَمَ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ} " فَإِذَا كَانُوا مَخْلُوقِينَ مِنْ نُورٍ؛ وَهُمْ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ؛ بَلْ هُمْ صَمَدٌ لَيْسُوا جَوْفًا كَالْإِنْسَانِ وَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ وَيَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ وَيَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا تُمَاثِلُ صِفَاتُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ وَفِعْلَهُ؛ فَالْخَالِقُ تَعَالَى أَعْظَمُ مُبَايَنَةً لِمَخْلُوقَاتِهِ مِنْ مُبَايَنَةِ الْمَلَائِكَةِ لِلْآدَمِيِّينَ؛ فَإِنَّ كِلَيْهِمَا مَخْلُوقٌ. وَالْمَخْلُوقُ أَقْرَبُ إلَى مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِ مِنْ الْمَخْلُوقِ إلَى الْخَالِقِ سبحانه وتعالى. وَكَذَلِكَ " رُوحُ ابْنِ آدَمَ " تَسْمَعُ وَتُبْصِرُ وَتَتَكَلَّمُ وَتَنْزِلُ وَتَصْعَدُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَالْمَعْقُولَاتِ الصَّرِيحَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَتْ صِفَاتُهَا وَأَفْعَالُهَا كَصِفَاتِ الْبَدَنِ وَأَفْعَالِهِ. فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ صِفَاتِ الرُّوحِ وَأَفْعَالَهَا مِثْلُ صِفَاتِ الْجِسْمِ الَّذِي هُوَ الْجَسَدُ وَهِيَ مَقْرُونَةٌ بِهِ وَهُمَا جَمِيعًا الْإِنْسَانُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ رُوحُ الْإِنْسَانِ مُمَاثِلًا لِلْجِسْمِ الَّذِي هُوَ بَدَنُهُ؛ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الرَّبُّ تبارك وتعالى وَصِفَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ مِثْلَ الْجِسْمِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ؟!
فَإِنْ أَرَادَ النَّافِي الْتِزَامَ أَصْلِهِ؛ وَقَالَ: أَنَا أَقُولُ لَيْسَ لَهُ كَلَامٌ يَقُومُ بِهِ؛ بَلْ
كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ؛ قِيلَ لَهُ: فَيَلْزَمُك فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَإِنَّ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ يُثْبِتُونَ الْإِدْرَاكَ. فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَقُولُ بِقَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْهُمْ - فَلَا أُثْبِتُ لَهُ سَمْعًا وَلَا بَصَرًا وَلَا كَلَامًا يَقُومُ بِهِ؛ بَلْ أَقُولُ كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ تَجْسِيمٌ وَتَشْبِيهٌ بَلْ وَلَا أُثْبِتُ لَهُ إرَادَةً كَمَا لَا يُثْبِتُهَا الْبَغْدَادِيُّونَ؛ بَلْ أَجْعَلُهَا سَلْبًا أَوْ إضَافَةً فَأَقُولُ: مَعْنَى كَوْنِهِ مُرِيدًا أَنَّهُ غَيْرُ مَغْلُوبٍ وَلَا مُكْرَهٍ أَوْ بِمَعْنَى كَوْنِهِ خَالِقًا وَآمِرًا - قِيلَ لَهُ: فَيَلْزَمُك ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ مُطْبِقَةٌ عَلَى إثْبَاتِ أَنَّهُ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ لَا تَعْرِفُ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا جِسْمًا؛ فَإِذَا جَعَلْته حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا؛ لَزِمَك التَّجْسِيمُ وَالتَّشْبِيهُ. فَإِنْ زَادَ فِي التَّعْطِيلِ وَقَالَ: أَنَا لَا أَقُولُ بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ بَلْ بِقَوْلِ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ فَأَنْفِي الْأَسْمَاءَ مَعَ الصِّفَاتِ وَلَا أُسَمِّيهِ حَيًّا وَلَا عَالِمًا وَلَا قَادِرًا وَلَا مُتَكَلِّمًا إلَّا مَجَازًا بِمَعْنَى السَّلْبِ وَالْإِضَافَةِ: أَيْ هُوَ لَيْسَ بِجَاهِلِ وَلَا عَاجِزٍ وَجَعَلَ غَيْرَهُ عَالِمًا قَادِرًا - قِيلَ لَهُ: فَيَلْزَمُك ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ مَوْجُودًا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ قَدِيمًا فَاعِلًا؛ فَإِنَّ جَهْمًا قَدْ قِيلَ: إنَّهُ كَانَ يُثْبِتُ كَوْنَهُ فَاعِلًا قَادِرًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِقَادِرِ وَلَا فَاعِلٍ فَلَا تَشْبِيهَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا وَصَلَ إلَى هَذَا الْمَقَامِ؛ فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَيَقُولَ:
أَنَا لَا أَصِفُهُ بِصِفَةِ وُجُودٍ وَلَا عَدَمٍ فَلَا أَقُولُ مَوْجُودٌ وَلَا مَعْدُومٌ أَوْ لَا مَوْجُودٌ وَلَا غَيْرُ مَوْجُودٍ بَلْ أُمْسِكُ عَنْ النَّقِيضَيْنِ فَلَا أَتَكَلَّمُ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ. وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: أَنَا لَا أَصِفُهُ قَطُّ بِأَمْرِ ثُبُوتِيٍّ بَلْ بِالسَّلْبِيِّ؛ فَلَا أَقُولُ مَوْجُودٌ بَلْ أَقُولُ لَيْسَ بِمَعْدُومِ. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: بَلْ هُوَ مَعْدُومٌ؛ فَالْقِسْمَةُ حَاصِرَةٌ. فَإِنَّهُ؛ إمَّا أَنْ يَصِفَهُ بِأَمْرِ ثُبُوتِيٍّ فَيَلْزَمَهُ مَا أَلْزَمَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ لَا أَصِفُهُ بِالثُّبُوتِ بَلْ بِسَلْبِ الْعَدَمِ فَلَا أَقُولُ مَوْجُودٌ بَلْ لَيْسَ بِمَعْدُومِ.
وَإِمَّا أَنْ يَلْتَزِمَ التَّعْطِيلَ الْمَحْضَ فَيَقُولَ: مَا ثَمَّ وُجُودٌ وَاجِبٌ؛ فَإِنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ وَقَالَ لَا أُثْبِتُ وَاحِدًا مِنْ النَّقِيضَيْنِ: لَا الْوُجُودَ وَلَا الْعَدَمَ. قِيلَ: هَبْ أَنَّك تَتَكَلَّمُ بِذَلِكَ بِلِسَانِك؛ وَلَا تَعْتَقِدُ بِقَلْبِك وَاحِدًا مِنْ الْأَمْرَيْنِ بَلْ تَلْتَزِمُ الْإِعْرَاضَ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَذِكْرِهِ فَلَا تَذْكُرُهُ قَطُّ وَلَا تَعْبُدُهُ وَلَا تَدْعُوهُ وَلَا تَرْجُوهُ وَلَا تَخَافُهُ؛ فَيَكُونُ جَحْدُك لَهُ أَعْظَمَ مَنْ جَحْدِ إبْلِيسَ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ فَامْتِنَاعُك مِنْ إثْبَاتِ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ لَا يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ النَّقِيضَيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ فَإِنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُمَا؛ بَلْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ - أَيَّ شَيْءٍ كَانَ - إمَّا مَوْجُودًا وَإِمَّا مَعْدُومًا إمَّا أَنْ يَكُونَ وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ وَلَيْسَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَاسِطَةٌ أَصْلًا. وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ سَوَاءٌ جَحَدْته أَنْتَ أَوْ اعْتَرَفْت بِهِ وَسَوَاءٌ
ذَكَرْته أَوْ أَعَرَضْت عَنْهُ؛ فَإِعْرَاضُ الْإِنْسَانِ عَنْ رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالسَّمَاءِ لَا يَدْفَعُ وُجُودَهَا وَلَا يَدْفَعُ ثُبُوتَ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ؛ بَلْ بِالضَّرُورَةِ " الشَّمْسُ " إمَّا مَوْجُودَةٌ وَإِمَّا مَعْدُومَةٌ فَإِعْرَاضُ قَلْبِك وَلِسَانِك عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ كَيْفَ يَدْفَعُ وُجُودَهُ وَيُوجِبُ رَفْعَ النَّقِيضَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إمَّا مَوْجُودًا وَإِمَّا مَعْدُومًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: أَنَا لَا أَقُولُ مَوْجُودٌ؛ بَلْ أَقُولُ لَيْسَ بِمَعْدُومِ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ: سَلْبُ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ إثْبَاتٌ لِلْآخَرِ فَأَنْتَ غَيَّرْت الْعِبَارَةَ؛ إذْ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَيْسَ بِمَعْدُومِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا؛ وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا. وَهَذَا " الْقِسْمُ الثَّالِثُ " يُوجِبُ رَفْعَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ فَوَجَبَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا. وَإِنْ قَالَ: بَلْ أَلْتَزِمُ أَنَّهُ مَعْدُومٌ؛ قِيلَ لَهُ: فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْعَقْلِ وُجُودُ مَوْجُودَاتٍ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَيْضًا أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ - كَمَا نَعْلَمُ نَحْنُ أَنَّا حَادَثُونِ بَعْدَ عَدَمِنَا وَأَنَّ السَّحَابَ حَادِثٌ وَالْمَطَرَ وَالنَّبَاتَ حَادِثٌ وَالدَّوَابَّ حَادِثَةٌ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وَهَذِهِ الْحَوَادِثُ الْمَشْهُورَةُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةَ الْوُجُودِ بِذَاتِهَا؛ فَإِنَّ مَا وَجَبَ وُجُودُهُ بِنَفْسِهِ امْتَنَعَ عَدَمُهُ وَوَجَبَ قِدَمُهُ وَهَذِهِ كَانَتْ مَعْدُومَةً ثُمَّ وُجِدَتْ؛ فَدَلَّ وُجُودُهَا بَعْدَ عَدَمِهَا عَلَى أَنَّهَا يُمْكِنُ وُجُودُهَا وَيُمْكِنُ عَدَمُهَا فَإِنَّ كِلَيْهِمَا قَدْ تَحَقَّقَ فِيهَا؛ فَعُلِمَ بِالضَّرُورَةِ اشْتِمَالُ الْوُجُودِ عَلَى مَوْجُودٍ مُحْدَثٍ مُمْكِنٍ. فَنَقُولُ حِينَئِذٍ: الْمَوْجُودُ وَالْمُحْدَثُ الْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ قَدِيمٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْمُحْدَثِ بِنَفْسِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْلُقَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْمَعَارِفِ الضَّرُورِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ قُوَّتِهِ وَوُجُودِهِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ فِي ذَاتِهِ عُضْوًا وَلَا قَدْرًا فَلَا يُقَصِّرُ الطَّوِيلَ وَلَا يُطَوِّلُ الْقَصِيرَ وَلَا يَجْعَلُ رَأْسَهُ أَكْبَرَ مِمَّا هُوَ وَلَا أَصْغَرَ وَكَذَلِكَ أَبَوَاهُ لَا يَقْدِرَانِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ عَدَمِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ مَعْلُومَةٌ بِالْفِطْرَةِ حَتَّى لِلصِّبْيَانِ؛ فَإِنَّ الصَّبِيَّ لَوْ ضَرَبَهُ ضَارِبٌ وَهُوَ غَافِلٌ لَا يُبْصِرُهُ لَقَالَ: مَنْ ضَرَبَنِي؟ فَلَوْ قِيلَ لَهُ: لَمْ يَضْرِبْك أَحَدٌ؛ لَمْ يَقْبَلْ عَقْلُهُ أَنْ تَكُونَ الضَّرْبَةُ حَدَثَتْ مِنْ غَيْرِ مُحْدِثٍ؛ بَلْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحَادِثِ مِنْ مُحْدِثٍ؛ فَإِذَا قِيلَ: فُلَانٌ ضَرَبَك؛ بَكَى حَتَّى يَضْرِبَ ضَارِبَهُ؛ فَكَانَ فِي فِطْرَتِهِ الْإِقْرَارُ
بِالصَّانِعِ وَبِالشَّرْعِ الَّذِي مَبْنَاهُ عَلَى الْعَدْلِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} . " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ فِي فِدَاءِ أُسَارَى بَدْرٍ قَالَ: وَجَدْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْت هَذِهِ الْآيَةَ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ؟ أَحْسَسْت بِفُؤَادِي قَدْ انْصَدَعَ} . وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ ذَكَرَهُ اللَّهُ بِصِيغَةِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ مَعْلُومَةٌ بِالضَّرُورَةِ لَا يُمْكِنُ جَحْدُهَا يَقُولُ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أَيْ: مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ خَلَقَهُمْ؛ أَمْ هُمْ خَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ كِلَا النَّقِيضَيْنِ بَاطِلٌ؛ فَتَعَيَّنَ أَنَّ لَهُمْ خَالِقًا خَلَقَهُمْ سبحانه وتعالى. وَهُنَا طُرُقٌ كَثِيرَةٌ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: الْوُجُودُ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ وَالْمُحْدَثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ وَالْمَوْجُودُ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَقَدْ لَزِمَ أَنَّ الْوُجُودَ فِيهِ مَوْجُودٌ قَدِيمٌ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ وَمَوْجُودٌ مُمْكِنٌ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَهَذَانِ قَدْ اشْتَرَكَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ مَوْجُودًا فِي الشَّاهِدِ إلَّا جِسْمًا؛ فَلَزِمَهُ مَا أَلْزَمَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ الَّذِي ادَّعَاهُ.
فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ نَفَى شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَإِنَّ نَفْيَهُ بَاطِلٌ
وَلَوْ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ وَلَا دَلَّ أَيْضًا عَلَيْهِ الْعَقْلُ. فَكَيْفَ يُنْفَى بِمِثْلِ ذَلِكَ مَا دَلَّ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ عَلَى ثُبُوتِهِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ كُلَّ مَنْ نَفَى شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ - لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ وَالتَّجْسِيمَ - لَزِمَهُ مَا أَلْزَمَ بِهِ غَيْرَهُ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْجَوَابُ مُشَارِكًا. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ هَذَا لَازِمًا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ عُلِمَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْمَلْزُومِ بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمَلْزُومَ مَوْجُودٌ لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ بِحَالِ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ الِاسْتِدْلَالُ بِمِثْلِ هَذَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَإِنَّمَا هُوَ مِمَّا أَحْدَثَتْهُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: يَنْفِي عَنْ الرَّبِّ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ الرَّبِّ؛ مِثْلُ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ النَّقَائِصَ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا: كَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَالْحَاجَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا تَنْزِيهٌ صَحِيحٌ؛ وَلَكِنْ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ وَالتَّشْبِيهَ فَيُعَارَضُ بِمَا أَثْبَتَهُ؛ فَيَلْزَمُهُ التَّنَاقُضُ. وَمِنْ هُنَا دَخَلَتْ " الْمَلَاحِدَةُ الْبَاطِنِيَّةُ " عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى رَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ خَلْقًا عَظِيمًا صَارُوا يَقُولُونَ لِمَنْ نَفَى شَيْئًا عَنْ الرَّبِّ - مِثْلُ مَنْ يَنْفِي بَعْضَ الصِّفَاتِ أَوْ جَمِيعَهَا أَوْ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى - أَلَمْ تَنْفِ هَذَا؟ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّشْبِيهُ وَالتَّجْسِيمُ فَيَقُولُ: بَلَى فَيَقُولُ: وَهَذَا اللَّازِمُ يَلْزَمُك فِيمَا أَثْبَتَّهُ؛ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَى النَّفْيِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ أَمْرُهُ إلَى أَنْ لَا يَعْرِفَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ؛ وَلَا يَذْكُرَهُ بِلِسَانِهِ وَلَا يَعْبُدَهُ وَلَا يَدْعُوَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَجْزِمُ بِعَدَمِهِ بَلْ يُعَطِّلُ نَفْسَهُ عَنْ الْإِيمَانِ بِهِ وَقَدْ عُرِفَ تَنَاقُضُ هَؤُلَاءِ.
وَإِنْ الْتَزَمَ تَعْطِيلَهُ وَجَحْدَهُ مُوَافَقَةً لِفِرْعَوْنَ؛ كَانَ تَنَاقُضُهُ أَعْظَمَ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: فَهَذَا الْعَالَمُ الْمَوْجُودُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ صَانِعٌ كَانَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ - وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ فِيهِ حَوَادِثَ كَثِيرَةً كَمَا تَقَدَّمَ - وَحِينَئِذٍ فَفِي الْوُجُودِ قَدِيمٌ وَمُحْدَثٌ وَوَاجِبٌ وَمُمْكِنٌ وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُك أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَوْجُودَانِ: أَحَدُهُمَا قَدِيمٌ وَاجِبٌ. وَالْآخَرُ مُحْدَثٌ مُمْكِنٌ؛ فَيَلْزَمُك مَا فَرَرْت مِنْهُ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ بَلْ هَذَا يَلْزَمُك بِصَرِيحِ قَوْلِك فَإِنَّ الْعَالَمَ الْمَشْهُودَ جِسْمٌ تَقُومُ بِهِ الْحَرَكَاتُ فَإِنَّ الْفُلْكَ جِسْمٌ وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْكَوَاكِبُ أَجْسَامٌ تَقُومُ بِهَا الْحَرَكَاتُ وَالصِّفَاتُ؛ فَجَحَدْت رَبَّ الْعَالَمِينَ لِئَلَّا تَجْعَلَ الْقَدِيمَ الْوَاجِبَ جِسْمًا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ وَالْحَرَكَاتُ ثُمَّ فِي آخِرِ أَمْرِك جَعَلْت الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ الْوَاجِبَ الْوُجُودَ بِنَفْسِهِ أَجْسَامًا مُتَعَدِّدَةً تُشْبِهُ غَيْرَهَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ تَقُومُ بِهَا الصِّفَاتُ وَالْحَرَكَاتُ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الِافْتِقَارِ وَالْحَاجَةِ. فَإِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ مُحْتَاجَةٌ إلَى مَحَالِّهَا الَّتِي هِيَ فِيهَا وَمَوَاضِعِهَا الَّتِي تَحْمِلُهَا وَتَدُورُ بِهَا وَالْأَفْلَاكُ كُلٌّ مِنْهَا مُحْتَاجٌ إلَى مَا سِوَاهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ نَقْصِهَا وَحَاجَتِهَا.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ هَذَا الَّذِي فَرَّ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ الْقَدِيمَ الْوَاجِبَ مَوْجُودًا - وَمَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لِئَلَّا يَلْزَمَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ وَجَعَلَ نَفْيَ هَذَا اللَّازِمِ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ مَا جَعَلَهُ مَلْزُومًا لَهُ - لَزِمَهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ مَا فَرَّ مِنْهُ مِنْ جَعْلِهِ الْمَوْجُودَ الْوَاجِبَ جِسْمًا يُشْبِهُ غَيْرَهُ مَعَ أَنَّهُ وَصَفَهُ بِصِفَاتِ النَّقْصِ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا وَمَعَ أَنَّهُ جَحَدَ الْخَالِقَ جل جلاله؛ فَلَزِمَهُ مَعَ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ عَامَّةِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ مَعَ عِبَادَتِهِمْ لِمَا سِوَاهُ وَلَزِمَهُ مَعَ هَذَا أَنَّهُ مِنْ أَجْهَلِ بَنِي آدَمَ وَأَفْسَدِهِمْ عَقْلًا وَنَظَرًا وَأَشَدِّهِمْ تَنَاقُضًا. وَهَكَذَا يَفْعَلُ اللَّهُ بالذين يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ - مَعَ دَعْوَى النَّظَرِ وَالْمَعْقُولِ وَالْبُرْهَانِ وَالْقِيَاسِ كَفِرْعَوْنَ وَأَتْبَاعِهِ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} {إلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إلَّا فِي ضَلَالٍ} {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} {وَقَالَ مُوسَى إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ
فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} {وَيَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلَّا فِي تَبَابٍ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} {هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} {إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ " الْجِسْمِ " وَ " التَّشْبِيهِ " فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِبَاهٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْنُّفَاةِ لَا يُرِيدُونَ بِالْجِسْمِ الَّذِي نَفَوْهُ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْجِسْمِ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّ الْمَوْصُوفَ بِالصِّفَاتِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْجِسْمَ الَّذِي فِي اللُّغَةِ كَمَا نَقَلَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ وَسَنَأْتِي بِذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِالْجِسْمِ مَا اعْتَقَدُوهُ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ كُلَّ مَا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ وَهَذَا الِاعْتِقَادُ بَاطِلٌ. بَلْ الرَّبُّ مَوْصُوفٌ بِالصِّفَاتِ وَلَيْسَ جِسْمًا مُرَكَّبًا لَا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ وَلَا مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ كَمَا يَدَّعُونَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الصِّفَاتِ لُزُومُ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الْمُحَالِ بَلْ غَلِطُوا فِي هَذَا التَّلَازُمِ. وَأَمَّا مَا هُوَ لَازِمٌ لَا رَيْبَ فِيهِ؛ فَذَاكَ يَجِبُ إثْبَاتُهُ لَا يَجُوزُ نَفْيُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى. فَكَانَ غَلَطُهُمْ بِاسْتِعْمَالِ لَفْظٍ مُجْمَلٍ وَإِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَةٌ: إمَّا الْأُولَى وَإِمَّا الثَّانِيَةُ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذِهِ قَوَاعِدُ مُخْتَصَرَةٌ جَامِعَةٌ وَهِيَ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
فَصْلٌ:
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَقَوْلُ السَّائِلِ: كَيْفَ يَنْزِلُ؟ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: كَيْفَ اسْتَوَى؟ وَقَوْلُهُ: كَيْفَ يَسْمَعُ؟ وَكَيْفَ يُبْصِرُ؟ وَكَيْفَ: يَعْلَمُ وَيُقَدِّرُ؟ وَكَيْفَ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ مِثْلِ: مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَشَيْخِهِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ مَالِكًا عَنْ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ حَتَّى عَلَاهُ الرُّحَضَاءُ ثُمَّ قَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ وَمَا أُرَاك إلَّا رَجُلُ سَوْءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ. وَمِثْلُ هَذَا الْجَوَابِ ثَابِتٌ عَنْ رَبِيعَةَ شَيْخِ مَالِكٍ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْجَوَابُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا وَلَكِنْ لَيْسَ إسْنَادُهُ مِمَّا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَئِمَّةِ قَوْلُهُمْ يُوَافِقُ قَوْلَ مَالِكٍ: فِي أَنَّا لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ اسْتِوَائِهِ كَمَا لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ وَلَكِنْ نَعْلَمُ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ فَنَعْلَمُ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ وَكَذَلِكَ نَعْلَمُ مَعْنَى النُّزُولِ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ وَنَعْلَمُ مَعْنَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ وَنَعْلَمُ مَعْنَى الرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا وَالْفَرَحِ وَالضَّحِكِ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا سُؤَالُ السَّائِلِ: هَلْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَمْ لَا يَخْلُو مِنْهُ؟ - وَإِمْسَاكُ الْمُجِيبِ عَنْ هَذَا لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِمَا يُجِيبُ بِهِ فَإِنَّهُ إمْسَاكٌ عَنْ الْجَوَابِ بِمَا لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَتَهُ - وَسُؤَالُ السَّائِلِ لَهُ عَنْ هَذَا إنْ كَانَ نَفْيًا لِمَا أَثْبَتَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَخَطَأٌ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ اسْتِرْشَادًا فَحَسَنٌ وَإِنْ كَانَ تَجْهِيلًا لِلْمَسْئُولِ؛ فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ. فَإِنَّ الْمُثْبِتَ الَّذِي لَمْ يُثْبِتْ إلَّا مَا أَثْبَتَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَنَفَى عِلْمَهُ بِالْكَيْفِيَّةِ؛ فَقَوْلُهُ سَدِيدٌ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ سُؤَالُهُ وَالْمُعْتَرِضُ الَّذِي يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ بِهَذَا السُّؤَالِ؛ اعْتِرَاضُهُ بَاطِلٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي جَوَابِ الْمُجِيبِ.
وَقَوْلُ الْمَسْئُولِ: هَذَا قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ وَرَأْيٌ مُخْتَرَعٌ - حَيْدَةٌ مِنْهُ عَنْ الْجَوَابِ - يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ بِالْجَوَابِ السَّدِيدِ؛ وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ نَفْيَ الْمُعْتَرِضِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ حَقٌّ وَلَا عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَهُ بِنُزُولِ أَمْرِهِ وَرَحْمَتِهِ تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّ هَذَا الْمُعْتَرِضَ إمَّا أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُقِرًّا بِذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِذَلِكَ؛ كَانَ قَوْلُهُ: هَلْ يَخْلُو الْعَرْشُ مِنْهُ أَمْ لَا يَخْلُو؟ كَلَامًا بَاطِلًا؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ فَرْعُ ثُبُوتِ كَوْنِهِ عَلَى الْعَرْشِ. وَإِنْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَنَا ذَكَرْت هَذَا التَّقْسِيمَ لِأَنْفِيَ نُزُولَهُ وَأَنْفِيَ الْعُلُوَّ - لِأَنَّهُ إنْ قَالَ: يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ لَزِمَ أَنْ يَخْلُوَ مِنْ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ وَعُلُوِّهِ عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَقْتَ النُّزُولِ هُوَ الْعَلِيَّ الْأَعْلَى بَلْ يَكُونُ فِي جَوْفِ الْعَالَمِ وَالْعَالَمُ مُحِيطٌ بِهِ. وَإِنْ قَالَ: إنَّ الْعَرْشَ لَا يَخْلُو مِنْهُ قِيلَ لَهُ: فَإِذَا لَمْ يَخْلُ الْعَرْشُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ نَزَلَ فَإِنَّ نُزُولَهُ بِدُونِ خُلُوِّ الْعَرْشِ مِنْهُ لَا يُعْقَلُ - فَيُقَالُ لِهَذَا الْمُعْتَرِضِ:
هَذَا الِاعْتِرَاضُ بَاطِلٌ لَا يَنْفَعُك لِأَنَّ الْخَالِقَ سبحانه وتعالى مَوْجُودٌ بِالضَّرُورَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالِاتِّفَاقِ. فَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ فَوْقَهُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُدَاخِلًا لِلْعَالَمِ محايثا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَا هَذَا وَلَا هَذَا. فَإِنْ قُلْت: إنَّهُ محايث لِلْعَالَمِ بَطَلَ قَوْلُك فَإِنَّك إذَا جَوَّزْت نُزُولَهُ وَهُوَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ لَمْ يَمْتَنِعْ عِنْدَك خُلُوُّ مَا فَوْقَ الْعَرْشِ مِنْهُ بَلْ هُوَ دَائِمًا خَالٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ هُنَاكَ لَيْسَ عِنْدَك شَيْءٌ ثُمَّ يُقَالُ لَك: وَهَلْ يُعْقَلُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَأَنَّهُ مَعَ هَذَا يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا؟ فَإِنْ قُلْت: نَعَمْ؛ قِيلَ لَك: فَإِذَا نَزَلَ هَلْ يَخْلُو مِنْهُ بَعْضُ الْأَمْكِنَةِ أَوْ لَا يَخْلُو؟ فَإِنْ قُلْت: يَخْلُو مِنْهُ بَعْضُ الْأَمْكِنَةِ؛ كَانَ هَذَا نَظِيرَ خُلُوِّ الْعَرْشِ مِنْهُ. فَإِنْ قُلْت: لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ؛ كَانَ هَذَا نَظِيرَ كَوْنِ الْعَرْشِ لَا يَخْلُو مِنْهُ. فَإِنْ جَوَّزْت هَذَا؛ كَانَ لِخَصْمِك أَنْ يُجَوِّزَ هَذَا. فَقَدْ لَزِمَك عَلَى قَوْلِك مَا يَلْزَمُ مُنَازِعَك بَلْ قَوْلُك أَبْعَدُ عَنْ الْمَعْقُولِ لِأَنَّ نُزُولَ مَنْ هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ مِنْ نُزُولِ مَنْ هُوَ حَالٌّ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ فَإِنَّ نُزُولَ هَذَا لَا يُعْقَلُ بِحَالِ وَمَا فَرَرْت مِنْهُ مِنْ الْحُلُولِ وَقَعْت فِي نَظِيرِهِ بَلْ مُنَازِعُك الَّذِي يُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَهُوَ أَعْظَمُ عِنْدَهُ مِنْ الْعَالَمِ وَيَنْزِلُ إلَى الْعَالَمِ أَشَدُّ تَعْظِيمًا لِلَّهِ مِنْك وَيُقَالُ لَهُ: هَلْ يُعْقَلُ مَوْجُودَانِ قَائِمَانِ بِأَنْفُسِهِمَا أَحَدُهُمَا محايث لِلْآخَرِ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا؛ بَطَلَ قَوْلُهُ. وَإِنْ قَالَ: نَعَمْ؛ قِيلَ لَهُ: فَلْيُعْقَلْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ فَإِنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى الْعَقْلِ مِمَّا إذَا قُلْت: إنَّهُ حَالٌّ فِي الْعَالَمِ.
وَإِنْ قُلْت؛ إنَّهُ لَا مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ وَلَا مُدَاخِلٌ لَهُ؛ قِيلَ لَك: فَهَلْ يُعْقَلُ مَوْجُودَانِ قَائِمَانِ بِأَنْفُسِهِمَا لَيْسَ أَحَدُهُمَا مُبَايِنًا لِلْآخَرِ وَلَا محايثا لَهُ؟ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَإِذَا قَالَ: نَعَمْ يُعْقَلُ ذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنْ جَازَ وُجُودُ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَيْسَ هُوَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ وَلَا محايثا لَهُ فَوُجُودُ مُبَايِنٍ لِلْعَالَمِ يَنْزِلُ إلَى الْعَالَمِ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ؛ فَإِنَّك إنْ كُنْت لَا تُثْبِتُ مِنْ الْوُجُودِ إلَّا مَا تَعْقِلُ لَهُ حَقِيقَةً فِي الْخَارِجِ فَأَنْتَ لَا تَعْقِلُ فِي الْخَارِجِ مَوْجُودَيْنِ قَائِمَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا لَيْسَ أَحَدُهُمَا دَاخِلًا فِي الْآخَرِ وَلَا محايثا لَهُ وَإِنْ كُنْت تُثْبِتُ مَا لَا تَعْقِلُ حَقِيقَتَهُ فِي الْخَارِجِ فَوُجُودُ مَوْجُودَيْنِ أَحَدُهُمَا مُبَايِنٌ لِلْآخَرِ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ؛ وَنُزُولُ هَذَا مِنْ غَيْرِ خُلُوِّ مَا فَوْقَ الْعَرْشِ مِنْهُ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ مِنْ كَوْنِهِ لَا فَوْقَ الْعَالَمِ وَلَا دَاخِلَ الْعَالَمِ فَإِنْ حَكَمْت بِالْقِيَاسِ؛ فَالْقِيَاسُ عَلَيْك لَا لَك؛ وَإِنْ لَمْ تَحْكُمْ بِهِ؛ لَمْ يَصِحَّ اسْتِدْلَالُك عَلَى مُنَازِعِك بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: لَيْسَ هَذَا جَوَابِي بَلْ هُوَ حَيْدَةٌ عَنْ الْجَوَابِ: فَيُقَالُ لَهُ: الْجَوَابُ عَلَى " وَجْهَيْنِ " جَوَابِ مُعْتَرِضٍ نَافٍ لِنُزُولِهِ وَعُلُوِّهِ وَجَوَابِ مُثْبِتٍ لِنُزُولِهِ وَعُلُوِّهِ وَأَنْتَ لَمْ تَسْأَلْ سُؤَالَ مُسْتَفْتٍ بَلْ سَأَلْت سُؤَالَ مُعْتَرِضٍ نَافٍ. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ سَاقِطٌ لَا يَنْفَعُك فَإِنَّهُ سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّهُ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَوْ قِيلَ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُصَحِّحُ قَوْلَك إنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا قَوْلَك إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَإِذَا
بَطَلَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ تَعَيَّنَ " الثَّالِثُ " وَهُوَ: أَنَّهُ سبحانه وتعالى فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ بَطَلَ قَوْلُ الْمُعْتَرِضِ. هَذَا إنْ كَانَ الْمُعْتَرِضُ غَيْرَ مُقِرٍّ بِأَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ أَئِمَّةِ نفاة الْعُلُوِّ عَنْ النُّزُولِ فَقَالَ: يَنْزِلُ أَمْرُهُ. فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: فَمَنْ يَنْزِلُ؟ مَا عِنْدَك فَوْقَ الْعَالَمِ شَيْءٌ فَمِمَّنْ يَنْزِلُ الْأَمْرُ؟ . مِنْ الْعَدَمِ الْمَحْضِ فَبُهِتَ. وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَرِضُ مِنْ الْمُثْبِتَةِ لِلْعُلُوِّ وَيَقُولُ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ؛ لَكِنْ لَا يُقِرُّ بِنُزُولِهِ؛ بَلْ يَقُولُ بِنُزُولِ مَلَكٍ أَوْ يَقُولُ بِنُزُولِ أَمْرِهِ الَّذِي هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ؛ فَيَجْعَلُ النُّزُولَ مَفْعُولًا مُحْدَثًا يُحْدِثُهُ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ كَمَا يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ؛ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا التَّقْسِيمُ يَلْزَمُك فَإِنَّك إنْ قُلْت: إذَا نَزَلَ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ؛ لَزِمَ الْمَحْذُورُ الْأَوَّلُ وَإِنْ قُلْت: لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ؛ أَثْبَتَ نُزُولًا مَعَ عَدَمِ خُلُوِّ الْعَرْشِ مِنْهُ وَهَذَا لَا يُعْقَلُ عَلَى أَصْلِك. وَإِنْ قَالَ: إنَّمَا أُثْبِتُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ؛ قِيلَ لَهُ: أَيُّ شَيْءٍ أَثْبَتَّهُ مَعَ عَدَمِ فِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ يَقُومُ بِنَفْسِهِ كَانَ غَيْرَ مَعْقُولٍ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ؛ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَصْلًا مَعَ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ؛ فَجَمَعْت بَيْنَ شَيْئَيْنِ: بَيْنَ أَنَّ مِمَّا أَثْبَتَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْقَلَ مِنْ خِطَابِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَنَّك حَرَّفْت كَلَامَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. فَإِنْ قُلْت: الَّذِي يَنْزِلُ مَلَكٌ. قِيلَ: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ:
مِنْهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَزَالُ تَنْزِلُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إلَى الْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ} . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فُضُلًا يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ. فَإِذَا مَرُّوا عَلَى قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى يُنَادُونَ: هَلُمُّوا إلَى حَاجَتِكُمْ فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ -: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالَ فَيَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَك وَيُكَبِّرُونَك وَيَحْمَدُونَك وَيُمَجِّدُونَك} . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ: {إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّارَةً فُضُلًا عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ يَتَّبِعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ؛ قَعَدُوا مَعَهُمْ وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا أَوْ صَعِدُوا إلَى السَّمَاءِ. قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ اللَّهُ عز وجل وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ -: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا
مِنْ عِنْدِ عِبَادِك فِي الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَك وَيُكَبِّرُونَك ويهللونك وَيَحْمَدُونَك وَيَسْأَلُونَك} . الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. (الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: {مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟} . وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَهَا مَلَكٌ عَنْ اللَّهِ بَلْ الَّذِي يَقُولُ الْمَلَكُ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلُ إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ؛ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ} وَذُكِرَ فِي الْبُغْضِ مِثْلُ ذَلِكَ. فَالْمَلَكُ إذَا نَادَى عَنْ اللَّهِ لَا يَتَكَلَّمُ بِصِيغَةِ الْمُخَاطِبِ؛ بَلْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِكَذَا أَوْ قَالَ كَذَا. وَهَكَذَا إذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ مُنَادِيًا يُنَادِي فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِكَذَا وَنَهَى عَنْ كَذَا وَرَسَمَ بِهَذَا لَا يَقُولُ أَمَرْت بِكَذَا وَنَهَيْت عَنْ كَذَا بَلْ لَوْ قَالَ ذَلِكَ بُودِرَ إلَى عُقُوبَتِهِ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الْقَدِيمَةِ للجهمية فَإِنَّهُمْ تَأَوَّلُوا تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى عليه السلام بِأَنَّهُ أَمَرَ مَلَكًا فَكَلَّمَهُ فَقَالَ لَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ: لَوْ كَلَّمَهُ مَلَكٌ لَمْ يَقُلْ {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} بَلْ كَانَ يَقُولُ كَمَا قَالَ الْمَسِيحُ عليه السلام {مَا قُلْتُ لَهُمْ إلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} . فَالْمَلَائِكَةُ رُسُلُ اللَّهِ إلَى الْأَنْبِيَاءِ تَقُولُ كَمَا كَانَ جِبْرِيلُ عليه السلام يَقُولُ
لِمُحَمَّدِ صلى الله عليه وسلم {وَمَا نَتَنَزَّلُ إلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} وَيَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك بِكَذَا وَيَقُولُ كَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} وَلَا يَقُولَ {مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟} وَلَا يَقُولَ {لَا يَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي} كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُمَا وَسَنَدُهُمَا صَحِيحٌ أَنَّهُ يَقُولُ: {لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي} . وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُبْطِلُ حُجَّةَ بَعْضِ النَّاسِ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِي فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَأْمُرُ مُنَادِيًا فَيُنَادِي فَإِنَّ هَذَا إنْ كَانَ ثَابِتًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ الرَّبَّ يَقُولُ ذَلِكَ وَيَأْمُرُ مُنَادِيًا بِذَلِكَ؛ لَا أَنَّ الْمُنَادِيَ يَقُولُ {مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟} وَمَنْ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمُنَادِيَ يَقُولُ ذَلِكَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَإِنَّهُ - مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ اللَّفْظِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي نَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ - فَاسِدٌ فِي الْمَعْقُولِ فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ كَذِبِ بَعْضِ الْمُبْتَدِعِينَ كَمَا رَوَى بَعْضُهُمْ يُنْزِلُ بِالضَّمِّ وَكَمَا قَرَأَ بَعْضُهُمْ ( {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ) وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيفِهِمْ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى. وَإِنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِنُزُولِ رَحْمَتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ قِيلَ: الرَّحْمَةُ الَّتِي تُثْبِتُهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ صِفَةً قَائِمَةً فِي غَيْرِهَا.
فَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا وَقَدْ نَزَلَتْ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَقُولَ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ كَمَا لَا يُمْكِنُ الْمَلَكُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً مِنْ الصِّفَاتِ فَهِيَ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا؛ بَلْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَحَلٍّ. ثُمَّ لَا يُمْكِنُ الصِّفَةُ أَنْ تَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ وَلَا مَحَلَّهَا. ثُمَّ إذَا نَزَلَتْ الرَّحْمَةُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَمْ تَنْزِلْ إلَيْنَا فَأَيُّ مَنْفَعَةٍ لَنَا فِي ذَلِكَ؟ وَإِنْ قَالَ: بَلْ الرَّحْمَةُ مَا يُنْزِلُهُ عَلَى قُلُوبِ قُوَّامِ اللَّيْلِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنْ حَلَاوَةِ الْمُنَاجَاةِ وَالْعِبَادَةِ وَطِيبِ الدُّعَاءِ وَالْمَعْرِفَةِ وَمَا يَحْصُلُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ مَزِيدِ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَذِكْرِهِ وَتَجَلِّيهِ لِقُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ يَعْرِفُهُ قُوَّامُ اللَّيْلِ قِيلَ لَهُ: حُصُولُ هَذَا فِي الْقُلُوبِ حَقٌّ لَكِنَّ هَذَا يَنْزِلُ إلَى الْأَرْضِ إلَى قُلُوبِ عِبَادِهِ لَا يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يَصْعَدُ بَعْدَ نُزُولِهِ وَهَذَا الَّذِي يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ يَبْقَى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لَكِنَّ هَذَا النُّورَ وَالْبَرَكَةَ وَالرَّحْمَةَ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ هِيَ مِنْ آثَارِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ نُزُولِهِ بِذَاتِهِ سبحانه وتعالى. كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ " بِالنُّزُولِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ " فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ وَبَعْضُهَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَنَّهُ عز وجل لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟} وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {إذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَةَ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا
ضاحين مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَةَ الْمَلَائِكَةَ وَيَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا} فَوُصِفَ أَنَّهُ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَيُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِالْحَجِيجِ فَيَقُولُ اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحَجِيجَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَنْزِلُ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ وَالرَّحْمَةِ وَالنُّورِ وَالْبَرَكَةِ مَا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الَّذِي يَدْنُو إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَيُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِالْحَجِيجِ. وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمُعَطِّلَةِ: إنَّمَا يُثْبِتُونَ مَخْلُوقًا بِلَا خَالِقٍ وَأَثَرًا بِلَا مُؤَثِّرٍ وَمَفْعُولًا بِلَا فَاعِلٍ وَهَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ أُصُولِهِمْ وَهَذَا مِنْ فُرُوعِ أَقْوَالِ الْجَهْمِيَّة. وَأَيْضًا فَيُقَالُ لَهُ: وَصْفُ نَفْسِهِ بِالنُّزُولِ كَوَصْفِهِ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَبِأَنَّهُ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ وَبِأَنَّهُ نَادَى مُوسَى وَنَاجَاهُ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ وَبِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ فِي قَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَقَالَ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} . وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي إتْيَانِ الرَّبِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَثِيرَةٌ وَكَذَلِكَ إتْيَانُهُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ السَّلَفُ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ الْحَدِيثَ فَبَيَّنُوا لَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ يُصَدِّقُ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا احْتَجَّ بِهِ إسْحَاقُ
بْنُ رَاهَوَيْه عَلَى بَعْضِ الْجَهْمِيَّة بِحَضْرَةِ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ: أَمِيرِ خُرَاسَانَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرباطي: حَضَرْت مَجْلِسَ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ ذَاتَ يَوْمٍ وَحَضَرَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه فَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ النُّزُولِ أَصَحِيحٌ هُوَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ قُوَّادِ عَبْدِ اللَّهِ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: كَيْفَ يَنْزِلُ؟ قَالَ أَثْبَتَهُ فَوْقُ حَتَّى أَصِفَ لَك النُّزُولَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَثْبَتَهُ فَوْقُ فَقَالَ لَهُ إسْحَاقُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} فَقَالَ الْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ هَذَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَقَالَ إسْحَاقُ: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ وَمَنْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَمْنَعُهُ الْيَوْمَ.
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا إذَا نَزَلَ هَلْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَوْ لَا يَخْلُو؟ " هَذِهِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى " تَكَلَّمَ فِيهَا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ وَعَنْ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَطَعَنَ فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ وَقَالَ: رَاوِيهَا عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ كَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه
وَغَيْرِهِمَا قَالَ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ ": حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الفريابي ثَنَا أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدٍ المقدمي ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: سَأَلَ بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ فَقَالَ: يَا أَبَا إسْمَاعِيلَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ: {يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا} يَتَحَوَّلُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ؟ فَسَكَتَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ثُمَّ قَالَ: هُوَ فِي مَكَانِهِ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ. وَرَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ فِي كِتَابِ " الْإِبَانَةِ " فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الأردبيلي حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ سَأَلَ بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ فَقَالَ: يَا أَبَا إسْمَاعِيلَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ {يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا} أَيَتَحَوَّلُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ؟ فَسَكَتَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ثُمَّ قَالَ: هُوَ فِي مَكَانِهِ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّةَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ ثَنَا أَحْمَد بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالَ: قَالَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه: دَخَلْت عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَرْوُونَهَا قُلْت: أَيُّ شَيْءٍ أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ؟ قَالَ: تَرْوُونَ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قُلْت: نَعَمْ رَوَاهَا الثِّقَاتُ الَّذِينَ يَرْوُونَ الْأَحْكَامَ. قَالَ: أَيَنْزِلُ وَيَدَعُ عَرْشَهُ؟ قَالَ: فَقُلْت: يَقْدِرُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُوَ الْعَرْشُ مِنْهُ. قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: وَلِمَ تَتَكَلَّمُ فِي هَذَا وَقَدْ رَوَاهَا اللكائي أَيْضًا بِإِسْنَادِ مُنْقَطِعٍ وَاللَّفْظُ مُخَالِفٌ لِهَذَا. وَهَذَا الْإِسْنَادُ أَصَحُّ وَهَذِهِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا حِكَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ رُوَاتُهُمَا أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ. فَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ يَقُولُ: هُوَ فِي مَكَانِهِ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ فَأَثْبَتَ قُرْبَهُ إلَى خَلْقِهِ مَعَ
كَوْنِهِ فَوْقَ عَرْشِهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ - وَهُوَ مِنْ خِيَارِ مَنْ وَلِيَ الْأَمْرَ بِخُرَاسَانَ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْزِلُ لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ الْعَرْشُ فَأَقَرَّهُ الْإِمَامُ إسْحَاقُ عَلَى أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَقَالَ لَهُ: يَقْدِرُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ الْعَرْشُ؟ فَقَالَ لَهُ الْأَمِيرُ: نَعَمْ فَقَالَ لَهُ إسْحَاقُ: لِمَ تَتَكَلَّمُ فِي هَذَا؟ يَقُولُ: فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ نُزُولِهِ خُلُوُّ الْعَرْشِ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَى النُّزُولِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ خُلُوُّ الْعَرْشِ وَكَانَ هَذَا أَهْوَنَ مِنْ اعْتِرَاضِ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ شَيْءٌ فَيُنْكِرُ هَذَا وَهَذَا. وَنَظِيرُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي " السُّنَّةِ " قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ يَعْنِي الْعَبَّادِيَّ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: سَمِعْت إبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْعَثِ يَقُولُ: سَمِعْت الْفُضَيْل بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ: إذَا قَالَ الجهمي أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَزُولُ عَنْ مَكَانِهِ فَقُلْ: أَنَا أُؤْمِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. أَرَادَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ رحمه الله مُخَالَفَةَ الجهمي الَّذِي يَقُولُ إنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إتْيَانٌ وَلَا مَجِيءٌ وَلَا نُزُولٌ وَلَا اسْتِوَاءٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ. فَقَالَ الْفُضَيْل: إذَا قَالَ لَك الجهمي: أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَزُولُ عَنْ مَكَانِهِ فَقُلْ: أَنَا أُؤْمِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا شَاءَ. فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤْمِنَ بِالرَّبِّ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ الَّتِي يَشَاؤُهَا لَمْ يَرُدَّ مِنْ الْمَفْعُولَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ. وَمِثْلُ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ الأوزاعي وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي حَدِيثِ النُّزُولِ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. قَالَ اللالكائي: حَدَّثَنَا الْمُسَيَّرُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا
أَحْمَد بْنُ الْحُسَيْنِ: ثَنَا أَحْمَد بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ قَالَ: سَمِعْت يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: إذَا سَمِعْت الجهمي يَقُولُ: أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَنْزِلُ؛ فَقُلْ: أَنَا أُؤْمِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ: فَإِنَّ بَعْضَ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ وَيَنْفِي قِيَامَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِهِ - كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ وَابْنِ عَقِيلٍ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ وَغَيْرِهِمْ - يُحْمَلُ كَلَامُهُمْ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: " يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ " أَنْ يُحْدِثَ شَيْئًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ مِنْ دُونِ أَنْ يَقُومَ بِهِ هُوَ فِعْلٌ أَصْلًا. وَهَذَا أَوْجَبَهُ أَصْلَانِ لَهُمْ: (أَحَدُهُمَا أَنَّ الْفِعْلَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَفْعُولُ وَالْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ، فَهُمْ يُفَسِّرُونَ أَفْعَالَهُ الْمُتَعَدِّيَةَ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} وَأَمْثَالِهِ: إنَّ ذَلِكَ وُجِدَ بِقُدْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِعْلٌ قَامَ بِذَاتِهِ بَلْ حَالُهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ وَبَعْدَ مَا خَلَقَ سَوَاءٌ لَمْ يَتَجَدَّدْ عِنْدَهُمْ إلَّا إضَافَةٌ وَنِسْبَةٌ وَهِيَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ؛ لَا وُجُودِيٌّ كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ يَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَيَرَى أَعْمَالَهُمْ وَفِي كَوْنِهِ كَلَّمَ مُوسَى وَغَيْرَهُ وَكَوْنِهِ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ أَوْ نَسَخَ مِنْهُ مَا نَسَخَ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ عِنْدَهُمْ إلَّا مُجَرَّدُ " نِسْبَةِ " وَ " إضَافَةِ " الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَهِيَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ لَا وُجُودِيٌّ. وَهَكَذَا يَقُولُونَ: فِي اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ إذَا قَالُوا: إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَوَّلُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. وَيُسَمِّي ابْنُ عَقِيلٍ هَذِهِ " النِّسْبَةَ " الْأَحْوَالَ؛ وَلَعَلَّهُ يُشَبِّهُهَا " بِالْأَحْوَالِ " الَّتِي يُثْبِتُهَا مَنْ يُثْبِتُهَا مِنْ النُّظَّارِ
وَيَقُولُونَ هِيَ لَا مَوْجُودَةٌ وَلَا مَعْدُومَةٌ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ أَبُو هَاشِمٍ وَالْقَاضِيَانِ: أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو يَعْلَى وَأَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي فِي أَوَّلِ قَوْلَيْهِ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ خَالَفُوهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَأَثْبَتُوا لَهُ تَعَالَى فِعْلًا قَائِمًا بِذَاتِهِ وَخَلْقًا غَيْرَ الْمَخْلُوقِ - وَيُسَمَّى التَّكْوِينَ - وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ بِهِ قُدَمَاءُ الْكُلَّابِيَة كَمَا ذَكَرَهُ الثَّقَفِيُّ والضبعي وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ خُزَيْمَة فِي الْعَقِيدَةِ الَّتِي كَتَبُوهَا وَقَرَءُوهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة لَمَّا وَقَعَ بَيْنَهُمْ النِّزَاعُ فِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ ". وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَأَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ البغوي فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ كَمَا بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَ " الْأَصْلُ الثَّانِي ": نَفْيُهُمْ أَنْ تَقُومَ بِهِ أُمُورٌ تَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ " حُلُولَ الْحَوَادِثِ ". فَلَمَّا كَانُوا نفاة لِهَذَا امْتَنَعَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَقُومَ بِهِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ يَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؛ لَا لَازِمٌ وَلَا مُتَعَدٍّ؛ لَا نُزُولٌ وَلَا مَجِيءٌ وَلَا اسْتِوَاءٌ وَلَا إتْيَانٌ وَلَا خَلْقٌ وَلَا إحْيَاءٌ وَلَا إمَاتَةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ. فَلِهَذَا فَسَّرُوا قَوْلَ السَّلَفِ بِالنُّزُولِ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ حُصُولُ مَخْلُوقٍ مُنْفَصِلٍ؛ لَكِنَّ كَلَامَ السَّلَفِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَرَادُوا الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ الَّذِي يَقُومُ بِهِ.
والْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ رحمه الله لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ؛ بَلْ أَرَادَ مُخَالَفَةَ الْجَهْمِيَّة؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: " يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ " لَا يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ الْعَرْشِ بَلْ كَلَامُهُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ أَمْثَالِهِ مِنْ السَّلَفِ: كالأوزاعي وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ مَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَد فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ وَقَالَ: رَاوِيهَا عَنْ أَحْمَد مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ فِي أَصْحَابِ أَحْمَد مَنْ اسْمُهُ أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدٍ البردعي. وَأَهْلُ الْحَدِيثِ فِي هَذَا عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ": مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ: يَخْلُو أَوْ لَا يَخْلُو كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ المقدسي وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ، وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ منده مُصَنَّفًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَسَمَّاهُ: " الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَعَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ مَكَانٌ وَعَلَى مَنْ تَأَوَّلَ النُّزُولَ عَلَى غَيْرِ النُّزُولِ ". وَذَكَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ فِي " أَقْوَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ " عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَرْوَزِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الدِّينَوَرِيّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى عَنْ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدٍ البردعي التَّمِيمِيِّ قَالَ: لَمَّا أُشْكِلَ عَلَى مُسَدَّدِ بْنِ مسرهد أَمْرُ السُّنَّةِ وَمَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ " الْقَدَرِ "
وَ " الرَّفْضِ " وَ " الِاعْتِزَالِ " وَ " الْإِرْجَاءِ " وَ " الْقُرْآنِ " كَتَبَ إلَى " أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ ": أَنْ اُكْتُبْ إلَيَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَتَبَ إلَيْهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ ثُمَّ ذَكَرَ فِيهَا؛ وَيَنْزِلُ اللَّهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَعَنْ حَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَزَعَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَفْظٌ مُنْكَرٌ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُمَا وَعَنْ غَيْرِهِمَا وَحُكْمُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْأَثَرِ حُكْمُ حَدِيثٍ مُنْكَرٍ وَقَالَ: أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدٍ البردعي مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ فِي أَصْحَابِ أَحْمَد مَنْ اسْمُهُ " أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدٍ ": فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ كَأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ هَانِئٍ وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ وَأَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَأَبِي بَكْرٍ المروذي (*) وَأَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى البراني الْقَاضِي وَأَحْمَد بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّائِغِ وَأَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ غَالِبٍ الْقَاصِّ غُلَامِ خَلِيلٍ وَأَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَزِيدٍ الْوَرَّاقِ. وَزَادَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَحْمَد بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ أَبَا بَكْرٍ الْقَاضِيَ وَأَحْمَد بْنَ خَالِدٍ أَبَا الْعَبَّاسِ البراني وَأَحْمَد بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَدَقَةَ وَأَحْمَد بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ الأسدي وَأَحْمَد بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْكُوفِيَّ وَأَحْمَد بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْكَحَّالَ وَأَحْمَد بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْبُخَارِيِّ وَأَحْمَد بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ بَطَّةَ
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 52):
الواو مقحمة بين اسم الأثرم وكنيته، وبين اسم المروّذي وكنيته، وصواب العبارة (كأحمد بن محمد بن هانئ أبي الأثرم وأحمد بن محمد الحجاج أبي بكر المروذي).
وَذَكَرَ أَحْمَد بْنُ الْحَسَنِ أَبَا الْحَسَنِ التِّرْمِذِيَّ؛ وَأَحْمَد بْنَ سَعِيدٍ وَقِيلَ: أَبُو الأشعبة التِّرْمِذِيُّ. وَذَكَرَ فِي الْمُحَمَّدِينَ: مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيَّ قَالَ: وَلَمْ يُعَدَّ هَذَا فِيمَنْ رَوَى عَنْ مُسَدَّدٍ أَيْضًا. قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي العاص وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَبُو أمامة وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَأَبُو ثَعْلَبَةَ المروذي وَرِفَاعَةُ بْنُ عَرَابَةَ الجهني وعبادة بْنُ الصَّامِتِ وَعُمَرُ بْنُ عبسة وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعَمٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَغَيْرُهُمْ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَذَا اللَّفْظَ؛ وَلَا مَنْ رَوَاهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ بَعْدَهُمْ. ثُمَّ سَاقَ الْأَحَادِيثَ بِأَلْفَاظِهَا؛ وَذَكَرَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَقُلْ هَذَا اللَّفْظَ. قَالَ: وَهُوَ لَفْظٌ مُوَافِقٌ لِرَأْيِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ وَرَأَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَكَانٌ. قَالَ: وَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ النُّزُولَ عَلَى غَيْرِ النُّزُولِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ وَلِقَوْلِهِ: فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ إلَى الْفَجْرِ. قُلْت: الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا: إنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْحَدِيثِ؛ وَلَيْسَ فِي
الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَوْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ؛ كَمَا يَدَّعِيهِ الْمُدَّعُونَ لِذَلِكَ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ لَا لَفْظُ الْمُثْبِتِينَ لِذَلِكَ وَلَا لَفْظُ الْنُّفَاةِ لَهُ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ يَتَأَوَّلُونَ النُّزُولَ عَلَى غَيْرِ النُّزُولِ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَنْفِي نُزُولًا يَقُومُ بِهِ وَيَجْعَلُ النُّزُولَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ؛ وَعَامَّةُ رَدِّ ابْنِ منده الْمُسْتَقِيمِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ؛ لَكِنَّهُ زَادَ زِيَادَاتٍ نُسِبَ لِأَجْلِهَا إلَى الْبِدْعَةِ؛ وَلِهَذَا كَانُوا يُفَضِّلُونَ أَبَاهُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَكَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ التَّيْمِيُّ وَغَيْرُهُ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُمْ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَالَ أَبِي فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ النُّزُولَ عَلَى غَيْرِ النُّزُولِ وَاحْتَجَّ فِي إبْطَالِ الْأَخْبَارِ الصِّحَاحِ بِأَحَادِيثَ مَوْضُوعَةٍ وَادَّعَى الْمُدْبِرُ أَنَّهُ يَقُولُ بِحَدِيثِ النُّزُولِ فَحَرَّفَهُ عَلَى مَنْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ وَأَنْكَرَ فِي خُطْبَتِهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَنْ حُجَّتِهِ وَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنَّهُ يَنْزِلُ بِذَاتِهِ وَتَأَوَّلَ النُّزُولَ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ لَا حَقِيقَةِ النُّزُولِ. وَزَعَمَ أَنَّ أَئِمَّتَهُمْ الْعَارِفِينَ بِالْأُصُولِ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَنْ التَّنَقُّلَاتِ فَأَبْطَلَ جَمِيعَ مَا أَخْرَجَ فِي هَذَا الْبَابِ إذْ كَانَ مَذْهَبُهُ غَيْرَ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَاعْتِمَادُهُ عَلَى التَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ وَالْمَعْقُولِ الْفَاسِدِ. وقَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} نَفَى التَّشْبِيهَ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ وَكُلِّ الْمَعَانِي وَلَكِنَّ الْبَائِسَ الْمِسْكِينَ لَمْ يَجِدْ الطَّرِيقَ إلَى ثَلْبِ الْأَئِمَّةِ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ الَّذِي هُوَ
بِهِ أَوْلَى ثُمَّ قَصَدَ تَعْلِيلَ حَدِيثِ النُّزُولِ بِمَا لَا يُعَدُّ عِلَّةً وَلَا خِلَافًا مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي " يَنْزِلُ " وَ " يَقُولُ إذَا مَضَى نِصْفُ اللَّيْلِ " وَقَالَ بَعْضُهُمْ " ثُلُثُ اللَّيْلِ وَنِصْفُ اللَّيْلِ " قَالَ ابْنُ منده وَلَيْسَ هَذَا اخْتِلَافًا وَلَكِنَّهُ جَهْلٌ وَاحْتَجَّ مَعَهَا بِحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أنيسة عَنْ طَارِقٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " إنَّهُ يَأْمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي كُلَّ لَيْلَةٍ ". وَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِهِ. زَعَمَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ وَابْنَ مَهْدِيٍّ وَالْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا؛ أَخْرَجُوا فِي كُتُبِهِمْ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ الْمَتْرُوكِينَ تَرَدُّدًا مِنْهُ وَجَهْلًا وَأَعَادَ حَدِيثَ أَبِي هِشَامٍ الرِّفَاعِيِّ عَنْ حَفْصٍ. رَوَاهُ مُحَاضِرٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالَ {إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ} . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ طَارِقٍ رَوَاهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أنيسة عَنْ طَارِقٍ. عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ {إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ} . وَأَمَّا حَدِيثُ الْحَسَنِ؛ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي العاص فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِيمَا ذَكَرْنَا؛ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَلَا رُوَاتِهَا مَا يَصِحُّ؛ قَالَ وَلَوْ سَكَتَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ كَانَ أَجْمَلَ بِهِ وَأَحْسَنَ؛ إذْ قَدْ سَلَبَ اللَّهُ مَعْرِفَتَهُ وَأَرْسَخَ فِي قَلْبِهِ تَبْطِيلَ الْأَخْبَارِ الصِّحَاحِ وَاعْتِمَادَ مَعْقُولِهِ الْفَاسِدِ.
قُلْت فَهَذَا نَقْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِكَلَامِ أَبِيهِ وَأَبُوهُ أَعْلَمُ مِنْهُ وَأَفْقَهُ وَأَسَدُّ قَوْلًا. ثُمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده هَذَا. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الساجي ثُمَّ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْنُ نَصْرٍ قَالَ: كُنْت عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ فَجَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ كَلَامِيٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْكَلَامِ فَقَالَ لَهُ: تَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ لَا يَزُولُ؛ ثُمَّ تَرْوُونَ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا؟ فَقَالَ: عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ وَلَكِنْ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ أَرَادَا بِقَوْلِهِمَا يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ؛ أَرَادَا أَنْ لَا يَزُولَ عَنْ مَكَانِهِ؛ فَقَدْ نَسَبَهُمَا إلَى خِلَافِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُحَمَّدٍ المعاصمي ببلخ أَنْبَأَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَد الْمُسْتَمْلِي قَالَ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ حِرَاشٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْعَثِ قَالَ: سَمِعْت الْفُضَيْل بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ: إذَا قَالَ لَك الجهمي: أَنَا لَا أُؤْمِنُ بِرَبِّ يَزُولُ عَنْ مَكَانِهِ فَقَالَ لَهُ أَنَا أُومِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. قَالَ: رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ فضيل بْنِ عِيَاضٍ. قَالَ: وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَحَدٌ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الزَّنَادِقَةُ فَلَا يَبْقَى خِلَافٌ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ: أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَنْزِلُ وَيَصْعَدُ وَبَيْنَ مَنْ يَقُولُ: أَنَا أُومِنُ بِرَبِّ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ فِي إبْطَالِ مَا نَطَقَ بِهِ
الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. ثُمَّ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ إذَا قَالَ الجهمي أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَنْزِلُ وَيَصْعَدُ فَقُلْ آمَنْت: بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. قُلْت: زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الساجي أَخَذَ عَنْهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ مَا أَخَذَهُ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَكَثِيرٍ مِمَّا نُقِلَ فِي كِتَابِ " مَقَالَاتُ الْإِسْلَامِيِّينَ " مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَذَكَرَ عَنْهُمْ مَا ذَكَرَهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ. وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مَنْ يَنْفِي قِيَامَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ: أَنَّهُ يَخْلُقُ أَعْرَاضًا فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ يُسَمِّيهَا نُزُولًا كَمَا قَالَ: إنَّهُ يَخْلُقُ فِي الْعَرْشِ مَعْنًى يُسَمِّيهِ اسْتِوَاءً. وَهُوَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ تَقْرِيبُ الْعَرْشِ إلَى ذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ فِعْلٌ بَلْ يَجْعَلُ أَفْعَالَهُ اللَّازِمَةَ كَالنُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ كَأَفْعَالِهِ الْمُتَعَدِّيَةِ كَالْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ وَكُلِّ ذَلِكَ عِنْدَهُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ.
وَالْأَشْعَرِيُّ وَأَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ بِذَاتِهِ وَلَكِنْ يَقُولُونَ فِي النُّزُولِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ هَذَا الْقَوْلَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي نَفْيِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَالسَّلَفُ الَّذِينَ قَالُوا يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَنْزِلُ كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ والْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ الَّذِي قَالَ: إذَا قَالَ لَك الجهمي أَنَا أَكْفُرُ بِرَبِّ يَزُولُ عَنْ مَكَانِهِ فَقُلْ أَنَا أُومِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مُرَادُهُمْ نَقِيضُ هَذَا الْقَوْلِ. وَرَدُّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده مُتَنَاوِلٌ لِهَؤُلَاءِ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَبْقَى
خِلَافٌ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ يَنْزِلُ وَيَصْعَدُ وَبَيْنَ مَنْ يَنْفِي ذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُنْفَصِلَةَ لَمْ يُنَازِعْ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَ هَؤُلَاءِ إثْبَاتُ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ الْقَائِمِ بِهِ؛ وَلَكِنَّهُمْ مَعَ هَذَا لَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ خُلُوَّ الْعَرْشِ مِنْهُ وَأَنَّهُ لَا يَبْقَى فَوْقَ الْعَرْشِ؛ كَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَزَعَمَ أَنَّهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ مِنْ " كِتَابِ السُّنَّةِ " لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ؛ حَدَّثَنِي أَبِي ثَنَا أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ اللُّبْنَانِيُّ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ ثَنَا أَبِي ثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُد أَبُو مَعْمَرٍ ثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا شَرِيكٌ فَسَأَلْته عَنْ الْحَدِيثِ {إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ} . قُلْنَا: إنَّ قَوْمًا يُنْكِرُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ قَالَ فَمَا يَقُولُونَ؟ قُلْنَا: يَطْعَنُونَ فِيهَا فَقَالَ: إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ هُمْ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْقُرْآنِ وَبِالصَّلَاةِ وَبِالْحَجِّ وَبِالصَّوْمِ فَمَا يُعْرَفُ اللَّهُ إلَّا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ. قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه فَرَوَاهُ إسْمَاعِيلُ التِّرْمِذِيُّ وَذَكَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيهِ. قَالَ: وَالْحَدِيثُ حَدَّثَ بِهِ أَحْمَد بْنُ مُوسَى بْنِ بريدة عَنْ أَحْمَد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ التِّرْمِذِيِّ:
سَمِعْت إسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْه يَقُولُ: اجْتَمَعَتْ الْجَهْمِيَّة إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ يَوْمًا فَقَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ؛ إنَّك تُقَدِّمُ إسْحَاقَ وَتُكْرِمُهُ وَتُعَظِّمُهُ وَهُوَ كَافِرٌ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ عز وجل يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ وَيَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ. قَالَ: فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ وَبَعَثَ إلَيَّ فَدَخَلْت عَلَيْهِ وَسَلَّمْت؛ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ غَضَبًا وَلَمْ يستجلسني ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ لِي: وَيْلَك يَا إسْحَاقُ مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: قُلْت لَا أَدْرِي قَالَ: تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ وَيَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ؟ فَقُلْت أَيُّهَا الْأَمِيرُ لَسْت أَنَا قُلْته قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ إسْحَاقَ عَنْ الْأَغَرِّ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ . مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ} وَلَكِنْ مُرْهُمْ يُنَاظِرُونِي. قَالَ فَلَمَّا ذَكَرْت لَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَكَنَ غَضَبُهُ وَقَالَ لِي اجْلِسْ فَجَلَسْت. فَقُلْت: مُرْهُمْ أَيُّهَا الْأَمِيرُ يُنَاظِرُونِي. قَالَ نَاظِرُوهُ قَالَ فَقُلْت لَهُمْ: يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْزِلَ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَمْ لَا يَسْتَطِيعُ؟ قَالَ: فَسَكَتُوا وَأَطْرَقُوا رُءُوسَهُمْ. فَقُلْت: أَيُّهَا الْأَمِيرُ مُرْهُمْ يُجِيبُوا فَسَكَتُوا. فَقَالَ وَيْحَك يَا إسْحَاقُ مَاذَا سَأَلْتهمْ قَالَ: قُلْت: أَيُّهَا الْأَمِيرُ قُلْ لَهُمْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْزِلَ؛ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَمْ لَا؟ قَالَ فأيش هَذَا؟ قُلْت: إنْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْزِلَ إلَّا أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ الْعَرْشُ؟ فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَاجِزٌ مِثْلِي وَمِثْلُهُمْ وَقَدْ كَفَرُوا. وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ
أَنْ يَنْزِلَ وَلَا يَخْلُوَ مِنْهُ الْعَرْشُ فَهُوَ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ يَشَاءُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْمَكَانُ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَالصَّحِيحُ مِمَّا جَرَى بَيْنَ إسْحَاقَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ مَا أَخْبَرَنَا أَبِي ثنا أَبُو عُثْمَانَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ سَمِعْت إسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ بْنِ مخلد يَقُولُ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَرْوُونَهَا فِي النُّزُولِ - يَعْنِي وَغَيْرَ ذَلِكَ - مَا هِيَ؟ قُلْت: أَيُّهَا الْأَمِيرُ هَذِهِ أَحَادِيثُ جَاءَتْ مَجِيءَ الْأَحْكَامِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَنَقَلَهَا الْعُلَمَاءُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُرَدَّ؛ هِيَ كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: صَدَقْت مَا كُنْت أَعْرِفُ وُجُوهَهَا إلَى الْآنِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْمَكَانُ كَيْفِيَّةً تَهْدِمُ النُّزُولَ وَتُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: هِيَ كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ؛ فَيُقَالُ: بَلْ مُخَاطَبَةُ إسْحَاقَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ كَانَ فِيهَا زِيَادَةً عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمُخَاطَبَاتِ وَالْمُنَاظَرَاتِ يُنْقَلُ مِنْهَا هَذَا مَا لَا يُنْقَلُ غَيْرُهُ: كَمَا نَقَلُوا فِي مُنَاظَرَةِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ هَذَا يُنْقَلُ مَا لَا يَنْقُلُهُ هَذَا: كَمَا نَقَلَ صَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ والمروذي وَغَيْرُهُمْ وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَإِسْحَاقُ بَسَطَ الْكَلَامَ مَعَ ابْنِ طَاهِرٍ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ " الصَّابُونِيُّ " الْمُلَقَّبُ بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي رِسَالَتِهِ فِي السُّنَّةِ قَالَ: وَيَعْتَقِدُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَيَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُهُ فِي قَوْلِهِ: {إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَذَكَرَ عِدَّةَ آيَاتٍ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ: وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يُثْبِتُونَ فِي ذَلِكَ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيُصَدِّقُونَ الرَّبَّ جل جلاله فِي خَبَرِهِ وَيُطْلِقُونَ مَا أَطْلَقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَيُمِرُّونَ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَكِلُونَ عِلْمَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى و {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} . وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؛ فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ وَمَا أَرَاك إلَّا ضَالًّا؛ وَأَمَرَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَجْلِسِ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ الثَّابِتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: نَعْرِفُ رَبَّنَا بِأَنَّهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ؛ وَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة: بِأَنَّهُ هَاهُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدُ اللَّهِ الْحَافِظُ - يَعْنِي الْحَافِظَ - فِي كِتَابِ " التَّارِيخِ " الَّذِي جَمَعَهُ لِأَهْلِ نَيْسَابُورَ وَفِي كِتَابِ " مَعْرِفَةِ أُصُولِ الْحَدِيثِ " اللَّذَيْنِ جَمَعَهُمَا وَلَمْ يَسْبِقْ إلَى مِثْلِهِمَا قَالَ: سَمِعْت أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ صَالِحِ بْنِ هَانِئٍ سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة يَقُولُ: مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ قَدْ
اسْتَوَى فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ بِهِ حَلَالُ الدَّمِ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ؛ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَأُلْقِيَ عَلَى بَعْضِ الْمَزَابِلِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُثْمَانَ: وَيُثْبِتُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ نُزُولَ الرَّبِّ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ لَهُ بِنُزُولِ الْمَخْلُوقِينَ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَكْيِيفٍ بَلْ يُثْبِتُونَ مَا أَثْبَتَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَنْتَهُونَ فِيهِ إلَيْهِ وَيُمِرُّونَ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ الْوَارِدَ بِذِكْرِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ وَيَكِلُونَ عِلْمَهُ إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى وَكَذَلِكَ يُثْبِتُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ ذِكْرِ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وَقَوْلِهِ عز وجل {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَقَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ زَكَرِيَّا سَمِعْت أَبَا حَامِدٍ الشَّرْقِيَّ سَمِعْت حَمْدَانَ السُّلَمِي وَأَبَا دَاوُد الْخَفَّافَ قَالَا: سَمِعْنَا إسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ الحنظلي يَقُولُ: قَالَ لِي الْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي تَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ يَنْزِلُ؟ قَالَ: قُلْت: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ لَا يُقَالُ لِأَمْرِ الرَّبِّ كَيْفَ إنَّمَا يَنْزِلُ بِلَا كَيْفٍ. قَالَ: وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظَ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنَ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِيَّ سَمِعْت إبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ سَمِعْت أَحْمَد بْنَ سَعِيدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الرباطي يَقُولُ: حَضَرْت مَجْلِسَ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ ذَاتَ يَوْمٍ
وَحَضَرَ إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ رحمه الله فَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ النُّزُولِ أَصَحِيحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ قُوَّادِ عَبْدِ اللَّهِ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: كَيْفَ يَنْزِلُ؟ فَقَالَ إسْحَاقُ: أَثْبَتَهُ فَوْقُ. فَقَالَ أَثْبَتَهُ فَوْقُ. فَقَالَ إسْحَاقُ: قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} فَقَالَ الْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ: هَذَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَقَالَ إسْحَاقُ: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ مَنْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَمْنَعُهُ الْيَوْمَ وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: قَرَأْت فِي رِسَالَةِ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ إلَى أَهْلِ جيلان أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا عَلَى مَا صَحَّ بِهِ الْخَبَرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وَقَالَ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} نُؤْمِنُ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى مَا جَاءَ بِلَا كَيْفٍ فَلَوْ شَاءَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُبَيِّنَ كَيْفَ ذَلِكَ فَعَلَ؛ فَانْتَهَيْنَا إلَى مَا أَحْكَمَهُ وَكَفَفْنَا عَنْ الَّذِي يَتَشَابَهُ إذْ كُنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِهِ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} . وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ منده بِإِسْنَادِهِ عَنْ حَرْبِ بْنِ إسْمَاعِيلَ قَالَ: سَأَلْت إسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ قُلْت: حَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا} قَالَ: نَعَمْ يَنْزِلُ اللَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ. وَقَالَ
عَنْ حَرْبٍ: لَا يَجُوزُ الْخَوْضُ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَجُوزُ الْخَوْضُ فِي فِعْلِ الْمَخْلُوقِينَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ حَرْبٍ قَالَ: هَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ الْمَعْرُوفِينَ بِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه والحميدي وَغَيْرِهِمْ. كَانَ قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ حَرْبٍ: قَالَ: قَالَ إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَتَوَهَّمَ عَلَى الْخَالِقِ بِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ تَوَهُّمَ مَا يَجُوزُ التَّفَكُّرُ وَالنَّظَرُ فِي أَمْرِ الْمَخْلُوقِينَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالنُّزُولِ كُلَّ لَيْلَةٍ إذَا مَضَى ثُلُثَاهَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا شَاءَ وَلَا يُسْأَلُ كَيْفَ نُزُولُهُ لِأَنَّهُ الْخَالِقُ يَصْنَعُ كَيْفَ شَاءَ. وَرَوَى أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: سَأَلَ فَضَالَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ عَنْ النُّزُولِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ؛ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَا ضَعِيفُ تَجِدُ خَدَّايَ خوشيركن: يَنْزِلُ كَيْفَ شَاءَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: مَنْ قَالَ لَك يَا مُشَبِّهُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ جهمي وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ منده: إيَّاكَ أَنْ تَكُونَ فِيمَنْ يَقُولُ: أَنَا أُومِنُ بِرَبِّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ثُمَّ تَنْفِي مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا شَاءَ اللَّهُ وَأَوْجَبَ عَلَى خَلْقِهِ
الْإِيمَانَ بِهِ: أَفَاعِيلَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَنْ يَنْزِلَ بِذَاتِهِ مِنْ الْعَرْشِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالزَّنَادِقَةُ يُنْكِرُونَهُ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ. وَرُوِيَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ مِنْ طَرِيقِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ بِشْرٍ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَنْزِلَ عَنْ عَرْشِهِ نَزَلَ بِذَاتِهِ} . قُلْت: ضَعَّفَ أَبُو الْقَاسِمِ إسْمَاعِيلُ التَّيْمِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ هَذَا اللَّفْظَ مَرْفُوعًا وَرَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمَوْضُوعَاتِ " وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ التَّيْمِيُّ: " يَنْزِلُ " مَعْنَاهُ صَحِيحٌ أَنَا أُقِرُّ بِهِ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (*) وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْنَى صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ نَفْسُهُ لَيْسَ بِمَأْثُورِ؛ كَمَا لَوْ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ بِنَفْسِهِ وَبِذَاتِهِ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ بِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَهُوَ بِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِ الَّتِي فَعَلَهَا هُوَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ نَفْسُهُ فَعَلَهَا. فَالْمَعْنَى صَحِيحٌ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَا بُيِّنَ بِهِ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ اللَّفْظِ يَكُونُ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَرْفُوعًا. فَهَذَا تَلْخِيصُ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ منده مَعَ أَنَّهُ اسْتَوْعَبَ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ وَذَكَرَ أَلْفَاظَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ: {يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا إذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ فَلَا يَزَالُ
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 52):
وقد حصل سقط، وصواب العبارة:(ينزل بذاته)؛ لأن لفظ (ينزل) ثابت في الأحاديث، والسياق عن زيادة لفظ (بذاته).
كَذَلِكَ إلَى الْفَجْرِ} وَفِي لَفْظٍ: {إذَا بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ ثُلُثَاهُ يَهْبِطُ الرَّبُّ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَفِي لَفْظٍ حَتَّى يَنْشَقَّ الْفَجْرُ ثُمَّ يَرْتَفِعُ وَفِي رِوَايَةٍ يَقُولُ: لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟} وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عبسة: {أَنَّ الرَّبَّ يَتَدَلَّى فِي جَوْفِ اللَّيْلِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَفِي لَفْظٍ: حَتَّى يَنْشَقَّ الْفَجْرُ ثُمَّ يَرْتَفِعُ} وَذِكْرُ نُزُولِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ وَكَذَلِكَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَذِكْرُ نُزُولِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَحَدِيثُ يَوْمِ الْمَزِيدِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ نُزُولِهِ وَارْتِفَاعِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَهُوَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَيَجْعَلُ هَذَا مِثْلَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَمَنْ يَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ فِي مَكَانٍ. وَكَلَامُهُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ طَائِفَةٍ تَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ يَنْزِلُ نُزُولًا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ. وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: مَا ثَمَّ نُزُولٌ أَصْلًا كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ فِعْلٌ يَقُومُ بِذَاتِهِ بِاخْتِيَارِهِ. وَهَاتَانِ " الطَّائِفَتَانِ " لَيْسَ عِنْدَهُمَا نُزُولٌ إلَّا النُّزُولُ الَّذِي يُوصَفُ بِهِ أَجْسَادُ الْعِبَادِ الَّذِي يَقْتَضِي تَفْرِيغَ مَكَانٍ وَشَغْلَ آخَرَ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَنْفِي النُّزُولَ عَنْهُ يُنَزِّهُهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ لَهُ نُزُولًا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يَقْتَضِي تَفْرِيغَ مَكَانٍ وَشَغْلَ آخَرَ؛ فَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: هَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ؛ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ؛ كَمَا يَقُولُ مَنْ يُقَابِلُهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي. وَهُوَ يَحْمِلُ كَلَامَ السَّلَفِ " يَفْعَلُ
مَا يَشَاءُ " عَلَى أَنَّهُ نُزُولٌ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَمَنْ يُقَابِلُهُ يَحْمِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ مَفْعُولٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ اللَّهِ. " وَفِي الْجُمْلَةِ ": فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمَعْرُوفِينَ بِالسُّنَّةِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ أَنَّ الْعَرْشَ يَخْلُو مِنْهُ وَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْ تَضْعِيفِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ عَنْ إسْحَاقَ فَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى الثَّابِتَةَ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ بَطَّةَ وَغَيْرُهُ وَذَكَرْنَا أَيْضًا اللَّفْظَ الثَّابِتَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ؛ رَوَاهُ الْخَلَّالُ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا " رِسَالَةُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ " إلَى مُسَدَّدِ بْنِ مسرهد فَهِيَ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ تَلَقَّوْهَا بِالْقَبُولِ وَقَدْ ذَكَرَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي كِتَابِ " الْإِبَانَةِ " وَاعْتَمَدَ عَلَيْهَا غَيْرُ وَاحِدٍ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَكَتَبَهَا بِخَطِّهِ.
فَصْلٌ:
وَقَدْ تَأَوَّلَ قَوْمٌ - مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى " السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ " - حَدِيثَ النُّزُولِ وَمَا كَانَ نَحْوَهُ مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا فِعْلُ الرَّبِّ اللَّازِمِ: كَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَالْهُبُوطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَنَقَلُوا فِي ذَلِكَ قَوْلًا لِمَالِكٍ وَلِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَتَّى ذَكَرَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد - كَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَغَيْرِهِ - عَنْ أَحْمَد فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْبَابِ رِوَايَتَيْنِ؛ بِخِلَافِ غَيْرِ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِي تَأْوِيلِهِ نِزَاعًا. وَطَرَدَ ابْنُ عَقِيلٍ الرِّوَايَتَيْنِ فِي " التَّأْوِيلِ " فِي غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ؛ وَهُوَ تَارَةً يُوجِبُ التَّأْوِيلَ وَتَارَةً يُحَرِّمُهُ وَتَارَةً يُسَوِّغُهُ. وَالتَّأْوِيلُ عِنْدَهُ تَارَةً " لِلصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ مُطْلَقًا " وَيُسَمِّيهَا الْإِضَافَاتِ - لَا الصِّفَاتِ - مُوَافَقَةً لِمَنْ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي عَلِيِّ بْنِ الْوَلِيدِ وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ التَّبَّانِ - وَكَانَا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ - وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ مَعَ ابْنِ عَقِيلٍ عَلَى ذَلِكَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ مِثْلُ " كَفِّ التَّشْبِيهِ بِكَفِّ التَّنْزِيهِ " وَيُخَالِفُهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ.
وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد لَمْ يُثْبِتُوا عَنْهُ نِزَاعًا فِي التَّأْوِيلِ لَا فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا فِي غَيْرِهَا. وَأَمَّا مَا حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ عَنْ بَعْضِ الْحَنْبَلِيَّةِ: أَنَّ أَحْمَد لَمْ يَتَأَوَّلْ إلَّا " ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ ": {الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ} {وَقُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ} {وَإِنِّي أَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ} فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ كَذِبٌ عَلَى أَحْمَد لَمْ يَنْقُلْهَا أَحَدٌ عَنْهُ بِإِسْنَادِ؛ وَلَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ نَقْلَ ذَلِكَ عَنْهُ. وَهَذَا الْحَنْبَلِيُّ الَّذِي ذَكَرَ عَنْهُ أَبُو حَامِدٍ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ لَا عِلْمُهُ بِمَا قَالَ وَلَا صِدْقُهُ فِيمَا قَالَ. وَأَيْضًا: وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ. هَلْ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ فِي تَأْوِيلِ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ لِأَنَّ حَنْبَلًا نُقِلَ عَنْهُ فِي " الْمِحْنَةِ " أَنَّهُمْ لَمَّا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ} وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ إتْيَانُ الْقُرْآنِ وَمَجِيئُهُ. وَقَالُوا لَهُ: لَا يُوصَفُ بِالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ إلَّا مَخْلُوقٌ؛ فَعَارَضَهُمْ أَحْمَد بِقَوْلِهِ: - وَأَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ - فَسَّرُوا هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَجِيءُ ثَوَابِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ كَمَا ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ مَجِيءِ الْأَعْمَالِ فِي الْقَبْرِ وَفِي الْقِيَامَةِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ ثَوَابُ الْأَعْمَالِ. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {اقْرَءُوا الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا يَجِيئَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ غَمَامَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ يُحَاجَّانِ
عَنْ أَصْحَابِهِمَا} وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ: فَلَمَّا أَمَرَ بِقِرَاءَتِهِمَا وَذَكَرَ مَجِيئَهُمَا يُحَاجَّانِ عَنْ الْقَارِئِ: عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ قِرَاءَةَ الْقَارِئِ لَهُمَا وَهُوَ عَمَلُهُ وَأَخْبَرَ بِمَجِيءِ عَمَلِهِ الَّذِي هُوَ التِّلَاوَةُ لَهُمَا فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا كَمَا أَخْبَرَ بِمَجِيءِ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ. وَهَذَا فِيهِ كَلَامٌ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: هَلْ يُقَلِّبُ اللَّهُ الْعَمَلَ جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ أَمْ الْأَعْرَاضُ لَا تَنْقَلِبُ جَوَاهِرَ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُؤْتَى بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ} . وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَخْبَرَ بِمَجِيءِ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَرَادَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ؛ الَّتِي هِيَ عَمَلُهُ وَذَلِكَ هُوَ ثَوَابُ قَارِئِ الْقُرْآنِ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ نَفْسَ كَلَامِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَهُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ يَتَصَوَّرُ صُورَةَ غَمَامَتَيْنِ. فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا حُجَّةٌ للجهمية عَلَى مَا ادَّعَوْهُ. ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد فِي الْمِحْنَةِ عَارَضَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} قَالَ قِيلَ: إنَّمَا يَأْتِي أَمْرُهُ هَكَذَا نَقَلَ حَنْبَلٌ؛ وَلَمْ يَنْقُلْ هَذَا غَيْرُهُ مِمَّنْ نَقَلَ مُنَاظَرَتَهُ فِي " الْمِحْنَةِ " كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد وَصَالِحِ بْنِ أَحْمَد والمروذي وَغَيْرِهِ؛ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَد فِي ذَلِكَ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: غَلِطَ حَنْبَلٌ لَمْ يَقُلْ أَحْمَد هَذَا. وَقَالُوا حَنْبَلٌ لَهُ غَلَطَاتٌ مَعْرُوفَةٌ وَهَذَا مِنْهَا وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي إسْحَاقَ بْنِ شاقلا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ أَحْمَد قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ لَهُمْ. يَقُولُ: إذَا كَانَ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ؛ بَلْ تَأَوَّلْتُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ جَاءَ أَمْرُهُ فَكَذَلِكَ قُولُوا: جَاءَ ثَوَابُ الْقُرْآنِ لَا أَنَّهُ نَفْسُهُ هُوَ الْجَائِي فَإِنَّ التَّأْوِيلَ هُنَا أَلْزَمُ فَإِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْإِخْبَارُ بِثَوَابِ قَارِئِ الْقُرْآنِ وَثَوَابُهُ عَمَلٌ لَهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ نَفْسِ الْقُرْآنِ. فَإِذَا كَانَ الرَّبُّ قَدْ أَخْبَرَ بِمَجِيءِ نَفْسِهِ ثُمَّ تَأَوَّلْتُمْ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ فَإِذَا أَخْبَرَ بِمَجِيءِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَلَأَنْ تَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ بِمَجِيءِ ثَوَابِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَإِذَا قَالَهُ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لَهُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَلْتَزِمَ هَذَا. فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي مَجِيءِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ وَالْمُرَادُ مَجِيءُ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ الَّتِي هِيَ عَمَلُهُ وَأَعْمَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ وَثَوَابُهَا مَخْلُوقٌ. وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ: أَنَّهُ يَجِيءُ ثَوَابُ الْقُرْآنِ وَالثَّوَابُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ لَا عَلَى صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَفْعَالِهِ. وَذَهَبَ " طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ " مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد إلَى أَنَّ أَحْمَد قَالَ هَذَا: ذَلِكَ الْوَقْتُ وَجَعَلُوا هَذَا رِوَايَةً عَنْهُ ثُمَّ مَنْ يَذْهَبُ مِنْهُمْ إلَى التَّأْوِيلِ - كَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمَا - يَجْعَلُونَ هَذِهِ عُمْدَتَهُمْ. حَتَّى يَذْكُرَهَا أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ؛ وَلَا يَذْكُرَ مِنْ كَلَامِ أَحْمَد وَالسَّلَفِ مَا يُنَاقِضُهَا.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَنْقُولَ الْمُتَوَاتِرَ عَنْ أَحْمَد يُنَاقِضُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَقُولُ: إنَّ الرَّبَّ يَجِيءُ وَيَأْتِي وَيَنْزِلُ أَمْرُهُ بَلْ هُوَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ. وَاَلَّذِينَ ذَكَرُوا عَنْ أَحْمَد فِي تَأْوِيلِ النُّزُولِ وَنَحْوِهِ مِنْ " الْأَفْعَالِ " لَهُمْ قَوْلَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ بِالْقَصْدِ؛ كَمَا تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ} بِالْقَصْدِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الزَّاغُونِي. وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ بِمَجِيءِ أَمْرِهِ وَنُزُولِ أَمْرِهِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ - كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يُوَافِقُ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ - عَلَى أَنَّ " الْفِعْلَ " هُوَ الْمَفْعُولُ؛ وَأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ. يَقُولُونَ: مَعْنَى النُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: أَفْعَالٌ يَفْعَلُهَا الرَّبُّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ. وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ قَالُوا: الِاسْتِوَاءُ فِعْلٌ فَعَلَهُ فِي الْعَرْشِ كَانَ بِهِ مُسْتَوِيًا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي. وَهَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ وَافَقُوا السَّلَفَ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَكَذَلِكَ ذُكِرَتْ هَذِهِ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ رُوِيَتْ مِنْ طَرِيقِ كَاتِبِهِ حَبِيبِ بْنِ
أَبِي حَبِيبٍ؛ لَكِنَّ هَذَا كَذَّابٌ باتفاق أَهْلِ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ لا يَقْبَلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ نَقْلَهُ عَنْ مَالِكٍ. وَرُوِيَتْ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى ذَكَرَهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَفِي إسْنَادِهَا مَنْ لَا نَعْرِفُهُ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: فِي النُّزُولِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. هَلْ يُقَالُ إنَّهُ بِحَرَكَةِ وَانْتِقَالٍ؟ أَمْ يُقَالُ بِغَيْرِ حَرَكَةٍ وَانْتِقَالٍ؟ أَمْ يُمْسِكُ عَنْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ؟ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " ذَكَرَهَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ " اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ وَالْوَجْهَيْنِ ".
فَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَغَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ.
وَالثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ فِيهِمْ مَنْ يَقِفُ عَنْ إثْبَاتِ اللَّفْظِ مَعَ الْمُوَافَقَةِ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ (*). وَمِنْهُمْ مَنْ يُمْسِكُ عَنْ إثْبَاتِ الْمَعْنَى مَعَ اللَّفْظِ وَهُمْ فِي الْمَعْنَى مِنْهُمْ مَنْ يَتَصَوَّرُهُ مُجْمَلًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَوَّرُهُ مُفَصَّلًا؛ إمَّا مَعَ الْإِصَابَةِ وَإِمَّا مَعَ الْخَطَأِ. وَاَلَّذِينَ أَثْبَتُوا هَذِهِ رِوَايَةً عَنْ " أَحْمَد " هُمْ وَغَيْرُهُمْ - مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ - لَهُمْ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلَانِ:
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 53):
وهو تصحيف صوابه: (أبو عمر بن عبد البر) كما ذكره الشيخ في موضع آخر 5/ 577، وكلام ابن عبد البر هذا في (التمهيد) 7/ 136 - 137
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إثْبَاتُ أَمْرِهِ وَمَجِيءُ أَمْرِهِ. والثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ عَمْدُهُ وَقَصْدُهُ. وَهَكَذَا تَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} قَالُوا قَصَدَ وَعَمَدَ. وَهَذَا تَأْوِيلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُتَيْبَةَ ذَكَرَ فِي كِتَابِ " مُخْتَلِفِ الْحَدِيثِ " لَهُ: الَّذِي رَدَّ فِيهِ عَلَى أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ يَطْعَنُونَ فِي الْحَدِيثِ. فَقَالَ: قَالُوا حَدِيثٌ فِي التَّشْبِيهِ يُكَذِّبُهُ الْقُرْآنُ وَالْإِجْمَاعُ. قَالُوا رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {يَنْزِلُ اللَّهُ تبارك وتعالى إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ. أَوْ مُسْتَغْفِرٍ؟ فَأَغْفِرَ لَهُ} و {يَنْزِلُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ إلَى أَهْلِ عَرَفَةَ} . و {يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ} . وَهَذَا خِلَافٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} . فَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ أَنَّهُ يَكُونُ بِكُلِّ مَكَانٍ. وَلَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ. وَنَحْنُ نَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} أَنَّهُ مَعَهُمْ بِالْعِلْمِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ لِرَجُلِ وَجَّهْته إلَى بَلَدٍ شَاسِعٍ وَوَكَّلْته بِأَمْرِ مِنْ أَمْرِك:
احْذَرْ التَّقْصِيرَ وَالْإِغْفَالَ لِشَيْءِ مِمَّا تَقَدَّمْت فِيهِ إلَيْك؛ فَإِنِّي مَعَك؛ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيَّ تَقْصِيرُك أَوْ جَدُّك بِالْإِشْرَافِ عَلَيْك؛ وَالْبَحْثِ عَنْ أُمُورِك؛ فَإِذَا جَازَ هَذَا فِي الْمَخْلُوقِ وَاَلَّذِي لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ: فَهُوَ فِي الْخَالِقِ الَّذِي يَعْلَمُ الْغَيْبَ أجوز. وَكَذَلِكَ هُوَ بِكُلِّ مَكَانٍ يَرَاك لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْأَمَاكِنِ هُوَ فِيهَا بِالْعِلْمِ بِهَا وَالْإِحَاطَةِ فَكَيْفَ يَسُوغُ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ بِكُلِّ مَكَانٍ عَلَى الْحُلُولِ مَعَ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أَيْ اسْتَقَرَّ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} أَيْ اسْتَقْرَرْت وَمَعَ قَوْلِهِ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ؟ . وَكَيْفَ يَصْعَدُ إلَيْهِ شَيْءٌ هُوَ مَعَهُ أَوْ يَرْتَفِعُ إلَيْهِ عَمَلٌ هُوَ عِنْدَهُ؟ وَكَيْفَ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَتَعْرُجُ بِمَعْنَى تَصْعَدُ يُقَالُ عَرَجَ إلَى السَّمَاءِ إذَا صَعِدَ وَاَللَّهُ ذُو الْمَعَارِجِ وَالْمَعَارِجُ الدَّرَجُ. فَمَا هَذِهِ الدَّرَجُ؟ فَإِلَى مَنْ تُؤَدِّي الْمَلَائِكَةُ الْأَعْمَالَ إذَا كَانَ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى مِثْلُهُ بِالْمَحَلِّ الْأَدْنَى وَلَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ رَجَعُوا إلَى فِطَرِهِمْ وَمَا رُكِّبَتْ عَلَيْهِ خِلْقَتُهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ: لَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ وَهُوَ الْأَعْلَى وَبِالْمَكَانِ الرَّفِيعِ وَأَنَّ الْقُلُوبَ عِنْدَ الذِّكْرِ تَسْمُو نَحْوَهُ وَالْأَيْدِي تَرْتَفِعُ بِالدُّعَاءِ إلَيْهِ. وَمِنْ الْعُلُوِّ يُرْجَى الْفَرَجُ وَيُتَوَقَّعُ النَّصْرُ وَالرِّزْقُ.
وَهُنَاكَ الْكُرْسِيُّ وَالْعَرْشُ وَالْحُجُبُ وَالْمَلَائِكَةُ. يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} . وَقَالَ فِي الشُّهَدَاءِ: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قِيلَ لَهُمْ شُهَدَاءُ: لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ مَلَكُوتَ اللَّهِ وَاحِدُهُمْ شَهِيدٌ كَمَا يُقَالُ: عَلِيمٌ وَعُلَمَاءُ وَكَفِيلٌ وَكُفَلَاءُ. وَقَالَ عز وجل: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} أَيْ لَاِتَّخَذْنَا ذَلِكَ عِنْدَنَا لَا عِنْدَكُمْ؛ لِأَنَّ زَوْجَةَ الرَّجُلِ وَوَلَدَهُ يَكُونَانِ عِنْدَهُ بِحَضْرَتِهِ لَا عِنْدَ غَيْرِهِ. وَالْأُمَمُ كُلُّهَا؛ عَجَمُهَا وَعَرَبُهَا تَقُولُ: إنَّ اللَّهَ عز وجل فِي السَّمَاءِ مَا تُرِكَتْ عَلَى فِطْرَتِهَا وَلَمْ تُنْقَلْ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّعْلِيمِ. وَفِي الْحَدِيثِ {أَنَّ رَجُلًا أَتَى إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَمَةِ أَعْجَمِيَّةٍ لِلْعِتْقِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؛ فَقَالَ هِيَ مُؤْمِنَةٌ وَأَمَرَهُ بِعِتْقِهَا} .
وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
مَجِّدُوا اللَّهَ فَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ
…
رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيرَا
بِالْبِنَاءِ الْأَعْلَى الَّذِي سَبَقَ النَّاسَ
…
وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ سَرِيرَا
شَرْجَعًا مَا يَنَالُهُ بَصَرُ الْعَيْنِ
…
تُرَى دُونَهُ الْمَلَائِكُ صَوْرَا
وَصَوْرًا جَمْعُ أَصْوَرَ وَهُوَ الْمَائِلُ الْعُنُقِ وَهَكَذَا قِيلَ فِي حَمَلَةِ الْعَرْشِ صُورٌ وَكُلُّ مَنْ حَمَلَ شَيْئًا ثَقِيلًا عَلَى كَاهِلِهِ أَوْ عَلَى مَنْكِبِهِ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ يَمِيلَ عُنُقُهُ. وَفِي " الْإِنْجِيلِ " أَنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام قَالَ: لَا تَحْلِفُوا بِالسَّمَاءِ فَإِنَّهَا كُرْسِيُّ اللَّهِ. وَقَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ: إنْ أَنْتُمْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ فَإِنَّ أَبَاكُمْ - الَّذِي فِي السَّمَاءِ - يَغْفِرُ لَكُمْ كُلِّكُمْ اُنْظُرُوا إلَى طَيْرِ السَّمَاءِ: فَإِنَّهُنَّ لَا يَزْرَعْنَ وَلَا يَحْصُدْنَ وَلَا يَجْمَعْنَ فِي الْأَهْوَاءِ وَأَبُوكُمْ الَّذِي فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يَرْزُقُهُمْ أَفَلَسْتُمْ أَفْضَلَ مِنْهُنَّ؟ وَمِثْلُ هَذَا مِنْ الشَّوَاهِدِ كَثِيرٌ يَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحُلُولِ بِهِمَا وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ إلَهُ السَّمَاءِ وَمَنْ فِيهَا وَإِلَهُ الْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا. وَمِثْلُ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ قَوْلُك: هُوَ بِخُرَاسَانَ أَمِيرٌ وَبِمِصْرِ أَمِيرٌ؛ فَالْإِمَارَةُ تَجْتَمِعُ لَهُ فِيهِمَا وَهُوَ حَالٌّ بِأَحَدِهِمَا أَوْ بِغَيْرِهِمَا. هَذَا وَاضِحٌ لَا يَخْفَى. فَإِنْ قَالَ لَنَا: كَيْفَ النُّزُولُ مِنْهُ جَلَّ وَعَزَّ؟ قُلْنَا لَا نَحْكُمُ عَلَى النُّزُولِ مِنْهُ بِشَيْءِ؛ وَلَكِنَّا نُبَيِّنُ كَيْفَ النُّزُولُ مِنَّا وَمَا تَحْتَمِلُهُ اللُّغَةُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ.
وَالنُّزُولُ مِنَّا يَكُونُ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ كَنُزُولِك مِنْ الْجَبَلِ إلَى الْحَضِيضِ وَمِنْ السَّطْحِ إلَى الدَّارِ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: إقْبَالُك إلَى الشَّيْءِ بِالْإِرَادَةِ وَالنِّيَّةِ. كَذَلِكَ الْهُبُوطُ وَالِارْتِفَاعُ وَالْبُلُوغُ وَالْمَصِيرُ وَأَشْبَاهُ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ إنْ سَأَلَك سَائِلٌ عَنْ مَحَلِّ قَوْمٍ مِنْ الْأَعْرَابِ - وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْمَصِيرَ إلَيْهِمْ - فَتَقُولُ لَهُ: إذَا صِرْت إلَى جَبَلِ كَذَا فَانْزِلْ مِنْهُ وَخُذْ يَمِينًا وَإِذَا صِرْت إلَى وَادِي كَذَا فَاهْبِطْ فِيهِ ثُمَّ خُذْ شِمَالًا وَإِذَا سِرْت إلَى أَرْضِ كَذَا فَاعْلُ هَضْبَةً هُنَاكَ حَتَّى تُشْرِفَ عَلَيْهِمْ؛ وَأَنْتَ لَا تُرِيدُ فِي شَيْءٍ مِمَّا تَقُولُهُ افْعَلْهُ بِبَدَنِك إنَّمَا تُرِيدُ افْعَلْهُ بِنِيَّتِك وَقَصْدِك. وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: بَلَغْت إلَى الْأَحْزَابِ تَشْتُمُهُمْ وَصِرْت إلَى الْخُلَفَاءِ تَطْعَنُ عَلَيْهِمْ وَجِئْت إلَى الْعِلْمِ تَزْهَدُ فِيهِ وَنَزَلْت عَنْ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ إلَى الدَّنَاءَةِ؛ لَيْسَ يُرَادُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا انْتِقَالَ الْجِسْمِ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْقَصْدُ إلَى الشَّيْءِ بِالْإِرَادَةِ وَالْعَزْمِ وَالنِّيَّةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} لَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مَعَهُمْ بِالْحُلُولِ؛ وَلَكِنْ بِالنَّصْرِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْحِيَاطَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل: {مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْت مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْت مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً} .
قَالَ: ثَنَا عَنْ عَبْدِ الْمُنْعِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ {أَنَّ مُوسَى عليه السلام لَمَّا نُودِيَ مِنْ الشَّجَرَةِ {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} أَسْرَعَ الْإِجَابَةَ وَتَابَعَ التَّلْبِيَةَ وَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا اسْتِئْنَاسًا مِنْهُ بِالصَّوْتِ وَسُكُونًا إلَيْهِ. وَقَالَ: إنِّي أَسْمَعُ صَوْتَك وَأَحُسُّ حِسَّك وَلَا أَدْرِي مَكَانَك فَأَيْنَ أَنْتَ؟. قَالَ: أَنَا فَوْقَك وَأَمَامَك وَخَلْفَك وَمُحِيطٌ بِك وَأَقْرَبُ إلَيْك مِنْ نَفْسِك} يُرِيدُ أَنِّي أَعْلَمُ بِك مِنْك؛ لِأَنَّك إذَا نَظَرْت إلَى مَا بَيْنَ يَدَيْك خَفِيَ عَلَيْك مَا وَرَاءَك وَإِذَا سَمَوْت بِطَرْفِك إلَى مَا هُوَ فَوْقَك ذَهَبَ عَنْك عِلْمُ مَا تَحْتَك وَأَنَا لَا يَخْفَى عَلَيَّ خَافِيَةٌ مِنْك فِي جَمِيعِ أَحْوَالِك. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ رَابِعَةَ الْعَابِدَةِ العدوية قَالَتْ: شَغَلُوا قُلُوبَهُمْ عَنْ اللَّهِ بِحُبِّ الدُّنْيَا وَلَوْ تَرَكُوهَا لَجَالَتْ فِي الْمَلَكُوتِ ثُمَّ رَجَعَتْ إلَيْهِمْ بِطَرْفِ الْفَائِدَةِ وَلَمْ تُرِدْ أَنَّ أَبْدَانَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ تَجُولُ فِي السَّمَاءِ بِالْحُلُولِ؛ وَلَكِنْ تَجُولُ هُنَاكَ بِالْفِكْرِ وَالْقَصْدِ وَالْإِقْبَالِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي ممندية الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: اطَّلَعْت فِي النَّارِ فَرَأَيْت الشُّعَرَاءَ لَهُمْ كظيظ يَعْنِي الْتِقَاءً وَأَنْشَدَ فِيهِ: - جِيَادٌ بِهَا صَرْعَى لَهُنَّ كظيظ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {اطَّلَعْت فِي الْجَنَّةِ
(*) انظر التعليق التالي
فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْت فِي النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ} إنَّ اطِّلَاعَهُ فِيهَا كَانَ بِالْفِكْرَةِ وَالْإِقْبَالِ كَانَ حَسَنًا. قُلْت: وَتَأْوِيلُ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ. وَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ} وَجَعَلَ ابْنُ الزَّاغُونِي وَغَيْرُهُ ذَلِكَ: هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَالصَّوَابُ: أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ مُبْتَدَعَةٌ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ شَيْئًا مِنْهَا وَلَا أَحَدٌ مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ وَهِيَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ الْمُتَوَاتِرُ عَنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ. وَلَكِنَّ بَعْضَ الْخَائِضِينَ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ يَتَشَبَّثُ بِأَلْفَاظِ تُنْقَلُ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ وَتَكُونُ إمَّا غَلَطًا أَوْ مُحَرَّفَةً؛ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ قَوْلَ الأوزاعي وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ فِي النُّزُولِ " يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ " فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ النُّزُولَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ: (يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) هَذَا الْمَعْنَى وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ. [وَآخَرُونَ - كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي " إبْطَالِ التَّأْوِيلِ " - قَالُوا لَمْ يُرِدْ الأوزاعي أَنَّ النُّزُولَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَشَبَّهُوا ذَلِكَ (*) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ
عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} فَزَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ " سُبْحَانَهُ ": لَيْسَ تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ] (*) - بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ الْفَاسِدِ وَهُوَ: أَنَّ الرَّبَّ لَا يُنَزَّهُ عَنْ فِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ - بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ جَعَلُوا قَوْلَ الأوزاعي وَغَيْرِهِ: إنَّ النُّزُولَ لَيْسَ بِفِعْلِ يَشَاؤُهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ لَا مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ وَأَنَّ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لَا تَقُومُ بِذَاتِ اللَّهِ. فَلَوْ كَانَ صِفَةَ فِعْلٍ لَزِمَ أَنْ لَا يَقُومَ بِذَاتِهِ؛ بَلْ يَكُونُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: النُّزُولُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ عِنْدَهُمْ أَزَلِيٌّ كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالرِّضَى وَالْغَضَبِ وَالْفَرَحِ وَالضَّحِكِ وَسَائِرِ ذَلِكَ: إنَّ هَذَا جَمِيعَهُ صِفَاتٌ ذَاتِيَّةٌ لِلَّهِ وَإِنَّهَا قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ الَّذِي وَافَقُوا فِيهِ ابْنَ كُلَّابٍ وَهُوَ أَنَّ الرَّبَّ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ؛ بَلْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ يَحْدُثُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ. بَلْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْفِعْلَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ وَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ فَسَادُ هَذَا مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ؛ كَمَا قَالُوا
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 53):
هنا تنبيهان:
الأول: قوله (وشهوا ذلك) تصحيف صوابه (وشبهوا ذلك).
والثاني: قوله (فزعموا أن قوله سبحانه: ليس تنزيها) خطأ في الرسم، وصوابه (فزعموا أن قوله " سبحانه " ليس تنزيها. .) فقوله هنا (سبحانه) ليس وصفاً، بل هو مقول القول.
مِثْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ: إنَّ الْفَلَكَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ وَإِنَّهُ أَبْدَعَهُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: الشَّيْءُ الْمُعَيَّنُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ إذَا كَانَ حَاصِلًا بِمَشِيئَةِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ لَمْ يَكُنْ أَزَلِيًّا. فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَصْلِ ابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ كَالْحَارِثِ المحاسبي وَأَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقُضَاةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَأَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ وَأَبِي جَعْفَرٍ السَّمَّانِيِّ وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَعْيَانِ؛ كَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَمْثَالِهِ؛ وَأَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَأَمْثَالِهِمَا: أَنَّ الرَّبَّ لَا يَقُومُ بِهِ مَا يَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَيُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَا تُحِلُّهُ الْحَوَادِثُ وَوَافَقُوا فِي ذَلِكَ الْجَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعَهُ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ صَارُوا فِيمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ: إمَّا أَنْ يَجْعَلُوهَا كُلَّهَا مَخْلُوقَاتٍ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ. فَيَقُولُونَ: كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ بَائِنٌ عَنْهُ؛ لَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ. وَكَذَلِكَ رِضَاهُ وَغَضَبُهُ وَفَرَحُهُ وَمَجِيئُهُ وَإِتْيَانُهُ وَنُزُولُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ هُوَ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ لَا يَتَّصِفُ الرَّبُّ بِشَيْءِ يَقُومُ بِهِ عِنْدَهُمْ. وَإِذَا قَالُوا هَذِهِ الْأُمُورُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ: فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا مُنْفَصِلَةٌ عَنْ اللَّهِ بَائِنَةٌ وَهِيَ مُضَافَةٌ إلَيْهِ؛ لَا أَنَّهَا صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِهِ.
وَلِهَذَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إنَّ هَذِهِ آيَاتُ الْإِضَافَاتِ وَأَحَادِيثُ الْإِضَافَاتِ وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلُوا جَمِيعَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً وَيَقُولُونَ نُزُولُهُ وَمَجِيئُهُ وَإِتْيَانُهُ وَفَرَحُهُ وَغَضَبُهُ وَرِضَاهُ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ: قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ كَمَا يَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ مَعْنًى وَاحِدًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ حُرُوفًا أَوْ حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً مَعَ كَوْنِهِ مُرَتَّبًا فِي نَفْسِهِ. وَيَقُولُونَ: فَرْقٌ بَيْنَ تَرْتِيبِ وُجُودِهِ وَتَرْتِيبِ مَاهِيَّتِهِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَقَائِلِيهَا؛ وَأَدِلَّتِهَا السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا قَوْلَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْإِمَامَةِ - أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ - كالأوزاعي وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَمْثَالِهِمْ؛ بَلْ أَقْوَالُ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: مَوْجُودَةٌ فِي الْكُتُبِ الَّتِي يُنْقَلُ فِيهَا أَقْوَالُهُمْ بِأَلْفَاظِهَا بِالْأَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ عَنْهُمْ. كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ مِثْلِ كِتَابِ " السُّنَّةِ "" وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة "
لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الجعفي شَيْخِ الْبُخَارِيِّ؛ وَلِأَبِي دَاوُد السجستاني وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَلِأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ وَلِحَنْبَلِ بْنِ إسْحَاقَ وَلِحَرْبِ الكرماني وَلِعُثْمَانِ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَلِنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ الخزاعي وَلِأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَلِأَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَة وَلِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَلِأَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِي وَلِأَبِي الشَّيْخِ الأصبهاني وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده وَلِأَبِي عَمْرٍو الطلمنكي وَأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ. وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُسْنَدَةِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ ذَلِكَ مِثْلُ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَعَبْدِ بْنِ حميد ودحيم وسنيد وَابْنِ جَرِيرٍ الطبري وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ؛ وَتَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الَّتِي يُنْقَلُ فِيهَا أَلْفَاظُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ بِالْأَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ. فَإِنَّ مَعْرِفَةَ مُرَادِ الرَّسُولِ وَمُرَادِ الصَّحَابَةِ هُوَ أَصْلُ الْعِلْمِ وَيَنْبُوعُ الْهُدَى؛ وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَذْكُرُ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَيَحْكِيهِ لَا يَكُونُ لَهُ خِبْرَةٌ بِشَيْءِ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا يَظُنُّونَ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا. أَنَّهُ لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مَعَانِيَهَا؛ لَا الرَّسُولُ وَلَا غَيْرُهُ وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} مَعَ نَصْرِهِمْ لِلْوَقْفِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَيَجْعَلُونَ مَضْمُونَ مَذْهَبِ السَّلَفِ أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَ قُرْآنًا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ؛ بَلْ تَكَلَّمَ بِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَهُوَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهَا وَأَنَّ جِبْرِيلَ كَذَلِكَ؛ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ كَذَلِكَ.
وَهَذَا ضَلَالٌ عَظِيمٌ وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الضَّلَالِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ظَنُّ أَهْلِ التَّخْيِيلِ وَظَنُّ أَهْلِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَظَنُّ أَهْلِ التَّجْهِيلِ. وَهَذَا مِمَّا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ. وَاَللَّهُ يَهْدِينَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْكَلَامُ عَلَى مَنْ يَقُولُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَإِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ فِي هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ: يَخْلُو أَوْ لَا يَخْلُو كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَقَدْ صَنَّفَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ منده مُصَنَّفًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا يَخْلُو مِنْ الْعَرْشِ أَوْ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ - كَمَا تَقَدَّمَ بَعْضُ كَلَامِهِ -. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَتَوَقَّفُ عَنْ أَنْ يَقُولَ يَخْلُو أَوْ لَا يَخْلُو. وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَتَوَقَّفُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: يَخْلُو أَوْ لَا يَخْلُو لِشَكِّهِمْ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ جَوَابُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَأَمَّا مَعَ كَوْنِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ قَدْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَكِنْ يُمْسِكُ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ
وَلِمَا يُخَافُ مِنْ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْجَزْمُ بِخُلُوِّ الْعَرْشِ فَلَمْ يَبْلُغْنَا إلَّا عَنْ طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ - وَهُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا - أَنَّهُ لَا يَزَالُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا يَخْلُو الْعَرْشُ مِنْهُ مَعَ دُنُوِّهِ وَنُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يَكُونُ الْعَرْشُ فَوْقَهُ. وَكَذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلَيْسَ نُزُولُهُ كَنُزُولِ أَجْسَامِ بَنِي آدَمَ مِنْ السَّطْحِ إلَى الْأَرْضِ بِحَيْثُ يَبْقَى السَّقْفُ فَوْقَهُمْ بَلْ اللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ النَّافِي: إنَّمَا يَنْزِلُ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ؛ فَهَذَا غَلَطٌ لِوُجُوهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْنُّفَاةِ مِنْ الْمُثْبِتَةِ لِلْعُلُوِّ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ الْنُّفَاةِ لِلْعُلُوِّ وَالنُّزُولِ جَمِيعًا؛ فَيُجَابُ أَيْضًا بِوُجُوهِ: (أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَمْرَ وَالرَّحْمَةَ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا كَالْمَلَائِكَةِ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا صِفَاتٌ وَأَعْرَاضٌ. فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلَ. فَالْمَلَائِكَةُ تَنْزِلُ إلَى الْأَرْضِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَهَذَا خَصَّ النُّزُولَ بِجَوْفِ اللَّيْلِ وَجَعَلَ مُنْتَهَاهُ سَمَاءَ الدُّنْيَا وَالْمَلَائِكَةُ لَا يَخْتَصُّ نُزُولُهُمْ لَا بِهَذَا الزَّمَانِ وَلَا بِهَذَا الْمَكَانِ. وَإِنْ أُرِيدَ صِفَاتٌ وَأَعْرَاضٌ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ فِي قُلُوبِ الْعَابِدِينَ فِي وَقْتِ السَّحَرِ مِنْ الرِّقَّةِ وَالتَّضَرُّعِ وَحَلَاوَةِ الْعِبَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا حَاصِلٌ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ مُنْتَهَاهُ السَّمَاءُ الدُّنْيَا.
الثَّانِي: أَنَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {أَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَقُولُ لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي} وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقُولُهُ غَيْرُهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: {يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُجِيبُ الدُّعَاءَ وَيَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَيُعْطِي كُلَّ سَائِلٍ سُؤَالَهُ إلَّا اللَّهُ وَأَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
الرَّابِعُ: نُزُولُ أَمْرِهِ وَرَحْمَتِهِ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْهُ؛ وَحِينَئِذٍ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ فَنَفْسُ تَأْوِيلِهِ يُبْطِلُ مَذْهَبَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْنُّفَاةِ لِبَعْضِ الْمُثْبِتِينَ: يَنْزِلُ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ؛ فَقَالَ لَهُ الْمُثْبِتُ: فَمِمَّنْ يَنْزِلُ مَا عِنْدَك فَوْقُ شَيْءٌ؛ فَلَا يَنْزِلُ مِنْهُ لَا أَمْرٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ فَبُهِتَ النَّافِي وَكَانَ كَبِيرًا فِيهِمْ. (الْخَامِسُ: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ: " ثُمَّ يَعْرُجُ " وَفِي لَفْظٍ " ثُمَّ يَصْعَدُ ".
السَّادِسُ: أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّ النَّازِلَ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ وَأَنَّهُ يُنَادِي عَنْ اللَّهِ كَمَا حَرَّفَ بَعْضُهُمْ لَفْظَ الْحَدِيثِ فَرَوَاهُ " يَنْزِلُ " مِنْ الْفِعْلِ الرُّبَاعِيِّ الْمُتَعَدِّي أَنَّهُ يَأْمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي؛ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ يَدْعُو اللَّهَ فَيَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُهُ فَيُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُهُ فَيَغْفِرَ لَهُ؟ كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " " وَمُوَطَّأِ
مَالِكٍ و " مُسْنَدِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ " وَغَيْرِ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى فِي السَّمَاءِ يَا جِبْرِيلُ إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ؛ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ؛ ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ؛ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ} وَقَالَ فِي الْبُغْضِ مِثْلَ ذَلِكَ. فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْفَرْقَ بَيْنَ نِدَاءِ اللَّهِ وَنِدَاءِ جِبْرِيلَ فَقَالَ فِي نِدَاءِ اللَّهِ: {يَا جِبْرِيلُ إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ} وَقَالَ فِي نِدَاءِ جِبْرِيلَ {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ} وَهَذَا مُوجَبُ اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خُوطِبْنَا بَلْ وَمُوجَبُ جَمِيعِ اللُّغَاتِ فَإِنَّ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ لَا يَقُولُهُ إلَّا الْمُتَكَلِّمُ. فَأَمَّا مَنْ أَخْبَرَ عَنْ غَيْرِهِ فَإِنَّمَا يَأْتِي بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ وَضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ. وَهُمْ يُمَثِّلُونَ نِدَاءَ اللَّهِ بِنِدَاءِ السُّلْطَانِ وَيَقُولُونَ: قَدْ يُقَالُ: نَادَى السُّلْطَانُ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِالنِّدَاءِ - وَهَذَا كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةُ فِي تَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى: إنَّهُ أَمَرَ غَيْرَهُ فَكَلَّمَهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ. فَيُقَالُ لَهُمْ: إنَّ السُّلْطَانَ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُنَادِيَ أَوْ يُكَلِّمَ غَيْرَهُ أَوْ يُخَاطِبَهُ؛ فَإِنَّ الْمُنَادِيَ يُنَادِي: مَعَاشِرَ النَّاسِ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِكَذَا أَوْ رَسَمَ بِكَذَا لَا يَقُولُ إنِّي أَنَا أَمَرْتُكُمْ بِذَلِكَ. وَلَوْ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ لَأَهَانَهُ النَّاسُ وَلَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ حَتَّى تَأْمُرَنَا وَالْمُنَادِي كُلَّ لَيْلَةٍ يَقُولُ: {مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟} كَمَا فِي نِدَائِهِ
لِمُوسَى عليه السلام {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وَقَالَ: {أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَوْ أَمَرَ مَلَكًا أَنْ يُنَادِيَ كُلَّ لَيْلَةٍ أَوْ يُنَادِيَ مُوسَى لَمْ يَقُلْ الْمَلَكُ: " مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ " وَلَا يَقُولُ: " لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي ".
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُعْتَرِضِ: إنَّ اللَّيْلَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالْفُصُولِ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ. فَيُقَالُ لَهُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا كَالْجَوَابِ عَنْ قَوْلِك: هَلْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَوْ لَا يَخْلُو مِنْهُ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَازَ أَنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ؛ فَتَقَدُّمُ النُّزُولِ وَتَأَخُّرُهُ وَطُولُهُ وَقِصَرُهُ كَذَلِكَ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا نُزُولٌ لَا يُقَاسُ بِنُزُولِ الْخَلْقِ. وَجِمَاعُ الْأَمْرِ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ يَكُونُ بِأَنْوَاعِ. (أَحَدُهَا: أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْمُنَازِعَ النَّافِيَ يَلْزَمُهُ مِنْ اللَّوَازِمِ مَا هُوَ أَبْعَدُ عَنْ الْمَعْقُولِ الَّذِي يَعْتَرِفُ بِهِ مِمَّا يَلْزَمُ الْمُثْبِتُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ مِنْ الْمَعْقُولِ حُجَّةً صَحِيحَةً؛ لَزِمَ بُطْلَانُ النَّفْيِ فَيَلْزَمُ الْإِثْبَاتُ؛ إذْ الْحَقُّ لَا يَخْلُو عَنْ النَّقِيضَيْنِ. وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا؛ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ الْإِثْبَاتُ فَلَا يُعَارِضُ مَا ثَبَتَ بِالْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشِّرْعَةِ النَّبَوِيَّةِ وَهَذَا كَمَا إذَا قَالَ: لَوْ كَانَ فَوْقَ الْعَرْشِ لَكَانَ جِسْمًا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ؛ فَيُقَالُ لَهُ: لِلنَّاسِ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَيْسَ بِجِسْمِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ جِسْمٌ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا أَقُولُ هُوَ جِسْمٌ وَلَا لَيْسَ بِجِسْمِ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْكُتُ عَنْ هَذَا النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَفْصِلُ عَنْ مُسَمَّى الْجِسْمِ. فَإِنْ فَسَّرَ بِمَا يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهُ نَفَاهُ وَبَيَّنَ أَنَّ عُلُوَّهُ عَلَى الْعَرْشِ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَإِنْ فَسَّرَ بِمَا يَتَّصِفُ الرَّبُّ بِهِ لَمْ يَنْفِ ذَلِكَ الْمَعْنَى. فَالْجِسْمُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْبَدَنُ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَأَهْلُ الْكَلَامِ قَدْ يُرِيدُونَ بِالْجِسْمِ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُنَازِعُ فِي كَوْنِ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا؛ بَلْ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ عِنْدَهُمْ أَنَّ السَّمَوَاتِ لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً لَا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ وَلَا مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُرَكَّبًا مِنْ هَذَا وَهَذَا؟ فَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ جِسْمٌ وَأَرَادَ بِالْجِسْمِ هَذَا الْمُرَكَّبَ؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ قَصَدَ نَفْيَ هَذَا التَّرْكِيبِ عَنْ اللَّهِ؛ فَقَدْ أَصَابَ فِي نَفْيِهِ عَنْ اللَّهِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ عِبَارَةً تُبَيِّنُ مَقْصُودَهُ. وَلَفْظُ التَّرْكِيبِ قَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ رَكَّبَهُ مُرَكَّبٍ أَوْ أَنَّهُ كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ مُتَفَرِّقَةً فَاجْتَمَعَ أَوْ أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّفْرِيقَ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ الْجِسْمِ وَالْمُتَحَيِّزِ مَا يُشَارُ إلَيْهِ بِمَعْنَى أَنَّ الْأَيْدِيَ تُرْفَعُ إلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ يُقَالُ: هُوَ هُنَا وَهُنَاكَ وَيُرَادُ بِهِ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ وَيُرَادُ بِهِ الْمَوْجُودُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَهُوَ عِنْدَ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ وَهُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ. فَإِذَا سَمَّى الْمُسَمِّي مَا يَتَّصِفُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي جِسْمًا؛ كَانَ كَتَسْمِيَةِ الْآخَرِ مَا يَتَّصِفُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ جِسْمًا وَتَسْمِيَةُ الْآخَرِ مَا لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ جِسْمًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ يُنَازِعُونَ فِي ثَلَاثِ مَقَامَاتٍ: (أَحَدُهَا أَنَّ تَسْمِيَةَ مَا يَتَّصِفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ بِالْجِسْمِ بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ؛ فَلَا أَهْلُ اللُّغَةِ يُسَمُّونَ هَذَا جِسْمًا بَلْ الْجِسْمُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْبَدَنُ كَمَا نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي " صِحَاحِهِ " الْمَشْهُورِ: قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْجِسْمُ الْجَسَدُ وَكَذَلِكَ الْجُسْمَانُ وَالْجُثْمَانُ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْجِسْمُ وَالْجُثْمَانُ الْجَسَدُ وَالْجُثْمَانُ الشَّخْصُ قَالَ: وَالْأَجْسَمُ الْأَضْخَمُ بِالْبَدَنِ وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: تَجَسَّمْت الْأَمْرَ أَيْ رَكِبْت أَجْسَمَهُ وَجَسِيمَهُ أَيْ مُعْظَمَهُ قَالَ: وَكَذَلِكَ تَجَسَّمْت الرَّجُلَ وَالْجَبَلَ أَيْ رَكِبْت أَجْسَمَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ لَفْظَ الْجِسْمِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ؛ فِي قَوْله تَعَالَى {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} وَالْجِسْمُ قَدْ يُفَسَّرُ بِالصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِالْمَحَلِّ وَهُوَ الْقَدْرُ وَالْغِلَظُ كَمَا يُقَالُ هَذَا الثَّوْبُ
لَهُ جِسْمٌ وَهَذَا لَيْسَ لَهُ جِسْمٌ أَيْ لَهُ غِلَظٌ وَضَخَامَةٌ بِخِلَافِ هَذَا وَقَدْ يُرَادُ بِالْجِسْمِ نَفْسُ الْغِلَظِ والضخم. وَقَدْ ادَّعَى طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْنُّفَاةِ أَنَّ الْجِسْمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمُؤَلَّفُ الْمُرَكَّبُ وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُمْ لَفْظَ الْجِسْمِ فِي كُلِّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ؛ قَالُوا: لِأَنَّ كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ الَّتِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا جُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ وَلَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ جَانِبٌ عَنْ جَانِبٍ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ اللَّذَيْنِ هُمَا جَوْهَرَانِ عَقْلِيَّانِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ هَذَا مُرَكَّبًا مُؤَلَّفًا؛ فَالْجِسْمُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ الْمُؤَلَّفُ الْمُرَكَّبُ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: رَجُلٌ جَسِيمٌ وَزَيْدٌ أَجْسَمُ مِنْ عَمْرٍو إذَا كَثُرَ ذَهَابُهُ فِي الْجِهَاتِ وَلَيْسَ يَقْصِدُونَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي قَوْلِهِمْ: أَجْسَمُ وَجَسِيمٌ إلَّا كَثْرَةَ الْأَجْزَاءِ الْمُنْضَمَّةِ وَالتَّأْلِيفَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ: أَجْسَمُ فِيمَنْ كَثُرَتْ عُلُومُهُ وَقَدْرُهُ وَسَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ وَصِفَاتُهُ غَيْرُ الِاجْتِمَاعِ حَتَّى إذَا كَثُرَ الِاجْتِمَاعُ فِيهِ بِتَزَايُدِ أَجْزَائِهِ قِيلَ: أَجْسَمُ وَرَجُلٌ جَسِيمٌ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ: جَسَّمَ؛ مُفِيدٌ لِلتَّأْلِيفِ. فَهَذَا أَصْلُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْنُّفَاةِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: سَمْعِيٍّ لُغَوِيٍّ وَنَظَرِيٍّ عَقْلِيٍّ فِطْرِيٍّ. أَمَّا السَّمْعِيُّ اللُّغَوِيُّ فَقَوْلُهُمْ: إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْجِسْمِ عَلَى الْمُرَكَّبِ
وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: هُوَ أَجْسَمُ إذَا كَانَ أَغْلَظَ وَأَكْثَرَ ذَهَابًا فِي الْجِهَاتِ وَأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ اعْتَبَرُوا كَثْرَةَ الْأَجْزَاءِ. فَيُقَالُ: أَمَّا " الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى " وَهُوَ: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُسَمُّونَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ مِقْدَارٌ بِحَيْثُ يَكُونُ أَكْبَرَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ أَصْغَرَ؛ جِسْمًا؛ فَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَلْبَتَّةَ وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْهَوَاءَ الَّذِي بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ جِسْمًا وَلَا يُسَمُّونَ رُوحَ الْإِنْسَانِ جِسْمًا. بَلْ مِنْ الْمَشْهُورِ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْجِسْمِ وَالرُّوحِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} يَعْنِي أَبْدَانَهُمْ دُونَ أَرْوَاحِهِمْ الْبَاطِنَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ نَقَلَةُ اللُّغَةِ أَنَّ الْجِسْمَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْجَسَدُ. وَمِنْ الْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَتَضَمَّنُ الْغِلَظَ وَالْكَثَافَةَ فَلَا يُسَمُّونَ الْأَشْيَاءَ الْقَائِمَةَ بِنَفْسِهَا إذَا كَانَتْ لَطِيفَةً كَالْهَوَاءِ وَرُوحِ الْإِنْسَانِ وَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ مِقْدَارٌ يَكُونُ بِهِ بَعْضُهُ أَكْبَرَ مِنْ بَعْضٍ لَكِنْ لَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ ذَلِكَ جِسْمًا وَلَا يَقُولُونَ فِي زِيَادَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ: هَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا وَلَا يَقُولُونَ هَذَا الْمَكَانُ الْوَاسِعُ أَجْسَمُ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ الضَّيِّقِ؛ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ زَائِدَةً عَلَى أَجْزَائِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْأَجْزَاءِ. فَلَيْسَ كُلُّ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ عِنْدَهُمْ مِنْ الْأَجْزَاءِ يُسَمَّى جِسْمًا وَلَا يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ قَبَضَ جِسْمَهُ وَلَا صَعِدَ بِجِسْمِهِ إلَى السَّمَاءِ وَلَا أَنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ
أَجْسَامَنَا حَيْثُ يَشَاءُ وَيَرُدُّهَا حَيْثُ شَاءَ: إنَّمَا يُسَمُّونَ ذَلِكَ رُوحًا وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مُسَمَّى الرُّوحِ وَمُسَمَّى الْجِسْمِ كَمَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَدَنِ وَالرُّوحِ وَكَمَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ فَلَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْجِسْمِ عَلَى الْهَوَاءِ؛ فَلَفْظُ الْجِسْمِ عِنْدَهُمْ يُشْبِهُ لَفْظَ الْجَسَدِ؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْجَسَدُ الْبَدَنُ تَقُولُ فِيهِ تَجَسَّدَ كَمَا تَقُولُ فِي الْجِسْمِ تَجَسَّمَ؛ كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ أَنَّ الْجِسْمَ هُوَ الْجَسَدُ. فَعُلِمَ أَنَّ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مُتَرَادِفَانِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ التَّرَادُفِ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ لِهَذَا الثَّوْبِ جَسَدٌ؛ كَمَا يَقُولُونَ لَهُ جِسْمٌ إذَا كَانَ غَلِيظًا ثَخِينًا صَفِيقًا وَتَقُولُ الْعُلَمَاءُ النَّجَاسَةُ قَدْ تَكُونُ مستجسدة كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَقَدْ لَا تَكُونُ مستجسدة كَالرُّطُوبَةِ وَيُسَمُّونَ الدَّمَ جَسَدًا كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: - فَلَا لَعَمْرُ الَّذِي قَدْ زُرْته حُجَجًا
…
وَمَا أُرِيقَ عَلَى الْأَنْصَابِ مِنْ جَسَدِ
كَمَا يَقُولُونَ: لَهُ جِسْمٌ، فَبَطَلَ مَا ذَكَرُوهُ عَنْ اللُّغَةِ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ يُسَمُّونَهُ جِسْمًا. " الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ ": أَنَّهُ لَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُمْ: إنَّ هَذَا " جِسْمٌ " يُطْلِقُونَهُ عِنْدَ تَزَايُدِ الْأَجْزَاءِ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ: وَهَذَا لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ صَحِيحٌ؛ فَأَهْلُ اللُّغَةِ لَمْ يَعْتَبِرُوهُ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ إنَّمَا لَحَظُوا غِلَظَهُ وَكَثَافَتَهُ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ اعْتَبَرُوا كَثْرَةَ الْأَجْزَاءِ وَقِلَّتَهَا: فَهَذَا لَا يَتَصَوَّرُهُ
أَكْثَرُ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُنْقَلَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً أَنَّهُمْ أَرَادُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ جَسِيمٌ وَأَجْسَمُ. وَالْمَعْنَى الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ لَا يَكُونُ مُسَمَّاهُ مَا لَا يَفْهَمُهُ إلَّا بَعْضُ النَّاسِ وَإِثْبَاتُ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ أَمْرٌ خُصَّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ؛ فَلَا يَكُونُ مُسَمَّى الْجِسْمِ فِي اللُّغَةِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا بَعْضُ النَّاسِ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا " الْأَصْلُ الثَّانِي الْعَقْلِيُّ " فَقَوْلُهُمْ؛ إنَّ كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ بِأَنَّهُ هُنَا أَوْ هُنَاكَ؛ فَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ. وَهَذَا بَحْثٌ عَقْلِيٌّ وَأَكْثَرُ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ - مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَغَيْرِ أَهْلِ الْكَلَامِ - يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُرَكَّبًا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَإِنْكَارُ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ الْكُلَّابِيَة - وَهُوَ إمَامُ الْأَشْعَرِيِّ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ - وَهُوَ قَوْلُ الهشامية والنجارية والضرارية وَبَعْضِ الكَرَّامِيَة. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَثْبَتُوا " الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ " زَعَمُوا أَنَّا لَا نَعْلَمُ: لَا بِالْحِسِّ وَلَا بِالضَّرُورَةِ أَنَّ اللَّهَ أَبْدَعَ شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا نَشْهَدُهُ مَخْلُوقٌ - مِنْ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ وَبَنِيَّ آدَمَ وَغَيْرِ بَنِي آدَمَ - فَإِنَّ مَا فِيهِ أَنَّهُ أَحْدَثُ أَكْوَانًا فِي الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ كَالْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَأَنْكَرَ هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ لَمَّا خَلَقَنَا أَحْدَثَ أَبْدَانَنَا قَائِمَةً بِأَنْفُسِهَا أَوْ شَجَرًا وَثَمَرًا أَوْ شَيْئًا آخَرَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَحْدَثَ عِنْدَهُمْ أَعْرَاضًا. وَأَمَّا الْجَوَاهِرُ الْمُنْفَرِدَةُ فَلَمْ تَزَلْ مَوْجُودَةً. ثُمَّ مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا مُحْدَثَةٌ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُمْ عَلِمُوا حُدُوثَهَا بِأَنَّهَا لَمْ تَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ؛ فَهُوَ حَادِثٌ.
قَالُوا: فَبِهَذَا " الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ " وَأَمْثَالِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا أَبْدَعَ شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّا نَشْهَدُهُ مِنْ حُلُولِ الْحَوَادِثِ الْمَشْهُودَةِ كَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ. وَهَؤُلَاءِ فِي " مَعَادِ الْأَبْدَانِ " يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُفَرِّقُ الْأَجْزَاءَ ثُمَّ يَجْمَعُهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يُعْدِمُهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا. وَاضْطَرَبُوا هَهُنَا فِيمَا إذَا أَكَلَ حَيَوَانٌ حَيَوَانًا فَكَيْفَ يُعَادُ؟ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّهَ يُعْدِمُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هَذَا مُمْكِنٌ لَا نَعْلَمُ ثُبُوتَهُ وَلَا انْتِفَاءَهُ. ثُمَّ " الْمَعَادُ " عِنْدَهُمْ يَفْتَقِرُ أَنْ يَبْتَدِئَ هَذِهِ الْجَوَاهِرَ وَالْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ مِنْهُمْ يَقُولُ بِعَدَمِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَيَقُولُ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لِامْتِنَاعِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ عِنْدَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَامْتِنَاعِ دَوَامِهَا فِي الْمَاضِي وَأَبُو الهذيل الْعَلَّافُ يَقُولُ بِعَدَمِ الْحَرَكَاتِ وَهَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ اسْتِحَالَةَ الْأَجْسَامِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ أَوْ انْقِلَابَ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ بَلْ الْجَوَاهِرُ عِنْدَهُمْ مُتَمَاثِلَةٌ وَالْأَجْسَامُ مُرَكَّبَةٌ مِنْهَا وَمَا ثَمَّ إلَّا تَغْيِيرُ التَّرْكِيبِ فَقَطْ لَا انْقِلَابَ وَلَا اسْتِحَالَةَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى إنْكَارِ هَذَا وَالْأَطِبَّاءُ وَالْفُقَهَاءُ مِمَّنْ يَقُولُ بِاسْتِحَالَةِ الْأَجْسَامِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِهِمْ. وَالْأَجْسَامُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ مُتَمَاثِلَةً؛ بَلْ الْمَاءُ يُخَالِفُ الْهَوَاءَ وَالْهَوَاءُ يُخَالِفُ التُّرَابَ وَأَبْدَانُ النَّاسِ تُخَالِفُ النَّبَاتَ؛ وَلِهَذَا صَارَتْ الْنُّفَاةِ إذَا أَثْبَتَ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ؛ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لَأَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ عِنْدَهُمْ جِسْمًا - وَعِنْدَهُمْ الْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةً - فَصَارُوا يُسَمُّونَهُ مُشَبَّهًا بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي تُلْزِمُهُمْ مِثْلُ
مَا أَلْزَمُوهُ لِغَيْرِهِمْ وَهِيَ مُتَنَاقِضَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْتَظِمَ مِنْهَا قَوْلٌ صَحِيحٌ وَكُلُّهَا مُقَدِّمَاتٌ مَمْنُوعَةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ وَفِيهَا مِنْ تَغْيِيرِ اللُّغَةِ وَالْمَعْقُولِ مَا دَخَلَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَغَالِيطِ وَالشُّبُهَاتِ حَتَّى يَبْقَى الرَّجُلُ حَائِرًا لَا يَهُونُ عَلَيْهِ إبْطَالُ عَقْلِهِ وَدِينِهِ وَالْخُرُوجُ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُتَطَابِقٌ عَلَى إثْبَاتِ الصِّفَاتِ. وَلَا يَهُونُ عَلَيْهِ الْتِزَامُ مَا يَلْزَمُونَهُ مِنْ كَوْنِ الرَّبِّ مُرَكَّبًا مِنْ الْأَجْزَاءِ وَمُمَاثِلًا لِلْمَخْلُوقَاتِ؛ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَيْضًا بُطْلَانَ هَذَا وَإِنَّ الرَّبَّ عز وجل يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ هَذَا؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ و " الْأَحَدُ " يَنْفِي التَّمْثِيلَ و " الصَّمَدُ " يَنْفِي أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلتَّفْرِيقِ وَالتَّقْسِيمِ وَالْبَعْضِيَّةِ سبحانه وتعالى فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُؤَلَّفًا مُرَكَّبًا: رُكِّبَ وَأُلِّفَ مِنْ الْأَجْزَاءِ؛ فَيَفْهَمُونَ مَنْ يُخَاطِبُونَ أَنَّ مَا وَصَفَ بِهِ الرَّبَّ نَفْسَهُ لَا يُعْقَلُ إلَّا فِي بَدَنٍ مِثْلِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ بَلْ وَقَدْ يُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ وَيَقُولُونَ: الْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ صُورَةٍ مُرَكَّبَةٍ مِثْلُ فَمِ الْإِنْسَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْعُونَهُ. وَإِذَا قَالَ " الْنُّفَاةِ " لَهُمْ: مَتَى قُلْتُمْ إنَّهُ يَرَى؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مُؤَلَّفًا؛ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ لَا يَكُونُ إلَّا بِجِهَةِ مِنْ الرَّائِي وَمَا يَكُونُ بِجِهَةِ مِنْ الرَّائِي لَا يَكُونُ إلَّا جِسْمًا وَالْجِسْمُ مُؤَلَّفٌ مُرَكَّبٌ مِنْ الْأَجْزَاءِ. أَوْ قَالُوا: إنَّ الرَّبَّ إذَا تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ؛ لَزِمَ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ فَوْقَ الْعَرْشِ؛ لَزِمَ ذَلِكَ وَصَارَ الْمُسْلِمُ الْعَارِفُ بِمَا قَالَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ لِمَا تَوَاتَرَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ
وَكَذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ بِمَا تَوَاتَرَ عِنْدَهُ عَنْ الرَّسُولِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَعَ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ مِنْ الْقَضَايَا الْفِطْرِيَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ عَلَيْهَا عِبَادَهُ. وَإِذَا قَالُوا لَهُ: - هَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُرَكَّبًا مِنْ الْأَجْزَاءِ الْمُنْفَرِدَةِ وَالْمُرَكَّبُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَكِّبٍ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُحْدِثًا؛ إذْ الْمُرَكَّبُ يَفْتَقِرُ إلَى أَجْزَائِهِ وَأَجْزَاؤُهُ تَكُونُ غَيْرَهُ وَمَا افْتَقَرَ إلَى غَيْرِهِ؛ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ - حَيَّرُوهُ وَشَكَّكُوهُ إنْ لَمْ يَجْعَلُوهُ مُكَذِّبًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مُرْتَدًّا عَنْ بَعْضِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ تَشَكُّكَهُ وَحَيْرَتَهُ تَقْدَحُ فِي إيمَانِهِ وَدِينِهِ وَعِلْمِهِ وَعَقْلِهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَمَّا كَوْنُ الرَّبِّ سبحانه وتعالى مُرَكَّبًا رَكَّبَهُ غَيْرُهُ. فَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْأُمُورِ فَسَادًا وَهَذَا مَعْلُومٌ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ. وَمَنْ قَالَ هَذَا فَهُوَ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ وَأَجْهَلِهِمْ وَأَشَدِّهِمْ مُحَارَبَةً لِلَّهِ وَلَيْسَ فِي الطَّوَائِفِ الْمَشْهُورِينَ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: هُوَ مُؤَلَّفٌ أَوْ مُرَكَّبٌ - بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ مُتَفَرِّقَةً فَجَمَعَ بَيْنَهَا كَمَا يَجْمَعُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْمُرَكَّبَاتِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَالثِّيَابِ وَالْأَبْنِيَةِ - فَهَذَا التَّرْكِيبُ مَنْ اعْتَقَدَهُ فِي اللَّهِ؛ فَهُوَ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ وَأَضَلِّهِمْ؛ وَلَمْ يَعْتَقِدْهُ أَحَدٌ مِنْ الطَّوَائِفِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْأُمَّةِ. بَلْ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَخْلُوقَاتِ
الرَّبِّ لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً هَذَا التَّرْكِيبَ وَإِنَّمَا يَقُولُ بِهَذَا مَنْ يُثْبِتُ الْجَوَاهِرَ الْمُنْفَرِدَةَ.
وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّبَّ مُرَكَّبٌ مُؤَلَّفٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّفْرِيقَ وَالِانْقِسَامَ وَالتَّجْزِئَةَ فَهَذَا مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ وَأَجْهَلِهِمْ وَقَوْلُهُ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ لِلَّهِ وَلَدًا بِمَعْنَى أَنَّهُ انْفَصَلَ مِنْهُ جُزْءٌ فَصَارَ وَلَدًا لَهُ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي تَفْسِيرِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: هُوَ جِسْمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ أَوْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ بَلْ هُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَكَيْفَ فِي الْخَالِقِ سبحانه وتعالى وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَهُ بَعْضُ الْمُجَسِّمَةِ الهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُحْكَى عَنْهُمْ التَّجْسِيمُ؛ إذْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: إنَّ الرَّبَّ جِسْمٌ وَأَظُنُّ هَذَا قَوْلَ بَعْضِ الكَرَّامِيَة فَإِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي إثْبَاتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جِسْمٌ. لَكِنْ يُحْكَى عَنْهُمْ نِزَاعٌ فِي الْمُرَادِ بِالْجِسْمِ؛ هَلْ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ أَوْ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ؟ فَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي الْهَيْصَمِ وَغَيْرِهِ مِنْ نُظَّارِهِمْ أَنَّهُ يُفَسَّرُ مُرَادُهُ؛ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مُشَارٌ إلَيْهِ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ مُؤَلَّفٌ مُرَكَّبٌ. وَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ اعْتَرَفَ نفاة الْجِسْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَكْفُرُونَ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا مَعْنًى فَاسِدًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ قَالُوا إنَّهُمْ أَخْطَئُوا فِي تَسْمِيَةِ كُلِّ مَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ أَوْ مَا هُوَ
مَوْجُودٌ جِسْمًا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ؛ قَالُوا: فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْجِسْمِ إلَّا عَلَى الْمُرَكَّبِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئَةٌ عَلَى اللُّغَةِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَمُّونَ كُلَّ مَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ جِسْمًا وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّوْا كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ وَتُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَيْهِ جِسْمًا وَادَّعَوْا أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُرَكَّبٌ؛ وَأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْجِسْمِ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ مُرَكَّبًا. فَالْخَطَأُ فِي اللُّغَةِ وَالِابْتِدَاعُ فِي الشَّرْعِ: مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ. وَأَمَّا الْمَعَانِي: فَمَنْ أَثْبَتَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ نَفَى مَا أَثْبَتَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ عَقْلًا كَمَا هُوَ مُخْطِئٌ شَرْعًا. بَلْ أُولَئِكَ يَقُولُونَ لَهُمْ: نَحْنُ وَأَنْتُمْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ يُسَمَّى جِسْمًا فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ ثُمَّ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ الْخَالِقَ الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ يَخْتَصُّ بِمَا يَمْنَعُ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ الَّتِي اتَّفَقْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَيْهَا؛ فَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ لِأَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ وَنَحْنُ نَمْنَعُ ذَلِكَ وَنَقُولُ: لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ. وَلِهَذَا كَرِهَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ - كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ - أَنْ تُرَدَّ الْبِدْعَةُ بِالْبِدْعَةِ فَكَانَ أَحْمَد فِي مُنَاظَرَتِهِ للجهمية لَمَّا نَاظَرُوهُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَأَلْزَمَهُ " أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بُرْغُوثٌ " أَنَّهُ إذَا كَانَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جِسْمًا وَهَذَا مُنْتَفٍ؛ فَلَمْ يُوَافِقْهُ أَحْمَد: لَا عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ وَلَا عَلَى إثْبَاتِهِ؛ بَلْ قَالَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .
وَنَبَّهَ أَحْمَد عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُدْرَى مَا يُرِيدُونَ بِهِ. وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ لَمْ يُوَافِقْهُ؛ لَا عَلَى إثْبَاتِهِ وَلَا عَلَى نَفْيِهِ. فَإِنْ ذَكَرَ مَعْنًى أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَثْبَتْنَاهُ وَإِنْ ذَكَرَ مَعْنًى نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ نَفَيْنَاهُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ وَلَمْ نَحْتَجْ إلَى أَلْفَاظٍ مُبْتَدَعَةٍ فِي الشَّرْعِ مُحَرَّفَةٍ فِي اللُّغَةِ وَمَعَانِيهَا مُتَنَاقِضَةٌ فِي الْعَقْلِ؛ فَيَفْسُدُ الشَّرْعُ وَاللُّغَةُ وَالْعَقْلُ؛ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَفْظُ " الْجَبْرِ " كَرِهَ السَّلَفُ أَنْ يُقَالَ جَبَرَ وَأَنْ يُقَالَ: مَا جَبَرَ؛ فَرَوَى الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ " السُّنَّةِ " عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري - الْإِمَامِ - قَالَ: قَالَ الأوزاعي: أَتَانِي رَجُلَانِ فَسَأَلَانِي عَنْ الْقَدَرِ فَأَحْبَبْت أَنْ آتِيَك بِهِمَا تَسْمَعُ كَلَامَهُمَا وَتُجِيبُهُمَا. قُلْت: رَحِمَك اللَّهُ أَنْتَ أَوْلَى بِالْجَوَابِ. قَالَ: فَأَتَانِي الأوزاعي وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ فَقَالَ: تَكَلَّمَا فَقَالَا: قَدِمَ عَلَيْنَا نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْقَدَرِ فَنَازَعُونَا فِي الْقَدَرِ - وَنَازَعْنَاهُمْ حَتَّى بَلَغَ بِنَا وَبِهِمْ الْجَوَابُ؛ إلَى أَنْ قُلْنَا: إنَّ اللَّهَ قَدْ جَبَرَنَا عَلَى مَا نَهَانَا عَنْهُ وَحَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَا أَمَرَنَا بِهِ وَرَزَقَنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا فَقَالَ: أَجِبْهُمَا يَا أَبَا إسْحَاقَ قُلْت رَحِمَك اللَّهُ أَنْتَ أَوْلَى بِالْجَوَابِ فَقَالَ أَجِبْهُمَا؛ فَكَرِهْت أَنْ أُخَالِفَهُ؛ فَقُلْت: يَا هَؤُلَاءِ إنَّ الَّذِينَ آتَوْكُمْ بِمَا أَتَوْكُمْ بِهِ قَدْ ابْتَدَعُوا بِدْعَةً وَأَحْدَثُوا حَدَثًا وَإِنِّي أَرَاكُمْ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنْ الْبِدْعَةِ إلَى مِثْلِ مَا خَرَجُوا إلَيْهِ؛ فَقَالَ أَجَبْت وَأَحْسَنْت يَا أَبَا إسْحَاقَ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: سَأَلْت الزُّبَيْدِيَّ وَالْأَوْزَاعِي عَنْ الْجَبْرِ؛ فَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: أَمْرُ اللَّهِ أَعْظَمُ وَقُدْرَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُجْبِرَ أَوْ يُعْضِلَ وَلَكِنْ
يَقْضِي وَيُقَدِّرُ وَيَخْلُقُ وَيَجْبُلُ عَبْدَهُ عَلَى مَا أَحَبَّ. وَقَالَ الأوزاعي: مَا أَعْرِفُ لِلْجَبْرِ أَصْلًا مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ؛ فَأَهَابُ أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ وَالْخَلْقَ وَالْجَبْلَ فَهَذَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا وُضِعَتْ هَذَا مَخَافَةَ أَنْ يَرْتَابَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّصْدِيقِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ المروذي قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: تَقُولُ إنَّ اللَّهَ أَجْبَرَ الْعِبَادَ؟ فَقَالَ: هَكَذَا لَا تَقُولُ وَأَنْكَرَ هَذَا وَقَالَ: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. وَقَالَ المروذي: كُتِبَ إلَى عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي أَمْرِ حُسَيْنِ بْنِ خَلَفٍ العكبري وَقَالَ: إنَّهُ تَنَزَّهَ عَنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ. فَقَالَ رَجُلٌ قَدَرِيٌّ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُجْبِرْ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي؛ فَرَدَّ عَلَيْهِ أَحْمَد بْنُ رَجَاءٍ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ جَبَرَ الْعِبَادَ - أَرَادَ بِذَلِكَ إثْبَاتَ الْقَدَرِ - فَوَضَعَ أَحْمَد بْنُ عَلِيٍّ كِتَابًا يُحْتَجُّ فِيهِ. فَأَدْخَلْته عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَخْبَرْته بِالْقِصَّةِ قَالَ: وَيَضَعُ كِتَابًا وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا: عَلَى ابْنِ رَجَاءٍ حِينَ قَالَ: جَبَرَ الْعِبَادَ وَعَلَى الْقَدَرِيِّ الَّذِي قَالَ: لَمْ يَجْبُرْ وَأَنْكَرَ عَلَى أَحْمَد بْنِ عَلِيٍّ وَضْعَهُ الْكِتَابَ وَاحْتِجَاجَهُ وَأَمَرَ بِهِجْرَانِهِ لِوَضْعِهِ الْكِتَابَ. وَقَالَ لِي: يَجِبُ عَلَى ابْنِ رَجَاءٍ أَنْ يَسْتَغْفِرَ رَبَّهُ لَمَّا قَالَ: جَبَرَ الْعِبَادَ. فَقُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَمَا الْجَوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ فَقَالَ: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَأَخْبَرَنَا المروذي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَى الَّذِي قَالَ: لَمْ يَجْبُرْ وَعَلَى مَنْ رَدَّ عَلَيْهِ جَبَرَ؛ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: كُلَّمَا ابْتَدَعَ
رَجُلٌ بِدْعَةً اتسعوا فِي جَوَابِهَا. وَقَالَ: يَسْتَغْفِرُ رَبَّهُ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِمْ بِمُحْدَثَةٍ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ إمَامٌ تَقَدَّمَ. قَالَ المروذي: فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ قَدِمَ أَحْمَد بْنُ عَلِيٍّ مِنْ عكبرا وَمَعَهُ نُسْخَةٌ وَكِتَابٌ مِنْ أَهْلِ عكبرا (*) فَأَدْخَلْت أَحْمَد بْنَ عَلِيٍّ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ؛ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذَا الْكِتَابُ ادْفَعْهُ إلَى أَبِي بَكْرٍ حَتَّى يَقْطَعَهُ وَأَنَا أَقُومُ عَلَى مِنْبَرِ عكبرا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ؛ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِي: يَنْبَغِي أَنْ تَقْبَلُوا مِنْهُ وَارْجِعُوا إلَيْهِ. قَالَ الْمَرْوَزِي: سَمِعْت بَعْضَ الْمَشْيَخَةِ يَقُولُ: سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ يَقُولُ: أَنْكَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ جَبَرَ وَقَالَ: اللَّهُ تَعَالَى جَبَلَ الْعِبَادَ. قَالَ المروذي: أَظُنُّهُ أَرَادَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ. قُلْت هَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُرَاعُونَ لَفْظَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فِيمَا يُثْبِتُونَهُ وَيَنْفُونَهُ عَنْ اللَّهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فَلَا يَأْتُونَ بِلَفْظِ مُحْدَثٍ مُبْتَدَعٍ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بَلْ كُلُّ مَعْنًى صَحِيحٍ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم. وَالْأَلْفَاظُ الْمُبْتَدَعَةُ لَيْسَ لَهَا ضَابِطٌ بَلْ كُلُّ قَوْمٍ يُرِيدُونَ بِهَا مَعْنًى غَيْرَ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ أُولَئِكَ كَلَفْظِ الْجِسْمِ وَالْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ وَالْجَبْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ أَلْفَاظِ الرَّسُولِ فَإِنَّ مُرَادَهُ بِهَا يُعْلَمُ كَمَا يُعْلَمُ مُرَادُهُ بِسَائِرِ أَلْفَاظِهِ وَلَوْ يَعْلَمُ الرَّجُلُ مُرَادَهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِمَا قَالَهُ مُجْمَلًا. وَلَوْ قُدِّرَ مَعْنًى صَحِيحٌ - وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُخْبِرْ
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 54):
وفي (السنة) للخلال 3/ 552: (ومعه شيخه)، وفي (الدرء) 1/ 71:(ومعه مشيخة)، وفي 3/ 326 من (الفتاوى):(مشيخة)، ويظهر لي أن الصواب (مشيخة) والباقي تصحيف، والله أعلم.
بِهِ - لَمْ يَحُلَّ لِأَحَدِ أَنْ يُدْخِلَهُ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ التَّصْدِيقَ بِهِ وَاجِبٌ. وَالْأَقْوَالُ الْمُبْتَدَعَةُ تَضَمَّنَتْ تَكْذِيبَ كَثِيرٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَ مُرَادَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَمُرَادَ أَصْحَابِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ. وَلَمَّا انْتَشَرَ الْكَلَامُ الْمُحْدَثُ وَدَخَلَ فِيهِ مَا يُنَاقِضُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَصَارُوا يُعَارِضُونَ بِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ؛ صَارَ بَيَانُ مُرَادِهِمْ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَمَا احْتَجُّوا بِهِ لِذَلِكَ مِنْ لُغَةٍ وَعَقْلٍ يُبَيِّنُ لِلْمُؤْمِنِ مَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَقَعَ فِي الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ أَوْ يَخْلُصَ مِنْهَا - إنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ - وَيَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ مَا يُعَارِضُ إيمَانَهُ بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لَا يُدْفَعُ بِالْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ كَلَفْظِ التَّجْسِيمِ وَغَيْرِهِ مِمَّا قَدْ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى بَاطِلًا وَالنَّافِي لَهُ يَنْفِي الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ. فَإِذَا ذُكِرَتْ الْمَعَانِي الْبَاطِلَةُ نَفَرَتْ الْقُلُوبُ. وَإِذَا أَلْزَمُوهُ مَا يَلْزَمُونَهُ مِنْ التَّجْسِيمِ - الَّذِي يَدَّعُونَهُ نَفَرَ إذَا قَالُوا لَهُ: هَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُعْقَلُ إلَّا فِي جِسْمٍ - لَمْ يَحْسُنْ نَقْضُ مَا قَالُوهُ وَلَمْ يَحْسُنْ حَلُّهُ وَكُلُّهُمْ مُتَنَاقِضُونَ. وَحَقِيقَةُ كَلَامِهِمْ أَنَّ مَا وَصَفَ بِهِ الرَّبُّ نَفْسَهُ لَا يُعْقَلُ مِنْهُ إلَّا مَا يُعْقَلُ فِي
قَلِيلٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي نَشْهَدُهَا كَأَبْدَانِ بَنِي آدَمَ. وَهَذَا فِي غَايَةِ الْجَهْلِ؛ فَإِنَّ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مَخْلُوقَاتٍ لَمْ نَشْهَدْهَا كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ حَتَّى أَرْوَاحِنَا. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مُمَاثِلًا لَهَا فَكَيْفَ يَكُونُ مُمَاثِلًا لِمَا شَاهَدُوهُ. وَهَذَا الْكَلَامُ فِي لَفْظِ الْجِسْمِ مِنْ حَيْثُ " اللُّغَةُ ". وَأَمَّا " الشَّرْعُ " فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ: وَلَا الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ أَوْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمِ؛ بَلْ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَبَيْنَهُمْ نِزَاعٌ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَسْمِيَتِهِ جِسْمًا: كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالرِّيحِ وَالْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُشَارُ إلَيْهِ وَيُخْتَصُّ بِجِهَةِ وَهُوَ مُتَحَيِّزٌ. قَدْ تَنَازَعُوا هَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ جواهر لَا تَقْبَلُ الْقِسْمَةَ أَوْ مِنْ مَادَّةٍ وَصُورَةٍ أَوْ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا؟ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ. وَكُلٌّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ. وَالْأَوَّلُ كَثِيرٌ فِي أَهْلِ الْكَلَامِ وَالثَّانِي كَثِيرٌ فِي الْفَلَاسِفَةِ؛ لَكِنَّ قَوْلَ الطَّائِفَتَيْنِ بَاطِلٌ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ بُطْلَانُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: أَنَا أَقُولُ إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَإِنَّهُ تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ مُفْرَدَةٍ
وَلَا مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ الْعَقْلِيَّيْنِ؛ كَانَ الْكَلَامُ مَعَ هَذَا فِي التَّلَازُمِ. فَإِذَا قَالَ الثَّانِي: بَلْ كُلُّ مَا كَانَ فَوْقَ غَيْرِهِ وَكُلُّ مَا كَانَ يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَيْدِي؛ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُرَكَّبًا إمَّا مِنْ هَذَا؛ وَإِمَّا مِنْ هَذَا: كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْآخَرِ: كُلُّ مَا كَانَ حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا؛ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُرَكَّبًا هَذَا التَّرْكِيبَ أَوْ كُلُّ مَا كَانَ لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ؛ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُرَكَّبًا هَذَا التَّرْكِيبَ أَوْ كُلُّ مَا كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا فَلَا يَكُونُ إلَّا مُرَكَّبًا هَذَا التَّرْكِيبَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ هُوَ جِسْمٌ وَكُلَّ جِسْمٍ فَهُوَ مُرَكَّبٌ هَذَا التَّرْكِيبَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ بِاتِّفَاقِهِمْ؛ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ طَائِفَةً مِنْ الْعُقَلَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ جِسْمٌ؛ وَهُوَ مُرَكَّبٌ هَذَا التَّرْكِيبَ بَلْ الَّذِي أَعْرِفُ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ جِسْمٌ كالهشامية والكَرَّامِيَة لَا يُفَسِّرُونَ كُلُّهُمْ الْجِسْمَ بِمَا هُوَ مُرَكَّبٌ هَذَا التَّرْكِيبَ بَلْ إنَّمَا نُقِلَ هَذَا عَنْ بَعْضِهِمْ وَقَدْ يُنْقَلُ عَنْ بَعْضِهِمْ مَقَالَاتٌ يُنْكِرُهَا بَعْضُهُمْ: كَمَا نُقِلَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ مَقَالَاتٌ رَدِيَّةٌ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ رَدَّ هَذَا النَّقْلَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ فَرَدَّهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. وَأَمَّا النَّقْلُ عَنْ هِشَامٍ فَرَدَّهُ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ. وَمَنْ قَدَّرَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ مِنْ النَّاسِ؛ فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ كَسَائِرِ مَنْ قَالَ عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلِ؛ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ وَالرَّافِضَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ وَإِنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِالنَّقَائِصِ الَّتِي تَعَالَى اللَّهُ عَنْهَا؛ كَوَصْفِهِ أَنَّهُ أَجْوَفُ وَأَنَّهُ بَكَى حَتَّى رَمَدَ وَعَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَعَضَّ أَصَابِعَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ.
وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي فِيهَا الِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَوَصْفُهُ بِالنَّقَائِصِ مَا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ.
وَهَكَذَا إذَا قَالَ الْقَائِلُ: إنَّهُ لَوْ نَزَلَ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا؛ لَلَزِمَ الْحَرَكَةُ وَالِانْتِقَالُ وَالْحَرَكَةُ وَالِانْتِقَالُ مِنْ خَصَائِصِ الْأَجْسَامِ أَوْ قَالَ: لَلَزِمَ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ الْعَرْشُ وَذَلِكَ مُحَالٌ؛ فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. (أَحَدُهَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: يَنْزِلُ وَلَيْسَ بِجِسْمِ. وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: يَنْزِلُ وَهُوَ جِسْمٌ. وَقَوْلُ مَنْ لَا يَنْفِي الْجِسْمَ وَلَا يُثْبِتُهُ؛ إمَّا إمْسَاكًا عَنْهُمَا لِكَوْنِ ذَلِكَ بِدْعَةً وَتَلْبِيسًا كَمَا تَقَدَّمَ وَإِمَّا مَعَ تَفْصِيلِ الْمُرَادِ وَإِقْرَارِ الْحَقِّ وَبُطْلَانِ الْبَاطِلِ وَبَيَانِ الصَّوَابِ مِنْ الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي اشْتَبَهَتْ فِي هَذَا؛ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: النُّزُولُ وَالصُّعُودُ وَالْمَجِيءُ وَالْإِتْيَانُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَنْوَاعُ جِنْسِ الْحَرَكَةِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْجِسْمِ الصِّنَاعِيِّ الَّذِي يَتَكَلَّمُ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي إثْبَاتِهِ وَنَفْيِهِ بَلْ يُوصَفُ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ هُنَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تُوصَفُ بِهَا الْأَجْسَامُ وَالْأَعْرَاضُ فَيُقَالُ: جَاءَ الْبَرْدُ وَجَاءَ الْحَرُّ وَجَاءَتْ الْحُمَّى وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْرَاضِ. وَإِذَا كَانَتْ الْأَعْرَاضُ تُوصَفُ بِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ؛ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْأَجْسَامِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِهَذِهِ
الْأَفْعَالِ حَقِيقَةً مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ نُظَّارِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ وَهَذَا مَعْنَى مَا حَكَاهُ فِي " الْمَقَالَاتِ " عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ والقلانسي وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ؛ إنَّ الِاسْتِوَاءَ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ الرَّبُّ فِي الْعَرْشِ. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي النُّزُولِ: وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُحْدِثُ فِي الْعَرْشِ قُرْبًا فَيَصِيرُ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ - نَفْسُهُ - فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ سَوَاءٌ قَالُوا: إنَّ الْفِعْلَ هُوَ الْمَفْعُولُ أَوْ لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ النُّزُولُ عِنْدَهُمْ؛ فَهُمْ يَجْعَلُونَ الْأَفْعَالَ اللَّازِمَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لِأَنَّ ذَلِكَ حَادِثٌ؛ فَقِيَامُهُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَقُومَ بِهِ الْحَوَادِثُ فَنَفَوْا ذَلِكَ لِهَذَا الْأَصْلِ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ. (الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: الْمَجِيءُ وَالْإِتْيَانُ وَالصُّعُودُ وَالنُّزُولُ تُوصَفُ بِهِ رُوحُ الْإِنْسَانِ الَّتِي تُفَارِقُهُ بِالْمَوْتِ وَتُسَمَّى النَّفْسُ وَتُوصَفُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَلَيْسَ نُزُولُ الرُّوحِ وَصُعُودُهَا مِنْ جِنْسِ نُزُولِ الْبَدَنِ وَصُعُودِهِ؛ فَإِنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ تَصْعَدُ إلَى فَوْقِ السَّمَوَاتِ ثُمَّ تَهْبِطُ إلَى الْأَرْضِ فِيمَا بَيْنَ قَبْضِهَا وَوَضْعِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ. وَهَذَا زَمَنٌ يَسِيرٌ لَا يَصْعَدُ الْبَدَنُ إلَى مَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ ثُمَّ يَنْزِلُ إلَى الْأَرْضِ فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ.
وَكَذَلِكَ صُعُودُهَا ثُمَّ عَوْدُهَا إلَى الْبَدَنِ فِي النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ وَلِهَذَا يُشَبِّهُ بَعْضُ النَّاسِ نُزُولَهَا إلَى الْقَبْرِ بِالشُّعَاعِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مِثَالًا مُطَابِقًا. فَإِنَّ نَفْسَ الشَّمْسِ لَا تَنْزِلُ وَالشُّعَاعُ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى الْأَرْضِ هُوَ عَرَضٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ يَحْدُثُ بِسَبَبِ الشَّمْسِ لَيْسَ هُوَ الشَّمْسَ وَلَا صِفَةً قَائِمَةً بِهَا وَالرُّوحُ نَفْسُهَا تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه فِي قَبْضِ الرُّوحِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ - وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا وَاخْتَصَرَهُ وَكَذَلِكَ النَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه وَرَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي " صَحِيحِهِ " بِطُولِهِ وَفِي رِوَايَتِهِ عَنْ زاذان: سَمِعْت الْبَرَاءَ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ ثنا الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي عَمْرٍو زاذان {عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةٍ فَانْتَهَيْنَا إلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ فَذَكَرَهُ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: حَدَّثَنَا فضيل حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: {أُرْقِدَ رَقْدَةً كَرَقْدَةِ مَنْ لَا يُوقِظُهُ إلَّا أَحَبُّ النَّاسِ إلَيْهِ} . قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ وَزَائِدَةُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ الْأَعْمَشِ وَرَوَاهُ مُؤَمَّلٌ عَنْ
الثَّوْرِيِّ عَنْهُ قَالَ: وَهُوَ عَلَى شَرْطِهِمَا قَدْ احْتَجَّا بِالْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: " ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ " ثُمَّ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ الْقَبْرِ وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي " مُسْنَدِهِ " عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ يُونُسَ بْنِ خباب عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ أَبُو خَالِدٍ الدالاني وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الملائي وَالْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ النَّخَعِي عَنْ الْمِنْهَالِ وَرَوَاهُ شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ عَنْ يُونُسَ بْنِ خباب فَقَالَ؛ عَنْ الْمِنْهَالِ عَنْ زاذان عَنْ أَبِي البختري قَالَ: سَمِعْت الْبَرَاءَ قَالَ: وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ شُعَيْبٍ فَقَدْ رَوَاهُ مَعْمَرٌ وَمَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ وَعَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ عَنْ يُونُسَ التَّامِرِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني: وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَرَاءِ رَوَاهُ الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زاذان عَنْ الْبَرَاءِ فَحَدِيثٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ عَنْ الْمِنْهَالِ الْجَمُّ الْغَفِيرُ وَرَوَاهُ عَنْ الْبَرَاءِ: عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ وَغَيْرُهُمَا وَرَوَاهُ عَنْ زاذان عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ. قَالَ: وَهُوَ حَدِيثٌ أَجْمَعَ رُوَاةُ الْأَثَرِ عَلَى شُهْرَتِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ منده: هَذَا الْحَدِيثُ إسْنَادُهُ مُتَّصِلٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ الْبَرَاءِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي " الْمُسْنَدِ " حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ثنا الْأَعْمَشُ عَنْ الْمِنْهَالِ ابْنِ عَمْرٍو عَنْ زاذان {عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجْنَا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: إنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ بَصَرِهِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اُخْرُجِي إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ. قَالَ: فَتَخْرُجُ فَتَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا. فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا رِيحٌ كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا؛ فَلَا يَمُرُّونَ - يَعْنِي بِهَا - عَلَى مَلَأٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ إلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اُكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إلَى الْأَرْضِ؛ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتهمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُهُ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ رَبِّي فَيَقُولَانِ لَهُ وَمَا دِينُك؟ فَيَقُولُ:
دِينِي الْإِسْلَامُ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُك؟ فَيَقُولُ: قَرَأْت كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْت بِهِ وَصَدَّقْت؛ فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إلَى الْجَنَّةِ قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رُوحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ. قَالَ: فَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ؛ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِاَلَّذِي يَسُرُّك هَذَا يَوْمُك الَّذِي كُنْت تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُك الْوَجْهُ الَّذِي يَجِيءُ بِالْخَيْرِ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُك الصَّالِحُ. فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إلَى أَهْلِي وَمَالِي. وَقَالَ وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمْ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اُخْرُجِي إلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ قَالَ: فَتَتَفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْزِعُهَا كَمَا يُنْزَعُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ وَيَخْرُجَ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ عَلَى مَلَأٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ. ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} فَيَقُولُ اللَّهُ: اُكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا. ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ: هاه هاه لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ لَهُ مَا دِينُك؟ فَيَقُولُ: هاه هاه لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هاه هاه لَا أَدْرِي. فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ النَّارِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إلَى النَّارِ؛ فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ وَيَأْتِيَهُ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِاَلَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُك الَّذِي كُنْت تُوعَدُ فَيَقُولُ: وَمَنْ أَنْتَ فَوَجْهُك الْوَجْهُ الَّذِي يَجِيءُ بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُك الْخَبِيثُ. فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمْ السَّاعَةَ} . قُلْت: هَذَا قَدْ رَوَاهُ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ غَيْرُ وَاحِدٍ غَيْرَ زاذان مِنْهُمْ: عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ وَمُجَاهِدٌ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْن منده فِي كِتَابِ " الرُّوحِ وَالنَّفْسِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الصغاني ثنا أَبُو النَّضِرِ هَاشِمُ بْنُ قَاسِمٍ ثنا عِيسَى بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ {عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي
جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى أَكْتَافِنَا فَلَقَ الصَّخْرِ وَعَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ فَأَزِمَ قَلِيلًا - وَالْإِزْمَامُ السُّكُوتُ - فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ قَالَ: إنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا كَانَ فِي قُبُلٍ مِنْ الْآخِرَةِ وَدُبُرٍ مِنْ الدُّنْيَا وَحَضَرَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ؛ نَزَلَتْ عَلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ الْجَنَّةِ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ بَصَرِهِ. وَجَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ ثُمَّ يَقُولُ: اُخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اُخْرُجِي إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ؛ فَتَسِيلُ نَفْسُهُ كَمَا تَقْطُرُ الْقَطْرَةُ مِنْ السِّقَاءِ. فَإِذَا خَرَجَتْ نَفْسُهُ صَلَّى عَلَيْهِ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إلَّا الثَّقَلَيْنِ ثُمَّ يَصْعَدُ بِهِ إلَى السَّمَاءِ فَتُفْتَحُ لَهُ السَّمَاءُ وَيُشَيِّعُهُ مُقَرَّبُوهَا إلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ وَالسَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ إلَى الْعَرْشِ مُقَرَّبُو كُلِّ سَمَاءٍ. فَإِذَا انْتَهَى إلَى الْعَرْشِ كُتِبَ كِتَابُهُ فِي عِلِّيِّينَ فَيَقُولُ الرَّبُّ عز وجل: رُدُّوا عَبْدِي إلَى مَضْجَعِهِ فَإِنِّي وَعَدْتهمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتهمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى فَيُرَدُّ إلَى مَضْجَعِهِ فَيَأْتِيهِ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ يُثِيرَانِ الْأَرْضَ بِأَنْيَابِهِمَا وَيَفْحَصَانِ الْأَرْضَ بِأَشْعَارِهِمَا فَيُجْلِسَانِهِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: يَا هَذَا مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ رَبِّي فَيَقُولَانِ: صَدَقْت. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: مَا دِينُك؟ فَيَقُولُ: الْإِسْلَامُ فَيَقُولَانِ لَهُ صَدَقْت. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ مَنْ نَبِيُّك؟ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؛ فَيَقُولَانِ: صَدَقْت. ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ لَهُ: جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت إنْ كُنْت لَسَرِيعًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ بَطِيئًا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَيَقُولُ: وَأَنْتَ جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا فَمَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا عَمَلُك الصَّالِحُ. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى
الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إلَى مَقْعَدِهِ وَمَنْزِلِهِ مِنْهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. وَإِنَّ الْكَافِرَ إذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ وَحَضَرَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ؛ نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ نَارٍ وَحَنُوطٌ مِنْ نَارٍ. قَالَ: فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ بَصَرِهِ وَجَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ: اُخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اُخْرُجِي إلَى غَضَبِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ؛ فَتَتَفَرَّقُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ كَرَاهَةَ أَنْ تَخْرُجَ لِمَا تَرَى وَتُعَايِنُ؛ فَيَسْتَخْرِجُهَا كَمَا يُسْتَخْرَجُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَإِذَا خَرَجَتْ نَفْسُهُ لَعَنَهُ كُلُّ شَيْءٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إلَّا الثَّقَلَيْنِ ثُمَّ يُصْعَدُ بِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَتُغْلَقُ دُونَهُ؛ فَيَقُولُ الرَّبُّ تبارك وتعالى: رُدُّوا عَبْدِي إلَى مَضْجَعِهِ فَإِنِّي وَعَدْتهمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتهمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى؛ فَتُرَدُّ رُوحُهُ إلَى مَضْجَعِهِ؛ فَيَأْتِيهِ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ يُثِيرَانِ الْأَرْضَ بِأَنْيَابِهِمَا وَيَفْحَصَانِ الْأَرْضَ بِأَشْعَارِهِمَا أَصْوَاتُهُمَا كَالرَّعْدِ الْقَاصِفِ وَأَبْصَارُهُمَا كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ؛ فَيُجْلِسَانِهِ ثُمَّ يَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي؛ فَيُنَادَى مِنْ جَانِبِ الْقَبْرِ لَا دَرَيْت؛ فَيَضْرِبَانِهِ بِمِرْزَبَّةِ مِنْ حَدِيدٍ لَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا مَنْ بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ لَمْ تَقِلَّ وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: جَزَاك اللَّهُ شَرًّا؛ فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت إنْ كُنْت بَطِيئًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ سَرِيعًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُك الْخَبِيثُ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى النَّارِ فَيَنْظُرُ إلَى مَقْعَدِهِ فِيهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ} . وَقَالَ ابْنُ منده: رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي النَّضْرِ.
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي " مُسْنَدِهِ " وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني: هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَالَةِ نَاقِلِيهِ: اتَّفَقَ الْإِمَامَانِ: مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَلَى ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ وَهُمْ مِنْ شَرْطِهِمَا وَرَوَاهُ الْمُتَقَدِّمُونَ الْكِبَارُ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ مِثْلُ ابْنِ أَبِي فديك وَعَنْهُ دحيم بْنُ إبْرَاهِيمَ. قُلْت: وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ غَيْرُ وَاحِدٍ وَلَكِنَّ هَذَا سِيَاقُ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي فديك لِتَقَدُّمِهِ؛ قَالَ ابْنُ أَبِي فديك: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ؛ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَيَقُولُونَ: اُخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ اُخْرُجِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحِ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ قَالَ: فَيَقُولُونَ ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ فَيَقُولُونَ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ اُدْخُلِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحِ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ. فَيُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ عز وجل. وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السَّوْءُ قَالَ: اُخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ. اُخْرُجِي ذَمِيمَةً وَأَبْشِرِي بِحَمِيمِ وَغَسَّاقٍ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ
أَزْوَاجٌ. فَيَقُولُونَ ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانٌ فَيَقُولُونَ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ ارْجِعِي ذَمِيمَةً فَإِنَّهَا لَنْ تُفْتَحَ لَك أَبْوَابُ السَّمَاءِ؛ فَتُرْسَلُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَتَصِيرُ إلَى قَبْرِهِ. فَيَجْلِسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي قَبْرِهِ غَيْرَ فَزِعٍ وَلَا مَشْغُوفٍ ثُمَّ يُقَالُ: مَا كُنْت تَقُولُ فِي الْإِسْلَامِ؟ (1). فَيَقُولُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ فَآمَنَّا وَصَدَّقْنَا}. وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلَهُ: " فَيَصِيرُ إلَى قَبْرِهِ " كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ تُصَدِّقُ حَدِيثَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ سِيَاقُ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِطُولِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ مَعَ أَنَّ سَائِرَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ تَدُلُّ عَلَى عَوْدِ الرُّوحِ إلَى الْبَدَنِ؛ إذْ الْمَسْأَلَةُ لِلْبَدَنِ بِلَا رُوحٍ قَوْلٌ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ وَأَنْكَرَهُ الْجُمْهُورُ وَكَذَلِكَ السُّؤَالُ لِلرُّوحِ بِلَا بَدَنٍ قَالَهُ ابْنُ مَيْسَرَةَ وَابْنُ حَزْمٍ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْقَبْرِ بِالرُّوحِ اخْتِصَاصٌ. وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ " الْعَوْدَ " لَمْ يَرْوِهِ إلَّا زاذان عَنْ الْبَرَاءِ وَضَعَّفَهُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ بَلْ رَوَاهُ غَيْرُ زاذان عَنْ الْبَرَاءِ وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ الْبَرَاءِ مِثْلُ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ جَمَعَ الدارقطني طُرُقَهُ فِي مُصَنَّفٍ مُفْرَدٍ مَعَ أَنَّ زاذان
(1)
هكذا بالأصل
مِنْ الثِّقَاتِ رَوَى عَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَعُمَرِ وَغَيْرِهِ وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " وَغَيْرُهُ؛ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ ثِقَةٌ وَقَالَ حميد بْنُ هِلَالٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ هُوَ ثِقَةٌ لَا يُسْأَلُ عَنْ مِثْلِ هَؤُلَاءِ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ أَحَادِيثُهُ لَا بَأْسَ بِهَا إذَا رَوَى عَنْهُ ثِقَةٌ وَكَانَ يَتْبَعُ الكرابيسي وَإِنَّمَا رَمَاهُ مَنْ رَمَاهُ بِكَثْرَةِ كَلَامِهِ. وَأَمَّا الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو فَمِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ وَحَدِيثُ " عَوْدِ الرُّوحِ " قَدْ رَوَاهُ عَنْ غَيْرِ الْبَرَاءِ أَيْضًا وَحَدِيثُ زاذان مِمَّا اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى رِوَايَتِهِ وَتَلَقِّيه بِالْقَبُولِ.
وَأَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ قَدْ تُعَادُ إلَى الْبَدَنِ؛ كَمَا أَنَّهَا تَكُونُ فِي الْبَدَنِ وَيُعْرَجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ كَمَا فِي حَالِ النَّوْمِ. أَمَّا كَوْنُهَا فِي الْجَنَّةِ فَفِيهِ أَحَادِيثُ عَامَّةٌ؛ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ الْعَامَّةِ وَأَحَادِيثَ خَاصَّةٍ فِي النَّوْمِ وَغَيْرِهِ. فَالْأَوَّلُ مِثْلُ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي " مُوَطَّئِهِ " وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ وَغَيْرُهُمَا وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي " الْمُسْنَدِ " وَغَيْرُهُ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيَّ - وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ - كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إلَى جَسَدِهِ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى جَسَدِهِ
يَعْنِي فِي النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ منده: وَرَوَاهُ يُونُسُ وَالزُّبَيْدِيُّ وَالْأَوْزَاعِي وَابْنُ إسْحَاقَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ. . . قَالَ صَالِحُ بْنُ كيسان وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ كَعْبًا قَالَ. . . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قُلْت: وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي " صَحِيحِهِ " وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا الْأَئِمَّةُ. قَالَ {إنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ. فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتْ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ وَكَانَتْ الزَّكَاةُ عَنْ يَسَارِهِ وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ. فَيُؤْتَى مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ فَيَقُولُ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ. فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ فَيَجْلِسُ قَدْ مُثِّلَتْ لَهُ الشَّمْسُ وَقَدْ دَنَتْ لِلْغُرُوبِ فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَا تَقُولُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ؛ فَيَقُولُونَ: إنَّك سَتَفْعَلُ أَخْبِرْنَا عَمَّا
نَسْأَلُك عَنْهُ. فَقَالَ: عَمَّ تَسْأَلُونِي؟ فَيَقُولُونَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ؛ مَا تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِهِ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ فَيُقَالُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيت وَعَلَى ذَلِكَ مُتّ وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ: ذَلِكَ مَقْعَدُك مِنْهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَك فِيهَا؛ فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ فَيُقَالُ لَهُ ذَلِكَ مَقْعَدُك مِنْهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَك فِيهَا لَوْ عَصَيْت رَبَّك فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا؛ ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ. وَيُعَادُ جَسَدُهُ كَمَا بُدِئَ وَتُجْعَلُ نَسَمَتُهُ فِي نَسَمِ الطِّيبِ وَهِيَ طَيْرٌ تَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ. وَفِي لَفْظٍ: وَهُوَ فِي طَيْرٍ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} وَفِي لَفْظٍ ثُمَّ يُعَادُ الْجَسَدُ إلَى مَا بُدِئَ مِنْهُ} . وَهَذِهِ الْإِعَادَةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} لَيْسَتْ هِيَ النَّشْأَةَ الثَّانِيَةَ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قتادة عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ {إنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا اُحْتُضِرَ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةِ بَيْضَاءَ فَيَقُولُونَ: اُخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيًّا عَنْك إلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ؛ فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ مِسْكٍ حَتَّى إنَّهُمْ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا يَشُمُّونَهُ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ بَابَ السَّمَاءِ فَيَقُولُونَ: مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَكُلَّمَا أَتَوْا سَمَاءً قَالُوا ذَلِكَ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُمْ أَفْرَحُ بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ إذَا قَدِمَ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُونَهُ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: دَعُوهُ حَتَّى يَسْتَرِيحَ فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا فَإِذَا قَالَ لَهُمْ: مَا أَتَاكُمْ فَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ؛ يَقُولُونَ: ذُهِبَ بِهِ إلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّ مَلَائِكَةَ الْعَذَابِ تَأْتِيهِ فَتَقُولُ: اُخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطًا عَلَيْك إلَى عَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إلَى بَابِ الْأَرْضِ فَيَقُولُونَ: مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ كُلَّمَا أَتَوْا عَلَى أَرْضٍ قَالُوا ذَلِكَ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ} . قَالَ الْحَاكِمُ: تَابَعَهُ هِشَامٌ الدستوائي عَنْ قتادة. وَقَالَ هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى؛ عَنْ قتادة عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ. وَالْكُلُّ صَحِيحٌ وَشَاهِدُهَا حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ الحذائي كَمَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ. قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو مُوسَى وَبُنْدَارٌ عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قتادة مِثْلَهُ مَرْفُوعًا. وَمِنْ أَصْحَابِ قتادة مَنْ رَوَاهُ مَوْقُوفًا وَرَوَاهُ هَمَّامٌ عَنْ قتادة عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ النَّسَائِي وَالْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " وَأَبُو حَاتِمٍ فِي " صَحِيحِهِ "
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ {إذَا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ فَصَعِدَا بِهَا فَذَكَرَ مِنْ طِيبِ رِيحِهَا وَذَكَرَ الْمِسْكَ. قَالَ: فَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ طَيِّبَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك وَعَلَى جَسَدٍ كُنْت تُعَمِّرِينَهُ؛ فَيُنْطَلَقُ بِهَا إلَى رَبِّهِ ثُمَّ يُقَالُ: انْطَلِقُوا بِهِ إلَى آخِرِ الْأَجَلِ. قَالَ: وَإِنَّ الْكَافِرَ إذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ وَذَكَرَ مِنْ نَتِنِهَا وَذَكَرَ لَعْنًا فَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ. قَالَ: فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا بِهِ إلَى آخِرِ الْأَجَلِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَيْطَةً كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفِهِ هَكَذَا} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ النَّوْمِ بِاسْمِك رَبِّي وَضَعْت جَنْبِي وَبِك أَرْفَعُهُ إنْ أَمْسَكْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ} وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ {اللَّهُمَّ أَنْتَ خَلَقْت نَفْسِي وَأَنْتَ تَتَوَفَّاهَا لَك مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا فَإِنْ أَمْسَكْتهَا فَارْحَمْهَا؛ وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ} . فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ صُعُودِ الرُّوحِ إلَى السَّمَاءِ وَعَوْدِهَا إلَى الْبَدَنِ: مَا بَيَّنَ أَنَّ صُعُودَهَا نَوْعٌ آخَرُ لَيْسَ مِثْلَ صُعُودِ الْبَدَنِ وَنُزُولِهِ. وروينا عَنْ الْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ منده فِي كِتَابِ " الرُّوحِ وَالنَّفْسِ " حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرَّانِي ثنا أَحْمَد
بْنُ شُعَيْبٍ ثنا مُوسَى بْنُ أَيْمَنَ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} قَالَ: تَلْتَقِي أَرْوَاحُ الْأَحْيَاءِ فِي الْمَنَامِ بِأَرْوَاحِ الْمَوْتَى وَيَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ فَيُمْسِكُ اللَّهُ أَرْوَاحَ الْمَوْتَى وَيُرْسِلُ أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ إلَى أَجْسَادِهَا. وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدِ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ ثنا الْحَسَنُ؛ ثنا عَامِرٌ عَنْ الْفُرَاتِ؛ ثنا أَسْبَاطٌ عَنْ السدي {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} . قَالَ: يَتَوَفَّاهَا فِي مَنَامِهَا. قَالَ: فَتَلْتَقِي رُوحُ الْحَيِّ وَرُوحُ الْمَيِّتِ فَيَتَذَاكَرَانِ وَيَتَعَارَفَانِ. قَالَ: فَتَرْجِعُ رُوحُ الْحَيِّ إلَى جَسَدِهِ فِي الدُّنْيَا إلَى بَقِيَّةِ أَجَلِهِ فِي الدُّنْيَا. قَالَ: وَتُرِيدُ رُوحُ الْمَيِّتِ أَنْ تَرْجِعَ إلَى جَسَدِهِ فَتُحْبَسُ. وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} أُرِيدَ بِهَا أَنَّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَقِيَ رُوحَ الْحَيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ - أَنَّ كُلًّا مِنْ النَّفْسَيْنِ: الْمُمْسَكَةِ وَالْمُرْسَلَةِ تُوُفِّيَتَا وَفَاةَ النَّوْمِ وَأَمَّا الَّتِي تُوُفِّيَتْ وَفَاةَ الْمَوْتِ فَتِلْكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ؛ وَهِيَ الَّتِي قَدَّمَهَا بِقَوْلِهِ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فَذَكَرَ إمْسَاكَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتُ مِنْ هَذِهِ الْأَنْفُسِ الَّتِي تَوَفَّاهَا بِالنَّوْمِ وَأَمَّا الَّتِي
تَوَفَّاهَا حِينَ مَوْتِهَا فَتِلْكَ لَمْ يَصِفْهَا بِإِمْسَاكِ وَلَا إرْسَالٍ وَلَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْتِقَاءَ الْمَوْتَى بِالنِّيَامِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ تَوْفِيَتَيْنِ: تَوَفِّي الْمَوْتِ وَتَوَفِّي النَّوْمِ وَذَكَرَ إمْسَاكَ الْمُتَوَفَّاةِ وَإِرْسَالَ الْأُخْرَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُمْسِكُ كُلَّ مَيْتَةٍ سَوَاءٌ مَاتَتْ فِي النَّوْمِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ؛ وَيُرْسِلُ مَنْ لَمْ تَمُتْ. وَقَوْلُهُ: {يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} يَتَنَاوَلُ مَا مَاتَتْ فِي الْيَقَظَةِ وَمَا مَاتَتْ فِي النَّوْمِ؛ فَلَمَّا ذَكَرَ التَّوْفِيَتَيْنِ ذَكَرَ أَنَّهُ يُمْسِكُهَا فِي أَحَدِ التَّوْفِيَتَيْنِ وَيُرْسِلُهَا فِي الْأُخْرَى؛ وَهَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَمَدْلُولُهُ بِلَا تَكَلُّفٍ. وَمَا ذَكَرَ مِنْ الْتِقَاءِ أَرْوَاحِ النِّيَامِ وَالْمَوْتَى لَا يُنَافِي مَا فِي الْآيَةِ؛ وَلَيْسَ فِي لَفْظِهَا دَلَالَةٌ عَلَيْهِ؛ لَكِنَّ قَوْلَهُ: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} يَقْتَضِي أَنَّهُ يُمْسِكُهَا لَا يُرْسِلُهَا كَمَا يُرْسِلُ النَّائِمَةَ؛ سَوَاءٌ تَوَفَّاهَا فِي الْيَقَظَةِ أَوْ فِي النَّوْمِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {اللَّهُمَّ أَنْتَ خَلَقْت نَفْسِي وَأَنْتَ تَتَوَفَّاهَا؛ لَك مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا؛ فَإِنْ أَمْسَكْتهَا فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ} فَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا فِي حَالِ تَوَفِّي النَّوْمِ إمَّا مُمْسَكَةٌ وَإِمَّا مُرْسَلَةٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ثنا أَبِي ثنا عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ؛ ثنا بَقِيَّةُ؛ ثنا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنِي سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ الْحَضْرَمِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَعْجَبُ مِنْ رُؤْيَا الرَّجُلِ أَنَّهُ يَبِيتُ فَيَرَى الشَّيْءَ
لَمْ يَخْطِرْ لَهُ عَلَى بَالٍ؛ فَتَكُونُ رُؤْيَاهُ كَأَخْذِ بِالْيَدِ وَيَرَى الرَّجُلُ الشَّيْءَ؛ فَلَا تَكُونُ رُؤْيَاهُ شَيْئًا؛ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَفَلَا أُخْبِرُك بِذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فَاَللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ كُلَّهَا فَمَا رَأَتْ - وَهِيَ عِنْدَهُ فِي السَّمَاءِ - فَهُوَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ وَمَا رَأَتْ - إذَا أُرْسِلَتْ إلَى أَجْسَادِهَا - تَلَقَّتْهَا الشَّيَاطِينُ فِي الْهَوَاءِ فَكَذَّبَتْهَا فَأَخْبَرَتْهَا بِالْأَبَاطِيلِ وَكَذَبَتْ فِيهَا؛ فَعَجِبَ عُمَرُ مِنْ قَوْلِهِ. وَذَكَرَ هَذَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ منده فِي كِتَابِ " الرُّوحِ وَالنَّفْسِ " وَقَالَ: هَذَا خَبَرٌ مَشْهُورٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ وَلَفْظُهُ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وَالْأَرْوَاحُ يُعْرَجُ بِهَا فِي مَنَامِهَا فَمَا رَأَتْ وَهِيَ فِي السَّمَاءِ فَهُوَ الْحَقُّ فَإِذَا رُدَّتْ إلَى أَجْسَادِهَا تَلَقَّتْهَا الشَّيَاطِينُ فِي الْهَوَاءِ فَكَذَّبَتْهَا. فَمَا رَأَتْ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الْبَاطِلُ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ منده: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ نُعَيْمٍ الرعيني عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الأصبحي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: إذَا نَامَ الْإِنْسَانُ عُرِجَ بِرُوحِهِ حَتَّى يُؤْتَى بِهَا الْعَرْشَ قَالَ: فَإِنْ كَانَ طَاهِرًا أُذِنَ لَهَا بِالسُّجُودِ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا لَمْ يُؤْذَنْ لَهَا بِالسُّجُودِ. رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ الحباب وَغَيْرُهُ.
وَرَوَى ابْنُ منده حَدِيثَ عَلِيٍّ وَعُمَرَ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا حَدَّثَنَا أَبُو إسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ ثَنَا ابْنُ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي إسْمَاعِيلَ وَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا قُتَيْبَةُ وَالرَّازِي ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حميد ثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مغراء الدوسي ثَنَا الْأَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأزدي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَان عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: {لَقِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ رُبَّمَا شَهِدْت وَغِبْنَا وَرُبَّمَا شَهِدْنَا وَغِبْت ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ أَسْأَلُك عَنْهُنَّ فَهَلْ عِنْدَك مِنْهُنَّ عِلْمٌ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الرَّجُلُ يُحِبُّ الرَّجُلَ وَلَمْ يَرَ مِنْهُ خَيْرًا: وَالرَّجُلُ يُبْغِضُ الرَّجُلَ وَلَمْ يَرَ مِنْهُ شَرًّا. فَقَالَ: نَعَمْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إنَّ الْأَرْوَاحَ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ تَلْتَقِي فِي الْهَوَاءِ فتشام فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ قَالَ عُمَرُ: وَاحِدَةٌ. قَالَ عُمَرُ: وَالرَّجُلُ يُحَدِّثُ الْحَدِيثَ إذْ نَسِيَهُ فَبَيْنَمَا هُوَ قَدْ نَسِيَهُ إذْ ذَكَرَهُ. فَقَالَ: نَعَمْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا مِنْ الْقُلُوبِ قَلْبٌ إلَّا وَلَهُ سَحَابَةٌ كَسَحَابَةِ الْقَمَرِ فَبَيْنَمَا الْقَمَرُ يُضِيءُ إذْ تَجَلَّلَتْهُ سَحَابَةٌ فَأَظْلَمَ؛ إذْ تَجَلَّتْ عَنْهُ فَأَضَاءَ؛ وَبَيْنَمَا الْقَلْبُ يَتَحَدَّثُ إذْ تَجَلَّلَتْهُ فَنَسِيَ إذْ تَجَلَّتْ عَنْهُ فَذَكَرَ. قَالَ عُمَرُ: اثْنَتَانِ. قَالَ: وَالرَّجُلُ يَرَى الرُّؤْيَا: فَمِنْهَا مَا يَصْدُقُ وَمِنْهَا مَا يَكْذِبُ. فَقَالَ: نَعَمْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَنَامُ فَيَمْتَلِئُ نَوْمًا إلَّا عُرِجَ بِرُوحِهِ إلَى الْعَرْشِ فَاَلَّذِي لَا يَسْتَيْقِظُ دُونَ الْعَرْشِ فَتِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي تَصْدُقُ وَاَلَّذِي يَسْتَيْقِظُ دُونَ الْعَرْشِ
فَهِيَ الرُّؤْيَا الَّتِي تَكْذِبُ. فَقَالَ عُمَرُ: ثَلَاثٌ كُنْت فِي طَلَبِهِنَّ؛ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَصَبْتهنَّ قَبْلَ الْمَوْتِ.} وَرَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَأَلَ عَنْهُ عُمَرَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ ثَنَا آدَمَ بْنُ أَبِي إيَاسٍ ثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ الخثعمي عَنْ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْقُرَشِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْيَاءُ أَسْأَلُك عَنْهَا؟ قَالَ: سَلْ عَمَّا شِئْت؛ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّ يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَمِمَّ يَنْسَى؟ وَمِمَّ تَصْدُقُ الرُّؤْيَا وَمِمَّ تَكْذِبُ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَمَّا قَوْلُك مِمَّ يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَمِمَّ يَنْسَى؛ فَإِنَّ عَلَى الْقَلْبِ طخاة مِثْلَ طخاة الْقَمَرِ فَإِذَا تَغَشَّتْ الْقَلْبَ نَسِيَ ابْنُ آدَمَ فَإِذَا تَجَلَّتْ عَنْ الْقَلْبِ ذَكَرَ مِمَّا كَانَ يَنْسَى. وَأَمَّا مِمَّ تَصْدُقُ الرُّؤْيَا وَمِمَّ تَكْذِبُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} فَمَنْ دَخَلَ مِنْهَا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ فَهِيَ الَّتِي تَصْدُقُ وَمَا كَانَ مِنْهَا دُونَ مَلَكُوتِ السَّمَاءِ فَهِيَ الَّتِي تَكْذِبُ. قُلْت: وَفِي هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ ذَكَرَ أَنَّ الَّتِي تَكْذِبُ مَا لَمْ يَكْمُلْ وُصُولُهَا إلَى الْعُلُوِّ. وَفِي الْأَوَّلِ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مِمَّا يَحْصُلُ بَعْدَ رُجُوعِهَا. وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُمْكِنٌ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ أَوْ وُجُودِ مَانِعِهِ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ إذَا نَامَ الْإِنْسَانُ فَإِنَّ لَهُ سَبَبًا تَجْرِي فِيهِ الرُّوحُ
وَأَصْلُهُ فِي الْجَسَدِ. فَتَبْلُغُ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ فَمَا دَامَ ذَاهِبًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ نَائِمٌ. فَإِذَا رَجَعَ إلَى الْبَدَنِ انْتَبَهَ الْإِنْسَانُ؛ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ شُعَاعٍ هُوَ سَاقِطٌ بِالْأَرْضِ وَأَصْلُهُ مُتَّصِلٌ بِالشَّمْسِ. قَالَ ابْنُ منده: وَأُخْبِرْت عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّمَرْقَنْدِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ السَّمَرْقَنْدِيِّ - وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَلَهُ بَصَرٌ بِالطِّبِّ وَالتَّعْبِيرِ - قَالَ: إنَّ الْأَرْوَاحَ تَمْتَدُّ مِنْ مَنْخِرِ الْإِنْسَانِ وَمَرَاكِبُهَا وَأَصْلُهَا فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ فَلَوْ خَرَجَ الرُّوحُ لَمَاتَ كَمَا أَنَّ السِّرَاجَ لَوْ فَرَّقْت بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفَتِيلَةِ لطفئت. أَلَا تَرَى أَنَّ تَرَكُّبَ النَّارِ فِي الْفَتِيلَةِ وضوءها وَشُعَاعَهَا مَلَأَ الْبَيْتَ فَكَذَلِكَ الرُّوحُ تَمْتَدُّ مِنْ مَنْخِرِ الْإِنْسَانِ فِي مَنَامِهِ حَتَّى تَأْتِيَ السَّمَاءَ وَتَجُولُ فِي الْبُلْدَانِ وَتَلْتَقِي مَعَ أَرْوَاحِ الْمَوْتَى. فَإِذَا رَآهَا الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِأَرْوَاحِ الْعِبَادِ أَرَاهُ مَا أَحَبَّ أَنْ يَرَاهُ وَكَانَ الْمَرْءُ فِي الْيَقَظَةِ عَاقِلًا ذَكِيًّا صَدُوقًا لَا يَلْتَفِتُ فِي الْيَقَظَةِ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْبَاطِلِ رَجَعَ إلَيْهِ رُوحُهُ فَأَدَّى إلَى قَلْبِهِ الصِّدْقَ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ عز وجل عَلَى حَسَبِ صِدْقِهِ. وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا نَزِقًا يُحِبُّ الْبَاطِلَ وَالنَّظَرَ إلَيْهِ فَإِذَا نَامَ وَأَرَاهُ اللَّهُ أَمْرًا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ رَجَعَ رُوحُهُ فَحَيْثُ مَا رَأَى شَيْئًا مِنْ مخاريق الشَّيْطَانِ أَوْ بَاطِلًا وَقَفَ عَلَيْهِ كَمَا يَقِفُ فِي يَقَظَتِهِ وَكَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى قَلْبِهِ فَلَا يَعْقِلُ مَا رَأَى لِأَنَّهُ خَلَطَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ؛ فَلَا يُمْكِنُ مُعَبِّرٌ يَعْبُرُ لَهُ وَقَدْ اخْتَلَطَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ منده: وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا الْكَلَامِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنهم. قُلْت: وَخَرَجَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ " تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا " قَالَ: حَدَّثَنِي
حُسَيْنُ بْنُ حَسَنٍ الْمَرْوَزِي أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَبْدُ اللَّهِ ثَنَا الْمُبَارَكُ {عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: أُنْبِئْت أَنَّ الْعَبْدَ إذَا نَامَ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: اُنْظُرُوا إلَى عَبْدِي رُوحُهُ عِنْدِي وَجَسَدُهُ فِي طَاعَتِي} . وَإِذَا كَانَتْ الرُّوحُ تَعْرُجُ إلَى السَّمَاءِ مَعَ أَنَّهَا فِي الْبَدَنِ. عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عُرُوجُهَا مِنْ جِنْسِ عُرُوجِ الْبَدَنِ الَّذِي يَمْتَنِعُ هَذَا فِيهِ. وَعُرُوجُ الْمَلَائِكَةِ وَنُزُولُهَا مِنْ جِنْسِ عُرُوجِ الرُّوحِ وَنُزُولِهَا لَا مِنْ جِنْسِ عُرُوجِ الْبَدَنِ وَنُزُولِهِ. وَصُعُودُ الرَّبِّ عز وجل فَوْقَ هَذَا كُلِّهِ وَأَجَلُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَبْعَدُ عَنْ مُمَاثَلَةِ كُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ مُمَاثَلَةِ مَخْلُوقٍ لِمَخْلُوقِ. وَإِذَا قِيلَ: الصُّعُودُ وَالنُّزُولُ وَالْمَجِيءُ وَالْإِتْيَانُ أَنْوَاعٌ جِنْسُ الْحَرَكَةِ؛ قِيلَ: وَالْحَرَكَةُ أَيْضًا أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ فَلَيْسَتْ حَرَكَةُ الرُّوحِ كَحَرَكَةِ الْبَدَنِ وَلَا حَرَكَةُ الْمَلَائِكَةِ كَحَرَكَةِ الْبَدَنِ. وَالْحَرَكَةُ يُرَادُ بِهَا انْتِقَالُ الْبَدَنِ وَالْجِسْمِ مِنْ حَيِّزٍ وَيُرَادُ بِهَا أُمُورٌ أُخْرَى كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الطبائعية وَالْفَلَاسِفَةِ: مِنْهَا الْحَرَكَةُ فِي الْكَمِّ كَحَرَكَةِ النُّمُوِّ وَالْحَرَكَةُ فِي الْكَيْفِ كَحَرَكَةِ الْإِنْسَانِ مِنْ جَهْلٍ إلَى عِلْمٍ وَحَرَكَةِ اللَّوْنِ أَوْ الثِّيَابِ مِنْ سَوَادٍ إلَى بَيَاضٍ وَالْحَرَكَةُ فِي الْأَيْنِ كَالْحَرَكَةِ تَكُونُ بِالْأَجْسَامِ النَّامِيَةِ مِنْ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ: فِي النُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ أَوْ فِي الذُّبُولِ وَالنُّقْصَانِ؛ وَلَيْسَ هُنَاكَ انْتِقَالُ جِسْمٍ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْجَوَاهِرَ الْمُفْرَدَةَ تَنْتَقِلُ؛ فَقَوْلُهُ غَلَطٌ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.
وَكَذَلِكَ الْأَجْسَامُ تَنْتَقِلُ أَلْوَانُهَا وَطَعُومُهَا وَرَوَائِحُهَا فَيَسُودُ الْجِسْمَ بَعْدَ ابْيِضَاضِهِ وَيَحْلُو بَعْدَ مَرَارَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَهَذِهِ حَرَكَاتٌ وَاسْتِحَالَاتٌ وَانْتِقَالَاتٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ انْتِقَالُ جِسْمٍ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ وَكَذَلِكَ الْجِسْمُ الدَّائِرُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ كَالدُّولَابِ وَالْفَلَكِ هُوَ بِجُمْلَتِهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ حَيِّزِهِ وَإِنْ لَمْ يَزَلْ مُتَحَرِّكًا. وَهَذِهِ الْحَرَكَاتُ كُلُّهَا فِي الْأَجْسَامِ وَأَمَّا فِي الْأَرْوَاحِ فَالنَّفْسُ تَنْتَقِلُ مِنْ بُغْضٍ إلَى حُبٍّ وَمِنْ سَخَطٍ إلَى رِضَا. وَمِنْ كَرَاهَةٍ إلَى إرَادَةٍ وَمِنْ جَهْلٍ إلَى عِلْمٍ وَيَجِدُ الْإِنْسَانُ مِنْ حَرَكَاتِ نَفْسِهِ وَانْتِقَالَاتِهَا وَصُعُودِهَا وَنُزُولِهَا مَا يَجِدُهُ. وَذَلِكَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ غَيْرِ جِنْسِ حَرَكَاتِ بَدَنِهِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا؛ فَإِنَّ لِلْمَلَائِكَةِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَلِيقُ بِهِمْ؛ وَإِنَّ مَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ تبارك وتعالى هُوَ أَكْمَلُ وَأَعْلَى وَأَتَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؛ وَحِينَئِذٍ فَإِذَا قَالَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ: كَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بَلْ إذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ يُوصَفُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا يَسْتَحِيلُ مِنْ مَخْلُوقٍ آخَرَ فَالرُّوحُ تُوصَفُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا يَسْتَحِيلُ اتِّصَافُ الْبَدَنِ بِهِ كَانَ جَوَازُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الرَّبِّ تبارك وتعالى أَوْلَى مِنْ جَوَازِهِ مِنْ الْمَخْلُوقِ كَأَرْوَاحِ الْآدَمِيِّينَ وَالْمَلَائِكَةِ.
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ عز وجل لَا يَكُونُ إلَّا مِثْلَ مَا تُوصَفُ بِهِ أَبْدَانُ بَنِي آدَمَ. فَغَلَطُهُ أَعْظَمُ مِنْ غَلَطِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ مَا تُوصَفُ بِهِ الرُّوحُ مِثْلَ مَا تُوصَفُ بِهِ الْأَبْدَانُ.
وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ " قُرْبَهُ سُبْحَانَهُ وَدُنُوَّهُ مِنْ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ " لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَخْلُوَ ذَاتُهُ مِنْ فَوْقِ الْعَرْشِ؛ بَلْ هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَيَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ؛ كَمَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ قَالَهُ مِنْ السَّلَفِ؛ وَهَذَا كَقُرْبِهِ إلَى مُوسَى لَمَّا كَلَّمَهُ مِنْ الشَّجَرَةِ قَالَ تَعَالَى: {إذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {يَا مُوسَى إنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} {إلَّا مَنْ ظُلِمَ} وَقَالَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ نَادَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ وَأَنَّهُ قَرَّبَهُ نَجِيًّا وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إذْ قَضَيْنَا إلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى:
{هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} {إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} {فَقُلْ هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى} {وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ ": حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} قَالَ. كَانَ ذَلِكَ النَّارَ قَالَ اللَّهُ مَنْ فِي النُّورِ وَنُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النُّورِ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ؛ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ؛ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ؛ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ أَنَّ عِكْرِمَةَ حَدَّثَنِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قَالَ: كَانَ ذَلِكَ النَّارُ نُورَهُ {وَمَنْ حَوْلَهَا} أَيْ بُورِكَ مَنْ فِي النُّورِ وَمَنْ حَوْلَ النُّورِ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ مِنْ تَفْسِيرِ عَطِيَّةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} يَعْنِي نَفْسَهُ قَالَ: كَانَ نُورُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الشَّجَرَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا. حَدَّثَنَا أَبِي؛ ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ؛ ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ؛ عَنْ شيبان؛ عَنْ عِكْرِمَةَ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قَالَ: كَانَ اللَّهُ فِي نُورِهِ. حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ثَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قَالَ: نَادَاهُ وَهُوَ فِي النُّورِ.
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ المنجاني؛ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ؛ ثَنَا مُفَضَّلُ بْنُ أَبِي فَضَالَةَ حَدَّثَنِي ابْنُ ضَمْرَةَ: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} قَالَ: إنَّ مُوسَى كَانَ عَلَى شَاطِئِ الْوَادِي - إلَى أَنْ قَالَ - فَلَمَّا قَامَ أَبْصَرَ النَّارَ فَسَارَ إلَيْهَا فَلَمَّا أَتَاهَا {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قَالَ: إنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَارًا وَلَكِنْ كَانَ نُورَ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ فِي ذَلِكَ النُّورِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ النُّورُ مِنْهُ؛ وَمُوسَى حَوْلَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ ثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ؛ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ عز وجل {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} قَالَ: النَّارُ نُورُ الرَّحْمَةِ؛ قَالَ: ضَوْءٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ حَوْلَهَا} مُوسَى وَالْمَلَائِكَةُ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَمَنْ حَوْلَهَا} قَالَ: الْمَلَائِكَةُ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحُسْنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقتادة مِثْلُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ السدي وَحْدَهُ {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قَالَ: كَانَ فِي النَّارِ مَلَائِكَةٌ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ {عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ
عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ - أَوْ النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ} . ثُمَّ قَرَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} . وَذَكَرَ مِنْ تَفْسِيرِ الوالبي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} يَقُولُ: قُدِّسَ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} بُورِكَتْ النَّارُ. كَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَفِي السُّورَةِ الْأُخْرَى: ذَكَرَ أَنَّهُ نَادَاهُ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ وَقَوْلُهُ {مِنَ الشَّجَرَةِ} هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ} فَالشَّجَرَةُ كَانَتْ فِيهِ وَقَالَ أَيْضًا: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} وَالطُّورُ هُوَ الْجَبَلُ فَالنِّدَاءُ كَانَ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ مِنْ الطُّورِ وَمِنْ الْوَادِي فَإِنَّ شَاطِئَ الْوَادِي جَانِبُهُ وَقَالَ {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} أَيْ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَجَانِبِ الْمَكَانِ الْغَرْبِيِّ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ هُوَ الْغَرْبِيُّ لَا الشَّرْقِيُّ فَذَكَرَ أَنَّ النِّدَاءَ كَانَ مِنْ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْوَادِي الْمُقَدَّسُ طُوًى مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ مِنْ الشَّجَرَةِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ قَرَّبَهُ نَجِيًّا فَنَادَاهُ وَنَاجَاهُ وَذَلِكَ الْمُنَادِي لَهُ وَالْمُنَاجِي لَهُ هُوَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا غَيْرُهُ وَنِدَاؤُهُ وَمُنَاجَاتُهُ قَائِمَةٌ بِهِ لَيْسَ ذَلِكَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ؛ بَلْ كَلَامُهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ مَخْلُوقٌ؛ وَهُوَ سبحانه وتعالى نَادَاهُ وَنَاجَاهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لَا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ: لَمْ يَزَلْ مُنَادِيًا مُنَاجِيًا لَهُ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ خَلَقَ فِيهِ إدْرَاكَ النِّدَاءِ الْقَدِيمِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ.
فَهَذَانِ قَوْلَانِ مُبْتَدَعَانِ لَمْ يَقُلْ وَاحِدًا مِنْهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ. وَإِذَا كَانَ الْمُنَادِي هُوَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ نَادَاهُ مِنْ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ وَقَرَّبَهُ إلَيْهِ؛ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ السَّلَفُ مِنْ قُرْبِهِ وَدُنُوِّهِ مِنْ مُوسَى عليه السلام مَعَ أَنَّ هَذَا قُرْبٌ مِمَّا دُونَ السَّمَاءِ. وَقَدْ جَاءَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الإسرائيليات قُرْبُهُ مِنْ أَيُّوبَ عليه السلام وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَلَفْظُهُ - الَّذِي سَاقَهُ البغوي - أَنَّهُ أَظَلَّهُ غَمَامٌ ثُمَّ نُودِيَ: يَا أَيُّوبُ؟ أَنَا اللَّهُ يَقُولُ: أَنَا قَدْ دَنَوْت مِنْك أَنْزِلُ مِنْك قَرِيبًا لَكِنَّ الْإِسْرائِيلِيّات إنَّمَا تُذْكَرُ عَلَى وَجْهِ الْمُتَابَعَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا وَحْدَهَا وَهُوَ سبحانه وتعالى قَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَفِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم بِقُرْبِهِ مِنْ الدَّاعِي وَقُرْبِهِ مِنْ الْمُتَقَرَّبِ إلَيْهِ فَقَالَ تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} . وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَكَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ؛ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} . " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً} .
وَقُرْبُهُ مِنْ الْعِبَادِ بِتَقَرُّبِهِمْ إلَيْهِ مِمَّا يُقِرُّ بِهِ جَمِيعُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ سَوَاءٌ قَالُوا مَعَ ذَلِكَ: إنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ أَوْ لَمْ يَقُولُوا. وَأَمَّا مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ: - فَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُ قُرْبَ الْعِبَادِ بِكَوْنِهِمْ يُقَارِبُونَهُ وَيُشَابِهُونَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَيَكُونُونَ قَرِيبِينَ مِنْهُ وَهَذَا تَفْسِيرُ أَبِي حَامِدٍ والمتفلسفة؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْفَلْسَفَةُ هِيَ التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُ قُرْبَهُمْ بِطَاعَتِهِمْ وَيُفَسِّرُ قُرْبَهُ بِإِثَابَتِهِ. وَهَذَا تَفْسِيرُ جُمْهُورِ الْجَهْمِيَّة؛ فَإِنَّهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ قُرْبٌ وَلَا تَقْرِيبٌ أَصْلًا. وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعَانِي الْقُرْبِ - وَلَيْسَ فِي الطَّوَائِفِ مَنْ يُنْكِرُهُ - قُرْبُ الْمَعْرُوفِ وَالْمَعْبُودِ إلَى قُلُوبِ الْعَارِفِينَ الْعَابِدِينَ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَهُ وَيَقْرُبَ مِنْ قَلْبِهِ وَاَلَّذِي يُبْغِضُهُ يَبْعُدُ مِنْ قَلْبِهِ. لَكِنْ هَذَا لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ ذَاتَه نَفْسَهَا تَحِلُّ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ الْعَابِدِينَ وَإِنَّمَا فِي الْقُلُوبِ مَعْرِفَتُهُ وَعِبَادَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ؛ وَلَكِنَّ الْعِلْمَ يُطَابِقُ الْمَعْلُومَ. وَهَذَا الْإِيمَانُ الَّذِي فِي الْقُلُوبِ هُوَ " الْمَثَلُ الْأَعْلَى " الَّذِي لَهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ} وَقَوْلُهُ {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} .
وَقَدْ غَلِطَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَائِفَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ: فَجَعَلُوهُ حُلُولَ الذَّاتِ وَاتِّحَادَهَا بِالْعَابِدِ وَالْعَارِفِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَاَلَّذِينَ يُثْبِتُونَ تَقْرِيبَهُ الْعِبَادَ إلَى ذَاتِهِ هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكُلَّابِيَة؛ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ قُرْبَ الْعِبَادِ إلَى ذَاتِهِ وَكَذَلِكَ يُثْبِتُونَ اسْتِوَاءَهُ عَلَى الْعَرْشِ بِذَاتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: الِاسْتِوَاءُ فِعْلٌ فَعَلَهُ فِي الْعَرْشِ فَصَارَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ. وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزَّاغُونِي وَطَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا دُنُوُّهُ نَفْسُهُ وَتَقَرُّبُهُ مِنْ بَعْضِ عِبَادِهِ؛ فَهَذَا يُثْبِتُهُ مَنْ يُثْبِتُ قِيَامَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِنَفْسِهِ وَمَجِيئِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنُزُولِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالنَّقْلُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ مُتَوَاتِرٌ. وَأَوَّلُ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا فِي الْإِسْلَامِ " الْجَهْمِيَّة " وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَانُوا يُنْكِرُونَ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوَّ عَلَى الْعَرْشِ ثُمَّ جَاءَ ابْنُ كُلَّابٍ فَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ وَأَثْبَتَ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوَّ عَلَى الْعَرْشِ لَكِنْ وَافَقَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ؛ وَلِهَذَا أَحْدَثَ قَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ: إنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ بِقُدْرَتِهِ. وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ؛ بَلْ الْمُتَوَاتِرُ عَنْهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ
مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَمَا ذَكَرْت أَلْفَاظَهُمْ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا. فَاَلَّذِينَ يُثْبِتُونَ أَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَلَامًا قَائِمًا بِهِ؛ هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ يَدْنُو وَيَقْرُبُ مِنْ عِبَادِهِ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ أَوْ قَدِيمٌ فَأَصْلُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْرُبَ مِنْ شَيْءٍ وَلَا يَدْنُوَ إلَيْهِ. فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: بِهَذَا مَعَ هَذَا؛ كَانَ مِنْ تَنَاقُضِهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ أَصْلَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ قَدِيمٌ. وَأَهْلُ الْكَلَامِ قَدْ يَعْرِفُونَ مِنْ حَقَائِقِ أُصُولِهِمْ وَلَوَازِمِهَا مَا لَا يَعْرِفُهُ مَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى أَصْلِ الْمَقَالَةِ وَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهَا وَلَوَازِمَهَا؛ فَلِذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَتَنَاقَضُ كَلَامُهُ فِي هَذَا الْبَابِ. فَإِنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارَ السَّلَفِ مُتَظَاهِرَةٌ بِالْإِثْبَاتِ وَلَيْسَ عَلَى النَّفْيِ دَلِيلٌ وَاحِدٌ: لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ وَلَا مِنْ أَثَرٍ؛ وَإِنَّمَا أَصْلُهُ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة فَلَمَّا جَاءَ ابْنُ كُلَّابٍ فَرَّقَ وَوَافَقَهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ فَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُقِرُّ بِمَا جَاءَ عَنْ السَّلَفِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَبِمَا يَقُولُهُ الْنُّفَاةِ مِمَّا يُنَاقِضُ ذَلِكَ وَلَا يَهْتَدِي لِلتَّنَاقُضِ {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ ثُلُثَ اللَّيْلِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ. وَهَذَا قَدْ احْتَجَّ بِهِ طَائِفَةٌ وَجَعَلُوا هَذَا دَلِيلًا عَلَى مَا يَتَأَوَّلُونَ عَلَيْهِ حَدِيثَ النُّزُولِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا جَعَلَ نُزُولَهُ مِنْ جِنْسِ
نُزُولِ أَجْسَامِ النَّاسِ مِنْ السَّطْحِ إلَى الْأَرْضِ وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: يَخْلُو الْعَرْشُ مِنْهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ فَوْقَهُ وَبَعْضُهَا تَحْتَهُ. فَإِذَا قُدِّرَ النُّزُولُ هَكَذَا كَانَ مُمْتَنِعًا؛ لِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَزَالُ تَحْتَ الْعَرْشِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ أَوْ جَمِيعِهَا فَإِنَّ بَيْنَ طَرَفَيْ الْعِمَارَةِ نَحْوَ لَيْلَةٍ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ: بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْعِمَارَةِ مِنْ الْمَشْرِقِ وَمُنْتَهَاهَا مِنْ الْمَغْرِبِ مِقْدَارُ مِائَةٍ وَثَمَانِينَ دَرَجَةً فَلَكِيَّةً وَكُلُّ خَمْسَ عَشْرَةَ فَهِيَ سَاعَةٌ مُعْتَدِلَةٌ وَالسَّاعَةُ الْمُعْتَدِلَةُ هِيَ سَاعَةٌ مِنْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً بِاللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ إذَا كَانَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مُتَسَاوِيَيْنِ - كَمَا يَسْتَوِيَانِ فِي أَوَّلِ الرَّبِيعِ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الصَّيْفَ وَأَوَّلِ الْخَرِيفِ الَّذِي تُسَمِّيهِ الرَّبِيعَ - بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَطْوَلَ مِنْ الْآخَرِ وَكُلُّ وَاحِدٍ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً؛ فَهَذِهِ السَّاعَاتُ مُخْتَلِفَةٌ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ فَتَغْرُبُ الشَّمْسُ عَنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ قَبْلَ غُرُوبِهَا عَنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ كَمَا تَطْلُعُ عَلَى هَؤُلَاءِ قَبْلَ هَؤُلَاءِ بِنَحْوِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً أَوْ أَكْثَرَ. فَإِنَّ الشَّمْسَ عَلَى أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ مُرْتَفِعَةً مِنْ الْأَرْضِ الِارْتِفَاعَ التَّامَّ كَمَا يَكُونُ عِنْدَ نِصْفِ النَّهَارِ فَإِنَّهَا تُضِيءُ عَلَى مَا أَمَامَهَا وَخَلْفَهَا مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ تِسْعِينَ دَرَجَةً شَرْقِيَّةً وَتِسْعِينَ غَرْبِيَّةً وَالْمَجْمُوعُ مِقْدَارُ حَرَكَتِهَا: اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً سِتَّةٌ شَرْقِيَّةٌ وَسِتَّةٌ غَرْبِيَّةٌ وَهُوَ النَّهَارُ الْمُعْتَدِلُ. وَلَا يَزَالُ لَهَا هَذَا النَّهَارُ لَكِنْ يَخْفَى ضَوْءُهَا بِسَبَبِ مَيْلِهَا إلَى جَانِبِ الشَّمَالِ
وَالْجَنُوبِ؛ فَإِنَّ الْمَعْمُورَ مِنْ الْأَرْضِ مِنْ النَّاحِيَةِ الشَّمَالِيَّةِ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ شَمَالُ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ الْمُحَاذِي لِدَائِرَةِ مُعْتَدِلِ النَّهَارِ الَّتِي نِسْبَتُهَا إلَى الْقُطْبَيْنِ - الشَّمَالِيِّ وَالْجَنُوبِيِّ - نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ فِي حَرَكَةِ الْفَلَكِ إنَّهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ دولابية مِثْلُ الدُّولَابِ وَإِنَّهَا عِنْدَ الْقُطْبَيْنِ رحاوية تُشْبِهُ حَرَكَةَ الرَّحَى وَإِنَّهَا فِي الْمَعْمُورِ مِنْ الْأَرْضِ حمائلية تُشْبِهُ حَمَائِلَ السُّيُوفِ. وَالْمَعْمُورُ الْمَسْكُونُ مِنْ الْأَرْضِ يُقَالُ: إنَّهُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ دَرَجَةً أَكْثَرُ مِنْ السُّدُسِ بِقَلِيلِ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ: ذَكَرْنَا فِيهِ دِلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرَ مَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ " الْفَلَكَ " مُسْتَدِيرٌ. وَقَدْ ذَكَرَ إجْمَاعَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي الَّذِي لَهُ نَحْوُ " أَرْبَعِمِائَةِ مُصَنَّفٍ " وَهُوَ مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الشَّمْسَ إذَا طَلَعَتْ عَلَى أَوَّلِ الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إمَّا وَقْتَ غُرُوبِهَا وَإِمَّا قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ غُرُوبِهَا عَلَى آخِرِ الْبِلَادِ الْغَرْبِيَّةِ فَإِنَّهَا تَكُونُ بِحَيْثُ يَكُونُ الضَّوْءُ أَمَامَهَا تِسْعِينَ دَرَجَةً وَخَلْفَهَا تِسْعِينَ دَرَجَةً؛ فَهَذَا مُنْتَهَى نُورِهَا. فَإِذَا طَلَعَتْ عَلَيْهِمْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ تِسْعُونَ دَرَجَةً وَكَذَلِكَ عَلَى كُلِّ بَلَدٍ تَطْلُعُ عَلَيْهِ؛ وَالْحَاسِبُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الدَّرَجَاتِ كَمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ السَّاعَاتِ فَإِنَّ السَّاعَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ الزَّمَانِيَّةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا خَمْسَ عَشْرَةَ دَرَجَةً بِحَسَبِ ذَلِكَ الزَّمَانِ
فَيَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ أَيْضًا تِسْعُونَ دَرَجَةً مِنْ نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ وَإِذَا صَارَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَانٍ تِسْعُونَ دَرَجَةً غَرْبِيَّةً غَابَتْ كَمَا تَطْلُعُ إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ تِسْعُونَ دَرَجَةً شَرْقِيَّةً وَإِذَا تَوَسَّطَتْ عَلَيْهِمْ - وَهُوَ وَقْتُ اسْتِوَائِهَا قَبْلَ أَنْ تَدْلُكَ وَتَزِيغَ وَيَدْخُلَ وَقْتُ الظُّهْرِ - كَانَ لَهَا تِسْعُونَ دَرَجَةً شَرْقِيَّةً وَتِسْعُونَ دَرَجَةً غَرْبِيَّةً. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ - وَالنُّزُولُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ عَلَى قَائِلِهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ: الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ هُوَ: " إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ " وَأَمَّا رِوَايَةُ النِّصْفِ وَالثُّلُثَيْنِ فَانْفَرَدَ بِهَا مُسْلِمٌ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّ أَصَحَّ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا؛ فَهُوَ حَدِيثٌ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَاَلَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ. فَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ ذَكَرَ " النُّزُولَ " أَيْضًا إذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ وَإِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ؛ فَقَوْلُهُ حَقٌّ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ؛ وَيَكُونُ النُّزُولُ أَنْوَاعًا ثَلَاثَةً: الْأَوَّلُ إذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ ثُمَّ إذَا انْتَصَفَ وَهُوَ أَبْلَغُ ثُمَّ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ وَهُوَ أَبْلَغُ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ. وَلَفْظُ " اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ " فِي كَلَامِ الشَّارِعِ إذَا أُطْلِقَ فَالنَّهَارُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ
كَمَا فِي قَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} وَكَمَا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا} وَقَوْلِهِ: {كَاَلَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا أَرَادَ صَوْمَ النَّهَارِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَكَذَلِكَ وَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَأَوَّلُ وَقْتِ الصِّيَامِ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الْمَعْلُومِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَكَذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم {صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خِفْت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِرَكْعَةِ} . وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ - كَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ - إنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ. وَأَمَّا إذَا قَالَ الشَّارِعُ صلى الله عليه وسلم " نِصْفُ النَّهَارِ " فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ النَّهَارَ الْمُبْتَدِئَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ لَا يُرِيدُ قَطُّ - لَا فِي كَلَامِهِ وَلَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِنِصْفِ النَّهَارِ - النَّهَارَ الَّذِي أَوَّلُهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ فَإِنَّ نِصْفَ هَذَا يَكُونُ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ وَلِهَذَا غَلِطَ بَعْضُ مُتَأَخَّرِي الْفُقَهَاءِ - لَمَّا رَأَى كَلَامَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الصَّائِمَ الْمُتَطَوِّعَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْوِيَ التَّطَوُّعَ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ؛ وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ بَعْدَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد - ظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهَارِ هُنَا نَهَارُ الصَّوْمِ الَّذِي أَوَّلُهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ. وَسَبَبُ غَلَطِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُسَمَّى النَّهَارِ إذَا أُطْلِقَ وَبَيْنَ مُسَمَّى نِصْفِ النَّهَارِ فَالنَّهَارُ الَّذِي يُضَافُ إلَيْهِ نِصْفٌ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَعُلَمَاءِ أُمَّتِهِ هُوَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَالنَّهَارِ الْمُطْلَقِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَخْبَرَ بِالنُّزُولِ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ فَهَذَا اللَّيْلُ
الْمُضَافُ إلَيْهِ الثُّلُثُ يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ النَّهَارِ الْمُضَافِ إلَيْهِ النِّصْفُ - وَهُوَ الَّذِي يَنْتَهِي إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَكَذَلِكَ لِمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {وَقْتُ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ أَوْ إلَى الثُّلُثِ} فَهُوَ هَذَا اللَّيْلُ. وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ إذَا أَطْلَقُوا ثُلُثَ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ؛ فَهُوَ كَإِطْلَاقِهِمْ نِصْفَ النَّهَارِ. وَهَكَذَا أَهْلُ الْحِسَابِ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ هَذَا. وَقَدْ يُقَالُ: بَلْ هُوَ اللَّيْلُ الْمُنْتَهِي بِطُلُوعِ الْفَجْرِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {أَفْضَلُ الْقِيَامِ قِيَامُ دَاوُد؛ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ} وَالْيَوْمُ الْمُعْتَادُ الْمَشْرُوعُ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ بَلْ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ هَذَا وَحِينَئِذٍ فَإِذَا قُدِّرَ ثُلُثُ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ الْمَشْرِقِ يَكُونُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَيْهِمْ بِأَرْبَعِ سَاعَاتٍ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ} - فَقَدْ أَخْبَرَ بِدَوَامِهِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَفِي رِوَايَةٍ: " إلَى أَنْ يَنْصَرِفَ الْقَارِئُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ ". وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَقَدْ قِيلَ: يَشْهَدُهُ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا النُّزُولُ يَدُومُ نَحْوَ سُدُسٍ عِنْدَ أُولَئِكَ؛ فَهَكَذَا هُوَ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ إذَا مَضَى ثُلُثَا لَيْلِهِمْ يَدُومُ عِنْدَهُمْ سُدُسُ الزَّمَانِ وَأَمَّا النُّزُولُ الَّذِي فِي النِّصْفِ أَوْ الثُّلُثَيْنِ: فَإِنَّهُ يَدُومُ رُبُعُ الزَّمَانِ أَوْ ثُلُثُهُ فَهُوَ أَكْثَرُ دَوَامًا مِنْ ذَلِكَ.
وَإِنْ أُرِيدَ اللَّيْلُ الْمُنْتَهِي بِطُلُوعِ الشَّمْسِ؛ كَانَ وَقْتُ النُّزُولِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَرِيبًا مِنْ ثُمُنِ الزَّمَانِ وَتُسْعِهِ وَعَلَى رِوَايَةِ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ سُدُسِهِ وَرُبُعِهِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ زَمَنَ ثُلُثِ لَيْلِ الْبَلَدِ الشَّرْقِيِّ قَبْلَ ثُلُثِ لَيْلِ الْبَلَدِ الْغَرْبِيِّ كَمَا قَدْ عُرِفَ وَالْعِمَارَةُ طُولُهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً مِائَةٌ وَثَمَانُونَ دَرَجَةً فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ لِكُلِّ مِقْدَارِ سَاعَةٍ - وَهُوَ خَمْسَ عَشْرَةَ دَرَجَةً مِنْ الْمَعْمُورِ - ثُلُثًا غَيْرَ ثُلُثِ مِقْدَارِ السَّاعَةِ الْأُخْرَى لَكَانَ الْمَعْمُورُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ ثُلُثًا وَالنُّزُولُ يَدُومُ فِي كُلِّ ثُلُثِ مِقْدَارِ سُدُسِ الزَّمَانِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ النُّزُولُ يَدُومُ لَيْلًا وَنَهَارًا أَنَّهُ يَدُومُ بِقَدْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِتَّ مَرَّاتٍ إذَا قُدِّرَ أَنَّ لِكُلِّ طُولِ سَاعَةٍ مِنْ الْمَعْمُورِ ثُلُثًا فَكَيْفَ النُّزُولُ الْإِلَهِيُّ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِدُعَاءِ عِبَادِهِ السَّاكِنِينَ فِي الْأَرْضِ؟ . فَكُلُّ أَهْلِ بَلَدٍ مِنْ الْبِلَادِ يَبْقَى نُزُولُهُ وَدُعَاؤُهُ لَهُمْ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ سُدُسُ الزَّمَانِ وَالْبِلَادُ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ كَثِيرَةٌ. وَالْإِسْلَامُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ قَدْ انْتَشَرَ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {زُوِيَتْ لِي الْأَرْضُ مَشَارِقُهَا وَمَغَارِبُهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا} . وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إنَّ هَذَا " النُّزُولَ وَالدُّعَاءَ " إنَّمَا هُوَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ ويستغفرونه؛ كَمَا أَنَّ " نُزُولَ عَشِيَّةِ
عَرَفَةَ " إنَّمَا هُوَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَحُجُّونَ إلَيْهِ وَكَمَا أَنَّ رَمَضَانَ إذَا دَخَلَ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَصُومُونَ رَمَضَانَ وَعَنْهُمْ تُغْلَقُ أَبْوَابُ النَّارِ وَتُصَفَّدُ شَيَاطِينُهُمْ " وَأَمَّا الْكُفَّارُ " الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ إفْطَارَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَا يَرَوْنَ لَهُ حُرْمَةً وَمَزِيَّةً فَلَا تُفْتَحُ لَهُمْ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَلَا تُغْلَقُ عَنْهُمْ فِيهِ أَبْوَابُ النَّارِ وَلَا تُصَفَّدُ شَيَاطِينُهُمْ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا بَسْطَ هَذَا الْمَعْنَى بَلْ الْمَقْصُودُ أَنَّ النُّزُولَ إنْ كَانَ خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ؛ فَهُمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ مِنْ أَقْصَى الْمَشْرِقِ إلَى أَقْصَى الْمَغْرِبِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا؛ فَهُوَ أَبْلَغُ فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا بُدَّ أَنْ يَدُومَ النُّزُولُ الْإِلَهِيُّ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ مِقْدَارَ سُدُسِ الزَّمَانِ أَوْ أَكْثَرَ. فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ لَيْلُ صَيَفِهِمْ قَصِيرٌ قِيلَ وَلَيْلُ شِتَائِهِمْ طَوِيلٌ فَيُعَادِلُ هَذَا هَذَا وَمَا نَقَصَ مِنْ لَيْلٍ صَيْفِهِمْ زِيدَ فِي لَيْلِ شِتَائِهِمْ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ {الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ: يَصُومُ نَهَارَهُ وَيَقُومُ لَيْلَهُ} . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ - فَلَوْ كَانَ النُّزُولُ كَمَا يَتَخَيَّلُهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ مِنْ أَنَّهُ يَصِيرُ تَحْتَ السَّمَوَاتِ وَفَوْقَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَتَحْتَ الْعَرْشِ مِقْدَارُ ثُلُثِ اللَّيْلِ عَلَى كُلِّ بَلَدٍ - لَمْ يَكُنْ اللَّازِمُ أَنَّهُ لَا يَزَالُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَتَحْتَ السَّمَوَاتِ فَقَطْ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ وَحْدَهُ هُوَ اللَّازِمُ إذَا كَانَ كُلُّ سُدُسٍ مِنْ الْمَعْمُورِ لَهُمْ كُلِّهِمْ ثُلُثٌ وَاحِدٌ؛ وَكَانَ الْمَجْمُوعُ سِتَّةَ أَثْلَاثٍ فَإِذَا قُدِّرَ بَقَاؤُهُ عَلَى هَؤُلَاءِ مِقْدَارُ ثُلُثٍ ثُمَّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْآخَرِينَ مِقْدَارُ ثُلُثٍ لَزِمَ أَنْ لَا يَزَالَ تَحْتَ الْعَرْشِ أَوْ تَحْتَ السَّمَوَاتِ أَوْ حَيْثُ تَخَيَّلَ الْجَاهِلُ أَنَّ اللَّهَ مَحْصُورٌ فِيهِ؛ فَلَا يَكُونُ قَطُّ فَوْقَ الْعَرْشِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ لِكُلِّ بَلَدٍ ثُلُثٌ غَيْرُ الثُّلُثِ الْآخَرِ وَأَنَّ أَوَّلَ كُلِّ بَلَدٍ بَعْدَ الثُّلُثِ الْآخِرِ يُقَدَّرُ مَا بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ آخِرُ ثُلُثِ لَيْلِ الْبَلَدِ الشَّرْقِيِّ يَنْقَضِي قَبْلَ انْقِضَاءِ ثُلُثِ لَيْلِ الْبَلَدِ الْغَرْبِيِّ. وَأَيْضًا إنْ كَانَتْ مُدَاخَلَةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَدُومَ النُّزُولُ عَلَى كُلِّ بَلَدٍ ثُلُثَ لَيْلِهِمْ إلَى طُلُوعِ فَجْرِهِمْ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَدَّرَ أَثْلَاثٌ بِقَدْرِ عَدَدِ الْبِلَادِ. وَأَيْضًا فَكَمَا أَنَّ ثُلُثَ اللَّيْلِ يَخْتَلِفُ بِطُولِ الْبَلَدِ فَهُوَ يَخْتَلِفُ بِعَرْضِهَا أَيْضًا. فَكُلَّمَا كَانَ الْبَلَدُ أَدْخَلَ فِي الشَّمَالِ؛ كَانَ لَيْلُهُ فِي الشِّتَاءِ أَطْوَلَ وَفِي الصَّيْفِ أَقْصَرَ. وَمَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ يَكُونُ لَيْلُهُ فِي الشِّتَاءِ أَقْصَرَ مِنْ لَيْلِ ذَاكَ وَلَيْلُهُ فِي الصَّيْفِ أَطْوَلَ مِنْ لَيْلِ ذَاكَ؛ فَيَكُونُ لَيْلُهُمْ وَنَهَارُهُمْ أَقْرَبَ إلَى التَّسَاوِي. وَحِينَئِذٍ فَالنُّزُول الْإِلَهِيُّ لِكُلِّ قَوْمٍ هُوَ مِقْدَارُ ثُلُثِ لَيْلِهِمْ فَيَخْتَلِفُ مِقْدَارُهُ بِمَقَادِيرِ اللَّيْلِ فِي الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ كَمَا اُخْتُلِفَ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا صَارَ ثُلُثُ اللَّيْلِ عِنْدَ قَوْمٍ؛ فَبَعْدَهُ بِلَحْظَةِ ثُلُثُ اللَّيْلِ عِنْدَ مَا يُقَارِبُهُمْ مِنْ الْبِلَادِ؛ فَيَحْصُلُ النُّزُولُ الْإِلَهِيُّ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمُصَدَّقُ أَيْضًا عِنْدَ أُولَئِكَ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ لَيْلِهِمْ وَهَكَذَا إلَى آخِرِ الْعِمَارَةِ. فَلَوْ كَانَ كَمَا تَوَهَّمَهُ الْجَاهِلُ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَتَكُونُ فَوْقَهُ السَّمَاءُ وَتَحْتَهُ السَّمَاءُ؛ لَكَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ.
" مِنْهَا " أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْعَرْشِ قَطُّ بَلْ لَا يَزَالُ تَحْتَهُ " وَمِنْهَا " أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ بِقَدْرِ مَا هُوَ مَرَّاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا لِيَقَعَ كَذَلِكَ " وَمِنْهَا " أَنَّهُ مَعَ دَوَامِ نُزُولِهِ إلَى سَمَاءِ هَؤُلَاءِ إلَى طُلُوعِ فَجْرِهِمْ إنْ أَمْكَنَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَلَ عَلَى غَيْرِهِمْ أَيْضًا مِمَّنْ ثُلُثُ لَيْلِهِمْ يُخَالِفُ ثُلُثَ هَؤُلَاءِ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ. فَهَذَا خِلَافُ مَا تَخَيَّلُوهُ فَإِنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَتَخَيَّلُوا نَازِلًا كَنُزُولِ الْعِبَادِ مَنْ يَكُونُ نَازِلًا عَلَى سَمَاءِ هَؤُلَاءِ ثُلُثَ لَيْلِهِمْ وَهُوَ أَيْضًا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ نَازِلًا عَلَى سَمَاءِ آخَرِينَ مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى أُولَئِكَ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُمْ أَوْ يَزِيدَ أَوْ يَقْصُرَ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْجُهَّالِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: فَالسَّمَوَاتُ كَيْفَ حَالُهَا عِنْدَ نُزُولِهِ؟ قَالَ: يَرْفَعُهَا ثُمَّ يَضَعُهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ. فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَخَيَّلُونَ مَا وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهِ رَبَّهُ أَنَّهُ مِثْلَ صِفَاتِ أَجْسَامِهِمْ كُلُّهُمْ ضَالُّونَ؛ ثُمَّ يَصِيرُونَ قِسْمَيْنِ. " قِسْمٌ " عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا ظَاهِرُ النَّصِّ وَمَدْلُولُهُ وَأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى إلَّا ذَلِكَ؛ فَصَارُوا: إمَّا أَنْ يَتَأَوَّلُوهُ تَأْوِيلًا يُحَرِّفُونَ بِهِ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا " مَذْهَبُ السَّلَفِ ".
وَيَقُولُونَ: إنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَالْحَدِيثُ مِنْهُ مُتَشَابِهٌ - كَمَا فِي الْقُرْآنِ - وَهَذَا مِنْ مُتَشَابِهِ الْحَدِيثِ؛ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِحَدِيثِ النُّزُولِ لَمْ يَدْرِ هُوَ مَا يَقُولُ وَلَا مَا عُنِيَ بِكَلَامِهِ - وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ ابْتِدَاءً. فَهَلْ يَجُوزُ لِعَاقِلِ أَنْ يَظُنَّ هَذَا بِأَحَدِ مِنْ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ فَضْلًا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْ أَفْضَلِ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَأَعْلَمِ الْخَلْقِ وَأَفْصَحِ الْخَلْقِ وَأَنْصَحِ الْخَلْقِ لِلْخَلْقِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي يَصِفُونَ بِهِ الرَّسُولَ وَأُمَّتَهُ هُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَصَوَّرُوا حَقِيقَةَ مَا قَالُوهُ وَلَوَازِمَهُ. وَلَوْ تَصَوَّرُوا ذَلِكَ لَعَلِمُوا أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ مَا هُوَ مِنْ أَقْبَحِ أَقْوَالِ الْكُفَّارِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ لَا يَرْتَضُونَ مَقَالَةَ مَنْ يَنْتَقِصُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ تَنَقَّصَهُ أَحَدٌ لَاسْتَحَلُّوا قَتْلَهُ وَهُمْ مُصِيبُونَ فِي اسْتِحْلَالِ قَتْلِ مَنْ يَقْدَحُ فِي الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَقَوْلُهُمْ يَتَضَمَّنُ أَعْظَمَ الْقَدْحِ؛ لَكِنْ لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ. وَلَازِمُ الْقَوْلِ لَيْسَ بِقَوْلِ فَإِنَّهُمْ لَوْ عَرَفُوا أَنَّ هَذَا يَلْزَمُهُمْ مَا الْتَزَمُوهُ. " وَقِسْمٌ ثَانٍ " مِنْ الْمُمَثِّلِينَ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ مُنْكَرٌ وَأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ قَالُوا مِثْلَ تِلْكَ الْجَهَالَاتِ: مِنْ أَنَّهُ تَصِيرُ فَوْقَهُ سَمَاءٌ وَتَحْتَهُ سَمَاءٌ أَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ تَرْتَفِعُ ثُمَّ تَعُودُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ وَلُبٍّ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ يَنْزِلُ وَفِي لَفْظٍ: {: يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: {إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا: {إذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا} فَمَا ذَكَرَ مِنْ تَقَدُّمِ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ فِي الْبِلَادِ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَيَصِيرُ تَحْتَ الْعَرْشِ أَوْ تَحْتَ السَّمَاءِ. وَأَمَّا " النُّزُولُ " الَّذِي لَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ نُزُولِ أَجْسَامِ الْعِبَادِ؛ فَهَذَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لِخَلْقِ كَثِيرٍ وَيَكُونُ قَدْرُهُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَكْثَرَ بَلْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقْرُبَ إلَى خَلْقٍ مِنْ عِبَادِهِ دُونَ بَعْضٍ فَيَقْرُبُ إلَى هَذَا الَّذِي دَعَاهُ دُونَ هَذَا الَّذِي لَمْ يَدْعُهُ. وَجَمِيعُ مَا وَصَفَ بِهِ الرَّبُّ عز وجل نَفْسَهُ مِنْ الْقُرْبِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا هُوَ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا فِي الْمَعِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ وَصَفَ نَفْسَهُ فِيهَا بِعُمُومِ وَخُصُوصٍ. وَأَمَّا قُرْبُهُ مِمَّا يَقْرُبُ مِنْهُ فَهُوَ خَاصٌّ لِمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُ كَالدَّاعِي وَالْعَابِدِ وَكَقُرْبِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَدُنُوِّهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِأَجْلِ الْحُجَّاجِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْعَشِيَّةُ بِعَرَفَةَ قَدْ تَكُونُ وَسَطَ النَّهَارِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَتَكُونُ لَيْلًا فِي بَعْضِ الْبِلَادِ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الْبِلَادَ لَمْ يَدْنُ إلَيْهَا وَلَا إلَى سَمَائِهَا الدُّنْيَا وَإِنَّمَا دَنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا الَّتِي عَلَى الْحُجَّاجِ وَكَذَلِكَ نُزُولُهُ بِاللَّيْلِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ حِسَابَهُ لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُهُمْ كُلَّهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَكُلٌّ
مِنْهُمْ يَخْلُو بِهِ كَمَا يَخْلُو الرَّجُلُ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ وَذَلِكَ الْمُحَاسَبُ لَا يَرَى أَنَّهُ يُحَاسِبُ غَيْرَهُ. كَذَلِكَ {قَالَ أَبُو رَزِينٍ: لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَخْلُو بِهِ رَبُّهُ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ؟ وَنَحْنُ جَمِيعٌ وَهُوَ وَاحِدٌ فَقَالَ: سَأُنَبِّئُك بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ: هَذَا الْقَمَرُ كُلُّكُمْ يَرَاهُ مُخْلِيًا بِهِ؛ فَاَللَّهُ أَكْبَرُ} . وَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه كَيْفَ يُحَاسِبُ اللَّهُ الْعِبَادَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ قَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ: فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ} . فَهَذَا يَقُولُهُ سبحانه وتعالى: لِكُلِّ مُصَلٍّ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فَلَوْ صَلَّى الرَّجُلُ مَا صَلَّى مِنْ الرَّكَعَاتِ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ يُصَلِّي مَنْ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ مَنْ
لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَمَا يَقُولُ لِهَذَا كَمَا يُحَاسِبُهُمْ كَذَلِكَ فَيَقُولُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَا يَقُولُ لَهُ مِنْ الْقَوْلِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَذَلِكَ سَمْعُهُ لِكَلَامِهِمْ يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ كُلَّهُ مَعَ اخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ وَتَفَنُّنِ حَاجَاتِهِمْ؛ يَسْمَعُ دُعَاءَهُمْ سَمْعَ إجَابَةٍ وَيَسْمَعُ كُلَّ مَا يَقُولُونَهُ سَمْعَ عِلْمٍ وَإِحَاطَةٍ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ وَلَا تُغَلِّطُهُ الْمَسَائِلُ وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ هَذَا كُلَّهُ وَهُوَ الَّذِي يَرْزُقُ هَذَا كُلَّهُ وَهُوَ الَّذِي يُوَصِّلُ الْغِذَاءَ إلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ عَلَى مِقْدَارِهِ وَصِفَتِهِ الْمُنَاسِبَةِ لَهُ وَكَذَلِكَ مِنْ الزَّرْعِ. وَكُرْسِيُّهُ قَدْ وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا فَإِذَا كَانَ لَا يَئُودُهُ خَلْقُهُ وَرِزْقُهُ عَلَى هَذِهِ التَّفَاصِيلِ فَكَيْفَ يَئُودُهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ أَوْ سَمْعُ كَلَامِهِمْ أَوْ رُؤْيَةُ أَفْعَالِهِمْ أَوْ إجَابَةُ دُعَائِهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا تُبَيِّنُ خَطَأَ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ سبحانه وتعالى قَالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ وَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ} .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَالسِّيَاقُ لِمُسْلِمِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {يَطْوِي اللَّهُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْضِينَ بِشَمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ} ؟ رَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَرَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: {يَطْوِي اللَّهُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْضِينَ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟} . وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مقسم {عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: يَأْخُذُ الْجَبَّارُ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضَهُ - وَقَبَضَ بِيَدِهِ وَجَعَلَ يَقْبِضُهَا وَيَبْسُطُهَا - وَيَقُولُ: أَنَا الرَّحْمَنُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْقُدُّوسُ أَنَا السَّلَامُ أَنَا الْمُؤْمِنُ أَنَا الْمُهَيْمِنُ أَنَا الْعَزِيزُ أَنَا الْجَبَّارُ أَنَا الْمُتَكَبِّرُ أَنَا الَّذِي بَدَأْت الدُّنْيَا وَلَمْ تَكُ شَيْئًا أَنَا الَّذِي أُعِيدُهَا أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ وَيَتَمَيَّلُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى يَمِينِهِ وَعَلَى شَمَالِهِ حَتَّى نَظَرْت إلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى إنِّي أَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟} رَوَاهُ ابْنُ منده وَابْنُ خُزَيْمَة وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ النُّقَّادِ الْجَهَابِذَةِ. فَإِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ يَطْوِي السَّمَوَاتِ كُلَّهَا بِيَمِينِهِ وَهَذَا قَدْرُهَا عِنْدَهُ - كَمَا
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إلَّا كَخَرْدَلَةِ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ وَهُوَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ لَنَا مِنْ عَظَمَتِهِ بِقَدْرِ مَا نَعْقِلُهُ كَمَا قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الماجشون: وَاَللَّهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى عَظِيمِ مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ وَمَا تُحِيطُ بِهِ قَبْضَتُهُ إلَّا صِغَرُ نَظِيرِهَا مِنْهُمْ عِنْدَهُمْ - إنَّ ذَلِكَ الَّذِي أَلْقَى فِي رُوعِهِمْ وَخَلَقَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ قُلُوبَهُمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ ": حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ ثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنْ عَطِيَّةَ العوفي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} قَالَ: لَوْ أَنَّ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ وَالْمَلَائِكَةَ؛ مُنْذُ خُلِقُوا إلَى أَنْ فَنُوا صُفُّوا صَفًّا وَاحِدًا مَا أَحَاطُوا بِاَللَّهِ أَبَدًا} - فَمَنْ هَذِهِ عَظَمَتُهُ كَيْفَ يَحْصُرُهُ مَخْلُوقٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ سَمَاءٌ أَوْ غَيْرُ سَمَاءٍ؟ حَتَّى يُقَالَ: إنَّهُ إذَا نَزَلَ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا صَارَ الْعَرْشُ فَوْقَهُ أَوْ يَصِيرُ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ يَحْصُرُهُ وَيُحِيطُ بِهِ سبحانه وتعالى. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: هُوَ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ؛ قِيلَ: فَقُلْ: هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْزِلَ سبحانه وتعالى وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ وَإِذَا اسْتَدْلَلْت بِمُطْلَقِ الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ فَمَا كَانَ أَبْلَغُ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ؛ فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُوصَفَ بِهِ مِمَّا لَيْسَ
كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَنْ تَوَهَّمَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا أَعْظَمَ مِنْهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَصْغُرَ حَتَّى يُحِيطَ بِهِ مَخْلُوقُهُ الصَّغِيرُ وَجَعَلَ هَذَا مِنْ بَابِ الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ؛ فَقَوْلُهُ: إنَّهُ يَنْزِلُ مَعَ بَقَاءِ عَظَمَتِهِ وَعُلُوِّهِ عَلَى الْعَرْشِ؛ أَبْلَغُ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ وَهُوَ الَّذِي فِيهِ مُوَافَقَةُ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ.
وَهَذَا كَمَا قَدْ يَقُولُهُ طَائِفَةٌ " مِنْهُمْ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ " قَالَ: إنْ شَاءَ وَسِعَهُ أَدْنَى شَيْءٍ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَسَعْهُ شَيْءٌ وَإِنْ أَرَادَ عَرَفَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ لَمْ يَعْرِفْهُ شَيْءٌ؛ إنْ أَحَبَّ وُجِدَ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ لَمْ يُحِبَّ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَ شَيْءٍ وَقَدْ جَاوَزَ الْحَدَّ وَالْمِعْيَارَ وَسَبَقَ الْقِيلَ وَالْأَقْدَارَ ذُو صِفَاتٍ لَا تُحْصَى؛ وَقَدْرٍ لَا يَتَنَاهَى؛ لَيْسَ مَحْبُوسًا فِي صُورَةٍ وَلَا مَوْقُوفًا بِصِفَةِ وَلَا مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِكَلِمِ وَلَا يَتَجَلَّى بِوَصْفِ مَرَّتَيْنِ وَلَا يَظْهَرُ فِي صُورَةٍ لِاثْنَيْنِ؛ وَلَا يَرِدُ مِنْهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ كَلِمَتَانِ؛ بَلْ لِكُلِّ تَجَلٍّ مِنْهُ صُورَةٌ وَلِكُلِّ عَبْدٍ عِنْدَ ظُهُورِهِ صِفَةٌ وَعَنْ كُلِّ نَظْرَةٍ كَلَامٌ؛ وَبِكُلِّ كَلِمَةٍ إفْهَامٌ وَلَا نِهَايَةَ لِتَجَلِّيهِ؛ وَلَا غَايَةَ لِأَوْصَافِهِ. قُلْت: أَبُو طَالِبٍ رحمه الله هُوَ وَأَصْحَابُهُ " السالمية " أَتْبَاعُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ صَاحِبِ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري - لَهُمْ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي عَامَّةِ الْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ مَا هُمْ مَعْرُوفُونَ بِهِ وَهُمْ مُنْتَسِبُونَ إلَى إمَامَيْنِ عَظِيمَيْنِ فِي السُّنَّةِ: الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَمِنْهُمْ مَنْ تَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَس كَبَيْتِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمْ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
فَاَلَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِمْ أَوْ يُعَظِّمُونَهُمْ وَيَقْصِدُونَ مُتَابَعَتَهُمْ أَئِمَّةُ هُدًى رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَقَلَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَّا وَقَعَ فِي كَلَامِهَا نَوْعُ غَلَطٍ لِكَثْرَةِ مَا وَقَعَ مِنْ شُبَهِ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَأُصُولِ الدِّينِ وَالْفِقْهِ وَالزُّهْدِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ؛ مَنْ يَذْكُرُ فِي الْأَصْلِ الْعَظِيمِ عِدَّةَ أَقْوَالٍ وَيَحْكِي مِنْ مَقَالَاتِ النَّاسِ أَلْوَانًا وَالْقَوْلُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لَا يَذْكُرُهُ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ لَا لِكَرَاهَتِهِ لِمَا عَلَيْهِ الرَّسُولُ. وَهَؤُلَاءِ وَقَعَ فِي كَلَامِهِمْ أَشْيَاءُ أَنْكَرُوا بَعْضَ مَا وَقَعَ مِنْ كَلَامِ أَبِي طَالِب فِي الصِّفَاتِ - مِنْ نَحْوِ الْحُلُولِ وَغَيْرِهِ - أَنْكَرَهَا عَلَيْهِمْ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَنَسَبُوهُمْ إلَى الْحُلُولِ مِنْ أَجْلِهَا؛ وَلِهَذَا تَكَلَّمَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِر فِي أَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ لَمَّا صَنَّفَ هَذَا مَثَالِبَ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَهَذَا مَنَاقِبَهُ وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ مِنْ السالمية فَنَسَبَهُمْ طَائِفَةٌ إلَى الْحُلُولِ. وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى لَهُ كِتَابٌ صَنَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى السالمية. وَهُمْ فِيمَا يُنَازِعُهُمْ الْمُنَازِعُونَ فِيهِ - كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ وَكَأَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُنَازِعُهُمْ - مِنْ جِنْسِ تَنَازُعِ النَّاسِ تَارَةً يُرَدُّ عَلَيْهِمْ حَقٌّ وَبَاطِلٌ؛ وَتَارَةً يُرَدُّ عَلَيْهِمْ حَقٌّ مِنْ حَقِّهِمْ وَتَارَةً يُرَدُّ بَاطِلٌ بِبَاطِلِ وَتَارَةً يُرَدُّ بَاطِلٌ بِحَقِّ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي " تَارِيخِهِ " أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْكَرُوا بَعْضَ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ أَبِي طَالِبٍ فِي الصِّفَاتِ. وَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ الْحُلُولِ سَرَى بَعْضُهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ كَأَبِي الْحَكَمِ بْنِ برجان وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ صَاحِبُ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحُلُولِ الْعَامِّ لَكِنْ فِي كَلَامِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحُلُولِ الْخَاصِّ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْعَارِفِ الْوَاصِلِ إلَى مَا سَمَّاهُ هُوَ: " مَقَامُ التَّوْحِيدِ " وَقَدْ بَاحَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يَبُحْ بِهِ أَبُو طَالِبٍ لَكِنْ كَنَّى عَنْهُ. وَأَمَّا " الْحُلُولُ الْعَامُّ " فَفِي كَلَامِ أَبِي طَالِبٍ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْهُ؛ مَعَ تَبِرِّيهِ مِنْ لَفْظِ الْحُلُولِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا حَسَنًا فِي التَّوْحِيدِ كَقَوْلِهِ: عَالِمٌ لَا يُجْهَلُ قَادِرٌ لَا يَعْجِزُ، حَيٌّ لَا يَمُوتُ قَيُّومٌ لَا يَغْفُلُ حَلِيمٌ لَا يَسْفَهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مَلِكٌ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ قَدِيمٌ بِغَيْرِ وَقْتٍ آخِرٌ بِغَيْرِ حَدٍّ كَائِنٌ لَمْ يَزَلْ إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّهُ أَمَامَ كُلِّ شَيْءٍ وَوَرَاءَ كُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَمَعَ كُلِّ شَيْءٍ وَيَسْمَعُ كُلَّ شَيْءٍ وَأَقْرَبُ إلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ مَحَلٍّ لِلْأَشْيَاءِ وَإِنَّ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لَهُ وَإِنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كَيْفَ شَاءَ بِلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَإِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَبِكُلِّ شَيْءٍ
مُحِيطٌ. وَذَكَرَ كَلَامًا آخَرَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَإِحَاطَةَ بَعْضِهَا بِبَعْضِ بِحَسَبِ مَا رَآهُ ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهُ جل جلاله وَعَظُمَ شَأْنُهُ هُوَ ذَاتٌ مُنْفَرِدٌ بِنَفْسِهِ مُتَوَحِّدٌ بِأَوْصَافِهِ بَائِنٌ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ لَا يَحِلُّ الْأَجْسَامَ وَلَا تَحِلُّهُ الْأَعْرَاضُ لَيْسَ فِي ذَاتِهِ سِوَاهُ وَلَا فِي سِوَاهُ مِنْ ذَاتِهِ شَيْءٌ لَيْسَ فِي الْخَلْقِ إلَّا الْخَلْقُ وَلَا فِي الذَّاتِ إلَّا الْخَالِقُ. قُلْت: وَهَذَا يَنْفِي الْحُلُولَ كَمَا نَفَاهُ أَوَّلًا.
ثُمَّ قَالَ:
فَصْلٌ: شَهَادَةُ التَّوْحِيدِ وَوَصْفُ تَوْحِيدِ الْمُوقِنِينَ
فَشَهَادَةُ الْمُوقِنِ يَقِينُهُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْأَوَّلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَقْرَبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ الْهَادِي الْمُضِلُّ لَا مُعْطِيَ وَلَا مَانِعَ وَلَا ضَارَّ وَلَا نَافِعَ إلَّا اللَّهُ كَمَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيَشْهَدُ قُرْبَ اللَّهِ مِنْهُ وَنَظَرَهُ إلَيْهِ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِ وَحِيطَتَهُ بِهِ؛ فَسَبَقَ نَظَرُهُ وَهَمُّهُ إلَى اللَّهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَيَذْكُرُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَيَخْلُو قَلْبُهُ لَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَيَرْجِعُ إلَيْهِ بِكُلِّ شَيْءٍ وَيَتَأَلَّهُ إلَيْهِ دُونَ كُلِّ شَيْءٍ وَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَقْرَبُ إلَى الْقَلْبِ مِنْ وَرِيدِهِ وَأَقْرَبُ إلَى الرُّوحِ مِنْ حَيَاتِهِ وَأَقْرَبُ إلَى الْبَصَرِ مِنْ نَظَرِهِ وَأَقْرَبُ إلَى اللِّسَانِ مِنْ رِيقِهِ - بِقُرْبِ هُوَ وَصَفَهُ لَا يَتَقَرَّبُ وَلَا يَقْرُبُ - وَأَنَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَنَّهُ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ مِنْ الثَّرَى؛ كَمَا هُوَ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ مِنْ الْعَرْشِ وَأَنَّ قُرْبَهُ مِنْ الثَّرَى وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَقُرْبِهِ
مِنْ الْعَرْشِ وَأَنَّ الْعَرْشَ غَيْرُ مُلَاصِقٍ لَهُ بِحِسِّ وَلَا تَمَكَّنَ فِيهِ وَلَا يُذْكَرُ فِيهِ بِوَجْسِ وَلَا نَاظِرَ إلَيْهِ بِعَيْنِ وَلَا يُحَاطُ بِهِ فَيُدْرَكُ لِأَنَّهُ تَعَالَى مُحْتَجِبٌ بِقُدْرَتِهِ عَنْ جَمِيعِ بَرِيَّتِهِ؛ وَلَا نَصِيبَ لِلْعَرْشِ مِنْهُ إلَّا كَنَصِيبِ مُوقِنٍ عَالِمٍ بِهِ؛ وَاجِدٍ لِمَا أَوْجَدَهُ مِنْهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ عَلَيْهِ وَأَنَّ الْعَرْشَ مُطْمَئِنٌّ بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُحِيطٌ بِعَرْشِهِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَ تَحْتَ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ فَوْقَ الْفَوْقِ تَحْتَ التَّحْتِ لَا يُحَدُّ بتحت فَيَكُونُ لَهُ فَوْقُ؛ لِأَنَّهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى. أَيْنَ كَانَ لَا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ مَكَانٌ. وَلَا يُحَدُّ بِمَكَانِ. وَلَا يُفْقَدُ مِنْ مَكَانٍ وَلَا يُوجَدُ بِمَكَانِ؛ فَالتَّحْتُ لِلْأَسْفَلِ وَالْفَوْقُ لِلْأَعْلَى وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ كُلِّ فَوْقٍ فِي الْعُلُوِّ وَفَوْقَ كُلِّ تَحْتٍ فِي السُّمُوِّ: هُوَ فَوْقَ مَلَائِكَةِ الثَّرَى كَمَا هُوَ فَوْقَ مَلَائِكَةِ الْعَرْشِ وَالْأَمَاكِنِ الْمُمْكِنَاتِ؛ وَمَكَانُهُ مَشِيئَتُهُ وَوُجُودُهُ قُدْرَتُهُ وَالْعَرْشُ وَالثَّرَى فَمَا بَيْنَهُمَا: هُوَ حَدٌّ لِلْخَلْقِ الْأَسْفَلِ وَالْأَعْلَى بِمَنْزِلَةِ خَرْدَلَةٍ فِي قَبْضَتِهِ وَهُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ كَمَا لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ وَلَا يُكَيِّفُهُ الْوَهْمُ وَلَا نِهَايَةَ لِعُلُوِّهِ وَلَا فَوْقَ لِسُمُوِّهِ وَلَا بَعْدَ فِي دُنُوِّهِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ وَلَا يَبْعُدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِوَصْفِهِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ وَالدِّرَاكُ وَالْأَشْيَاءُ مُبْعَدَةٌ بِأَوْصَافِهَا:
وَهُوَ الْبُعْدُ وَالْحَجْبُ فَالْبُعْدُ وَالْإِبْعَادُ حُكْمُ مَشِيئَتِهِ وَالْحُدُودُ وَالْأَقْطَارُ حُجُبُ بَرِيَّتِهِ. إلَى أَنْ قَالَ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْخَلْقِ وَلَا مُفَارِقٍ وَغَيْرُ مُمَاسٍّ لِلْكَوْنِ وَلَا مُتَبَاعِدٍ بَلْ مُنْفَرِدٌ بِنَفْسِهِ مُتَوَحِّدٌ بِوَصْفِهِ لَا يَزْدَوِجُ إلَى شَيْءٍ وَلَا يَقْتَرِنُ بِهِ شَيْءٌ أَقْرَبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِقُرْبِ هُوَ وَصْفُهُ وَهُوَ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ بِحَيْطَةِ هِيَ نَعْتُهُ وَهُوَ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَأَمَامَ كُلِّ شَيْءٍ وَوَرَاءَ كُلِّ شَيْءٍ؛ بِعُلُوِّهِ وَدُنُوِّهِ وَهُوَ قُرْبُهُ؛ فَهُوَ وَرَاءَ الْحَوْلِ الَّذِي هُوَ وَرَاءَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ الَّذِي هُوَ الرُّوحُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَلَيْسَ هُوَ تَعَالَى فِي هَذَا مَكَانًا لِشَيْءِ وَلَا مَكَانًا لَهُ شَيْءٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ فِي كُلِّ هَذَا شَيْءٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ وَلَا مُعِينَ لَهُ فِي خَلْقِهِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي عِبَادِهِ وَلَا شَبِيهَ لَهُ فِي إيجَادِهِ وَهُوَ أَوَّلٌ فِي آخريته بِأَوَّلِيَّةٍ هِيَ صِفَتُهُ وَآخِرٌ فِي أَوَّلِيَّتِهِ بآخرية هِيَ نَعْتُهُ وَبَاطِنٌ فِي ظُهُورِهِ بِبَاطِنِيَّةٍ هِيَ قُرْبُهُ وَظَاهِرٌ فِي بَاطِنِيَّتِهِ بِظُهُورِ هُوَ عُلُوُّهُ؛ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ أَوَّلًا وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ آخِرًا وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ بَاطِنًا؛ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ ظَاهِرًا. إلَى أَنْ قَالَ: هُوَ عَلَى عَرْشِهِ بِإِخْبَارِهِ لِنَفْسِهِ؛ فَالْعَرْشُ حَدُّ خَلْقِهِ الْأَعْلَى وَهُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ بِعَرْشِهِ؛ وَالْعَرْشُ مُحْتَاجٌ إلَى مَكَانٍ؛ وَالرَّبُّ عز وجل غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} الرَّحْمَنُ اسْمٌ وَالِاسْتِوَاءُ
نَعْتُهُ مُتَّصِلٌ بِذَاتِهِ وَالْعَرْشُ خَلْقُهُ مُنْفَصِلٌ عَنْ صِفَاتِهِ؛ لَيْسَ بِمُضْطَرِّ إلَى مَكَانٍ يَسَعُهُ وَلَا حَامِلٍ يَحْمِلُهُ. إلَى أَنْ قَالَ: وَهُوَ لَا يَسَعُهُ غَيْرُ مَشِيئَتِهِ وَلَا يَظْهَرُ إلَّا فِي أَنْوَارِ صِفَتِهِ وَلَا يُوجَدُ إلَّا فِي سِعَةِ الْبَسْطَةِ. فَإِذَا قَبَضَ أَخْفَى مَا أَبْدَى؛ وَإِذَا بَسَطَ أَعَادَ مَا أَخْفَى. وَكَذَلِكَ جَعْلُهُ فِي كُلِّ رَسْمٍ كَوْنٌ؛ وَفِعْلُهُ بِكُلِّ اسْمٍ مَكَانٌ؛ وَمِمَّا جَلَّ فَظَهَرَ وَمِمَّا دَقَّ فَاسْتَتَرَ. لَا يَسَعُهُ غَيْرُ مَشِيئَتِهِ بِقُرْبِهِ. وَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِشُهُودِهِ. وَلَا يُرَى إلَّا بِنُورِهِ؛ هَذَا لِأَوْلِيَائِهِ الْيَوْمَ بِالْغَيْبِ فِي الْقُلُوبِ وَلَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ بِالْأَبْصَارِ وَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ إنْ شَاءَ وَسِعَهُ أَدْنَى شَيْءٍ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَسَعْهُ كُلُّ شَيْءٍ. إنْ أَرَادَ عَرَفَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ لَمْ يَعْرِفْهُ شَيْءٌ إنْ أَحَبَّ وُجِدَ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ. وَإِنْ لَمْ يُحِبَّ لَمْ يُوجَدْ بِشَيْءِ. وَذَكَرَ تَمَامَ كَلَامِهِ كَمَا حَكَيْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. قُلْت: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ قُرْبِهِ وَإِطْلَاقِهِ وَأَنَّهُ لَا يَتَجَلَّى بِوَصْفِ مَرَّتَيْنِ وَلَا يَظْهَرُ فِي صُورَةٍ لِاثْنَيْنِ هُوَ حُكْمُ مَا يَظْهَرُ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ مِنْ قُرْبِهِ إلَى قُلُوبِهِمْ وَتَجَلِّيهِ لِقُلُوبِهِمْ - لَا أَنَّ هَذَا هُوَ وَصْفُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَأَنَّهُ كَمَا تَحْصُلُ هَذِهِ التَّجَلِّيَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ تَحْصُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْعُيُونِ -. وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا يَقَعُ الْغَلَطُ فِيهِ لِكَثِيرِ مِنْ السَّالِكِينَ؛ يَشْهَدُونَ أَشْيَاءَ بِقُلُوبِهِمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ هَكَذَا حَتَّى إنَّ فِيهِمْ خَلْقًا مِنْهُمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ اللَّهَ بِعُيُونِهِمْ؛ لِمَا يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالذِّكْرِ وَالْمَحَبَّةِ يَغِيبُ بِشُهُودِهِ فِيمَا حَصَلَ لِقُلُوبِهِمْ وَيَحْصُلُ لَهُمْ فَنَاءٌ وَاصْطِلَامٌ فَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ أَمْرٌ مَشْهُودٌ بِعُيُونِهِمْ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْقَلْبِ وَلِهَذَا ظَنَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ يَرَى اللَّهَ بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا.
وَهَذَا مِمَّا وَقَعَ لِجَمَاعَةِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين وَهُوَ غَلَطٌ مَحْضٌ حَتَّى أَوْرَثَ مِمَّا يَدَّعِيهِ هَؤُلَاءِ شَكًّا عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِالسُّنَّةِ مَا يَعْرِفُونَ بِهِ هَلْ يَقَعُ فِي الدُّنْيَا أَوْ لَا يَقَعُ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي وُقُوعِهَا فِي الدُّنْيَا قَوْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَجُوزُ ذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ ضَلَالٌ فَإِنَّ أَئِمَّةَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتَنَازَعُوا إلَّا فِي نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً. وَقَدْ رُوِيَ نَفْيُ رُؤْيَتِنَا لَهُ فِي الدُّنْيَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ: مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لَمَّا ذَكَرَ الدَّجَّالَ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ} وَمُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عليه السلام قَدْ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ: {لَنْ تَرَانِي} وَمَا أَصَابَ مُوسَى مِنْ الصَّعْقِ. وَهَؤُلَاءِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ مُوسَى رَآهُ وَإِنَّ الْجَبَلَ كَانَ حِجَابَهُ فَلَمَّا جَعَلَ الْجَبَلَ دَكًّا رَآهُ وَهَذَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَبِي طَالِبٍ وَنَحْوِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الرَّائِي هُوَ الْمَرْئِيَّ؛ فَهُوَ اللَّهُ فَيَذْكُرُونَ اتِّحَادًا وَأَنَّهُ أَفْنَى مُوسَى عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى
كَانَ الرَّائِي هُوَ الْمَرْئِيَّ فَمَا رَآهُ عِنْدَهُمْ مُوسَى بَلْ رَأَى نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ وَهَذَا يَدَّعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ. وَالِاتِّحَادُ وَالْحُلُولُ بَاطِلٌ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِهِ إنَّمَا هَذَا فِي الْبَاطِنِ وَالْقَلْبِ؛ لَا فِي الظَّاهِرِ؛ فَإِنَّ غَايَةَ ذَلِكَ مَا تَقُولُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَلَمْ يَقُولُوا إنَّ أَحَدًا رَأَى اللَّاهُوتَ الْبَاطِنَ الْمُتَدَرِّعَ بِالنَّاسُوتِ. وَهَذَا الْغَلَطُ يَقَعُ كَثِيرًا فِي السَّالِكِينَ. يَقَعُ لَهُمْ أَشْيَاءُ فِي بَوَاطِنِهِمْ فَيَظُنُّونَهَا فِي الْخَارِجِ؛ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الغالطين مِنْ نُظَّارِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ؛ حَيْثُ يَتَصَوَّرُونَ أَشْيَاءَ بِعُقُولِهِمْ كَالْكُلِّيَّاتِ وَالْمُجَرَّدَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَظُنُّونَهَا ثَابِتَةً فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هِيَ فِي نُفُوسِهِمْ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ أَبُو الْقَاسِمِ السهيلي وَغَيْرُهُ: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ قِيَاسٍ فَلْسَفِيٍّ وَخَيَالٍ صُوفِيٍّ. وَلِهَذَا يُوجَدُ التَّنَاقُضُ الْكَثِيرُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْآرَاءَ الْفَلْسَفِيَّةَ الْفَاسِدَةَ وَالْخَيَالَاتِ الصُّوفِيَّةَ الْكَاسِدَةَ كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ؛ فَهُمْ مِنْ أَضَلِّ أَهْلِ الْأَرْضِ. وَلِهَذَا كَانَ الْجُنَيْد رضي الله عنه سَيِّدُ الطَّائِفَةِ إمَامَ هُدًى فَكَانَ قَدْ عَرَفَ مَا يَعْرِضُ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ فَلَمَّا سُئِلَ عَنْ التَّوْحِيدِ قَالَ: التَّوْحِيدُ إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ. فَبَيَّنَ أَنَّهُ يُمَيِّزُ الْمُحْدَثَ عَنْ الْقَدِيمِ تَحْذِيرًا عَنْ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ. فَجَاءَتْ
الْمَلَاحِدَةُ كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَنَحْوِهِ فَأَنْكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى الْجُنَيْد؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ مَذْهَبَهُمْ الْفَاسِدَ. والْجُنَيْد وَأَمْثَالُهُ أَئِمَّةُ هُدًى وَمَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ ضَالٌّ. وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْجُنَيْد مِنْ الشُّيُوخِ تَكَلَّمُوا فِيمَا يَعْرِضُ لِلسَّالِكِينَ وَفِيمَا يَرَوْنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْأَنْوَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَحَذَّرُوهُمْ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ خَطَبَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ابْنَتَهُ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ؛ فَقَالَ: أَتُحَدِّثُنِي فِي النِّسَاءِ وَنَحْنُ نَتَرَاءَى اللَّهَ فِي طَوَافِنَا فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا أَشْبَهُهُ لَمْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّ الْقَلْبَ تُرْفَعُ جَمِيعُ الْحُجُبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حَتَّى تُكَافِحَ الرُّوحَ ذَاتُ اللَّهِ كَمَا يَرَى هُوَ نَفْسَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ لِأَحَدِ فِي الدُّنْيَا وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ إنَّمَا جَوَّزَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ وَلَكِنَّ هَذَا التَّجَلِّيَ يَحْصُلُ بِوَسَائِطَ بِحَسَبِ إيمَانِ الْعَبْدِ وَمَعْرِفَتِهِ وَحُبِّهِ؛ وَلِهَذَا تَتَنَوَّعُ أَحْوَالُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ كَمَا تَتَنَوَّعُ رُؤْيَتُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْمَنَامِ فَيَرَاهُ كُلُّ إنْسَانٍ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَيَرَى فِي صُوَرٍ مُتَنَوِّعَةٍ. فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو طَالِبٍ وَهَؤُلَاءِ: إذَا قِيلَ مَثَلُهُ فِيمَا يَحْصُلُ فِي الْقُلُوبِ كَانَ مُقَارِبًا مَعَ أَنَّ فِي بَعْضِ ذَلِكَ نَظَرًا. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الرَّبَّ تَعَالَى فِي نَفْسِهِ هُوَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أَقْرَبُ إلَى الرُّوحِ مِنْ حَيَاتِهِ وَأَقْرَبُ إلَى الْبَصَرِ مِنْ نَظَرِهِ وَإِلَى
اللِّسَانِ مِنْ رِيقِهِ بِقُرْبِ هُوَ وَصْفُهُ، وَقَوْلُهُ: أَقْرَبُ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، فَهَذَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ: لَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا الشُّيُوخِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ شُيُوخِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصَوُّفِ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَصْفُ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْقُرْبِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَصْلًا بَلْ قُرْبُهُ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ خَاصٌّ لَا عَامٌّ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَرِيبٌ مِمَّنْ دَعَاهُ. وَكَذَلِكَ مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ "{عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَكَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ؛ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} فَقَالَ: " إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ " لَمْ يَقُلْ إنَّهُ قَرِيبٌ إلَى كُلِّ مَوْجُودٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُ صَالِحٍ عليه السلام {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} هُوَ كَقَوْلِ شُعَيْبٍ {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ {قَرِيبٌ مُجِيبٌ} مُقِرُّونَ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ أَرَادَ بِهِ قَرِيبٌ مُجِيبٌ لِاسْتِغْفَارِ الْمُسْتَغْفِرِينَ التَّائِبِينَ إلَيْهِ كَمَا أَنَّهُ رَحِيمٌ وَدُودٌ بِهِمْ وَقَدْ قَرَنَ الْقَرِيبَ بِالْمُجِيبِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُقَالُ إنَّهُ مُجِيبٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ وَإِنَّمَا الْإِجَابَةُ لِمَنْ سَأَلَهُ وَدَعَاهُ فَكَذَلِكَ قُرْبُهُ سبحانه وتعالى.
وَأَسْمَاءُ اللَّهِ الْمُطْلَقَةُ كَاسْمِهِ: السَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ وَالْغَفُورِ وَالشَّكُورِ وَالْمُجِيبِ وَالْقَرِيبِ لَا يَجِبُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ؛ بَلْ يَتَعَلَّقُ كُلُّ اسْمٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَاسْمُهُ الْعَلِيمُ لَمَّا كَانَ كُلُّ شَيْءٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا تَعَلَّقَ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وَقَوْلُهُ: {فَلَوْلَا إذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} فَالْمُرَادُ بِهِ قُرْبُهُ إلَيْهِ بِالْمَلَائِكَةِ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ السَّلَفِ قَالُوا: مَلَكُ الْمَوْتِ أَدْنَى إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ الْمَلَائِكَةَ وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ} بِالْعِلْمِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَلَفْظُ بَعْضِهِمْ بِالْقُدْرَةِ وَالرُّؤْيَةِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَصْفُهُ بِقُرْبِ عَامٍّ مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ حَتَّى يَحْتَاجُوا أَنْ يَقُولُوا بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرُّؤْيَةِ؛ وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّهُ يُوصَفُ بِالْقُرْبِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَكَأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ لَفْظَ " الْقُرْبِ " مِثْلُ لَفْظِ " الْمَعِيَّةِ " فَإِنَّ لَفْظَ الْمَعِيَّةِ فِي سُورَةِ
الْحَدِيدِ وَالْمُجَادَلَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وقَوْله تَعَالَى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ فِيهِ أَحَدٌ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " حَدَّثَنَا أَبِي ثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْمَرٍ عَنْ نُوحِ بْنِ مَيْمُونٍ الْمَضْرُوبِ عَنْ بكير بْنِ مَعْرُوفٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} قَالَ هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: عِلْمُهُ مَعَهُمْ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ إبْرَاهِيمَ الدورقي حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ مَيْمُونٍ الْمَضْرُوبُ ثَنَا بكير بْنُ مَعْرُوفٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ؛ فِي قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلَى قَوْلِهِ {أَيْنَ مَا كَانُوا}
قَالَ: هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ. وَرَوَاهُ بِإِسْنَادِ آخَرَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ هَذَا وَهُوَ ثِقَةٌ فِي التَّفْسِيرِ لَيْسَ بِمَجْرُوحِ كَمَا جُرِحَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد: ثَنَا أَبِي ثَنَا نُوحُ بْنُ مَيْمُونٍ الْمَضْرُوبُ عَنْ بكير بْنِ مَعْرُوفٍ ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي قَوْله تَعَالَى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} قَالَ: هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى صَاحِبُ عبادة ثَنَا معدان - قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: إنْ كَانَ أَحَدٌ بِخُرَاسَانَ مِنْ الْأَبْدَالِ فمعدان - قَالَ: سَأَلْت سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} قَالَ: عِلْمُهُ. وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إسْحَاقَ فِي كِتَابِ " السُّنَّةِ ": قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ: مَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} و {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلَى قَوْله تَعَالَى {إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} قَالَ: عِلْمُهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ شَاهِدٌ. عَلَّامُ الْغُيُوبِ يَعْلَمُ الْغَيْبَ رَبُّنَا عَلَى الْعَرْشِ بِلَا حَدٍّ وَلَا صِفَةٍ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. وَقَدْ بَسَطَ الْإِمَامُ أَحْمَد الْكَلَامَ عَلَى مَعْنَى الْمَعِيَّةِ فِي " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة ". وَلَفْظُ الْمَعِيَّةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ جَاءَ عَامًّا كَمَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَجَاءَ خَاصًّا كَمَا فِي قَوْلِهِ:
{إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وَقَوْلِهِ: {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وَقَوْلِهِ: {لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} . فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ بِذَاتِهِ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ؛ لَكَانَ التَّعْمِيمُ يُنَاقِضُ التَّخْصِيصَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ: {لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أَرَادَ بِهِ تَخْصِيصَهُ وَأَبَا بَكْرٍ دُونَ عَدُوِّهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} خَصَّهُمْ بِذَلِكَ دُونَ الظَّالِمِينَ وَالْفُجَّارِ. وَأَيْضًا فَلَفْظُ " الْمَعِيَّةِ " لَيْسَتْ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا شَيْءَ مِنْ الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهَا اخْتِلَاطُ إحْدَى الذَّاتَيْنِ بِالْأُخْرَى؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} وَقَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وَقَوْلِهِ: {وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ} . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ؛ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَاتَه مُخْتَلِطَةٌ بِذَوَاتِ الْخَلْقِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ افْتَتَحَ الْآيَةَ بِالْعِلْمِ وَخَتَمَهَا بِالْعِلْمِ فَكَانَ السِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ الْمَعِيَّةِ فِي اللُّغَةِ - وَإِنْ اقْتَضَى الْمُجَامَعَةَ وَالْمُصَاحَبَةَ وَالْمُقَارَنَةَ - فَهُوَ إذَا كَانَ مَعَ الْعِبَادِ لَمْ يُنَافِ ذَلِكَ عُلُوَّهُ عَلَى عَرْشِهِ وَيَكُونُ حُكْمُ مَعِيَّتِه فِي كُلِّ مَوْطِنٍ بِحَسَبِهِ فَمَعَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ وَيَخُصُّ بَعْضَهُمْ بِالْإِعَانَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قَرَأْت عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُزَاحِمٍ ثَنَا بكير بْنُ مَعْرُوفٍ: عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ
فِي قَوْله تَعَالَى {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} مِنْ الْمَطَرِ {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} مِنْ النَّبَاتِ {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} مِنْ الْقَطْرِ {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} مَا يَصْعَدُ إلَى السَّمَاءِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} يَعْنِي بِقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَعِلْمِهِ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ. وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: بَلَغَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِي قَوْله تَعَالَى. {هُوَ الْأَوَّلُ} قَالَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ {وَالْآخِرُ} قَالَ: بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ {وَالظَّاهِرُ} قَالَ: فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ {وَالْبَاطِنُ} قَالَ: أَقْرَبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ وَإِنَّمَا نَعْنِي بِالْقُرْبِ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يَعْلَمُ نَجْوَاهُمْ وَيَسْمَعُ كَلَامَهُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ نَطَقُوا بِهِ سَيِّئٍ أَوْ حَسَنٍ. وَهَذَا لَيْسَ مَشْهُورًا عَنْ مُقَاتِلٍ كَشُهْرَةِ الْأَوَّلِ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ لَمْ يَجْزِمْ بِمَا قَالَهُ بَلْ قَالَ: بَلَغَنَا وَهُوَ الَّذِي فَسَّرَ الْبَاطِنَ بِالْقَرِيبِ ثُمَّ فَسَّرَ الْقُرْبَ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ} وَجَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي ذَرٍّ رضي الله عنهما فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَحَدِيثِ " الْإِدْلَاءِ " مَا قَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِحَاطَةِ.
وَكَذَلِكَ هَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ قتادة فِي تَفْسِيرِهِ؛ وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى الْبَاطِنِ أَنَّهُ الْقُرْبُ وَلَا لَفْظُ الْبَاطِنِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا لَفْظُ الْقُرْبِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى جِهَةِ الْعُمُومِ كَلَفْظِ الْمَعِيَّةِ وَلَا لَفْظُ الْقُرْبِ فِي اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ كَلَفْظِ الْمَعِيَّةِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: هَذَا مَعَ هَذَا؛ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ الْمُجَامَعَةَ وَالْمُقَارَنَةَ وَالْمُصَاحَبَةَ وَلَا يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ إحْدَى الذَّاتَيْنِ مِنْ الْأُخْرَى وَلَا اخْتِلَاطِهَا بِهَا؛ فَلِهَذَا كَانَ إذَا قِيلَ: هُوَ مَعَهُمْ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ وَسُلْطَانَهُ مُحِيطٌ بِهِمْ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ فَوْقَ عَرْشِهِ؛ كَمَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ بِهَذَا. وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَعَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ فَلَا يَمْنَعُهُ عُلُوُّهُ عَنْ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ " الْأَوْعَالِ " الَّذِي فِي " السُّنَنِ {قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاَللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ وَيَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} وَلَمْ يَأْتِ فِي لَفْظِ الْقُرْبِ مِثْلُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ بَلْ قَالَ: {إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} . قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ثَنَا أَبِي ثَنَا يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَبَدَةَ بْنِ
أَبِي بَرْزَةَ السجستاني عَنْ الصَّلْتِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: {جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيَهُ أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيَهُ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} } . إذَا أَمَرْتهمْ أَنْ يَدْعُونِي فَدَعَوْنِي أَسْتَجِيبُ لَهُمْ. وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا: قَرِيبٌ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَهُمْ لَمْ يَشُكُّوا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَسْأَلُوا عَنْهُ وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنْ قُرْبِهِ إلَى مَنْ يَدْعُوهُ وَيُنَاجِيهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ تُفَسِّرُ " الْقُرْبَ " فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ بِالْعِلْمِ؛ لِكَوْنِهِ هُوَ الْمَقْصُودُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَعْلَمُ وَيَسْمَعُ دُعَاءَ الدَّاعِي حَصَلَ مَقْصُودُهُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي اقْتَضَى أَنْ يَقُولَ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا قَدْ قَالَهُ بَعْضُ السَّلَفِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْخَلَفِ؛ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ نَفْسَ ذَاتِهِ قَرِيبَةٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى يُقِرُّ بِهِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ؛ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَمَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الماجشون قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} يَعْلَمُ وَهُوَ كَذَلِكَ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ
أَنْفُسُنَا مِنَّا؛ وَهُوَ بِذَلِكَ أَقْرَبُ إلَيْنَا مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُوَسْوِسُ بِهِ أَنْفُسُنَا مِنَّا فَكَيْفَ بِحَبْلِ الْوَرِيدِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي قَالَ: وَمَنْ سَأَلَ عَنْ قَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى مَعْنَى الْعِلْمِ بِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَالدَّلِيلُ مِنْ ذَلِكَ صَدْرُ الْآيَةِ؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِوَسْوَسَتِهِ؛ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وَحَبْلُ الْوَرِيدِ لَا يَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ النَّفْسُ. وَيَلْزَمُ الْمُلْحِدَ عَلَى اعْتِقَادِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودُهُ مُخَالِطًا لِدَمِ الْإِنْسَانِ وَلَحْمِهِ وَأَنْ لَا يُجَرَّدَ الْإِنْسَانُ تَسْمِيَةَ الْمَخْلُوقِ حَتَّى يَقُولَ: خَالِقٌ وَمَخْلُوقٌ لِأَنَّ مَعْبُودَهُ بِزَعْمِهِ دَاخِلُ حَبْلِ الْوَرِيدِ مِنْ الْإِنْسَانِ وَخَارِجَهُ فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ مُمْتَزِجٌ بِهِ غَيْرُ مُبَايِنٍ لَهُ. قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِ أَهْلِ الزَّيْغِ وَعَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِهِ فِيمَنْ يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} أَيْ بِالْعِلْمِ بِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ إذْ لَا يَقْدِرُونَ لَهُ عَلَى حِيلَةٍ
وَلَا يَدْفَعُونَ عَنْهُ الْمَوْتَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} . قُلْت: وَهَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ مِثْلَ الثَّعْلَبِيِّ وَأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمَا فِي قَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ} فَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ الْقَوْلَيْنِ: إنَّهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنَّهُ الْقُرْبُ بِالْعِلْمِ. وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَقْصُودُهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَاتَ الْبَارِي جَلَّ وَعَلَا قَرِيبَةٌ مِنْ وَرِيدِ الْعَبْدِ وَمِنْ الْمَيِّتِ وَلَمَّا ظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ قُرْبُهُ وَحْدَهُ دُونَ قُرْبِ الْمَلَائِكَةِ فَسَّرُوا ذَلِكَ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا فِي لَفْظِ الْمَعِيَّةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ} أَيْ بِمَلَائِكَتِنَا فِي الْآيَتَيْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ لَفْظ الْمَعِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَنَحْنُ مَعَهُ بَلْ جَعَلَ نَفْسَهُ هُوَ الَّذِي مَعَ الْعِبَادِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُنَبِّئُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا عَمِلُوا وَهُوَ نَفْسُهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ نَفْسُهُ الَّذِي اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فَلَا يُجْعَلُ لَفْظٌ مِثْلَ لَفْظٍ مَعَ تَفْرِيقِ الْقُرْآنِ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَامِدٍ مُوَافِقًا لِأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ فِي بَعْضِ مَا قَالَ مُخَالِفًا لَهُ فِي الْبَعْضِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ نفاة عُلُوِّ اللَّهِ نَفْسِهِ عَلَى الْعَرْشِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ. قَالَ: وَإِنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَهُ
وَالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ اسْتِوَاءً مُنَزَّهًا عَنْ الْمُمَاسَّةِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالتَّمَكُّنِ وَالْحُلُولِ وَالِانْتِقَالِ لَا يَحْمِلُهُ الْعَرْشُ بَلْ الْعَرْشُ وَحَمَلَتُهُ مَحْمُولُونَ بِلَطِيفِ قُدْرَتِهِ مَقْهُورُونَ فِي قَبْضَتِهِ وَهُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ إلَى تُخُومِ الثَّرَى؛ فَوْقِيَّتُهُ لَا تَزِيدُهُ قُرْبًا إلَى الْعَرْشِ وَالسَّمَاءِ بَلْ هُوَ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ عَنْ الْعَرْشِ كَمَا أَنَّهُ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ عَنْ الثَّرَى وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَرِيبٌ مَنْ كُلِّ مَوْجُودٍ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْعَبْدِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إذْ لَا يُمَاثِلُ قُرْبُهُ قُرْبَ الْأَجْسَامِ كَمَا لَا تُمَاثِلُ ذَاتُهُ ذَاتَ الْأَجْسَامِ وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ فِي شَيْءٍ وَلَا يَحِلُّ فِيهِ شَيْءٌ إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّهُ بَائِنٌ بِصِفَاتِهِ مِنْ خَلْقِهِ لَيْسَ فِي ذَاتِهِ سِوَاهُ وَلَا فِي سِوَاهُ ذَاتُهُ. قُلْت: فَالْفَوْقِيَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ " فَوْقِيَّةُ الْقُدْرَةِ " وَهُوَ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْمَخْلُوقَاتِ " وَالْقُرْبُ " الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ الْعِلْمُ أَوْ هُوَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ. وَثُبُوتُ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَتَفْسِيرُ قُرْبِهِ بِهَذَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْقُرْبَ فِي الْآيَةِ هُوَ قُرْبُهُ وَحْدَهُ: فَفَسَّرُوهَا بِالْعِلْمِ لَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ عَامًّا. قَالُوا: هُوَ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَهَذَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ مَنْ كَانَ بِالشَّيْءِ أَعْلَمَ مَنْ غَيْرِهِ لَا يُقَالُ: إنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ لِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ بِهِ وَلَا لِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ.
ثُمَّ إنَّهُ سبحانه وتعالى عَالِمٌ بِمَا يُسَرُّ مِنْ الْقَوْلِ وَمَا يُجْهَرُ بِهِ وَعَالِمٌ بِأَعْمَالِهِ؛ فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ حَبْلِ الْوَرِيدِ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْعَبْدِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ حَبْلَ الْوَرِيدِ قَرِيبٌ إلَى الْقَلْبِ لَيْسَ قَرِيبًا إلَى قَوْلِهِ الظَّاهِرِ وَهُوَ يَعْلَمُ ظَاهِرَ الْإِنْسَانِ وَبَاطِنَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمَ؛ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ثُمَّ قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فَأَثْبَتَ الْعِلْمَ؛ وَأَثْبَتَ الْقُرْبَ وَجَعَلَهُمَا شَيْئَيْنِ فَلَا يَجْعَلُ أَحَدَهُمَا هُوَ الْآخَرُ. وَقَيَّدَ الْقُرْبَ بِقَوْلِهِ: {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ}
وَأَمَّا مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ قُرْبُ ذَاتِ الرَّبِّ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أَوْ أَنَّ ذَاتَه أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَهْلِهِ؛ فَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَوْ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِذَاتِهِ لَا يَخُصُّونَ بِذَلِكَ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ وَلَا يُمْكِنُ مُسْلِمًا أَنْ يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ قَرِيبٌ مِنْ الْمَيِّتِ دُونَ أَهْلِهِ وَلَا إنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ دُونَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِهِمْ وَهُوَ عِنْدَهُمْ فِي جَمِيعِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ؛ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ جَمِيعِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَوْ هُوَ فِي أَهْلِ الْمَيِّتِ كَمَا هُوَ فِي الْمَيِّتِ؛ فَكَيْفَ يَقُولُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ إذَا كَانَ مَعَهُ وَمَعَهُمْ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهَلْ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى نَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَسِيَاقُ الْآيَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَلَائِكَةُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} فَقَيَّدَ الْقُرْبَ بِهَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ زَمَانُ تَلَقِّي الْمُتَلَقِّيَيْنِ قَعِيدٌ عَنْ الْيَمِينِ وَقَعِيدٌ عَنْ الشِّمَالِ وَهُمَا الْمَلَكَانِ الْحَافِظَانِ اللَّذَانِ يَكْتُبَانِ كَمَا قَالَ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ قُرْبَ ذَاتِ الرَّبِّ لَمْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْحَالِ وَلَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْقَعِيدَيْنِ وَالرَّقِيبِ وَالْعَتِيدِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَلَوْلَا إذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ
تَنْظُرُونَ} {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} فَلَوْ أَرَادَ قُرْبَ ذَاتِهِ لَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْحَالِ وَلَا قَالَ: {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يُقَالُ إذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يُبْصِرَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَلَكِنْ نَحْنُ لَا نُبْصِرُهُ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَرَاهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ لَا الْمَلَائِكَةُ وَلَا الْبَشَرُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ} فَأَخْبَرَ عَمَّنْ هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمُحْتَضَرِ مِنْ النَّاسِ الَّذِينَ عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَذَاتُ الرَّبِّ سبحانه وتعالى إذَا قِيلَ: هِيَ فِي مَكَانٍ أَوْ قِيلَ: قَرِيبَةٌ مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ؛ لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْأَحْوَالِ؛ وَلَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ قُرْبَ الرَّبِّ الْخَاصِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} فَإِنَّ ذَاكَ إنَّمَا هُوَ قُرْبُهُ إلَى مَنْ دَعَاهُ أَوْ عَبَدَهُ وَهَذَا الْمُحْتَضَرُ قَدْ يَكُونُ كَافِرًا أَوْ فَاجِرًا أَوْ مُؤْمِنًا أَوْ مُقَرَّبًا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} {وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} {وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمُكَذِّبِ لَا يَخُصُّهُ الرَّبُّ بِقُرْبِهِ مِنْهُ دُونَ مَنْ حَوْلَهُ وَقَدْ يَكُونُ حَوْلَهُ قَوْمٌ مُؤْمِنُونَ. وَإِنَّمَا هُمْ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} وَقَالَ: {وَلَوْ تَرَى إذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} وَقَالَ: {وَلَوْ تَرَى إذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو
أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فَقَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ} {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَهَذَا كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} وَقَالَ: {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} {ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ إذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِجُنُودِهِ وَأَعْوَانِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ؛ فَإِنَّ صِيغَةَ نَحْنُ يَقُولُهَا الْمَتْبُوعُ الْمُطَاعُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَهُ جُنُودٌ يَتَّبِعُونَ أَمْرَهُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ جُنْدٌ يُطِيعُونَهُ كَطَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ رَبَّهُمْ وَهُوَ خَالِقُهُمْ وَرَبُّهُمْ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْعَالِمُ بِمَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَمَلَائِكَتُهُ تَعْلَمُ؛ فَكَانَ لَفْظُ نَحْنُ هُنَا هُوَ الْمُنَاسِبُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَمَلَائِكَتُهُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ
حَسَنَاتٍ. وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ تَرَكَهَا لِلَّهِ كُتِبَتْ حَسَنَةً} . فَالْمَلَكُ يَعْلَمُ مَا يَهُمُّ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِهِمْ بِالْغَيْبِ الَّذِي اُخْتُصَّ اللَّهُ بِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَة أَنَّهُمْ يَشُمُّونَ رَائِحَةً طَيِّبَةً فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَيَشُمُّونَ رَائِحَةً خَبِيثَةً فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَهُمْ وَإِنْ شَمُّوا رَائِحَةً طَيِّبَةً وَرَائِحَةً خَبِيثَةً فَعِلْمُهُمْ لَا يَفْتَقِرُ إلَى ذَلِكَ بَلْ مَا فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ يَعْلَمُونَهُ بَلْ وَيُبْصِرُونَهُ وَيَسْمَعُونَ وَسْوَسَةَ نَفْسِهِ؛ بَلْ الشَّيْطَانُ يَلْتَقِمُ قَلْبَهُ فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ وَإِذَا غَفَلَ قَلْبُهُ عَنْ ذِكْرِهِ وَسْوَسَ؛ وَيَعْلَمُ هَلْ ذَكَرَ اللَّهَ أَمْ غَفَلَ عَنْ ذِكْرِهِ وَيَعْلَمُ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ مِنْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فَيُزَيِّنُهَا لَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ذِكْرِ صَفِيَّةَ رضي الله عنها {أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ} . وَقُرْبُ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيْطَانِ مِنْ قَلْبِ ابْنِ آدَمَ مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْآثَارُ سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتُ الرَّبِّ فِي قَلْبِ كُلِّ أَحَدٍ كَافِرٍ أَوْ مُؤْمِنٍ فَهَذَا بَاطِلٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا نَطَقَ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ مَعَ الْعَقْلِ يُنَاقِضُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قُرْبَهُ مِنْ دَاعِيهِ وَعَابِدِيهِ قَالَ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} فَهُنَا هُوَ نَفْسُهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى الْقَرِيبُ الَّذِي يُجِيبُ دَعْوَةَ الداع لَا الْمَلَائِكَةُ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: {إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} . وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَرِيبٌ مِنْ قَلْبِ الدَّاعِي فَهُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ. وَقُرْبُهُ مِنْ قَلْبِ الدَّاعِي لَهُ مَعْنًى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَمَعْنًى آخَرُ فِيهِ نِزَاعٌ. فَالْمَعْنَى الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ يَكُونُ بِتَقْرِيبِهِ قَلْبَ الدَّاعِي إلَيْهِ كَمَا يُقَرِّبُ إلَيْهِ قَلْبَ السَّاجِدِ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ ": {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} فَالسَّاجِدُ يَقْرُبُ الرَّبُّ إلَيْهِ فَيَدْنُو قَلْبُهُ مِنْ رَبِّهِ وَإِنْ كَانَ بَدَنُهُ عَلَى الْأَرْضِ. وَمَتَى قَرُبَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ مِنْ الْآخَرِ صَارَ الْآخَرُ إلَيْهِ قَرِيبًا بِالضَّرُورَةِ. وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ الْآخَرِ تَحَرُّكٌ بِذَاتِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ قَرُبَ مِنْ مَكَّةَ قَرُبَتْ مَكَّةُ مِنْهُ. وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ أَنَّهُ يَقْرُبُ إلَيْهِ مَنْ يَقْرَبُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ فَقَالَ: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} وَقَالَ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} وَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} وَقَالَ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} .
وَأَمَّا قُرْبُ الرَّبِّ قُرْبًا يَقُومُ بِهِ بِفِعْلِهِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ فَهَذَا تَنْفِيهِ الْكُلَّابِيَة وَمَنْ يَمْنَعُ قِيَامَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ. وَأَمَّا السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يَمْنَعُونَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ. فَنُزُولُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَنُزُولُهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ وَلِهَذَا حُدَّ النُّزُولِ بِأَنَّهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى عليه السلام فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ مُجَرَّدُ تَقْرِيبِ الْحُجَّاجِ وَقُوَّامِ اللَّيْلِ إلَيْهِ لَمْ يَخُصَّ نُزُولَهُ بِسَمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا لَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ فِي إجَابَةِ الدَّاعِي وَقُرْبِ الْعَابِدِينَ لَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} . وَقَالَ: {مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا} وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَكُونُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ تَقْرِيبِهِ لِلْعَبْدِ إلَيْهِ جَزَاءً عَلَى تَقَرُّبِهِ بِاخْتِيَارِهِ. فَكُلَّمَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ بِاخْتِيَارِهِ قَدْرَ شِبْرٍ زَادَهُ الرَّبُّ قُرْبًا إلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ كَالْمُتَقَرِّبِ بِذِرَاعِ. فَكَذَلِكَ قُرْبُ الرَّبِّ مِنْ قَلْبِ الْعَابِدِ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَهُوَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى؛ وَهَذَا أَيْضًا لَا نِزَاعَ فِيهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ يَصِيرُ مُحِبًّا لِمَا أَحَبَّ الرَّبُّ مُبْغِضًا لِمَا أَبْغَضَ مُوَالِيًا لِمَنْ يُوَالِي؛ مُعَادِيًا لِمَنْ يُعَادِي؛ فَيَتَّحِدُ مُرَادُهُ مَعَ الْمُرَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ. وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مُوَالَاةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمُوَالَاةِ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ. فَإِنَّ الْوِلَايَةَ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ و " الْوِلَايَةُ " تَتَضَمَّنُ الْمَحَبَّةَ وَالْمُوَافَقَةَ و " الْعَدَاوَةُ " تَتَضَمَّنُ الْبُغْضَ
وَالْمُخَالَفَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْته عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ: يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ} . فَأَخْبَرَ سبحانه وتعالى أَنَّهُ يَقْرُبُ الْعَبْدُ بِالْفَرَائِضِ وَلَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يُحِبَّهُ اللَّهُ فَيَصِيرَ الْعَبْدُ مَحْبُوبًا لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَقَالَ: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} .
فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّبِعِينَ لِرَسُولِهِ وَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ وَأَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالصَّابِرِينَ وَالتَّوَّابِينَ والمتطهرين وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ. وَقَوْلُهُ: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} يَقْتَضِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَجُنْدَهُ الْمُوَكَّلِينَ بِذَلِكَ يَعْلَمُونَ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ الْعَبْدُ نَفْسَهُ كَمَا قَالَ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} فَهُوَ يَسْمَعُ وَمَنْ يَشَاءُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يَسْمَعُونَ وَمَنْ شَاءَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَرُسُلُهُ يَكْتُبُونَ كَمَا قَالَ هَهُنَا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فَأَخْبَرَ بِالْكِتَابَةِ بِقَوْلِهِ نَحْنُ؛ لِأَنَّ جُنْدَهُ يَكْتُبُونَ بِأَمْرِهِ. وَفَصَلَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ بَيْنَ السَّمَاعِ وَالْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ يَسْمَعُ بِنَفْسِهِ وَأَمَّا كِتَابَةُ الْأَعْمَالِ فَتَكُونُ بِأَمْرِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَكْتُبُونَ. فَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} لَمَّا كَانَتْ مَلَائِكَتُهُ مُتَقَرِّبِينَ إلَى الْعَبْدِ بِأَمْرِهِ كَمَا كَانُوا يَكْتُبُونَ عَمَلَهُ بِأَمْرِهِ قَالَ ذَلِكَ وَقَرَّبَهُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِتَوَسُّطِ الْمَلَائِكَةِ كَتَكْلِيمِهِ كُلَّ أَحَدٍ بِتَوَسُّطِ الرُّسُلِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} .
فَهَذَا تَكْلِيمُهُ لِجَمِيعِ عِبَادِهِ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ؛ وَذَاكَ قُرْبُهُ إلَيْهِمْ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَعِنْدَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِنَةِ فِي النَّفْسِ وَالظَّاهِرَةِ عَلَى اللِّسَانِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} {كِرَامًا كَاتِبِينَ} {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} .
وَقَدْ غَلِطَ طَائِفَةٌ ظَنُّوا أَنَّهُ نَفْسُهُ الَّذِي يَسْمَعُ مِنْهُ الْقُرْآنَ وَهُوَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ بِنَفْسِهِ بِلَا وَاسِطَةٍ عِنْدَ قِرَاءَةِ كُلِّ قَارِئٍ كَمَا غَلِطُوا فِي الْقُرْبِ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمُتَأَخِّرِي الصُّوفِيَّةِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُفَسِّرُ قَوْلَ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ نَفْسِ ذَلِكَ الشَّيْءِ؛ بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ مَعْدُومَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهَا وَإِنَّمَا هِيَ مَوْجُودَةٌ بِخَلْقِ الرَّبِّ سبحانه وتعالى لَهَا وَهِيَ بَاقِيَةٌ بِإِبْقَائِهِ وَهُوَ سبحانه وتعالى مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ فَلَا مَوْجُودَ إلَّا بِإِيجَادِهِ؛ وَلَا بَاقٍ إلَّا بِإِبْقَائِهِ. فَلَوْ قَدَّرَ أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ خَلْقَهَا وَتَكْوِينَهَا لَكَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى الْعَدَمِ لَا وُجُودَ لَهَا أَصْلًا؛ فَصَارَ هُوَ أَقْرَبَ إلَيْهَا مِنْ ذَوَاتِهَا؛ فَتَكْوِينُ الشَّيْءِ وَخَلْقُهُ وَإِيجَادُهُ هُوَ فِعْلُ الرَّبِّ سبحانه وتعالى وَبِهِ كَانَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا وَكَانَ ذَاتًا مُحَقَّقَةً فِي الْخَارِجِ. وَالْمَوْجُودُ دَائِمًا مُحْتَاجٌ إلَى خَالِقِهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَكَانَ مَوْجُودًا بِنِسْبَتِهِ إلَى خَالِقِهِ وَمَعْدُومًا بِنِسْبَتِهِ إلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الْعَدَمَ؛ فَكَانَ الرَّبُّ أَقْرَبَ إلَى الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ إلَى أَنْفُسِهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَقَدْ يُفَسِّرُ بَعْضُهُمْ قَوْله تَعَالَى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} بِهَذَا الْمَعْنَى؛ فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِالنَّظَرِ إلَى أَنْفُسِهَا عَدَمٌ مَحْضٌ؛ وَنَفْيٌ صِرْفٌ؛ وَإِنَّمَا هِيَ مَوْجُودَةٌ
تَامَّةٌ بِالْوَجْهِ الَّذِي لَهَا إلَى الْخَالِقِ وَهُوَ تَعَلُّقُهَا بِهِ وَبِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْوَجْهِ كَانَتْ مَوْجُودَةً وَبِالْوَجْهِ الَّذِي يَلِي أَنْفُسَهَا لَا تَكُونُ إلَّا مَعْدُومَةً. وَقَدْ يُفَسِّرُونَ بِذَلِكَ قَوْلَ لَبِيَدِ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ
وَلَا يُقَالُ: هَذِهِ الْمَقَالَةُ صَحِيحَةٌ فِي نَفْسِهَا فَإِنَّهَا لَوْلَا خَلْقُ اللَّهِ لِلْأَشْيَاءِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً وَلَوْلَا إبْقَاؤُهُ لَهَا لَمْ تَكُنْ بَاقِيَةً. وَقَدْ تَكَلَّمَ النُّظَّارُ فِي سَبَبِ افْتِقَارِهَا إلَيْهِ هَلْ هُوَ الْحُدُوثُ - فَلَا تَحْتَاجُ إلَّا فِي حَالِ الْإِحْدَاثِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ - أَوْ هُوَ الْإِمْكَانُ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ يَكُونُ بِلَا حُدُوثٍ بَلْ بِكَوْنِ الْمُمْكِنِ الْمَعْلُولِ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَيُمْكِنُ افْتِقَارُهَا فِي حَالِ الْبَقَاءِ بِلَا حُدُوثٍ كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ سِينَا وَطَائِفَةٌ؟ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْإِمْكَانَ وَالْحُدُوثَ مُتَلَازِمَانِ كَمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين حَتَّى قُدَمَاءُ الْفَلَاسِفَةِ كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ؛ فَإِنَّهُمْ أَيْضًا يَقُولُونَ: إنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَإِنَّمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَطَائِفَةٌ. وَلِهَذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ إخْوَانُهُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ كَابْنِ رُشْدٍ وَغَيْرِهِ وَالْمَخْلُوقَاتُ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْخَالِقِ فَالْفَقْرُ وَصْفٌ لَازِمٌ لَهَا دَائِمًا لَا تَزَالُ مُفْتَقِرَةً إلَيْهِ.
وَالْإِمْكَانُ وَالْحُدُوثُ دَلِيلَانِ عَلَى الِافْتِقَارِ؛ لَا أَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ جَعَلَا الشَّيْءَ مُفْتَقِرًا بَلْ فَقْرُ الْأَشْيَاءِ إلَى خَالِقِهَا لَازِمٌ لَهَا لَا يَحْتَاجُ إلَى عِلَّةٍ كَمَا أَنَّ غِنَى الرَّبِّ لَازِمٌ لِذَاتِهِ لَا يَفْتَقِرُ فِي اتِّصَافِهِ بِالْغِنَى إلَى عِلَّةٍ وَكَذَلِكَ الْمَخْلُوقُ لَا يَفْتَقِرُ فِي اتِّصَافِهِ بِالْفَقْرِ إلَى عِلَّةٍ بَلْ هُوَ فَقِيرٌ لِذَاتِهِ لَا تَكُونُ ذَاتُهُ إلَّا فَقِيرَةً فَقْرًا لَازِمًا لَهَا وَلَا يُسْتَغْنَى إلَّا بِاَللَّهِ. وَهَذَا مِنْ مَعَانِي (الصَّمَدِ) وَهُوَ الَّذِي يَفْتَقِرُ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ وَيَسْتَغْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ. بَلْ الْأَشْيَاءُ مُفْتَقِرَةٌ مِنْ جِهَةِ رُبُوبِيَّتِهِ وَمِنْ جِهَةِ إلَهِيَّتِهِ؛ فَمَا لَا يَكُونُ بِهِ لَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ لَهُ لَا يَصْلُحُ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَدُومُ. وَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . فَلَوْ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ وَكُلُّ الْأَعْمَالِ إنْ لَمْ تَكُنْ لِأَجْلِهِ - فَيَكُونُ هُوَ الْمَعْبُودَ الْمَقْصُودَ الْمَحْبُوبَ لِذَاتِهِ - وَإِلَّا كَانَتْ أَعْمَالًا فَاسِدَةً؛ فَإِنَّ الْحَرَكَاتِ تَفْتَقِرُ إلَى الْعِلَّةِ الغائية كَمَا افْتَقَرَتْ إلَى الْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ؛ بَلْ الْعِلَّةُ الغائية بِهَا صَارَ الْفَاعِلُ فَاعِلًا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَفْعَلْ. فَلَوْلَا أَنَّهُ الْمَعْبُودُ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ لَمْ يَصْلُحْ قَطُّ شَيْءٌ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْحَرَكَاتِ بَلْ كَانَ الْعَالَمُ يَفْسُدُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وَلَمْ يَقُلْ لَعُدِمَتَا؛ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ
وَهُوَ كَالدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: {أَشْهَدُ أَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ لَدُنْ عَرْشِك إلَى قَرَارِ أَرْضِك بَاطِلٌ إلَّا وَجْهَك الْكَرِيمَ} . وَلَفْظُ " الْبَاطِلِ " يُرَادُ بِهِ الْمَعْدُومُ وَيُرَادُ بِهِ مَا لَا يَنْفَعُ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ لِزَوْجَتِهِ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ} . {وَقَوْلُهُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه إنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَا يُحِبُّ الْبَاطِلَ} وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْغِنَاءِ قَالَ: إذَا مَيَّزَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ فِي أَيِّهِمَا يَجْعَلُ الْغِنَاءَ؟ قَالَ السَّائِلُ: مِنْ الْبَاطِلِ؛ قَالَ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ} . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} . فَإِنَّ الْآلِهَةَ مَوْجُودَةٌ وَلَكِنْ عِبَادَتُهَا وَدُعَاؤُهَا بَاطِلٌ لَا يَنْفَعُ؛ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا لَا يَحْصُلُ؛ فَهُوَ بَاطِلٌ وَاعْتِقَادُ أُلُوهِيَّتِهَا بَاطِلٌ أَيْ غَيْرُ مُطَابِقٍ وَاتِّصَافُهَا بِالْإِلَهِيَّةِ فِي أَنْفُسِهَا بَاطِلٌ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ مَعْدُومٌ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} وَقَوْلُهُ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} فَإِنَّ الْكَذِبَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ وَكُلُّ فِعْلِ مَا لَا يَنْفَعُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ غَايَةٌ مَوْجُودَةٌ مَحْمُودَةٌ.
فَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ} هَذَا مَعْنَاهُ. أَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ بَاطِلٌ كَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا: {وَرُدُّوا إلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} كَمَا قَالَ فِي الْأَنْعَامِ: {حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} {ثُمَّ رُدُّوا إلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} وَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} . وَدَخَلَ عُثْمَانُ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ - وَهُوَ مَرِيضٌ - فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُك؟ قَالَ أَجِدُنِي مَرْدُودًا إلَى اللَّهِ مَوْلَايَ الْحَقِّ. قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} وَقَدْ أَقَرُّوا بِوُجُودِهِ فِي الدُّنْيَا لَكِنْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ دُونَ مَا سِوَاهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {هُوَ الْحَقَّ} بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فَإِنَّهُ يَوْمَئِذٍ لَا يَبْقَى أَحَدٌ يَدَّعِي فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ وَلَا أَحَدٌ يُشْرِكُ بِرَبِّهِ أَحَدًا.
فَصْلٌ:
وَإِذَا عُرِفَ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ مُطْلَقًا فَلَا يُوصَفُ بِالسُّفُولِ وَلَا عُلُوَّ شَيْءٍ عَلَيْهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ بَلْ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا أَعْلَى وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِيمَا يُوصَفُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ لَا النُّزُولِ وَلَا الِاسْتِوَاءِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ إثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ وَالْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الصَّحِيحَةُ تُوَافِقُ ذَلِكَ لَا تُنَاقِضُهُ؛ وَلَكِنَّ السَّمْعَ وَالْعَقْلَ يُنَاقِضَانِ الْبِدَعَ الْمُخَالِفَةَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالسَّلَفُ؛ بَلْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ كَانُوا يُقِرُّونَ أَفْعَالَهُ مِنْ الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " ثَنَا عِصَامُ بْنُ الرواد ثَنَا آدَمَ ثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ} يَقُولُ: ارْتَفَعَ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ يَعْنِي الْبَصْرِيَّ وَالرَّبِيعَ بْنَ أَنَسٍ مِثْلُهُ كَذَلِكَ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " فِي " كِتَابِ التَّوْحِيدِ " قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ:
{اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ} ارْتَفَعَ فَسَوَّى خَلْقَهُنَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} عَلَا عَلَى الْعَرْشِ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَرُوِيَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَعَنْ الْحَسَنِ وَعَنْ الرَّبِيعِ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي الْعَالِيَةِ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قَالَ: فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي: وَأَجْمَعُوا - يَعْنِي أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - عَلَى أَنَّ لِلَّهِ عَرْشًا وَعَلَى أَنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ بِكُلِّ مَا خَلَقَهُ قَالَ: فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ ذَلِكَ عِلْمُهُ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ بِذَاتِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَيْفَ شَاءَ. قَالَ: وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} الِاسْتِوَاءُ مِنْ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ الْمَجِيدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} وَبِقَوْلِهِ: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} وَبِقَوْلِهِ: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} . إلَّا أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ فِي هَذَا عَلَى أَقْوَالٍ: فَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله إنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْقُولٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُمْ كَثِيرٌ: إنَّ مَعْنَى اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ: اسْتَقَرَّ وَهُوَ قَوْلُ القتيبي وَقَالَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ: اسْتَوَى أَيْ ظَهَرَ. وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: اسْتَوَى بِمَعْنَى عَلَا وَتَقُولُ الْعَرَبُ: اسْتَوَيْت عَلَى ظَهْرِ الْفَرَسِ بِمَعْنَى عَلَوْت عَلَيْهِ وَاسْتَوَيْت عَلَى سَقْفِ الْبَيْتِ بِمَعْنَى عَلَوْت عَلَيْهِ وَيُقَالُ: اسْتَوَيْت عَلَى السَّطْحِ بِمَعْنَاهُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} وَقَالَ: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} وَقَالَ {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} وَقَالَ: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} بِمَعْنَى عَلَا عَلَى الْعَرْشِ. وَقَوْلُ الْحَسَنِ: وَقَوْلُ مَالِكٍ مِنْ أَنْبَلِ جَوَابٍ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَشَدِّهِ اسْتِيعَابًا لِأَنَّ فِيهِ نَبْذَ التَّكْيِيفِ وَإِثْبَاتَ الِاسْتِوَاءِ الْمَعْقُولِ وَقَدْ ائْتَمَّ أَهْلُ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ واستجودوه وَاسْتَحْسَنُوهُ. ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يَعْنِي اسْتَقَرَّ قَالَ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ؛ صَعِدَ. وَقِيلَ اسْتَوْلَى. وَقِيلَ: مَلَكَ. وَاخْتَارَ هُوَ مَا حَكَاهُ عَنْ الْفَرَّاءِ وَجَمَاعَةٍ أَنَّ مَعْنَاهُ أَقْبَلَ عَلَى خَلْقِ الْعَرْشِ وَعَمَدَ إلَى خَلْقِهِ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} أَيْ عَمَدَ إلَى خَلْقِ السَّمَاءِ. وَهَذَا الْوَجْهُ مِنْ أَضْعَفِ الْوُجُوهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْعَرْشَ كَانَ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} .
فَإِذَا كَانَ الْعَرْشُ مَخْلُوقًا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَكَيْفَ يَكُونُ اسْتِوَاؤُهُ عَمْدَهُ إلَى خَلْقِهِ لَهُ؟ لَوْ كَانَ هَذَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ: أَنَّ اسْتَوَى عَلَى كَذَا بِمَعْنَى أَنَّهُ عَمَدَ إلَى فِعْلِهِ وَهَذَا لَا يُعْرَفُ قَطُّ فِي اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا لَا فِي نَظْمٍ وَلَا فِي نَثْرٍ.
وَمَنْ قَالَ: اسْتَوَى بِمَعْنَى عَمَدَ: ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} لِأَنَّهُ عُدِّيَ بِحَرْفِ الْغَايَةِ كَمَا يُقَالُ: عَمَدْت إلَى كَذَا وَقَصَدْت إلَى كَذَا وَلَا يُقَالُ: عَمَدْت عَلَى كَذَا وَلَا قَصَدْت عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا وَلَا هُوَ قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ؛ بَلْ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ السَّلَفِ قَوْلُهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ بَعْضِهِمْ. وَإِنَّمَا هَذَا الْقَوْلُ وَأَمْثَالُهُ اُبْتُدِعَ فِي الْإِسْلَامِ لَمَّا ظَهَرَ إنْكَارُ أَفْعَالِ الرَّبِّ الَّتِي تَقُومُ بِهِ وَيَفْعَلُهَا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ؛ فَحِينَئِذٍ صَارَ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ كَمَا يُفَسِّرُ سَائِرُ أَهْلِ الْبِدَعِ الْقُرْآنَ عَلَى مَا يُوَافِقُ أَقَاوِيلَهُمْ. وَأَمَّا أَنْ يُنْقَلَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ فَلَا بَلْ أَقْوَالُ السَّلَفِ الثَّابِتَةُ عَنْهُمْ مُتَّفِقَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ فِيهِ قَوْلَانِ؛ كَمَا قَدْ يَخْتَلِفُونَ أَحْيَانًا فِي بَعْضِ الْآيَاتِ. وَإِنْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فَمَقْصُودُهُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ إثْبَاتُ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ. فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ اللَّهُ لَا يَزَالُ عَالِيًا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ يُقَالُ: ثُمَّ ارْتَفَعَ إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ؟ أَوْ يُقَالُ: ثُمَّ عَلَا عَلَى الْعَرْشِ؟ قِيلَ: هَذَا كَمَا أَخْبَرَ
أَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَصْعَدُ وَرُوِيَ " ثُمَّ يَعْرُجُ " هُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ فَوْقَ الْعَرْشِ فَإِنَّ صُعُودَهُ مِنْ جِنْسِ نُزُولِهِ. وَإِذَا كَانَ فِي نُزُولِهِ لَمْ يَصِرْ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَوْقَهُ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَصْعَدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا شَيْءٌ فَوْقَهُ. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ} إنَّمَا فَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ ارْتَفَعَ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا؛ {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وَهَذِهِ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ (حم) بِمَكَّةَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْمَدِينَةِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ إلَى السَّمَاءِ كَانَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَخَلَقَ مَا فِيهَا؛ تَضَمَّنَ مَعْنَى الصُّعُودِ لِأَنَّ السَّمَاءَ فَوْقَ الْأَرْضِ فَالِاسْتِوَاءُ إلَيْهَا ارْتِفَاعٌ إلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ إنَّمَا اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فَقَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَرْشِ؟ قِيلَ الِاسْتِوَاءُ عُلُوٌّ خَاصٌّ فَكُلُّ مُسْتَوٍ عَلَى شَيْءٍ عَالٍ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كُلُّ عَالٍ عَلَى شَيْءٍ مُسْتَوٍ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا لَا يُقَالُ لِكُلِّ مَا كَانَ عَالِيًا عَلَى غَيْرِهِ إنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَيْهِ وَاسْتَوَى عَلَيْهِ
وَلَكِنْ كُلُّ مَا قِيلَ فِيهِ إنَّهُ اسْتَوَى عَلَى غَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ عَالٍ عَلَيْهِ: وَاَلَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ " الِاسْتِوَاءُ " لَا مُطْلَقُ الْعُلُوِّ مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَمَّا كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ لَمَّا خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ كَانَ عَالِيًا عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ؛ فَلَمَّا خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ اسْتَوَى عَلَيْهِ؛ فَالْأَصْلُ أَنَّ عُلُوَّهُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُ كَمَا أَنَّ عَظَمَتَهُ وَكِبْرِيَاءَهُ وَقُدْرَتَهُ كَذَلِكَ وَأَمَّا " الِاسْتِوَاءُ " فَهُوَ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ سبحانه وتعالى بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِيهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى} . وَلِهَذَا كَانَ الِاسْتِوَاءُ مِنْ الصِّفَاتِ السَّمْعِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ بِالْخَبَرِ. وَأَمَّا عُلُوُّهُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ فَهُوَ عِنْدَ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِنْ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ بِالْعَقْلِ مَعَ السَّمْعِ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَقَوْلِ جَمَاهِيرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَنُظَّارِ الْمُثْبِتَةِ. وَهَذَا الْبَابُ وَنَحْوُهُ إنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ عز وجل بِهِ مِنْ جِنْسِ مَا تُوصَفُ بِهِ أَجْسَامُهُمْ فَيَرَوْنَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ؛ فَإِنَّ كَوْنَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ مَعَ نُزُولِهِ يَمْتَنِعُ فِي مِثْلِ أَجْسَامِهِمْ لَكِنْ مِمَّا يُسَهِّلُ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةَ إمْكَانِ هَذَا مَعْرِفَةُ أَرْوَاحِهِمْ وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا وَأَنَّ الرُّوحَ قَدْ تَعْرُجُ مِنْ النَّائِمِ إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ لَمْ تُفَارِقْ الْبَدَنَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وَكَذَلِكَ السَّاجِدُ قَالَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} . وَكَذَلِكَ تَقْرَبُ الرُّوحُ إلَى اللَّهِ فِي غَيْرِ حَالِ السُّجُودِ مَعَ أَنَّهَا فِي بَدَنِهِ. وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْضُ السَّلَفِ: الْقُلُوبُ جَوَّالَةٌ: قَلْبٌ يَجُولُ حَوْلَ الْعَرْشِ وَقَلْبٌ يَجُولُ حَوْلَ الْحُشِّ. وَإِذَا قُبِضَتْ الرُّوحُ عُرِجَ بِهَا إلَى اللَّهِ فِي أَدْنَى زَمَانٍ ثُمَّ تُعَادُ إلَى الْبَدَنِ فَتُسْأَلُ وَهِيَ فِي الْبَدَنِ. وَلَوْ كَانَ الْجِسْمُ هُوَ الصَّاعِدُ النَّازِلُ لَكَانَ ذَلِكَ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَكَذَلِكَ مَا وَصَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَالِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ لَهُ وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إذَا أُقْعِدَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} } . وَكَذَلِكَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " وَغَيْرِهِ عَنْ قتادة عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ الْعَبْدَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ - وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ - أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْت تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولُ لَهُ اُنْظُرْ إلَى مَقْعَدِك مِنْ النَّارِ أَبْدَلَك اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا.
وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: هاه هاه لَا أَدْرِي كُنْت أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْت وَلَا تليت وَيُضْرَبُ بِمِطْرَقَةِ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إلَّا الثَّقَلَيْنِ} . وَالنَّاسُ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ إقْعَادَ الْمَيِّتِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَ بِبَدَنِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالتُّرَابِ مَا لَا يُمْكِنُ قُعُودُهُ مَعَهُ وَقَدْ يَكُونُ فِي صَخْرٍ يُطْبِقُ عَلَيْهِ وَقَدْ يُوضَعُ عَلَى بَدَنِهِ مَا يَكْشِفُ فَيُوجَدُ بِحَالِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا صَارَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ إنَّمَا هُوَ عَلَى الرُّوحِ فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ مَيْسَرَةَ وَابْنُ حَزْمٍ. وَهَذَا قَوْلٌ مُنْكَرٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَصَارَ آخَرُونَ إلَى أَنَّ نَفْسَ الْبَدَنِ يَقْعُدُ عَلَى مَا فَهِمُوهُ مِنْ النُّصُوصِ. وَصَارَ آخَرُونَ يَحْتَجُّونَ بِالْقُدْرَةِ وَبِخَبَرِ الصَّادِقِ وَلَا يَنْظُرُونَ إلَى مَا يُعْلَمُ بِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ وَقُدْرَةُ اللَّهِ حَقٌّ وَخَبَرُ الصَّادِقِ حَقٌّ؛ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي فَهْمِهِمْ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ النَّائِمَ يَكُونُ نَائِمًا وَتَقْعُدُ رُوحُهُ وَتَقُومُ وَتَمْشِي وَتَذْهَبُ وَتَتَكَلَّمُ وَتَفْعَلُ أَفْعَالًا وَأُمُورًا بِبَاطِنِ بَدَنِهِ مَعَ رُوحِهِ وَيَحْصُلُ لِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ بِهَا نَعِيمٌ وَعَذَابٌ؛ مَعَ أَنَّ جَسَدَهُ مُضْطَجَعٌ؛ وَعَيْنَيْهِ مُغْمَضَةٌ وَفَمَهُ مُطْبَقٌ
وَأَعْضَاءَهُ سَاكِنَةٌ وَقَدْ يَتَحَرَّكُ بَدَنُهُ لِقُوَّةِ الْحَرَكَةِ الدَّاخِلَةِ وَقَدْ يَقُومُ وَيَمْشِي وَيَتَكَلَّمُ وَيَصِيحُ لِقُوَّةِ الْأَمْرِ فِي بَاطِنِهِ؛ كَانَ هَذَا مِمَّا يُعْتَبَرُ بِهِ أَمْرُ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ؛ فَإِنَّ رُوحَهُ تَقْعُدُ وَتَجْلِسُ وَتُسْأَلُ وَتُنَعَّمُ وَتُعَذَّبُ وَتَصِيحُ وَذَلِكَ مُتَّصِلٌ بِبَدَنِهِ؛ مَعَ كَوْنِهِ مُضْطَجِعًا فِي قَبْرِهِ. وَقَدْ يَقْوَى الْأَمْرُ حَتَّى يَظْهَرَ ذَلِكَ فِي بَدَنِهِ وَقَدْ يُرَى خَارِجًا مِنْ قَبْرِهِ وَالْعَذَابُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ مُوَكَّلَةٌ بِهِ فَيَتَحَرَّكُ بَدَنُهُ وَيَمْشِي وَيَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ وَقَدْ سَمِعَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَصْوَاتَ الْمُعَذَّبِينَ فِي قُبُورِهِمْ وَقَدْ شُوهِدَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ وَهُوَ مُعَذَّبٌ وَمَنْ يَقْعُدُ بَدَنُهُ أَيْضًا إذَا قَوِيَ الْأَمْرُ لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ لَازِمًا فِي حَقِّ كُلِّ مَيِّتٍ؛ كَمَا أَنَّ قُعُودَ بَدَنِ النَّائِمِ لِمَا يَرَاهُ لَيْسَ لَازِمًا لِكُلِّ نَائِمٍ بَلْ هُوَ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْأَمْرِ. وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ أَبْدَانًا كَثِيرَةً لَا يَأْكُلُهَا التُّرَابُ كَأَبْدَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الصِّدِّيقِينَ وَشُهَدَاءِ أُحُدٍ وَغَيْرِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَالْأَخْبَارُ بِذَلِكَ مُتَوَاتِرَةٌ. لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إقْعَادِ الْمَيِّتِ مُطْلَقًا هُوَ مُتَنَاوِلٌ لِقُعُودِهِمْ بِبَوَاطِنِهِمْ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْبَدَنِ مُضْطَجِعًا. وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا إخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم بِمَا رَآهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي السَّمَوَاتِ وَأَنَّهُ رَأَى آدَمَ وَعِيسَى وَيَحْيَى وَيُوسُفَ وَإِدْرِيسَ وَهَارُونَ وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَأَخْبَرَ أَيْضًا أَنَّهُ رَأَى مُوسَى قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ؛ وَقَدْ رَآهُ أَيْضًا فِي السَّمَوَاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبْدَانَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْقُبُورِ إلَّا عِيسَى وَإِدْرِيسَ. وَإِذَا كَانَ مُوسَى قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ ثُمَّ رَآهُ فِي السَّمَاءِ
السَّادِسَةِ مَعَ قُرْبِ الزَّمَانِ؛ فَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحْصُلُ لِلْجَسَدِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ: جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ. فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ مَا وُصِفَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَأَرْوَاحُ الْآدَمِيِّينَ مِنْ جِنْسِ الْحَرَكَةِ وَالصُّعُودِ وَالنُّزُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا يُمَاثِلُ حَرَكَةَ أَجْسَامِ الْآدَمِيِّينَ وَغَيْرِهَا مِمَّا نَشْهَدُهُ بِالْأَبْصَارِ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّهُ يُمْكِنُ فِيهَا مَا لَا يُمْكِنُ فِي أَجْسَامِ الْآدَمِيِّينَ كَانَ مَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ وَأَبْعَدُ عَنْ مُمَاثَلَةِ نُزُولِ الْأَجْسَامِ بَلْ نُزُولُهُ لَا يُمَاثِلُ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ وَأَرْوَاحَ بَنِي آدَمَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ مِنْ نُزُولِ أَجْسَامِهِمْ. وَإِذَا كَانَ قُعُودُ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ قُعُودِ الْبَدَنِ فَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ لَفْظِ " الْقُعُودِ وَالْجُلُوسِ " فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَحَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَغَيْرِهِمَا أَوْلَى أَنْ لَا يُمَاثِلَ صِفَاتِ أَجْسَامِ الْعِبَادِ.
فَصْلٌ:
نِزَاعُ النَّاسِ فِي مَعْنَى " حَدِيثِ النُّزُولِ " وَمَا أَشْبَهَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ الْمُضَافَةِ إلَى الرَّبِّ سبحانه وتعالى مِثْلَ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالِاسْتِوَاءِ إلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْعَرْشِ بَلْ وَفِي الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ مِثْلَ الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ وَالْعَدْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ هُوَ نَاشِئٌ عَنْ نِزَاعِهِمْ فِي أَصْلَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى هَلْ يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ مِنْ الْأَفْعَالِ؛ فَيَكُونُ خَلْقُهُ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِعْلًا فَعَلَهُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ أَوْ أَنَّ فِعْلَهُ هُوَ الْمَفْعُولُ وَالْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ: والْأَوَّلُ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " عَنْ الْعُلَمَاءِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ نِزَاعًا. وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ البغوي وَغَيْرُهُ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ والضبعي وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ خُزَيْمَة فِي " الْعَقِيدَةِ " الَّتِي اتَّفَقُوا هُمْ وَابْنُ خُزَيْمَة عَلَى أَنَّهَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الكلاباذي فِي كِتَابِ " التَّعَرُّفِ لِمَذْهَبِ
التَّصَوُّفِ " أَنَّهُ مَذْهَبُ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ وَبَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي " الْكَلَامِ " كالرَّازِي وَنَحْوِهِ يَنْصِبُ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ مَعَهُمْ فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ هَذَا مِمَّا انْفَرَدُوا بِهِ وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ قَاطِبَةً وَجَمَاهِيرُ الطَّوَائِفِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِ أَحْمَد مُتَقَدِّمُوهُمْ كُلُّهُمْ وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. وَكَذَلِكَ هُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ: كالهشامية أَوْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ والكَرَّامِيَة كُلِّهِمْ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ: مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ. وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْجَهْمِيَّة وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ إلَى أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ نَفْسُ الْمَخْلُوقِ وَلَيْسَ لِلَّهِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ صُنْعٌ وَلَا فِعْلٌ وَلَا خَلْقٌ وَلَا إبْدَاعٌ إلَّا الْمَخْلُوقَاتِ أَنْفُسَهَا وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ إذَا قَالُوا بِأَنَّ الرَّبَّ مُبْدِعٌ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ. و (الْحُجَّةُ الْمَشْهُورَةُ لِهَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ بِخَلْقِ لَكَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ إمَّا قَدِيمًا وَإِمَّا حَادِثًا. فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ قِدَمُ كُلِّ مَخْلُوقٍ وَهَذَا مُكَابَرَةٌ. وَإِنْ كَانَ حَادِثًا فَإِنْ قَامَ بِالرَّبِّ لَزِمَ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ كَانَ الْخَلْقُ قَائِمًا بِغَيْرِ الْخَالِقِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ. وَسَوَاءٌ قَامَ بِهِ أَوْ لَمْ يَقُمْ بِهِ يَفْتَقِرُ ذَلِكَ الْخَلْقُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ هَذَا عُمْدَتُهُمْ. و (جَوَابُ السَّلَفِ وَالْجُمْهُورِ عَنْهَا بِمَنْعِ مُقَدِّمَاتِهَا كُلُّ طَائِفَةٍ تَمْنَعُ مُقَدِّمَةً وَيَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ إلْزَامًا لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ.
أَمَّا الْأَوْلَى فَقَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ قِدَمُ الْمَخْلُوقِ؛ يَمْنَعُهُمْ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّ الْخَلْقَ فِعْلٌ قَدِيمٌ يَقُومُ بِالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقُ مُحْدَثٌ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْكُلَّابِيَة وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَالُوا: أَنْتُمْ وَافَقْتُمُونَا عَلَى أَنَّ إرَادَتَهُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ مَعَ تَأَخُّرِ الْمُرَادِ كَذَلِكَ الْخَلْقُ هُوَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ وَإِنْ كَانَ الْمَخْلُوقُ مُتَأَخِّرًا. وَمَهْمَا قُلْتُمُوهُ فِي الْإِرَادَةِ أَلْزَمْنَاكُمْ نَظِيرَهُ فِي الْخَلْقِ. وَهَذَا جَوَابٌ إلْزَامِيٌّ جَدَلِيٌّ لَا حِيلَةَ لَهُمْ فِيهِ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ حَادِثًا قَائِمًا بِالرَّبِّ لَزِمَ قِيَامُ الْحَوَادِثِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ؛ فَقَدْ مَنَعَهُمْ ذَلِكَ السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَسَاطِينُ الْفَلَاسِفَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ: كالهشامية والكَرَّامِيَة؛ وَقَالُوا: لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ فِي " الْأَصْلِ الثَّانِي ". وَأَمَّا الثَّالِثُ فَقَوْلُهُمْ: إنْ لَمْ تَقُمْ بِهِ فَهُوَ مُحَالٌ؛ فَهَذَا لَمْ يَمْنَعْهُمْ إيَّاهُ إلَّا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ الْخَلْقُ يَقُومُ بِالْمَخْلُوقِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ الْخَلْقُ لَيْسَ فِي مَحَلٍّ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ الْبَصْرِيُّونَ: فِعْلٌ بِإِرَادَةِ لَا فِي مَحَلٍّ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ لَا أَعْرِفُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ.
وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: الْخَلْقُ الْحَادِثُ يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ؛ فَقَدْ مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ عَامَّةُ مَنْ يَقُولُ بِخَلْقِ حَادِثٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَغَيْرِهِمْ: كَأَبِي مُعَاذٍ التومني وَزُهَيْرٍ الْإِبَرِيِّ والهشامية والكَرَّامِيَة ودَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الأصبهاني وَأَصْحَابِهِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسَّلَفِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا: إذَا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَلْقٍ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَحْتَاجَ ذَلِكَ الْخَلْقُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْخَلْقَ يَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ حَادِثًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ إلْزَامِهِمْ أَنَّ الْحَادِثَ إمَّا أَنْ يَكْفِيَ فِي حُصُولِهِ الْقُدْرَةُ وَالْمَشِيئَةُ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكْفِيَ. فَإِنْ لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ؛ بَطَلَ قَوْلُهُمْ إنَّ الْمَخْلُوقَاتِ تَحْدُثُ بِمُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ بِلَا خَلْقٍ وَإِذَا بَطَلَ قَوْلُهُمْ؛ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ خَالِقٍ خَلَقَهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَإِنْ كَفَى فِي حُصُولِ الْمَخْلُوقِ الْقُدْرَةُ وَالْمَشِيئَةُ جَازَ حُصُولُ هَذَا الْخَلْقِ الَّذِي يَخْلُقُ بِهِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى خَلْقٍ آخَرَ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: خَلَقْت الْمَخْلُوقَاتِ بِلَا خَلْقٍ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: خَلَقْت بِخَلْقِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْنُّفَاةِ لَيْسَ لَهُمْ قَطُّ حُجَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ إلَّا وَقَدْ نَقَضُوا تِلْكَ الْمُقَدِّمَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ فَمُقَدِّمَاتُ حُجَّتِهِمْ كُلُّهَا مُنْتَقِضَةٌ. وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْقُولِ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُنْفَصِلَ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْفَاعِلُ لَا يَكُونُ إلَّا
بِفِعْلِ يَقُومُ بِذَاتِهِ. وَأَمَّا نَفْسُ فِعْلِهِ الْقَائِمِ بِذَاتِهِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى فِعْلٍ آخَرَ بَلْ يَحْصُلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا يَقُولُونَ: إنَّ الْخَلْقَ حَادِثٌ وَلَا يَقُولُونَ هُوَ مَخْلُوقٌ؛ وَتَنَازَعُوا هَلْ يُقَالُ: إنَّهُ مُحْدَثٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامُهُ هُوَ حَدِيثٌ وَهُوَ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ. وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ بِاتِّفَاقِهِمْ وَيُسَمَّى حَدِيثًا وَحَادِثًا. وَهَلْ يُسَمَّى مُحْدَثًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لَهُمْ. وَمَنْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يُطْلِقُ لَفْظَ الْمُحْدَثِ إلَّا عَلَى الْمَخْلُوقِ الْمُنْفَصِلِ - كَمَا كَانَ هَذَا الِاصْطِلَاحُ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُتَنَاظِرِينَ الَّذِينَ تَنَاظَرُوا فِي الْقُرْآنِ فِي مِحْنَةِ الْإِمَامِ أَحْمَد رحمه الله وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ لِلْمُحْدَثِ مَعْنًى إلَّا الْمَخْلُوقَ الْمُنْفَصِلَ - فَعَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يُقَالَ الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ بَلْ مَنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ فَقَدْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ. وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد هَذَا الْإِطْلَاقَ عَلَى " دَاوُد " لَمَّا كَتَبَ إلَيْهِ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ؛ فَظَنَّ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ أَنَّهُ أَرَادَ هَذَا فَأَنْكَرَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ. ودَاوُد نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَصْدَهُ بَلْ هُوَ وَأَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ؛ هُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَهُوَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ " لَفْظِيٌّ "؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ مُنْفَصِلٍ وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَكَانَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ:
كَأَحْمَدَ وَأَمْثَالِهِ وَالْبُخَارِيِّ وَأَمْثَالِهِ ودَاوُد وَأَمْثَالِهِ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَمْثَالِهِ وَابْنِ خُزَيْمَة وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِمْ؛ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ؛ وَأَوَّلُ مَنْ شُهِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ هُوَ ابْنُ كُلَّابٍ. وَكَانَ " الْإِمَامُ أَحْمَد " يُحَذِّرُ مِنْ الْكُلَّابِيَة وَأَمَرَ بِهَجْرِ الْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ لِكَوْنِهِ كَانَ مِنْهُمْ. وَقَدْ قِيلَ عَنْ الْحَارِثِ أَنَّهُ رَجَعَ فِي الْقُرْآنِ عَنْ قَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ الكلاباذي فِي كِتَابِ " التَّعَرُّفُ لِمَذْهَبِ التَّصَوُّفِ ". وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لَوْ كَانَ خَلْقُهُ لِلْأَشْيَاءِ لَيْسَ هُوَ الْأَشْيَاءَ لَافْتَقَرَ الْخَلْقُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ فَيَكُونُ الْخَلْقُ مَخْلُوقًا: مَمْنُوعٌ. بَلْ الْخَلْقُ يَحْصُلُ بِقُدْرَةِ الرَّبِّ وَمَشِيئَتِهِ وَالْمَخْلُوقُ يَحْصُلُ بِالْخَلْقِ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْخَامِسَةُ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى التَّسَلْسُلِ؛ فَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ تُقَالُ عَلَى وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَلْقَ يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ وَذَلِكَ الْخَلْقُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ لَكِنْ يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ يَحْصُلُ بِهِ الْخَلْقُ. وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ خَلْقًا وَذَلِكَ السَّبَبُ إنَّمَا تَمَّ عِنْدَ وُجُودِ
الْخَلْقِ؛ فَتَمَامُهُ حَادِثٌ وَكُلُّ حَادِثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ؛ إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ لَلَزِمَ وُجُودُ الْحَادِثِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ. وَإِنْ قِيلَ: إنَّ السَّبَبَ التَّامَّ قَدِيمٌ؛ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَأَخُّرُ الْمُسَبَّبِ عَنْ سَبَبِهِ التَّامِّ؛ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ. وَهُنَا لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّ
الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ
وَأَنَّ الْخَلْقَ حَادِثٌ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْخَلْقُ الْحَادِثُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ لَا إلَى خَلْقٍ وَلَا إلَى غَيْرِهِ؛ قَالُوا: أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُنَازِعِينَ كُلُّكُمْ يَقُولُ إنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ حَادِثٌ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ فَإِنَّهُ مَنْ قَالَ: الْمَخْلُوقُ غَيْرُ الْخَلْقِ؛ فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا حَادِثَةٌ عِنْدَهُ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ وَمَنْ قَالَ: الْخَلْقُ قَدِيمٌ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَدِيمَ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِوَقْتِ مُعَيَّنٍ؛ فَالْمَخْلُوقُ الْحَادِثُ فِي وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ سَبَبٌ حَادِثٌ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ هَذَا لَازِمًا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ لَمْ يُخَصَّ بِجَوَابِهِ بَلْ نَقُولُ الْمَخْلُوقُ حَدَثَ بِالْخَلْقِ وَالْخَلْقُ حَصَلَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ الْقَدِيمَةِ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى سَبَبٍ آخَرَ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الطَّوَائِفِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ كالكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ. الْجَوَابُ الثَّانِي قَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ: إنَّ الْخَلْقَ الْحَادِثَ قَائِمٌ بِالْمَخْلُوقِ أَوْ قَائِمٌ لَا بِمَحَلِّ كَمَا يَقُولُونَ فِي الْإِرَادَةِ إنَّهَا حَادِثَةٌ لَا فِي مَحَلٍّ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ اقْتَضَى حُدُوثَهَا بَلْ أَحْدَثَهَا بِمُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ.
الْجَوَابُ الثَّالِثُ: جَوَابُ مَعْمَرٍ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ " أَهْلَ الْمَعَانِي " فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالتَّسَلْسُلِ فِي آنٍ وَاحِدٍ فَيَقُولُونَ: إنَّ الْخَلْقَ لَهُ خَلْقٌ وَلِلْخَلْقِ خَلْقٌ وَلِلْخَلْقِ خَلْقٌ آخَرُ وَهَلُمَّ جَرًّا لَا إلَى نِهَايَةٍ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ كُلُّهُ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَهَذَا مَشْهُورٌ عَنْهُمْ. و (الْجَوَابُ الرَّابِعُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْخَلْقُ الْحَادِثُ يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ وَكَذَلِكَ ذَلِكَ السَّبَبُ وَهَلُمَّ جَرًّا. وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ دَوَامَ نَوْعِ ذَلِكَ وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَكَلِمَاتُهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَكُلُّ كَلَامٍ مَسْبُوقٍ بِكَلَامِ قَبْلَهُ لَا إلَى نِهَايَةٍ مَحْدُودَةٍ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: الْحَيُّ لَا يَكُونُ إلَّا فَعَّالًا كَمَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ وَذَكَرَهُ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ. وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ وَابْنِ خُزَيْمَة وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَكُونُ إلَّا مُتَحَرِّكًا كَمَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي وَغَيْرُهُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَذْكُرُ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَهَكَذَا يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ أَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ مَنْ ذُكِرَ قَوْلُهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ. قَالُوا وَهَذَا تَسَلْسُلٌ فِي الْآثَارِ وَالْبُرْهَانُ إنَّمَا دَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ التَّسَلْسُلِ فِي الْمُؤَثِّرِينَ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَهُوَ مِمَّا اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى امْتِنَاعِهِ كَمَا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
فَأَمَّا كَوْنُهُ سبحانه وتعالى يَتَكَلَّمُ كَلِمَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ صَحِيحُ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحُ الْمَعْقُولِ وَهُوَ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَالْفَلَاسِفَةُ تُوَافِقُ عَلَى دَوَامِ هَذَا النَّوْعِ وَقُدَمَاءُ أَسَاطِينِهِمْ يُوَافِقُونَ عَلَى قِيَامِ ذَلِكَ بِذَاتِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُهُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَسَلَفُهُمْ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ هُمْ أَهْلُ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَهُمْ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا عَلَى حُدُوثِ كُلِّ مَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ بِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ.
الْأَصْلُ الثَّانِي الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ أَفْعَالُ الرَّبِّ تَعَالَى اللَّازِمَةُ وَالْمُتَعَدِّيَةُ وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هَلْ تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ أَمْ لَا؟ فَمَذْهَبُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَكَثِيرٍ مِنْ طَوَائِفِ الْكَلَامِ وَالْفَلَاسِفَةِ جَوَازُ ذَلِكَ. وَذَهَبَ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ والْكُلَّابِيَة مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ إلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ ذَلِكَ بِهِ. أَمَّا " نفاة الصِّفَاتِ " فَإِنَّهُمْ يَنْفُونَ هَذَا وَغَيْرَهُ وَيَقُولُونَ: هَذَا كُلُّهُ أَعْرَاضٌ وَالْأَعْرَاضُ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَالْأَجْسَامُ مُحْدَثَةٌ فَلَوْ قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ؛ لَكَانَ مُحْدَثًا. أَمَّا " الْكُلَّابِيَة " فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ نَقُولُ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ وَلَا نَقُولُ هِيَ أَعْرَاضٌ فَإِنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ وَصِفَاتُ الرَّبِّ تبارك وتعالى عِنْدَنَا بَاقِيَةٌ بِخِلَافِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِالْمَخْلُوقَاتِ؛ فَإِنَّ الْأَعْرَاضَ عِنْدَنَا لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ.
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ فَنَازَعُوهُمْ فِي هَذَا وَقَالُوا: بَلْ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا مِنْ سَاعَةٍ هُوَ هَذَا السَّوَادُ بِعَيْنِهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَقَالَاتِ الطَّوَائِفِ فِي هَذَا الْأَصْلِ. قَالَتْ " الْكُلَّابِيَة ": وَأَمَّا الْحَوَادِثُ فَلَوْ قَامَتْ بِهِ لَلَزِمَ أَنْ لَا يَخْلُوَ مِنْهَا فَإِنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ. وَإِذَا لَمْ يَخْلُ مِنْهَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا فَإِنَّ هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ. هَذَا عُمْدَتُهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ؛ وَاَلَّذِينَ خَالَفُوهُمْ قَدْ يَمْنَعُونَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ كِلَيْهِمَا وَقَدْ يَمْنَعُونَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ مَنَعُوا الْأُولَى: كالهشامية والكَرَّامِيَة؛ وَأَبِي مُعَاذٍ وَزُهَيْرٍ الْإِبَرِيِّ وَكَذَلِكَ الرَّازِي والآمدي وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ مَنَعُوا الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَبَيَّنُوا فَسَادَهَا؛ وَأَنَّهُ لَا دَلِيلَ لِمَنْ ادَّعَاهَا عَلَى دَعْوَاهُ. بَلْ قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ قَابِلًا لِلشَّيْءِ وَهُوَ خَالٍ مِنْهُ وَمِنْ ضِدِّهِ كَمَا هُوَ الْمَوْجُودُ؛ فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْأَصْلِ الْتَزَمُوا أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ لَهُ طَعْمٌ وَلَوْنٌ وَرِيحٌ؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَعْرَاضِ الَّتِي تَقْبَلُهَا الْأَجْسَامُ. فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ: هَذَا مُكَابَرَةٌ ظَاهِرَةٌ؛ وَدَعْوَى بِلَا حُجَّةٍ وَإِنَّمَا الْتَزَمَتْهُ الْكُلَّابِيَة لِأَجْلِ هَذَا الْأَصْلِ. وَأَمَّا (الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ؛ وَهُوَ مَنْعُ دَوَامِ نَوْعِ الْحَادِثِ فَهَذِهِ يَمْنَعُهَا أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ وَأَنَّ كَلِمَاتِهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا؛ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَعَّالًا؛ كَمَا يَقُولُهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ
الْحَرَكَةُ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُ حَيَاةٍ بِلَا حَرَكَةٍ أَصْلًا؛ كَمَا يَقُولُهُ الدارمي وَغَيْرُهُ وَقَدْ رَوَى الثَّعْلَبِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْله تَعَالَى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} لِمَ خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ كَانَ مُحْسِنًا بِمَا لَمْ يَزَلْ فِيمَا لَمْ يَزَلْ إلَى مَا لَمْ يَزَلْ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُفِيضَ إحْسَانَهُ إلَى خَلْقِهِ وَكَانَ غَنِيًّا عَنْهُمْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ لِجَرِّ مَنْفَعَةٍ وَلَا لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ وَلَكِنْ خَلَقَهُمْ وَأَحْسَنَ إلَيْهِمْ وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ الرُّسُلَ حَتَّى يَفْصِلُوا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَمَنْ أَحْسَنَ كَافَأَهُ بِالْجَنَّةِ وَمَنْ عَصَى كَافَأَهُ بِالنَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ: كَانَ وَلَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. وَيَمْنَعُهَا أَيْضًا جُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ وَلَكِنَّ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ والْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة يَقُولُونَ بِامْتِنَاعِهَا وَهِيَ مِنْ الْأُصُولِ الْكِبَارِ الَّتِي يُبْتَنَى عَلَيْهَا الْكَلَامُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي خَلْقِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَصْلُ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ. فَإِنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْكَلَامِ فِي الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ ظَنُّوا أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ اللَّهِ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ - كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمِلَلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ - أَنَّهُ سبحانه وتعالى لَمْ يَزَلْ مُعَطَّلًا
لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يَتَكَلَّمُ بِشَيْءِ أَصْلًا بَلْ هُوَ وَحْدَهُ مَوْجُودٌ بِلَا كَلَامٍ يَقُولُهُ وَلَا فِعْلٍ يَفْعَلُهُ. ثُمَّ إنَّهُ أَحْدَثَ مَا أَحْدَثَ مِنْ كَلَامِهِ وَمَفْعُولَاتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ. فَأَحْدَثَ الْعَالَمَ. وَظَنُّوا أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمِلَلِ - مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَاَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ - هَذَا مَعْنَاهُ وَأَنَّ ضِدَّ هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ بِقِدَمِ مَادَّتِهِ فَصَارُوا فِي كُتُبِهِمْ الْكَلَامِيَّةِ لَا يَذْكُرُونَ إلَّا قَوْلَيْنِ. أَحَدَهُمَا: قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ أَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ وَمَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ مَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: قَوْلُ الدَّهْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْعَالَمُ قَدِيمٌ وَصَارُوا يَحْكُونَ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَالْمَقَالَاتِ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمِلَلِ قَاطِبَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ أَنَّ اللَّهَ كَانَ فِيمَا لَمْ يَزَلْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يَتَكَلَّمُ بِشَيْءِ ثُمَّ إنَّهُ أَحْدَثَ الْعَالَمَ؛ وَمَذْهَبُ الدَّهْرِيَّةِ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَنَّهُ لَا صَانِعَ لَهُ؛ فَيُنْكِرُونَ الصَّانِعَ جل جلاله. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْمَقَالَاتِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ " أَرِسْطُو " صَاحِبُ التَّعَالِيمِ الْفَلْسَفِيَّةِ: الْمَنْطِقِيِّ وَالطَّبِيعِيِّ وَالْإِلَهِيِّ. وَأَرِسْطُو وَأَصْحَابُهُ الْقُدَمَاءُ يُثْبِتُونَ فِي كُتُبِهِمْ الْعِلَّةَ الْأُولَى وَيَقُولُونَ: إنَّ الْفَلَكَ يَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهَا؛ فَهِيَ عِلَّةٌ لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إذْ لَوْلَا وُجُودُ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِ الْفَلَكُ لَمْ يَتَحَرَّكْ وَحَرَكَتُهُ
مِنْ لَوَازِمِ وُجُودِهِ فَلَوْ بَطَلَتْ حَرَكَتُهُ لَفَسَدَ. وَلَمْ يَقُلْ أَرِسْطُو: إنَّ الْعِلَّةَ الْأُولَى أَبْدَعَتْ الْأَفْلَاكَ؛ وَلَا قَالَ هُوَ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْفَلَاسِفَةِ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ وَلَا قَالَ: إنَّ الْفَلَكَ قَدِيمٌ وَهُوَ مُمْكِنٌ بِذَاتِهِ؛ بَلْ كَانَ عِنْدَهُمْ مَا عِنْدَ سَائِر الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْمُمْكِنَ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إلَّا مَا كَانَ مُحْدَثًا وَالْفَلَكُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمُمْكِنِ بَلْ هُوَ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّهُ وَاجِبٌ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. فَلِهَذَا لَا يُوجَدُ فِي عَامَّةِ كُتُبِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْقَوْلُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ إلَّا عَمَّنْ يُنْكِرُ الصَّانِعَ. فَلَمَّا أَظْهَرَ مَنْ أَظْهَرَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ عَنْ عِلَّةٍ مُوجِبَةٍ بِالذَّاتِ قَدِيمَةٍ صَارَ هَذَا قَوْلًا آخَرَ لِلْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَزَالُوا بِهِ مَا كَانَ يَظْهَرُ مِنْ شَنَاعَةِ قَوْلِهِمْ مِنْ إنْكَارِ صَانِعِ الْعَالَمِ وَصَارُوا أَيْضًا يُطْلِقُونَ أَلْفَاظَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنَّهُ مَصْنُوعٌ وَمُحْدَثٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَكِنَّ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَعْلُولٌ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ. أَنَّ اللَّهَ أَحْدَثَ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَإِذَا قَالُوا: إنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ؛ فَصَارَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ يَذْكُرُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَالْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي مَعْنَى حُدُوثِ الْعَالَمِ الَّذِي يَحْكُونَهُ عَنْ أَهْلِ الْمِلَلِ كَمَا تَقَدَّمَ كَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ الشِّهْرِسْتَانِيّ وَالرَّازِي والآمدي وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا الْأَصْلُ الَّذِي ابْتَدَعَهُ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ امْتِنَاعِ
دَوَامِ فِعْلِ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ أُصُولَ دِينِهِمْ وَجَعَلُوا ذَلِكَ أَصْلَ دِينِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: الْأَجْسَامُ لَا تَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ أَوْ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ لِأَنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنْهَا وَلَا يَسْبِقُهَا يَكُونُ مَعَهَا أَوْ بَعْدَهَا وَمَا كَانَ مَعَ الْحَوَادِثِ أَوْ بَعْدَهَا فَهُوَ حَادِثٌ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَذْكُرُ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا لِكَوْنِ ذَلِكَ ظَاهِرًا إذْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ نَوْعِ الْحَوَادِثِ وَبَيْنَ الْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ. لَكِنَّ مَنْ تَفَطَّنَ مِنْهُمْ لِلْفَرْقِ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: الْحَوَادِثُ لَا تَدُومُ بَلْ يَمْتَنِعُ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ أَيْضًا وُجُودُ حَوَادِثَ لَا آخِرَ لَهَا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ إمَامَا هَذَا الْكَلَامِ: الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَبُو الهذيل: وَلَمَّا كَانَ حَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ فِي الْأَزَلِ؛ بَلْ صَارَ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ؛ كَانَ هَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ حَتَّى إنَّهُ كَانَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي ذَكَرُوهَا: مِنْ بِدَعِ الْأَشْعَرِيِّ فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي جَرَتْ بِخُرَاسَانَ لَمَّا أَظْهَرُوا لَعْنَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ. ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ وَأَئِمَّتَهُمْ كَالنَّظَّامِ وَالْعَلَّافِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ يَقُولُونَ: إنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يَقُومُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا بِهَذَا
الْأَصْلِ؛ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الرَّسُولِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُرْسَلِ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ أَوَّلًا وَمَعْرِفَةِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَهَذَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ فِيمَا زَعَمُوا إلَّا بِمَعْرِفَةِ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ حُدُوثِ الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقِ فِيمَا زَعَمُوا وَيَقُولُ أَكْثَرُهُمْ: أَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ؛ وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَيَقُولُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} قَالُوا: فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ اسْتَدَلَّ بِالْأُفُولِ - وَهُوَ الْحَرَكَةُ وَالِانْتِقَالُ - عَلَى أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ لَا يَكُونُ إلَهًا. قَالُوا: وَلِهَذَا يَجِبُ تَأْوِيلُ مَا وَرَدَ عَنْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مُخَالِفًا لِذَلِكَ مِنْ وَصْفِ الرَّبِّ بِالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَالنُّزُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ كَوْنَهُ نَبِيًّا لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِهَذَا الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ فَلَوْ قَدَحَ فِي ذَلِكَ لَزِمَ الْقَدْحُ فِي دَلِيلِ نُبُوَّتِهِ فَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَهَذَا وَنَحْوُهُ هُوَ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ الَّذِي يَقُولُونَ إنَّهُ عَارَضَ السَّمْعَ وَالْعَقْلَ. وَنَقُولُ إذَا تَعَارَضَ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ امْتَنَعَ تَصْدِيقُهُمَا وَتَكْذِيبُهُمَا وَتَصْدِيقُ السَّمْعِ دُونَ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ هُوَ أَصْلُ السَّمْعِ فَلَوْ جُرِحَ أَصْلُ الشَّرْعِ كَانَ جَرْحًا لَهُ. وَلِأَجْلِ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ الصِّفَاتِ وَالرُّؤْيَةَ وَقَالُوا:
الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؛ وَلِأَجْلِهَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ وَلِأَجْلِهَا قَالَ الْعَلَّافُ بِفَنَاءِ حَرَكَاتِهِمْ؛ وَلِأَجْلِهَا فَرَّعَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ؛ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَالَ لَهُمْ النَّاسُ: أَمَّا قَوْلُكُمْ إنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ هِيَ الْأَصْلُ فِي مَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَنُبُوَّةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ مَنْ عَلِمَ حَالَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ أَنَّهُ لَمْ يَدْعُ النَّاسَ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ أَبَدًا وَلَا تَكَلَّمَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ فَكَيْفَ تَكُونُ هِيَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَاَلَّذِي جَاءَ بِالْإِيمَانِ وَأَفْضَلُ النَّاسِ إيمَانًا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهَا أَلْبَتَّةَ وَلَا سَلَكَهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَاَلَّذِينَ عَلِمُوا أَنَّ هَذِهِ طَرِيقٌ مُبْتَدَعَةٌ حِزْبَانِ؛ (حِزْبٌ ظَنُّوا أَنَّهَا صَحِيحَةٌ فِي نَفْسِهَا لَكِنْ أَعْرَضَ السَّلَفُ عَنْهَا لِطُولِ مُقَدِّمَاتِهَا وَغُمُوضِهَا وَمَا يُخَافُ عَلَى سَالِكِهَا مِنْ الشَّكِّ وَالتَّطْوِيلِ. وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ كَالْأَشْعَرِيِّ فِي رِسَالَتِهِ إلَى الثَّغْرِ والخطابي والحليمي وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي بَكْرٍ البيهقي وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ. (وَالثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِهَا وَلِهَذَا ذَمَّهَا السَّلَفُ وَعَدَلُوا عَنْهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ كَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه؛ وَأَبِي يُوسُفَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَابْنِ الماجشون عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ السَّلَفِ. وَحَفْصٌ الْفَرْدُ لَمَّا نَاظَرَ الشَّافِعِيَّ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ - وَقَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَكَفَّرَهُ الشَّافِعِيُّ - كَانَ قَدْ نَاظَرَهُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَكَذَلِكَ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بُرْغُوثٌ - كَانَ مِنْ الْمُنَاظِرِينَ لِلْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة مِمَّا عَابَهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَتَحَرَّكُ. وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فَكَانَ مُبْتَلًى بِهَؤُلَاءِ فِي بِلَادِهِ وَمَذْهَبُهُ فِي مُخَالَفَتِهِمْ كَثِيرٌ وَكَذَلِكَ الماجشون فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَكَلَامُ السَّلَفِ فِي الرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ وَقَالَ لَهُمْ النَّاسُ: إنَّ هَذَا الْأَصْلَ الَّذِي ادَّعَيْتُمْ إثْبَاتَ الصَّانِعِ بِهِ وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ خَالِقٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ إلَّا بِهِ هُوَ بِعَكْسِ مَا قُلْتُمْ بَلْ هَذَا الْأَصْلُ يُنَاقِضُ كَوْنَ الرَّبِّ خَالِقًا لِلْعَالَمِ وَلَا يُمْكِنُ مَعَ الْقَوْلِ بِهِ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ؛ وَلَا الرَّدُّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ. فالمتكلمون الَّذِينَ ابْتَدَعُوهُ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ بِهِ نَصَرُوا الْإِسْلَامَ وَرَدُّوا بِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ كَالْفَلَاسِفَةِ؛ لَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِعَدُوِّهِ كَسَرُوا بَلْ كَانَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِمَّا أَفْسَدُوا بِهِ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ فَأَفْسَدُوا عَقْلَهُ وَدِينَهُ
وَاعْتَدَوْا بِهِ عَلَى مَنْ نَازَعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَفَتَحُوا لِعَدُوِّ الْإِسْلَامِ بَابًا إلَى مَقْصُودِهِ. فَإِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ - إنَّ الرَّبَّ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا وَلَا كَانَ الْكَلَامُ وَالْفِعْلُ مُمْكِنًا لَهُ وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ دَائِمًا مُدَّةً أَوْ تَقْدِيرُ مُدَّةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا ثُمَّ إنَّهُ تَكَلَّمَ وَفَعَلَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ اقْتَضَى ذَلِكَ وَجَعَلُوا مَفْعُولَهُ هُوَ فِعْلَهُ وَجَعَلُوا فِعْلَهُ وَإِرَادَةَ فِعْلِهِ قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً وَالْمَفْعُولَ مُتَأَخِّرًا وَجَعَلُوا الْقَادِرَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورِيهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ - وَكُلُّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ وَخِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنْكَرُوا صِفَاتِهِ وَرُؤْيَتَهُ وَقَالُوا كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ؛ وَهُوَ خِلَافُ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ وَأَثْبَتُوا الصِّفَاتِ قَالُوا يُرِيدُ جَمِيعَ الْمُرَادَاتِ بِإِرَادَةِ وَاحِدَةٍ وَكُلُّ كَلَامٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَوْ يَتَكَلَّمُ بِهِ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَإِذَا رُئِيَ رُئِيَ لَا بِمُوَاجَهَةِ وَلَا بِمُعَايَنَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يَرَ الْأَشْيَاءَ حَتَّى وُجِدَتْ؛ ثُمَّ لَمَّا وُجِدَتْ لَمْ يَقُمْ بِهِ أَمْرٌ مَوْجُودٌ؛ بَلْ حَالُهُ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ وَيُبْصِرَ كَحَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُخَالِفُ الْمَعْقُولَ الصَّرِيحَ وَالْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ. ثُمَّ لَمَّا رَأَتْ " الْفَلَاسِفَةُ " أَنَّ هَذَا مُبَلِّغٌ عِلْمَ هَؤُلَاءِ وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ وَعَلِمُوا فَسَادَ هَذَا أَظْهَرُوا قَوْلَهُمْ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ تَجَدُّدَ الْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعٌ؛ بَلْ لَا بُدَّ لِكُلِّ مُتَجَدِّدٍ مِنْ سَبَبٍ حَادِثٍ
وَلَيْسَ هُنَاكَ سَبَبٌ؛ فَيَكُونُ الْفِعْلُ دَائِمًا ثُمَّ ادَّعَوْا دَعْوَى كَاذِبَةً لَمْ يَحْسُنْ أُولَئِكَ أَنْ يُبَيِّنُوا فَسَادَهَا وَهُوَ: أَنَّهُ إذَا كَانَ دَائِمًا؛ لَزِمَ قِدَمُ الْأَفْلَاكِ وَالْعَنَاصِرِ. ثُمَّ إنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا تَقْرِيرَ " النُّبُوَّةِ " جَعَلُوهَا فَيْضًا يَفِيضُ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ أَوْ غَيْرِهِ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ لَهُ رَسُولًا مُعَيَّنًا وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَلَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ وَلَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِهِ مَلَكٌ بَلْ جِبْرِيلُ هُوَ خَيَالٌ يُتَخَيَّلُ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ أَوْ هُوَ الْعَقْلُ الْفَعَّالُ وَأَنْكَرُوا: أَنْ تَكُونَ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ خُلِقَتْ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَأَنَّ السَّمَوَاتِ تَنْشَقُّ وَتَنْفَطِرُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم. وَزَعَمُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَرَادَ بِهِ خِطَابَ الْجُمْهُورِ مِمَّا يُخَيَّلُ إلَيْهِمْ بِمَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ كَذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الرُّسُلُ بَيَّنَتْ الْحَقَائِقَ وَعَلَّمَتْ النَّاسَ مَا الْأَمْرُ عَلَيْهِ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُفَضِّلُ الْفَيْلَسُوفَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. و " حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ " أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَذَبُوا لِمَا ادَّعَوْهُ مِنْ نَفْعِ النَّاسِ وَهَلْ كَانُوا جُهَّالًا عَلَى قَوْلَيْنِ لَهُمْ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ الصَّرِيحِ وَالْكَذِبِ الْبَيِّنِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ.
وَقَدْ بُيِّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَإِنْ تَظَاهَرُوا بِالْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمَ مِمَّا كَانَ يُظْهِرُهُ الْمُنَافِقُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ رضي الله عنه الْمُنَافِقُونَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قِيلَ: وَلِمَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ نِفَاقَهُمْ وَهُمْ الْيَوْمَ يُعْلِنُونَهُ. وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ حُذَيْفَةَ مَنْ وَصَلَ إلَى هَذَا النِّفَاقِ وَلَا إلَى قَرِيبٍ مِنْهُ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا ظَهَرُوا فِي الْإِسْلَامِ فِي أَثْنَاءِ " الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ " وَآخِرِ " الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ " لَمَّا عُرِّبَتْ الْكُتُبُ الْيُونَانِيَّةُ وَنَحْوُهَا وَقَدْ بُسِطَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ رَدُّوا عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوهُ بَلْ هُمْ فَتَحُوا لَهُمْ دِهْلِيزَ الزَّنْدَقَةِ وَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِمَّنْ دَخَلَ فِي هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ إنَّمَا دَخَلَ مِنْ بَابِ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ: كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَغَيْرِهِمَا. وَإِذَا قَامَ مَنْ يَرُدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَنْصِرُونَ وَيَسْتَعِينُونَ بِأُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُبْتَدِعِينَ وَيُعِينُهُمْ أُولَئِكَ عَلَى مَنْ يَنْصُرُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؛ فَهُمْ جُنْدُهُمْ عَلَى مُحَارَبَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا قَدْ وُجِدَ ذَلِكَ عِيَانًا. وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فِي قَوْلِهِ: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} كَذِبٌ ظَاهِرٌ عَلَى إبْرَاهِيمَ؛ فَإِنَّ الْأُفُولَ هُوَ التَّغَيُّبُ وَالِاحْتِجَابُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ وَهُوَ مِنْ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ فِي اللُّغَةِ وَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِالْأُفُولِ ذَهَابُ ضَوْءِ
الْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ أُرِيدَ بِهِ سُقُوطُهُ مِنْ جَانِبِ الْمَغْرِبِ؛ فَإِنَّهُ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ يُقَالُ: إنَّهَا غَابَتْ الْكَوَاكِبُ وَاحْتَجَبَتْ وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي السَّمَاءِ وَلَكِنْ طَمَسَ ضَوْءُ الشَّمْسِ نُورَهَا. وَهَذَا مِمَّا يَنْحَلُّ بِهِ الْإِشْكَالُ الْوَارِدُ عَلَى الْآيَةِ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ بَعْدَ أُفُولِ الْقَمَرِ وَإِبْرَاهِيمُ عليه السلام لَمْ يَقُلْ: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} لَمَّا رَأَى الْكَوْكَبَ يَتَحَرَّكُ؛ وَالْقَمَرَ وَالشَّمْسَ بَلْ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ حِينَ غَابَ وَاحْتَجَبَ. فَإِنْ كَانَ إبْرَاهِيمُ قَصَدَ بِقَوْلِهِ الِاحْتِجَاجَ بِالْأُفُولِ عَلَى نَفْيِ كَوْنِ الْآفِلِ رَبَّ الْعَالَمِينَ - كَمَا ادَّعَوْهُ - كَانَتْ قِصَّةُ إبْرَاهِيمَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ بُزُوغَهُ وَحَرَكَتَهُ فِي السَّمَاءِ إلَى حِينِ الْمَغِيبِ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ؛ بَلْ إنَّمَا جَعَلَ الدَّلِيلَ مَغِيبَهُ. فَإِنْ كَانَ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ مَقْصُودِهِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ صَحِيحًا فَإِنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى نَقِيضِ مَطْلُوبِهِمْ وَعَلَى بُطْلَانِ كَوْنِ الْحَرَكَةِ دَلِيلَ الْحُدُوثِ. لَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَقْصِدْ هَذَا وَلَا كَانَ قَوْلُهُ: {هَذَا رَبِّي} أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا اعْتَقَدَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنَّ كَوْكَبًا مِنْ الْكَوَاكِبِ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَلَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَوْمُ إبْرَاهِيمَ يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ؛ بَلْ كَانُوا مُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَدْعُونَهَا وَيَبْنُونَ لَهَا الْهَيَاكِلَ وَيَعْبُدُونَ فِيهَا أَصْنَامَهُمْ وَهُوَ دِينُ الْكَلْدَانِيِّينَ والكشدانيين وَالصَّابِئِينَ الْمُشْرِكِينَ؛ لَا الصَّابِئِينَ الْحُنَفَاءِ وَهُمْ الَّذِينَ صَنَّفَ صَاحِبُ " السِّرِّ الْمَكْتُومِ فِي السِّحْرِ وَمُخَاطَبَةِ النُّجُومِ " كِتَابَهُ عَلَى دِينِهِمْ.
وَهَذَا دِينٌ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَيْهِ بِالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانُوا قَبْلَ ظُهُورِ دِينِ الْمَسِيحِ عليه السلام وَكَانَ جَامِعُ دِمَشْقَ وَجَامِعُ حَرَّانَ وَغَيْرُهُمَا مَوْضِعُ بَعْضِ هَيَاكِلِهِمْ: هَذَا هَيْكَلُ الْمُشْتَرِي وَهَذَا هَيْكَلُ الزُّهْرَةِ. وَكَانُوا يَصِلُونَ إلَى الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ؛ وَبِدِمَشْقَ مَحَارِيبُ قَدِيمَةٌ إلَى الشَّمَالِ. وَالْفَلَاسِفَةُ الْيُونَانِيُّونَ كَانُوا مِنْ جِنْسِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ وَيَصْنَعُونَ السِّحْرَ وَكَذَلِكَ أَهْلُ مِصْرَ وَغَيْرُهُمْ. وَجُمْهُورُ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْمُنْكَرُ لَهُ قَلِيلٌ مِثْلَ فِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِ. وَقَوْمُ إبْرَاهِيمَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} فَعَادَى كُلَّ مَا يَعْبُدُونَهُ إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} وَقَالَ الْخَلِيلُ عليه السلام {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ؛ {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلَّا أَنْ
يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} .
وَلَمَّا فَسَّرَ هَؤُلَاءِ " الْأُفُولَ " بِالْحَرَكَةِ وَفَتَحُوا بَابَ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ دَخَلَتْ الْمَلَاحِدَةُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَفَسَّرَ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الْأُفُولَ بِالْإِمْكَانِ الَّذِي ادَّعَوْهُ حَيْثُ قَالُوا: إنَّ الْأَفْلَاكَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُمْكِنَةٌ وَكَذَلِكَ مَا فِيهَا مِنْ الْكَوَاكِبِ وَالنَّيِّرِينَ. قَالُوا: فَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} أَيْ لَا أُحِبُّ الْمُمْكِنَ الْمَعْلُولَ وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا. وَأَيْنَ فِي لَفْظِ الْأُفُولِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى؟ وَلَكِنَّ هَذَا شَأْنُ الْمُحَرِّفِينَ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَجَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ جِنْسِ مَنْ زَادَ فِي التَّحْرِيفِ فَقَالَ: الْمُرَادُ " بِالْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ " هُوَ النَّفْسُ وَالْعَقْلُ الْفَعَّالُ وَالْعَقْلُ الْأَوَّلُ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَحَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ فِي بَعْضِهَا. وَقَالَ هَؤُلَاءِ الْكَوَاكِبُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ أَنَّهَا لَيْسَتْ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِخِلَافِ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ. وَدَلَالَةُ لَفْظِ الْكَوْكَبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً
مِنْ عَجَائِبِ تَحْرِيفَاتِ الْمَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ كَمَا يَتَأَوَّلُونَ الْعِلْمِيَّاتِ مَعَ الْعَمَلِيَّاتِ وَيَقُولُونَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مَعْرِفَةُ أَسْرَارِنَا وَصِيَامُ رَمَضَانَ كِتْمَانُ أَسْرَارِنَا وَالْحَجُّ هُوَ الزِّيَارَةُ لِشُيُوخِنَا الْمُقَدِّسِينَ. وَفَتَحَ لَهُمْ هَذَا الْبَابَ " الْجَهْمِيَّة وَالرَّافِضَةُ " حَيْثُ صَارَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْإِمَامُ الْمُبِينُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ فِي الْقُرْآنِ بَنُو أُمَيَّةَ وَالْبَقَرَةُ الْمَأْمُورُ بِذَبْحِهَا عَائِشَةُ وَاللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ. وَقَدْ شَارَكَهُمْ فِي نَحْوِ هَذِهِ التَّحْرِيفَاتِ طَائِفَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ كَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} {وَطُورِ سِينِينَ} {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رضي الله عنهم وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أَبُو بَكْرٍ {فَآزَرَهُ} عُمَرُ {فَاسْتَغْلَظَ} هُوَ عُثْمَانُ {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} هُوَ عَلِيٌّ. وَقَوْلُ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ: {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} هُوَ الْقَلْبُ {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} هِيَ النَّفْسُ. وَأَمْثَالُ هَذِهِ التَّحْرِيفَاتِ. لَكِنَّ مِنْهَا مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ صَحِيحًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي إشَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ. وَبَعْضُ ذَلِكَ لَا يَجْعَلُ تَفْسِيرًا؛ بَلْ يَجْعَلُ مِنْ بَابِ الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ صَحِيحَةٌ عِلْمِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ} . فَإِذَا كَانَ وَرَقُهُ {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} فَمَعَانِيهِ لَا يَهْتَدِي بِهَا إلَّا الْقُلُوبُ
الطَّاهِرَةُ وَإِذَا كَانَ الْمَلَكُ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ فَالْمَعَانِي الَّتِي تُحِبُّهَا الْمَلَائِكَةُ لَا تَدْخُلُ قَلْبًا فِيهِ أَخْلَاقُ الْكِلَابِ الْمَذْمُومَةِ وَلَا تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُبْتَدِعَةَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ لَمَّا فَتَحُوا " بَابَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ فِي السَّمْعِيَّاتِ "؛ صَارَ ذَلِكَ دِهْلِيزًا لِلزَّنَادِقَةِ الْمُلْحِدِينَ إلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ السَّفْسَطَةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالْقَرْمَطَةِ فِي السَّمْعِيَّاتِ وَصَارَ كُلُّ مَنْ زَادَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا دَعَاهُ إلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ؛ حَتَّى انْتَهَى الْأَمْرُ بِالْقَرَامِطَةِ إلَى إبْطَالِ الشَّرَائِعِ الْمَعْلُومَةِ كُلِّهَا كَمَا قَالَ لَهُمْ رَئِيسُهُمْ بِالشَّامِ: قَدْ أَسْقَطْنَا عَنْكُمْ الْعِبَادَاتِ فَلَا صَوْمَ وَلَا صَلَاةَ وَلَا حَجَّ وَلَا زَكَاةَ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: الْبِدَعُ بَرِيدُ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بَرِيدُ النِّفَاقِ.
وَلَمَّا اعْتَقَدَ أَئِمَّةُ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ اللَّهِ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ مَا تَقَدَّمَ: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ غَيْرَ فَاعِلٍ لِشَيْءِ وَلَا مُتَكَلِّمٍ بِشَيْءِ حَتَّى أَحْدَثَ الْعَالَمُ؛ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إنَّ الْقُرْآنَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ بَائِنٌ عَنْهُ. فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ كَلَامٌ قَدِيمٌ أَوْ كَلَامٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ لَزِمَ قِدَمُ الْعَالَمِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي أَصَّلُوهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ عَرَّفَ الْعُقَلَاءَ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِقُدْرَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَشِيئَتِهِ. وَأَمَّا كَلَامٌ يَقُومُ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ بِلَا قُدْرَةٍ وَلَا مَشِيئَةٍ؛ فَهَذَا لَمْ يَكُنْ يَتَصَوَّرُهُ
أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ وَلَا نَعْرِفُ أَنَّ أَحَدًا قَالَهُ بَلْ وَلَا يَخْطِرُ بِبَالِ جَمَاهِيرِ النَّاسِ حَتَّى أَحْدَثَ الْقَوْلَ بِهِ ابْنُ كُلَّابٍ. وَإِنَّمَا أَلْجَأَهُ إلَى هَذَا: أَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ لَمَّا أَظْهَرُوا مُوجِبَ أَصْلِهِمْ وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ أَظْهَرُوا ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ ثُمَّ صَارَ كُلَّمَا ظَهَرَ قَوْلُهُمْ أَنْكَرَهُ الْعُلَمَاءُ - وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي إنْكَارِ ذَلِكَ مَشْهُورٌ مُتَوَاتِرٌ - إلَى أَنْ صَارَ لِهَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْكَلَامُ الْمُحْدَثُ فِي دَوْلَةِ الْمَأْمُونِ عِزٌّ وَأَدْخَلُوهُ فِي ذَلِكَ وَأَلْقَوْا إلَيْهِ الْحُجَجَ الَّتِي لَهُمْ. وَقَالُوا إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَالَمُ مَخْلُوقًا أَوْ قَدِيمًا. وَهَذَا الثَّانِي كُفْرٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ فَسَادُهُ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ. وَإِذَا كَانَ الْعَالَمُ مَخْلُوقًا مُحْدَثًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ لَمْ يَبْقَ قَدِيمٌ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ. فَلَوْ كَانَ الْعَالَمُ قَدِيمًا؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ قَدِيمٌ آخَرُ. وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ إنْ كَانَ قَائِمًا بِذَاتِهِ؛ لَزِمَ دَوَامُ الْحَوَادِثِ وَقِيَامُهَا بِالرَّبِّ وَهَذَا يُبْطِلُ الدَّلِيلَ الَّذِي اشْتَهَرَ بَيْنَهُمْ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ. وَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهُ لَزِمَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ فِي الْأَزَلِ؛ وَهَذَا قَوْلٌ بِقِدَمِ الْعَالَمِ. فَلَمَّا اُمْتُحِنَ النَّاسُ بِذَلِكَ وَاشْتَهَرَتْ هَذِهِ الْمِحْنَةُ وَثَبَّتَ اللَّهُ مَنْ ثَبَّتَهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ؛ وَكَانَ الْإِمَامُ - الَّذِي ثَبَّتَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ إمَامًا لِلسُّنَّةِ حَتَّى صَارَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَعْدَ ظُهُورِ الْمِحْنَةِ يَمْتَحِنُونَ النَّاسَ بِهِ فَمَنْ وَافَقَهُ كَانَ سُنِّيًّا وَإِلَّا كَانَ بِدْعِيًّا - هُوَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فَثَبَتَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
وَكَانَ " الْمَأْمُونُ " لَمَّا صَارَ إلَى الثَّغْرِ بطرسوس كَتَبَ بِالْمِحْنَةِ كِتَابًا إلَى نَائِبِهِ بِالْعِرَاقِ " إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ " فَدَعَا الْعُلَمَاءَ وَالْفُقَهَاءَ وَالْقُضَاةَ؛ فَامْتَنَعُوا عَنْ الْإِجَابَةِ وَالْمُوَافَقَةِ فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْجَوَابَ فَكَتَبَ كِتَابًا ثَانِيًا يَقُولُ فِيهِ عَنْ الْقَاضِيَيْنِ: بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إسْحَاقَ إنْ لَمْ يُجِيبَا فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمَا وَيَقُولُ عَنْ الْبَاقِينَ إنْ لَمْ يُجِيبُوا فَقَيِّدْهُمْ فَأَرْسِلْهُمْ إلَيَّ. فَأَجَابَ الْقَاضِيَانِ وَذَكَرَا لِأَصْحَابِهِمَا أَنَّهُمَا مُكْرَهَانِ وَأَجَابَ أَكْثَرُ النَّاسِ قَبْلَ أَنْ يُقَيِّدَهُمْ لَمَّا رَأَوْا الْوَعِيدَ وَلَمْ يُجِبْ سِتَّةُ أَنْفُسٍ فَقَيَّدَهُمْ فَلَمَّا قُيِّدُوا أَجَابَ الْبَاقُونَ إلَّا اثْنَيْنِ: أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ وَمُحَمَّدَ بْنَ نُوحٍ النَّيْسَابُورِيَّ؛ فَأَرْسَلُوهُمَا مُقَيَّدَيْنِ إلَيْهِ؛ فَمَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ فِي الطَّرِيقِ وَمَاتَ الْمَأْمُونُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ أَحْمَد إلَيْهِ وَتَوَلَّى أَخُوهُ أَبُو إسْحَاقَ وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ أَحْمَد بْنُ أَبِي دؤاد وَأَقَامَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي الْحَبْسِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ إلَى سَنَةِ عِشْرِينَ. ثُمَّ إنَّهُمْ طَلَبُوهُ وَنَاظَرُوهُ أَيَّامًا مُتَعَدِّدَةً فَدَفَعَ حُجَجَهُمْ وَبَيَّنَ فَسَادَهَا وَأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا عَلَى مَا يَقُولُونَهُ بِحُجَّةِ لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ وَلَا مِنْ أَثَرٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَبْتَدِعُوا قَوْلًا وَيُلْزِمُوا النَّاسَ بِمُوَافَقَتِهِمْ عَلَيْهِ وَيُعَاقِبُوا مَنْ خَالَفَهُمْ. وَإِنَّمَا يُلْزِمُ النَّاسَ مَا أَلْزَمَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَيُعَاقِبُ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؛ فَإِنَّ الْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ وَالتَّكْفِيرَ وَالتَّفْسِيقَ هُوَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لَيْسَ لِأَحَدِ فِي هَذَا حُكْمٌ وَإِنَّمَا عَلَى النَّاسِ إيجَابُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَتَحْرِيمُ
مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتَصْدِيقُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَجَرَتْ فِي ذَلِكَ أُمُورٌ يَطُولُ شَرْحُهَا. وَلَمَّا اشْتَهَرَ هَذَا وَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ بَاطِنُ أَمْرِهِمْ؛ وَأَنَّهُمْ مُعَطِّلَةٌ لِلصِّفَاتِ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى وَلَا لَهُ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَإِنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ؛ وَلَا عَلَى السَّمَوَاتِ إلَهٌ؛ وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى رَبِّهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ؛ كَثُرَ رَدُّ الطَّوَائِفِ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْآثَارِ تَارَةً؛ وَبِالْكَلَامِ الْحَقِّ تَارَةً؛ وَبِالْبَاطِلِ تَارَةً. وَكَانَ مِمَّنْ اُنْتُدِبَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَكَانَ لَهُ فَضْلٌ وَعِلْمٌ وَدِينٌ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ ابْتَدَعَ مَا ابْتَدَعَهُ لِيُظْهِرَ دِينَ النَّصَارَى فِي الْمُسْلِمِينَ - كَمَا يَذْكُرُهُ طَائِفَةٌ فِي مَثَالِبِهِ وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُ أَوْصَى أُخْتَهُ بِذَلِكَ - فَهَذَا كَذِبٌ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا افْتَرَى هَذَا عَلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّة الَّذِينَ رَدَّ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ فَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ النَّصَارَى. وَقَدْ ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة؛ وَصَارَ يَنْقُلُ هَذَا مَنْ لَيْسَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ السالمية وَيَذْكُرُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَنْفِرُونَ عَنْهُ لِبِدْعَتِهِ فِي الْقُرْآنِ؛ وَيَسْتَعِينُونَ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مِنْ افْتِرَاءِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ عَلَيْهِ. وَلَا يَعْلَمُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الَّذِينَ ذَمُّوهُ بِمِثْلِ هَذَا هُمْ شَرٌّ مِنْهُ وَهُوَ خَيْرٌ وَأَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ مِنْهُمْ.
وَكَانَ " أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ " لَمَّا رَجَعَ عَنْ الِاعْتِزَالِ سَلَكَ طَرِيقَةَ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ فَصَارَ طَائِفَةٌ يَنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ السالمية وَغَيْرِهِمْ كَأَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ يَذْكُرُونَ فِي مَثَالِبِ أَبِي الْحَسَنِ أَشْيَاءَ هِيَ مِنْ افْتِرَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَشْعَرِيَّ بَيَّنَ مِنْ تَنَاقُضِ أَقْوَالِ الْمُعْتَزِلَةِ وَفَسَادَهَا مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ غَيْرُهُ حَتَّى جَعَلَهُمْ فِي قَمْعِ السِّمْسِمَةِ. " وَابْنُ كُلَّابٍ " لَمَّا رَدَّ عَلَى الْجَهْمِيَّة لَمْ يَهْتَدِ لِفَسَادِ أَصْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ الَّذِي ابْتَدَعُوهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ بَلْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَذُمُّونَ ابْنَ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيَّ بِالْبَاطِلِ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. والسالمية مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مُوَافِقٌ لِابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ عَلَى هَذَا مُوَافِقٌ للجهمية عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِمْ الَّذِي ابْتَدَعُوهُ. وَهُمْ إذَا تَكَلَّمُوا فِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَخَذُوا كَلَامَ ابْنَ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ فَنَاظَرُوا بِهِ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْجَهْمِيَّة وَأَخَذُوا كَلَامَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ فَنَاظَرُوا بِهِ هَؤُلَاءِ وَرَكِبُوا قَوْلًا مُحْدَثًا مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَوَافَقُوا ابْنَ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيَّ وَغَيْرَهُمَا عَلَى قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَاحْتَجُّوا بِمَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ. وَهُمْ مَعَ هَؤُلَاءِ. وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ وَقَدْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ فَقَالُوا: إنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ أَوْ الْحُرُوفُ
بِلَا أَصْوَاتٍ وَإِنَّ الْبَاءَ وَالسِّينَ وَالْمِيمَ مَعَ تَعَاقُبِهَا فِي ذَاتِهَا فَهِيَ أَزَلِيَّةُ الْأَعْيَانِ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ؛ كَمَا بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى أَقْوَالِ النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَصْلِ مَقَالَاتِ الطَّوَائِفِ وَابْنُ كُلَّابٍ أَحْدَثَ مَا أَحْدَثَهُ لَمَّا اضْطَرَّهُ إلَى ذَلِكَ مِنْ دُخُولِ أَصْلِ كَلَامِ الْجَهْمِيَّة فِي قَلْبِهِ وَقَدْ بَيَّنَ فَسَادَ قَوْلِهِمْ بِنَفْيِ عُلُوِّ اللَّهِ وَنَفْيِ صِفَاتِهِ. وَصَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً فِي أَصْلِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَبَيَّنَ أَدِلَّةً كَثِيرَةً عَقْلِيَّةً عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة وَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ عُلُوَّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَمُبَايَنَتَهُ لَهُمْ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالْفِطْرَةِ وَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْقِيَاسِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَهَا الْحَارِثُ المحاسبي فِي كِتَابِ " فَهْمُ الْقُرْآنِ " وَغَيْرِهِ؛ بَيَّنَ فِيهِ مِنْ عُلُوِّ اللَّهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ مَا بَيَّنَ بِهِ فَسَادَ قَوْلِ الْنُّفَاةِ؛ وَفَرِحَ الْكَثِيرُ مِنْ النُّظَّارِ الَّذِينَ فَهِمُوا أَصْلَ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَعَلِمُوا ثُبُوتَ الصِّفَاتِ لِلَّهِ وَأَنْكَرُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ؛ فَرِحُوا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي سَلَكَهَا ابْنُ كُلَّابٍ: كَأَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالثَّقَفِيِّ؛ وَمَنْ تَبِعَهُمْ: كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ وَأَصْحَابِهِ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني وَأَبِي بَكْرِ بْنِ فورك وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ. وَصَارَ هَؤُلَاءِ يَرُدُّونَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ مَا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ ابْنُ كُلَّابٍ والقلانسي
وَالْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ فَيُبَيِّنُونَ فَسَادَ قَوْلِهِمْ: بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَكَانَ فِي هَذَا مَنْ كَسَرَ سَوْرَةَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة مَا فِيهِ ظُهُورُ شِعَارِ السُّنَّةِ وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَإِثْبَاتُ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ السُّنَّةِ. لَكِنَّ " الْأَصْلَ الْعَقْلِيَّ " الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ ابْنُ كُلَّابٍ قَوْلَهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ هُوَ أَصْلُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ بِعَيْنِهِ وَصَارُوا إذَا تَكَلَّمُوا فِي خَلْقِ اللَّهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ إنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ بِالْأَصْلِ الَّذِي ابْتَدَعَهُ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ؛ فَيَقُولُونَ قَوْلَ أَهْلِ الْمِلَّةِ كَمَا نَقَلَهُ أُولَئِكَ وَيُقَرِّرُونَهُ بِحُجَّةِ أُولَئِكَ. وَكَانَتْ " مِحْنَةُ الْإِمَامِ أَحْمَد " سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ وَفِيهَا شَرَعَتْ الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ يُظْهِرُونَ قَوْلَهُمْ فَإِنَّ كُتُبَ الْفَلَاسِفَةِ قَدْ عُرِّبَتْ وَعَرَفَ النَّاسُ أَقْوَالَهُمْ. فَلَمَّا رَأَتْ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ الْقَوْلَ الْمَنْسُوبَ إلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلِ بَيْتِهِ هُوَ هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ وَرَأَوْا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي يَقُولُونَهُ فَاسِدٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ؛ طَمِعُوا فِي تَغْيِيرِ الْمِلَّةِ. فَمِنْهُمْ مَنْ أَظْهَرَ إنْكَارَ الصَّانِعِ وَأَظْهَرَ الْكُفْرَ الصَّرِيحَ وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ وَأَخَذُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ كَمَا فَعَلَتْهُ قَرَامِطَةُ الْبَحْرِينِ. وَكَانَ قَبْلَهُمْ قَدْ فَعَلَ بابك الخرمي مَعَ الْمُسْلِمِينَ مَا هُوَ مَشْهُورٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَانِي وَغَيْرُهُ مِنْ كَشْفِ أَسْرَارِ
" الْبَاطِنِيَّةِ " وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ الْنُّفَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ الخرمية. وَصَارُوا يَحْتَجُّونَ فِي كَلَامِهِمْ وَكُتُبِهِمْ بِحُجَجِ قَدْ ذَكَرَهَا أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَهُوَ أَنَّ الْحَرَكَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ابْتِدَاءٌ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِلزَّمَانِ ابْتِدَاءٌ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ الْفَاعِلُ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا؛ فَصَارَ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ كِلَاهُمَا يَسْتَدِلُّ عَلَى قَوْلِهِ بِالْحَرَكَةِ. فَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ يَقُولُونَ: إنَّ الْحَرَكَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْدُثَ نَوْعُهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ الْفَاعِلُ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ أَنَّ الذَّاتَ إذَا كَانَتْ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا ثُمَّ فَعَلَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَفْعَلْ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ حُدُوثِ حَادِثٍ مِنْ الْحَوَادِثِ وَإِلَّا فَإِذَا قُدِّرَتْ عَلَى حَالِهَا وَكَانَتْ لَا تَفْعَلُ فَهِيَ الْآنَ لَا تَفْعَلُ فَإِذَا كَانَتْ الْآنَ تَفْعَلُ؛ لَزِمَ دَوَامُ فِعْلِهَا. وَيَقُولُونَ: قَبْلُ وَبَعْدُ مُسْتَلْزِمٌ لِلزَّمَانِ فَمَنْ قَالَ بِحُدُوثِ الزَّمَانِ لَزِمَهُ الْقَوْلُ بِقِدَمِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَائِلٌ بِحُدُوثِهِ. وَيَقُولُونَ: الزَّمَانُ مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ فَيَلْزَمُ مِنْ قِدَمِهِ قِدَمُهَا وَيَلْزَمُ مِنْ قِدَمِ الْحَرَكَةِ قِدَمُ الْمُتَحَرِّكِ - وَهُوَ الْجِسْمُ - فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ جِسْمٍ قَدِيمٍ ثُمَّ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ الْجِسْمَ الْقَدِيمَ هُوَ الْفَلَكُ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ عَلَى هَذَا حُجَّةٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَصَارَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ والْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ وَيَدَّعُونَ أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمَقْدُورَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ الْمُمَاثِلِ لَهُ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَنَوْا كَوْنَ اللَّهِ خَالِقًا لِلْمَخْلُوقَاتِ.
ثُمَّ نفاة الصِّفَاتِ يَقُولُونَ: رَجَحَ بِمُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ وَكَذَلِكَ أَصْلُ الْقَدَرِيَّةِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ جَمَعَتْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَأَمَّا الْمُثْبِتَةُ كالْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة فَيَدَّعُونَ أَنَّهُ رَجَحَ بِمَشِيئَةِ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مِمَّا يُنْكِرُهُ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ. وَلِهَذَا صَارَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي هَذَا الْبَابِ كالرَّازِي وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ - كالشَّهْرَستَانِي وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ طَوَائِفِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ - لَا يُوجَدُ عِنْدَهُمْ إلَّا الْعِلَّةُ الْفَلْسَفِيَّةُ أَوْ الْقَادِرِيَّةُ الْمُعْتَزِلِيَّةُ أَوْ الْإِرَادِيَّةُ الْكُلَّابِيَة. وَكُلٌّ مِنْ الثَّلَاثَةِ مُنْكَرٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ بُحُوثُ الرَّازِي فِي مَسْأَلَةِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ عَلَى قَوْلِ الدَّهْرِيَّةِ أَظْهَرُ دَلَالَةً. وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَيَقُولُونَ: لَوْ وُجِدَتْ حَوَادِثُ لَا أَوَّلَ لَهَا؛ لَكُنَّا إذَا قَدَّرْنَا مَا وُجِدَ قَبْلَ الطُّوفَانِ وَمَا وُجِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَقَابَلْنَا بَيْنَهُمَا؛ فَإِمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا - وَهُوَ مُمْتَنِعٌ - لِأَنَّهُ يَكُونُ الزَّائِدُ مِثْلَ النَّاقِصِ وَإِمَّا أَنْ يَتَفَاضَلَا فَيَكُونُ فِيمَا لَا يُتَنَاهَى تَفَاضَلَا وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَيَذْكُرُونَ حُجَجًا أُخْرَى قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي هَذِهِ " الْحُجَّةِ " وَنَحْوِهَا وَبَيَّنُوا فَسَادَهَا؛ بِأَنَّ التَّفَاضُلَ إنَّمَا يَقَعُ مِنْ الطَّرَفِ الْمُتَنَاهِي لَا مِنْ الطَّرَف الَّذِي لَا يَتَنَاهَى وَبِأَنَّ هَذَا
مَنْقُوضٌ بِالْحَوَادِثِ الْمُسْتَقْبَلَةِ؛ فَإِنَّ كَوْنَ الْحَادِثِ مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا أَمْرٌ إضَافِيٌّ؛ وَلِهَذَا مَنَعَ أَئِمَّةُ هَذَا الْقَوْلِ - كَجَهْمِ وَالْعَلَّافِ - وُجُودَ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَالَ جَهْمٌ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَقَالَ الْعَلَّافُ بِفَنَاءِ الْحَرَكَاتِ وَهَذَا كُلُّهُ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَصَارَ " طَائِفَةٌ أُخْرَى " قَدْ عَرَفَتْ كَلَامَ هَؤُلَاءِ وَكَلَامَ هَؤُلَاءِ - كالرَّازِي والآمدي وَغَيْرِهِمَا - يُصَنِّفُونَ الْكُتُبَ الْكَلَامِيَّةَ فَيَنْصُرُونَ فِيهَا مَا ذَكَرَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُبْتَدِعُونَ عَنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ مِنْ " حُدُوثِ الْعَالَمِ " بِطَرِيقَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُبْتَدَعَةِ هَذِهِ وَهُوَ امْتِنَاعُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا ثُمَّ يُصَنِّفُونَ الْكُتُبَ الْفَلْسَفِيَّةَ كَتَصْنِيفِ الرَّازِي " الْمَبَاحِثِ الشَّرْقِيَّةِ " وَنَحْوِهَا؛ وَيَذْكُرُ فِيهَا مَا احْتَجَّ بِهِ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى امْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَأَنَّ الزَّمَانَ وَالْحَرَكَةَ وَالْجِسْمَ لَهَا بِدَايَةٌ ثُمَّ يَنْقُضُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُجِيبُ عَنْهُ وَيُقَرِّرُ حُجَّةَ مَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ لَا بِدَايَةَ لَهُ. وَلَيْسَ هَذَا تَعَمُّدًا مِنْهُ لِنَصْرِ الْبَاطِلِ؛ بَلْ يَقُولُ بِحَسَبِ مَا تُوَافِقُهُ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فِي نَظَرِهِ وَبَحْثِهِ. فَإِذَا وُجِدَ فِي الْمَعْقُولِ بِحَسَبِ نَظَرِهِ مَا يَقْدَحُ بِهِ فِي كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ قَدَحَ بِهِ فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِ الْبَحْثَ الْمُطْلَقَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَهُ فَهُوَ يَقْدَحُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ قَادِحٌ فِيهِ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ بِالْآخَرِينَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسِيءُ بِهِ الظَّنَّ وَهُوَ أَنَّهُ يَتَعَمَّدُ الْكَلَامَ الْبَاطِلَ؛ وَلَيْسَ
كَذَلِكَ بَلْ تَكَلَّمَ بِحَسَبِ مَبْلَغِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَالْبَحْثِ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ وَهُوَ مُتَنَاقِضٌ فِي عَامَّةِ مَا يَقُولُهُ؛ يُقَرِّرُ هُنَا شَيْئًا ثُمَّ يَنْقُضُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْمَوَادَّ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي كَانَ يَنْظُرُ فِيهَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الْمَذْمُومِ عِنْدَ السَّلَفِ وَمِنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ الْخَارِجِينَ عَنْ الْمِلَّةِ يَشْتَمِلُ عَلَى كَلَامٍ بَاطِلٍ - كَلَامِ هَؤُلَاءِ وَكَلَامِ هَؤُلَاءِ: - فَيُقَرِّرُ كَلَامَ طَائِفَةٍ بِمَا يُقَرِّرُ بِهِ ثُمَّ يَنْقُضُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِمَا يُنْقَضُ بِهِ. وَلِهَذَا اعْتَرَفَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فَقَالَ: لَقَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَرَأَيْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ " طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ " اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَاقْرَأْ فِي النَّفْيِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي. والآمدي تَغْلِبُ عَلَيْهِ الْحَيْرَةُ وَالْوَقْفُ فِي عَامَّةِ الْأُصُولِ الْكِبَارِ حَتَّى إنَّهُ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ سُؤَالًا فِي تَسَلْسُلِ الْعِلَلِ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ عَنْهُ جَوَابًا وَبَنَى إثْبَاتَ الصَّانِعِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَلَا يُقَرِّرُ فِي كُتُبِهِ لَا إثْبَاتَ الصَّانِعِ وَلَا حُدُوثَ الْعَالَمِ وَلَا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ وَلَا النُّبُوَّاتِ وَلَا شَيْئًا مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهَا. وَالرَّازِي - وَإِنْ كَانَ يُقَرِّرُ بَعْضَ ذَلِكَ - فَالْغَالِبُ عَلَى مَا يُقَرِّرُهُ أَنَّهُ يَنْقُضُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَكِنْ هُوَ أَحْرَصُ عَلَى تَقْرِيرِ الْأُصُولِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهَا مِنْ
الآمدي. وَلَوْ جَمَعَ مَا تبرهن فِي الْعَقْلِ الصَّرِيحِ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَوَجَدَ جَمِيعَهُ مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَوَجَدَ صَرِيحَ الْمَعْقُولِ مُطَابِقًا لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ. لَكِنْ لَمْ يَعْرِفْ هَؤُلَاءِ حَقِيقَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَحَصَلَ اضْطِرَابٌ فِي الْمَعْقُولِ بِهِ؛ فَحَصَلَ نَقْصٌ فِي مَعْرِفَةِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ وَإِنْ كَانَ هَذَا النَّقْصُ هُوَ مُنْتَهَى قُدْرَةِ صَاحِبِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَتِهِ فَالْعَجْزُ يَكُونُ عُذْرًا لِلْإِنْسَانِ فِي أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُهُ إذَا اجْتَهَدَ الِاجْتِهَادَ التَّامَّ. هَذَا عَلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي أَنَّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ إذَا عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ بَعْضِ الْحَقِّ لَمْ يُعَذَّبْ بِهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ: إنَّهُ قَدْ يُعَذِّبُ الْعَاجِزِينَ وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ: إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ وَإِنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ فَلِتَفْرِيطِهِ لَا لِعَجْزِهِ فَهُمَا قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ وَبِسَبَبِهِمَا صَارَتْ الطَّوَائِفُ الْمُخْتَلِفَةُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ يُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَيُقَالُ " لِأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ " مِمَّنْ رَأَى دَوَامَ الْفَاعِلِيَّةِ وَلَوَازِمَهَا: الْعَقْلُ الصَّرِيحُ لَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعَالَمِ: لَا فَلَكَ وَلَا غَيْرَهُ؛ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا. وَحِينَئِذٍ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَخْلُقُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَانَ كُلُّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقًا مُحْدَثًا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْعَالَمِ شَيْءٌ قَدِيمٌ وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَيْسَ مَعَكُمْ مَا يُبْطِلُهُ فَلِمَاذَا تَنْفُونَهُ وَنَفْسُ قَدْرِ الْفِعْلِ هُوَ
الْمُسَمَّى بِالزَّمَانِ فَإِنَّ الزَّمَانَ إذَا قِيلَ: إنَّهُ مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ كَانَ جِنْسُ الزَّمَانِ مِقْدَارَ جِنْسِ الْحَرَكَةِ لَا يَتَعَيَّنُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارَ حَرَكَةِ الشَّمْسِ أَوْ الْفَلَكِ.
وَأَهْلُ الْمِلَلِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَخَلَقَ ذَلِكَ مِنْ مَادَّةٍ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ هَذِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الدُّخَانُ الَّذِي هُوَ الْبُخَارُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} وَهَذَا الدُّخَانُ هُوَ بُخَارُ الْمَاءِ الَّذِي كَانَ حِينَئِذٍ مَوْجُودًا كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا ذُكِرَ هَذَا كُلُّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ لَمْ تَكُنْ مِقْدَارَ حَرَكَةِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَهَذَا الْفَلَكِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا خُلِقَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ بَلْ تِلْكَ الْأَيَّامُ مُقَدَّرَةٌ بِحَرَكَةِ أُخْرَى. وَكَذَلِكَ إذَا شَقَّ اللَّهُ هَذِهِ السَّمَوَاتِ وَأَقَامَ الْقِيَامَةَ وَأَدْخَلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} . وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ تبارك وتعالى يَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَنَّ أَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً مَنْ يَرَى اللَّهَ تَعَالَى كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ وَلَا هُنَاكَ حَرَكَةُ فَلَكٍ بَلْ ذَلِكَ الزَّمَانُ مُقَدَّرٌ بِحَرَكَاتِ كَمَا جَاءَ فِي الْآثَارِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ بِأَنْوَارِ تَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الْعَرْشِ.
وَإِذَا كَانَ مَدْلُولُ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنَّهُ قَدِيمٌ تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَهَذَا إنَّمَا يُنَاقِضُ قَوْلَ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا الْكَلَامَ الْمُحْدَثَ - الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ - الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ مُعَطَّلًا عَنْ الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ. فَصَارَ مَا عَلِمَتْهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ أَصْنَافِ الْأُمَمِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ هُوَ عَاضِدٌ وَنَاصِرٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ ابْتَدَعَ فِي مِلَّتِهِ مَا يُخَالِفُ أَقْوَالَهُ. وَكَانَ مَا عُلِمَ بِالشَّرْعِ مَعَ صَرِيحِ الْعَقْلِ أَيْضًا رَادٌّ لِمَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ مِنْ قِدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ مَعَ اللَّهِ بَلْ الْقَوْلُ " بِقِدَمِ الْعَالَمِ " قَوْلٌ اتَّفَقَ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى بُطْلَانِهِ؛ فَلَيْسَ أَهْلُ الْمِلَّةِ وَحْدَهُمْ تُبْطِلُهُ بَلْ أَهْلُ الْمِلَلِ كُلُّهُمْ وَجُمْهُورُ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْمَجُوس وَأَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ: مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمُشْرِكِي الْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ. وَجَمَاهِيرُ أَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ كُلُّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ هَذَا الْعَالَمَ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ بَلْ وَعَامَّتُهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَالْعَرَبُ الْمُشْرِكُونَ كُلُّهُمْ كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّ هَذَا الْعَالَمَ كُلَّهُ مَخْلُوقٌ وَاَللَّهُ خَالِقُهُ وَرَبُّهُ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعِهَا. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ " حَدِيثِ النُّزُولِ " وَأَمْثَالِهِ وَهُمَا " الْأَصْلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ " وَمِنْ تَمَامِ الْأَصْلِ الثَّانِي لَفْظُ " الْحَرَكَةِ " هَلْ يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا أَمْ يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ؟ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ
وَغَيْرُ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ وَأَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَوْجُودَةٌ فِي أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ عَنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد فِي " الرِّوَايَتَيْنِ وَالْوَجْهَيْنِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ. وَقَبْلَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ لَفْظَ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ وَالتَّغَيُّرِ وَالتَّحَوُّلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ؛ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّمَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْحَرَكَةِ عَلَى الْحَرَكَةِ الْمَكَانِيَّةِ وَهُوَ انْتِقَالُ الْجِسْمِ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ بِحَيْثُ يَكُونُ قَدْ فَرَغَ الْحَيِّزُ الْأَوَّلُ وَشُغِلَ الثَّانِي: كَحَرَكَةِ أَجْسَامِنَا مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ وَحَرَكَةِ الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالسَّحَابِ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ؛ بِحَيْثُ يَفْرَغُ الْأَوَّلُ وَيُشْغَلُ الثَّانِي؛ فَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا يَعْرِفُونَ لِلْحَرَكَةِ مَعْنًى إلَّا هَذَا. وَمِنْ هُنَا نَفَوْا مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ مِنْ أَنْوَاعِ جِنْسِ الْحَرَكَةِ؛ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ جَمِيعَهَا إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا وَكَذَلِكَ مَنْ أَثْبَتَهَا وَفَهِمَ مِنْهَا كُلَّهَا هَذَا كَاَلَّذِينَ فَهِمُوا مِنْ نُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا أَنَّهُ يَبْقَى فَوْقَهُ بَعْضُ مَخْلُوقَاتِهِ فَلَا يَكُونُ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَلَا يَكُونُ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ بِحَالِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْفَلَاسِفَةُ يُطْلِقُونَ لَفْظ " الْحَرَكَةِ " عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ تَحَوُّلٌ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ. وَيَقُولُونَ أَيْضًا: حَقِيقَةُ الْحَرَكَةِ هِيَ الْحُدُوثُ أَوْ الْحُصُولُ وَالْخُرُوجُ مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ يَسِيرًا يَسِيرًا بِالتَّدْرِيجِ. قَالُوا: وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَى الْحَرَكَةِ
وَقَدْ يَحُدُّونَ بِهَا الْحَرَكَةَ. وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ فِي الرَّبِّ تَعَالَى هَلْ تَقُومُ بِهِ جِنْسُ الْحَرَكَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَأَصْحَابُ " أَرِسْطُو " جَعَلُوا الْحَرَكَةَ مُخْتَصَّةً بِالْأَجْسَامِ وَيَصِفُونَ النَّفْسَ بِنَوْعِ مِنْ الْحَرَكَةِ؛ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُمْ جِسْمًا فَيَتَنَاقَضُونَ. وَكَانَتْ الْحَرَكَةُ عِنْدَهُمْ " ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ " فَزَادَ ابْنُ سِينَا فِيهَا قِسْمًا رَابِعًا فَصَارَتْ " أَرْبَعَةً ". وَيَجْعَلُونَ الْحَرَكَةَ جِنْسًا تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ: حَرَكَةٌ فِي الْكَيْفِ وَحَرَكَةٌ فِي الْكَمِّ. وَحَرَكَةٌ فِي الْوَضْعِ وَحَرَكَةٌ فِي الْأَيْنِ. " فَالْحَرَكَةُ فِي الْكَيْفِ " هِيَ تَحَوُّلُ الشَّيْءِ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ؛ مِثْلَ اسْوِدَادِهِ وَاحْمِرَارِهِ وَاخْضِرَارِهِ وَاصْفِرَارِهِ وَمِثْلَ مَصِيرِهِ حُلْوًا وَحَامِضًا وَمِثْلَ تَغَيُّرِ رَائِحَتِهِ؛ وَكَذَلِكَ فِي النُّفُوسِ كَعِلْمِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ جَهْلِهِ وَحُبِّهِ بَعْدَ بُغْضِهِ وَإِيمَانِهِ بَعْدَ كُفْرِهِ وَفَرَحِهِ بَعْدَ حُزْنِهِ وَرِضَاهُ بَعْدَ غَضَبِهِ؛ كُلُّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ حَرَكَةٌ فِي الْكَيْفِ وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ جَوَّزَ مِنْهُمْ الْحَرَكَةَ؛ فَإِنَّ إرَادَتَهُ لِإِحْدَاثِ الشَّيْءِ عِنْدَهُمْ حَرَكَةٌ. و " الْحَرَكَةُ فِي الْكَمِّ " مِثْلُ امْتِدَادِ الشَّيْءِ مِثْلُ كِبَرِ الْحَيَوَانِ بَعْدَ صِغَرِهِ وَطُولِهِ بَعْدَ قِصَرِهِ وَمِثْلُ امْتِدَادِ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ وَامْتِدَادِ عُرُوقِهِ فِي الْأَرْضِ وَأَغْصَانِهِ فِي الْهَوَاءِ فَهَذَا حَرَكَةٌ فِي الْمِقْدَارِ وَالْكَمِّيَّةِ؛ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ حَرَكَةٌ فِي الصِّفَاتِ وَالْكَيْفِيَّةِ.
وَأَمَّا " الْحَرَكَةُ فِي الْوَضْعِ "؛ فَمِثْلُ دَوَرَانِ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ؛ كَدَوَرَانِ " الْفَلَكِ " و " المنجنون " الَّذِي يُسَمَّى الدُّولَابُ وَكَحَرَكَةِ الرَّحَى وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ؛ بَلْ حَيِّزُهُ وَاحِدٌ لَكِنْ يَخْتَلِفُ فِي أَوْضَاعِهِ فَيَكُونُ الْجُزْءُ مِنْهُ تَارَةً مُحَاذِيًا لِلْجِهَةِ الْعُلْيَا فَيَصِيرُ مُحَاذِيًا لِلْجِهَةِ السُّفْلَى؛ أَوْ لِلْجِهَةِ الْيُمْنَى فَيَصِيرُ مُحَاذِيًا لِلْجِهَةِ الْيُسْرَى. وَهَذَا النَّوْعُ يَقُولُونَ: إنَّ ابْنَ سِينَا زَادَهُ. (وَالرَّابِعُ: الْحَرَكَةُ فِي الْأَيْنِ وَهِيَ الْحَرَكَةُ الْمَكَانِيَّةُ وَهُوَ انْتِقَالُهُ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ. وَأَمَّا عُمُومُ أَهْلِ اللُّغَةِ فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ الْحَرَكَةِ عَلَى جِنْسِ الْفِعْلِ. فَكُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا فَقَدْ تَحَرَّكَ عِنْدَهُمْ؛ وَيُسَمُّونَ أَحْوَالَ النَّفْسِ حَرَكَةً فَيَقُولُونَ: تَحَرَّكَتْ فِيهِ الْمُحِبَّةُ وَتَحَرَّكَتْ فِيهِ الْحَمِيَّةُ وَتَحَرَّكَ غَضَبُهُ وَتُوصَفُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ: فَيُقَالُ: سَكَنَ غَضَبُهُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} فَوَصَفَ الْغَضَبَ بِالسُّكُوتِ وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَمُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ وَعِكْرِمَةَ: (وَلَمَّا سَكَنَ بِالنُّونِ وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ (بِالتَّاءِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: سَكَتَ الْغَضَبُ أَيْ سَكَنَ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ؛ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: سَكَتَ الْغَضَبُ مِثْلُ سَكَنَ؛ فَالسُّكُونُ أَخَصُّ؛ فَكُلُّ
سَاكِتٍ سَاكِنٌ وَلَيْسَ كُلُّ سَاكِنٍ سَاكِتًا وَإِذَا وُصِفَ بِالسُّكُونِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَحَرِّكًا؛ وَهَذَا وَصْفٌ لِلْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ. وَالْأَشْعَرِيُّ قَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَرَكَةَ وَأَنْوَاعَهَا لَا تَخْتَصُّ بِالْأَجْسَامِ بِمَا وُجِدَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِمْ ذَلِكَ فِي الْأَعْرَاضِ؛ قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: جَاءَتْ الْحُمَّى وَجَاءَ الْبَرْدُ وَجَاءَتْ الْعَافِيَةُ وَجَاءَ الشِّتَاءُ وَجَاءَ الْحَرُّ. وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوصَفُ بِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ مِنْ الْأَعْرَاضِ. وَمَجِيءُ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ هُوَ حُدُوثٌ وَتَغَيُّرٌ وَتَحَوُّلٌ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وُصِفَ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ فَإِنَّمَا هُوَ لِتَحَرُّكِ الْمَحَلِّ الْحَامِلِ لِذَلِكَ الْعَرَضِ - وَإِلَّا فَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَلَا يُفَارِقُ مَحَلَّهُ؛ فَإِنَّ الْحُمَّى وَالْحَرَّ وَالْبَرْدَ يَقُومُ بِالْهَوَاءِ الَّذِي يَحْمِلُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ. وَكَذَلِكَ الْغَضَبُ هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ وَهَذَا حَرَكَةُ الدَّمِ؛ فَإِذَا سَكَنَ غَلَيَانُ الدَّمِ سَكَنَ الْغَضَبُ. قِيلَ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ هَذَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ الْأَعْرَاضِ فِي الْمَحَلِّ شَيْئًا فَشَيْئًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ جِسْمٌ يَنْتَقِلُ مَعَهُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَرَكَةِ فِي الْكَيْفِيَّاتِ وَالصِّفَاتِ؛ فَإِنَّ الْمَاءَ إذَا سَخُنَ حَدَثَتْ فِيهِ الْحَرَارَةُ وَسَخَّنَ الْوِعَاءَ الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ جِسْمٍ حَارٍّ إلَيْهِ وَإِذَا وُضِعَ الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ فِي الْمَكَانِ الْبَارِدِ بَرُدَ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ جِسْمٍ بَارِدٍ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ الْحُمَّى حَرَارَةٌ أَوْ بُرُودَةٌ تَقُومُ بِالْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى كُلِّ جُزْءٍ
مِنْ الْبَدَنِ جِسْمٌ حَارٌّ أَوْ بَارِدٌ. وَالْغَضَبُ - وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: إنَّهُ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ فَهُوَ - صِفَةٌ تَقُومُ بِنَفْسِ الْغَضْبَانِ غَيْرُ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَثَرُهُ؛ فَإِنَّ حَرَارَةَ الْغَضَبِ تُسَخِّنُ الدَّمَ حَتَّى يَغْلِيَ. فَإِنَّ مَبْدَأَ الْغَضَبِ مِنْ النَّفْسِ هِيَ الَّتِي تَتَّصِفُ بِهِ أَوَّلًا ثُمَّ يَسْرِي ذَلِكَ إلَى الْجِسْمِ وَكَذَلِكَ الْحُزْنُ وَالْفَرَحُ وَسَائِرُ الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ. وَالْحُزْنُ يُوجِبُ دُخُولَ الدَّمِ؛ وَلِهَذَا يَصْفَرُّ لَوْنُ الْحَزِينِ وَهُوَ مِنْ الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ؛ لَكِنَّ الْحَزِينَ يَسْتَشْعِرُ الْعَجْزَ عَنْ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ الَّذِي أَصَابَهُ وَيَيْأَسُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَيَغُورُ دَمُهُ وَالْغَضْبَانُ يَسْتَشْعِرُ قُدْرَتَهُ عَلَى الدَّفْعِ أَوْ الْمُعَاقَبَةِ؛ فَيَنْبَسِطُ دَمُهُ. وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ الَّتِي تُوصَفُ بِهَا النَّفْسُ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِمَا يُوصَفُ بِهِ الْجِسْمُ قَالَ تَعَالَى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} وَالِاطْمِئْنَانُ هُوَ السُّكُونُ؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اطْمَأَنَّ الرَّجُلُ اطْمِئْنَانًا وَطُمَأْنِينَةً: أَيْ سَكَنَ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} {ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} وَكَذَلِكَ لِلْقُلُوبِ سَكِينَةٌ تُنَاسِبُهَا. قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ} . وَكَذَلِكَ " الرَّيْبُ " حَرَكَةُ النَّفْسِ لِلشَّكِّ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ فَقَالَ لَا يُرِيبُهُ أَحَدٌ} وَيُقَالُ: رَابَنِي مِنْهُ رَيْبٌ و {دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك} وَقَالَ: {الْكَذِبُ رِيبَةٌ وَالصِّدْقُ طُمَأْنِينَةٌ} فَجَعَلَ الطُّمَأْنِينَةَ ضِدَّ الرِّيبَةِ وَكَذَلِكَ الْيَقِينُ ضِدُّ الرَّيْبِ. وَالْيَقِينُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى
الطُّمَأْنِينَةِ وَالسُّكُونِ وَمِنْهُ مَاءٌ يَقَنٌ وَكَذَلِكَ يُقَالُ: انْزَعَجَ. وَأَزْعَجَهُ فَانْزَعَجَ أَيْ أَقْلَقَهُ وَيُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ قَلِقَتْ نَفْسُهُ وَلِمَنْ قَلِقَ بِنَفْسِهِ وَبَدَنِهِ حَتَّى فَارَقَ مَكَانَهُ؛ وَكَذَلِكَ يُقَالُ: قَلِقَتْ نَفْسُهُ؛ وَاضْطَرَبَتْ نَفْسُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَرَكَةِ. وَيُسَمَّى مَا يَأْلَفُهُ جِنْسُ الْإِنْسَانِ وَيُحِبُّهُ سَكَنًا؛ لِأَنَّهُ يَسْكُنُ إلَيْهِ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ يَسْكُنُ إلَى فُلَانٍ وَيَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَيُقَالُ: الْقَلْبُ يَسْكُنُ إلَى فُلَانٍ وَيَطْمَئِنُّ إلَيْهِ إذَا كَانَ مَأْمُونًا مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يُورِثُ الطُّمَأْنِينَةَ وَالسُّكُونَ. وَقَدْ سُمِّيَتْ الزَّوْجَةُ سَكَنًا قَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} وَقَالَ: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا} فَيَسْكُنُ الرَّجُلُ إلَى الْمَرْأَةِ بِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ جَمِيعًا. وَقَدْ يَكُونُ بَدَنُ الشَّخْصِ سَاكِنًا وَنَفْسُهُ مُتَحَرِّكَةً حَرَكَةً قَوِيَّةً وَبِالْعَكْسِ قَدْ يَسْكُنُ قَلْبُهُ وَبَدَنُهُ مُتَحَرِّكٌ. وَالْمُحِبُّ لِلشَّيْءِ الْمُشْتَاقُ إلَيْهِ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُتَحَرِّكٌ إلَيْهِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: الْعِشْقُ حَرَكَةُ نَفْسٍ فَارِغَةٌ. فَالْقُلُوبُ تَتَحَرَّكُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَجُّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَإِنْ كَانَ الْبَدَنُ لَا يَتَحَرَّكُ إلَى فَوْقُ. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} . وَمَعَ هَذَا فَبَدَنُهُ أَسْفَلُ مَا يَكُونُ. فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْحَرَكَةَ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الْمَوْصُوفَاتِ بِذَلِكَ. وَمَا يُوصَفُ بِهِ نَفْسُ الْإِنْسَانِ مِنْ إرَادَةٍ وَمَحَبَّةٍ وَكَرَاهَةٍ وَمَيْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ
كُلُّهَا فِيهَا تَحَوُّلُ النَّفْسِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَعَمَلٌ لِلنَّفْسِ وَذَلِكَ حَرَكَةٌ لَهَا بِحَسَبِهَا؛ وَلِهَذَا يُعَبَّرُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي بِأَلْفَاظِ الْحَرَكَةِ فَيُقَالُ: فُلَانٌ يَهْفُو إلَى فُلَانٍ كَمَا قِيلَ:
يَهْفُو إلَى الْبَانِ مِنْ قَلْبِي نَوَازِعُهُ
…
وَمَا بِي الْبَانُ بَلْ مِنْ دَارَةِ الْبَانِ
وَهَذَا اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ فِي حَرَكَةِ الشَّيْءِ الْخَفِيفِ بِسُرْعَةِ كَمَا يُقَالُ: هَفَا الطَّائِرُ بِجَنَاحِهِ أَيْ خَفَقَ وَطَارَ وَهَفَا الشَّيْءُ فِي الْهَوَاءِ إذَا ذَهَبَ كَالصُّوفَةِ وَنَحْوِهَا (*) وَمَرَّ الظَّبْيُ يَهْفُو أَيْ يَطْفِرُ وَمِنْهُ قِيلَ لِلزَّلَّةِ: هَفْوَةٌ كَمَا سُمِّيَتْ زَلَّةً وَالزَّلَّةُ حَرَكَةٌ خَفِيفَةٌ وَكَذَلِكَ الْهَفْوَةُ. وَكَذَلِكَ يُسَمَّى الْمُحِبُّ الْمُشْتَاقُ الَّذِي صَارَ حُبُّهُ أَقْوَى مِنْ الْعِلَاقَةِ " صَبَا " وَحَالُهُ صَبَابَةٌ وَهُوَ رِقَّةُ الشَّوْقِ وَحَرَارَتُهُ وَالصَّبُّ الْمُحِبُّ الْمُشْتَاقُ وَذَلِكَ لِانْصِبَابِ قَلْبِهِ إلَى الْمَحْبُوبِ كَمَا يَنْصَبُّ الْمَاءُ الْجَارِي وَالْمَاءُ يَنْصَبُّ مِنْ الْجَبَلِ أَيْ يَنْحَدِرُ. فَلَمَّا كَانَ فِي انْحِدَارِهِ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً لَا يَرُدُّهُ شَيْءٌ سُمِّيَتْ حَرَكَةُ الصَّبِّ " صَبَابَةً " وَهَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَحَبَّةِ الْمَحْمُودَةِ وَالْمَذْمُومَةِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: {أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ رضي الله عنه لَمَّا أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سِرِّيَّةٍ بَكَى صَبَابَةً وَشَوْقًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم} . وَالصَّبَابَةُ وَالصَّبُّ مُتَّفِقَانِ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ. وَالْعَرَبُ تُعَاقِبُ بَيْنَ الْحَرْفِ الْمُعْتَلِّ
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 54):
وهذا تصحيف صوابه: (هفا الطائر بجناحه)، (وهفا الشيء في الهواء) والكلام السابق واللاحق كله عن هذا اللفظ.
وَالْحَرْفِ الْمُضَعَّفِ كَمَا يَقُولُونَ: تَقَضَّى الْبَازِي وَتَقَضَّضَ وَصَبَا يَصْبُو: مَعْنَاهُ مَالَ وَسُمِّيَ الصَّبِيُّ صَبِيًّا لِسُرْعَةِ مَيْلِهِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالصَّبِيُّ أَيْضًا مِنْ الشَّوْقِ يُقَالُ مِنْهُ تَصَابَى وَصَبَا يَصْبُو صَبْوَةً وصبوا أَيْ مَالَ إلَى الْجَهْلِ وَالْفُتُوَّةِ وَأَصْبَتْهُ الْجَارِيَةُ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ هَذَا فِي الْمَيْلِ الْمَحْمُودِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} بِلَا هَمْزَةٍ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ فَإِنَّهُ لَا يَهْمِزُ " الصَّابِئِينَ " فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. وَبَعْضُهُمْ قَدْ حَمِدَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَكَذَلِكَ يُقَالُ: حَنَّ إلَيْهِ حَنِينًا؛ وَمِنْهُ حَنَا فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ يَحْنُو عَلَيْهِ حُنُوًّا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: حَنَوْت عَلَيْهِ عَطَفْت عَلَيْهِ وَيَحْنِي عَلَيْهِ أَيْ يَعْطِفُ مِثْلَ تَحَنَّنَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تَحَنَّى عَلَيْك النَّفْسُ مِنْ لَاعِجِ الْهَوَى
…
فَكَيْفَ تَحَنِّيهَا وَأَنْتَ تُهِينُهَا
وَقَالَ: الْحَنِينُ: الشَّوْقُ وَتَوَقَانُ النَّفْسِ وَيُقَالُ حَنَّ إلَيْهِ يَحِنُّ حَنِينًا فَهُوَ حَانٍ وَالْحَنَانُ الرَّحْمَةُ يُقَالُ حَنَّ عَلَيْهِ يَحِنُّ حَنَانًا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} وَالْحَنَّانُ بِالتَّشْدِيدِ: ذُو الرَّحْمَةِ وَتَحَنَّنَ عَلَيْهِ تَرَحَّمَ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: حنانيك يَا رَبِّ وَحَنَانَك بِمَعْنَى وَاحِدٍ أَيْ رَحْمَتَك وَهَذَا كَلَامُ الْجَوْهَرِيِّ.
وَفِي الْأَثَرِ فِي تَفْسِيرِ " الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ ": أَنَّ الْحَنَّانَ هُوَ الَّذِي يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ وَالْمَنَّانَ الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ جِنْسِ الْحَرَكَةِ الْعَامَّةِ وَالْحَرَكَةُ الْعَامَّةُ هِيَ التَّحَوُّلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ؛ وَمِنْهُ قَوْلُنَا: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ "{عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي مُوسَى رضي الله عنه أَلَا أَدُلُّك عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ} . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ؛ فَقَالَ الرَّجُلُ: اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ؛ فَقَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَقَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ} . فَلَفْظُ الْحَوْلِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ تَحَوُّلٍ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَالْقُوَّةُ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى ذَلِكَ التَّحَوُّلِ؛ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الْعَظِيمَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ حَرَكَةٌ وَتَحَوُّلٌ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُفَسِّرُ ذَلِكَ بِمَعْنَى خَاصٍّ فَيَقُولُ: لَا حَوْلَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ إلَّا بِعِصْمَتِهِ. وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَتِهِ إلَّا بِمَعُونَتِهِ. وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ هُوَ التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ
اللَّفْظُ فَإِنَّ الْحَوْلَ لَا يَخْتَصُّ بِالْحَوْلِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَكَذَلِكَ الْقُوَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْقُوَّةِ عَلَى الطَّاعَةِ بَلْ لَفْظُ الْحَوْلِ يَعُمُّ كُلَّ تَحَوُّلٍ. وَمِنْهُ لَفْظُ " الْحِيلَة " وَوَزْنُهَا فِعْلَةٌ بِالْكَسْرِ وَهِيَ النَّوْعُ الْمُخْتَصُّ مِنْ الْحَوْلِ كَمَا يُقَالُ: الْجِلْسَةُ وَالْقِعْدَةُ وَاللِّبْسَةُ وَالْإِكْلَةُ وَالضِّجْعَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ بِالْكَسْرِ هِيَ النَّوْعُ الْخَاصُّ وَهُوَ بِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ. فَالْحِيلَةُ أَصْلُهَا حُولَةٌ لَكِنَّ لَمَّا جَاءَتْ الْوَاوُ السَّاكِنَةُ بَعْدَ كَسْرَةٍ قُلِبَتْ يَاءً كَمَا فِي لَفْظِ مِيزَانٍ وَمِيقَاتٍ وَمِيعَادٍ وَزْنُهُ مفعال؛ وَقِيَاسُهُ موزان وموقات؛ لَكِنْ لَمَّا جَاءَتْ الْوَاوُ السَّاكِنَةُ بَعْدَ كَسْرَةٍ قُلِبَتْ يَاءً قَالَ تَعَالَى: {إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} مِنْ الْحِيَلِ؛ فَإِنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْحِيَلِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْقُوَّةِ " قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} وَلَفْظُ الْقُوَّةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا كَانَ فِي الْقُدْرَةِ أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ؛ فَهُوَ قُدْرَةٌ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ. وَلَفْظُ " الْقُوَّةِ " قَدْ يَعُمُّ الْقُوَّةَ الَّتِي فِي الْجَمَادَاتِ بِخِلَافِ لَفْظِ الْقُدْرَةِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمَنْفِيُّ بِلَفْظِ الْقُوَّةِ أَشْمَلَ وَأَكْمَلَ. فَإِذَا لَمْ تَكُنْ قُوَّةٌ إلَّا بِهِ لَمْ تَكُنْ قُدْرَةٌ إلَّا بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ النَّاسَ مُتَنَازِعُونَ فِي جِنْسِ " الْحَرَكَةِ الْعَامَّةِ " الَّتِي تَتَنَاوَلُ مَا يَقُومُ بِذَاتِ الْمَوْصُوفِ مِنْ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كَالْغَضَبِ وَالرِّضَا وَالْفَرَحِ
وَكَالدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ وَالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ بَلْ وَالْأَفْعَالُ الْمُتَعَدِّيَةُ كَالْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا قَوْلُ مَنْ يَنْفِي ذَلِكَ مُطْلَقًا وَبِكُلِّ مَعْنًى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِالرَّبِّ شَيْءٌ مِنْ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ. فَلَا يَرْضَى عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا عَنْهُ وَلَا يَغْضَبُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ غَضْبَانَ وَلَا يَفْرَحُ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ؛ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ إذَا قِيلَ إنَّ ذَلِكَ قَائِمٌ بِذَاتِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ بِهِ هُمْ " الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ " وَانْتَقَلَ عَنْهُمْ إلَى الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ والسالمية وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: كَأَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَابْنِهِ أَبِي الْفَضْلِ وَابْنِ ابْنِهِ رِزْقِ اللَّهِ؛ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ؛ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد - وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَتَنَاقَضُ كَلَامُهُ - وَكَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَكَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَكَأَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِي وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. (وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إثْبَاتُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ صَرَّحُوا بِلَفْظِ الْحَرَكَةِ. وَأَمَّا الَّذِينَ أَثْبَتُوهَا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ حَتَّى يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ قِيَامُ الْأُمُورِ وَالْأَفْعَالِ
الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ؛ فَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ غَيْرِ هَؤُلَاءِ: كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْخَطِيبِ الرَّازِي وَغَيْرِهِ مِنْ النُّظَّارِ وَذَكَرَ طَائِفَةٌ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَازِمٌ لِجَمِيعِ الطَّوَائِفِ. وَذَكَرَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي إثْبَاتَ لَفْظِ الْحَرَكَةِ فِي كِتَابٍ نَقَضَهُ عَلَى بِشْرٍ المريسي وَنَصَرَهُ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَذَكَرَهُ حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الكرماني: لَمَّا ذَكَرَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْأَثَرِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ قَاطِبَةً وَذَكَرَ مِمَّنْ لَقِيَ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ: أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْه؛ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ الحميدي وَسَعِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَغَيْرِهِ. وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ يَقُولُ: الْمَعْنَى صَحِيحٌ لَكِنْ لَا يُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ لِعَدَمِ مَجِيءِ الْأَثَرِ بِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى حَدِيثِ النُّزُولِ. وَالْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عَنْ السَّلَفِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّهُ يَأْتِي وَيَنْزِلُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ. قَالَ " أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي ": أَجْمَعُوا - يَعْنِي أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - عَلَى أَنَّ
اللَّهَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا صَفًّا لِحِسَابِ الْأُمَمِ وَعَرْضِهَا كَمَا يَشَاءُ وَكَيْفَ يَشَاءُ قَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} . قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا عَلَى مَا أَتَتْ بِهِ الْآثَارُ كَيْفَ شَاءَ لَا يَحُدُّونَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَضَّاحٍ قَالَ: وَسَأَلْت يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ عَنْ النُّزُولِ فَقَالَ نَعَمْ. أُقِرُّ بِهِ وَلَا أَحُدُّ فِيهِ حَدًّا. (وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ الْإِمْسَاكُ عَنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ - كَابْنِ بَطَّةَ وَغَيْرِهِ. وَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مَنْ يُعْرِضُ بِقَلْبِهِ عَنْ تَقْدِيرِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمِيلُ بِقَلْبِهِ إلَى أَحَدِهِمَا وَلَكِنْ لَا يَتَكَلَّمُ لَا بِنَفْيٍ وَلَا بِإِثْبَاتِ. وَاَلَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ مَا يَصِفُ بِهِ نَفْسَهُ. فَمَنْ وَصَفَهُ بِمِثْلِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ مُخْطِئٌ قَطْعًا كَمَنْ قَالَ إنَّهُ يَنْزِلُ فَيَتَحَرَّكُ وَيَنْتَقِلُ كَمَا يَنْزِلُ الْإِنْسَانُ مِنْ السَّطْحِ إلَى أَسْفَلِ الدَّارِ كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ؛ فَيَكُونُ نُزُولُهُ تَفْرِيغًا لِمَكَانِ وَشَغْلًا لِآخَرَ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقُومُ عَلَى نَفْيِهِ وَتَنْزِيهِ الرَّبِّ عَنْهُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أَخْبَرَ أَنَّهُ الْأَعْلَى وَقَالَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . فَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْعُلُوِّ لَا يَقْتَضِي عُلُوَّ ذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ؛ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَرْشِ. وَحِينَئِذٍ فَلَفْظُ النُّزُولِ وَنَحْوِهِ يُتَأَوَّلُ قَطْعًا إذْ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يُتَصَوَّر مِنْهُ النُّزُولُ. وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْعُلُوِّ يَقْتَضِي عُلُوَّ ذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْأَعْلَى مَنْ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. فَلَوْ صَارَ تَحْتَ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ لَكَانَ بَعْضُ مَخْلُوقَاتِهِ أَعْلَى مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ الْأَعْلَى وَهَذَا خِلَافُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. وَأَيْضًا فَقَدْ أَخْبَرَ: أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ اسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ؛ لَمْ يَكُنْ الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومًا وَجَازَ حِينَئِذٍ أَلَّا يَكُونَ فَوْقَ الْعَرْشِ شَيْءٌ؛ فَيَلْزَمُ تَأْوِيلُ النُّزُولِ وَغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ فَيَلْزَمُ اسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَيْهِ لَمَّا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عِنْدَ إنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ بِأُلُوفِ مِنْ السِّنِينَ وَدَلَّ
كَلَامُهُ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . وَفِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ كَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرِهِمَا لَمَّا مَرَّتْ سَحَابَةٌ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: السَّحَابُ قَالُوا: السَّحَابُ قَالَ: وَالْمُزْنُ: قَالُوا: وَالْمُزْنُ وَذَكَرَ السَّمَوَاتِ وَعَدَدَهَا وَكَمْ بَيْنَ كُلِّ سماءين ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} . وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: {أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَهِدَتْ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَهَلَكَتْ الْأَمْوَالُ وَهَلَكَتْ الْأَنْعَامُ؛ فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيْحَك أَتَدْرِي مَا تَقُولُ وَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ: وَيْحَك أَتَدْرِي مَا اللَّهُ؟ إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ وَعَرْشُهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ مِثْلُ الْقُبَّةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ} .
وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ فِي تِلْكَ الْحَالِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا أَيْنَمَا كُنَّا. وَكَوْنُهُ مَعَنَا أَمْرٌ خَاصٌّ؛ فَكَذَلِكَ كَوْنُهُ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ النُّصُوصِ تُبَيِّنُ وَصْفَهُ بِالْعُلُوِّ عَلَى عَرْشِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ عَالِيًا عَلَى عَرْشِهِ. فَلَوْ كَانَ فِي نِصْفِ الزَّمَانِ أَوْ كُلِّهِ تَحْتَ الْعَرْشِ أَوْ تَحْتَ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لَكَانَ هَذَا مُنَاقِضًا لِذَلِكَ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ {عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ؛ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ} وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَكَوْنُهُ الظَّاهِرُ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهُ مِثْلَ كَوْنِهِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ وَكَذَلِكَ الْبَاطِنُ فَلَا يَزَالُ ظَاهِرًا لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَلَا يَزَالُ بَاطِنًا لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ. وَأَيْضًا فَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وقتادة الْمَذْكُورُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ " الْأَسْمَاءِ الْأَرْبَعَةِ " الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الْإِدْلَاءِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِحَاطَةِ " وَهُوَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَزَالُ عَالِيًا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ ظُهُورِهِ وَبُطُونِهِ وَفِي حَالِ نُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا.
وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فَمَنْ هَذِهِ عَظَمَتُهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُرَهُ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَعَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهَا وَتَلَقِّيهَا.اهـ
(*) آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْخَامِسِ