المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة المصنف بسم الله الرحمن الرحيم «الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى - التعليقات السنية على العقيدة الواسطية - محمد خليفة التميمي

[محمد بن خليفة التميمي]

فهرس الكتاب

‌مقدمة المصنف

بسم الله الرحمن الرحيم

«الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليُظهره على الدين كُله، وكفى بالله شهيدًا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ إقرارًا به وتوحيدًا.

وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.

صَلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسَلَّم تسليمًا مزيدًا».

ص: 5

‌مقدمة الشارح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ مَنْ يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، ثم أما بعد:

قبل أن نشرع في بيان ما احتوت عليه هذه «العقيدة الواسطية» من مسائل وقضايا- أُحِبُّ أن أُقَدِّم ببعض المقدمات.

‌المقدمة الأولى: مفهوم العقيدة:

أولى تلك المقدمات: هي ما يتعلق بشأن هذا العلم؛ علم العقيدة، فإن كثيرًا من طلبة العلم قد يدرس جزئيات هذه العقيدة دون أن يستوعب كيفية الربط بينها وبين ما يَعنيه هذا العلم؛ لذا لا بد من وضع مقدمة هنا تتعلق بأمر هذه العقيدة؛ لكي يستطيع طالب العلم أن يربط بين جزئيات المسائل وبين كلياتها.

فعلم العقيدة علم يُعنى بباطن الإنسان، فنحن إذا ما تأملنا حديث جبريل المعروف، والذي بَيَّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام وأركان الإيمان والإحسان، نرى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل أركان الإسلام هي الأمور الظاهرة، وجعل أركان الإيمان هي الأمور الباطنة، ثم ذكر الإحسان، والإحسان مجموع الأمرين؛ لأن الإحسان هو إتقان الظاهر والباطن، فإذا ما أتقن الإنسان الظاهر والباطن- فإنه بذلك

ص: 7

يكون من أهل الإحسان.

فإذا قلنا: إن العقيدة أمر يُعنى بالباطن، فالسؤال الذي يفرض نفسه ما هو الباطن؟

والجواب: أن الباطن هو مجموع أمرين: أمر الفكر والنَّظر. وأمر الإرادة والعمل.

ونحن لو تأملنا في عِدَّة نصوص من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأرشدتنا إلى مفهوم هذا الباطن؛ وذلك كقول الله عز وجل في تزكيته لنبيه صلى الله عليه وسلم حيث قال: {ما ضَلَّ صاحبكم وما غوى} ؛ فقد زَكَّاه الله سبحانه وتعالى في جانبين، وكذا تزكية النبي صلى الله عليه وسلم للخلفاء من بعده؛ كقوله:«عَليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين»

(1)

.

قال الراغب الأصفهاني: «والرُّشد: خلاف الغَي، يستعمل استعمال الهداية؛ يقال: رَشَدَ يَرْشُدُ، ورَشِدَ يَرْشَدُ؛ قال: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، وقال: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ} [البقرة: 256]، وقال تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6]، {وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء: 51]، وبين الرُّشدين- أعني: الرُّشد المؤنس من اليتيم، والرُّشد الذي أوتي إبراهيم عليه السلام بونٌ بعيدٌ»

(2)

.

وإذا ما جمعنا بين الآية والحديث نجد أن لكل لفظ ما يقابله؛ فالرشد ضد الغواية، والهدى ضده الضلال، فإذًا أخبر الله تعالى بكمال الهدى والرشد للنبي صلى الله عليه وسلم، وزكى النبي صلى الله عليه وسلم الخلفاء وأخبر بأنهم راشدون مهديون.

(1)

أخرجه الترمذي (2676)، وأبو داود (4607)، والدارمي (96) من العرباض بن سارية ?، وصححه الألباني في «الصحيحة» (937).

(2)

«المفردات في غريب القرآن» (ص 354).

ص: 8

والرشد مكانه العقل، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في شأن اليتامى:{فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم} ؛ فلا يدفع المال إلى اليتيم إلا إذا بلغ رشده، وليس ببلوغه سن التكليف، فإذا أحسن التصرف في ماله فعند ذلك يُدفع إليه، وأما إذا لم يحسن ذلك فلا يدفع إليه هذا المال حتى يرشد.

فالرشد مكانه العقل، والهدى مكانه الإرادة أو القلب بمفهومه الخاص؛ لأن القلب في الحقيقة هو الباطن، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:«مبدأ الفكر والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة في القلب. والعقل يُراد به العلم، ويراد به العمل؛ فالعلم والعمل الاختياري أصله الإرادة، وأصل الإرادة في القلب، والمريد لا يكون مريدًا إلا بعد تصور المراد؛ فلا بد أن يكون القلب متصورًا، فيكون منه هذا وهذا، ويبتدئ ذلك من الدماغ، وآثاره صاعدة إلى الدماغ؛ فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء»

(1)

.

وإن كان في بعض النصوص قد يُطلق القلب ويراد به أحد الجانبين، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا وإنَّ في الجسد مُضغة إذا صَلَحت صَلَح الجسد كله، وإذا فَسَدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»

(2)

.

وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم ألهمني رُشدي، وأَعِذني من شَرِّ نفسي»

(3)

؛ فدعا هنا بكمال الأمرين: بكمال الإرادة والعمل،

(1)

«مجموع الفتاوى» (9/ 304).

(2)

أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير ?.

(3)

أخرجه أحمد (33/ 197) برقم (19992)، والترمذي (3483) واللفظ له من حديث عمران بن حصين ?، وإسناده عند أحمد صحيح على شرط مسلم، كما قال محققو «المسند» .

ص: 9

وبكمال الفكر والنظر.

ولو تأملنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق الأسماء: حارثٌ وهَمَّام»

(1)

.

فهذان الاسمان أصدق وسمٍ على الإنسان؛ لأنه في إرادة دائمة وكسب دائم؛ إمَّا إلى خير وإما إلى شر، وفي همٍّ وتفكير دائم؛ إمَّا إلى خير وإما إلى شَرٍّ؛ فهذان الاسمان أصدق وصف للإنسان.

والوحي قد جاء يخاطبك أيها الإنسان من داخلك، وهذه العقيدة جاءت لتعنى بك من داخلك، وداخلك هما هذان الأمران، ولذلك تأمل قول الله سبحانه وتعالى حيث قال:{إنه إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 40 - 42]، لماذا ذكر الشعراء؟ ولماذا ذكر الكُهَّان هنا؟ وما وجه هذا الذكر في باب الثناء على الوحي؟

والجواب: لتعلم أن هذا الوحي جاء يخاطبك أيها الإنسان، وليس هذا الوحي مجرد قول شاعر يتلاعب بمشاعر الإنسان وإرادته، ويحاول في بعض الأحيان أن يقلب الحق باطلًا والباطل حقًّا، فقد يُزَيِّن الزنا باسم الحب والغرام وغير ذلك، وهذا ما يفعله كثير من الشعراء، وكذلك قال:{ولا بقول كاهن} ؛ لأن الكاهن يتلاعب بالحقائق العلمية.

فإذًا نزه الله هذا الوحي عن أن يكون من هذا أو من ذاك.

وتأمل كذلك هذا النص في سورة الشعراء: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم} ؛ فذكر الكهان، ثم قال:{والشعراء يتبعهم الغاوون} ؛ فذكر الصنفين، وأعاد

(1)

أخرجه أبو داود (4950) و أحمد في «المسند» (19032 (، والبخاري في «الأدب المفرد» (814 (من حديث أبي وهب الجشمي ?، وصححه الألباني في «الصحيحة» (1040).

ص: 10

ذكر هذين الصنفين، والشيطان عدو الإنسان لا يدخل عليه إلا من أحد هذين البابين؛ إمَّا باب الشهوات المحرمة، وهذه تتسلط على الإرادة. وإما من باب شبهات الضلال، وهذه تتسلط على الفكر والنَّظر.

فإذًا نخلص من هذه النصوص إلى أن الباطل مجموع الأمرين: مجموع الفكر والنظر ومجموع الإرادة والعمل.

وقد لخَّص لك السلف هذه الحقائق بقولهم: «الإيمان قول وعمل» .

ومعنى قولهم: «قول» أي علم وعمل؛ فعلم يجعل الإنسان يُميز بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبالتالي يعرف الإيمان؛ فيقوم به، ويعرف الكفر ليجتنبه. وعمل وهو الجانب الإرادي.

ولذلك وأنت تدرس العقيدة يجب أن تعلم أنها تقوم على مجموع الأمرين، وهذا ما تميز به منهج السلف؛ فقد اعتنى بكلا الجانبين (العلم والعمل)؛ فاعتنى بمجموع الأمرين في هذا الباطن الذي هو في الحقيقة بصلاحه يصلح أمر الإنسان كله؛ لأنه متى ما صلح الباطن صلح الظاهر، واستقامت الجوارح بناءً على استقامة هذا الباطن؛ فضلًا عن أن هذا هو المقصود بعلم العقيدة.

وهاك بعض الأمثلة كتطبيقات على ما تقدم: كيف تكون مؤمنًا بالله تعالى؟

لا تكون مؤمنًا بالله تعالى حتى تعرف الله، وهذا جانب علمي. وحتى تعبد الله، وهذا جانب عملي.

وإيمانك بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يصح حتى تصدق به، وهذا جانب علمي. وحتى تتبعه، وهذا جانب عملي.

وكذلك القرآن وهو إما أخبار وإما أوامر؛ فحق الأخبار أن

ص: 11

تُصدق، وحق الأوامر أن تُتَّبع، إذًا ما جاء هذا الوحي إلا ليُصلح هذا الباطن.

فهذا هو علم العقيدة إذا درسته وتعمقت فيه فبقدر هذا التعمق يجب أن تصلح من باطنك، وإذا أصلحت هذا الباطن استقام هذا الفكر؛ فرأيت الحق حقًّا والباطل باطلًا، وعندها تستقيم عندك أمور النظر، وتستقيم بهذا الوحي الذي هو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وتستقيم كذلك باتباع الأوامر؛ فمن هنا قدمت بهذه المقدمة المختصرة.

فالجانب العلمي هو أنك عرفت الله سبحانه وتعالى، ومَيَّزت بين هذا الإله الحق وبين هذه الآلهة الباطلة، وعرفت ما يستحقه سبحانه وتعالى من أسماء حسنى وصفات عُلَا .. إلى غير ذلك من هذه الجوانب العلمية، وهكذا إذا درست أعمال القلوب من خوف ورجاء وتوكل وغير ذلك .. فهذه جوانب عملية، وطبعًا كلا الأمرين لا بد منه، فعندما يقول السلف:«الإيمان- أي: العقيدة- قولٌ وعملٌ» ، فإنما يعنون مجموع الأمرين؛ فلا ينفع العلم وحده، ولا ينفع العمل وحده.

ونحن لا نكتفي بباب العلم بالله سبحانه وتعالى، فهذا العلم لا بد أن يتبعه العمل، لذا بوب البخاري بابًا سماه:(باب العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [محمد: 19] فبدأ بالعلم)

(1)

.

فلعل في هذه المقدمة المختصرة بيان لمفهوم العقيدة وهو أن اعتقاد الأسان في باطنه بمجموع الأمرين؛ فيؤمن بجانب العلم، ويؤمن بجانب العمل.

وبالتالي دراسة هذه العقيدة تصلح هذين الجانبين، وبصلاحهما يَصلح الإنسان في جميع أحواله بإذن الله سبحانه وتعالى؛ فمتى ما ازداد علمًا بها

(1)

«صحيح البخاري» (1/ 24، 25).

ص: 12

وتعمُّقًا فيها فإنه بذلك يصلح من أمر هذا الباطن، وهذا سبب في سَدِّ منافذ الشيطان من شبهات الضلال وشهوات الحرام .. فنحن متى ما استقام فكرنا ونظرنا وعلمنا واستقامت كذلك إرادتنا صلح حالنا، ومن هنا يجب أن نُعنى بهذا الجانب أعظم العناية؛ فنأخذه من منبعه الصافي، لأننا أمناء على ما نتعلم ونعتقد وما نعمل، وسنسأل عما نعلم وعما نعمل؛ لذا يجب أن يكون ما نعلمه وما نعمله وفق ما أمر الله سبحانه وتعالى به ووفق ما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم.

فهذا مفهوم العقيدة، والعقيدة- بحمد الله تعالى- سهلة ميسرة ومحببة إلى النفس، لكن متى ما أحسن الإنسان أخذها من معينها الصافي، ومتى ما أحسن استيعابها وأخذها على الوجه الذي ينبغي، أما إذا حصل خلل من جهة المأخذ أو من جهة التطبيق؛ فهذا الخلل يعود إلى المتلقي.

‌المقدمة الثانية: فهم الأوليات والأولويات:

هناك أوليات وأولويات للعقيدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لمعاذ عندما بعثه إلى اليمن: «فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله»

(1)

، وفي رواية:«فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى»

(2)

.

فينبغي أن تتأمل في ترتيب هذه الأولويات؛ كيف رتبها المصنف؟

وهذا هو ترتيب أهل السنة والجماعة؛ وكل خير في اتباع

(1)

أخرجه أبو داود (1584) بلفظ: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب؛ فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله

»، وأخرجه البخاري (1458) ومسلم (19) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، بلفظ: «فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم

».

(2)

أخرجه البخاري (7371) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 13

من سلف وكل شر في ابتداع مَنْ خلف؛ فأول ما يبدأون به: الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ثم بقية أركان الإيمان.

وقد يأتي وقت من الأوقات مَنْ يحاول أن يغير هذا الترتيب، وأن يقدم بعض الأمور التي جاءت في آخر العقيدة؛ فهل ننساق وراء رغباته؟ أو وراء هذا المنهج الذي قد يسلكه البعض؟

لا، بل يرجى أن يتم التمكن لهذه المسألة؛ لأننا أصحاب العقيدة، وفيها أوليات وفيها أولويات، ولسنا بحاجة إلى مَنْ يعيد لنا ترتيب هذه الأمور، فلا يأتي إنسان فيجعل من مسائل الأحكام أو مسائل الأسماء أولية، أو يجعل من مسائل الخلافة والإمامة أول هذه المسائل ويرجئ مسائل الإيمان بالله .. إلى آخر ذلك، فمثلًا إذا جاء إنسان يريد أن يحيد عن منهج أهل السنة والجماعة ومنهج أهل السلف؛ فيجب أن نعلم أن هذا هو سبيلنا؛ فأمورنا مرتبة بحمد الله تعالى.

ونحن- بحمد الله تعالى- نتميز بأمرين:

أولًا: ثبات العقيدة؛ فما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه فنحن عليه إلى هذا اليوم، ووالله ما نرضى أن نحيد عن هذا قدر أنملة، وإن حدنا عن هذا المنهج فنحن- والله- في ضلال، والعقيدة منا براء.

ثانيًا: اتصال العقيدة؛ فعقيدتنا ليست منقطعة، ولا شك أن العقيدة التي تركها النبي صلى الله عليه وسلم واستقام عليها أصحابه رضوان الله عليهم محفوظة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تزال طائفة من أُمَّتي على الحق ظاهرين»

(1)

، وعندما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية قال:

(1)

أخرجه البخاري (7311) ومسلم (156) من حديث المغيرة بن شعبة ?.

ص: 14

«مَنْ كان على مِثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»

(1)

.

فإذا كنا على هذه العقيدة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وكان عليها أصحابه فنحن على الحق بإذن الله تعالى، وإذا حُدنا فضلالنا على أنفسنا.

فلنعلم أننا أمام عقيدة ثابتة متصلة سندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك تميز أهل السنة- أهل الحديث- بالإسناد. هذا ما أردتُ أن أُقَدِّم به بين يدي شرح هذه العقيدة.

أمَّا عن سبب تأليف العقيدة الواسطية؛ فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «كان سبب كتابتها: أنه قدم عليَّ من أرض واسط بعض قُضاة نواحيها- شيخ يقال له: رضي الدين الواسطي من أصحاب الشافعي رحمه الله قدم علينا حاجًا، وكان من أهل الخير والدين، وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد وفي دولة التَّتَر من غلبة الجهل، والظلم، ودروس الدين والعلم، وسألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته، فاستعفيت من ذلك، وقلت: قد كتب الناس عقائد متعددة، فخذ بعض عقائد أئمة السنة، فألحَّ في السؤال، وقال: ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت، فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر»

(2)

.

ص: 15

قال المصنف رحمه الله:

«أمَّا بعد: فهذا اعتقاد الفرقة النَّاجية المنصورة إلى قيام الساعة؛ أَهْل السُّنَّة والجَمَاعَة.

وهو الإيمانُ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبَعث بعد الموت، والإيمان بالقدَر؛ خَيره وشَرِّه».

الشرح

نبدأ الآن بشرح كلام المصنف رحمه الله؛ إذ قال أنه سيذكر اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، وهم أهل السنة والجماعة.

والفرقة الناجية لها ألقاب: (أهل السنة والجماعة- الطائفة المنصورة- أهل الحديث- الغرباء)؛ فهذه المسميات جاءت بها النصوص، وبحمد الله تعالى عُرف أهل السنة بأنهم هم أهل السنة، فهذا هو اسمهم ثم كما جاء في الحديث:«لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين» ؛ فهم الطائفة الناجية والطائفة المنصورة التي استقامت على هذا المنهج الذي جاء به الوحي؛ فلزمته علمًا وعملًا ودعوة.

فأول ما بدأ به المصنف هنا أنه ذكر أركان الإيمان فقال: «الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر؛ خيره وشره» ، فهذه أركان الإيمان التي جاء بها حديث جبريل

(1)

.

(1)

حديث جبريل الطويل، وفيه بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام وأركان الإيمان وعرَّف الإحسان، وذكر بعض علامات الساعة، أخرجه البخاري مختصرًا (48) من حديث أبي هريرة ?، وأخرجه مسلم بطوله (9) من حديث عمر ?.

ص: 17

ولفظ الإيمان تارة يُطلق ويراد به: مجموع الدين، وتارة يطلق ويراد به: الأمور الباطنة.

ولفظ الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا؛ فحديث:«الإيمان بضع وسبعون شعبة»

(1)

- شمل جميع أمور الدين؛ فالإيمان يشمل جميع أمور الدين أحيانًا، وتارة يراد بالإيمان الجانب الباطن من الإنسان، كما في حديث جبريل عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال:«الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وبالقدر؛ خيره وشره» . فهنا يراد به الأمور الباطنة.

وهكذا الإسلام تارة يُطلق ويراد به جميع الدين، كما قوله تعالى:{إن الدين عند الله الإسلام} ، وتارة يطلق ويراد به: الأمور الظاهرة، كما في حديث جبريل المتقدم، وفيه:«الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتُقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا» .

فمن هذا نعلم أن هذه الألفاظ أحيانًا تعم جميع الدين، وأحيانًا تختص ببعض أموره، ومراد المصنف هنا: ما يتعلق بالأمور الباطنة.

والإيمان لغة: التصديق.

أو أنه أمر يشمل التصديق، ويشمل معه غيره.

والصواب: أن الإيمان ليس مجرد التصديق، فالإيمان يشمل التصديق ويشمل الإقرار والانقياد.

(1)

أخرجه البخاري (9) ومسلم (35) واللفظ له من حديث أبي هريرة ?.

ص: 18

‌أركان الإيمان:

ذكر المصنف أركان الإيمان السِّتة، وسنتحدث عنها بشيء من التفصيل.

قال العلامة السّعْدي رحمه الله في رسالته النافعة «التنبيهات اللطيفة» : «وأصلها الذي عليه تُبنى: أي: أصل هذه العقيدة هو الإيمان بهذه الأصول السِّتَّة التي صرَّح بها الكتاب والسنة في مواضع كثيرة جملة وتفصيلًا وتفريعًا، وهي المذكورة في حديث جبريل المشهور حيث قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ فأجابه.

فهذه الرسالة من أولها إلى آخرها تفصيل لهذه الأصول الستة»

(1)

.

ومن المواضع التي ذكر اللهُ فيها هذه الأركانَ السِّتَّةَ العظيمة قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177]، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136].

فهذه خمسة أركان، والسَّادس بيَّنه اللهُ في قوله:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].

وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِه في حديث جبريل المشهور، عندما سأله عليه السلام عن الإيمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه» .

(1)

«التنبيهات اللطيفة» (ص 13).

ص: 19

‌الركن الأول: الإيمان بالله:

وهو الاعتقاد الجازم بأن الله هو الرَّبُّ الخالق المدبِّر المتصف بصفات الكمال والجلال، المنزَّه عن كل نقص وعيب، المستحق للألوهية وحده لا شريك له، وهو أصل الأصول وأعظمها وأهمها، وعليه تُبنى العقيدة كلها.

‌ثمرات الإيمان بالله عز وجل:

ذكر العلامة ابن عثيمين رحمه الله: أن «الإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته يثمر للعبد محبةَ الله وتعظيمَه الموجبةَ للقيامِ بأمرِه واجتنابِ نَهْيِهِ، ويحصل بهما كمال السَّعادة في الدنيا والآخرة للفرد والمجتمع؛ {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]»

(1)

.

‌الركن الثاني: الإيمان بالملائكة:

قال الكرماني: «الملائكةُ: جمع مَلَكٍ؛ نظرًا إلى أصله الذي هو (مألك) مَفْعَل من الألوكة، بمعنى الرسالة، والتاء زيدت فيه لتأكيد معنى الجمع، أو لتأنيث الجمع»

(2)

.

والإيمان بالملائكة يجب أن يكون إيمانًا مُجملًا بجميعهم؛ مَنْ علمنا منهم ومَن لم نعلم، وأن الله خلقهم من نور، وأنهم عباد مُكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولا يأكلون ولا يشربون، ولا يتناكحون ولا يتناسلون، وكذلك يجب أن يكون إيمانًا مُفَصَّلًا بمن ذُكر منهم باسمه؛ كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك، وبصفة مَنْ ذُكر منهم بوصفٍ؛ كحملة العرش وخزنة النار

ص: 20

وجبريل، وبعدد مَنْ ذُكِر منهم بعددٍ كخزنَة النار وحملة العرش.

وبعمل مَنْ ذُكِر منهم بعملٍ؛ فمنهم الموكَّل بالجبال، ومنهم الموكَّل بالقَطر، ومنهم الموكَّل بفتنة القبر، ومنهم الموكَّل بالنفخ في الصور وغير ذلك.

ومن‌

‌ ثمرات الإيمان بالملائكة:

أولًا: العلم بعظمة خالقهم تبارك وتعالى وقدرته وسلطانه.

ثانيًا: شكره تعالى على عنايته بعباده، حيث وكَّل بهم مِنْ هؤلاء الملائكة مَنْ يقوم بحفظهم وكتابة أعمالهم، وغير ذلك من مصالحهم.

ثالثًا: محبَّة الملائكة على ما قاموا به من عبادة الله على الوجه الأكمل واستغفارهم للمؤمنين

(1)

.

‌الرُّكن الثالث: الإيمان بالكتب:

هو الاعتقادُ الجازمُ أن الله تعالى أنزل على رسله كتبًا حجة على العالمين، ومحجة للعاملين؛ يعلمونهم بها الحكمة، ويزكونهم.

ونؤمن بأن الله تعالى أنزل مع كل رسول كتابًا؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} .

ونعلم من هذه الكتب:

‌1 - التوراة:

التي أنزلها الله تعالى على موسى صلى الله عليه وسلم، وهي أعظم كتب بني إسرائيل؛ قال عز وجل: {فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ

ص: 21

كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}.

‌2 - الإنجيل:

الذي أنزله الله تعالى على عيسى صلى الله عليه وسلم، وهو مصدق للتوراة، ومتمم لها؛ قال جل وعلا:{وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} . {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} .

‌3 - الزَّبور:

الذي آتاه الله تعالى داود صلى الله عليه وسلم.

‌4 - صُحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام.

‌5 - القرآن العظيم:

الذي أنزله الله على نبيه، محمد خاتم النبيين {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} فكان {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} ؛ فنسخ الله به جميع الكتب السابقة، وتكفل بحفظه عن عبث العابثين، وزيغ المحرفين؛ قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ؛ لأنه سيبقى حجة على الخلق أجمعين إلى يوم القيامة

(1)

.

من‌

‌ ثمرات الإيمان بالكتب:

أولًا: العلم برحمة الله وعنايته بخلقه، حيث أنزل لكل قوم كتابًا يهديهم به.

ثانيًا: ظُهُور حِكمته تعالى؛ حيث شرع في هذه الكتب لكل أمة ما يناسبها، وكان خاتم هذه الكتب القرآن العظيم مُناسبًا لِجَميع الخَلْقِ في كلِّ عَصر ومكانٍ إلى يوم القيامة.

ثالثًا: شكر نعمة الله على ذلك

(2)

.

ص: 22

‌الركن الرابع: الإيمان بالرسل:

والرسول: هو رجلٌ من بني آدم بَعَثَه اللهُ بشرعٍ، وأَمَرَه بتبليغه.

والإيمان بالرسل مُجْمَلٌ، وذلك بجميع رسل الله؛ مَنْ علمنا منهم ومَن لم نعلم؛ قال تعالى:{وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: 164]، وإيمانٌ مفصَّلٌ، وذلك بجميع من ذُكر منهم باسمه في كتاب الله، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة.

مِنْ‌

‌ ثمرات الإيمان بالرسل:

أولًا: العلم برحمة الله وعنايته بخلقه، حيث أرسل إليهم أولئك الرسل الكرام للهداية والإرشاد.

ثانيًا: شكره تعالى على هذه النعمة الكبرى.

ثالثًا: مَحَبَّة الرُّسل وتوقيرهم، والثناء عليهم بما يليق بهم؛ لأنهم رسل الله تعالى وخلاصة عبيده، قاموا لله بعبادته وتبليغ رسالته والنصح لعباده والصبر على أذاهم»

(1)

.

‌الركن الخامس: البعث بعد الموت:

وهو الاعتقاد الجازم بأن الله سيبعث الناس بعد موتهم، ويُعيد إليهم أرواحهم، وذلك للحساب والجزاء.

دلَّ على ذلك الأدلة المتوافرة من الكتاب والسُّنَّة وإجماع المسلمين، بل واليهود والنصارى وكل الشرائع السماوية السابقة.

ومن‌

‌ ثمرات الإيمان باليوم الآخر:

أولًا: الحرص على طاعة الله تعالى؛ رغبة في ثواب ذلك

ص: 23

اليوم، والبعد عن معصيته، خوفًا من عقاب ذلك اليوم.

ثانيًا: تسلية المؤمن عما يفوته من نعيم الدنيا، ومتاعها بما يرجوه من نعيم الآخرة وثوابها

(1)

.

‌الركن السَّادس: الإيمان بالقدر خيره وشره.

هو الاعتقاد الجازم بتقدير تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق به علمه، واقتضته حكمته؛ قال جل وعلا:{إنا كل شيء خلقناه بقدر} ، ونؤمن مع ذلك أن الله تعالى جعل للعبد اختيارًا وقدرة بهما يكون الفعل، وإن كان لا يخرج بهما عن مشيئته سبحانه؛ قال سبحانه:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .

والاعتقاد أن الله تعالى أرسل {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، ولولا أن فعل العبد يقع بإرادته واختياره ما بطلت حجته جل وعلا على الناس بإرسال رسله.

من‌

‌ ثمرات الإيمان بالقدر:

أولًا: الاعتماد على الله تعالى عند فعل الأسباب؛ لأن السبب والمسبب كليهما بقضاء الله وقدره.

ثانيًا: راحة النفس وطمأنينة القلب؛ لأنه متى علم أن ذلك بقضاء الله تعالى، وأن المكروه كائن لا محالة ارتاحت النفس واطمأن القلب ورضي بقضاء الرب، فلا أحد أطيب عيشًا، وأروح نفسًا، وأقوى طمأنينة ممن آمن بالقدر.

ثالثًا: طرد الإعجاب بالنفس عند حصول المراد؛ لأن حصول

ص: 24

ذلك نعمة من الله بما قدره من أسباب الخير والنجاح؛ فيشكر الله تعالى على ذلك ويدع الإعجاب

(1)

.

ص: 25

قال المصنف رحمه الله:

«ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسَه في كتابه، وبما وصفه به رسوله مُحمد صلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ» .

الشرح

بعد أن ذكر المصنف رحمه الله أركان الإيمان إجمالًا- بدأ في بيان تفصيلِها؛ فبدأ بالأصلِ الأولِ، وهو الإيمان بالله عز وجل؛ فقال:«من الإيمان بالله: الإيمانُ بما وصف به نفسَه في كتابه، وبما وصفه به رسوله مُحمد صلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ» .

فعقيدة أهل السنة والجماعة: الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى، وأنه الأول بلا ابتداء، والآخِر بلا انتهاء، وأنَّه الرب الخالق الرازق المُدَبِّر، الإله الحق، المستحق للعبادة وحده، وأن من الإيمان به سبحانه: الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العُلَى، وذلك بأن نثبت له ما أثبته لنفسه في كتابه، وما أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

فأهل السنة يؤمنون أن الله ليس كمثله شيء؛ فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسمائه وآياته، ولا يكيفون ولا يُمَثِّلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سَمِيَّ له، ولا كُفء له، ولا نِدَّ له، ولا يقاس جل وعلا بخلقه.

ص: 26

وهذا ما دلَّت عليه أدلة الكتاب والسُّنَّة وإجماع سَلَف الأمة؛ قال الإمام أحمد رحمه الله: «لا يُوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يُتجاوز القرآن والحديث»

(1)

.

وقال ابن عبد البر رحمه الله: «أهل السُّنَّة مجتمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز؛ إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك، وأما أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والخوارج فيُنكرونها ولا يحملونها على الحقيقة، ويزعمون أنَّ مَنْ أقَرَّ بها مُشَبِّه، وهم عند من أقَرَّ بها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به الكتاب والسنة وهم أئمة الجماعة»

(2)

.

وقال الحافظ ابن رجب: «والصواب: ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت؛ مِنْ غير تفسير لها، ولا تكييف، ولا تمثيل، ولا يصح عن أحد منهم خلاف ذلك البتة»

(3)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «القول الشامل في جميع هذا الباب: أن يُوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به السَّابقون الأولون لا يُتَجاوز القرآن والحديث»

(4)

.

فالسلف يعتقدون أن الواجب في نصوص القرآن والسنة بما في ذلك نصوص الأسماء والصفات هو إجراؤها على ظاهرها، وذلك بأن تُفهم وَفق ما يقتضيه اللسان العربي، وأن لا يُتعرض لها بتحريف أو تعطيل كما فعل المعطلة، الذين تلاعبوا بظواهر النصوص لمجرد

(1)

انظر: «المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد» (ص 116).

(2)

انظر: «التمهيد» لابن عبد البر (7/ 145).

(3)

انظر: «فضل علم السلف على الخلف» لابن رجب ص (22).

(4)

«الفتوى الحموية» (ص 61).

ص: 27

أنَّها خالفت باطلهم ومناهجهم الفاسدة

(1)

.

فنصوص الصفات ألفاظ شرعية يجب أن تُحفظ لها حُرمتها، وذلك بأن نفهمها وَفق مراد الشارع؛ فلا نتلاعب بمعانيها لنصرفها عن مراد الشارع.

فمن الأصول الكلية عند السلف أن الألفاظ الشرعية لها حرمتها، ومِن تمام العلم أن يُبحث عن مراد الله ورسوله بها ليُثبت ما أثبته الله ورسوله من المعاني، ويُنفى ما نفاه الله ورسوله من المعاني

(2)

.

وبحمد الله وفضله نجد أن نصوص الصفات الواردة في القرآن والسنة هي من الوضوح والكثرة بمكان، بحيث يستحيل تأويلها والتلاعب بنصوصها، فلقد جاءت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بإثبات الصفات إثباتًا مفصَّلاً على وجهٍ أزال الشبهة وكشف الغطاء، وحصل به العلم اليقيني، ورفع الشك والريب؛ فثلجت به الصدور، واطمأنت به القلوب، واستقر الإيمان في نصابه، فلقد فَصَّلت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الأسماء والصفات والأفعال أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقَرَّرت إثباتها أكمل تقرير في أبلغ لفظ.

فالمُطَّلع على نصوص القرآن والسنة الخبير بهما، لا يزيده تحريف المعطلة لتلك النصوص إلا احتقارًا لهم، ويقينًا بفساد معتقدهم وبطلانه.

ولا تَرُوج تحريفات المعطلة إلا على الجاهل بمعرفة تلك النصوص قليل البضاعة فيها، فهذا الصنف أُتِي مِنْ جهة جهله لا مِنْ قِلَّة النصوص الواردة في هذا الباب.

(1)

«درء تعارض العقل والنقل» (2/ 301).

(2)

«مجموع الفتاوى» (12/ 113، 114) بتصرف.

ص: 28

وأما معاني هذه الكلمات:

فقد قال العلَّامة ابن القيم رحمه الله: «التَّحْرِيف: هو العدول بالكلام عن وجهه وصوابه إلى غيره، وهو نوعان:

تحريف لفظه، وتحريف معناه:

والنوعان مأخوذان من الأصل عن اليهود، فهم الراسخون فيها، وهم شيوخ المحرِّفين وسلفهم؛ فإنهم حرَّفوا كثيرًا من ألفاظ التوراة، ولما غُلبوا عن تحريف لفظه حَرَّفوا معناه؛ ولهذا وُصِفُوا بالتَّحْرِيف في القرآن دون غيرهم من الأمم، ودرج على آثارهم الرافضةُ، فهم أشبه بهم من القُذَّة بالقُذَّة، والجهمية؛ فإنهم سلكوا في تحريف النصوص الواردة في الصفات مسالك إخوانهم من اليهود، ولمَّا لم يتمكنوا من تحريف نصوص القرآن حرَّفوا معانيه وسَطَوْا عليها، وفتحوا باب التَّأْوِيل لكل مُلْحِدٍ يكيد الدين، فإنه جاء فوجد بابًا مفتوحًا وطريقًا مسلوكًا، ولم يمكنهم أن يخرجوه من بابٍ أو يردوه من طريقٍ قد شاركوه فيها، وإن كان الملحد قد وسَّع بابًا هم فتحوه وطريقًا هم اشتقوه، فهما بمنزلة رجلين ائتُمِنا على مالٍ فتأول أحدهما وأكل منه دينارًا، وتأول الأخر وأكل منه عشرةً، فإذا أنكر عليه صاحبه قال: إن حلَّ أكل الدينار بالتَّأْوِيل حلَّ أكل العشرة به، ولا سيما إذا زعم آكل الدينار أن الذي ائتمنه إنما أراد منه التَّأْوِيل، وأن المتأول أعلم بمراده من المالك، فيقول له صاحبه: أنا أسعد منك، وأولى بأكل هذا المال.

والمقصود أن التَّأْوِيل يتجاذبه أصلان: التفسير، والتَّحْرِيف.

فتأويل التفسير هو الحق، وتأويل التَّحْرِيف هو الباطل.

فتأويل التَّحْرِيف مِنْ جنس الإلحاد؛ فإنه هو الميلُ بالنصوصِ

ص: 29

عن ما هي عليه، إما بالطعن فيها أو بإخراجها عن حقائقها مع الإقرار بلفظها، وكذلك الإلحاد في أسماء الله يكون بجحد معانيها وحقائقها، وتارةً يكون بإنكار المسمَّى بها، وتارة يكون بالتشريك بينه وبين غيره فيها.

فالتَّأْوِيل الباطل هو إلحادٌ وتحريفٌ، وإن سماه أصحابه تحقيقًا وعرفانًا وتأويلًا.

فمِن تأويل التَّحْرِيف والإلحادِ تأويلُ الجهمية قولَه تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، أي: جَرَحَ قلبَه بالحِكم والمعارف تجريحًا.

ومن تحريف اللفظ إعراب قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ} من الرفع إلى النصب، وقال:(وكلَّم اللهَ) أي: موسى كلم اللهَ، ولم يكلمه اللهُ، وهذا من جنس تحريف اليهود، بل أقبح منه، واليهود في هذا الموضع أولى بالحق منهم.

ولما حرَّفها بعضُ الجهمية هذا التَّحْرِيف قال له بعض أهل التوحيد: فكيف تصنعُ بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]؟! فَبُهِتَ المحرِّف.

ومن هذا أنَّ بعض الفرعونيَّة سأل بعضَ أئمة العربية هل يمكن أن يُقرأ العرش بالرفع في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ؟ وقصد الفرعونيُّ بهذا التَّحْرِيف أن يكون الاستواء صفة للمخلوق، لا للخالق.

ولو تَيَسَّر لهذا الفرعوني هذا التَّحْرِيف في هذا الموضع لم يتيسر له في سائر الصفات»

(1)

.

(1)

«الصواعق المرسلة» (1/ 215 - 218).

ص: 30

وأما التَّعْطِيل فهو في اللغة مأخوذ من العَطَل، وهو الخلو والفراغ.

والمعطِّلة: هم نفاة الصفات.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولهذا كان السلف والأئمة يُسَمُّون نُفاة الصفات: معطلة؛ لأن حقيقة قولهم تعطيل ذات الله تعالى، وإن كانوا هم قد لا يعلمون أن قولَهم مستلزمٌ للتعطيل»

(1)

.

وقال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: «والمراد بالتَّعْطِيل: إنكار ما أثبت الله لنفسه من الأسماء والصفات، سواءً كان كليًّا أو جزئيًّا، وسواء كان ذلك بتحريف أو بجحود، هذا كله يسمى تعطيلًا.

فأَهْل السُّنَّة والجَمَاعَة لا يعطِّلون أيَّ اسمٍ من أسماء الله، أو أي صفةٍ من صفاته، ولا يجحدونها، بل يقرون بها إقرارًا كاملًا.

فإن قلت: ما الفرق بين التَّعْطِيل والتَّحْرِيف؟

قلنا: التَّحْرِيف في الدليل، والتَّعْطِيل في المدلول فمثلًا:

إذا قال قائل: معنى قول تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، أي: بل قوَّتاه، هذا محرف للدليل ومعطل للمراد الصحيح؛ لأن المراد اليد الحقيقية، فقد عطَّل المعنى المراد، وأثبت معنًى غير المراد.

وإذا قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} لا أدري، أفوِّض الأمر إلى الله، لا أثبت اليد الحقيقية ولا اليد المحرف إليها اللفظ، نقول: هذا معطِّل، وليس بمحرِّف؛ لأنه لم يغير معنى اللفظ ولم يفسِّره بغير مراده، لكن عطَّل معناه الذي يراد به، وهو إثبات اليد لله عز وجل.

(1)

«مجموع الفتاوى» (5/ 326).

ص: 31

أَهْل السُّنَّة والجَمَاعَة يتبرءون من الطريقتين:

الطريقة الأولى: التي هي تحريف اللفظ بتعطيل معناه الحقيقي المراد إلى معنى غير مراد.

والطريقة الثانية: هي طريقة أهل التفويض، فهم لا يفوضون المعنى كما يقول المفوِّضة، بل يقولون: نحن نقول: {بَلْ يَدَاهُ} ، أي: يداه الحقيقيتان {مَبْسُوطَتَانِ} ، وهما غير القوة والنعمة.

فعقيدة أَهْل السُّنَّة والجَمَاعَة بريئة من التَّحْرِيف ومن التَّعْطِيل»

(1)

.

وأمَّا الفرق بين التحريف والتعطيل فقد بينه العلامة السِّعْدي بقوله: «التَّعْطِيل نفيٌ للمعنى الحق الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة، والتَّحْرِيف: تفسير للنصوص بالمعاني الباطلة التي لا تدل عليها بوجه من الوجوه.

فالتَّحْرِيف والتَّعْطِيل قد يكونان متلازمَيْن إذا أُثبت المعنى الباطل ونفي المعنى الحق، وقد يوجد التَّعْطِيل بلا تحريف كما هو قول النافين للصفات الذين ينفون الصفات الواردة في الكتاب والسنة، ويقولون: ظاهرها غير مراد ولكنهم لا يعيِّنونَ معنًى آخرَ، ويسمُّون أنفسهم: مفوِّضة، ويظنون أن هذا مذهب السلف، وهو غلط فاحش؛ فإن السلف يثبتون الصفات، وإنما يفوِّضون علم كيفيتها إلى الله، فيقولون: الوصف المذكور معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، وإثباته واجب، والسؤال عن كيفيته بدعة، كما قال الإمام مالك وغيره في الاستواء»

(2)

.

وأمَّا التكييف والتمثيل:

فالتكييف: هو جعل الشيء على حقيقة مُعَيَّنة من غير أن يُقَيِّدها

(1)

«شرح الواسطية» (ص 72 - 73).

(2)

«التنبيهات اللطيفة» (ص 17).

ص: 32

بمماثل.

والتمثيل: هو الاعتقاد في صفات الخالق: أنَّها مِثل صفات المخلوقين.

فمنه قول المُمَثِّل: له يدٌ كيدي وسَمع كسمعي. تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا.

فالتكييف: ليس فيه تقيد بمماثل، وأما التمثيل فهو اعتقاد أنها مثل صفات المخلوقين.

والحق: أن التكييف أعم من التمثيل؛ فكل تمثيل تكييف؛ لأن مَنْ مَثَّل صفات الخالق بصفات المخلوقين فقد كَيَّف تلك الصفة، أي: جعل لها حقيقة معينة مشاهدة.

وليس كل تكييف تمثيلًا؛ لأن مِنْ التكييف ما ليس فيه تمثيل بصفات المخلوقين؛ كقولهم: (طوله كعرضه).

وقد وقع في التمثيل والتكييف (المُشَبِّهة) الذين بالغوا في إثبات الصفات إلى درجة تشبيه الخالق بالمخلوق.

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: «(تكييف) لم ترد في الكتاب والسنة، ولكن ورد ما يدل على النهي عنها.

والتَّكْيِيف هو أن تذكر كيفيَّة الصفة، ولهذا تقول: كيَّفَ يُكَيِّفُ تَكْيِيفًا، أي: ذَكَرَ كيفية الصفة.

التَّكْيِيف يُسأل عنه بكيف، فإذا قلت مثلًا: كيف جاء زيد؟ تقول: راكبًا.

إذًا كيفت مجيئه. كيف لون السيارة. أبيض، فذكرت اللون.

أَهْل السُّنَّة والجَمَاعَة لا يكيِّفون صفات الله؛ مُستندين في ذلك

ص: 33

إلى الدليل السمعي، والدليل العقلي.

فأما الدليل السَّمعي: فمثل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

فإذا جاء رجل وقال: إن الله استوى على العرش على هذه الكيفية، ووصف كيفيةً معينةً، نقول: هذا قد قال على الله ما لا يعلم، هل أخبرك اللهُ بأنه استوى على هذه الكيفية؟ لا، أخبرنا الله بأنه استوى، ولم يخبرنا كيف استوى، فنقول: هذا تكييف وقول على الله بغير علم.

ولهذا قال بعض السلف: إذا قال لك الجهمي: إن الله حين ينزل إلى السماء كيف ينزل؟

فقل: إن الله أخبرنا أنه ينزل، ولم يخبرنا كيف ينزل؟

وهذه قاعدةُ مُفيدة.

دليل آخر من السَّمع: قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]: لا تتَّبع ما ليس لك به علم. {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} .

وأما الدليل العقلي: فكيفيةُ الشَّيءِ لا تُدرك إلا بواحد من أمور ثلاثة:

مشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو خبر الصادق عنه.

إما أن تكون شاهدته أنت وعرفت كيفيته، أو شاهدت نظيره، كما لو قال لك واحد: إن فلانًا اشترى سيارة (داتسون)، (موديل ثمان وثمانين)، رقم (ألفين)، فتعرف كيفيتها؛ لأن عندك مثلها.

ص: 34

أو خبر صادق عنه، أتاك رجل صادق وقال: إن سيارة فلان صفتها كذا وكذا، ووصفها تمامًا فتدرك الكيفية الآن.

ولهذا قال بعض العلماء جوابًا لطيفًا: إن معنى قولنا: «بدون تكييف» ليس معناه ألا نعتقد لها كيفية، بل نعتقد لها كيفية، لكن المنفي علمنا بالكيفية؛ لأن استواء الله على العرش لا شك أن له كيفيةً، لكن لا تُعلم؛ لأنه ما من موجود إلا وله كيفية، لكنها قد تكون معلومة، وقد تكون مجهولة.

سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، كيف استوى؟ فأطرق برأسه حتى علاه العرق، ثم رفع رأسه وقال:«الاستواء غير مجهول» ، أي: من حيث المعنى معلوم؛ لأن اللغة العربية بين أيدينا، كل المواضع التي وردت فيها «استوى» مُعَدَّاة بـ (على) معناه العلو، فقال:«الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول» ؛ لأن العقل لا يدرك الكيف، فإذا انتفى الدليل السمعي والعقلي عن الكيفية وجب الكفُّ عنها.

«والإيمان به واجب» ؛ لأن الله أخبرنا عن نفسه، فوجب تصديقه.

«والسؤال عنه بدعة» السؤال عن الكيفية بدعة؛ لأنَّ مَنْ هم أحرصُ مِنَّا على العلم ما سألوا عنها، وهم الصحابة، لما قال الله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، عرفوا عظمة الله عز وجل، ومعنى الاستواء على العرش، وأنه لا يمكن أن تسأل: كيف استوى؟ لأنك لا تدرك ذلك، فنحن إذا سئلنا فنقول: هذا السؤال بدعة.

وكلامُ مالكٍ رحمه الله ميزانٌ لجميعِ الصفاتِ.

فإن قيل لك- مثلًا-: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كيف ينزل؟ فالنزول غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به

ص: 35

واجب، والسؤال عنه بدعة

».

إلى أن قال رحمه الله: «وهنالك كلام للسلف يدلُّ على أنهم يفهمون معاني ما أنزل الله على رسوله من الصفات، كما نُقل عن الأوزاعي وغيره أنهم قالوا في آيات الصفات وأحاديثها: «أَمِرُّوها كما جاءت، بلا كيفٍ» وهذا يدل على أنهم يثبتون لها معنًى من وجهين:

أولًا: أنهم قالوا «أَمِرُّوها كما جاءت» ، ومعلوم أنها ألفاظ جاءت لمعانٍ، ولم تأت عبثًا، فإذا أمررناها كما جاءت لزم من ذلك أن نثبت لها معنًى.

ثانيًا: قولهم «بلا كيف» ؛ لأن نفي الكيفية يدل على وجود أصل المعنى؛ لأن نفي الكيفية عن شيء لا يوجد لغوًا وعبثًا، إذًا فهذا الكلام المشهور عند السلف يدل على أنهم يثبتون لهذا النصوص معنًى»

(1)

.

(1)

«شرح الواسطية» (ص 77 - 78).

ص: 36

قال المصنف رحمه الله:

«بل يؤمنون بأن اللهَ تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

فلا ينفون عنه: ما وصف به نفسَه، ولا يحرِّفون الكَلِمَ عن مواضعه، ولا يُلْحِدُونَ في أسمائه وآياته، ولا يُكَيفُونَ، ولا يُمَثلُونَ صفاتِه بصفاتِ خلقِه.

لأنه- سبحانه- لا سَمِيَّ له، ولا كُفْءَ له، ولا نِدَّ له.

ولا يُقاس بخلقه؛ فإنه- سبحانه- أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وبغيرِه، وأصدق قِيلًا، وأَحْسَنُ حديثًا من خلقه».

الشرح

لما بيَّن شيخُ الإسلام أن مِنْ الإيمان بالله الإيمانَ بما وصف به نفسَه أو وصفه به رسولُه صلى الله عليه وسلم، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ، بَيَّنَ أن الله جل وعلا قد «هدى الله أصحاب سواء السَّبيل للطريقة المُثلى؛ فأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفوا عنه مماثلة المخلوقات؛ فكان مذهبهم مذهبًا بين مذهبين وهديًا بين ضلالتين.

فقالوا: نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تمثيل ولا تكييف.

بل طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات، ونفي مشابهة المخلوقات، فلا نعطل ولا نُؤول ولا نُمَثِّل ولا نجهل.

ص: 37

ولا نقول: ليس له يدان، ولا وجه، ولا سمع، ولا بصر، ولا حياة، ولا قدرة، ولا استوى على عرشه.

ولا نقول: له يدان كأيدي المخلوقين، ووجه كوجوههم وسمع وبصر وحياة وقدرة واستواء، كأسماعهم وأبصارهم وقدرتهم واستوائهم.

بل نقول: له ذات حقيقة ليست كذوات المخلوقين.

وله صفات حقيقة ليست كصفات المخلوقين.

وكذلك قولنا في وجهه تبارك وتعالى، ويديه، وسمعه، وبصره، وكلامه، واستوائه.

ولا يمنعنا ذلك أن نفهم المراد من تلك الصفات وحقائقها، كما لم يمنع ذلك مَنْ أثبت لله شيئًا من صفات الكمال من فهم معنى الصفة وتحقيقها، فإن من أثبت له سبحانه السمع والبصر أثبتهما حقيقة وفهم معناهما، فهكذا سائر الصفات المقدسة، يجب أن تجري هذا المجرى، وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها وكيفيتها، فإن الله سبحانه لم يُكَلِّف العباد ذلك، ولا أراده منهم، ولم يجعل لهم إليه سبيلًا»

(1)

.

لأن الصفة هي: ما قام بالذات مما يميزها عن غيرها من أمور ذاتية، أو معنوية، أو فعلية.

وقد تنوعت تقسيمات أهل السنة للصفات، وذلك بحسب الاعتبارات التي يرجع لها كل تقسيم، ومن تلك التقسيمات: أقسام الصفات عمومًا.

(1)

«الصواعق المرسلة» (2/ 425 - 427).

ص: 38

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الصفات نوعان:

أحدهما: صفات نقص؛ فهذه يجب تنزيه الله عنها مطلقًا؛ كالموت، والعجز، والجهل.

والثاني: صفات كمال؛ فهذه يمتنع أن يماثله فيها شيء»

(1)

.

ومعتقد أهل السنة في أسماء الله وصفاته هو: أنهم يؤمنون بما وردت به نصوص القرآن والسنة الصحيحة إثباتًا ونفيًا، فهم بذلك:

1 -

يُسَمُّون الله بما سمَّى به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يزيدون على ذلك ولا ينقصون منه.

2 -

ويُثبتون لله عز وجل ويصفونه بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

3 -

وينفون عن الله ما نفاه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، مع اعتقاد أنَّ الله موصوف بكمال ضد ذلك الأمر المنفي.

فأهل السنة سلكوا في هذا الباب منهج القرآن والسنة الصحيحة فكل اسم أو صفة لله سبحانه وردت في الكتاب والسنة الصحيحة فهي من قبيل الإثبات؛ فيجب بذلك إثباتها.

وأمَّا النفي فهو أن ينفى عن الله عز وجل كل ما يضاد كماله من أنواع العيوب والنقائص، مع وجوب اعتقاد ثبوت كمال ضد ذلك المنفي.

فقول المصنِّف رحمه الله: «فلا يَنْفُونَ عَنْهُ ما وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ»

(1)

«الصفدية» (1/ 102).

ص: 39

- معناه: أنهم مع إيمانهم بأن الله ليس كمثله شيءٌ، لا يحملهم ذلك على نفي صفة من صفاته جل وعلا؛ لأنهم يؤمنون بالكتاب كله، لأن القائل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} هو نفسه عز وجل القائل: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وهو الذي أثبت لنفسه صفات الكمال ونعوت الجلال الدَّالَّة على عظمته وجماله وجلاله.

وأمَّا قوله رحمه الله: «ولا يُلْحِدُونَ في أسمائه وآياته» - فقد أشار به إلى أن أَهْل السُّنَّة والجَمَاعَة من تمام وكمال إيمانهم بالله: أنهم لا يلحدون في أسمائه ولا في آياته.

والإلحاد مأخوذ من المَيل، كما يدل عليه مادته (ل- ح- د)؛ فمنه: اللحد، وهو الشَّق في جانب القبر الذي قد مال عن الوَسط.

ومنه المُلحد في الدين: المائل عن الحقِّ إلى الباطل؛ قال ابن السِّكِّيت: «الملحد: المائل عن الحقِّ المُدخِلُ فيه ما ليس فيه

(1)

.

وقد ذكر المصنف هنا قسمين من الإلحاد:

القسم الأول: الإلحاد في أسماء الله جل جلاله: هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحقِّ الثابت لها؛ قال تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائه سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} - قال الإمام البغوي: «قال أهل المعاني: الإلحاد في أسماء الله: تسميته بما لم يَتَسَمَّ به، ولم ينطق به كتابُ الله ولا سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

وقال ابن حجر: «قال أهل التفسير: مِنْ الإلحاد في أسمائه: تسميته بما لم يَرد في الكتاب أو السنة الصحيحة»

(3)

.

(1)

«بدائع الفوائد» (1/ 169).

(2)

«معالم التنزيل» (3/ 357).

(3)

«فتح الباري» (11/ 221).

ص: 40

والإلحاد في أسمائه تعالى أنواع.

أحدها: أن يسمى الأصنام بها؛ كتَسميتهم اللات من الإلهيَّة، والعُزَّى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلهًا، وهذا إلحاد حقيقة؛ فإنهم عَدلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة

(1)

.

قال ابن عباس ومجاهد: «عدلوا بأسماء الله تعالى عما هى عليه، فسموا بها أوثانهم؛ فزادوا ونقصوا، فاشتقوا اللات من الله، والعُزَّى من العزيز، ومَناة من المنَّان»

(2)

.

الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله؛ كتسمية النصارى له أبًا، وتسمية الفلاسفة له: مُوجبًا بذاته أو علَّةً فاعلةً بالطبع، ونحو ذلك

(3)

؛ وذلك لأنَّ أسماء الله- تعالى- توقيفية، فتسميته تعالى بما لم يُسَم به نفسه ميلٌ بها عما يجب فيها، كما أنَّ هذه الأسماء التي سَموه بها نفسها باطلة يُنزه الله تعالى عنها.

قال ابن حزم: «مَنع تعالى أن يُسَمَّى إلا بأسمائه الحسنى، وأخبر أنَّ مَنْ سَمَّاه بغيرها فقد ألحد»

(4)

.

وفي قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومَن جعله تسبيحًا للاسم يقول: المعنى: إنَّك لا تسم به غير الله، ولا تُلحد في أسمائه، فهذا ما يستحقُّه اسم الله»

(5)

.

القسم الثاني: الإلحاد في آيات الله تبارك وتعالى:

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: «وأما الإلحاد في آيات الله تعالى

(1)

«بدائع الفوائد» (1/ 169).

(2)

«مدارج السالكين» (1/ 30).

(3)

«بدائع الفوائد» (1/ 169).

(4)

«المحلى» (1/ 29).

(5)

«مجموع الفتاوى» (6/ 199).

ص: 41

فالآيات جمع آية، وهي العلامة المميِّزة للشيء عن غيره، والله عز وجل بعث الرسل بالآيات، لا بالمعجزات؛ لهذا كان التعبيرُ بالآيات أحسنَ من التعبير بالمعجزات:

أولًا: لأن الآيات هي التي يعبَّر بها في الكتاب والسنة.

ثانيًا: أن المعجزات قد تقع من ساحرٍ ومشعوِذ وما أشبه ذلك، تعجِز غيرَه.

ثالثًا: أن كلمةَ (آيات) أدلُّ على المعنى المقصود من كلمة معجزات، فآيات الله هي العلامات الدالة على الله عز وجل، وحينئذ تكون خاصَّة به، ولولا أنها خاصة ما صارت آيةً له.

وآيات الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: آيات كونية، وآيات شرعية:

القسم الأول: الآيات الكونيَّة: ما يتعلق بالخلق والتكوين، مثال ذلك قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37]، وقال:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 20]، وقال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 23 - 25]، فهذه آياتٌ كونيَّةٌ، وإن شئت فقل: كونيَّة قدريَّة، وكانت آيةَ الله؛ لأنه لا يستطيع الخلقُ أن يفعلوها، فمثلًا:

لا يستطيع أحدٌ أن يخلق مثل الشمس والقمر، ولا يستطيع أن يأتي بالليل إذا جاء النهار، ولا بالنهار إذا جاء الليل، فهذه الآيات كونيَّة.

ص: 42

والإلحاد فيها: أن ينسبها إلى غير الله استقلالًا، أو مشاركةً، أو إعانةً، فيقول: هذا من الولي الفلاني، أو من النبي الفلاني، أو شارك فيه النبي الفلاني، أو الولي الفلاني، أو أعان اللهَ فيه، قال الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22].

فنفى كل شيء يتعلق به المشركون بكون معبوداتهم لا تملك شيئًا في السموات والأرض استقلالًا أو مشاركةً ولا معينة لله عز وجل، ثم جاء بالرابع:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، لما كان المشركون قد يقولون: نعم هذه الأصنام لا تملك ولا تشارك، ولم تعاون، لكنها شفعاء؛ قال:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، فَقَطَع كُلَّ سَبَبٍ يَتَعلَّقُ به المشركون.

القسم الثاني من الآيات: الآيات الشرعية:

وهي ما جاءت به الرُّسل من الوحي؛ كالقرآن العظيم، وهو آيات؛ لقوله تعالى:{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 252]، {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 50 - 51]، فجعله آياتٍ.

ويكون الإلحادُ فيها إما بتكذيبها، أو تحريفها، أو مخالفتها، فتكذيبها أن يقول: ليست من عند الله، فيكذِّب بها أصلًا، أو يكذِّب بما جاء فيها من الخبر مع تصديقه بالأصل، فيقول مثلًا: قصة أصحاب الكهف ليست صحيحة، وقصة أصحاب الفيل ليست صحيحة، والله لم يرسل عليهم طيرًا أبابيل.

ص: 43

وأما التَّحْرِيف: فهو تغيير لفظها أو صرف معناها عما أراد الله بها ورسوله، مثل أن يقول: الله استوى على العرش، أي: استولى، أو ينزل إلى السماء الدنيا، أي: ينزل أمره.

وأما مخالفتها: فبترك الأوامر أو فعل النواهي.

قال تعالى- في المسجد الحرام-: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]؛ فكلُّ المعاصي إلحادٌ في الآيات الشرعية؛ لأنه خروجٌ بها عما يجب لها؛ إذ الواجب علينا أن نمتثل الأوامر، وأن نجتنب النواهي؛ فإن لم نقم بذلك فهذا إلحاد»

(1)

.

وقد تَقَدَّم الكلام عن التكييف والتمثيل في صفاته جل وعلا.

ثم بَيَّن المصنف رحمه الله السبب في أنَّ أهل السنة لا يُكَيِّفُونَ ولا يُمَثِّلُونَ صفاته بصفات خلقه، فقال:«لأنه- سبحانه- لا سَمِيَّ له، ولا كُفْءَ له، ولا نِدَّ له» .

ومعنى تسبيح الله: تَنْزِيهه عن النَّقَائِصِ والعيوب في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.

وقوله: «لا سَمِيَّ له، ولا كُفْءَ له، ولا نِدَّ له» هذه الأسماء الثلاثة معناها متقارب، لكن كل اسم منها له اختصاص بمورد أكثر من الآخر؛ فينزه الله جل وعلا عن السَّمِيِّ والكفء والمثل؛ لأن الله يقول:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} .

ومعنى: «لا سَمِيَّ له» : أنه لا يُساميه أحدٌ في ذاته ولا في أسمائه صفاته ولا في أفعاله، أو أنه لا يستحق أحد من الخلق مثل

(1)

«شرح الواسطية» (ص 100 - 103).

ص: 44

اسمه؛ قال العَلَّامة محمد بن إبراهيم: «المعنى: لا يُساميه أحدٌ، أو لا يستحق مثل اسمه، وكلا المعنيين راجع إلى الآخر؛ لكون اسمِه تعالى دالًّا على الكمال، والخلقُ- وإن كان لهم نوعُ كمالٍ- فإن الله هو الذي أكسبهم إيَّاه»

(1)

.

والكفءُ: هو المكافئُ، والله سبحانه وتعالى يقول عن نفسه:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، و {كُفُوًا}: نَكِرَةٌ في سياق النفي، فتفيد العموم.

والنِّدُّ: هو النظير؛ قال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22].

قال العلامة السِّعْدي رحمه الله في تفسيره: «{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} أي: أشباهًا ونُظَرَاءَ من المخلوقين، فتعبدونهم كما تعبدون الله، وتُحِبُّونَهُم كما تحبونه، وهم مثلكم مخلوقون ومرزوقون مدبَّرون، لا يملكون مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا ينفعونكم ولا يضرون.

{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أن اللهَ ليس له شريكٌ ولا نظيرٌ، لا في الخلق والرزق والتدبير، ولا في ألوهيته والكمال، فكيف تعبدون معه آلهةً أخرى مع علمكم بذلك؟! هذا من أعجب العجب وأَسْفَهِ السَّفَه»

(2)

.

ثم قال المصنف رحمه الله: «ولا يُقاس بخلقه سبحانه وتعالى؛ فإنه سبحانه أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وبغيرِه، وأصدق قِيلًا، وأَحْسَنُ حديثًا من خلقه» .

لأنَّ الله- جل جلاله ليس له مَثيل حتى يُقاس عليه، وعقول البشر لا يمكن أن تستقلَّ بمعرفة الله تعالى استقلالًا؛ لأنها قاصرة عاجزة،

(1)

«شرح العقيدة الواسطية (ص 30).

(2)

«تفسير السعدي» (ص 44).

ص: 45

كما قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} {الإسراء: 85]؛ لذا وجب الوقوف على ما جاء في القرآن وصحَّ في السنة من أسماء الله وصفاته، وإثبات ذلك له- جل جلاله على ما يليق بذاته.

وقول المصنف رحمه الله: «فإنه سبحانه أعلمُ بنفسه وبغيرِه، وأصدقُ قِيلًا، وأحسنُ حَدِيثًا مِنْ خَلْقِه» - بيان لعلة وجوب إثبات ما أثبته الله لنفسه من صفات الكمال ومنع قياسه بخلقه؛ لأنه سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، ولا ندَّ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .

وقد بَيَّن العلَّامةُ ابنُ عُثيمين رحمه الله أنواع القياس، وأوضح فساد قياس الله بخلقه في نوعين منها، وجوازه في الثالث؛ فقال: «القياسُ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: قياس شمولٍ، وقياس تمثيلٍ، وقياس أولويَّة.

فهو سبحانه وتعالى لا يُقاس بخلقه لا قياسَ تمثيلٍ ولا قياسَ شمولٍ:

1 -

قياس الشمول: هو ما يُعرفُ بالعامِّ الشاملِ لجميع أفراده، بحيث يكون كلُّ فردٍ منه داخلًا في مسمَّى ذلك اللفظ ومعناه، فمثلًا إذا قلنا: الحياة؛ فإنه لا تقاس حياة الله بحياة الخلق؛ من أجل أن الكُلَّ يشمله اسمُ (حي).

2 -

وقياس التَّمْثِيل: هو أن يلحق الشيء بمثيله، فيجعل ما ثبت للخالق مثل ما ثبت للمخلوق.

3 -

وقياس الأَوْلَوِيَّة: هو أن يكون الفرعُ أولى بالحكم من الأصل؛ وهذا يقول العلماء: إنه مُسْتَعْمَلٌ في حق الله؛ لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]، بمعنى: كل صفة كمال؛ فَلِلَّهِ تعالى أعلاها، والسمع والعلم والقدرة والحياة والحكمة وما أشبهها موجودة في المخلوق، لكن لله أعلاها وأكملها.

ولهذا- أحيانًا- نستدل بالدلالة العقلية من زاوية القياس

ص: 46

بالأولى، فمثلًا:

نقول: العلو صفة كمال في المخلوق، فإذا كانت صفةَ كمالٍ في المخلوق فهي في الخالق من باب أولى، وهذا- دائمًا- نجده في كلام العلماء.

فقول المؤلف رحمه الله: «ولا يُقَاسُ بِخَلْقِهِ» بعد قوله: «لا سَمِيَّ ولا كُفْءَ له ولا نِدَّ لَهُ» يعني: القياس المقتضي للمساواة، وهو قياس الشُّمول، وقياس التَّمْثِيل.

إذًا؛ يمتنع القياس بين الله وبين الخلق للتباين بينهما، وإذا كنا في الأحكام لا نقيس الواجب على الجائز أو الجائز على الواجب، ففي باب الصفات بين الخالق والمخلوق من باب أولى.

لو قال لك قائل: الله موجود، والإنسان موجود، ووجود الله كوجود الإنسان بالقياس.

فنقول: لا يصح؛ لأن وجود الخالق واجب، ووجود الإنسان ممكن.

فلو قال: أَقِيسُ سَمْع الخالق على سمع المخلوق.

نقول: لا يمكن؛ سمع الخالق واجبٌ له، لا يعتريه نقصٌ، وهو شامل لكل شيء، وسمع الإنسان ممكنٌ؛ إذ يجوز أن يُولد الإنسانُ أَصَمَّ، والمولود سميعًا يلحقه نقص السمع، وسمعه محدود.

إذًا؛ لا يمكن أن يقاس الله بخلقه، فكل صفات الله لا يمكن أن تقاس بصفات خلقه؛ لظهور التباين العظيم بين الخالق والمخلوق»

(1)

.

(1)

«شرح الواسطية» (ص 105 - 106).

ص: 47

قال المصنف رحمه الله:

«ثم رسلُه صادقون مصدَّقون، بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182]؛ فَسَبَّح نفسَه عمَّا وصفه به المُخَالِفون للرسُّل، وسَلَّم على المُرسلين؛ لسلامة ما قالوه من النَّقْص والعَيب» .

الشرح

اقتضت رحمة العزيز الحكيم أن بعث الرسل به مُعَرِّفين، وإليه داعين، وجعل معرفته- سبحانه- بأسمائه وصفاته وأفعاله هي مفتاح دعوتهم وزُبدة رسالتهم؛ فأساس دعوة الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- والأصل الأول فيها: معرفة الله- سبحانه- بأسمائه وصفاته وأفعاله. ثم يتبع هذا الأصل أصلان عظيمان هما:

الأصل الأول: تعريف الناس الطريق الموصلة إلى الله، وهي:«شريعته المتضمنة لأمره ونهيه» .

الأصل الثاني: تعريفهم مآلهم في الآخرة.

وهذان الأصلان تابعان للأصل الأول مَبنيان عليه؛ فأعرف الناس بالله أتبعهم للطريق المُوصلة إليه، وأعرفهم بحال الناس عند القدوم عليه.

وأساس العلم الصَّحيح هو الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، وعليه يقوم الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص، وتَنبني مطالب

ص: 48

الرسالة جميعها، فهذا التوحيد هو أساس الهداية والإيمان، وهو أصل الدِّين الذي يقوم عليه، ولذلك فإنه لا يُتصور إيمان صحيح ممن لا يعرف ربَّه، فهذا العلم لازم لانعقاد أصل الإيمان، وهو مهم جدًّا للمؤمن لشدة حاجته إليه؛ لسلامة قلبه وصلاح معتقده واستقامة عمله.

فهذا العلم بأسماء الله وصفاته وأفعاله يُوجب للعبد التمييز بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك والإقرار والتعطيل، وتنزيه الرب عما لا يليق به ووصفه بما هو أهله من الجلال والإكرام.

وذلك يتمُّ عن طريق تدبر كلام الله تعالى وما تعَرَّف به- سبحانه- إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه وصفاته وأفعاله؛ لذا سَبَّح نفسَه عمَّا وصفه به المُخَالِفون للرُّسل، وسَلَّم على المُرسلين؛ لسلامة ما قالوه من النَّقْص والعَيب؛ فقال جل وعلا:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182]؛

«والعلم بالله يُراد به في الأصل نوعان:

أحدهما: العلم به نفسه، أي بما هو متصف به من نعوت الجلال والإكرام وما دلت عليه أسماؤه الحسنى.

وهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة، فإنه لابد أن يَعلم أن الله يُثيب على طاعته، ويُعاقب على معصيته.

والنوع الثاني: يُراد بالعلم بالله: العلم بالأحكام الشرعية من الأوامر والنواهي والحلال والحرام»

(1)

.

(1)

«مجموع الفتاوى» (3/ 333) بتصرف بسير.

ص: 49

وقول المصنف: «ثم رُسُلُه صَادقون مُصَدَّقون» عطفٌ على قوله: «فإنَّه أَعْلَمُ بنفسِه

»؛ وذلك لأن رسلَ الله صادقون فيما بَلَّغوه عنه؛ لأنَّهم بَلَّغوا ما عَلَّمهم الله إيَّاه وما أمرهم بتبليغه؛ وحاشاهم من الكذب؛ فهم اختيار الله؛ قال جل وعلا: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، وقد صدَّقهم- سبحانه وتعالى وأيدهم بالمعجزات الدَّالة على صدقهم.

لذا يجب على الناس تصديقُهم، ومَن كَذَّبَهم أو كَذَّبَ واحدًا منهم فهو مُكَذِّبٌ بهم جميعًا، كافرٌ بِمَنْ أرسلهم؛ قال تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 123]، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 141]، {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 160].

وأمَّا قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ؛ فقد قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله في تفسيرها: «يُنزِّه تعالى نفسَه ويُقَدِّسها ويبرِّئها عما يقوله الظَّالمون المُكَذِّبون المعتدون؛ تعالى وتَنَزَّه وتقدَّس عن قَولهم علوًّا كبيرًا؛ ولهذا قال تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} أي: ذي العزَّة التي لا تُرَامُ. {عَمَّا يَصِفُونَ} أي: عن قول هؤلاء المُعتدين المُفترين. {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} أي: سلام الله عليهم في الدنيا والآخرة؛ لسلامة ما قالوه في ربهم وصحته وحقِّيَّتِه، {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: له الحمد في الأولى والآخرة في كل حال.

ولما كان التَّسبيح يَتَضَمَّن التنزيه والتبرئة من النَّقص بدلالة المطابقة ويستلزم إثبات الكمال، كما أنَّ الحمد يدلُّ على إثبات صفات الكمال مطابقة ويستلزم التنزيه من النقص قُرن بينهما في هذا

ص: 50

الموضع، وفي مواضع كثيرة من القرآن»

(1)

.

وقد بَيَّن المُصَنِّف رحمه الله معنى تسبيح الله تعالى، وذكر أنَّ «تسبيح الرَّبِّ نفسَه يتضمن تنزيهَه وتعظيمَه جميعًا، فقول العبد: «سبحان الله» يتضمن تنزيهَ الله وبراءته من السوء»

(2)

.

والمُخالفون للرُّسل هم الذين حَرَّفوا أو عَطَّلوا أو كَيَّفوا أو مَثَّلُوا صفات الخالق جلَّ وعلا بالمخلوق؛ لأن الرسل عليهم السلام ما جاءوا بشيء من هذا.

(1)

«تفسير ابن كثير» (7/ 46).

(2)

«مجموع الفتاوى» (17/ 144).

ص: 51

قال المصنف رحمه الله:

«وهو سبحانه قد جَمَع فيما وَصَفَ وسَمَّى به نفسَه بين: النفي والإثبات» .

الشرح

أي: قد أخبرت الرسل أن لله تعالى أسماءً حسنى وصفاتٍ عُلَا وأفعالًا جليلة؛ فأثبتوا له كل كمال على وجه التفصيل، ونفوا عنه كل نقص على وجه الإجمال.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: «فالربُّ- تعالى- مُستحقٌّ للكمال على وجهِ التَّفصيل، كما أخبرت به الرسل، فإن الله تعالى أخبر أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، وأنه عليم قدير عزيز حكيم غفور رحيم ودود مجيد، وأنه يحب المتقين والمُحسنين والصَّابرين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأنه كلَّم موسى تكليمًا، وناداه وناجاه، إلى غير ذلك مِمَّا جاء به الكتاب والسُّنَّة.

وقال في التنزيه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، فنزَّه نفسه عن النظير باسم الكفء والمثل والنِّد والسَّمِيِّ.

ص: 52

فهذه طريقة الرسل وأتباعهم من سلف الأمة وأئمتها: إثباتٌ مفصَّلٌ، ونفيٌ مجملٌ.

إثبات الكمال على وجه التفصيل ونفي النَّقص والتَّمْثِيل مُجملًا، كما ورد ذلك في سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1 - 2]، وهي تَعْدِل ثُلُث القرآن، كما ثبت ذلك في الحديث الصَّحيح.

فاسمه (الصَّمَدُ) يتضمَّنُ صفاتِ الكمالِ، كما روى الوالبيُّ عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال:«هو العليم الذي كَمُلَ في علمه، والقدير الذي كَمُلَ في قُدرته، والسيِّدُ الذي كَمُلَ في سُؤْدَدِهِ، والشريفُ الذي كَمُلَ في شَرَفِهِ، والعظيم الذي كَمُلَ في عظمته، والحليم الذي كَمُلَ في حلمه، والحكيم الذي كَمُلَ في حكمته، وهو الذي كَمُلَ في أنواع الشرف والسُّؤْدَدِ، هو الله سبحانه وتعالى، هذه صفته لا تنبغي إلا له» .

و (الأحد) يتضمن نفي المِثْل عنه.

والتنزيه الذي يستحقه الرَّبُّ يَجمعه نوعان:

أحدهما: نَفْيُ النَّقْصِ عنه.

الثاني: نَفْيُ مماثلة شيء من الأشياء فيما يستحقه من صفات الكمال.

فإثباتُ صفات الكمال له مع نفي مماثلة غيره له يجمعُ ذلك، كما دلت عليه هذه السورة.

وأمَّا المخالفون لهم من المشركين والصَّابِئَةِ ومَن اتَّبَعَهُمْ من الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ونحوهم، فطريقتهم: نفيٌ مفصَّلٌ، وإثباتٌ مجمَلٌ.

ينفون صفات الكمال، ويثبتون ما لا يُوجد إلا في الخيال،

ص: 53

فيقولون: ليس بكذا ولا كذا، فمنهم من يقول: ليس له صفة ثبوتية، بل إمَّا سلبية، وإمَّا إضافية، وإمَّا مركبة منهما، كما يقوله من يقول من الصابئة والفلاسفة، كابن سينا وأمثاله، ويقول: هو وجود مطلق بشرط سلب الأمور الثبوتية عنه، ومنهم من يقول: وجود مطلق بشرط الإطلاق.

وقد قرَّروا في منطقهم ما هو معلوم في العقل الصريح: أن المطلق بشرط الإطلاق إنما وجوده في الأذهان لا في الأعيان، فلا يُتصور في الخارج حيوانٌ مطلق بشرط الإطلاق، ولا إنسانٌ مطلَق بشرط الإطلاق، ولا جسمٌ مطلق بشرط الإطلاق، فيبقى واجب الوجود ممتنع الوجود في الخارج، وهذا مع أنه تعطيلٌ وجهلٌ وكفرٌ، فهو جمعٌ بين النقيضين»

(1)

.

وقد أشار العلامة السّعْدي رحمه الله إلى ضابط مهم في كلام شيخ الإسلام فقال: «وهذا الذي ذكره المصنف ضابطٌ نافعٌ في كيفية الإيمان بالله وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأنه مبني على أصلين: أحدهما: النفي، وثانيهما: الإثبات.

أما النفي: فإنه ينفي عن الله ما يضاد الكمال من أنواع العيوب والنقائص، وينفي عنه أيضًا أن يكون له شريك، أو نديد، أو شبيه في شيء من صفاته، أو في حَقٍّ من حقوقه الخاصة، فكلُّ ما يُنافي صفات الكمال فإن اللهَ منزَّهٌ عنه مقدَّس.

والنَّفي مقصود لغيره، والقصد منه إثبات ما لم يرد نفي شيء منه في الكتاب والسنة عن الله إلا بقصد إثبات ضده، فنفيُ الشَّريكِ والنَّديدِ عن الله لكمال عظمته وتفرُّده بالكمال، ونفي السِّنَةِ والنَّوْمِ

(1)

«منهاج السُّنَّة» (2/ 184 - 187).

ص: 54

والموتِ لكمال حياته.

ونفي عُزوب شيء عنه لعلمه وقدرته.

ولهذا كان التنزيه والنفي لأمور مجملة عامة.

وأمَّا الإثبات: فإنه يجمع الأمرين: إثبات المجملات كالحمد المطلق والكمال المطلق والمجد المطلق ونحوها، وإثبات المفصَّلَات كتفضيل علم الله وقدرته وحكمته ورحمته، ونحو ذلك من صفاته»

(1)

.

ص: 55

قال المصنف رحمه الله:

«فلا عُدُولَ لأَهْل السُّنَّة والجَمَاعَة عما جاء به المرسلون؛ فإنه الصِّراطُ المستقيمُ؛ صراطُ الذين أَنْعَمَ اللهُ عَليهم من النَّبيين والصِّديقين والشُّهداء والصَّالحين» .

الشرح

أي: لا ميل لأهل السنة ولا انحراف عما جاءت به الرسل من الإيمان، بل هم مُقْتَفُونَ آثارهم، مُسْتَضِيئُونَ بأنوارهم، ومن ذلك إثبات صفات الكمال لله وتنزيهه عما لا يليق به؛ فإن الرسل قد قرَّرُوا ذلك الأصل العظيم، وأما أعداء الرسل فإنهم قد عدلوا عن ذلك.

وقوله: «فإنه الصراط المستقيم» تعليلٌ لقوله: «فلا عدول لأَهْل السُّنَّة» أي: لأن ما جاء به المرسلون هو الصراط المستقيم، والصراط المستقيم هو الطريق المعتدل الذي لا تعدُّد فيه ولا انقسام، وهو المذكور في قوله تعالى في سورة الفاتحة:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، وقوله:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وهو الذي ندعو الله في كل ركعة من صلواتنا أن يهدينا إليه

(1)

.

ولا يُوَفَّق لهذا الصِّراط المستقيم ولا يَثبت عليه إلا مَنْ أطاع الله ورسوله؛ قال الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ

(1)

انظر: «شرح الواسطية» للفوزان (ص 22).

ص: 56

أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].

قال العلامة السِّعْدي رحمه الله: «{فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} ، أي: النعمة العظيمة التي تقتضي الكمال والفلاح والسعادة. {مِنَ النَّبِيِّينَ} الذين فضَّلهم اللهُ بوحيه، واختصهم بتفضيلهم بإرسالهم إلى الخلق ودعوتهم إلى الله تعالى. {وَالصِّدِّيقِينَ} ، وهم: الذين كَمُلَ تصديقهم بما جاءت به الرسل، فعلموا الحق، وصدَّقوه بيقينهم، وبالقيام به قولًا وعملًا وحالًا ودعوة إلى الله. {وَالشُّهَدَاءِ} الذين قاتلوا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله فَقُتِلُوا. {وَالصَّالِحِينَ} الذين صَلُحَ ظاهرُهم وباطنُهم، فصلحت أعمالهم، فكل مَنْ أطاع الله تعالى كان مع هؤلاء في صحبته. {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} بالاجتماع بهم في جنَّات النعيم والأُنْس بقربهم في جِوَار ربِّ العَالمين.

{ذَلِكَ الْفَضْلُ} الذي نالوه {مِنَ اللَّهِ} فهو الذي وَفَّقهم لذلك، وأعانهم عليه، وأعطاهم من الثواب ما لا تبلغه أعمالهم.

{وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} يعلم أحوال عباده ومَن يستحق منهم الثواب الجزيل، بما قام به من الأعمال الصالحة التي تَواطأ عليها القلبُ والجوارحُ»

(1)

.

فأَهْلُ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ هداهم الله لمعرفة هذا الطريق الذي هو الصِّراطُ المستقيمُ صراطُ الذين أنعم الله عليهم، ووفَّقَهم للثبات عليه، وبلزومهم لهذا الطريق النَّافع تَمَّت لهم النعمة، وصحَّت عقائدُهم، وكَمُلَتْ أخلاقُهم، أمَّا مَنْ سلك غير هذا السبيل فإنه مُنحرفٌ في عقيدته وأخلاقه وآدابه

(2)

.

(1)

«تفسير السعدي» (ص 185).

(2)

انظر «التنبيهات اللطيفة» للسعدي (ص 21).

ص: 57

قال المصنف رحمه الله:

«وقد دَخَلَ في هذه الجُملة: ما وصف اللهُ به نفسَه في سورة الإخلاص، التي تَعدل ثلثَ القرآن، حيث يقول:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4].

وما وَصَفَ به نَفْسَهُ في أعظم آية في كتابه؛ حيث يقول: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].

ولهذا كان مَنْ قَرأ هذه الآية في ليلةٍ- لَم يَزل عليه من الله حافظٌ، ولا يَقربه شيطانٌ حتَّى يُصبح».

الشرح

ذكر العلَّامةُ ابنُ عثيمين في بيان المراد بقول المصنف: «وقد دخل في هذه الجملة» - احتمالين فقال: «يحتمل أنه يريد بها قوله: «وهو قد جمع فيما وَصَفَ وسَمَّى به نفسَه بين النفي والإثبات» ، ويحتمل أن يريد ما سبق مِنْ أنَّ أَهْل السُّنَّة والجَمَاعَة يصفون الله تعالى بما وصف به نفسَه وما وصفه به رسولُه، وأيًا كان فإن هذه السورة وما بعدها داخلةٌ في ضمن ما سبق من أنَّ اللهَ- تعالى- جَمَع فيما وَصَفَ وسَمَّى به نفسَه بين النفي والإثبات، وأن أَهْل السُّنَّة

ص: 58

يؤمنون بذلك»

(1)

.

ولعلَّ سورةَ الإخلاص قد سُمِّيت بهذا الاسم؛ لأنَّها تخلص الإخبار عن الله، أي: تُمَحِّضه وتُبَيِّنه. وبها يُخلص قارئها التوحيد ويتخلى عن الشرك. وتخلص السورة صاحبها يوم القيامة من العذاب أو من الخلود في النار.

وقد ذكر الحافظ ابنُ حجر رحمه الله سببَ تسميتها بسورة الإخلاص، وبَيَّن لماذا تعدل ثلث القرآن؟ فقال:«عادَلَت ثُلُثَ القرآن؛ لأن القرآن خبر وإنشاء، والإنشاء: أمر ونهي وإباحة. والخبر خبر عن الخالق، وخبر عن خلقه؛ فَأَخْلَصَت سورةُ الإخلاص الخبرَ عن الله، وخلَّصَتْ قارئَها من الشِّرك الاعتقادي»

(2)

.

وكذلك قال العلَّامة ابن القَيِّم رحمه الله: «ولهذا كانت سورة الإخلاص تعدل ثلثَ القرآن؛ لأنها أخلصت الإخبارَ عن الرب تعالى وصفاته، دون خلقه وأحكامه وثوابه وعقابه»

(3)

.

ودليل ذلك: ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رجلًا سمع رجلًا يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يُردِّدها، فلما أصبح جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له- وكأن الرجل يتقالُّها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنها لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن»

(4)

.

وروى أبو الدَّرْدَاء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَيَعْجِزُ أحدُكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟» . قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: «{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن»

(5)

.

(1)

«شرح الواسطية» لابن عثيمين (ص 127).

(2)

«فتح الباري» (9/ 61).

(3)

«مختصر الصواعق» (ص 125).

(4)

أخرجه البخاري في مواضع: (5013)، و (6643)، و (7374).

(5)

أخرجه مسلم (811).

ص: 59

وروي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا على سَرِيَّةٍ، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته، فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:«سَلُوهُ لأي شيءٍ يصنع ذلك؟» . فسألوه، فقال: لأنَّها صِفَةُ الرَّحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أخبروه أنَّ اللهَ يُحِبُّه»

(1)

.

فلما أحبَّ هذا الرجل المبارك هذه السورة المباركة؛ لأنها تشتمل على صفة الرحمن وتفرده بالوحدانية في الأسماء والصفات والأفعال- كان الجزاء أن أحَبَّه الله تعالى، وتلك الغاية العظمى والأمنية التي ليس بعدها أُمنية.

وقد بَيَّن العلامةُ ابن القيم رحمه الله بعضَ ما اشتملت عليه هذه السورة العظيمة؛ فقال: «سورةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} : متضمنَّةٌ لتوحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباتُه للرب تعالى من الأَحَدِيَّةِ المنافية لمطلق المشاركة بوجه من الوجوه، والصَّمِدِيَّة المثبتة له جميع صفات الكمال التي لا يلحقها نقص بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد الذي هو من لوازم الصَّمَدِيَّة، وغِنَاهُ وأَحَدِيَّتَهُ، ونفي الكفءِ المتضمِّن لنفي التشبيه والتَّمْثِيل والتَّنْظِير.

فتضمَّنت هذه السورةُ إثباتَ كلِّ كمالٍ له، ونفي كل نقص عنه، ونفي إثبات شبيه أو مثيل له في كماله، ونفي مطلقِ الشَّريك عنه، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي الذي يباين صاحبُه جميعَ فِرَقِ الضَّلَالِ والشِّرْكِ؛ ولذلك كانت تعدلُ ثُلُثَ القرآنِ»

(2)

.

(1)

متفق عليه: أخرجه البخاري (7375) ومسلم (813).

(2)

«زاد المعاد» (1/ 316).

ص: 60

وأمَّا عن تفسير هذه السورة الكريمة فقد قال الحافظُ ابنُ كثير:

«قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} «يعني: هو الواحد الأحد الذي لا نظير له، ولا وَزِيرَ، ولا نَديد، ولا شَبيه، ولا عديل، ولا يُطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله عز وجل؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله.

وقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} .

قال عكرمة، عن ابن عباس: يعني: الذي يَصمد الخلائقُ إليه في حوائجهم ومسائلهم.

قال عليُّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو السَّيد الذي قد كَمُل في سؤدده، والشريف الذي قد كَمُل في شرفه، والعظيم الذي قد كَمُل في عظمته، والحليم الذي قد كَمُل في حِلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كَمُل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشَّرف والسُّؤدد، وهو الله سبحانه، هذه صِفته لا تَنبغي إلا له، ليس له كفءٌ، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار.

وقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .

أي: ليس له ولدٌ ولا والدٌ ولا صاحبةٌ.

قال مجاهد: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} يعني: لا صاحبةَ له.

وهذا كما قال تعالى: {بديع السماوات والأرض أنَّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101]، أي: هو مالك كل شيء وخالقه، فكيف يكون له مِنْ خلقه نَظير يُساميه، أو قريب يُدانيه، تعالى وتقدس وتنزه؛ قال الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ

ص: 61

وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 88 - 95]، وقال تعالى:{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 26، 27]، وقال تعالى:{وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون سبحان الله عما يصفون} [الصافات: 158، 159].

وفي «صحيح البُخاري» : «لا أحدَ أصبرُ على أذى سَمعه من الله؛ إنَّهم يجعلون له ولدًا، وهو يَرزقهم ويُعافيهم»

(1)

.

وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«قال الله عز وجل: كَذبني ابنُ آدم ولم يكن له ذلك، وشَتمني ولم يكن له ذلك؛ فأمَّا تَكذيبه إيَّاي فقوله: لَنْ يُعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ مِنْ إعادته. وأمَّا شتمه إيَّاي فقوله: اتَّخذ الله ولدًا. وأنا الأحدُ الصَّمَدُ الَّذي لم يَلد ولم يُولد ولم يكن له كفوًا أحدٌ»

(2)

»

(3)

.

ثم قال المُصَنِّفُ: «وما وَصَفَ به نَفْسَهُ في أعظم آية في كتابه» ، يعني: آية الكرسي، والدَّليلُ على أنَّها أعظمُ آية في كتاب الله: هو ما رواه أُبَي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا المُنْذِر، أَتَدْرِي أيَّ آيةٍ مِنْ كتاب الله معك أعظم؟» . قال: قلت: اللهُ ورسوله أعلم، قال:«يا أبا المُنْذِر، أَتَدْرِي أيَّ آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟» . قال: قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ،

(1)

أخرجه البخاري (6099) من حديث أبي موسى ?.

(2)

أخرجه البخاري برقم (3193)، وبرقم (4974).

(3)

«تفسير ابن كثير» بتصرف واختصار (8/ 529).

ص: 62

قال: فضرب في صدري، وقال:«واللهِ، لِيَهْنِكَ العلمُ أبا المُنْذِرِ»

(1)

.

وسُمِّيَت آية الكرسي؛ لأنَّ الله جل جلاله ذَكَر صفة كُرسيِّه فيه.

وقد تضَمَّنت هذه الآيةُ الجليلةُ أسماءً حُسنى وصفاتٍ عُلَا لله تَباركت أسماؤه وتقدست صفاته؛ بَيَّنها بالتفصيل العَلَّامة ابنُ عُثيمين رحمه الله؛ فقال: «وهذه الآية تتضمَّن من أسماء الله خمسة، وهي:(الله، الحي، القيوم، العَلِي، العظيم).

وتتضمن من صفات الله ستًّا وعشرين صفة، منها خمس صفات تتضمنها هذه الأسماء.

والسادسة: انفراده بالألوهية.

السابعة: انتفاء السِّنَة والنَّوم في حقِّه؛ لكمال حياته وقَيُّومِيَّتِهِ.

الثامنة: عموم ملكه؛ لقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} .

التاسعة: انفراد الله عز وجل بالملك، ونَأْخُذُهُ مِنْ تقديم الخبر.

العاشرة: قوَّة السلطان وكماله؛ لقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .

الحادية عشرة: إثبات العِنْدِيَّة، وهذا يدلُّ على أنه ليس في كلِّ مكان، ففيه الردُّ على الحلولية.

الثانية عشرة: إثبات الإذن من قوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} .

الثالثة عشرة: عموم علم الله تعالى؛ لقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} .

الرابعة عشرة والخامسة عشرة: أنه سبحانه وتعالى لا يَنسى ما مضى؛ لقوله: {وَمَا خَلْفَهُمْ} ، ولا يَجهل ما يستقبل؛ لقوله {مَا بَيْنَ

(1)

أخرجه مسلم (810).

ص: 63

أَيْدِيهِمْ}.

السادسة عشرة: كمال عظمة الله؛ لعجز الخلق عن الإحاطة به.

السابعة عشرة: إثبات المشيئة؛ لقوله {إِلَّا بِمَا شَاءَ} .

الثامنة عشرة: إثبات الكرسي، وهو موضع القدمين.

التاسعة عشرة والعشرون والحادية والعشرون: إثبات العظمة والقوة والقدرة؛ لقوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ؛ لأن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق.

الثانية والثالثة والرابعة والعشرون: كمال علمه ورحمته وحفظه، من قوله:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} .

الخامسة والعشرون: إثبات علو الله؛ لقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ}

«السادسة والعشرون: إثبات العظمة لله عز وجل؛ لقوله: {الْعَظِيمُ}»

(1)

.

وأمَّا تفسير آية الكرسي فقد جاء في «تفسير ابن كثير» : أنَّ هذه الآية مشتملةٌ على عشر جُمَلٍ مستقلَّة، فقوله:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إخبارٌ بأنه المتفرِّد بالإلهيةِ لجميع الخلائق.

{الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أي: الحيُّ في نفسه الذي لا يموت أبدًا، القَيِّمُ لغيره.

وكان عُمَرُ يقرأ «القَيَّام» ، فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو غني عنها، لا قوام لها بدون أمره، كقوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25].

وقوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} ، أي: لا يَعتريه نقصٌ ولا

(1)

«شرح الواسطية لابن عثيمين (ص 141 - 146).

ص: 64

غَفلة ولا ذُهول عن خلقه، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت، شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء ولا يخفى عليه خافية، ومن تمام القَيُّومِيَّة أنه لا يَعْتَرِيهِ سِنَةٌ ولا نومٌ، فقوله {لَا تَأْخُذُهُ} ، أي: لا تغلبه سِنَةٌ، وهي الوَسَنُ والنُّعَاسُ، ولهذا قال: ولا نومٌ؛ لأنه أقوى مِنْ السِّنَةِ.

وفي الصَّحيح عن أبي مُوسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات، فقال:«إن الله لا ينامُ، ولا ينبغي له أن ينامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ ويَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إليه عملُ النهار قبل عمل الليل، وعملُ الليل قبل عمل النهار، حِجَابُهُ النورُ- أو النارُ- لو كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»

(1)

.

وقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} : إخبارٌ بأن الجميعَ عبيدُه وفي مُلكه وتحت قهره وسلطانه، كقوله:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95].

وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} كقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وكقوله:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28].

وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل أنه لا يَتَجَاسَرَ أحدٌ على أن يشفع لأحدٍ عنده إلا بإذنه له في الشَّفَاعة، كما في حديث الشفاعة: «آتي تحت العرش فَأَخِرُّ سَاجِدًا، فيدعني ما شاء الله أن يَدَعَنِي، ثم يُقَالُ: ارفع رأسَك، وَقُلْ تُسْمَع، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ- قال-:

(1)

أخرجه مسلم (179).

ص: 65

فيحدُّ لي حَدًا فأُدخلهم الجنةَ»

(1)

.

وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} : دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كقوله- إخبارًا عن الملائكة-:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].

وقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} ، أي: لا يطَّلِعُ أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه، كقوله:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} .

{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ، ثم ذكر الأقوال الواردة في ذلك، وصَحَّحَ أنَّ الكرسي موضع القدمين، وأنَّه غير العرش، وأنَّ العرش أكبر منه، كما دَلَّت على ذلك الآثار والأخبار.

وقوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} ، أي: لا يُثْقِلُهُ ولا يُكْرِثُهُ حفظُ السماوات والأرض ومَن فيهما، ومَن بينهما، بل ذلك سهلٌ عليه يسيرٌ لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيبُ على جميع الأشياء، فلا يَعْزُبُ عنه شيءٌ ولا يغيب عنه شيءٌ.

والأشياءُ كلُّها حقيرةٌ بين يديه، الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، وهو القاهر لكل شيءٍ، الحسيب على كل شيءٍ، الرَّقيبُ العليُّ العظيمُ، لا إله غيرُه، ولا رَبَّ سِوَاهُ، فقوله:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} كقوله: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9]، وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأَجْوَدُ فيها طريقةُ السَّلَفِ الصالحِ: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ ولا تَشْبِيهٍ

(2)

.

(1)

متفق عليه: أخرجه البخاري في مواضع: (4476)، و (4712)، و (6565)، و (7410)، و (7440)، و (7510)، وأخرجه مسلم (193) من حديث أنس بن مالك ?.

(2)

«تفسير ابن كثير» (1/ 678 - 682) بتصرف واختصار.

ص: 66

ثم ذكر المصنفُ رحمه الله أنَّ فضائل آية الكرسي: أنَّ مَنْ قرأها كل ليلة «لَم يَزل عليه من الله حافظٌ، ولا يَقربه شيطانٌ حتَّى يُصبح» ، ويشير بهذا إلى ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال:«وَكَّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظِ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ؛ فجعل يَحثو من الطعام فأخذتُه، وقلتُ: والله لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعليَّ عيال، ولي حاجة شديدة! قال: فخَلَّيت عنه، فأصبحتُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرُك البارحة؟» . قال: قلتُ: يا رسول الله، شَكَا حاجة شديدة وعيالًا؛ فَرَحمتُه، فخَلَّيت سبيله. قال:«أَمَا إنَّه قَدْ كَذَبك، وسيعودُ» ، فعرفتُ أنه سيعود؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّه سيعود، فرصدتُه، فجاء يحثو من الطعام، فأخذتُه، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: دعني؛ فإني محتاجٌ وعليَّ عيال، لا أعود! فرحمتُه، فخَلَّيت سبيله، فأصبحتُ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا أبا هريرة، ما فعل أسيرُك؟» ، قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالًا؛ فرحمتُه، فخَلَّيت سبيله، قال:«أما إنَّه قد كذبك وسيعود» ، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنَّك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات، أنك تزعم لا تعود، ثم تعود! قال: دعني أُعَلِّمْك كلمات يَنفعك اللهُ بها! قلت: ما هو؟ قال: إذا أَوَيت إلى فراشك، فاقرأ آيةَ الكرسي:{الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255]، حتى تَختم الآية، فإنَّك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يَقَرَبَنَّك شيطانٌ حتى تُصبح. فخَلَّيت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما فعلَ أسيرُك البارحة؟» . قلت: يا رسول الله، زعم أنه يَعلمني كلمات يَنفعني الله بها، فخَلَّيت سبيله، قال:«ما هي؟» . قلت: قال لي: إذا أَوَيت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تَختم الآية: {الله لا إله إلا هو الحي

ص: 67

القيوم} [البقرة: 255]، وقال لي: لن يزال عليك مِنْ الله حافظ، ولا يَقربك شيطانٌ حتى تصبح- وكانوا أحرصَ شيء على الخير- فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَمَا إنَّه قَدْ صَدَقك وهو كذوبٌ، تَعلم مَنْ تُخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟» . قال: لا. قال: «ذاكَ شَيطانٌ»

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري (2311).

ص: 68

قال المصنف رحمه الله:

«وقوله سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]، وقوله سبحانه:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]، وقوله سبحانه:{الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2]، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11]، {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58].

وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، وقوله:{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، وقوله:{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]، وقوله:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].

وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]، {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ

ص: 69

الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، وقوله:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119].

وقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107]، {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64].

وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93]، وقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 28]، وقوله:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، وقوله:{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46]، وقوله:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3].

وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [البقرة: 210]، وقوله:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]، {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 21 - 22]، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 25]، وقوله:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، وقوله:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88].

وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}

ص: 70

[المائدة: 64]، وقوله:{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، وقوله:{وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 13، 14]، وقوله:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39].

وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]، وقوله:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]، وقوله:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، وقوله:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وقوله:{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14]، وقوله:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218 - 219]، وقوله:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105].

وقوله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13]، وقوله:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]، وقوله:{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50]، وقوله:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15، 16].

وقوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149]، وقوله:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، وقوله:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8].

وقوله عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].

وقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78]، وقوله:{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، وقوله:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا

ص: 71

يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]، {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].

وقوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 1، 2]، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 91، 92]، {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} في سبعة مواضع في سورة الأعراف، قوله:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، وقال في سورة يونس عليه السلام:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3]، وقال في سورة الرعد:{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد: 2]، وقال في سورة طه:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقال في سورة الفرقان:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59]، وقال في سورة (الم) السجدة:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 4]، وقال في سورة الحديد:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4].

وقوله: {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، وقال: {بَلْ

ص: 72

رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36، 37]، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16، 17].

وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]، {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، وقوله:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].

وقوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 116]، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253]، {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]، {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52]، {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء: 10]، {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22]، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ

ص: 73

مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 15]، {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف: 27]، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76].

وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92]، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 101 - 103].

وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 23]، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35].

وهذا البابُ في كتابِ الله كثيرٌ، ومَن تَدَبَّرَ القُرآنَ طالبًا للهُدَى منه تَبين له طريقُ الحقِّ».

الشرح

ذكر المصنف- رحمه الله هنا نصوصًا كثيرًا دالَّة على إثبات هذه الأسماء والصفات لله عز وجل، وسنتناولها بشكل عام؛ مُبيِّنين قواعد إثبات الأسماء والصفات، واختلاف العلماء فيما يَثبت به الاسم، ومناهجهم في جمع الأسماء الحسنى، والفرق بين ما هو اسم وما هو صفة وما هو خبر.

ص: 74

فهذه النُّصوص جاءت في ثلاثة أبواب: باب الأسماء، وباب الصِّفات، وباب الإخبار.

أمَّا الأسماء: فقد سار العلماء في جمعهم للأسماء الحسنى على مناهج مختلفة إلى حدٍّ ما (عددًا وطريقة)؛ فمن حيث الكمِّ هناك مَنْ اقتصر على التِّسعة والتِّسعين، وهناك مَنْ قَصر عن ذلك، وهناك مَنْ زاد.

ومن حيث الطَّريقة التي ساروا عليها في جمع تلك الأسماء هناك أربعة مناهج وقفتُ عليها من خلال استقراء جُهودهم في هذا المجال، أُوردها لك على النحو التالي:

المنهج الأول:

الاعتماد على العَدِّ الوارد في روايات حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه، وبالأخص طريق الوليد بن مُسلم عند الترمذي وغيره، وذلك «لاعتقادهم بصحة حديثِ الأسماء وتعدادها على مذهب المُتساهلين في التصحيح وعدم النَّظر في العِلل الواردة فيه»

(1)

.

المنهج الثاني:

الاقتصار على ما ورد من الأسماء بصورةِ الاسم فقط، أي: ما ورد إطلاقُه.

وهذا مَنهجُ ابنِ حزم في عدِّ الأسماء

(2)

.

قال عنه ابن حجر: «فإنَّه- أي: ابن حزم - اقتصر على ما ورد فيه بصورة الاسم لا ما يُؤخذ من الاشتقاق؛ كـ (الباقي) من

(1)

«العواصم والقواصم» (7/ 207).

(2)

«المحلى» (8/ 31).

ص: 75

قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، ولا ما ورد مضافًا كـ (البديع) من قوله:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} »

(1)

.

المنهج الثالث:

منهج المُتوسطين الذين اشتقوا من كلِّ صفة وفِعل اسمًا، ولم يُفَرِّقوا بين البابين- أي: باب الأسماء وباب الصِّفات- بل إنهم يُدخلون ما يتعلق بباب الإخبار أحيانًا.

ومِن هؤلاء ابنُ العربي المالكي، وابنُ المرتضى اليَماني، والشَّرَباصي.

المنهج الرابع:

منهج المُتوسطين الذين تَوَسَّطوا بين أصحاب المنهج الثاني والمنهج الثالث، فلا هُمْ الَّذين حَجَّروا تحَجُّر ابنِ حزم، ولا هم الذين تَوَسَّعُوا تَوَسُّعَ ابن العربى وأمثاله.

وهذا المنهج هو الأشهر والأكثر تطبيقًا عند أهل العلم؛ فهم حافظوا على خاصية هذا الباب، وبالتالي جعلوا شروطًا لاشتقاق الاسم من الصفة، وهذه الشروط دَلَّت عليها النصوص.

وليس الغرض هنا تفصيل تلك المناهج وبيان ما لها وما عليها، ولكن المقصود هنا هو الإشارة إلى أن هذا الاختلاف الحاصل بين المناهج الأربعة السابقة الذِّكر يُؤكد ضرورة تحديد ضابط للأسماء الحسنى يُعِين على معرفة الرَّاجح منها.

وتبعًا لهذه المناهج فقد تباينت آراء العلماء في جمعهم لأسماء الله الحسنى؛ قال ابنُ حَجَر رحمه الله: «إذا تقرَّرَ رُجحان أنَّ سردَ الأسماء

(1)

«فتح الباري» (11/ 217).

ص: 76

ليس مرفوعًا

(1)

، فقد اعتنى جماعة بتتبعها من القرآن مِنْ غير تقييد بعدد»

(2)

.

نماذج لاجتهادات أهل العلم في جمع الأسماء الحسنى:

إذا تبيَّن أن الروايات في عدِّ الأسماء ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الحقيقة التي يجب أن تُقرَّر في هذا المقام: أنَّ جميع ما ورد من جمع للأسماء الحسنى إنَّما هو من اجتهاد أهل العلم من خلال استقرائهم للنُّصوص، والملاحظ على تلك الاجتهادات ما يلي:

1 -

اقتصار الأغلب في جمعهم على عدِّ تسعةٍ وتسعين اسمًا من أسماء الله الحسنى، ولعلَّ المقصود من هذا التَّقَيُّد هو تحصيل الفضل الوارد في الحديث، إذ الفضل قد ورد فيمن أَحْصَى هذا القَدْر من أسماء الله.

2 -

الاقتصار كذلك على تَتبُّع تلك الأسماء في سور القرآن الكريم فقط، دون الرُّجوع إلى السنة الصَّحيحة، ولعل السَّبب يرجع في ذلك إلى صعوبة تتبُّع ما ورد في السُّنَّة؛ إذ أنَّه يحتاج إلى جهدٍ في الاستقصاء، مع ملاحظة أن غالب مَنْ يعتني بعدِّ الأسماء يَقتصر على عدِّ تسعةٍ وتسعين- كما أسلفنا- لتحصيل فضل ما ورد في الحديث، وبما أنهم يستخرجون ذلك العدد من القرآن، فإنهم يَكتفون بذلك.

3 -

الاختلاف في العدِّ بين جمعٍ وآخر، ويَندر أن تجد اتِّفاقًا كليًّا بين جمعين؛ لأن الاستقراء قد يختلف من شخص لآخر، وكذلك الضابط في تعيين ما يَنطبق عليه شرطُ الاسم قد يختلف؛ فهناك مَنْ يتوسَّع، وهناك مَنْ يتقيَّد بشروط مُعيَّنة بحسب ما وصل إليه

(1)

أي: لم يثبت بدليل قويٍّ أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

المصدر السابق (11/ 217).

ص: 77

اجتهاد كلِّ واحد منهم في المنهج الذي ارتضاه، كما أسلفنا.

وأمَّا الصفاتُ عمومًا فثلاثة أنواع: صفات كمال. وصفات نَقص. وصفات لا تَقتضي كمالًا ولا نقصًا. وإن كانت القسمة التقديرية تقتضي قسمًا رابعًا، وهو ما يكون كمالًا ونقصًا باعتبارين.

والله- سبحانه وتعالى صفاتُه كمال مَحْض؛ فهو موصوف من الصفات بأكملها، وله من الكمال أكمله، ومُنَزَّهٌ عن الأقسام الثلاثة الأخرى

(1)

.

وتنقسمُ الصِّفات باعتبار ورودها في النُّصوص إلى قسمين:

1 -

صفات ثبوتية. 2 - صفات سلبية (أي: منفية).

القسم الأول: الصفات الثبوتية:

وتعريفها: هي ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

والصفات الثبوتية كثيرة جدًّا؛ منها: العلم- والحياة- والعزة- والقدرة- والحكمة- والكبرياء- والقوة- والاستواء- والنزول- والمجيء، وغيرها.

وتنقسم الصفات من حيث أدلة ثبوتها إلى قسمين:

القسم الأول: الصفات الشرعية العقلية:

وضابطها: هي التي يشترك في إثباتها: الدليل الشرعي السَّمعي، والدليل العقلي، والفطرة السليمة.

وهي أكثر صفات الرب تعالى، بل أغلب الصفات الثُّبوتية

(1)

انظر: «بدائع الفوائد» (1/ 177)، مكتبة نزار مصطفى الباز - مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1996 م.

ص: 78

يشترك فيها الدَّليلان السَّمعي والعقلي

(1)

، وإن كان الأصل في ثبوتها الدليل الشرعي.

ومنها: (العلم، السَّمع، البصر، العلو، القدرة، الإرادة، الخلق، الحياة).

وسميت «شرعية عقلية» .

فشرعية: لأنَّ الشرع دلَّ عليها أو أرشد إليها.

وعقلية: لأنها تُعلم صحتها بالعقل، ولا يقال: إنها لم تُعلم إلا بمجرد الخبر.

فإذا أخبر الله بالشييء ودل عليه بالدلالات العقلية- صار مدلولًا عليه بخبره، ومدلولًا عليه بدليل العقل الذي يُعلم به؛ فيصير ثابتًا بالسمع والعقل، وكلاهما داخل في دلالة القرآن التي تُسَمَّى الدلالة الشرعية

(2)

.

القسم الثاني: الصفات الخبرية وتسمى النقلية والسمعية:

وضابطها: هي التي لا سبيل إلى إثباتها إلا بطريق السَّمع والخبر عن الله أو عن رسوله الأمين عليه الصلاة والتَّسليم

(3)

.

ومنها: (الوجه- اليد- العين- الرِّضا- الفرح- الغضب- القَدَم- الاستواء- النزول- المجيء- الضحك).

وهي تنقسم إلى قسمين:

1 -

صفات ذاتيَّة؛ مثل: (الوجه- اليد- العين- القَدَم).

(1)

«الصفات الإلهية في الكتاب والسنة في ضوء الإثبات والتنزيه» (ص 207).

(2)

«مجموع الفتاوى» (6/ 71، 72).

(3)

«الصفات الإلهية» (ص 207).

ص: 79

2 -

صفات فعلية؛ مثل: (النزول- الاستواء- الغضب- الفرح- الضحك).

القسم الثاني: الصفات السلبية:

وتعريفها: هي ما نفاه الله سبحانه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

والصفات المنفية كلها صفات نقص في حقه.

ومن أمثلتها: النَّوم- الموت- الجهل- النِّسيان- العجز- التعب- الظلم.

فيجب نفيُها عن الله عز وجل مع إثبات أنَّ الله موصوف بكمال ضدها.

فأهل السنة يجعلون الأصل في إثبات الأسماء والصفات أو نفيها عن الله تعالى هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوزونها، فما ورد إثباته من الأسماء والصفات في القرآن والسنة الصحيحة فيجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما فيجب نفيه.

«وأما ما لم يَرِد إثباتُه ونفيُه فلا يصح استعماله في باب الأسماء وباب الصفات إطلاقًا، وأما في باب الإخبار فمن السلف مَنْ يمنع ذلك، ومنهم من يجيزه بشرط أن يستفصل عن مراد المتكلم فيه، فإن أراد به حقًّا يليق بالله تعالى فهو مقبول، وإن أراد به معنى لا يليق بالله عر وجل وجب ردُّه»

(1)

.

فَمن شرط الأسماء الحسنى: صحة الإطلاق، بمعنى: أن يقتضي الاسم المدح والثناء بنفسه بدون متعلق أو قيد.

(1)

«رسالة في العقل والروح» (2/ 46، 47) لابن تيمية، (ضمن مجموعة الرسائل المنيرية).

ص: 80

وهذا الشرط هو الذي يُميز باب الأسماء عن باب الصفات، بخلاف شرط ورود النص بهما؛ فإنه شرط مشترك بين الاثنين؛ فأسماء الله وصفاته لابد من ورود النَّصِّ بهما

(1)

.

وهذا الشرط من دقيق فقه الأسماء الحسنى، فنحن إذ وقفنا وقفة تأمل عند نصوص الكتاب والسنة الواردة في هذا الشأن نجد الحقائق التالية:

أولًا: أنَّ الله أطلق على نفسه أسماء كـ (السميع) و (البصير)، وأوصافًا كـ (السمع) و (البصر)، وهكذا أخبر عن نفسه بأفعالها؛ فقال:{قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} ، وقال تعالى:{واللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} ؛ فاستعملها في تصاريفها المتنوعة، مما يدل على أنَّ مثل ذلك يجوز إطلاقه عليه في أيِّ صورةٍ وَرَدَ.

ثانيًا: وأطلق على نفسه أفعالًا كـ (الصُّنع) و (الصِّبغة) و (الفعل) ونحوها؛ قال تعالى: {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْمن كُلَّ شَيْءٍ} ، وقال تعالى:{صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} ، وقال تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، لكنه لم يَتَّسم ولم يَصف نفسه بها، ولكن أخبر بها عن نفسه، مما يدل على أنَّها تُخالف الأول في الحكم، فوجب الوقوفُ فيها على ما ورد.

ثالثًا: ووصف نفسَه بأفعال في سياقها المدح كـ (يريد) و (يشاء)؛

(1)

باب الإخبار لا يُشترط فيه التوقيف، فما يدخل في الإخبار عنه- تعالى- أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته؛ كـ (الشيء والموجود والقائم بنفسه)، فإنه يُخبر به عنه، ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فالإخبار عنه قد يكون باسم حَسَن، أو باسم ليس بسيئ، أي: باسم لا يُنافي الحسن، ولا يجب أن يكون حسنًا، ولا يجوز أن يُخبر عن الله باسم سيئ. «بدائع الفوائد» (1/ 161)، «مجموع الفتاوى» (6/ 142، 143) بتصرف.

ص: 81

فقال جل شأنه: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} ، وقال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، إلَّا أنه لم يشتق له منها أسماء؛ فدل على أنَّ هذا النوع مخالف للقِسمين الأولين، فوجب ردُّه إلى الكتاب والسنة وذلك بالوقوف حيث أوقفنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

رابعًا: ووصف نفسَه بأفعال أخرى على سبيل المقابلة بالعقاب والجزاء؛ فقال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} ، وقال تعالى:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ} ولم يَشتق منها أسماء له تعالى؛ فدلَّ ذلك على أنَّ مثل هذه الأفعال لها حكم خاص فوجب الوقوف على ما ورد.

فهذه الحقائق السابقة قَرَّرت عند العلماء النتائج التالية:

1 -

أنَّ النصوص جاءت بثلاثة أبواب هي (باب الأسماء) و (باب الصفات) و (باب الإخبار).

2 -

أن باب الأسماء هو أخص تلك الأبواب، فما صحَّ اسمًا صَحَّ صفة وصحَّ خبرًا، وليس العكس.

3 -

باب الصِّفات أوسعُ مِنْ باب الأسماء، فما صَحَّ صفة فليس شرطًا أن يصح اسمًا، فقد يصح وقد لا يَصح، مع أن الأسماء جميعها مُشتقة من صفاته.

4 -

أن ما يدخل في باب الإخبار عنه- تعالى- أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته؛ فالله يُخْبر عنه بالاسم وبالصفة، وبما ليس باسم ولا صفة كألفاظ (الشيء) و (الموجود) و (القائم بنفسه) و (المعلوم)، فإنَّه يُخبر بهذه الألفاظ عنه، ولا تَدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العُليا.

ص: 82

والذي يَعنينا هنا من بين تلك النتائج هو تحديد سبب خصوصية باب الأسماء، وما المانع من دخول بعض ألفاظ الصفات وغيرها في هذا الباب، وهذا يتضح لنا عند تحليل ما اشتقت منه أسماء الله.

فَمِنْ المعلوم: أنَّ أسماء الله الحسنى كلها مُشتقة؛ فكلُّ اسم من أسمائه مشتق إمَّا مِنْ صفة من صفاته، أو فِعل قائم به

(1)

، ولمعرفة صحة الاسم ينطر إلى الصفة أو الفعل الذي اشتُقَّ منه، ولبيان ذلك نقول:

أولًا: باب الصفات أوسع مِنْ باب الأسماء:

فإن كانت الصفة منقسمة إلى كمال ونقص لم تَدخل بمطلقها في أسمائه.

مثال ذلك: (المتكلم- والمُريد- والفاعل- والصانع)، فهذه الألفاظ لا تدخل في أسمائه، ولهذا غلط مَنْ سَمَّاه بهذه الأسماء؟

لأنَّ الكلام والإرادة والفعل والصنع مُنقسمة إلى محمودٍ ومَذموم

(2)

.

ومِن أجل ذلك كان باب الصفات أوسع من باب الأسماء؛ فالله يُوصف بصفات كـ (الكلام، والإرادة، والاستواء، والنزول، والضحك)، ولا يُشتق له منها أسماء، فلا يُسَمَّى بالمتكلم، والمريد، والمُستوي، والنازل، والضاحك، «فهذه الأسماء التي فيها عُموم وإطلاق لما يُحمد ويُذم- لا تُوجد في أسماء الله الحسنى؛ لأنَّها لا تدل في حال إطلاقها على ما يُحمد الربُّ به ويُمدح»

(3)

.

(1)

«شفاء العليل» (ص 271).

(2)

«بدائع الفوائد» (1/ 161)، «شرح الأصفهانية» (ص 5).

(3)

«نقض تأسيس الجهمية» (2/ 11).

ص: 83

وفي المقابل هناك صفات ورد إطلاق الأسماء منها؛ كـ (العُلُو، والعلم، والرحمة والقدرة)؛ لأنها في نفسها صفات مَدح، والأسماء الدالة عليها أسماء مدح»

(1)

؛ فمن أسمائه: (العَلِي، والعليم، والرحيم، والقدير).

قال ابن القيم رحمه الله: «إنَّ الصفة إذا كانت مُنقسمة إلى كمال ونقص لم تدخل بمطلقها في أسمائه، بل يُطلق عليه منها كمالها، وهذا كالمُريد والفاعل والصانع، فإن هذه الألفاط لا تَدخل في أسمائه، ولهذا غلط مَنْ سَمَّاه بالصانع عند الإطلاق، بل هو الفَعَّال لما يريد؛ فإن الإرادة والفِعل والصُّنع مُنقسمة، ولهذا إنما أطلق على نفسه من ذلك أكمله فعلًا وخبرًا»

(2)

.

وقال رحمه الله: «ومِن هنا يَتبتن لك خطأ مَنْ أطلق عليه اسم (الصانع والفاعل والمُرَبِّي) ونحوها؛ لأن اللفظ الذي أطلقه- سبحانه- على نفسه، وأخبر به عنها أتم مِنْ هذا وأكمل وأجل شأنًا، فإنه يُوصف من كل صفة كمال بأكملها وأجلها وأعلاها.

فيُوصف من الإرادة بأكملها وهو الحكمة وحصول كل ما يُريد بإرادته

وكذلك العليم الخبير أكمل مِنْ الفقيه العارف، والكريم الجواد أكمل من السخي، والرَّحيم أكمل من الشفيق، والخالق البارئ المُصور أكمل من الفاعل الصانع.

ولهذا لم تجئ هذه في أسمائه الحسنى؛ فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماء والصفات والوقوف معها، وعدم إطلاق ما لم يُطلقه على نفسه، ما لم يكن مطابقًا لمعنى

(1)

«شرح الأصفهانية» (ص 5).

(2)

«بدائع الفوائد» (1/ 161).

ص: 84

أسمائه وصفاته، وحينئذ فيُطلق المعنى لمطابقته لها دون اللفظ، ولا سِيَّما إذا كان مجملًا أو منقسمًا أو مما يُمدح به غيره، فإنه لا يجوز إطلاقه إلا مقيدًا، وهذا كلفظ الفاعل والصانع، فإنه لا يُطلق عليه في أسمائه الحسنى إلا إطلاقًا مقيدًا كما أطلقه على نفسه كقوله:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، {وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} ، وقوله:{صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ، فإن اسم (الفاعل) و (الصانع) مُنقسم المعنى إلى ما يُمدح عليه ويذم، فلهذا المعنى لم يجئ في الأسماء الحسنى (المريد)، كما جاء فيها (السميع)(البصير)، ولا (المتكلم، الآمر، الناهي)؛ لانقسام مُسَمَّى هذه الأسماء، بل وصف نفسه بكمالاتها وأشرف أنواعها.

ومِن هنا يعلم غَلط بعض المتأخرين وزَلَقه الفاحش في اشتقاقه له سبحانه مِنْ كلِّ فعل أخبر به عن نفسه اسمًا مطلقًا، وأدخله في أسمائه الحسنى؛ فاشتق منها اسم (الماكر، والمخادع، والفاتن، والمضل)؛ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا»

(1)

.

وقال رحمه الله: «وما كان مُسَمَّاه مُنقسمًا إلى كامل وناقص وخير وشَرٍّ- لم يدخل اسمه في الأسماء الحسنى؛ كـ (الشيء والمعلوم)، ولذلك لم يُسَمَّ بالمريد ولا بالمتكلم، وإن كان له الإرادة والكلام؛ لانقسام مسمى (المريد) و (المتكلم)، وهذا مِنْ دقيق فقه الأسماء الحسنى؛ فتأمله، وبالله التوفيق»

(2)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأمَّا تَسميته- سبحانه- بأنَّه مُريد وأنه متكلم، فإن هذين الاسمين لم يَرِدَا في القرآن ولا في

(1)

انظر: «تيسير العزيز الحميد» (ص 572، 573).

(2)

«مدارج السالكين» (3/ 415، 416).

ص: 85

الأسماء الحسنى المعروفة، ومعناهما حقٌّ، ولكن الأسماء الحسنى المعروفة هي التي يُدعى الله بها، وهي التي جاءت في الكتاب والسُّنَّة، وهي التي تَقتضي المدح والثناء بنفسها، والعلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك هي في نفسها صفات مدح، والأسماء الدالة عليها أسماء مدح، وأمَّا الكلام والإرادة فلما كان جِنسه ينقسم إلى محبوب؛ كالصِّدق والعدل، وإلى مَذموم كالظلم والكذب، والله تعالى لا يُوصف إلا بالمحمود دون المذموم- جاء ما يُوضح به من الكلام والإرادة في أسماء تخصُّ المحمود؛ كاسمه (الحكيم والرحيم والصادق والمؤمن والشهيد والرءوف والحليم والفتَّاح) ونحو ذلك.

فلهذا لم يَجِئ في أسمائه الحسنى المأثورة: (المتكلم المُريد)»

(1)

.

وقال رحمه الله: «إنَّ الله- سبحانه- له الأسماء الحسنى، كما سَمَّى نفسه بذلك، وأنزل كُتَبه، وعَلَّمه مَنْ شاء مِنْ خلقه كاسمِّه (الحق) و (العليم)، و (الرَّحيم) و (الحكيم) و (الأَوَّل) و (الآخِر) و (العَلِي) و (العظيم) و (الكبير)، ونحو ذلك.

وهذه الأسماء كلها أسماء مَدح وحَمد تَدل على ما يُحمد به، ولا يكون معناها مذمومًا، والله له الأسماء الحسنى، وليس له مَثَل السَّوْء قَطُّ؛ فالأسماء التي فيها عموم وإطلاق لما يُحمد ويُذم لا توجد في أسماء الله الحسنى؛ لأنها لا تدلُّ على ما يُحمد الرب ويُمدح؛ فالإرادة إذا أُخذت مطلقًا، وقيل:(المريد)؛ فالمريد قد يُريد خيرًا، يحمد عليه، وقد يُريد شرًّا يُذم عليه، وإذا أُخذ الكلام وقيل:(متكلم)؛ فالمتكلم قد يتكلم بصدقٍ وعدل، وقد يتكلم بكذب وظلم، ولذلك لم تُذكر مُطلقة»

(2)

.

(1)

«شرح الأصفهانية» (ص 5) باختصار.

(2)

«نقض تأسيس الجهمية» (2/ 10، 11) بتصرف.

ص: 86

ثانيا: باب الأفعال أوسعُ من باب الأسماء:

وأمَّا إذا كان الاسم مشتقًّا مِنْ أفعاله القائمة به، فإن كان الفعل ورد مُقَيَّدًا فإنَّه لا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيدًا أن يُشتق له منه اسم مُطلق، كما غَلط فيه بعضُ المتأخرين؛ فجعل من أسمائه الحسنى (المُضَل، الفاتن، الماكر)؛ تعالى الله عن قوله، فإنَّ هذه الأسماء لم يُطلق عليه سبحانه منها إلا أفعالًا مخصوصة معينة، فلا يجوز أن يسمى بأسمائها المطلقة، والله أعلم»

(1)

.

قال ابن القيم رحمه الله: «الفعل أوسع من الاسم، ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالًا لم يَتَسَمَّ منها أسماء الفاعل؛ كـ (أراد، وشاء، وأحدث)، ولم يُسَمَّ بـ (المريد والشائي والمحدث)، كما لم يسم نفسه بـ (الصَّانع والفاعل والمُتقن)، وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه؛ فبابُ الأفعال أوسع مِنْ باب الأسماء، وقد أخطأ- أقبح خطإ- مَنْ اشتق له مِنْ كل فعل اسمًا، وبلغ بأسمائه زيادة على الألف فسَمَّاه (الماكر، والمخادع، والفاتن، والكائد)، ونحو ذلك»

(2)

.

وقال الشيخ حافظ حَكَمي: (اعلم أنه قد ورد في القرآن أفعال أطلقها الله عز وجل على نفسه على سَبيل الجزاء والعدل والمُقابلة، وهي فيما سِيقت فيه مدح وكمال، لكن لا يجوز أن يُشتق له تعالى منها أسماء، ولا تُطلق عليه في غير ما سِيقت فيه من الآيات؛ كقوله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُم} ، وقوله:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ} ، وقوله تعالى:{نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} ،

(1)

«بدائع الفوائد» (1/ 161).

(2)

«مدارج السالكين» (3/ 415).

ص: 87

وقوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} ، ونحو ذلك، فلا يجوز أن يُطلق على الله تعالى (مخادع، ماكر، ناس، مُستهزئ)، ونحو ذلك مما تَعالى الله عنه، ولا يُقال: الله يَستهزئ ويُخادع ويَمكر ويَنسى على سبيل الإطلاق؛ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا»

(1)

.

وقال ابنُ القَيِّم رحمه الله: «إنَّ الله تعالى لم يَصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء مطلقًا، ولا ذلك داخل في أسمائه الحسنى، ومَن ظَنَّ مِنْ الجُهَّال المُصَنِّفين في شرح الأسماء الحسنى أنَّ مِنْ أسمائه تعالى (الماكر، المخادع، المستهزئ، الكائد) - فقد فَاهَ بأمرٍ عَظيم تَقشعر منه الجلود، وتَكاد الأسماع تصم عند سماعه، وغرَّ هذا الجاهل أنه سبحانه وتعالى أطلق على نفسه هذه الأفعال؛ فاشتق له منها أسماء، وأسماؤه تعالى كلها حسنى؛ فأدخلها في الأسماء الحسنى وقرنها بـ (الرَّحيم، الودود، الحكيم، الكريم)، وهذا جهل عظيم؛ فإنَّ هذه الأفعال ليست ممدوحة مطلقًا، بل تُمدح في موضع وتذم في موضع، فلا يجوز إطلاق أفعالها على الله تعالى مطلقًا، فلا يقال: إنه تعالى يمكر ويخادع ويستهزئ ويكيد، فكذلك بطريق الأَوْلَى لا يُشتق له منها أسماء ويُكفى بها، بل إذا كان لم يأت في أسمائه الحسنى (المريد والمتكلم ولا الفاعل ولا الصانع)؛ لأن مُسَمَّياتها تَنقسم إلى ممدوح ومذموم، وإنما يوصف بالأنواع المحمودة منها كـ (الحليم والحكيم والعزيز والفَعَّال لما يُريد)، فكيف يكون منها (الماكر والمخادع والمستهزئ).

(1)

«معارج القبول» (1/ 76).

ص: 88

ثم يلزم هذا الغالط أن يجعل من أسمائه الحسنى: الداعي، والآتي، والجائي، والذاهب، والقادم، والرَّائد، والنَّاسي، والقاسم، والساخط، والغضبان، واللاعن، إلى أضعاف ذلك من التي أَطلق تعالى على نفسه أفعالها في القرآن، وهذا لا يقوله مسلم ولا عاقل.

والمقصود: أن الله سبحانه لم يَصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إلا على وجه الجزاء لِمَنْ فعل ذلك بغير حقٍّ، وقد علم أنَّ المجازاة على ذلك حَسَنة من المخلوق، فكيف مِنْ الخالق سبحانه وتعالى»

(1)

.

قلتُ: ومِن هنا يَتبين لك خطأ ما عَدَّه بعضُهم- ومنهم ابنُ العربي المالكي في كتابه «أحكام القرآن» ؛ حيث سَمَّاه بـ (الفاعل والزَّارع)، فإن الفاعل والزارع إذا أُطلقا بدون متعلق ولا سياق يدل على وصف الكمال فيهما فلا يُفيدان مدحًا، أمَّا في سياقها من الآيات التي ذُكِرت فيها، فهي صفات كمال ومدح وتوحد، كما قال تعالى:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ، وقال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} الآيات، بخلاف ما إذا عدت مجردة عن متعلقاتها وما سيقت فيه وله، وأكبر مصيبة أن عَدَّ في الأسماء الحسنى: رابع ثلاثة، وسادس خمسة، مصرحًا قبل ذلك بقوله:«وفي سورة المجادلة اسمان» ؛ فذكرهما. وهذا خطأ فاحش، فإن الآية لا تدل على ذلك ولا تقتضيه بوجهٍ؛ لا منطوقًا ولا مفهومًا، فإن الله عز وجل قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا

(1)

«مختصر الصواعق» (2/ 34).

ص: 89

أنى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الآية. وأين في هذا السياق: رابع ثلاثة، سادس خمسة؟ وكان حقه اللائق بمراده أن يقول: رابع كل ثلاثة في نجواهم، وسادس كل خمسة كذلك، فإنَّه- تعالى- يعلم أفعالهم ويسمع أقوالهم، كما هو مفهوم من صدر الآية، ولكن لا يليق بهذا المعنى إلا سياق الآية، والله تعالى أعلم

(1)

.

هذا، وقد زلَّت في هذا الباب فِرَقٌ شتى، وقد أرجع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اختلافهم إلى قولين؛ فقال: «والناس متنازعون: هل يُسَمَّى الله بما صح معناه في اللغة والعقل والشرع وإن لم يَرد بإطلاقه نص ولا إجماع، أم لايُطلق إلا ما أطلق نصًّا أو إجماعًا، على قولين مشهورين:

1 -

فعامة النُّظَّار- أي: أهل الكلام- يُطلقون ما لا نص في إطلاقه ولا إجماع؛ كلفظ (القَديم) و (الذات) ونحو ذلك.

2 -

ومِن الناس مَنْ يَفْصِل بين الأسماء التي يُدعى بها، وبَين ما يُخبر به عنه للحاجة؛ فهو- سبحانه- إنَّما يُدعى بالأسماء الحسنى، كما قال:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} .

وأمَّا إذا احتيج إلى الإخبار عنه مثل أن يقال: ليس هو بقديم ولا موجود ولا ذات قائمة بنفسها، ونحو ذلك. فقيل: بل هو سبحانه قديم موجود وهو ذات قائمة بنفسها. وقيل: ليس بشيء. فقيل: بل هو شيء. فهذا سائغ، وإن كان لا يُدعى بمثل هذه الأسماء التي ليس فيها ما يدلُّ على المدح»

(2)

.

(1)

«معارج القبول» (1/ 76، 78).

(2)

«رسالة في العقل والرُّوح» لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 46، 47)، (مطبوعة ضمن الرسائل المنيرية).

ص: 90

فالذين خالفوا الحقَّ في هذا الباب هم بعض أهل الكلام، كما أشار لذلك شيخ الإسلام في النَّقل السابق، ومِن هؤلاء بعض المعتزلة وبعض الأشاعرة، وكذلك الكرَّامِيَّة.

أمَّا المعتزلة، فقد ذكر البغداديُّ أنَّ المعتزلة البَصرية أجازوا إطلاق الأسماء عليه بالقياس»

(1)

.

وقال أبو الحسن الأشعري: «واختلفت المعتزلة، هل يجوز أن يسمى البارئ عالمًا مَنْ استدل على أنه عالم بظهور أفعاله عليه، وإن لم يَأته السمع مِنْ قِبَل الله سبحانه؛ بأن يسميه بهذا الاسم أم لا، على مَقالتين:

فزعمت الفرقة الأولى منهم: أنه جائز أن يسمي الله سبحانه عالمًا قادرًا حيًّا سميعًا بصيرًا مَنْ استدل على معنى ذلك أنه يليق بالله وإن لم يأت به رسول.

وزعمت الفرقة الثانية: أنه لا يجوز أن يسمي الله سبحانه بهذه الأسماء من دَلَّه العقلُ على معناها إلا أن يأتيه بذلك رسولٌ مِنْ قِبَل الله سبحانه يأمره بتسميته بهذه الأسماء»

(2)

.

2 -

وأما الأشاعرة، فإنَّ جمهورهم مع أهل السنة في كون أسماء الله توقيفية وكذلك الماتريدية، ولكن القاضي الباقلاني- من الأشاعرة- لا يَشترط التوقيف، واشترط أمرين هما:

1 -

أن يدل على مَعنى ثابت لله تعالى.

2 -

ألَّا يكون إطلاقه موهمًا لما لا يليق بالله تعالى

(3)

.

(1)

«الفَرق بين الفِرَق» (ص 337).

(2)

«مقالات الإسلاميين» (ص 197).

(3)

«شرح المقاصد» للتفتازاني (4/ 344، 345).

ص: 91

وتَوَقَّف الجُويني في هذه المسألة؛ فهو يَرى أنَّ الجواز وعدمه حكمان شرعيَّان لا سبيل إلى إطلاق أحدهما إلا بإذن الشرع، ولم يأت، ولذا قال بالتَّوَقُّف

(1)

.

قال السَّفَّاريني: «الجمهور منعوا إطلاق ما لم يَأذن به الشرع مطلقًا، وجَوَّزه المعتزلة مطلقًا، ومال إليه بعضُ الأشاعرة؛ كالقاضي أبي بكر الباقلاني، وتوقَّف إمامُ الحرمين الجوينى .. »

(2)

.

غير أنَّ مُعتقد أهل السنة في الأسماء والصفات قد قام على أساس وجوب الإيمان بما وردت به نصوصُ القرآن والسنة الصحيحة من أسماء الله وصفاته إثباتًا ونفيًا.

وهذا الأساس لابد فيه من مراعاة ما يلي:

أولاً: أنَّ طلب العلم في المطالب الإلهية إنما يكون عن طريق الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة.

فالذي يجب اعتقاده هو أنَّ معرفة هذا النوع من أنواع التوحيد تتوقف على دراسة الكتاب والسُّنَّة؛ لأن هذا التوحيد يتطلب أسماء وصفات معينة، وهذه لا سبيل إلى معرفتها والحصول عليها إلا من طريق الكتاب والسنة؛ «فنحن نؤمن بالله تعالى وبما أخبر به عن نفسه سبحانه على ألسنة رسله من أسمائه الحسنى وصفاته العلى بلا تكييف ولا تمثيل، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه مما لا يليق بجلاله وعظمته؛ فإنَّه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلاً وأبين دليلاً من غيره»

(3)

، ولذلك كان معتقد أهل السنة هو الإيمان بما سمى ووصف

(1)

«الإرشاد» (ص 136، 137).

(2)

«لوامع الأنوار البهية» (1/ 124).

(3)

«معارج القبول» (1/ 330، 331).

ص: 92

الله به نفسه إثباتًا ونفيًا؛ لأنه لا يُسَمِّي اللهَ أعلم بالله من الله، قال تعالى:{أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه} ، وقال تعالى:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} ، وقال تعالى:{وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} ، وقال تعالى:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ، فالله عز وجل هو الذي سَمَّى ووصف نفسه بما جاء في نصِّ كلامه الذي هو القرآن.

ولا يُسَمِّي ويَصف اللهَ بعد الله أعلمُ بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله في حقِّه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، ولقد جاءت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بإثبات الصفات إثباتًا مفصلاً على وجه ثلجت به الصدور واطمأنت به القلوب، واستقر الإيمان في نصابه، وفَصَّلت ذلك أعظم مِنْ تفصيل الأمر والنهي، وقَرَّرته أكمل تقرير في أبلغ لفظ، ولذلك كان لزامًا على كل مسلم أن يؤمن بأسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة من غير زيادة ولا نقصان.

ثانيًا: تقديم الشرع على العقل، فالأصل في الدين الاتباع والمعقول تَبع؛ فمعتقد أهل السنة في هذا الباب وفي غيره من أبواب العقائد والأحكام: أنَّ العقل المجرد ليس له إثبات شيء من العقائد والأحكام، وإنما المرجع في ذلك إلى القرآن والسنة.

فالعقل لا يُمكنه إدراك ما يستحقه الله تعالى من الأسماء والصفات؛ فوجب الوقوف في ذلك على النص؛ لأن العقل يَقصر عن إدراك حقيقة المغيبات، حتى وإن كانت تلك المغيبات أقرب شيء إليه، فهو قاصر عن أن يُحيط علمًا بحقيقة رُوحه التي بين جَنْبَيْه؛ لمَّا أخفى الله أمرها عنه؛ قال تعالى:{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} ، فإذا كان الإنسان يجهل أمر رُوحِه، فكيف يحيط علمًا بذات الله وما يَصلح وما لا يَصلح

ص: 93

لذاته من الأسماء والصفات، والله قد أخفى عن الخلق كيفيَّة ذاته؟!

فمجمل القول: أن أهل السنة يعتقدون: أن باب الصفات كباب الأسماء يجب الاعتماد فيهما على ما جاء في الكتاب وما ثبت في السنة فقط.

وأن ما اتصف الله به من الصفات لا يُماثله فيها أحد من خلقه؛ فالله عز وجل قد أخبرنا بذلك بنصِّ كتابه العزيز حيث قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فإذا ورد النص بصفة من صفات الله تعالى في الكتاب أو السنة فيجب الإيمان بها، والاعتقاد الجازم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والشرف والعُلو مما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فالشر كل الشر في عدم تعظيم الله، وأن يسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فعلى القلب المؤمن المصدق بصفات الله التي تَمَدَّح بها أو أَثنى عليه بها نبيُّه صلى الله عليه وسلم: أن يكون مُعَظِّمًا لله جل وعلا غير مُتنجس بأقذار التشبيه؛ لتكون أرض قلبه طيبة طاهرة قابلة للإيمان بالصفات على أساس التنزيه؛ أخذًا بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

(1)

.

فالعارفون به سبحانه وتعالى، والمصدقون لرسله، المُقِرُّون بكماله- يُثبتون لله جميع صفاته، وينفون عنه مشابهة المخلوقات؛ فيجمعون بين الإثبات ونفي التشبيه، وبين التنزيه وعدم التعطيل؛ فمذهبهم حسنة بين سيئتين، وهُدًى بين ضلالتين.

ص: 94

قال المصنف رحمه الله:

«فَصْلٌ: ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ القُرآنَ، وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ، وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ عز وجل مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ المَعْرِفَةِ بِالقَبُولِ؛ وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك.

فَمِنْ ذَلِكَ: مِثْلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «لله أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهُ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

«وَقَوْلُهُ: «عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ» . (حَدِيثٌ حَسَنٌ).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «يَضحَكُ اللهُ إلى رَجلينِ يَقتُل أحدُهما الآخَرَ، كلاهما يَدخُل الجنَّة» . مُتَّفقٌ عليه.

وقولُه صلى الله عليه وسلم: «لا تزالُ جَهنَّمُ يُلقى فيها، وهي تقول: هل مِنْ مَزيد؟ حتى يَضَعَ ربُّ العِزَّة فيها رِجلَه» ، وفي رواية: «عليها قَدَمَهُ، فيَنْزَوي

بعضُها إلى بعض، وتقول: قَطٍ قَطٍ». مُتَّفقٌ عليه.

وقوله: «يقولُ الله تعالى يا آدمُ، فيقول: لَبَّيْكَ وسَعْديكَ، فيُنادي بصَوتٍ: إنَّ اللهَ يأمُركَ أنْ تُخرج من ذُرِّيَّتِك بَعْثًا إلى النَّار» . مُتَّفقٌ عليه.

وقوله: «ما مِنكم من أحدٍ إلا سيُكَلِّمه ربُّه ليس بينه وبينه ترجمان» .

ص: 96

وقوله في رُقْية المَريض: «ربَّنا اللهُ الذي في السماء، تَقدَّس اسمُك، أَمْرُكَ في السماء والأرض كما رَحْمَتُكَ في السماء، اجعَل رَحْمَتكَ في الأرض، اغفِرْ لنا حُوبَنا وخَطايانا، أنتَ ربُّ الطَّيِّبينَ، أنزِل رحمةً من رَحْمتكَ وشِفاءً من شِفائِك على هذا الوَجَع؛ فيَبْرأُ» . حديث حَسَن، رواهُ أبو داود وغيرُه.

وقوله: «ألا تَأْمَنُوني وأنا أمِينُ مَنْ في السماء» . حديث صحيح.

وقوله: «والعرشُ فوقَ ذلك، واللهُ فوقَ العرشِ، وهو يَعلم ما أنتُم عليه» . حديثٌ حسن، رواه أبو داود وغيرُه.

وقوله للجارية: «أينَ اللهُ؟» . قالت: في السَّماء، قال:«مَنْ أنا؟»

قالت: أنتَ رسولُ الله، قال:«أَعْتِقْها فإنَّها مُؤْمِنة» . رواه مسلم.

وقوله: «أفضَلُ الإيمانِ أنْ تعلَم أنَّ الله معكَ أيْنَما كنتَ» . حديث حسن، أخرجه الطَّبرانيُّ من حديث عُبادة بن الصَّامت.

وقوله: «إذا قام أحدُكم إلى الصلاة فلا يَبصُق قِبَلَ وَجْهِه، ولا عن يَمِينه؛ ولكنْ عن يَسارِه أو تحتَ قَدَمِه» . مُتَّفقٌ عليه.

وقوله: «اللهم ربَّ السموات السَّبْع وربَّ العرش العظيم، ربَّنا وربَّ كلِّ شيء، فالِقَ الحَبِّ والنَّوى، مُنزِلَ التَّوراة والإنجِيل والقرآن، أعوذُ بكَ من شَرِّ نفسي ومن شَرِّ كلِّ دابَّة أنتَ آخِذٌ بناصِيَتها، أنتَ الأوَّل فليس قَبْلكَ شيءٌ، وأنت الآخِرُ فليس بعدَكَ شيءٌ، وأنت الظَّاهِرُ فليس فوقَكَ شيء، وأنت الباطِنُ فليس دُونَكَ شيءٌ؛ اقْضِ عنِّي الدَّيْن وأَغْنِني من الفَقْر» . رواه مسلم.

وقوله لمَّا رفَع الصَّحابةُ أصواتَهم بالذِّكر: «أيُّها النَّاس، ارْبَعوا على أنفُسِكم؛ فإنَّكم لا تَدْعُون أصمَّ ولا غائِبًا؛ إنما تَدْعون سميعًا

ص: 97

بصيرًا

قريبًا، إن الذي تَدْعون أقرَبُ إلى أحدِكم من عُنُق راحِلَتِه». مُتَّفقٌ عليه.

وقوله: «إنَّكم ستَرَوْنَ ربَّكم كما تَرَوْنَ القمَر ليلةَ البَدْر، لا تضامُّون في رُؤْيته؛ فإن استَطَعْتم أنْ لا تُغلَبوا على صلاةٍ قبل طُلوع الشمس وصلاةٍ قبل غُروبها، فافْعَلوا» ، مُتَّفقٌ عليه. إلى أمثال هذه الأحاديث التي يُخبر فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن ربِّه بما يُخبِر به».

الشرح

بعد أن ذكر المصنف رحمه الله أنه لا عُدُولَ لأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عن سبيل المُرسلين، ومن ذلك: أنَّهم يَصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه في كتابه؛ ثم دَلَّل على ذلك بأمثلةٍ كثيرة من القرآن- بَيَّنَ بعد ذلك أنه لا عدول لأهل السنة والجماعة كذلك عن وصف الله تعالى بما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم في سُنَّته؛ إذ السُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرآنَ وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ.

ثم أورد جملةً من الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ، وفيها بعض صفاتِ ربِّنا جل وعلا؛ لذا وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا، على ما هو معتقد السلف في ذلك.

والقول الصَّحيح المشهور الذي عليه جمهور أهل السنة: هو أن المقصود بالسلف الصالح هم القرون الثلاثة المفضلة الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية، حيث قال:«خيرُ القرون القرن الذي بُعثت فيهم، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يَلونهم»

(1)

، فالسَّلف الصَّالح هم الصحابة والتَّابعون وتابعو التَّابعين، وكلُّ مَنْ سلك سبيلهم وسار على نَهجهم فهو سلفيٌّ نسبة إليهم.

(1)

متفق عليه: أخرجه البخاري (5/ 199)، (11/ 460)، ومسلم (7/ 184، 185).

ص: 98

والسَّلفية: هي المنهج الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم والقرون المُفَضَّلة من بعده والذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه باق إلى أن يأتي أمر الله، لحديث:«لا تَزال طائفةٌ مِنْ أُمَّتي ظاهرين على الحقِّ لا يَضرهم مَنْ خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك»

(1)

.

فيَصح الانتساب إلى هذا المنهج متى التزم الإنسان بشروطه وقواعده، فكل مَنْ حافظ على سلامة العقيدة طبقًا لفهم القرون الثلاثة المفضلة فهو ذو نهج سلفي.

ويمكن حصرُ ركائز وقواعد المنهج السلفي على سبيل الاختصار في النقاط التالية:

أولًا: ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها.

ثانيًا: التقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وذلك يتم بـ:

أ- الاجتهاد في تمييز صحيحِه مِنْ سَقِيمه.

ب- الاجتهاد في الوقوف على معانيه وتفَهُّمِه

(2)

.

ثالثًا: العمل بذلك والاستقامة عليه اعتقادًا وتفكيرًا وسلوكًا وقولًا، والبعد عن كل ما يخالفه ويناقضه.

رابعًا: الدعوة إلى ذلك باللِّسان والبَنان.

فمن التزم هذه القواعد في الاعتقاد والعمل فهو على النَّهج السلفي بإذن الله.

(1)

أخرجه مسلم في «صحيحه» (3/ 1523).

(2)

«بيان فضل السلف على الخلف» لابن رجب (ص 150 - 152)، و «أصول اعتقاد أهل السنة» للالكائي (1/ 9، 10).

ص: 99

د- الأدلة على وجوب اتباع السلف الصالح ولزوم منهجهم:

أولاً: من القرآن الكريم:

قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنه مْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .

فرضي عز وجل عن السَّابقين الأولين رضاءً مطلقًا، ورضي عن التابعين لهم بإحسان، وقال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} .

فتَوَعَّد الله مَنْ اتبع غير سبيلهم بعذاب جهنم، ووعد في الآية السابقة متبعهم بالرضوان.

ثانيًا: الأدلة من السنة:

1 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «خيرُ النَّاس قَرْني، ثم الذين يَلُونهم، ثم الذين يلونهم»

(1)

.

فهذه (الخيرية) التي شهد النبي صلى الله عليه وسلم بها لهذه القرون الثلاثة تدل على تفضيلهم وسبقهم وجلالة قدرهم وسَعة عِلمهم بشرع الله، وشدة تمسكهم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما تؤكده الأحاديث التالية.

2 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهودُ على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النَّصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه ا لأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النَّار إلا واحدة» . قيل: مَنْ هي يا رسول

(1)

أخرجه البخاري 5/ 199، 7/ 6، 11/ 460، وأخرجه مسلم 7/ 184، 185.

ص: 100

الله؟ قال: «مَنْ كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» ، حديث صحيح مشهور

(1)

.

3 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «

فإنَّه مَنْ يَعِش بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المَهديين مِنْ بعدي؛ فتمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»

(2)

.

فحَثَّ صلى الله عليه وسلم بأن يتَّبعوا سنته وسنة من بعده من الخلفاء الراشدين، عند وقوع التفرق والاختلاف.

ثالثًا: من أقوال السلف الصالح وأتباعهم:

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «إنَّا نَقتدي ولا نَبتدي، ونَتَّبع ولا نبتدع، ولن نَضل ما تمسكنا بالأثر»

(3)

.

وعنه رضي الله عنه قال: «اتَّبعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفِيتم»

(4)

.

وقال الأوزاعي: «اصبر نفسك على السُّنَّة، وقِفْ حيث وَقَفَ القومُ، وقل بما قالوا، وكُفَّ عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنَّه يَسعك ما وسعهم»

(5)

.

وقيل لأبي حنيفة رحمه الله: «ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟

قال: مقالات الفلاسفة، عليكَ بالأثرِ وطريقة السَّلَف، وإيَّاك

(1)

أخرجه أبو داود 4596، 4597، والترمذي 2640، 2641، والإمام أحمد 2/ 332، 3/ 120، 145، 4/ 120، وابن ماجه 3991 - 3993.

(2)

أخرجه الإمام أحمد 4/ 126، 127، وأبو داود 4607، والترمذي 2676، والدارمي 1/ 44، وغيرهم.

(3)

«شرح أصول اعتقاد أهل السنة» للالكائي (ح 115).

(4)

«البدع والنهي عنها» لابن وضَّاح ص 13.

(5)

«الشريعة» للآجري ص 58.

ص: 101

وكلَّ محدثة؛ فإنها بدعة»

(1)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله: أن يكون أصلُ قصده توحيد الله بعبادته وحدة لا شريك له وطاعة رسوله، يدور على ذلك، ويتبعه أين وجده، ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، فلا ينتصر لشخص انتصارًا مطلقًا عامًّا إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لطائفة انتصارًا مطلقًا عامًّا إلا للصحابة رضي الله عنه م أجمعين. فإن الهدي يدور مع الرسول حيث دار، ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا، فإذا أجمعوا لم يجمعوا على خطأ قط، بخلاف أصحاب عالم من العلماء، فإنهم قد يُجمعون على خطأ، بل كل ما قالوه ولم يقله غيرهم من الأمة لا يكون إلا خطأ، فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليس مُسَلَّمًا إلى عالم واحد وأصحابه، ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظيرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم.

ولابد أن يكون الصحابة والتابعون يَعرفون ذلك الحق الذي بعث الله به الرسول، قبل وجود المتبوعين الذين تُنسب إليهم المذاهب في الأصول والفروع، ويمتنع أن يكون هؤلاء جاءوا بحقٍّ يخالف ما جاء به الرسول، فإن كل ما خالف الرسول فهو باطل، ويمتنع أن يكون أحدهم عَلِم من جهة الرسول ما يخالف الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإن أولئك لم يجتمعوا على ضلالة، فلابد أن يكون قوله- إن كان حقًّا- مأخوذًا عما جاء به الرسول، موجودًا فيمن قبله، وكل قول قيل في دين الإسلام، مخالف لما مضى عليه الصحابة والتابعون- لم يَقله أحدٌ منهم بل قالوا خلافه-

(1)

«صون المنطق» للسيوطي 322.

ص: 102

فإنَّه قول باطل»

(1)

.

فأصول أهل السنة والجماعة تقوم من حيث التأصيل على اعتماد الكتاب والسنة باعتبارهما الأصل في كل أمور الدِّين؛ سواء كانت تلك الأمور تتعلق بباب الاعتقاد أو بغير ذلك من أبواب الدِّين.

فصاحب السُّنَّة يُؤمن بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد قال «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ»

(2)

.

ويعلم أن السنة مصدر من مصادر التشريع في هذا الدِّين، وهي- كما قال المصنف:«تُفَسِّرُ القُرآنَ، وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ» .

فالسُّنَّةُ مُفَسِّرة ومُبينة ودالَّة ومُعبرة عمَّا جاء في القرآن.

وقد ترد بعض أمور الدين في القرآن، ولا ترد في السُّنَّة، وقد ترد في السنة ولا تَرد في القرآن، أو تَرِدُ فيهما معًا.

فصاحب السُّنَّة يُؤمن أن هذا هو الأصل والمَصدر، ولا شكَّ أن في الاعتماد على هذين الأصلين الفلاح والنجاح، وهذا لا يتَّضح إلا إذا نظرنا إلى أصول أهل الباطل وما اعتمدوا عليه.

فمن أهل الباطل مَنْ اعتمد على ما يُسمونه بـ (المعقولات)؛ فاعتمدوا على عقولهم وعلى أفهامهم، وقَدَّسوا تلك المعقولات وتلك الفُهوم، وقَدَّموها على كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم طَعنوا في كلام الله وفي كلام رسوله؛ فما استطاعوا أن يَطعنوا فيه ثبوتًا فعلوا ذلك، وما استطاعوا أن يطعنوا فيه دلالة فعلوا ذلك.

وفئة أخرى منهم تعتمد على الرُّؤى والمنامات، ويُسمونه (العلم

(1)

منهاج السنة 5/ 262 - 263

(2)

رواه مالك بلاغًا (2/ 899)(3338)، وقال ابن عبد البر رحمه الله في «التمهيد» (24/ 331):«وهذا محفوظٌ معروفٌ مشهورٌ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عند أهل العِلمِ، شُهْرَةً يكاد يُسْتَغْنَى بها عن الإسنادِ، وروي في ذلك من أخبار الآحاد أحادِيثُ من أحاديث أبي هريرة وعمرو بن عوف» ، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (2937).

ص: 103

اللدني).

إلى غير ذلك من الخزعبلات والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ فضَلَّ هؤلاء وأولئك عن سبيل الله عز وجل وأَضَلُّوا.

أمَّا صاحب السنة فهو يعلم أن السنة كالقرآن من حيث الاعتماد في التشريع؛ فيؤمن بكل ما جاء في السنة الصحيحة؛ لأنها وحي من الله عز القائل في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} .

فالسنة جاءت بإثبات العديد من الصفات أورد المصنف هنا جملة منها:

فقال: «وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ عز وجل مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ المَعْرِفَةِ بِالقَبُولِ؛ وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك» .

وهو هنا يُؤصل لمسألة: أنَّ ما جاءت به السنة الثابتة الصحيحة

فشأنه كشأن القرآن من حيث الاعتقاد، وأما الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة، فهذا لا يُحتج به في باب الاعتقاد.

والنصوص قد جاءت بجملة من هذه الصفات التي إما أن تكون وردت في القرآن أو تكون قد وردت في السنة، ويجب أن نتعامل مع ما ورد من الصفات في نصوص السنة الصحيحة، كما تعاملنا مع ما ورد منها في نصوص القرآن.

كقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ

» الحديث، متفق عليه

(1)

، وغير هذا الحديث من أحاديث النزول الثابتة الصحيحة، التي قال عنها العلماء: «إنها قد بلغت حدًّا في التواتر،

(1)

أخرجه البخاري (1145) ومسلم (758) من حديث أبي هريرة ?.

ص: 104

فقد رواه أكثر من عشرين من الصحابة.

فقد قال شيخُ الإسلام: «إن حديث النُّزول مُتواتِر»

(1)

.

وقال العلَّامة ابن القيِّم: «وتَواترتِ الرِّواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنُزول الربِّ- تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى سماءِ الدنيا»

(2)

.

وقال أيضًا: «إن نُزول الربِّ تبارك وتعالى إلى سماءِ الدُّنيا قد تَواترتِ الأخبارُ به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ رواهُ عنه نحوُ ثمانيةٌ وعشرون نَفْسًا من الصَّحابة»

(3)

.

وقال اللَّالكائيُّ: «سِياق ما رُوِيَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في نُزول الربِّ- تبارك وتعالى رَواه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم عشرون نَفْسًا»

(4)

.

وقد أجمع سلَفُ الأمَّة على إثبات صِفة النُّزول؛ فقد سُئل شيخ الإسلامِ رحمه الله عن رَجُلين أحدهما مُثبِت للنُّزول ومُستدِل بالحديث الوارد في ذلك، والآخر نافٍ للنُّزول، فقال:«الحمدُ لله ربِّ العالَمين، أما القائِلُ الأول الذي ذكَر نصَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقد أصابَ فيما قال؛ فإن هذا القول الذي قاله قدِ استَفاضتْ به السُّنَّة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، واتَّفقَ سلَفُ الأمة وأئمتُها وأهل العلم بالسُّنة والحديث على تَصْديق ذلك وتَلقِّيه بالقَبول»

(5)

.

ونقَل رحمه الله عن أبي عمرٍو الطَّلَمَنْكيِّ قولَه: «وأجمَعوا على أن الله يَنزِل كلَّ ليلة إلى سماءِ الدُّنيا على ما أتتْ به الآثارُ كيف شاء»

(6)

.

(1)

«شرح حديثِ النُّزول» (ص 102، 103).

(2)

«مُختصَر الصَّواعق المرسلة» (ص 430).

(3)

«مُختصَر الصَّواعق المرسلة» (ص 423).

(4)

«أصول اعتِقاد أهل السُّنَّة والجَمَاعَة» (3/ 434).

(5)

«مَجموع الفَتاوى» (5/ 322).

(6)

انظر: «مَجموع الفتاوى» (5/ 322)(5/ 578).

ص: 105

وقد قال الشيخ ابن عثيمين عن حديث النزول: «هذا الحديث حديث عظيم ذكر بعض أهل العلم أنه بلغ حَدَّ التواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شكَّ أنه حديث مُستفيض مشهور، وقد شرحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بكتاب مُستقل

(1)

؛ لما فيه من الفوائد العظيمة»

(2)

.

وهكذا أورد أحاديث أخرى مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «للهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهُ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ .... » ، الحديث، ففيه أثبت صفةَ الفرح لله عز وجل.

وَكذلك قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ» ، وفيه أثبت صفة العَجَب والضحك.

وغير ذلك من الصفات التي جاءت في هذه الأحاديث، وجاءت في غيرها من أحاديث السُّنَّة الصحيحة.

قال العلَّامة ابن القيِّم رحمه الله: «قال أبو العباس بن سُرَيج: وقد صَحَّ عن جميع أهل الدِّيانة والسُّنَّة إلى زماننا: أنَّ جميعَ الآثار والأخبار الصَّادِقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصِّفات، يجِب على المُسلم الإيمانُ بها، وأن السُّؤال عن معانيها بِدْعَة، والجواب كُفْر وزَنْدقة، مثل قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، ونظائرها مِما نطَق به القرآنُ كالفَوْقِيَّة والنَّفْس واليَدَين والسَّمع والبصر وصُعود الكلام الطيِّب إليه والضَّحِك والتَّعجب والنُّزول كلَّ ليلة إلى سماء الدُّنيا»

(3)

.

وقد ذكر رحمه الله أن ابن عبد البَرِّ نقل أن «أهل السُّنَّة مُجمِعون على

(1)

يقصد كتابه: «شرح حديثِ النُّزول» .

(2)

«مجموع رسائل وفتاوى العثيمين» (1/ 203).

(3)

«مُختصَر الصَّواعق» (ص 445).

ص: 106

الإقرار بالصِّفات الوارِدة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحَملِها على الحقيقة لا على المَجاز؛ لأنهم لا يُكيِّفون شيئًا من ذلك»

(1)

.

ثم قال: «وقال الخَلَّال: أخبَرني عليُّ بن عيسى أن حَنْبلًا حدَّثهم قال: سألتُ أبا عبد الله عن الأحاديث التي تُروى أن الله عز وجل يَنزِل إلى سماء الدُّنيا، وأن الله يُرى، وأنَّ الله يضَع قدَمه

وما أشبه ذلك! فقال أبو عبد الله: نُؤمِن بها ونُصدِّق بها، ولا كَيْفَ ولا مَعنى، ولا نَرُدُّ منها شيئًا، ونَعلم أنَّ ما جاء به الرَّسُولُ حقٌّ إذا كانت بأسانيدَ صِحاحٍ».

فقول أهل السنة في الصفات مبنيٌّ على أصلين:

أحدهما: أنَّ الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقًا؛ كالسِّنَة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك.

والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يُماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات»

(2)

.

«وأما ما لم يرد إثباته ونفيه فلا يصح استعماله في باب الأسماء وباب الصفات إطلاقًا، وأما في باب الأخبار فمن السلف من يمنع ذلك، ومنهم من يجيزه بشرط أن يستفصل عن مراد المتكلم فيه، فإن أراد به حقًّا يليق بالله تعالى فهو مقبول، وإن أراد به معنى لا يليق بالله عر وجل وجب ردُّه»

(3)

.

ثم لا نخوض في كيفية اتصاف الله عز وجل بتلك الصفة.

(1)

«مُختصَر الصَّواعق» (ص 446).

(2)

«منهاج السنة» (2/ 523).

(3)

«رسالة في العقل والروح» (2/ 46، 47) لابن تيمية، (ضمن مجموعة الرسائل المنيرية).

ص: 107

فإيماننا بهذه الصفة إيمان وجود؛ فنعلم أن هذه الصفة حقيقية، وأن الله متصف بها حقيقة دون الخوض في كيفية اتصافه جل وعلا بها.

فالصفات التي ذكرها المصنف هنا هي من باب الاستدلال على جانب التأصيل لهذه المسألة، وسيأتي بعد ذلك جانب التقرير عند كلامه عن صفة العلو وعن صفة الكلام.

فإيراد المصنف هنا من باب التأصيل: أنَّ هذه الأسماء وهذه الصفات جاءت في القرآن والسنة لذا وجب الإيمان بها.

كما قال قبلُ: «ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسَه في كتابه، وما وصفه به رسوله مُحمد صلى الله عليه وسلم، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ» .

وبعد أن أورد نصوصًا من الكتاب ونصوصًا من السنة على إثبات هذه الصفات- عاد فقال: «فإنَّ الفِرقة الناجِية أهلُ السُّنَّة والجَمَاعَة، يُؤمنون بما أخبَر اللهُ به في كتابه من غير تَحريفٍ ولا تَعْطيلٍ، ومن غير تَكْييف ولا تَمثيل» .

فكما نعتمد القرآن أصلًا في هذا الباب (باب الأسماء والصفات)، كذلك نعتمد السنة الصحيحة أصلًا فيه؛ فنؤمن بها ونَقبلها ولا نردُّها، ولا نسعى في تعطيل نصوصها ولا تحريفها ولا الخوض في تكييفها أو تمثيلها.

فإن قيل: ما الأصل عند أهل السنة في هذا الباب؟

نقول: الأصل فيه عندهم أنهم يؤمنون بكل ما ورد في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم من أسمائه تعالى وصفاته مِنْ غير تَحريفٍ ولا تَعْطيلٍ، ومن غير تَكْييف ولا تَمثيل.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وطريقة سلف الأمة وأئمتها:

ص: 108

أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات؛ قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فهذا ردٌّ على الممثلة. {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ردٌّ على المُعَطِّلَة»

(1)

.

فعمدتهم فيه إثباتًا ونفيًا: الكتاب والسنة.

فهم أبعد الناس عن التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل. فكل هذا أهل السنة منه بَرَاء ولو حاول مَنْ حاول أن يُنَفِّر عنهم بادعاءات باطلة؛ كقولهم: إنهم مجسمة، أو حشوية، أو مُشبهة.

قال الإمام أحمد رحمه الله: «لا يُوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والسنة»

(2)

.

فأهل السنة لم يتجاوزوا القرآن والسنة، وما جاءوا بشيء من كِيسهم، وإنما هي نصوص وردت في القرآن والسنة، كما قال وهب للجعد بن درهم:«ويلك يا جعد، أقصر المسألة؛ إني لأظنك من الهالكين، لو لم يُخبرنا الله في كتابِه أنَّ له يدًا ما قلنا ذلك، وأنَّ له عينًا ما قلنا ذلك»

(3)

.

فسلك أهل السنة في هذا الباب منهج القرآن والسنة الصحيحة؛ فكل اسم أو صفة لله سبحانه وردت في الكتاب والسنة الصحيحة فهي من قبيل الإثبات؛ فيجب بذلك إثباتها.

وأمَّا النفي فهو أن يُنفى عن الله عز وجل كل ما يضاد كماله من أنواع

(1)

«منهاج السنة النبوية» (8/ 523).

(2)

«الفتوى الحموية» (ص 61)، دار فجر التراث.

(3)

«البداية والنهاية» لابن كثير (13/ 149)، وانظر:«مقالة التعطيل والجعد بن درهم» (ص 170) للشارح.

ص: 109

العيوب والنقائص، مع وجوب اعتقاد ثبوت كمال ضِدِّ ذلك المنفي.

قال ابن القيم: «فله مِنْ كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى وأبعده عن شائبة عيب أو نقص. فله مِنْ صفة الإدراكات: العليم الخبير، دون العاقل الفقيه. والسميع البصير، دون السامع والباصر والناظر

»

(1)

.

ومجمل القول أن أهل السنة يعتقدون: أن باب الصفات كباب الأسماء يجب الاعتماد فيهما على ما جاء في الكتاب وما ثبت في السنة فقط.

وأن ما اتصف الله به من الصفات لا يُماثله فيها أحد من خلقه؛ فالله عز وجل قد أخبرنا بذلك بنص كتابه العزيز حيث قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فإذا ورد النص بصفة من صفات الله تعالى في الكتاب أو السنة فيجب الإيمان بها، والاعتقاد الجازم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والشرف والعلو مما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فالشر كل الشر في عدم تعظيم الله، وأن يسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فعلى القلب المؤمن المصدق بصفات الله التي تَمَدَّح بها أو أَثنى عليه بها نبيُّه صلى الله عليه وسلم: أن يكون مُعَظِّمًا لله جل وعلا غير متنجس بأقذار التشبيه؛ لتكون أرض قلبه طيبة طاهرة قابلة للإيمان بالصفات على أساس التنزيه؛ أخذًا بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

(2)

.

(1)

«بدائع الفوائد» (1/ 168).

(2)

انظر: «منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات» (ص 21، 22).

ص: 110

قال المصنف رحمه الله:

«فإنَّ الفِرقة الناجِية أهلُ السُّنَّة والجَمَاعَة، يُؤمنون بما أخبَر اللهُ به في كتابه من غير تَحريفٍ ولا تَعْطيلٍ، ومن غير تَكْييف ولا تَمثيل.

بل هُمْ الوَسَطُ في فِرَق الأُمَّة، كما أنَّ الأُمَّةَ هي الوَسَطُ في الأُمَم.

فهُم وسطٌ في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهلِ التَّعْطِيل الجَهْميَّة وأهل التَّمْثِيل المُشبِّهة، وهم وسطٌ في باب أفعال الله بين الجَبْريَّة والقَدَريَّة وغيرِهم، وفي باب وعيدِ الله بين المُرجِئة والوَعِيديَّة من القَدريَّة وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدِّين بين الحَرِوريَّة والمُعتَزِلة وبين المُرجئة والجَهْميَّة، وفي باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرَّافِضة والخَوارِج».

الشرح

أمة الإسلام وسط بين الأمم، والمقصود بالأمم: أهل الكتاب (اليهود والنصارى).

فمثلًا في باب الصفات: اليهود وصفوا الله بصفات النقص، كما قال الله تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} ، والنَّصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق، فأعطوا المخلوق (عيسى عليه السلام - بل وأحبارهم ورهبانهم- بعض خصائص الله عز وجل.

أما أهل الإسلام فهم الذين وَحَّدوا الله عز وجل، ووصفوه بما يليق

ص: 111

بجلاله سبحانه وتعالى، ووصفوه بالكمال التي لا يُماثله فيه أحد من خلقه، وكذلك لم يُعطوا المخلوق بعض صفات الخالق؛ فكانوا وسطًا في هذا الباب.

كذلك ما يتعلق بالأنبياء: اليهود قتلوهم، كما قال الله تعالى:{وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ} ، وكذلك تنقَّصُوهم، وفي التوراة المحرفة وصفوهم بأمور يترفع عنها أقل الناس قدرًا.

وأمَّا النَّصارى فعبدوهم من دون الله عز وجل، بل جعلوا الحواريين- الذين ليسوا بأنبياء ولا رسل- جعلوهم رسلًا، وتجاوزوا بهم القَدْر.

فاليهود تنقصوا والنصارى غَلوا.

وفي جانب الشَّرائع: اليهود أهل كذب وباطل وشهوات، فتجد أنهم حتى في الشرائع مُفَرِّطون، حتى في السَّبت الذي زعموا أنهم لا يعملون فيه، ويتفرغون للعبادة- قضوه في شهواتهم.

واليهود حَرَّموا على أنفسهم طيبات أُحِلَّت لهم، والنصارى لا يحرمون ما حرَّم الله؛ بل يستحلون الخبائث؛ كالميتة والدم ولحم الخنزير، فيعلمون أن هذا لا يجوز في شريعتهم، ومع ذلك يستبيحونه.

فاليهود مُتحللون من الشَّرائع، والنَّصارى ابتدعوا الرهبانية، وجاءوا بأمور ما شرعها الله عز وجل.

فحصل ضلالٌ مِنْ هؤلاء وهؤلاء.

فاليهود مكذبون للحق، والنَّصارى ضُلَّال يعبدون الله عز وجل بغير علم.

وأهل الإسلام اتبعوا ما شرع الله، ولم يشرعوا في دينه ما لم يأذن به عز وجل.

فهم وسط بين هؤلاء وهؤلاء.

ص: 112

والشاهد- كما ذكر المصنف- أن الأُمَّة وَسَط في الأُمَم.

فهذه الأمة قد اختارها الله عز وجل؛ قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ باللهِ} [آل عمران: 110].

وجعلها أمة وسطًا، قال جل وعلا:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [آل عمران: 143]، وبالتالي توسطوا فما فعلوا كاليهود ولا فعلوا كالنصارى، لذلك قال الله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]؛ فالمغضوب عليهم هم اليهود، والضَّالُّون هم النَّصارى.

قال ابن القيم رحمه الله: «فَذكر الْهِدَايَة وَالنعْمَة وهما الْهدى والفلاح، ثمَّ قَالَ: {غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين}، فَذكر المغضوب عَلَيْهِم وهم أهل الشَّقَاء، والضَّالِّين وهم أهل الضلال، وكل من الطَّائِفَتَيْنِ لَهُ الضلال والشقاء، لَكِن ذكر الوصفين مَعًا لتكن الدّلَالَة على كلٍّ مِنْهُمَا بِصَرِيح لَفظه، وأيضًا فَإِنَّهُ ذكر ماهو أظهر الوصفين فِي كل طَائِفَة، فَإِنْ الْغَضَب على الْيَهُود أظهر لعنادهم الْحق بعد معرفته، والضلال فِي النَّصَارَى أظهر لغَلَبَة الْجَهْل فيهم»

(1)

.

وهذا معلوم لمن تتبع حال اليهود والنصارى وحال الأمة، يجد البون شاسعًا بينها.

فأمة الإسلام هي أمة وسط بين الأمم.

فهم وسط بما يتعلق بالإيمان بالله عز وجل، وبما يتعلق بالأنبياء، وبما يتعلق بالشرائع.

ص: 113

وكما أن الأمة وسط بين الأمم فكذلك أهلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ بين الفرق، وقد بين المصنف هنا أنها وسط في عدة مسائل؛ منها ما يتعلق بصفات الله عز وجل، وما يتعلق بأفعال الله عز وجل (باب القدر)، ثم باب الوعد والوعيد وما يتعلق بحكم مرتكب الكبيرة ثم بعد ذلك جاء إلى باب الإيمان.

أولًا: في باب الصفات:

قال المصنف: «فهُمْ وسطٌ في باب صِفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التَّعْطِيل الجَهْمية وأهلِ التَّمْثِيل المُشبِّهة» .

فأهل التَّعْطِيل على قسمين:

القسم الأول: الفلاسفة:

فالفلاسفة سلكوا مسلكًا في التعطيل يقوم على أساس التخييل؛ فنفوا اتصاف الله بهذه الصفات جملة وتفصيلًا، وقال مَنْ قال من الفلاسفة: إن هذا مجرد وهم وتخييل، وأن هذا خطاب للعوام، وأما الخواص فهم في غنى عنها وهم في الأصل يقولون: إن النبوة اكتساب.

القسم الثاني: أهل الكلام، الذين لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات التي لا وجود لها إلا في أفهامهم الفاسدة.

فعقيدة هؤلاء المعطلة جمعت بين التمثيل والتعطيل، وهذا الشر إنَّما جاء من تنجس قلوبهم وتدنسها بأقذار التشبيه، فإذا سمعوا صفة من صفات الكمال التي أثنى الله بها على نفسه؛ كاستوائه على عرشه ومجيئه يوم القيامة وغير ذلك من صفات الجلال والكمال.

فإن أول ما يخطر في أذهانهم أن هذه الصفة تشبه صفات الخلق؛ فيتلطخ القلب بأقذار التشبيه؛ فلم يقدر الله حقَّ قدره، ولم

ص: 114

يُعَظِّم الله حقَّ عظمته؛ حيث سبق إلى ذهنه أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فيكون أولاً نجَّس القلب بأقذار التشبيه، ثم دعاه ذلك إلى أن ينفي صفة الخالق جلَّ وعلا عنه بادِّعاء أنها تشبه صفات المخلوق، فيكون فيها أولاً مشبهًا، وثانيًا معطلاً ضالًّا ابتداءً وانتهاءً متهجمًا على ربِّ العالمين يَنفي صفاته عنه بادعاء أن تلك الصفة لا تليق

(1)

.

وأمَّا عقيدة أهل التمثيل: فهي تقوم على دعواهم أن الله عز وجل لا يخاطبنا إلا بما نَعقل، فإذا أخبرنا عن اليد فنحن لا نعقل إلا هذه اليد الجارحة؛ فشَبَّهوا صفات الخالق بصفات المخلوقين، فقالوا: له يد كيدي، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

لذلك يقول ابن القيم رحمه الله: «ومِن الإلحاد في أسمائه: تشبيه صفاته بصفات خلقه- تعالى الله عما يقول المشبِّهون علوًّا كبيرًا- فهذا الإلحاد في مقابل إلحاد المعطلة؛ فإن أولئك نفوا صفات كماله وجحدوها، وهؤلاء شَبَّهوها بصفات خلقه، فَجَمَعَهُم الإلحادُ وتفرَّقت بهم طُرُقُه، وبرَّأ الله أتباع رسوله وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله، فلم يَصفوه إلا بما وصف به نفسه، لم يجحدوا صفاته، ولم يُشبهوها بصفات خلقه، ولم يَعدلوا بها عما أُنزِلَت عليه لفظًا ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات؛ فكان إثباتهم بريًّا من التَّشبيه، وتنزيههم خليًّا من التعطيل، لا كمن شَبَّه حتى كأنه يَعبد صنمًا، أو عَطَّل حتى كأنه لا يعبد إلا عدمًا، وأهل السنة وسطٌ في النِّحَلِ، كما أنَّ أهل الإسلام وسطٌ في المِلل»

(2)

.

وقال أيضًا رحمه الله: «هدى الله أصحاب سواء السبيل للطريقة

(1)

انظر: «منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات» (ص 19، 20).

(2)

«بدائع الفوائد» (1/ 170).

ص: 115

المُثلى فلم يتلوثوا بشيء من أوضار هذه الفرق وأدناسها، وأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفوا عنه مماثلة المخلوقات؛ فكان مذهبهم مذهبًا بين مذهبين، وهدى بين ضلالتين، خرج من بين مذاهب المعطلين والمخيلين والمجهلين والمشبهين، كما خرج اللبن من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشَّاربين، وقالوا: نصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل، بل طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات ونفي مشابهة المخلوقات؛ فلا نُعطل ولا نؤول، ولا نُمَثِّل ولا نجهل، ولا نقول: ليس لله يدان ولا وجه ولا سمع ولا بصر ولا حياة ولا قدرة ولا استوى على عرشه، ولا نقول: له يدان كأيدي المخلوق ووجه كوجوههم وسمع وبصر وحياة وقدرة واستوى كأسماعهم وأبصارهم وقدرتهم واستوائهم، بل نقول: له ذات حقيقة ليست كالذوات، وله صفات حقيقة لا مجازًا ليست كصفات المخلوقين»

(1)

.

فأهلُ السُّنَّة والجَمَاعَة قد جعلوا هذا الباب قائمًا على أُسُس ثلاثة:

الأول: إثبات بلا تَمْثيل.

الثاني: تَنْزِيه بلا تَعْطيل.

الثالث: قَطْعُ الطَّمَع عن إدراك كيفية اتصاف الله عز وجل بها؛ لأنَّ اللهَ أخبَرنا عن صفاته ولم يُخبِرنا عن كيفية صِفاته.

فيُؤمن أهلُ السُّنَّة والجَمَاعَة بما وصَف اللهُ به نفسَه، وما وصَفهُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيل.

(1)

«الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة» ، لابن القيم (2/ 425، 426)، دار العاصمة- الرياض، الطبعة الثالثة، 1418 هـ- 1998 م.

ص: 116

ثانيًا: في باب أفعال الله:

قال المصنف: «وهم وسَطٌ في باب أفعال الله بين الجَبْريَّة والقدَرية وغيرهم» .

قد ضَلَّ في هذا الباب (باب أفعال الله) الجبريةُ والقدريةُ، وما زال إلى يوم الناس هذا مَنْ يَخبط فيه بين قائل بأن العبد مجبر على أفعاله، وبين قائل بأن العبد لا فِعل له ولا اختيار، وإنما هو كالريشة في مَهَبِّ الرِّيح، وأهل السنة والجماعة وسطٌ بين هذا وذاك.

وقد أوضَح شيخُ الإسلامِ رحمه الله هذا في «مَجموع الفَتاوى» فقال: «وهم في باب خَلقِ الله وأمرِه وسطٌ بين المُكذِّبين بقُدرة الله الذين لا يُؤمنون بقُدرتِه الكاملة ومَشِيئته الشاملة وخَلقِه لكل شيء، وبين المُفسدين لدِين الله الذين يَجعلون العبدَ ليس له مَشِيئةٌ ولا قُدرة ولا عمل، فيُعطِّلون الأمر والنهي والثوابَ والعقاب، فيَصِيرون بمَنزِلة المُشركين الذين قالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148].

فيُؤمن أهل السُّنَّة بأنَّ الله على كل شيء قدير، فيَقدر أن يهدي العبادَ ويُقلِّب قلوبهم، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في مُلكِه ما لا يُريد، ولا يَعجَز عن إنفاذ مُرادِه، وأنه خالِق كلِّ شيء من الأعيان والصِّفات والحَرَكات.

ويُؤمنون أن العبدَ له قُدرة ومشيئة وعملٌ، وأنه مُختار ولا يُسمُّونه مَجْبورًا؛ إذ المَجْبور مَنْ أُكْرِه على خلاف اختِياره، والله سبحانه وتعالى جعَل العبدَ مُختارًا لِمَا يفعله، فهو مختارٌ مُريد، والله خالِقُه وخالِقُ اختياره، وهذا ليس له نَظِيرٌ؛ فإن الله ليس كمثله شيءٌ، لا في ذاتِه ولا في صفاته ولا في أفعاله»

(1)

.

(1)

«مَجموع الفَتاوى» (3/ 373، 374).

ص: 117

وقال العلَّامة السِّعْدي رحمه الله: «وهم وسطٌ في باب أفعال الله بين الجبريَّة والقَدَرية؛ فإن الجبريةَ يَزعمون أن العبد مَجْبُور على أفعاله لا قُدْرة له عليها، وأن أفعاله بمَنزِلة حرَكات الأشجار، وكل هذا غُلوٌّ منهم في إثبات القدَر.

والقدريَّةُ قابَلوهم فنَفَوْا مُتعلق قدرة الله بأفعال العباد تنزيهًا لله- بزَعْمهم.

فأفعالُ العباد عندهم لا تَدخُل تحت مشيئة الله وإرادته، وكلٌّ مِنْ هاتين الطائِفتين ردَّتْ طائفةً كبيرة من نصوص الكتاب والسُّنة.

وهدَى الله أهلَ السُّنَّة والجَمَاعَة للتوسُّط بين الطائفتين المُنحرفتينِ، فآمَنوا بقضاء الله وقدَره وشُمولهما للأعيان والأوصاف والأفعال التي مِنْ جُملتِها أفعالُ المُكلَّفين وغيرهم، وآمَنوا بأنه ما شاء اللهُ كان وما لم يشأ لم يكُن، وآمنوا مع ذلك بأن الله تعالى جعَل للعِباد قُدرة وإرادة تقَعُ بها أقوالُهم وأفعالهم على حسب اختِيارهم وإرادتهم، فآمَنوا بكلِّ نصٍّ فيه تعميمُ قدرة ومشيئة، وبكلِّ نصٍّ فيه إثباتُ أنَّ العباد يعملون ويفعلون كلَّ الأفعال الكبيرة والصغيرة بإرادتهم وقُدْرَتِهم، وعَلِموا أن الأمرينِ لا يَتنافيانِ»

(1)

.

ثالثًا: في باب الوعيد:

قال المصنف: «وفي بابِ وَعِيد الله بين المُرْجِئة والوَعِيديَّة من القَدريَّة وغيرِهم» .

الوَعِيديَّةُ من المُعتَزِلة والقدرية والخَوارج قالوا: إن مَنْ تَوعَّده اللهُ على ذنبٍ فلا بد من إنفاذِ ذلك الوعيد، ولا يجوز إخلافُ ذلك على

(1)

«التنبيهات اللطيفة» (ص 61، 62).

ص: 118

الله ما لم يَتُبْ فاعِلُه في الدُّنيا، وحكَموا على مُرتَكِب الكبيرة- إن لم يتب منها- بالخُلود في النار؛ فكفروا بالمعاصي، وأوجبوا الوعيد.

وجاءت المُرْجِئة على نقيضهم فقالوا: إن إيمانَ الفُسَّاق مثل إيمان الأنبياء، وإن الأعمال الصَّالحة ليست من الدِّين والإيمان، وكَذَّبوا بالوعيد والعِقاب.

وكلاهما جانَبَ الحق والصواب وما وُفِّق للجَمْع بين النصوص، وما فَقُه طريق السَّلف الصالح من الصَّحابة ومَن تَبِعهم بإحسان.

قال شيخُ الإسلام ابن تيمِيَّة رحمه الله: «وهم-أهل السُّنَّة- في باب الأسماء والأحكام والوَعْد والوَعِيد وسَطٌ بين الوَعِيدية الذين يَجعلون أهلَ الكبائر من المسلمين مُخلَّدين في النار، ويُخرجونهم من الإيمان بالكُليَّة، ويُكذِّبون بشفاعة النَّبي صلى الله عليه وسلم.

وبين المُرْجِئة الذين يقولون: إيمان الفُسَّاق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصَّالحات ليست من الدِّين والإيمان، ويُكذِّبون بالوعيد والعِقاب بالكُليَّة.

فيُؤمِن أهل السُّنَّة والجَمَاعَة بأن فُسَّاق المسلمين معهم بعضُ الإيمان وأصلُه، وليس معهم جميعُ الإيمان الواجِب الذي يَستوجبون به الجنة، وأنهم لا يُخلَّدون في النار؛ بل يَخرج منها من كان في قلبه مِثقالُ حبَّة من إيمان أو مِثْقال خَرْدَلة من إيمان، وأن النَّبي صلى الله عليه وسلم ادَّخَر شفاعَتهُ لأهل الكبائِر من أمَّته»

(1)

.

فأهلُ السُّنَّة والجماعة لا يُوجِبون العذابَ في حقِّ كلِّ مَنْ أتى كبيرةً، ولا يَشهدون لمُسلم بعَيْنِه بالنار لأَجْلِ كبيرةٍ واحدة عَمِلَها، بل

(1)

«مَجموع الفَتاوى» (3/ 374 - 375).

ص: 119

يجوزُ عندهم أن صاحِبَ الكبيرة يُدخِلُه اللهُ الجنةَ بلا عذابٍ؛ إما لحَسناتٍ تَمْحُو كبيرتَه منه أو من غيره، وإما لمَصائِبَ كفَّرَتْها عنه، وإما لدُعاءٍ مُستَجاب منه أو من غيره فيه، وإما لغير ذلك

(1)

.

فهم بذلك قد توسطوا بين المفرطين من المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وبين الوعيدية (الخوارج والمعتزلة)؛ فالخوارج يقولون: هو كافر في الدنيا، والمعتزلة يقولون: هو في منزلة بين المنزلتين، ويتفقون على أنه في الآخرة خالد مخلد في النار.

رابعًا: في أسماءِ الإيمان والدِّين:

قال المصنف: «وفي باب أسماءِ الإيمان والدِّين بين الحَرُوريَّة والمُعتَزِلة وبين المُرْجِئة والجَهْمِيَّة» .

المراد بالأسماء هنا: أسماء الدِّين مثل؛ الإيمان، والإسلام، والكفر، والفسق. والمراد بالأحكام: أحكام أصحابها في الدنيا والآخرة.

وقد نشأ نزاع قديم بين طوائف الأمة في حقيقة هذه الأسماء، وهل تزيد وتنقص، وهل تتبعض أم لا؟

يقول محمد باكريم: «الخلاف في هذا الباب قديم؛ فهو من أوائل ما حصل فيه النزاع بين الفرق المنتمية إلى الإسلام، وأول من أظهر الخلاف في ذلك وخالف جماعة المسلمين الخوارج، ثم قابلهم المرجئة، ثم خرجت المعتزلة وجاءوا في هذا بما لم يأت به أولئك، والجميع دائر بين إفراط وتفريط.

ولما كان ديدن أهل السنة هو السنة هو التمسك بكتاب الله عز وجل، وسنة

(1)

انظر «مَجموع الفَتاوى» (12/ 479 - 483).

ص: 120

رسوله صلى الله عليه وسلم، والقول بما دلَّا عليه وأَدَّيا إليه؛ فقد جاء قولهم في هذا الباب وسطًا بين إفراط الخوارج وأهل الاعتزال وتفريط أهل الإرجاء»

(1)

.

فالإيمان عند المعتزلة والخوارج: قولٌ وعمل وعقيدة، ولكنه لا يزيد ولا ينقص، وعندهم أن الإنسان إذا ترك واجبًا؛ فإنه يكون خارجًا من الدين.

والمعتزلة لا يدخلونه في الكفر، والخوارج يدخلونه في الكفر ويخرجونه من الدين، أما المعتزلة فهم يقولون: هو في منزلة بين المنزلتين: لا مؤمن ولا كافر.

فالمعتزلةُ قالوا: إنَّ أصحابَ الكبائرِ لا مُسلمونَ ولا كفارَ، بل هم في منزلةٍ بينَ المَنزلتينِ، واتَّفقوا معَ الخوارجِ في الحكمِ الأُخرويِّ على صاحبِ الكبيرةِ: أنَّهُ مُخَلَّدٌ في النارِ.

وهذه أول بدعة ظهرت في الإسلام، وإنما أحدثوا هذا المُعتقد من سوء فهمهم للقرآن، فلم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه؛ فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب

(2)

.

وأما الإيمان عند المرجئة: فشيءٌ واحد لا يتفاوت، بل إيمان أفسق الناس مثل إيمان جبريل بلا فرق، وإيمان أهل السماء وأهل الأرض عندهم سواء، ولا يكون زائدًا ولا ناقصًا، وأخرجوا جميع الأعمال من الإيمان.

قال المصنف في «مَجموع الفَتاوى» : «تنازَع النَّاس في الأسماء

(1)

«وسطية أهل السنة بين الفرق (رسالة دكتوراه)، لمحمد باكريم، (ص 333)، دار الراية، الطبعة الأولى، 1415 هـ -1994 م.

(2)

انظر: «مَجموع الفَتاوى» (13/ 30).

ص: 121

والأحكام؛ أي: في أسماء الدِّين، مثل: مُسلِمٍ ومُؤمِنٍ وكافِرٍ وفاسِقٍ، وفي أحكام هؤلاء في الدُّنيا والآخرة، فالمُعتَزِلة وافَقوا الخَوارِجَ على حُكْمِهم في الآخِرَة دون الدُّنيا؛ فلم يَستَحِلُّوا مِنْ دمائِهم وأموالهم ما استَحَلَّتْهُ الخوارجُ، وفي الأسماء أحدَثوا المَنزِلةَ بين المَنْزِلتينِ، وهذه خاصَّة المُعتَزِلة التي انفَردوا بها، وسائِرُ أقوالهم قد شارَكهم فيها غيرُهم»

(1)

.

وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الإِيمَانَ وَالدِّينَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ.

فجاء اعتقاد أهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء وهؤلاء؛ فالإيمان عندهم قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ فتوسطوا بذلك بين المرجئة الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، والخوارج والمعتزلة الذين أنكروا زيادة الإيمان ونقصانه.

فهم وَسَطٌ بينَ الخوارجِ والمُعتزلةِ، وبينَ المُرجئةِ والجهميَّةِ.

«وأهلُ السُّنَّةِ نَقاوةُ المسلمين، فهم خير الناس للناس»

(2)

، وأسعدُ النَّاسِ بالحقِّ وأرحمهم بالخلق؛ فإنَّهم لم يُكَفِّروا أهلَ القِبْلَةِ بارتكابِ الكبائرِ، وإنَّما قالوا: مرتكب الكبيرة مؤمنٌ ناقصُ الإيمانِ، فهوَ مؤمنٌ بإيمانِهِ وفاسقٌ بمعصيتِهِ؛ فلم يُعطوهُ الإيمانَ المطلقَ، ولم يسلبوهُ مطلقَ الإيمانِ، ولم يَحكموا على الفاسقِ بأنَّهُ مُخَلَّدٌ في النارِ يومَ القيامةِ، بل قالوا: إنَّ مُرتكبي الكبائرِ من أهلِ القِبْلَةِ في مشيئةِ اللهِ يومَ القيامةِ؛ إن شاءَ عَفَا عنهم وأدخلَهُم الجنَّةَ بلا عذابٍ، وإن شاءَ عذَّبَهُم على قَدْرِ ذنوبِهِم، ثمَّ أدخلهمُ الجنَّةَ؛ كما قالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].

(1)

«مَجموع الفَتاوى» (13/ 38).

(2)

من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن أهل السنة، كما في «منهاج السنة» (5/ 158).

ص: 122

خامسًا: في بابِ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

قال المصنف رحمه الله: «وفي بابِ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينَ الرَّافضةِ والخَوَارجِ» .

الرَّافضة: هم الذين غلوا في عليٍّ رضي الله عنه وأهل البيت، ونصبوا العداوة لجمهور الصحابة كالثَّلاثة، وعائشة وحفصة وطلحة والزبير وفضلاء المهاجرين والأنصار، وكفَّروهم ومَن تولاهم، وكفَّروا مَنْ قاتل عليًّا، حتى وصل بهم الأمر إلى أن كفروا جُلَّ الصحابة إلا نفر يسير جدًّا.

وأما الخوارج فقابلوا الرَّوافض؛ فكفروا عليًّا ومعاوية ومن معهما من الصحابة بعد التحكيم، وقاتلوهم، واستحلوا دماءهم وأموالهم.

والنواصب: هم الذين نصبوا العداوة لعليٍّ ومَن والاه، وهم الذين استحلوا قتله بعد أن كفروه، وقتله أحد رءوسهم، وهو عبد الرحمن بن ملجم المرادي.

أما أهل السنة والجماعة فهداهم الله تعالى للحق والصواب، فلم يغلوا في علي وأهل البيت، ولم ينصبوا العداوة للصحابة رضي الله عنه م ولم يكفّروهم، ولم يفعلوا كما فعل النواصب من عداوة أهل البيت. بل يعترفون بحق الجميع وفضلهم، ويوالونهم، ويكفون عن الخوض فيما جرى بينهم، ويترحَّمون على جميع الصحابة، فكانوا وسطًا بين غلو الرافضة وجفاء الخوارج

(1)

.

(1)

انظر «الكواشف الجلية عن معاني الواسطية» لعبد العزيز السلمان (505 - 508)، المملكة العربية السعودية، رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الطبعة الحادية عشرة، 1402 هـ.

ص: 123

ومحبتهم لأهلِ بيتِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم محبةٌ شرعيَّة دونَ إفراطٍ أو تَفْريطٍ؛ فهم يَعْرِفُونَ لهم حَقَّهم، ويَحفظونَ وَصِيَّةَ رسولِ اللهِ فيهم، ولا يُغالونَ في مَحَبَّتِهِم؛ ولا يَرفعونهم فوق منزلتهم البشرية غلوًّا فيهم، وكذلك لا ينتقصونهم قدرهم جفاء لهم.

وما وقع بين الأصحاب الكرام من خلاف فيجب الإمساك عن الخوض فيه، والتماس العذر لهم؛ يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله:«موقف أهل السنة في الخلاف والفتن التي حصلت بين الصحابة رضي الله عنه م: موقفهم في ذلك: أن ما جرى بينهم فإنه باجتهاد من الطرفين، وليس عن سوء قصد، والمجتهد إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وليس ما جرى بينهم صادر عن إرادة علو ولا فساد في الأرض؛ لأنَّ حال الصحابة رضي الله عنه م تأبى ذلك، فإنهم أوفر الناس عقولًا، وأقواهم إيمانًا أشدهم طلبًا للحق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خيرُ النَّاس قَرْني»

(1)

. وعلى هذا فطريق السلامة: أن نسكت عن الخوض فيما جرى بينهم، ونَرُدَّ أمرهم إلى الله؛ لأن ذلك أسلم من وقوع عداوة أو حقد على أحدهم»

(2)

.

فأهل السنة والجماعة يتميزون بالوسطية والاعتدال بين الفرق الأخرى التي تقف على طرفي نقيض؛ فتتجه إحداهما لأقصى اليمين، وتنحدر الأخرى لأقصى اليسار، والحق بين هذا وذاك، وتلكم هي الوسطية والطريقة السوية.

ر

(1)

أخرجه البخاري (3651) ومسلم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود ?.

(2)

«مذكرة على العقيدة الواسطية» لابن عثيمين (ص 82)، مدار الوطن للنشر- الرياض، 1426 هـ.

ص: 124

قال المصنف رحمه الله:

«وقد دخلَ فيما ذكرناهُ مِنَ الإيمانِ باللهِ الإيمانُ بما أخبرَ بهِ في كتابِهِ وتواترَ عن رسولِهِ، وأجمعَ عليهِ سلفُ الأُمَّةِ من أنَّهُ- سبحانه- فوقَ سَماواتِهِ على عرشِهِ، عَلِيٌّ عَلَى خلقِهِ، وَهُوَ- سبحانه- مَعهم أينما كانوا؛ يَعْلَمُ ما هم عاملونَ، كما جَمَعَ بينَ ذلكَ في قولِهِ:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]، وليس معنى قولِهِ:{وَهُوَ مَعَكُمْ} : أَنَّهُ مُختلطٌ بالخلقِ؛ فإنَّ هذا لا تُوجِبُهُ اللُّغة، وهوَ خلافُ ما أجمعَ عليهِ سلفُ الأمَّةِ، وخِلَافُ ما فَطَرَ اللهُ عليهِ الخلقَ، بلِ القمرُ آيةٌ من آياتِ اللهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخلوقاتِهِ، وهو موضوعٌ فِي السَّماءِ، وهوَ معَ المسافرِ وغيرِ المسافرِ أينما كانَ، وهوَ- سبحانه- فوقَ عرشِهِ، رَقيبٌ على خلقِهِ، مهيمنٌ عليهم، مُطَّلِعٌ عليهم، إِلَى غيرِ ذلكَ مِنْ مَعانِي رُبوبيتِهِ.

وَكُلُّ هَذَا الكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ؛ مِنْ: أَنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ، وَأَنَّهُ مَعَنَا- حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لَا يَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيفٍ، وَلَكِنْ يُصَانُ عَنِ الظُّنُونِ الكَاذِبَة؛ مِثْل أَنْ يُظَنَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ:{فِي السَّمَاءِ} : أَنَّ السَّمَاءَ تُقِلُّهُ، أَوْ تُظِلُّهُ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ العِلمِ وَالإِيمَانِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255]، وَهُوَ الَّذِي {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: 41]، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ}

ص: 125

[الحج: 65]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25]».

الشرح

ذكر المصنف رحمه الله في هذا الموضع ما يتعلق بصفة العلو، وما يتصل بهذه الصفة من جملةِ صفاتٍ.

وأعظم مسألتين في باب أسماء الله وصفاته: هما صفة العلو وصفة الكلام، ولذلك خصهما هنا شيخ الإسلام بالذِّكر؛ فتكلم- أولًا- عن صفة العلو وما يتعلق بها، ثم أعقب ذلك بالحديث عن صفة الكلام، وهذا لأهمية هاتين المسألتين في هذا الباب؛ لأن أهل الباطل من المعطلة أَصَّلوا قولهم في صفة العلو بناء على أن العلوم محصورة في المحسوس المشاهد، فكذَّبوا بكل غيب، ولذلك أنكروا عُلُوَّ الله سبحانه وتعالى؛ وهو أعظم غيب، وهم بذلك يُريدون الوصول إلى إنكار وجوده؛ لأن في إثبات علوه إثباتًا لوجوده جل وعلا، وإثبات وجوده إثبات لأعظم الغيب.

وكذلك أرادوا أن يتسلطوا على صفة الكلام؛ لأن في إثباتها إثبات للوحي، وهو مصدر العلم الشرعي، فهم يريدون أن يُفسدوا هذا الباب؛ ليقصروا مصدر العلم على نفوسهم، وبالتالي يريدون أن يُسووا بين قولهم وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبار أن مصدر الاثنين واحد.

وبالتالي، فمسألة العلو من أعظم المسائل؛ لذلك نجد أن النصوص التي أثبتت هذه الصفة متواترة ومتنوعة ومتعددة، حتى إنَّ العلماء يذكرون أن في كتاب الله عز وجل أكثر من ثلاثمائة آية تتكلم عن علوِّ الله بأساليب متنوعة ومتعددة؛ فالله عز وجل تارة يُخبر بعلوه، وتارة يُخبر باستوائه، وتارة يُخبر بنزوله، وتارة يُخبر بصعود الأشياء إليه، وتارة يخبر بنزولها من عنده، وتارة يخبر بعروجها إليه، وهكذا.

ص: 126

وقد دلَّ على عُلُوِّ اللهِ على خلقِهِ بذاته- الكتابُ بدلالاتٍ متنوعةٍ، والسُّنَّةُ بدلالاتِهَا الثلاثِ:(القوليَّة، والفعليَّة، والتقريريَّة)، والإجماعِ، والعقلِ، والفطرةِ.

وقالَ العلَّامةُ السّعْدي بعدَ أن أَوْرَدَ كلامَ شيخِ الإسلامِ السابقِ: «في هذا الفصلِ مسألة علو اللهِ واستوائِهِ على عرشِهِ، وأن ذلكَ داخلٌ في الإيمانِ باللهِ، وذلكَ لِمَا حَصَلَ في هذِهِ المسألةِ مِنَ الاختلافِ والمُخَاصماتِ الطويلةِ بينَ أهلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ وبينَ طوائِفِ الجهميَّةِ والمُعتزلةِ ومَن تَبِعَهُم في هَذِهِ المَسألةِ مِنَ الأشعريَّةِ ونحوهم.

فإنَّ مَسألةَ العلوِّ صُنِّفَت فيها المُصَنَّفات المُستقلَّة، وأَوْرَدَ فيها أهلُ السُّنَّة ما لا يمكنُ دفعُهُ أو دفع بعضِهِ، وحقَّقوا ذلكَ بالعقلِ الصحيحِ، وأنَّ الفِطَر والعقولَ مُعترفة، بل ومضطرة إلى الإيمانِ بعلوِّ اللهِ إلَّا مَنْ غَيَّرَت فِطَرتَه العقائِدُ الباطِلةُ.

وقد بيَّن المُصَنِّفُ في هذا الموضوعِ الجمعَ بينَ الإيمانِ بعلوِّ اللهِ وإثباتِ مَعِيَّته وعِلْمِهِ المُحيط، وحَقَّقه في كلامٍ واضحٍ مُبَيَّنٍ بالأمثلةِ المُقَرِّبةِ للمعاني بما لا مَزِيدَ علِيهِ»

(1)

.

فصفة العلو صفة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف، بل وثابتة بالفطرة، وثابتة بالعقل.

قال العَلَّامةُ ابنُ القَيِّم رحمه الله: «قالَ شيخُ الإسلامِ: وَهَذَا كتابُ اللهِ من أوَّلهِ إلى آخرِهِ، وسُنَّة رسولهِ صلى الله عليه وسلم، وعامَّة كلام الصَّحابةِ والتَّابعينَ وكلام سائرِ الأئمَّة مَمْلُوءٌ بما هُوَ نصٌّ أو ظَاهِرٌ في أنَّ اللهَ

(1)

«التنبيهات اللطيفة» (ص 65).

ص: 127

سبحانه وتعالى فوقَ كلِّ شيءٍ، وأنَّه فوقَ السَّماوات مُسْتَوٍ عَلَى عرشِهِ»

(1)

.

وقال- أيضًا- ابن القيم رحمه الله كما: «

حتى قيل: إن الآياتِ والأخبارَ الدَّالّةَ على عُلُوِّ الرَّبِّ على خلقه واستوائه على عرشه تقاربُ الألوفَ، وقد أجمعت عليها الرسلُ مِنْ أولهم إلى آخرهم»

(2)

.

وقد تَنَوَّعَتْ دلالةُ القرآنِ على عُلُوِّ الله على وجوهٍ كثيرةٍ، منها:

1 ـ التَّصْرِيحُ بِالفَوْقِيَّةِ مَقْرُونَةٌ بأداةِ «مِنْ» المُعَيِّنَةِ لِفَوْقِيَّةِ الذَّاتِ، نحو {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50].

2 ـ التصريح بالفوقيَّة مُجَرَّدَة عن الأداة، كقوله:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18].

3 -

التَّصْرِيح بالعروج إليه؛ نحو {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4].

4 -

التصريح بالصُّعود إليه؛ كقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].

5 -

التَّصريح برفعه بعضَ المخلوقاتِ إليه؛ كقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وقوله:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55].

6 -

التَّصريح بالعُلُوِّ المطلقِ الدَّالِّ على جميع مراتب العلو، ذاتًا وقدرًا وشرفًا، كقوله:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51].

7 -

التَّصريح بتنزيل الكتاب منه، كقوله:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1]، {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، {قُلْ

(1)

«اجتماع الجيوش الإسلامية» (2/ 96).

(2)

«مختصر الصواعق» (ص 59).

ص: 128

نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل: 102]، وهذا يدل على شيئين:

الأول: على أنَّ القرآنَ ظَهَر منه لا من غيره، وأَنَّهُ الذي تكلم به، لا غيره.

الثاني: على عُلُوِّهِ على خَلْقِهِ، وأنَّ كلامَه نزل به الرُّوح الأمين من عنده من أعلى مكان إلى رسوله.

8 -

التَّصريحُ باخْتِصَاصِ بعضِ المخلوقات بأنها عنده، وأنَّ بَعْضَهَا أَقْرَبُ إليه من بعضٍ، كقوله:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206]، وقوله:{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19]، ففرَّق بين من له عمومًا، ومن عنده من مماليكه وعبيده خصوصًا.

9 -

التَّصريح بأنه سبحانه في السَّماء، وهذا عند أَهْل السُّنَّة على أحد وجهين:

إما أن تكون «في» بمعنى «على» .

وإما أن يراد بالسَّماء العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز حملُ النَّصِّ على غيره.

10 -

التَّصريح بالاستواء مقرونًا بأداة «على» مختصًّا بالعرش، الذي هو أعلى المخلوقات، مصاحبًا في الأكثر لأداة «ثُمَّ» الدَّالَّة على الترتيب والمهلة، وهو بهذا السِّياق صريحٌ في معناه الذي لا يفهم المخاطبون غيره من العُلُوِّ والارتفاع، ولا يحتمل غيره البتَّة.

11 -

إخباره سبحانه عن فرعون أنه رَامَ الصُّعُودَ إلى السماء؛ لِيَطَّلِعَ إلى إله موسى، فيُكذبه فيما أخبر به من أنه فوق السماوات؛ فقال:{يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37]،

ص: 129

فكذَّب فرعونُ موسى في إخباره إياَّه بأن ربَّه فوق السماء

(1)

.

وفي قوله سبحانه وتعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} - بيَّن أن الملائكة أقرب إليه من غيرهم من خلقه.

وكذلك قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، إلى غير ذلك من ألفاظ متنوعة ومتعددة تدل دلالة واضحة على أن الله عال على خلقه مُستو على عرشه.

أما دلالة السُّنَّة على العلو، فقد قال شيخ الإسلام:«وأما الأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين فلا يُحصيها إلا الله تعالى»

(2)

.

فالسُّنَّةُ قد دلَّت على عُلُوِّ الله بدلالاتها الثلاث: (القولية، والفعلية، والتقريرية).

أما السُّنَّة القولية فمنها:

1 -

ما رواه أنس رضي الله عنه في حديث الخَوَارِجِ: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا تَأْمَنُونِي، وأَنا أَمِينُ مَنْ في السَّمَاءِ؟!»

(3)

.

2 -

ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله تعالى طَيِّبٌ لا يقبل إلا طَيِّبًا

»، إلى أن قال:«ثم ذكر الرجلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ومَشْرَبُهُ حَرَامٌ ومَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالحَرَامِ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السماء: يا رب، يا رب، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِك؟»

(4)

.

(1)

انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 314 - 317).

(2)

«مجموع الفتاوى» (5/ 166).

(3)

أخرجه البخاري (4351) ومسلم (1064).

(4)

أخرجه مسلم (1015).

ص: 130

3 -

ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَتَعاقَبُونَ فيكم ملائكةٌ باللَّيْلِ وملائكةٌ في النهار، ويجتمعون في صلاة الصُّبحِ وصلاةِ العصرِ، ثم يَعْرُجُ الذين باتوا فيكم، فيسألهم الله وهو أعلم بهم: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فيقولون: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»

(1)

.

وأما أدلة السُّنَّة الفِعلية فمنها:

1 -

ما رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه في حديث حَجَّةِ الوَدَاعِ، وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ، فقال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا

»، إلى أن قال جابر رضي الله عنه:«فقال بإصبعه السَّبَّابَة يَرْفَعُهَا إلى السَّماء وَيَنْكُتُهَا إلى الناس: اللهم اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ»

(2)

.

قال العَلَّامة ابن القَيِّم رحمه الله مُعَلِّقًا على هذا الحديث: «ليشهد الجميعُ أن الرَّبَّ الذي أرسله ودعا إليه واستشهده هو الذي فوق سماواته على عرشه»

(3)

.

2 -

ما في الصَّحيحين في رفعه صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء قائلًا: «اللهم اسقنا»

(4)

. وهكذا رفعه يديه في الاستسقاء وغير ذلك.

ومن أدلة السُّنَّة التقريريَّة وأشهرها:

ما رواه معاوية بن الحَكَم السُّلَمِي رضي الله عنه قال: «كانت لي جاريةٌ تَرْعَى غَنَمًا قِبَلَ أُحُدٍ والجوَّانيَّة، فاطَّلَعْتُ ذات يومٍ فإذا بالذئب قد

(1)

أخرجه البخاري (555) ومسلم (632).

(2)

أخرجه مسلم (1218).

(3)

«إعلام المُوقعين» (2/ 316).

(4)

أخرجه البخاري (1013) ومسلم (895).

ص: 131

ذهب بشاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وأنا رجلٌ من بني آدم، آسَفُ كما يَأْسَفُونَ لكني صَكَكْتُهَا، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظَّم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: «ائتني بها» ، فأتيتُه بها، فقال لها:«أين الله؟» . قالت: في السماء، قال:«ومَن أنا؟» . قالت: رسول الله، قال:«أَعْتِقها؛ فإنَّها مؤمنة»

(1)

.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: «ثم عن السَّلف في ذلك من الأقوال ما لو جُمِعَ لَبَلَغَ مِئِينَ أَوْ أُلُوفًا.

ثُمَّ لَيْسَ في كتاب الله ولا في سُنَّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من سلف الأمة، لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف- حرفٌ واحدٌ يخالف ذلك لا نَصًّا ولا ظاهرًا، ولم يقل أحد منهم قط: إنَّ الله ليس في السماء، ولا إنه ليس على العرش، ولا إنه بذاته في كل مكان، ولا إن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا إنه لا متصل ولا منفصل، ولا إنه لا تجوز الإشارة الحسيَّة إليه بالأصابع ونحوها»

(2)

.

وأما دلالة الإجماع: فقد قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فالسَّلَفُ والأَئِمَّةُ يقولون: إن الله فوق سماواته مُسْتَوٍ على عرشه بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، كما دَلَّ على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، عُلِمَ المُبَايَنَةُ والعُلُوُّ بالمعقولِ الصَّريح الموافق للمنقول الصحيح، وكما فَطَرَ اللهُ على ذلك خَلْقَهُ»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم (537).

(2)

«مجموع الفتاوى» (5/ 15).

(3)

«مجموع الفتاوى» (2/ 297).

ص: 132

وأما دلالة الفِطْرَةِ على عُلُوِّ الله بذاته:

فقد قال إمام الأئمة محمد بن خزيمة رحمه الله: «باب ذكر البيان أن الله عز وجل في السماء، كما أخبرنا في مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ وعلى لسان نبيه عليه السلام، وكما هو مفهوم في فطرة المسلمين علمائهم وجُهَّالِهِمْ وأَحْرَارِهِمْ وَمَمَالِيكِهِمْ ذُكْرَانِهِمْ وَإِنَاثِهِم بَالِغِيهِم وأَطْفَالِهِم، كل مَنْ دعا الله جل وعلا فإنه يرفع رأسَه إلى السماء ويمد يدَيْه إلى الله إلى أعلاهُ، لا إلى أسفل»

(1)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأمَّا كونه عاليًا على مخلوقاته بائنًا منهم، فهذا أمرٌ معلومٌ بالفطرةِ الضروريةِ التي يشترك فيها جميع بني آدم.

وكُلُّ مَنْ كان بالله أعرفَ وله أَعْبَدَ ودُعَاؤُهُ له أكثرَ وقَلْبُهُ له أَذْكَرَ كان علمُه الضروريُّ بذلك أقوى وأكملَ، فالفطرة مُكَمَّلَةٌ بالفطرة المنزَّلة؛ فإن الفطرةَ تعلم الأمر مُجْمَلًا والشريعة تُفَصِّلُهُ وتُبَيِّنُهُ وتَشْهَدُ بما لا تَسْتَقِلُّ الفطرة به، فهذا هذا، والله أعلم»

(2)

.

فالله تعالى فطر القلوب على إثبات علوه عز جل، ولذلك لما تكلم أبو المعالي الجويني في إنكار صفة العلو؛ وقال على المنبر: كان اللهُ ولا عَرْشَ، فقال له أبوجعفر الهمداني: يا أستاذ دَعْنَا مِنْ ذكر العرش- يعني لأن ذلك إنما جاء في السَّمْعِ- أَخْبِرْنَا عن هذه الضرورة التي نَجِدُهَا في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قَطُّ (يا الله) إلا وَجَدَ مِنْ قَلْبِهِ ضَرُورَةً تَطْلُبُ العُلُوَّ، لا تلتفت يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه، وقال: حَيَّرَنِي الهمذانيُّ، حَيَّرَنِي الهمدانيُّ، ونزل

(3)

.

(1)

«التوحيد» (1/ 254).

(2)

«مجموع الفتاوى» (4/ 45).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (4/ 44).

ص: 133

فالله سبحانه وتعالى فطر هذه القلوب على إثبات علوه عز وجل فأنت في كل أحوالك إذا سألت الله اتَّجهت إلى جهة واحدة، وهي جهة العلو، فلا تلتفت يمنة ولا يسرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى فطر القلوب على معرفته، ومن ذلك جواب الجارية على النبي صلى الله عليه وسلم لما سألها الجارية:«أين الله؟» . فقالت: «في السَّماء» . فقال صلى الله عليه وسلم: «أَعْتِقها؛ فإنَّها مؤمنة»

(1)

.

وأَمَّا دَلَالَةُ العَقْلِ على إثبات العُلُوِّ لله، فقد قال العَلَّامة ابن عثيمين رحمه الله، فقال:«وأما العقلُ فقد دَلَّ على وجوب صفة الكمالِ لله تعالى، وتنزيهِه عن النقصِ، والعُلُوُّ صفةُ كمالٍ، والسُّفْلُ نَقْصٌ، فوجب لله تعالى صفة العلو وتنزيهه عن ضده»

(2)

.

وكذلك العلو ثابت بالعقل، ولذلك يقول الإمام أحمد: «يقال للجهمي: إنَّ الله إذا كان معنا بعظمة نفسه. فقل له: هل يغفر الله لكم فيما بينه وبين خلقه؟ فإن قال: نعم. فقد زعم أن الله بائن مِنْ خلقه، وأن خلقه دونه. وإن قال: لا، كفر. وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان. فقل له: أليس كان الله ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: حين خلق الشيء خلقه في نفسه، أو خارج عن نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل لا بد له من واحد منها: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، فقد كفر حين زعم أنه خلق الخلق والشياطين وإبليس في نفسه، وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه، ثم دخل فيهم، كان هذا أيضًا كفر، حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش وقذر. وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه، ثم لم يدخل فيهم، رجع

(1)

أخرجه مسلم (537)، وقد تقدَّم قريبًا.

(2)

«القواعد المُثْلى» (ص 67).

ص: 134

عن قوله كله أجمع، وهو قول أهل السنة»

(1)

.

ونحن نُنَزِّه الله أن يُذكر في الخلاء فضلًا عن أن يكون هو- سبحانه وتعالى في هذا المكان.

فالله عال على خلقه، مستو على عرشه، بائن من خلقه، وهم بائنون منه.

ومقصود أهل السنة بإثبات صفة العلو: أنه ليس بعد هذا العالم إلا الله.

وإثبات الاستواء جاء في القرآن في سبعة مواضع؛ في ستة مواضع: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، وفي واحد منها:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ؛ فأخبر باستوائه في هذه المواضع.

وذِكر العرش جاء في واحد وعشرين موضعًا، وهو أكبر مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وأثقلها وزنًا وأعظمها خلقًا، وهو- كما يقولون-: سقف الجَنَّة.

فإثبات العلو والاستواء أمرٌ جاءت به النصوص، ولا تعارض بين نصوص العلو والاستواء ونصوص المعية.

الفرق بين العلو والاستواء:

1 -

العُلُوُّ مِنْ الصِّفَات المعلومة بالسَّمع مع العقل، وأما الاستواء فمن الصفات المعلومة بالسَّمع دون العقل

(2)

.

2 -

أنَّ العُلُوَّ صفةٌ ذاتيةٌ، والاستواء صفة فعلية؛ فالاستواء علو خاص، خَصَّه الله بالعرش.

أما العلو فإنَّ الله سبحانه وتعالى عالٍ على جميع خلقه بما في ذلك

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (1/ 40).

(2)

انظر «مجموع الفتاوى» (3/ 49)، (5/ 122، 152، 227).

ص: 135

العرش الذي خصه الله سبحانه وتعالى بالاستواء عليه.

ومعنى استوى: علا وارتفع.

لأن استوى إمَّا أن تَرِد مُطلقة وإمَّا أن ترد مقيدة، فإذا أطلقت مثل أن تقول: استوى الطعام، أو استوى النبات، والمعنى: كمل وتم.

وإذا قيدت فإمَّا أن تقيد بإلى أو تقيد بعلى أو تقيد بواو (مع)، فإذا قيدت بإلى فقد جاءت في القرآن- بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى في موضعين؛ في قوله تعالى:{ثم استوى إلى الله فسواهن سبع سماوات} ،. وقوله:{ثم استوى إلى السماء وهي دخان} .

وإذا قيدت بإلى فقد قال العلماء في معانيها: إنها بمعنى (عمد وقصد وأقبل وعلا، وصعد)، وهي من لوازم علا.

أما إذا قيدت بعلى فليس لها في لغة العرب إلا معنى واحدًا، وهو علا وارتفع، وآيات الاستواء كلها قُيِّدت بعلى: وهي قوله: {الرحمن على العرش استوى} ، وقوله:{ثم استوى على العرش} .

أمَّا إذا قيدت بواو (مع) فهي تعني المساواة مثل أن تقول: استوى الماء والخشب، أو استوى فلان وفلان في النتيجة، فمعناها المساواة.

والعرب لا تعرف من معاني (استوى): استولى.

فمن فَسَّر استوى بالاستيلاء فليس من لغة العرب في شيء.

ثم ما يتعلق بأمر العلو وأمر المعية فلا تعارض بينهما، والله سبحانه وتعالى قد جمع بين ذلك في قوله:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4].

ص: 136

ونصوص المعية تنقسم إلى قسمين: عامة وخاصة:

المعية العامة، كما في سورة الحديد في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]

وفي سورة المجادلة في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].

والمعية الخاصة، مثل قوله تعالى:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ونحو ذلك من الآيات، فتلك من نصوص المعية الخاصة.

ولفظ (مع) في لغة العرب يُفيد المصاحبة، ثم إنَّ المصاحبة تختلف بحسب السياق، وهي مِنْ الألفاظ المشتركة بمعنى: أن السياق هو الذي يُحَدِّدها، فقد تكون المعية بمعنى النصرة، وقد تكون بمعنى مصاحبة الذات، وقد تكون غير ذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أُطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة؛ من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال؛ فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى. فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، أو والنجم معنا. ويقال: هذا المتاع معي

ص: 137

لمجامعته لك؛ وإن كان فوق رأسك. فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة»

(1)

.

وليس هنا تعارض بين نصوص المعية ونصوص العلو.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وجماع الأمر في ذلك: أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه وقصد اتباع الحق وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته. ولا يحسب الحاسب أن شيئًا من ذلك يناقض بعضه بعضا البتة؛ مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: {وهو معكم أين ما كنتم}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنَّ الله قِبَل وجهه»

(2)

، ونحو ذلك فإن هذا غلط.

وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه وتعالى:{هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير} . فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا»

(3)

.

ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال:{يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها} إلى قوله: {وهو معكم أين ما كنتم} دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها: أنه مطلع عليكم؛ شهيد عليكم ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول

(1)

«مجموع الفتاوى» (5/ 103).

(2)

أخرجه بنحوه البخاري (406) ومسلم (547)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

«مجموع الفتاوى» (5/ 102، 103).

ص: 138

السلف: إنه معهم بعلمه. وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته، وكذلك في قوله:{ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} إلى قوله: {هو معهم أين ما كانوا} الآية، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار:«لا تحزن إن الله معنا» كان هذا- أيضا- حقًّا على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد

(1)

.

فليس المراد مصاحبة اختلاط، إذ لفظ (المعية) قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع يقتضي في كل موضع أمورًا لا يقتضيها في الموضع الآخر؛ فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها - وإن امتاز كل موضع بخاصية - فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق حتى يقال: قد صرفت عن ظاهرها

(2)

.

قال الشيخ الأمين الشنقيطي: «قوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} ، ذكر- جل وعلا- في هذه الآية الكريمة: أنه مع عباده المتقين المحسنين، وهذه المعية بعباده المؤمنين، وهي بالإعانة والنصر والتوفيق. وكرر هذا المعنى في مواضع أخر; كقوله:{إنني معكما أسمع وأرى} ، وقوله:{إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم} ، وقوله:{لا تحزن إن الله معنا} ، وقوله:{قال كلا إن معي ربي سيهدين} ، إلى غير ذلك من الآيات.

وأما المعية العامة لجميع الخلق فهي بالإحاطة التامة والعلم،

(1)

انظر: «الفتوى الحموية» (ص 521، 522).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (5/ 104).

ص: 139

ونفوذ القدرة، وكون الجميع في قبضته- جل وعلا- فالكائنات في يده - جل وعلا - أصغر من حبة خردل، وهذه هي المذكورة- أيضًا- في آيات كثيرة; كقوله:{ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم} الآية، وقوله:{وهو معكم أين ما} الآية، وقوله:{فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} ، وقوله:{وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه} الآية، إلى غير ذلك من الآيات.

فهو- جل وعلا- مستو على عرشه كما قال، على الكيفية اللائقة بكماله وجلاله، وهو محيط بخلقه، كلهم في قبضة يده، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين»

(1)

.

وهنا مسألة ينبغي التنبه لها، وهي أن أهل السنة إذا تعاملوا مع النصوص التي أُضيفت لله تعالى، فإنهم يتعاملون معها بموجب ما دل عليه السياق، فلا يُقال لأهل السنة هنا: قد وقعتم في التأويل؛ لأن الآية قد لا تكون متعلقة بهذه الصفة التي قد يفهمها البعض منها، وإنما تكون متعلقة بصفة أخرى؛ فمثلًا قوله تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} ، فالأيد هنا ليس جمع يد، وإنما جمع آد، والآد: هو القوة، كما في قوله تعالى:{واذكر عبدنا داود ذا الأيد} ، فهل كان لداود عليه السلام عدة أياد، أو المعنى: أنه صاحب القُوى.

(1)

«أضواء البيان» باختصار يسير (2/ 468، 469).

ص: 140

وكذلك في قوله تعالى: {يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} فالسياق لا يدل على إثبات صفة الجنب لله سبحانه وتعالى، وإنما المعنى: التحسر على التفريط الذي وقع في حق الله سبحانه وتعالى.

ومثل قوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} ، فليس المراد هنا صفة الوجه، وإنما المراد: القِبلة، لأنَّ الوجه هنا بمعنى: الجهة.

والأمثلة على ذلك كثيرة في النصوص، وليست هذه الآيات ونحوها من نصوص الصفات.

والسلف هنا لم يؤولوا هذه النصوص ولم يحملوا ما لا تحتمله، وإنما كان من منهجهم النظر إلى سياقها وما دلَّت عليه، فقد يكون من باب الصفات وقد لا يكون من بابها، وليس في هذا تأويل، أي: تحريف للنص عن ظاهره أو معناه، ولكن بعض الناس قد يتوهم أمرًا والنص لا يدل عليه ولا يُرشد إليها، وهذا في باب الصفات وفي غيره، وهو ما يسمى بالاشتباه النِّسبي.

فمثلًا أخبر الله سبحانه وتعالى أن القرآن كله محكم في قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ، وأخبر أن كله متشابه فقال:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} ، وأخبر أن منه محكم ومنه متشابه؛ فقال:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} .

فلا يُمكن أن يقال: هذا تناقض، والحق أنه ليس من التناقض في شيء، فقوله:{أُحْكِمَتْ} بمعنى: أتقنت، فالقرآن كله محكم، بمعنى: متقن، ليس فيه اختلاف ولا تضاد، كما قال سبحانه وتعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} .

ص: 141

وفي الآية الأخرى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} ، والمتشابه هنا بمعنى المتماثل المتناسب الذي ليس فيه اختلاف ولا تضاد، وهذا يؤكد ما في الآية السابقة؛ لأن من إتقانه أنه لا تضاد فيه ولا اختلاف؟

قال المصنف رحمه الله: «ومَن هداه الله فرَّق بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه وعلم ما بينهما من الجمع والفرق والتشابه والاختلاف، وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام؛ لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم الفارق الذي يبين ما بينهما من الفصل والافتراق.

وهذا كما أن لفظ (إنا) و (نحن) وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم بها الواحد له شركاء في الفعل ويتكلم بها الواحد العظيم الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد وله أعوان تابعون به لا شركاء له، فإذا تمسك النصراني بقوله تعالى:{إنا نحن نزلنا الذكر} ونحوه على تعدد الآلهة كان المحكم كقوله تعالى: {وإلهكم إله واحد} ونحو ذلك مما لا يحصل إلا معنى واحدًا يُزيل ما هناك من الاشتباه، وكان ما ذكره من صيغة الجمع مبينًا لما يستحقه من العظمة والأسماء والصفات وطائفة المخلوقات من الملائكة وغيرهم»

(1)

.

ففي قوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} ، وصيغة الجمع لها استعمال على أنها صيغة جمع، واستعمال على أنها للتعظيم.

والله أحق ان يُعَظَّم؛ فبالتالي جاء هذا الاستعمال للتعظيم.

وفي قوله تعالى: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله

(1)

«الرسالة التدمرية» (ص 46).

ص: 142

وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} - كذب النصارى على الله في أمر عيسى، وذلك أنهم قالوا: عيسى روح الله من ذات الله، كما يقال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب.

وقلنا نحن: إنَّ عيسى بالكلمة كان وليس هو الكلمة. قال: وقول الله: {وروح منه} يقول: مِنْ أمره كان الروح فيه، كقوله:{وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} يقول: من أمره. وتفسير روح الله: أنها روح بكلمة الله خلقها الله، كما يقال: عبد الله وسماء الله، فقد ذكر الإمام أحمد أن زنادقة النصارى هم الذين يقولون: إن روح عيسى من ذات الله، وبَيَّن أن إضافة الرُّوح إليه إضافة مُلك وخَلق، كقولك: عبد الله وسماء الله؛ لا إضافة صفة إلى موصوف؛ فكيف بأرواح سائر الآدميين؟!

(1)

.

فـ (من) في قوله تعالى: {وروح منه} : تبعيضية.

و (من) لها ستة استعمالات؛ فترد تبعيضية واستفهامية وبيانية وغير ذلك.

فالشاهد: أن من الآيات ما يدل على معنى واحد، ومنها ما قد يكون في السياق ما يُبين المراد والمقصود منها، وذلك بتخصيص معنى من المعاني، أما في أصل اللغة فقد يكون للفظ عدة استعمالات، والسياق هو الذي يحدد المراد.

(1)

«مجموع الفتاوى» (4/ 220).

ص: 143

قال المصنف رحمه الله:

«وقد دخلَ في ذَلِكَ: الإيمانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مُجيبٌ، كَمَا جَمَعَ بينَ ذَلِكَ فِي قَولِهِ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِه» ، وَمَا ذُكِرَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ- مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِه- لَا يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ، فَإِنَّهُ- سُبْحَانَهُ- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ، وَهُوَ عَلِيٌّ فِي دُنُوِّهِ، قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ».

الشرح

ذكرَ المصنفُ رحمه الله هنا الجمعَ بينَ الإيمانِ بعلوِّ اللهِ وقُرْبِهِ ومَعِيَّتِهِ؛ لِئَلَّا يَظُنَّ الظَّانُّ أنَّ ذَلِكَ مثل صفاتِ المخلوقينَ، وأنَّهُ إذا قِيلَ: إِنَّهُ عليٌّ فوقَ خلقِهِ كيفَ يكونُ مَعَهُم قريبًا منهم؟

فأجابَ بما تضمنَّهُ هذا الأصلُ الثابتُ في الكتابِ والسنَّةِ وإجماعِ الأمَّةِ، وَهُو أَنَّ اللهَ- تَعَالَى- ليسَ كَمِثلِهِ شيءٌ في جميعِ نُعُوتِهِ، وَمِنْ نُعُوتِهِ اللازمَةِ: العلوُّ المُطلَقُ والقُرْبُ العامُّ والخاصُّ، وأنَّ القُرْبَ والعلوَّ في حقِّه يجتمعانِ لِعَظَمَتِهِ وَكِبرِيَائِهِ وَإِحَاطَتِهِ مِنْ كُلِّ وجهٍ، فَهُوَ العليُّ فِي دُنُوِّه، القريبُ في عُلُوِّه

(1)

.

وصفة العلو صفة لازمة لله سبحانه وتعالى لا تنفك عنه، ولا تعارض بين عُلوه وقُربه جل وعلا؛ فهو يقرب من خلقه كيف يشاء.

وَهَكَذَا القولُ فِي أَحَادِيثِ النُّزولِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنيا، فَإِنَّهُ مِنْ نَوعِ

(1)

«التنبيهات اللطيفة» (66، 67).

ص: 144

قُرْبِ الرَّبِّ مِنْ دَاعِيهِ وسائليهِ ومُستغفريهِ.

وقال مالك عن حديث النزول: «ولهذا أمضِ الحديث كما ورد بلا كيف ولا تحديد إلا بما جاءت به الآثار، وبما جاء به الكتاب، قال الله تعالى:{فلا تضربوا لله الأمثال} [النحل: 74]: ينزل كيف شاء بقدرته وعلمه وعظمته، أحاط بكل شيء.

وقال بشر بن السري لحماد بن زيد: ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؛ يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حمَّادٌ، ثم قال: هو مكانه يَقرب من خلقه كيف شاء

(1)

.

فمَا ذُكِرَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ- مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِه- لَا يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ، فَإِنَّهُ- سُبْحَانَهُ- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ، وَهُوَ عَلِيٌّ فِي دُنُوِّهِ، قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ، ولا ينبغي أن نسأل عن كيفية ذلك؛ لأن الله قد حجب ذلك عنا.

قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: «فَإِنَّ عُلُوَّهُ- سُبْحَانَهُ- عَلَى سَمَاوَاتِهِ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، فَلَا يَكُونُ قَطُّ إِلَّا عَالِيًا، وَلَا يَكُونُ فَوْقَهُ شَيْءٌ البَتَّة، كَمَا قَالَ أَعْلَمُ الخَلق: «أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْء» ، وَهُوَ- سُبْحَانَهُ- قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ، عَالٍ فِي قُرْبِهِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا بِالتَّكْبِيرِ فَقَال: «أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِه» .

وَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، مُطَّلِعٌ عَلَى خَلقِهِ؛ يَرَى أَعْمَالَهُمْ، وَيَعْلَمُ مَا فِي بُطُونِهِمْ، وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَاقِضُ أَحَدُهُمَا الآخَر.

(1)

انظر «مختصر الصواعق» لابن القيِّم (ص 468).

ص: 145

وَالَّذِي يُسَهِّلُ عَلَيْكَ فَهْمَ هَذَا: مَعْرِفَةُ عَظَمَةِ الرَّبِّ، وَإِحَاطَتِهِ بِخَلقِهِ، وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ فِي يَدِهِ كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ العَبْدِ، وَأَنَّهُ- سُبْحَانَهُ- يَقْبِضُ السَّمَاوَاتِ بِيَدِهِ وَالأَرْضَ بِيَدِهِ الأُخْرَى، ثُمَّ يَهُزُّهُن.

فَكَيْفَ يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّ مَنْ هَذَا بَعْضُ عَظَمَتِهِ: أَنْ يَكُونَ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَيَقْرُبُ مِنْ خَلقِهِ كَيْفَ شَاءَ وَهُوَ عَلَى العَرْش»

(1)

.

وقربُ الله من خلقه لا يعني البتة أنه مختلط بهم، فالله عال على خلقه مستو على عرشه، بائن من خلقه وخلقه بائنون منه، وقُرب الله ليس كمعيته، فالقرب لم يرد إلا خاصًّا.

قالَ ابنُ القيِّمِ: «قربُ الربِّ- تَعالى- إِنَّمَا وَرَدَ خَاصًّا لَا عَامًّا، وَهُوَ نوعانِ:

النوع الأول: قُرْبُهُ مِنْ دَاعِيه بالإجابةِ.

النوع الثاني: وَمِنْ مُطِيعِهِ بِالإثابةِ.

ولم يَجِئِ القربُ كَمَا جَاءَت المعيَّةُ خاصَّةٌ وَعَامَّةٌ، فَلَيسَ فِي القرآنِ ولا في السُّنَّةِ أنَّ اللهَ قريبٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَأَنَّهُ قريبٌ مِنَ الكافرِ والفاجرِ، وَإِنَّمَا جاءَ خاصًّا، كَقَولِهِ:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]، فَهَذَا قُربُهُ مِنْ دَاعِيهِ وسائلهِ بِهِ، وَقَالَ تَعَالى:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].

والأصلُ: أنَّ اللهَ قريبٌ منَ المُحسنينَ، وَرَحمتُهُ قريبةٌ منهم، فيكونُ أخبر عن قُرْب ذاتِه وقُرب ثوابِه من المُحسنين، واكتفى بالخبر عن أحدهما عن الآخر»

(2)

.

(1)

«مختصرِ الصَّواعق» (ص 460).

(2)

«مختصر الصَّواعق» (458 - 459).

ص: 146

وقد أُورد على شيخِ الإسلام ابنِ تيمِيَّة وتلميذِه ابنِ القيِّم قولُه تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، وأن المرادَ بالإنسانِ كلُّ إنسانٍ، وَلِهَذَا قَالَ في آخرِ الآيةِ:{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]، إلى أن قال:{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 24]، فهو شاملٌ.

وأُوردَ عليهما- أيضًا- قولُه تَعَالَى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} ، ثمَّ قَسَّمَ هؤلاءِ الذينَ بَلَغَت أرواحُهم الحلقومَ إِلَى ثلاثةِ أَقسامٍ، وَمِنهُمُ الكافرُ

(1)

، وَأَنَّ هَذِهِ الآياتِ تدلُّ عَلَى أَنَّ قُربَ اللهِ يكونُ عامًّا.

فأجابَ شيخُ الإسلامِ وتلميذُهُ ابنُ القيِّمِ بأنَّ القربَ هنا هوَ قربُ الملائكةِ، معَ إقرارهِمَا أنَّ طائفةً مِنَ السَّلفِ والخلفِ قالوا: إِنَّ المقصودَ بالقربِ قربُ اللهِ بعلمِهِ وإحاطتِهِ وقُدرتِهِ.

قال شيخُ الإسلام: «قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} هُوَ قُرْبُ ذَوَاتِ المَلَائِكَةِ وَقُرْبُ عِلمِ اللَّهِ؛ فَذَاتُهُمْ أَقْرَبُ إلَى قَلبِ العَبْدِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ؛ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ إلَى بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِ الآيَةِ: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17 - 18] وهذا، كقوله:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80].

فقوله: {إِذْ} ظرف، فأخبر أنَّهم:{أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] حين يَتَلَقَّى المُتلقيان ما يقول: {عَنِ الْيَمِينِ} قَعِيدٌ، {وَعَنِ الشِّمَالِ

(1)

«شرح الواسِطيَّة» لابن عُثيمين (ص 460 - 461).

ص: 147

قَعِيدٌ}، ثُمَّ قال:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ؛ أي: شاهدٌ لا يُغِيب. فهذا كله خبر عن الملائكة»

(1)

.

فسياق الآيتين يدلُّ على أنَّ المرادَ هنا: الملائكةُ، فإنَّهُ قَالَ:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 16 - 18].

فقيدُ القربِ بِهَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ زَمان تَلَقِّي المُتَلَقِّيَين؛ قعيد عنِ اليمينِ، وقعيد عنِ الشِّمالِ، وهما المَلَكَانِ الحافظانِ اللذانِ يَكتبانِ، كَمَا قَالَ:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} .

ومعلومٌ: أنَّهُ لو كانَ المرادُ قربَ ذاتِ الربِّ لم يختصَّ ذلكَ بهذِهِ الحالِ، ولم يكن لِذِكرِ القَعِيدينِ والرَّقيب والعَتيد معنى مناسب.

وَكَذَلِكَ قوله فِي الآيةِ الأخرى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 83 - 85].

فلو أرادَ قربَ ذاتِه لم يخصَّ ذلكَ بهذِهِ الحالِ، ولا قالَ:{وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} ، فإنَّ هذا إنَّما يقالُ إذا كانَ هناكَ مَنْ يجوزُ أَنْ يُبصرَ في بعضِ الأحوالِ، ولكن نحنُ لا نبصرُهُ، والربُّ- تعالى- لا يراهُ في هذِهِ الحالِ ولا الملائكةِ ولا البَشر.

وأيضًا، فإنه قال:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} ، فأخبرَ عمَّن هُوَ أقربُ إلى المُحتضرِ مِنَ النَّاسِ الذينَ عندَهُ في هذِهِ الحالِ

(2)

.

(1)

«مجموع الفتاوى» (5/ 236).

(2)

انظر «مختصر الصواعق» لابن القيِّم (ص 457 - 458).

ص: 148

قال المصنف رحمه الله:

«وَمِنَ الإيمانِ بِاللهِ وَكُتبِهِ: الإيمانُ بِأَنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ منزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ؛ منهُ بَدَأَ، وَإِلَيهِ يَعُودُ، وَأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ هَذَا القرآنَ الذي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم هُوَ كلامُ اللهِ حَقِيقَةً لَا كَلام غَيرِهِ، وَلَا يَجُوزُ إِطلَاقُ القَولِ بِأَنَّهُ حكايةٌ عَنْ كلامِ اللهِ أَوْ عِبَارةٌ، بَلْ إِذَا قَرأهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ فِي المصاحفِ لَم يَخرج بِذَلِكَ عَلَى أَنْ يكونَ كلامَ اللهِ- تعالى- حَقيقةً، فَإِنَّ الكلامَ إِنَّما يُضافُ حقيقةً إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِأ، لَا إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا، وَهُوَ كَلامُ اللهِ؛ حُروفُهُ ومعانيه، لَيسَ كَلام اللهِ الحُرُوف دُونَ المَعَانِي، وَلَا المَعَاني دُونَ الحُرُوفِ» .

الشرح

صفة الكلام تأتي- من حيث الأهمية- بعد صفة العُلو لله سبحانه وتعالى؛ لذلك اهتم بها أئمة السلف، وأكدوا على ثُبوتها لله تعالى حقيقة، وأوردوا في ذلك أدلة كثيرة، ودفعوا شبهات المعطلة من الجهمية والمعتزلة ومَن دَار في فَلَكهم القائلين بأنَّ الله خلق القرآن في غيره، وردوا كذلك على الكلَّابية الذين قالوا: القرآن حكاية عن كلام الله، وردوا- أيضًا- على الأشاعرة الذين قالوا: القرآن عبارة عن كلام الله.

فالمُعطلة أرادوا بقولهم هذا: إسقاط قيمة الوحي؛ ليصبح لدى الناس خلل في اتباع الوحي، ونحن نؤمن أن أول مصدر للتشريع هو وحي الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، أي: كلامه بحروفه ومعانيه، وأن الله تعالى قاله بحرف وصوت.

ص: 149

ومن أركان الإيمان السِّتة: الإيمانُ بالكُتُبِ التي أنزلها اللهُ، كما دلَّ على ذلك قولُه سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136]، وكذلك جاء في حديث جبريل عليه السلام، وفيه:«الإيمان، قال: «أن تُؤمن باللهِ، ومَلائكتِه، وكُتُبِه، ورُسُلِه، واليومِ الآخِر، وتُؤمن بالقَدَرِ؛ خَيْرِه وشَرِّه»

(1)

.

ومن الإيمانِ بالكتب: الإيمانُ بِأَنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ.

والقرآنُ في الأصل: مصدر قرأ قراءة وقرآنًا؛ قال الله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} ، أي: قراءته، فهو مَصدر على وزن فُعلان- بالضم- كالغُفران والشُّكران

(2)

.

وفي الاصطلاح هو: «كلام الله المُنَزَّل على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، المُعجز بلفظه ومعناه، المكتوب في المصاحف، المَنقول إلينا بالتواتر، المُتعبد بتلاوته، المَبدوء بسورة الفاتحة، المُختتم بسورة الناس»

(3)

.

والقرآنُ كلامُ الله، وهو صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ سبحانه وتعالى؛ قال تَعَالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، وروي عن جَابِر بن عبد الله رضي الله عنه ما أنه قَالَ: «كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نَفسَهُ فِي المَوْسِمِ؛ فَيَقُولُ: «أَلَا رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ؛

(1)

أخرجه البخاري (50) من حديث أبي هريرة ?، ومسلم (8) من حديث حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

انظر: «لسان العرب» (1/ 129)، و «مناهل العرفان» للزرقاني (1/ 7).

(3)

انظر: «مناهل العرفان» (1/ 10 - 13)، و «مباحث في علوم القرآن» لمناع القطان (ص 20 - 21)، ط 5، مؤسسة الرسالة، بيروت.

ص: 150

لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي»

(1)

.

وَالذِي عَلَيهِ إِجماعُ السَّلفِ الصَّالحِ مِنَ الصَّحابةِ رضي الله عنهم وَالتَّابعِينَ لَهم بِإحسَانٍ: أَنَّ القرانَ كلامُ اللهِ غَيرُ مَخلوقٍ؛ حُرُوفه وَمَعَانِيه، مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ؛ نَزَلَ بِهِ جِبريلُ عليه السلام إِلَى نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم.

وقالَ شيخُ الإسلامِ ابن تيمية رحمه الله: «وَمَذْهَبُ سَلَفِ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَخَلَفِهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ القُرْآنَ مِنْ جِبْرِيلَ، وَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ عز وجل»

(2)

.

ثم قال: «الآثار مُتواترة عنهم- أي: عن الصحابة والتابعين- بأنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله، ولمَّا ظهر مَنْ قال: إنه مخلوق، قالوا ردًّا لكلامه: إنه غير مخلوق، ولم يريدوا بذلك أنه مُفترى، كما ظنه بعض الناس؛ فإن أحدًا من المسلمين لم يَقل: إنه مفترى، بل هذا كفر ظاهر يَعلمه كل مسلم، وإنَّما قالوا: إنه مخلوق خلقه الله في غيره، فرَدَّ السلف هذا القول، كما تواترت الآثار عنهم بذلك، وصنفوا في ذلك مصنفات متعددة، وقالوا: «منه بدأ وإليه يعود» .

وأوَّل مَنْ عُرف أنه قال: مخلوق- الجعد بن درهم وصاحبه الجهم بن صفوان.

وأول مَنْ عُرف أنه قال: هو قديم عبد الله بن سعيد بن كلاب، ثم افترق الذين شاركوه في هذا القول؛ فمنهم مَنْ قال: الكلام معنى واحد قائم بذات الرَّبِّ، ومعنى القرآن كله والتوراة والإنجيل وسائر كتب الله وكلامه هو ذلك المعنى الواحد الذي لا يَتعدد ولا يتبعض،

(1)

أخرجه أبو داود (4734)، والترمذي (2925)، وابن ماجه (201)، والحاكم (2/ 669) وصححه، من حديث أبي هريرة ?، وقال في «المجمع» (6/ 35):«رجاله ثقات» .

(2)

«مجموع الفتاوى» (5/ 233).

ص: 151

والقرآن العربي لم يتكلم الله به، بل هو مخلوق خلقه في غيره.

وقال جمهور العقلاء: هذا القول معلوم الفساد بالاضطرار؛ فإنَّه مِنْ المعلوم بصريح العقل أن معنى (آية الكرسي) ليس معنى (آية الدَّيْن)، ولا معنى {قل هو الله أحد} معنى {تبت يدا أبي لهب وتب} ؛ فكيف بمعاني كلام الله كله في الكتب المنزلة وخطابه لملائكته وحسابه لعباده يوم القيامة وغير ذلك من كلامه؟!

ومنهم مَنْ قال: هو حروف، أو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لذاته لم يَزل ولا يزال موصوفًا بها.

وكلا الحزبين يقول: إن الله تعالى لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وإنه لم يزل ولا يزال يقول: يا نوح، يا إبراهيم، يا أيها المزمل، يا أيها المدثر، ولم يقل أحد من السلف بواحد من القولين، ولم يقل أحدٌ من السلف: إنَّ هذا القرآن عبارة عن كلام الله، ولا حكاية له، ولا قال أحد منهم: إن لفظي بالقرآن قديم أو غير مخلوق، فضلًا عن أن يقول: إن صوتي به قديم أو غير مخلوق؛ بل كانوا يقولون بما دلَّ عليه الكتاب والسنة من أن هذا القرآن كلام الله، والناس يَقرءونه بأصواتهم، ويكتبونه بمدادهم، وما بين اللوحين كلام الله، وكلام الله غير مَخلوق»

(1)

.

وقالَ ابنُ القيِّمِ رحمه الله فِي نونيتِهِ:

وَكَذِلِكَ القرآنُ عَينُ كَلَامِهِ الـ

مَسمُوع مِنهُ حَقِيقَة بِبَيَانِ

هُوَ قَولُ رَبِّي كُلُّهُ لَا بَعضُهُ

لَفظًا وَمَعنًى مَا هُمَا خَلْقَانِ

تَنزيلُ ربِّ العَالَمِينَ وَقَولُهُ

الَّلفظُ وَالمَعنَى بِلَا رَوَغَانِ

(1)

«مجموع الفتاوى» (12/ 301، 302).

ص: 152

وأما المعتزلة والجهمية فقالوا: القرآن كلام الله مخلوق؛ فهم أضافوا الكلام إلى الله من باب إضافة الوصف على حد قولهم: (ناقة الله).

ومن المتفلسفة مَنْ يزعم أن المعاني والحروف تأليفه؛ لكنها فاضت عليه كما يفيض العلم على غيره من العلماء.

وقال شيخُ الإسلام: «وَاَلَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالأَئِمَّةُ: أَنَّ القُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَإِنَّمَا قَالَ السَّلَفُ: «مِنْهُ بَدَأَ» لِأَنَّ الجَهْمِيَّة- مِنْ المُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ- كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّهُ خَلَقَ الكَلَامَ فِي المَحَلِّ. فَقَالَ السَّلَفُ: «مِنْهُ بَدَأَ» . أَيْ: هُوَ المُتَكَلِّمُ بِهِ؛ فَمِنْهُ بَدَأَ، لَا مِنْ بَعْضِ المَخْلُوقَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]، وقَالَ تَعَالَى:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102].

وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: «إلَيْهِ يَعُودُ» : أَنَّهُ يُرْفَعُ مِنْ الصُّدُورِ وَالمَصَاحِفِ؛ فَلَا يَبْقَى فِي الصُّدُورِ مِنْهُ آيَةٌ وَلَا مِنْهُ حَرْفٌ، كَمَا جَاءَ فِي عِدَّةِ آثارٍ»

(1)

.

وأمَّا قوله رحمه الله: «وَأَنَّ هَذَا القُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً، لَا كَلَام غَيْرِهِ» - فيريدُ به شيخُ الإسلامِ: أنَّ اللهَ تكلَّمَ بالقرآنِ حقيقةً، وَأَنَّهُ لَيسَ بِكَلَامِ جبريل، وَلَا كلامِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

وفي قوله رحمه الله: «وَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ القَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ عِبَارَةٌ» - يُشير به إِلَى الكُلَّابيَّة الذينَ قالوا: إِنَّهُ حكايةٌ، وَإِلَى

(1)

«مجموع الفتاوى» (6/ 528، 529).

ص: 153

الأشاعرةِ الذينَ قالوا: إِنَّهُ عبارةٌ، فالكُلَّابيَّة والأشاعرةُ متفقونَ عَلَى أنَّ هَذَا القرآنَ الذي بَينَ أيدينَا ليسَ كلامَ اللهِ، بَلْ هُوَ إِمَّا حِكَاية أَوْ عبارَة؛ فَالأشاعرةُ يقولونَ: إِنَّ اللهَ عَبَّرَ عن كلامِهِ النفسِيِّ بحروفٍ وَأصواتٍ مخلوقةٍ.

والكُلَابيَّة يقولونَ: إنَّ القرآنَ معنى قائم بذاتِ اللهِ، وأنَّهُ لا يُسْمَعُ عَلَى الحقيقةِ، والحروفُ والأصواتُ حكايةٌ لَهُ ودالَّةٌ عَلَيهِ، كَمَا يَحْكِي الصَّدَى كلامَ المتكلِّمِ.

وقوله رحمه الله: «بَلْ إذَا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ فِي المَصَاحِفِ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً؛ فَإِنَّ الكَلَامَ إنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا، لَا إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا» - يريدُ به شيخُ الإسلامِ رحمه الله: أنَّ القرآنَ- وإن حُفِظَ في الصُّدورِ، أو تُلِي بالألسنِ، أو كُتِبَ في المَصاحفِ، أو سُمِعَ بالآذانِ- فإنَّ ذلكَ لا يُخرجُهُ عن كونِهِ كلام اللهِ وإن بلغهُ الرسولُ المَلَكِي جبريلُ للرَّسولِ البشريِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وبلغَهُ نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم لأُمَّتِهِ، فإنَّ الكلامَ إنَّما يُضَافُ حقيقةً إلى مَنْ قالَهُ مُبتدئًا، لا إِلَى مَنْ قالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا.

قال العلَّامةُ ابنُ عُثَيمين رحمه الله: «قوله: «هو كلامُ الله؛ حُرُوفه ومَعانيه» - هذا مذهبُ أهلِ السُّنَّة والجَمَاعَة. قالوا: إنَّ اللهَ- تَعَالَى- تَكَلَّمَ بالقرآنِ بِحُرُوفِهِ وَمَعانِيهِ.

وقوله: «ليس كلامُ الله الحُرُوفُ دون المعاني» . وهذا مذهبُ المعتزلَةِ وَالجهميَّةِ؛ لِأَنَّهُم يقولونَ: إِنَّ الكلامَ ليسَ معنًى يقومُ بذاتِ اللهِ، بل هُوَ شيءٌ مِنْ مَخلوقَاتِهِ؛ كَالسماءِ والأرضِ والناقةِ والبيتِ، وما أشبهَ ذلكَ؛ فليسَ معنًى قائمًا فِي نفسِهِ، فكلامُ اللهِ حروفٌ خَلَقهَا اللهُ عز وجل، وَسَمَّاها كلامًا، كَمَا خَلَقَ الناقةَ، وسمَّاهَا ناقة اللهِ، وَكَمَا

ص: 154

خَلَق البيتَ، وَسَمَّاه بَيت اللهِ.

وَلِهَذَا كانَ الكلامُ عندَ الجهميَّةِ والمعتزِلَةِ هُوَ الحروفُ؛ لِأَنَّ كلامَ اللهِ عندَهُم عبارةٌ عَنْ حروفٍ وأصواتٍ خَلَقَهَا اللهُ عز وجل، وَنَسَبَهَا إِلَيهِ تَشريفًا وَتَعظِيمًا.

قوله: «ولا المَعاني دون الحُرُوف» :

وَهَذَا مَذهَبُ الكُلَابيَّةِ وَالأشعَرِيَّةِ؛ فَكَلامُ اللهِ عِنْدَهُمْ مَعنًى فِي نَفسِهِ، ثُمَّ خَلَقَ أَصوَاتًا وَحُرُوفًا تَدُلُّ عَلَى هَذَا المَعنَى؛ إِمَّا عِبَارة أَوْ حِكَايَة.

واعلم أنَّ ابنَ القيِّمِ رحمه الله ذَكرَ أَنَّنَا إِذَا أَنكَرنَا أَنَّ اللهَ يتكلَّمُ فَقَد أَبطَلنَا الشَّرعَ والقَدَر.

أَمَّا الشرعُ؛ فَلِأَنَّ الرِّسالاتِ إِنَّمَا جَاءَت بِالوَحي، وَالوَحي كَلامٌ مُبَلَّغٌ إِلَى المُرْسَلِ إِلَيهِ، فَإِذَا نَفَينَا الكلامَ انتفَى الوحيُ، وإذا انتَفَى الوَحيُ انتَفَى الشرعُ.

أَمَّا القَدرُ؛ فَلِأَنَّ الخَلقَ يَقَعُ بِأَمرِهِ بِقَولِهِ: «كن» ؛ فيكون، كَمَا قَالَ تَعَالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]»

(1)

.

وكل الأقوال الباطلة المخالفة لمعتقد أهل السنة- ظهرت بعد عهد الصحابة الذي كان سليمًا من الشوائب والانحرافات المشئومة، ولم يُحْدِث القول بخلق القرآن إلا الجهمية من المعتزلة، وهو مِنْ أعظم الفتن التي مَرَّت بها الأمة الإسلامية في تاريحها، وكان أول من أحدث القول بخلق القرآن هو (الجعد بن درهم) سنة أربع وعشرين ومائة هجرية، ولما هلك أخذ الراية من بعده (الجهم بن

(1)

«شرح الواسطِيَّة» (ص 467 - 468).

ص: 155

صفوان) سنة ثمان وعشرين ومائة هجرية.

ولمَّا بدأ القرن الثالث الهجري تولى نشر هذه البدعة بِشر بن غياث المريسي سنة ثماني عشرة ومائتين هجرية، ثم تلقاها أحمد بن أبي دؤاد سنة أربعين ومائتين هجرية، وزَيَّنها للمأمون حتى اعتنقها، وحمل الناس عليها وأكرههم على اعتقادها، وحذا حذوه مِنْ بعده أخوه المعتصم والواثق.

وفي زمن هؤلاء الثلاثة الخلفاء العباسيين نزلت المحنة والبلاء بعلماء أهل السنة والجماعة الذين ثبتوا في اعتقادهم على منهج السلف ورَدُّوا كيد المعتزلة في نحورهم ببيان الحق في كلام الله تعالى، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله ضُرِب في هذه المحنة؛ كي يَحصلوا منه على أدنى كلمة تُوافق مذهب الاعتزال- فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلًا، فثبت- رحمه الله على التمسك بعقيدة السلف الصالح حتى كان سببًا في حفظ العقيدة السلفية الصحيحة التي حماها الله من التلوث ببراثن الجهمية والمعتزلة، وبيَّن رحمه الله بموقفه ذلك بُطلان ما دَبَّره الجهمية والمعتزلة من الكيد للإسلام، فبلغ الأمة فساد قولهم بأن القرآن مخلوق، ولم ترتفع تلك الفتنة، وهي فتنة القول بخلق القرآن إلَّا في زمن المتوكل سنة أربع وثلاثين ومائتين، وبسبب تلك المحنة التي امتُحن فيها أئمةُ الإسلام، وثَبَت فيها إمامُ أهل السُّنَّة أحمد بن حنبل تَنازع الناسُ في القرآن نزاعًا كبيرًا

(1)

.

(1)

انظر: «مباحث العقيدة في سورة الزمر» ، لناصر الشيخ (ص 53)، مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية.

ص: 156

قال المصنف رحمه الله:

«وَقَدْ دَخَلَ- أيضًا- فِيما ذَكرنَاهُ مِنَ الإيمانِ بِهِ وَبِكتبِهِ وَبِملائكتِهِ وَرسلِهِ- الإيمانُ بِأَنَّ المؤمنينَ يَرونَهُ يومَ القيامةِ عِيَانًا بِأَبصَارِهِم، كَمَا يَرونَ الشَّمسَ صَحْوًا لَيسَ دُونَها سَحَابٌ، وَكَمَا يَرَونَ القَمَرَ لَيلَةَ البَدرِ لَا يُضَامُونَ فِي رُؤيَتِهِ.

يَرَونَهُ- سبحانه- وَهُمْ فِي عَرَصَاتِ القيامةِ، ثمَّ يَرَوْنَه بَعدَ دخولِ الجنَّةِ كَمَا يَشاءُ اللهُ».

الشرح

هذه المسألة يُلحقونها في باب الصِّفات، وهي تتعلق برؤية العبد لربه، ولكنهم يُلحقونها بباب الصفات، مع أن البحث في رؤية العبد لربه وليس العكس.

ومسألة رؤية الله عز وجل مُتشعبة؛ إذ تشتمل على ما يتعلق برؤيته سبحانه وتعالى في الدنيا عيانًا، ورؤيته جل وعلا منامًا، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربِّه ليلة المعراج، ورؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة وفي الجنة، وكذلك رؤية المنافقين والكافرين له جل جلاله يوم القيامة.

أولًا: رؤية الله في الدنيا يقظة:

رؤية الله في الدنيا يقظة غير واقعة شرعًا، وغير مُمكنة، وقد اتفقت الأمةُ على أن الله تعالى لا يراه أحدٌ في الدنيا بعينه، ولم ينازعوا في ذلك إلا ما شَذَّ من بعض غُلاة الصُّوفية؛ فقد زعموا أنه يجوز رؤية الله في الدنيا، وأنه يَزورهم ويَزورونه في الحضرة الإلهية

ص: 157

ويَرَوْنه

(1)

، وهؤلاء لا عبرة بخلافهم؛ إذ كله كذب ودجل.

ومَن ادَّعى رؤية الله في الدنيا بعيني رأسه فدعواه باطلة باتفاق أهل السنة والجماعة، وهو ضالٌّ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله في ردِّه على مَنْ زعم رؤية الله في الدنيا يقظة: «مَنْ قال من الناس: إن الأولياء أو غيرهم يرى الله بعينه في الدنيا فهو مبتدع ضالٌّ، مُخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، لا سيما إذا ادَّعوا أنهم أفضل مِنْ موسى، فإن هؤلاء يُستتابون، فإن تابوا وإلا قُتلوا»

(2)

.

وقد بَيَّن- رحمه الله علة عدم إمكان رؤية الله في الدنيا بالعين، حيث قال:«وإنَّما لم نَره في الدنيا لعجز أبصارنا، لا لامتناع الرؤيا، فهذه الشمس إذا حدق الرائي البصر في شعاعها ضعف عن رؤيتها لا لامتناع في ذات المرئي، بل لعجز الرَّائي، فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله قُوى الآدميين حتى أطاقهم رؤيته، ولهذا لما تجلى الله للجبل خَرَّ موسى صعقًا، قال: سبحانك! تُبت إليك، وأنا أول المؤمنين بأنَّه لا يراك حيٌّ إلا مات، ولا يابس إلا تَدَهْدَه، ولهذا كان البشر يَعجزون عن رؤية المَلَك في صورته إلَّا مَنْ أيده الله، كما أيَّد نبينا صلى الله عليه وسلم»

(3)

.

والأدلة التي استند عليها أهل السنة في إجماعهم على عدم وقوع رؤية الله في الدنيا يقظة- كثيرة؛ منها:

قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في «صحيح مسلم» : «تَعَلَّمُوا أنَّه لن يرى

(1)

«المِلل والنِّحَل» للشَّهرستاني (1/ 105).

(2)

«مجموع الفتاوى» (7/ 104).

(3)

«منهاج السنة النبوية» (2/ 332).

ص: 158

أحدٌ مِنكم ربه- عز وجل حتى يَموت»

(1)

، فهو صريح في عدم وقوع الرؤية البصرية لأحد من الناس لله جل وعلا في هذه الدار الدنيا حتى ولو كان نبيًّا؛ لأن الله-جل وعلا- قد مَنع موسى- عليه السلام مِنْ أن يَرَاه، وهو أحد أُولي العزم من الرسل، فكيف بمن دونه مِنْ سائر المؤمنين؟! فإن الله- جل وعلا- لما قال له موسى:{رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] فمنعه من أن يراه، وفي قوله:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} أي: لما تجلى الله للجبل تدكدك ولم يَثبت، فكيف يَثبت البشر الضعيف؟!

ثانيًا: رؤية الله- عز وجل في المنام:

ذهب جمهور العلماء إلى جواز رؤية الله في المنام، وأنها قد تقع صحيحة، بل ذكر القاضي عياض- رحمه الله اتفاق العلماء على هذه المسألة؛ فقال:«ولم يختلف العلماء في جواز صحة رؤية الله في المنام»

(2)

.

وقال الإمام البَغوي رحمه الله: «رؤية الله في المنام جائزة؛ قال معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إني نَعست فرأيت ربِّي» ، وتكون رؤيته-جَلَّت قُدرته- ظهور العدل والفرج والخصب والخير لأهل ذلك الموضع، فإن رآه فوعد له جنة، أو مغفرة، أو نجاة من النار، فقوله حق، ووعده صدق، وإن رآه ينظر إليه فهو رحمته، وإن رآه معرضًا عنه فهو تحذير من الذنوب؛ لقوله سبحانه وتعالى:{أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77]، وإن أعطاه شيئًا من متاع الدنيا فأخذه، فهو بلاء ومحن وأسقام تصيب بدنه، يَعظم بها أجرُه، لا يَزال

(1)

أخرجه مسلم (2931) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(2)

«إكمال المُعْلِم بفوائد مُسلم» (7/ 220) ط. دار الوفاء.

ص: 159

يضطرب فيها حتى يُؤديه إلى الرحمة، وحسن العاقبة»

(1)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ومن رأى الله- عز وجل في المنام فإنَّه يراه في صورة من الصور بحسب حال الرَّائي؛ إن كان صالحًا رآه في صورة حسنة، ولهذا رآه النبي صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة

»

(2)

.

وقال في موضع آخر: «وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صورة متنوعة على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحاً لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يُشبه إيمانه، ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة، ولها تعبير وتأويل لما فيها من الأمثال المضروبة للحقائق

»

(3)

.

وقال الإمام ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص: 69]: «فأمَّا الحديث الذي رواه الإمام أحمد: «

فإذا أنا بربي- عز وجل في أحسن صورة، فقال: يا محمد، أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب». أعادها ثلاثًا، «فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري، فتجلى لي كل شيء وعرفتُ

»، فهو حديث المنام المَشهور، ومَن جعله يقظة فقد غَلط، وهو في السُّنن من طرق»

(4)

.

ثالثًا: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج:

بعد اتفاق أهل السنة والجماعة على أن الله تعالى لا يراه أحد في الدنيا يقظة فقد اختلفوا في رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج؛ قال الإمام ابن القيم: «حكى عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب (الرؤية)

(1)

«شرح السنة» (12/ 227، 228).

(2)

«مجموع الفتاوى» (5/ 251).

(3)

«مجموع الفتاوى» (3/ 390).

(4)

«تفسير ابن كثير» (7/ 81).

ص: 160

له: إجماع الصحابة على أنه لم ير ربه ليلة المعراج، وبعضهم استثنى ابن عباس فيمن قال ذلك، وشيخنا- أي: ابن تيمية- يقول: ليس ذلك بخلاف في الحقيقة، فإن ابن عباس لم يقل: رآه بعيني رأسه، وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين حيث قال: إنه صلى الله عليه وسلم رآه عز وجل، ولم يقل: بعيني رأسه، ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي الله عنه ما، ويدل على صحة ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:«حجابُه النُّورُ»

(1)

، فهذا النور هو- والله أعلم- النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه:«رأيتُ نُورًا»

(2)

»

(3)

.

وهو ما رجَّحه- أيضًا- شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» ، حيث قال رحمه الله:«ولم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله عليه وسلم خاصة مع أن جماهير الأئمة على أنَّه لم يَره بعينه في الدنيا، وعلى هذا دَلَّت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وأئمة المسلمين، ولم يثبت عن ابن عباس ولا عن الإمام أحمد وأمثالهما أنهم قالوا: إن محمدًا رأى ربه بعينه، بل الثابت عنهم إمَّا إطلاق الرؤية، وإمَّا تقييدها بالفؤاد، وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه، وقوله: «أتاني البارحةَ رَبِّي في أحسن صورة»

(4)

الحديث الذي رواه الترمذي وغيره إنما كان بالمدينة في المنام هكذا جاءمفسرًا»

(5)

.

فحملوا الآثار المُطلقة الواردة في الرؤية؛ كأثر ابن عباس: «رأى محمدٌ ربَّه» - على الرؤية القلبية، وحملوا الآثار النافية للرؤية؛ كأثر

(1)

أخرجه مسلم (179) من حديث أبي موسى ?.

(2)

أخرجه مسلم (178) من حديث أبي ذر ?.

(3)

«اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية» (1/ 3).

(4)

أخرجه الترمذي (3157)، وأحمد (3304) وغيرهما، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (59).

(5)

«مجموع الفتاوى» (1/ 169).

ص: 161

عائشة رضي الله عنه ا- على الرؤية البصرية؛ لأنه- من خلال التَّتبع- لم يَرِد عن أحد منهم أنه قال: رآه بعينه، وعليه فلا تعارض بين هذه النصوص.

رابعًا: رؤية الله- عز وجل في الآخرة:

وأما في الآخرة فهي جائزة عقلًا وواقعة شرعًا، ولا يَرِد على هذا قوله تعالى:{لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، فقد استدل به المعتزلة على نفي الرؤية مطلقًا، مع أن المراد بالآية ليس نفي الرؤية، وإنما المراد نفي الإدراك؛ لأنها سِيقت مساق المدح، ولو كان المراد نفي الرؤية لما كان في ذلك مدح؛ لأن المعدوم هو الذي لا يُرَى، والكمال في إثبات الرؤية هو نفي الإدراك؛ لأن النفي المحض لا يأتي في صفات الله، وإنما الذي يأتي هو النفي الذي يستلزم إثبات ضده من الكمال.

فالمعنى: أنه يُرى ولا يحاط به رؤيةً، فـ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ؛ لكمال عظمته، كما أنه يُعلم ولا يُحاط به علمًا لكمال عظمته، و {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} ؛ لكمال قوته واقتداره، وهكذا.

وقد ورد عن بعض السلف أن الآية تفيد نفي الرؤية في الدنيا، فروى ابن كثير عن إسماعيل بن علية في قول الله تعالى:{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} أنه قال: «هذا في الدنيا» .

وقد ذهب الآخرون إلى أن هذا النفي العام لرؤية جميع الأبصار له سبحانه وتعالى مُخَصَّصٌ بما ثبت من رؤية المؤمنين له جل وعلا في الآخرة

(1)

.

وقال ابنُ القيِّم رحمه الله: «دلَّ الكتابُ والسنَّةُ المُتواتِرَةُ وَإجماعُ الصَّحابةِ وأئمةُ أهلِ الإسلامِ والحديثِ عَلَى أَنَّ اللهَ يُرى يومَ القيامَةِ

(1)

انظر: «تفسير ابن كثير» (3/ 309).

ص: 162

بِالأبصارِ عِيَانًا، كَمَا يُرى القَمَرُ ليلةَ البدرِ صَحْوًا، وَكَمَا تُرى الشَّمسُ في الظَّهيرة، فَإِنْ كَانَ مَا أَخبَرَ به اللهُ وَرَسُوله عنه من ذلك حَقِيقَةً- وإنَّ له والله حقَّ الحقيقة- فَلَا يُمكِنُ أن يَروهُ إِلَّا مِنْ فَوقِهم؛ لاستِحَالَةِ أَنْ يَروهُ أسفل منهم، أو مِنْ خلفهم، أَوْ أمامهم، وَنَحو ذَلِكَ

، فلَا يَجتَمِعُ فِي قَلبِ العبد بعد الاطلاع عَلَى هَذِهِ الأَحَادِيث وَفَهِمَ مَعنَاهَا إنكارُها والشهادةُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ أَبَدًا»

(1)

.

أ- رؤية المؤمنين لربِّهم جل وعلا:

بَيَّن المصنفُ رحمه الله هنا أنه قَدْ دَخَلَ فِي الإيمانِ باللهِ وَكُتبِهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسلِهِ: الإيمانُ بِأَنَّ المُؤمِنِينَ يرونَهُ سبحانه وتعالى يومَ القيامةِ؛ فَمَنِ لَم يُؤمن بِأَنَّهُ- سبحانه- يُرَى يومَ القيامةِ فَقَد رَدَّ أَدِلَّةَ الكتابِ والسُّنَّةِ، وَخَالَفَ مَا عَلَيهِ سَلفُ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتها، وَلَم يُؤمن بِاللهِ وَمَلائكتِهِ وكتبِهِ وَرسلِهِ.

فالله سبحانه وتعالى سيخص المؤمنين بمزيد من الإنعام يوم القيامة، وهو رؤيته جل وعلا، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربَّنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله:«هَلْ تُضَارُّون في رؤية القمر ليلة البدر؟» . قالوا: لا يا رسول الله. قال: «هل تُضارون في الشَّمس ليس دونها سحاب؟» . قالوا: لا. قال: «فإنَّكم ترونه كذلك

»، الحديث

(2)

.

وسيخصهم في الجنة بأعظم نعمة أنعم عليهم بها؛ ألا وهي تشريفهم وإكرامهم بالنظر إلى وجهه الكريم في جنة عدن، كما قال تعالى:{وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22، 23].

(1)

«حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» (ص 342).

(2)

أخرجه البخاري (6088) ومسلم (267).

ص: 163

وقال تعالى عن الكافرين: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين: 15].

قال الإمامُ الشافعيُّ: «فَدَلَّ هذا على أنَّ المؤمنين لا يُحجبون عنه تبارك وتعالى» .

وقال جل شأنه: {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} [ق: 35].

فالمزيد هنا هو: النَّظر إلى وجه الله عز وجل، كما فسَّره بذلك علي وأنس بن مالك رضي الله عنه ما.

وقال سبحانه: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26].

فالحسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم، كما فَسَّرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:«إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ! فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا اعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِم مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عز وجل، وهي الزيادة، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}»

(1)

.

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: «وأمَّا السنة، فقد تواترت الأخبار عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وأنس، وجرير، وصهيب، وبلال، وغير واحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات، وفي روضات الجنات، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه .. آمين

(2)

.

ب- رؤية الكفار والمنافقين لربِّهم جل وعلا:

أَمَّا الكفارُ والمُنَافِقِينَ، فَقَد ذكر شيخُ الإسلام أنَّ الناسَ قد

(1)

أخرجه مسلم (266) من حديث صُهَيْبٍ ?.

(2)

«تفسير ابن كثير» (3/ 309).

ص: 164

تَنَازَعَوا في ذلك على ثَلَاثَةِ أَقوالٍ؛ فقال: «فَأَمَّا مَسْأَلَةُ رُؤْيَةِ الكُفَّارِ فَأَوَّلُ مَا انْتَشَرَ الكَلَامُ فِيهَا، وَتَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا- فِيمَا بَلَغَنَا- بَعْدَ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الهِجْرَةِ، وَأَمْسَكَ عَنْ الكَلَامِ فِي هَذَا قَوْمٌ مِنْ العُلَمَاءِ، وَتَكَلَّمَ فِيهَا آخَرُونَ؛ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، مَعَ أَنِّي مَا عَلِمْت أَنَّ أُولَئِكَ المُخْتَلِفِينَ فِيهَا تَلَاعَنُوا وَلَا تَهَاجَرُوا فِيهَا؛ إذْ فِي الفِرَقِ الثَّلَاثَةِ قَوْمٌ فِيهِمْ فَضْلٌ، وَهُمْ أَصْحَابُ سُنَّةٍ» .

ثم قال رحمه الله: «وَالأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي (رُؤْيَة الكُفَّارِ):

أَحَدُهَا: أَنَّ الكُفَّارَ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ بِحَالِ؛ لَا المُظْهِرُ لِلكُفْرِ، وَلَا المُسِرُّ لَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ العُلَمَاءِ المُتَأَخِّرِينَ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ عُمُومُ كَلَامِ المُتَقَدِّمِينَ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ.

الثَّانِي: أَنَّهُ يَرَاهُ مَنْ أَظْهَرَ التَّوْحِيدَ مِنْ مُؤْمِنِي هَذِهِ الأُمَّةِ، وَمُنَافِقِيهَا، وَغَبَرَاتٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، وَذَلِكَ فِي عَرْصَةِ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنْ المُنَافِقِينَ، فَلَا يَرَوْنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ بْنِ خُزَيْمَة مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَ القَاضِي أَبُو يَعْلَى نَحْوَهُ فِي حَدِيثِ إتْيَانِهِ سبحانه وتعالى لَهُمْ فِي المَوْقِفِ؛ الحَدِيث المَشْهُور.

الثَّالِثُ: أَنَّ الكُفَّارَ يَرَوْنَهُ رُؤْيَةَ تَعْرِيفٍ وَتَعْذِيبٍ؛ كَاللِّصِّ إذَا رَأَى السُّلطَانَ، ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ؛ لِيَعْظُمَ عَذَابُهُمْ، وَيَشْتَدَّ عِقَابُهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَوْلِ غَيْرِهِمْ؛ وَهُمْ فِي الأُصُولِ مُنْتَسِبُونَ إلَى الإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِلَى سَهْل بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّسْتري»

(1)

.

وممَّن رَجَّحَ رؤيَةَ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ للهِ فِي عَرَصاتِ القيامةِ العَلَّامةُ ابنُ القيِّم رحمه الله فِي «حادي الأرواح» (ص 262).

(1)

«مجموع الفتاوى» (6/ 486).

ص: 165

قال المصنف رحمه الله:

«وَمِنَ الإِيمَانِ بِاليَومِ الآخرِ:‌

‌ الإيمان بِكُلِّ مَا أَخبَرَ بِهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم

مِمَّا يَكونُ بَعدَ المَوتِ

؛ فَيُؤمِنُونَ بِفِتنَةِ القَبرِ، وَبِعَذَابِ القَبرِ وَنَعِيمِهِ.

فَيُؤمِنُونَ بِفِتنَةِ القَبرِ، وَبِعَذابِ القَبرِ وَنَعِيمِهِ؛ فَأَمَّا الفِتنَةُ فَإِنَّ النَّاسَ يُفتَنُونَ فِي قُبُورِهِم فَيُقَالِ للرَّجُلِ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، فَيقُولُ المُؤمِنُ: رَبِّيَ اللهُ، وَدِينِيَ الإسلامُ، وَمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم نَبِيِّي.

وَأَمَّا المُرتابُ فَيَقُولُ: هَاه هَاه، لَا أَدرِي، سَمِعتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيئًا فَقُلتُهُ! فَيُضرِبُ بِمرزبَّةٍ مِنْ حَدِيدٍ؛ فَيَصِيحُ صَيحَةً يَسمَعُهَا كُلُّ شَيءٍ إِلَّا الإنسان، وَلَو سَمِعَهَا لَصُعِقَ».

الشرح

ذكر المصنف رحمه الله هنا الإِيمَان بالدار الآخرة، وتبدأ بأول منازلها بخروج الروح من الجسد، ثم ما يكون في القبر من فتنة، وأحوال الناس فيها بين مُثَبَّت ومُضَل، وما يترتب على هذه الفتنة من نعيم أو عذاب.

فقال شَيخُ الإِسلَامِ رحمه الله: «وَمِنَ الإِيمَانِ بِاليَومِ الآخرِ: الإيمان بِكُلِّ مَا أَخبَرَ بِهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يَكونُ بَعدَ المَوتِ؛ فَيُؤمِنُونَ بِفِتنَةِ القَبرِ، وَبِعَذَابِ القَبرِ وَنَعِيمِهِ» .

واليوم الآخر سُمِّي كذلك؛ لتأخُّرِهِ عَنِ الدُّنيا. وَقِيلَ: لأنَّهُ لا يومَ بَعدَهُ، فَهُوَ آخرُ المراحِلِ، وسينقسم الناس فيه إلى فريقين؛ فريق

ص: 166

في الجنة وفريق في السعير.

وقد اتَّفَقَت جَمِيعُ الشَّرائع السَّمَاويَّةِ على الإيمان باليوم الآخر؛ قَالَ الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].

وهذا مما يؤيده العَقلُ السَّليمُ والفِطرَةُ السَّويةُ؛ إذ ما خلق الله هذا الخلق عبثًا، وهو سبحانه وتعالى لن يتركهم هملًا بلا حساب على ما اقترفوه في هذا الحياة، بل من مقتضى عدله جل وعلا أن يجمع الأَوَّلين والآخرين للحساب والعرض، والقصاص من الظالم للمظلوم؛ قال جل جلاله:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115، 116]، وقال جل وعلا:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الانبياء: 47].

وقد دلَّ على سؤال القبر وما يكون فيه من نَعيم أو عذاب- بعض الآيات والسُّنَّة المُتواترة وكذلك إجماع أهل السُّنَّة والجَمَاعَة.

أمَّا دلالة القرآن؛ فمنها: قوله تعالى في قصة آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46].

قال الحافظ ابن كثير: «وهذه الآية أصلٌ كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور»

(1)

.

ص: 167

وقال العلامة الفوزان: «هذا في البرزخ قبل الآخرة؛ يُعرضون على النَّار صباحًا ومساء إلى أن تقوم الساعة، وهذا دليلٌ على عذاب القبر، والعياذ بالله، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] هذه ثلاثة عقوبات:

الأولى: أنَّ الله أغرقهم ومحاهم عن آخرهم في لحظة واحدة.

الثاني: أنَّهم يُعَذَّبون في البرزخ إلى أن تقوم الساعة.

الثَّالثة: أنهم إذا بعثوا يوم القيامة يدخلون أشد العذاب، والعياذ بالله»

(1)

.

ومنها: قوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101].

قال ابنُ تيمِيَّة: «قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ العُلَمَاءِ: المَرَّةُ الأُولَى فِي الدُّنْيَا، وَالثَّانِيَةُ فِي البَرْزَخِ، {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} فِي الآخِرَةِ»

(2)

.

ومنها: وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} .

وهذا خطابٌ لهم عند الَموت، وقد أخبر الملائكة- وهم الصادقون- أنَّهم حينئذ يُجزون عذاب الهون، ولو تأخَّر عنهم ذلك إلى انقضاء الدنيا؛ لما صَحَّ أن يقال لهم:{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} ؛ فدل على أنَّ المراد به عذاب القبر

(3)

.

وأمَّا السُّنَّة: فإنها متواترةٌ في ذلك، كما قال الحافظُ ابنُ رَجَب رحمه الله:«وقد تَوَاتَرَت الأحاديثُ في عذاب القبر»

(4)

.

(1)

«شرح الأصول الثلاثة» (ص 51)، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1427 هـ - 2006 م.

(2)

«مجموع الفتاوى» (4/ 266).

(3)

انظر: «الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد» صالح الفوزان (ص 275)، دار ابن الجوزي، الطبعة الرابعة، 1420 هـ- 1999 م.

(4)

«أهوال القبور» (ص 43).

ص: 168

وقال ابنُ أبي العِزِّ رحمه الله: «وقد تواترت الأخبارُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثُبُوت عذاب القبر ونعيمه لِمَنْ كان أهلًا»

(1)

.

وأمَّا الإجماعُ، فقد قال ابن تيمِيَّة رحمه الله:«فَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ سَلَفِ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا: أَنَّ المَيِّتَ إذَا مَاتَ يَكُونُ فِي نَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ»

(2)

.

وقال أيضًا: «العَذَابُ وَالنَّعِيمُ عَلَى النَّفْسِ وَالبَدَنِ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ»

(3)

.

وقال ابن القيِّم رحمه الله: «وَهَذَا كَمَا أنه مُقْتَضى السُّنَّة الصَّحِيحَة فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَين أهل السُّنَّة.

قَالَ المروزي: قَالَ أَبُو عبد الله: عَذَاب القَبْر حقٌّ، لَا يُنكره إِلَّا ضالٌّ أَوْ مُضِلٌّ»

(4)

.

والإنسانُ بمجرد موتِه يدخل فِي اليومِ الآخرِ بالنِّسبة له، وَلِهَذَا يُقَالُ: مَنْ مَاتَ قَامَت قِيَامَتُهُ.

وقد ذكر شيخُ الإسلامِ رحمه الله هُنَا مَسأَلَتَينِ عَظيمَتَينِ:

الأولى: فِتنَةُ القَبر، والثانية: مَا يَكُونُ بَعدَ تِلكَ الفِتنَةِ مِنْ نَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ.

(1)

«شرح الطَّحاوية» (ص 399).

(2)

«مجموع الفتاوى» (4/ 284).

(3)

«مجموع الفتاوى» (4/ 282).

(4)

«الروح» (ص 57).

ص: 169

المَسأَلَةُ الأُولى: فِتنَةُ القَبر:

قَالَ شَيخُ الإسلامِ ابن تيمِيَّة رحمه الله: «وَأَمَّا الفِتْنَةُ فِي القُبُورِ فَهِيَ الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ لِلمَيِّتِ حِينَ يَسْأَلُهُ المَلَكَانِ»

(1)

.

وقَد رَوَت أَسمَاءُ بِنت أَبِي بَكر رضي الله عنها أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي القُبُورِ قَرِيبًا، أَوْ مِثْل فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ»

(2)

.

وعن عثمانَ بن عفَّان رضي الله عنه قالَ: كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَرغَ مِنْ دَفنِ الميتِ وَقَفَ عليهِ، فَقَالَ:«اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ؛ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ»

(3)

.

وَعَنْ أَبِي هُريرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يدعُو: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ»

(4)

.

وعن البرَاءِ بنِ عَازب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «إِنَّ العَبدَ المُؤمِنَ فِي قَبْرِهِ تُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ؛ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الإِسْلَامُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ؛ فَآمَنْتُ بِهِ، وَصَدَّقْتُ به

».

إِلَى أَنْ قَالَ فِي العَبدِ الكَافِرِ: «فتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ

(1)

«مجموع الفتاوى» (4/ 257).

(2)

أخرجه البخاري (184) ومسلم (905).

(3)

أخرجه أبو داود (3221)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 526)(1372)، وصححه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» (3511).

(4)

أخرجه البخاري (1377) ومسلم (588).

ص: 170

مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاه هَاه، لَا أَدْرِي! فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاه هَاهْ، لَا أَدْرِي! فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاه هَاه، لَا أَدْرِي»

(1)

.

وَغَيرِ ذَلِكَ مِنَ الأَحَادِيثِ التي بَلَغَت مَبلَغَ التَّوَاتُرِ.

قَالَ شَيخُ الإسلامِ ابنُ تيمِيَّة رحمه الله: «وَقَدْ تَوَاتَرَت الأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الفِتْنَةِ مِنْ حَدِيثِ البَراءِ بْنِ عَازِبٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم»

(2)

.

وَقوله: «مَنْ رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَمَنْ نَبِيُّك؟» - هَذِهِ الأسئلة الثلاثة الِتي تُوَجَّهُ للمَيِّتِ فِي قَبرِهِ؛ قال العلَّامةُ ابنُ عُثَيمين رحمه الله: «يَعنِي: مَنْ رَبُّكَ الذِي خَلَقَكَ وَتعبدُهُ وَتَخصُّهُ بِالعِبَادَةِ؟ لِأَجلِ أَنْ تَنتَظِمَ هَذِهِ الكَلمةُ توحيد الربوبيَّةِ، وَتوحيد الألوهيَّةِ.

و «المُرتاب» : الشَّاكُّ والمُنافقُ وشبههمَا، «فَيَقُولُ: هَاه هَاه؛ لَا أَدْري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلتُهُ»، يعني: لم يَلجِ الإيمانُ قلبَهُ، وإنَّمَا كانَ يقولُ كما يقولُ النَّاسُ مِنْ غيرِ أن يَصِلَ الإيمانُ إلى قلبِهِ.

وَتَأَمَّل قولَهُ: «هاه هاه» كأنَّ شيئًا غَابَ عنهُ يريدُ أن يَتذكرَه، وَهَذا أشدُّ في التَّحَسُّرِ أن يتخيَّلَ أنَّهُ يَعْرِفُ الجوابَ، ولكن يُحالُ بينهُ وبينهُ، ويقولُ:«هاه هاه» ، ثمَّ يقولُ:«سمعتُ الناسَ يقولونَ شيئًا فقلتُهُ» ، وَلَا يقولُ: رَبِّيَ الله، وَلَا ديني الإسلام، وَلَا نَبِيِّ محمَّد؛ لأَنَّهُ فِي الدُّنيا مُرتابٌ شاكٌّ.

هذا إِذَا سُئِلَ فِي قَبرِهِ وَصَارَ أحوج مَا يكونُ إِلَى الجَوَابِ

(1)

أخرجه أحمد في «المسند» (4/ 287)(18557)، وأبو داود (4753)، وصححه الألباني في «المشكاة» (1630).

(2)

«مجموع الفتاوى» (4/ 257).

ص: 171

الصَّوَابِ يَعجزُ، وَيَقولُ:«لَا أدري سَمِعتُ النَّاسَ يقولونَ شَيئًا فقلتُهُ» .

إِذًا؛ إيمانُه قولٌ فَقَط»

(1)

.

وقولُ شيخِ الإسلامِ رحمه الله: «فَيُضرِبُ بِمرزَبَّةٍ مِنْ حديدٍ؛ فيصيحَ صحيةً يسمعهَا كُلُّ شيءٍ إِلَّا الإنسان، وَلَو سَمِعَها لصعقَ» - يُشير إلى حديث أنس رضي الله عنه، وفيه:«وأمَّا المُنافق والكافر فيُقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنتُ أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دَرَيْتَ ولا تَلَيْتَ، ويُضرب بمطارقَ من حديد ضربةً؛ فيَصِيحُ صَيحةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيرَ الثَّقَلينِ»

(2)

، والثَّقلان: هُمْ الإنسُ والجنُّ.

قالَ ابنُ عُثَيمين رحمه الله: «فيُضرب» : يَعني الذِي لم يُجِب، سواء كانَ الكافرَ أو المنافقَ، والضارب لَهُ المَلَكَانِ اللذانِ يَسألانِهِ.

والمرزبَّةُ: هِيَ مِطرقةٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بعضِ الرواياتِ: أَنَّهُ لَوِ اجتَمَعَ عَلَيهَا أَهلُ مِنى مَا أَقَلُّوها، فَإِذَا ضُرِب يَصيح صيحةً يَسمعها كلُّ شيء إلا الإنسان، أي: صِياحًا مَسموعًا يَسمعه كلُّ شيء يكون حوله مِمَّا يسمع صوته، وليس كلُّ شيء في أقطار الدُّنيا يَسمعه، وأحيانًا يتأثر به ما يسمعه كما مَرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَقْبُر للمُشركين على بَغْلَتِه، فَحَادت به حتى كادت تُلقيه؛ لأنَّها سَمِعت أصواتَهم يُعَذَّبون.

قوله: «إلا الإنسان» ، وقد سبق أنَّ في الحديث إلا الثَّقلين. يعني: أنه لا يَسمع هذا الصِّياح، وذلك لحكمٍ عظيمة منها:

أولًا: ما أشار إليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ عَذَابَ القَبْرِ»

(3)

.

(1)

انظر: «شرح الواسطِيَّة» (ص 480 - 482).

(2)

أخرجه البخاري (1374) من حديث أنس ?.

(3)

أخرجه مسلم (2868) من حديث أنس ?.

ص: 172

ثانيًا: أنَّ في إخفاء ذلك سترًا للميت.

ثالثًا: أنَّ فيه عدم إزعاج لأهله؛ لأنَّ أهلَه إذا سَمعوا مَيِّتَهم يُعَذَّب ويَصيح لم يَسْتَقِرَّ لهم قَرَارٌ.

رابعًا: عدم تَخْجِيل أهله؛ لأنَّ النَّاس يقولون: هذا ولدُكم، هذا أبوكم، هذا أخوكم، وما أشبه ذلك.

خامسًا: أننا قد نَهْلِك؛ لأنَّها صيحة ليست هينة، بل صيحة قد تُوجب أن تسقط القلوب من مَعاليقها، فيموت الإنسان، أو يُغشى عليه.

سادسًا: لو سَمِع النَّاسُ صُرَاخ هؤلاء المُعَذَّبين لكان الإيمانُ بعذاب القبر من باب الإيمان بالشهادة لا من باب الإيمان بالغيب، وحينئذ تَفُوت مصلحة الامتحان؛ لأنَّ النَّاس سوف يُؤمنون بما شاهدوه قطعًا، لكن إذا كان غائبًا عنهم ولم يعلموا به إلَّا عن طريق الخبر صار من باب الإيمان بالغيب»

(1)

.

(1)

«شرح الواسِطيَّة» (ص 482، 483).

ص: 173

قال المصنف رحمه الله:

«ثُمَّ بَعدَ هَذِهِ الفتنَةِ إِمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عذَابٌ إلى أن تقومَ السَّاعةُ الكُبرى فتُعاد الأرواحُ إلى الأجساد، وتقوم القيامةُ التي أَخْبَر اللهُ بها في كتابه، وعلى لِسانِ رسولِه، وأَجْمَع عليها المُسلمون؛ فيقوم النَّاسُ من قُبُورهم لِرَبِّ العالمين حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا وتدنو الشَّمسُ منهم فَيُلْجِمُهم العَرَقُ» .

الشرح

هناك دور ثلاثة: (دنيا- برزخ- آخرة).

والعلاقة بين الروح والبدن في الدار الدنيا: أن البدن هو الأصل، والروح تبع له؛ فإذا عُذِّب أو نُعِّم البدن أحس الروح بذلك تبعًا للبدن.

وفي البرزخ، فالروح هو الأصل في النعيم والعذاب والبدن تبع له.

وأمَّا في الدار الآخرة فيكتمل الاثنان (الروح والبدن)؛ فيكون النعيم والعذاب مشتركًا بين هذا وذاك.

فلا بد من فهم العلاقة بين الروح والجسد في هذه الدور الثلاثة.

قال ابن القيم رحمه الله: «الله سبحانه وتعالى جعل الدُّور ثَلَاثًا: دَار الدُّنْيَا، وَدَار البرزخ، وَدَار القَرار، وَجعل لكلِّ دَارٍ أحكامًا تَخْتَص بهَا، وَرَكَّب هَذَا الإنسان من بَدَنٍ وَنَفْس، وَجعل أَحْكَامَ دَار الدُّنْيَا على الأَبدَان والأرواح تبعًا لَهَا، وَلِهَذَا جَعَلَ أَحْكَامَه الشَّرْعِيَّة مُرتبَة على

ص: 174

مَا يَظْهر من حركات اللِّسَان والجوارح، وإن أَضْمَرت النُّفُوسُ خِلَافه، وَجعل أَحْكَامَ البَرزخ على الأَرْوَاح والأبدان تبعًا لَهَا.

فَكَمَا تبِعت الأَرْوَاحُ الأَبدَانَ فِي أَحْكَام الدُّنْيَا؛ فَتَأَلَّمَت بِأَلَمِها، والْتَذَّت بِرَاحتها، وَكَانَت هي الَّتِي باشَرَت أَسبَابَ النَّعيم وَالعَذَاب تَبِعت الأَبدَانُ الأَرْوَاحَ فِي نعيمِها وعذابها، والأرواح حِينَئِذٍ هي الَّتِي تُباشر العَذَابَ وَالنَّعِيمَ، فالأبدانُ هُنَا ظَاهِرَة والأرواح خَفِيَّة والأبدان كالقبور لَهَا، والأرواح هُنَاكَ ظَاهِرَة والأبدان خَفِيَّة فِي قُبُورها تَجري أَحْكَامُ البرزخ على الأَرْوَاح، فَتَسْرِي إِلَى أبدانِها نعيمًا أَوْ عذَابًا، كَمَا تَجري أَحْكَامُ الدُّنْيَا على الأَبدَان فَتَسْري إِلَى أرواحِها نَعيمًا أَوْ عذَابًا، فَأَحِط بِهَذَا المَوضع عِلْمًا، واعرفه كَمَا يَنبغي يُزِل عَنْك كلَّ إشكالٍ يُورد عَلَيْك من دَاخل وخارج.

وَقد أرانا اللهُ- سُبْحَانَهُ- بِلُطْفِهِ وَرَحمته وهِدايته من ذَلِك أُنموذجًا فِي الدُّنْيَا من حَال النَّائِم، فَإِنَّ مَا يُنَعَّم بِهِ أَوْ يُعَذَّب فِي نَومه يَجري على رُوحه أصلًا، وَالبدن تَبَعُ لَهُ، وَقد يَقوى حَتَّى يُؤَثِّر فِي البدن تأثيرًا مُشاهدًا، فَيَرَى النَّائِمُ فِي نَومه أَنَّه ضُرِب فَيُصْبِح وَأَثَر الضَّرْب فِي جِسْمه، وَيرى أَنه قد أكل أَوْ شَرِب فيستيقظ وَهُوَ يَجِد أَثَرَ الطَّعَام وَالشَّرَاب فِي فِيهِ، وَيذْهب عَنهُ الجُوعُ والظَّمأ.

وأعجب من ذَلِك أَنَّك ترى النَّائِم يقوم فِي نَومه وَيَضْرب ويَبطش ويُدَافع كَأَنَّهُ يقظان، وَهُوَ نَائِم لَا شُعُور لَهُ بشيء من ذَلِك، وَذَلِكَ أَنَّ الحكم لما جَرَى على الرُّوح استعانت بِالبدنِ من خَارجه، وَلَو دخلت فِيهِ لاستيقظ وأَحَسَّ، فَإِذا كَانَتْ الرُّوح تتألم وتتنعم ويَصل ذَلِك إِلَى بدنهَا بطرِيق الاستتباع، فَهَكَذَا فِي البرزخ بل أعظم، فَإِنْ تَجَرُّد الرُّوح هُنَالك أكمل وَأقوى، وهى مُتَعَلقَةٌ ببدنِها لم تَنْقَطِع

ص: 175

عَنهُ كلَّ الِانْقِطَاع، فَإِذا كَانَ يَوْم حشر الأجساد وَقيام النَّاس من قُبُورهم- صَار الحكمُ وَالنَّعِيم وَالعَذَاب على الأَرْوَاح والأجساد ظَاهرًا باديًا أصلًا.

وَمَتى أَعْطَيْتَ هَذَا المَوضع حَقَّه- تَبَيَّن لَك أَنَّ مَا أَخْبَر بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَذَاب القَبْر ونَعيمه وضِيقه وسَعَته وضَمه وَكَونه حُفْرَة من حفر النَّار أَوْ رَوْضَة من رياض الجنَّة- مُطَابق لِلعَقْلِ، وَأَنه حَقٌّ لَا مِرية فِيهِ، وَأنَّ مَنْ أشكل عَلَيْهِ ذَلِك فَمِنْ سُوء فَهمه وَقِلَّة عِلمه أُتِي، كَمَا قيل:

وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا

وآفتُه من الفَهم السَّقيم

وأَعْجَب مِنْ ذلك: أن تَجِد النَّائمين في فِرَاشٍ واحدٍ، وهذا رُوحُه في النَّعيم، ويَستيقظُ وأَثرُ النَّعيم على بَدنه، وهذا رُوحه في العَذَاب ويَستيقظ وأَثَرُ العَذاب على بَدَنِه، ولَيْسَ عند أحدِهما خَبَرٌ بما عند الآخَر، فَأَمْرُ البَرْزَخِ أعجبُ مِنْ ذَلك.

والله- سبحانه- جَعَلَ أَمْرَ الآخرة، وما كان مُتَّصِلًا بها غَيْبًا، وحَجَبها عن إدراك المُكَلَّفين في هذه الدَّار، وذلك من كمال حكمته، ولِيتميز المؤمنون بالغيب عن غيرهم»

(1)

.

المَسأَلَةُ الثانية: مَا يَكُونُ بَعدَ فِتنَةِ القبر مِنْ نَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ:

وهي ما أشار إليها شيخ الإسلامِ بقوله: «ثُمَّ بَعْدَ هذِهِ الفِتْنَةِ إمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ» .

ويبدأ العبد يعاين مصيره من ساعة الاحتضار، كما في حديث البَراءِ بن عَازِبٍ رضي الله عنه أنَّه قال: «كُنَّا فِي جنازة فِي بَقِيع الغَرْقَد، فَأَتَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَعَدَ وقَعَدْنا حوله، كَأَنَّ على رُءوسنا الطَّير، وَهُوَ يُلحَدُ

(1)

«الروح» (ص 63، 64) بتصرف يسير.

ص: 176

لَهُ، فَقَالَ:«أعوذُ بِاللَّه من عَذَاب القَبْر» ؛ ثَلَاث مَرَّات، ثمَّ قَالَ: «إنَّ العَبْدَ المُؤمن إِذا كَانَ فِي إقبالٍ من الآخِرَة وَانْقِطَاعٍ من الدُّنْيَا نزلت إِلَيْهِ مَلَائِكَة كَأَنَّ وُجُوهَهم الشَّمْسُ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ البَصَر، ثمَّ يَجِيء مَلَكُ المَوْت حَتَّى يجلس عِنْد رَأسه، فَيَقُول: أَيَّتُها النَّفْسُ الطَّيِّبَة، اخرجي إِلَى مَغْفرَة من الله ورضوان، قَالَ: فَتخرج تَسِيلُ كَمَا تسيلُ القَطرة من فِيِّ السِّقاء، فيأخذها، فَإِذا أَخذهَا لم يَدَعُوها فِي يَدِه طَرْفَة عينٍ حَتَّى يأخذوها، فيَجعلوها فِي ذَلِك الكَفَنِ وَذَلِكَ الحَنُوطِ، وَيَخرج مِنْهَا كأطيب نَفْحَة مِسْكٍ وُجِدت على وَجهِ الأَرْض، قَالَ: فَيَصْعَدُون بهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بهَا- يعْني: على مَلأٍ من المَلَائِكَة- إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوح الطَّيِّب؟ فَيَقُولُونَ: فلَان ابْن فلَان، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونه فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهوا بهَا إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، فيَستفتحون لَهُ؛ فَيفتح لَهُ، فَيُشَيِّعه من كلِّ سَمَاء مُقَرَّبوها إِلَى السَّمَاء الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يَنْتَهِي بهَا إِلَى السَّمَاء الَّتِي فِيهَا اللهُ تَعَالَى، فَيَقُول اللهُ عز وجل: اكْتُبُوا كِتَاب عَبْدِي فِي عِلِّيين، وأَعِيدُوه إِلَى الأَرْض؛ فإني مِنْهَا خَلَقْتُهمْ، وفيهَا أُعِيدُهم، وَمنها أُخْرِجُهم تَارَة أُخْرَى. قَالَ: فَتُعاد رُوحُه فِي جسده، فيَأتيه مَلَكَان فيُجلسانه، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُول: رَبِّي الله. فَيَقُولُونَ لَهُ: مَا دينُك؟ فَيَقُول: ديني الإِسْلَامُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرجلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُم؟ فَيَقُول: هُوَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم. فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُك بِهَذَا؟ فَيَقُول: قَرَأتُ كِتَابَ الله؛ فآمنتُ بِهِ وصَدَّقْتُ. فيُنادي مُنَاد من السَّمَاء: أَنْ صَدَقَ عَبْدي. فَأَفْرِشُوه من الجنَّة، وافتحوا لَهُ بَابًا من الجنَّة. قَالَ: فيَأتيه من رِيحِهَا وطِيبِها، ويُفْسَح لَهُ فِي قَبرِه مَدَّ بَصَرِه. قَالَ: ويأتيه رجلٌ حَسَنُ الوَجْه، حَسَنُ الثِّيَاب، طَيِّبُ الرِّيح؛ فَيَقُول: أَبْشِر بِالَّذِي يَسُرُّك؛ هَذَا يَوْمُك الَّذِي كنت تُوعد. فَيَقُول لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُك الوَجْهُ الَّذِي

ص: 177

يَجِيء بِالخَيرِ! فَيَقُول: أَنا عَمَلكُ الصَّالح. فَيَقُول: رَبِّ أقِمِ السَّاعَة حَتَّى أَرْجِع إِلَى أَهلِي وَمَالِي.

قَالَ: وَإِنَّ العَبْدَ الكَافِر إِذا كَانَ فِي انْقِطَاع من الدُّنْيَا وإقبال من الآخِرَة، نَزَل إِلَيْهِ من السَّمَاء مَلَائِكَة سُود الوُجُوه مَعَهم المُسُوح؛ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ البَصَر، ثمَّ يَجِيءُ مَلَكُ المَوْت حَتَّى يَجلس عِنْد رَأسه، فَيَقُول: أَيَّتُها النَّفس الخبيثة اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ من الله وَغَضبٍ، قَالَ: فتتفرق فِي جَسده، فينتزعها كَمَا يُنتَزعُ السَّفُّود من الصُّوف المَبلول، فيأخذها، فَإِذا أَخذهَا لم يَدَعُوها فِي يَدِه طَرْفَة عَين حَتَّى يَجعلوها فِي تِلكَ المُسُوح، وَيخرج مِنْهَا كأنتنِ رِيح جِيفة وُجِدت على وَجهِ الأرض، فيَصعدون بهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بهَا على مَلأٍ من المَلَائِكَة إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرِّيحُ الخَبيثُ؟ فَيَقُولُونَ: فلَان ابْن فلَان، بأقبح أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهِي بِهِ إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا؛ فيُستفتح لَهُ فَلَا يُفتح، ثمَّ قَرَأَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]؛ فَيقُول اللهُ عز وجل: اكْتُبوا كِتَابَه فِي سِجِّين فِي الأَرْض السُّفْلى. فَتُطرح رُوحه طَرْحًا، ثمَّ قَرَأَ:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، فتُعاد رُوحُه فِي جَسَدِه، ويأتيه مَلَكَان، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُول: هاه هاه، لَا أدري! فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الذي بُعِثَ فِيكُم؟ فَيَقُول: هاه هاه، لَا أدري! فيُنادي مُنَاد من السَّمَاء: أَنْ كَذَبَ عَبدِي؛ فَأَفْرِشُوه من النَّار، وافتحوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّار؛ فيَأتيه من حَرِّهَا وسَمُومها، ويُضَيَّق عَلَيْهِ قَبرُه حَتَّى تخْتَلف فِيهِ أضلاعُه، ويأتيه رجلٌ قَبِيحُ الوَجْه، قَبِيحُ الثِّيَاب، مُنْتن الرِّيح، فَيَقُول: أَبْشِر بِالَّذِي يسوؤك! هَذَا يَوْمُك الَّذِي كنت تُوعد. فَيَقُول: من أَنْتَ؟ فَوَجْهُك الوَجْهُ الَّذِي

ص: 178

يَجِيء بِالشَّرِّ. فَيَقُول: أَنا عَمَلُك الخَبيثُ. فَيَقُول: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ»

(1)

.

ولمَّا فَرَغَ المصنف رحمه الله من الكلام عَلى ما يكون في البرزخ بعد الموت من فِتنةٍ ونعيمٍ أو عذابٍ، أشار إلى ما يكون في الدَّار الآخرة التي تَبدأ بالقيامة الكُبرى؛ فقال:«إلى أن تقومَ السَّاعةُ الكُبرى فتُعاد الأرواحُ إلى الأجساد، وتقوم القيامةُ التي أَخْبَر اللهُ بها في كتابه، وعلى لِسانِ رسولِه، وأَجْمَع عليها المُسلمون» .

والقيامة في العَربية مَصدر قام يقوم، ودخلها التأنيثُ للمُبالغة على عادة العَرب.

واختُلف في تَسميتها بذلك على أربعة أقوال:

الأول: لوجود هذه الأمور فيها، أي: الأهوال والأمور التي تَحْدُث فيها.

الثاني: لقيام الخَلْق مِنْ قُبُورهم إليها؛ قال تَعَالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا} [المعارج: 43].

الثالث: لقيام النَّاس لِرَبِّ العالمين؛ فعن ابنِ عمر رضي الله عنهما عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6]، قال:«يقومُ أحدُهُم في رَشْحِه إلى نِصف أُذُنَيْه»

(2)

.

الرَّابع: لِقيام الرُّوح والملائكة صفًّا؛ قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38]»

(3)

.

(1)

أخرجه أحمد في «المسند» (4/ 287)(18557)، وأبو داود (4753)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (1676).

(2)

أخرجه البخاري (6531) ومسلم (2862).

(3)

انظر: «التذكرة» للقرطبي (ص 187).

ص: 179

وتعبيرُ المصنف بـ «الكبرى» هنا إشارةٌ إلى القيامة الصُّغرى؛ فإنَّ القيامةَ قيامتان: قيامةٌ صُغرى، وهي الموتُ. وقيامةٌ كبرى، وهي التي يقومُ فيها النَّاسُ مِنْ قُبُورهم لربِّ العالمين.

قال القرطبيُّ رحمه الله: «قال علماؤنا: واعلم أنَّ كُلَّ مَيِّتٍ مات فقد قامت قيامتُه، ولكنها قيامةٌ صُغرى وكُبرى.

فالصُّغرى: هي ما يقومُ على كل إنسانٍ في خَاصَّتِه من خروج رُوحه، وفِراق أهله، وانقطاع سَعْيه، وحُصوله على عمله؛ إن كان خيرًا فخير، وإن كان شرًّا فَشَرٌّ.

والقيامة الكبرى: هي التي تَعُمُّ النَّاسَ، وتأخذهم أخذةً واحدةً.

والدَّليلُ على أنَّ كُلَّ مَيِّتٍ يموتُ فقد قامت قيامتُه: قول النَّبي صلى الله عليه وسلم لقومٍ من الأعرابِ وقد سألوه: مَتى القِيامةُ؟ فنظر إلى أحدث إنسانٍ منهم، فقال:«إِنْ يَعِشْ هذا لَم يُدركه الهَرَمُ قَامَت عليكم سَاعَتُكم»

(1)

»

(2)

.

ثم قال رحمه الله: «فَتُعادُ الأرواحُ إلى الأجسادِ» ، وذلك بعد النفخة الثانية بالصُّور، وهذه الإعادةُ غيرُ الإعادة التي كانت في البرزخ.

قال ابنُ أبي العِزِّ رحمه الله: «الإيمانُ بالمَعاد مِمَّا دَلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّة والعَقل والفِطرة السَّليمة.

فأخبرَ اللهُ- سبحانه- في كتابه العزيز، وأَقَامَ الدَّليل عليه، ورَدَّ على مُنكريه في غالب سُور القرآن، وذلك أنَّ الأنبياء- عليهم السلام كلهم مُتَّفِقون على الإيمانِ بالله، فإنَّ الإقرارَ بالربِّ عامٌّ في بني آدم، وهو فِطري، وكُلُّهم يُقِرُّ بالربِّ إلا مَنْ عانَدَ؛ كفِرعون، بخلاف الإيمان

(1)

أخرجه مسلم (2952) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

«التذكرة» (ص 187، 188).

ص: 180

باليوم الآخر فإنَّ مُنكريه كثيرون، ومحمَّد صلى الله عليه وسلم لَمَّا كان خاتم الأنبياء، وكان قد بُعِثَ هو والسَّاعة كهاتين، وكان هو الحاشر والمُقَفِّي بَيَّن تفصيل الآخرة بيانًا لا يُوجد في شيء من كتب الأنبياء، ولهذا ظَنَّ طائفةٌ مِنْ المُتفلسفة ونحوهم أنَّه لم يُفصح بمعاد الأبدان إلا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وجَعلوا هذه حُجَّة لهم في أنَّه من باب التخييل والخِطاب الجُمهوري.

والقرآنُ بَيَّن مَعاد النَّفس عند الموت، ومَعادَ البدن عند القيامة الكبرى في غير مَوضع، وهؤلاء يُنكرون القيامة الكبرى، ويُنكرون معاد الأبدان، ويقول مَنْ يقول منهم: إنَّه لم يُخبر به إلا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم عن طريق التخييل.

وهذا كذبٌ؛ فإنَّ القِيامة الكبرى هي معروفةٌ عند الأنبياء من آدم إلى نُوح إلى إبراهيم ومُوسى وعِيسى وغيرهم عليهم السلام، وقد أخبر اللهُ بها من حين أهبط آدم؛ فقال تَعَالى:{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 24 - 25]، ولمَّا قال إبليس اللعين:{رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر: 36 - 38].

وأمَّا نوحٌ عليه السلام فقال: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح: 17 - 18]، وقال إبراهيم عليه السلام:{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]، إلى آخر القصة وقال:{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41]، وقال:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، وأمَّا موسى عليه السلام فقال الله لَمَّا ناجاه:{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه: 15 - 16].

ص: 181

بل مُؤمنُ آلِ فِرعون كان يَعلم المَعاد، وإنَّما آمَنَ بموسى؛ قال تَعَالى: حكاية عنه: {وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر: 33]، إلى قوله تعالى:{يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39]، إلى قوله:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46].

وقال موسى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156].

وقد أخبر في قِصَّة البقرة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73].

وقد أخبرَ اللهُ أنَّه أرسلَ الرُّسل مُبَشِّرين ومُنذرين في آياتٍ مِنْ القُرآن، وأَخْبَر عن أهلِ النَّار أنَّهم إذا قال لهم خزنَتُها:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71].

وهذا اعترافٌ من أصناف الكفار الدَّاخلين جَهَنَّم: أنَّ الرسلَ أَنْذَرَتْهم لِقاء يومهم هذا.

فجميعُ الرُّسلِ أَنذروا بما أَنْذَر به خَاتَمُهم من عقوبات المُذنبين في الدُّنيا والآخرة، فَعَامَّةُ سُور القرآن التي فيها ذِكر الوعد والوعيد يذكر ذلك فيها في الدُّنيا والآخرة، وأَمَرَ نَبِيَّه أن يُقسم به على المعاد فقال:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} [سبأ: 3]، الآيات، وقال تَعَالى:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53]، وقال تَعَالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7]، وأخبر عن اقترابها فقال:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1]،

ص: 182

{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1]، {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج: 1 - 2]، إلى قوله:{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6 - 7].

وقد ذَمَّ اللهُ المُكَذِّبين بالمَعاد فقال: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس: 45]، {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام: 31]، {أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [الشورى: 18]، {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل: 66]، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [النحل: 38]، إلى أن قال:{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: 39]، {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [غافر: 59]، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97]، {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 98]، إلخ»

(1)

.

وقد دلَّ- أيضًا- على قيام السَّاعة وحَشر الناس في اليوم الآخر أدلةٌ مُستفيضة مِنْ السُّنَّة، منها: ما جاء في حديث جبريل عليه السلام؛ أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال:«أن تُؤمن باللهِ، ومَلائكتِه، وكُتُبِه، ورُسُلِه، واليومِ الآخِر، وتُؤمن بالقَدَرِ؛ خَيْرِه وشَرِّه»

(2)

، وفي رواية:«والبَعْث بعدَ المَوْتِ»

(3)

.

(1)

«شرح الطَّحاوية» (ص 404، 405).

(2)

أخرجه البخاري (50) من حديث أبي هريرة ?، ومسلم (8) من حديث حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

أخرجها ابن حبان في «صحيحه» (1/ 389)(168) وابن أبي شيبة في «مصنفه» (6/ 172)(30445)، وصححها الألباني في «التعليقات الحسان» (168).

ص: 183

وكذلك ما روي عن ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيُّها النَّاس، إنَّكم مَحْشُورُونَ إلى الله حُفَاة عُرَاة غُرْلًا، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]، ثُمَّ إنَّ أَوَّلَ مَنْ يُكسى يوم القيامة إبراهيمُ»

(1)

.

وقد أجمعَ على ذلك المُسلمون إجماعًا قطعيًّا، بل حتى أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى.

وكذلك العَقلُ يقضي بأن هناك يوم آخر للجَزَاء والحِساب، وإلا لكان إيجاد الخلائق عَبَثًا، واللهُ مُنَزَّه عن ذلك، وهذا- أيضًا- من تمام إقامة العدل بين الخلق؛ قال ابنُ القيِّم:«ولهذا كان الصَّوَابُ أنَّ المَعاد معلومٌ بالعقل مع الشَّرع، وأنَّ كمالَ الرَّبِّ تَعالى، وكمالَ أسمائه وصفاته تَقتضيه وتُوجبه، وأنَّه مُنَزَّه عَمَّا يقولُه مُنكروه، كما يُنَزَّه كمالُه عن سائر العُيوب والنَّقائص»

(2)

.

ثم قال المُصَنِّف رحمه الله: «فيقوم النَّاسُ مِنْ قُبُورهم لربِّ العَالمين حُفاة عُراة غُرْلًا» .

والحُفاة: جَمع حَاف، وهو الذي لا يلبس نِعالًا ولا خُفًّا.

والعراة: جمع عار، وهو الذي ليس على جسده لباس، ولا شيء يستره.

والغُرْل: جمع أغرل، وهو الذي لم يُختن؛ إذ ترجع إليه الجلدة التي قطعت عند الختان.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تُحْشَرُون حُفاة عُرَاة غُرْلًا» . قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت: يا رسول الله، الرِّجال والنِّساء

(1)

أخرجه البخاري (4740) ومسلم (2860).

(2)

«الفوائد» (ص 29).

ص: 184

يَنظر بعضهم إلى بعض! فقال: «الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أن يَهُمَّهم ذلك»

(1)

.

ثم ذكر المُصَنِّفُ بعض أهوال هذا اليوم، فقال:«وتدنو الشَّمسُ منهم فَيُلْجِمُهم العَرَقُ» .

وقد صحَّ عن المِقداد بن الأسود أنَّه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تُدنى الشَّمْسُ يوم القيامة من الخَلْقِ حَتَّى تَكون مِنهم كَمِقْدار مِيلٍ، فَيَكُون النَّاسُ على قَدْر أعمالِهم في العَرَقِ؛ فَمِنهم مَنْ يكون إلى كَعْبَيه، ومِنهم مَنْ يكون إلى رُكبتيه، ومنهم مَنْ يكون إلى حِقْوَيْه، ومِنهم مَنْ يُلجمه العَرَقُ إلجامًا»

(2)

.

إلا أن هناك أناسًا يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظله، كما أخبر بذلك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث، وهم:«إمامٌ عادلٌ. وشَابٌّ نَشَأ في طاعة الله. ورَجُلٌ قَلْبُه مُعَلَّق بالمَساجد. ورَجُلان تَحَابَّا في الله اجتمعا عليه وتَفَرَّقا عليه. ورَجُلٌ دَعَتْه امرأةٌ ذاتُ مَنصب وجَمال فقال: إني أخافُ اللهَ. ورجل تَصَدَّق بصدقةٍ فَأَخْفاها حتى لا تَعلم شِمَالُه ما تُنفق يمينُه. ورجلٌ ذَكَر اللهَ خاليًا فَفَاضَتْ عَيْناه»

(3)

.

وقد جاء في روايات أخرى تبين أنَّ الله يُظِلُّ في ظِلِّه في هذا اليوم العظيم الرهيب أصنافًا أخرى؛ منها:

ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقول يوم القيامة: «أين المُتَحَابُّون بِجَلالي، اليوم أُظِلُّهم في ظِلِّي يوم لا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (6527) ومسلم (2859).

(2)

أخرجه مسلم (2864).

(3)

أخرجه البخاري (6806) ومسلم (1031) من حديث أبي هريرة ?.

(4)

أخرجه مسلم (2566).

ص: 185

وعن كعب بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَنْظَرَ مُعسرًا، أو وَضَع له- أَظَلَّهُ الله يوم القيامة تحت ظِلِّ عَرشه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه»

(1)

.

نسأل الله أن نكون من هؤلاء، وأن يسترنا في هذا اليوم الطويل الشديد الرَّهيب، وأن يُدخلنا الجنة من غير حساب ولا سابقة عذاب.

(1)

أخرجه مسلم (3006) من حديث كعب بن عمرو ?.

ص: 186

قال المصنف رحمه الله:

«فَتُنْصَبُ المَوَازينُ فَتُوزن بِها أعمالُ العِباد؛ {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102 - 103].

وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ، فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ؛ كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى:{وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13: 14].

وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ، وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ؛ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ؛ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا حَسَنَات لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ، فتُحْصَى، فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا، ويُجْزَون بها».

الشرح

بعد أن يأذن الله سبحانه وتعالى ببعث الناس من قبورهم- تعود الأرواح إلى أجسادها، وترجع الأجساد كما كانت قَبل أن تَبلى، فتنبت كما ينبت الحِبَّة

(1)

في حميل السَّيل

(2)

.

فترجع كلُّ رُوح إلى جسدها الذي كانت فيه في الدنيا، كما جاء في «مسند أحمد» مرفوعًا: «حَتَّى إذا كانوا يوم القيامة دَخَلَتْ

(1)

الحبة: بذور النبات.

(2)

حميل السيل: ما يحمله السَّيْل من طين أو غُثَاء وغيره.

ص: 187

كلُّ نفسٍ في جَسدها»

(1)

، أي: دخلت كلُّ رُوح في جسدها.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ ابن آدم تأكله الأرض، إلا عَجْبَ الذَّنَب

(2)

منه يَنبت، ويرسل الله ماء الحياة، فينبتون فيه نبات الخَضِر، حتى إذا أخرجت الأجساد أرسلَ اللهُ الأرواح، وكان كلُّ روح أسرع إلى صاحبه من الطَّرف، ثم يُنفخ في الصور فإذا هم قيام يَنظرون»

(3)

.

قال ابن القيم رحمه الله: «تَنبت أجسادهم في القبور، فإذا نفخ في الصُّور رَجعت كلُّ روح إلى جسدها فدخلت فيه، فانشقَّت الأرض عنه فقام مِنْ قبره، وفي حديث الصُّور أنَّ إسرافيل عليه السلام يدعو الأرواح فتأتيه جميعًا؛ أرواح المسلمين نورًا، والأخرى مظلمة؛ فيجمعها جميعًا، فيعلقها في الصور، ثم ينفخ فيه فيقول الرب جل جلاله: «وعِزَّتي ليَرجعن كلُّ رُوح إلى جسده، فتخرج الأرواح من الصور مثل النَّحل قد ملأت ما بين السَّماء والأرض فيأتي كلُّ رُوح إلى جسده فيدخل، ويأمر الله الأرض فتَنشق عنهم فيخرجون سراعًا إلى ربهم يَنسلون، مُهطعين إلى الدَّاعي، يسمعون المنادي من مكان قريب، فإذا هم قيام ينظرون، وهذا معلوم بالضرورة أنَّ الرسول أخبر به، وأنَّ الله سبحانه لا يُنشئ لهم أرواحًا غير أرواحهم التي كانت في الدنيا، بل هي الأرواح التي اكتسبت الخير والشر، أنشأ أبدانها

(1)

أخرجه أحمد في «المسند» (6/ 424)(27427)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (679).

(2)

هو العظم اللطيف الذي في أسفل الصُّلب، وهو رأس العُصعص، ويقال له:(عَجْمُ) بالميم، وهو أولُ ما يُخلق من الآدمي، وهو الذي يَبقى منه؛ ليُعاد تركيب الخلق عليه. «شرح النووي على مسلم» (9/ 343).

(3)

أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (2/ 432)(891)، وقال الألباني في «ظلال الجنة» (891):«إسناده جيد» .

ص: 188

نشأة أخرى، ثُمَّ رَدَّها إليها»

(1)

.

وقال أيضًا: «إن الروح والجسد يختصمان بين يدي الرب عز وجل يوم القيامة، قال عليُّ بن عبد العزيز: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبى سعيد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه ما قال: «ما تَزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى يُخاصم الرُّوحُ الجسدَ، فيقول الروح: يا رب إنَّما كنت روحًا منك جعلتني في هذا الجسد، فلا ذنبَ لي! ويقول الجسد: يا رب كنت جسدًا خَلقتني ودخل فيَّ هذا الرُّوح مثل النار؛ فَبِه كنتُ أقوم، وبه كنت أقعد، وبه أذهب، وبه أجيء؛ لا ذنب لي! قال: فيقال: أنا أقضي بينكما؛ أخبراني عن أعمى ومقعد دخلَا حائطًا فقال المقعد للأعمى: إني أرى ثمرًا فلو كانت لي رِجْلان لتناولتُ! فقال الأعمى: أنا أحملُك على رقبتي. فحمله فتناول من الثمر فأَكَلَا جميعًا، فعلى مَنْ الذَّنب؟ قالا: عليهما جميعًا. فقال: قضيتُما على أنفسكما»

(2)

.

ثم بعد إعادة الأرواح إلى أجسادها يساق الناس إلى أرض المحشر، حُفاة عُراة غُرلًا، وتدنو الشمس من الخلائق، فيكون الناس في عرقهم على قدر أعمالهم، حتى يبلغ بهم الأمر مبلغه، فيأتوا من نبي إلى نبي، حتى يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيشفع في أهل الموقف أن يُقضى بينهم. وهي أول شفاعاته صلى الله عليه وسلم.

ثم بعد ذلك يبدأ القضاء بالفصل بين الناس، وتُنصب الموازين، وبعد ذلك تكون أحوال الناس بين مَنْ ثقلت موازينه وبين

(1)

«الروح» (ص 185، 186)، دار الكتب العلمية، بيروت.

(2)

«الروح» (ص 186).

ص: 189

مَنْ خَفَّت موازينه؛ قال الله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102 - 103]، وقال جل وعلا:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، وقال عز وجل:{فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 6 - 9]، وغير ذلك.

ومن السُّنَّة: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «كَلِمَتان خَفِيفتان على اللِّسان، ثَقِيلتان في المِيزان، حَبِيبتان إلى الرَّحمن: سُبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّه لَيُؤتى بالرَّجل العَظيم السَّمين يوم القيامة لا يَزن عند الله جناح بَعُوضة، وقال: اقْرءوا إن شئتم: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]»

(2)

.

وعن عبد الله بن عُمر أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله سَيُخَلِّصُ رجلًا من أُمَّتي على رُءوس الخَلائق يوم القيامة، فَيَنْشُر عليه تِسعة وتِسعين سِجلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ البَصر، ثُمَّ يقول له: أَتُنْكِر مِنْ هذا شيئًا؟ أَظَلَمَتك كَتَبَتي الحَافظون؟ قال: لا يا رب. فيقول: أَلَكَ عُذْرٌ أو حَسَنة؟ فيهيب الرجل، فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إنَّ لك عندنا حسنة واحدة، لا ظُلم عليك؛ فَتُخرج له بطاقةٌ فيها أشهدُ أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رسولُ الله. فيقول: أَحْضِروه. فيقول: يا رب، وما هذه البطاقة مع هذه السِّجلات؟ فيُقال: إنَّك لا تُظلم. قال: فَتُوضع

(1)

أخرجه البخاري (6406) ومسلم (2694).

(2)

أخرجه البخاري (4729) ومسلم (2785).

ص: 190

السِّجلات في كِفَّة والبطاقة في كِفَّة، قال: فَطاشت السِّجلات، وثَقُلت البِطاقة، ولا يَثْقُل شيءٌ بِسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ»

(1)

.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أنَّه كان يَجني سِوَاكًا من الأَرَاك، وكان دقيقَ السَّاقين، فَجَعَلت الرِّيح تَكفؤه، فَضَحِك القومُ مِنه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«مِمَّ تَضْحَكُون؟» . قالوا: يا نَبِيَّ الله مِنْ دِقَّة سَاقيه. فقال: «والَّذي نَفْسِي بيدِه لَهُما أثقلُ في المِيزان مِنْ أُحُدٍ»

(2)

.

وعن أبي مالكٍ الأشعريِّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «الطُّهورُ شَطْرُ الإيمانِ، والحمدُ للهِ تَمْلَأُ المِيزانَ»

(3)

.

وقال السَّفارينيُّ: «قال علماؤنا كغيرهم: نُؤمن بأن الميزان الذي تُوزن به الحسنات والسيئات حقٌّ، قالوا: وله لسان وكفتان تُوزن به صحائف الأعمال؛ قال ابن عباس رضي الله عنه ما: تُوزن الحسنات في أحسن صورة، والسيئات في أقبح صورة.

قال العلامة الشيخ مرعي في «بهجته» : الصحيح: أنَّ المراد بالميزان: الميزان الحقيقي لا مجرد العدل، خلافًا لبعضهم.

وقال القرطبي في «تذكرته» : «قال العلماء: إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة لتقرير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها؛ ليكون الجزاء بحسبها» .

إلى أن قال: «قد بلغت أحاديثه- أي: الميزان- مبلغ التواتر،

(1)

أخرجه أحمد في «مسنده» (2/ 213)(6994)، والترمذي (2639)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (135).

(2)

أخرجه أحمد في «مسنده» (1/ 114)(920)، وابن حبان في «صحيحه» (7069)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (2750).

(3)

أخرجه مسلم (223).

ص: 191

وانعقد إجماع أهل الحق من المسلمين عليه»

(1)

.

وقال في موضع آخر: «أَجْمَع أكابرُ مُحَقِّقي هذه الأمة من أهل السُّنَّة بأنَّ الإيمان بثبوت الوزن والميزان حقٌّ واجبٌ وفَرْضٌ لازبٌ لِثُبوته، وعدم استحالة ذلك عقلًا»

(2)

.

قال الإمام القرطبي رحمه الله: «قال علماؤنا رحمهم الله: الناس في الآخرة ثلاث طبقات: متقون لا كبائر لهم. ومخلطون وهم الذين يوافون بالفواحش والكبائر. والثالث: الكفار.

فأمَّا المتقون: فإن حسناتهم تُوضع في الكفة النيرة، وصغائرهم- إن كانت لهم الكفة الأخرى- فلا يجعل الله لتلك الصغائر وزنًا، وتثقل الكفة النيرة حتى لا تَبرح، وترتفع المظلمة ارتفاع الفارغ الخالي.

وأمَّا المخلطون فحسناتهم توضع في الكفة النيرة، وسيئاتهم في الكفة المظلمة، فيكون لكبائرهم ثقل، فإن كانت الحسنات أثقل ولو بصؤابة دخل الجنة، وإن كانت السيئات أثقل و لو بصؤابة دخل النار إلا أن يغفر الله، وإن تساويا كان من أصحاب الأعراف على ما يأتي، هذا إن كانت للكبائر فيما بينه وبين الله، وأما إن كانت عليه تبعات وكانت له حسنات كثيرة فإنه ينقص من ثواب حسناته بقدر جزاء السيئات؛ لكثرة ما عليه من التبعات؛ فيُحمل عليه مِنْ أوزار مَنْ ظلمه، ثم يُعَذَّب على الجميع. هذا ما تقتضيه الأخبارُ»

(3)

.

ثم تنشر صحائف الأعمال؛ فإمَّا آخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وإمَّا آخِذٌ

(1)

«لوامع الأنوار البهية» (2/ 184، 185).

(2)

«لوائح الأنوار السنية» (2/ 179).

(3)

«التذكرة» للقرطبي (ص 360).

ص: 192

كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ؛ فالناس على هذين الحالين؛ كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19]، فيجد في نفسه من السعادة والفرح بهذه الحال؛ لأنه قد آمن وصدق وعمل لهذا اليوم، فوجد ثمرة ذلك وثوابه عند الله سبحانه وتعالى، وأمَّا حال الآخر فقد قال الله عز وجل عنه:{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 25 - 29]، ثم يكون الجزاء:{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة: 30 - 32].

فالله يجازي الناس بأعمالهم؛ فإمَّا آخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وإمَّا آخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ، ثم يبدأ بعد ذلك الحساب.

فالمؤمن حسابه عرضٌ وتقرير وليس حساب نقاش؛ لأنَّ من نوقش الحساب بالعذاب؛ كما في حديث عائشة رضي الله عنه ا، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حُوسب يوم القيامة عُذِّب» ، فقلت: أليس قد قال الله عز وجل: {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} [الانشقاق: 8]؟ فقال: «ليس ذاك الحساب، إنَّما ذاك العَرْضُ؛ مَنْ نوقش الحساب يوم القيامة عُذِّب»

(1)

.

فيُقرر اللهُ العبدَ المؤمنَ بما فعل في الدنيا، كما جاء في الحديث: «إنَّ الله يُدني المؤمن، فيضع عليه كَنَفَه ويَستره، فيقول: أتعرف ذنبَ كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قَرَّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته، وأمَّا الكافر والمنافقون، فيقول الأشهاد: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا

(1)

أخرجه البخاري (6536) ومسلم (2876).

ص: 193

لعنة الله على الظالمين} [هود: 18]»

(1)

.

وأمَّا الكفار فلا تُوزن أعمالهم؛ إذ لا حسنات لهم، وما قَدَّموه مِنْ عمل نافع في الدنيا فإنَّهم يجازون به في الدنيا كذلك؛ قال الله سبحانه وتعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16]، فيُوفون جزاء أعمالهم النافعة في الدنيا، وأما في الآخرة فليس لهم فيها نصيب من الحسنات والأجر، وإنما يجازون بكفرهم.

(1)

أخرجه البخاري (2441) ومسلم (2768) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ص: 194

قال المصنف رحمه الله:

«وفي عَرَصات القيامة: الحَوْضُ المَورود للنَّبي صلى الله عليه وسلم؛ ماؤه أشَدُّ بياضًا من اللبن، وأحلى من العَسَل، وآنيتُه عددُ نجوم السماء، طولُه شَهْرٌ، وعَرْضُه شَهْرٌ، مَنْ يشربُ منه شربةً لا يَظمأُ بعدها أبدًا» .

الشرح

هذا الحوضُ المورود الذي أَعطاه الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 1 - 3].

قال الإمامُ القرطبيُّ: «والصَّحيح: أنَّ للنبي صلى الله عليه وسلم حَوْضَيْن:

أحدهما في المَوقف قبل الصِّراط. والثَّاني في الجَنَّة، وكلاهما يُسَمَّى كوثرًا»

(1)

.

وقد جاءت أحاديث كثيرة في وصفه؛ منها: عن أبي عُبيدة أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]، فقالت:«نهرٌ أُعطيه نَبِيُّكم صلى الله عليه وسلم؛ شاطئاه عليه دُرٌّ مُجَوَّف، آنيته كَعَدد النُّجوم»

(2)

.

وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما أنا أسيرُ في الجَنَّة إذ أنا بنهرٍ حافتاه قِباب الدُّرِّ المُجَوَّف. قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثرُ الذي أعطاك رَبُّك، فإذا طِينُه- أو طِيبُه-

(1)

«التذكرة» (ص 362).

(2)

أخرجه البخاري (4965).

ص: 195

مِسك أذفر»

(1)

.

وقال شيخُ الإسلامِ رحمه الله: «خَصَّ الله نَبيَّه صلى الله عليه وسلم أنَّه أعطاه الكوثر، وهو من الخير الكثير الذي آتاه اللهُ في الدُّنيا والآخرة؛ فمما أعطاه في الدُّنيا الهُدى والنَّصر والتأييد وقُرَّة العَين والنَّفس وشرح الصدر، ونَعَّم قلبَه بذكرِه وحُبِّه بحيث لا يُشبه نعيمُه نعيمَ الدُّنيا البتة، وأعطاه في الآخِرَة الوسيلةَ والمقامَ المحمودَ، وجعلَه أَوَّلَ مَنْ يُفتح له ولأمته باب الجنة، وأعطاه في الآخِرَة لواءَ الحمد والحوض العظيم في موقف القيامة، إلى غير ذلك»

(2)

.

وقد حكم جمعٌ من أهل العلم بتواتر السُّنَّة في ذلك، قال ابن أبي العِزِّ:«الأحاديث الواردة في ذِكر الحوض تَبلغُ حَدَّ التواتر؛ رَوَاها من الصَّحابة بضعٌ وثلاثون صحابياًّ، ولقد استقصى طرقَها شيخُنا عمادُ الدِّين ابنُ كثير- تَغَمَّدَه اللهُ برحمتِه في آخر «تاريخه الكبير»

(3)

.

والله عز وجل قد خَصَّ هذه الأمة بفضائل كثيرة، ومنها مُضاعة الأجر؛ فعن ابن عمر رضي الله عنه ما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إنَّما أجلُكم في أجلِ مَنْ خلا من الأمم ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنَّما مَثَلُكم ومَثَل اليهود والنصارى، كرجل استعمل عُمَّالًا، فقال: مَنْ يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط، فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال: مَنْ يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، فعملت النَّصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، ثم قال: مَنْ يعمل

(1)

أخرجه البخاري (6581).

(2)

«مجموع الفتاوى» (16/ 527 - 528)، بتصرف يسير.

(3)

«شرح الطحاوية» (ص 227).

ص: 196

لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين، ألا، فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس، على قيراطين قيراطين، ألا لكم الأجر مرتين، فغَضِبَت اليهودُ والنصارى، فقالوا: نحن أكثر عملًا وأقل عطاء! قال الله: هل ظلمتُكم مِنْ حَقِّكم شيئًا؟ قالوا: لا. قال: فإنَّه فَضلي أُعطيه مَنْ شِئْتُ»

(1)

.

فَمن نعمة الله علينا أن جعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «نَحن الآخِرون السَّابقون يوم القيامة، بَيْدَ كلِّ أُمَّةٍ أُوتوا الكتاب مِنْ قبلنا، وأُوتينا مِنْ بعدهم، فهذا اليوم

(2)

الذي اختلفوا فيه، فغدًا لليهود، وبعدَ غدٍ للنَّصارى»

(3)

.

وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هم أكثر أهل الجنة، فعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهلُ الجنة عشرون ومائة صف؛ ثمانون منها مِنْ هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم»

(4)

.

وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء أتباعًا؛ فعن ابن عباس رضي الله عنه ما قال: «خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: «عُرِضت عليَّ الأمم، فجعل يمرُّ النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد، ورأيت سوادًا كثيرًا سَدَّ الأفق، فرجوت أن تكون أُمَّتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر، فرأيت سوادًا كثيرًا سَدَّ الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سوادًا كثيرًا سَدَّ الأفق، فقيل: هؤلاء أُمَّتك، ومع هؤلاء سبعون ألفًا

(1)

أخرجه البخاري (3459) ومسلم (. . .).

(2)

أي: يوم الجمعة.

(3)

أخرجه البخاري (3486) ومسلم (855).

(4)

أخرجه الترمذي (2546)، وابن ماجه (4289)، والدارمي (2877)، وصححه الألباني في «صحيح ابن ماجه» (3462).

ص: 197

يدخلون الجنة بغير حساب»

(1)

.

وهذا الفضل الذي أعطاه الله لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة- هو خير عظيم وعميم على هذه الأمة المرحومة؛ فصارت مَهْدِيَّة في الدنيا، مَرحومة وأكثر أهل الجنة في الآخرة، وذلك فضل الله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء.

(1)

أخرجه البخاري (5752) ومسلم (220).

ص: 198

قال المصنف رحمه الله:

«والصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ على مَتْن جَهَنَّم، وهو الجِسر الذي بين الجَنَّة والنَّار يَمُرُّ النَّاسُ عليه على قَدْرِ أعمالِهم؛ فَمنهم مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ البَصر، ومنهم من يَمُرُّ كالبَرق، ومنهم من يَمُرُّ كالرِّيح، ومِنهم من يَمُرُّ كالفَرس الجَواد، ومِنهم مَنْ يَمر كَرَاكِب الإبل، ومنهم مَنْ يَعْدُو عَدْوًا، ومنهم من يمشي مَشْيًا، ومنهم مَنْ يَزحف زحفًا، ومنهم مَنْ يُخطف ويُلقى في جهنم، فإنَّ الجسر عليه كلاليبُ تَخْطِفُ النَّاس بأعمالِهم» .

الشرح

الصِّراط: جِسر منصوب على مَتن جهنم بين الجَنَّة والنَّار، يَمُرُّ النَّاسُ عليه على قَدْرِ أعمالِهم.

قال السفاريني رحمه الله: «والصراط شرعًا: جِسر ممدود على مَتن جهنم يَرده الأولون والآخرون، فهو قنطرة جهنم بين الجنة والنار، وخُلِق مِنْ حين خُلِقت جهنم»

(1)

.

وفي قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71، 72]، قال الشيخ السعدي: «هذا خطابٌ لسائر الخلائق؛ بَرِّهم وفاجرهم، ومؤمنهم وكافرهم: أنَّه ما منهم مِنْ أحدٍ إلا سيرد النار حكمًا حَتمه الله على نفسه، وأوعد به عباده، فلا بد مِنْ نفوذه، ولا محيد عن

(1)

«لوامع الأنوار البهية» للسفاريني (2/ 189).

ص: 199

وقوعه»

(1)

.

فالناس سيردون جهنم؛ لأنَّ الصراط مَنصوب على مَتْنِها.

وتختلف أحوال الناس في المرور عليه، كما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَرِدُ الناس النَّارَ، ثم يَصدرون عنها بأعمالهم؛ فأولهم كلمح البَرق، ثم كالرِّيح، ثم كحُضْر الفرس

(2)

، ثم كالرَّاكب في رَحْلِه، ثم كَشَدِّ الرَّجل ثم كمَشيه»

(3)

.

وقد جاء في وصفه أنه: صراطٌ دقيق جدًّا، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال:«بَلغني أنَّ الجسر أدق من الشعرة، وأحَدُّ من السيف»

(4)

.

والصِّراط مِنْ عرصات وأهوال يوم القيامة، وأول مَنْ يجوز عليه: النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأمته؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه: «

ويُضْرَبُ الصِّراط بين ظَهْري جَهَنَّم فأكونُ أنا وأُمَّتي أَوَّل مَنْ يُجيزها، ولا يتكلم يومئذ إلَّا الرُّسل، ودَعوى الرُّسل يَومئذ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وفي جهنم كلاليب مِثل شَوْك السَّعدان؛ هل رأيتم السَّعدان؟»، قالوا: نَعم يا رسول الله. قال: «فإنَّها مِثل شَوك السَّعدان غَير أنَّه لا يَعلم قَدْرَ عِظَمِها إلَّا الله عز وجل، تَخطف النَّاسَ بأعمالهم، فمَنهم المُوبق بعملِه، والمُوثق بعمله، ومنهم المُخَرْدَل والمُجَازَى»

(5)

.

قال الإمامُ القرطبيُّ رحمه الله: «فَتَفَكَّر الآن فيما يَحِلُّ بك من الفَزع

(1)

«تفسير السعدي» (580).

(2)

أي: جريه، وهو العَدْوُ الشَّديد.

(3)

أخرجه الترمذي (3159)، والدارمي (2852)، وقال:«حديث حسن» ، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (2526).

(4)

أخرجه مسلم (183).

(5)

أخرجه البخاري (7437) ومسلم (182).

ص: 200

بفؤادك إذا رأيتَ الصِّراط ودِقَّتَه، ثُمَّ وَقَعَ بصرُك على سَوَادِ جَهنم من تحته، ثم قَرَعَ سَمْعَك شَهِيقُ النارِ وتَغَيُّظُها، وقد كُلِّفْت أن تَمشي على الصِّراط مع ضَعف حالك، واضطراب قلبِك، وتَزَلزُلِ قَدَمِك، وثِقَل ظَهْرك بالأوزار المانعة لك مِنْ المَشي على بساط الأرض فضلًا عن حِدَّة الصِّراط، فكيف بك إذا وَضَعْتَ عليه إحدى رِجليك فَأَحْسَسْتَ بِحِدَّتِه، واضطررت إلى أن تَرفع القَدَم الثاني، والخلائق بين يديك يَزِلُّون ويَعثرون، وتتناولهم زبانيةُ النَّار بالخطاطيف والكلاليب، وأنت تنظر إليهم كيف ينكسون فَتَسْفُل إلى جهة النار رُءوسهم، وتَعْلُو أَرْجُلُهم؛ فَيَا له مِنْ مَنظر ما أَفْظَعَه! ومُرْتَقًى ما أَصْعَبَه! ومَجاز ما أَضْيَقَه!»

(1)

.

ومع كل هذا فالمؤمن يمر عليه مرورًا سريعًا جدًّا.

ولذلك لا بد أن يعلم الإنسان أنه إذا أراد اجتياز الصراط إلى الجنة: أنه مطالب بمجاهدة نفسه في هذه الحياة؛ للثبات على منهج الله، وعليه النظر فيما هو مُقدم عليه من هذه الأهوال؛ قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]؛ وإذا كان الإنسان يحتاط جدًّا في سفر الدنيا وخاصة إذا سَمِع أن فيه مشقة، وأنه قد يُصيبه العنت فيه- فماذا قَدَّم ليوم القيامة وما فيه من كربات وأهوال؟

وليحاسب نفسه هنا: لماذا هذه الغشاوة التي على عينيه، ولماذا هذه الغفلة التي في قلبه عن هذا المصير المحتوم؟! ولماذا الركون إلى الدنيا وعدم استثمار الأنفاس فيما ينفع وينجي في هذا اليوم؟!

(1)

«التذكرة» (ص 289).

ص: 201

فكيف يوقن العبد بهذه الحقائق ومع ذلك يفرط في جنب الله؟!

ولماذا لا يجتهد في تحصيل مرضاة الله؟!

وليعلم كل امرئ أن نفسه إن لم يشغلها بالحق شغلته بالباطل، وأن الله قد أعطاك قوة كامنة في نفسه؛ إمَّا أن يُوجهها للخير، وإما أن يوجهها للشر، ولا ينفعه يوم القيامة إلا ما قَدَّمه من أعمال صالحة في هذه الحياة صار قلبه بها سليمًا؛ كما قال الله سبحانه وتعالى عن الخليل إبراهيم عليه السلام:{وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 87 - 89].

فعلى حسب حال المؤمن هنا من التنافس في فعل الخيرات، والمسارعة إلى مغفرة الله- سيكون حاله في الآخرة على الصراط؛ فمن استقام على صراط الله (منهجه) في الدنيا- ثَبَّته الله على الصراط المنصوب على ظهر جهنم؛ فاللهم ثَبِّتنا وسَلِّمنا دنيا وآخرة.

ص: 202

قال المصنف رحمه الله:

«فإذا عَبَرُوا عليه وُقفوا على قَنْطَرة بين الجَنَّة والنَّار؛ فيُقتص

لبعضِهم مِنْ بَعْضٍ؛ فإذا هُذِّبُوا ونُقُّوا أُذِن لهم في دُخول الجَنَّة.

وأَوَّلُ مَنْ يَستفتحُ بابَ الجَنَّة مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وأَوَّلُ مَنْ يدخلُها من الأمم أُمَّتُه».

الشرح

إذا مَضَى المؤمنون على الصِّراط، ونَجَوْا من السُّقوط في النار- وُقفوا على قَنْطَرة بين الجَنَّة والنَّار؛ للقصاص.

قال الإمام القرطبيُّ: «ولا يَخلص منه- أي: الصراط- إلا المؤمنون الذين عَلِم اللهُ منهم أنَّ القِصاص لا يَستنفد حسناتهم حُبِسوا على صِراط آخر لهم، ولا يَرجع إلى النار من هؤلاء أحدٌ إن شاء الله؛ لأنَّهم قد عَبروا الصِّراط الأول المَضروب على مَتْنِ جهنم الذي يَسقط فيها مَنْ أَوْبَقَه ذَنْبُه، وأَرْبَى على الحَسَنات بالقِصاص جُرْمُه»

(1)

.

وقد دلَّ على القصاص بعد المرور على الصراط: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خَلص المؤمنون من النار حُبِسوا بقنطرةٍ بين الجنة النار؛ فَيَتَقَاصُّون مَظالم كانت بينهم في الدُّنيا حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبُوا أُذن لهم بدخول الجَنَّة، فوالذي نفسُ محمَّدٍ بيدِه لَأَحَدُهم بِمَسْكَنِه في الجنة أَدَلُّ بمنزلِه كان في الدُّنيا»

(2)

.

(1)

«التذكرة» (ص 294).

(2)

أخرجه البخاري (2440).

ص: 203

ومعنى قوله: «فيُقتص لبعضِهم من بعض» - كما قال العلَّامةُ ابنُ عُثَيمين رحمه الله: أن «هذا القِصاص غير القِصاص الأَوَّل الذي في عرصات القيامة؛ لأنَّ هذا قصاصٌ أَخَصُّ لأجل أن يذهب الغِلُّ والحِقد والبغضاء التي في قلوب الناس، فيكون هذا بمنزلة التنقية والتطهير، وذلك لأنَّ ما في القلوب لا يَزول بمجرد القِصاص، فهذه القَنطرة التي بين الجنة والنار؛ لأجل تَنقية ما في القلوب حتى يدخلوا الجنة وليس في قلوبهم غِلٌّ، كما قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]»

(1)

.

ومعنى قوله: «هُذِّبُوا ونُقُّوا» ، أي: خُلِّصُوا من الآثام بِمُقَاصَصَة بعضِها ببعضٍ.

وقوله: «أُذن لهم في دخول الجنة» يعني أنَّهم سيَجدون أبواب الجنة مُغلقة، ولن يجرؤ أحد أن يستفتح باب الجنة، إلى أن يَشفع النبي صلى الله عليه وسلم في دخولها، ويدخل الجنة أمامهم؛ فيكون أول مَنْ يطلب أن تُفتح الجنة، وهذا من شفاعته الخاصَّة التي لا يُشاركه فيها مشاركٌ؛ فعن أنس رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أَوَّلُ النَّاس يَشفع في الجَنَّة، وأنا أكثرُ الأنبياء تَبَعًا»

(2)

، وعنه- أيضًا- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«آتِي بابَ الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازنُ: مَنْ أنتَ؟ فأقول: مُحَمَّدٌ. فيقول: بِكَ أُمِرْتُ لا أفتحُ لأحدٍ قَبْلَكَ»

(3)

.

فيكون النبي صلى الله عليه وسلم أَوَّلُ مَنْ يدخلُ الجنة، وتكون أُمَّته أول مَنْ يدخلُها من الأمم؛ كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ

(1)

«شرح الواسِطيَّة» (ص 520).

(2)

أخرجه مسلم (196).

(3)

أخرجه مسلم (197).

ص: 204

(1)

أخرجه البخاري (3486) ومسلم (855).

ص: 205

قال المصنف رحمه الله:

«وله في القيامة صلى الله عليه وسلم ثلاثُ شَفاعات:

أمَّا الشفاعة الأولى فَيَشفع في أهلِ المَوقف حتى يُقضى بينهم بعد أن يَتراجع الأنبياء (آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعِيسى ابن مريم) عن الشَّفاعة حتى تَنتهي إليه.

وأمَّا الشفاعةُ الثانية: فيَشفع في أهلِ الجَنَّة أن يَدخلوا الجَنَّة، وهاتان الشَّفاعتان خَاصَّتان له.

وأمَّا الشَّفاعة الثالثة: فيَشفع فيمن استحقَّ النار، وهذه الشفاعةُ له ولسائر النَّبيين والصِّدِّيقين وغيرهم، فيَشفع فِيمن استحقَّ النَّار أن لا يَدخلها، ويَشفع فيمن دَخَلَها أن يخرج منها.

ويُخرجُ اللهُ مِنْ النار أقوامًا بغير شفاعة، بل بفضلِه ورحمتِه، ويَبقى في الجنة فَضْلٌ عَمَّن دخلَها من أهل الدُّنيا؛ فيُنشئ اللهُ أقوامًا فيُدخلهم الجَنَّة.

وأصنافُ ما تضمنته الدَّارُ الآخرة من الحساب والثَّواب والعِقاب والجَنَّة والنار وتفاصيل ذلك مَذكورةٌ في الكتب المُنَزَّلة من السَّماء، والآثار من العِلم المَأثور عن الأنبياء، وفي العِلم المَوروث عن محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذلك ما يَشفي ويكفي؛ فَمَنْ ابتغاه وَجَدَه».

الشرح

ذكر المصنف رحمه الله هنا أنواع الشفاعات للنبي صلى الله عليه وسلم التي تكون في يوم القيامة، فقال: «وله في القيامة صلى الله عليه وسلم ثلاثُ شَفاعات:

أمَّا الشفاعة الأولى فتكون بعد أن يأتي أهل الموقف لآدم

ص: 206

فيعتذر عن الشفاعة لهم، ثم يأتون لنوح، ثم لإبراهيم، ثم لموسى، ثم لعِيسى ابن مريم، وكل واحد منهم يعتذر، ويدلهم عيسى عليه السلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتونه صلى الله عليه وسلم؛ فيَشفع لهم حتى يُقضى بينهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَجمع اللهُ النَّاسَ الأولين والآخرين في صَعيد واحدٍ يُسمعهم الدَّاعي وينفذهم البصر، وتَدنو منهم الشمسُ؛ فيَبلغ النَّاس من الغَمِّ والكرب ما لا يُطيقون ولا يَحتملون؛ فيقول النَّاس: أَلَا تَرَوْن ما قد بَلَغَكم؟ ألا تَنظرون مَنْ يشفعُ لكم إلى ربِّكم؟ فيقول بعضُهم لبعض: عليكم بآدم! فيَأتونه، فيقولون له: أنت أبو البَشر، خَلَقَك اللهُ بيدِه، ونفخ فيكَ مِنْ رُوحه، وأَمَر المَلائكة فَسجدوا لك، أَلَا تَرى ما نحن فيه؟ فيقول: إنَّ رَبِّي قد غَضِب اليوم غضبًا لم يَغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنَّه نهاني عن الشجرة فَعَصَيْتُه، نفسي، نفسي، نفسي! اذهبوا إلى نُوح. فيَأتون نوحًا فيقولون: يا نوحُ، إنَّك أَوَّلُ رسولٍ إلى أهل الأرض، فقد سَمَّاك اللهُ عبدًا شكورا؛ اشفع لنا إلى ربِّك، أَلَا تَرى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غَضَب الله، وإنَّه قد كانت لي دعوة دعوتُها على قومي؛ اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبيُّ الله وخليلُه من أهل الأرض؛ اشفع لنا إلى ربك، أَلَا ترى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله، وإني قد كَذبت ثلاث كذبات؛ اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسولُ الله، فَضَّلَك الله برسالتِه وبكلامِه على النَّاس؛ اشفع لنا إلى ربك، أَلَا ترى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله، وإني قد قتلتُ نَفْسًا لم أُومر بقتلِها؛ اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسولُ الله وكلمتُه إلى مريم ورُوح منه، وكَلَّمت النَّاس في المَهد صبيًّا؛ اشفع لنا إلى

ص: 207

ربِّك، أَلَا ترى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله، ولم يذكر ذنبًا، وكلهم يقولون كما قال آدم: نفسي، نفسي، نفسي! اذهبوا إلى محمَّد. فيأتون محمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فيقولون: يا محمَّد، أنتَ رسولُ الله وخاتم الأنبياء، وقد غَفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر؛ اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فأنطلقُ، فآتِي تحتَ العَرش، فأقعُ ساجدًا لربِّي عز وجل، ثُمَّ يَفتح اللهُ عليَّ مِنْ مَحامده وحُسن الثناء عليه شيئًا لم يَفتحه على أحدٍ قَبلي، ثم يقال: يا محمَّد، ارْفَع رأسَك، سَلْ تُعْطَه، واشفع تُشَفَّع

»، الحديث

(1)

.

وأمَّا الشفاعة الثانية؛ فيَشفع في أهل الجَنَّة أن يدخلوا الجنة.

وقد تقدم قريبًا الكلامُ على هذا النَّوع من شفاعته صلى الله عليه وسلم.

وهاتان الشَّفاعتان خَاصَّتان له.

وله صلى الله عليه وسلم كذلك من الشَّفاعات الخاصَّة به: شفاعته في تخفيف العذاب عن عَمِّه أبي طالب، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّه سَمع النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمه- فقال: «لعَلَّه تَنفعه شَفاعتي يوم القيامة، فيُجعل في ضَحضاح من النَّار يَبلغ كعبيه، يَغلي منه دماغه»

(2)

.

وأمَّا الشَّفاعة الثالثة فغير مُختصة به صلى الله عليه وسلم؛ بل له ولسائر النَّبيين والصِّدِّيقين وغيرهم؛ فيَشفع فِيمن استحقَّ النَّار أن لا يَدخلها، ويَشفع فيمن دَخَلَها أن يخرج منها؛ فعن أنسٍ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الكَبَائر مِنْ أُمَّتي»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194).

(2)

أخرجه البخاري (3885) ومسلم (210).

(3)

أخرجه أبو داود (4739)، والترمذي (2435)، وصححه الألباني في «المشكاة» (5598).

ص: 208

قال شيخُ الإسلامِ رحمه الله: «إنَّ أحاديثَ الشَّفاعة في أهل الكبائر ثابتةٌ مُتواترةٌ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد اتَّفق عليها السَّلفُ من الصَّحابة وتَابعيهم بإحسانٍ وأئمة المسلمين، وإنَّما نازع في ذلك أهلُ البِدع من الخوارج والمعتزلة ونحوهم»

(1)

.

وأما في حَقِّ غيره صلى الله عليه وسلم فقد روي عن أبي سعيد رضي الله عنه: «

فيقول الله عز وجل: شَفَعَتِ المَلائكةُ، وشَفَعَ النَّبِيُّون، وشَفَعَ المُؤمنون، ولم يَبق إلَّا أرحم الرَّاحمين

» الحديث

(2)

.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: «وقد ثَبَتَ بالسُّنَّة المُستفيضة، بل المتواترة، واتِّفاق الأمة أنَّ نبينا صلى الله عليه وسلم الشَّافع المُشَفَّع، وأنَّه يَشفع في الخلائق يوم القيامة، وأنَّ النَّاس يَستشفعون به يطلبون منه أن يَشفع لهم إلى ربِّهم، وأنَّه يَشفع لهم.

ثم اتَّفق أهلُ السُّنَّة والجَمَاعَة: أنَّه يَشفع في أهل الكبائر، وأنَّه لا يُخَلَّد في النار من أهل التَّوحيد أحدٌ.

وأمَّا الخوارج والمعتزلة فأنكروا شفاعتَه لأهل الكبائر، ولم يُنكروا شفاعته للمؤمنين، وهؤلاء مُبتدعة ضُلَّال، وفي تكفيرهم نِزَاعٌ وتَفصيلٌ»

(3)

.

(1)

«مجموع الفتاوى» (4/ 309).

(2)

أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183) واللفظ له.

(3)

«مجموع الفتاوى» (1/ 108).

ص: 209

قال المصنف رحمه الله:

«ويُخرجُ اللهُ مِنْ النار أقوامًا بغير شفاعة، بل بفضلِه ورحمتِه، ويَبقى في الجنة فَضْلٌ عَمَّن دخلَها من أهل الدُّنيا؛ فيُنشئ اللهُ أقوامًا فيُدخلهم الجَنَّة.

وأصنافُ ما تضمنته الدَّارُ الآخرة من الحساب والثَّواب والعِقاب والجَنَّة والنار وتفاصيل ذلك مَذكورةٌ في الكتب المُنَزَّلة من السَّماء، والآثار من العِلم المَأثور عن الأنبياء، وفي العِلم المَوروث عن محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذلك ما يَشفي ويكفي؛ فَمَنْ ابتغاه وَجَدَه».

الشرح

مِنْ عظيم فضل الله على عباده ورحمتِه بهم: أنه لا يُخَلَّد في النَّار مُوَحِّد؛ قال الله جل جلاله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]، وجاء في حديثِ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «

فَيقول اللهُ: شَفَعَت الملائكةُ، وشَفَع النَّبِيُّون، وشَفَع المُؤمنون، ولم يَبْقَ إلَّا أرحمُ الرَّاحمين؛ فيَقبض، فيُخرج منها قومًا لم يَعملوا خيرًا قط»

(1)

.

ثم قال المصنف رحمه الله: «ويَبقى في الجَنَّة فَضْلٌ عَمَّن دَخَلَها مِنْ أهل الدُّنيا فيُنشئ اللهُ أقوامًا فيُدخلهم الجَنَّة» .

وهذا- أيضًا- مما يدلُّ على عظيمِ سعة رحمة الله، وعظيم فضله وإحسانه، وأنَّ رحمتَه سَبَقت غضبَه؛ إذ يُنشئ أقوامًا لِيُسكنهم

(1)

أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183) واللفظ له.

ص: 210

فضلَ الجَنَّة، ولا يُنشئ آخرين للنار التي تقول: هل من مزيد؟ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا تَزال جَهنم يُلقى فيها وتقول: هل مِنْ مزيد؟ حتى يَضع ربُّ العِزَّة فيها قَدَمَه؛ فيَنزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، بعِزَّتك وكرمك. ولا يَزال في الجنَّة فَضْلٌ حتى يُنشئ الله لها خلقًا؛ فيُسكنهم فضلَ الجَنَّة»

(1)

.

ثم قال: «وأصنافُ ما تضمنته الدَّارُ الآخرة من الحساب والثَّواب والعِقاب والجَنَّة والنار، وتفاصيل ذلك مَذكورةٌ في الكتب المُنَزَّلة من السَّماء» .

فلا شكَّ أنَّ النصوص في تفاصيل ذلك كثيرة جدًّا، بل غالبًا ما يأتي الإيمانُ بالله إلا مقرونًا بالإيمان باليوم الآخر؛ لأن الدار الآخرة هي دار القرار، ودار الخلود، وينقسم العباد فيها إما إلى جنة أبدًا، وإمَّا إلى نار أبدًا، بعد أن يُخرج من النار مَنْ شاء الله بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبشفاعة الشافعين، ثم بشفاعته سبحانه وهو أرحم الراحمين؛ فيُخرج منها قومًا لم يَعملوا خيرًا قط، كما سبق في الحديث، ويُخرج منها مَنْ كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يَدخل أهلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وأهلُ النَّارِ النَّارَ» ، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا مِنْ النار مَنْ كان في قلبه مِثقال حَبَّة مِنْ خردل من إيمان؛ فيُخرجون منها قد اسَوَدُّوا، فيُلقون في نهر الحياة؛ فينبتون كما تَنبت الحِبَّة في جانب السَّيل، ألم تر أنَّها تَخرج صفراء ملتوية»

(2)

.

وتفاصيل أهوال اليوم الآخر مَذكورةٌ في الكتب المُنَزَّلة من

(1)

أخرجه البخاري (7384) ومسلم (2848).

(2)

أخرجه البخاري (22).

ص: 211

السَّماء، والقرآن العظيم آخر الكتب المنزلة من أوله إلى آخره يدعو إلى الإيمان باليوم الآخر، ويُقيم الأدلة الكثيرة والمتنوعة على حدوثه، ويُفَصِّل فيما سيكون فيه من أهوال جِسام.

وكذلك في الآثار من العِلم المَأثور عن الأنبياء، وفي العِلم المَوروث عن محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذلك ما يَشفي ويكفي؛ مما يجعلك ترى الجنة والنار كأنها رأي عين، فتعرف عرصات ومواقف ذلك اليوم، ثم منازل أهل الجنة ومنازل أهل النار، وما يكون فيهما.

ولكن شيخ الإسلام يذكر هنا عقيدة مختصرة لجملة ما سيكون في اليوم الآخر، وإلا فالتفاصيل كثيرة، وتتسع لها المجلدات.

ص: 212

قال المصنف رحمه الله:

«وتُؤمن الفِرقةُ النَّاجيةُ (أهل السُّنَّة والجَمَاعَة) بالقَدَر؛ خَيره وشَرِّه.

والإيمانُ بالقَدَر على دَرجتين؛ كل درجة تتضمن شيئين:

فالدَّرجة الأولى: الإيمانُ بأنَّ اللهَ- تَعالى عليمٌ بما الخلقُ عاملون بعلمِه القديم الذي هو مَوصوفٌ به أزلًا وأبدًا، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال.

ثم كَتَبَ في اللوح المَحفوظ مقاديرَ الخَلْقِ، فَأَوَّلُ ما خَلَقَ اللهُ القَلمَ قال له: اكتب. قال: ما أكتبُ؟ قال: اكتب ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة؛ فما أصاب الإنسانَ لم يكن لِيُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ جَفَّت الأقلامُ، وطُويت الصُّحف، كما قال تَعَالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، وقال تَعَالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].

وهذا التقديرُ التَّابع لِعلمه- سبحانه- يكون في مَوَاضِعَ جُملة وتفصيلًا. فقد كَتَبَ في اللَّوح المَحفوظ ما شاء، وإذا خَلَقَ جَسَدَ الجَنين قبل نَفخ الرُّوح فيه بَعَثَ إليه مَلَكًا؛ فيُؤمر بأربعِ كلماتٍ، فيقال له: اكْتُب رِزْقَه وأجلَه وعَمَلَه وشَقِيٌّ أو سَعِيدٌ، ونحو ذلك.

فهذا التَّقديرُ قد كان يُنكره غُلاة القدريَّة قديمًا، ومُنكروه اليوم قليلٌ».

الشرح

هذا ما يتعلق بالإيمان بالقدر خيره وشره، وهو أصلٌ مِنْ أُصُول اعتقادِ أهل السُّنَّة والجَمَاعَة، وركنٌ مِنْ أركان الإيمان.

ص: 213

قال العلَّامة ابنُ القيِّم رحمه الله: «إنَّ أهمَّ ما يَجب معرفتُه على المُكَلَّف النَّبيل فضلًا عن الفاضل الجليل ما وَرَدَ في القضاء والقَدَر والحِكمة والتَّعليل، فهو مِنْ أَسْنَى المقاصد، والإيمانُ به قُطْب رَحَى التَّوحيد ونِظامه، ومبدأُ الدِّين المُبين وخِتامه، فهو أحدُ أركان الإيمان وقاعدة أساس الإحسان التي يَرجع إليها ويَدور في جميع تصاريفه عليها، فالعدلُ قِوَام المُلك، والحِكمة مَظهر الحمد، والتَّوحيد مُتضمن لنهاية الحِكمة وكمال النِّعمة، ولا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له المُلك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ فبالقدرة والحكمة ظَهَر خَلْقُه وشَرعه المُبين؛ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]»

(1)

.

والقَدَر في اللغة: مَصدر قَدَرْتُ الشَّيء إذا أَحَطْتُ بمقداره.

وهو عند أهل السُّنَّة والجَمَاعَة: قُدرة الله وعِلمه ومَشيئته وخَلقه وكتابته، فلا تتحرك ذَرَّةٌ فما فوقها إلا بمشيئته وعِلمه وقُدرته

(2)

.

ومن أدلة القَدَر:

قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وقوله جل وعلا:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقوله عز وجل:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 1 - 2].

وحديثُ جِبريل لمَّا سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«أن تُؤمن باللهِ ومَلائكته وكُتُبه ورُسله واليوم الآخر، وتُؤمن بالقَدَر؛ خَيره وشَرِّه»

(3)

.

(1)

مُقَدِّمة كتابه «شِفاء العَليل» (ص 3).

(2)

انظر: «شفاء العليل» لابن القَيِّم (ص 114).

(3)

أخرجه البخاري (50) من حديث أبي هريرة ?، ومسلم (8) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ص: 214

وقوله رحمه الله: «الإيمانُ بالقَدَر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين» - بَيَّن فيه مَراتب القَدَر الأربع التي هي: (العِلم والكتابة والمَشيئة والخَلْق).

فذكر هنا مراتب القَدَر، وجمع هنا بين مرتبتين؛ مرتبة العلم ومرتبة الكتابة؛ باعتبار أنهما متلازمتان، كما أنَّه بالدرحة الثانية جمع بين الخلق والمشيئة، فالقسمة إما ثنائية وإمَّا رباعية، فإذا قلت: رباعية، فتقول:(العلم، الكتابة، الخلق، المشيئة).

وإذا قلت ثنائية، فتقول:(العلم، الكتابة)، أي: عَلِم سبحانه وتعالى ذلك وكَتَبَه، ثم خَلَقَه وشاءه.

فقال: «الإيمانُ بالقَدَر على دَرجتين؛ كل درجة تتضمن شيئين:

فالدَّرجة الأولى: الإيمانُ بالعلم والكتابة»؛ فالله- تَعالى علم الأشياء قبل كونها، ويعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما أخبر- مثلًا- عن شأن أهل النار فقال:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]؛ فلو رُدُّوا إلى الدنيا فسيكون منهم عودة إلى ما نَهاهم الله عنه، وهذا لا يكون ولكنه لو كان فسيكون بهذه الحال، فالله سبحانه وتعالى علم الأشياء قبل كونها، وهو عليم بها أثناء كونها، وعليم بما سيكون، وعليم بما لم يكن لو كان كيف يكون، فسبحان مَنْ وَسِع علمُه كل شيء!

فهو عليمٌ بما الخلقُ عاملون بعلمِه القديم الذي هو مَوصوفٌ به أزلًا وأبدًا؛ ونحن نؤمن أن الله متصف بجميع الصفات أزلًا وأبدًا.

وغُلاة القدرية- كما أشار المصنف- يقولون والعياذ بالله-: إن الله لا يعلم أنَّ العبد سيَعمل هذا العمل إلَّا عند وقوعه. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

ص: 215

والله سبحانه وتعالى عالمٌ بكل شيء أزلًا، قال عبادة بن الصامت لابنه: يا بُني، إنَّك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«إنَّ أول ما خَلق اللهُ القلم، فقال له: اكتب. قال: ربِّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كلِّ شيء حتى تقوم الساعة» ، يا بُني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«مَنْ مات على غير هذا فليس مِنِّي»

(1)

.

قال المصنف: «وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال» .

فمقادير كلِّ شيء حتى قيام السَّاعة قد كُتبت في اللوح المحفوظ.

وعن ابن عباس رضي الله عنه ما، قال:«كنتُ خلفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: «يا غلام، إني أُعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يَضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللهُ عليك، رُفِعَت الأقلام وجَفَّت الصحف»

(2)

.

فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ فهذا سابق في القدر، سابق في علم الله، والنصوص في العلم والكتابة- بحمد الله تعالى- كثيرة وواضحة في الدلالة على هاتين المرتبتين: العلم والكتابة.

(1)

أخرجه أبو داود (4700) والترمذي (2155)، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (2645).

(2)

أخرجه أحمد في «المسند» (1/ 293)(2669)، والترمذي (2516)، وصححه الألباني في «مشكاة المصابيح» (5302).

ص: 216

أنواع التقدير:

ذكر ابنُ القيِّم أقسامَ التَّقدير الخمسة، وأَوْضَحَها بأدلَّتِها، وهي باختصار:

التقدير الأول: تقدير المَقادير قبل خَلق السَّماوات والأرض، وهو التقدير العام الشَّامل لكل شيءٍ في اللوح المحفوظ، وقد سبق ذِكر بعض الأدلة عليه.

التقدير الثاني: تقدير الرَّبِّ- تبارك وتعالى شقاوة العِباد وسَعادتهم وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم قبل خَلْقِهم، وهو تقديرٌ ثَان بعد التقدير الأَوَّل، فعن عِمران بن حُصين قال:«قيل: يا رسول الله، عُلِمَ أهلُ الجَنَّة من أهل النَّار؟ فقال: «نَعَمْ» . قيل: فَفِيم يعملُ العاملون؟ قال: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له»

(1)

.

التقدير الثالث: المُتَعَلِّق بالجنين وهو في بطن أُمِّه، وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حَدَّثنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو الصَّادقُ المَصدوقُ: «إنَّ أحدَكم ليُجمع خَلْقُه في بَطن أُمِّه أربعين يومًا، ثُمَّ يكون في ذلك علقةً مثل ذلك، ثُمَّ يكون في ذلك مُضغةً مثل ذلك، ثُمَّ يُرسل اللهُ إليه المَلك؛ فيَنفخ فيه الرُّوح، ويُؤمر بأربع كلماتٍ؛ بكتبِ رزقِه وأجلِه وعملِه وشقي أو سعيد، فوالذي لا إلهَ غيرُه، إنَّ أحدَكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتَّى ما يكون بينه وبينها إلَّا ذراع فيَسبق عليه الكتابُ فيَعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإنَّ أحدَكم لَيعمل بعمل أهلِ النَّار حتى ما يكون بينه وبينها إلَّا ذِرَاع فيَسبق عليه الكتابُ فيَعمل بعمل أهلِ الجَنَّة فيَدخلها»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (7551) ومسلم (2649) واللفظ له.

(2)

أخرجه البخاري (3208) ومسلم (2643).

ص: 217

التقدير الرابع: التقدير في ليلة القَدْر؛ قال الله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 1 - 5].

قال أبو عبد الرَّحمن السُّلَمِيُّ: «يُقَدِّر أمرَ السَّنَة كلها في ليلة القَدْر» ، وهذا هو الصَّحيح: أنَّ القَدْر مَصدر قَدَرَ الشيء يَقْدُرُهُ قَدْرًا، فهي ليلة الحُكم والتقدير.

التقدير الخامس: التقدير اليَومي؛ قال تَعَالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].

قال مجاهدٌ والكلبيُّ وعُبيد بن عمير وأبو ميسرة وعطاء ومقاتل: «مِنْ شأنِه: أن يُحيي ويُميت، ويَرزق ويَمنع، ويَنصر، ويُعزُّ ويُذلُّ، ويَفك عانيًا، ويَشفي مريضًا، ويجيب داعيًا، ويُعطي سائلًا، ويَتوب على قومٍ، ويكشف كربًا، ويَغفر ذنبًا، ويضع أقوامًا، ويَرفع آخرين. دخل كلامُ بعضهم في بعض

».

إلى أن قال ابن القَيِّم رحمه الله: «فهذا تقديرٌ يوميٌّ، والذي قبله تقديرٌ حَوْلِيٌّ، والذي قبلَه تقديرٌ عُمري عند تَعَلُّق النَّفس به، والذي قبله كذلك عند أَوَّل تخليقه، وكونه مضغة، والذي قبله تقديرٌ سَابق على وجوده، لكن بعد خلق السماوات والأرض، والذي قبله تقديرٌ سابقٌ على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكل واحد من هذه التقادير كالتفصيل من التقدير السابق، وفي ذلك الدليل على عِلم الرَّبِّ وقُدرته وحكمته، وزيادة التعريف لملائكته وعباده المؤمنين بنفسِه وأسمائه»

(1)

.

(1)

«شفاء العليل» (ص 31 - 49).

ص: 218

وقولُ شيخِ الإسلامِ رحمه الله هنا: «فهذا التقديرُ- أي: تقدير العِلم والكتابة- قد كان يُنكره غُلَاة القدرية قديمًا، ويقولون: إنَّ الأمرَ أُنف؛ أي: أنَّ اللهَ لا يَعلم أفعالَ العباد إلا بعد وجودها.

قال الإمامُ النَّوويُّ رحمه الله: «واعلم أنَّ مَذهبَ أهلِ الحَقِّ إثباتُ القَدَر، ومعناه: أنَّ الله- تبارك وتعالى قَدَّر الأشياء في القِدَم، وعَلِمَ- سبحانه- أنَّها ستقع في أوقاتٍ معلومة عنده سبحانه وتعالى، وعلى صفاتٍ مخصوصة؛ فهي تقع على حسب ما قَدَّرها سبحانه وتعالى، وأنكرت القدرية هذا، وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يُقَدِّرها، ولم يتقدم علمُه سبحانه وتعالى بها، وأنَّها مُستأنفة العلم، أي: إنَّما يَعلمها- سبحانه- بعد وقوعِها، وكذبوا على الله سبحانه وتعالى وجَلَّ عن أقوالهم الباطلة علوًّا كبيرًا.

وسُمِّيت هذه الفرقةُ قدريَّة؛ لإنكارهم القَدَر؛ قال أصحابُ المَقالات من المُتَكَلِّمين: وقد انقرضت القدريةُ القائلون بهذا القول الشَّنيع الباطل، ولم يَبق أحدٌ من أهل القِبلة عليه، وصارت القدريةُ في الأزمان المتأخرة تَعتقد إثبات القَدَر، لكن يقولون: الخير من الله، والشَّرُّ مِنْ غيره»

(1)

.

ص: 219

قال المصنف رحمه الله:

«وأمَّا الدرجة الثانية فهي مَشيئته النافذة وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأنَّ ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

وأنَّه ما في السموات وما في الأرض مِنْ حركة ولا سُكون إلَّا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في مُلكه إلا ما يُريد، وأنه- سبحانه- على كلِّ شيء قدير مِنْ المَوجودات والمعدومات؛ فمَا مِنْ مخلوقٍ في الأرض ولا في السَّماء إلا الله خالقه سبحانه، لا خالقَ غيرُه، ولا رَبَّ سِواه.

ومع ذلك فقد أَمَرَ العِباد بطاعته وطاعة رسوله، ونَهاهم عن مَعصيته، وهو- سبحانه- يُحِبُّ المُتَّقِين والمُحسنين والمُقسطين، ويَرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات، ولا يُحِبُّ الكافرين، ولا يَرضى عن القوم الفاسقين، ولا يَأمر بالفحشاء، ولا يَرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد.

والعِبَادُ فاعلون حقيقة، واللهُ خالقُ أفعالِهم، والعبدُ هو المُؤمن والكافر، والبَرُّ والفاجر، والمُصَلِّي والصَّائم، وللعباد قُدرة على أعمالِهم، ولهم إرادة، واللهُ خالقُهم وخَالق قُدرتهم وإرادتهم، كما قال تَعَالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29، 28].

وهذه الدرجةُ من القَدَر يُكَذِّب بها عامَّةُ القَدرية الَّذين سَمَّاهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مجوسَ هذه الأُمَّة، ويَغلو فيها قومٌ من أهل الإثبات حتى سَلَبُوا العبدَ قُدرتَه واختيارَه، ويُخرجون عن أفعالِ الله وأحكامِه

ص: 220

حِكَمَها ومَصَالِحَها».

الشرح

هذه الدرجة الثانية وهي كذلك قد تَضَمَّنت مَرتبتين من مراتب القَدَر، وهما:(المشيئة والخَلْق).

أمَّا المَشيئة، فقد قال ابنُ القيِّم رحمه الله: «المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة المَشيئة:

وهذه المرتبةُ قد دلَّ عليها إجماعُ الرُّسل مِنْ أَوَّلهم إلى آخرهم، وجميع الكُتُب المُنزلة من عند اللهِ، والفِطرة التي فَطَرَ اللهُ عليها خلقه، وأدلة العقول والبيان، وليس في الوجود مُوجب ومُقتض إلا مشيئة الله وحده؛ فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، هذا عمومُ التوحيد الذي لا يقوم إلا به.

والمسلمون مِنْ أَوَّلِهم إلى آخرهم مُجمعون على أنَّه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا يقع في مُلكه إلا ما يريد حتى وإن كان مخالفًا لأمره الشرعي، فهو سبحانه وتعالى أراد أن يَمتحن عباده، فجعل لهم إرادة وقدرة؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملًا؛ فمن آمن واستقام فاز، ومن كفر وعاند فقد خسر خسرانًا مبينًا؛ فتُجزى كل نفس بما عملت، فالعِبَادُ فاعلون حقيقة، واللهُ خالقُ أفعالِهم، وللعباد قُدرة على أعمالِهم، ولهم إرادة، واللهُ خالقُهم وخَالق قُدرتهم وإرادتهم، كما قال تَعَالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29، 28]، وقد يريد العبدُ الشَّرَّ، ولكن الله لا يُمكنه منه؛ فكلُّ شيء داخل تحت إرادته ومَشيئته، ولا يَخرجُ العباد أبدًا في كل أمورهم عن تلك الإرادة والمشيئة؛ قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ

ص: 221

الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، وقال سبحانه:{كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40]، وقال جل وعلا:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]»

(1)

.

وجاء في حديث حذيفة بن أسيد في شأن الجَنِين: «فَيَقضي ربُّك ما يشاءُ، ويَكتبُ المَلَكُ»

(2)

.

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم:«اشْفَعُوا تُؤجروا، ويَقضي الله على لسان نَبِيِّه ما يشاء»

(3)

.

أنواع الإرادة:

لله- جل وعلا- إرادتان: كونية قدرية، ودينية شرعية.

قال ابنُ القيم رحمه الله: «وهاهنا أمرٌ يَجب التَّنبيه عليه، وبمعرفته تزول إشكالات كثيرة تَعرض لمن لم يُحِط به عِلْمًا، وهو أن الله- سبحانه- له الخلقُ والأمرُ، وأمرُه- سبحانه- نوعان: أمر كَوني قَدَرِي، وأمر دِيني شَرعي.

فمشيئته- سبحانه- مُتعلقة بخلقه وأمره الكوني، وكذلك تتعلق بما يحب وبما يكره، كله داخل تحت مشيئته، كما خلق إبليس وهو يُبغضه، وخَلَقَ الشياطين والكفار والأعيان والأفعال المسخوطة له وهو يُبغضها، فمشيئته- سبحانه- شاملة لذلك كله.

وأمَّا محبته ورضاه فمُتعلقة بأمره الدِّيني وشَرعه الذي شَرَعَه

(1)

انظر: «شفاء العليل» (ص 93) بتصرف واختصار.

(2)

أخرجه مسلم (2645).

(3)

أخرجه البخاري (1432).

ص: 222

على أَلْسِنة رُسلِه، فما وُجد منه تَعَلَّقَت به المحبةُ والمشيئةُ جميعًا فهو محبوبٌ للرَّبِّ، واقعٌ بمشيئته؛ كطاعات الملائكة والأنبياء والمؤمنين، وما لم يُوجد منه تَعَلَّقت به محبته وأمرُه الدِّيني، ولم تتعلق به مشيئته، وما وُجد من الكفر والفسوق والمعاصي تَعَلَّقت به مشيئتُه، ولم تتعلق به محَبَّتُه، ولا رِضاه ولا أمره الدِّيني، و ما لم يُوجد منها لم تتعلق به مشيئته ولا محبته، فلفظ المشيئة كونيٌّ، ولفظ المَحَبَّة دينيٌّ شرعيٌّ، ولفظ الإرادة ينقسم إلى إرادة كونية؛ فتكون هي المشيئة، وإرادة دينية؛ فتكون هي المحبة.

وإذا عرفت هذا فقوله تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، وقوله:{لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، وقوله:{وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] لا يناقض نصوص القدر والمَشيئة العامة الدَّالة على وقوع ذلك بمشيئته وقضائه وقدره؛ فإنَّ المَحَبَّةَ غيرُ المَشيئة، والأمرَ غيرُ الخلقِ، ونظير هذا: الأمر؛ فإنه نوعان: أمر تكوين، وأمر تشريع، والثاني قد يُعصى ويُخالف بخلاف الأول».

إلى أن قال رحمه الله: «فسبحانه أن يكون في مَملكته ما لا يشاءُ أو أن يشاء شيئًا فلا يكون، وإن كان فيها ما لا يُحِبُّه ولا يَرضاه، وإن كان يحبُّ الشيءَ فلا يكون لِعَدم مشيئته له، ولو شاءه لَوُجِد»

(1)

.

فالعبودية لله نوعان:

الأَوَّل: عبوديَّة عامَّة، وهي عبودية القهر والملك لجميع الخلق، كما في قوله تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].

الثاني: عبودية خاصَّة، وهي عبودية الشرع من الإيمان

(1)

«شفاء العليل» (ص 105، 106).

ص: 223

والطاعة؛ كما في قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].

وتَختلف الإرادتان في مُوجبهما، وفي مُتَعَلقهما:

ففي المُتعلق: الإرادة الكونية تتعلق فيما وَقَعَ سواء أَحَبَّه أم كَرِهَه.

والإرادةُ الشرعيَّةُ تتعلق فيما أَحَبَّه سواء وَقَعَ أم لم يقع.

وفي موجبهما: الإرادة الكونية يتعين فيها وقوع المُراد، والإرادة الشرعية لا يتعين فيها وقوع المراد، وعلى هذا يكون قول المؤلف:«ولا يكون في مُلْكِه ما لا يُريد» : يعني به: الإرادة الكونية.

ثم قال: «وأنه- سبحانه- على كلِّ شيء قدير مِنْ المَوجودات والمعدومات؛ فمَا مِنْ مخلوقٍ في الأرض ولا في السَّماء إلا الله خالقه سبحانه، لا خالقَ غيرُه، ولا رَبَّ سِواه» .

فهنا يردُّ شيخ الإسلام على القدرية القائلين: إنَّ العبدَ مُستقلٌّ بعمله، وأنَّ اللهَ ليس بقادرٍ على فعله.

أي: أنَّه ما من شيءٍ موجود أو معدوم إلا واللهُ قادرٌ عليه، قال تَعَالى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، وقال تَعَالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [فاطر: 44].

وكلمة «مخلوق» نكرةٌ في سياق النفي تُفيد العموم؛ فما مِنْ شيء صغر أم كبر إلا والله- سبحانه- وحده المُنفرد بخلقه، قال جل جلاله:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وقال سبحانه:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، ومِن ذلك أنَّه خَلَقَ العِباد وصفاتهم

ص: 224

وأعمالهم؛ قال تَعَالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].

ثم قال: «ومع ذلك فقد أَمَرَ العِباد بطاعته وطاعة رسوله، ونَهاهم عن مَعصيته، وهو- سبحانه- يُحِبُّ المُتَّقِين والمُحسنين والمُقسطين» .

فلا تعارضَ بين ما أراده سبحانه وتعالى كونًا وقدرًا وبين ما أراده دينًا وشرعًا.

فما أراده سبحانه وتعالى كونًا وقدرًا قد يحبه ويرضاه وقد لا يحبه ولا يرضاه، وما أراده دينًا وشرعًا فهذا متعلق بمحبته؛ لأنه- سبحانه- أَمَرَ عبادَه بطاعته، ونَهاهم عن معصيته.

وعليه، فلا تَعارض بين تقديرِه للمعاصي وبُغضِه لها.

وليس لأحدٍ أن يَحْتَجَّ بالقدر على ارتكاب المنهيات وترك الأوامر.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وليس لأحدٍ أن يَحتج بالقَدَر على الذَّنب باتِّفاق المُسلمين وسائر أهل المِلل وسائر العُقلاء، فإنَّ هذا لو كان مقبولًا لأمكن كلُّ أحدٍ أن يفعل ما يَخطر له مِنْ قَتْل النُّفوس، وأَخْذ الأموال، وسائر أنواع الفساد في الأرض، ويَحتج بالقدر، ونَفْس المُحتج بالقَدَر إذا اعتُدي عليه، واحْتَجَّ بالقدر المُعتدي لم يَقبل منه، بل يَتناقض، وتناقض القول يَدُلُّ على فسادِه، فالاحتجاجُ بالقدر معلومُ الفَساد في بداءة العقول»

(1)

.

وقال: «وأما القدر، فإنه لا يَحتج به أحدٌ إلا عند اتِّباع هَوَاه، فإذا فَعَلَ فِعْلًا مُحَرَّمًا بمجرد هواه وذوقه وَوَجْدِه من غير أن يكون له

(1)

«مجموع الفتاوى» (8/ 179).

ص: 225

علم بحسن الفعل ومصلحته استند إلى القَدَر، كما قال المشركون:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، وقال تَعَالى:{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149].

فبين أنَّهم ليس عندهم علمٌ بما كانوا عليه من الدِّين، وإنما يتبعون الظنَّ».

إلى أن قال: «والعبدُ مَأمور أن يَصبر على المَقدور ويطيع المأمور، وإذا أذنب استغفر، كما قال تَعَالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]، وقال تَعَالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11].

قال طائفة من السَّلف: هو الرَّجل تُصِيبُه المُصيبة فيَعلم أنها من الله فَيَرْضَى ويُسَلِّم.

فَمَنْ احتجَّ بالقَدَر على ترك المأمور وجَزِع مِنْ حُصول ما يكرهه من المَقدور- فقد عَكَس الإيمان والدِّينَ، وصار من حِزب المُلحدين المنافقين، وهذا حالُ المُحتجين بالقَدَر»

(1)

.

ثم قال المصنف: «وهذه الدرجةُ من القَدَر يُكَذِّب بها عامَّةُ القَدرية الَّذين سَمَّاهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مجوسَ هذه الأُمَّة» .

أي: هذه الدَّرَجَةُ مِنَ القَدَر (درجةُ المَشِيئَةِ والخَلْق) - يُكَذِّبُ بها عَامَّةُ القَدَرِيَّة النُّفَاة الذين يقولون: إن العبد يخلق فِعْلَ نَفْسِه بدون مشيئةِ الله وإرادتِه.

(1)

«مجموع الفتاوى» (2/ 324 - 326).

ص: 226

وقد سَمَّاهُم النَّبي صلى الله عليه وسلم مَجُوسَ هذه الأُمَّة؛ لمشابهتهم للمجوس الذين يُثْبِتُون خالقَين، هما: النُّور، والظُّلمة، فالنور عندهم خَلَقَ الخَيْرَ، والظلمة خلقتِ الشَّرَّ، فصاروا بذلك ثَنَوِيَّةً، وهؤلاء القدرية جعلوا خالقًا مع الله، فزعموا أن العبادَ يَخْلُقُونَ أَفْعَالهم بدون إرادةِ الله ومشيئته.

ثم قال رحمه الله: «ويَغْلُو فيها قومٌ مِنْ أهلِ الإِثْبَاتِ، حتى سَلَبُوا العبدَ قُدْرَتَهُ واخْتِيَارَهُ» ، والمراد بهم: الجبريَّةُ الذين جاوزوا الحدَّ في الإثباتِ، حتى جعلوا الفاعلَ حَقِيقَةً لفعل العبد خيرِه وشرِّه هو اللهُ، وزعموا أنَّ الفِعْلَ إنما نُسِبَ إلى العبد مَجازًا، وهو في الحقيقة مجبورٌ عليه؛ وليس له اختيار، كالرِّيشة في مهبِّ الرِّيح تحركها كيفما شاءت.

وهؤلاء هم الجهمية؛ أتباع جَهم بن صفوان، والمصنف لم يُسَمِّ الجهمية وحدهم؛ لأن الأشعرية كذلك معهم؛ لأن قول الأشعرية بالكسب في حقيقة الأمر هو نفس القول بالجَبْر.

ثم قال رحمه الله: «ويُخْرِجُونَ عن أفعالِ اللهِ وأحكامِه حِكَمَهَا ومَصَالِحَها» ؛ فعندما يُسلب العبد من قدرته وإرادته فهذا يعني أنه خُلق بلا حكمة ولا مصلحة، وهو كقول المشركين:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، وهذه ليست حجة؛ لأن الله جل وعلا قد جعل لهم إرادة وقدرة، فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي والقاعدة عند أهل السنة في ذلك:(الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب)، أي: يُحتجُّ بالقدر على المصائب التي تُصيب الإنسان؛ لأنه مأمور أن يقول عند نزول القضاء: قدر الله وما شاء فعل؛ قال صلى الله عليه وسلم: «وإن أصابَك شيءٌ

ص: 227

فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قُلْ: قَدر الله وما شاء فعلَ؛ فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان»

(1)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ويُذكر أنَّ رجلًا سرق فقال لعمر: سَرقتُ بقضاءِ الله وقَدَرِه! فقال له: وأنا أقطعُ يدَك بقضاء الله وقَدَره»

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم (2664) من حديث أبي هريرة ?.

(2)

«منهاج السنة النبوية» (3/ 234).

ص: 228

قال المصنف رحمه الله:

«ومن أصولِ أَهْلِ السُّنَّة والجَمَاعَة: أنَّ الدين والإيمانَ قولٌ وعملٌ؛ قولُ القلبِ واللسانِ، وعملُ القَلْبِ واللِّسانِ والجوارحِ، وأن الإيمانَ يزيدُ بالطَّاعةِ، وينقصُ بِالمَعْصِيَةِ.

وهُمْ مَعَ ذلك لا يُكَفِّرُونَ أهل القِبْلَةِ بمطلق المعاصي والكَبَائِر، كما يفعله الخَوَارِج.

بل الأُخُوَّةُ الإيمانيَّةُ ثابتةٌ مع المعاصي، كما قال- سبحانه وتعالى في آية القِصَاصِ:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178]، وقال تَعَالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9، 10].

ولا يَسْلِبُونَ الفَاسِقَ المِلِّيَّ الإِسْلَامَ بالكُلِّيَّةِ، ولا يُخَلِّدُونَهُ في النَّارِ كما تَقُولُهُ المُعْتَزِلَةُ.

بل الفاسقُ يَدخل في اسم الإيمانِ، كما في قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].

وقد لا يدخل في اسمِ الإيمانِ المُطْلَق، كما في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2].

وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وهو مُؤْمِنٌ، ولا يسرقُ السَّارِقُ حين يَسْرِقُ وهو مؤمنٌ، ولا يَشْرَبُ الخَمْرَ حين يَشْرَبُهَا وهو

ص: 229

مؤمنٌ، ولا يَنْتَهِب نُهْبَةً ذات شَرَفٍ يرفع النَّاسُ إليه فيها أبصارَهم حين يَنْتَهِبُهَا وهو مؤمنٌ».

ونقول: هو مؤمنٌ ناقصُ الإيمانِ، أو مؤمنٌ بإيمانِه، فاسقٌ بكبيرتِه، فلا يُعطى الاسمَ المطلقَ، ولا يُسلَب مطلقَ الاسْم».

الشرح

بعد أن بَيَّن المصنف رحمه الله ما يتعلق بأركان الإيمان- شرع هنا في بيان ما يتعلق بما يُسَمِّيه العلماءُ بابَ (الأسماء والأحكام).

تنبيه:

قد رتَّب العلماءُ مسائل الاعتقاد على حسب أولويتها عند أهل السنة؛ لذا ينبغي مراعاة هذا الترتيب؛ فمثلًا جعل شيخ الإسلام في هذه العقيدة بابَ (الأسماء والأحكام) متأخرًا عما يتعلق ببيان أركان الإيمان، وهذا ما جرى عليه العلماءُ.

ولكنَّ بعض أهل الباطل يريدون أن يخالفوا هذا الترتيب؛ فيقدموا ما يتعلق بباب (الأسماء والأحكام) على ما يتعلق ببيان أركان الإيمان، بما في ذلك الإيمان بالله؛ وهذا يُؤدي إلى أن يسارع المبتدئون إلى الخوض في مسائل (الأسماء والأحكام) دون أن يدرسوا ابتداء مسائل الاعتقاد الأساسية، وهذا من تلاعب أصحاب المناهج المخالفة المُتَّبعين لأهوائهم، وقد أدى بهم هذا إلى الانحراف في الفهم، وسوء التصور للمسائل، وإطلاق التكفير بدون ضوابط.

معنى الأسماء والأحكام:

الأسماء أي: ما يتعلق باسم الإيمان أو اسم الكفر، أو اسم الشرك أو اسم النفاق، ونحو ذلك.

ص: 230

وأمَّا الأحكام فهي المُترتبة على دخول العبد في هذه الأسماء، وما يترتب على خروجه منها.

قال المصنف رحمه الله: «ومن أصولِ أَهْلِ السُّنَّة والجَمَاعَة: أنَّ الدين والإيمانَ قولٌ وعملٌ؛ قولُ القلبِ واللسانِ، وعملُ القَلْبِ واللِّسانِ والجوارحِ، وأن الإيمانَ يزيدُ بالطَّاعةِ، وينقصُ بِالمَعْصِيَةِ» .

مِنْ المعلوم: أنَّ أهل السنة يرون أن الإيمان قول وعمل؛ قول القلب وقول اللسان، وعمل القلب وعمل اللسان، وعمل الجوارح، ويريدون بقول القلب: التصديق الذي هو العلم.

والعقيدة يُراد بها الباطن، والباطن في أصله هو مجموع الأمرين؛ أي: مجموع الفِكر والنَّظر الذي يكون في العقل، ومجموع الإرادة والعمل الذي يكون في الصَّدر، فلا بد للقلب من واجبين هما:(جانب العلم، وجانب العمل)، ففي باب الإيمان لا بد من العلم بالله، وهذا قول القلب. ولا بد من عمل القلب الذي هو (الإقرار والانقياد)، ومن ذلك: الحُب والرَّجاء والخوف والتقوى والإنابة

وكالإيمان بكتاب الله؛ فهو إمَّا أخبار وإما أوامر، فالأخبار حقُّها التصديق، والأوامر حقُّها العمل.

وعليه لكي نكون مؤمنين بالله: أن نكون مُصَدِّقين أوَّلًا بما أخبر، ثم مُتَّبعين لما أَمَرَ سبحانه وتعالى.

ونجمع بين قول القلب الذي هو العِلم، وقول اللسان الذي هو النُّطق بالشهادتين.

وقد تعارف العلماء على أن المقصود بقول اللسان: هو النطق بالشَّهادتين، كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أن أُقاتل الناسَ حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمَن قال: لا إله إلا الله، فقد عَصم مِنِّي

ص: 231

نفسَه ومالَه إلا بحقِّه، وحسابُه على الله»

(1)

.

وعمل القلب: هو الأعمال القلبية التي مجموعها (الإقرار والانقياد)، ومن ذلك الحب والخوف والرجاء والإنابة والتقوى

وعمل اللسان: الطاعات اللسانية من ذِكر الله وقراءة القرآن والدعوة إلى الله ونحو ذلك.

وعمل الجوارح: هو المعلوم من أركان الإسلام من صلاة وصيام وحج وسائر الطاعات التي تكون متعلقة بالبدن.

ثم أهل السنة يَرون أن الإيمانَ يَزيد وينقص؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمانُ بِضْعٌ وسَبعون- أو بِضع وستون- شُعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعبة من الإيمان»

(2)

.

فعلى هذا فإن كلَّ الطاعات تُسَمَّى إيمانًا؛ فالصلاة تسمى إيمانًا؛ فعن البراء رضي الله عنه: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، وكان يُعجبه أن تكون قِبلته قِبَلَ البيت، وأنَّه صَلَّى، أو صلاها، صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجلٌ ممن كان صلى معه فمَرَّ على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله، لقد صَلَّيْتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مَكَّة؛ فَدَاروا كما هُمْ قِبَلَ البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحَوَّل قِبَلَ البيت رجالٌ قُتِلوا، لَم نَدْرِ ما نقول فيهم؛ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (2946) ومسلم (21) من حديث أبي هريرة ?.

(2)

أخرجه مسلم (35) من حديث أبي هريرة ?.

(3)

أخرجه البخاري (4486).

ص: 232

قال الإمام مالك رحمه الله: «أهل الذنوب مُؤمنون مُذنبون وقد سَمَّى الله تعالى العمل إيمانًا، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يريد صلاتَكم إلى بيت المقدس»

(1)

.

والوضوء يسمى إيمانًا؛ ففي الحديث: «الطُّهورُ شَطْرُ الإيمان»

(2)

، أي: نصف الإيمان؛ لأنه نصف الصلاة.

وهكذا، فكل الطاعات تسمى إيمانًا.

والإيمانُ شُعَبٌ، كما سبق في الحديث، ومِن شُعب الإيمان ما لو زالت لزال الإيمان؛ فمثلًا (لا إله إلا الله) لو زالت لزال إيمان العبد.

وهناك شُعبة لو زالت لما زال الإيمان؛ كإماطة الأذى، فإن لم يفعل العبد ذلك ما زال إيمانُه، ولكن قد يكون هذا نقصًا في الإيمان، فعلى هذا قال صلى الله عليه وسلم:«أدناها» ، و «أعلاها» ، فهي شُعَبٌ متفاوتة، وبقدر التزام العبد بتلك الطاعات يكون ذلك سببًا في زيادة إيمانه، والعكس بالعكس.

وفي المُقابل فالكفر شُعَبٌ، وكل المعاصي تسمى كفرًا، وإن كان هناك كفر دون كفر، إلا أن كل معصية فهي شُعبة من شعب الكفر.

فأهل السنة يَفترقون عن غيرهم بمسائل مهمة؛ ومنها: أن الإيمان يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

ومن الأدلة على زيادة الإيمان: قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]، وقوله جل وعلا:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].

(1)

«موطأ مالك» (1/ 255 - الأعظمي).

(2)

أخرجه مسلم (223).

ص: 233

ومن الأدلة على نُقصان الإيمان: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال:«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء، فقال: «يا معشر النساء تَصَدَّقن؛ فإني أُريتكن أكثر أهل النار» . فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: «تُكثرن اللعن، وتَكفرن العَشير، ما رأيتُ مِنْ ناقصات عقل ودين أذهبَ لِلُبِّ الرجل الحازم مِنْ إحداكن» ، قلن: وما نُقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: «أَليس شهادة المرأة مِثل نِصف شهادة الرجل» . قلن: بلى، قال:«فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟» . قلن: بلى، قال:«فذلك مِنْ نقصان دينها»

(1)

.

فبَيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن النقصان يقع في الدين (الإيمان)، كما يقع في العقل.

ثم أهلُ السنة يستثنون في الإيمان؛ لأن الإيمان هو فِعل كل الواجبات ولا يَدَّعي إنسان أنه قد فعل كلَّ الواجبات، فلا يُزَكِّي نفسه، فيصح إذًا الاستثناء في الإيمان لا على سبيل الشك، وإنما على سبيل عدم تزكية النفس، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

وكذلك يَرى أهلُ السنة أن العبد قد يجتمع فيه إيمان وكفر، وقد يجتمع فيه إيمان ونفاق، وإن كان هناك كفر دون كفر ونفاق دون نفاق.

فتجد الرجل يصلي ويصوم وقد يكذب ويسرق، فهذا إن دلَّ فإنما يدل على أنه قد يجتمع فيه الإيمان وشُعبة من شُعَب الكفر؛ لذا تراه على جملة من الطاعات وكذلك يكون متلبسًا بجملة من المعاصي، فيجتمع فيه الإيمان والكفر غير المخرج من الملة (أي:

(1)

أخرجه البخاري (304) واللفظ له، وأخرجه مسلم (79) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 234

كفر دون كفر).

ولذلك كان الصَّحابة يخشون على أنفسهم النفاق؛ فعمر رضي الله عنه يسأل حذيفة رضي الله عنه وهو أمين سِرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنْشُدُكَ اللهَ، هل سَمَّانِي لك رَسُولُ اللهِ. يعني في المنافقين! فيقول: لا، ولا أزَكِّي بعدك أحدًا»

(1)

.

فالنفاق على نوعين: أكبر وأصغر.

فالأكبر: هو الكفر التام الذي يُبطنه صاحبه.

والأصغر بأن يكون في قلب صاحبه مادة إيمان ومادة كفر؛ وعلى حسب قُربه من أحدهما يُختم له به؛ نسأل الله العافية من الكفر والنفاق، ونسأله الوفاة على الإيمان!

ومسائل الأسماء والأحكام من أعظم المسائل وأخطرها على الإطلاق، لأنَّ أول فُرقة وفِتنة وقعت في هذه الأمة كانت بسبب سوء الفهم لهذه المسألة، فكفَّر الخوارجُ عليًّا ومعاوية رضي الله عنه ما، ثم حَكموا بكفر الحَكَمَين بعد التحكيم في دُومة الجندل، حتى وصل الأمر بهم إلى تكفير جُلِّ الصحابة، ثم صار الروافض على هذا النهج؛ فكَفَّروا كلَّ الصحابة إلا نَذر يسير، لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، وقالوا بِرِدَّة الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لم يقولوا بوصية عليٍّ، أي: أحقيته في الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهكذا جاء القدرية والمعتزلة فسَلَبوا عن أصحاب الكبائر مُسَمَّى الإيمان، وقالوا: إنهم في منزلة بين المنزلتين، وحَكموا عليهم في الآخرة- كما حكم الخوارج- بالخلود في النار.

(1)

أخرجه ابنُ أبي شيبة في «مصنفه» (7/ 481)، والخَلَّال في «السُّنَّة» (1314).

ص: 235

ولم تَزل هذه الأفكار تنتقل مِنْ قائل إلى قائل حتى وصلت إلى عصرنا الحاضر، وإن كانت تَحمل أسماء متعددة لكن تبقى هي بعينها؛ فترى وتسمع من يكفر المجتمعات المسلمة، ويقول: إنها مجتمعات جاهلية وكافرة، ويُرَتِّب على ذلك تكفير الحاكم والحكومات، بل وتكفير مَنْ يتبع الدولة مِنْ موظفين عَسكريين ومَدنيين، بل وكَفَّروا العلماء، حتى وصل الأمر بهم إلى تكفير عامَّة الناس، واستحلوا دماءهم وأعراضهم.

فأطلقوا تكفيرهم في المجتمعات المسلمة، واستعملوا ضدهم السلاح.

وهذا ليس من قول أهل السنة في شيء، وإنما هو ميراث أولئك الروافض والخوارج والمعتزلة.

وأمَّا أهل السنة فإن شيخ الإسلام- مثلًا- قال في هذه العقيدة: «وهُمْ مَعَ ذلك لا يُكَفِّرُونَ أهل القِبْلَةِ بمطلق المعاصي والكَبَائِر» .

وقوله: «أهل القبلة» يَشمل الأمة بمجموعها، وإن كان فيها مَنْ هو على فكر مُخالف؛ لذلك لما سئل علي رضي الله عنه عن الخوارج:«أمشركون هم؟ قال: مِنْ الشرك فَرُّوا. فقالوا: أفمنافقون؟ قال: إنَّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلًا- أي: هؤلاء يذكرون الله كثيرًا- قيل: فما هم يا أمير ألمؤمنين؟ قال: إخواننا بَغَوْا علينا؛ فقاتلناهم ببغيهم علينا!»

(1)

.

وذكر الحسن أنه قال عنهم: «قوم أصابتهم فتنة؛ فعَموا فيها وصَمُّوا»

(2)

.

(1)

«البداية والنهاية» (7/ 300).

(2)

أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (10/ 150) برقم (18656).

ص: 236

ولقد وضع أمير المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه منهجًا قويمًا في التعامل مع هذه الطائفة، تَمثل هذا المنهج في قوله رضي الله عنه للخوارج: «

إلَّا أنَّ لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا: لن نَمنعكم مساجد الله، ولا نمنعكم فيئًا ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نُقاتلكم حتى تُقاتلوا»

(1)

.

وقد التزم لهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى أن قتلوا عبد الله بن خَبَّاب بن الأَرَت، وبقروا بطن جاريته؛ فطالبهم رضي الله عنه بِقَتَلَته فَأَبَوْا، وقالوا: كلنا قَتَله، وكُلُّنا مُستحل دماكم ودماءهم، فسَلَّ عليهم رضي الله عنه سيفَ الحق حتى أبادهم في وقعة النهروان

(2)

.

ومن منهجه رضي الله عنه في التعامل مع الخوارج حال بقائهم في جماعة المسلمين: مُحاورتهم لإزالة الشبهات التي لديهم؛ فقد أرسل إليهم عبد الله بن عباس فحاورهم، وحاورهم هو بنفسه فرجع منهم جَمٌّ غفير.

وبعد قتال أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه للخوارج- حرص على تحذير الناس من مسلكهم، حتى إنه لما انتهى من النهروان جعل يَمشي بين القتلى ويقول:«بُؤسًا لكم! لقد ضَرَّكم مَنْ غَرَّكم! فقال أصحابه: يا أمير المؤمنين ومَن غَرَّهم؟ قال: الشيطانُ وأنفسٌ بالسُّوء أَمَّارة غَرَّتهم بالأماني، وزَيَّنت لهم المعاصي، ونَبَّأتهم أنهم ظاهرون»

(3)

.

وأمر إنزال الأحكام على الأنام مِنْ أخطر ما يكون؛ إذ هما حق لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: «فإنَّ الإيجاب والتحريم والثواب والعقاب والتكفير والتفسيق هو إلى الله ورسوله؛ ليس لأحد

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (7/ 562) برقم (562).

(2)

انظر: «البداية والنهاية» (10/ 584).

(3)

انظر: «البداية والنهاية» (7/ 288).

ص: 237

في هذا حكم، وإنما على الناس إيجاب ما أوجبه اللهُ ورسولُه؛ وتحريم ما حَرَّمه الله ورسوله، وتصديق ما أخبر الله به ورسوله»

(1)

.

وفي عصرنا الحاضر غَرَّ هؤلاء- أيضًا- مَنْ غَرَّهم بهذا الفكر المنحرف الفاسد الذي ما قاله أهل السنة، وهم يريدون أن يصوروه للناس على أنه منهج السلف، وأنهم سلفية، وأهل السنة والسلفية من ذلك براء.

وكتب أهل السنة موجودة بحمد الله، وفيها أنهم لا يُكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما تفعله الجوارج.

وفاعل الكبيرة وإن وقع فيما يسمى كفرًا إلا أنه كفر دون كفر، وهو كفر عملي أصغر لا يُخرج من الملة.

فقتال المسلم وإن وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالكفر في قوله: «سِباب المُسلم فُسوق، وقِتاله كفرٌ»

(2)

، إلا أن المراد به: الكفر الأ صغر الذي لا يُخرج من الملة؛ لأ ن الله- عز وجل قد أثبت أُخوَّة الإ يمان للمؤمنين حال اقتتالهم ونِزاعهم؛ فقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 9، 10]، وكذلك أثبت أخوة الإيمان لمن قتل أخاه المسلم فقال جل وعلا:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178].

ثم قال: «ولا يَسْلِبُونَ الفَاسِقَ المِلِّيَّ الإِسْلَامَ بالكُلِّيَّةِ، ولا

(1)

«مجموع الفتاوى» (5/ 554، 555).

(2)

متفق عليه: أخرجه البخاري (48) ومسلم (64) من حديث عبد الله بن مسعود ?.

ص: 238

يُخَلِّدُونَهُ في النَّارِ كما تَقُولُهُ المُعْتَزِلَةُ».

فأهل السنة لا يَسلبون الإيمان من الفاسق من أهل ملة الإسلام، ولا يقولون بخلوده في النار، وإنما يُبقون عليه اسم الإيمان، وإن كان ليس كامل الإيمان، بل هو مؤمن بإيمانه، فاسق بمعصيته.

هذا؛ لأن الدِّين ثلاث دوائر: (الإسلام والإيمان والإحسان).

فأوسع الدوائر الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان، فليس كل مسلم مُحسن، ولكن كل مُحسن مسلم.

ولا نستطيع أن نُخرج الإنسان من الإسلام بعد أن نطق بالشهادتين إلا بموجب ذلك يقينًا، وهو ما يُسَمَّى بأحكام الرِّدة والمرتد، ولها ضوابط معلومة عند أهل العلم.

ولبيان خطورة التكفير بتسرُّع ودون بينة- قال صلى الله عليه وسلم: «أيُّما رجل قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدُهما، إن كان كما قال، وإلا رجعَت عليه»

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم: «

ولعن المؤمن كقتلِه، ومَن رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله»

(2)

.

ولذلك قال أبو بكرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قلت: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال:«إنَّه كان حريصًا على قتل صاحبه»

(3)

؛ فعاقبه على نِيَّته.

فما بالنا بمَن يُكَفِّرون المجتمع بأسره، ويقتلون الصغير

(1)

أخرجه البخاري (6104) ومسلم (60) واللفظ له، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البخاري (6047) ومسلم (110) من حديث ثابت بن الضحاك ?.

(3)

أخرجه البخاري (6875) ومسلم (2888).

ص: 239

والكبير، ولا يُراعون حرمة لطفل ولا لامرأة، وقد يُحدثون التفجير في بيوت الله.

وهذا من أوضح الأمور على بُعدهم عن الحق.

وذلك أنهم اتَّبعوا أهواءهم، وتركوا التَّعَلُّم، واتخذوا رءوسًا جهالًا لهم؛ فسألوهم؛ فأفتوهم بغير علم؛ فضلوا وأضلوا.

وقد عَمل هؤلاء على إسقاط كل العلماء، وهذا كفعل أسلافهم قديمًا، وتأمل قصة مناظرة ابن عباس رضي الله عنه ما للخوارج حيث جاءهم في أحسن ما يكون من حُلَل اليمن، فعابوا عليه لبسه هذه الحُلَّة، فقال لهم: ما تَعِيبون عليَّ؟! لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ ما يكون من الحُلَل، ونزلت:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].

وقال لهم: أتيتُكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ المهاجرين والأنصار، ومِن عند ابن عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأوِيله منكم، وليس فيكم منهم أحدٌ؛ لأبلغكم ما يقولون، وأبلغهم ما تقولون.

فناظرهم، فرجع منهم عشرون ألفًا، وبقي منهم أربعة آلاف؛ فقُتِلُوا على ضلالتهم؛ قتَلَهم المهاجرون والأنصار

(1)

.

فالطعن في العلماء معروف عند هؤلاء قديمًا أيضًا، كما قال عبد الله بن سلمة الحضرمي: «سمعتُ عمرو بن عبيد يقول: لو شهد عندي عليٌّ، وطلحة، والزبير، وعثمان، على شِراك نَعل، ما أجزتُ

(1)

أخرجه النسائي في «الكبرى» (8522) بنحوه، وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/ 164)، وقال:«هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» ، ووافَقَه الذهبي، وصحَّحه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 239 - 241).

ص: 240

شهادتهم»

(1)

.

وانظر إلى هذه الجرأة والوقاحة؛ قال معاذ العنبري: سمعت عمرو بنَ عبيد يقول- وذكر حديث الصادق المصدوق-: «لو سمعتُ الأعمش يقول هذا لكذَّبْتُه، ولو سمعت زيدَ بن وهب يقول هذا ما أجبتُه، ولو سمعتُ عبد الله بنَ مسعود يقول هذا ما قَبِلْتُه، ولو سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا لرددتُه، ولو سمعتُ الله تعالى يقول هذا لقلتُ له: ليس على هذا أخذت ميثاقَنا»

(2)

.

على أنه ليس مقصود هؤلاء في هذا العصر الحاضر إسقاط شخص العالِم؛ لأنهم ما تركوا عالمًا، وإنما المقصود إبعاد الشباب عن العلماء؛ حتى يستطيعوا أن يُسمموا أفكار الشباب، وإلا فما الذي نقموه على العلماء الذين هم بين الناس في المساجد والطرقات والأسواق؟

وما الذي نقموه على كبار العلماء مثل الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين؟!

فعلى الشباب أن يلزموا غرز العلماء؛ لأنهم ورثة الأنبياء، وقد أمر الله الأمة بالرجوع إليهم في النوازل فقال:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وأمر بسؤالهم عند الجهل فقال:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

فالعالِم قد أفنى زهرة عمره في الطلب والتحصيل، وهو حريص على تبليغ العلم وهداية الخلق، وفي يده مفاتيح العلوم ولن يُحرم

(1)

«ميزان الاعتدال» للذهبي (3/ 275).

(2)

«تاريخ بغداد» (12/ 170) للخطيب البغدادي، و «ميزان الاعتدال» (3/ 278) للذهبي.

ص: 241

الطالب من الفوائد إذا جلس بين يديه.

وهذه مكانته التي بَوَّأه الله إيَّاها، ودرجته التي رفعه الله إليها؛ قال تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].

ص: 242

قال المصنف رحمه الله:

«ومن أُصُولِ أهل السُّنَّة والجَمَاعَة: سلامةُ قُلُوبِهِمْ وألسنتِهم لأصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم اللهُ بِهِ في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

وطاعةً لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «لا تَسُبُّوا أصحابِي، فوالَّذي نفسي بِيَدِه لو أنَّ أَحَدَكُمْ أنفقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذهبًا ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولا نَصِيفَهُ» .

ويَقْبَلُونَ ما جاء به الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ من فضائلِهِم ومَرَاتِبِهِم.

ويُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قبلِ الفَتْحِ (وهُوَ صُلْحُ الحُدَيْبِيَةِ) وقاتلَ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدُ وَقَاتَل، ويُفَضِّلُونَ المُهَاجِرِينَ عَلَى الأَنْصَارِ.

ويُؤْمِنُونَ بأنَّ الله- سبحانه- قَالَ لِأَهْلِ بَدْرٍ، وكانوا ثلاثمائة وبضعةَ عَشَر:«اعْمَلُوا ما شِئْتُم؛ فقد غَفَرْتُ لَكُمْ» .

وبأنه «لا يَدخلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» ؛ كما أخبر به النَّبي صلى الله عليه وسلم، بل لقد رضي الله عنه م ورضوا عنه، وكانوا أكثرَ مِنْ أَلْفٍ وأَرْبَعِمائَةٍ.

ويَشْهَدُونَ بالجنَّةِ لمن شَهِدَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، كالعشرَةِ، وثابتِ بنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وغيرهم من الصَّحابة.

ويقرُّون بما تَوَاتَرَ به النَّقْلُ عن أميرِ المؤمنينَ عليِّ بْنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه وغيرِه، مِنْ أَنَّ خَيْرَ هذه الأُمَّةِ بعد نَبِيِّهَا: أبو بكرٍ، ثُمَّ عُمَرُ،

ص: 243

ويثُلِّثُونَ بِعُثْمَان، ويُرَبِّعُونَ بِعَلِيٍّ رضي الله عنهم، كما دلَّت عليه الآثارُ.

وكما أجمع الصَّحابةُ رضي الله عنهم على تقديم عُثْمَانَ في البيعة، مع أنَّ بعضَ أهلِ السُّنَّة كانوا قد اختلفوا في عثمانَ وعليٍّ رضي الله عنهما بعد اتِّفاقهم على تقديم أبي بكر وعُمر أيهما أفضل، فقدَّم قومٌ عثمانَ، وسكتوا، وربَّعوا بعليٍّ، وقدَّم قومٌ عليًّا، وقومٌ توقَّفوا، لكن استقرَّ أمرُ أهلُ السُّنَّة على تقديم عُثْمَان ثم عليٍّ.

وإنْ كانتْ هذه المَسْأَلَةُ (مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وعليٍّ) ليستْ من الأصولِ التي يُضَلَّلُ المخالفُ فيها عند جمهورِ أَهْلِ السُّنَّة، لكن التي يُضَلَّلُ فيها مسألةُ الخلافةِ؛ وذلك لأنهم يؤمنون أنَّ الخليفةَ بَعْدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أبو بكرٍ، ثم عمرُ، ثم عثمانُ، ثم عليٌّ، ومَن طَعَنَ في خلافة أحدٍ مِنْ هؤلاء فهو أضلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ».

الشرح

ذكر المصنف- رحمه الله هنا أنَّ من أصول أهل السُّنَّة والجماعة: سلامةَ قلوبهم تجاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنهم حَمَلة ميراث النبوة، فهم علماء هذه الأمة وخيرها وأبرُّها، كما قال عنهم ابن مسعود رضي الله عنه:«مَنْ كان منكم مستنًّا، فليستنَّ بمَن قد مات؛ فإنَّ الحيَّ لا يُؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد، أبرُّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلُّها تكلفًا؛ قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيِّه، وإقامة دينه؛ فاعرفوا لهم حقَّهم، وتمسَّكوا بهديهم؛ فإنَّهم كانوا على الهُدى المستقيم»

(1)

.

وقد عَلَّق شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذا الأثر؛ فقال:

(1)

أخرجه ابن عبد البرَّ في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 947)، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 214)، مع اختلاف يسير في الألفاظ.

ص: 244

«وقول عبد الله بن مسعود: «كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا» : كلامٌ جامع، بيَّن فيه حُسن قَصدهم، ونيَّاتهم ببر القلوب، وبيَّن فيه كمال المعرفة، ودقتها بعمق العلم، وبيَّن فيه تيسير ذلك عليهم، وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف

وهم أفضل الأمة الوسط الشهداء على الناس، الذين هداهم الله لما اختُلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم؛ فليسوا مِنْ المغضوب عليهم الذين يتبعون أهواءهم، ولا من الضالين الجاهلين

بل لهم كمال العلم، وكمال القصد؛ إذ لو لم يكن كذلك للزم أن لا تكون هذه الأمةُ خيرَ الأمم، وأن لا يكونوا خيرَ الأمة، وكلاهما خلاف الكتاب والسُّنَّة.

وأيضًا فالاعتبار العقليُّ يدلُّ على ذلك؛ فإنَّ مَنْ تأمَّل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتأمل أحوال اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين- تبيَّن له مِنْ فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم في العلم النافع والعمل الصالح ما يضيق هذا الموضع عن بسطه.

والصحابة أكمل الأمة في ذلك بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار، ولهذا لا تجد أحدًا من أعيان الأمة إلا وهو معترف بفضل الصحابة عليه وعلى أمثاله، وتَجد مَنْ ينازع في ذلك كالرافضة من أجهل الناس. ولهذا لا يُوجد في أئمة الفقه الذين يُرجع إليهم رافضي، ولا في أئمة الحديث، ولا في أئمة الزهد والعبادة، ولا في الجيوش المؤيدة المنصورة جيش رافضي، ولا في المُلوك الذين نصروا الإسلام وأقاموه وجاهدوا عدوَّه مَنْ هو رافضي، ولا في الوزراء الذين لهم سِيرة محمودة مَنْ هو رافضي

»

(1)

.

ص: 245

فالله جل وعلا قد اختار هؤلاء الصفوة لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، واختارهم لإقامة دينه؛ فحفظوا لنا القرآن وحفظوا سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وما انحسروا في المدينة، وإنما جاهدوا في سبيل نشر هذا الدِّين في ربوع الأرض، وانطلقوا يُبَلِّغون دين الله، وقد بلغ الإسلام في عهدهم مبلغًا عظيمًا، حتى إن بعضهم تُوفي عند أسوار القسطنطينية؛ كأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، مع أنها لم تفتح إلا في زمن العثمانيين.

فالصحابة فازوا بخيرية الصحبة، فكان لهم السبق في الإيمان والفضل وجلالة القَدْر، وحمل ميراث النبوة وتبليغه، والجهاد في سبيله؛ فكانوا فرسانًا بالنهار رهبانًا بالليل.

ولذلك أهل السنة- والحمد لله- قلوبهم سليمة دائمًا من الغل أو الحقد والحسد تِجاه الصَّحب والآل؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد زكَّى المهاجرين والأنصار ومَن جاءوا بعدهم مُستغفرين لهم؛ فقال جل وعلا: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

وكذلك قلوب أهل السنة نقية تجاه حَمَلة ميراث النبوة من العلماء الصَّادقين والدُّعاة المخلصين والمقتفين للآثار النبي الأمين صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العلماء ورثة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يُورثوا دينارًا

ص: 246

ولا درهمًا، وَرَّثوا العلم؛ فمَن أَخَذَه أَخَذَ بحظٍّ وافرٍ»

(1)

.

وأمَّا أهل الباطل فديدنهم بُغض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبُغض حملة شريعته؛ لأنهم مخالفون لهم، وهم مُبغضون ناقمون على مخالفيهم حتى ولو كانوا في ذات فِرقتهم؛ فقد يحكمون بكفرهم وتبديعهم وتفسيقهم؛ إذا خالفوا نهجهم ولو يسيرًا.

أمَّا أهل السنة فقلوبهم تلهج- دائمًا- بالثناء والترضي على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، «ويَقْبَلُونَ ما جاء به الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ من فضائلِهِم ومَرَاتِبِهِم» .

ومن ذلك ما جاء في قول الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].

وقوله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنه مْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، فقد أخبر الله- تعالى- في هذه الآية أنه رضي عن هؤلاء رضًا مطلقًا، ورَضي عمن بعدهم رضًا مقيدًا، وهو شرط اتباعهم بإحسان؛ قال الإمام ابن كثير رحمه الله: «فقد أخبر اللهُ العظيم أنَّه قد رضي عن السَّابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل مَنْ أبغضهم أو سَبَّهم أو أبغض- أو سَبَّ- بَعضهم، ولا

(1)

أخرجه أبو داود (3641) والترمذي (2682)، وحسنه الألباني في «المشكاة» (212).

ص: 247

سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخَيرهم وأفضلهم- أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم- أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يُعادون أفضل الصحابة ويُبغضونهم ويسبونهم؛ عياذًا بالله من ذلك. وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون مَنْ رضي الله عنه م؟!

وأمَّا أهل السنة فإنهم يَترضون عمَّن رضي الله عنه، ويَسبون مَنْ سَبَّه اللهُ ورسولُه، ويُوالون مَنْ يُوالي الله، ويُعادون مَنْ يعادي الله، وهم مُتَّبعون لا مُبتدعون، ويَقتدون ولا يَبتدئون، ولهذا هم حزبُ الله المُفلحون وعباده المؤمنون»

(1)

.

وقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

والمراد بـ {المؤمنين} في الآية: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتوعد الله مَنْ اتبع غير سبيلهم بعذاب جهنم، ووعد مُتبعهم بإحسان بالرِّضوان في قوله جل وعلا:{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنه مْ وَرَضُوا عَنْهُ} .

وقد شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم في أعلى درجات الإيمان والفضل والمنزلة، فقال:«لا تسبُّوا أصحابي، لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيدِه لو أنَّ أحدَكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا، ما أدرك مُدَّ أحدهم، ولا نصيفَه»

(2)

.

(1)

«تفسير ابن كثير» (4/ 203).

(2)

أخرجه البخاري (3673) من حديث أبي سعيد الخدري ?، ومسلم (4658) من حديث أبي هريرة ?.

ص: 248

وهم في الفضل متفاوتون؛ فمن أنفق قبل الفتح (صُلح الحديبية) لا يستوي مع مَنْ أنفق بعده، وكذلك المهاجرون مُقَدَّمون على الأنصار، ويأتون في الفضل على مراتب؛ فأهل بدر، ثم أهل بيعة الرِّضوان، ثم من جاء بعدُ.

وقد جاء في فضل أهل بدر؛ قوله صلى الله عليه وسلم: «لعلَّ اللهَ اطَّلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شِئتم، فقد وَجَبت لكم الجنة- أو- فقد غفرتُ لكم»

(1)

، وقال الله- جل وعلا- عن أهل بيعة الرضوان:{لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة.

ونشهد بالجنة لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم منهم؛ فقد شهد صلى الله عليه وسلم للعشرة؛ فقال: «أبو بكر في الجنة، وعمرُ في الجنة، وعليٌّ في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة»

(2)

.

وشهد صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بالحنة؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «لما نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} [الحجرات: 2] إلى آخر الآية، جلس ثابت بن قيس في بيته، وقال: أنا مِنْ أهل النار، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه البخاري (3983) ومسلم (2494) من حديث علي بن أبي طالب ?.

(2)

أخرجه أحمد في «مسنده» (1675) والترمذي (3747)، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (2946).

ص: 249

سعد بن معاذ، فقال:«يا أبا عمرو، ما شأنُ ثابت؟ اشتكى؟» . قال سعد: إنه لجاري، وما علمتُ له بشكوى، قال: فأتاه سعد، فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أُنْزِلَت هذه الآية، ولقد علمتم أني مِنْ أرفعكم صوتًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا مِنْ أهل النار، فذكر ذلك سعدٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بل هو مِنْ أهلِ الجَنَّة»

(1)

.

وشهد صلى الله عليه وسلم لعُكَّاشة بن محصن رضي الله عنه أنه من السَّبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حسابٍ

(2)

.

وشهد صلى الله عليه وسلم لبلالٍ بالجنة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: «يا بلال، حَدِّثني بأرجى عمل عملتَه في الإسلام؛ فإني سمعتُ دَفَّ نَعليك

(3)

بين يدي في الجنَّة!». قال: ما عملت عملًا أرجى عندي: أني لم أتطهر طهورًا- في ساعة ليل أو نهار- إلَّا صَلَّيت بذلك الطهور ما كُتِب لي أن أُصَلِّي»

(4)

.

وبشَّر صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد ببيت في الجنة مِنْ قَصب؛ لا صخب، فيه ولا نصب

(5)

.

وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنه ا: «أَنتِ زوجتي في الدنيا والآخرة»

(6)

.

وشهد صلى الله عليه وسلم لغيرهم من الصحابة.

(1)

أخرجه مسلم (119).

(2)

أخرجه البخاري (5752) ومسلم (220) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

أي: حركة نعليه وصوتهما في الأرض.

(4)

أخرجه البخاري (1149).

(5)

أخرجه البخاري (3819) ومسلم (2433) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما.

(6)

أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (7095)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وصححه الألباني في «التعليقات الحسان» (7053).

ص: 250

فكلُّ مَنْ ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لهم بالجنة- فإننا نشهد لهم كذلك.

ثم قال المصنف رحمه الله: «ويقرُّون بما تَوَاتَرَ به النَّقْلُ عن أميرِ المؤمنينَ عليِّ بْنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه وغيرِه، مِنْ أَنَّ خَيْرَ هذه الأُمَّةِ بعد نَبِيِّهَا: أبو بكرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ويثُلِّثُونَ بِعُثْمَان، ويُرَبِّعُونَ بِعَلِيٍّ رضي الله عنهم، كما دلَّت عليه الآثارُ» .

وقد أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، وإن كان بعض السلف قد اختلفوا في التفضيل بين عثمان وعلي- فإنهم لم يختلفوا في الترتيب في البيعة للخلافة، وكل مَنْ خالف الترتيب في الخلافة فإنه من أهل البدع.

وترتيب أهل السنة: (أبو بكرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ويثُلِّثُونَ بِعُثْمَان، ويُرَبِّعُونَ بِعَلِيٍّ رضي الله عنهم.

وإن كان ثَمَّ خلاف في التفضيل بين عثمان وعليٍّ، ولكنه لا يترتب عليه أي أثر في الانتساب لأهل السنة؛ «فقدَّم قومٌ عثمانَ، وسكتوا، وربَّعوا بعليٍّ، وقدَّم قومٌ عليًّا، وقومٌ توقَّفوا، لكن استقرَّ أمرُ أهلُ السُّنَّة على تقديم عُثْمَان ثم عليٍّ.

وإنْ كانتْ هذه المَسْأَلَةُ (مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وعليٍّ) ليستْ من الأصولِ التي يُضَلَّلُ المخالفُ فيها عند جمهورِ أَهْلِ السُّنَّة، لكن التي يُضَلَّلُ فيها مسألةُ الخلافةِ؛ وذلك لأنهم يؤمنون أنَّ الخليفةَ بَعْدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أبو بكرٍ، ثم عمرُ، ثم عثمانُ، ثم عليٌّ، ومَن طَعَنَ في خلافة أحدٍ مِنْ هؤلاء فهو أضلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ».

فلهم مِنْ الفضل ومِن المكانة ما هو مُجمع عليه بين أهل السُّنَّة.

ص: 251

قال المصنف رحمه الله:

«ويُحِبُّونَ أهلَ بَيْتِ رسولِ الله- صلى الله عليه وآله وسلم ويَتَوَلَّوْنَهُمْ.

وَيَحْفَظُونَ فيهم وَصِيَّةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قال يوم غَدِيرِ خُمٍّ:«أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» .

وقال- أيضًا- للعبَّاس عَمِّهِ- وقد اشتكى إليه- أنَّ بعض قريش يجفو بني هاشمٍ، فقال:«والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُم؛ للهِ، ولِقَرَابَتِي» . وقال: «إن اللهَ اصْطَفَى بني إسماعيلَ، واصطفى مِنْ بني إسماعيلَ كِنَانَةَ، واصطفى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، واصطفى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، واصطفاني مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» .

ويَتَوَلَّوْنَ أزواجَ النَّبي صلى الله عليه وسلم أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ، ويؤمنون بأنهنَّ أَزْوَاجُهُ في الآخِرَة، خصوصًا خديجةُ رضي الله عنها أمُّ أكثر أولاده، وأول من آمن بِهِ وعَاضَدَهُ على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية، والصِّدِّيقَة بنت الصِّدِّيق رضي الله عنها، التي قال فيها النَّبي صلى الله عليه وسلم:«فَضْلُ عَائِشَةَ عَلى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» .

ويَتَبَرَّءُونَ مِنْ طريقة الرَّوَافِضِ الذين يُبْغِضُونَ الصَّحابة، ويَسُبُّونَهُم، ومن طريقة النَّواصب الذين يؤذون أهلَ البيت بقولٍ أو عملٍ.

وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ المَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمَنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ: إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ.

وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ

ص: 252

عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ؛ بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الجُمْلَةِ، وَلَهُمْ مِنَ السَّوَابِقِ وَالفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ- إِنْ صَدَرَ-، حَتَّى إنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا لَا يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأَنَّ لَهُمْ مِنَ الحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ.

وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ خَيْرُ القُرُونِ، وَأَنَّ المُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ.

ثُمَّ إِذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ؛ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ، أَوْ أَتَى بَحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ، أَوْ غُفِرَ لَهُ؛ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِ، أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ، أَوْ ابْتُلِيَ بِبَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا كُفِّرَ بِهِ عَنْهُ.

فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ المُحَقَّقَةِ؛ فَكَيْفَ الأُمُورُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ: إنْ أَصَابُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَؤُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَالخَطَأُ مغْفُورٌ.

ثُمَّ إِنَّ القَدْرَ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ مَغْفُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ القَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ؛ مِنَ الإيمان بِاللهِ، وَرَسُولِهِ، وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالهِجْرَةِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالعِلْمِ النَّافِعِ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ.

وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ القَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم بِهِ مِنَ الفَضَائِلِ؛ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خَيْرُ الخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ؛ لَا كَانَ وَلا يَكُونُ مِثْلُهُمْ، وَأَنَّهُمُ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ».

الشرح

من عقيدة أهل السنة: حُبُّ آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن مأمورون بحبِّهم؛ لأنَّ حُبَّهم من حب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت الآثار ببيان

ص: 253

فضلهم والحث على محبتهم.

لذا يجب علينا أن نتولاهم وأن نترضى عنهم، وألا نبغض أحدًا منهم، وهذا ما امتاز به منهج أهل السنة، وهو سلامة قلوبهم تجاه جميع الأصحاب بما فيهم آل بيته صلى الله عليه وسلم.

فمن حبِّ النبي صلى الله عليه وسلم حبُّ آل بيته، فلا يكون الإنسان محبًّا للنبي صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل حتى يكون محبًّا لآله صلى الله عليه وسلم، كما أوصى صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:«وأهل بيتي، أُذكركم اللهَ في أهل بيتي، أُذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي»

(1)

،

«وقال- أيضًا- للعبَّاس عَمِّهِ- وقد اشتكى إليه- أنَّ بعض قريش يجفو بني هاشمٍ، فقال: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُم؛ للهِ، ولِقَرَابَتِي»

(2)

.

فمحبتهم من الإيمان؛ لأن حبهم من حبه صلى الله عليه وسلم، فالله قد اختار نبيه صلى الله عليه وسلم، واختار لنبيه صلى الله عليه وسلم آله وأصحابه، كم قال صلى الله عليه وسلم:«إنَّ اللهَ اصْطَفَى بني إسماعيلَ، واصطفى مِنْ بني إسماعيلَ كِنَانَةَ، واصطفى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، واصطفى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، واصطفاني مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»

(3)

.

فلأن النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم صار لهم من الفضل ومن المنزلة ما يجب أن يُحفظ في نفوس أهل السنة، كما يحفظ حقُّ سائر الأصحاب.

وهكذا الشأن في أزواجه صلى الله عليه وسلم؛ فهن أمهات المؤمنين، فيجب

(1)

أخرجه مسلم (2408) من حديث زيد بن أرقم ?.

(2)

أخرجه أحمد بنحوه (1/ 207) برقم (1777) من حديث عبد المطلب بن ربيعة ?، وقال أحمد شاكر في تحقيقه «للمسند»:(3/ 210): «إسناده صحيح» .

(3)

أخرجه مسلم (2276) من حديث واثلة بن الأسقع ?.

ص: 254

أن يعلم ما لهن من الفضل والمكانة؛ فهناك مكانة لخديجة رضي الله عنه ا، ومكانة لعائشة رضي الله عنه ا، وكذلك باقي زوجاته رضي الله عنه ن جمعاوات.

فمحبتهن والترضي عنهن هو من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وفضائلهن مذكورة مبثوتة في كتب أهل السنة، فقَلَّما نجد كتابًا من كتب أهل الحديث إلا وفيه مِنْ ذِكر فضائلهن؛ فمثلًا كتب السنة كـ «صحيح البخاري» و «صحيح مسلم» والكتب الستة وغيرها مليئة ومرصعة ومزينة بتلك المناقب التي تدل على سلامة قلوب أهل السنة تجاه هؤلاء النسوة اللائي اختارهن الله لأن يكن زوجات لنبيه صلى الله عليه وسلم.

ولذلك نتبرأ من الروافض الذين أبغضوا وسَبُّوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وطعنوا في بعض أزواجه بمطاعن يَستحي الإنسان من التلفظ بها وذِكرها، فضلًا عن أن تكون مُستقرة في قلب أيِّ مُسلم.

فأولئك ما حَفظوا عِرضَ النبي صلى الله عليه وسلم في عائشة رضي الله عنه ا، وما حفظوا حقَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما لهم من المنزلة والمكانة، وكما قال الشَّعبي لمالك بن معاوية- عند ذكر الرافضة-: «يا مالك، لو أردتُ أن يُعطوني رقابَهم عبيدًا وأن يملأوا بيتي ذهبًا على أن أكذبهم على عليٍّ كذبة واحدة لفعلوا، ولكني والله لا أكذب عليه أبدًا. يا مالك، إني درستُ الأهواء كلها، فلم أَرَ قومًا أحمق من الرافضة

».

«ثم قال: أُحَذِّرُك الأهواء المضلَّة، شرُّها الرافضة، فإنها يهود هذه الأمة، يُبغضون الإسلام كما يُبغض اليهود النصرانية، ولم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة من الله، ولكن مقتًا لأهل الإسلام وبغيًا عليهم .... » .

إلى أن قال: «ولليهود والنصارى فضيلةٌ على الرَّافضة في خصلتين: سئل اليهود: مَنْ خير أهل مِلَّتكم؟ فقالوا: أصحاب

ص: 255

موسى. وسئلت النصارى، فقالوا: أصحاب

عيسى. وسئلت الرافضة: مَنْ شَرُّ أهل مِلتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد. أَمَرَهم بالاستغفار لهم فشَتَموهم»

(1)

.

نعوذ بالله من حال أولئك الضُّلَّال.

والطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو تجاسر على الله؛ لأن الله يُزكيهم وهم يطعنون فيهم، وكذلك هو اعتداء على حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو اتهام منهم له صلى الله عليه وسلم بأنه ما أحسن تربية أصحابه! وكذلك شككوا فيما قاله النبي صلى الله عليه وسلم من بيان فضلهم ومكانتهم.

ثم قال المصنف رحمه لله: «وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ المَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمَنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ» .

إذ حاول الرَّوافض دسَّ شيءٍ كثير من المَرويات المغلوطة التي كذبوا فيها على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وشحنوا بها كتب التاريخ، ومن يَكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فليست بغريب أن يكذب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال المصنف: «وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ: إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ» .

فإن صح شيء من الأحداث المروية عنهم فهم معذورون فيها، فهم بين مجتهد مصيب، فله أجران، أو مجتهد مخطئ فله أجرٌ واحدٌ.

وأهل السنة مع ذلك لا يعتقدون أنَّ كل واحد من الصحابة

(1)

«العقد الفريد» لابن عبد ربه (2/ 249، 250)، دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة: الأولى، 1404 هـ.

ص: 256

معصوم، فالعصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ ما بَلَّغه عن ربه، أمَّا أصحابه فشأنهم كشأن سائر الأمة ليسوا بمعصومين، بل إن الذنوب قد تقع منهم كبائرها وصغائرها، ولكن لهم من السوابق ومن الفضائل ما يوجب مغفرة ما قد يَصدر عنهم- إن صدر- حتى إنَّه يُغفر لهم من السيئات ما لا يُغفر لِمَنْ بعدهم؛ لأن الله مَنَّ عليهم بفضل من الحسنات عظيم، فهؤلاء أهل بدر قال صلى الله عليه وسلم عنهم:«لعلَّ اللهَ اطَّلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شِئتم، فقد وَجَبت لكم الجنة- أو- فقد غفرتُ لكم»

(1)

، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وهم كذلك خير القرون، كما قال صلى الله عليه وسلم:«خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»

(2)

.

فهذه (الخيرية) التي شهد النبي صلى الله عليه وسلم بها لهذه القرون الثلاثة- تدلُّ على تفضيلهم وسبقهم وجَلَالة قدرهم وسَعَة علمهم بشرع الله، وشدة تمسكهم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك تقدم في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبُّوا أصحابي، لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيدِه لو أنَّ أحدَكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا، ما أدرك مُدَّ أحدهم، ولا نصيفَه»

(3)

، قال الحافظُ ابن حجر: «قال البيضاوي: معنى الحديث: لا ينال أحدُكم بإنفاق مثل أُحُدٍ ذهبًا من الفضل والأجر ما يَنال أحدُهم بإنفاق مُدِّ طعام أو نصيفه. وسبب التفاوت: ما يقارن الأفضل مِنْ مَزيد الإخلاص وصدق النية. قلت-: أي- ابن حجر-: وأعظم من ذلك في سبب الأفضلية:

(1)

أخرجه البخاري (3983) ومسلم (2494) من حديث علي بن أبي طالب ?.

(2)

أخرجه البخاري (2652) ومسلم (2533).

(3)

أخرجه البخاري (3673) من حديث أبي سعيد الخدري ?، ومسلم (4658) من حديث أبي هريرة ?.

ص: 257

عِظم موقع ذلك لشدة الاحتياج إليه، وأشار بالأفضلية بسبب الإنفاق إلى الأفضلية بسبب القتال، كما وقع في الآية:{مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10]، فإنَّ فيها إشارة إلى موقع السبب الذي ذكرتُه، وذلك أن الإنفاق والقتال كان قبل فتح مكة عظيمًا؛ لشدة الحاجة إليه وقِلَّة المُعتني به، بخلاف ما وقع بعد ذلك؛ لأن المسلمين كثروا بعد الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فإنه لا يقع ذلك المَوقع المتقدم»

(1)

.

ثم إن كان قد صدر من أحدهم ذنبٌ؛ فإمَّا أن يكون قد تاب منه، أو أنَّ له من الحسنات ما يمحو هذا الذنب، أو يَغفر الله له بفضل سابقته، أو بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أحق الناس بشفاعته، أو يُبتلى ببلاء في الدنيا يُكَفر به عنه ذلك الذَّنب.

وهذا يُقال في موتى المسلمين من غير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فمن مات على الإسلام نرجو له النجاة من النار والفوز بالجنة وإن كان عنده سيئات؛ فلعل له حسنة تمحو جميع سيئاته، وربما قد عمل عملًا خفية يغفر الله له به؛ ألم يغفر الله لبغي؛ لأنها سقت كلبًا

(2)

، فما بالنا بأصحاب الفضل الذين قال الله فيهم:{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]، وقال عن أهل بيعة الرضوان:{لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة.

(1)

«فتح الباري» (7/ 34، 35).

(2)

أخرجه البخاري (3467) ومسلم (2245) عن أبي هريرة ?، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينما كلب يطيف بركية، كاد يقتلُه العطش، إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقها فَسَقته؛ فغفر لها به» . والركية: البئر. والمُوق: ما يلبس فوق الخُفِّ.

ص: 258

فأخبر الله بأنه رضي عنهم، وهؤلاء الروافض يقولون برِدَّتِهم! وما هذا إلا أضل الضلال.

وهكذا طريقة النَّواصب الذين آذوا آلَ البيت بقولٍ أو فِعل؛ فكل مَنْ آذى آلَ البيت بقول أو فعل فنحن نتبرأ منهم ومن معتقدهم وقولهم وفِعلهم.

وما شجر بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنحن نُمسك عن الخوض فيه، ونعلم أن ما صَحَّ وثبت منه فهو لا يُعد شيئًا في بحار حسناتهم، فحسناتهم وفضائلهم جليلة قد توافرت النصوص على إثباتها، وأنَّ ما وقع من القتال بينهم ما أرادوه.

إذ هم أصحاب المواقف الناصعة التي نصروا بها النبي صلى الله عليه وسلم، ودافعوا عن الدين بأنفسهم وأموالهم وأهليهم، وأبلوا بلاءً حسنًا في نشره.

ثم ذكر المصنف أنَّ لهم من السيرة مَنْ نَظَرَ فِيها بِعِلم وبصيرة، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم بِهِ مِنْ الفضائِل؛ علم يقينًا أنهم خَيْرُ الخلق بعد الأَنْبِيَاءِ؛ وأنه لا كان وَلا يكون مثلُهم، لما قَدَّموه للإسلام، فما جاء ولن يجيء بعدهم مثلهم، ولن يستطيع أحد أن يفِعل فعلهم، فهم صفوَةُ الصَّفوة مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ.

فإذا كانت الأمة خير الأمم والصحابة خير هذه الأمة، فكيف يكون قَدْرُهم؟! وكيف تكون منزلتهم؟! رضي الله عنه م أجمعين.

وقد بَيَّن شيخُ الإسلام رحمه الله الفارق بين أهل السنة وبين أهل الأهواء فقال: «الخوارج تُكَفِّر أهل الجماعة، وكذلك أكثر المعتزلة يُكَفِّرون مَنْ خالفهم، وكذلك أكثر الرافضة، ومَن لم يُكَفِّر فَسَّق. وكذلك أكثر أهل الأهواء يَبتدعون رأيًا، ويُكَفِّرون مَنْ خالفهم فيه،

ص: 259

وأهل السنة يَتَّبعون الحقَّ مِنْ ربهم الذي جاء به الرسول، ولا يُكَفِّرون مَنْ خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحقِّ وأرحم بالخلق، كما وصف الله به المسلمين بقوله:{كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران 110]. قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس.

وأهل السنة نقاوة المسلمين، فهم خير الناس للناس».

ثم قصَّ شيخُ الإسلام بعضًا من مواقف الروافض المخزية أيام التتار، فقال: «وقد علم أنه كان بساحل الشام جبل كبير، فيه أُلوف من الرافضة يسفكون دماء الناس، ويأخذون أموالهم، وقتلوا خلقًا عظيمًا وأخذوا أموالهم، ولما انكسر المسلمون سنة غازان

(1)

، أخذوا الخيل والسلاح والأسرى وباعوهم للكفار النصارى بقبرص، وأخذوا مَنْ مَرَّ بهم من الجند، وكانوا أضرَّ على المسلمين من جميع الأعداء، وحمل بعض أمرائهم راية النصارى، وقالوا له: أيما خير: المسلمون أو النصارى؟ فقال: بل النصارى. فقالوا له: مَع مَنْ تُحشر يوم القيامة؟ فقال: مع النصارى. وسَلَّموا إليهم بعض بلاد المسلمين»

(2)

.

فنسأل الله العفو والعافية من هذه الآراء والضلالات، ونسأله الثبات على الحقِّ حتى المَمات.

(1)

هي سنة 699. وغازان: هو خان التتار السابع للإمبراطورية المنغولية.

(2)

«منهاج أهل السنة» (5/ 158، 159).

ص: 260

قال المصنف رحمه الله:

«وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ العَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ العُلُومِ وَالمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ القُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ.

كَالمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ قُرُونِ الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.

ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، حَيثُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ.

وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الكَلامِ كَلامُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم.

وَيُؤْثِرُونَ كَلَامَ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلامِ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ.

وَلِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَسُمُّوا أَهْلَ الجَمَاعَةِ؛ لأَنَّ الجَمَاعَةَ هِيَ الاِجْتِمَاعُ، وَضِدُّهَا الفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ القَوْمِ المُجْتَمِعِينَ.

وَالإِجِمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي العِلمِ وَالدينِ.

ص: 261

وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُولِ الثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ.

وَالإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الخِلَافُ، وانْتَشَرَ في الأُمَّةُ».

الشرح

من أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجَمَاعَة التي خالفوا بها أهلَ البِدع: التَّصديق بكرامات الأولياء، وما يُجريه اللهُ على أيديهم من خوارق العادات.

وأما أهل البدع فكعادتهم بين الإفراط والتفريط والغُلو والجفاء؛ فمنهم مَنْ أنكر كرامات الأولياء، ومِنهم مَنْ عدَّ فِعل السَّحرة والفَسَقة والمَلاحدة مِنْ الكرامات.

وأولياء الله: هم كلُّ مَنْ جمع بين الإيمان والتقوى؛ فكل مؤمن تقي فهو لله وليٌّ؛ قال الله تَعَالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63].

قال شيخُ الإسلامِ رحمه الله: «وإذا كان أولياءُ الله هم المؤمنون المُتَّقون، فبحسبِ إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى؛ فَمَنْ كان أكمل إيمانًا وتقوى كان أكملَ ولاية لله، فالناس مُتَفاضلون في ولاية الله عز وجل بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى»

(1)

.

وكراماتُ الأولياء ما حَصَلت إلَّا باتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال شيخُ الإسلام: «وكراماتُ أولياء الله إنَّما حَصَلت ببركة اتِّباع رسولِه صلى الله عليه وسلم،

ص: 262

فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم»

(1)

، وقال أيضًا رحمه الله:«فمن اعتقد أنَّ لأحدٍ من الأولياء طريقًا إلى الله غير متابعة محمَّد صلى الله عليه وسلم، فهو كافرٌ من أولياء الشيطان»

(2)

.

وقد ذكر العلَّامة ابن عُثَيمين رحمه الله أنَّ للكراماتِ دلالاتٍ، فقال: «وهذه الكَرَاماتُ لها أربع دلالات:

أَوَّلًا: بيان كمال قُدرة الله عز وجل حيث حَصَل هذا الخارق للعادة بأمر الله.

ثانيًا: تكذيب القائلين بأنَّ الطبيعة هي التي تفعل؛ لأنَّه لو كانت الطبيعة هي التي تفعل لكانت الطبيعة على نَسَقٍ واحدٍ لا يتغير، فإذا تغيرت العادات والطبيعة دلَّ على أنَّ للكون مدبرًا وخالقًا.

ثالثًا: أنَّها آيةٌ للنبيِّ المَتبوع.

رابعًا: أنَّ فيها تثبيتًا وكرامة لهذا الوليِّ»

(3)

.

وأمَّا قول المُصَنِّف رحمه الله: «فِي أَنْوَاعِ العُلُومِ وَالمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ القُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ» - فقد قال الشيخ الفوزان حفظه الله: إنه «إشارة إلى أنَّ الكرامة منها ما يكون من باب العِلم والكَشف بأن يَسمع العبدُ ما لا يَسمعه غيرُه، أو يرى ما لا يراه غيره يَقظة أو منامًا، أو يَعلم ما لا يعلمه غيره، ومنها ما هو من بابِ القدرة والتأثير.

مثال النوع الأول:

قول عُمر: يا ساريةُ، الجبلَ! وهو بالمدينة، وساريةُ

ص: 263

في المَشرق

(1)

.

وإخبار أبي بكر بأنَّ ببطن زوجته أُنثى

(2)

.

وإخبار عُمر بِمَنْ يخرج مِنْ ولده فيكون عادلًا

(3)

.

وقصة صاحب مُوسى وعِلْمه بحالِ الغلام

(4)

.

ومثال النوع الثاني:

قِصَّة الذي عنده عِلْمٌ من الكتاب، وإتيانه بِعَرش بَلقيس إلى سُليمان عليه السلام

(5)

.

وقِصَّة أهل الكهف

(6)

.

(1)

قال الشيخ ابن عثيمين: «يُستفاد منها- أي: قصة سارية- ظهور كرامة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ?، فإنَّ عمر بن الخطاب- على ما ذُكر في الرواية- كان يخطب الناس يوم الجمعة على المنبر، فكُشِف له عن سارية وهو في العراق يقود سريةً معه: أنَّ العدو حاصرهم، فقال في أثناء الخطبة: يا ساريةُ، الجبلَ! يعني: اصعد الجبل؛ لينجو به عن عدوه، فاستغرب الناس هذا القول من أمير المؤمنين عمر في أثناء الخُطبة يقول: يا ساريةُ، الجبلَ! فأخبرهم أن القضية كذا وكذا، فيُستفاد من ذلك ثبوت كرامات الأولياء» . «فتاوى نور على الدرب» ، الشريط رقم (353).

(2)

قال اللالكائي في «كرامات الأولياء» (9/ 123): «هذه كانت زوجة أبي بكر، وهي حبيبة بنت خارجة بن زيد من بني زهير من بني الحارث بن الخزرج، وكانت حاملًا حين تُوفي أبو بكر ?، فولدت بعده أم كلثوم، فتزوجها طلحة بن عبيد الله ?م، فصَدَّق اللهُ ظنَّ أبي بكر الصِّديق ? بما قاله، وجعل ذلك كرامة له فيما أَخبر به قَبل ولادتها، وأنها أنثى وليست بذكر» .

(3)

وهو الخليفة الزَّاهد: عمر بن عبد العزيز رحمه الله. انظر كتاب «سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد» لابن الجوزي، و «أخبار أبي حفص» للآجري. وهذا الخبر رواه ابن سعد في «الطبقات» (5/ 330).

(4)

وقد وردت هذه القصة في سورة الكهف الآيات 74، 75 و 80، 81، من قوله تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ

}.

(5)

وردت هذه القصة في سورة النمل في الآيات (38 - 40) من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا

} إلى قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} .

(6)

وردت في الآيات (9 - 26) من سورة الكهف، من قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا

} إلى قوله: {

وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}.

ص: 264

وقِصَّة مريم

(1)

.

وقِصة خالد بن الوليد لما شَرِب السُّمَّ، ولم يَحصل له منه ضررٌ

(2)

»

(3)

.

ثم قال المصنف: «كَالمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ قُرُونِ الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» .

أي: أنَّ كرامات الأولياء قد حَدَثت في الأمم قبلنا وحدثت في صَدْر هذه الأمة، ولن تَنقطع إلى يوم القيامة؛ فَمَنْ الكَرامات في الأمم السابقة ما ذكره الله جل وعلا- في سورة الكهف عن أصحاب الكهف ولبثهم في كهفهم ثلاثمائة سنة وتسع سنوات- وهم نيام- بلا آفة.

وهكذا قِصة مريم، ومن ذلك: أنَّها حَمَلت ووَلَدت من غير زوجٍ مع كَمال عفافها وطهرها، ومن ذلك ما قاله الله عنها:{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37]، وغير ذلك كثير.

ومن كرامات الصَّحابة رضي الله عنهم: ما رواه البخاري في «صحيحه»

(1)

وردت هذه القصة في سورة مريم الآيات (16 - 34) من قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ

} إلى قوله: {

ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}.

(2)

وذلك عندما شرب السم فلم يَضره، وقد روى هذا الخبرَ أحمدُ في «فضائل الصحابة» (2/ 815) عن أبي السفر قال:«نزل خالد بن الوليد الحِيرة على بني أم المرازبة، فقالوا له: احذر السُّمَّ لا يَسقيكه الأعاجم! فقال: ايتوني به. فأتي منه بشيء، فأخذه بيده، ثم اقتحمه وقال: بسم الله. فلم يضره شيئًا» . وانظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (11/ 277، 278).

(3)

«شرح الواسِطيَّة» للفوزان (ص 157).

ص: 265

عن أنس رضي الله عنه: «أنَّ رجلين خَرَجَا من عند النَّبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مُظلمة، وإذا نورٌ بين أيديهما حتى تَفَرَّقَا، فتفرق النورُ معهما.

وقال معمر: عن ثابت، عن أنسٍ:«إنَّه أُسيد بن حُضَير ورجل من الأنصار» .

وقال حَمَّاد: أخبرنا ثابتٌ، عن أنسٍ كان أُسيد بن حُضَير وعَبَّاد بن بِشْر عند النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

ومن ذلك ما رواه مُسلم عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل: «أنَّ أَرْوى خَاصَمَتْه في بعضِ دارِه، فقال: «دَعُوها وإيَّاها، فإنِّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا من الأرضِ بغيرِ حَقِّه طُوِّقه في سَبع أَرَضين يومَ القيامة» ، اللَّهُمَّ إن كانت كاذبةً فَأَعْمِ بصرَها، واجعل قبرَها في دارِها.

قال: فرأيتُها عَمياء تَلتمس الجُدُر تقول: أَصَابتني دعوةُ سَعيد بن زيد، فبينما هي تَمشي في الدَّار مَرَّت على بئرٍ في الدار، فوقعت فيها، فكانت قبرَها»

(2)

.

وممَّا جاء في كَرامات التَّابعين فَمَنْ بعدهم: ما رواه مسلم في «صحيحه» أنَّ أهلَ الكوفة وَفَدوا إلى عُمَرَ، وفيهم رجلٌ مِمَّنْ كان يَسخر بأويسٍ، فقال عمر: هل هنا أحدٌ من القَرنيِّين؟ فجاء ذلك الرجل، فقال عمر: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد قال: «إنَّ رجلًا يَأتيكم من اليَمن يُقال له: أُوَيْس، لا يَدَعْ باليَمن غيرَ أُمٍّ له، وقد كان به بياضٌ فَدَعا اللهَ فَأَذْهَبَه عنه إلا مَوضع الدِّينار أو الدِّرهم؛ فَمَنْ لَقِيَه مِنكم فَلْيَسْتَغْفِر لكم»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (3805).

(2)

أخرجه مسلم (1610).

(3)

أخرجه مسلم (2542).

ص: 266

ثم قال المصنف: «ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، حَيثُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ» .

منهج أهل السنة والجماعة: اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع ما كان عليه أصحابه رضوان الله عليهم، وما كان عليه القرون المُفَضَّلة.

فأهل السنة علمهم مستمد من هذه الأصول: من كلام الله ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وفهم سلف هذه الأمة، وعلى رأسهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما أوجبه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«فإنَّه مَنْ يَعش بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المَهديين مِنْ بعدي؛ فتَمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»

(1)

.

فأوصى صلى الله عليه وسلم بالتمسك وبأشد الحرص على هذا المنهج، ولذلك كتب ودروس مَنْ اتَّبع هذا المنهج مليئة بـ «قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال السلف الصالح» ، وكما قال الأوزاعي:«العلمُ: ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان غير ذلك فليس بعلم» ، وكذا قال الإمام أحمد رحمه الله

(2)

.

وقال أيضًا: «اصبر نفسك على السُّنَّة، وقِف حيث وَقَف القوم،

(1)

أخرجه أحمد (4/ 126)(127)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676)، والدارمي (1/ 44)، وغيرهم.

(2)

«جامع بيان العلم» (2/ 29).

ص: 267

وقل بما قالوا، وكُفَّ عما كفوا عنه، واسلك سبيلَ سلفك الصالح، فإنَّه يَسعك ما وَسِعهم»

(1)

.

وقيل لأبي حنيفة رحمه الله: ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ قال: «مقالات الفلاسفة، عليكَ بالأثر وطريقة السلف، وإيَّاك وكلَّ محدثة؛ فإنَّها بِدعة»

(2)

.

وكما قال الناظم:

وكلُّ خير في اتباع مَنْ سلف

وكل شَرٍّ في ابتداع مَنْ خلف

وقال الشافعي رحمه الله:

كلُّ العلوم سِوى القرآن مَشغلة

إلا الحديث وإلا الفقه فِي الدِّين

العلم ما كان فيه قَالَ: حدثنا

وما سِوى ذاك وسواس الشياطين

(3)

وقد أمرنا الله باتباع هؤلاء السابقين فقال عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنه مْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، وحذَّرَ مِنْ مخالفتهم فقال:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} ؛ وقال عن الفرقة الناجية من الأمة بعد الاختلاف أنها: «مَنْ كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»

(4)

.

فطريقة أهل السنة اتِّباع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يصدرون في الاعتقاد والقول والعمل إلا عن فهم السلف.

(1)

«الشريعة» للآجري (ص 58).

(2)

«صون المنطق» للسيوطي (ص 322).

(3)

«طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (1/ 297).

(4)

أخرجه أبو داود (4596)، (4597)، والترمذي (2640)، (2641)، وأحمد (2/ 332)، (3/ 120، 145)، (4/ 120)، وابن ماجه (3991)، (3993).

ص: 268

وهذا- بحمد الله- تعالى ما تواصوا به جيلًا بعد جيلٍ، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه:«إنا نقتدي ولا نَبتدي، ونتَّبع ولا نَبتدع، ولن نضلَّ ما تَمسكنا بالأثر»

(1)

، أي: لا نبتدأ شيئًا من عندنا، فنحن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، ونتبعهم ولا نبتدع.

ومن صفات أهل السنة والجماعة أنهم يقدمون هدي النبي صلى الله عليه وسلم على هدي كلِّ أحد، وَلِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَسُمُّوا أَهْلَ الجَمَاعَةِ؛ لأَنَّ الجَمَاعَةَ هِيَ الاِجْتِمَاعُ، وَضِدُّهَا الفُرْقَةُ، وهم بهذه الأصول (الكتاب والسنة والإجماع) يَزنون جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة وظاهرة مما له تعلق بالدين.

وَالإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ (أي القرون الثلاثة المفضلة)؛ لأن الاختلاف قد كثر وانتشر في هذه الأمة بعدهم.

وهذا الميزان مِنْ نعم الله على أهل السنة، ولذلك تجد هذا المنهج يتسم بالثبات، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقت الناس هذا، ويتواصى به أهل السنة، ويوصون به من بعدهم، فهو منهج ثابت مهما مرت السنون، وصاحب السُّنَّة في المشرق شأنه كصاحب السنة في المغرب، فأنت تقرأ لابن تيمية كما تقرأ لابن عبد البر، وكما تقرأ للبخاري ومسلم، فالقول واحد لم يختلف ولم يتغير؛ لأن الأصل واحد، والمنهج واحد، مع اختلاف الأزمان، ومع اختلاف الأماكن، مع أنه في ذلك الزمان لم يكن بين هؤلاء وسيلة اتصال، ومع ذلك مَنْ هو في المشرق كمَن هو في المغرب.

وكذلك أهل السنة في المشرق مثل أهل السنة في المغرب

ص: 269

ومثل أهل السنة في الهند، فقولهم واحد مهما اختلف المكان والزمان؛ لاتصاف منهجهم بالثبات.

وكذلك اتصف منهجهم باتصال سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس قولًا منبتًّا أو منقطعًا، وما لم يكن في كلام الله ولا في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في كلام السلف- فأهل السنة منه بَرَاء.

وأمَّا الآخرون فهم يتخبطون، فأسانيدهم منقطعة، ويقرون أن ما كان عليه السلف ليس ما هم عليه، وأن أقوالهم منحصرة في فلان وفلان من الناس، فشتان بين الفريقين!

ص: 270

قال المصنف رحمه الله:

«ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذِهِ الأُصُولِ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ، وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الحَجِّ وَالجِهَادِ وَالجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا، وَيُحَافِظُونَ عَلَى الجمع والجَمَاعَاتِ.

وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«المُؤْمِنُ لِلمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ؛ يَشُدُّ بَعْضَهُ بَعْضًا» ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالحُمَّى وَالسَّهَرِ» .

وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ البَلاءِ، وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَا بِمُرِّ القَضَاءِ.

وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«أَكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» .

وَيَنْدُبُونَ إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ.

وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَحُسْنِ الجِوَارِ، وَالإِحْسِانِ إلَى اليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالرِّفْقِ بِالمَمْلُوكِ.

وَيَنْهَوْنَ عَنِ الفَخْرِ، وَالخُيَلاءِ، وَالبَغْيِ، وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الخَلقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ.

وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلَاقِ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَافِهَا.

ص: 271

وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإسلام الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.

لَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كُلُّهَا فِي النَّار؛ إلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ الجَمَاعَةُ. وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ:«هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ اليَومَ وَأَصْحَابِي» ، صَارَ المُتَمَسِّكُونَ بِالإسلام المَحْضِ الخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.

وهُم الطَّائفةُ المَنصورةُ الَّذِين قال فيهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا تَزَالُ طائفةٌ مِنْ أُمَّتِي على الحَقِّ ظاهرين، لا يَضُرُّهم مَنْ خَذَلَهم، ولا مَنْ خَالَفهم حتى تقومَ السَّاعةُ.

فَنَسْأَل اللهَ العَظيمَ أن يَجعلنا منهم، وألَّا يُزيغ قُلُوبنا بعد إذ هَدَانا، وأن يَهِب لنا من لُدنه رَحمة؛ إنَّه هو الوَهَّاب، واللهُ أَعْلَم.

والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على محمَّدٍ وآلِه وصَحْبه وسَلَّم تسليمًا كثيرًا».

الشرح

عُرِف مجتمع أهل السنة بأنه مجتمع صدق وبِر واستقامة، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقيم الحج والجهاد والجمع والأعياد، ويرون أنَّ ذلك يُقام مع الأمراء؛ سواء كانوا أبرارًا أو فُجَّارًا.

فشعائر الإسلام- بحمد الله- قائمة ظاهرة في مجتمع أهل السنة، وهذا من فضل الله عليهم، ثم باتباعهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛

ص: 272

فالمساجد ليست مهجورة، وحِلق الذِّكر عامرة، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر أمر قائم بفضل الله، وهكذا كل من يعيش في كَنَفهم أو يكون قريبًا منهم يجد هذا الفارق العظيم بينهم وبين أهل البدع؛ فتراهم- بحمد الله- مِنْ خيرة الناس خُلُقًا، ومِن خيرة الناس سيرة، ومن خيرة الناس فضلًا وكرمًا وإحسانًا إلى الجار وإحسانًا إلى الفقير والمحتاج، ونحو ذلك.

وكذلك تراهم متواضعين مبتعدين عن الفخر والخيلاء، ويتواصون بهذا، ومن حاد من أفرادهم عن هذا الحقِّ قُوبل بالنصح والتوجيه.

وترى الواحد من علمائهم لا تعرف أنه عالم؛ لأنه ليس عليه مِنْ مَظهر أو حب الشهرة ما تراه على أهل البدع من تَعَمُّمٍ معين، ولبس مُعَيَّن يتميزون به عن الناس.

وكذلك تراهم متشابهين لا تعرف غنيهم من فقيرهم، فما تجد أحدًا منهم متباهيًا مختالًا يكسر نفس الفقير.

ومجتمعاتهم مجتمعات الخير والأمن، وحسن الخلق قائم، وحفظ القرآن والسنة بحمد الله قائم، والمساجد عامرة بالصلوات الخمس، وبالدروس العلمية والجمع والأعياد.

وكمثال يفرق بين أهل السنة والمبتدعة: تجد في مواسم الحج والعمرة أنَّ أهل السنة يتجهون وقت الصلاة إلى المسجد الحرام وإلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأمَّا أهل البدع فتراهم يتسكعون في الشوارع ويقضون هذه الأوقات في الأسواق، فالناس مقبلة على الصلاة وهم باتجاه معاكس أدبروا عن هذا النداء؛ فشتان بين حال أهل السنة وحال غيرهم!

ص: 273

وأهل السنة يحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة، فهم أعرف الناس بالحق وأرحم الناس بالخلق، فإذا عاش بعض أهل البدع في مجتمعات أهل السنة لا يجدون عند أهل السنة شططًا ولا إجحافًا معهم، بل يبتعدون عن أذاهم أو ظلمهم؛ لأن الله حرم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرمًا.

وإن تصرف بعض أفراد أهل السنة تصرفًا خاطئًا فذلك يعود إلى فعله، وليس الأمر دينًا أو عقيدة يدين بها أهل هذه المجتمعات.

وعلى العكس انظر كيف يتعامل أهل البدع في بلادهم مع أهل السنة؟! كيف يؤذونهم ويضطهدونهم بل ويقتلونهم؟!

وأهل السنة يحققون ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمر بالتراحم، ولذلك تجد أن أعمالهم في الخير عمَّت بلاد المسلمين جميعًا؛ فبنوا المساجد وحفروا الآبار؛ فتجد صاحب السنة (رجلًا كان أو امرأة) له مسجد في الصين وله مسجد في أقصى أفريقيا، وله مسجد في كل مكان، وله بئر هنا وبئر هناك، وله دار أيتام هنا، وله دار أيتام هناك، ويَكفلون آلاف الناس الذين لا يعرفونهم، وينفقون عليهم الأموال الطائلة؛ نشرًا للدين بينهم، ورحمةً بهم، وتأليفًا لقلوبهم، ومساعدة وعونًا لهم في الابتلاءات المختلفة.

وليس بين هذا المسلم المنفق وبين غيره من إخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلا وشيجة هذا الدين التي تجعله يكفل أيتام المسلمين، ويقوم برعايتهم وتعليمهم، وهناك رجال نذروا أنفسهم لهذا العمل؛ فنشروا هذا الخير شرقًا وغربًا، وهذا تحقيق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المُؤمنين في توادِّهم، وتَرَاحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عُضو تَدَاعى له سائر الجسد بالسَّهر

ص: 274

والحُمَّى»

(1)

، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«المُؤمن للمؤمن كالبُنيان يشدُّ بعضه بعضًا»

(2)

.

فيحققون هذا ويقومون به- بحمد الله- خير قيام.

وصاحب السنة في السراء شاكر لربه نعمه، وفي حال المصيبة صابر محتسب؛ فلا سخط ولا لطم للخدود ولا شق للجيوب، ولا دعاء بدعوى الجاهلية.

وليس هناك- بحمد الله- من نائحة تنوح عند جنائز أهل السنة، ولا يصحبها شيء من البدع، وإنما يُغَسِّلون موتاهم ويكفنونهم ويصلون عليهم كما جاءت بذلك السنة.

وكذلك ليس عندهم قبور تُشَيَّدُ، ولا سرادقات لعزاء تُقام، ولا اجتماع لأربعين، ولا لسنوية، ولا غير ذلك، وإنما يكتفى بما جاءت به السُّنَّة المشرفة.

فانظر إلى حال أهل السنة وحال أهل البدع؛ لتعرف نعمة الله على أهل السنة؛ فهم في السراء شاكرون، وفي الضرَّاء صابرون، ويتواصون ويتناصحون بأن لله يبتلي بالسراء والضراء؛ قال تعالى:{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر: 15 - 17]، أي: ليس النعمة إكرامًا، وليس التقدير إهانة، وإنما الكلُّ ابتلاء، قال جل جلاله:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].

فصاحب السنة يعلم أنَّ ما هو فيه إنما هو ابتلاء؛ سواء كان رخاء أم شدة، وسواء كان غنى أم فقرًا، فنحن نشكر الله على نعمه،

(1)

أخرجه البخاري (6011) ومسلم (2586)، من حديث النعمان بن بشير ?.

(2)

أخرجه البخاري (6026) ومسلم (2585) من حديث أبي موسى الأشعري ?.

ص: 275

ومن شكر النعم أداء ما افترض الله على العبد في هذا الحق؛ سواء كان مالًا أو صحة أو ولدًا.

فمن شكر نعمة الأولاد: أن يحسن الوالدن تربيتهم، وأن يحرصوا على تعليمهم أمور الصلاة، وتعليمهم فرائض الإسلام؛ لكي ينشأوا مستقيمين على شرع الله، فينتشر الخير في المجتمع.

وكذلك أهل السنة يقومون بالدعوة إلى الله، والحث على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق»

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا»

(2)

، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم باللين والعفو فقال جل وعلا:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

وأمر صلى الله عليه وسلم بصلة الرِّحم، والصدق في المعاملة وحُسن الجوار حتى مع الكافر.

وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم الرفق بالخدم وبكل مَنْ تحت يدك، يقول أنس رضي الله عنه:«خدمتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أُف، ولا: لِمَ صنعتَ؟ ولا: أَلَا صنعتَ؟»

(3)

.

وأهل السنة في وعظهم وإرشادهم يأمرون بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والإحسان إلى الخلق، والرفق بالخَدَم والضعفاء، والنهي عن الفخر

(1)

أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» رقم (273)، وأحمد في «المسند» (2/ 318)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (45).

(2)

أخرجه البخاري أحمد في «المسند» (16/ 478)(10816)، وأبو داود (4682) من حديث أبي هريرة ?، وصححه الألباني في «المشكاة» (5101).

(3)

أخرجه البخاري (6038).

ص: 276

والخيلاء والاستطالة على الناس، ويسعون في قضاء مصالحهم.

وأهل السنة فيهم الصديقون والشهداء والصالحون، والعلماء العاملون، وكم تركوا من آثار علمية تتزود منها الأمة، وتغترف منها.

فأهل السنة هم خير الأمة، وهم الطائفة المنصورة الباقية والظاهرة إلى يوم القيامة.

نسأل الله أن يجعلنا من هذه الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.

اللهم يا مقلب القلوب ثَبَّت قلوبنا على هذه العقيدة الصحيحة، واجعلنا من الملتزمين بها علمًا وعملًا، وأَحْيِنا على ذلك غير مبدلين ولا فاتنين ولا مفتونين، ولا تَقبضنا إلا وأنت راض عنا .. آمين.

ص: 277