المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مختصر المغالطات المنطقية لعادل مصطفى   اختصره د. مرضي بن مشوح العنزي الأستاذ المشارك في الفقه - مختصر «المغالطات المنطقية»

[مرضي العنزي]

فهرس الكتاب

مختصر

المغالطات المنطقية

لعادل مصطفى

اختصره

د. مرضي بن مشوح العنزي

الأستاذ المشارك في الفقه المقارن بجامعة الحدود الشمالية

دار الحضارة للنشر والتوزيع - الرياض- السعودية

الطبعة الثانية، 1443 هـ - 2022 م

ص: 1

‌المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فالذي يتابع بعض المناظرات ويقرأ في بعض الكتب، ويستمع لبعض المحاضرات والندوات يجد مغالطات منطقية كثيرة، ولا شك أن لهذه المغالطات تأثيرًا على الكاتب والمتحدث والقارئ والمستمع، ومن ثمّ لها تأثير على المجتمع وعلى الأجيال القادمة في الفهم، وفي توصيل العلم لغيرهم، وقد كتب علماء الإسلام قديمًا عن الجدل وأدواته وآدابه كتبًا مستقلة، أو فصولًا في كتب أصول الفقه، إلا أن تخصيص الكتابة في الجانب السلبي منها وهي المغالطات المنطقية حديث، والكتب فيها قليلة خصوصًا في المكتبات الإسلامية، ومن أميز الكتب في ذلك كتاب:"المغالطات المنطقية" لعادل

ص: 5

مصطفى، وقد يسر الله لي قراءته فأعجبني فأحببت أن أجعل فيه مختصرًا أعيد قراءته مرة بعد أخرى، فكتبت هذا المختصر، وقد حذفت بعض التوسع في الشرح أو الاستطراد في بعض المواضع أو بعض الأمثلة واكتفيت من القلادة بما أحاط بالعنق، ولم أتصرف بالعبارة إلا في مواطن قليلة، ثم تكلمت عن هذا المختصر مع بعض الدكاترة فطلبوه مني، وأشار علي بعضهم بنشره لما له من فائدة، خصوصًا للشباب المسلم المعاصر؛ فأرسلت رسالة لمؤلفه عبر البريد الإلكتروني أستأذنه بطبعه؛ نصها:"أخي القدير/ عادل مصطفى -وفقه الله لكل خير ورضي عنه- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: أفيد سعادتكم أن الله يسر لي قراءة كتابكم الرائع المغالطات المنطقية، فأعجبني كثيرًا، ومن جماله أعددت لنفسي مختصرًا به، كي أقوم بالرجوع له من فترة لأخرى، وقد طلب مني بعض الدكاترة نشر هذا المختصر على شكل كتاب مطبوع، فأحببت أخذ الإذن منكم، مع الإشارة إلى أن هذا الكتاب لك وأن عملي هو الاختصار فقط، وقد كتبت ذلك في الغلاف، وفي المقدمة بعد الدعاء لك بالتوفيق والبركة وقد أرفقت لك نسخة من هذا المختصر والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. "،

ص: 6

فأجاب سريعًا بالتالي: "انشرْ كتابَك على بركة الله. وتَصَرَّف فيه كما تشاء. ولك مني كل التقدير والشكر، وأخلص الدعوات بالتوفيق في كل ما تصبو إليه، عادل مصطفى".

وبعد هذا الإذن المكتسي بجمال الأسلوب أهديك أخي القارئ الكريم هذا المختصر وهو لا يغني عن الرجوع للكتاب والاستزادة منه، وإن كان يكفي في فهم هذه المغالطات المنطقية، وأردد مع الشاعر قوله:

ليست خلاصةُ كلِّ شيءٍ غنيةً عنهُ وإن كانت خلاصةَ ماهرِ

فالشهد وهو خلاصة الأزهار لا يغني العيون عن الربيع الزاهرِ

كتب الله الأجر للمؤلِف وجزاه خيرًا على ما قدم، وكتب الله القبول لهذا المُختصر، ونفع به، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

د. مرضي بن مشوح العنزي

إيميل/ Murdi 100@hotmail.com

جوال/ 00966503380332

ص: 7

"كم يكون رائعًا لو أمكننا أن نقيض لكل خدعة جدلية اسمًا مختصرًا وبين الملاءمة، بحيث يتسنى لنا كلما ارتكب أحدٌ هذه الخدعة المعينة أو تلك أن نوبخه عليها للتو واللحظة"

آرثر شوبنهاور

دفعني إلى كتابة هذه الفصول ما أشاهده كل يوم في الفضائيات التليفزيونية ووسائل الإعلام الأخرى من أغلاط أساسية في منطق الحوار والجدل، تجعل المناقشات غير مجدية من الأصل، وتجعلها عقيمة أو مجهضة منذ البداية؛ فلم أجد بدًا من العودة بالقارئ إلى أصول الحوار المثمر وقواعد الجدل الصحيح، التي أصبحت الآن مبحثًا قائمًا بذاته هو:" المنطق غير الصوري"، أو المنطق العملي.

ص: 9

‌ما المنطق غير الصوري؟

المنطق غير الصوري هو استخدام المنطق في تعرف الحجج، وتحليلها وتقييمها، كما ترد في سياقات الحديث العادي ومداولات الحياة اليومية.

‌أهمية الإلمام بالمنطق غير الصوري

يقول أفلاطون في محاورة جورجياس: "في جدال حول الغذاء يدور أمام جمهور من الأطفال، فإن الحلواني كفيل بأن يهزم الطبيب. وفي جدال أمام جمهور من الكبار، فإن سياسيًا تسلح بالقدرة الخطابية وحيل الإقناع كفيل بأن يهزم أي مهندس أو عسكري حتى لو كان موضوع الجدال هو من تخصص هذين الآخرين، وليكن تشييد الحصون أو الثغور! إن دغدغة عواطف الجمهور ورغباته لأشد إقناعًا من أي احتكام إلى العقل".

ليس بالحق وحده تكسب جدلًا أو تقهر خصمًا أو تقنع الناس، من هنا يتبين لنا أهمية دراسة الحجة، ونحن في مجال المنطق غير الصوري إنما ينصب جهدنا على هذه الطبقة الكثيفة التي تغلف اللب الصوري للحجة نتلمَّسها ونتناولها بالتحليل والتفتيت وننفذ منها إلى ذلك اللب الصوري المفترض. في مجال المغالطات على سبيل المثال: طالب

ص: 10

جامعي يبكي عند الأستاذ ليحصل على درجة A، فيقول: إنه لمن دواعي البؤس والجزع ألا أحصل على درجة A (مقدمة)، إن عليك ألا ترمي بي في حضيض البؤس والجزع (مقدمة)، عليك إذًا أن تمنحني درجة A (نتيجة).

لا يخفى على القارئ أن المقدمة الثانية فيها نظر، فالأستاذ بعد كل شيء يعمل بمرفق التعليم العالي، وليس بمرفق الشؤون الاجتماعية، إن عليه أن يعين الطالب ويدعمه بأن يقرب إليه مادته العلمية ويذلل قطفها، وليس بأي طريق آخر، والحجة ثم تندرج في مغالطة "الاحتكام إلى الشفقة".

‌أهمية دراسة المغالطات المنطقية

التعريف التقليدي للمغالطات هو: "تلك الأنماط من الحجج الباطلة التي تتخذ مظهر الحجج الصحيحة"، ولعل الأصوب أن نقول إنها أنماط شائعة من الحجج الباطلة التي يمكن كشفها في عملية تقويم الاستدلال غير الصوري.

يقول مالبراش: "لا يكفي أن يقال إن العقل قاصر، بل لابد من إشعاره بما هو عليه من قصور، ولا يكفي أن يقال إنه عرضة للخطأ، بل يجب أن نكشف عن حقيقة هذا الخطأ".

ص: 11

فلا يكفي من أجل تمييز الحق أن نكتفي بتبيين شروطه فقط، بل لا بد من أن نبين أين يكون الغلط حتى يظهر الحق أجلى وأوضح، فالنور يكون أجلى بجوار الظلمة منه لو أخذ وسط فيض آخر من النور، ويؤثر عن الإمام الشافعي:"مثل من يطلب العلم جزافًا كمثل حاطب ليل يقطع حزمة حطب فيحملها، ولعل فيها أفعى تلدغه وهو لا يدري".

يقول شوبنهاور: يتوجب على من يدخل في مناظرة أن يعرف ما هي حيل الخداع، ذلك أن من المحتم عليه أن يصادفها ويتعامل معها". عليك إذًا أن تلم إلمامًا جيدًا بالمغالطات المنطقية كي تتجنب الطرق المسدودة في الحوار، وتظهر خصمك على الخطأ الاستدلالي الذي ارتكبه، دون أن تعلوك سيماء التعالم والتكلف والحذلقة.

ص: 12

‌التفكير النقدي مرحلة متقدمة من النمو المعرفي

يقسم جان بياجيه مراحل النمو المعرفي للإنسان إلى أربع مراحل:

الأولى: هي المرحلة الحسية الحركية (من الولادة إلى سنتين)؛ حيث لا توجد بناءات ذهنية.

الثانية: هي مرحلة ما قبل العمليات (من سنتين إلى سبع سنين) وفيها يكتسب الطفل اللغة، ويكون بناءات ذهنية أكثر تعقيدًا- وإن تكن قبل منطقية-، ولا يزال فيها غير قادر على الانفصال من ذاته ورؤية الأشياء من منظور مختلف.

الثالثة: هي مرحلة تفكير العمليات العيانية (من سبع سنوات وحتى المراهقة) وفيها يتخذ منظورات مغايرة، ويبدأ في التساؤل عن الحياة، ويحل المشكلات ولكن بشكل عشوائي، إنها عمليات منطقية، ولكنها لا تزال لصيقة بالعالم المادي العياني.

ص: 13

الرابعة: هي مرحلة العمليات الصورية، وفيها تواتيه القدرة على التفكير المنطقي المعقد، والتفكير التجريدي غير المرتبط بالأشياء المادية، والتفكير الافتراضي، والحل المنطقي للمشكلات.

ويقترح بعض المنظرين إضافة مرحلة خامسة أرقى من هذه المراحل الأربع؛ وهي مرحلة التفكير الجدلي، -وهي مرحلة بعد منطقية-، وفيها يكتسب المرء التفكير النقدي، ويدرك مفارقات الحياة، ويتناول الأسس التحتية التي يقوم عليها المنطق ويحللها ويضعها موضع التساؤل والنقد، وهي مرحلة غير عمومية وغير بيولوجية ولا يبلغها المرء إلا بالتعلم والتدريب والممارسة.

يتألف التفكير النقدي من ثلاث مراحل:

1 -

الوعي بوجود افتراضات أساسية.

2 -

التصريح بهذه الافتراضات وإخراجها إلى واضحة النهار.

3 -

تسليط أضواء النقد على هذه الافتراضات، هل هي ذات معنى؟ هل تنسجم مع

الواقع كما نفهمه ونعيشه؟ متى تصح هذه الافتراضات ومتى تبطل؟

ص: 14

• في غياب التفكير النقدي نكون رهائن للمؤثرات المحيطة، فلا يسعنا إلا أن نكرر تكرارًا أعمى تلك الاستجابات التي تعلمناها من قبل، ولا يسعنا إلا أن نقبل قبولًا أعمى كل رأي يصدر عن "سلطة" سياسية أو تجارية أو غيرها.

• إن التفكير النقدي والعلمي ليس شيئًا فطريًا نأتيه بالطبيعة ونعرفه بالسليقة، إنما هو عمل حرفي يتطلب حذقًا ومهارة.

• ونحن إذ نمارس التفكير النقدي والعلمي فإنما نمضي ضد مقاومة شديدة ونسبح ضد تيار عارم من التحيزات المتأصلة والأوهام الجبلية، ونتجشم اجتياز العديد من العوائق الطبيعية التي تحول بيننا وبين التفكير الواضح؛ فنحن بطبيعتنا لا نتحمل الغموض ولا نطيق معايشة السر، وإن بنا نزوعًا طبيعيًا إلى طلب اليقين حيث لا يقين، والتماس الإجابات البسيطة عن الأسئلة المعقدة، وشغفًا بالدعاوى العريضة و"نظريات كل شيء" محمولة على ظهر بينة ضامرة هزيلة، وميلًا إلى الأخذ بالفرضيات التي ترضي رغائبنا وتدغدغ أمانينا، والالتفات إلى أضغاث من الأمثلة التي تؤيد فرضيتنا وغض الطرف عن تلال من الأمثلة المفندة، وإلى تذكر الرميات الصائبة وتناسي الرميات

ص: 15

الخائبة، وإلى أخذ الاستعارات التوضيحية والتشبيهات المقربة مأخذ الدليل، وإلى الانضواء مع القطيع والتلفع بالرايات والانضمام إلى "الزفة"، وإلى قتل الرسل بدلًا من تفنيد الرسالة، وإلى التخلص من عبء البرهان وإلقائه على عاتق الخصم، وإلى الاستدلالات الدائرية وتحصيلات الحاصل، وإلى التعويل الزائد على السلطة والانبهار الزائد بالمشاهير، وإلى التعميم الكاسح المتسرع،

إلى آخر تلك الأغاليط التي نغرق فيها إلى الأذقان، والتي يتناولها هذا الكتاب بالتحليل والدرس.

• يمضي التفكير النقدي ضد هذه المقاومات الشرسة، فيحتاج إلى طاقة نفسية كبيرة، غير مقصورة على الذكاء الذهني المحض

يحتاج إلى شيء من الذكاء الانفعالي: إلى التسامح، والتعاطف، والمواجدة: أي القدرة على أن يضع المرء نفسه موضع الآخر، ويرى الأمور من وجهة نظر الآخر، ويتخذ الإطار المرجعي للآخر، القدرة على اكتشاف "ماذا يشبه أن يكون" أن يعتقد المرء تلك الأفكار التي يضعها موضع التساؤل قبل أن يقوم بتقويضها

إنها رحلة طويلة شاقة، ليس لها خرائط محددة، غير أننا لا نعدم بعض المبادئ المرشدة:

ص: 16

- فكر بنفسك لنفسك، ولا تكل إلى غيرك أن يفهم نيابة عنك؛ لأن التقدم في التفكير النقدي لا يتم إلا كرحلة فردية وكدح شخصي.

- اكتسب القدرة على الانفصال عن رأيك، وموضعته، ووضعه على محك التحليل والنقد، مثلما نفعل مع آراء الغير.

- لا تصدق كل ما تسمع، ونصف ما ترى! ولا تبخل بجهد من أجل الخروج من "مركزية العرق" من كهف الآراء الشائعة في عرف جماعتنا الإثنية، والتمييز بين حقائق العالم وبين مجرد المسايرة لما تصادف أن يكون رأي الأسلاف أو اتفق أن يكون هو الرأي السائد في مسقط رأسنا وزمان وجودنا.

- كن على استعداد من حيث المبدأ للتخلي عن رأيك إذا ما تبين خطؤه. أسأل سؤالا حقيقيا، سؤال من يبحث عن الحق لا مجرد تبرير لما يعتقده سلفًا.

- تعلم كيف تسل الافتراضات التي تتبطن الرأي، وتضعها تحت أضواء النقد. ليكن ولعك بالأسس، وانتحاؤك إلى الأسس.

ص: 17

- لا تسقط رغباتك على الأشياء ولا تجعل من أمنياتك معيارًا للحق، فأكبر الظن أن العالم لم يخلق من أجلها ولم يفصل على مقاسها.

- خذ البلاغة ولا تؤخذ بها، وفرق دائما بين الخطابة والبرهان، ولا يخبلك زخرف القول عن جوهر الحجة، ولا تقف عند التشبيه البليغ وتظنه المحطة النهائية وتأخذه مأخذ الدليل.

- لا تجعل من درجة حرارة الاعتقاد معيارًا لصوابه؛ فكثيرًا ما تتناسب قوة هذا الانفعال عكسيًا مع قوة البينة، بحيث يمكننا تعريف" التحيز اللامعقول" بأنه ما يجلب الغضب عند مساءلته، ويمكننا أن نحدد مكمن تحيزاتنا بأن نلاحظ متى أخرجتنا الآراء الأخرى عن طورنا وأثارت غضبنا.

- مهما بلغ نضجك في التفكير النقدي ستظل بحاجة أبدًا إلى تحصيل العلم واكتساب المادة المعرفية التي تعمل فيها فكرك النقدي.

- تعوّد لذة التساؤل؛ الأجوبة تنقلك وتطفئك وتجمدك، وحدها الأسئلة ما يشوقك ويهزك ويحدوك.

ص: 18

‌الفصل الأول

المصادرة على المطلوب

المصادرة على المطلوب: وضع القضية التي تريد البرهنة عليها في إحدى مقدمات الاستدلال بشكل صريح أو ضمني، وأنت بذلك تجعل النتيجة مقدمة، وتجعل المشكلة حلًا، وتجعل الدعوى دليلًا، وهو ضرب من الحجة الدائرية، كقولك الإنسان بشر، وكل بشر ضحاك، ينتج أن الإنسان ضحاك، فالكبرى ههنا والمطلوب شيء واحد.

من أبسط صور المصادرة على المطلوب وأكثرها شيوعًا أن تجعل المقدمة صيغة أخرى من النتيجة المراد البرهنة عليها، مثل:

-تستلزم العدالة أجورًا مرتفعة؛ وذلك لأن من الحق والصواب أن يكون الناس أقدر على الكسب الوفير. (وهي لا تعدو أن تقول إن العدالة تتطلب زيادة الأجور؛ لأن العدالة تتطلب زيادة الأجور).

ص: 19

- يجب إلغاء المواد غير المفيدة كاللغة الإنجليزية من مقررات الكلية؛ وذلك لأن إنفاق اعتمادات لمادة غير مفيدة للطالب هو شيء لا يقره أحد. (لاحظ: أن الحجة هنا لم تثبت لنا أن الإنجليزية مادة غير مفيدة، وهو لب المسألة، وكل ما فعلته هو أن "صادرت على المطلوب"، وكررت النتيجة في المقدمات، دون التفات إلى المقدمة المحذوفة).

*قد يبدو للقارئ المبتدئ أن المصادرة على المطلوب هي مغالطة واضحة للعيان سهلة الانكشاف وليست بحاجة إلى دراسة وتحليل يختلق صعوبة حيث لا صعوبة، غير أن الأمر ليس دائمًا ببساطة الأمثلة السابقة.

* من العسير حقًا أن تصوغ حججًا منتجة لميول إيديولوجية أو التزامات انفعالية.

* ليس من المستغرب أن تكون أحفل الحجج بالمصادرة على المطلوب هي الحجج الإيديولوجية والأخلاقية، ذلك أن هذه الحجج تكون موجهة غالبًا إلى الشكاك، وأنها تتناول مجالات تفتقر بطبعها إلى قضايا وقائعية يلمسها الجميع.

* كثيرًا ما تكون الألفاظ المستخدمة في هذه الحجج هي ألفاظ مشحونة تختزن داخلها افتراضات خفية ونظريات بتمامها

ص: 20

(مثل: رجعي، انتحاري، استشهادي، ضحية، اضطهاد، إرهاب) وكأنها مصادرات جاهزة للاستعمال الفوري.

مثال: التجارة الحرة سوف تكون خيرًا لهذا البلد، والسبب في ذلك واضح للغاية؛ أليس من الواضح أن العلاقات التجارية غير المقيدة سوف تغدق على هذا البلد كل ألوان المنافع التي تنجم عندما لا تكون ثمة عوائق تعترض تدفق البضائع فيما بين بلدان العالم؟

لا يعدو الأمر هنا أيضًا أن يكون إعادة صياغة أو تكرارا للعبارة نفسها بألفاظ أخرى (لاحظ أن العلاقات التجارية غير المقيدة هو تعبير مطول بعض الشيء عن التجارة الحرة، وأن بقية العبارة هو تعبير مطول أكثر عن قولك: خير لهذا البلد)

*هناك أحوال أخرى فيها لا يفترض مباشرة صحة المطلوب معبرًا عنه في المقدمات بطريقة أخرى، وأما الذي يفترض هو شيء تتوقف صحته على صحة النتيجة، أي لا يمكن البرهنة عليه إلا بالنتيجة فيكون هنا حينئذ دور ويسمى بالاستدلال الدائري، وتقول القاعدة:"الأصل في البرهان أن يكون أوضح وأوثق معرفة مما يراد البرهنة عليه"، فالحجة الدائرية ليست مغالطة بالضرورة، وإنما يتوقف الأمر على

ص: 21

السياق الحواري للحجة وعلى الالتزامات الاعتقادية لدى المتحاورين، فإذا لم يتغير شيء في درجة الثقة التي يكنها الخصم في النتيجة المعنية (المسألة المطلوب اثباتها) يكون هذا الاستدلال مغالطة منطقية، فلو قلت لرجل غير مؤمن بالقرآن:

- سيظل القرآن محفوظًا إلى يوم القيامة من كل تصحيف وتحريف، والدليل قول الله تعالى في القرآن الكريم:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجر: 9]، لانطوت هذه الحجة على مصادرة على المطلوب؛ لأن المتلقي ليس لديه التزام عقائدي بالقرآن ومن ثم فالدليل لا يضمن عنده أن يبقى القرآن محفوظًا بما فيه الآية المستدل بها.

وهذه الحجة بحذافيرها لو وردت على رجل مؤمن بالقرآن لقامت الحجة بوظيفتها البرهانية وكانت حجة صائبة مئة بالمئة وبريئة من أي مصادرة على المطلوب.

هكذا تتجلى أهمية أن يتقن الداعية منطق الجدل وألا يغفل لحظة هوية المخاطب والتزاماته الاعتقادية المبدئية، وأن يتجنب تأييد المذهب "من داخله"(المصادرة على المطلوب)، ويلتزم دائما بالحجج التي تؤيد المذهب "من خارجه".

ص: 22

*من شأن الحجة السديدة لإثبات دعوى معينة أن تقدم دليلًا مستقلًا لتبرير الاعتقاد بهذه الدعوى، وأن تتجنب الاعتماد على الدعوى، أو شطر الدعوى لإثبات ذاتها، وما يكون لعاقل أن يفترض كدليل أو بينة ذات الشيء الذي يحاول أن يثبته، غير أننا كثيرًا ما يجرفنا الانفعال الإيديولوجي والالتزام بصدق مذهبنا السياسي أو الأخلاقي ويعصب أعيننا عن رؤية أننا في حقيقة الأمر نفترض مقدمًا صدق ما نريد أن نبرهن عنه، ولذلك تجد المصادرة على المطلوب مرتعا خصيبًا لها في مثل هذه المجالات.

ص: 23

‌الفصل الثاني

مغالطة المنشأ

وإن تكن تغلب الغلباء عنصرها

فإن في الخمر معنى ليس في العنب

مغالطة المنشأ هي قبول الفكرة أو رفضها بحسب أصلها ومنشأها، فبالإنسان ولع متأصل بمعرفة مصدر الحجة، وقلما يولي الناس ثقتهم بآراء جاءت من مصدر يمقتونه، بغض النظر عن المزايا الفعلية لهذه الآراء.

*تولد الفكرة، وتنهض على أرجلها، تتوكأ على ذاتها، وتغادر بيتها، ولا تعود تسقط بسقوطه، أو تنجرح بانجراحه. فقوة الفكرة لا تكمن في الأصل التي ينميها بل في المنطق الذي يزكيها، وصواب الفكرة لا يحدده مصدرها الذي منه أتت بل الدليل الذي إليه تستند.

مثل:

-إن مستشار ألمانيا الحالي كان طفلًا في الثالثة عندما كان

ص: 24

هتلر في السلطة؛ وبالنظر إلى هذه الخلفية، فإن خطة الإصلاح التي يقدمها ستكون برنامجًا نازيًا بالضرورة.

-كيف تسمح لنفسك أن تتخذ خاتم الزواج وأنت تعلم أن هذا الرمز يعود إلى أصول بدائية همجية، عندما كانت المرأة تسلسل من أعقابها بعقال، كالدواب المملوكة، حتى لا تفر من زوجها؟.

*في مجال الفن حين نتجه باهتمامنا كله إلى حياة الفنان وشخصيته وسيرته الذاتية، ونظن أننا بذلك نقارب العمل مقاربة فنية جمالية، بينما نحن نبتعد عن عالم الفن بقدر ما ندخل في عالم الفنان الشخصي ومفردات حياته، فالذي يهم هو العمل ذاته لا تاريخ العمل وظروف نشأته.

*حين نفهم المغالطة المنشئية يصبح كلامنا وتفكيرنا أشد حذرًا ودقة.

* ليس هناك أدنى شك في أن العوامل الاجتماعية والنفسية ضالعة في نشأة الأفكار والمذاهب، وأن فهم هذه العوامل هو شرط لا بد منه لفهم هذه المذاهب وتقييمها، غير أن الاقتصار على تقييم الأفكار وفقًا للظروف الاجتماعية التي اكتنفتها

ص: 25

والدافع السيكولوجية التي أوقدتها، والاكتفاء بتحليل هذه الدوافع كبديل عن تناول هذه الحجج ذاتها يعد سقوطًا مزريًا في المغالطة المنشئية.

* حين تجلس مع أدعياء الثقافة فتقول هكذا قال رولان بارت أو جاك دريدا أو هكذا يذهب تيار ما بعد الحداثة يحظى قولك بالإكبار والإعجاب، كذلك حين تأتي تزكية الفكرة أو العمل من مصدر ذي مكانة واعتبار فلا تُدرك وجاهتها إلا من وجاهة المصدر، كأنما تستعير الهيبة والجدارة منه، يذكر عن طاغور عندما أسندت له جائزة نوبل تنادى قومه لتكريمه والاحتفال به، فقال في شيء من الاستهانة والازدراء:"إنهم يكرمون التكريم"، أي إنهم لم يفطنوا لقيمته من قبل حتى جاءت جائزة نوبل.

مثل:

-هذا معرض للحكومة لأنه عانى من طفولته من علاقات متعسرة مع والديه أدت به إلى صعوبة في تقبل السلطة، وفي تقبل كل "صورة والدية".

*مهما تكن أوضاع الخصم فلن تعدم أن تقيض له دوافع سيكولوجية تُوظف لتقويض فكرته.

ص: 26

‌الفصل الثالث

التعميم المتسرع

"ولا تشيد صرحًا من الأوهام المزعجة على أساس

غير متين من ملاحظاته الناقصة"

التعميم هو استخلاص نتيجة حول جميع الأعضاء في مجموعة من خلال ملاحظات عن بعض أعضاء هذه المجموعة.

أمثلة:

-كلما شاهدت الأخبار في هذه القناة الفضائية وجدت زنوجًا يجري القبض عليهم لجرائم السرقة، إذن جميع الزنوج، أو معظمهم، لصوص.

-سمعت من هذه المرأة ثلاث مرات، وتبين لي في كل مرة أن مزاجنا مؤتلف وذوقنا متفق في كل شيء، إذن هذه أصلح امرأة في العالم لأن تكون زوجة لي.

ص: 27

-ما كدت أخطو خطوتين في مطار لندن حتى وجدت موظف الجمارك ودودًا، وعندما خرجت وجدت سائق الأجرة مبتسمًا، فعرفت أن الإنجليز شعب طيب.

*حين يسمح المرء لعقله أن يشيد تعميمات عريضة على أساس معلومات شحيحة أو أدلة هزيلة أو أمثلة قليلة أو عينة غير ممثلة فلن يعييه أن يقيض أدلة لكل شيء ويجد بينة لأي دعوى مهما بلغت من البطلان والسخف، ولن يعجزه أن يؤيد أي شيء يميل إلى الاعتقاد به مادام يعنيه الاعتقاد ولا تعنيه الحقيقة.

* الحق أننا مضطرون إلى التعميم في حياتنا العملية، ولا يسعنا إلا التعميم إذا شئنا أن نفكر في أي شيء أو نتخذ أي قرار، ويبقى أن نتبع الأسلوب العلمي في استخلاص التعميمات، وأن نتجنب التعميم المتسرع جهد استطاعتنا، وأن نملك تعميماتنا ولا تملكنا، أي أن نجعل منها مجرد فروض عمل قابلة للمراجعة والتنقيح لا اعتقادًا صلبًا يسد علينا سبل التأمل ومنافذ التفكير.

ص: 28

‌الفصل الرابع

تجاهل المطلوب (الحيد عن المسألة)

إذا كان الرماة رماة سوء

أحلوا غير مرماها السهاما

في هذه المغالطة يتجاهل المرء الشيء الذي يتوجب أن يبرهن عليه، ويبرهن على شيء آخر، وقد يبدو استدلاله معقولًا بحد ذاته، ولكن المغالطة هنا في أنه يبرهن على شيء آخر غير النتيجة المطلوبة التي يتعين عليها أن ينصرف إليها دون غيرها.

مثل: أن يقف محامي الادعاء في جريمة قتل، وبدلًا من أن يبرهن بالحجة على أن المتهم هو مرتكبها يشرع في إثبات بشاعة القتل وبشاعة الجريمة.

*نصدق على أهداف عامة كمكافحة الفقر والجريمة، ولكن السؤال الصعب هل هذا البرنامج المحدد حقيق ببلوغ هذا الهدف المنشود؟

ص: 29

‌الفصل الخامس

الرنجة الحمراء

هي حيلة كان يستخدمها المجرمون الفارون لتضليل كلاب الحراسة التي تتعقبهم، وذلك بسحب سمكة رنجة حمراء عبر مسار المطاردة، فتجذب الكلاب رائحتها الشديدة عن رائحة الطريدة الأصلية، وقد استعيرت للتعبير عن كل محاولة لتحويل الانتباه عن المسألة الرئيسية في الجدل، وذلك بإدخال تفصيلات غير هامة، أو بإلقاء موضوع لافت أو مثير للانفعالات وإن يكن غير ذي صلة بالموضوع المعني ولا يشبهه إلا شبهًا سطحيًا، فيقذف بالخصم خارج مضمار الحديث.

*هناك تحول مشروع عن موضوع الحوار في بعض الأحيان ذلك هو التحول إلى مسألة جذرية تمهد لمناقشة الموضوع المعني وتفضي إليه، إنها لا تُغشي عليه بل تزيده وضوحًا، ولا تذهب به طي النسيان بل تؤدي إليه وتضعه في نصابه.

ص: 30

*الفرق بين مغالطة الرنجة الحمراء ومغالطة تجاهل المطلوب، أن في تجاهل المطلوب تكون هناك نتيجة مبرهن عليها لكنها غير النتيجة المطلوبة، وأما الرنجة الحمراء فمجرد تمويه وتعميه وخداع ليس له نتيجة.

مثل:

-كيف توافق على حظر الدخان، فالدخان لا ضرر منه البتة، إنني أشعر بأمان حين يكون سائق الأجرة مدخنًا أكثر بكثير لما يكون تحت تأثير الخمر، فالخمر هي أم المشاكل، وهي تكلف العالم سنويًا ......

-تقول الصحيفة إن لمبات جي إي أطول عمرًا من لمبات سيلفانيا، ولكن هل تعلم أن جي إي أكبر منتج للأسلحة النووية، وأضرار الأسلحة النووية تفوق التصور

ص: 31

‌الفصل السادس

الحجة الشخصية

"الحجة حجة؛ وأنت لا يسعك إلا أن تأخذ حججهم بعين الاعتبار

ما دامت صائبة، أما الشهادة فيجوز لك أن ترفضها"

تعني مغالطة الحجة الشخصية أن يعْمَد المغالط إلى الطعن في شخص القائل بدلًا من تفنيد"قوله"، أو قتل الرسول بدلًا من تفنيد الرسالة.

*هناك أربعة أنواع من مغالطة الحجة الشخصية:

(1)

القدح الشخصي (السب): مثل: لماذا أبالي بآراء هؤلاء الصحفيين؟ إنهم حفنة من المرتزقة.

*على أن هناك مواطنًا يكون فيها شخص القائل ذا صلة بالدعوى كالمقابلات الوظيفية، والشهادة القضائية

وفي كل سياق يتضمن شهادة لا حجة.

ص: 32

(2)

التعريض بالظروف الشخصية: مثل أنت تؤيد قرار رفع ميزانية التسليح؛ لأنك تعمل في مؤسسة كبرى لتجارة الأسلحة.

*قد يؤدي صراع المصالح بشخص ما إلى التفكير الخطأ وبالتالي القرار إلى القرار الخطأ، غير أن صراعه الخاص ينبغي ألا يؤثر على تقييمنا لحجته.

(3)

مغالطة أنت أيضًا تفعل هذا: مثل أقلع عن التدخين يا بني فهو ضار بالصحة، لستُ أقبل حجتك يا أبي فقد اعتدت أنت نفسك التدخين حين كنت مثل سني.

* تعمد هذه المغالطة إلى صرف الانتباه عن حجة الخصم إلى سلوكه، أو إلى أفكاره الأخرى، الراهن منها أو الماضي، فالحق أن تورط الخصم في ذات الخطأ لن يحول الخطأ إلى صواب.

*لعل أفضل تصرف تفعله إذا واجهك خصمك بهذه المغالطة هو أن تبتسم معترفًا، ثم ترده في الحال إلى حجتك الأصلية التي لم يرد عليها بعد.

* هذه المغالطة فرع من مغالطة أعم هي الإشارة إلى خطأ آخر مثل: لماذا كل هذا الجزع من الفساد في بلادنا، إن الفساد لينخر في أرقى بلاد العالم.

ص: 33

* قد تتمادى هذه المغالطة حتى تأخذ المفترض مأخذ الواقع مثل: لنسرق هؤلاء فإنهم لو تمكنوا منا لسرقونا.

(4)

تسميم البئر: تسميم البئر هو أن تبادر بضربة وقائية ضد خصمك، وتصمه بأنه لا يُولي الحقيقة أي اعتبار فيتضمن ذلك أنه مهما يقل فيما بعد فلن يثق به أحد، مثل:

- لا تصدق ما سيقول إنه وغد

- ليس سوى مأفون من يعارض إضافة الفلورين إلى الماء.

* على كل من يدخل نقاشًا كهذا أن يخطو بجسارة فوق الإهانة وأن يلج إلى صميم الموضوع.

* الحق أن تسميم البئر ليس مغالطة بالمعنى الدقيق؛ لأنه ليس حجة إنه أشبه بشرك غفلة منصوب لكي يغري الجمهور الغافل بارتكاب مغالطة الحجة الشخصية، وعلينا أن نتذكر دائمًا أن الحجة ينبغي أن تقف على أرجلها الخاصة أو تسقط بعيبها الخاص، بغض النظر عن شخص قائلها أو عيوبه.

ص: 34

‌الفصل السابع

الاحتكام إلى سُلْطة

يعني مذهب السلطة في الأخلاق وغيرها، أن المصدر النهائي للمعرفة هو سلطة من نوع ما، سلطة قيمة على أمر بعينه، قد تكون هذه السلطة نظامًا، أو نصًا، أو قانونًا أخلاقيًا أو مدنيًا، أو سلطة أهل العلم والاختصاص كل في مجاله.

*يقع المرء في مغالطة الاحتكام إلى سلطة عندما يعتقد بصدق قضية أو فكرة لا سند لها إلا سلطة قائلها، قد تكون الفكرة صائبة بطبيعة الحال، وإنما تكمن المغالطة في اعتبار السلطة بديلًا عن البينة.

يبدأ الوقوع في الاحتكام المغالط إلى السلطة في الأحوال التالية:

-إذا الاحتكام إلى السلطة غير ضروري، مثل الأمور التي تخضع للملاحظة والمشاهدة.

ص: 35

-إذا كان الدعوى غير داخلة في مجال خبرة الشخص الذي يحتكم إليه كسلطة.

-إذا كان هناك خلاف بين الخبراء في المسألة المعنية.

-إذا كان الخبير متحيزًا أو تكتنفه شبهة التحيز.

-إذا كان الخبير المزعوم مجهولًا أو غير محدد.

مثل:

-ليس للتدخين كبير ضرر على غير المدخنين، هكذا أثبتت دراسة فريق الأطباء الباحثين الذين يعملون في شركة مارلبورو. (خبرة متحيزة).

-يقول المتخصصون إن سنسوداين هو أفضل معجون يضمن سلامة الأسنان. (خبرة غير محددة).

*كثيرًا ما نشير باللفظ العام إلى فئة الخبراء، ويكون ذلك معقولًا تماما وبخاصة إذا كان هناك إجماع بين أهل المجال على الرأي الذي نطرحه، والأجدى على كل حال أن نشفع ذلك بذكر البينة التي تستند إليها هذه السلطة.

ص: 36

‌الفصل الثامن

مناشدة الشفقة (استدرار العطف)

إذا قيل حلمًا قال للحلم موضع

وحلم الفتى في غير موضعه جهل

العطف شعور نبيل يتحلى به كل ذي أصل كريم، ولا بأس باستدرار العطف والشفقة إذا استدعى السياق وخلصت النوايا، إنما يكمن الخطأ في أن تسند إلى العطف وظيفة البينة، وأن تأخذ الشفقة مأخذ الحجة.

مثل:

-ينبغي تيسير الامتحانات على جميع الطلبة؛ لأنكم تعرفون مدى البؤس الذي يَرِين على الطالب المتوسط أو الضعيف حين يحصل على درجات متدنية أو حين يرسب. (للحلم موضع حقًا، هو بالنسبة لهذا المثال في وزارة الشؤون الاجتماعية لا في وزارة التعليم، وما أفسد التعليم مثل هذا التيسير الذي يتملق الحشود ويذبح النوابغ ويطمس بريقهم،

ص: 37

وينتخب ثفالة من الحفظة وعادمي الملكة ويضعهم على قمة الهرم الاجتماعي والعلمي)

-كيف ترفض رسالتي الدكتوراه؟ لقد عكفت على كتابتها سبع سنوات متواصلة!

* قد تكون مخاطبة الوجدان أو مناشدة العطف، أو غيره من الانفعالات مشروعة منطقيًا، وذلك حين يكون هذا الانفعال هو نفسه هو موضوع الحجة، أو يكون سببًا ذا صلة بقبول الحجة.

ص: 38

‌الفصل التاسع

الاحتكام إلى عامة الناس

"إن موافقة الكثرة ليست دليلًا على الحقائق العسيرة الكشف، وإنه لأقرب

إلى الاحتمال أن يجدها رجل واحد من أن تجدها أمة بأسرها"

تتضمن هذه المغالطة الاحتكام إلى الناس بدلًا من الاحتكام إلى الحجة والدليل، ومحاولة انتزاع التصديق على فكرة معينة بإثارة مشاعر الحشود وعواطفهم بدلًا من تقديم حجة منطقية صائبة.

*إن قبول الحشود من البشر لقضية معينة على أنها حق لا يقدم ضمانًا عقليًا بأنها كذلك.

*في عمق الروح الإنسانية تقبع حاجة إلى الاتصال بآخرين من صنوها، حاجة تبلغ من الإلحاح والشدة مبلغًا يضطر الناس إلى أن تسلم ضميرها وبصيرتها لطغيان ثقافتها

ص: 39

الجاهزة وتقاليدها الموروثة، حتى لو كانت ثقافة جاهلة وتقاليد حمقاء، وقليل من الأفراد الذين يمكنهم أن يأتمروا بأوامر عقولهم الخاصة ويهتدوا بهدى بصائرهم الشخصية حتى عندما تكون تلك مخالفة للمألوف ومغايرة للشائع.

*هناك ثلاثة أشكال أساسية لمغالطة الاحتكام إلى الناس:

(1)

عربة الفرقة: تتجه مغالطة عربة الفرقة إلى ميلنا الغرزي لأن ننضوي مع الحشد، ومفادها أنه ما دام عامة الناس تعتقد شيئًا ما أو تختار مسلكًا معينًا فلا بد أن يكون هذا الاعتقاد صحيحًا، وهذا المسلك أحق أن يتبع.

في مجال علم النفس يتحدث السيكولوجيون عن أثر عربة الفرقة: وهي ظاهرة اجتماعية يشعر فيها الأشخاص بضغط الانصياع لموقف معين، أو رأي عندما يدركونه على أنه موقف الأغلبية في مجتمعهم.

مثل:

-الناس كلها أو معظمها تفضل الماركة (س) إذن علي أنا أيضًا أن أشتري الماركة (س).

ص: 40

-كان أغلب البشر فيما مضى يعتقدون أن الصرع روح شريرة تتلبس المريض، وقد تبين بالدليل العلمي الدقيق أن الصرع هو اضطراب في النشاط الكهربائي لخلايا المخ.

(2)

التأسي بالنخبة: في هذه المغالطة يتم الاقتداء بالصفوة المختارة بدلًا من عامة الناس.

مثل: جميع أو أغلب الممتازين من الناس يعتقدون أو يفعلون (ق) إذن (ق) صحيحة.

(3)

التلويح بالعلم؛ التذرع بالوطنية: في هذه المغالطة يلجأ المتحدث إلى المشاعر القومية أو الوطنية ليدعم حجته أو موقفه، أو ليقوض موقفًا آخر باعتباره منافيًا للوطنية أو القومية، ويندرج في هذه المغالطة التلويح بأي رمز أو التلفع بأي راية: سياسية أو مذهبية أو دينية، حين يكون ذلك افتعالًا وتكلفًا غير ذي صلة بالحجة المعنية.

* ثمة حالات يكون فيها التذرع بالجموع مبررًا وغير خارج عن الموضوع، وذلك عندما يكون اعتقاد الأغلبية أو اعتقاد النخبة المنتقاة هو المحدد للحقيقة مثل: تعريفات

ص: 41

الألفاظ هي مسألة اصطلاحية، والموضات وغيرها هي بحكم العرف، والتوجه السياسي في البلاد الديمقراطية، إجماع أهل الرأي والخبرة في مجال تخصصهم.

ص: 42

‌الفصل العاشر

الاحتكام إلى القوة

تعني هذه المغالطة اللجوء إلى التهديد والوعيد من أجل ثبات دعوى لا تتصل منطقيًا بانفعال الخشية والرعب الذي تهيب به، تقبع في صميم هذه المغالطة فكرة "القوة تصنع الحق"، بوسعك أن تفرض السلوك القويم بالقوة، ولكن ليس بوسع قط أن يفرض الرأي العقلي بالقوة. الفكر الحقيقي لا يكون إلا حرًا، دون حرية أنت لا تفكر، بل تردد وتكرر، والفكر غير الحر ليس فكرًا، وإنما هو كالنقطة الممتدة، والمربع المستدير، تناقض ذاتي.

مثل:

• ينبغي أن توافق على السياسة الجديدة للشركة، هذا إذا كنت تريد أن تحتفظ بوظيفتك.

• أنا بحاجة يا دكتور لتقدير ممتاز، يسرني أن أمر عليك كي نتحدث في ذلك بعدما أزور والدي عميد كليتك.

ص: 43

قد يكون التهديد أو التذكير بالخطر صائبًا منطقيًا، وذلك حين يكون ذا صلة مباشرة بنتيجة الحجة، أو يكون الخطر هو نفسه موضوع الحجة، مثل: ذاكر أو ترسب.

*من المؤسف أننا لا ننظر إلى الاختلاف في الرأي على أنه ثراء وخصب، بل على أنه انحراف وخيانة، وما نزال نلوح بالعصا كلما أعوزتنا الحجة.

ص: 44

‌الفصل الحادي عشر

الاحتكام إلى النتائج

"الحقيقة ليست ملزمة بأن تتبع أهواءنا،

وإنما نحن الملزمون بأن نتبع الحقيقة"

المغالطة أن نستخدم النتائج السلبية أو الإيجابية المترتبة على اعتقادٍ ما كدليل على كذب هذا الاعتقاد أو صدقه.

إن القضية الصادقة هي قضية صادقة بغض النظر عن شعورنا تجاه نتائجها، ومن الحصافة أن نسلم بأن العالم لم يفصل حسب طلبنا، وأن الأشياء لا تأتي على مقاس رغباتنا ومصالحنا.

مثل: من المحال أن تنشب حرب نووية في أي وقت من الأوقات؛ إن ذلك كفيل بأن يجعلني متوجسًا هلعًا لا أذوق للنوم طعمًا.

*يكون الاحتكام إلى النتائج صائبًا في مجال العقل العملي لا النظري، وفي المفاضلة بين شيئين متساويين في كل شيء.

ص: 45

‌الفصل الثاني عشر

الألفاظ الملقّمة

حين تكون اللفظة محملة بمتضمنات انفعالية وتقويمية زائدة، بالإضافة إلى معناها المباشر، يقال لفظة ملقمة أو مشحونة، وتأتي المغالطة حين يستخدم المجادل ألفاظًا مشحونة بدلًا من الحجة، أو حين يتأثر المتلقي باللغة الملونة التي تغلف بها الحجة بدلًا من أن يلتفت إلى مناقب الحجة بحد ذاتها، ومهما يكن من شيء فإن الألفاظ المشحونة كثيرًا ما تكون فخاخًا منطقية تدفع المرء إلى أن يقفز إلى استنتاجات تقويمية غير مشروعة.

مثل:

• يدعي السيد فلان أن التصدير سوف يؤدي إلى ارتفاع الأسعار. (لاحظ أن كلمة يدعي تفترض ضمنًا أن ما يقوله السيد فلان كذبًا).

ص: 46

• كل عاقل في هذا البلد يعرف أن الإجراءات المتخذة لا تصب في مصلحة المواطن. (لاحظ أن كلمة عاقل قد صادرت بصواب العبارة المطروحة).

• ألست متأثرًا بالقضية العادلة التي يلهج بها ألوف المتظاهرين الواعين بالخارج؟

*الحجة السديدة تتطلب أن يبذل المرء جهدًا واعيًا كي يصوغ حجته صياغة محايدة قدر المستطاع، بحيث تقف حجته على قدميها ولا تتوكأ على عكازات انفعالية وتقويمية مقحمة عليها ومن غير جنسها.

ص: 47

‌الفصل الثالث عشر

المنحدر الزلق

تعني مغالطة المنحدر الزلق أن فعلًا ما ضئيلًا أو تافهًا بحد ذاته، سوف يجر وراءه سلسة محتومة من العواقب التي تؤدي في نهاية المطاف إلى نتيجة كارثية.

مثل:

• إذا استثنيتك أنت من القرار فسوف يكون علي أن أستثني الجميع.

• إذا أكلت آيس كريم جالاكسي فسوف يزداد وزنك، وزيادة وزنك باطراد تعني أنك تصاب بالسمنة، وما تزال السمنة تتفاقم حتى تموت بانسداد الشريان التاجي، إذًا آيس كريم جالاكسي يسبب الوفاة فلا تقربه.

ص: 48

‌الفصل الرابع عشر

الإحراج الزائف

يقع المرء في هذه المغالطة عندما يبني حجته على افتراض أن هناك خيارين فقط أو نتيجتين ممكنتين لا أكثر.

مثل:

• إما أنك معنا وإما أنك ضدنا.

• إما أن توافق على خفض الضرائب، وإما أن تكون راضيًا بالخراب العاجل الذي سيلحق البلد.

*يأتي الخلل دائمًا إذا كان الخياران لا يستغرقان جميع الاحتمالات القائمة، ويمكن تفنيد حجة الخصم بأن تسأل: أليس هناك بدائل أخرى؟

ص: 49

‌الفصل الخامس عشر

السبب الزائف (أخذ ما ليس بعلةٍ علةً)

تأتي هذه المغالطة عندما يخلط العقل بين المعية والسببية، إن إثبات وجود علاقة سببية بين حدثين يستلزم أكثر من مجرد الارتباط: يستلزم الاطراد الدائم، والارتباط الدائم بين نمطي الحدثين إيجابًا وسلبًا، وعدم وجود أي أمثلة مضادة.

إن مجرد المعية قد يكون مرده إلى:

1 -

المصادفة البحتة، مثل: وجود ارتباط كبير بين أعداد طائر اللقلق في أماكن معينة من أوربا وبين معدل المواليد من الأطفال. (من الخطأ أن نستدل من هذا الارتباط وحده على أن وجود طائر اللقلق سبب لولادة الأطفال)

2 -

إغفال سبب مشترك، مثل: قبيل اندلاع الحرب يتزايد معدل التسليح لدى الأطراف المتصارعة، إذًا زيادة التسليح

ص: 50

تؤدي اندلاع الحرب (ربما يكون الصواب أن التوتر والخلاف هو الذي يفضي إلى التسلح والحرب)

*مثل هذه الطريقة التبسيطية في التفكير لن تؤدي إلا إلى حلول تبسيطية، ولن تؤدي الحلول التبسيطية إلا إلى الفشل وإهدار الوقت والجهد.

3 -

الاتجاه الخطأ للعلاقة السببية، وفي هذه المغالطة نجد العلاقة بين العلة والمعلول معكوسة، حيث يؤخذ المعلول علة وتؤخذ العلة معلولا،

مثل:

• انتشار مرض الإيدز ناتج عن زيادة الثقافة الجنسية. (العكس هو الصحيح وهو أن زيادة الثقافة الجنسية ناتجة عن انتشار الإيدز وتخوف الناس منه).

• يزداد انتشار الأمراض الفصامية بين الطبقات الاجتماعية الدنيا، إذًا تدني الطبقة الاجتماعية يؤدي إلى الانفصام العقلي. (الصواب أن المرض العقلي المزمن يؤدي إلى تدهور أداء المريض الدراسي والمهني والاجتماعي، فيهبط به شيئًا فشيئًا إلى طبقة اجتماعية أدنى).

ص: 51

بعد هذا .. إذن بسبب هذا

(المغالطة البعدية/ بعقبه إذن بسببه)

تفيد المغالطة البعدية أنه ما دام شيء ما قد أتى بعد شيء آخر فهو إذن قد أتى بسببه. لقد حدث بعقبه إذن فقد حدث بسببه.

لكي يوصف حدث ما (أ) بأنه سبب لحدث آخر (ب) ليس يكفي أن يأتي قبله فإثبات علاقة العلية يتطلب ما هو أكثر من مجرد التعاقب أو الارتباط يتطلب أن جميع أفراد فئة (ب) تأتي دائمًا وأبدًا بعد جميع أفراد فئة (أ) وتغيب دائمًا (ب) في غياب (أ)، مع شيء من التجاور في المكان والزمان، وغياب أي عامل آخر قد يكون وراء حدوث الاثنين معًا .. فالاكتفاء بمجرد التعاقب الزمني كدليل على علاقة السببية تفكير شديد الفجاجة والسوقية.

كان مؤرخو الإغريق دائمًا يفسرون الكوارث الطبيعية

ص: 52

كنتاج لأفعال البشر، فإذا حدث زلزال مروع مثلًا ودمر مدينة بكاملها، فإن هيرودوت يعمد بهمة وجد إلى تفصيل الأحداث البشرية السابقة على الزلزال، ثم يستنتج أن المذبحة التي ارتكبها أهل المدينة مثلًا، قبل الزلزال كانت سببًا في وقوعه.

• من ذلك أن وباء الطاعون لما تفشى في مولمبو عقب وفاة أحد البرتغاليين اتخذ الأهالي كل الاحتياطات الممكنة لكي لا يموت رجل أبيض بعد ذلك في بلدهم.

• ومن ذلك ما حدث في جزر نيكوبار على أثر وفاة بعض من السكان الأصليين كانوا قد بدأوا لتوهم في مزاولة حرفة الخزف، إذ انفض الجميع عن مزاولة هذا الفن ولم يقربه أد بعد ذلك على الإطلاق.

• ومن ذلك ما حدث في إحدى قرى جنوب أفريقيا حين أهدى البيض رجلًا من البوشمن عصا مرصعة بالأزرار كرمز السيادة، إذ توفي الرجل وخلف العصا لابنه وسرعان ما توفي الابن، فأعاد البوشمن العصا إلى من أهداها خشية أن يموت الجميع.

ص: 53

• وقد تصادف مرة أن انتشر الجدري بين شعب الياكات بعد أن شهدوا جملًا لأول مرة فوقر في ظنهم أن الجمل هو الذي أحدث المرض.

وما تزال هذه الطريقة في التفكير تعشش في أذهاننا حتى اليوم، فالتسونامي الآسيوي سببه تفاقم ذنوب البشر مع أن التسونامي نتاج زلزال تحت المحيط ناجم عن انزلاق طبقي، والضحايا ربما كانوا أقل أهل الأرض ذنوبا، وإعصار كاترينا سببه السياسة الأمريكية مع أن الأعاصير سببها حركة الرياح فوق ماء المحيط.

نحن بالطبع نلفق تفسيرات لنملأ الثغرات غير المرئية بين الحدثين، فكيف عرفنا أن هذه الأحداث غير المنظورة هي الأسباب حقًا؟ .. إنها تتوالى ويعقب بعضها بعضًا، هذه الفجوة في معرفتنا هي مرتع خصب وملاذ آمن للمغالطات، وما دامت هناك حقًا فجوة في معرفتنا، فلن يمكنك أن تقنع من مال به هواه إلى تفسير معين دون سواه.

وعلى هذه المغالطة السوقية تقوم حرف وترتزق طوائف: العِرافة والتنجيم والرقى والكهانة وتفسير الأحلام والعلاج الشعبي.

ص: 54

أمثلة:

• لبست هذا القميص اليوم وذهبت إلى الامتحان فأجبت عن جميع الأسئلة بإجادة تامة. إذن هذا القميص فأل حسن ولسوف أرتديه في كل الامتحانات القادمة.

• أصيب حسن بصداع شديد، فعجنت له جدته عجينة من الدقيق والخل وزيت السمك وبول الأرنب، لصقها برأسه ونام، فذهب عنه الصداع بعد دقائق. (كثيرًا ما يذهب الصداع تلقائيًا بذهاب سببه الحقيقي)

• تشوشت الصورة في التلفاز، فخبط صاحبه بقوة على التلفاز، فصلحت الصورة، إذن خبط الجهاز هو أيسر طريقة لإصلاح أعطاله.

*هناك ظاهرة طبية لا فتة يقال لها: "الأثر البلاسيبي"، وهو تحسن صحي، محسن أو ملاحظ أومقيس لا يعزى إلى العلاج، فالبلاسيبو هو دواء أو إجراء علاجي يعتقد المعالج أنه خامل أو لا يضر، قد يكون حبوبًا من السكر أو من النشا، وقد يؤدي هذا العلاج الوهمي إلى نفس نتائج العلاج الحقيقي، وذلك بسبب الشعور الذاتي بالتحسن والاعتقاد في العلاج

ص: 55

والإيمان بتأثيره الشفائي، فمن شأن الاعتقاد في العلاج ومشاعر الاهتمام والرعاية والمساندة والتشجيع والأمل التي يبثها الموقف العلاجي أن تستفز في الجسم آليات فيسولوجية تفضي إلى أثر فيزيقي حقيقي، وقد يكون هذا هو الباب الذي يدخل منه الدجالون والأدعياء، فبالإيحاء الذي يستخدمونه على المريض والأثر الذاتي والاعتقاد من المريض في علاج هذا الدجال قد يؤدي إلى نتائج إيجابية فيُظن بأن هذا الدجال يملك الدواء، مع أن الذي يجد نتائج إيجابية هم نسبة قليلة، وأكثر المرضى قد يزدادون وهنًا على وهن لكن الدجال والدعي ينشر القصص التي يظن أنه نجح بها، فتنطلي ألاعيبه على أصحاب التفكير السوقي.

ص: 56

‌الفصل السادس عشر

السؤال المشحون (المركب)

السؤال المشحون أو المركب هو تكتيك يعمد إلى دس فروض مسبقة غير مبررة وغير داخلة في التزامات الخصم، داخل سؤال واحد، بحيث أن أي جواب مباشر يعطيه المجيب يوقعه في الاعتراف بهذه الفروض، والمثال التقليدي على هذه المغالطة:

هل توقفت عن ضرب زوجتك؟

فأيا ما كان الجواب، نعم أو لا فإن المجيب يعترف بالفرض المسبق وهو أنه كان في وقت ما يضرب زوجته، حين يكون هذا الفرض المسبق كاذبا أو غير مبرهن عليه يكون هذا مثالا لمغالطة السؤال المركب أو المشحون. إنه شَرك أو أحبولة؛ لأنه يضيق على المجيب نطاق الخيارات إلى صنف واحد من الإجابة المباشرة.

ص: 57

مثل هذه الأسئلة لا يمكن الرد عليها ببساطة بالإيجاب أو بالنفي؛ لأنه ليس سؤالا بسيطا بل يتركب من عدة أسئلة مشحونة معًا في سؤال واحد.

والرد الذكي عندما يواجه المرء بمثل هذه الأسئلة أن يحلل مكوناتها ثم يجيب عن السؤال المضمر الأول أو يناقشه أو يفنده، عندئذ يتبدد السؤال الصريح من تلقاء نفسه.

ص: 58

‌الفصل السابع عشر

التفكير التشبيهي (الأنالوجي الزائف)

يقع المرء في مغالطة: "الأنالوجي الزائف" عندما يعقد مقارنة بين أمرين ليس بينهما وجه للمقارنة، أو أمرين بينهما مجرد تشابه سطحي وليس بينهما وجه شبه يتصل بالشأن المعنِيِّ الذي تريد الحجة أن تثبته.

يتألف "الأنالوجي الزائف" من افتراض أن الأشياء المتشابهة في وجه من الوجوه لابد أن تكون متشابهة في وجوه أخرى.

انظر إلى الرأي التشبيهي للملك جيمس الأول: "النظام الجمهوري هو نظام زائف ومدمر؛ ذلك لأن الملك هو رأس الدولة، وإذا أنت فصلت الرأس عن الجسد فلن تعود بقية الأعضاء تؤدي وظائفها، وسيموت الجسد"

ص: 59

فالدولة لا تشبه الجسد الحي إلا مجازًا وتصويرًا بيانيا، ولا يمكن أن يستنبط من هذا التماثل أي قواسم مشتركة تجمع بين الجسد والدولة.

*إذا استخدم الخصم تشبيهًا لكي يدعم حجته فما عليك سوى أن تمسك بطرف هذا التشبيه وتمطه في اتجاه يخدم حجتك أنت.

أمثلة:

-من العبث أن نبذل كل هذا الجهد في محو أمية الكبار. ذلك أنه لا فائدة بعد من البكاء على اللبن المسكوب.

-يجب أن نسمح للطلاب باصطحاب كتبهم في الامتحانات. ألا يستخدم المحامون المذكرات القضائية في مرافعاتهم، ويستشير الأطباء الأشعة في جراحاتهم؟ (لاحظ أن العنصر الجوهري في هذه الأفعال مختلف: فالمرافعة والجراحة هي تطبيق للمعرفة، أما الامتحانات فمن المفترض أنها اختبار للمعرفة)

-المستخدَمون أشبه بالمسامير، فالمسامير لا تؤدي فعلها ما لم تطرقها على رأسها.

ص: 60

- العلم كالكعك، يحسن أن تصيب منه جزءًا يسيرًا، فإذا أسرفت في تناوله أصاب أسنانك بالتسوس، كذلك العلم إذا أوغلت فيه وتبحرت أصاب عقلك الجنون.

-قرارات تحتاج إلى ترو وحكمة يقال اطرق الحديد وهو حام.

*من المؤسف حقًا أن كثيرًا من كتابنا ومتحدثينا الأكثر رواجًا وإقناعًا لا يفعلون في أغلب الأحيان أكثر من أن يلبسوا أفكارهم أثوابًا من التشبيهات والاستعارات، إنه لا بأس بذلك البتة، غير أنهم يظنون أن مهمتهم انتهت عند هذا الحد، ويتوهمون أنهم بهذه التشبيهات والمماثلاث قد فرغوا من عبء البرهان وأثبتوا نظرياتهم بما لا يدع مجالا للشك.

*من طلب شبهًا وجده، فثمة وجه شبه بين أي شيئين من أشياء العالم مهما تباينا واختلفا.

ص: 61

‌الفصل الثامن عشر

مهاجمة رجل من القش

(من يدري لعل التاريخ الذي كتبه المنتصرون قد حجب عنا نصف الحقيقة واستبدل به رجالا من القش!)

هي تلك المغالطة العتيدة التي يعمد فيها المرء إلى مهاجمة نظرية أخرى غير حصينة بدلًا من نظرية الخصم الحقيقية. وذلك تحت تعمية من تشابه الأسماء أو عن طريق إفقار دم النظرية الأصلية وتغيير خصائصها ببترها عن سياقها الحقيقي أو بإزاحتها إلى ركن قصي متطرف.

ثمة طرائق مختلفة لاتخاذ رجل القش: فقد تُقدِّم الجوانب الأضعف من نظرية الخصم وتتظاهر بأنك تفند النظرية من كل جوانبها، وقد تُقدّم حجة الخصم في صورة مضعفة أو مبسطة، وقد تشوه أو تحرف حجة الخصم أو تسيء تمثيلها، وقد تختلق شخصًا وهميًا تنسب إليه أقوالا وأفعالا وتتظاهر بأنه يمثل الطائفة التي ينتمي إليها الخصم.

ص: 62

*يميل العقل البشري بطبيعته إلى تصنيف الأشياء وتنميطها، ربما لذلك يميل المرء أحيانا إلى أن يصنف الخصم تصنيفًا خاطئًا ويتوسم فيه غير ما هو، ويسقط عليه من تصنيفاته الفئوية الخاصة ما لا يناسبه، وكأن المرء هنا يكشف عن ذات نفسه أكثر مما يكشف عن الآخر، كقول سبينوزا:"إن ما يقوله بولس عن بطرس يخبرنا عن بولس أكثر مما يخبرنا عن بطرس"، وقد يميل المرء إلى التنميط فيدمغ الخصم بصفات معينة تميز الجماعة أو الطائفة التي ينتمي إليها، بينما الخصم يرى رأيًا يحيد كثيرًا عن تلك الطائفة أو يذهب مذهبًا يمثل جناحًا معينًا منها، والذي قد يختلف اختلافًا مهمًا عن آراء الأجنحة الأخرى من نفس الطائفة.

*يجرى مجرى التبسيط أن ترمي الخصم بالتطرف وهو معتدل، وبالإطلاق وهو نسبي، والحق أن أمثل النماذج لرجل القش هو أن تهول من موقف الخصم وتزيحه من الأواسط إلى الأطراف، ذلك أن المواقف المتطرفة أسهل في التفنيد لأنها لا تسمح باستثناءات فهي تبدأ بـ"كل" أو "لا أحد"، من هنا دأبت مغالطة رجل القش على مهاجمة الأفكار أو الاتجاهات في صورتها المتطرفة حيث هي تكون أضعف ما تكون.

ص: 63

* علينا أن نمثل رأي الآخرين تمثيلًا أمينًا وكاملًا وجوهريًا.

*لقد دأب المفكرون طوال تاريخ الجدل والمناظرة على مهاجمة النقاط الضعيفة في دعوى الخصوم، أما بوبر فقد كانت طريقته هي أن يواجه نظرية الخصم من زاويتها القوية، بل يحاول تقوية نظريته أكثر فأكثر وسد ثغراتها وتزويدها بمزيد من الحجج والدعامات قبل أن يشرع في شن هجومه، إنه يريد أن يجعل من خصمه خصمًا جديرًا بمهاجمته، وأن ينقض على نظريته وهي في أوج قوتها وجاذبيتها، إنها طريقة مثيرة وشائقة، ونتائجها إذا ما نجحت قاصمة ومدمرة، ومن الصعب أن تقوم لنظريته قائمة بعد أن يكون كل ما لديها من ذخر ومصادر إمداد قد تم تدميره.

* مهما يكن من شيء فإن مهاجمة خصم من القش بدلًا من الخصم الحقيقي هي في أغلب الأحيان ضرب من الغش والجبن، وخروج عن الموضوع، ومضيعة للوقت والجهد، ومحاولة بائسة لإحراز انتصار رخيص.

*كن محسنًا لخصمك، واعرض حجته في أدق صورة وأقواها ثم قوضها تكن قد فعلت شيئًا يذكر.

ص: 64

‌الفصل التاسع عشر

مغالطة التشيئ

التشيئ هو أن تعامل المجردات أو العلاقات كما لو كانت كيانات (كائنات) عينية، أو أن تنسب وجودًا حقيقيًا للتصورات العقلية أو البناءات الذهنية، وهي تعد من أهم المغالطات شيوعًا، وللتشيئ مجاله الذي يستخدم فيه، وهو المجال البياني البلاغي، وهي بعيدة عن المغالطة بحكم طبيعة التعبير ذاته وموقفنا فيه ومأخذنا له.

*الحق أن التشيئ ليس أكثر من استخدام استعارة غير أنه حين يكون مغالطة يأخذ الاستعارة بعيدًا أو يأخذنا بها حتى ننسى أنها استعارة ونبدأ في الاعتقاد بأن كياناتنا التصورية المجردة لديها الخصائص العيانية التي أضفيناها عليها على سبيل الاستعارة.

ص: 65

*من الحالات النمطية للمريض البارانوي أنه يعاني من اعتقاد راسخ بأنه مضطهد من قبل زملائه وجيرانه وإخوانه، وقد يكون هناك شيء من الاضطهاد الطفيف كرد فعل لسلوكه العدواني تجاههم، وقد يكون هؤلاء انفضوا عنه نتيجة شكوكة واضطرابه.

*يشيئ العرافون وزبائنهم مفهوم المستقبل وكأنه شيء يمكن أن يقبع في الفنجان، ويشيئ أغلب الناس الحب وكأنه كائن شبحي يتلبس المحب فيسهده ويبليه، والحب ليس جوهرًا، وهذا التشيئ هو ما يجعل المحب يستسلم للحب ولا يرجو مهربًا من حبائله.

أمثلة:

-الطبيعة تبغض الفراغ (لاحظ أن الطبيعة لا تبغض شيئًا).

-وحدها القوانين العادلة ما يداوي آلام المجتمع. (القوانين لا تداوي شيئًا، والمجتمعات لاتتألم)

-ماذا تساوي الاعتبارات الشخصية إلى جانب حاجات المجتمع، ومصير الأمة، والحفاظ على الثقافة؟

ص: 66

(لاحظ أن المجتمع لا حاجات له، والأمم لا مصائر لها)

(1)

.

(1)

يمكننا أن نفهم الطبيعة والقوانين والمجتمع فهما استعاريا مجازيا فلا مغالطة حينئذ، غير أن كثيرا من الناس يعاملون مثل هذه الأنساق الكلية كما لو كانت "كيانًا شبيهًا بالشيء" وهنا تبدأ المغالطة، كان هتلر في آخر أيامه، وقد صار على يقين من الهزيمة يتحدث عن "الأمة" وكأنها كائن حقيقي قائم بمعزل عن الأفراد، كائن أعلى ينبغي أن يفديه الأفراد جميعًا بأرواحهم حتى لو قضوا عن آخرهم!!

ص: 67

‌الفصل العشرون

انحياز التأييد (التأييد دون التفنيد)

دلف إلى المناظرة التلفزيونية يتأبط أضابير منتفخة

بقصاصات ووثائق تؤيد دعواه

ولعله بنصف هذا العرق

كان قمينًا أن يجمع ضعفيها

من القصاصات والوثائق المفندة!!

إننا نميل للبحث عن دليل مؤيد للفرضيات حتى لو كان الدليل المفند أكثر دلالة بكثير، مع أن العثور على مثال يؤيد القاعدة لا يثبت أن القاعدة صادقة؛ بينما العثور على مثال واحد يكذب القاعدة هو أمر يكفي لأن يثبت كذبها على نحو نهائي حاسم ويقضي عليها قضاءً مبرمًا.

في مجال الاستدلال الإحصائي يعد انحياز التأييد ضربًا من الانحياز المعرفي تجاه تأييد الفرضية محل الدراسة، ومن أجل معادلة الميل البشري الملاحظ يتم تشييد المنهج العلمي بطريقة تلزمنا بأن نحاول تفنيد أو تكذيب فرضياتنا.

ص: 68

يذهب البعض إلى أن انحياز التأييد قد يكون هو السبب من وراء الاعتقادات الاجتماعية "المخلدة لذاتها" و"المحققة لذاتها" وقد يكون سبب هذا الانحياز هو أن الذهن البشري بحكم تكوينه يجد صعوبة في معالجة الإشارات السالبة أكثر مما يجده في معالجة الإشارات الموجبة.

*قبل تبني أي فرضية يجب علي أن أحاول جهد ما أستطيع أن أكذب فرضيتي.

*إن العالم إذا قبل الفرضيات عن طريق إيجاد أمثلة مؤيدة فسوف ينتهي به المطاف إلى قبول ما لا يحصى من الفرضيات الكاذبة والسير فيما لا يحصى من الطرق المسدودة، أما إذا ظفر بفرضية صمدت لمحاولات عنيفة لتكذيبها، فعندئذ يمكنه قبول هذه الفرضية، لا باعتبارها صادقة، ولا باعتبارها مؤيدة، بل باعتبارها أفضل فرضية متاحة حتى الآن.

*التأييد لا يحسم أمر النظرية بينما التكذيب يمكن أن يكيل للنظرية ضربة واحدة قاضية.

ص: 69

التكذيب إذًا، وليس التأييد هو معيار العلم

*يقول فرنسيس بيكون: " اقرأ واستمع، لا لكي تماري وتُفحم، ولا لكي تعتقد وتُسلم، ولا لكي تظفر بحديث أو قول، بل لكي تزور وتمحص"

* يقول بيكون: "من دأب الفهم البشري عندما يتبنى رأيًا أن يَقسِر كل شيء عداه على أن يؤيده ويتفق معه، ورغم أنه قد تكون هناك شواهد أكثر عددًا وثقلًا تقف على النقيض من هذا الرأي، فإنه إما أن يُهمل هذه الشواهد السلبية ويستخف بها، أو أن يختلق تفرقة تسوّل له أن يزيحها وينبذها؛ لكي يخلص بهذا التقدير السبقي المسيطر والموبِق إلى أن استنتاجاته الأولى ما تزال سليمة ونافذة؛ ولذا فقد كان جوابًا وجيهًا ذلك الذي بدر من رجل أطلعوه على صورة معلقة بالمعبد لأناس دفعوا نذورهم ومن ثم نجوا من حطام سفينة عساه أن يعترف الآن

ص: 70

بقدرة الآلهة؛ فما كان جوابه إلا أن قال: حسنًا، ولكن أين صور أولئك الذين غرقوا بعد دفع النذور؟! " وهكذا سبيل الخرافة، سواء كانت في التنجيم أو في تفسير الأحلام أو الفأل أو ما شابه؛ حيث نجد الناس وقد استهوتهم هذه الضلالات يلتفتون إلى الأحداث التي تتفق معها، أما الأحداث التي لا تتفق رغم أنها الأكثر والأغلب، فيغفلونها ويغضون عنها الطرف.

*في عملية البرهنة على أي قانون صادق يكون المثال السلبي هو أقوى المثالين

وأكثرهما وجاهة وفعالية.

ص: 71

‌الفصل الحادي والعشرون

إغفال المقيدات

"قالت القاعدة للاستثناء: لماذا تعلق بجناحي دائمًا وتقيدني

ولا تدعني أبسط ظلي على العالم

رد الاستثناء على القاعدة:

أفيقي .. أنا لست عالقًا بجناحك

أنا منك .. أنا أكبرُ قوادِمكِ

وأشد مؤيديك"

حين نطبق تعميمًا على حالات فردية لا يشملها التعميم على نحو صحيح فنحن نرتكب إذّاك مغالطة "العَرَض المباشر"، أما حين نفعل العكس ونتناول عن غفلة أو عن قصد مبدأ يَصدُق على حالة استثنائية معينة ثم نمده لينسحب على المجرى العام فإننا نرتكب مغالطة "العَرَض المعكوس"، والحق أن مكمن الخطأ واحد في الحالتين، وهو إغفال المقيدات أو المحددات أو الشروط التي ينطوي عليها التعميم واستخدام القاعدة ذات الاستثناءات المقبولة على أنها قانون مطلق.

ص: 72

*أغلب القواعد والمبادئ الأخلاقية والاجتماعية والمدنية والعرفية قابلة للاستثناء.

*تعلمنا الخبرة أنه ما من تعميم مهما اتسع تطبيقه وعم نفعه إلا وله استثناءات تفلت من طائلته.

أمثلة من مغالطة العرض المباشر:

-سيارة الإسعاف التي عبرت الآن تستحق مخالفة لأنها قطعت الإشارة الحمراء.

-لا شأن لي بنزيف أنفك التعليمات صريحة: غير مسموح لأي طالب بالذهاب إلى الحمام إلا بعد جرس الحصة.

-لا تكذب حتى لو سألك مجرم عن مكان ضحيته فلا تكذب.

من الملاحظ أن هذه حالات استثنائية، والمغالطة في إدخالها داخل التعميم.

مثال لمغالطة العرض المعكوس: ما دمت سمحت للطالب الذي صدمته شاحنة بتقديم بحثه فيما بعد إذًا يجب أن تسمح للفصل كله بتقديم الأبحاث فيما بعد. والمغالطة في طلب التعميم لأجل حالة استثنائية.

ص: 73

‌الفصل الثاني والعشرون

مغالطات الالتباس

كثيرًا ما يتبدل معنى الكلمات أو التعبيرات أثناء الحديث أو في مساق حجة، قد يحدث ذلك عن غفلة وقد يحدث عن عمد، فيحمل الحد معنى معينًا في إحدى المقدمات ويحمل معنى مختلفًا تمامًا في النتيجة، عندما يعتمد الاستدلال على مثل هذه التبدلات يكون مغالطًا بطبيعة الحال، ويطلق على هذا الفصيل من المغالطات "مغالطات الالتباس".

(1)

الاشتراك (الالتباس المعجمي/ اشتراك اللفظ): معظم ألفاظ اللغة هي ألفاظ مشتركة لها أكثر من معنى واحد ولبعض الألفاظ نطاق كبير من المعاني.

اللغة تتغلب على الالتباس الكامن في ألفاظها بواسطة السياق الصريح الذي يتكفل في أغلب الأحوال ببيان المعنى المقصود، ومن الوسائل للتغلب على الالتباس استخدام

ص: 74

"التعريف" فنتواضع على الطريقة التي سوف نستخدم بها هذه الكلمة أو تلك في سياق معين من القول.

ينشأ الالتباس حين يعجز كل من السياق والتعريف عن حصر نطاق المعاني الخاص بكلمة ما في معنى واحد بعينه، وحين نفعل ذلك في مساق حجة نكون قد ارتكبنا "مغالطة الاشتراك".

أمثلة:

-كل قانون ينبغي أن يطاع .. قانون الجاذبية هو قانون .. إذًا قانون الجاذبية ينبغي أن يطاع (هنا تستخدم لفظة "قانون" بمعنيين مختلفين، ويسمى هذا الصنف من المغالطة "مغالطة الحد الأوسط)

-كل العلوم تؤدي إلى الفهم الأفضل للعالم .. إذًا علوم السحر تؤدي إلى فهم أفضل للعالم (حيث تستخدم كلمة "علوم" بمعنيين مختلفين)

* ليس الاشتراك بحد ذاته مغالِطًا، فإن للاشتراك طاقات بلاغية هائلة حين يستخدم للتأثير البياني والشعري والخطابي، كما في قول بنيامين فرانكلين: "إذا لم نتعلق ببعضنا البعض

ص: 75

سوف نتعلق على انفراد" بمعنى إن لم نتعلق بالتضامن سنُعلق على المشانق. ومنه القول المنسوب للشافعي: "ما جادلت عالمًا قط إلا غلبته، وما جادلت جاهلًا قط إلا غلبني"؛ فالمعنى أنني أغلب العالم بالحجة بينما يغلبني الجاهل بالصوت. غير أن الاشتراك يجعلنا عرضة للوقوع في المغالطة وذلك حين ينجح الاشتراك في أن يجعل الحجة المغلوطة تبدو حجةً صائبة.

(2)

التشابه (التباس المبنَى/ اشتراك التركيب): تعد العبارة متشابهة إن كان معناها غير محدد، نتيجة لتفكك مبناها وتعثر الطريقة التي تتضام بها ألفاظها، بحيث تكون قابلة بسبب تركيبها لأكثر من تفسير واحد أي حمالة أوجه، قد تكون العبارة المتشابهة صادقة وفقًا لتأويل معين وكاذبة وفقًا لتأويل آخر، فإن أوردناها كمقدمة على تأويل الصدق واستخلصنا منها نتيجة على تأويل الكذب نكن قد وقعنا في "مغالطة التشابه". أو الالتباس النحوي أو التركيبي.

أمثلة:

-إنني ضد الضرائب التي تعطل النمو الاقتصادي (هل يقصد ضد الضرائب كلها لأنها تعطل النمو الاقتصادي أو ضد نوع من الضرائب وهي التي تعطل النمو الاقتصادي)

ص: 76

-كان ضرب زيد مبرحا (لا يبين لنا التركيب هل زيد الضارب أو المضروب)

-وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمن به (المعنى إذا وُقِفَ على "الله" مغاير للمعنى إذا وُقِفَ على "الراسخون في العلم")

(3)

النَّبر: هو التشديد على بعض الكلمات مثل: ينبغي أن نكون أمناء مع أصدقائنا فهي بالنبر والتشديد على كلمة أمناء تعني أننا ينبغي أن نكون أمناء بعامة وفي المقام الأول، وهي بالنبر على كلمة أصدقائنا تعني أننا في حل من الالتزام بالأمانة مع غير الأصدقاء.

* ومن أنواع مغالطة الالتباس قطع الكلمات عن سياقها ويعده بعض المناطقة جزءًا من النبر، بينما يعده بعضهم جزءًا منفصلًا من مغالطة الالتباس، ومن الأمثلة:

-ادعى الجمهوريون أن ألجور نائب الرئيس قد قال: " ليس هناك صلة مؤكدة بين التدخين وسرطان الرئة"، والكلام هذا لألجور لكن عبارته كالتالي: "بعض علماء شركات الدخان سوف يدَّعون بصفاقة أن ليس هناك صلة مؤكدة بين التدخين

ص: 77

وسرطان الرئة، غير أن الأدلة الراجحة المقبولة لدى الأغلبية الساحقة من العلماء تقول: نعم، التدخين يسبب سرطان الرئة"

-في إعلان للدعاية: تخفيضات تصل إلى 90% (مع تكبير 90% وتصغير "تصل إلى")، وإذا استعرضت السلع فسوف تجد أن ما وصل تخفيضه إلى 90% هو جانب لا يذكر من السلع.

- {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 43]، {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4].

ص: 78

‌الفصل الثالث والعشرون

مغالطة التركيب والتقسيم

تتمثل مغالطة التركيب والتقسيم في الانتقال غير المشروع من خصائص الكل إلى خصائص أجزائه المكوِّنة (تقسيم)، أو الانتقال على العكس من خصائص المكونات إلى الكل (تركيب) إنها لـ"نقلة خاطئة" تخرق قواعد الاستخدام اللغوي والمنطقي السليم أن تنسب صفات الكل إلى الأجزاء أو في الاتجاه المقابل أن تنسب صفات الأجزاء إلى الكل بوصفه كلًا، ذلك أن خصائص الكل (بوصفه كلًا) وخصائص الجزء (إذا يفرد على حده) ليست دائمًا بالشيء الواحد، ولا ينبغي أن نتوقع تطابقها في جميع الأحوال.

مغالطة التركيب: هي مغالطة إضفاء صفات الجزء على الكل.

يقع المرء في مغالطة التركيب حين يذهب إلى أن ما يصدق

ص: 79

على أفراد فئة ما أو أجزاء كل ما يصدق أيضًا على الفئة (معتبرة كوحدة واحدة) أو على الكل بوصفه كلًا.

قد يعن لقائد عمليات خاصة أنه حين يضم في فَوجِه أقوى رجال الجيش جميعًا يستوي له أقوى فرق العمليات، غير أن قوة الفوج تعتمد على عوامل أخرى غير قوة كل جندي على حدة فهي تعتمد على انسجام الأداء وسرعته، والروح المعنوية للفريق وقدرته على العمل تحت أصعب الظروف وأقل الإمدادات.

تكمن المغالطة هنا في عدم القدرة على إدراك أن الجماعة كيان قائم بذاته ومتميز عن أعضائه، ويتصف من ثَم بخصائص قد لا تنطبق على الأفراد.

*قد يكون الانتقال بين خصائص الأجزاء وخصائص الكل مشروعًا في كثير من الأحيان؛ لكن الهدف أن نضبط تفكيرنا في جميع الأحوال فمثلًا: جميع أجزاء هذا الكرسي بيضاء إذًا هذا الكرسي أبيض، وجميع أجزاء هذا الجلباب قطنية إذًا هذا الجلباب قطني، هذه أمثلة لانتقال صائب، فالخصائص تقسم إلى:

ص: 80

-مطلقة ونسبية

-معتمدة على البنية أو مستقلة عن البنية.

الخصائص المطلقة: هي التي لا تنطوي على مقارنة صريحة أو ضمنية بشيء آخر أو بمعيار أو محك مثل الألوان أو الخامة المصنوع منها الشيء، أو الصفات المتعلقة بالشكل، أو الحقائق الثابتة مثل قابلية الاشتعال أو الأكل.

والخصائص النسبية: هي التي تنطوي على مقارنة صريحة أو ضمنية بشيء آخر أو بمعيار ما مثل وزن الشيء ومثل المقاسات ومثل القوة والسعر وصفات الشخصية والمظهر.

والخصائص المعتمدة على البنية: مثل جيد وردئ ومثلث ومربع وقوي وقابل للأكل.

والخصائص المستقلة عن البنية: مثل أخضر، نحاسي، ثقيل، خفيف، قوي.

خلص بعض المناطقة إلى أن الانتقال بين صفات الكل وصفات الجزء لا تكون مشروعة إلا في حالة الخصائص المطلقة المستقلة عن البنية، وفيما عدا ذلك من الخصائص يكون الانتقال عرضة لخطأ التركيب والتقسيم.

ص: 81

أمثلة لمغالطة التركيب:

-جميع أجزاء هذه الآلة خفيفة الوزن إذًا هذه الآلة خفيفة الوزن.

-جميع مكونات هذا العقار رخيصة إذًا هذا العقار رخيص.

-الذرات لا لون لها، الكرة مكونة من ذرات، إذًا الكرة لا لون لها.

-الصوديوم والكلور كلاهما سام للإنسان، إذًا كلوريد الصوديوم (ملح الطعام) سام للإنسان.

مغالطة التقسيم: هي ببساطة مقلوب مغالطة التركيب.

يقع المرء في هذه المغالطة حين ينسب إلى أفراد جماعة شيئًا لا يَصدق إلا على الجماعة كوحدة، أوحين يظن أن ما يصدق على الكل لا بد له من أن يصدق أيضًا على أجزائه.

*كثيرًا ما تستخدم مغالطة التقسيم لجلب شرف شخصي لحوزتنا بفضل انتمائنا لفئة تستحق التقدير، أو لجلب الخزي إلى مناوئينا بسبب انتمائهم لفئة موصومة بشيء معين.

ص: 82

أمثلة لمغالطة التقسيم:

-الكرة زرقاء، إذًا الذرات التي تُكوّن الكرة هي أيضًا زرقاء.

-كلوريد الصوديوم (ملح الطعام) مادة قابلة للأكل، إذًا كل من الكلور والصوديوم هو مادة قابلة للأكل.

-مجلس الوزراء متردد في اتخاذ القرار، إذًا الوزراء مترددون في اتخاذ القرار. (لاحظ أن المجلس معتبرًا ككل قد يكون مترددًا لا لشيء إلا لأن نصف أعضائه يرون بحسم عكس ما يراه النصف الآخر بحسم مثله).

ص: 83

‌الفصل الرابع والعشرون

إثبات التالي

العبارة الشرطية هي العبارة التي تضع شرطًا يسمى المُقدم ثم تمضي في التالي لتتحدث عما يلزم عن هذا الشرط أي لتتحدث عما يكون عليه الحال إذا ما تحقق هذا الشرط، وفي مغالطة إثبات التالي يتم الانتقال في الاتجاه العكسي من إثبات التالي إلى إثبات المقدم.

والآن انظر إلى الحجة التالية:

إذا كان شيء ما إنسانًا فهو إذًا فان

سقراط إنسان

إذًا سقراط فان ..

إنها بالطبع حجة صائبة تمامًا ولا غبار عليها البتة، ولكن

ص: 84

انظر إلى الحجة القادمة التي يتم فيها عكس القضية والمضي من إثبات التالي إلى البرهنة على المقدم:

إذا كان شيء ما إنسانًا فهو إذًا فان

سالي فانية

إذًا سالي إنسان

وهنا يتبدى الخطأ بوضوح، فالحق أن سالي قد تكون قطة، وهي فانية بكل تأكيد، ولكنها ليست إنسانًا.

*أجريت دراسة على أشخاص غير مدربين في المنطق وكشفت أن أكثر من ثلثي المشاركين يقبلون مثل هذه الحجج المغلوطة.

*قد تخفى هذه المغالطة على أفطن الناس عندما تأتي متسربلة بنصوص جليلة أو مشحونة بعواطف قوية، وكثيرًا ما نصادف هذا الخطأ المنطقي في الإعلانات التلفزيونية والخطب السياسية

أمثلة لمغالطة إثبات التالي:

-إذا كنتُ في الإسكندرية فأنا في مصر، أنا في مصر، إذًا أنا في الإسكندرية.

ص: 85

-إذا كانت الطاحونة تلوث مياه النهر لزادت حالات موت الأسماك، حالات موت الأسماك في ازدياد، إذًا الطاحونة تلوث مياه النهر (من الواضح أن موت الأسماك يمكن أن يحدث لأي سبب آخر، كاستخدام المبيدات الحشرية)

-إذا سقط المطر لابتل الرصيف، الرصيف مبتل، إذًا لا بد أن يكون المطر قد سقط (قد تكون البلدية غسلت الرصيف للتو!).

ص: 86

إنكار المقدم

يقع المرء في مغالطة إنكار المقدم إذا قام في قضية شرطية ينفي المقدم واستنتج من ذلك نفي التالي، كما في المثال التالي:

إذا كنتُ نائمًا فإن عيني تكون مغلقة

أنا لست نائمًا

إذًا عيني ليست مغلقة.

إن حقيقة أن عيني تكون مغلقة أثناء النوم لا تمنع احتمال أن أغلقها وأنا في تمام اليقظة.

إن الحجة السابقة تكون صائبة إذا كانت المقدمة الأولى تقرر أنني لا أغلق عيني إلا عندما أكون نائمًا.

ص: 87

أمثلة لمغالطة إنكار المقدم:

-كل الطيور لها أجنحة

الخفاش ليس من الطيور

إذًا الخفاش ليس له أجنحة (بالطبع كون الطيور جميعًا ذوات أجنحة لا يمنع أن تكون هناك مخلوقات أخرى كالحشرات والخفافيش ذات أجنحة).

-إذا كانت السماء تمطر فإن الرصيف يكون مبتلًا.

السماء لا تمطر منذ أسبوع

إذًا الرصيف لا بد أن يكون جافًا (بالطبع ليس هناك استحالة في أن يكون الرصيف قد تم غسله للتو)

-إذا كانت سياساته ناجعة فإن البطالة سوف تنكمش

ولكن سياساته غير ناجعة

إذًا البطالة لن تنكمش (بالطبع قد تكون هناك أسباب تفضي إلى انكماش البطالة رغم سوء السياسات).

ص: 88

‌الفصل الخامس والعشرون

ذَنْبٌ بالتداعي

يقع المرء في هذه المغالطة حين يذهب إلى أن رأيًا ما هو باطل بالضرورة بالنظر إلى معتنقيه.

*تستمد هذه المغالطة سطوتها من ميل فطري لدى البشر جميعًا؛ فالإنسان لا يحب أن يُقرن بمن لا يحب، لكأنما الحق والباطل ينتقل بالتداعي من أصحاب الشيء إلى الشيء أو من أصحاب الرأي إلى الرأي.

أمثلة:

-كان هتلر نباتيًا

إذًا النباتية أثم ينبغي اجتنابه.

ص: 89

-كيف تؤيد ملكية الدولة للصناعات الحيوية؟ ألا تعلم أن ستالين أيضًا كان يفعل ذلك؟

-كيف تضيف الثوم إلى الثريد؟ ألا تعلم أن اليهود أيضًا يفعلون ذلك؟

ص: 90

‌الفصل السادس والعشرون

مغالطة التأثيل

ثمة اعتقاد خاطئ يقر في أذهان الكثيرين مفاده أن المعنى الحقيقي لأي كلمة يجب أن يُلتمس في الأصل التاريخي الذي أتت منه الكلمة، وهو ما يسمى باللسانيات بـ"التأثيل"، وهو اعتقاد فيه تبسيط مفرط لطبيعة اللغة ومنشئها وقوانينها المسيرة.

مثل من يمنع أن يكون التعليم إلزاميًا لأن أصل كلمة تعليم مشتقة من الكلمة اللاتينية educere التي تفيد معنى الملاطفة والانجذاب دون معنى الإلزام.

*يعول مستخدمو اللغة على السياق لاستشفاف المعنى المقصود للكلمة، ولا يفكرون كثيرًا في "التأثيل": أي رد الكلمة إلى أصلها التاريخي، والذي قد لا يكون واضحًا على الإطلاق وبخاصة إذا كان مؤسسًا على لغة أجنبية أو لغة قديمة بائدة.

ص: 91

*هناك تغيرات كثيرة تعتري اللغة؛ منها الصوتي، والنحوي، والدلالي (وهو ما يعنينا في هذا المقام)، والتغير الدلالي أنواع عديدة منها ما يعرف بـ"الانحدار الدلالي": وهو تغير يلحق بمعنى اللفظ فيكسبها دلالة سلبية، وتقابل ظاهرة الانحدار الدلالي ظاهرة "التحسن الدلالي" حيث تكتسب اللفظة دلالة إيجابية أو يزول عنها ما كان من دلالة سلبية في الأصل، مثل كلمة وزير فقد كانت تعني قديمًا الخادم، وقد تغير مدلولها إلى الأحسن.

*إن المشكلة التي يقع فيها أنصار المنهج التأثيلي هي ما سماه لا ينز: "مغالطة التأثيل"، ذلك أنهم يحتجون بأن كلمة ما تعود إلى أصل إغريقي أو لاتيني أو عربي أو غيره ولذا فإن معناها ينبغي أن يكون مطابقًا لما كانت عليه في الأصل.

* معظم الكلمات في معجم أية لغة لا يمكن أن تعزى إلى أصولها وهو ما تكشف للتأثيلين وسلم به اللسانيون عامة في هذا الوقت الحاضر.

*تبلغ المغالطة التأثيلية مداها حين تُعمِل أدواتها التاريخية في المصطلح العلمي أو التكنيكي وتحاول أن تفهم المصطلح الفني المتخصص بمعناه اللغوي الدارج، وهو ما يمكن أن

ص: 92

نطلق عليه "ابتذال المصطلح". إن اللفظ اللغوي العادي حين يوضع بين هلالين ويتحول إلى مصطلح علمي، فإنه يفارق داره وينسى ماضيه ويكتسي معنى جديدا قد لا يكون له علاقة بمعناه اللغوي الدارج، وبالتالي لا يجدي نفعًا تنقيبنا عن أصله وفصله ولا يقربنا إلى فهم المصطلح في وضعه الجديد.

وبعد؛ فحين يحاج المرء بأن دعواه صائبة لا لشيء إلا لأن الأصل اللغوي نفسه للكلمة يفيد ذلك فإنه يقع في ضرب من الاستدلال الدائري، وفضلًا عن ذلك فإن افتراض أن الكلمات يجب أن تظل لصيقة بمعناها التاريخي الأول هو افتراض ينطوي على إغفال عبثي للطبيعة الاصطلاحية للغة وتقييد لا مبرر له لنموها وتطورها.

إن اللغة لفي سيرورة دائمة وتحوّل دائب، وهناك ألف سبب يلح على الألفاظ أن تخرج من جلدها وتكتسي معاني جديدة غير ذات صلة بمعناها القديم.

ص: 93

‌الفصل السابع والعشرون

الاحتكام إلى الجهل

"كان جحا غزير الشعر فسأله أحد جلسائه مداعبًا:

كم عدد شعرات رأسك ياجحا؟ فأجابه جحا دون تردد:

عددها واحد وخمسون ألفًا وثلاثمائة وتسع وستون شعرة.

فقال له جليسه متعجبًا: وكيف عرفت ذلك؟ فأجابه جحا:

إذا كنت لا تصدقني فقم أنت وعدها!! "

تفيد مغالطة "الاحتكام إلى الجهل" أن شيئًا ما هو حق بالضرورة ما دام أحد لم يبرهن على أنه باطل، والعكس أيضًا صحيح: أي أن شيئًا ما هو باطل بالضرورة ما دام أحد لم يثبت بالدليل أنه حق. في كلا الحالين يؤخذ غياب الدليل مأخذ الدليل.

*الجهل جهل، والجهل ليس دليلًا على شيء إلا أننا نجهل.

ص: 94

*في الجدل إذا فاتك لحظة أن تستمسك بخلو جانبك حين يكون على خصمك عبء البينة ورحت بدلًا من ذلك تنسج حججًا إيجابية -وقد تكون ضعيفة- لكي تبرئ ساحتك وتثبت براءتك، فإنك بذلك تسلم سلاحك الأقوى بلا داعٍ وتستبدل به سلاحًا أضعف. يقول المثل الفرنسي:"من يعتذر إنما يتهم نفسه"، يعني أنك تولي ظهرك للواثبين وتتخذ مظهر المذنب تجاه الاتهامات الموجه ضدك إذ تُحَمِّل نفسك عبء الدليل حيث كان واجبك الوحيد هو أن تتحدى خصمك أن يبرهن هو على اتهاماته لك برهانًا ساطعًا.

أمثلة:

-ليس هناك دليل على أن الأشباح (العفاريت) غير موجودة.

إذًا الأشباح موجودة.

- اعتقد أن بعض الناس لديها قوى نفسية خارقة.

وما دليلك على ذلك؟

دليلي أنه لا أحد استطاع أن يثبت أن الناس لا تملك قوى نفسية خارقة.

ص: 95

لاحظ أننا لسنا بصدد نفي وجود الأشباح أو نفي وجود قوى خارقة؛ إنما ننفي أن تكون الحجة الواردة صائبة منطقيًا.

متى تكون الحجة المستفادة من الجهل غير مغالطة؟

هناك أحوال كثيرة يكون فيها الاحتكام إلى الجهل مقبول تمامًا مثل:

-اتباع مبدأ السلامة في تناول الأسلحة فإذا كنت لا تعرف (تجهل) ما إذا كان السلاح ملقمًا بالذخيرة أم لا فإن عليك أن تتعامل معه على أنه ملقم، وأن تفتح خزانته قبل أن تلوح به؛ لكي تستوثق من أنه غير ملقم.

-إذا لم يتم العثور على شيء بعد البحث الجاد نستنتج أن هذا الشيء لا وجود له؛ كالأدوية التي يتم اختبارها على الحيوانات ففيها يؤخذ غياب الدليل على سمية الدواء مأخذ الدليل على أنه مأمون للإنسان.

-في مجال التاريخ يسمى هذا الصنف من الحجة ex silentio بحكم الصمت؛ كالحكم على أن الرومان لم يقلدوا الأوسمة شخصًا بعد وفاته، بناء على الدليل السلبي فالكتابات وشواهد القبور لم تسجل شيئًا من ذلك.

ص: 96

-في مجال البحث العلمي يطلق اسم الدليل السلبي على ذلك الصنف من البينة حيث تلتمس نتيجة معينة بالاختبار فلا تحدث، تعد البينة السلبية في العلم غير عديمة القيمة، إلا أن الأبحاث التي تسجل نتائج إيجابية تحظى بقبول أكبر.

-في مجال الحاسوب ومجال العلوم الاجتماعية تعرف الحجة المستقاة من الجهل باسم "الاستدلال القائم على افتقاد المعرفة"، والذي يتم عندما تُلتمس معلومة معينة في قاعدة البيانات فلا يُعثر عليها.

*في مجال القضايا الجنائية يقع عبء الدليل على الادعاء، وعلى الدفاع أن يبين الثغرات أو نقاط الضعف في حجة الادعاء، وليس عليه أن يثبت براءة المتهم ابتداءً؛ لأن الأصل براءة الذمة.

ص: 97

‌الفصل الثامن والعشرون

سرير بروكرُسْت (البروكرستية)

تُرى كم "ثِيسيوس" يَلزمنا اليوم

لكي نَبْرَأَ من تحيزاتِنا المَكِينة

ونعدل منطقَنا المقلوب؟

كان بروكرست في الميثولوجيا اليونانية قاطع طريق يعيش في أتيكا، وكانت له طريقة خاصة جدًا في التعامل مع ضحاياه، فقد كان يستدرج ضَحِيّته ويضيِّفه ويكرم وفادته، وبعد العشاء يدعوه إلى قضاء الليل على سريره الحديدي الشخصي، إنه سرير لا مثيل له بين الأسرة إذ كان يتميز بميزة عجيبة، هي أن طوله يلائم دائمًا مقاس النائم أيًا كان، غير أن بروكرست لم يكن يتطوع بتفسير كيف يتأتّى لسريره أن يكون على مقاس الجميع على اختلاف أطوالهم، حتى إذا ما اضطجع الضحية على السرير بدأ بروكرست عمله فجعل يربطه بإحكام ويشد رجليه إن كان قصيرًا ليمطهما إلى الحافة،

ص: 98

أو يبترهما بترًا إن كان طويلًا ليفصل منها ما تجاوز المضجع، حتى ينطبق تماما مع طول السرير! وظل هذا دأبه إلى أن لقي جزاءه العدل على يد البطل الإغريقي ثيسيوس الذي أخضعه لنفس المُثلة، فأضجعه على السرير ذاته وقطع رقبته لينسجم مع طول سريره.

يشير مصطلح "سرير بروكرست" أو البروكرستية إلى أية نزعة إلى فرض القوالب على الأشياء أو الأشخاص أو النصوص أو لَيّ الحقائق وتشويه المعطيات وتلفيق البيانات لكي تنسجم قسرًا مع مخطط ذهني مسبق، إنه القولبة الجبرية، والتطابق المُعْتَسف، والانسجام المبيت إنه افتئات على الواقع قلما يفلت من غضبة المنطق وانتقام الحقيقة.

ألوان من البروكْرُستيّة

البروكرستية التأويلية: هي فرض توقعاتنا وتحيزاتنا وإسقاطاتنا المسبقة على النصوص دون مراجعة لهذه الإسقاطات.

البروكرستية الإكلينيكية: حين يرهن طبيب مبتدئ أما الحالة ذهنه لتشخيص مسبق يكيف عليه الأعراض والعلامات ويلويها لتأتي مقاس تشخيصه.

ص: 99

الاستخبارات البروكرستية: حين توعز الإدارة السياسية لمرفق الاستخبارات بأن يفصل لها معلومات استخباراتية على مقاس قرار سياسي مبيت.

بروكرستية العولمة الثقافية: هي صب الثقافات جميعًا في قالب واحد. يطمح دعاة العولمة إلى صب الثقافات جميعًا في قالب واحد ظنًا منهم أن إزالة الحواجز بين الأمم وتدفق الأفكار والمعلومات والبشر عبر الحدود من شأنه أن ينشر قيم التسامح والحرية وفهم الآخر، مع أن الانفتاح يثير في النفوس غريزة المحافظة والانكماش والتجمد والبحث عن حدود الذات وتدعيمها لإثبات الهوية وتجنب الانمحاء.

البروكرستية السياسية: هي صب المواطنين جميعًا في قالب واحد.

بروكرستية الملاحظة العلمية: إن إدراك الواقع متأثر بنظرياتنا التي تحدد طريقتنا في تفحص الواقع، يشمل ذلك إدراكاتنا ويشمل أدواتنا العلمية التي هي امتداد لإدراكاتنا. ففهمنا للواقع يتوقف بشدة على أدواتنا المتاحة.

ص: 100

بروكرستية البحث الأكاديمي: كلما طال الأمد على البحث الأكاديمي ترسخت فيه معايير معينة للدراسة، تتحول في النهاية إلى "سرير بروكرستي" علينا أن نطوع له عملنا وننتقي ملاحظاتنا وبياناتنا بحيث تفي بالمعايير وتأتي على مقاس السرير.

*دأبنا جميعًا في حياتنا اليومية كما في صعيد العلم أن نقاوم أي تغيير في النموذج المعرفي الأساسي، فكلما تراكمت المعرفة لدى الأفراد وترسخت نظرياتهم فإن ثقتهم بهذه النظريات يتعاظم ويكتسبون مناعة ضد أي نظريات جديدة لا تعزز النظريات السابقة، فقلما اتفق لتجديد علمي هام أن يشق طريقًا هينًا سلسًا ويحمل مناوئيه على التخلي عن نموذجهم والتحول إليه طواعية واقتناعًا.

ص: 101

‌الفصل التاسع والعشرون

مغالطة المقامر

تنطوي مغالطة المقامر على خطأ في فهم فكرة الاحتمالات وفكرة الأرجحية، ونحن نرتكب هذه المغالطة عندما نظن أن ما وقع في الماضي له تأثير على الأرجحية أو الاحتمالات الحالية.

أمثلة:

-لقد اشتريت ثمانية بطاقات حظ الأسبوع الماضي، ولم تكن بينها أي بطاقة رابحة، وحيث إن فرص الكسب هي واحدة من تسعة، فإن بطاقتي القادمة ستكون رابحة على الأرجح.

-أما زلت تشتري أوراق اليانصيب هذه؟

نعم، لقد ظللت أشتريها بانتظام لمدة سنتين ولم أربح.

إذًا، لماذا تحرص على شرائها؟

ص: 102

بما أنني لم أربح حتى الآن، فإن الوقت قد حان لكي أربح عاجلًا.

*صفوة القول في المقامرة أن ما تم حدوثه حتى اللحظة الآنية هو شيء لا يقدم ولا يؤخر في احتمالات السحبة القادمة.

ص: 103

‌الفصل الثلاثون

المظهر فوق الجوهر

{وَمِنَ النْاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}

وسرى في فؤاده زخرف القول

يراه مستعذبًا وهو داءُ

يقع المرء في هذه المغالطة عندما يولي أهمية زائدة للأسلوب الذي تم به عرض حجة ما، بينما يهمّش أو يتغافل عن مضمون الحجة ومحتواها.

أمثلة:

-من المؤكد أن حجة رئيس المجلس ضعيفة وأنه قد خسر الجدال ألا ترى كم كان جبينه يتفصد عرقًا ووجه يحمر ارتباكًا؟

-لا شك أن هذه الغسالة الكهربائية هي الأفضل صنعة والأطول عمرًا من غيرها؛ لأن البائع كان يتحدث عنها بطلاقة وإقناع، كما أنه شديد التأنق والوسامة وتبدو عليه أمارات الذكاء والفهم.

ص: 104

-مربع ثلاثة هو تسعة. تسع رصاصات يفقآن عينك أيها الفاشل الأبله

-بل ستة. ولا داعي لهذه البذاءة وهذا التجريح.

(لاحظ أن البذاءة والإفحاش في القول لا دخل لهما في صواب العبارة: "مربع ثلاثة هو تسعة" قول صائب وإن كرهنا بذاءة قائله وإقذاعه في الحديث، "مربع ثلاثة هو ستة" قول خطأ ولو شفعة قائلة بأسلوبه الحسن اللطيف)

إلى هنا انتهى تلخيص كتاب المغالطات المنطقية، لمؤلفه عادل مصطفى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 105