المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

القواعد النورانية في اختصار الدرر المضية المشهور بـ: مختصر الفتاوى المصرية   للعلامة محمد بن علي - مختصر الفتاوى المصرية - ط ركائز - جـ ١

[بدر الدين البعلي]

فهرس الكتاب

القواعد النورانية

في

اختصار الدرر المضية

المشهور بـ: مختصر الفتاوى المصرية

للعلامة

محمد بن علي بن محمد اليونيني البعلي

الشهير بـ: ابن اسباسلاز (778 هـ)

قوبل على نسخة بخط المؤلف وثلاث نسخ أخرى

المجلد الأول

تحقيق

د. عبد العزيز بن عدنان العبدان

د. أنس بن عادل اليتامى

ركائز

للنشر والتوزيع

ص: 1

دار اطلس الخضراء، 1440 هـ

فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر

البعلي، محمد علي

القواعد النورانية في اختصار الدرر المضية،/ محمد علي اليعلي؛

عبد العزيز العيدان؛ انس عادل اليتامى، - الرياض، 1440 هـ

526 ص؛ 17 × 24 سم

ردمك: 0 - 2 - 91199 - 602 - 978

1 -

القواعد الفقهية أ- العيدان، عبد العزيز (محقق)

ب- اليتامى، انس عادل (محقق) ج- العنوان

ديوي: 251.6

4122/ 1440

رقم الإيداع: 4122/ 1440

ردمك: 0 - 2 - 91199 - 602 - 978

ركائز

للنشر والتوزيع

جميع الحقوق محفوظة

لدار ركائز للنشر والتوزيع

[email protected]

الطبعة الأولى

1440 هـ - 2019 م

دار اطلس الخضراء

للنشر والتوزيع

المملكة العربية السعودية - الرياض

هاتف 4266104/ 4266963، فاكس: 4257906

www.facebook.com/DARATLAS

twitter:@dar-atlas

[email protected]

جمعية إحياء التراث الإسلامي

المشروع الوقفي الكبير

طبع على نفقة المشروع الوقفي الكبير - جمعية إحياء التراث الإسلامي

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

إنَّ الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فإن من أعظم المنن التي يمتن الله بها على عباده المؤمنين أن يجعل فيهم من يبين لهم دينه، ويوضح لهم طريقه، قال تعالى ممتنًّا على عباده برسله:(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).

ومن رحمته تعالى أن جعل علماء هذه الأمة بمثابة الأنبياء في بني إسرائيل، ينفون عن دين النبي صلى الله عليه وسلم تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فهم أمنةً على دينه، وحُرَّاسًا لشريعته، وجنودًا يذبون عن ملته.

وإن من هؤلاء العلماء الذين أبلوا في الإسلام بلاء حسنًا،

ص: 5

وجاهدوا فيه جهادًا كبيرًا؛ حتى صار يُسمى بين العلماء والأكابر بـ: شيخ الإسلام، وكُتب في ترجمته الصفحات، وتوالت على سيرته الكلمات العاطرات؛ أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني رحمه الله تعالى، وهو عَلَمٌ لا يحتاج إلى تعريف، صنَّف المصنفات العظام، وكتب الفتاوى والأجوبة لأهالي الأمصار، وكانت فتاويه تطير بها الركبان، فتارة يجيب على السؤال في سطر أو سطرين، وتارة يكتب فيها المجلدات، بحسب الحاجة والمقام، وقد يستطرد في الفتوى ويذكر فيها الأقوال والمذاهب والمآخذ والأدلة، وكان قد كتب فتاوى في الشام، وفتاوى في مصر، وفتاوى في غيرها من البلاد، فكثرت فتاويه وانتشرت وعمَّت حتى قال ابن رجب:(وأما القواعد المتوسطة والصغار وأجوبة الفتاوى؛ فلا يمكن الإحاطة بها، لكثرتها وانتشارها وتفرقها)

(1)

.

وكان من جملة ما كتبه من الفتاوى وهو بمصر؛ تلك الفتاوى والأجوبة التي قام تلميذه شمس الدين محمد ابن عبد الهادي بجمعها وترتيبها على أبواب الفقه في زمن الشيخ رحمه الله، وسُميت بـ:(الفتاوى المصرية)، وبعضهم سماها بـ (الدرر المضية)، وسماها آخرون بـ (الدرة المضية).

ولما كان كثيرٌ من تلك الفتاوى بحاجة إلى اختصار واعتصار؛ ليستفيد الراغب في معرفة زبدتها ويحصل مقصودها، ممن ضاق عليه

(1)

ذيل الطبقات (4/ 523).

ص: 6

وقته عن مطالعة جميع الفتوى، أو ضعفت عنها همته؛ انبرى العلامة تلميذ شيخ الإسلام الفقيه محمد بن علي بن محمد البعلي للفتاوى المصرية فقام باختصارها، وقال:(وقد استخرت الله تعالى في اختصار شيء من الدُّرر المضيةِ، من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميَّة، مما أكثرُه فقه المسائل، وما عسُر علمه على الأوائل، فأتى به بأوضح الدلائل رحمه الله، موضِّحًا القواعد السُّنِّية، جامعًا لشتات مسائله المهمة، وسميته: «القَوَاعِدَ النُّوْرَانِيَّةَ فِي اخْتِصَاِر الدُّرَرِ المُضِيَّةِ»).

وقد وفَّق الله تعالى الباحثين عن تراث شيخ الإسلام ابن تيمية في الوقوف على غالب تلك الفتاوى المصرية، فكثير منها موجود في مجموع الفتاوى ومستدركه لابن قاسم، وفي الفتاوى الكبرى، وفي جامع المسائل، إلا أن ثَمَّة أجزاءً من الفتاوى المصرية لا تزال في عداد المفقود - يسر الله إيجادها -، وهي موجودة في هذا المختصر بحمد الله تعالى.

وقد منَّ الله علينا بنسخة من هذا المختصر مكتوبة بخط المؤلف رحمه الله، وهي نسخة كاملة جيدة، وهذا ما يُميِّز هذه النسخة عن غيرها من النسخ الخطية الموجودة للكتاب، فإن غيرها من النسخ متأخرٌ عنها كثيرًا، حيث إن المؤلف كتبها في القرن الثامن، والنسخ الأخرى الموجودة كُتبت في القرن الثالث عشر والرابع عشر، فكثر في تلك النسخ الخطأ والسقط والتحريف، فعزمنا أمرنا على القيام بخدمته والعناية به، ومقابلته بما وُجد من أصل تلك الفتاوى وتصحيح ما يحتاج

ص: 7

إلى تصحيح، وذكر اختيارات شيخ الإسلام التي أطلق الخلاف فيها في المختصر على وجه الاختصار، مع تخريج الأحاديث والآثار تخريجًا مختصرًا، فما كان في هذا العمل من صواب فمن الله وحده، وما كان من اجتهاد خاطئ فمنَّا ومن الشيطان، ونرجو من الله العفو والغفران، ومن القارئ النصح والبيان.

والحمد لله رب العالمين

المحققان

ص: 8

‌ترجمة المؤلف

(1)

•‌

‌ اسمه ونسبه:

هو محمد بن علي بن محمد

(2)

بن عمر بن يعلى، اليونيني، البعلي،

(1)

مصادر الترجمة:

- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، تأليف: ابن حجر العسقلاني، مطبوع عن مجلس دائرة المعارف العثمانية - حيدر آباد/ الهند (5/ 339).

- إنباء الغمر بأبناء العمر، تأليف: ابن حجر العسقلاني، مطبوع عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر (1/ 145).

- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ابن العماد الحنبلي، مطبوع عن دار ابن كثير - دمشق (8/ 439).

- الجوهر المنضد في طبقات متأخري أصحاب الإمام أحمد، تأليف: يوسف بن عبد الهادي، ابن المبرد الحنبلي، مكتبة العبيكان (ص 144).

- السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، تأليف: محمد بن عبد الله بن حميد النجدي ثم المكي، مطبوع عن مؤسسة الرسالة، (1/ 1016).

- تسهيل الوابلة لمريد معرفة الحنابلة، تأليف: صالح بن عبد العزيز العثيمين، مطبوع عن مؤسسة الرسالة، (3/ 1175).

- الأعلام، تأليف: خير الدين بن محمود الزركلي، مطبوع عن دار العلم للملايين، (6/ 286).

- معجم المؤلفين، تأليف: عمر بن رضا كحالة، مطبوع عن مكتبة المثنى في بيروت، (11/ 58).

(2)

جاء اسمه في الجوهر المنضد: (محمد بن حسن)، خلافًا لسائر مصادر ترجمته، وفي الأعلام للزركلي:(محمد بن علي بن أحمد)، وقال:(وجعلت اسم جده "أحمد" كما هو بخطه، خلافًا لما في المصادر)، واسمه المثبت على المخطوط الذي بخطه:(محمد علي محمد الحنبلي)، وذلك في مواضع من المجموع الذي حوى هذا الكتاب وغيره، وهو الموافق لسائر المصادر الأخرى، ولعل الزركلي اختلط عليه هذا العالم بابن اليونانية - وهو معاصر للمؤلف -، واسمه: محمد بن علي بن أحمد اليونيني البعلي، وله مختصر تفسير ابن كثير.

ص: 9

بدر الدين

(1)

، أبو عبد الله، الشهير بـ: ابن أسبا سلار.

وهو هكذا في تاريخ ابن قاضي شهبة، وتبعه ابن المبرد في الجوهر المنضد، وابن العماد في شذرات الذهب، والعثيمين في تسهيل السابلة.

وفي الدرر الكامنة لابن حجر: (ابن اسبهادر)، وقال هو في إنباء الغمر:(ابن اسلار)، وفي السحب الوابلة:(الباسلار)، وفي إرشاد الطالبين لابن ظهيرة:(افهلار).

وفي الجوهر المنضد: (أسباسلار: اسم أعجمي، ذكره الشيخ تقى الدين الجراعي في "شرح التسهيل"، مثل بهاء الدين ونحوه).

•‌

‌ مولده، ونشأته، ومشايخه، وتلاميذه:

قال ابن حجر في إنباء الغمر: (ولد سنة 714 هـ)، في مدينة بعلبك من مدن الشام.

وكان رحمه الله طويل الروح، حسن الشكل، طِوالًا، مخضبًّا بالحناء،

(1)

وقال في الجوهر المنضد: (شمس الدين)، خلافًا لسائر المصادر.

ص: 10

وكان أبوه خياطًا، وكان رجلًا فاضلًا، حسن العبارة.

روى عن القطب اليونيني (726 هـ) - وقد أكثر عنه -، وسمع من الحجَّار (730 هـ)، وتفقه بابن عبد الهادي (744 هـ)، وابن القيم (751 هـ)، وغيرهما، وسمع من جماعة من شيوخ بلده.

وقد أخذ عن شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه كتب بخطه على طرة هذا المختصر (21/ ب) ما نصه:(هذا ما اختصره كاتبه محمد علي محمد الحنبلي من فتاوى شيخه لتكون تذكرة لي أرجع إليها)، ولم يذكر في ترجمته أَخْذِ عن شيخ الإسلام من عدمه، إلا أن خطه بذلك يدفع الشك في كونه من شيوخه.

وجلس للتدريس بجامع بعلبك، قال ابن حجر:(سمع منه الفضلاء، وكان إمامًا، عالمًا، عليه مدار الفتوى ببلده).

وكان مفيدًا في المدرسة النورية في دمشق، والنورية: نسبة إلى نور الدين زنكي، قيل: هو الذي أنشأها، وقيل: بل ولده إسماعيل.

•‌

‌ ثناء العلماء عليه:

أثنى على العلامة محمد بن علي البعلي جماعةُ من العلماء والمحدثين، فمن ذلك - على سبيل المثال لا الحصر-:

قال ابن حجر: (الإمام العلامة البدر، أبو عبد الله، شيخ الحنابلة ببعلبك).

وقال ابن قاضي شهبة: (الشيخ الإمام العالم المفتي).

ص: 11

وقال ابن المبرد: (الشيخ الإمام العالم العلامة الفقيه الزكي المحصل).

وقال العليمي: (الشيخ الإمام، العلَّامة البارع، النَّاقد المحقِّق، أحد مشايخ المذهب).

•‌

‌ مؤلفاته:

ذكرت المصادر من مصنفاته:

1 -

التسهيل: وهو كتاب مطبوع عن دار ابن الجوزي، بتحقيق الشيخ عبد الله الفوزان وفقه الله، ثم قام بشرحه.

قال ابن المبرد: (صنف كتاب "التسهيل"، وهو قول واحد في مذهب أحمد لم يذكر فيه خلافًا إلا في باب صلاة الجماعة، فإنه سمع مسائل وأطلق فيها الخلاف). وقال العليمي: (عبارته وجيزة ومفيدة، وفيه من الفوائد ما لم يوجد في غيره من المطولات، أثنى عليه العلماء).

وهذا المختصر ذكره المرداوي من جملة ما ذكره من الكتب التي استفاد منها في الإنصاف.

وثمَّة كتاب آخر اسمه (التسهيل)، نقل عنه المرداوي في الإنصاف كثيرًا، وقال في مقدمته:(و «التذكرة»، و «التسهيل» لابن عبدوس المتأخر، على ما قيل)

(1)

، فهو مراده عند الإطلاق.

(1)

الإنصاف 1/ 19.

ص: 12

وهل ابن عبدوس هذا هو علي بن عمر بن عبدوس الحراني المتوفى (559 هـ)، أو هو قرينه الذي قرأ عليه نصر الله بن عبد العزيز بن عبدوس المتوفى قبل الستمائة؟

(1)

.

2 -

شفاء العليل في اختصار إبطال التحليل لابن تيمية: وهو كتاب مطبوع عن عالم الفوائد، بتحقيق د/ علي العمران وفقه الله.

3 -

مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم، لابن تيمية: مطبوع عن عالم الفوائد، بتحقيق د/ علي العمران وفقه الله.

4 -

المنهج القويم في اختصار الصراط المستقيم، لابن تيمية: مطبوع عن عالم الفوائد، بتحقيق د/ علي العمران وفقه الله.

5 -

القواعد النورانية مختصر الدرة المضية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو كتابنا هذا.

(1)

كلاهما تحتمله مقولة المرداوي، وكلاهما وصف بالفقيه، وكلاهما له مصنف في الفقه، إلا أن علي بن عمر اشتهر بالوعظ والتذكير على طريقة ابن الجوزي، ووُصِف نصر الله بن عبد العزيز بكونه ممن ينقل المذهب نقلًا جيدًا، وقد اعتمد المرداوي على كتاب التذكرة في تصحيح المذهب، كما أنه متأخر عن الأول، فيشبه أن يكون نصر الله هو مراد المرداوي في كلامه، والله أعلم.

وترجم ابن رجب لعلي بن عمر بن عبدوس الحراني في ذيل الطبقات (2/ 90)، وترجم لنصر الله بن عبد العزيز بن عبدوس الحراني في (2/ 550).

ص: 13

•‌

‌ وفاته:

توفي في شهر ربيع الأول سنة (778 هـ)، وقال في السحب الوابلة:(توفي سنة 777 هـ، قاله في الشذرات، وفي الدرر 78)، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

ص: 14

‌التعريف بالكتاب

•‌

‌ نسبة الكتاب للمؤلف:

جاءت نسبة الكتاب للبعلي في جميع النسخ الخطية التي وقفنا عليها، وهي أربع نسخ، وأعلاها النسخة التي كتبها بيده وقال فيها:(هذا ما اختصره كاتبه محمد علي محمد الحنبلي)، وكذا في نسخة جامع عنيزة، المكتوبة سنة 1298 هـ بخط الشيخ عبد الله آل سليم، والنسخة الأزهرية المكتوبة سنة 1322 هـ، والتي اعتمدها حامد الفقي، ونسخة الأوقاف الكويتية المكتوبة سنة 1334 هـ، وكانت في أملاك الشيخ عبد الله الخلف الدحيان.

كما أن المجموع الذي تضمن جملة من المختصرات، كتب فيه البعلي بخطه في مواضع منه أنه مختصِره وكاتبه؛ كما في بداية كتابه شفاء العليل في اختصار إبطال التحليل، قال في (143/ ب) من المجموع:(اختصره كاتبه محمد علي محمد الحنبلي من إقامة الدليل على إبطال التحليل).

وفي (177/ ب) من المجموع كتب بخطه: (هذا ما اختصره كاتبه الفقير إلى الله تعالى محمد علي محمد الحنبلي من الصراط المستقيم لشيخ الإسلام بن تيمية الحراني رحمه الله تعالى، وسميته: المنهج القويم في اختصار الصراط المستقيم جعله الله خالصًا لوجهه الكريم).

ص: 15

وذكر الكتاب للمؤلف: الزركلي في الأعلام (6/ 286)، وكحالة في معجم المؤلفين (11/ 58)، وَوَهِما في جعل هذا المختصر هو كتابه المعروف (التسهيل)، والحق أنهما كتابان مختلفان.

وعلى هذا فلا يلحقنا شك في كون الكتاب للبعلي رحمه الله تعالى.

•‌

‌ توثيق اسم الكتاب:

جاءت تسمية الكتاب بخط المؤلف على المخطوط (21/ ب)، حيث قال:(الله الموفق، هذا ما اختصره كاتبه محمد علي محمد الحنبلي من فتاوى شيخه لتكون تذكرة لي أرجع إليها، وعمدة أعتمد وأصول عليها، وسميته: القواعد النورانية في اختصار الدرر المضية لشيخ الإسلام ابن تيمية).

وقد جاءت تسميته اختصارًا بـ: (مختصر الفتاوى المصرية)، في بعض المخطوطات المتأخرة؛ منها النسخة المودعة في مكتبة جامع عنيزة، والمكتوبة سنة 1298 هـ، وسماه بذلك الزركلي في الأعلام (6/ 286)، وكحالة في معجم المؤلفين (11/ 58)، واعتمد عليه الفقي في طبعته للكتاب.

وعلى هذا فالاسم الثابت لهذا المختصر ما سطَّره المؤلف بخطه: (القواعد النورانية في اختصار الدرر المضية لشيخ الإسلام ابن تيمية).

ص: 16

•‌

‌ التعريف بالفتاوى المصرية:

هي مجموعة من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، كتبها لما كان في مصر، فيما بين (705 هـ - 712 هـ).

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن هذه الفتاوى تقع في ست مجلدات، فقال في النونية عند ذكر كتب شيخ الإسلام رحمه الله

(1)

:

وَكَذَاكَ أَجْوِبَةٌ لَهُ مِصْرِيَّةٌ

فِي سِتِّ أَسْفَارٍ كُتِبْنَ سِمانِ

وذكر ابن رجب رحمه الله أنها تقع في سبع مجلدات، وقال بعد أن عدَّد جملة من مصنفات شيخ الإسلام - منها الفتاوى المصرية -:(وكلُّ هذه التصانيف - ما عدا كتاب الإيمان - كتبه وهو بمصر في مدة سبع سنين، صنفها في السجن)

(2)

.

يقول ابن عبد الهادي رحمه الله: (وقد جمع بعض أصحابه قطعة كبيرة من فتاويه الفروعية، وبوَّبها على أبواب الفقه في مجلدات كثيرة، تعرف بـ: الفتاوي المصرية، سماها بعضهم: الدرر المضية من فتاوى ابن تيمية)

(3)

.

والذي قام بجمعها هو ابن عبد الهادي نفسه والله أعلم، فقد جاء في مجموعةٍ ضمن مخطوطٍ تضمن جزءًا من الفتاوى المصرية ما نصه:

(1)

الكافية الشافية ص 230.

(2)

ذيل الطبقات 4/ 521.

(3)

العقود الدرية ص 54.

ص: 17

(مجموعة فتاوى من الدرة المضية في فتاوى ابن تيمية، انتقاها ابن عبد الهادي).

وهي مجموعة ضمن مخطوط بمكتبة بوردور بتركيا رقم (815)، وعدد أوراقه (135 ورقة)، وقد حُققت غالب الرسائل التي فيه في جامع الرسائل (المجموعة السابعة، ص 397) بتحقيق الدكتور علي العمران وفقه الله.

وهذه الرسائل الموجودة في ذلك المجموع توجد مختصرة في كتابنا هذا.

وقد جاء في بداية تلك المجموعة ما نصه: (قال الشيخ الإمام العالم العلامة ابن عبد الهادي رحمه الله ورضي عنه: لما رأيت فتاوى الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام، وناصر السنة، فريد الوقت، وحيد الدهر، بحر العلوم، بقية المجتهدين، حجة المحققين، تاج العارفين، ولسان المتكلمين، رحلة الطالبين، إمام الزاهدين، ومنار المجاهدين، الإمام الحجة النوراني، والعالم الرباني، تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية الحراني؛ غاية المقاصد، كثيرة الفوائد، سارعت فيما سهل الله عليَّ به منها لتكون لي عمدة أعتمد عليها، وحجة أستند إليها، ورتبتها أبوابًا على أبواب الفقه، وسميتها: «الدرة المضية في فتاوى ابن تيمية» رحمه الله، وختم لنا وله بخير).

وخلاصة الكلام: أن هذه الفتاوى سماها ابن عبد الهادي بالدرة المضية، وبعضهم سماها بالدرر المضية، وبعضهم سماها بالفتاوى

ص: 18

المصرية، وهي مجموعة من الفتاوى والأجوبة كتبها شيخ الإسلام في مصر، في المدة التي كان فيها في السجن، مدة سبع سنين، قام بجمعها وترتيبها على أبواب الفقه تلميذه شمس الدين محمد بن أحمد ابن عبد الهادي المتوفى سنة (744 هـ).

وقد جاء كثير من هذه الفتاوى في مجموع الفتاوى ومستدركه لابن قاسم، وفي الفتاوى الكبرى، وفي جامع المسائل، وبعض هذه المسائل والأجوبة لا يزال في عداد المفقود

(1)

.

•‌

‌ منهج المؤلف في الاختصار:

اتسم منهج بدر الدين البعلي رحمه الله في اختصاره للدرر المضية بسمات عديدة، من ذلك على وجه الاختصار:

1 -

أنه اختصرها لنفسه؛ لتكون تذكرة له، كما كتب بخطه على طرة المخطوط:(لتكون تذكرة لي أرجع إليها، وعمدة أعتمد وأصول عليها)، ولذا كانت بعض كلمات المختصر غير واضحة، والكتابة فيه سريعة، والاختصار أحيانًا يكون شديدًا مما قد يؤثر في فهم الفتوى على وجهها، وقد يكون الاختصار مخلًّا كما يظهر عند الرجوع إلى أصل الفتوى، وقد أشرنا إلى ذلك في الحاشية في تلك المواطن.

(1)

ذكر الشيخ محمد عزير شمس وفق الله في مقدمة جامع المسائل (المجموعة الرابعة، ص 7)، أنه وقف على أربعة مجلدات من أصل ست أو سبع مجلدات من الفتاوى المصرية، وهذه المجلدات الأربع كلها مطبوع، إما ضمن مجموع ا لفتاوى أو مستدركه، وإما في جامع المسائل، وإما في الفتاوى الكبرى.

ص: 19

2 -

أنه كثيرًا ما يختصر الفتوى اختصارًا شديدًا، فتجد الفتوى الواردة في صفحات متعددة يختصرها في سطرين أو ثلاثة.

3 -

أنه قد يدخل فتوى في أخرى إذا كانتا في موضوع واحد؛ فيضيف فوائد إحداهما على الأخرى من أجل الاختصار.

4 -

أنه قد يقدم الكلام في الفتوى ويؤخره بحسب ما يراه مناسبًا.

5 -

أنه يعلق أحيانًا على بعض الفتاوى ويستدرك، وذلك في ثلاثة مواطن فقط.

6 -

أنه حذف الأسئلة الواردة في الفتاوى وضمَّنها الفتوى عند الحاجة إلى ذكرها، إلا في مواطن يسيرة ذكر جزءًا من السؤال والجواب.

7 -

كتب في هوامش بعض الصفحات بداية المجلد من الفتاوى المصرية، فيقول مثلًا - كما في (81/ ب):(أول المجلد الرابع).

وجزى الله تعالى بدر الدين البعلي خيرًا، فقد حفظ لنا في مختصره هذا الفتاوى المفقودة من فتاوى وأجوبة شيخ الإسلام رحمه الله، فكان في هذا المختصر من الفوائد ما يحتاج إليه من يعتني بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

ص: 20

•‌

‌ طبعات الكتاب:

طُبع الكتاب لأول مرة سنة 1368 هـ - 1949 م على نفقة الملك عبد العزيز، بتصحيح محمد حامد الفقي، وإشراف وتصحيح عبد المجيد سليم - مفتي الديار المصرية سابقًا ورئيس لجنة الفتوى بالأزهر -، عن مطبعة السنة المحمدية في القاهرة.

ثم أعيد طبعه في باكستان، عن دار نشر الكتب الإسلامية، سنة 1397 هـ - 1977 م.

ثم أعاد أحمد حمدي إمام طبعه مع المراجعة والتصحيح والفهرسة؛ في مطبعة المدني، 1400 هـ - 1980 م.

ثم صُوِّرت طبعة الفقي في دار الكتب العلمية سنة (1405 هـ - 1985 م).

ثم أُعيد في دار ابن رجب بدراسة وتعليق وتصحيح محمد صفوت الشوادفي رحمه الله تعالى في مجلدين، اعتمد فيها على طبعة الفقي رحمه الله.

وأودعها ابن قاسم النجدي في المستدرك على مجموع الفتاوى.

وكان اعتماد الفقي وعبد المجيد سليم في طباعة الكتاب على نسخة وحيدة محفوظة في دار الكتب الأزهرية، وقد ذكر الشيخ الفقي في مقدمة الطبعة ما نصه: (ولما كانت هذه النسخة الوحيدة من الكتاب، وهي مكتوبة في سنة 1322 هـ، كانت بأشد الحاجة إلى تصحيح دقيق بإشراف عالم ضليع في السنة وضليع في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية،

ص: 21

فلم يكن بهذه المكانة إلا حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد المجيد سليم حفظه الله وأدام توفيقه).

ولمَّا كانت النسخة التي اعتمد عليها الفقي رحمه الله متأخرة وكثيرة السقط والتصحيف؛ احتاج رحمه الله إلى زيادة بعض الكلمات أو تغييرها لستقيم المعنى، وقد يحتاج -بسبب سُقم النسخة التي بين يديه- إلى زيادة جملة من كلمتين أو أكثر، وفي بعض المواطن يكون السقط كبيرا لا يتمكن من تصحيحه فيتركه كما هو في المخطوط، مما يسبب ركة في العبارة وفساد في المعنى؛ بَيْد أن النسخة المكتوبة بخط المؤلف حَلَّت تلك الأخطاء والتصحيفات بحمد الله تعالى؛ فجزى الله الشيخ محمد الفقي والشيخ عبد المجيد سليم على ما قاموا به من إخراج الكتاب والاجتهاد في تصحيحه ثم طباعته.

ص: 22

‌وصف النسخة المعتمدة

اعتمدنا في تحقيق هذا الكتاب المبارك على نسخة صحيحة بخطة المؤلف رحمه الله، من ضِمن مجموع حوى أربعة مختصرات ومسألتين، وجميع هذا المجموع بخط البعلي رحمه الله.

وهو مجموع محفوظ في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم (8353 خ)، بإهداء من مكتبة العسافي، وعدد أوراق المخطوط (229) ورقة، وعدد أسطر الورقة تقريبًا (28) سطرًا، وتتراوح عدد الكلمات ما بين (15 - 20) كلمة.

وحوى المجموع ما يلي:

1 -

مختصر الصارم المسلول، من لوحة (2) إلى (21/ أ).

2 -

القواعد النورانية في اختصار الدرر المضية لشيخ الإسلام ابن تيمية، من لوحة (21/ ب) إلى (143/ أ).

3 -

مختصر إبطال التحليل، من لوحة (143/ ب) إلى (176/ ب).

4 -

مختصر الصراط المستقيم، من لوحة (177/ ب) إلى (211/ أ).

5 -

فصل في طواف الحائض والجنب، لشيخ الإسلام، من لوحة (211/ ب) إلى (222/ أ).

ص: 23

6 -

مسألة في الزيت اليسير إذا وقعت فيه نجاسة، لشيخ الإسلام، من لوحة (222/ ب) إلى (229/ ب).

وقد كتبه المؤلف رحمه الله بخط جيد، إلا أن كثيرًا من كلماته غير منقوطة، كما يوجد به سقط لبعض الحروف بسبب سرعة الكتابة، ولعل السبب في ذلك أن المؤلف قد كتبه لنفسه، حيث قال عن سبب اختصاره:(لتكون تذكرة لي أرجع إليها، وعمدة أعتمد وأصول عليها).

ولذا قمنا بمقابلة هذه النسخة على نسخ متأخرة، ولعلها مأخوذة من نسخة المؤلف أو من نسخة مأخوذة عنها، وهي:

1 -

نسخة محفوظة في إدارة المخطوطات بوزارة الأوقاف الكويتية، برقم (خ 81)، وعدد أوراقها (214 ق)، وعدد الأسطر (21) سطرًا، وهي نسخة مهداة من ورثة الشيخ عبد الله الخلف الدحيان رحمه الله.

وهي نسخة مكتوبة سنة 1334 هـ، وقد طمس الكاتب اسمه بعد قوله:(كتبه الفقير إلى الله تعالى)، ثم كتب:

ستبقى خطوطي برهة بعد موتي لأنها تبقى وتفنى أناملي

فيا ناظرَ الخطِّ سَلِ الله رحمة

لصاحبه المدفون تحت الجنادل

ورمزنا لهذه النسخة بـ (ك).

2 -

نسخة محفوظة في عنيزة الوطنية عن مخطوطات جامع عنيزة، برقم (99)، وعدد أوراقها (150 ق)، وعدد الأسطر (25) سطرًا، وهي معارة للمكتبة من علي العبدالله البسام.

ص: 24

وهي منسوخة في غرة رجب سنة 1298 هـ، على يد الشيخ عبد الله آل محمد آل سليم.

ورمزنا لهذه النسخة بـ (ع).

3 -

نسخة المكتبة الأزهرية المحفوظة برقم (35515)، ولها صورة في مكتبة الجامعة الإسلامية برقم (7175)، وعدد أوراقها (202)، وقد نسخت سنة (1322 هـ)، وهي النسخة التي اعتمدها الشيخ حامد الفقي في طبعته.

ورمزنا لهذه النسخة بـ (ز).

ولكون هذه النسخ متأخرة عن نسخة المصنف كما ترى، ولكونها حوت سقطًا وتصحيفًا في كثير من كلماتها؛ لم نعتمد شيئًا منها في التحقيق، واكتفينا بالنسخة المكتوبة بخط المؤلف، إلا أننا استعنا بها في توضيح ما أشكل علينا من خط المصنف، كما استعنا بأصل الفتاوى من مجموع الفتاوى والفتاوى الكبرى إن وجدت.

ولهذا الكتاب نسخ خطية أخرى متأخرة أيضًا، لم نرجع إليها في تحقيقنا؛ لعدم الحاجة إليها، وهي:

1 -

نسخة محفوظة في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم (8996 خ)، بإهداء من مكتبة العسافي، وقد نسخت سنة (1301 هـ)، وناسخها علي بن عبدالله بن عيسى، وعدد أوراقها (232)، وعدد الأسطر (22).

ص: 25

وجاء على طرة المخطوط ما نصه: (بسم الله والحمد لله، هذه النسخة كثيرة الغلط فلا ينبغي الاعتماد على ما سطر فيها إلا بعد مراجعة الأصول الصحيحة، قاله كاتبه: علي بن عبدالله بن عيسى عفى الله عنه آمين).

2 -

نسخة في متحف إيرفان (فروج سلاطين) في أرمينيا، المحفوظ برقم (أرمينيا 38)، وتاريخ النسخ (789 هـ) على ما في الفهارس، وحاولنا الوقوف عليه ولم يتيسر لنا ذلك.

ص: 26

‌منهج التحقيق

1 -

اعتمدنا على نسخة واحدة في التحقيق، وهي النسخة المكتوبة بخط المؤلف، واستعنا - عند الحاجة - ببعض النسخ الخطية الأخرى، وبأصل الفتوى من مجموع الفتاوى والفتاوى الكبرى وجامع المسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية - إن وجدت الفتوى -.

2 -

أثبتنا الفروق من النسخ الثلاثة الأخرى عند الحاجة فقط.

3 -

إن وُجد خطأ في كلمة أو عبارة في الأصل؛ أثبتنا الصواب من النسخ الأخرى إن وجد، وإلا فمن أصل الفتوى، ونشير إلى ذلك في الحاشية.

4 -

أشرنا في كل فتوى إلى أصلها من كتب شيخ الإسلام الأخرى إن وُجدت.

5 -

إذا أطلق شيخ الإسلام الخلاف في مسألة، وكان له ترجيح في كتبه الأخرى أو كتب تلاميذه؛ أشرنا إليه في الحاشية.

6 -

قمنا بتوثيق الآيات القرآنية، وتخريج الأحاديث والآثار تخريجًا مختصرًا.

ص: 27

7 -

ضبطنا ما يحتاج إلى ضبط من الكلمات، سواء ضبطًا صرفيًّا أو إعرابيًّا.

8 -

شرحنا الكلمات التي نرى أنها بحاجة إلى شرح من مصادرها المعتمدة من كتب اللغة والمعاجم والغريب.

9 -

أثبتنا علامات الترقيم الهامة، واعتنينا بترتيب الكلام وفقرات الكتاب حسب الإمكان.

10 -

ترجمنا للمؤلف من مصادر ترجمته، وعرَّفنا بالكتاب في مقدمة التحقيق.

ص: 28

‌نماذج النسخ الخطية

لوحة الغلاف من الأصل

ص: 29

اللوحة الأولى من الأصل

ص: 30

اللوحة الأخيرة من الأصل

ص: 31

لوحة الغلاف من نسخة (ك)

ص: 32

اللوحة الأولى من نسخة (ك)

ص: 33

لوحة الأخيرة من نسخة (ك)

ص: 34

لوحة الغلاف من نسخة (ز)

ص: 35

اللوحة الأولى من نسخة (ز)

ص: 36

اللوحة الأخيرة من نسخة (ز)

ص: 37

لوحة الغلاف من نسخة (ع)

ص: 38

اللوحة الأولى من نسخة (ع)

ص: 39

اللوحة الأخيرة من نسخة (ع)

ص: 40

القَوَاعِدَ النُّوْرَانِيَّةَ فِي اخْتِصَاِر الدُّرَرِ المُضِيَّةِ

المشهور بـ مختصر الفتاوى المصرية

للعلامة

محمد بن علي بن محمد اليونيني البعلي

الشهير بـ: ابن أسبا سلار (778 هـ)

قوبل على نسخة بخط المؤلف، وثلاث نسخ أخرى

تحقيق

د. عبدالعزيز بن عدنان العيدان

د. أنس بن عادل اليتامى

ص: 41

بسم الله الرحمن الرحيم

وبِهِ نَستعينُ

وهُوَ حَسبُنا اللهُ ونعمَ الوكيلُ

الحمدُ للهِ مُبدِعِ العالمينَ، وناصرِ الحقِّ المبينِ إلى يومِ الدِّينِ، وصلَّى اللهُ على سيدنا محمدٍ خاتَمِ النبِيِّينَ.

وبعدُ؛ فإنَّ العلمَ أفضلُ ما صُرِفتْ إليه الهمةُ، وأجمعتْ عليه علماءُ الأمةِ، وقدِ استخرْتُ اللهَ تعالى في اختصارِ شيءٍ منَ الدُّرَرِ المضيةِ، من فتاوى شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ، مما أكثرُه فقهُ المسائلِ، وما عسُرَ علمُه على الأوائلِ، فأتى به بأوضحِ الدلائلِ رحمه الله، موضحًا القواعد السُّنِّية، جامِعًا لشتاتِ مسائلِه المهمةِ، وسميتُه:«القَوَاعِدَ النُّوْرَانِيَّةَ فِي اخْتِصَاِر الدُّرَرِ المُضِيَّةِ» وعلى اللهِ اعتمادي، وإليهِ تفويضي واستنادي، وهو حسبُنا ونعمَ الوكيلُ.

ص: 43

‌بَابُ النِّيَّةِ

‌مَحَلُّ النيةِ القلبُ

باتفاقِ الأئمةِ الأربعةِ وغيرِهم؛ إلَّا بعضَ المتأخِّرِينَ أوجبَ التلفُّظَ بها، وهو مسبوقٌ بالإجماعِ، ولكن تنازعوا: هل يُستحَبُّ التلفُّظُ بها؟ معَ اتفاقِهم على أنَّه لا يُشرَعُ الجهرُ بها، ولا تَكرارُها:

فاستَحبَّ التلفُّظَ بها طائفةٌ من أصحابِ أبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ.

ولم يَستحِبَّه آخرونَ من أصحاب مالكٍ وأحمدَ وغيرِهما، وهذا أقوى؛ فإنَّ ذلك بدعةٌ، لم يفعَلْها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولا أَصحابُهُ.

‌وأمَّا مقارنةُ النيةِ للتكبيرِ

؛ ففيها قولانِ مشهورانِ:

أحدُهما: لا يجبُ؛ كما هو مذهبُ أحمدَ وغيرِه.

والثاني: يجبُ؛ كما هو مذهبُ الشافعيِّ وغيرِه.

والمقارنةُ المشروطةُ: قد تُفسَّرُ بوقوعِ التكبيرِ عَقيبَ النيةِ، وهذا ممكنٌ لا صعوبةَ فيه، بل عامةُ الناسِ هكذا يُصلُّونَ، بل هو أمرٌ ضروريٌّ، ولو كُلِّفوا تَرْكَه لعجَزوا عنه.

وقد تُفسَّرُ بانبساطِ أجزاءِ النيةِ على أجزاءِ التكبيرِ؛ بحيثُ يكونُ أولُها معَ أولِه، وآخِرُها معَ آخرِه، وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّه يقتضي عزوبَ

ص: 44

كمالِ النيةِ في أولِ الصلاةِ، وخُلُوَّ أولِها عنِ النيةِ الواجبةِ.

وقد تُفسَّرُ بحضورِ جميعِ النيةِ معَ جميعِ أجزاءِ التكبيرِ، وهذا تُنُوزِعَ في إمكانِه؛ فمنهم مَن قال: إنه غيرُ ممكنٍ ولا مقدورٍ للبشرِ؛ فضلًا عن وجوبِه، ولو قيلَ بإمكانِه فهو مُتعسِّرٌ جدًّا؛ فيسقُطُ بالحَرَجِ.

ومما يُبطِلُ هذا والذي قبلَه: أنَّ المكبِّرَ ينبغي له أن يتدبرَ التكبيرَ ويتصوَّرَه، فيكونُ قلبُه مشغولًا بمعنى التكبيرِ، لا بما يشغَلُه عن ذلك منِ استحضارِ المنويِّ، ولأنَّها منَ الشروطِ، والشرطُ يتقدَّمُ العبادةَ، ويستمِرُّ حكمُها إلى آخِرِها؛ كالطهارةِ وغيرِها، واللهُ أعلمُ

(1)

.

‌والجهرُ بها وتكريرُها مَنْهيٌّ عنه

، وفاعلُه مُسيءٌ، وإنِ اعتَقدَه دِينًا فقد خرَج عن إجماعِ المسلمينَ، يُعرَّفُ ذلك، فإن أصرَّ قُتِلَ، ويجبُ تعريفُه ذلك.

‌ولو قال: كلٌّ

(2)

يعملُ في دينِه ما يشتهي

، فهي كلمةٌ عظيمةٌ، يجبُ أن يُستتابَ منها أيضًا.

فإن أصرَّ على الجهرِ بالنيةِ عُزِّرَ، وإن عُزِلَ عنِ الإمامةِ إذا لم يَنْتهِ؛ كان لعَزْلِه وجهٌ، فقد عزلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إمامًا لأجلِ بُزاقِه في القِبْلةِ. رواه أبو داودَ

(3)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من بداية الفصل إلى هنا في: جامع الرسائل، (المجموعة السابعة، ص 477)، وتوجد بعضها في مجموع الفتاوى (22/ 229)، والفتاوى الكبرى (2/ 94)، إلا أن فيها بياضًا كبيرًا في أصل الفتوى.

(2)

هكذا في (ع) و (ك)، وفي الأصل: كل من.

(3)

رواه أحمد (16561)، وأبو داود (481)، من حديث السائب بن خلاد رضي الله عنه: أن رجلًا أمَّ قومًا، فبصق في القبلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ:«لا يصلي لكم» ، فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«نعم» ، وحسبت أنه قال:«إنك آذيت الله ورسوله» .

ص: 45

فإنَّ الإمامَ عليه أن يصليَ كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصلي، ليس له أن يقتصرَ على ما يقتصرُ عليه المنفرِدُ، بل يُنهى عنِ التطويلِ والتقصيرِ، فكيفَ إذا أصرَّ على ما يُنهى عنه الإمامُ والمأمومُ والمنفردُ؟!

(1)

‌فَصْلٌ

(2)

‌نيةُ المرءِ خيرٌ من عمَلِه

، هذا قد قالَه غيرُ واحدٍ، وبعضُهم يرفعُه

(3)

، وبيانُه من وجوهٍ:

أحدُها: أنَّ النيةَ المجرَّدةَ منِ العملِ يُثابُ عليها، والعملُ بلا نيةٍ لا يُثابُ عليه.

الثاني: أنَّ مَن نَوى الخيرَ، وعمِلَ مَقْدورَه منه، وعجَز عن إكمالِه؛ كان له أجرُ عاملٍ؛ لقولِه:«إنَّ بالمدينةِ لرجالًا ما سِرْتُم مسيرًا إلا كانوا معكم»

(4)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (والجهرُ بها وتكريرُها) إلى هنا في مجموع الفتاوى (22/ 236)، والفتاوى الكبرى (2/ 98).

(2)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى (22/ 243)، والفتاوى الكبرى (1/ 211).

(3)

رواه الطبراني في الكبير (5942) من حديث سهل بن سعد رضي لله عنه.

(4)

رواه مسلم (1911)، من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 46

الثالثُ: أنَّ القلبَ ملِكُ البدنِ، والأعضاءُ جنودُه، فإذا طابَ الملِكُ طابتْ جنودُه، وإذا خبُثَ خبُثتْ، والنيةُ عمَلُ الملِكِ.

الرابعُ: أنَّ توبةَ العاجِزِ عنِ المعصيةِ تصحُّ عندَ أهلِ السنةِ، كتوبةِ المجبوبِ منَ الزنى، وكتوبةِ الأخرَسِ عنِ القَذْفِ، وأصلُ التوبةِ عزمُ القلبِ.

الخامسُ: أنَّ النيةَ لا يدخُلُها فسادٌ، فإنَّ أصلَها حبُّ اللهِ ورسولِه، وإرادةُ وجهِهِ، وهذا بنَفْسِه محبوبٌ للهِ ورسولِه، مَرْضيٌّ للهِ ورسولِه، والأعمالُ الظاهرةُ تدخُلُها آفاتٌ كثيرةٌ، ولهذا كانت أعمالُ القلوبِ المجرَّدةُ أفضلَ من أعمالِ البدنِ المجرَّدةِ، كما قيل: قوةُ المؤمنِ في قلبِه، وضعفُه في جسمِه، والمنافقُ عَكْسُه، واللهُ أعلمُ.

ص: 47

‌كِتَابُ الطَّهَارَةِ

‌قد صحَّ عنه

صلى الله عليه وسلم أنَّه لمَّا سُئِلَ عن بئرِ بُضاعةَ قال: «الماءُ طَهورٌ، لا يُنجِّسُه شيءٌ»

(1)

.

وبئرُ بُضاعةَ ليستْ جاريةً بالاتفاقِ، وما يُذكَرُ عنِ الواقديِّ أنَّها جاريةٌ؛ أمرٌ باطلٌ، والواقديُّ لا يُحتَجُّ به، ولم يكُنْ بالمدينةِ عينٌ جاريةٌ، وعينُ الزرقاءِ

(2)

وعيونُ حمزةَ

(3)

مُحدَثةٌ بعدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبئرُ بُضاعةَ باقيةٌ شرقيَّ المدينةِ، معروفةٌ.

وأمَّا حديثُ القُلَّتَينِ

(4)

: فالأكثرُ على أنه حسَنٌ يُحتَجُّ به.

(1)

رواه أحمد (11257)، وأبو داود (66)، والترمذي (66)، والنسائي (326)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

وتسمى أيضًا: بعين الأزرق، وهي العين التي كانت تسقي أهل المدينة ومنبعها حول قباء، سميت بذلك؛ لأن مروان الذي أجراها بأمر معاوية كان أزرق العينين. ينظر: وفاء الوفاء 3/ 150.

(3)

وهي مصرف عين الأزرق، ينزلها الحاج الشامي في وروده وصدوره. ينظر: وفاء الوفاء 1/ 13.

(4)

رواه أحمد (4605)، وأبو داود (63)، والترمذي (67)، والنسائي (52)، وابن ماجه (517)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال صلى الله عليه وسلم:«إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» .

ص: 49

وقد أُجيبَ عن كلامِ مَن طعَن فيه، وصنَّفَ أبو [عبدِ اللهِ]

(1)

محمدُ بنُ عبدِ الواحدِ المقدسيُّ جزءًا ردَّ فيه على ابنِ عبدِ البَرِّ وغيرِه.

ولفظُ «القُلَّةِ» معروفةٌ عندَهم أنه الجَرَّةُ الكبيرةُ كالحُبِّ، وكان يُمثَّلُ بها؛ كما في سِدْرةِ المُنتهى:«وإذا ورَقُها مِثْلُ آذانِ الفِيَلةِ، وإذا نَبْقُها مِثْلُ قِلالِ هجَرَ»

(2)

، وهي قِلالٌ معروفةُ الصَّنعةِ والمقدارِ، فإنَّ التمثيلَ لا يكونُ بمختلِفٍ، وهذا يُبطِلُ كونَ القُلَّةِ قُلَّةَ الجبلِ، فإنها مختلفةٌ، فيها المرتفعُ كثيرًا، وما هو دونَه، وليس في الوجودِ ماءٌ يصلُ إلى قُلَلِ الجبالِ إلا ماءُ الطوفانِ، فحَمْلُ كلامِه على مِثْلِ ذلك يُشبِهُ الاستهزاءَ بكلامِه.

ومِن عادتِه أنه يقدِّرُ المُقدَّراتِ بأوعيتِها؛ كقولِه: «ليسَ فيما دونَ خمسةِ أَوْسُقٍ صدقةٌ»

(3)

، والوَسْقُ حِمْلُ الجملِ، «وكان يتوضأُ بالمُدِّ، ويغتسلُ بالصاعِ»

(4)

، وذلك من أوعيةِ الماءِ، فكذا تقديرُ الماءِ بالقِلالِ مناسبٌ؛ لأنها وِعاءُ الماءِ

(5)

.

(1)

ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

(2)

رواه البخاري (3887)، من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (1405)، ومسلم (979)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري (201)، ومسلم (325)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(5)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (قد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 21/ 41، الفتاوى الكبرى 1/ 215.

ص: 50

‌فَصْلٌ

‌الماءُ المتغيرُ بالطاهرِ

مما يمكنُ صَوْنَه عنه فيه قولانِ؛ لأحمدَ وغيرِه.

قال شيخُ الإسلامِ: والصحيحُ عندي - وعليه أكثرُ نصوصِ أحمدَ - أنَّه لا يسلُبُه الطهوريةَ؛ لأنَّ المتغيِّرَ بالطاهراتِ: إمَّا أن يتناولَه اسمُ الماءِ عندَ الإطلاقِ، أو لا، فإن تناولَه: فلا فرْقَ بينَ ما يمكنُ صَوْنُه، وما لا يمكنُ صَوْنُه، وبينَ ما تغيَّرَ بأصلِ الخلقةِ وغيرِه، وإذا تناولَه فلا فَرْقَ بينَ هذينِ النوعينِ وبينَ غيرِهما؛ إذ الفَرْقُ بينَ ما كان دائمًا أو حادِثًا وما كان يمكنُ الاحترازُ عنه وما لا يمكنُ إنما هي فروقٌ فقهيةٌ، أمَّا كونُها فروقًا من جهةِ اللغةِ وتناول اللفظِ له فلا.

وبهذا يظهرُ الجوابُ عن جميعِ شواهدِ أدلتِهم؛ مثلُ: اشتراءِ الماءِ في بابِ الوكالةِ والنَّذْرِ، أو الوَقْفِ، أو اليمينِ، أو غيرِ ذلك؛ فإنَّ خطابَ الناسِ في هذه الأحكامِ لا فَرْقَ فيه بينَ متغيِّرٍ وحادِثٍ، فحينئذ قولُه:{فلم تجدوا ماء} إن كان شاملًا للمتغيرِ بأصلِ الخلقةِ أو لما تغيرَ بما يشُقُّ الاحترازُ عنه فهو شاملٌ لما تغيرَ بما لا يشُقُّ صَوْنُه عنه، وإذا كانت دلالةُ القرآنِ على الكلِّ سواءً؛ كان التمسُّكُ بدلالةِ القرآنِ حجةً لمن جعله طهورًا، لا عليه.

وليس في المسألةِ دليلٌ منَ السنةِ، ولا منَ الإجماعِ، ولا منَ القياسِ؛ بلِ الأحاديثُ كما في المُحرِمِ الذي وقَصَتْه ناقَتُه: «اغسِلُوه

ص: 51

بماءٍ وسِدْرٍ»

(1)

، و:«اغسِلْنَها بماءٍ وسِدْرٍ»

(2)

، وكونِها تتوَضَّأ من قصعةٍ فيها أثَرُ العجينِ

(3)

، وقولِه:«تمرةٌ طيبةٌ، وماءٌ طَهورٌ»

(4)

، كلُّ ذلك ونحوُه نصٌّ دالٌّ على جوازِ استعمالِ الماءِ المتغيرِ بالطاهراتِ أدَلُّ منها على نقيضِ ذلك

(5)

.

‌وأيضًا؛ الأصلُ بقاءُ ما كانَ على ما كان

، وليس هذا استصحابًا للإجماعِ في موردِ النزاعِ حتى يقالَ: فيه خلافٌ، فإن ذلك هو دعوى بقاءِ الإجماعِ، بل يقالُ: هو قبلَ التغيُّرِ طاهرٌ بالنصِّ والإجماعِ، والأصلُ بقاءُ الحكمِ، وإن لم يكُنِ الدليلُ شاملًا له، إذ معَ شمولِ الدليلِ إنَّما يكونُ استدلالًا بنصٍّ أو إجماعٍ لا بالاستصحابِ، وهذا الاستدلالُ إنما هو بالاستصحابِ.

‌وقولُ بعضِ الحنفيةِ:

إنَّ الماءَ لا ينقسِمُ إلا إلى طاهرٍ ونجِسٍ؛ فليس بشيءٍ؛ لأنه إن أرادَ كلَّ ما يُسمَّى ماءً مطلقًا ومقيدًا فهو خطأٌ؛

(1)

رواه البخاري (1265)، ومسلم (1206)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري (1253)، ومسلم (939)، من حديث أم عطية رضي الله عنها.

(3)

رواه أحمد (26893)، والنسائي (240)، وابن ماجه (378)، من حديث أم هانئ رضي الله عنها:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل هو وميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر العجين» .

(4)

رواه أحمد (3810)، وأبو داود (84)، والنسائي (88)، وابن ماجه (384)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ليلة الجن:«ما في إداوتك؟» ، قال: نبيذ، قال:«تمرة طيبة وماء طهور» .

(5)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (الماءُ المتغيرُ بالطاهرِ

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 21/ 24.

ص: 52

لأنَّ المياهَ المعتصَرةَ طاهرةٌ، ولا يجوزُ بها رفعُ الحدثِ.

وإن أرادَ الماءَ المطلَقَ لم يصِحَّ؛ فإن النجِسَ لا يدخلُ في المطلَقِ.

وقولُهم: طهورٌ بمعنى طاهرٍ: غلَطٌ؛ لأنَّ الطَّهورَ اسمٌ لما يُتطهَّرُ به؛ كالفَطورِ، والسَّحورِ، والوَجورِ؛ لما يُفطَرُ عليه، ويُتسحَّرُ به، ولهذا قال:{وأنزلنا من السماء ماء طهورا} ، {وليطهركم به} ، والطاهرُ لا يدلُّ على ما يُتطهَّرُ به، ومَن ظنَّ أنَّ الطَّهورَ معدولٌ عن طاهرٍ فيكونُ بمنزلتِه في التعديةِ واللزومِ النَّحْوِيَّيْنِ، فهو قولُ مَن لم يُحكِمْ قولَه من جهةِ العربيةِ.

وبهذا تظهرُ دلالةُ النصوصِ على ما قُلْناه؛ كقولِه عليه الصلاة والسلام في البحرِ: «هو الطَّهورُ ماؤُه»

(1)

.

‌و «جعلت لي الأرض مسجدًا وتربتها طهورًا»

(2)

، مما يُبيِّنُ أنَّ المرادَ ما يُتطهَّرُ به، ولا يجوزُ أن يُرادَ به:«طاهرٌ» ؛ لفسادِ المعنى، ولا:«طَهورٌ» تعديةُ «طاهرٍ» ؛ لفسادِ الاستعمالِ.

(1)

رواه أحمد (7233)، وأبو داود (83)، والترمذي (69)، والنسائي (59)، وابن ماجه (386)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم (522)، من حديث حذيفة رضي الله عنه.

ص: 53

‌فَصْلٌ

‌ويُعفَى عن يسيرِ بَعْرِ الفأرِ

في أظهرِ القولَيْنِ، وهما روايتانِ عن أحمدَ وأبي حنيفةَ وغيرِهما

(1)

.

‌والاحتياطُ بمجرَّدِ الشكِّ

في أمورِ المياهِ ليس مستحبًّا، ولا مشروعًا؛ بلِ المستحَبُّ بناءُ الأمرِ على الاستصحابِ

(2)

.

‌وماء الحَّمامُ إذا كان الحوضُ فائضًا

؛ فإنه جارٍ في أصحِّ قولَيِ العلماءِ، نصَّ عليه أحمدُ، وهو بمنزلةِ الحفيرةِ تكونُ في النهرِ، فإنه جارٍ، وإن كان الجَرَيانُ على وجهِه فإنه يستخلِفُه شيئًا فشيئًا، ويذهبُ ويأتي ما بعدَه؛ لكن يُبطِئُ ذَهابُه؛ بخلافِ الذي يَجري جميعُه

(3)

.

‌وإذا شكَّ في روثةٍ:

هل هي نجِسَةٌ، أم طاهرةٌ؟ ففيها قولانِ، هما وجهانِ في مذهَبِ أحمدَ؛ بناءً على أنَّ الأصلَ في الروثِ النجاسةُ، أم الأصلَ في الأعيانِ الطهارةُ؟ وهذا أصحُّ

(4)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويُعفَى عن يسيرِ) إلى هنا في مجموع الفتاوى (21/ 534)، الفتاوى الكبرى (1/ 219).

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (والاحتياطُ بمجرَّدِ

) إلى هنا في: مجموع الفتاوى (21/ 56)، الفتاوى الكبرى (1/ 224).

(3)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وماء الحمامُ

) إلى هنا في مجموع الفتاوى (21/ 72)، الفتاوى الكبرى (1/ 236).

(4)

ينظر أصل من قوله: (وإذا شكَّ في روثةٍ

) إلى هنا الفتوى في مجموع الفتاوى (21/ 74)، الفتاوى الكبرى (5/ 313).

ص: 54

‌فَصْلٌ

‌مذهَبُ الزُّهْريِّ والبخاريِّ:

أنَّ حكمَ المائعِ حكمُ الماءِ، ورُوِي عن مالكٍ، وهو مذهَبُ أبي حنيفةَ، وإحدى الروايتَيْنِ عن أحمدَ، وهو قولُ طائفةٍ منَ السَّلَفِ والخلَفِ؛ كابنِ مسعودٍ وابنِ عباسٍ رضي الله عنهم، وأبي ثَوْرٍ، وغيرِهم، ولا دليلَ على نجاسَتِه من كتابٍ ولا سنةٍ.

وما رواه أبو داودَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنه سُئِلَ عن فأرةٍ وقعَتْ في سَمْنٍ؟ فقال: «إن كان جامدًا فألقوها وما حولَها وكُلُوه، وإن كان مائعًا فلا تَقْرَبوه»

(1)

، فهو حديثٌ ضعيفٌ، غلِطَ فيه مَعمرٌ على الزُّهْريِّ، كما ذكَرَه النقاد؛ كالبخاريِّ وغيرِه؛ مثلِ: التِّرْمِذيِّ، وأبي حاتمٍ، والدارَقُطْنيِّ، وإن اعتَقدَ بعضُ الفقهاءِ أنه على شرطِ الصحيحِ؛ فلعَدَمِ عِلْمِه بعِلَّتِه، وقد بيَّنَ البخاريُّ في صحيحِه فسادَ هذه الروايةِ، قال: بابٌ إذا وقعَتِ الفأرةُ في السمنِ الجامدِ أو الذائبِ: حدَّثَنا عَبْدانُ، ثَنا عبدُ اللهِ - يعني: ابنَ المباركِ - عن يونسَ، عنِ الزُّهْريِّ؛ أنه سُئِلَ عنِ الدابَّةِ تموتُ في السمنِ أو الزيتِ وهو جامدٌ، أو غيرُ جامدٍ؛ الفأرةُ وغيرُها؟ فقال: بلَغَنا أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمر بفأرةٍ ماتَتْ في سمنٍ، فأمَرَ بما قرُبَ منها فطُرِحَ، ثم أكَلَ.

وفي حديثِ عُبَيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ عن

(2)

ابنِ عباسٍ، عن ميمونةَ رضي الله عنها؛

(1)

رواه أبو داود (3842)، ورواه أحمد (10355)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

سقطت من الأصل، والمثبت من (ع)، وهو الموافق لما في البخاري.

ص: 55

قالتْ: سُئِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن فأرةٍ وقعَتْ بسمنٍ؟ فقال: «ألقوها وما حولَها، وكُلُوه»

(1)

.

فذكَر البخاريُّ عن ابنِ شِهابٍ الزُّهْريِّ - الذي هو أعلمُ الناسِ بالسنةِ في زمانِه - أنَّه أفتى في الزيتِ والسمنِ الجامدِ وغيرِه: إذا ماتَتْ فيه الفأرةُ أنها تُطرَحُ وما قرُبَ منها، واستَدلَّ بالحديثِ الذي رواه عن عُبَيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ، عنِ

(2)

ابنِ عباسٍ، وذكر الحديثَ، ولم يقُلْ فيه:«إن كان مائعًا فلا تقربوه» ، ولا ذكَر الفرقَ.

فذكَر البخاريُّ ذلك ليُبيِّنَ أنَّ مَن ذكَر عنِ الزُّهْريِّ التفصيلَ فقد غلِطَ عليه؛ لجوابِه بالعمومِ مستدِلًّا بهذا الحديثِ بعينِه؛ إذ إطلاقُ الجوابِ منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتَرْكُ الاستفصالِ في حكايةِ الحالِ معَ قيامِ الاحتمالِ يُنزَّلُ منزلةَ العمومِ في المقالِ، فبذلك أجابَ الزُّهْريُّ، فإن مذهَبَه في الماءِ أنه لا ينجُسُ إلا بالتغيرِ، وقد سوَّى البخاريُّ في أولِ الصحيحِ بينَ الماءِ والمائعِ، وقد ذكَرْنا أدلةَ هذه المسألةِ مستوفاةً.

وفي تنجيسِ ذلك من فسادِ الأطعمةِ العظيمةِ وإتلافِ الأموالِ العظيمةِ ما لا تأتي الشريعةُ بمِثْلِه، واللهُ إنما حرَّمَ علينا الخبائثَ تَنْزيهًا لنا عن المَضارِّ، وأحلَّ لنا الطيباتِ كلَّها، واللهُ أعلمُ

(3)

.

(1)

صحيح البخاري (7/ 97).

(2)

سقطت من الأصل، والمثبت من (ع).

(3)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومذهب الزهري

) إلى هنا في: مجموع الفتاوى (21/ 524)، والفتاوى الكبرى (1/ 441).

ص: 56

‌وفأرةُ المسكِ

(1)

طاهرةٌ

عندَ جماهيرِ العلماءِ، وليس ذلك مما يُبانُ منَ البهيمةِ وهي حيةٌ؛ بل هو بمنزلةِ البيضِ، والولدِ، واللبنِ، والصوفِ، واللهُ أعلمُ.

‌فَصْلٌ

‌الأظهرُ طهارةُ النجاسةِ بالاستحالةِ

؛ وهو مذهَبُ أبي حنيفةَ، وأحدُ القولَيْنِ في مذهَبِ أحمدَ ومالكٍ

(2)

.

‌والصحيحُ: أن النجاسةَ تُزولُ بغيرِ الماءِ

؛ لكن لا يجوزُ استعمالُ الأطعمةِ والأشربةِ في إزالتِها لغيرِ حاجةٍ؛ لما في ذلك من إفسادِ الأموالِ، كما لا يجوزُ الاستنجاءُ بها

(3)

.

‌والفرقُ بينَ طهارةِ الحدَثِ والخبثِ:

أنَّ طهارةَ الحدَثِ من بابِ الأفعالِ المأمورِ بها، فلا تسقطُ بالنسيانِ والجهلِ، ويُشترَطُ فيها النيةُ،

(1)

أي: وعاء المسك، هي صيد يصيدها الصياد، فيعصب سرتها بعصاب شديد، وسرتها مدلاة، فيجتمع فيها دمها، ثم تذبح، فإذا سكنت قور السرة المعصبة، دفنها في الشعير حتى يستحيل الدم الجامد مسكًا ذكيًّا بعد ما كان دما لا يرام نتنًا، وقيل إن الحيوان الذي نسب إليه المسك على صورة الفأرة. تاج العروس 13/ 291، 348.

(2)

ذُكرت المسألة في أكثر من موطن: مجموع الفتاوى (20/ 522)، (21/ 479)، (21/ 502)، والفتاوى الكبرى (1/ 235)، (1/ 262).

(3)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (والصحيحُ: أن النجاسةَ

) إلى هنا في مجموع الفتاوى (21/ 475).

ص: 57

وطهارةَ الخبثِ من بابِ التروكِ، فمقصودُها اجتنابُ الخبثِ، فلا يُشترَطُ فيها فعلُ العبدِ، ولا قصدُه.

‌وإذا صلَّى بالنجاسةِ جاهلًا أو ناسيًا؛ فلا إعادةَ

في أصحِّ قولَيِ العلماءِ، وذلك لأنَّ ما كان مقصودُه اجتنابَ المحظورِ إذا فعلَه العبدُ ناسيًا أو مُخطِئًا فلا إثمَ عليه؛ لقولِه:{وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} ، {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}؛ ولهذا كان أقوى الأقوالِ: أنَّ ما فعلَه العبدُ ناسيًا أو مُخطِئًا من محظوراتِ الصلاةِ أو الحجِّ أو الصيامِ؛ لا يُبطِلُ العبادةَ؛ لكن إذا أتى بها بفعلِه ونيتِه؛ أُثيبَ على ذلك

(1)

.

‌ويجبُ على المُضطَرِّ

الأكلُ والشربُ بقدرِ ما يسُدُّ رمَقَه

(2)

.

‌وفي نجاسةِ شعرِ الكلبِ

قولانِ؛ هما روايتانِ.

فلو تمعَّطَ

(3)

في بئرٍ، فهل يجبُ نزْحُه عندَ مَن يُنجِّسُه؟ وهو قولُ فقهاءِ الكوفةِ كأبي حنيفةَ.

وقيلَ: لا ينجُسُ إلا بالتغيرِ؛ وهو مذهَبُ الجمهورِ.

فيجوزُ استعمالُ الماءِ وإن خرَج فيه شعرٌ عندَ مَن يُطهِّرُه، وعندَ

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (والصحيحُ: أن النجاسةَ

) إلى هنا في مجموع الفتاوى (21/ 475).

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجبُ على المُضطَرِّ

) إلى هنا في مجموع الفتاوى (24/ 268)، والفتاوى الكبرى (3/ 6).

(3)

أي تساقط من داء ونحوه. ينظر: مختار الصحاح (ص 296).

ص: 58

المُنجِّسِ يقولُ: إذا خرج في الدَّلْوِ - وهو قليلٌ - نجس؛ وهو المشهورُ عن أحمدَ.

والأظهرُ: أن شعرَ الكلبِ طاهرٌ؛ لأنَّه لم يثبُتْ فيه دليلٌ شرعيٌّ

(1)

.

‌فَصْلٌ

‌إذا وقَع في الماءِ نجاسةٌ فغيَّرتْه

؛ نجس اتفاقًا.

وإن لم يتغيَّرْ؛ فقيلَ: لا ينجُسُ؛ وهو قولُ أهلِ المدينةِ، وكثيرٍ من أهلِ الحديثِ، وروايةٌ عن أحمدَ اختارها طائفةٌ من أصحابِه، ونصَرَها ابنُ عَقيلٍ وابنُ المنِّي وغيرُهما.

والثاني: ينجُسُ قليلُ الماءِ بقليلِ النجاسةِ، وهي روايةُ المصريينَ عن مالكٍ.

والثالثُ: مذهَبُ الشافعيِّ وروايةٌ عن أحمدَ: الفرق بين القليلِ والكثيرِ.

والرابعُ: الفرقُ بينَ البولِ والعَذِرةِ المائعةِ وغيرِهما، فالأولُ ينجُسُ منه ما أمكنَ نَزْحُه دونَ ما لا يمكنُ نَزْحُه؛ وهي المشهورةُ عن أحمدَ واختيارُ أكثرِ أصحابِه.

والخامسُ: أن الماءَ ينجُسُ بملاقاةِ النجاسةِ؛ سواءٌ كان قليلًا أو

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (21/ 37)، والفتاوى الكبرى (1/ 218).

ص: 59

كثيرًا؛ لكن ما لم تصِلْ إليه لا ينجُسُ.

ثم حدُّوا ما لا تصِلُ إليه: بما لا يتحركُ أحدُ طرَفَيْه بتحركِ الطرفِ الآخَرِ.

ثم تنازعوا: هل هو بحركةِ المتوَضِّئِ أو المغتسِلِ؟

وقدَّرَه ابنُ الحسنِ بمسجِدِه، فوجدوه عشَرةَ أذرُعٍ في عشَرةِ أذرُعٍ.

وتنازعوا في الآبار إذا وقعَتْ فيها النجاسةُ؛ فزعم المريسيُّ أنه لا يمكنُ تطهيرُها، وقال أبو حنيفةَ: يمكنُ بالنَّزْحِ، ولهم في تقديرِ الدِّلاء أقوالٌ معروفةٌ.

والسادسُ: قولُ أهلِ الظاهرِ الذين يُنجِّسونَ ما بالَ فيه البائلُ دونَ ما أُلقِي فيه البولُ.

وأصلُ ذلك: أنَّ اختلاطَ الخبيثِ بالماءِ هل يُوجبُ تحريمَ الجميعِ، أم يُقالُ: بل استحالَ فلم يَبْقَ له حكمٌ؟

فهل الأصلُ الإباحةُ حتى يقومَ الدليلُ على التحريمِ، أم الأصلُ المنعُ إلا ما قام الدليلُ على إباحتِه؟

والصحيحُ: الأول؛ وهو أنَّ النجاسةَ متى استحالتْ فالماءُ طاهرٌ؛ قليلًا كانَ أو كثيرًا، فإنه داخلٌ في حدِّ الطيبِ، خارجٌ عن الخبيثِ، وقد صحَّ قولُه:«الماءُ طَهورٌ، لا يُنجِّسُه شيءٌ»

(1)

، وهو عامٌّ في القليلِ

(1)

سبق تخريجه ص

ظظ

ص: 60

والكثيرِ وفي جميعِ النجاساتِ.

وأما إذا تغيرَ؛ فإنما حرُمَ لظهورِ جِرمِ النجاسةِ فيه؛ بخلافِ ما إذا استُهلكَ، ويبيِّنُ ذلك: أن الخمرَ واللبنَ لو وقَع في ماءٍ واستُهلكَ، فشرِبَه شاربٌ: لم يُحَدَّ، ولم ينشرِ الحرمةَ.

ونَهْيُه صلى الله عليه وسلم عنِ البولِ في الماءِ الدائمِ

(1)

؛ لأنه ذريعةٌ إلى تَنْجيسِه، فسَدَّ الذريعةَ، ولهذا يعُمُّ النهيُ البولَ في كلِّ ماءٍ راكدٍ، فلا يجوزُ فيما فوقَ القُلَّتَينِ، ولا فيما لا يمكنُ نَزْحُه، ولا فيما لا يتحركُ أحدُ طَرَفَيْه، ومَن قال: يجوزُ في ذلك؛ فقد خالفَ النصَّ؛ إذ هو عامٌّ.

وأمَّا قولُه: «الماءُ طَهورٌ، لا يُنَجِّسُه شيءٌ» ؛ فلا يُقالُ: وصْفُ الماءِ بكونِه طَهورًا يدُلُّ على تَنْجيسِ غيرِهِ؛ لأنه يجوزُ تعليلُ الحكمِ بعِلَّتَينِ، وكونُ الماءِ طهورًا يوجبُ دفْعَ النجاسةِ عن نفْسِه، وأنه أَوْلى من غيرِه، ولا يمنعُ أن يكونَ في غيرِه ما يمنعُ عنه النجاسةَ.

وأيضًا؛ فإنهم سألوه عنِ الماءِ فخَصَّه بذلك؛ لحاجةِ السائلِ إليه، معَ أنه مفهومُ لقبٍ، وهو ضعيفٌ.

وأمَّا حديثُ القُلَّتَينِ إذا صحَّ؛ فمَنْطوقُه موافقٌ لغيرِه، وهو أنه إذا بلَغَ الماءُ قُلَّتَينِ لم يُنجِّسْه شيءٌ.

وأمَّا مفهومُه - إذا قُلْنا بدلالةِ مفهومِ العددِ - فإنما يدُلُّ على أنَّ

(1)

رواه البخاري (239)، ومسلم (282)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:«لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه» واللفظ للبخاري.

ص: 61

الحكمَ في المسكوتِ عنه مخالِفٌ للحكمِ في المنطوقِ بوجهٍ من الوجوهِ، ولا يُشترَطُ أن يكونَ الحكمُ مخالفًا للمنطوقِ من كلِّ وجهٍ، وهذا معنى قولِهم:«المفهومُ لا عمومَ له» ، فلا يلزَمُ أنَّ كلَّ ما لم يبلُغِ القُلَّتَينِ أنَّه ينجُسُ، بل إذا قيلَ بالمخالفةِ في صورةٍ حصلَ المقصودُ، فمَنْطوقُه: أنه لا يحملُ الخبثَ عندَ بلوغِ القُلَّتَينِ، مفهومُه: والقليلُ

(1)

قد يحمِلُ؛ لمَظِنَّةِ القِلَّةِ، فيكفي المخالفةُ بجوازِ احتمالِ الخبثِ في القليلِ دونَ الكثيرِ، فقد خالفَ المفهومُ للمنطوقَ بذلك وهو كافٍ؛ إذ لا يلزمُ أنَّ المفهومَ يخالفُ المنطوقَ في كلِّ صورةٍ من صُوَرِه؛ بل يكفي ولو بصورةٍ، فلا عمومَ للمفهومِ كما قُلْنا؛ وهذا ظاهرٌ.

والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يذكُرْ ذلك حكمًا عامًّا، إنما ذكَرَه في جوابِ مَن سألَه عن ماءٍ بعَيْنِه، فَيُتَقيَّدُ به، فإنَّ التخصيصَ إذا كان له سببٌ غيرُ اختصاصِ الحكمِ؛ لم يبْقَ حجةً بالاتفاقِ؛ كقولِه تعالى:{ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} .

فلما كان حالُ الماءِ المسؤولِ عنه أنه كثيرٌ قد بلَغَ القُلَّتَينِ، ومِن شأن الكثيرِ أنه لا يحمِلُ الخبَثَ، بل يستحيلُ فيه: دلَّ ذلك على أن مَناطَ الحكمِ كونُ الخبَثِ محمولًا؛ فحيثُ كان محمولًا - أي: موجودًا - كان نجِسًا، وحيثُ استُهلِكَ فهو غيرُ محمولٍ، فصار حديثُ القُلَّتَينِ موافقًا لقولِه:«الماءُ طَهورٌ لا يُنجِّسُه شيءٌ» .

(1)

في هامش (ع): (لعله: ومفهومه: القليل).

ص: 62

ونكتة الجوابِ: أن كونه يحملُ الخبَثَ أو لا يحملُه؛ أمرٌ حِسِّيٌّ معروفٌ بالحسِّ، والدليلُ على هذا اتفاقُهم على أنَّ الماءَ إذا تغيَّرَ حملَ الخبثَ ونجَّسَه، فصار قولُه:«إذا بلغَ الماءُ قُلَّتَينِ لم يحمِلِ الخَبَثَ» ، و:«لم يُنَجِّسْه شيءٌ» ؛ مثلَ قولِه: «الماءُ طهورٌ لا يُنجِّسُه شيءٌ» ، وهو إنما أرادَ إذا لم يتغيرْ في الموضعَينِ، وأمَّا إذا كان قليلًا فقد يحملُ الخبثَ لضَعْفِه، وعلى هذا يُحمَلُ أمرُه في الكلبِ؛ لمَّا أمَر بتطهيرِ ما ولَغَ فيه سبعًا

(1)

.

وقوله: «ألقوها وما حولها» ؛ لأنَّه مظنة التغيُّر، لا لأنَّه ملاقي النجاسة، لأنَّه لو كان الملاقي للنجس نجسًا؛ لتنجس البحر بما يلقى فيه من النجاسة، فعُلم أن إلقاء ما حولها للمظنة، فإنه قد يبقى فيه شيء محمولًا ولا يُتحقَّق.

وكذا قولُه: «فلا يُدخِلُ يدَه في الإناءِ حتى يغسِلَها ثلاثًا»

(2)

؛ المرادُ: الإناءُ الذي للماءِ المعتادِ للولوغِ، ولإدخالِ اليدِ، وهو الصغيرُ، والكلبُ يلَغُ بلسانِه شيئًا فشيئًا، فلا بدَّ أن يبقى في الماءِ من ريقِه، فيكونُ ذلك الخَبَثُ محمولًا والماءُ يسيرًا، فيُراقُ لأجلِ كونِ الخَبَثِ محمولًا، ويُغسَلُ الإناءُ الذي لاقاه ذلك الخبثُ؛ بخلافِ ما إذا استُهلِكَ الخبثُ؛ كالخمرِ إذا قلبَ اللهُ عَيْنَها، فتطهُرُ بالدَّنِّ؛ لأنَّ الاستحالةَ والاستهلاكَ حصَلَ في الخمرِ دونَ تلك، ولو أرادَ الفصلَ بي

(1)

رواه مسلم (279)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (162)، ومسلم (278)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 63

نَ المبتدئِ والذي ينجُسُ بمجرَّدِ الملاقاةِ لقال: إذا لم يبلغْ قُلَّتَينِ نجُسَ، وما بلَغَهما لم ينجُسْ إلا بالتغيرِ، أو نحوَ ذلك من الكلام الدالِّ على ذلك، أمَّا مجرَّدُ قولِه:«إذا بلَغَ الماءُ قُلَّتَينِ لم يحمِلِ الخبثَ» ، معَ كونِه إذا تغيرَ حمَلَه وينجُسُ بالاتفاق؛ فلا يدلُّ على هذا المقصودِ.

‌وأمَّا نَهْيُه القائمَ من نومِ الليلِ

أن يغمِسَ يدَه في الإناءِ حتى يغسِلَها: فهو لا يقتضي التنجيسَ بالاتفاقِ؛ بل لأنه قد يؤثرُ في الماءِ منعًا

(1)

، أو يفضي إليه؛ مثلُ قولِه:«لا يَبولَنَّ أحدُكُم في الماءِ الدائمِ»

(2)

، وقد تقدَّمَ أنه لا يدلُّ على التنجيسِ.

وأمَّا نَهْيُه عنِ الاغتسالِ فيه بعدَ البولِ إن صحَّ؛ فهو كنَهْيِه عنِ البولِ في المُستحَمِّ، «فإنَّ عامَّةَ الوَسْواسِ منه»

(3)

، وربما بقِي من أجزاءِ البولِ، فعاد عليه رشاشُها، فكذلك إذا بال في ماءٍ، ثم اغتسَلَ فيه، فقد يغتسِلُ قبلَ الاستحالةِ معَ بقاءِ أجزاءِ البولِ.

ونَهْيُه عنِ الاغتسالِ في الماءِ الدائمِ إن صحَّ؛ يتعلَّقُ بمسألةِ الماءِ المستعمَلِ، وقد يكونُ لما فيه من تقذيرِ الماءِ على غيرِه، لا لأجلِ نجاستهِ، ولا لمصيره مستعملًا، فقد قال:«الماءُ لا يُجْنِبُ»

(4)

.

(1)

في (ع): معنى.

(2)

تقدم تخريجه ص

ظظ

(3)

رواه أحمد (20563)، وأبو داود (27)، والترمذي (21)، والنسائي (36)، وابن ماجه (304)، من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه.

(4)

رواه أحمد (2102)، وأبو داود (68)، والترمذي (68)، والنسائي (325)، وابن ماجه (370)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وأما نهيه عن

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 21/ 45.

ص: 64

‌فَصْلٌ

‌الحكمُ إذا ثبَت بعِلَّةٍ يزولُ بزوالِها

، فإنْ بقِي معَ زوالِها من غيرِ أن يخلُفَها عِلةٌ أخرى؛ كانت عديمةَ التأثيرِ، فلا تكونُ عِلةً، وأمَّا إذا خلَفَتْها علةٌ أخرى؛ فإنه لا يَبطلُ كونُها علةً، وهذا هو التحقيقُ في مسألةِ عكسِ العللِ وعدمِ التأثيرِ فيها؛ فإنه قد يُظَنُّ أنَّا إذا جوَّزْنا تعليلَ الحكمِ الواجبِ بالشرعِ بالنوعِ بعِلَّتَينِ لم تبطلِ العلةُ بعدمِ التأثيرِ، وهو انتفاءُ الحكمِ لانتفاءِ الوصفِ، لجوازِ أن يخلُفَها علةٌ أخرى، بل إذا كان الحكمُ ثابتًا مع انتفاء الوصفِ؛ كثبوتِه معَ ثبوتِه؛ دلَّ على أنه ليسَ علةً، فالنقضُ وجودُ الوصفِ بلا حكمٍ، فإن لم يكُنِ التخلُّفُ لفواتِ شرطٍ أوِ انتفاءِ مانعٍ؛ كان دليلًا على أنه ليسَ بعلةٍ، وعدمُ التأثيرِ هو وجودُ الحكمِ بلا وصفٍ، فإن لم يكُنْ له علةٌ أخرى كان دليلًا على أن الوصفَ ليس بعلةٍ.

فإذا علَّلْنا الملكَ بالبيعِ، أو الإرثَ، أو الاغتنامَ، ونحوَ ذلك، وقُلْنا في صورةٍ قد عُلِّل الملكُ فيها بالبيعِ: هذا بيعٌ باطلٌ، فلا يحصُلُ الملكُ؛ كان كلامًا صحيحًا، وإن علِمْنا أن الملكَ يثبُتُ بإرثٍ وغيرِه، لكنَّ التقديرَ: أنه لا يثبُتُ له هنا غيرُ البيعِ، وإذا قُلْنا: هذا يملِكُ هذه

ص: 65

السلعةَ؛ لأنه اشتراها شراءً شرعيًّا، أو لأنه ورِثَها؛ كان كلامًا صحيحًا، ولا يلزمُ من ذلك أن يكونَ الملكُ منتفيًا في كلِّ موضعٍ انتفى فيه البيعُ، أو الإرثُ؛ لأن الملكَ له أسبابٌ متعددةٌ.

وكذلك الطهارةُ؛ إذا كان لها سببانِ، فعلَّلَ الشارعُ طهارةَ بعضِ الأعيانِ بسببٍ؛ كانَ ذلك كلامًا صحيحًا، ولا يلزمُ منه أنَّ ما انتفى عنه هذا السببُ يكونُ نجِسًا، فقولُه في الهرِّ:«إنَّها منَ الطوَّافينَ»

(1)

دليلٌ على أنَّ الطوافَ سببُ الطهارةِ، فإذا انتفى فيما هو سببٌ فيه زالت طهارتُه، وقد تثبتِ الطهارةُ بغيرِه وهو الحِلُّ؛ كطهارةِ الصيدِ والأنعامِ، فإنها طيبةٌ منَ الطيباتِ التي أباحها اللهُ، فلا يُحتاجُ إلى تعليلِ طهارتِها بالطوافِ، فإنَّ الطوافَ يدلُّ على أن ذلك ليدفعَ الحَرَجَ في نجاستِها.

وقولُه: «الماءُ طَهورٌ، لا يُنجِّسُه شيءٌ» : فقد يقالُ فيه أولًا: قد يكونُ المقصودُ وصفَ الماءِ بكونِه طَهورًا، وبكونِه لا يُنجِّسُه شيءٌ، فيكونُ صفةً بعدَ صفةٍ، ليس المقصودُ جعلَ إحداهما علةً للأخرى، ووَصْفُه بهاتينِ الصفتينِ يبيِّنُ به مفارقتَه للبدنِ والثوبِ ونحوِهما من هذينِ الوجهينِ، من جهةِ أنه طَهورٌ، وأنه لا يُنَجِّسُه شيءٌ، وإذا لم يعلَّلْ نفيُ النجاسةِ بكونِه طَهورًا لم يوجبْ ذلك حصولَ النجاسةِ فيما ليسَ بطَهورٍ بمجرَّدِ الملاقاةِ، فإذا أمكنَ أن تكونَ هذه عِلتينِ لجوازِ استقائِهِ منَ البئرِ لم يجبْ أن يقالَ: إن أحدهما علةٌ للأخرى؛ بل كان قولُه: «لا يُنجِّسُه

(1)

رواه أحمد (22528)، وأبو داود (75)، والترمذي (92)، والنسائي (68)، وابن ماجه (367)، من حديث أبي قتادة رضي الله عنها.

ص: 66

شيءٌ» كقولِه: «الماءُ لا يُجنِبُ» ، وهناك ما علَّل انتفاءَ الجنابةِ عنه بكونِه طَهورًا، فكذا هنا لم يعللِ انتفاءَ النجاسةِ عنه بكونِه طَهورًا؛ بل هناك علَّلَ جوازَ استعمالِه لسُؤْرِها بأن الماءَ لا يُجنِبُ، وهنا علَّلَ جوازَ توضُّئِه من بئرِ بُضاعةَ: بأن الماءَ لا ينْجُسُ، وزادَ معَ ذلك أن الماءَ طَهورٌ، وهذا بيِّنٌ لمن تأمَّلَه، بل هو ظاهرُ الحديثِ.

ويبين ذلك: أنه قد سمَّى الترابَ طَهورًا في نجاستي الحدَثِ والخَبَثِ، فقال:«جُعِلتْ لي الأرضُ مسجدًا، وتُرْبتُها طَهورًا»

(1)

، وقال في النعلينِ:«فلْيَدلكْهما بالترابِ؛ فإن الترابَ لهما طَهورٌ»

(2)

، ومعَ هذا فالترابُ وغيرُه من أجزاءِ الأرضِ في النجاسةِ سواءٌ؛ لا فرقَ بينَ الترابِ وغيرِ ذلك؛ إذا ظهَرتْ فيه النجاسةُ كان نجِسًا، وإذا زالتْ بالشمسِ ونحوِها، فإمَّا أن يقالَ: تزولُ مطلقًا، أو لا تزولُ مطلقًا، لم يُفرَّقْ بينَ الترابِ والرملِ وغيرِهما من أجزاءِ الأرضِ، كما فرَّقَ بينَهما من فرَّقَ في طهارةِ الحدثِ، بل قد احتجَّ مَن يقولُ بزوالِها بحديثِ البخاريِّ:«كانت الكلابُ تُقبِلُ وتُدبِرُ وتبولُ في مسجدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يرُشُّونَ من ذلك شيئًا»

(3)

، والمسجدُ كان فيه ترابٌ وغيرُه.

فإذا كان قولُه: «فإن الترابَ لهما طَهورٌ» صريحًا في التعليلِ، ولم يخصَّ الترابَ بذلك: فقولُه في الماءِ: إنه «طَهورٌ لا يُنَجِّسُه شيءٌ» أَوْلى

(1)

رواه مسلم (522)، من حديث حذيفة رضي الله عنه.

(2)

رواه أبو داود (385)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (174)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ص: 67

أن لا يُخَصَّ بذلك؛ لكن هل يقالُ إن غيرَ الماءِ يشارِكُه في إزالةِ النجاسةِ كما شاركَ ما ليسَ بترابٍ الترابَ، هذا فيه نزاعٌ مشهورٌ.

وللعلماءِ في إزالةِ النجاسةِ بغيرِ الماءِ ثلاثةُ أقوالٍ:

يجوزُ مطلقًا؛ وهو قولُ أبي حنيفةَ، وروايةٌ عن أحمدَ.

وقيل: لا يجوزُ مطلقًا؛ كقولِ الشافعيِّ، والظاهرِ عن أحمدَ.

وقيل: يجوزُ عندَ الحاجةِ؛ وهو قولٌ ثالثٌ في مذهبِ أحمدَ، كما قيلَ بذلك على أحدِ الوجوهِ في طهارةِ فمِ الهِرِّ باللُّعابِ، وكذلك أفواهُ الصِّبيانِ ونحوِهم منَ القَيءِ.

فإن قيلَ: إن طهوريةَ الماءِ للنجاسةِ يشاركُه فيها غيرُه؛ صارَ كالترابِ، وإن قيلَ: لا يشاركُه؛ كان قولُه: «طهورٌ لا يُنَجِّسُه شيءٌ» تعليلًا لاستقائه

(1)

بعلتين كما سبق.

وبالجملةِ: فلم أعلمْ إلى ساعتي هذه - لمن يُنجِّسُ المائعاتِ الكثيرةِ بوقوعِ النجاسةِ فيها إذا لم تتغيرْ - حجةً يَعتمِدُ عليها المفتي فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى، فتحريمُ الحلالِ كتحليلِ الحرامِ، فمن كان عندَه علمٌ يُرجَعُ إليه، أو يُعتمَدُ عليه فلْيَتَّبِعِ العلمَ، وإن لم يكنْ عندَه إلا مجردُ التقليدِ؛ فالنزاعُ فيها مشهورٌ، وقد قال اللهُ تعالى:{ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} .

(1)

كذا في الأصل و (ع) و (ك)، ولعل المراد: طلب السقيا من البئر المسؤول عنه في الحديث، فيكون قد علل جواز الاستقاء بعلتين: الأولى: "طهور" والثانية: "لا ينجسه شيء" كما سبق. وفي المطبوع: (لاستبقائه).

ص: 68

‌بَابُ الآنِيَةِ

‌المرادُ بـ «الضَّبَّةِ للحاجةِ» :

ما يحتاجُ إلى تلك الصورةِ؛ وإن كان غيرُها يقومُ مَقامَها كالنُّحاسِ، أمَّا لو كان مُضطرًّا إليها؛ أُبيحتْ، سواءٌ كانتْ من ذهبٍ أو فضةٍ؛ كالأنفِ، وشدِّ الأسنانِ بالذهبِ، ونحوِ ذلك.

ولو لم يجدْ ما يشربُ فيه إلا إناءَ ذهبٍ أو فضةٍ؛ جازَ.

‌ولو لم يجدْ ثوبًا يقيه البَرْدَ

، أو يقيه السلاحَ، أو يسترُ عورتَه، إلا حريرًا منسوجًا بذهبٍ أو فضةٍ؛ لجاز لُبْسُه؛ فإن الضرورةَ تبيحُ أكلَ الميتةِ والدمِ ولحمِ الخِنْزيرِ بنصِّ القرآنِ، معَ أنَّ تحريمَ المطاعمِ أشدُّ من تحريمِ الملابسِ؛ لأن تأثيرَ الخبائثِ بالممازجةِ للبدنِ أعظمُ من تأثيرِها بالملابسةِ، ولهذا كانتِ النجاساتُ التي تحرُمُ ملابسَتُها؛ يحرُمُ أكلُها، ويحرُمُ من السمومِ ونحوِها منَ المُضِرَّاتِ ما ليس بنجِسٍ، ولا يحرُمُ مباشرتُها.

ثم ما حرُمَ لخُبْثِ جنسِه أشدُّ مما حرُمَ لما فيه منَ السَّرَفِ والفخرِ والخُيلاءِ، فإن هذا يُحرِّمُ القدرَ الذي يقتضي ذلك منه، ويباحُ للحاجةِ كما للنساءِ، ولهذا كان الصحيحُ منَ القولينِ في مذهَبِ أحمدَ وغيرِه: جوازَ التداوي بهذا الضربِ دونَ الأولِ؛ كما رخَّصَ للزبيرِ وطلحةَ ف

ص: 69

ي لُبْسِ الحريرِ من حِكَّةٍ

(1)

، ونهى عن التداوي بالخمرِ، وقال:«إنها داءٌ، وليستْ بدواءٍ»

(2)

، ونهى عن الدواءِ الخبيثِ

(3)

، وعن قتلِ الضِّفْدعِ لأجلِ التداوي بها، وقال:«نَقيقُها تسبيحٌ»

(4)

، وقال:«إنَّ اللهَ تعالى لم يجعَلْ شفاءَ أمتي فيما حرَّمَ عليها»

(5)

.

واستُدلَّ على طهارةِ أبوالِ الإبلِ لإذنِه للعُرَنيِّينَ بشربِها

(6)

، فليستْ منَ الخبائثِ المحرَّمةِ النجِسةِ؛ لنَهْيِه عن التداوي بمثلِ ذلك، ولم يأمرْ بغَسْلِ أفواهِهم منها، وإن كان القائلونَ بطهارةِ أبوالِها تنازعوا في جوازِ شربِها لغيرِ ضرورةٍ، وفيه روايتانِ منصوصتانِ، فذلك لما فيها منَ

(1)

رواه البخاري (2919)، ومسلم (2076) من حديث أنس رضي الله عنه، وفيه أن الذي رخص لهما: عبد الرحمن بن عوف والزبير رضي الله عنهما.

(2)

رواه مسلم (1984)، من حديث طارق بن سويد رضي الله عنه.

(3)

رواه أحمد (8048)، وأبو داود (3870)، وابن ماجه (3459)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

ورد النهي عن قتل الضفدع للتداوي عند أحمد (15757)، وأبي داود (5269)، والنسائي (4355)، من حديث عبد الرحمن بن عثمان:«أن طبيبًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضفدع، يجعلها في دواء، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها» .

وأما حديث: «نَقيقها تسبيحٌ» ؛ فقد رواه الطبراني في الأوسط (3716)، والبيهقي في الكبرى (19382)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وذكر الطبراني أن الحديث لم يرفعه إلا المسيب بن واضح، وهو ضعيف لسوء حفظه، وصحح البيهقي الموقوف.

(5)

رواه الطبراني في الكبير (749)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها مرفوعاً.

ورواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم (7/ 110)، موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه.

(6)

رواه البخاري (233)، ومسلم (1671)، من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 70

القذارةِ الملْحِقِ لها بالبُصاقِ والمُخاطِ والمني، ونحوِ ذلك من المستقذَراتِ.

ولهذا أيضًا حرُمَ هذا الضربُ في بابِ الآنيةِ والمنقولاتِ على الرجالِ والنساءِ، بخلافِ التحَلِّي بالذهبِ ولُبْسِ الحريرِ؛ مباحٌ للنساءِ، وبابُ الخبائثِ بالعكسِ، فرخِّصَ في استعمالِ ذلك فيما ينفصِلُ عن بدنِ الإنسانِ ما لا يباحُ متصلًا به، كما يباحُ إطفاءُ الحريقِ بالخمرِ، وإطعامُ الميتةِ للبُزاةِ والصقورِ، وإلباسُ الدابةِ الثوبَ النجِسَ، والاستصباحُ بالدُّهنِ النجِسِ؛ في أشهَرِ قولَيِ العلماءِ؛ وذلك لأن استعمالَ الخبائثِ فيها يجري مَجْرى الإتلافِ، وليس فيه ضررٌ، وكذلك في الأمورِ المنفصلةِ؛ بخلافِ استعمالِ الحريرِ والذهبِ؛ فإنه غاية السَّرَفُ والفخرُ.

وبهذا يظهرُ غلَطُ مَن رخَّصَ من أصحابِ أحمدَ وغيرِهم في إلباسِ دابَّتِه الحريرَ قياسًا على النجِسِ، فهو بمنزلةِ مَن يُجوِّزُ افتراشَ الحريرِ ووَطْأَه؛ قياسًا على المُصوَّراتِ، أو مَن يبيحُ تحليةَ دابَّتِه بالذهبِ والفضةِ قياسًا على إلباسِها الثوبَ النجِسَ، فقد ثبت بالنصِّ تحريمُ افتراشِ الحريرِ

(1)

.

ويظهرُ أن قولَ مَن حرَّمَ افتراشَه على النساءِ - كما هو قولُ المراوزةِ

ص: 71

من أصحابِ الشافعيِّ - أقربُ من قولِ مَن أباحَه للرجالِ - كما قاله أبو حنيفةَ-، وإن كان الجمهورُ على أن الافتراشَ كاللباسِ يحرُمُ على الرجالِ دونَ النساءِ؛ لأن الافتراشَ لُبْسٌ؛ إذ لا يلزمُ من إباحةِ التزيُّنِ على البدنِ إباحةُ المنفصلِ؛ كما في الذهبِ والفضةِ، فإنهم اتفقوا على أن استعمالَ ذلك حرامٌ على الذكرِ والأنثى

(1)

.

‌فَصْلٌ

‌آخِرُ الروايتينِ عن أحمدَ:

أن الدِّباغَ مُطهِّرٌ؛ لكن هل يقومُ مَقامَ الذَّكاةِ أو مَقامَ الحياةِ؟ فيه وجهانِ، أوجَهُهُما الأولُ

(2)

، فيطهُرُ بالدبغِ ما يطهُرُ بالذَّكاةِ

(3)

.

وحديثُ عبدِ اللهِ بنِ عُكَيمٍ: «نهى عنِ الانتفاعِ بالجلودِ بلا دِبغٍ»

(4)

، فإنه كان قد أرخَصَ فيه، وأمَّا بعدَ الدَّبْغِ فلم ينْهَ عنه قطُّ.

‌وعظمُ الميتةِ، وقرنُها

، وظُفُرُها، وشعرُها، وريشُها، ونحوُه: فيه ثلاثة أقوالٍ:

(1)

ينظر أصل الفتوى في: مجموع الفتاوى 21/ 81.

(2)

وفي مجموع الفتاوى 21/ 609: (أصحهما الأول).

(3)

واختار شيخ الإسلام في موضع آخر: يطهر جلد ما كان طاهرًا حال الحياة، وهي رواية عن أحمد. ينظر: الاختيارات للبعلي ص 42، الإنصاف 1/ 162.

(4)

رواه أحمد (18780)، وأبو داود (4127)، والترمذي (1729)، والنسائي (4249)، وابن ماجه (3613).

ص: 72

نجاسةُ الجميعِ؛ وهو روايةٌ عن أحمدَ.

والثاني: أن العظامَ ونحوَها نجِسةٌ، والشعورَ ونحوَها طاهرةٌ، وهو المشهورُ من مذهبِ أحمدَ.

والثالث: الجميعُ طاهرٌ، وهو الصوابُ، وقولٌ في مذهبِ أحمدَ ومالكٍ.

‌وملابسةُ النجاسةِ للحاجةِ

جائزٌ إذا طهَّرَ بدنَه وثيابَه عندَ الصلاةِ، وكما يجوزُ الاستنجاءُ بالماءِ معَ مباشرةِ النجاسةِ، ولا يُكرَهُ ذلك على أصحِّ الروايتينِ وقولِ أكثرِ الفقهاءِ.

‌وهل تطهُرُ النجاسةُ بالاستحالةِ

؟ على قولينِ للعلماءِ، هما روايتانِ، الصوابُ: الطهارةُ.

وقولُهم: إن الخمرَة نجِسةٌ بالاستحالةِ، فتطهُرُ بها؛ كذلك جميعُ النجاساتِ إنما نَجُستْ بالاستحالةِ؛ كالدمِ يستحيلُ عن الغذاءِ، وكذا البولُ والعَذِرةُ، حتى الحيوانُ النجِسُ مستحيلٌ عن الماءِ والهواءِ والترابِ ونحوِه من الطاهراتِ، ولا ينبغي أن يُعبَّرَ عن ذلك: بأن النجاسةَ طهُرتْ بالاستحالةِ، فإن نفْسَ النجِسِ لم يطهُرْ؛ لكن استحالَ، وهذا الطاهرُ ليس هو ذاك النجِسَ وإن كان مستحيلًا منه والمادةُ واحدةً، كما أن الزرعَ ليس هو الماءَ والهواءَ والحَّبَ، والإنسانَ ليس هو المَنِيَّ، واللهُ تعالى يخلُقُ أجسامَ العالَمِ بعضَها من بعضٍ، ومعَ تبدُّلِ الحقائقِ ليس هذا ذاك، فكيفَ يكونُ الرمادُ هو العظمَ واللحمَ والدمَ، بمعنى أنه يتناولُه اسمُ الدمِ أو العظمِ.

ص: 73

وأما كونُه هو هو باعتبارِ المادةِ؛ فلا يضرُّ؛ فإن التحريمَ يتبعُ الاسمَ والمعنى الذي هو الخبَثُ، وكلاهما مُنْتَفٍ

(1)

.

‌ويجوزُ الخرْزُ بشعرِ الخِنْزيرِ

في أظهَرِ قولَيِ العلماءِ، ومنهم مَن يقولُ: إنه طاهرٌ؛ كمالكٍ وأحمدَ في روايةٍ عنه، وعلى القولِ بنجاستِه؛ يُعفى عن الرطوبةِ التي لا يمكنُ الاحترازُ عنها، وإمَّا ألا يفعلَ إن أمكنَ.

والصحيحُ: طهارةُ الشعورِ حتى شعرِ الكلبِ.

وكلُّ حيوانٍ قيلَ بنجاستِه ففي شعرِه روايتانِ

(2)

.

والصحيحُ: طهارةُ العظمِ، والقرنِ، والريشِ، ونحوِه.

‌فَصْلٌ

‌إذا سرَّحَ شعرَه في المسجدِ

، وخلَّاه يقعُ فيه؛ كُرِه عندَ مَن لا ينجِّسُ الشعرَ، وعندَ مَن

(3)

ينجِّسُه يحرُمُ.

وبالجملةِ: المسجدُ يُصانُ عن القَذاةِ التي تقَعُ في العينِ

(4)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (آخر الروايتين

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 21/ 608، والفتاوى الكبرى 1/ 260.

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (والصحيح طهارة

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 21/ 616، والفتاوى الكبرى 1/ 263.

(3)

قوله: (وعند من) هو في الأصل: ومن.

(4)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا سرح

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 201، والفتاوى الكبرى 1/ 273.

ص: 74

‌وليسَ حَلْقُ الرأسِ

في غيرِ نسُكٍ بسنةٍ ولا قربةٍ باتفاقِ المسلمينَ.

وتنازعوا في كراهتِه، وكان عمرُ رضي الله عنه يُعزِّرُ بحَلْقِ الرأسِ

(1)

، فإنه كان عندَ السلَفِ مُثْلَةً.

‌وما علِمْتُ أحدًا

كرِه السِّواكَ في المسجدِ.

‌وقصُّ الشاربِ

(2)

ليس بعيبٍ

، بل فعله صلى الله عليه وسلم، ومدَح فاعلَه

(3)

، ومن عاب شيئًا فعلَه رسولُ اللهِ أو مدح عليه، أو أقرَّ عليه؛ عُرِّفَ ذلك، فإن أصرَّ كَفر.

‌فَصْلٌ

‌الوضوءُ عبادةٌ

؛ لأنَّه لا يُعلَمُ إلا من الشارعِ، وكلُّ فعلٍ لا يُعلَمُ إلا من الشارعِ فهو عبادةٌ؛ كالصلاةِ والصومِ، ولأنَّه مُستلزِمٌ للثوابِ، كما وعد عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم المتوَضِّئَ بتكفيرِ خطاياه

(4)

، فلا بدَّ فيه منَ النيةِ،

(1)

أخرج ذلك ابن سعد في الطبقات (3/ 285)، من قصة عمر رضي الله عنه مع نصر بن حجاج لما رآى أنه افتُتنت به بعض النساء فحلق رأسه ثم نفاه.

(2)

كذا في (ع) و (ك)، وفي الأصل ذُكرت تصحيحاً، وفيه مكان:(الشارب): الشعر.

(3)

لعله يشير إلى ما رواه مسلم (261)، من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:«عشر من الفطرة: قص الشارب» الحديث.

(4)

رواه مسلم (251)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:«ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال:«إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط» .

ص: 75

ومَن لم يوجبِ النيةَ رأى ذلك من شرائطِ الصلاةِ، فهو كالسُّتْرةِ.

‌وهل يصحُّ غُسْلُ الكافرِ منَ الجَنابةِ

؟ على قولينِ، بخلافِ وضوئِه

(1)

.

‌وكره مالكٌ وأحمدُ لُبْسَ العمامةِ المقتعطةِ

التي ليس تحتَ الحنكِ منها شيء

(2)

، وكان عمرُ بنُ الخطابِ يقولُ:«لا ينظُرُ اللهُ لقومٍ لا يُديرونَ عَمائمَهم تحتَ أذقانِهم»

(3)

، وكانوا يُسمُّونَها الفاسقيةَ.

لكن رخَّصَ فيها إسحاقُ وغيرُه، ورَوى أن أبناءَ المهاجرِينَ كانوا يعتمَّونَ كذلك

(4)

، وقد يُجمَعُ بينَهما، فإن هذا حالُ أهلِ الجهادِ

(1)

قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى (5/ 307): (ولو اغتسل الكافر بسبب يوجبه، ثم أسلم؛ لا يلزمه إعادته إن اعتقد وجوبه؛ بناء على أنه يثاب على طاعته في الكفر إذا أسلم).

وقال في شرح العمدة (1/ 369): (وأما الكافر إذا أسلم فإنه يجب عليه الغسل، سواء كان أصليًّا أو مرتدًّا، وسواء أجنب أو لم يجنب، وسواء اغتسل قبل الإسلام من الجنابة أو عند إرادة الإسلام أو لم يغتسل، هذا منصوص الإمام أحمد وقول عامة أصحابه).

(2)

قال في تاج العروس (20/ 48): (اقتعط الرجل: تعمَّم ولم يُدِر تحت الحنك، كما في الصحاح، أي: أدارها على رأسه ولم يتلحَّ بها).

(3)

لم نقف على هذا اللفظ، وقد ذكر في شرح العمدة (1/ 261):(روى أبو حفص العكبري عن جعدة بن هبيرة قال: رأى عمر بن الخطاب رجلًا يصلي وقد اقتعط بعمامته فقال: «ما هذه العمامة الفاسقية؟!» ثم دنا منه فحل لوثًا من عمامته فحنَّكه بها ومضى).

(4)

رواه ابن أبي شيبة (24987)، وذكره شيخ الإسلام في شرح العمدة (1/ 269)، قال:(روى وهب بن جرير عن أبيه عن يعلى بن حكيم، عن سليمان بن أبي عبد الله قال: «أدركت أبناء المهاجرين والأنصار فكانوا يعتمون ولا يجعلونها تحت الحنك»، لكن المنصوص عن أحمد الكراهية كما تقدم، وأنكر هذا الحديث، وقال: "حديث منكر ما أدري أي شيء ذلك الحديث". وقال أيضًا وقد سئل عنه: "ما أدري ما هو"، وقيل له: تعرف سليمان بن أبي عبد الله؟ فقال: "لا"، وردُّ أحمد له؛ لأن إجماع السلف على خلافه، قيل له: سمعت أنت هذا الحديث من وهب؟ فقال: "نعم وهو معروف، ولكن الناس على غير الذي رووا عن يعلى بن حكيم").

ص: 76

والمُستعدِّينَ له، وهذا حالُ مَن ليس من أهلِ الجهادِ.

وإمساكُها بالسيورِ يشبِهُ المحنَّكَ.

‌فَصْلٌ

(1)

‌النظرُ إلى الأمردِ لشهوةٍ

حرامٌ بإجماعِ المسلمينَ، وكذلك إلى ذواتِ المحارمِ، ومُصافَحتُهم، والتلذُّذُ بهم، ومَن قال: إنه عبادةٌ؛ فهو كافرٌ، وهو بمنزلةِ مَن جعلَ إعانةَ طالبِ الفواحشِ عبادةً، بل النظرُ إلى الأشجارِ والخيلِ والبهائمِ إذا كان على وجهِ استحسانِ الدنيا والرياسةِ والمالِ فهو مذمومٌ؛ لقولِه تعالى:{ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا} ، فإذا كان هذا في نَظَرِ الدُّنْيا والزِّينةِ، فكيفَ بنظرِ الأمردِ بشهوةٍ.

(1)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 21/ 243، والفتاوى الكبرى 1/ 283.

ص: 77

وأمَّا إذا كان على وجهٍ لا يَنقُصُ الدينَ، وإنما فيه راحةُ النفسِ فقطْ؛ كالنظرِ إلى الأزهارِ؛ فهذا من الباطلِ الذي يُستعانُ به على الحقِّ.

وقد يُنظَرُ إلى الإنسانِ لما فيه منَ الإيمانِ والتقوى، وهنا الاعتبارُ بقلبِه وعملِه، لا بصورتِه.

وقد يُنظَرُ إليه لما فيه من الصورةِ الدالةِ على المُصوِّرِ؛ فهذا حسَنٌ.

وقد يُنظَرُ من جهةِ استحسانِ خَلْقِه.

فكلُّ قِسْمٍ من هذه الأقسامِ متى كان معه شهوةٌ؛ كان حرامًا بلا رَيْبٍ؛ سواءٌ كانت شهوةَ تَمتُّعٍ بنظر الشهوة، أو كان نظرًا بشهوةِ الوَطْءِ.

وفرْقٌ بينَ ما يجِدُه الإنسانُ عندَ نظَرِه إلى الأزهارِ، وعندَ نظرِه إلى النِّسوانِ والمُردانِ، فلهذا الفرقانِ افترقَ الحكمُ الشرعيُّ.

فصار النظرُ إلى المُرْدانِ ثلاثةَ أقسامٍ:

أحدُها: ما تُقرنُ به الشهوةُ؛ فهو حرامٌ بالاتفاقِ.

والثاني: ما يُجزَمُ أنه لا شهوةَ معه، كنظَرِ الرجلِ الوَرِعِ إلى ولدِه الحسَنِ وابنَتِه الحسناءِ، فهذا لا تُقرنُ معه شهوةٌ إلا أن يكونَ الرجلُ من أفجَرِ الخلقِ، ومتى اقترنَتْ به الشهوةُ؛ حرُمَ.

وعلى هذا؛ مَن لا يميلُ قلبُه إلى المُرْدانِ - كما كان الصحابةُ، وكالأممِ الذين لا يعرفونَ هذه الفاحشةَ - فإن الواحدَ من هؤلاءِ لا يُفرِّقُ بينَ نظَرِه إلى هذا الوجهِ وبينَ نظَرِه إلى ابنِه وابنِ جارِه وصبيٍّ أجنبيٍّ، لا يخطُرُ بقلبِه شيءٌ من الشهوةِ؛ لأنه لم يعتدْ ذلك، وهو سليمُ القلبِ،

ص: 78

وقد كانت الإماءُ على عهدِ الصحابةِ يَمْشِينَ في الطرقاتِ مكشوفاتٍ

(1)

وتَخدِمُ الرجالَ معَ سلامةِ القلوبِ، فلو أرادَ الرجلُ أن يتركَ الإماءَ التركياتِ الحسانَ يَمْشِينَ بينَ الناسِ في مثل هذه البلادِ والأوقاتِ؛ كان من بابِ الفسادِ.

وكذلك المُرْدانُ الحسانُ، لا يصِلح أن يخرجوا في الأمكنةِ والأزمنةِ التي يُخافُ فيها الفتنةُ بهم إلا بقَدْرِ الحاجةِ، فلا يُمكَّنُ الأمردُ الحسنُ من التبرُّجِ، ولا من الجلوسِ في الحَّمامِ بينَ الأجانبِ، ولا من رقصِه بينَ الرجالِ، ونحوِ ذلك.

وإنما وقَع النزاعُ بينَ الناسِ في القسمِ الثالثِ: وهو النظَرُ إليه لغيرِ شهوةٍ، لكن معَ خوفِ ثَوَرانِها، ففيه وجهانِ في مذهبِ أحمدَ، أصَحُّهما، وهو المَحْكيُّ عن نصِّ الشافعيِّ وغيرِه: أنه لا يجوزُ.

والثاني: يجوزُ؛ لأن الأصلَ عدَمُ ثَوَرانِها.

والأولُ هو الراجحُ.

ومَن أدْمَنَ النظرَ إلى الأمردِ، وقال: لا أنظُرُ لشهوةٍ، فقد كذَبَ، فإنه إذا لم يكُنْ له داعٍ يحتاجُ معه إلى النظرِ؛ لم يكُنِ النظرُ إلا لما يحصُلُ في القلبِ من اللذةِ، وأما نظَرُ الفجأةِ فهو عَفْوٌ إذا صرَفَ بصرَه.

ويُقالُ: غضُّ البصرِ عن الصورةِ التي يحرُمُ النظرُ إليها له ثلاثُ فوائدَ:

(1)

في مجموع الفتاوى (21/ 250): (متكشِّفات الرؤوس).

ص: 79

أحدها: حلاوةُ الإيمانِ ولذَّتُه التي هي أحلى وأطيبُ مما ترَكَه للهِ، والنفْسُ تحبُّ النظرَ إلى هذه الصُّوَرِ، لا سيَّما نفوسِ أهلِ الرياضةِ والصفاء، فإنه يبقى فيها رقةٌ، حتى إن الصُّورَ تجذبُ أحدَهم وتصرَعُه، ورُوِي عن فتحٍ

(1)

أنه قال: (صحِبتُ ثلاثينَ منَ الأبدالِ، كلُّهم يُوصيني عندَ فراقِه: بتَرْك صحبةَ الأحداثِ).

الثانيةُ: أنه يورثُه نورَ القلبِ والفِراسةَ، قال تعالى عن قومِ لوطٍ:{لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} .

فالتعلقُ بالصُّوَرِ يورثُ فسادَ العقلِ، وعمى البصرِ، وسُكْرَ القلبِ؛ بل جُنونَه، كما قيلَ

(2)

:

قَالُوا جُنِنْتَ بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْتُ لَهُمْ

العِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالمَجَانِينِ

العِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ

وَإِنَّمَا يُصْرَعُ المَجْنُونُ فِي الحِينِ

فمن غضَّ بصرَه عما حرَّمَه اللهُ؛ عوَّضَه اللهُ من جنسِه بما هو خيرٌ منه، فيُطلِقُ نورَ بصيرتِه، ويفتحُ عليه بابَ العلمِ والمعرفةِ والكشوفِ.

الثالثةُ: قوةُ القلبِ وثباتُه وشجاعتُه، فيجعلُ اللهُ له سلطانَ النصرةِ معَ سلطانِ الحجةِ، وفي الأثرِ: «الذي يخالفُ هَواه؛ يَفرَقُ الشيطانُ من

(1)

هو فتح الموصلي الصغير، أبو نصر فتح بن سعيد الموصلي، الزاهد، العابد، من أقران بشر الحافي، توفي سنة عشرين ومائتين. ينظر: مرآة الزمان 14/ 251، سير أعلام النبلاء 10/ 483.

(2)

نسبه ابن القيم في روضة المحبين ص (139) إلى قيس مجنون ليلى.

ص: 80

ظلِّه»

(1)

، ويوجدُ في المُتَّبِعِ لهواه: الذلُّ، ذلُّ النفسِ ومَهانتُها، فإن اللهَ جعلَ العزةَ لمن أطاعَه، والذلةَ لمن عصاه، {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} ، والناسُ يطلبونَ العِزَّ في بابِ الملوكِ، ولا يجِدونَه إلا في طاعةِ اللهِ، أبى اللهُ إلا أن يذلَّ مَن عصاه.

‌فَصْلٌ

‌ويُنقَضُ الوضوءُ بالمَذْي

، ويجبُ غسلُ ذكَرِه وأُنْثَيَيْه.

‌ويجبُ على الرجلِ وَطْءُ زوجتِه بالمعروفِ

، وهو أوكدُ حقِّها عليه، أعظمُ من إطعامِها.

والوَطْءُ الواجبُ:

قيلَ: كلَّ أربعةِ أشهُرٍ مرةً.

وقيلَ: بقدرِ حاجتِها وقدرتِه، كإطعامِها؛ وهو أصَحُّ

(2)

.

‌ولم يجِئِ الوضوءُ

في كلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلا والمرادُ به: الوضوءُ الشرعيُّ، ولم يردْ لفظُ الوضوءِ بمعنى غسلِ اليدِ والفمِ إلا في لغةِ

(1)

رواه أبو نعيم في الحلية (4/ 60) عن وهب بن منبه قال: «من جعل شهوته تحت قدمه؛ فَزِعَ الشيطان من ظله". وروى نحوه عن مالك بن دينار (2/ 365).

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وينقض الوضوء

) إلى هنا في الفتاوى الكبرى 1/ 294.

ص: 81

اليهودِ، كما رُوِي أنَّ سلمانَ قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنا نجدُ في التوراةِ أن مِن بركةِ الطعامِ الوضوءَ قبلَه، فقال صلى الله عليه وسلم:«من برَكةِ الطَّعامِ: الوضوءُ قبلَه والوضوءُ بعدَه»

(1)

.

‌ومسُّ اليهوديِّ والنصرانيِّ

لا ينقُضُ الوضوءَ باتفاقِ المسلمينَ.

‌وأكلُ النساءِ الأجانبِ والرجالِ

لا يُفعَلُ إلا لحاجةٍ، من ضيقِ المكانِ، وقلةِ الطعامِ، ومعَ ذلك فلا تكشِفُ وجْهَها للأجانبِ، ولا يُلقِمُها الأجنبيُّ، ولا تُلقِمُه، ولمَّا سُئِلَ عن الحَمْوِ؟ فقال:«الحَمْوُ الموتُ»

(2)

، والحَمْوُ أخو الزوجِ ونحوُه، دونَ ابنه؛ فإنه مَحْرمٌ.

وفي الحديثِ: «لا يدخلُ الجنةَ دَيُّوثٌ»

(3)

؛ وهو الذي لا غِيرةَ له، بل إذا رأى في أهلِه شيئًا؛ لم يُنكِرْه.

‌ولا يجوزُ للمرأةِ

أن تظهرَ على أجنبيٍّ ولا رقيقٍ غيرِ مِلْكِها، ولو كان خصِيًّا، وهو الخادمُ، فليس له النظرُ إليها؛ لأنه يفعلُ مقدماتِ الجِماعِ، ويُذكَرُ بالرجالِ، وله شهوةٌ وإن كان لا يُحبِلُ.

(1)

رواه أحمد (23733)، وأبو داود (3761)، والترمذي (1846) من حديث سلمان رضي الله عنه.

وينظر أصل الفتوى من قوله: (ولم يجيء

) إلى هنا في الفتاوى الكبرى 1/ 294.

(2)

رواه البخاري (5232)، ومسلم (2172)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.

(3)

رواه أبو داود الطيالسي (677)، وابن خزيمة في التوحيد (2/ 865)، من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 178):(رواه الطبراني، ورواته لا أعلم فيهم مجروحًا، وشواهده كثيرة).

ص: 82

وأما مَمْلوكُها ففيه قولانِ:

أحدُهما: أنها معه كالأجنبيِّ؛ وهو قولُ أبي حنيفةَ، والمشهورُ عن أحمدَ.

والثاني: أنه مَحْرمٌ؛ وهو قولُ الشافعيِّ، وقولٌ لأحمدَ.

‌فَصْلٌ

(1)

‌ومَن أصابه سهمٌ

مسمومٌ من سهامِ إبليسَ

(2)

؛ فعليه بالتِّرْياقِ

(3)

والمَرْهَمِ، وذلك بأمورٍ:

منها: التزويجُ والتَّسَرِّي، فإنه ينقُصُ الشهوةَ، ويضعِفُ العشقَ.

الثاني: أن يداومَ على الصلواتِ الخمسِ، والدعاءِ، والتضرعِ وقتَ السَّحَرِ، وتكونَ صلاتُه بحضورِ قلبٍ وخشوعٍ، وليُكثِرْ من قولِه:«يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قلبي على دِينكَ، يا مُصرِّفَ القلوبِ اصرفْ قلبي إلى طاعتِكَ وطاعةِ رسولِكَ» ، فمتى أَدْمنَ الدعاءَ والتضرُّعَ للهِ؛ صرَفَ قلبَه عن ذلك.

(1)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 32/ 5، والفتاوى الكبرى 3/ 77.

(2)

زاد في (ع) و (ك): وهو العشق.

(3)

قال في لسان العرب 10/ 32: (الترياق، بكسر التاء: معروف، فارسي معرب، هو دواء السموم، لغة في الدرياق، والعرب تسمي الخمر: ترياقًا، وترياقة؛ لأنها تَذهَب بالهمِّ).

ص: 83

الثالثُ: أن يبعدَ عن سكَنِ هذا الشخصِ والاجتماعِ بمن يجتمعُ به؛ بحيثُ لا يسمعُ له خبرًا.

ص: 84

‌بَابُ الاسْتِطَابَةِ

‌إذا كان في المسجدِ بِرْكةٌ

يُغلَقُ عليها بابُه، ويُمشَى حولَها دونَ أن يُصلَّى حولَها، فهل يبالُ فيها؟ هذا يشبِهُ البولَ في المسجدِ في القارورةِ، ومن الفقهاءِ مَن نهى عنه؛ لأن هواءَ المسجدِ كقَرارِه في الحُرْمةِ، ومنهم من يُرخِّصُ للحاجةِ، والأشبَهُ: أن هذا إذا فُعِل للحاجةِ فقريبٌ، وأمَّا إذا اتُّخِذَ مَبالًا ومُستنجًى فلا.

‌والاستنتار

(1)

، والتنحنحُ، والمشيُ

فليس بواجبٍ، إنما يجبُ الإنقاءُ.

‌ولا يجبُ غسلُ داخلِ فرجِ المرأةِ

في أصحِّ القولينِ.

‌وإذا دسَّتِ المرأةُ معها دواءً

يمنعُ نفوذَ المنيِّ في مجاري الحَبَلِ؛ فصومُها وصلاتُها صحيحةٌ، وإن كان ذلك الدواءُ في جوفِها.

وأما جوازُ ذلك: ففيه نزاعٌ بينَ العلماءِ، والأحوطُ ألا تفعلَ.

(1)

الاستنتار: استفعال من النتر، وهو الاجتذاب مرة بعد مرة يعني الاستبراء. ينظر: تهذيب اللغة 14/ 192، النهاية في غريب الحديث 5/ 12.

ص: 85

‌بَابُ الغُسْلِ

‌يجوزُ الاغتسالُ عُريانًا

بكشفِ عَوْرتِه إن كان في خَلْوةٍ.

وأما داخلَ الحمامِ؛ فعليه سترُ عَوْرتِه، ولا يُخلِّي أحدًا يراها ولا يمَسُّها؛ قَيِّمًا كان أو غيرَه، ولا يشهدُ منكرًا، بل يأمرُ بالمعروفِ بحسَبِه، وليس له أن يُسرِفَ في صبِّ الماءِ، بل الحمامُ أشدُّ؛ لحقِّ صاحبِه، ويلزمُ السنةَ؛ فلا يجفو إجفاء النصارى، ولا يغلو غُلُوَّ اليهودِ.

‌ومنِ اغتَسلَ ولم يتوضأْ

؛ أجزأَه عنهما في المشهورِ من مذاهبِ الأربعةِ؛ لكن عند أحمدَ وأبي حنيفةَ: يجبُ أن يتمضمضَ ويستنشقَ.

وهل عليه أن ينويَ رفْعَ الحدثينِ؟ فيه نزاعٌ بينَ العلماءِ

(1)

.

‌وهل للمرأةِ دخولُ الحمامِ

إذا شقَّ عليها تَرْكُه؛ بأن اعتادَتْه؟ على وجهينِ في مذهبِ أحمدَ وغيرِه

(2)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومنِ اغتَسلَ

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 21/ 299.

قال في مجموع الفتاوى (21/ 396): (والمغتسل من الجنابة ليس عليه نية رفع الحدث الأصغر كما قال جمهور العلماء، والمشهور في مذهب أحمد: أن عليه نية رفع الحدث الأصغر).

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وهل للمرأة

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 21/ 300، والفتاوى الكبرى 5/ 308.

قال في الإنصاف (2/ 157): (قال في الفائق: وقيل يجوز لضرر يلحقها بترك اغتسال فيه لنظافة بدنها. اختاره ابن الجوزي، وشيخنا) وشيخ ابن قاضي الجبل صاحب الفائق: هو شيخ الإسلام ابن تيمية.

ص: 86

‌والاستمناءُ مُحرَّمٌ

عندَ عامةِ العلماءِ، وهو أظهرُ الروايتينِ عن أحمدَ، والأخرى أنه مكروهٌ؛ لكن إنِ اضطُرَّ إليه - مثلُ: أن يخافَ الزنى أو المرضَ إن لم يفعلْه -؛ ففيه قولانِ مشهورانِ، وقد رخَّصَ فيه في هذه الحالِ طوائفُ من السلَفِ والخلَفِ

(1)

.

‌ويجوزُ المسحُ على الخفِّ

إذا كان فيه خَرْقٌ يسيرٌ عندَ أبي حنيفةَ ومالكٍ، وقيلَ: لا يجوزُ، وهو المعروفُ من مذهبِ الشافعيِّ وأحمدَ، والأولُ أرجحُ

(2)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (والاستمناء محرم

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 229، والفتاوى الكبرى 3/ 439.

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجوز المسح

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 21/ 212.

ص: 87

‌بَابُ التَّيَمُّمِ

‌وإذا لم تقدرْ على الاغتسالِ بالماءِ

؛ فعليها أن تُصلِّيَ في الوقتِ بالتيمُّمِ عندَ جماهيرِ العلماءِ؛ لكنَّ مذهبَ أحمد والشافعيِّ: أنها تغسلُ ما يمكنُ، وتتيَمَّمُ للباقي.

ومذهبُ مالكٍ وأبي حنيفةَ: إن غسَلتِ الأكثرَ لم تتَيمَّمْ، وإن لم يمكنْ إلا غسلُ الأقلِّ تيَمَّمتْ، ولا غُسْلَ عليها

(1)

.

‌ومَن عَدِمَ الماءَ والترابَ

؛ صلَّى على الأصحِّ، ولا إعادةَ في الأصحِّ.

‌ومن أجنبَ ونام

، فلم يَنْتبِهْ إلا عندَ طلوعِ الشمسِ، وإن استحمَّ خاف الضررَ، وإن راح الحمامَ خرج الوقتُ؛ فمذهبُ الشافعيِّ وأحمدَ وأبي حنيفةَ: أنه يغتسلُ ويصلِّي؛ ولو خرج الوقتُ.

ومذهبُ مالكٍ: يتيَمَّمُ، ويصلي في الوقتِ

(2)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا لم تقدر

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 21/ 463، والفتاوى الكبرى 1/ 303.

(2)

رجَّح شيخ الإسلام القول الأول في موطن آخر، قال في مجموع الفتاوى (21/ 469):(إذا أدركته الجنابة فعليه أن يغتسل ويصلي في الوقت، وليس له أن يؤخر الغسل، فإن كان لم يستيقظ إلا وقت طلوع الشمس فأكثر العلماء يقولون: يغتسل ويصلي بعد طلوع الشمس ولا يصلي جنبًا، وبعضهم قال: يصلي في الوقت بالوضوء والتيمم، لكن الأول أصح).

ص: 88

وأما مَن كان مستيقظًا من أولِ الوقتِ؛ فإن عليه أن يصليَ في الوقتِ باغتسالٍ، أو تيَمُّمٍ، ولا يُفوِّتُ الوقتَ، بخلافِ الأولِ، فإن الوقتَ في حَقِّه من حينَ انْتَبَهَ

(1)

.

‌والتيمُّمُ؛ هل يرفعُ الحدثَ رفعًا مؤقتًا

، أو يبيحُ فعلَ الصلاةِ معَ قيامِ المانعِ؟ فيه نزاعٌ

(2)

.

‌ومَن كان حاقنًا عادمًا للماءِ:

فالأفضلُ أن يصليَ بالتيمُّمِ غيرَ حاقنٍ من أن يحفظَ وضوءَه ويصليَ حاقنًا.

‌ومَن خاف أن يغتسلَ

فيُرمَى بشيء هو بريءٌ منه، ويتضررَ به: جاز له التيمُّمُ والصلاةُ والقراءةُ ومسُّ المصحفِ

(3)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن أجنب

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 53، والفتاوى الكبرى 2/ 15.

(2)

قال في مجموع الفتاوى 21/ 436: (وقيل: بل التيمم يقوم مقام الماء مطلقًا يستبيح به كما يستباح بالماء، ويتيمم قبل الوقت كما يتوضأ قبل الوقت، ويبقى بعد الوقت كما تبقى طهارة الماء بعده، وإذا تيمم لنافلة صلى به الفريضة كما أنه إذا توضأ لنافلة صلى به الفريضة، وهذا قول كثير من أهل العلم وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الثانية، وقال أحمد: هذا هو القياس، وهذا القول هو الصحيح

فالتيمم رافع للحدث، مطهر لصاحبه، لكن رفع موقت إلى أن يقدر على استعمال الماء).

(3)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن خاف

) إلى هنا في الفتاوى الكبرى 1/ 304.

ص: 89

‌ويَؤُمُّ المغتسلَ

عندَ جمهورِ العلماءِ؛ إلا محمدَ بنَ الحسنِ

(1)

.

‌وقد رُوِي عن عمرَ وابنِ مسعودٍ:

مَنْعُ الجُنُبِ من التيمُّمِ

(2)

، وخالَفَهما جمهورُ الصحابةِ والتابعينَ.

‌وهل المبيحُ للتيمُّمِ خوفُ الضَّرَرِ أو التلَفِ

؟ فيه نزاعٌ للشافعيةِ.

‌ومَن أمكَنَه أن يغتسلَ ويصليَ خارجَ الحمامِ

؛ فعل ذلك، فإن لم يُمكِنْه - مثلُ: أن يستيقظَ أولَ الفجرِ وإن اشتغلَ بطلبِ الماءِ خرَجَ الوقتُ - فإنه يصلِّي بالتيمُّمِ عندَ الجمهورِ؛ إلا بعضَ المتأخِّرِينَ من أصحابِ الشافعيِّ وأحمدَ، قالوا: يشتغلُ بتحصيلِ الطهارةِ وإن فات الوقتُ، هكذا قالوا في اشتغالِه بخياطةِ الثوبِ، وتعلُّمِ دلائلِ القبلةِ، ونحوِه.

وهذا القولُ خطأٌ؛ فإن قياسَه: أن المسافرَ يُؤخِّرُ حتى يصليَ بعدَ الوقتِ بالوضوءِ، والعُريانَ يُؤخِّرُ حتى يصليَ بعدَ الوقتِ باللباسِ، وهو خلافُ إجماعِ المسلمينَ، بل على العبدِ أن يصليَ في الوقتِ بحسَبِ الإمكانِ، وهذا بخلافِ ما إذا استيقظَ آخِرَ الوقتِ.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويؤم المغتسل

) إلى هنا في الفتاوى الكبرى 1/ 304.

(2)

روى البخاري (345)، ومسلم (368) عن أبي وائل، قال: قال أبو موسى لعبد الله بن مسعود: «إذا لم يجد الماء لا يصلي؟» قال عبد الله: لو رخصت لهم في هذا كان إذا وجد أحدهم البرد قال: هكذا - يعني تيمم - وصلى، قال: قلت: «فأين قول عمار لعمر؟» قال: إني لم أر عمر قنع بقول عمار.

ص: 90

وإنِ اشتغلَ باستقاءِ الماءِ منَ البئرِ خَرَج الوقتُ، أو ذهَب إلى الحمامِ؛ فهنا يغتسلُ وإن خرَج الوقتُ عندَ الجمهورِ إلا مالكًا، فإنه قال: يتيَمَّمُ ويصلِّي في الوقتِ؛ كما تقدَّمَ ذلك عنه.

وأما مَن أمكنه الذهابُ إلى الحمامِ لكن إن دخَل لا يُمكِنُه الخروجُ حتى يفوتَ الوقتُ، إمَّا لكونِه مقهورًا، مثلُ: العبدِ الذي لا يُمَكِّنُه سيدُه من الخروجِ، ومثلُ: المرأةِ معَها أولادُها لا يُمكِنُها الخروجُ حتى تغسِلَهم، ونحوِ ذلك؛ فهذا لا بدَّ لهم من أحدِ أمورٍ: إمَّا أن يغتسلوا ويصلُّوا في الحمامِ في الوقتِ، وإمَّا أن يصلُّوا خارجَ الحمامِ بعدَ الوقتِ، وإمَّا أن يصلُّوا بالتيمُّمِ خارجَ الحمامِ، وبكلٍّ من هذه الأقوالِ يُفتي طائفةٌ.

لكنَّ الأظهرَ: أنهم يصلُّونَ بالتيمُّمِ خارجَ الحمامِ؛ لأن الصلاةَ في الحمامِ يُنهى عنها، وتفويتُ الصلاةِ أعظمُ، ولا يُمكِنُه الخروجُ عن هذينِ النَّهْيَينِ إلا بالتيمُّمِ في الوقتِ خارجَ الحمامِ، ثم يصلي بذلك قبل دخولِه الحمامِ.

وصار هذا كما لو لم يُمكِنْه الصلاةُ إلا في موضعٍ نجِسٍ في الوقتِ، أو في موضعٍ طاهرٍ بعدَ الوقتِ إذا غسَلَ الموضعَ، أو يصلي بالتيمُّمِ في مكانٍ طاهرٍ في الوقتِ؛ فهذا أَوْلى؛ لأن كلًّا من ذلك مَنْهيٌّ عنه.

ونزاعُ الفقهاءِ فيمن صلَّى في موضعٍ نجِسٍ لا يُمكِنُه الخروجُ منه على قولينِ معروفينِ، والأظهرُ: أنه لا يعيدُ، بل الصحيحُ أن كلَّ مَن صلَّى في الوقتِ بحسَبِ إمكانِه لا يعيدُ؛ كالعاجزِ عن الطهارةِ، أو

ص: 91

الستارةِ، أو الاستقبالِ، أو اجتنابِ النجاسةِ أو عن إكمالِ الركوعِ أو السجودِ، أو عن قراءةِ الفاتحةِ، ونحوِهم

(1)

.

‌لا يجوزُ لمن اشترى جاريةً وَطْؤُها

قبلَ استبرائِها باتفاقِ العلماءِ؛ بل لا يجوزُ في أحدِ قولَيِ العلماءِ أن يبيعَها الواطئُ حتى يستبرئَها، وهل عليه استبراءٌ وعلى المشتري استبراءٌ، أو استبراءان، أو يكفيهما استبراءٌ واحدٌ؟ على قولينِ

(2)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن أمكنه أن

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 21/ 445.

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (لا يجوز لمن

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 30، الفتاوى الكبرى 3/ 174.

تنبيه: بالغ المؤلف في اختصار الفتوى حتى وقع فيها خلل، ونص الفتوى في مجموع الفتاوى: (سئل شيخ الإسلام رحمه الله: عن رجل اشترى جارية؛ ثم بعد يومين أو ثلاثة وطئها قبل أن تحيض ثم باعها بعد عشرة أيام: فهل يجوز للسيد الثاني أن يطأها قبل أن تحيض؟

فأجاب: لم يكن يحل له وطؤها قبل أن يستبرئها باتفاق الأئمة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة» ، وكذلك المشتري الثاني لا يجوز له وطؤها قبل أن تحيض عنده باتفاق الأئمة؛ بل لا يجوز في أحد قولي العلماء أن يبيعها الواطئ حتى يستبرئها، وهل عليه استبراء وعلى المشتري استبراء؟ أو استبراءان؟ أو يكفيهما استبراء واحد؟ على قولين). وقوله:(استبراءان) في الفتوى لاشتراك البائع الأول والمشتري الأول في الوطء، وحينئذ قال بعض الأصحاب: يلزمها استبراءان.

ص: 92

‌بَابُ الحَيْضِ

‌وَطْءُ المرأةِ في دُبُرِها

حرامٌ في قولِ جماهيرِ العلماءِ، ومتى وطِئَها في الدُّبُرِ وطاوعَتْه؛ عُزِّرا، فإن لم يَنْتهيا فُرِّقَ بينَهما كما يُفرَّقُ بينَ الفاجرِ ومَن يفجُرُ به

(1)

.

‌ومَن شربتْ دواءً فانقطعَ دمُها

، ثم طلَّقَها زوجُها؛ فإن كانت تعلمُ أن الدمَ لا يأتي فيما بعدُ بحالٍ؛ فعِدَّتُها ثلاثةُ أشهرٍ، وإن كان يمكنُ أن يعودَ؛ فإنها تتربصُ سنةً، ثم تتزوجُ، كما قضى عمرُ في المرأةِ يرتفعُ حَيْضُها، لا تدري ما رفعَه

(2)

، وهذا مذهبُ الجمهورِ: مالكٍ وأحمدَ والشافعيِّ في قولٍ.

ومَن قال: تنتظرُ حتى تدخلَ في سنِّ الإياسِ فهو ضعيفٌ جدًّا؛ لما فيه من الضَّرَرِ الذي لا تأتي الشريعةُ بمثلِه

(3)

.

‌وإذا انقطعَ الدمُ

؛ فلا تُوطأُ حتى تغتسلَ.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وطء المرأة

) إلى هنا في الفتاوى الكبرى 3/ 174.

(2)

رواه عبد الرزاق (11095)، وابن أبي شيبة (18997).

(3)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن شربت

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 24، الفتاوى الكبرى 3/ 346.

ص: 93

وقال بعضُ الظاهريةِ: يجوزُ إذا غسَلتْ فرجَها؛ لقولِه: {فإذا تطهرن} أي: غسَلْنَ فُروجَهن. وليس بشيءٍ، فإن التطهُّرَ هو الاغتسالُ.

وأبو حنيفةَ يقولُ: إذا اغتسَلتْ، أو مضى عليها وقتُ صلاةٍ، أو انقطعَ الدمُ لأكثره، وأكثرُه عندَه عشَرةُ أيامٍ

(1)

، وقولُ الجمهورِ أصحُّ

(2)

.

(1)

قوله: (لأكثره، وأكثرُه عندَه عشَرةُ أيامٍ) بيَّض له المؤلف، وهو مثبت من (ع) و (ك)، وهو الموافق لما في مجموع الفتاوى.

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا انقطع الدم

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 21/ 626، والفتاوى الكبرى 3/ 172.

ص: 94

‌كِتَابُ الصَّلَاةِ

‌لم يقلْ أحدٌ:

إن تأخيرَ جميعِ الصلواتِ أفضلُ، لكن منهم من يقولُ: تأخيرُ بعضِها أفضلُ، كما يقوله أبو حنيفةَ في الفجرِ والعصرِ.

‌والمواقيتُ التي علَّمَها جِبْريلُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

، وعلَّمَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأمتِه حينَ بيَّنَ مواقيتَ الصلاةِ، وهي التي ذكَرها العلماءُ في كتُبِهم؛ هي الأيامُ المعتادةُ، فأمَّا ذلك اليومُ الذي قاله صلى الله عليه وسلم:«يومٌ كسنةٍ» ، وقال:«اقْدُروا له قَدْرَه»

(2)

، فله حكمٌ آخَرُ.

يبيِّنُ ذلك: أن صلاةَ الظهرِ في الأيامِ المعتادةِ لا تكونُ إلا بعدَ الزوالِ وانتصافِ النهارِ، وفي ذلك اليومِ يكونُ من أوائلِ اليومِ بقدرِ ذلك، وكذلك العصرِ هي في الأيامِ المعتادةِ إذا زاد ظِلُّ كلِّ شيءٍ على مِثْلِه عندَ الجمهورِ؛ كمالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ وأبي يوسفَ ومحمدٍ وغيرِهم.

وأبو حنيفةَ يقول: إذا صار ظِلُّ كلِّ شيءٍ مِثْلَيْه، وهذا آخِرُ وقتِها عندَ

(1)

رواه أحمد (3081)، وأبو داود (393)، والترمذي (149)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ورواه أحمد (14538)، والنسائي (526)، من حديث جابر رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم (2937)، من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه.

ص: 95

مالكٍ، وأحمدَ في إحدى الروايتينِ، والشافعيِّ.

والمقصودُ: أن في ذلك اليومِ لا يكونُ وقتُ العصرِ إذا صار ظلُّ كلِّ شيءٍ لا مثلَه ولا مثلَيْه؛ بل يكونُ أولَ اليومِ قبلَ هذا الوقتِ بشيءٍ كثيرٍ، فكما أن وقتَ الظهرِ والعصرِ ذلك اليومَ هما قبلَ الزوالِ؛ كذلك صلاةُ المغربِ والعشاءِ قبلَ الغروبِ، وكذلك صلاةُ الفجرِ فيه تكونُ بقدرِ الأوقاتِ في الأيامِ المعتادةِ، ولا يُنظَرُ فيها إلى حركةِ الشمسِ ذلك اليوم، لا بزوالٍ ولا غروبٍ، ولا مَغيبِ شَفَقٍ، ونحوِ ذلك، وهذا كما قد قيلَ في قولِه:{ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} ، قال بعضُهم: يُؤتَوْنَ على مقدارِ البُكرةِ والعَشِيِّ في الدنيا. وقيلَ: يُعرَفُ ذلك بأنوارٍ تظهرُ من ناحيةِ العرشِ، كما يُعرَفُ ذلك في الدنيا بنورِ الشمسِ.

وقولُ الصحابةِ: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ اليومَ كالسنةِ يَكْفينا فيه صلاةُ يومٍ؟ فقال:«لا، ولكن اقْدُروا له قدْرَه» ؛ أرادوا اليومَ والليلةَ، فقد يُعنى به الليلُ؛ كما يُعنى بلفظِ الليلةِ الليلةُ بيومِها؛ كقولِه:{آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام} ، وفي الموضعِ الآخَرِ:{ثلاث ليال} ، و «يوم عَرفةَ» ، و «إذا فاتَه الوقوفُ يومَ عَرفةَ» ؛ يُرادُ اليومُ والليلةُ التي تليه.

وأيضًا؛ إذا علِموا أنهم يُقدِّرونَ لثلاثِ صَلَواتٍ قبلَ وقتِها المعتادِ؛ عُلِمَ بطريقِ اللزومِ أنهم يُقدِّرونَ للمغربِ والعشاءِ، ووقوعُ ذلك في النهارِ كوقوعِ صلاتَيِ العشيِّ قبلَ الزوالِ من ذلك.

ص: 96

وأيضًا؛ قولُه: «اعتَكفَ العشْرَ»

(1)

؛ دَخَل فيه الليلَ، {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة} ؛ دخَل فيها النهارُ. واللهُ أعلمُ.

‌فَصْلٌ

‌هؤلاءِ الذين يُؤذِّنونَ

معَ المؤذِّنِ الراتبِ يومَ الجمعةِ في مثلِ صَحْنِ الجامعِ؛ ليس أذانُهم مشروعًا باتفاقِ الأئمةِ، بل هو بدعةٌ منكرةٌ مشتملةٌ على وجوهٍ مذمومةٍ:

منها: أنه بدعةٌ.

ومنها: أنهم يتركونَ ما أُمِروا به، فقد صحَّ عنه: أن يقولُ مثلَ قولِ المؤذِّنِ، إلا في الحيعلةِ، فيقولُ:«لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ»

(2)

.

والثاني: أن يصلِّيَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(3)

.

الثالثُ: أن يسألُ له الوسيلةَ

(4)

.

الرابعُ: أن يدعوَ بعدَ ذلك بما شاءَ

(5)

.

(1)

رواه البخاري (2025)، ومسلم (1171)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري (613)، من حديث معاوية رضي الله عنه.

ورواه مسلم (385)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(3)

رواه مسلم (384)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

(4)

رواه مسلم (384)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

(5)

رواه أحمد (12200)، وأبو داود (521)، والترمذي (212)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 97

فيتركونَ سَماعَه وما أُمِروا به، ويفعلونَ ما لم يُؤمَروا به.

ومنها: أنهم يَشغلونَ الناسَ عن هذه السُّنَنِ، ويخلطونَ عليهم، فإن أصواتَهم تختلطُ وتشتبهُ به.

وأيضًا: لا فائدةَ في هذا الأذانِ، فإن أهلَ المسجدِ قد سمِعوا الراتبِ، وغيرُهم لا يسمعُ هؤلاء

(1)

.

ومنها: أنهم يؤذِّنُون في وقتٍ واحدٍ، ومتى أذَّنَ مؤذنانِ معًا في وقتٍ واحدٍ مفترقانِ؛ كان مكروهًا منهيًّا عنه، بخلافِ ما إذا أذَّنَ واحدٌ بعدَ واحدٍ، كما كان المؤذِّنانِ على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

وكذلك القُصَّاصُون الذين يقومونَ على رؤوسِ الناسِ يومَ الجمعةِ، ويَشغلونَهم عما شُرِع منَ الصلاةِ، والقراءةِ، والدعاءِ؛ لا سيَّما إن قصُّوا وسألوا والإمامُ يخطُبُ، فإنه منَ المنكَراتِ الشنيعةِ معَ أنهم يكذبونَ كثيرًا، فيتعيَّنُ إزالةُ ذلك باتفاقِ الأئمةِ.

ولم يكُنِ التبليغُ وراءَ الإمامِ على عهدِ النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خلفائِه، ولكن لما مرِضَ صلَّى بالناسِ مرةً، وكان أبو بكرٍ يُسمِعُ الناسَ التكبيرَ

(2)

، على أن الظاهرَ عن أحمدَ أن هذه الصلاةَ كان أبو بكرٍ مُؤتَمًّا بالنبيِّ، وكان إمامًا بالناسِ، فيكونُ تبليغُه لكونِه إمامًا للناسِ، وكذا بلَّغ مرةً أخرى لما صُرِعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فجُحِشَ شِقُّه

(3)

، ولهذا اتفقَ العلماءُ

(1)

كذا في النسخ الخطية، وفي المطبوع:(وغيرهم لا يسمع هذا المؤذن).

(2)

رواه البخاري (664)، ومسلم (418)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

رواه مسلم (413)، من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 98

على أنه لا يُستحَبُّ التبليغُ، بل يُكرَهُ إلا لحاجةٍ؛ مثلِ ضعفِ صوتِ الإمامِ، أو بُعْدِ المأمومِ، ونحوِه، وقد اختلفوا فيه في هذه الحالِ، والمعروفُ عن أحمدَ: أنه جائزٌ، وأصحُّ قولَيْ مالكٍ.

أما عندَ عدَمِ الحاجةِ؛ فبدعةٌ، بل صرَّحَ كثيرٌ منهم أنه مكروهٌ، بل قد ذهب طائفةٌ من أصحابِ مالكٍ وأحمدَ إلى أنه تَبطلُ صلاةُ المبلِّغِ لغيرِ حاجةٍ، ولم يستحِبَّه أحدٌ من العلماءِ حينئذٍ، ومَن أصرَّ على اعتقادِ كونِه قربةً فإنه يُعزَّرُ، وهذا أقلُّ أحوالِه

(1)

.

‌وكذلك التثويبُ بينَ الأذانِ والإقامةِ

لم يكُنْ على عهدِه، بل كرِهَه أكثرُ الأئمةِ والسلَفِ، وعدُّوه بدعةً.

‌وكذلك الجهرُ بالدعاءِ عَقيبَ الصَّلَواتِ

؛ مثلُ: دعاءِ الإمامِ والمأموم جميعًا عَقيبَ الصلاةِ؛ لم يكُنْ، ولكنه ثبَتَ أنهم كانوا يَجهرونَ بالذِّكْرِ

(2)

، وأنه كان يجهَرُ عَقيبَ الصلاةِ بالذِّكْرِ، يقولُ:«لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، لا إلهَ إلا اللهُ، ولا نعبدُ إلا إياه»

(3)

، فالذكرُ ثابتٌ، ومَن اعتقدَ قربةَ ما لم يدلَّ عليه دليلٌ شرعيٌّ؛ فهو مخطئٌ ضال.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولم يكن التبليغ

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 400، والفتاوى الكبرى 2/ 329.

(2)

رواه البخاري (842)، ومسلم (583)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال:«كنت أعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير» .

(3)

رواه مسلم (594)، من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.

ص: 99

‌فَصْلٌ

‌الذي جاءتْ به السُّنَّةُ

هو ما كان على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وخلفائِه؛ مِن أنه كان بعضُ المؤذِّنِينَ يؤذِّنُ قبلَ الفجرِ، وبعضُهم بعدَ طلوعِ الفجرِ

(1)

، وأبلغُ ما قاله الفقهاءُ من أصحابِ الشافعيِّ وأحمدَ وغيرهم في تقديمِ الأذانِ: من نصفِ الليلِ، معَ أنَّ أبا حنيفةَ وغيرَه ينهَوْنَ عن الأذانِ قبلَ الفجرِ مطلقًا.

‌فأمَّا سوى الأذانِ

من تسبيحٍ، ونشيدٍ، ورفعِ الصوتِ بدعاءٍ: فليسَ بمسنونٍ عندَ الأئمةِ، ولا أعلمُ أحدًا استحَبَّه، بل ذكره طائفةٌ من أصحابِ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ من البدعِ المكروهةِ، وما كان مكروهًا؛ لم يكُنْ لأحدٍ أن يأمرَ به، ولا ينكرَ على مَن تَرْكِه، ولا يُعلِّقَ به استحقاقَ رِزقٍ، ولا يلزمُ فعْلُه؛ ولو شرَطَه واقفٌ.

وإذا قيلَ: في بعضِ هذه الصُّوَرِ مصلحةٌ راجحةٌ على مَفْسدتِها؛ فيُقتصَرُ من ذلك على القدرِ الذي تحصُلُ به المصلحةُ دونَ الزيادةِ التي هي ضررٌ بلا مصلحةٍ راجحةٍ.

(1)

يشير إلى ما رواه البخاري (617)، ومسلم (1092) عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» .

ص: 100

‌فَصْلٌ

‌لا يجبُ على المالكيِّ

ولا على غيرِه تقليدُ واحدٍ من الأئمةِ بعَيْنِه في جميعِ الدِّينِ باتفاقِ الأئمةِ الكبارِ.

والصلاةُ بالنَّعْلَينِ سنةٌ، أمَرَ بذلك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

، وأمَرَ إذا كان فيهما أذًى يدلُكُهما بالأرضِ، فإنها لهما طَهورٌ

(2)

، وهذا هو الصحيحُ من قولَيِ العلماءِ.

وصلاتُه وأصحابِه بالنعالِ في المسجدِ معَ أنهم يسجُدونَ على ما يلاقي النعالِ: كلُّ ذلك دليلٌ على طَهارةِ أسفلِ النعلِ، معَ أنهم كانوا يَروحونَ بها إلى الحُشِّ للبَرازِ، فإذا رأى

(3)

عليها أثرَ النجاسةِ فدُلِكَتْ بالأرضِ طهُرت.

‌خَمْرةُ الخلَّال

هل يجبُ إراقتُها؟ على قولينِ في مذهبِ أحمدَ وغيرِه، أصَحُّهما: الإراقةُ.

‌ولا يجوزُ أن يُذبَحَ في المسجدِ

، ولا أن يُقبَرَ فيه، ولا أن يُستنجَى،

(1)

رواه أبو داود (652)، من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه مرفوعًا:«خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم» ، ورواه الطبراني في الكبير (7165)، بلفظ:«صلوا في نعالكم، خالفوا اليهود» .

(2)

رواه أبو داود (385)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وروى أحمد (11877)، وأبو داود (650)، نحوه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(3)

هكذا في (ع) و (ك)، وفي الأصل: رأت.

ص: 101

ولا يُغيَّرَ وَقْفُه لغيرِ مصلحةٍ، وفي كراهةِ الوضوءِ نزاعٌ

(1)

.

‌ومن ردَّ على الآمرينَ بالمعروفِ

والناهينَ عن المنكَرِ؛ عوقبَ.

‌ولا يُغسَّلُ الميتُ في المسجدِ

.

‌وإذا كان الرجلُ مُتَّبِعًا

لبعضِ الأئمةِ، فرأى في بعضِ المسائلِ أن مذهبَ غيرِه أقوى فاتَّبَعَه؛ كان قد أحسَنَ، ولم يقدحْ ذلك في دينِه ولا عَدالتِه بلا نزاعٍ؛ بل هذا أَوْلى بالحقِّ وأحبُّ إلى اللهِ ورسولِه ممن يتعصَّبُ لواحدٍ معيَّنٍ غيرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كمن يرى أن قولَ هذا المعيَّنِ هو الصوابُ الذي ينبغي اتباعُه دونَ قولِ الإمامِ الذي خالَفَه، فمن فعَل هذا كان جاهلًا ضالًّا، بل قد يكونُ كافرًا.

فإنه متى اعتَقدَ أنه يجبُ على الناسِ اتباعُ واحدٍ بعَيْنِه من هؤلاءِ الأئمةِ دونَ الإمامِ الآخَرِ: فإنه يجبُ أن يُستتابَ، فإن تاب؛ وإلا قُتِل.

بل غايةُ ما يقالُ: إنه يسوغُ، أو ينبغي، أو يجبُ على العامِيِّ أن يقلدَ واحدًا بعَيْنِه

(2)

، من غيرِ تعيينِ زيدٍ ولا عمرٍو.

وأمَّا أن يقولَ قائلٌ: إنه يجبُ على الأمةِ تقليدُ فلانٍ أو فلانٍ؛ فهذا لا يقولُه مسلمٌ.

(1)

جاء في الاختيارات للبعلي (ص 20): (والراجح: أنه لا يكره الوضوء في المسجد، وهو قول الجمهور، إلا أن يحصل معه بصاق أو مخاط).

(2)

هكذا في الأصل و (ع) و (ك)، والذي في مجموع الفتاوى (22/ 249)، والفتاوى الكبرى (2/ 105): أن يقلد واحدًا لا بعينه.

ص: 102

ومَن كان مواليًا للأئمةِ، مُحِبًّا لهم، يقلِّدُ كلَّ واحدٍ منهم فيما يظهرُ له أنه موافقٌ للسُّنةِ؛ فهو مُحسِنٌ في ذلك، بل هو أحسَنُ حالًا من غيرِه.

فالأئمةُ اجتماعُهم حجةٌ قاطعةٌ، واختلافُهم رحمةٌ واسعةٌ، فمن تعصَّبَ لواحدٍ بعينِه؛ كان بمنزلةِ الرافضةِ الذين يتعصَّبونَ لواحدٍ من الصحابةِ دونَ غيرِه، والخوارجِ، وهذه طريقةُ أهلِ البدعِ والأهواءِ الذين هم خارجونَ عن الشريعةِ بإجماعِ الأمةِ والكتابِ والسنةِ.

ثم غايةُ المتعصِّبِ لواحدٍ؛ إما مالكٍ، أو الشافعيِّ، أو أحمدَ، أو أبي حنيفةِ، أو غيرِه؛ غايتُه أن يكونَ جاهلًا بقَدْرِه في العلمِ والدينِ، وبقَدْرِ الآخَرِينَ، فيكونَ جاهلًا ظالمًا، واللهُ يأمرُ بالعلمِ والعدلِ، وينهى عن الجهلِ والظلمِ.

فالواجبُ مُوالاةُ المؤمنينَ والعلماءِ، وقَصْدُ الحقِّ واتباعُه.

ولْيُعْلَمْ أن مَن اجتَهدَ منهم فأصابَ؛ فله أجرانِ، وإن اجتَهدَ فأخطَأَ؛ فله أجرٌ.

وبلادُ الشرقِ من أسبابِ تسليطِ اللهِ عليهم التُّرْكَ؛ كثرةُ التفرُّقِ والفتنِ بينَهم في المذاهبِ، وكلُّ ذلك مِن الاختلافِ الذي ذمَّه اللهُ، فإن الاعتصامَ بالجماعةِ والائتلافَ من أصولِ الدِّينِ، والواجبُ على الخلقِ اتباعُ المعصومِ الذي لا ينطِقُ عنِ الهوى، إن هو إلا وَحْيٌ يُوحَى، {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} .

ص: 103

فعلى أقوالِه وأحوالِه وأفعالِه؛ تُوزَنُ جميعُ الأحوالِ والأقوالِ والأفعالِ.

واللهُ يُوفِّقُنا وإخوانَنا وسائرَ المؤمنِينَ لما يُحِبُّه ويَرضاه

(1)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا كان الرجل

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 245، والفتاوى الكبرى 2/ 107.

ص: 104

‌فَصْلٌ

‌يجبُ أن يُحرِّكَ لسانَه

في الذِّكْرِ الواجبِ في الصَّلاةِ من القراءةِ ونحوِها معَ القدرةِ، ومَن قال: إنه يصحُّ بدونِه؛ يُستتابُ، ويُستحَبُّ ذلك في الذِّكْرِ المستحَبِّ.

والمشهورُ من مذهبِ الشافعيِّ وأحمدَ: أن يكونَ بحيثُ يُسمِعُ نفْسَه إذا لم يكُنْ ثَمَّ مانعٌ.

وفيه وجهٌ: أنه يكفي الحركةُ بالحروفِ

(1)

.

وأكملُ الذِّكْرِ: بالقلبِ واللسانِ، ثم بالقلبِ، ثم باللسانِ فقط.

والمأمورُ به في الصلاةِ: القلبُ واللسانُ جميعًا؛ لكنَّ ذِكْرَ اللسانِ مقدورٌ، والقلبُ قد لا يُقدَرُ عليه لوَسْواسٍ، فلو قُدِّرَ رجلانِ أحدُهما ذَكَر الذِّكْرَ الواجبَ بالقلبِ فقطْ، والثاني بلسانِه فقطْ؛ فإنَّ الأولَ لا تُجزِئُه صلاتُه بلا نزاعٍ، وإن قُدِّرَ أنَّ ذِكْرَ القلبِ أفضلُ؛ لأنَّه ترَكَ الواجبَ المقدورَ عليه، كما أن الخشوعَ للهِ بالقلبِ والبدنِ أكملُ منهُ بالقلبِ وحدَه، وهو بالقلبِ وحدَه أكملُ منه بالبدنِ وحدَه، ثم إن المصلِّي لو اقتصرَ على خشوعِ القلبِ لم يُجزِئْه بلا نزاعٍ.

(1)

جاء في الاختيارات للبعلي (ص 76): (ولا يشترط أن يسمع المصلي نفسه القراءة الواجبة، بل يكفيه الإتيان بالحروف وإن لم يسمعها، وهو وجه في مذهب أحمد، واختاره الكرخي من الحنفية، وكذا كل ذكر واجب).

ص: 105

ولو غلَبَ الوَسْواسُ على قلبِه في أكثرِ الصلاةِ: لم تصِحَّ صلاتُه عندَ ابن حامدٍ والغزاليِّ وأبي الفرجِ بنِ الجوزيِّ، لكنَّ المشهورَ عنِ الأئمةِ أن الفرضَ يسقُطُ بذلك.

والتحقيقُ: أن كلَّ عملٍ في الظاهرِ من مؤمنٍ لا بدَّ أن يصحَبَه عملُ القلبِ، بدونِ العكسِ، فلا يُتصوَّرُ عملُ البدنِ منفردًا إلا من المنافقِ الذي يصلِّي رياءً، وكان عمَلُه باطلًا حابطًا، ففرقٌ بينَ المنافقِ والمؤمنِ.

فيظهرُ الفرقُ بينَ المؤمنِ الذي يقصدُ عبادةَ اللهِ بقلبِه معَ الوَسْواسِ، وبينَ المنافقِ الذي لا يصلِّي إلا رياءَ الناسِ.

وأبو حامدٍ ونحوُه سَوَّوْا بينَ النوعينِ، فإن كلاهما إنما تُسقِطُ عنه الصلاةُ القتلَ في الدنيا من غيرِ أن تُبرِئَ ذِمَّتَه، ولا ترفعَ عنه عقوبةَ الآخرةِ، والتسويةُ بينَ المؤمنِ والمنافقِ في الصلاةِ خطأٌ.

نعم؛ قد يكونُ بعضُ الناسِ فيه إيمانٌ ونفاقٌ، مثلُ من يصلِّيَ للهِ، ويُحسِّنَها لأجلِ الناسِ، فيُثابُ على ما أخلَصَه للهِ دونَ ما عمِلَه للناسِ، {ولا يظلم ربك أحدا} .

ص: 106

‌فَصْلٌ

(1)

‌حديثُ أنسٍ في نَفْيِ الجهرِ

بالبسملةِ صريحٌ لا يَحتمِلُ تأويلًا، فإن فيه:«فكانوا يَستفتِحونَ بـ {الحمد لله رب العالمين}، لا يذكرونَ {بسم الله الرحمن الرحيم} في أولِ قراءةٍ ولا آخِرِها»

(2)

، وهذا النفيُ لا يجوزُ إلا معَ العلمِ بذلك، لا يجوزُ بمجرَّدِ كونِه لم يسمَعْ معَ إمكانِ الجهرِ بلا سماعٍ، واللفظُ الآخَرُ في مسلم:«صليتُ خلفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ فلم أسمَعْ أحدًا منهم يجهَرُ - أو قال: يصلِّي - بـ {بسم الله الرحمن الرحيم}»

(3)

.

فهذا نَفى فيه السماعَ، ولو لم يُرْوَ إلا هذا اللفظُ؛ لم يَجُزْ تأويلُه بأنَّه لم يكُنْ يَسمعُ معَ جهرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لوجوهٍ:

أحدُها: أنَّه إنما رَوى هذا ليُبيِّنَ للناسِ ما كانَ يفعَلُه الرسولُ صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا غرضَ لهم في معرفةِ كونِ أنسٍ سمِعَ أو لم يسمعْ إلا ليَستدلوا بعدَمِ سَماعِه على عدَمِ المسموعِ، فلو لم يدلَّ؛ لم يكن أنسٌ يروي شيئًا لا فائدةَ فيه، ولا كانوا يَرْوُونَ هذا الذي لا يُفيدُهم.

(1)

ينظر أصل الفتوى في ذا الفصل في مجموع الفتاوى 22/ 410.

(2)

رواه مسلم (399).

(3)

رواه مسلم (399).

ص: 107

الثاني: أن مثلَ هذا اللفظِ في العرفِ صار دالًّا على عدمِ ما لم يُدرَكْ، فإذا قيلَ: ما سمِعْنا، ولا دَرَيْنا، ولا رَأَيْنا؛ لِما شأنُه أن يُسمَعَ أو يُرَى، والمقصودُ

(1)

: نفيُ وجودِه، وذِكْرُ نفيِ الإدراكِ دليلٌ على نَفْيِه.

يُبيِّنهُ الوجهُ الثالثُ: وهو أنَّ أنسًا كان يخدُمُ النبيَّ من حينَ قدِمَ النبيُّ المدينةَ إلى أن ماتَ، وكان يدخُلُ على نسائِه قبلَ الحجابِ، ويصحَبُه حَضَرًا وسَفَرًا، وحينَ حَجَّتِه كان تحتَ ناقتِه يسيلُ عليه لُعابُها، أفيُمكِنُ معَ هذا القربِ الخاصِّ والصحبةِ الطويلةِ ألَّا يسمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يجهرُ بها معَ كونِه كان يجهرُ؟! هذا مما يُعلَمُ بالضرورةِ بُطْلانُه عادةً، ثم إنه صحِبَ أبا بكرٍ وعمرَ وعثمانَ، ولم يسمعْ معَ أنهم كانوا يَجهرونَ؟! هذا لا يمكنُ، بل هو تحريفٌ لا تأويلٌ، لو لم يرِدْ إلَّا هذا اللفظُ، كيفَ والآخَرُ صريحٌ في نَفْيِ الذِّكْرِ لها، فقال:«لم يكونُوا يذكرُونَها» ، فهو تفسيرُ هذه الروايةِ.

وكِلا التأويلينِ ينفي قولَ مَن تأوَّلَ قولَه: «يَفْتتحونَ الصلاةَ بـ {الحمد الله رب العالمين}» أنه أراد السورةَ، فإنه قال:«لا يَذكرونَ {بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ} في أوَّلِ قِراءةٍ ولا في آخِرِها» ، صَريحٌ في أنَّه قَصَد الافتتاحَ بالآيةِ، لا بِسورةِ الفاتحةِ.

(1)

هكذا في النسخ الخطية ولعل الصواب: (فالمقصود)، وعبارة مجموع الفتاوى 22/ 412، والفتاوى الكبرى 2/ 167:(لما شأنه أن يسمعه ويراه، كان مقصوده بذلك نفي وجوده، وذكر نفي الإدراك دليل على ذلك).

ص: 108

ومثلُ حديثِ أنسٍ حديثُ عائشةَ: «أنَّهم كانوا يَفْتتحونَ القراءةَ بـ {الحمد الله رب العالمين}»

(1)

، وقد رُوِي:«يَفْتتحونَ القراءةَ بـ {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين}»

(2)

. وهذا صريحٌ في إرادةِ الآيةِ.

وأيضًا: فافتتاحُ القراءةِ بالفاتحةِ قبلَ السورةِ منَ المعلومِ الظاهرِ، يعرفُه الخاصُّ والعامُّ، كما يعلمونَ الركوعَ قبلَ السجودِ، فليسَ في نقلِ مثلِ هذا فائدةٌ.

لكن ليسَ في حديثِ أنسٍ نَفْيٌ لقراءتِها سرًّا؛ لأنه رُوِي: «فكانوا لا يَجْهرونَ»

(3)

، فنَفَى الجهرَ، وكَذا قولُه:«لا يَذكرون» ، نَفَى ما يُمكِنُه العلمُ به، وذلك موجودٌ في الجهرِ، فإنَّه إذا لم يُسمَعْ مع القُربِ عُلِم أنَّهم لم يَجهروا.

وأمَّا كونُ الإمامِ لم يقرَأْها فلا يمكنُ إدراكُه إلا إذا لم يكنْ بينَ التكبيرِ والقراءةِ سكتةٌ.

(1)

رواه مسلم (498) بلفظ: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير. والقراءة، بـ: الحمد لله رب العالمين»

(2)

رواه الطبراني في الكبير (383)، من حديث أم الحصين رضي الله عنها: أنها كانت تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم في صف من النساء، فسمعته يقول:" {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين} بلغ: {ولا الضالين} ".

(3)

رواه أحمد (12845)، وابن خزيمة (495)، وابن حبان (1802).

ص: 109

يؤيِّدُ ذلك: حديثُ عبدِ اللهِ بنِ مُغفَّلٍ في «السننِ» ؛ لما سمِعَ ابنَه يجهرُ بها، فأنكَرَه، وقال:«يا بنيَّ، إياكَ والحَدَثَ» ، وذكر أنه صلَّى خلفَ النبيِّ وأبي بكرٍ وعمرَ، فلم يكونوا يجهرونَ بها

(1)

.

وأيضًا: فمن المعلومِ أن الجهرَ بها مما تتوفَّرُ الدواعي على نَقْلِه، بل لو انفردَ بنقلِ مثلِ هذا الواحدُ أو الاثنانِ؛ قُطِع بكذِبِهما، وبمثلِ هذا تُكذَّبُ دعوى الرافضةِ النصَّ على عليٍّ في الخلافةِ، وأمثالُ ذلك.

وقد اتفقَ أهلُ المعرفةِ على أنه ليسَ في الجهرِ حديثٌ صريحٌ، ولم يَرْوِ أهلُ السُّننِ شيئًا من ذلك، إنما يوجدُ الجهرُ بها في أحاديثَ موضوعةٍ، يَروي ذلك الثَّعْلبيُّ

(2)

والماوَرْديُّ وأمثالُهما

(3)

منَ الذين يحتجُّونَ بمثلِ حديثِ الحُمَيراءِ

(4)

.

(1)

رواه أحمد (16787)، والترمذي (244)، والنسائي (908)، وابن ماجه (815).

(2)

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 13/ 354: (الثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين، وكان حاطب ليل، ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع).

(3)

ينظر: تفسير الثعلبي 1/ 105، سنن الدارقطني 2/ 65، التحقيق لابن الجوزي 1/ 348، نصب الراية 1/ 323.

(4)

قال شيخ الإسلام في منهاج السنة 7/ 429: (فقد يروج على أهل التفسير والفقه والزهد والنظر أحاديث كثيرة: إما يصدقون بها، وإما يجوزون صدقها، وتكون معلومة الكذب عند علماء الحديث، وقد يصدق بعض هؤلاء بما يكون كذبًا عند أهل المعرفة؛ مثل ما يَروي طائفة من الفقهاء حديث: «لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص»).

وقال ابن القيم في المنار المنيف (ص 60) بعد ذكره حديث «لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص» : (وكل حديث فيه: "يا حميراء"، أو ذكر "الحميراء" فهو كذب مختلق، مثل "يا حميراء لا تأكلي الطين فإنه يورث كذا وكذا"، وحديث "خذوا شطر دينكم عن الحميراء").

ص: 110

وأعجبُ من ذلكَ: بعضَ أفاضلِ الفقهاءِ لم يعْزُ في كتابِه حديثًا إلى البخاريِّ إلا حديثًا في البسملةِ

(1)

، ومَن هذا مَبلَغُ عِلمِه كيفَ يكونُ حالُه في هذا البابِ، أو يَرْويها من جَمَع الأحاديثَ في هذا البابِ؟! وإذا سُئِل يقولُ بموجَبِ علمِه، كما قال الدارَقُطْنيُّ لما سُئِلَ: أفيها شيءٌ صحيحٌ؟ فقالَ: أمَّا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فلا، وأمَّا عن الصحابةِ فمنه صحيحٌ وضعيفٌ

(2)

.

(1)

كذا في النسخ الخطية، وفي أصل الفتوى في مجموع الفتاوى (22/ 461) ما يوضح المقصود وهو قوله:(إلا حديث البسملة وذلك الحديث ليس في البخاري، ومن هذا مبلغ علمه) إلخ.

(2)

لم نجده في شيء من كتبه المطبوعة، ونقله عنه ابن قدامة في المغني 1/ 346، والزيلعي في نصب الراية 1/ 359.

وقد أفاض الدارقطني في سننه 2/ 65 بذكر الآثار في الجهر بالبسملة، قال رحمه الله:(باب وجوب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة والجهر بها واختلاف الروايات في ذلك)، ثم أطال بذكر الآثار المرفوعة والموقوفة، ثم قال: (وروى الجهر بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه ومن أزواجه غير من سمينا، كتبنا أحاديثهم بذلك في كتاب الجهر بها مفردًا، واقتصرنا ههنا على ما قدمنا ذكره؛ طلبًا للاختصار والتخفيف، وكذلك ذكرنا في ذلك الموضع أحاديث من جهر بها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم والخالفين بعدهم رحمهم الله، فلعله ذكر ذلك في ذلك المصنف.

ص: 111

فإذا لم يكنْ فيها حديثٌ صحيحٌ، فضلًا أن يكونَ فيها أخبارٌ متواترةٌ أو مستفيضةٌ؛ امتَنعَ أن يكونَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم جهَرَ بها، ولا يعارِضُ ذلك كونُ عدمِ الجهرِ مما تتوفَّرُ الدواعي على نقْلِه، ولم يُنقلْ متواتِرًا، بل تَنازَعَ فيه العلماءُ؛ لأنَّ الذي تَتوفَّرُ الِهمَمُ والدَّواعي على نَقْلِه في العَادِةِ هو الأمورُ الوُجوديَّةُ، فأمَّا العَدَمِيَّةُ فَلا، ولا يُنقَلُ منها إلا ما ظُنَّ وجودُه، أوِ احتِيجَ إلى معرفتِه، ولهذا لو نقَلَ ناقلٌ افتراضَ صلاةٍ سادسةٍ، أو صومٍ زائدٍ، أو حجٍّ، أو زيادةٍ في القراءةِ، أو في الرَّكَعاتِ؛ لقطَعْنا بكَذِبِه، وإنْ كان عدمُ ذلك لم يُنقَلْ نقلًا متواترًا قاطعًا.

يوضِّحُه: أنَّهم لمَّا لم ينقُلوا الجهرَ بالاستفتاحِ والاستعاذةِ؛ استَدلَّتِ الأمةُ على عدمِ جهرِه بذلك، وإن كان لم يُنقَلْ نقلًا عامًّا عدمُ الجهرِ، فبالطريقِ التي يُعلَمُ عدمُ جهرِه بذلك يُعلَمُ بالبسملةِ، هذا وجهٌ.

الثاني: أن الأمورَ العدميةَ لما احتِيجَ إلى نقْلِها؛ نُقِلتْ، فلما انقرضَ عصرُ الخلفاءِ سأل الناسُ أنسًا لمَّا جهَرَ بها بعضُ الأئمةِ كابنِ الزُّبَيْرِ، فأخبَرَهم أنسٌ بتَرْكِ الجهرِ.

الثالثُ: أنَّ نفيَ الجهرِ قد نُقِل نقلًا صحيحًا صريحًا في حديثٍ، والجهرُ لم يُنقَلْ نقلًا صحيحًا، معَ أن العادةَ توجبُ نقلَ الجهرِ دونَ عدمِه كما قدَّمْناه.

ومَن تدبَّرَ هذه الوجوهَ، وكان عالمًا بالأدلةِ؛ قطَعَ بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكنْ يجهرُ بها.

وهل هذا إلا بمثابةِ مَن يَنقُلُ أنَّه كان يجهرُ بالاستفتاحِ معَ أن بعضَ

ص: 112

الصحابةِ كان يجهرُ به، كما كان فيهم مَن يجهرُ بالبسملةِ، ونحن نعلمُ بالاضطرارِ أنه لم يكنْ يجهرُ صلى الله عليه وسلم بالاستفتاحِ ولا بالاستعاذةِ كما يجهرُ بالفاتحةِ، فكذلك البسملةُ لم يكنْ يجهرُ بها كما يجهرُ بالفاتحةِ، معَ أنه قد كان يجهرُ بها أحيانًا، أو أنَّه كان يجهرُ بها قديمًا ثمَّ ترَكَ ذلكَ؛ كما روى أبو داودَ والطبرانيُّ

(1)

: أنَّه كان يجهرُ بها بمكةَ، فإذا سمِعَه المشركونَ سبُّوا الرحمنَ، فترك، فما جهَر بها حتى مات، فهذا مُحتمِلٌ.

وفي الصحيحينِ: «أنَّه كان يجهرُ بالآيةِ أحيانًا»

(2)

، ومثلُ جَهْرِ عمرَ بقولِ:«سبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ»

(3)

، ومثلُ جَهْرِ ابنِ عمرَ وأبي هريرةَ بالاستعاذةِ

(4)

، وجَهْرِ ابنِ عباسٍ بالقراءةِ على الجَنازةِ؛ ليُعلِّمَ الناسَ

(5)

.

فيُمكِنُ أن يقالَ: إن مَن جهَر بها من الصحابةِ كان على هذا الوجهِ؛ ليُعرِّفوا أن قراءتَها سنةٌ، مثلما روَى ابنُ شهابٍ وابنُ وهبٍ، عن ابنِ عباسٍ وأبي هريرةَ وابنِ عمرَ:«أنه كان يَفتتحُ القراءةَ بـ (بسمِ الله الرحمنِ الرحيمِ)»

(6)

، قال ابنُ شهابِ: «يُريدُ بذلك أنها آيةٌ من

(1)

رواه أبو داود في المراسيل (34) من حديث سعيد بن جبير، والطبراني في الكبير (12245) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري (759)، ومسلم (451) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.

(3)

رواه مسلم (399).

(4)

أثر ابن عمر رضي الله عنهما رواه ابن أبي شيبة (2455)، وأثر أبي هريرة رضي الله عنه رواه الشافعي في مسنده (135).

(5)

رواه البخاري (1335).

(6)

روى هذه الآثار: عبد الرزاق (2/ 90)، والبيهقي في الكبرى (2/ 68)، من غير طريق ابن شهاب وابن وهب.

ص: 113

القرآنِ»

(1)

، فابنُ شهابٍ أعلمُ أهلِ زمانِه بالسُّنةِ قد بيَّنَ حقيقةَ الحالِ في ذلك.

فإن عمدةَ مَن يجهرُ إنَّما هو ابنُ عمرَ وأبو هريرةَ وابنُ عباسٍ، فقد عُرف حقيقةُ حالِ أبي هريرةَ وغيرِه في ذلك رضي الله عنهم أجمعين.

وإنما كثُر الكذبُ في أحاديثِ الجهرِ؛ لأنَّ الشيعةَ ترى الجهرَ؛ وهم من أكذَبِ الناسِ، فوضعوا أحاديثَ لبَّسُوا على الناسِ دينَهم، ولهذا يوجدُ في كلامِ أئمةِ السُّنةِ - مثلِ: سفيانَ الثوريِّ - أنهم يذكرونَ من السُّنةِ المسحَ على الخفينِ، وتركَ الجهرِ بالبسملةِ، كما يذكرونَ تقديمَ أبي بكرٍ وعمرَ؛ لأنَّه كان عندَهم شعارُ الرافضةِ ذلك.

وروَى مسلمٌ عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَن صلَّى صلاةً لم يقرأْ فيها بأمِّ القرآنِ؛ فهي خِدَاجٌ» ثلاثًا، فقال له رجلٌ: أكونُ أحيانًا وراءَ الإمامِ، فقال: اقرَأْ بها في نفْسِكَ، فإني سمعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «قال اللهُ تعالى: قسمتُ الصلاةَ بَيْني وبينَ عبدي نصفينِ، فإذا قال العبدُ:{الحمد لله}

» الحديثَ

(2)

.

فدلَّ على أنَّ أبا هريرةَ القراءةَ الواجبةَ عندَه المقسومةَ: هي أمُّ

(1)

لم نقف على أثر ابن شهاب المذكور، وقد أخرج عبد الرزاق (2612)، عنه أنه كان يفتتح بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} ، ويقول:«آية من كتاب الله تعالى تركها الناس» .

(2)

برقم (395).

ص: 114

الكتابِ {الحمد لله رب العالمين} كما ذكَره.

وحديثُ نُعَيمٍ المُجْمِرِ عن أبي هريرةَ: أنه قرأَ {بسم الله الرحمن الرحيم} ، ثم قرأ بأمِّ القرآنِ

(1)

؛ فيه دليلٌ على أنها ليستْ من أمِّ القرآنِ، ولم يقُلْ أحدٌ: إنَّها يُجهَر بها مع أنَّها ليستْ من الفاتحةِ.

فالحاصلُ: أنَّ أبا هريرةَ إنْ كان جهَر بها فذلك ليُعلِّمَهم أنَّها مُستحَبةٌ قراءتُها؛ كما جهر عمرُ بالاستفتاحِ، ويكونُ حديثُه بالقسمةِ موافقًا لأنسٍ وعائشةَ.

هذا إن كان حديثُه دالًّا على الجهرِ، فإنه مُحتمِلٌ، فإن فيه أنَّه قرأ بها، ومجرَّدُ قراءتِه بها لا يدلُّ على الجهرِ، فإن قارئَ السرِّ قد تُسمَعُ قراءتُه إذا قَويتْ، أو أنَّ أبا هريرةَ أخبَرَه بقراءتِها، وقد روي عن النبيِّ أنه كان يقرأُ في الآخرتينِ بفاتحةِ الكتابِ

(2)

، وهي قراءةُ سرٍّ.

وأما حديثُ سليمانَ التَّيْميِّ الذي صحَّحَه الحاكمُ

(3)

: فيُعلَمُ أولًا أنَّ الحاكمَ مُتساهِلٌ في بابِ التصحيحِ؛ حتى إنَّه يصحِّحُ ما هو موضوعٌ،

(1)

رواه النسائي (905)، وابن خزيمة (499)، والدارقطني (1168).

(2)

رواه البخاري (759)، ومسلم (451) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.

(3)

وهو ما رواه الحاكم في المستدرك (854) عن محمد بن أبي السري العسقلاني قال: صليت خلف المعتمر بن سليمان ما لا أحصي صلاة الصبح والمغرب، فكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها، وسمعت المعتمر يقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي، وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس بن مالك، وقال أنس بن مالك: ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 115

فلا يُوثَقُ بتصحيحِه وحدَه، حتى إنَّ تصحيحَه دونَ تصحيحِ التِّرْمذيِّ والدارَقُطْنيِّ بلا نزاعٍ، بل دونَ تصحيحِ ابنِ خُزَيمةَ وأبي حاتمِ بنِ حِبَّانَ، بل تصحيحُ الحافظِ ابنِ عبدِ الواحدِ المَقْدِسيِّ في «مختاره» خيرٌ من تصحيحِ الحاكمِ بلا ريبٍ، وتحسينُ التِّرْمذيِّ أحيانًا يكونُ مثلَ تصحيحِه، أو أرجحَ، فهذا هذا.

والمعروفُ عن سليمانَ التَّيْميِّ وابنِه مُعتمِرٍ: أنَّهما كانا يَجْهرانِ بالبسملةِ؛ لكن نَقْلُ ذلك عن أنسٍ هو المُنكَرُ، معَ مخالفةِ أصحابِ أنسٍ لذلك، فإنهم نقلوا عنه عدمَ الجهرِ.

قال الشافعيُّ: حدَّثَنا عبدُ المجيدِ،

(1)

عن ابنِ جُرَيجٍ، قال: أخبرني عبدُ اللهِ بنُ عثمانَ بنِ خُثَيمٍ؛ أن أبا بكرِ بنَ حَفْصِ بنِ عمرَ أخبره أن أنسَ بنَ مالكٍ قال: صلى مُعاويةُ رضي الله عنه بالمدينةِ، فجهَر بأمِّ القرآنِ، فقرأ بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} لأمِّ القرآنِ، ولم يقرأْ بها للسورةِ التي بعدَها، ولم يُكبِّرْ حينَ يهوي، حتى قضى [تلك]

(2)

الصلاةَ، فلما سلَّم ناداه مَن سمِعَه مِن المهاجرينَ مِن كلِّ مكانٍ: يا معاويةُ، أسرقتَ الصلاةَ، أم نسيتَ؟ فلما صلَّى بعدَ ذلك قرأ {بسم الله} للسورةِ التي بعدَ أمِّ القرآنِ، وكبر حينَ يهوي ساجدًا.

(1)

من هنا بدأ السقط من الأصل، وقد أشار إلى وجوده في ورقة ملصقة، ولم نقف عليها في المجموع الذي بخط المؤلف، واستكملنا النقص من (ك)، وصححنا ما يحتاج منها إلى تصحيح من النسخ الأخرى ومجموع الفتاوى.

(2)

في النسخ الخطية: (ذلك)، والمثبت من مسند الشافعي.

ص: 116

وحدثنا إبراهيمُ بنُ محمدِ، حدَّثَني عثمانُ بنُ خُثَيمٍ

(1)

، عن إسماعيلَ بنِ عبيدِ بنِ رفاعةَ، عن أبيه؛ عن معاويةَ: لما قدِمَ المدينةَ صلَّى بهم، ولم يقرأْ {بسم الله الرحمن الرحيم} ، ولم يكبرْ إذا خفَضَ وإذا رفَعَ، فناداهُ المهاجرونَ حينَ سلَّم والأنصارُ: يا معاويةُ، سرقتَ! وذكرَه.

وقال الشافعيُّ أيضًا: ثَنا يحيى بنُ سُلَيمٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ عثمانَ بنِ خُثَيمٍ، عن إسماعيلَ بنِ عبيدِ بنِ رفاعةَ، عن أبيه، عن جَدِّه، عن معاويةَ، والمهاجرونَ والأنصارُ بمثلِه، أو مثلِ معناه

(2)

. قال الدارَقُطنيُّ: إسنادُه ثقاتٌ

(3)

.

والجوابُ: أنَّه حديثٌ ضعيفٌ من وجوهٍ:

أحدُها: أنه يُروَى عن أنسٍ، وأحاديثُ أنسٍ الصحيحةُ الصريحةُ المستفيضةُ ترُدُّ هذا.

الثاني: أن مدارَه على عبدِ اللهِ بنِ عثمانَ بنِ خُثَيمٍ، وقد ضعَّفَه طائفةٌ، وقد اضْطَربوا في روايتِه إسنادًا ومَتْنًا، فتبيَّنَ أنه غيرُ محفوظٍ.

الثالثُ: أنَّه ليس فيه إسنادٌ متصلُ السماعِ، بل فيه منَ الضعفِ والاضطرابِ ما لا يُؤمَنُ معَه الانقطاعُ أو سوءُ الحفظِ.

(1)

الذي في مسند الشافعي: عبد الله بن عثمان بن خيثم.

(2)

روى هذه الآثار الشافعي في مسنده (ص 36).

(3)

سنن الدارقطني 2/ 83.

ص: 117

الرابعُ: أنَّ أنسًا كان مقيمًا بالبصرةِ، ومعاويةُ لما قدم المدينةَ لم يذكُرْ أحدٌ علِمْناه أنَّ أنسًا كانَ معَه، بل الظاهرُ أنَّه لم يكُنْ معَه.

الخامسُ: أنَّ هذه القصةَ بتقديرِ وقوعِها كانت بالمدينةِ، والراوي لها أنسٌ، وكان بالبصرةِ، وهي مما تتوفرُ الدَّواعي والهِمَمُ على نَقْلِها، ومِنَ المعلومِ أنَّ أصحابَ أنسٍ المعروفينَ بصحبتِه وأهلَه لم ينقُلْ أحدٌ منهم ذلك، بل المتواترُ عن أنسٍ وأهلِ المدينةِ نقيضُ ذلك، والقائلُ ليس من هؤلاءِ ولا من هؤلاءِ.

السادسُ: أنَّ معاويةَ لو كان رجَع إلى الجهرِ بالبسملةِ في أولِ الفاتحةِ والسورةِ لكان أيضًا معروفًا من أمرِه عندَ أهلِ الشامِ الذين صحِبوه، ولم يَنقُلْ هذا أحدٌ من أهلِ الشامِ عن معاويةَ، بل الشامِيُّونَ كلُّهم - خلفاؤُهم وعلماؤُهم - كان مذهَبُهم تَرْكَ الجهرِ، بل الأوزاعيُّ مذهَبُه فيها مذهبُ مالكٍ، لا يقرأُ سرًّا ولا جهرًا.

فمن تدبَّرَ ذلك؛ قطَع بأنَّ حديثَ معاويةَ إما لا حقيقةَ له، وإمَّا مُغيَّرٌ عن وجهِه، والذي حدَّثَ به بلَغَه من وجهٍ ليس بصحيحٍ، فحصَلتِ الآفةُ منِ انقطاعِ إسنادِه.

وقيلَ: لو كان إسنادُه تقومُ به الحجةُ فهو شاذٌّ؛ لأنَّه خلافُ ما رواه الناسُ الأثباتُ عن أنسٍ وعن أهلِ المدينةِ وأهلِ الشامِ، ومن شرطِ الحديثِ ألا يكونَ شاذًّا ولا مُعلَّلًا، وهذا شاذٌّ مُعلَّلٌ، إن لم يكُنْ من سوءِ حفظِ بعضِ رُواتِه.

والعُمدةُ في تلك التي اعتمدَها المصنِّفونَ في الجهرِ ووجوبِ

ص: 118

قراءتِها: هي كتابتُها بقلمِ القرآنِ في المصحفِ، والصحابةُ جرَّدوا القرآنَ عن غيرِه، والمتواترُ عن الصحابةِ: أنَّ ما بينَ اللَّوْحينِ قرآنٌ.

ولا يقالُ: لا يثبتُ إلا بتواترٍ، ولو تواترتْ لكفَّرْنا فيها؛ لأنَّه يقالُ: لو كان كذلك لكفَر مثبِتُها، ولا تكفيرَ من الجانبينِ، فكلُّ حجةٍ تقابلُ الأُخرى.

والحقُّ: أنَّها فصلٌ بينَ السُّوَرِ

(1)

.

‌والبسملةُ قيلَ:

ليستْ منَ القرآنِ إلا في النملِ، وهو قولُ مالكٍ وطائفةٍ من الحنفيةِ والحنبليةِ.

وقيلَ: هي من كلِّ سورةٍ آيةٌ، أو بعضُ آيةٍ؛ كما هو المشهورُ عن الشافعيِّ.

وقيلَ: إنَّها من القرآنِ؛ حيثُ كُتِبتْ، ومعَ ذلك ليستْ منَ السُّوَرِ، بل فصلٌ بينهما

(2)

، وهو قولُ ابنِ المبارَكِ، والمنصوصُ عن أحمدَ، وهو قولُ من حقَّقَ القولَ في هذه المسألةِ؛ حيثُ جمَع بينَ مُقتضَى الأدلةِ وكتابتِها سطرًا مفصولًا عن السورةِ.

(1)

إلى هنا انتهى السقط من الأصل.

(2)

في المطبوع مكان قوله: (بل فصل بينهما): (بل كُتِبتْ آيةً في أولِ كلِّ سورةٍ، وكذلك تُتلَى آيةً منفردةً في أولِ كلِّ سورةٍ، كما تلاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم حينَ نزلتْ عليه سورةُ {إنا أعطيناك الكوثر}، كما في "صحيحِ مسلمٍ"). ولم تذكر هذه الزيادة في الأصل و (ك) و (ع)، وهي مثبتة في مجموع الفتاوى.

ص: 119

‌وتجبُ قراءةُ البسملةِ

عندَ الشافعيِّ وأحمدَ في روايةٍ.

وقيلَ: تُكرَهُ سرًّا وجهرًا في المشهورِ عن مالكٍ.

وقيلَ: قراءتُها جائزةٌ، بل مستحبةٌ، عند أبي حنيفةَ، والمشهورِ عن أحمدَ وأكثرِ أهلِ الحديثِ.

وطائفةٌ يُسوِّي بينَ قراءتِها وتَرْكِها معتقدًا أنَّه قراءتان.

ويَجهَرُ بها. وقيلَ: لا. وقيلَ: يُخيَّرُ، رُوِي عن إسحاقَ وابنِ حزمٍ.

ومعَ ذلك فمراعاةُ الائتلافِ هو الحقُّ، فيُجهَرُ بها لمصلحةٍ راجحةٍ، ويسوغُ تَرْكُ الأفضلِ لتأليفِ القلوبِ، كما تُرِكَ بناءُ البيتِ من خشيةِ تَنفيرِهم، نصَّ الأئمةُ كأحمدَ على ذلك في البسملةِ، ووصلِ الوَتْرِ، وغيرِه مما فيه العدولُ عنِ الأفضلِ إلى الجائزِ؛ مراعاةً للائتلافِ، أو لتعريفِ السُّنةِ، وأمثالِ ذلك، واللهُ أعلمُ.

‌فصلٌ

‌هل الأفضلُ وَضْعُ

يدَيْه قبلَ ركبتَيْه، أو بالعكسِ؟ فيه روايتانِ، هما قولانِ للعلماءِ.

‌وفي بطلانِ الصلاةِ بالنحنحةِ

والنفخِ نزاعٌ؛ الأشبَهُ: عدمُ بطلانِها؛ لكن إن كان مِن خشيةِ اللهِ؛ فالنزاعُ معَ الشافعيِّ.

وأمَّا إن غُلِبَ عليه؛ فالصحيحُ عندَ الجمهورِ: أنَّه لا تبطُلُ؛ وهو منصوصُ أحمدَ.

ص: 120

وقال بعضُ أصحابِه: تبطُلُ.

والقولُ بأن العُطاسَ يُبطِلُ: مُحدَثٌ.

وقد تبيَّنَ أنَّ هذه الأصواتَ الحلقيةَ التي لا تدلُّ بالوضعِ؛ فيها نزاعٌ في مذهبِ أحمدَ ومالكٍ وأبي حنيفةَ، والأظهرُ فيها جميعها: أنَّها لا تُبطِلُ، فإنَّ الأصواتَ من جنسِ الحركاتِ، وكما أن العملَ اليسيرَ لا يُبطِلُ؛ فالصوتُ اليسيرُ مِثْلُه، بخلافِ القَهْقَهةِ؛ فإنها بمنزلةِ العملِ الكثيرِ.

واللفظُ ثلاثُ درجاتٍ:

أحدُها: أن يدلَّ على معنًى بالوضعِ، إمَّا بنَفْسِه، وإمَّا معَ لفظٍ غيرِه؛ كـ «في» و «عن» ، فهذا كلامٌ.

والثاني: أن يدلَّ على معنًى بالطبعِ؛ مثلُ التأوُّهِ، والأنينِ، والبكاءِ.

والثالثُ: ألا يدلَّ على معنًى لا بالطبعِ ولا بالوضعِ؛ كالنَّحْنحةِ، فهذا القِسْمُ كان أحمدُ يفعلُه.

‌وإذا لم يجدِ الرجلُ

موقفًا إلا خلفَ الصفِّ: ففيه نزاعٌ بينَ المبطلينَ لصلاةِ المنفردِ، والأظهرُ: صحةُ صلاةِ هذا في هذا الموضعِ؛ لأنه عجزٌ.

وطردُه: صحةُ صلاةِ المتقدِّمِ على الإمامِ للحاجةِ؛ وهو قولٌ في مذهبِ أحمدَ

(1)

.

(1)

قال في مجموع الفتاوى 23/ 404: (الثالث -أي: من الأقوال في صلاة المأموم قدام الإمام-: أنها تصح مع العذر دون غيره، مثل ما إذا كان زحمة فلم يمكنه أن يصلي الجمعة أو الجنازة إلا قدام الإمام، فتكون صلاته قدام الإمام خيرًا له من تركه للصلاة، وهذا قول طائفة من العلماء، وهو قول في مذهب أحمد وغيره، وهو أعدل الأقوال وأرجحها).

ص: 121

‌ومَن قال: إنَّ الإمامَ

إن سبَّحَ أزيدَ من ثلاثٍ بغيرِ رضا المأمومينَ بَطَلتْ صلاتُه: فهو قولٌ باطلٌ مُحدَثٌ، لم يقُلْه أحدٌ منَ الأئمةِ.

‌والطمأنينةُ واجبةٌ

باتفاقِ العلماءِ، وإنما النزاعُ في وجوبِ الإعادةِ.

‌فَصْلٌ

‌اللحنُ الذي يُحيلُ المعنى:

إن أحالَه إلى ما هو من جنسِ معنًى مِن معاني القرآنِ خطأً؛ فهذا لا تبطلُ صلاتُه، كما لو غلِطَ في القراءةِ في مواضعِ الاشتباهِ، فخلَطَ سورةً بغيرِها.

وأما إن أحالَه إلى ما يخالفُ معنى القرآنِ؛ كقولِه: «أنعمتُ» بالضمِّ؛ فهذا بمنزلةِ كلامِ الآدميِّينَ، وهو في مثلِ هذهِ الحالِ كلامٌ محرَّمٌ في الصلاةِ؛ لكنَّه لو تكلَّمَ في الصلاةِ جاهلًا بتحريمِه؛ ففي بطلانِ صلاتِه نزاعٌ في مذهبِ أحمدَ وغيرِه، كالناسي، الصحيح: أنَّه لا تبطلُ صلاتُه.

والجاهلُ بمعنى: {أنعمت} ؛ عُذْرُه أقوى من عُذْرِ الناسي والجاهل؛ لأنَّ هذا يعتقدُ أنَّه مِن كلامِ اللهِ، بخلافِ الجاهلِ؛ فإنه يعلمُ

ص: 122

أنَّه كلامُ الآدميِّينَ، لكن لا يعلمُ أنَّه محظورٌ.

وعلى هذا: فلو كان مثلُ هذا اللحنِ في نَفْلِ القراءةِ؛ لم تبطُلْ.

وأمَّا إذا كان في الفاتحةِ التي هي فرضٌ؛ فيُقالُ: هَبْ أنَّها لا تبطلُ من جهةِ كونِه متكلمًا؛ لكنَّه لم يأتِ بفرضِ القراءةِ، فيكونُ قد تركَ ركنًا في الصلاةِ جاهلًا، ولو ترَكَه ناسيًا لم تصحَّ صلاتُه، فكذلك إذا ترَكَه جاهلًا.

لكن يقال: إن هذا لم يتركْ أصلَ الركنِ، وإنما ترَكَ صفةً فيه، وأتى بغيرِها ظانًّا أنَّها هي، فهو بمنزلةِ مَن سجَد إلى غيرِ القبلةِ ظانًّا أنَّها القبلة.

ولو ترَك بعضَ الفروضِ غيرَ عالمٍ بفَرْضِه: ففي هذا الأصلِ قولانِ في مذهبِ أحمدَ وغيرِه.

وأصلُ ذلك: خطابُ الشارعِ؛ هل يثبتُ قبلَ البلوغِ والعلمِ به؟ على ثلاثةِ أقوالٍ. الصحيح: أنه معذورٌ؛ فلا تجبُ الإعادةُ على هذا الجاهلِ.

ومثلُه: لو لم تعلمِ المرأةُ أنَّه يجبُ سَتْرُ رأسِها وجسَدِها؛ لم تُعِدْ.

ولهذا إذا تغيرَ اجتهادُ الحاكمِ؛ لم يُنقَضْ ما حكَم فيه، وكذلك المفتي إذا تغيرَ اجتهادُه.

وأمَّا إن تعمَّدَ اللحنَ عالمًا بمعناه؛ بطَلَتْ صلاتُه من جهةِ أنَّه لم يقرأِ الفاتحةَ، ومن جهةِ أنَّه تكلَّمَ بكلامِ الآدميِّينَ، بل لو عرَفَ معناه،

ص: 123

وخاطَبَ به اللهَ؛ كفَرَ.

وإن تعمَّدَه ولم يعلمْ معناه؛ لم يكفُرْ.

وإن لم يتعمَّدْ، لكن ظنَّ أنَّه حقٌّ؛ ففي صحةِ صلاتِه نزاعٌ كما ذكَرْناه.

وكذا لو علِمَ أنَّه لَحْنٌ؛ ولكن اعتَقدَ أنَّه لا يُحيلُ المعنى - حتى لو كان إمامًا-؛ ففي صحةِ صلاتِه وصلاةِ مَن خلفَه نزاعٌ؛ هما روايتانِ عن أحمدَ.

‌وفي إمامةِ المتنفِّلِ بالمفترضِ

؛ ثلاثةُ أقوالٍ لأحمد وغيره: يجوزُ، لا يجوزُ، يجوزُ عندَ الحاجةِ، نحوُ أن يكونَ المأمومونَ أُمِّيِّينَ

(1)

.

‌أمَّا لو صلَّى مَن يلحَنُ بمثلِه

؛ جاز إذا كانا عاجزيْنِ عن إصلاحِه، هذا في الفاتحةِ، أمَّا في غيرِ الفاتحةِ إن تعمَّدَه بطَلَتْ صلاتُه.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وفي إمامةِ المتنفِّلِ

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 388، الفتاوى الكبرى 2/ 323.

وفي مجموع الفتاوى أيضًا 23/ 389: (سئل عمن يصلي الفرض خلف من يصلي نفلًا؟ فأجاب: يجوز ذلك في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه)، وفي 23/ 386:(ومن هذا الباب صلاة العشاء الآخرة خلف من يصلي قيام رمضان، يصلي خلفه ركعتين ثم يقوم فيتم ركعتين، فأظهر الأقوال: جواز هذا كله، لكن لا ينبغي أن يصلي بغيرهم ثانيًا إلا لحاجة أو مصلحة، مثل أن يكون ليس هناك من يصلح للإمامة غيره، أو هو أحق الحاضرين بالإمامة).

ص: 124

والذي يُحيلُ المعنى مثلُ: «أنعمتُ» ، و «إياكِ» بالضمِّ والكسرِ.

والذي لا يُحيلُه مثلُ: تركِ القلْبِ والإدغامِ في موضعِه، أو يقطعُ ألفَ الوصلِ، ومثلُ: الرحمن الرحيم مالك يوم الدين

(1)

.

وأمَّا إن قال: «الحمدَ» ، أو «ربَّ» ، أو «ربُّ»

(2)

، أو «نِستعين»

(3)

، و «أنعَمْتَ عَلَيْهُم»

(4)

، فهذا تصحُّ صلاتُه لكلِّ أحدٍ، فإنها قراءةٌ وليستْ لَحْنًا.

(1)

كتب بعدها في الأصل: (إذا فتحها أو ضمها)، ثم شطب عليها، فيحتمل أن ما شطب عليه هو المراد هنا، أو يكون المراد: ترك الإدغام في "الرحمن" و"الدين"، قال في كشاف القناع (1/ 338):(إذا أظهر المدغم، مثل أن يظهر " لام " الرحمن، فصلاته صحيحة؛ لأنه إنما ترك الإدغام، وهو لحن لا يحيل المعنى، ذكره في الشرح).

(2)

قال ابن الجزري في النشر في القراءات العشر 1/ 48: ((الحمد لله) بفتح اللام إتباعًا لنصب الدال، وهي لغة بعض قيس

وعن أبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري: (رب العالمين) بالرفع والنصب، وحكاه عن العرب، ووجهه: أن النعوت إذا تتابعت وكثرت جازت المخالفة بينها، فينصب بعضها بإضمار فعل، ويرفع بعضها بإضمار المبتدأ، ولا يجوز أن ترجع إلى الجر بعدما انصرفت عنه إلى الرفع والنصب).

(3)

هكذا ضبطها في الأصل بكسر النون، قال أبو حيان في البحر المحيط (1/ 42):(وفتح نون "نستعين" قرأ بها الجمهور، وهي لغة الحجاز، وهي الفصحى، وقرأ عبيد بن عمير الليثي، وزر بن حبيش، ويحيى بن وثاب، والنخعي، والأعمش، بكسرها، وهي لغة قيس، وتميم، وأسد، وربيعة).

(4)

قال ابن الجزري في النشر في القراءات العشر 1/ 48: (وعن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، ومسلم بن جندب، وعيسى بن عمر الثقفي البصري، وعبد الله بن يزيد القصير: (عليهم) بضم الهاء ووصل الميم بالواو، وعن الحسن وعمرو بن فائد (عليهم) بكسر الهاء ووصل الميم بالياء، وعن ابن هرمز أيضًا بضم الهاء والميم من غير صلة، وعنه أيضًا بكسر الهاء وضم الميم من غير صلة، فهذه أربعة أوجه، وفي المشهور ثلاثة، فتصير سبعة).

ص: 125

‌وإمامةُ الراتبِ في المسجدِ مرتينِ:

بدعةٌ.

‌ويُعفَى عن النائمِ والناسي

إن كان محافظًا على الصلاةِ حالَ اليقظةِ والذُّكْرِ، أمَّا من لم يكُنْ محافظًا: عُوقبَ على التركِ مطلقًا.

‌ويجوزُ ائتمامُ المسلمينَ

بعضِهم ببعضٍ معَ اختلافِهم في الفروعِ بإجماعِ السلَفِ، وأصحِّ قولَي الخلفِ، فإنَّ صلاةَ الإمامِ جائزةٌ إجماعًا؛ لأنَّه صلَّى باجتهادٍ، فهو مأجورٌ، فاعلٌ الواجبَ عليه الذي يكفي، وهو منَ المصلحينَ، ومَن قال: إن صلاتَه لا تُسقِطُ الفرضَ فقد خالَفَ الإجماعَ؛ يُستتابُ، بخلافِ مَن صلَّى بلا وضوءٍ معَ علمِه، فهذا صلاتُه فاسدةٌ، فلا يأتَمُّ به مَن علِمَ حالَه، ولم يزلِ الصحابةُ والتابعونَ يؤُمُّ بعضُهم بعضًا، معَ أنهم مختلفونَ في الفروعِ.

وسرُّ المسألةِ: أنَّ ما ترَكَه المجتهدُ منَ ترك البسملةِ وغيرِها:

إنْ لم يكُنْ واجبًا في نفْسِ الأمرِ فلا كلامَ.

وإن كان واجبًا؛ فقد يسقُطُ عنه باجتهادِه، وقد قال:{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} فقال الله تعالى: «قد فعلتُ»

(1)

.

(1)

رواه مسلم (200) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 126

‌فَصْلٌ

‌مَن شرِبَ الخمرَ يومًا

، ثم لم يشربْها إلى شهرٍ، ونيَّتُه: أنَّه إذا قدَر عليها شرِبَها؛ فهو مُصِرٌّ، ليس بتائبٍ، وكذلك جميعُ الذنوبِ.

ومَن اعتادَ شُرْبَها كما يُعتادُ أمثالُها منَ الشَّرابِ؛ فهو مُدمِنٌ عليها، فاعتيادُ الخمرِ كاعتيادِ اللحمِ؛ مِن الناسِ مَن يأكُلُه كلَّ يومٍ، ومنهم كلَّ أسبوعٍ، أو يومينِ، أو أكثرَ، أو أقلَّ.

ولا يجوزُ أن يُولَّى المُصِرُّ ولا المُدمِنُ إمامةَ صلاةٍ، لكن لو وُلِّيَ صُلِّي خلفَه عندَ الحاجةِ؛ كالجمعةِ والجماعةِ التي لا يقومُ بها غيرُه، وإن أمكنَ الصلاةُ خلفَ البَرِّ فهو أَوْلى.

‌فَصْلٌ

‌وصلاةُ الجماعةِ:

اتفقَ العلماءُ على أنَّها من أَوْكدِ العباداتِ، وأجلِّ الطاعاتِ، وأعظمِ شعائرِ الإسلامِ، وعلى ما يثبت من فَضْلِها عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ حيثُ:«تفضلُ صلاةُ الرجلِ في الجماعةِ على صلاتِه وحدَه بخمسٍ وعشرينَ درجةً»

(1)

، ورُوي:«بسبعٍ وعشرينَ درجةً»

(2)

.

(1)

رواه البخاري (646) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، ورواه البخاري (648) ومسلم (649) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (645)، ومسلم (650) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 127

والجمعُ بينَهما: أنَّ حديثَ الخمسِ والعشرينِ ذُكِرَ فيه الفضلُ الذي بينَ صلاةِ المنفرِدِ والصلاةِ في الجماعةِ، وهو خمسٌ وعشرونَ، وحديثُ السبعِ والعشرينَ ذُكِر فيه صلاتُه منفرِدًا وصلاتُه في الجماعةِ، والفضلُ بينَهما، فصار المجموعُ سبعًا وعشرينَ.

ومَن ظنَّ أن صلاتَه وحدَه أفضلُ من أجلِ خَلْوتِه، أو غيرِ ذلك؛ فهو مخطئٌ ضالٌّ، وأضلُّ منه مَن لم يرَ الجماعةَ إلا خلفَ معصومٍ، وعمَّرَ المشاهدَ.

ومَن ظنَّ أن الدعاءَ عندَ القبورِ أفضلُ من المساجدِ؛ فقد كفَرَ

(1)

.

والجماعةُ: قيلَ: سنةٌ مؤكدةٌ، وقيلَ: فرضُ كفايةٍ، وقيلَ: فرضُ عَيْنٍ

(2)

.

وقد تَنازعوا فيمن صلَّى وحدَه لغيرِ عُذْرٍ؛ هل تصحُّ صلاتُه؟ على قولينِ

(3)

:

(1)

زاد في المطبوع: (فقد اتفقَ أئمةُ المسلمينَ على أن اتخاذَ القبورِ للدعاءِ عندَها أو الصلاةِ ليسَتْ من دِينِ الإسلامِ، وقد تواترَتِ السُّننُ في النهيِ عن اتخاذِها لذلك).

وينظر أصل الفتوى من قوله: (وصلاة الجماعة

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 222، الفتاوى الكبرى 2/ 267.

(2)

زاد في المطبوع: (وهذا هو المنصوصُ عن أحمدَ وغيرِه من أئمةِ السلَفِ وعلماءِ الحديثِ).

(3)

جاء في الاختيارات للبعلي ص 103: (والجماعة شرط للصلاة المكتوبة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختارها ابن أبي موسى، وأبو الوفاء بن عقيل، ولو لم يمكنه الذهاب إلا بمشيه في ملك غيره فعل، فإذا صلى وحده لغير عذر لم تصح صلاته).

وقد بين شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (23/ 233) معنى كونها شرطاً بقوله: (من فوَّت الجماعة الواجبة التي يجب عليه شهودها، وليس هناك جماعة أخرى؛ فإنه يصلي منفرداً، وتصح صلاته هنا؛ لعدم إمكان صلاته جماعة، كما تصح الظهر ممن تفوته الجمعة، وليس وجوب الجماعة بأعظمَ من وجوب الجمعة، وإنما الكلام فيمن صلى في بيته منفرداً لغير عذر، ثم أقيمت الجماعة، فهذا عندهم عليه أن يشهد الجماعة، كمن صلى الظهر قبل الجمعة عليه أن يشهد الجمعة).

ص: 128

أحدُهما: لا تصحُّ؛ قالَه طائفةٌ من قدماءِ أصحابِ أحمدَ، وبعضُ متأخِّريهم، وطائفةٌ من السلَفِ.

والثاني: تصحُّ معَ إثمِه بالتَّرْكِ، وهو المأثورُ عن أحمدَ وأكثرِ أصحابِه.

وحمَل بعضُهم التفضيلَ في الحديثِ على غيرِ المعذورِ؛ لأن المعذورَ يُكتَبُ له أجرُه لو كان صحيحًا مقيمًا، وجعَله حجةً على صحةِ صلاةِ المنفرِدِ.

ومَن لم يصَحِّحْها قال: بل المرادُ به المعذورُ، ولكن ليس كلُّ معذورٍ يُكتَبُ له ما كان يعملُ؛ بل إنَّما يُكتَبُ لمن كانت نيَّتُه - لولا العذرُ - أن يعملَ، ومَن عادتُه ذلك، فهذا يُكتَبُ له ما كان يعملُ وهو صحيحٌ، أمَّا مَن لم يكُنْ له نيةٌ، ولا عادةٌ كيفَ يُكتَبُ له ما لم يكُنْ من عادتِه العملُ به؟! فليس فيه دليلٌ على صحةِ صلاةِ المنفرِدِ من غيرِ عذرٍ.

ص: 129

وأيضًا: فليس في الحديثِ أن صلاةَ المريضِ في الأجرِ مثلُ صلاةِ الصحيحِ، ولا أنَّ صلاةَ المنفرِدِ المعذورِ مثلُ صلاةِ الرجلِ في جماعةٍ، وإنما فيه أنَّه يُكتَبُ له مِن العملِ ما كان يعملُ وهو صحيحٌ مقيمٌ.

وقولُه: «صلاةُ الرجلِ قاعدًا على النصفِ من صلاتِه قائمًا»

(1)

، قال بعضُهم: كيفَ تكونُ صلاةُ المعذورِ قاعدًا دونَ صلاتِه قائمًا؟! فحمَلَ تفضيلَ صلاةِ القائمِ على النَّفْلِ دونَ الفرضِ؛ لأنَّ القيامَ في الفرضِ واجبٌ.

فلزِمَه: أن تجوزَ صلاةُ التطوعِ للصحيحِ مُضطجِعًا؛ لأنَّ في الحديثِ: «وصلاتُه مُضطجِعًا على النصفِ من صلاتِه قاعدًا»

(2)

.

وقد طرد ذلك طائفةٌ من أصحابِ أحمدَ وغيرِه، وجوَّزوا التطوُّعَ مضطجِعًا لمن هو صحيحٌ؛ وهو قولٌ مُحدَثٌ بدعةٌ.

والجوابُ ما قدَّمْناه: من أنه يُحمَلُ على الفرضِ.

ولا يُعارِضُ مثلَ حديثِ الصلاة منفردًا، وأنَّه إنما يُكتَبُ له إذا كان مِن عادتِه أن يعملَ، ونيَّتُه أن يعملَ، لكن عجَزَ بالمرضِ والسفرِ، ومَن لم يكُنْ له عادةٌ لا يُكتَبُ له غيرُ ما عمِلَه، فلا تعارضَ بينَ الأحاديثِ.

‌وتُدرَكُ الجماعةُ

، والوقتُ، والجمعةُ، والمسافرُ صلاةَ المقيمِ، وإدراكُ الحائضِ آخِرَ الوقتِ، أو إدراكُ أولِ الوقتِ: كلٌّ بركعةٍ في الصحيحِ من قولَيِ العلماءِ.

(1)

رواه مسلم (735) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري (1115)، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

ص: 130

ومذهبُ أحمدَ والشافعيِّ في الجمعةِ بركعةٍ، وفي سائرِ المواضعِ قولانِ، هما روايتانِ عن أحمدَ.

فعلى هذا: إذا كان المُدرَكُ أقلَّ من ركعةٍ، وكان بعدَها جماعةٌ أخرى؛ فصلاتُه معَ الثانيةِ أفضلُ.

وإن كان المُدرَكُ ركعةً أو أقلَّ، وقُلْنا: يكونُ مُدرِكًا للجماعةِ؛ فقد تعارَضَ إدراكُه لهذه الجماعةِ، وإدراكُه الثانيةِ من أوَّلِها؛ فإن كانت الجماعتانِ سواءً؛ فالثانيةُ أفضلُ، وإن تميَّزتِ الأولى بكمالِ الفضيلةِ، أو كثرةِ الجمعِ، أو فضلِ الإمامِ، أو كونِها الراتبةَ؛ فهي من هذه الجهةِ أفضلُ، وتلك من جهةِ إدراكِها تجدُها أفضلَ، وقد يترجَّحُ هذا تارةً وهذا تارةً.

وأمَّا إن قُدِّرَ أنَّ الثانيةَ أكملُ أفعالًا، أو إمامًا، أو جماعةً؛ فهنا قد ترجَّحتْ من وجهٍ آخَرَ

(1)

.

‌وصلاتُه معَ الراتبِ

- ولو بركعةٍ -؛ خيرٌ من صلاتِه في بيتِه ولو جماعةً.

ومَن صلَّى في بيتِه بجماعةٍ؛ هل يسقُطُ عنه حضورُ المسجدِ بالجماعةِ؟ فيه نزاعٌ، وينبغي ألا يَتركَ حضورَ المسجدِ إلا لعذرٍ

(2)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وتدرك الجماعة

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 255.

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن صلى في

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 254.

ص: 131

‌لو قام رجلٌ يقضي

ما فاتَه، فأْتَمَّ به رجلٌ آخَرُ؛ جاز في أصحِّ قولَيِ العلماءِ إذا نَوَيا.

فإن نوى المأمومُ وحدَه؛ ففيه قولانِ، المشهورُ عن أحمدَ: أنَّه لا يصحُّ.

‌مَن داومَ على تَرْكِ السُّننِ الراتبةِ

؛ لم يُمكَّنْ من حكمٍ، ولا شهادةٍ، ولا فُتْيا، معَ إصرارِه على ذلك، فكيفَ من يداومُ على تركِ الجماعةِ التي هي أعظمُ شعائرِ الإسلامِ؟!

‌ويلزمُ القضاءُ على الفورِ

؛ سواءٌ فاتَتْه عمدًا أو سهوًا عندَ جمهورِهم؛ كمالكٍ وأحمدَ وأبي حنيفةَ، وكذا الراجحُ عند الشافعيِّ إن فاتَتْه عمدًا.

‌وقد رُوِي في قراءةِ آيةِ الكُرْسيِّ

دُبُرَ كلِّ صلاةٍ حديثٌ أنَّ له كذا وكذا، رواه الطَّبَرانيُّ ونحوُه

(1)

، فإن صحَّ دلَّ على أن قراءتَها مستحَبةٌ؛ لكن لا يدلُّ على أن الإمامَ والمأمومينَ يقرؤُونها جميعًا جاهرينَ بها، فإنَّ ذلك بدعةٌ بلا رَيْبٍ

(2)

.

(1)

روى النسائي في الكبرى (9848) والطبراني (7532) عن أبي أمامة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة؛ لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت» ، وعند الطبراني (2733) أيضًا بلفظ:«من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى» .

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وقد روي

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 508.

ص: 132

‌فَصْلٌ

‌والمسبوقُ إذا لم يتسِعْ

وقتُ قيامِه لقراءةِ الفاتحةِ؛ فإنه يركعُ معَ إمامِه، ولا يُتمُّ الفاتحةَ باتفاقِ الأئمةِ، وإن كان فيه خلافٌ شاذٌّ.

وأمَّا إذا أخرَ الدخولَ في الصلاةِ معَ إمكانِه، حتى قصُرَ القيامُ، أو كان القيامُ متسِعًا ولم يقرَأْها؛ فهذا تجوزُ صلاتُه عندَ الجماهيرِ.

وعندَ الشافعيِّ: فعليه أن يقرأَ وإن تخلَّفَ عن الركوعِ، وإنما تسقُطُ قراءتُها عندَه عن المسبوقِ خاصةً.

‌ومَن تخلَّفَ عن الإمامِ لعذرٍ

، من نومٍ، أو نسيانٍ، ونحوِه؛ فمذهبُ الشافعيِّ وأحمدَ في رواية: أنَّه إذا أتى بما تخلَّفَ عنه، ولحِقَ الإمامَ ولو سبَقَه بركنٍ، أو اثنينِ، أو ثلاثةٍ، وهو يدرِكُه في الركعةِ؛ فصلاتُه صحيحةٌ.

‌وصلاةُ السَّكْرانِ

الذي لا يعلمُ ما يقولُ؛ لا تجوزُ بالاتفاقِ؛ بل ولا يجوزُ أن يُمكَّنَ من دخولِ المسجدِ

(1)

.

‌وإذا قال: لا أصلِّي

إلا خلفَ مَن يكونُ مِن أهلِ مذهبي؛ فهو كلامٌ محرَّمٌ، قائلُه يستحِقُّ العقوبةَ؛ فإنه ليس من أئمةِ المسلمينَ مَن قال: لا تُشرَعُ صلاةُ المسلمِ إلا خلفَ مَن يوافِقُه بمذهَبِه المعينِ.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وصلاة السكران

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 6، الفتاوى الكبرى 2/ 6.

ص: 133

وتنازعَ المتأخِّرونَ من أصحابِ أحمدَ والشافعيِّ وغيرِهما: هل على العاميِّ أن يلتزمَ مذهبَ واحدٍ بعَيْنِه منَ الأئمةِ المشهورينَ؛ بحيثُ يأخذُ بعزائمِه ورُخَصِه؟ على قولينِ.

والمشهورُ: أنه لا يجبُ، كما أنه ليس له أن يقلدَ في كلِّ مسألةٍ مَن يوافقُ غرَضَه، وليس له أن يقلِّدَ في المسألةِ الواحدةِ إذا كان الحقُّ له مَن لا يقلدُه إذا كان الحقُّ عليه، بل عليه باتفاقِ الأئمةِ أن يعدلَ بين نفْسِه وبينَ غيرِه في الأقوالِ، فإذا اعتَقدَ وجوبَ شيءٍ أو تحريمَه اعتَقدَ ذلك عليه وعلى مَن يماثِلُه.

مثالُه: شُفْعةُ الجوارِ، للعلماءِ فيها قولانِ، فمن اعتَقدَ أحدَ القولينِ فقد قال بقولِ طائفةٍ من علماءِ المسلمينَ.

وليس لأحدٍ ثبوتُ الشُّفْعةِ إذا كان هو الطالبَ، وانتفاؤُها إذا كان هو المطلوبَ كما يفعَلُه الظالمونَ أهلُ الأهواءِ، يتَّبِعونَ في المسألةِ الواحدةِ هَواهم، فيُوافِقونَ هذا القولَ تارةً، وهذا أخرى؛ متابعةً للهَوَى، لا مراعاةً للتقوى، وقد ذمَّ اللهُ مَن يتَّبِعُ الحقَّ إذا كان له لا عليه، كقوله:{وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكُنْ لهم الحق يأتوا اليه مذعنين} الآية، إلى قوله:{بل أولئك هم الظالمون} ، إلى قوله:{إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بيهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} ، إلى:{الفائزون}

(1)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن قال لا أصلي

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 20/ 220، الفتاوى الكبرى 5/ 95.

ص: 134

وقولُ القائلِ: «لا أتقيَّدُ بأحدِ هذه الأئمةِ الأربعةِ» : إن أرادَ أني لا أتقيَّدُ بواحدٍ بعينِه دونَ الباقينَ فقد أحسَنَ، بل هو الصوابُ من القولينِ، وإن أرادَ أني لا

(1)

أتقيَّدُ بها كلِّها، بل أخالِفُها فهو مخطئٌ في الغالبِ قطعًا؛ إذ الحقُّ لا يخرجُ عن هذه الأربعةِ في عامةِ الشريعةِ.

لكن تنازعَ الناسُ: هل يخرجُ عنها في بعضِ المسائلِ؟ على قولينِ. بسَطْنا ذلك في موضعٍ آخَرَ.

وكثيرًا ما يترجَّحُ قولٌ من الأقوالِ، يظُنُّ الظانُّ أنَّه خارجٌ عنها، ويكونُ داخلًا فيها، لكن لا ريبَ أنَّ اللهَ لم يأمُرِ الأمةَ باتباعِ أربعةِ أشخاصٍ دونَ غيرِهم، هذا لا يقولُه عالمٌ، وإنما هذا كما يقالُ: أحاديثُ البخاريِّ ومسلمٍ، فإنَّ الأحاديثَ التي رواها الشيخانِ وصحَّحاها قد صحَّحَها من الأئمةِ ما شاءَ اللهُ، فالأخذُ بها لكونِها قد صحَّتْ، لا لأنها قولُ شخصٍ بعَيْنِه.

وأمَّا مَن عُرِضَ عليه حديثٌ، فقال: لو كان صحيحًا لما أهملَه أهلُ مذهبِنا، فينبغي أن يُعزَّرَ على فَرْطِ جهلِه، وكلامِه في الدينِ بلا علمٍ.

‌والكذبُ في حديثِ رسولِ اللهِ

من أعظمِ الذنوبِ، وقد اختُلِفَ: هل هو فسقٌ، أو كفرٌ؟ على قولينِ.

‌والمسجدُ المَبْنيُّ على قبرٍ

لا يُصلَّى فيه فرضٌ ولا نفلٌ، فإن كان المسجدُ قبلَ القبرِ؛ غُيِّرَ إما بتسويةِ القبرِ، أو نَبْشِه إن كان جديدًا، وإن

(1)

قوله: (لا) سقطت من الأصل، وهي في (ع) و (ك).

ص: 135

كان القبرُ قبلَه، فإمَّا أن يُزالَ المسجدُ، وإمَّا أن تزالَ صورةُ القبرِ

(1)

.

‌والجمهورُ على أن قليلَ الحشيشةِ

وكثيرَها حرامٌ، بل الصوابُ: أن آكلَها يُحَدُّ، وأنها نجِسةٌ، ولا خلافَ بينَ المسلمينَ أنه يجبُ الإنكارُ على الذين يَسكرون بها.

‌وقولُ القائلِ:

«إنَّ مَن طَوَّلَ القيامَ عن الركوعِ، والجلوسَ بينَ السجدتينِ؛ تبطُلُ صلاتُه» : قولٌ ضعيفٌ باطلٌ.

‌ومَن قال: لا تجوزُ الصلاةُ

خلفَ الأئمةِ المالكيةِ - مثلًا- أو غيرهم: فهو كلامٌ مُنكَرٌ، من أشنعِ المقالاتِ، يستحقُّ مُطلِقُه التعزيرَ البليغَ؛ فإنَّ فيه من إظهارِ الاستخفافِ بحرمةِ هؤلاءِ السادةِ ما يوجِبُ عظيمَ العقوبةِ، ويُدخِلُ صاحبَه في أهلِ البدعِ المضلةِ.

وكذا مَن قال: «لا تجوزُ الصلاةُ خلفَ مَن لم تُعرَفْ عقيدتُه، وما هو عليه» : فهو قولٌ لم يقُلْه أحدٌ من المسلمينَ، فإن أهلَ الحديثِ والسُّنةِ؛ كالشافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وغيرِهم متَّفِقونَ على أن صلاةَ الجمعةِ تُصلَّى خلفَ البَرِّ والفاجرِ، حتى إن أكثرَ أهلِ البدعِ الجَهْميةَ الذينَ يقولونَ بخَلْقِ القرآنِ، وأنَّ اللهَ لا يُرى في الآخِرةِ، ومعَ أن أحمدَ ابتُلِي بهم، وهو أشهرُ الأئمةِ بالإمامةِ في السُّنةِ، فلم تختلفْ نصوصُه أنَّه تُصلَّى الجمعةُ خلفَ الجَهْميِّ، والقَدَريِّ، والرافضيِّ، وليس لأحدٍ أن

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (والمسجد المبني

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 194، الفتاوى الكبرى 2/ 80.

ص: 136

يدعَ الجمعةَ لبدعةٍ في الإمامِ.

لكن تنازعوا: هل تُعادُ؟ على قولينِ، هما روايتانِ عن أحمدَ:

قيلَ: تُعادُ خلفَ الفاسقِ.

ومذهَبُ الشافعيِّ وأبي حنيفةَ: لا تُعادُ

(1)

.

‌والقراءةُ على الجَنازةِ

مكروهةٌ عندَ الأربعةِ، وأَخْذُ الأجرةِ عليها أعظمُ كراهةً، فإن الاستئجارَ على التلاوةِ لم يُرخِّصْ فيه أحدٌ من العلماءِ، فالصلاةُ خلفَ أهلِ البدعِ أَوْلى من الصلاةِ خلفَ هذا.

ويجوزُ الاستئجارُ على الإمامةِ والأذانِ ونحوِه، وقيلَ: لا، وقيلَ: عندَ الحاجةِ، والثلاثةُ لأحمدَ

(2)

.

(1)

جاء في الاختيارات للبعلي ص 107، وفي الإنصاف 4/ 355:(لا تصح الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع والفسقة مع القدرة).

لكن الذي في مجموع الفتاوى 23/ 342 عدم جواز تقديمهم مع صحة الصلاة خلفهم، قال رحمه الله: (أوسط الأقوال في هؤلاء: أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة لا يجوز مع القدرة على غيره

) إلى أن قال: (فإذا كان داعية منع من ولايته وإمامته وشهادته وروايته؛ لما في ذلك من النهي عن المنكر، لا لأجل فساد الصلاة أو اتهامه في شهادته وروايته، فإذا أمكن لإنسان ألا يقدم مظهرًا للمنكر في الإمامة وجب ذلك، لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة أو كان هو لا يتمكن من صرفه إلا بشر أعظم ضررًا من ضرر ما أظهره من المنكر؛ فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير).

(2)

قال ابن مفلح في الفروع (7/ 152): (ويحرم - أي: أخذ الأجرة- على أذان وإمامة صلاة وتعليم قرآن ونيابة حج، وفي حديث وفقه وجهان، وذكر شيخنا -أي: شيخ الإسلام- وجهًا: يجوز لحاجة، واختاره).

ص: 137

‌والسَّكْرانُ بالخمرِ

أو الحشيشِ إذا علِمَ ما يقولُ؛ فعليه الصلاةُ بعدَ غَسْلِ فمِه وما أصابَه، وهل عليه أن يستقيءَ ما في بطنِه؟ على قولينِ للعلماءِ، أصَحُّهما: لا، لكن إذا لم يتُبْ فقد قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَن شرِب الخمرَ لم تُقبَلْ صلاتُه أربعينَ يومًا، فإن تابَ؛ تاب اللهُ عليه، وإن عاد في الثالثةِ أو الرابعةِ كان حقًّا على اللهِ أن يَسقيَه من طينةِ الخَبالِ، وهي عصارةُ أهلِ النارِ»

(1)

.

فلا بدَّ لهم من الصلاةِ، وإن كان قد قيلَ: إنها لا تُقبَلُ، وإن تابوا قبِلَها اللهُ.

وإذا صلَّوْا فقد يكونُ عَنى بنفي القبولِ: أنَّه لا ثوابَ لهم عليها؛ لكن اندفَعَ بها عقابُ التَّرْكِ

(2)

.

‌ولم يكُنِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه

يُصلُّونَ على سَجَّادةٍ، لكن صلَّى على خُمرةٍ

(3)

- وهي شيءٌ يُعمَلُ من الخوصِ - يُتَّقى به حرُّ

(4)

الأرضِ وأذاها، وكان يصلِّي على الحصيرِ

(5)

والترابِ

(6)

.

(1)

رواه أحمد (6644)، والنسائي (5670)، وابن ماجه (3377) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (والسكران بالخمر

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 356، الفتاوى الكبرى 2/ 311.

(3)

رواه البخاري (379)، ومسلم (513) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4)

كُتبت في الأصل هكذا: (حوص)، والمثبت من (ع) و (ك).

(5)

رواه مسلم (661) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

(6)

رواه البخاري (669)، ومسلم (1167) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

ص: 138

ورُوِي أن

(1)

بعضَ العلماءِ قَدِم وفرَشَ في مسجدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، فأمَرَ مالكٌ بحَبْسِه، وقال: أما علمتَ أنَّ هذا في مسجِدِنا بدعةٌ؟!

(2)

‌ومَن يبدلُ الراءَ غَينًا

، والكافَ همزةً: لا يؤُمُّ إلا مِثْلَه، أما مَن يشوبُ الراءَ بغينٍ يُخرِجُها من فوقِ مخرجِها بقليلٍ؛ فتصحُّ إمامتُه للقارئِ وغيرِه، هذا كلُّه معَ العجزِ.

ويجوزُ تعليمُ القرآنِ في المسجدِ إذا لم يكُنْ فيه ضررٌ على المسجِدِ وأهلِه، بل يُستحَبُّ.

‌وإذا كان المعلمُ يُقرِئُ

، فأُعطِي شيئًا؛ جاز له أخْذُه عندَ أكثرِ العلماءِ.

‌ومَن كان يُظهِرُ الفجورَ

والبدعَ؛ ففي الصلاةِ خلفَه نزاعٌ، والذي ينبغي ألَّا يُقدَّمَ الواحدُ من هؤلاءِ إلى الإمامةِ، ولا يجوزُ معَ القدرةِ على ذلك.

(1)

في الأصل: (عن أن). والمثبت من (ع) و (ك).

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولم يكن النبي

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 163، الفتاوى الكبرى 2/ 60.

والرجل هو: الإمام عبدالرحمن بن مهدي.

ص: 139

‌فَصْلٌ

‌ويجوزُ النومُ في المسجدِ

للمحتاجِ الذي لا مَسْكنَ له أحيانًا، وأمَّا اتِّخاذُه مَبيتًا ومقيلًا؛ فيُنهَى عنه.

ويُكرَهُ فيه فضولُ المباحِ.

وأمَّا المشيُ بالنعالِ؛ فجائزٌ، كما كان الصحابةُ يَمْشونَ بنِعالِهم في مسجِدِه صلى الله عليه وسلم؛ لكن ينبغي للرجلِ أن ينظرَ في نَعْلَيْه، فإن كان فيهما أذًى فلْيَدلُكْهما بالأرضِ؛ فإنه لهما طَهورٌ؛ كما أمر صلى الله عليه وسلم بذلك

(1)

.

‌وتجوزُ الصلاةُ

خلفَ ولدِ الزنى باتفاقِهم؛ لكن تنازعوا في كراهتِها، فكرِهَها مالكٌ وأبو حنيفةَ، وغيرُ ولدِ الزنى أَوْلى.

‌وتجوزُ صلاةُ الفجرِ

خلفَ الظهرِ في إحدى الرِّوايتينِ عن أحمدَ

(2)

.

‌ومُسابَقةُ الإمامِ

حرامٌ باتفاقِ الأئمةِ.

ومَن سبَقَه سهوًا لم تبطُلْ صلاتُه، ولم يُعتَدَّ له بما سبَقَ به إمامَه،

(1)

رواه أحمد (11877) وأبو داود (650). وينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجوز النوم

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 200، الفتاوى الكبرى 2/ 84.

(2)

جاء في الاختيارات للبعلي (ص 104): (وأصح الطريقين لأصحاب أحمد: أنه يصح ائتمام القاضي بالمؤدي، وبالعكس، ولا يخرج ذلك عن ائتمام المفترض بالمتنفل، فتصح ولو اختلفتا، أو كانت صلاة المأموم أقل، وهو اختيار أبي البركات وغيره، وحكى أبو العباس في صلاة الفريضة خلف صلاة الجنازة روايتين، واختار الجواز).

ص: 140

فلهذا أمرَه الصحابةُ أن يتخلَّفَ بمقدارِ ما سبَق به الإمامَ

(1)

؛ ليكونَ فعله بقدرِ فعلِ الإمامِ.

وأمَّا إذا سبقه عمدًا؛ ففي بطلانِ صلاتِه قولانِ في مذهَبِ أحمدَ وغيرِه

(2)

.

‌والصوابُ: أن مرورَ المرأةِ

والكلبِ الأسودِ والحمارِ بينَ يدي المصلِّي دونَ سُتْرةٍ؛ يقطعُ الصلاةَ.

‌وتجوزُ الصلاةُ في الكنيسةِ

، وقيل: لا، وقيلَ: إذا لم يكُنْ فيها صورةٌ تجوزُ، وإلا فلا، والثلاثةُ لأحمدَ وغيرِه

(3)

.

‌وإذا ضاق الوقتُ وهو في الحمامِ

، فهل يُصلِّي فيه، أو يُفوِّتُ الصلاةَ حتى يخرجَ فيُصلِّيها؟ على قولينِ في مذهَبِ أحمدَ وغيرِه

(4)

.

‌ومَن فاتَه الظهرُ أو العصرُ

ونحوُها نِسْيانًا؛ قضى.

وأما مَن فوَّتَها متعمدًا؛ فقد أتى أعظمَ الكبائرِ، وعليه القضاءُ عندَ

(1)

رواه ابن أبي شيبة (4662) عن عمر رضي الله عنه.

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومسابقة الإمام

) إلى هنا مجموع الفتاوى 23/ 336، الفتاوى الكبرى 2/ 303.

(3)

وفي مجموع الفتاوى 22/ 162: (والثالث: وهو الصحيح المأثور عن عمر بن الخطاب وغيره، وهو منصوص عن أحمد وغيره: أنه إن كان فيها صور لم يصل فيها

وأما إذا لم يكن فيها صور؛ فقد صلى الصحابة في الكنيسة).

(4)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا ضاق الوقت

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 160، الفتاوى الكبرى 2/ 58.

ص: 141

الجمهورِ، وعندَ بعضِهم: لا يصحُّ فعلُها قضاءً

(1)

.

ومعَ وجوبِ القضاءِ عليه؛ لا تبرأُ ذِمَّتُه من جميعِ الواجبِ، ولا يقبَلُها اللهُ تعالى؛ بحيثُ يرتفعُ عنه العقابُ، ويستوجِبُ الثوابَ؛ بل يَخفُّ عنه العذابُ بما فعَلَه من القضاءِ، ويبقى عليه إثمُ التفويتِ؛ يحتاجُ إلى مُسقِطٍ آخَرَ، قال أبو بكرٍ لعمرَ في وصيَّتِه:«واعلَمْ أنَّ للهِ حقًّا بالنهارِ، لا يقبَلُه بالليلِ، وحقًّا بالليلِ لا يقبَلُه بالنهارِ، ولا يقبَلُ النافلةَ حتى تُؤدَّى الفريضةُ»

(2)

، والعملُ المذكورُ هو صلاةُ الظهرِ والعصرِ.

‌ومَن عَدِمَ الماءَ والترابَ

؛ قيلَ: لا شيءَ عليه، وقيلَ: يؤخِّرُها.

وإذا صلَّى على حسَبِ حالِه، فهل يُعيدُ؟ فيه نزاعٌ، والأظهرُ: لا.

‌ومَن سلَّم إمامُه

وقد بقِيَ عليه شيءٌ من الدعاءِ، هل يتابعُ الإمامَ، أو يُتِمُّه

(3)

؟ الأَوْلى: مُتابَعتُه.

‌ومَن لا سببَ له

غيرُ قراءةِ سيرةِ عنتر والبطالِ

(4)

: لا يجوزُ أن يُرتَّبَ

(1)

قال في مجموع الفتاوى 22/ 162: (وقيل: لا يجب عليه القضاء، وهذا هو الظاهر).

(2)

رواه ابن أبي شيبة (37056).

(3)

سقط من الأصل، وهي في (ع) و (ك).

(4)

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 18/ 351: (فإن عنترة كان شاعرًا فارسًا من فرسان الجاهلية، وله شعر معروف، وقصيدته إحدى السبع المعلقات، لكن افتروا عليه من الكذب ما لا يحصيه إلا الله، وكل من جاء زاد ما فيها من الأكاذيب.

وكذلك أبو محمد البطال، كان من أمراء المسلمين المعروفين، وكان المسلمون قد غزوا القسطنطينية غزوتين: الأولى في خلافة معاوية

، والغزوة الثانية في خلافة عبد الملك بن مروان

، فجاء الكذابون فزادوا في سيرة البطال وعبد الوهاب من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله).

وقال في منهاج السنة 8/ 116: (وإن كان عنترة له سيرة مختصرة، والبطال له سيرة يسيرة، وهي ما جرى له في دولة بني أمية وغزوة الروم، لكن ولَّدها الكذابون حتى صارت مجلدات).

ص: 142

إمامًا يصلِّي بالمسلمينَ، فإنه يُحدِّثُ دائمًا بالأكاذيبِ، ويأكلُ الجُعْلَ عليها، وكلاهما مُحرَّمٌ؛ فإن عنتر والبطالَ؛ وإن كانا موجودينِ، لكن كُذِب عليهما ما لا يُحصيه إلا اللهُ.

‌وتجوزُ الصلاةُ قُدَّامَ

الإمامِ لعذرٍ من زحمةٍ ونحوِه في أعدلِ الأقوالِ.

وكذا المأمومُ إذا لم يجدْ من يقومُ معه صلَّى وحدَه، ولم يدَعِ الجماعةَ، ولم يجذِبْ أحدًا يصلِّي معه؛ كالمرأةِ إن لم تجدْ مَن يُصافُّها فيها تصُفُّ وحدَها بالاتفاقِ، وهو مأمورٌ بالمُصافَّةِ معَ الإمكانِ، لا معَ العجزِ

(1)

.

‌والوَسْواسُ إذا قلَّ

؛ لم يُبطِلِ الصلاةَ بالاتفاقِ؛ لكن ينقُصُها.

وأمَّا الوَسْواسُ إذا غلَب؛ فقد قيلَ: يُبطِلُ، قال عمرُ رضي الله عنه:«إني لأجهِّزُ جيشي وأنا في الصلاةِ»

(2)

، وليس مَن تفكَّرَ بالواجبِ مثلَ مَن

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وتجوز الصلاة

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 404، الفتاوى الكبرى 2/ 331.

(2)

رواه ابن أبي شيبة (7951).

ص: 143

تفكَّرَ بالفضولِ، فعمرُ كان أميرَ الجيشِ، وهو مأمورٌ بالصلاةِ والجهادِ، فلو قُدِّرَ أنه نقَصَ من الصلاةِ شيءٌ لأجلِ الجهادِ؛ لم يقدَحْ في كمالِ إيمانِه، ولهذا خُفِّفتْ صلاةُ الخوفِ، فكأنَّه كانَ بمنزلةِ مَن يصلِّي الخوفَ، ولا شكَّ أن صلاةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حالَ الخوفِ كانت ناقصةً عن صلاتِه حالَ أَمْنِه في الأفعالِ الظاهرةِ، فإذا كان قد عُفِي عن الأفعال الظاهرة؛ فكيفَ بالباطنة؟! وقال تعالى:{فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة} ، وإقامتُها حالَ الأمنِ لا يؤمَرُ به حالَ الخوفِ، واللهُ أعلمُ

(1)

.

‌فَصْلٌ

‌تُفعَلُ الصلاةُ التي لها سببٌ

كتحيةِ المسجدِ وقتَ النهيِ في الأظهرِ؛ لأنَّ حديثَها عامٌّ محفوظٌ، وحديثَ النهيِ مخصوصٌ.

وأيضًا: فعلُ الصلاةِ وقتَ الخُطبةِ منهيٌّ عنه، وقد قال:«إذا دخَلَ أحدُكُم والإمامُ يخطُبُ فلا يجلِسْ حتى يصلِّيَ ركعتَينِ»

(2)

، ولم يختلفْ قولُ أحمدَ في هذا الوقتِ؛ لمجيءِ السُّنةِ فيه، بخلافِ مالكٍ وأبي حنيفةَ، فالنهيُ عندَهما في الموضعينِ.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (والوسواس

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 603، الفتاوى الكبرى 2/ 224.

(2)

رواه البخاري (2/ 57)، ومسلم (875) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

ص: 144

وأيضًا: جاء في أحاديثِ النهيِ: «لا تتَحَرُّوا»

(1)

، والتحري: التعمُّدُ، وما له سببٌ لا تعمُّدَ فيه

(2)

.

‌والمصافحةُ أدبارَ الصلاةِ

بدعةٌ باتفاقِ المسلمينَ؛ لكن عندَ اللقاءِ فيها آثارٌ حسنةٌ

(3)

، وقد اعتَقدَ بعضُهم أنَّها في أدبارِ الصلاةِ تندرجُ في عمومِ الاستحبابِ، وبعضُهم أنها مباحةٌ.

والتحقيقُ: أنَّها بدعةٌ إذا فُعِلتْ عادةٌ، أما إذا كانت أحيانًا لكونِه قد لقِيَه عَقيبَ الصلاةِ، لا لأجلِ الصلاةِ؛ فهذا حسَنٌ؛ كما أن الناسَ لو اعتادوا سلامًا غيرَ السلامِ المشروعِ عَقيبَ الصلاةِ؛ كُرِهَ.

(1)

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتحروا طلوع الشمس، ولا غروبها فتصلوا عند ذلك» رواه مسلم (773).

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (تفعل الصلاة

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 210.

(3)

من ذلك: ما رواه البخاري (6263) عن قتادة، قال: قلت لأنس رضي الله عنه: أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: «نعم» .

وروىالطبراني في الأوسط (245)، من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه، وأخذ بيده فصافحه، تناثرت خطاياهما، كما يتناثر ورق الشجر» .

وروى الطبراني في الأوسط (97)، عن أنس قال:«كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا»

وروى البيهقي في الكبرى (13575)، عن غالب التمار قال: كان محمد بن سيرين يكره المصافحة، فذكرت ذلك للشعبي، فقال:«كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا التقوا صافحوا، فإذا قدموا من سفر عانق بعضهم بعضًا» .

ص: 145

وأمَّا المعانقةُ؛ ففي الحديثِ النهيُ عنها

(1)

، وحُمِل على فعلِها دائمًا، أمَّا عندَ اللقاءِ فقد جاء فيها حديثُ جعفرٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لقِيَه، فالْتَزمَه، وقبَّلَ بينَ عيْنَيْه

(2)

.

‌ومَن لم يُمكِنْه أن يصلِّيَ

إلا خلفَ إمامٍ مبتدعٍ يعجزُ عن إزالتِه؛ صلَّى ولا إعادةَ عليه، وقد ظنَّ طائفةٌ من الفقهاءِ أنَّها مثلُ مَن صلَّى خلفَ فاسقٍ، فتُعادُ، وإنما النزاعُ إذا أمكَنَه الصلاةُ خلفَ غيرِه.

وأمَّا الصلاةُ خلفَ مَن يكفُرُ من أهلِ الأهواءِ؛ فقد تنازعوا في نفْسِ صلاةِ الجمعةِ خلفَه، فمَن قال: يكفُرُ، أمَرَ بالإعادةِ.

‌وفي تكفيرِ أهلِ الأهواءِ نزاعٌ

، هما روايتانِ عن أحمدَ وغيرِه.

وحقيقةُ الأمرِ: أن القولَ قد يكونُ كفرًا، فيُطلَقُ القولُ بتكفيرِ صاحبِه؛ لكنَّ الشخصَ المعيَّنَ لا يكفُرُ حتى تُقامَ عليه الحجةُ، فنفْسُ القولِ قد يكونُ كفرًا؛ لكنَّ قائلَه معذورٌ، فإذا كان من المؤمنينَ فلا يكفُرُ؛ لأنه قد يعذِرُه اللهُ بأمورٍ؛ إمَّا أنَّه لم يَبلغْه

(3)

، أو أنه لم يثبُتْ

(1)

رواه أحمد (13044)، والترمذي (2728)، وابن ماجه (3702)، عن أنس بن مالك، قال: قال رجل: يا رسول الله الرجل منَّا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: «لا» ، قال: أفيلتزمه ويقبِّله؟ قال: «لا» ، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: «نعم» .

(2)

رواه أبو داود (6226).

(3)

كذا في (ك)، وهو الموافق للسياق ولكلام شيخ الإسلام في موطن من مجموع الفتاوى (23/ 346)، والذي في الأصل و (ع): يفعله.

ص: 146

عندَه، أو أنه لم يفهَمْه لمعارضةِ شُبْهةٍ، فمن كان قصدُه الحقَّ فأخطَأَه؛ فإنَّ اللهَ يغفِرُ له.

وتقسيمُ المسائلِ إلى مسائلَ أصولٍ يكفُرُ بإنكارِها، ومسائلَ فروعٍ لا يكفُرُ بإنكارِها: ليس له أصلٌ، لا عن الصحابةِ، ولا عن التابعينَ، ولا أئمةِ الإسلامِ، وإنما هو مأخوذٌ منِ المعتزلةِ ونحوِهم أئمةِ البدعِ، وهم مُتناقِضونَ.

فإذا قيلَ لهم: ما حدُّ أصولِ الدينِ؟

فإن قيلَ: مسائلُ الاعتقادِ؛ يقالُ لهم: فقد تنازعَ الناسُ هل رأى محمدٌ ربَّه؟ وفي أنَّ عثمانَ أفضلُ أم عليٌّ؟ وفي كثيرٍ من معاني القرآنِ، وتصحيحِ بعضِ الأحاديثِ، وهي اعتقاد، ولا كفرَ فيها باتفاقِ المسلمينَ، ووجوبُ الصلاةِ والزكاةِ والحجِّ وتحريمُ الفواحشِ والخمرِ هي مسائلُ عمليةٌ، والمنكِرُ لها يكفُرُ اتفاقًا.

وإن قيلَ: الأصولُ هي القطعيةُ؛ فيُقالُ: كثيرٌ من مسائلِ النظرِ ليستْ قطعيةً، وكونُ المسألةِ قطعيةً أو ظنيةً هي أمورٌ تختلفُ باختلافِ الناسِ، فقد يكونُ عندَ هذا قاطعٌ ما ليس عندَ هذا، كمن سمع النصَّ، وتيقَّنَ مرادَه، وقد لا يبلغُ النصُّ لآخَرَ، فلا تكونُ عندَه ظنيّة فضلًا عن كونِها قطعيَّة.

والمقصودُ: أن مذاهبَ الأئمةِ: الفرقُ بينَ النوعِ والعينِ، ومَن حكى الخلافَ فلم يفهَمْ غَوْرَ قولِهم.

ص: 147

فطائفةٌ تحكي عن أحمدَ في تكفيرِ أهلِ البدعِ مطلقًا روايتَينِ، وليس هذا مذهبًا لأحمدَ، ولا لغيرِه من الأئمةِ، وكذلك تكفيرُ الشافعيِّ لحفصٍ الفردِ؛ حينَ قال:«القرآنُ مخلوقٌ» ، فقال له الشافعيُّ:«كفرتَ» ؛ أي: قولُكَ كفرٌ، ولهذا لم يسْعَ في قتلِه، ولو كان عينُه عندَه كافرًا؛ لسعى في قتلِه.

وأمَّا قتلُ الداعيةِ إلى البدعِ: فقد يكونُ لكفِّ ضررِه عن الناسِ؛ كقُطَّاعِ الطريقِ، وقتلُ غيلانَ القدريِّ قد يكونُ من هذا البابِ

(1)

.

‌فَصْلٌ

‌السجدةُ الواحدةُ بعدَ الصلاةِ

، وتقبيلُ الأرضِ؛ مكروهٌ، نصَّ عليه أبو عبدِ اللهِ بنُ حامدٍ وغيرُه.

‌ومَن قال: «إنَّ مَن سلَّم

من الرباعيةِ من ركعتينِ ساهيًا؛ استوجَبَ غضبَ اللهِ، وأقلُّ ما يجبُ عليه أن ينزلَ عليه نارٌ من السماءِ تُحرِقُه»: يُسْتتابُ، فإن تاب؛ وإلا قُتِل.

ومَن حكى أنَّ أحمدَ والشافعيَّ سألا شَيْبانَ الراعيَ

(2)

، فأجابَ

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وأما الصلاة

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 344.

(2)

شيبان الراعي، من عباد أهل مرو، يروي عن سفيان الثوري، وكان من الآمرين، وكان ابن المبارك لا يميل إليه لميله إلى مذهب الرأي، قال الذهبي:(لا أعلم متى توفي، ولا من حمل عنه). ينظر: الثقات لابن حبان 6/ 448، تاريخ الإسلام 4/ 410.

ص: 148

بذلك، وقال:«هذا عندنا» : فهو كذبٌ باتفاقِ أهلِ العلمِ، وشَيْبانُ لم يجتمعْ بأحمدَ والشافعيِّ قطُّ، بل مات قبلَهما بزمانٍ، وإن كانت هذه الحكايةُ قد ذكَرَها صاحبُ "الرسالة"

(1)

ونحوه، وشَيْبانُ أجلُّ من أن يُنسَبَ إليه مثلُ هذا الكفرِ، ولو قال هذا أعظمُ من شَيْبانَ؛ استُتِيبَ، فقد اتفقَ الصحابةُ على استتابةِ قدامةَ بنِ مَظْعونٍ، وهو من أهلِ بدرٍ، من قولٍ قالَه دونَ هذا

(2)

؛ لكنَّ شَيْبانَ بريءٌ من هذا، كما أنَّ الشافعيَّ

(1)

ينظر: الرسالة القشيرية 2/ 572.

(2)

قصة قدامة بن مظعون في شربه للخمر وإقامة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عليه الحد رواها عبد الرزاق (17076)، والبيهقي (17516)، وغيرهما، وليس فيها ذكر استتابته، وفي القصة أن قدامة رضي الله عنه كان عاملًا لعمر على البحرين.

وقد روى الخلال في أحكام أهل الملل والردة (1419)، عن عطاء بن السائب في قصة أناس من أهل الشام شربوا الخمر واستدلوا على شربها بمثل ما استدل به قدامة بن مظعون، وهو قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} فاستشار عمر رضي الله عنه الصحابة، فقال لعلي: ما ترى؟ فقال: أرى أنهم قد شرعوا في دين الله ما لم يأذن الله به، فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم، قد أحلوا ما حرم الله، وإن زعموا أنها حرام فاجلدوهم ثمانين ثمانين.

قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (ص 530): (ألا ترى أن قدامة بن مظعون وكان بدريًّا تأول في خلافة عمر ما تأول في استحلال الخمر من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية حتى أجمع رأي عمر وأهل الشورى أن يستتاب هو أصحابه؛ فإن أقروا بالتحريم جلدوا وإن لم يقروا به كفروا، ثم إنه تاب وكاد ييأس لعظم ذنبه في نفسه حتى أرسل إليه عمر رضي الله عنه بأول سورة غافر).

قلت: الذي كاد أن ييأس وأرسل إليه عمر بأول سورة غافر: أبو جندل بن سهيل رضي الله عنهما كان ذلك في الشام مع جماعة من أصحابه؛ كما في مصنف عبد الرزاق (17078)، والبيهقي في الكبرى (18227).

ص: 149

وأحمدَ بريئانِ منه.

‌وأمَّا تقبيلُ الأرضِ

، ووضعُ الرأسِ قُدَّامَ الشيخِ والملكِ؛ فلا يجوزُ؛ بلِ الانحناءُ كالركوعِ لا يجوزُ، ومَن فعَلَه قربةً وتديُّنًا؛ بُيِّنَ له، فإن تاب وإلا قُتِل.

وأمَّا إذا أُكرِه الرجلُ - بأن يخشى أخْذَ مالِه، أو ضَرْبَه، أو قطعَ رِزْقِه من بيتِ المالِ -؛ فإنه يجوزُ عندَ أكثرِ العلماءِ، فإنَّ الإكراهَ يُبيحُ شربَ الخمرِ، وفعلَ المحرَّمِ عندَ أحمدَ وغيرِه في المشهورِ عنه، ولكن معَ كونِه يَكرَهُه بقلبِه، ويَحرِصُ على الامتناعِ بحسَبِ الإمكانِ.

وذهَب طائفةٌ: إلى أنَّه لا يُبيح إلا الأقوال فقط.

وإذا تأوَّلَ أنَّ الخضوعَ للهِ؛ كان حسَنًا.

وأمَّا مَن يفعَلُه لنيْلِ فضولِ الرياسةِ والمالِ فلا

(1)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وأما تقبيل الأرض

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 1/ 372، الفتاوى الكبرى 1/ 56.

ص: 150

‌فَصْلٌ

(1)

‌أمَّا مَن سافرَ لمجردِ

زيارةِ قبورِ الأنبياءِ والصالحينَ؛ فهل يجوزُ له قصرُ الصلاةِ؟ على قولينِ معروفينِ:

أحدُهما - وهو قولُ متقدِّمي العلماءِ الذين لا يُجوِّزونَ القصرَ في سفرِ المعصيةِ؛ كأبي عبدِ اللهِ بنِ بَطَّةَ، وأبي الوفاءِ بنِ عَقيلٍ، وطوائفَ كثيرينَ من المتقدِّمِينَ -: أنَّه لا يجوزُ القصرُ في مثلِ هذا السفرِ، ومذهَبُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ: لا يقصُرُ في سفرٍ مَنهِيٍّ عنه.

والقولُ الثاني: أنَّه يقصُرُ، وهذا يقولُه مَن يُجوِّزُ القصرَ في السفرِ المحرَّمِ؛ كأبي حنيفةَ، ويقولُه بعضُ المتأخِّرِينَ من أصحابِ الشافعيِّ وأحمدَ ممن يجوِّزُ السفرَ لزيارةِ قبورِ الأنبياءِ والصالحينَ؛ كأبي حامدٍ الغزاليِّ، وأبي الحسنِ بنِ عَبْدوسٍ الحَرَّانيِّ، وأبي محمدٍ بنِ قُدَامةَ المَقْدسيِّ؛ وهؤلاءِ يقولونَ: السفرُ ليس بمعصيةٍ؛ لعمومِ قولِه: «فزُوروا القبورَ»

(2)

.

واحتجَّ ابنُ قُدامةَ أبو محمدِ: بأنَّ النبيَّ كان يزورُ قُباءَ، وأجابَ عن قولِه: «لا تُشَدُّ الرحالُ

»

(3)

، بأنه محمولٌ على نفيِ الاستحبابِ.

(1)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 27/ 182، الفتاوى الكبرى 5/ 287.

(2)

رواه مسلم (977) من حديث بريدة رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (1189)، ومسلم (1397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 151

وأمَّا الأولونَ؛ فإنهم يحتجونَ بما في الصحيحينِ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «لا تُشَدُّ الرحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحرامِ، والأقصى، ومسجدي هذا» ، فلو نذَر الرجلُ أنْ يصلِّيَ في مسجدٍ أو مشهدٍ، أو يعتكفَ فيه، أو يسافرَ إلى غيرِ هذه الثلاثةِ؛ لم يجبْ عليه ذلك باتفاقِ الأئمةِ، ولو نَذَر أن يأتيَ المسجدَ الحرامَ لحجٍّ أو عمرةٍ؛ لزِمَه بالاتفاقِ، ولو نذَرَ الصلاةَ في مسجدِه، أو في الأقصى؛ لزِمَه عندَ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، ولا يلزَمُه عندَ أبي حنيفةَ.

قالوا: ولأنَّ السفرَ إلى زيارةِ قبورِ الأنبياءِ والصالحينَ؛ بدعةٌ لم يفعَلْها أحدٌ من الصحابةِ والتابعينَ، ولا استَحبَّ ذلك أحدٌ مِن أئمةِ المسلمينَ، فمن اعتَقدَ ذلك عبادةً وفعَلَها؛ فهو مخالفٌ للسنةِ، ولإجماعِ المسلمينَ.

وذكَره أبو عبدِ اللهِ بنُ بطَّةَ في إبانتِه الصُّغرى: أنَّه من البدعِ المخالفةِ للسنةِ والإجماعِ.

وزيارةُ قُباءَ ليس فيه شدُّ رَحْلٍ.

وحملُ حديثِ: «لا تُشَدُّ الرحالُ

» على نفيِ الاستحبابِ؛ فيه تسليمٌ أنَّ السفرَ ليس بعملٍ صالحٍ، ولا قربةٍ ولا طاعةٍ، ولا هو من الحسناتِ، فمن اعتَقدَ كونَه قربةً فقد خالَفَ الإجماعَ، ولا يسافرُ أحدٌ إليها إلَّا لذلك.

وأمَّا لو قُدِّرَ أنَّ الرجلَ سافرَ إليها لغرضٍ مباحٍ؛ فهذا جائزٌ، ليس هذا مِن هذا البابِ، والنفيُ يقتضي النهيَ، والنهيُ للتحريمِ.

ص: 152

وما ذُكِر من الأحاديثِ في زيارةِ قبرِ

(1)

الأنبياءِ؛ فضعيفةٌ بالاتفاقِ، بل مالكٌ إمامُ المدينةِ كرِهَ أن يقولَ الرجلُ: زرْتُ قبرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد صحَّ عنه:«لا تتخذوا قبري عِيدًا، وصلُّوا عليَّ حيثُما كنتُم»

(2)

، «لعَنَ اللهُ اليهودَ والنصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم وصالِحيهم مساجدَ» ، يُحذِّرُ ما فعلوا، قالت عائشةُ:«ولولا ذلك لأُبرِزَ قبرُه، ولكن كرِهَ أن يُتخَذَ مسجدًا»

(3)

.

ولما كانتْ حجرتُه منفصلةً عن المسجدِ إلى زمنِ الوليدِ؛ لم يكُنْ أحدٌ من الصحابةِ يدخُلُ إليها، لا لصلاةٍ ولا دعاءٍ، إنما يفعلونَ ذلك في المسجدِ، وهذا كلُّه محافظةٌ على التوحيدِ، فإن من أصولِ الشِّرْكِ باللهِ؛ اتخاذَ القبورِ مساجدَ؛ كما ذُكِرَ في تفسيرِ قولِه:{لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا} ، أنهم كانوا قومًا صالحينَ في قومِ نوحٍ، فلما ماتوا عكَفوا على قبورِهم، ثم صوَّروا صُوَرَهم تماثيلَ، ثم طال عليهم الأمَدُ فعبَدوها؛ ذكَرَه البخاريُّ في «صحيحِه» وغيرُه

(4)

، وقد ثبَتَ عنه في الصحيحِ:«ألَا فلَا تتَّخِذوا القبورَ مساجدَ، إنِّي أنْهاكُم عَن ذَلك»

(5)

، واللهُ أعلمُ.

(1)

في (ع) و (ك): قبور.

(2)

رواه أحمد (8804) وأبو داود (2041) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال شيخ الإسلام في الإخنائية (ص 105): (حديث حسن ورواته ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ؛ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به).

(3)

البخاري (435)، ومسلم (529).

(4)

رواه البخاري (4920)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه أيضًا الفاكهي في أخبار مكة (5/ 141)، والبغوي في تفسيره (5/ 157).

(5)

مسلم (532) من حديث جندب رضي الله عنه.

ص: 153

‌فَصْلٌ

‌فعلُ كلِّ صلاةٍ في وقتِها

أفضلُ من الجمعِ إذا لم يكُنْ به حاجةٌ، وليس هو كالقصرِ، فإنَّه رخصةٌ عارضةٌ، والقصرُ سنةٌ، ونفيُ الجُناحِ لا يمنع أن يكونَ القصرُ هو السنةَ، كما في قولِه:{فلا جناح عليه أن يطوف بهما} .

وذِكْرُ الخوفِ والسفرِ

(1)

؛ لأنَّ القصرَ يتناولُ قصرَ العددِ وقصرَ الأركانِ، فالخوفُ يُبيحُ قصرَ الأركانِ، والسفرُ يُبيحُ قصرَ العددِ، فإنِ اجتَمعا؛ أُبيحَ القصرُ بالوجهينِ، وإنِ انفردَ السفرُ؛ أُبيحَ أحدُ نوعَيِ القصرِ.

والأصحُّ: أنَّه لا يحتاجُ إلى نيةِ القصرِ والجمعِ أيضًا.

وتنازعَ العلماءُ في التربيعِ في السفرِ؛ هل هو حرامٌ؛ كمذهبِ أبي حنيفةَ، أو مكروهٌ؛ كإحدى روايتي مالكٍ وأحمدَ، أو تركُ الأَوْلى؛ كأظهرِ قولَيِ الشافعيِّ وروايةٍ لأحمدَ، أو التربيعُ أفضلُ؛ وهو قولٌ للشافعيِّ، وهو أضعفُ الأربعةِ أقوالٍ؟

(2)

.

(1)

أي: في قول الله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} .

(2)

زاد في مجموع الفتاوى (24/ 9) قولاً خامساً: وهو أن الإتمام والقصر سواء، ثم قال:(وأظهر الأقوال: قول من يقول إنه -أي: القصر- سنة، وأن الإتمام مكروه).

ص: 154

وذهَب بعضُ الخوارجِ: إلى أنَّه لا يجوزُ القصرُ إلا معَ الخوفِ، ويُذكَرُ قولًا للشافعيِّ، وما أظنُّه يصحُّ عنه.

والصوابُ: أن الجمعَ لا يختَصُّ بالسفرِ الطويلِ

(1)

.

‌ومَن نوى الإقامةَ

أربعةَ أيامٍ فما دونَ؛ قصَر.

ومسيرةُ القصرِ عندَ أحمدَ والشافعيِّ ومالكٍ: يومانِ، ستةَ عشَرَ فَرْسخًا، كلُّ فَرْسخٍ ثلاثةُ أميالٍ، الميلُ أربعةُ آلافِ ذراعٍ.

وقال أبو حنيفة: ثلاثةُ أيامٍ.

وذهَب طائفةٌ من السلَفِ والخلَفِ: إلى أنَّه يقصُرُ فيما دونَ يومينِ؛ وهو قويٌّ جدًّا

(2)

، يؤيِّدُه أنه كان يصلِّي بالمسلمينَ بعرفةَ ومزدلفةَ ومنًى قصرًا، وفيهم أهلُ مكةَ، ولم يأمُرْهم بالإتمامِ، ولمَّا صلى بمكةَ قال لهم:«أتموا؛ فإنا قومٌ سَفْرٌ»

(3)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (فعل كل صلاة

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 24/ 19، الفتاوى الكبرى 2/ 343.

(2)

قال في مجموع الفتاوى 19/ 243: (والله ورسوله علق القصر والفطر بمسمى السفر، ولم يحده بمسافة، ولا فرق بين طويل وقصير، ولو كان للسفر مسافة محدودة لبينه الله ورسوله، ولا له في اللغة مسافة محدودة، فكل ما يسميه أهل اللغة سفرًا؛ فإنه يجوز فيه القصر والفطر).

(3)

رواه أحمد (19865)، وأبو داود (1229) من حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه.

وينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن نوى الإقامة

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 25/ 211، الفتاوى الكبرى 2/ 467.

ص: 155

‌وقولُه: «مَن صام يومًا

في سبيلِ اللهِ بعَّدَ اللهُ وجْهَه عن النارِ سبعينَ خريفًا»

(1)

:

قيلَ: هو السفرُ في الجهادِ قبلَ لقاءِ العدوِّ، وقيلَ: قُرْب لقائِه.

وقد يدخُلُ في هذا: سفرُ الحجُّ؛ لأنَّه من سبيلِ اللهِ.

وقيلَ: سبيلُ اللهِ طريقُه، والمرادُ: إخلاصٌ لله، وإن كان في المقامِ.

‌وثبَتَ أنَّه كان يصلِّي

في السفرِ ركعتَيِ الفجرِ

(2)

، والوَتْرَ وقيامَ الليلِ

(3)

، دونَ الراتبةِ.

‌فَصْلٌ

‌الجمعُ لغيرِ عذرٍ لا يُفعَلُ

، وللمرضِ يجوزُ عندَ أحمدَ ومالكٍ وبعضِ الشافعيةِ، وأوسعُ المذاهبِ مذهَبُ أحمدَ؛ جوَّزَه للشغلِ، كما رواه النسائيُّ مرفوعًا

(4)

.

(1)

رواه البخاري (2840)، ومسلم (1153) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (680) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (1000)، ومسلم (700) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(4)

لعله يشير إلى ما رواه النسائي (588) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حضر أحدكم الأمر الذي يخاف فوته فليصل هذه الصلاة» أي: الجمع بين الصلاتين.

ص: 156

قال القاضي وغيرُه من الأصحابِ: المرادُ به الشغلُ الذي يُبيحُ له تركَ الجمعةِ والجماعةِ، وجوَّزَه للمستحاضةِ.

فالمرأةُ إذا غلَب على ظنِّها أنَّها لا تخرجُ من الحمامِ حتى يفوتَ العصرُ، أو تصفرَّ الشمسُ؛ لم يجُزْ لها تفويتُ العصرِ باتفاقِ الأئمةِ، بل إمَّا تصلِّي في البيتِ قبلَ الدخولِ جمعًا، وإمَّا تخرجُ من الحمامِ تصلِّي، وإمَّا تصلِّي في الحمامِ، وجَمْعُها في البيتِ خيرٌ من صلاتِها في الحمامِ.

‌ولا يجبُ تقليدُ واحدٍ

بعينِه غيرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لكن مَن كان معتقدًا قولًا في مسألةٍ باجتهادٍ أو تقليدٍ؛ فانفصالُه عنه لا بدَّ له من سببٍ شرعيٍّ يرجِّحُ عندَه قولَ غيرِ إمامِه، فإذا ترجَّحَ عندَ الشافعيِّ قولُ مالكٍ؛ قلَّدَه، وكذلك غيرُه.

أمَّا انتقالُ الإنسانِ من قولٍ إلى قولٍ بلا سببٍ شرعيٍّ؛ فلا يؤمُرُ به، وفي تَسْويغِه نزاعٌ.

‌فَصْلٌ في صلاةِ الجمعةِ

‌ومَن تعمَّدَ الصلاةَ في الدَّكاكينِ

معَ إمكانِه من الدخولَ إلى الجامعِ؛ فهؤلاءِ مُخطِئونَ، مخالفونَ للسنةِ.

وإذا لم تتصلِ الصفوفُ، بل كان بينَ الصفَّينِ طريقٌ؛ ففي صحةِ الصلاةِ قولانِ، هما روايتانِ عن أحمدَ

(1)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن تعمد

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 411، الفتوى الكبرى 2/ 335.

وفي مجموع الفتاوى 23/ 407: (وأما صلاة المأموم خلف الإمام خارج المسجد أو في المسجد وبينهما حائل: فإن كانت الصفوف متصلة جاز باتفاق الأئمة، وإن كان بينهما طريق أو نهر تجري فيه السفن؛ ففيه قولان معروفان هما روايتان عن أحمد؛ أحدهما: المنع كقول أبي حنيفة. والثاني: الجواز كقول الشافعي. وأما إذا كان بينهما حائل يمنع الرؤية والاستطراق ففيها عدة أقوال في مذهب أحمد وغيره؛ قيل: يجوز. وقيل: لا يجوز. وقيل: يجوز في المسجد دون غيره. وقيل: يجوز مع الحاجة ولا يجوز بدون الحاجة. ولا ريب أن ذلك جائز مع الحاجة مطلقًا).

ص: 157

‌وجهرُ المؤذِّنِ بالصلاةِ

والترضِّي عندَ رُقِيِّ الخطيبِ المنبرَ، أو جهرُه بالدعاءِ للخطيبِ أو للإمامِ: بدعةٌ، وأشدُّ منه الجهرُ بنحوِ ذلك في الخطبةِ، فكلُّ ذلك بدعةٌ لم تفعَلْ ولم تستحبْ.

‌وقد أمَر صلى الله عليه وسلم بتسويةِ الصفوفِ

(1)

، ورَصِّها، وسَدِّ الأولِ فالأولِ

(2)

، وأن يوسَّطَ الإمامُ

(3)

، وتقاربِها

(4)

؛ يعني: الصفوفَ، فهذه خمسُ سُننٍ.

(1)

كما في حديث أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سووا صفوفكم، فإنَّ تسويةَ الصف من تمام الصلاةِ» رواه البخاري (722)، ومسلم (414).

(2)

كما في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا تصفّون كما تصف الملائكَة عند ربِّها؟» ، فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال:«يتمُّون الصُّفوف الأُوَلَ ويتَراصُّون في الصَّف» رواه مسلم (430).

(3)

كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وسِّطوا الإمام وسدوا الخلل» رواه أبو داود (681).

(4)

كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها» رواه أحمد (13735)، وأبو داود (667)، والنسائي (815).

ص: 158

‌مَن أدركَ ركعةً

من الجمعةِ، ثمَّ قامَ يقضي الأُخرى؛ فإنه يُخافِتُ، فإن الجمعةَ لا يصليها أحدٌ منفردًا، والمسبوقُ إنما يجهرُ فيما يجهرُ فيه المنفردُ، ولا منفردَ هنا.

‌وليس لأحدٍ أن يتَّخذَ مقصورةً

أو نحوَها في المسجدِ يختصُّ بها، ويمنعُ غيرَه، فهذا غيرُ جائزٍ بلا نزاعٍ.

والسنةُ في المسجدِ: أن مَن سبَق إلى بقعةٍ لعملٍ جائزٍ؛ فهو أحقُّ به حتى يقومَ منه؛ لكنِ المصلونَ أحقُّ بالسَّوَاري.

ويجوزُ نصبُ خَيْمةٍ وسِتْرٍ لمن يعتكِفُ.

وكذا لو أقام الرجلُ مدةً إقامةً مشروعةً، كما أذِنَ لوفدِ ثقيفٍ أن ينزلوا بالمساجدِ؛ ليكونَ أرَقَّ لقلوبِهم

(1)

، وأقربَ إلى دخولِ الإيمانِ، وكما مرَّض سعدًا فيه؛ لكونِه أسهلَ لعيادتِه

(2)

، وكالمرأةِ التي كانت تقُمُّ المسجدَ، كان لها حِفشٌ

(3)

فيه، فأمَّا أن يُتَّخذَ المسجدُ مسكنًا دائمًا، ومَبيتًا، ومَقيلًا، ويختصُّ بالحجرةِ دائمًا؛ فهذا يُخرِجُ البقعةَ عن حكمِ المسجدِ.

وقد تنازعَ العلماءُ في صحةِ الصلاةِ في مثلِ هذه المقاصيرِ والأماكنِ

(1)

رواه أحمد (17913)، وأبو داود (3026) من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (463)، ومسلم (1769) من حديث عائشة رضي الله عنه.

(3)

قال في النهاية (1/ 407): الحفش: البيت الصغير. والحديث رواه البخاري (460)، ومسلم (956) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 159

المتحجرةِ على قولينِ، وفاعلُ ذلك مَنْهيٌّ عنه، هذا إذا كان يفعلُه للعبادةِ.

أمَّا مَن يفعَلُه للمحظوراتِ من الأقوالِ المحرَّمةِ، والأفعالِ المحرَّمةِ؛ كمقدماتِ الفواحشِ؛ فلا رَيْبَ في النهيِ عن ذلك، بل قد نهى رسولُ اللهِ عن أن يوطَّن المكانُ في المسجدِ كما يُوطِّنُ البعيرُ

(1)

، فينهى أن يتَّخِذَ الرجلُ مكانًا لا يصلِّي إلا فيه.

ويُصانُ عما يؤذي المصلِّينَ؛ مثلَ: رفعِ الصبيانِ أصواتَهم، وتوسيخِ حُصْرِه، لا سيَّما وقتَ الصلاةِ، فإن ذلك من أعظمِ المنكَراتِ.

ويبيتُ فيه بقدرِ الحاجةِ، ثم ينتقلُ عنه.

‌ويجوزُ إقامةُ جمعتَينِ

في بلدٍ واحدٍ لأجلِ شحناءَ؛ بأن حضروا كلُّهم؛ وقعَتْ بينَهم الفتنةُ، فيجوزُ ذلك للضرورةِ إلى أن تزولَ الفتنةُ، أو تسقطُ الجمعةُ عمَّن يخافُ بحضورِه فتنةً إذا لم يكُنْ ظالمًا.

والواجبُ عليهم الاعتصامُ بحبلِ اللهِ، والاجتماعُ على ما يُرضي اللهَ، وعدمُ التفرقِ.

‌والسؤالُ محرَّمٌ في المسجدِ

، وخارجَ المسجدِ؛ إلا لضرورةٍ، فإن كانَ بهِ ضرورةٌ، ولم يتخطَّ الناسَ، ولا كذَب فيما يرويه ويذكُرُ من حالِه، ولم يجهرْ جهرًا يضُرُّ بالناسِ، مثلُ مَن يسألُ والخطيبُ يخطُبُ،

(1)

رواه أحمد (15532)، وأبو داود (862)، والنسائي (1112)، وابن ماجه (1429) من حديث عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه.

ص: 160

أوْ وَهُم يستمعونَ علمًا يَنتفعونَ به، ونحوِ ذلك؛ جازَ في أظهرِ قولَيِ العلماءِ، كما جاء أن سائلًا سأل، فأمر صلى الله عليه وسلم بإعطائِه، وكان في المسجدِ

(1)

.

‌فَصْلٌ

‌ومَن سلَّم على المصلينَ

، وكان فيهم من يُحسِنُ الردَّ بالإشارةِ؛ فلا بأسَ، كما كان الصحابةُ يسلِّمونَ ويردُّ صلى الله عليه وسلم عليهم بالإشارةِ

(2)

، وإن لم يُحسِنُوا الردَّ بالإشارةِ، بل قد يتكلَّمُ أحدُهم، فلا ينبغي أن يُدخِلهم فيما يقطعُ صلاتَهم، أو يتركُوا الردَّ الواجبَ.

(1)

لم نقف عليه بذكر المسجد، ولعله يشير إلى ما رواه الحاكم (3906)، والبيهقي في شعب الإيمان (3050)، من حديث حذيفة رضي الله عنه: قال: قام سائل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسأل فسكت القوم، ثم إن رجلًا أعطاه فأعطاه القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«من استن خيرًا فاستن به فله أجره، ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئًا، ومن استن شرًّا فاستن به فعليه وزره، ومثل أوزار من اتبعه غير منتقص من أوزارهم شيئًا» .

وروى أبو داود (1670)، عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينًا؟» ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: دخلت المسجد، فإذا أنا بسائل يسأل، فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن، فأخذتها منه فدفعتها إليه.

(2)

ورد ذلك في عدة أحاديث، منها: حديث جابر رضي الله عنه رواه مسلم (540)، وحديث بلال رضي الله عنه عند أحمد (23886) وأبي داود (927) والترمذي (368).

ص: 161

‌ولا تكونُ الصدقةُ إلا لوجهِ اللهِ

، فمن سأل لغيرِ اللهِ من صحابيٍّ، أو شيخٍ، أو غيرِه

(1)

؛ فيُنهَى عن ذلك.

‌وتجوزُ الجمعةُ

في القلعةِ؛ لأنَّها كمدينةٍ أخرى، أو قريةٍ، أو تُشَبَّه بإقامةِ الجمعتينِ للحاجةِ

(2)

.

‌وليس قبلَ الجمعةِ

سنةٌ راتبةٌ، ومنهم مَن قال: إنَّها ظهرٌ مقصورةٌ، فقَبْلَها ما قبلَ الظهرِ، وهو غيرُ سديدٍ؛ لأنَّ الظهرَ المقصورةَ لا سنةَ لها.

ويتوجَّهُ أن يقالَ: لما سنَّ عثمانُ الأذانَ الأولَ واتفقَ المسلمونَ عليه؛ صارَ أذانًا شرعيًّا، وحينئذٍ فتكونُ الصلاةُ بينَه وبينَ الأذان الثاني جائزةً حسنةً، وليست سنةً راتبةً، كالصلاةِ قبلَ المغربِ، فمن فعَلَ لم يُنكَرْ عليه، ومَن ترَك لم يُنكَرْ عليه؛ وهذا أعدَلُ الأقوالِ، وإن لم يكنْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصِلِّي قبلَها شيئًا، فقد قال:«بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ»

(3)

.

وقد يكونُ ترْكُها أفضلَ إذا كان الجهالُ يظُنُّونَ أنَّها سنةٌ راتبةٌ أو واجبةٌ، فتُترَكُ حتى يعرِفَ الناسُ أنَّها ليست راتبةً، لا سيَّما إذا داومَ عليها الناسُ، فينبغي ترْكُها أحيانًا، كما استَحبَّ أكثرُ العلماءِ ألَّا يداومَ

(1)

قال في مجموع الفتاوى (27/ 147): (مثل الذي يقول كرامة لأبي بكر، ولعلي، أو للشيخ فلان، أو الشيخ فلان، بل لا يُعطى إلا من سأل لله، وليس لأحد أن يسأل لغير الله، فإن إخلاص الدين لله واجب).

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وتجوز الجمعة

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 24/ 208، والفتاوى الكبرى 2/ 362.

(3)

رواه البخاري (624)، ومسلم (838) من حديث عبدالله بن مغفل رضي الله عنه.

ص: 162

على قراءةِ السجدةِ يومَ الجمعةِ، وإن فعَلَهه لأجلِ تأليفِ القلوبِ وتركِ الخصامِ؛ فحسَنٌ، فالفعلُ الواحدُ يُستحَبُّ تارةً، ويُترَكُ أخرى بحسَبِ المصالحِ.

وكذلك لو جهَر بالبسملةِ مَن يرى التخافُتَ؛ لأجلِ تأليفِ قلوبِ المأمومينَ خلفَه، أو خافتَ بها مَن يرى الجهرَ؛ فهو حسَنٌ، كما كان عمرُ يجهرُ بالاستفتاحِ لأجلِ تعليمهمِ السُّنةَ فيه، وجهَر غيرُ واحدٍ من الصحابةِ بالاستعاذةِ والبسملةِ؛ ليُعلِمَهم أن قراءَتها في الصلاةِ سنةٌ؛ كما قرأ ابنُ عباسٍ على جَنازةٍ بأمِّ الكتابِ جهرًا

(1)

.

‌والناسُ قد تنازعوا:

فقيل: لا قراءةَ في الجَنازةِ، وقيل: بلى، قيلَ: واجبةٌ، وقيلَ: سنةٌ، وهو أعدلُ الثلاثةِ، فالسلَفُ فعلوا هذا وهذا، كانوا يُصلُّونَ على الجَنازةِ بالقراءةِ وغيرِها، كما يصلُّونَ بالجهرِ بالبسملةِ وبغيرِ جهرٍ، وتارةً باستفتاحٍ وتارةً بغيرِه، برفعِ اليدَيْنِ في المواطنِ الثلاثةِ وتارةً بغيرِ رفعٍ، وتارةً بتسليمتينِ وتارةً واحدةٍ، ويقرؤونَ خلفَ الإمامِ في السرِّ وتارةً لا يقرؤونَ، وتارةً يكبِّرونَ على الجَنازةِ أربعًا، وتارةً خمسًا وتارةً سبعًا، كلُّ ذلك ثابتٌ عنهم، وتارةً بترجيعِ الأذانِ وتارةً بغيرِه، وتارةً بوترِ الإقامةِ وتارةً بغيرِ وترِها.

فهذه الأمورُ وإن كان أحدُها أرجحَ منَ الآخَرِ؛ فمن فعلَ المرجوحَ

(1)

تقدم تخريج أثرَيْ عمر وابن عباس رضي الله عنهم ص

ظظ

ص: 163

فقد فعَلَ جائزًا، وقد يكونُ المرجوحُ أرجحَ للمصلحةِ الراجحةِ، كما قد يكونُ تَرْكُ الراجحِ أرجحَ، وهذا واقعٌ في عامةِ الأعمالِ؛ حتى في حالِ الشخصِ الواحدِ، قد يكونُ المفضولُ له أفضلَ بحسَبِ حالِه؛ لِكونِه عاجزًا عن الأفضلِ، أو لكونِ محبتِه أو رغبتِه واهتمامِه وانتفاعِه بالمفضولِ أكثرَ، فيكونُ أفضلَ في حقِّه؛ لما يقترنُ به من مزيدِ علمِه وحبِّه وانتفاعِه، كالمريضِ ينتفعُ بالدواءِ الذي يَشْتهيه ما لَا ينتفعُ بما لا يَشْتهيه، وإن كان جنسُ ذلك أفضلَ.

ومِن هذا البابِ صار الذِّكْرُ لبعضِ الناسِ في بعضِ الأوقاتِ أفضلَ من القراءةِ، والقراءةُ لبعضِهم في بعضِ الأوقاتِ خيرٌ من الصلاةِ، وأمثالُ ذلك؛ لكمالِ انتفاعِه به، لَا لِأن جنْسَه أفضلُ، وبابُ تفضيلِ بعضِ الأعمالِ على بعضٍ إن لم يعرفْ فيه التفضيلَ، وأنَّه يتنوعُ بتنوعِ الأحوالِ في كثيرٍ من الأعمالِ، وإلا وقَع فيه اضطرابٌ كثيرٌ، فإنَّ من الناسِ مَن إذا اعتَقدَ استحبابَ فعلٍ ورُجْحانَه يحافظُ عليه ما لَا يحافظُ على الواجباتِ، حتى يخرجَ به الأمرُ إلى الهوى والتعصُّبِ والحَمِيةِ الجاهليةِ، كما تجدُه فيمن يختارُ بعضَ هذه الأمورِ، فيراها شعارًا لمذهَبِه.

والواجبُ: أن يُعطَى كلُّ ذي حقٍّ حقَّه، ويُوسَّعَ ما وسَّعَه اللهُ ورسولُه، ويؤلَّفَ ما ألَّفَه اللهُ ورسولُه، ويُراعى ما يحبُّه اللهُ ورسولُه، ويُعلَمَ أن خيرَ الكلامِ كلامُ اللهِ، وخيرَ الهَدي هَدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ اللهَ بعَثَه رحمةً للعالمينَ؛ لسعادةِ الدنيا والآخرةِ

(1)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وليس قبل الجمعة

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 24/ 188، والفتاوى الكبرى 2/ 351.

ص: 164

‌فَصْلٌ

(1)

‌وأمَّا السُّنةُ بعدَ الجمعةِ:

فقد ثبَت أنَّه كان يصلِّي بعدَها ركعتينِ

(2)

، وثبَت بعدَ الظهرِ ركعتينِ، وقبلَها أربعًا

(3)

، وركعتينِ بعدَ المغربِ، وركعتينِ بعدَ العشاءِ، وركعتينِ قبلَ الفجرِ

(4)

، فهذه الراتبةُ التي ثبتَتْ.

وكان يقومُ بالليلِ: إمَّا إحدى عشْرةَ

(5)

، وإمَّا ثلاثَ عشْرةَ

(6)

، فكان مجموعُ صلاتِه بالليلِ والنهارِ قريبًا من أربعينَ ركعةً؛ فرضًا ونَفْلًا.

والناسُ: منهم مَن لا يرى توقيتًا في الرواتبِ كمالكٍ؛ فإنَّه لا يرَى سِوَى الوَتْرِ وركعتَيِ الفجرِ.

ومنهم: مَن يقدرُ أشياءَ بأحاديثَ ضعيفةٍ، بل باطلةٍ؛ كمن يَروِي قبلَ العصرِ أربعًا، أو قبلَ الظهرِ ستًّا، أو بعدَها أربعًا، أو أنه كان يحافظُ على الضُّحى، وأمثالَ ذلك من الأحاديثِ المكذوبةِ.

(1)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 24/ 200، والفتاوى الكبرى 2/ 357.

(2)

رواه البخاري (937)، ومسلم (882) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

رواه مسلم (730) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4)

رواه البخاري (1180)، ومسلم (729) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(5)

رواه البخاري (1137)، ومسلم (738) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(6)

رواه البخاري (183)، ومسلم (763) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 165

وأشَدُّ من ذلك ما يذكُرُه مَن يصنِّفُ في الرقائقِ من الصلواتِ الأسبوعيةِ والحوليةِ المذكورةِ في كتابِ أبي طالبٍ، وأبي حامدٍ، وعبدِ القادرِ، وغيرِهم، وكصلاةِ الألفيةِ التي في أولِ رجبٍ ونصفِ شعبانَ، والاثني عشريةِ في أولِ جمعةٍ من رجبٍ، وفي ليلةِ سبعٍ وعشرينَ من رجبٍ، وصلواتٍ أُخَرَ تُذكَرُ في الأشهرِ الثلاثةِ، وصلاةِ ليلتَيِ العيدينِ، ويومِ عاشوراءَ، وأمثالِ ذلك؛ معَ اتفاقِ أهلِ المعرفةِ على كذِبِ ذلك؛ لكن بلغَتْ أقوامًا من أهلِ الدِّينِ فظنُّوها صحيحةً، فعملوا بها، وهم مأجورونَ على حُسْنِ قصدِهم.

وأمَّا مَن ثبتَتْ له السُّنةُ فظنَّ أن غيرَها أفضلُ؛ فهو ضالٌّ، بل كافرٌ.

وصحَّ أنه قال: «مَن كان مصلِّيًا بعدَ الجمعةِ؛ فلْيُصَلِّ أربعًا»

(1)

، ورُوِي الستُّ عن طائفةٍ من الصحابةِ

(2)

.

والسُّنةُ أن يُفصَلَ بينَ الفرضِ والنَّفْلِ في الجمعةِ وغيرِها بقيامٍ أو كلامٍ، ولم يُصَلِّ صلى الله عليه وسلم قبلَ الجمعةِ بعدَ الأذانِ شيئًا، ولا نقَل هذا عنه أحدٌ، ولا نُقِل أنَّه صلَّى في بيتِه قبلَ الخروجِ منه، ولا وقَّتَ بقولِه صلاةً مقدرةً قبلَ الجمعةِ، بل رغَّب في الصلاةِ إذا قدِمَ الرجلُ المسجدَ يومَ الجمعةِ

(3)

.

(1)

رواه مسلم (881) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه ابن أبي شيبة (1/ 464)، عن ابن مسعود وابن عمر وأبي موسى رضي الله عنهم.

(3)

كما روى البخاري (883)، من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» .

ص: 166

فمن أصحابِه مَن كان يصلِّي عشرةً، واثنتي عشرةَ، وثمانيةً، وأقلَّ وأكثرَ

(1)

؛ على قدرِ التيسيرِ.

(1)

رويت الأربع عن ابن مسعود رضي الله عنه، والثمان عن ابن عباس رضي الله عنهما، رواهما ابن المنذر في الأوسط (4/ 97).

قال ابن المنذر في الأوسط (4/ 97): (وقد روينا عن ابن عمر: أنه كان يصلي قبل الجمعة اثنتي عشرة ركعة، وعن ابن عباس: أنه كان يصلي قبل أن يأتي الجمعة ثمان ركعات، وروي عن ابن مسعود: أنه كان يصلي قبل الجمعة اثني عشرة ركعة).

ص: 167

‌بَابُ صَلَاةِ العِيدِ

‌التكبيرُ في الفطرِ أوكدُ

؛ لكونِه أمَر اللهُ به

(1)

، وفي النَّحرِ أوكدُ من جهةِ أنَّه يُشرَعُ أدبارَ الصَّلَواتِ، ومتفقٌ عليه، ويجتمعُ فيه المكانُ والزمانُ.

وعيدُ النحرِ أفضلُ

(2)

.

‌ومَن تعمَّدَ تركَ صلاةِ العيدِ

، وصلَّى في بيتِه أو مسجدِه بلا عذرٍ؛ فهو مبتدعٌ.

‌ومَن رأى هلالَ ذي الحِجَّةِ

ولم يثبُتْ بقولِه؛ له صومُ يوم التاسعِ في الظاهرِ عندَ مَن يقولُ: لا يفطرُ برؤيةِ هلالِ شَوَّالٍ وحدَه

(3)

.

ومَن يُسوِّغُ له الفطرَ يومَ الثلاثينَ سرًّا؛ لا يُسوِغ له صومَ هذا اليوم؛ لأنَّه عندَه يومُ العيدِ، وليسَ له الوقوفُ بعرفةَ، ولا التضحيةُ قبلَ الناسِ في مِنًى، ولا في الأمصارِ، بل يُعرِّفُ معَ الناسِ في اليومِ الذي هو في

(1)

قال تعالى: (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم).

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (التكبير في الفطر

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 24/ 221، الفتاوى الكبرى 2/ 370.

(3)

واختار شيخ الإسلام: أن من رأى هلال الصوم وحده أو هلال الفطر وحده؛ فإنه يصوم مع الناس ويفطر مع الناس. ينظر: مجموع الفتاوى 25/ 114.

ص: 168

الظاهرِ التاسعُ؛ وإن كان بحسَبِ رؤيتِه العاشرَ.

فالهلالُ إذا لم يطلُعْ للناسِ ويَسْتهلُّوا به؛ لم يكُنْ هلالًا، وكذا الشهرُ مأخوذٌ من الشهرةِ، وإنما يغلَطُ كثيرٌ من الناسِ في هذه المسألةِ لظنِّهم أنَّه إذا طلَع في السماءِ كان تلك الليلةَ أولَ الشهرِ؛ سواءٌ ظهر للناسِ واستهلوا به أوْ لا، وليس الأمرُ كذلك، بل لا بدَّ من ظهورِه واستهلالِهم به، ولهذا قال:«صَوْمُكم يومَ تصومونَ، وفطرُكم يومَ تُفطِرونَ، وأَضْحاكم يومَ تُضَحُّونَ»

(1)

أي: هو اليومُ الذي تعلمونَ أنَّه وقتُ الصومِ والفطرِ والأضحى.

فينبغي أن يصومَ يومَ التاسعِ ظاهرًا، وإن كان بحسابِ رؤيتِه عاشرٌ.

فصومُ اليومِ الذي يُشَكُّ فيه؛ هل هو تاسعُ ذي الحَجةِ، أو عاشرٌ؛ جائزٌ بلا نزاعٍ بينَ العلماءِ؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ العاشرِ، كما لو شكُّوا ليلةَ الثلاثينَ من رمضانَ لم يكُنْ شَكًّا بالاتفاقِ، بخلافِ ليلةِ الثلاثينَ من شعبانَ؛ لأن الأصلَ بقاءُ شعبانَ.

وكذلك المنفردُ برؤيةِ شَوَّالٍ؛ لا يُفطِرُ علانيةً باتفاقِ العلماءِ، وهل يُفطِرُ سرًّا؟ على قولينِ، أصَحُّهما: لا يُفطِرُ.

‌ولا يجوزُ الاعتمادُ على الحسابِ

بالنجومِ باتفاقِ الصحابةِ والسنةِ، كما قد بيَّنْتُه في مواضِعه

(2)

، وأن علماءَ الهيئةِ يعلمونَ أن الرؤيةَ لا

(1)

رواه الترمذي (697) واللفظ له، وابن ماجه (1660)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

ينظر: رسالة في الهلال في مجموع الفتاوى 25/ 126.

ص: 169

تنضبطُ بأمرٍ حسابيٍّ وبينتُ حدَّ اليومِ، وأنَّه لا ينضبطُ بالحسابِ؛ لأنَّ النهارَ يظهرُ بسببِ الأبخرةِ، فمتى أرادَ أن يأخذَ حصةَ العشاءِ من حصةِ الفجرِ؛ إنما يصحُّ لو كان الموجِبُ لظهورِ النورِ وخفائِه مجردَ محاذاةِ الأفقِ التي تُعلَمُ بالحسابِ، فأمَّا إذا كان للأبخرةِ تأثيرٌ فالبخارُ يكونُ في الشتاءِ أكثر، والأماكنِ

(1)

الرطبةِ، فلا يضبطُ بالحسابِ، ولهذا توجدُ حصةُ الفجرِ في زمانِ الشتاءِ أطولَ منها في زمنِ الصيفِ، والقياسُ الحسابيُّ يُشكِلُ عليه ذلك؛ لأنَّ حصةَ الفجرِ عندَه تتبعُ النهارَ، وهذا مبسوطٌ في موضعِه، واللهُ أعلمُ

(2)

.

(1)

كذا في (ك) و (ع)، وفي الأصل: والأمكان.

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن رأى هلال

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 25/ 202، الفتاوى الكبرى 2/ 460.

ص: 170

‌بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ

‌قراءةُ الأنعامِ في ركعةٍ واحدةٍ

في رمضانَ أو غيرِه؛ بدعةٌ؛ سواءٌ تحرَّوا فضلَ ليلةٍ بعينِها، أوْ لا، كما يفعَلُه بعضُ الناسِ يقرؤُها في آخِرِ ركعةٍ من صلاةِ الوَتْرِ، يُطوِّلُ على الناسِ، ويهُذُّها هذًّا مكروهًا

(1)

.

‌وإذا صلَّى ليلةَ النصفِ وحدَه

، أو بجماعةٍ خاصةٍ؛ فهو حسنٌ، أمَّا الاجتماعُ على صلاةٍ في المساجدِ مقدرةٍ

(2)

بمائةِ ركعةٍ، بقراءةِ ألفِ {قل هو الله أحد} دائمًا: فهي بدعةٌ، لم يستحِبَّها أحدٌ

(3)

.

‌ويُكرَهُ للناسِ أن يُداوموا في الجماعةِ

على غيرِ ما شُرِعتْ المداومةُ عليه؛ لكن إذا اجتمعوا على إحياءِ العشْرِ الآخِرِ فقد أحسَنوا، ففيه ليلةُ القَدْرِ.

والاجتماعُ على صلاةِ النَّفْلِ أحيانًا مما لا تُستحَبُّ فيه الجماعةٌ إذا

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (قراءة الأنعام

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 121، الفتاوى الكبرى 2/ 255.

(2)

كذا في (ك) و (ع)، وفي الأصل: مقررة.

(3)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا صلى

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 202، الفتاوى الكبرى 2/ 262.

ص: 171

لم يُتَّخَذْ راتبةً؛ حسنٌ، وكذا إذا كان لمصلحةٍ؛ مثلُ: ألا يُحسِنَ أن يصلِّيَ وحدَه، أو لا ينشطَ؛ فعلُها في الجماعةِ أفضلُ إذا لم تُتَّخذْ راتبةً، وفعلُها في البيتِ أفضلُ إلا لمصلحةٍ راجحةٍ.

‌وصلاةُ القدرِ

التي تُصلَّى بعدَ التراويحِ ركعتينِ، ثمَّ في آخِرِ الليلِ يُصلُّونَ تمامَ مائةِ ركعةٍ: بدعةٌ مكروهةٌ

(1)

.

‌والاجتماعُ المعتادُ

في المساجدِ على صلاةٍ مقدرةٍ بدعةٌ.

‌والتراويحُ سنةٌ

بعدَ العشاءِ، والرافضةُ تكرهُ صلاةَ التراويحَ.

‌وقولُه: «بينَ كلِّ أذانينِ صلاةٌ»

(2)

؛ المرادُ به: بينَ الأذانِ والإقامةِ، فهي مستحبةٌ بينَ كلِّ أذانٍ وإقامةٍ، لكن ليست راتبةً.

‌وثبَت في «صحيحِ مسلمٍ»

أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي بعدَ الوَتْرِ ركعتينِ وهو جالسٌ؛ لكن جاء مُفسَّرًا في الحديثِ الطويلِ في «مسلمٍ»

(3)

: أنه كان يُوتِرُ بإحدى عشْرةَ، وأنه بعدُ أوترَ بتسعٍ، وصلَّى بعدَ ذلك ركعتينِ وهو جالسٌ، فتلك إحدى عشْرةَ، وكذلك لما أَوْترَ بسبعٍ، فهذا نصٌّ أنه لم يكُنْ يداومُ عليها.

‌وويلٌ للعالِمِ

إذا سكَتَ عن تعليمِ الجاهلِ، وويلٌ للجاهلِ إذا لم يقبلْ.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وصلاة القدر

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 122، الفتاوى الكبرى 2/ 256.

(2)

رواه البخاري (624)، ومسلم (838) من حديث عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه.

(3)

، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 172

‌وليس للمسلمِ

أن يَسْتفتي إلَّا مَن يعلمُ أنَّه مِن أهلِ العلمِ والدِّينِ، ولا يقتديَ إلا بمن يصلُحُ للاقتداءِ.

‌إذا كان الرجلانِ

من أهلِ الديانةِ؛ فأيُّهما كان أعلمَ بالكتابِ والسُّنةِ وجَب تقديمُه على الآخَرِ متعينًا؛ فيؤمُّه

(1)

.

‌وليس للإمامِ

تأخيرُ الصلاةِ عن الوقتِ المستحَبِّ وبعدَ حضورِ أكثرِ الجماعةِ منتظِرًا لأحدٍ، بل يُنهَى عن ذلك إذا شقَّ، ويجبُ عليه رعايةُ المأمومينَ.

‌قال سليمانُ:

رأيتُ ابنَ عمرَ جالسًا على البلاطِ، والناسُ يصلُّونَ، فقلتُ: ما لك لا تصلِّي؟! فقال: سمعتُ رسولَ اللهِ يقولُ: «لا تُعادُ صلاةٌ مرتينِ»

(2)

، وقد قال للرجلينِ:«إذا صلَّيْتُما في رِحالِكما، ثم أتَيْتُما مسجدَ جماعةٍ فصَلِّيا»

(3)

.

الجمعُ بينَهما: أنَّ ابنَ عمرَ لم يكُنْ له سببٌ يعيدُ صلاتَه، بخلافِ الرجلينِ، فإنهما صلَّيَا في رحالِهما، ثم أَتَيا مسجدَ جماعةٍ، سببُ الإعادةِ حضورُ الجماعةِ الراتبةِ، بخلافِ الإعادةِ بلا سببٍ، فإنها مكروهةٌ.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا كان الرجلان

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 341، الفتاوى الكبرى 2/ 306.

(2)

رواه أحمد (4689)، وأبو داود (579)، والنسائي (860)، بلفظ:«لا تعاد الصلاة في يوم مرتين» ، وسليمان هو ابن يسار.

(3)

رواه أحمد (17474)، والترمذي (219)، والنسائي (858) من حديث يزيد من الأسود رضي الله عنه.

ص: 173

ومن السببِ: الحديثُ الذي في «سننِ أبي داودَ» ؛ وهو قولُه: «ألا رجلٌ يتصدَّقُ على هذا»

(1)

، فالمتصدقُ أعادَ لتحصلَ لذلك المصلِّي فضيلةُ الجماعةِ.

ومن السببِ: ما جاء عنه أنه صلَّى صلاةَ الخوفِ مرتينِ

(2)

.

وحديثُ معاذٍ: كان يصلِّي معَه، ثم يصلِّي لقومِه

(3)

.

ويُشبِهُ هذا: إعادةُ صلاةِ الجَنازةِ لمن صلَّى عليها أولاً، فلا يُشرَعُ بغيرِ سببٍ باتفاقِ العلماءِ، بل لو صُلِّي عليه مرةً، ثم حضَر مَن لم يُصَلِّ عليه؛ هل يصلِّي عليه؟ على قولينِ:

قيلَ: يصلِّي، وهو مذهبُ الشافعيِّ وأحمدَ.

وعندَ مالكٍ وأبي حنيفةَ: يُنهَى عن ذلك، كما يَنْهيانِ عن إقامةِ الجماعةِ في المسجدِ مرةً بعدَ مرةٍ. قالوا: لأن الفرضَ سقَطَ بالأولى، وصلاةُ الجَنازةِ لا يُتطوَّعُ بها.

وأصحابُ الشافعيِّ وأحمدَ يُجِيبونَ بجوابينِ:

أحدُهما: أنَّ الثانيةَ تقَعُ فرضًا عمَّن فعَلها، وكذلك يقولونَ في سائرِ فروضِ الكفاياتِ: أنَّ مَن فعلَها أسقطَ بها فرضَ نفْسِه، وإن كان غيرُه

(1)

رواه أبو داود (574)، والترمذي (220)، وأحمد (11408) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (4136)، ومسلم (843)، من حديث جابر رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (705)، ومسلم (4654)، من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 174

قد فعَلَها فهو مُخيَّرٌ بينَ أن يكتفيَ بإسقاطِ ذلك، وبينَ أن يُسقِطَ الفرضَ بنفْسِه.

وإذا قيلَ: هي نافلةٌ، فيمنعونَ قولَ القائلِ: لا يُتطوَّعُ بصلاةِ الجَنازةِ؛ بل قد يُتطوَّعُ بها إذا كان هناك سببٌ يقتضي ذلك.

وينبني على هذينِ المأخذينِ: أنَّه إذا أعادَ الجَنازةَ مَن لم يصلِّ عليها أوَّلاً؛ فهل لمن صلَّى عليها أوَّلاً أن يصليَ معه تبعًا؟ على وجهينِ:

قيلَ: لا يجوزُ هنا؛ لأنَّ فعلَه هنا نَفْلٌ بلا نزاعٍ، وهي لا يُتنفَّلُ بها.

وقيلَ: بل له الإعادةُ، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما صلَّى على القبرِ صلَّى خلفَه مَن كان قد صلَّى أولًا

(1)

، وهذا أقربُ؛ لأنه إعادةٌ تبعًا لسببٍ اقتضاه، لا إعادةٌ مقصودةٌ، وهذا سائغٌ في المكتوبةِ والجَنازةِ

(2)

.

‌وقراءةُ القرآنِ للهِ تعالى

فيه الثوابُ العظيمُ، ولو قصد بذلك أنَّه لا ينساه أيضًا، فإن نسيانَه منَ الذنوبِ، فإذا قصد أداءَ الواجبِ من دوامِ الحفظِ، واجتنابِ النهيِ؛ فقد قصَد طاعةً، فكيفَ لا يُؤجَرُ؟!

‌وقولُ القائلِ:

«اللهم أمِّنَّا مَكْرَكَ، ولا تُؤمِّنَّا مكرَكَ» له معنيانِ؛ أحدُهما صحيحٌ، والآخَرُ فاسدٌ.

(1)

رواه مسلم (954)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ولفظه:«انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب، فصلى عليه، وصفوا خلفه، وكبر أربعًا» .

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (قال سليمان

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 259، الفتاوى الكبرى 2/ 282.

ص: 175

فإن أرادَ: «لا تؤمِّنَّا مكرَكَ» ؛ أي: لا تجعَلْنا نأمَنُه، بل اجعَلْنا نخافُه، فالمؤمنُ يخافُ مكرَ اللهِ، فيُعاقِبُه على سيئاتِه، والكافرُ لا يَخْشى اللهَ، فلا يخافُ مكرَه، ومكرُه أن يُعاقِبَه على الذنبِ؛ لكن من حيثُ لا يشعرُ.

وقولُه: «أمِّنَّا مكرَكَ» ؛ يريدُ به قولَه: {أولئك لهم الأمن} ، ليجعل له الأمن أن يمكرَ بهم، وإن كانوا يخافونَ المكرَ، فيكونُ حقيقةُ قولِه:«أَمِّنَّا مكرَكَ» : اُؤْجُرْني على حسناتي، ولا تُعاقِبْني بذنوبِ غيري، {فلا يخاف ظلما ولا هضما} .

وأمَّا المعنى الفاسدُ: فأن يريدَ: اللهم اجعلنَا نأمن مكرَكَ؛ أي: لا نخافُك أن تمكرَ بنا، وقد يريدُ: لا تُؤمِنَّا مكرَكَ؛ أي: لا تجعلْ لنا أمنًا من العذابِ، فهذا خطأ، إذ معناه: اجعلنا ممن تعاقبه، أو: اجعلنا ممن

(1)

لا يخاف عذابك، {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} .

‌فَصْلٌ

‌قولُ عائشةَ: «ما قام

رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةً إلى الصباحِ، وما صام شهرًا كاملًا إلا رمضانَ»

(2)

، وصحَّ عنها: «أنه كان يصومُ شعبانَ إلا

(1)

هكذا في (ك)، وفي الأصل: من.

(2)

رواه مسلم (746).

ص: 176

قليلًا، بل كان يصومُه كلَّه»

(1)

، وأنه «كان إذا دخَل العشْرُ شدَّ المِئْزرَ، وأحيا الليلَ كلَّه»

(2)

، فحمل بعضُهم روايةَ الشكِّ على روايةِ الجزمِ، وكذلك مَن صلَّى غالبَ الليلِ قد يقالُ: إنه أحياه، أو أنها نفَتِ القيامَ، وأثبتتِ الإحياءَ الذي يكونُ بقيامٍ، وقراءةٍ، وذِكْرٍ، ودعاءٍ، وغيرِ ذلك.

‌والأوتارُ:

هل هي باعتبارِ ما مضى، أو باعتبارِ ما بقِيَ؟ فليلة إحدى وعشرينَ، وثلاثةٍ وخمسةٍ وسبعةٍ وتسعةٍ: باعتبارِ ما مضى، وباعتبارِ ما بقِيَ لتسعٍ بقينَ، وسبعٍ بقينَ، ونحوِ ذلك، فإذا كان الشهرُ ناقصًا، فقيلَ لتسعٍ بقينَ؛ كانت ليلةَ إحدى وعشرينَ، فيكونُ وترَ المستقبلِ والماضي، وإن كان الشهرُ كاملًا كانت الأوتارُ هي الأشفاعَ باعتبارِ الماضي، كما فسَّرَ ذلك أبو سعيدٍ وغيرُه

(3)

، ولهذا كانت ليلةُ القدرِ كثيرًا ما تكونُ لسبعٍ

(4)

مضَيْنَ، ولسبعٍ بقينَ، فتكونُ ليلةَ أربعٍ وعشرينَ، وهي التي

(1)

رواه البخاري (1970)، ومسلم (1156).

(2)

رواه البخاري (2024)، ومسلم (1174).

(3)

رواه مسلم (1167) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس، إنها كانت أُبينت لي ليلة القدر، وإني خرجت لأخبركم بها، فجاء رجلان يَحْتَقَّان معهما الشيطان، فنُسِّيتُها، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» قال قلت: يا أبا سعيد، إنكم أعلم بالعدد منا، قال: أجل، نحن أحق بذلك منكم، قال قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة؟ قال: إذا مضت واحدة وعشرون، فالتي تليها ثنتين وعشرين وهي التاسعة، فإذا مضت ثلاث وعشرون، فالتي تليها السابعة، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة.

(4)

في هامش الأصل: (لعل صوابه: لأربع).

ص: 177

رُوِي أن القرآنَ نزل فيها

(1)

.

فالتحقيق: أنها تكونُ في العشْرِ الأواخرِ في الأوتارِ؛ لكن بالاعتبارينِ.

وأمَّا ليلةُ سبعَ عشْرةَ من رمضانَ؛ فلا رَيْبَ أنها ليلةُ يوم بدرٍ، وهو {يوم الفرقان يوم التقى الجمعان} ، ولم يجِئْ حديثٌ يُعتمَدُ عليه أنها ليلةُ القدرِ، وإن كان قالَه بعضُ الصحابةِ

(2)

، كما قال ابنُ مسعودٍ:«مَن يقُمِ الحولَ يُصِبْها»

(3)

، وبعضُهم يعيِّنُ لها ليلةً من العشرِ

(4)

.

والصحيح: أنها في العشْرِ الأواخِرِ تنتقلُ، فروَى البخاريُّ:«ليلةُ القدرِ في العشْرِ الأواخِرِ من رمضانَ»

(5)

.

‌والأحاديثُ المرويةُ

في أولِ ليلةِ المحرَّمِ، وليلةِ عاشوراءَ، وأولِ

(1)

روى الإمام أحمد (16984) عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لستٍّ مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان» .

(2)

روى عبد الرزاق (7697)، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:«تحروا ليلة القدر ليلة سبع عشرة صباحة بدر، أو إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين» .

(3)

رواه مسلم (762)، وعبد الرزاق (7700).

(4)

ينظر: مصنف عبد الرزاق (4/ 246 وما بعدها)، وابن أبي شيبة (2/ 249 وما بعدها).

(5)

رواه البخاري (2022)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 178

ليلةٍ من رجبٍ، وأولِ ليلةِ جمعةٍ من رجبٍ، وليلةِ سبعٍ وعشرينَ منه، وليلتي العيدينِ، والألفيةِ ليلةَ النصفِ: كلُّها كذِبٌ موضوعةٌ، ولم يكُنْ أحدٌ يأمرُ بتخصيصِ هذه الليالي بقيامٍ أصلًا.

‌وقولُ أحمدَ:

(إذا جاء الترغيبُ والترهيبُ تساهَلْنا في الإسنادِ)؛ إنما أرادَ أنَّه إذا كانَ الأمرُ مشروعًا، أو منهيًّا عنه بأصلٍ مُعتمَدٍ، ثم جاء حديثٌ فيه ترغيبٌ في المشروعِ أو ترهيبٌ في النهيِ عنه، لا نَعلَمُ أنه كذِبٌ، وما فيه من الثوابِ والعقابِ قد يكونُ حقًّا؛ ولو قُدِّرَ أنه ليس كذلك فلا بدَّ فيه من ثوابٍ وعقابٍ.

أمَّا أنه يَرْويه معَ علمِه بأنه كذِبٌ؛ فمَعاذَ اللهِ، لا يجوزُ ذلك؛ إلا معَ بيانِ حالِه، ولا يُستنَدُ إليه في ترغيبٍ ولا غيرِه.

وكذلك لا يجوزُ أن يُثبَتَ به حكمٌ شرعيٌّ؛ من نَدْبٍ، أو كراهةٍ، أو فضيلةٍ، ولا عملٌ مُقدَّرٌ في وقتٍ معينٍ بحديثٍ لم يُعلَمْ حالُه أنه ثابتٌ، فلا بدَّ من دليلٍ ثابتٍ يثبُتُ فيه الحكمُ الشرعيُّ؛ وإلا كان قولًا على اللهِ بغيرِ علمٍ

(1)

.

‌ومن العجبِ

أن طائفةً من أصحابِ أحمدَ فضَّلوا ليلةَ الجمعةِ على ليلةِ القدرِ، ورَأَوْا أن إحياءَها أفضلُ من إحياءِ ليلةِ القدرِ

(2)

، وقد ثبَتَ

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وقول أحمد

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 18/ 65.

(2)

حكى ابن عقيل ذلك رواية عن أحمد، واختارها: ابن بطة وأبو الحسن الخرزي وأبو حفص البرمكي. ينظر: الفروع 5/ 128، الإنصاف 7/ 558.

ص: 179

في الصحيحِ النهيُ عن تخصيصِها بقيامٍ

(1)

، معَ أنه ثبت بالتواترِ أن ليلةَ القدرِ أمَر اللهُ بالقيامِ فيها، وأنه صلى الله عليه وسلم حضَّ على قيامِها

(2)

، وأنها لا عِدْلَ لها من ليالي العامِ.

‌ومَن أصرَّ على تَرْكِ الوَتْرِ

؛ رُدَّتْ شهادتُه.

‌وأفضلُ الصلاةِ بعدَ المكتوبةِ

؛ قيامُ الليلِ، وأوكَدُه الوَتْرُ، ورَكْعتا الفجرِ

(3)

.

‌قضاءُ سنةِ الفجرِ

قبلَ طلوعِ الشمسِ؛ جائزٌ في أصحِّ قولَيِ العلماءِ.

‌وكذا قضاءُ الراتبةِ

؛ مثلُ سنةِ الظهرِ بعدَ العصرِ، فيه قولانِ، هما روايتانِ عن أحمدَ، الأصحُّ: الجوازُ.

(1)

رواه مسلم (1144)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

ومن ذلك: ما رواه البخاري (1901) ومسلم (760)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه» .

(3)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن أصر

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 88، والفتاوى الكبرى 2/ 237.

ص: 180

‌بَابُ الأَدْعِيَةِ وَالأَذْكَارِ

‌جهرُ الإمامِ والمأمومِ

بقراءةِ آيةِ الكُرْسيِّ بعدَ الصلاةِ؛ مكروهةٌ بلا رَيْبَ، ورُوِي في قراءتِها حديثٌ

(1)

؛ لكنه ضعيفٌ جدًّا.

وكذا جهرُ الإمامِ والمأمومِ بقراءةِ الفاتحةِ دائمًا، أو خواتيمِ البقرةِ، أو أولِ الحديدِ، أو آخرِ الحَشْرِ، أو اجتماعُ الإمامِ والمأمومِ دائمًا على صلاةِ ركعتينِ عَقيبَ الفريضةِ، ونحوِ ذلك مما لا ريبَ أنه مِن البدعِ.

وأمَّا إذا قرأ الإمامُ أو المأمومُ آيةَ الكُرْسيِّ في نفْسِه؛ فلا بأسَ به؛ إذ هي عملٌ صالحٌ، كما لو كان له وِرْدٌ من القراءةِ أو الدعاءِ أو الذِّكْرِ عقيبَ الصلاةِ فلا بأسَ به.

والمشروعُ ما ثبَت في الصحيحِ: (لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ)

(2)

، ونحوُه.

وثبَت أيضًا: «أن تُسبِّحَ وتحمَدَ وتكبِّرَ كلَّ واحدةٍ ثلاثًا وثلاثينَ»

(3)

، ورُوِي:«عشرًا، عشرًا، عشرًا»

(4)

، ورُوِي: «أحدَ عشَرَ، أحدَ

(1)

تقدم تخريجه ص .... ظظ.

(2)

رواه البخاري (844)، ومسلم (593)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (843)، ومسلم (595)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري (6329)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 181

عشَرَ»

(1)

، ورُوِي:«ثلاثًا وثلاثينَ، ويختمُ المئةَ بالتوحيدِ التامِّ»

(2)

، ورُوِي:«أن يقولَ كلَّ واحدةٍ من الكلماتِ الأربعِ خمسًا وعشرينَ»

(3)

.

فهذه ستةُ أنواعٍ قد صحَّتْ عنه.

وأمَّا دعاءٌ

(4)

؛ فقد نُقِل أنه أمَر معاذًا أن يقولَ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ: «اللهُمَّ أعِنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكرِك، وحُسْنِ عبادتِك»

(5)

، ونحوُ ذلك.

لكنَّ لفظَ «دُبُر» قد يرادُ به: آخِرُ جزءٍ من الصلاةِ، كما يرادُ بدُبُرِ الشيءِ: مؤخَّرُه، وقد يرادُ به: ما بعدَ انقضائِها؛ كقولِه: {وأدبار السجود} ، وقد يرادُ مجموعُهما.

أمَّا دعاءُ المأمومينَ معَ الإمامِ جميعًا: فهذا لا ريبَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يفعَلْه في أعقابِ المكتوباتِ، ولهذا كان العلماءُ المتأخِّرونَ في ذلك على ثلاثةِ أقوالٍ:

(1)

رواه مسلم (595)، من طريق سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول سهيل:«إحدى عشرة، إحدى عشرة، فجميع ذلك كله ثلاثة وثلاثون» .

(2)

رواه مسلم (597)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

رواه أحمد (21600)، والترمذي (3413)، والنسائي (1350)، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.

(4)

في (ك): الدعاء. وعبارة مجموع الفتاوى 22/ 516: (وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعًا عقيب الصلاة؛ فلم ينقل هذا أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن نقل عنه أنه أمر معاذًا أن يقول دبر كل صلاة

).

(5)

رواه أحمد (22119)، وأبو داود (1522)، والنسائي (1303)، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.

ص: 182

منهم: مَن يستحِبُّه عقيبَ الفجرِ والعصرِ؛ كطائفةٍ من أصحابِ مالكٍ وأحمدَ وأبي حنيفةَ وغيرِهم.

ومنهم: مَن استَحبَّه أدبارَ الصلواتِ كلِّها، وقال: لا يجهرُ به إلا إذا أرادَ التعليمَ، كما ذكَرَه طائفةٌ من أصحابِ الشافعيِّ وغيرِه.

وليس معهم حجةٌ بعدَ الصلاةِ بذلك، بل الحجةُ قبلَ فَراغِه من الصلاةِ فيه مناسبةٌ؛ إذ هو مُقبِلٌ على المناجاةِ؛ حتى أوجَبَه بعضُهم - وهو قولٌ في المذهبِ -، والأئمةُ الكبارُ لم يستحِبُّوا ذلك بعدها، لكن إن فُعِل أحيانًا لأمرٍ عارضٍ؛ كاستسقاءٍ ونحوِه؛ فلا بأسَ، كما لو ترَكَ الذِّكْرَ المشروعَ لعارضٍ فلا بأسَ، فالدعاءُ قبلَ انصرافِه مناسبٌ، بخلافِ بعدَ انصرافِه، إنما يناسبُ الذِّكْرُ والثناءُ.

وأمَّا رفعُ اليدينِ: فقد جاء فيه أحاديثُ كثيرةٌ صحيحةٌ

(1)

.

وأمَّا مسحُ الوجهِ: ففيه حديثانِ لا تقومُ بهما حجةٌ

(2)

.

(1)

منها ما رواه البخاري (1013)، ومسلم (897)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ومنها ما رواه مسلم (895) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(2)

منها: ما رواه أحمد (17943)، وأبو داود (1492)، عن السائب عن أبيه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا فرفع يديه، مسح وجهه بيديه» .

ومنها: ما رواه الترمذي (3386)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء، لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه» .

ومنها: ما رواه أبو داود (1485)، وابن ماجه (1181)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعوت الله فادع بباطن كفيك، ولا تدع بظهورهما، فإذا فرغت فامسح بهما وجهك» .

ينظر أصل الفتوى من قوله: (جهر الإمام

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 508 - 516، والفتاوى الكبرى 2/ 213 - 218.

ص: 183

‌لا يُستحَبُّ عقيبَ الختمةِ

قراءةُ الإخلاصِ ثلاثًا، بل يُقرَأُ كما في المصحفِ، بخلافِ قراءتِها منفردةً.

ومَن استَحبَّ أن يقرأَ بالفاتحةِ وخواتيمِ البقرةِ؛ فهو مُخطِئٌ باتفاقِ الناسِ، وإن كان قالَه طائفةٌ من أصحابِ أحمدَ وغيرِهم.

‌فَصْلٌ

‌آلُ محمدٍ فيه قولانِ:

أحدُهما: أنهم أهلُ بيتِه الذين حُرِموا الصدقةَ؛ نصَّ عليه أحمدُ والشافعيُّ؛ وهو أصحُّ.

وعلى هذا: ففي تحريمِ الصدقةِ على أزواجِه، وكونِهن من أهلِ بيتِه روايتانِ، الأصَحُّ: دخولُهن دونَ مَواليهنَّ؛ كبَرِيرةَ، بخلافِ موالي الرجالِ.

وعلى هذا: أهلُ بيتِه بنو هاشمٍ؛ من ذريةِ أبي طالبٍ والعباسِ والحارثِ بن عبدِ المطلبِ أعمامِ النبيِّ، فذريةُ هؤلاءِ الثلاثةِ أهلُ بيتِه، وكذلك ذريةُ أبي لهبٍ عندَ الجمهورِ، وليس لأعمامِه نَسْلٌ غيرُ هؤلاءِ الأربعةِ.

ص: 184

وأفضلُ أهلِ بيتِه: عليٌّ وفاطمةُ وحسنٌ وحسينٌ؛ الذينَ أدارَ عليهم الكساءَ، وخصَّهم بالدعاءِ

(1)

.

وأمَّا بنو المطلبِ: هل هُم مِن أهلِه ومن أهلِ بيتِه الذين تحرُمُ عليهم الصدقةُ؟ على روايتينِ.

والقولُ الثاني

(2)

: أن آل محمدٍ هم أمتُه، أو الأتقياءُ من أمتِه، رُوِي عن مالكٍ وطائفةٍ من أصحابِ أحمدَ، وغيرِهم.

ولفظُ «آل فلانٍ» إذا أُطلِقَ؛ دخَل فيه فلانٌ، وقد يقالُ: محمدٌ وآلُ محمدٍ، فلا يدخُلُ فيهم محمدٌ.

وثبتَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يقولُ أحياناً: «اللَّهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ»

(3)

، وأحياناً:«وعَلى أزواجِه وذُريَّتِه»

(4)

؛ فمن جمع بينهما فقد خالف السنة.

وكذلك لفظُ أهلِ البيتِ.

وأصلُ «آل» : أَوَل، تحرَّكت الواوُ، انفتحَ ما قبلَها، قُلِبتْ ألفًا،

(1)

ألحق في هامش الأصل دون الإشارة إلى موطنها، قوله:(ويُكرهُ أن يُسلِّمَ فيقولَ: أسألُكَ الفوزَ بالجنَّةِ والنَّجاةِ مِن النَّار بين التَّسليمتين)، وهي مسألة من فتوى أخرى ليس هذا موطنها، وقد وضعناها في آخر هذا الفصل حتى لا تكون مقحمة في وسط المسألة المذكورة.

(2)

أي: فيمن يدخل في آل محمد.

(3)

رواه البخاري (3370) ومسلم (406)، من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري (3369)، ومسلم (407)، من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.

ص: 185

ومَن قال: إن أصلَه: «أهل» فقد غلِطَ؛ لأن «أهلَ» يُضافُ إلى الجمادِ وغيرِه، وأمَّا «آل» فإنما يُضافُ إلى مُعظَّمٍ من شأنِه أن يؤولَ غيرَه؛ أي: يسوسه، فيكونُ مآلُه إليه، فيتناولُ نفْسَه ومَن يؤولُ إليه.

فلهذا جاء في أكثرِ الألفاظِ: «كما صلَّيتَ على آلِ إبراهيمَ»

(1)

، وجاء في بعضِها:«على إبراهيمَ»

(2)

؛ لأنه هو الأصلُ في الصلاةِ والزكاة، وسائرُ أهلِ بيتِه تبَعٌ له، ولم يأتِ «على إبراهيمَ وآلِ إبراهيمَ» ؛ بل رُوِي؛ لكنه غيرُ ثابتٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(3)

.

ومن المتأخِّرينَ مَن يرى الجمعَ بينَ ألفاظِ الأدعيةِ التي رُوِيتْ بألفاظٍ متنوعةٍ؛ مثلُ قولِه: «ظلمًا كبيرًا كثيرًا»

(4)

، وهي طريقةٌ مُحدَثةٌ؛

(1)

رواه البخاري (4797)، ومسلم (406)، من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه.

ورواه البخاري (3369)، ومسلم (407)، من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (3370)، من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه.

ورواه البخاري أيضًا (6358)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(3)

ووافق شيخ الإسلام في ذلك تلميذه ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 292).

قال ابن رجب في القواعد (1/ 90) بعد أن نقل كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة: (كذا قال! وقد ثبت في «صحيح البخاريِّ» الجمع بينهما من حديث كعب بن عجرة، وأخرجه النَّسائيُّ من حديث كعب أيضاً، ومن حديث طلحة).

والحديث رواه البخاري (3370)، من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ:«اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» .

ورواه النسائي من حديث كعب أيضًا (1288)، ومن حديث طلحة (1290) رضي الله عنهما.

(4)

يشير إلى ما رواه البخاري (6326) ومسلم (2705)، من حديث أبي بكر رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال:«قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا -وروي: كبيرًا-، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي من عندك مغفرة إنك أنت الغفور الرحيم» .

ص: 186

بل فاسدةٌ عقلًا؛ لأنه لم يستحِبَّ أحدٌ من المسلمينَ للقارئِ أن يجمعَ بينَ حروفِ القراءةِ.

فإن قيلَ: قد جاءَ «على محمدٍ وعلى آلِ محمد» ، فذكر محمدًا وآله، بخلاف إبراهيم!

قيل: لأن الصلاة على محمدٍ وعلى آله ذُكِرتْ في مقامِ الطلبِ والدعاءِ، وفي إبراهيمَ في مقامِ الخبرِ، والجملةُ الطلبيةُ إذا بُسِطَتْ كان مناسبًا؛ لأن المطلوبَ يزيدُ بزيادةِ الطلبِ، وينقُصُ بنُقْصانِه، وأمَّا الخبرُ فهو خبرٌ عن أمرٍ قد وقَع لا يَحتمِلُ الزيادةَ والنقصانَ، فلم يكُنْ في زيادةِ اللفظِ زيادةُ معنًى، فكان الإيجازُ أحسنَ، ولهذا جاء بلفظِ «إبراهيمَ» تارةً، وبلفظِ «آلِ إبراهيمَ» أخرى؛ لأن كلًّا من اللفظينِ يدلُّ على ما يدلُّ عليه الآخَرُ، وهو الصلاةُ التي وقعَتْ ومضت، إذ قد عُلِم أن الذي وقَع هو الصلاةُ عليه وعلى أهلِه، بخلافِ ما لو طلَب:«صلِّ على محمدٍ» ؛ لم يدلَّ على «آلِ محمدٍ» ؛ لأنه دعاءٌ ينشأُ

(1)

بهذا اللفظِ لم نعلمْ ما يريدُه.

ولو قيلَ: «صلِّ على آلِ محمدٍ» ؛ لكان إنما يصلِّي عليه في العمومِ، فقيلَ:«على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ» ؛ لِيُخَصَّ بالدعاءِ.

(1)

عبارة مجموع الفتاوى 22/ 464، والفتاوى الكبرى 2/ 197:(إذ هو طلب ودعاء ينشأ بهذا اللفظ، ليس خبرًا عن أمر قد وقع واستقر).

ص: 187

ثم إن قيلَ: إنه داخلٌ في آلِه معَ الاقترانِ، كما هو داخلٌ معَ الإطلاقِ، فقد صلَّى عليه مرتينِ؛ خصوصًا وعمومًا.

ولو قيلَ: إنه لم يدخُلْ؛ ففي ذلك بيانُ أن الصلاةَ على آلِه تبَعًا له، وأنه هو الأصلُ؛ إذ بسببِه طُلِبتِ الصلاةُ على آلِه.

فإن قيلَ: قولُه: «كما صلَّيتَ على آلِ إبراهيمَ» يُشعِرُ بفضيلةِ إبراهيمَ؛ لأن المشبَّهَ دونَ المشبَّهِ به.

قيلَ: الجوابُ: أن محمدًا داخلٌ في آلِ إبراهيمَ في الأصح؛ لأنه أحقُّ من غيرِه من الأنبياءِ بالدخولِ، فيدخُلُ عمومًا في آلِ إبراهيمَ، ثم أُمِرْنا أن نصلِّيَ على محمدٍ وعلى آلِه خصوصًا بقدرِ ما صلَّيْنا عليه معَ سائرِ آلِ إبراهيمَ عمومًا، ثم لأهلِ بيتِه من ذلك ما يليقُ بهم، والباقي له، فيُطلَبُ له من الصلاةِ هذا القدرُ العظيمُ، فيحصُلُ له به أعظمُ ما لإبراهيمَ وغيرِه، فظهرَ مِن فضيلتِه على كلٍّ مِنَ النبِيِّينَ ما هو اللائقُ به صلى الله عليه وسلم.

وجوابٌ ثاني: وهو أنَّ آلَ إبراهيمَ فيهم الأنبياءُ الذين ليس مثلُهم في آلِ محمدٍ، فإذا طُلِب مِن الصلاةِ مثلُ ما صُلِّي على هؤلاءِ؛ حصَل لأهلِ بيتِه ما يليقُ بهم، فإنهم دونَ الأنبياءِ، وبقِيَتِ الزيادةُ لمحمدٍ، فحصَل له بذلك مَزِيَّةٌ ليست لإبراهيمَ ولا لغيرِه، وهذا حسنٌ أيضًا.

وجوابٌ ثالثٌ: منع أن يكونَ المشبَّهُ دونَ المشبَّهِ به.

وجوابٌ رابعٌ: أنَّ التشبيهَ عائدٌ إلى الصلاةِ على الآلِ فقطْ، فقولُه:«على محمدٍ» انقطعَ الكلامُ، وقولُه:«وعلى آلِ محمدٍ» مبتدأٌ، وهذا نُقِل

ص: 188

عن الشافعيِّ

(1)

، وهو ضعيفٌ كالذي قبلَه؛ لأن الفعلَ العاملَ في المعطوفِ هو العاملُ في المعطوفِ عليه، وهو العاملُ في أداةِ التشبيهِ، والحذفُ إنما يجوزُ معَ قيامِ دليلٍ، كما لو قيل: اضرِبْ زيدًا وعمرًا مثلَ ضَرْبِك خالدًا، وجعل التشبيهَ من المعطوفِ

(2)

؛ كان تلبيسًا

(3)

.

‌قولُه: «ولا ينفَعُ ذا الجَدِّ منكَ الجَدُّ»

؛ أي: لا ينفعُ ذا الحظِّ والمالِ والعظمةِ منكَ مالُه ولا عظمتُه، بل تقواه وإيمانُه

(4)

.

‌ومحمدٌ أفضلُ الرسلِ باتفاقِ المسلمينَ

؛ لكن وقع نزاعٌ: هل هو أفضلُ من جملتِهم؟ قطَع طائفةٌ بأنه أفضلُ، كما أن صدِّيقَه وُزِنَ بمجموعِ الأمةِ؛ فرجَحَ.

فعلى هذا: يكونُ آلُ محمدٍ الذين هو فيهم؛ أفضلَ من آلِ إبراهيمَ

(1)

ينظر: البيان للعمراني 2/ 238، شرح مسلم للنووي 4/ 125.

قال شيخ الإسلام في أصل الفتوى: (وهذا نقله العمراني عن الشافعي، وهذا باطل عن الشافعي قطعًا، لا يليق بعلمه وفصاحته؛ فإن هذا كلام ركيك في غاية البعد، وفيه من جهة العربية بحوث لا تليق بهذا الموضع).

(2)

قال ابن القيم في جلاء الأفهام ص 280: (وأيضًا: فإنه لا يصح من جهة العربية، فإن العامل إذا ذكر معموله وعطف عليه غيره ثم قيد بظرف أو جار ومجرور أو مصدر أو صفة مصدر؛ كان ذلك راجعًا إلى المعمول وما عطف عليه، هذا الذي لا تحتمل العربية غيره، فإذا قلت: جاءني زيد وعمرو يوم الجمعة؛ كان الظرف مقيدًا لمجيئهما، لا لمجيء عمرو وحده).

(3)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (آل محمد فيه

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 454، الفتاوى الكبرى 2/ 190.

(4)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (قوله: ولا ينفع

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 446، الفتاوى الكبرى 2/ 420.

ص: 189

الذين ليس فيهم محمدٌ، وإن كان فيهم عددٌ من الأنبياءِ، وإن لم يكُنْ محمد من آلِ نفْسِه؛ فيكونُ آلُ محمدٍ ليس فيهم نبِيٌّ دونَ آلِ إبراهيمَ، ففيهم أنبياءُ.

وإن قُلْنا: إنه داخل في آلِ إبراهيمَ؛ كان آلُ إبراهيمَ فيهم محمدٌ وأنبياءُ غيرُه، وآلُ محمدٍ فيهم محمدٌ لا نبِيَّ معَه؛ فتكونُ الجملةُ التي فيها هو وغيرُه من الأنبياءِ أفضلَ من الآخَرِينَ.

‌واتفقَ المسلمونَ على أن الصلاةَ والدعاءَ

كلَّه سرًّا أفضلُ، بل الجهرُ برفعِ الصوتِ بدعةٌ، ورفعُه بذلك أو بالترضي قُدَّامَ الخطيبِ في الجمعةِ؛ مكروهٌ أو محرَّمٌ بالاتفاقِ، ومنهم مَن يقولُ: يصلِّي سرًّا، ومنهم من يقولُ: يسكتُ.

‌والصلاةُ

(1)

بلفظِ الحديثِ

؛ أفضلُ مِن كلِّ لفظٍ، وألَّا يُزادُ عليه، كما في الأذانِ والتشهدِ؛ قالَه الأئمةُ الأربعةُ وغيرُهم.

‌وهي في الصلاةِ:

واجبةٌ في أشهرِ الروايتينِ، وقولِ الشافعيِّ، ولا تجبُ في غيرِها.

والأخرى: لا تجبُ في الصلاةِ؛ وهو قولُ مالكٍ وأبي حنيفةَ.

ثم منهم مَن قال: تجبُ في العمرِ مرةً.

ومنهم من قال: تجبُ في المجلِسِ الذي يُذكَرُ فيه صلى الله عليه وسلم

(2)

.

(1)

أي: الصلاة على النبي صلى اله عليه وسلم.

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وهي في الصلاة

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 471، الفتاوى الكبرى 2/ 201.

ص: 190

‌وأمَّا استفتاحُ الفألِ بالمصحفِ

(1)

: فقد تنازعَ فيه المتأخِّرونَ، ذكر القاضي أبو يَعْلى عنِ ابنِ بَطَّةَ أنه فعَلَه، وذكر عن غيرِه أنه كرِهَه

(2)

.

‌والاجتماعُ على القراءةِ والذِّكْرِ والدعاءِ

؛ حسَنٌ إذا لم يُتَّخذْ سنةً راتبةً، ولا اقترنَ به منكرٌ من بدعةٍ، وكشفُ الرأسِ معَ ذلك؛ مكروهٌ، لا سيَّما إن اتُّخِذَ عبادةً، فلا يجوزُ التعبُّدُ به

(3)

.

‌ويُكرهُ أن يُسلِّمَ

(4)

فيقولَ:

أسألُكَ الفوزَ بالجنَّةِ والنَّجاةِ مِن النَّار بين التَّسليمتين

(5)

.

(1)

وذلك بأن يفتح المصحف وينظر في أول سطر منه أو في غيره. ينظر: المدخل لابن الحاج المالكي 1/ 278.

قال القرافي في الفروق 4/ 240 نقلًا عن الطرطوشي: (وكذلك مَن أخذ الفأل من المصحف أو غيره إنما يعتقد هذا المقصد إن خرج جيدًا اتبعه، أو رديئًا اجتنبه، فهو عين الاستقسام بالأزلام الذي ورد القرآن بتحريمه؛ فيحرم).

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وأما استفتاح

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 65.

قال في الفروع 1/ 247: (واستفتاح الفأل فيه، فعله ابن بطة، ولم يره غيره، وذكره شيخنا، واختاره).

(3)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (والاجتماع على

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 523، الفتاوى الكبرى 1/ 53.

(4)

أي: في التسليم في الصلاة، ونص السؤال كما في مجموع الفتاوى 22/ 91، والفتاوى الكبرى 2/ 204: (في رجل: إذا سلم عن يمينه يقول: السلام عليكم ورحمة الله، أسألك الفوز بالجنة، وعن شماله: السلام عليكم، أسألك النجاة من النار، فهل هذا مكروه أم لا؟ فإن كان مكروهًا، فما الدليل على كراهته؟ الجواب: الحمد لله، نعم، يكره هذا؛ لأن هذا بدعة

).

(5)

هذه الجملة وردت ملحقة أثناء الفصل السابق ص .... ظظ، وقد اختصرها المصنف من فتوى أخرى مستقلة - ينظر: مجموع الفتاوى 22/ 91، والفتاوى الكبرى 2/ 204 - ثم أدخلها في أصل هذه الفتوى.

ص: 191

‌فَصْلٌ

‌قد ثبَت عنه صلى الله عليه وسلم

أنَّه كان يخُصُّ نفْسَه بالدعاءِ وهو إمامٌ؛ كما في الاستِفتاحِ

(1)

، وقولِه:«أعوذُ بكَ مِن عذابِ جَهنَّمَ» بعدَ التشهُّدِ

(2)

، وبعدَ رَفْعِه منَ الركوعِ:«اللهُمَّ طَهِّرْني مِن خَطايايَ بالماءِ والثَّلْجِ والبَرَدِ»

(3)

، ورُوِي عنه:«لا يحِلُّ لرجلٍ يؤُمُّ قومًا فيخُصُّ نفْسَه بالدعاءِ»

(4)

، فإنْ صحَّ هذا الحديثُ يكونُ المرادُ به: الدعاءَ الذي يُؤمِّنُ عليه المأمومُ؛ كدعاءِ القُنوتِ، فإنَّ المُؤمِّنَ دعا؛ لقولِه:{قد أجيبت دعوتكما} ، وكان أحدُهما يدعو والآخَرُ يُؤمِّنُ

(5)

.

(1)

روى البخاري (744)، ومسلم (598)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في استفتاحه: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد» .

(2)

رواه البخاري (832)، ومسلم (589)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

رواه مسلم (476)، من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه.

(4)

رواه أبو داود (90)، والترمذي (357)، وابن ماجه (923)، من حديث ثوبان رضي الله عنه.

(5)

ورد ذلك عن جماعة من المفسرين؛ كعكرمة والربيع بن أنس وأبي العالية. ينظر: تفسير الطبري 12/ 270.

ص: 192

فإذا كان المأمومُ يُؤمِّنُ؛ يدعو الإمامُ بصيغةِ الجمعِ؛ كما في دعاءِ الفاتحةِ: {اهدنا الصراط المستقيم

}

(1)

.

‌ومَن حفِظَ القرآنَ غيرَ مُعْرَبٍ

، ولا يُمكِنُه أن يقرَأَ إلا بلَحْنٍ لعجمةٍ، أو عجَزَ عن حِفْظِ إعرابِه، ونحوِه؛ فليَقْرأْ كما يُمكِنُه، فهو أَوْلى من تَرْكِه؛ {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} .

‌ومَنِ اعتقدَ أنَّه بمجردِ تَلَفُّظِه بالشهادةِ

يدخُلُ الجنةَ ولا يدخُلُ النارَ؛ فهو ضالٌّ، مُخالِفٌ للكتابِ والسنةِ والإجماعِ.

‌فصلٌ

‌والحمدُ: يتضمَّنُ المدحَ

والثناءَ بجَميلِ المحاسِنِ؛ سواءٌ كان له إحسانٌ إلى الحامدِ، أو لا.

والشكرُ: لا يكونُ إلا على إحسانٍ إلى الشاكرِ.

فمِن هذا الوجهِ الحمدُ أعَمُّ؛ لأنَّه على المحاسِنِ والإحسانِ، لكنَّ الشكرَ يكونُ بالقلبِ واليدِ واللسانِ؛ كما قيل:

أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ عِنْدِي

(2)

ثَلَاثَةً

يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ المُحَجَّبَا

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وقد ثبت عنه

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 116، الفتاوى الكبرى 2/ 252.

(2)

في (ك) ومجموع الفتاوى: مني. وهو الذي في أبرار الربيع للزمخشري 5/ 277.

ص: 193

والحمدُ إنما يكونُ بالقلبِ واللسانِ؛ فمن هذا الوجهِ الشكرُ أعَمُّ، فهو أعَمُّ مِن جهةِ أنواعِه، والحمدُ مِن جهةِ أسبابِه، وفي الحديثِ:«الحَمْدُ رأسُ الشُّكرِ»

(1)

.

‌قال ابنُ حَزْمٍ وغيرُه منَ المتأخِّرِينَ:

«لا يجوزُ الدعاءُ إلا بالتسعةِ والتسعينَ اسمًا»

(2)

، فلا يُقالُ: يا حنَّانُ، يا مَنَّانُ، يا دليلَ الحائرِينَ.

وجمهورُ المسلمِينَ على خلافِ ذلك، وعليه مضى سلَفُ الأُمَّةِ؛ وهو الصوابُ، وفي الكتابِ والسنةِ ما يزيدُ عليها؛ مثلُ الرَّبِّ، وأكثرُ الدعاءِ المشروعِ به؛ حتى كرِه مالِكٌ أن يقالَ: يا سيِّدي؛ بل: يا ربِّ؛ لأنَّه دعاءُ الأنبياءِ في القرآنِ، وكذلك المَنَّانُ.

وفي السُّنَنِ: أنَّه سمِعَ داعيًا يدعو: «اللهُمَّ إنِّي أسأَلُكَ بأنَّ لكَ الحَمْدَ، أنتَ اللهُ المَنَّانُ، بديعُ السماواتِ والأرضِ، يا ذا الجَلالِ والإكرامِ، يا حَيُّ، يا قَيُّومُ، فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد دعا اللهَ باسْمِه الأعظمِ الذي إذا دُعِي به أجابَ، وإذا سُئِلَ به أعطى»

(3)

.

(1)

رواه البيهقي في الآداب (716)، والبغوي في شرح السنة (1271)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

وينظر أصل الفتوى من قوله: (والحمد يتضمن

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 11/ 133، الفتاوى الكبرى 2/ 378.

(2)

ينظر: المحلى 6/ 282.

(3)

رواه أحمد (12205)، وأبو داود (1495)، والترمذي (3544)، وابن ماجه (3858)، من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 194

وقد قال أحمدُ لرجلٍ وَدَّعَه: قلْ: يا دليلَ الحائرِينَ، دُلَّني على طريقِ الصادقِينَ.

وقد أنكرَ طائفةٌ - كالقاضي أبي بكرٍ وابنِ عَقيلَ - أن يكونَ من أسمائِه: الدليلُ.

والصوابُ ما عليه الجمهورُ؛ لأنَّ الدليلَ المُعرِّفُ المَدْلولَ، ما يُستدل به

(1)

.

وفي الصحيحِ: «إنَّ اللهَ وَتْرٌ»

(2)

، «إنَّ اللهَ جميلٌ»

(3)

، «إنَّ اللهَ نظيفٌ»

(4)

، «إنَّ اللهَ طَيِّبٌ»

(5)

، فهذه في الأحاديثِ، وتَتَبُّعُه يطولُ؛ مثلُ:«سُبُّوحٍ قُدُّوسٍ» ، أنَّه كان يقولُه

(6)

، واسمُه «الشافي» كما في الصحيحِ:«أنتَ الشافي، لا شافيَ إلا أنتَ»

(7)

.

وكذلك أسماؤُه المضافةُ؛ مثلُ: أرحمِ الراحمينَ، وخيرِ الغافرينَ،

(1)

قوله: (لأنَّ الدليلَ المُعرِّفُ المَدْلول ما يستدل به) هكذا في الأصل، وعبارة مجموع الفتاوى 22/ 484:(لأن الدليل في الأصل هو المعرف للمدلول، ولو كان الدليل ما يستدل به؛ فالعبد يستدل به أيضًا، فهو دليل من الوجهين جميعًا).

(2)

رواه البخاري (6410)، ومسلم (2677) واللفظ له، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

رواه مسلم (91)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(4)

رواه الترمذي (2799)، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

(5)

رواه مسلم (1051)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(6)

رواه مسلم (487)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(7)

رواه البخاري (5742)، من حديث أنس رضي الله عنه، والبخاري (5750) ومسلم (2191) بنحوه، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 195

وربِّ العالمينَ، ومالكِ يومِ الدِّينِ، وأحسَنِ الخالقينَ، وجامعِ الناسِ، ومُقلِّبِ القلوبِ؛ مما ثبَت الدعاءُ بها بإجماعِ المسلمينَ.

وله أسماءٌ استأثَرَ بها؛ كما في قولِه: «أوِ استأثَرْتَ به في عِلْمِ الغَيْبِ عندَكَ؛ أن تجعَلَ القرآنَ رَبيعَ قَلْبي، ونورَ صدري، وجِلاءَ حزني، وذَهابَ غَمِّي وهَمِّي»

(1)

، فأسماؤهُ لا تحصى، وإن كان فيها تسعةٌ وتسعونَ اسماً؛ مَن أَحْصاها دخَل الجنةَ، فقوله:«إنَّ لله تسعة وتسعينَ اسماً»

(2)

موصوفةٌ بأنَّه من أحصاها داخلٌ الجنَّةَ، لا أنَّ ليسَ له غيرُها

(3)

.

‌فَصْلٌ

‌كسبُ الإنسانِ ليقومَ بالنفقةِ

الواجبةِ على نفْسِه وعيالِه؛ واجبٌ عليه، وقد تنازعَ الناسُ: أيُّهما أفضلُ: الغنيُّ الشاكرُ، أم الفقيرُ الصابرُ؟

والصوابُ: أن أتقاهما أفضلُهما، ولا يُذَمُّ المالُ لنفْسِه، ولا كَسْبُه إذا أخَذَه من حِلِّه، ودفعَه في حقِّه، نِعم المالُ الصالحُ معَ الرجلِ الصالحِ، ولكنَّ المذمومَ فَرْطُ تعلُّقِ القلبِ؛ بحيثُ يكونُ هلوعًا جزوعًا منوعًا، فإذا سلِمَ من ذلك؛ فقد يكونُ صاحبُه أزهدَ فيه من فقيرٍ هَلوعٍ.

(1)

رواه أحمد (4318)، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (2736)، ومسلم (2677)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (قال ابن حزم

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 481، الفتاوى الكبرى 2/ 380.

ص: 196

‌والرضى بفعلِ ما أمَر اللهُ به

، وتَرْكِ ما نهى عنه؛ واجبٌ.

وأمَّا الرضى بالمصائبِ، كالفقرِ، والمرضِ، والذلِّ؛ فالصحيحُ أنه ليس بواجبٍ؛ لكن مستحَبٌّ، ولكن الصبرَ هو الواجبُ هنا.

أمَّا الرضى بالكفرِ فلا يرضى به عند أئمةِ الدِّينِ، وإن غلِطَ فيه قومٌ من المتفلسفةِ والصوفيةِ، ولم يُفرِّقوا بينَ المحبةِ والرضى الكونيِّ والدينيِّ؛ بل ظنوا أن كلَّ ما أرادَ وقدَّرَه فقد أحبَّه، وأنه يجبُ عليهم محبةُ ذلك؛ لأن اللهَ ربه، ولم يقعْ لهم أن اللهَ يأمرُ بما يكرَهُه ولا يحبُّه؛ لقولِهِ:{ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله} ؛ معَ أنه قدَّرَه.

والمتفلسفةُ ظنُّوا أن محبةَ الحقِّ ورضاه وغضبَه يرجعُ إلى إرادتِه، فقالوا: هو مريدٌ لها، محبٌّ لها.

ومعنى «لا يريدُ الفسادَ» : لعبادِه المؤمنينَ، وهذا تحريفٌ؛ لأنه يقالُ: لا يحبُ الإيمان للكافرين، وهذا كلُّه ضلالٌ، فإنه لا يُطلَقُ القولُ أنه لا يحبُّ الإيمانَ.

‌فَصْلٌ

‌قراءةُ القرآنِ أفضلُ من الذِّكْرِ

، وإن كان المفضولُ قد يكونُ أفضلَ، وهذا مُتفَقٌ عليه بينَ أئمةِ الدينِ، وإنما نازعَ فيه بعضُ المتأخِّرينَ، فجعلوا الذِّكْرَ أفضلَ؛ إمَّا مطلقًا، وإمَّا في حقِّ بعضِ الخواصِّ كما يقولُه

ص: 197

أبو حامدٍ، أو في حقِّ المبتدئِ، وهذا أقربُ، فإن المفضولَ قد يكونُ أفضلَ في بعضِ الأزمانِ والأشخاصِ؛ كالقراءةِ في الركوعِ تُكرَهُ تعظيمًا وتشريفًا أن يُقرَأَ بالقرآنِ في حالِ الخضوعِ والذلِّ، كما كُرِه أن يُقرَأَ مع الجَنازةِ، وكرِه بعضُهم قراءَته في الحمامِ.

ومِن هؤلاءِ مَن يرجِّحُ ذِكرَ الاسمِ المفردِ؛ كقولِه: اللهُ اللهُ اللهُ، على الكلمةِ التامةِ، وهي قولُ: لا إلهَ إلا اللهُ، ومنهم من يرجِّحُ ذكرَ المضمرِ؛ وهو قولُه: هو هو، أو: يا هو، على الاسمِ المُظهَرِ.

وهذا كلُّه من الغَلَطِ الذي دخل بسببِه فسادٌ كثيرٌ على كثيرٍ من السالكينَ؛ حتى آلَ ببعضِهم إلى الحلولِ والاتحادِ، فقد ثبَت في الصحيحِ:«أفضلُ الكلامِ بعدَ القرآنِ أربعٌ، وهنَّ من القرآنِ: سبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ»

(1)

، وكلُّ ذكرٍ علَّمه الرسولُ لأمَّتِه أو قالَه؛ إنما هو بالكلامِ التامِّ، لا بالاسمِ المفردِ، ولا المضمَرِ.

وفي الحديثِ: «مَن شغَلَه قراءة القرآن عن ذِكْري ومسألتي؛ أعطَيْتُه أفضلَ ما أُعطِي السائلينَ» حسَّنَه التِّرْمِذيُّ

(2)

، وتعيُّنُه للصلاةِ، ولا يقرَؤُه جُنُبٌ، ولا يمَسُّه إلا الطاهرُ؛ بخلافِ الذكرِ والدعاءِ.

(1)

روى البخاري نحوه تعليقًا (8/ 138)، ورواه أحمد (20223)، وابن ماجه (3811)، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه.

(2)

رواه الترمذي (2926)، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

ص: 198

والصلاةُ أفضلُ من القرآنِ؛ لأنه يُشترَط لها الطهارتانِ، ومشتملةٌ عليه.

والركوعُ والسجودُ أفضلُ من القيامِ، وذكرُ القيامِ أفضلُ من ذِكْرِهما؛ فاعتَدَلا، هذا الصحيحُ.

وقيلَ: إن طولَ القيامِ أفضلُ.

وقيلَ: بل كثرةُ الركوعِ والسجودِ

(1)

.

‌والقرآنُ الذي يتضمَّنُ أسماءَ اللهِ

؛ كـ: {قل هو الله أحد} أفضلُ من القرآنِ الذي لم يتضمَّنْ أسماءَه.

وصحَّ أنَّ {قل هو الله أحد} تعدِلُ ثُلُثَ القرآنِ

(2)

، وقد فُسِّرَ ذلك: بأن معانيَ كلامِ اللهِ ثلاثةٌ: توحيدٌ، وقَصَصٌ، ونَهيٌ وأمرٌ، و {قل هو الله أحد} متضمِّنةٌ للثُّلُثِ الذي هو التوحيدُ.

ومعنى كونِ ثوابِها يعدِلُ ثُلُثَ القرآنِ: هو أن معادلةَ الشيءِ للشيءِ تقتضي تساويهما في القدرِ، لا تقتضي تماثُلَهما في الوصفِ، كما في:{أو عدل ذلك صياما} ، فألفُ دينارٍ تعدِلُ من الطعامِ

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (قراءة القرآن

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 56، الفتاوى الكبرى 2/ 387.

(2)

رواه البخاري (5013)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ورواه مسلم (812)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 199

والشرابِ ما قيمتُه ألفُ دينارٍ، فهي معادلةٌ في القيمةِ لا في الوصفِ.

وإذا كان ثوابُ {قل هو الله أحد} يعدِلُ ثُلُثَ القرآنِ في القدرِ؛ لم يجبْ أن يكونَ من جنْسِه وصفتِه، ولم يجُزْ أن يُستغنَى بقراءِتها ثلاثًا عن قراءةِ سائرِ القرآنِ، كما لا يُستغنَى بملكِ نوعٍ من المالِ قيمتُه ألفُ دينارٍ عن سائرِ أنواعِ المالِ، فالعبدُ محتاجٌ إلى أنواع من الأموال، كذلك محتاجٌ إلى أمرٍ ونهيٍ ووعدٍ ووعيدٍ وقَصَصٍ وأمثالٍ، فلو اقتصَرَ على {قل هو الله أحد} لم يحصُلْ له ما يحتاجُه من الأمرِ والنهيِ؛ بل يضرُّه فَقْدُ ذلك، ويُهلِكُه في الدنيا بسَلْبِ الإيمانِ، وفي الآخرةِ بالنيرانِ، كمَن جمع نوعًا من المالِ سريعًا، ولم يحصُلْ له ما يحتاجُ إليه من نوعٍ آخَرَ، فإنه قد يموتُ إمَّا جوعًا، وإمَّا عُرْيًا، وإمَّا عطشًا، فالقرآنُ منه ما تعلُّمُه فرضُ عينٍ، ومنه فرضُ كفايةٍ، والذكرُ منه واجبٌ ومستحَبٌّ.

فأمَّا ذكرُ أسماءِ اللهِ على غيرِ وجهِ القراءةِ: فقراءةُ القرآنِ أفضلُ منها في الجملةِ، هذا بحسَبِ عمَلِها وثوابِها.

وأمَّا ذاتُ القرآنِ، وذاتُ الأسماءِ: فقد تنازعَ فيه طوائفُ:

فذُهِبَ: إلى أنه لا يجوزُ أن يُظَنَّ أن بعضَ ذلك أفضلُ من بعضٍ، ولا أن بعضَ القرآنِ أفضلُ من بعضٍ؛ لأن الجميعَ كلامُ اللهِ، ومن صفاتِه، لا سيَّما معَ القولِ بأنه قديمٌ، فإن التفاوتَ فيه ممتنِعٌ.

وذهَب الجمهورُ المُتَّبِعونَ للسلَف: إلى أنَّ بعضَه أفضلُ من بعضٍ؛ كما في الصحيحِ عنه أنه قال لأبي سعيدِ بنِ المُعلَّى: «لأُعلِّمَنَّكَ سورةً

ص: 200

لم ينزِلْ في التوراةِ، ولا في الإنجيلِ، ولا في الزبورِ، ولا في القرآنِ مثلُها»

(1)

، وذكر أنها فاتحةُ الكتابِ.

فأخبرَ الصادقُ المصدوقُ أنه لم ينزِلْ مثلُها، فلا يجوزُ أن يُقالَ: أُنزِلَ مثلُها، وفي الصحيحِ:«أنَّ آيةَ الكُرْسيِّ أعظمُ آيةٍ نزَلَتْ»

(2)

، كما أن «الفاتحةَ أفضلُ سورةٍ نزلت»

(3)

.

والقرآنُ الذي تكلَّمَ اللهُ به في وصفِ نفْسِه؛ أعظمُ من القرآنِ الذي تكلَّمَ به في وصفِ خلقِه، وكلامُه الذي هو أسماؤُه؛ أفضلُ من كلامِه الذي ليسَ هو أسماءَه، والكلُّ كلامُه؛ لكنَّ الشَّرَفَ يحصُلُ من جهةِ نسبتِه إلى القائلِ المتكلِّمِ به، ومن جهةِ نسبتِه إلى المقولِ المتكلَّم فيه، فإذا كانت النسبتانِ إلى اللهِ؛ كانَ الكلامُ أشرفَ، وليس مدحُ الشعراءِ للأنبياءِ مثلَ مدحِ الشعراءِ للملوكِ.

وأمَّا إن قُدِّرَ أن له أسماءً ليستْ هي كلامَه؛ فكلامُه أفضلُ من جهةِ المتكلَّمِ به، والاسمُ أفضلُ من جهةِ المدلولِ عليه؛ لكن كلامَه أفضلُ مما ليس بكلامِه مطلقًا.

‌ومعرفةُ القراءاتِ

التي أقْرَأَهم رسولُ اللهِ؛ سنَّة، لصاحِبِها مَزِيةٌ على مَن لم يعرِفْ ذلك، وأمَّا جَمْعُها في الصلاةِ فبدعةٌ مكروهةٌ

(4)

.

(1)

رواه البخاري (4474).

(2)

رواه مسلم (810)، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (4647)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(4)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومعرفة القراءات

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 13/ 404، الفتاوى الكبرى 1/ 54.

ص: 201

‌لكن يجوزُ

أن يقرأَ بعضَ القرآنِ بحرفِ أبي عمرٍو، وبعضَه بحرفِ نافعٍ، ونحوِه، وسواءٌ كان في ركعةٍ أو ركعتينِ، أو خارجَ الصلاةِ، أو لا

(1)

.

‌فَصْلٌ

‌ما يعلَمُه الإنسانُ من حقٍّ وباطلٍ

؛ فإنه يقومُ بقلبِه، ويحلُّ بروحِه المنفوخةِ فيه، متصلاً بالقلبِ الذي هو المضغةُ الصنوبريةُ الشكلِ.

وقد قيلَ: إنه يقومُ بجميعِ الجسدِ، وليس لبعضِ ذلك مكانٌ من الجسدِ يتميزُ به عن مكانٍ آخَرَ باتفاقِ الناسِ، وإنما الروحُ هي التي يُعبَّرُ عن محِلِّها الأولِ بالقلبِ تارةً، وتُسمِّيها الفلاسفةُ: النفسَ الناطقةَ، وهي الحاملةُ لجميعِ الاعتقاداتِ، فتتَنوَّرُ قلوبُ المؤمنينَ وأرواحُهم بالمعارفِ الإلهيةِ، وتُظلِمُ قلوبُ الكفارِ في العقائدِ الفاسدةِ؛ كما ضرَب اللهُ مثَلَ المؤمنِ والكافرِ في سورةِ النورِ.

‌وما يحصُلُ عندَ الذكرِ المشروعِ

من البكاءِ، ووجَلِ القلبِ، واقْشِعرارِ الجسومِ؛ فمن أفضلِ الأحوالِ التي نطَق بها الكتابُ.

وأمَّا الاضطرابُ الشديدُ والغشيُ والصيحاتُ؛ فإن كان صاحبُه

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (لكن يجوز أن

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 445، الفتاوى الكبرى 2/ 186.

ص: 202

مغلوباً عليه؛ لم يُلَمْ، وسبَبُه قوةُ الواردِ معَ ضعفِ القلبِ، والقوةُ والتمكُّنُ أفضلُ، كما هو حالُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والصحابِة، وأمَّا السكونُ؛ قَسْوةً وجفاءً، فهذا مذمومٌ

(1)

.

‌فَصْلٌ

(2)

‌القنوتُ مشروعٌ

(3)

عندَ النازلةِ

في جميعِ الصلواتِ، وفي الفجرِ والمغربِ أوكدُ.

والنازلةُ: هي نازلةُ العدوِّ؛ نحوُ: استنصارِه للمُستضعَفِينَ تحتَ يدِ العدوِّ

(4)

، ودعائِه على الذين قتَلوا أصحابَ بئرِ مَعُونةَ

(5)

.

وأمَّا قنوتُ الإنسانِ للاسترزاقِ؛ فلم يُؤثَرْ عن أحدٍ من السلَفِ، ولا علمْتُ أحدًا ذكَرَه.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وما يحصل عند

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 522، الفتاوى الكبرى 2/ 285.

(2)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل مجموع الفتاوى 23/ 104، الفتاوى الكبرى 2/ 245.

(3)

في الأصل: مشرع.

(4)

روى البخاري (804)، ومسلم (675)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يرفع رأسه يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، يدعو لرجال فيسميهم بأسمائهم، فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسِنِيْ يوسف» .

(5)

رواه البخاري (3064)، ومسلم (677)، من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 203

‌والصلاةُ الوسطى

؛ هي العصرُ بلا شكٍّ عندَ من عرَفَ الأحاديثَ

(1)

.

‌والقنوتُ:

هو المداومةُ على الطاعةِ؛ كقولِه: {أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما} ، فلا يجوزُ حَمْلُه على إطالةِ القيامِ للدعاءِ دون غيرِه؛ لأنَّ اللهَ أمَر بالقيامِ له قانتينَ، والأمرُ للوجوبِ.

وقيامُ الدعاءِ المتنازَعِ فيه

(2)

؛ لا يجبُ بالإجماعِ، والقائمُ في حالِ قراءتِه هو قانتٌ أيضًا، ولما نزلَتْ أُمِرنا بالسكوتِ

(3)

، فعُلِم أنَّ السكوتَ من تمامِ القنوتِ المأمورِ به، وذلك واجبٌ في جميعِ أجزاءِ القيامِ.

والحديثُ: «ما زالَ يقنُتُ حتى فارقَ الدنيا»

(4)

، وإن صحَّحَه الحاكمُ؛ فهو يُصحِّحُ الموضوعاتِ، وعندَه تساهلٌ، فلا تقومُ بمثلِه الحجةُ.

قالوا

(5)

: وقولُه في الآخَرِ: «ثم ترك»

(6)

- أي: تركَ الدعاءَ - لا أصله

(7)

.

(1)

من ذلك: ما رواه مسلم (627)، عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا» .

(2)

قوله: (فيه) سقطت من الأصل.

(3)

أي: لما نزلت هذه الآية: {وقوموا لله قانتين} ، أمروا بالسكوت. رواه البخاري (1200)، ومسلم (539)، من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه.

(4)

رواه أحمد (12657)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(5)

أي: من يرى أن القنوت مشروع دائمًا، وأن المداومة عليه سنة.

(6)

يشير إلى ما رواه مسلم (677)، من حديث أنس:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا يدعو على أحياء من أحياء العرب، ثم تركه» .

(7)

في مجموع الفتاوى (23/ 107): (أراد ترك الدعاء على تلك القبائل لم يترك نفس القنوت).

ص: 204

والحديثُ فيه: «ما قنَتَ بعدَ الركوعِ إلا شهرًا»

(1)

؛ فتبيَّنَ أنه لم يقنُتْ بعدَ الركوعِ إلا شهرًا، فبطَلَ ذلك التأويلُ

(2)

.

والقنوتُ قبلَ الركوعِ: قد يُرادُ به طولُ القيامِ قبلَ الركوعِ؛ سواءٌ كان فيه دعاءٌ أوْ لا، فلا يكونُ اللفظُ دالًّا على قنوتِ الدعاءِ.

وقد ذهبَتْ طائفةٌ: إلى أن القنوتَ مشروعٌ في جميعِ الصلواتِ، وهو شاذٌّ؛ والصحيحُ: أنه قنَتَ لسبب من النازلةِ، ثم ترَكَ، كما دلَّ عليه الحديثُ، وعليه الخلفاءُ الراشدونَ، فإن عمرَ لما جاءتِ النصارى قنَتَ عليهم: «اللهُمَّ عذِّبْ كفَرةَ أهلِ الكتابِ

» إلى آخِرِه

(3)

، فجعَله بعضُ الناسِ سنةً راتبةً في قنوتِ رمضانَ، وليس كذلك؛ بل قنَت بما يناسِبُ حالَ المسلمينَ، كما كانَ رسولُ اللهِ يقنتُ في كلِّ نازلةٍ بما يناسبها، ولو قنَت دائمًا لنقَلَه المسلمونَ عن نبِيِّهم، فإنه منَ الأمورِ التي تتوَفَّرُ الدواعي على نَقْلِه.

‌فَصْلٌ

‌إذا تحقَّقَ ما في القلبِ

؛ أثَّرَ في الظاهرِ ضرورةً، لا يُمكِنُ انفكاكُ أحَدِهما عن الآخَرِ، فالإرادةُ الجازمةُ معَ القدرةِ التامةِ توجِبُ وقوعَ

(1)

رواه البخاري (1002)، ومسلم (677)، من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ:«إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا» .

(2)

أي: تأويل حديث: (ثم ترك) بأن المعنى ترك الدعاء على تلك القبائل لا أصله.

(3)

رواه عبد الرزاق (4968).

ص: 205

المقدورِ، فإذا كان في القلبِ حبُّ اللهِ ورسولِه ثابتًا؛ استلزمَ موالاةَ أوليائِه، ومعاداةَ أعدائِه، {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} ، فهذا التلازمُ أمرٌ ضروريٌّ.

ومن جهةِ ظنِّ انتفاءِ اللازمِ؛ غلِطَ غالطونَ؛ كما غلِطَ آخرونَ في جوازِ وجودِ إرادةٍ جازمةٍ معَ القدرةِ التامةِ بدونِ الفعلِ، حتى تنازعوا: هل يُعاقَبُ على الإرادةِ بلا عملٍ؟

وقد بيَّنَا أن الهِمَّةَ التي يهُمُّها ولم يقترنْ بها فعلُ ما يَقدرُ عليه الهامُّ: ليسَتْ إرادةً جازمةً؛ وأن الجازمةَ لا بدَّ أن يُوجَدَ معها ما يقدرُ عليه العبدُ، والعفوُ وقَع عمَّن همَّ بسيئةٍ ولم يفعَلْها، لا عمَّن أرادَ وفعَلَ الذي أمكَنَه، وعجَز عن تمامِ مرادِه.

ومَن عرَف المُلازَماتِ بينَ الظاهرِ والباطنِ؛ زالت عنه شُبُهاتٌ كثيرةٌ

(1)

.

وتحقيقُ الإيمانِ أو غيرِه مما هو من الأعمالِ الباطنةِ أو الظاهرةِ؛ مثلُ: حبِّ اللهِ، والانقيادِ له، والاستكانةِ، ووجَلِ القلبِ، وزيادةِ الإيمانِ عندَ ذِكْرِ آياتهِ، والتوكُّلِ عليه، والجهادِ، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وضدِّ ذلك؛ مما يحدُثُ عن التصديقِ، أو عن التكذيبِ، والهَمِّ بالحسنةِ، أو السيئةِ، أو غيرِ ذلك، واللهُ أعلمُ.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا تحقق ما في لقلب

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 7/ 641.

ص: 206

‌قولُه في حديثِ أبي بكرٍ:

«اللهُمَّ إني ظلمْتُ نفْسِي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفِرُ الذنوبَ إلا أنتَ، فاغفِرْ لي مغفرةً من عندِك وارحمني، إنكَ أنتَ الغفورُ الرحيمُ»

(1)

؛ قال الحكيمُ التِّرْمِذيُّ: (هذا عبدٌ اعترفَ بالظلمِ، ثم التجأَ إليه مضطرًّا إليه، لا يجدُ لذنبِه ساترًا غيرَه، ثم سأله مغفرةً من عندِه، والأشياءُ كلُّها من عندِه، ولكن أرادَ شيئًا مخصوصًا ليس مما بَذَله للعامةِ، فللهِ تعالى رحمةٌ قد عمَّتِ الخلقَ؛ بَرَّهم وفاجِرَهم، سعيدَهُم وشَقِيَّهُم، ثم له رحمةٌ خصَّ بها المؤمنينَ، وهي رحمةُ الإيمانِ، ثم له رحمةٌ خصَّ بها المتقينَ، وهي رحمةُ الطاعةِ للهِ تعالى، وللهِ رحمةٌ خصَّ بها الأولياءَ، نالوا بها الولايةَ، وله رحمةٌ خصَّ بها الأنبياءَ، نالوا بها النبوةَ، وقال الراسِخونَ: {وهب لنا من لدنك رحمة}، فسألوه رحمةً من عندِه).

فهذا صورةُ ما شرَحَه، ولم يذكُرْ صفةَ الظلمِ وأنواعَه، كما ذكر صفةَ الرحمةِ.

وليُعْلَمْ أن الدعاءَ الذي فيه اعترافُ العبدِ بظلمِ النَّفْسِ؛ ليس من خصائصِ الصِّدِّيقينَ ومَن دونَهم؛ بل هو من الأدعيةِ التي يدعو بها الأنبياءُ، وهم أفضلُ الخلقِ، قال اللهُ تعالى عن آدمَ وحواءَ:{قالا ربنا ظلمنا أنفسنا} ، وقال موسى:{رب إني ظلمت نفسي} ، والخليلُ:{رب اغفر لي ولوالدي} ، {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي} ، وقال هو وإسماعيلُ: {ربنا تقبل

(1)

تقدم تخريجه ص

ظظ

ص: 207

منا

}، إلى قولِه:{وتب علينا} ، وقال موسى:{أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا} ، وقال نوح:{رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم} ، وقال يونُسُ:{لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} .

وثبَت في الصحيحِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقولُ في دعائِه: «ظلمتُ نفْسِي، واعترفتُ بذنْبِي، فاغفِرْ لي»

(1)

، وثبَت عنه:«اللهُمَّ اغفِرْ لي ذنْبِي كلَّه، دِقَّه وجِلَّه، وعلانيتَه وسِرَّه، وأوَّلَه وآخِرَه»

(2)

، «اللهُمَّ اغفِرْ لي خَطيئتي وجَهْلي، وإسرافي في أمري، وما أنتَ أعلمُ به منِّي، اللهُمَّ اغفِرْ لي هَزْلي وجِدِّي، وخَطئي وعَمْدي، وكلُّ ذلك عندي، اللهُمَّ اغفِرْ لي ما قدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسرَرْتُ وما أعلَنْتُ، وما أنتَ أعلمُ به مِنِّي، أنتَ المقدِّمُ وأنتَ المؤخِّرُ، لا إلهَ إلا أنتَ»

(3)

، وفي سجودِه:«اللهُمَّ اغفِرْ لي» ، يتأوَّلُ القرآنَ

(4)

.

وقال له ربُّه: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك} ، وقال:{فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} ، وسورةُ النصرِ آخِرُ ما نزَلَت بعدَ قولِه:{ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} ، فقال له الناسُ:

(1)

رواه مسلم (771)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم (483)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (6398)، ومسلم (2719)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري (817)، ومسلم (484)، من حديث عائشة رضي الله عنه.

ص: 208

هذا لكَ، فما لنا؟ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين

} الآيةَ

(1)

.

وفي هذا ردٌّ على طائفةٍ يقولونَ: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك} : (وهو ذنبُ آدمَ)، {وما تأخر}:(ذنبُ أمَّتِه)، فإن هذا القولَ - وإن لم يقُلْه أحدٌ من الصحابةِ والتابعينَ ولا أئمةِ المسلمينَ - فقد قالَه طائفةٌ من المتأخِّرينَ

(2)

، ويظُنُّ بعضُ الجُهالِ أنه قولٌ شريفٌ، وهو كذِبٌ على اللهِ وتحريفٌ؛ فإنه قد ثبَتَ أن الناسَ يومَ القيامةِ يأتونَ آدمَ فيعتذِرُ إليهم، ويذكُرُ خطيئتَه

(3)

، فلو كان {ما تقدَّمَ} ذنبُ آدمَ؛ لم يعتذر، وقد قالت له الصحابةُ:(هذا لكَ، فما لنا؟)، فلو كان ما تأخَّرَ مغفرةَ ذُنوبِهم؛ لكان قال: هذا لكم.

وأيضًا: فقد قال: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} .

وأيضاً: كيفَ تُضافُ ذُنوبُ الفُسَّاقِ إليه، يُجعَلُ الزنا، والسرقةُ، وشربُ الخمرِ ذنبًا له؟! {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ، وأيُّ فرقٍ بينَ ذنبِ آدمَ ونوحٍ وإبراهيمَ، وكلُّهم آباؤُه، وقد قال تعالى في غيرِ موضعٍ: {فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا

(1)

رواه البخاري (4172)، ومسلم (1786)، بنحوه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(2)

نسبة الثعلبي في تفسيره إلى عطاء الخراساني. ينظر: تفسير الثعلبي 9/ 42.

(3)

رواه البخاري (3340)، ومسلم (194)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 209

وما على الرسول إلا البلاغ المبين}، فكيفَ يكونُ ذنبُ أمَّتِه ذنباً له؟! هذا لا يَخْفى فسادُه على مَن له أدنى تدبُّرٍ، وإن كان قالَه طائفةٌ من المصنِّفِينَ في العصمةِ؛ حتى ترى ذلك في كتبِ بعضِ مَن له قدمُ صدقٍ من أهلِ السنةِ، لكنَّ الغُلُوَّ أوجبَ اتباعَ الجُهَّالِ الضُلَّالِ، فإن أصلَ ذلك من المبتدعينَ الغالينَ، وأوَّلُهم الرافضةُ لما ادَّعَوُا العصمةَ في عليٍّ وغيرِه - حتى من الخطأِ - احتاجوا أن يُثبِتوا ذلك للأنبياءِ بطريقِ الأَوْلى، ولما نزَّهوا عليًّا ومَن دونَه أن يكونَ له ذنبٌ يُستغفَرُ منه؛ كان تَنْزيهُهم للرسلِ أَوْلى.

وكذلك القرامطةُ لما ادَّعَوا عصمةَ أئمَّتِهم الإسماعيليةِ القرامطةِ الباطنيةِ الفلاسفةِ الدهريةِ، وعبَدوهم، واعتَقدوا فيهم الإلهيةَ، كما كانت الغاليةُ تعتقدُ في عليٍّ وغيرِه الإلهيةَ، أو النبوةَ، وكما ألزموا الدعوةَ للمُنتظَرِ، وأنه معصومٌ، وقالوا: دخَلَ في سردابِ سامراءَ سنةَ ستينَ ومائتينِ وهو طفلٌ غيرُ مُميِّزٍ، وصار مثلُ هذا يُدَّعى؛ ادَّعَاه ابنُ التُّومَرتِ

(1)

صاحبُ «المرشدِة» أنه المَهدِيُّ، وصار طائفةٌ من الغلاةِ في

(1)

قال شيخ الإسلام في منهاج السنة 4/ 98: (أبو عبد الله محمد بن التومرت، الملقب بالمهدي، الذي ظهر بالمغرب، ولقب طائفته بالموحدين، وأحواله معروفة، كان يقول: إنه المهدي المبشر به، وكان أصحابه يخطبون له على منابرهم، فيقولون في خطبتهم: الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، الذي بشرت به في صريح وحيك، الذي اكتنفته بالنور الواضح، والعدل اللائح، الذي ملأ البرية قسطًا وعدلًا، كما ملئت ظلمًا وجورًا. وهذا الملقب بالمهدي ظهر سنة بضع وخمسمائة، وتوفي سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وكان ينتسب إلى أنه من ولد الحسن؛ لأنه كان أعلم بالحديث، فادعى أنه هو المبشر به، ولم يكن الأمر كذلك، ولا ملأ الأرض كلها قسطًا ولا عدلًا، بل دخل في أمور منكرة، وفعل أمورًا حسنة)، وينظر: مجموع الفتاوى 11/ 476.

ص: 210

مشايخِهم يعتقدونَ العصمةَ، أو يقولونَ: إنه محفوظٌ، والمعنى واحدٌ، ولو أقَرَّ بلسانِه؛ عامَلَه بالعصمةِ بقلبِه.

فهؤلاءِ إذا اعتقدوا ذلكَ في بعضِ المؤمنين؛ كيفَ لا يعتقدونَ ذلك في الأنبياءِ؟!

فإن كان مِن المسلمينَ؛ اعتقدَ أن الأنبياءَ أفضلُ من شيخِه وإمامِه، فبعِصمَتِهم بطريقِ الأَوْلى.

وإن كان من الزنادقةِ الذين يعتقدونَ أن الشيخَ أفضلُ من النبيِّ - كما يقولُه المتفلسفةُ، والشيعةُ، وغلاةُ الصوفيةِ الاتحاديةِ، وغيرُهم-؛ فلا بدَّ لهؤلاءِ أن يُقِرِّروا الغُلُوَّ في الأنبياءِ؛ حتى يُوافِقَهم الناسُ على الغُلُوِّ في أئمَّتِهم.

وهذا كلُّه من شعبِ النصرانيةِ الذينَ قال فيهم: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} ، إلى قولِه:{إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} ، إلى قولِه:{سبحانه أن يكون له ولد} ، إلى قولِه:{لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله} ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لا تُطْروني كما أطْرَتِ النصارى المسيحَ؛ بل قولوا: عبدُ اللهِ، فإنما أنا عبدٌ»

(1)

، و «إنما أضَلَّ مَن كان قبلَكم الغُلُوُّ في

(1)

رواه البخاري (3445)، من حديث عمر رضي الله عنه.

ص: 211

الدِّينِ»

(1)

، وقد قال:«لتركبُنَّ سَنَنَ مَن كان قبلَكم»

(2)

، فقصدوا تعظيمَ الأنبياءِ والصالحينَ، فوقعوا في تكذيبِهم، فإن المسيحَ قال:{إني عبد الله آتاني الكتاب} ؛ فكذَّبوه، وقالوا: ما هو عبدُ اللهِ؛ بل هو اللهُ، وأشركوا به.

وكذلك الغاليةُ في عليٍّ وغيرِه؛ فإنه حرَّقَ الغاليةَ فيه، ونُقِل عنه من نحوِ ثمانينَ وجهًا:«خيرُ هذه الأمةِ بعدَ نبِيِّها أبو بكرٍ، ثم عمرُ» ، ويُذكَرُ ذلك لابنِ الحنفيةِ؛ كما رواه البخاريُّ

(3)

، والشيعةُ تُكذِّبُه، فهم معه كالنصارى معَ المسيحِ، واليهودِ معَ موسى.

وكذلك أتباعُ المشايخِ يغلونَ فيهم، ويتركونَ اتِّباعَهم على الطريقةِ التي يُحِبُّها اللهُ ورسولُه.

وهذا بابٌ دخَلَ منه الشيطانُ على خلقٍ كثيرٍ؛ فأضَلَّهم؛ حتى يجعلَ أحدَهم قولَ الحقِّ تنقصًا له؛ كما إذا قيلَ للنصارى: {ما المسيح ابن

(1)

رواه أحمد (3248)، والنسائي (3057)، وابن ماجه (3029)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

رواه أحمد (21897)، والترمذي (2180)، وابن ماجه (3029)، من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه.

ورواه البخاري (3456)، ومسلم (2669)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ:«لتتبعن سنن الذين من قبلكم» .

(3)

رواه البخاري (3671)، عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «أبو بكر» ، قلت: ثم من؟ قال: «ثم عمر» ، وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: «ما أنا إلا رجل من المسلمين» .

ص: 212

مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة} قالوا: هذا تنقُّصٌ بالمسيحِ، وسوءُ أدبٍ معَه.

وهكذا المنتسِبونَ إلى هذه الأمةِ، تجدُ أحَدَهم يغلو في قدوتِه؛ حتى يكرهَ أن يُوصَفَ بما هو فيه، ومعَ هذا فهو يُكذِّبُه، ويقولُ على الله العظائمَ، وهذا بابٌ يطولُ، والمقصودُ التنبيهُ عليه.

إذا عُرِف ذلك: فقد اتفقَ سلَفُ الأمةِ وجميعُ الطوائفِ الذينَ لهم قولٌ مُعتبَرٌ: أن مَن سِوى الأنبياءِ ليس بمعصومٍ، لا من الخطأِ، ولا من الذنوبِ، سواءٌ كان صِدِّيقًا، أو لم يكُنْ، ولا فرقَ بينَ أن يقولَ: هو معصومٌ، أو محفوظٌ، أو ممنوعٌ.

قال الأئمةُ: كلُّ أحدٍ يُؤخَذُ من كلامِه ويُترَكُ؛ إلا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

ولهذا اتفقَت الأمةُ على أنه معصومٌ فيما يُبلِّغُه عن ربِّه، وقد اتفقوا على أنَّه لا يُقَرُّ على الخطأِ في ذلك، وكذلك لا يُقَرُّ على الذنوبِ، لا صغائرِها ولا كبائرِها.

ولكن تنازعوا: هل يقعُ منهم بعضُ الصغائرِ معَ التوبةِ منها، أو لا يقعُ بحالٍ؟

فقال بعضُ متكلِّمِي أهلِ الحديثِ، وكثيرٌ من المتكلِّمِينَ من الشيعةِ والمعتزلةِ: لا تقعُ منهم الصغيرةُ بحالٍ، وزاد الشيعةُ حتى قال

(1)

: لا يقعُ منهم لا خطأٌ ولا غيرُ خطأٍ.

(1)

هكذا في الأصل.

ص: 213

وأمَّا السلَفُ، وجمهورُ أهلِ الفقهِ والحديثِ والتفسيرِ، وجمهورُ متكلِّمي أهلِ الحديثِ من الأشعريةِ وغيرِهم: فلم يمنعوا الوقوعَ إذا كان معَ التوبةِ؛ كما دلَّتْ عليه النصوصُ من الكتابِ والسنةِ، فإن اللهَ يحبُّ التوابينَ، وإذا ابتُلِي بعضُ الأكابرِ بما يتوبُ منه؛ فذاك لكمالِ النهايةِ، لا لنقصِ البدايةِ، كما قال بعضُهم: لو لم تكُنِ التوبةُ أحبَّ الأشياءِ إليه؛ لما ابتلى بالذنبِ أكرمَ الخلقِ عليه.

وأيضًا فالحسناتُ والسيئاتُ تتنوَّعُ بحسَبِ المقاماتِ؛ كما يقالُ: حسناتُ الأبرارِ سيئاتُ المقرَّبِينَ.

فمن فهِم ما تمحوه التوبةُ، وترفعُ صاحبَها إليه من الدرجاتِ، وما يتفاوتُ الناسُ فيه من الحسناتِ والسيئاتِ؛ زالت عنه الشُّبهةُ في هذا البابِ، وأقرَّ الكتابَ والسنةَ على ما فيها من الهُدَى والصوابِ، فإن الغلاةَ يتوهَّمونَ أن الذنبَ إذا صدَر من العبدِ؛ كان نقصًا في حقِّه لا ينجبرُ؛ حتى يجعلوا مَن لم يسجدْ لصنمٍ أفضلَ، وهذا جهلٌ؛ فإن المهاجرينَ والأنصارَ - الذين هم أفضلُ هذه الأمةِ- هم أفضلُ من أولادِهم وغيرِ أولادِهم ممن وُلِد على الإسلامِ، وإن كانوا في أولِ الأمرِ كانوا كفارًا يعبدونَ الأصنامَ؛ بل المنتقلُ من الضلالِ إلى الهدى يُضاعَفُ له الثوابُ؛ كما قال:{فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} ، فهو أفرحُ بتوبةِ عبدِه من الذي ضلَّت راحلتُه في الأرضِ المَهْلَكةِ، ثم وجَدَها

(1)

.

ص: 214

فإذا كانتِ التوبةُ بهذه المثابةِ، كيفَ لا يكونُ صاحِبُها معظمًا؟! وقد وُصِفَ الإنسانُ بالظلمِ والجهلِ، وجُعِل الفرقُ بينَ المؤمنِ والكافرِ والمنافقِ أن يتوبَ اللهُ عليه؛ إذ لم يكُنْ له بدٌّ من الجهلِ، فقال:{ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} ، وخيرُ الخطَّائِينَ التوابونَ، وكلُّ بني آدمَ خطاؤونَ.

وقد ذكر اللهُ تعالى الذينَ وعدَهم الحُسْنى، فلم يَنْفِ عنهم الذنوبَ، فقال:{والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} ، إلى قولِه:{ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا} ، فذكر المغفرةَ والتكفيرَ، وقال:{أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون} ، وقال:«لن يدخُلَ أحدٌ منكم الجنةَ بعمَلِه» ، قالوا: ولا أنتَ؟ قال: «ولا أنا؛ إلا أن يتَغمَّدَنيَ اللهُ برحمتِه»

(1)

.

واعلَمْ أن كثيرًا من الناسِ يسبقُ إلى ذِهْنِه من ذِكْرِ الذنوبِ: الزنا، والسرقةُ، ونحوُ ذلكَ، فيستعظمُ أن كريمًا يفعلُ ذلك، ولا يعلمُ هذا المسكينُ أن أكثرَ عُقَلاءِ بني آدمَ لا يسرقونَ، بل ولا يزنونَ؛ حتى في جاهليَّتِهم وكفرِهم، فإن أبا بكرٍ وغيرَه كانوا قبلَ الإسلامِ لا يرضَوْنَ أن

(1)

رواه البخاري (6463) ومسلم (2816)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 215

يفعلوا مثلَ هذه الأعمالِ، ولما بايعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هندًا بنتَ عُتْبةَ بنِ ربيعةَ -أمَّ معاويةَ- بيعةَ النساءِ على ألا يسرقْنَ، ولا يزنينَ، قالت:«أَوَتَزْنِي الحُرَّةُ؟!»

(1)

، فما كانوا في الجاهليةِ يعرفونَ الزنا إلا للإماءِ، وكذا اللواطُ، فأكثرُ الأممِ لم تعرفْه، ولم يكُنْ يُعرَفُ في العربِ قطُّ.

ولكن الذنوبَ تتنوَّعُ، وهي كثيرةٌ لها شُعَبٌ، كالتي هي من بابِ الضلالِ في الإيمانِ، والبدعِ التي هي من جنسِ العُلُوِّ في الأرضِ، والفخرِ، والخيلاءِ، والحسدِ، والكِبْرِ، والرياءِ، هي في الناسِ الذينَ هم متعففونَ عن الفواحشِ.

وكذلك الذنوبُ التي هي تَرْكُ الواجباتِ؛ كالإخلاصِ، والتوكُّلِ على اللهِ، ورجاءِ رحمتِه، وخوفِ عذابِه، والصبرِ على حُكْمِه، والتسليمِ لأمرِه، والجهادِ، والأمرِ بالمعروفِ، والنهيِ عن المنكَرِ، ونحوِه، وتحقيقُ ما يجبُ من المعارفِ والأعمالِ يطولُ.

فإذا عُلِم ذلك؛ فظُلْمُ العبدِ نفْسَه يكونُ بتَرْكِ ما ينفَعُها وهي محتاجةٌ إليه، أو بفعلِ ما يضُرُّها؛ كما أن ظُلْمَ الغيرِ كذلك؛ إمَّا بمَنْعِ حقِّه، أو التعدي.

والنفْسُ إنما تحتاجُ من العبدِ إلى فعلِ ما أمَر اللهُ به، وإنما يضُرُّها فعلُ ما نهَى عنه، فظُلْمُها لا يخرجُ عن تركِ حسنةٍ، أو فعلِ سيئةٍ، وما

(1)

رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده (4754)، من حديث عائشة رضي الله عنها، ورواه ابن سعد في الطبقات (8/ 9)، من مرسل الشعبي، وروى نحوه الحاكم في المستدرك (6930)، من حديث فاطمة بنت عتبة رضي الله عنها.

ص: 216

يُضطَرُّ العبدُ إليه - حتى أكلُ المَيْتةِ - داخلٌ في هذا، فأَكْلُها عندَ الضرورةِ واجبٌ في المشهورِ من مذهبِ الأئمةِ الأربعةِ، وكذلك ما يضُرُّها من جنسِ العباداتِ؛ مثلِ: الصومِ الذي يزيدُ في مرَضِها، أو الاغتسالِ بالماءِ الباردِ الذي يقتُلُها؛ هو من ظلمِها، فإن اللهَ أمَر العبادَ بما ينفَعُهم، ونهاهم عما يضُرُّهم، وجاء القرآنُ بالأمرِ بالصلاحِ، والنهيِ عن الفسادِ، والصلاحُ كلُّه طاعةٌ، والفسادُ كلُّه معصيةٌ، وقد لا يعلمُ بعضُ الناسِ ذلك على حقيقتِه، فالمؤمنُ يعلمُ أن اللهَ يأمُرُ بكلِّ مصلحةٍ، وينهى عن كل مفسدةٍ.

ومما يجبُ أن يعرفَ: أن العبدَ قد يجبُ عليه أسبابُ أمورٍ لا يجبُ عليه بدونِها، فإن قام بها كان مُحسِنًا إلى نفْسِه؛ وإلا كان ظالمًا لنفْسِه، وإن لم يكُنْ تركُها ظلمًا في حقِّ مَن لم يقبلْ تلك الأسبابَ مِمَّن ولِيَ ولايةً، ففي «المسنَدِ»:«أحبُّ الخلقِ إلى اللهِ إمامٌ عادلٌ، وأبغَضُهم إمامٌ جائرٌ»

(1)

، وكذلك من لغيرِه عليه حقوقٌ؛ كالزوجةِ، والأولادِ، والجيرانِ، فقد ذكر اللهُ الحقوقَ العشرةَ في قولِه:{واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين} إلى: {وما ملكت أيمانكم} ، فكلما ازدادت معرفةُ الإنسانِ بالنفوسِ ولوازِمِها، وتقلُّبِ القلوبِ، وبما عليها من الحقوقِ للهِ ولعبادِه، وبما حُدَّ لهم من الحدودِ: علِمَ أنه لا يخلو أحدٌ عن تركِ بعضِ الحقوقِ، أو تعدي بعضِ الحدودِ، ولهذا أمر عبادَه المؤمنينَ أن يسألوه

(1)

رواه أحمد (11174)، والترمذي (1329)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 217

أن يَهْديَهم الصراطَ المستقيمَ في اليومِ والليلةِ في المكتوبةِ وحدَها سبعَ عشْرةَ مرةً، وهو صراطُ الذينَ أنعَمَ عليهم من النبيِّينَ والصديقينَ والشهداءِ والصالحينِ، ومَن يُطِعِ اللهَ ورسولَه فهم هؤلاءِ.

‌فالصراطُ المستقيمُ:

هو طاعةُ اللهِ ورسولِه، وهو دينُ الإسلامِ التامِّ، وهو اتباعُ القرآنِ، وهو لزومُ السنةِ والجماعةِ، وهو طريقُ العبوديةِ، وهو طريقُ الخوفِ والرجاءِ، ولهذا كان يقولُ صلى الله عليه وسلم في خطبتِه:«الحمدُ للهِ نستعينُه ونستغفِرُه»

(1)

؛ لعِلْمِه أنه لا يفعلُ خيرًا ولا يجتنبُ شرًّا إلا بإعانةِ اللهِ له، وأنه لا بدَّ أن يفعلَ ما يُوجِبُ الاستغفارَ.

‌وفي الصحيحِ:

«سيدُ الاستغفارِ أن يقولَ العبدُ: اللهُمَّ أنتَ ربي، لا إلهَ إلا أنتَ، خلَقْتني وأنا عبدُكَ، وأنا على عهدِكَ ووعدِكَ ما استطعتُ، أعوذُ بكَ من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لكَ بنعمتِكَ عليَّ، وأبوءُ بذَنْبي، فاغفِرْ لي؛ إنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ»

(2)

.

فقولُه: «أبوءُ لك بنعمتِكَ عليَّ» : يتناولُ نعمتَه عليه في إعانتِه على الطاعاتِ.

وقولُه: «أبوءُ لك بذَنْبي» : يبينُ إقرارَه بالذنوبِ التي تحتاجُ إلى الاستغفارِ، واللهُ غفورٌ شكورٌ، يغفرُ الكبيرَ، ويشكرُ اليسيرَ.

(1)

رواه أحمد (4115)، وأبو داود (1097)، والترمذي (1105)، والنسائي (1404)، وابن ماجه (1892)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (6306)، من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.

ص: 218

وجاء عن غيرِ واحدٍ: (إني أُصبِحُ بينَ نعمةٍ وذنبٍ، أريدُ أن أحدثَ للنعمةِ شكرًا، وللذنبِ استغفارًا).

وكان المشايخُ يقرنونَ بينَ هذه الثلاثةِ: الشكرِ لما مضى من إحسانِه، والاستغفارِ لما تقدَّمَ من إساءةِ العبدِ، والاستعانةِ لما يستَقْبِلُه العبدُ من أمورِه، فلا بدَّ لكلِّ عبدٍ من هذه الثلاثةِ.

فقولُه: «الحمدُ للهِ، نستَعينُه، ونستغفِرُه» يتناولُ ذلك، فمَن قصَّرَ في واحدٍ منها؛ فقد ظلَمَ نفسَه بحسَبِ تقصيرِ العبدِ، والعبدُ إذا عمِلَ بما علِمَ؛ ورَّثَه اللهُ عِلْمَ ما لم يعلَمْ، كما قال:{ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم} الآيةَ، {والذين اهتدوا زادهم هدى} .

وإذا ترَك العملَ بعِلْمِه؛ عاقَبَه؛ بأن أضَلَّه عن الهدى الذي لا يعرفُه، كما قال:{فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} ، {ونقلب أفئدتهم} و {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} .

وفي الحديثِ: «إن العبدَ إذا أذنبَ نُكِتَ في قلبِه نُكْتةٌ سوداءُ، فإذا تابَ ونزَع واستغفَرَ صُقِلَ قلبُه، وإن زاد زِيدَ فيها حتى تعلوَ قلبَه، فذلك الرانُ الذي قال فيه: {كلا بل ران على قلوبهم}» رواه التِّرْمِذيُّ وصحَّحَه

(1)

.

(1)

رواه أحمد (7952)، والترمذي (3334)، وابن ماجه (4244)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 219

فهذه الأمورُ يتبيَّنُ بها أجناسُ ظلمِ العبدِ نفْسَه؛ لكن كلَّ إنسانٍ بحسَبِه وبحسَبِ درجتِه، فما من صباحٍ يصبحُ إلا وللهِ على عبدِه حقوقٌ لنفْسِه ولخلقِه عليه أن يفعلَها، وحدودٌ عليه أن يحفظَها، ومحارمُ عليه أن يجتنبَها.

‌فإن أجناسَ الأعمالِ ثلاثةٌ:

مأمورٌ به، فالواجبُ منه: هو الفرائضُ.

ومَنْهيٌّ عنه، وهو المَحارمُ.

ومباحٌ له حدٌّ، فتَعَدِّيه تَعَدٍّ لحدودِ اللهِ؛ بل قد يكونُ الزائدُ على بعضِ الواجباتِ أو المستحباتِ؛ تَعَدِّيًا لحدودِ اللهِ، وذلك هو الإسرافُ، كما قال:{ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} .

‌إذا عُرِف ذلك

؛ فقولُ القائلِ: ما مفهومُ قولِ الصدِّيقِ: «ظلمتُ نفْسِي ظلمًا كثيرًا» ، والدعاءُ بينَ يدي اللهِ لا يَحتمِلُ المجازَ، والصديقُ من أئمةِ السابقين، والرسولُ أمَرَه بذلك، كأنه ثار له شبهةٌ أنْ قال: الصدِّيقُ أجلُّ قدرًا من أن يكونَ له ذنوبٌ تكونُ ظلمًا كثيرًا، فإن ذلك يُنافي مرتبته الصدِّيقيَّةَ.

وهذه الشبهةُ تزولُ بوجهينِ:

‌أحدُهما:

أن الصدِّيقَ - بل والنبيُّ - إنما كمُلَتْ مَرْتبتُه، وانتهَتْ درجَتُه، وتَمَّ عُلُوُّ منزلتِه؛ في نهايتِه لا في بدايتِه، وإنما نال ذلك بفعلِ

ص: 220

ما أمَر اللهُ به من الأعمالِ الصالحةِ، وأفضلُها التوبةُ، وما وُجِدَ قبلَ التوبةِ فإنه لم ينقُصْ صاحبَه، ولا يُتصوَّرُ أن بشرًا يستغني عن التوبةِ، كما في الصحيحِ:«أيُّها الناسُ توبوا، فإني أتوبُ إلى اللهِ في اليومِ أكثرَ من سبعينَ مرةً، وإنه ليُغانُ على قلبي فأستغفِرُ اللهَ في اليومِ مائةَ مرَّةٍ»

(1)

.

وكذلك قولُه: «اللهُمَّ اغفِرْ لي خطأي، وجهلي، وعَمْدي، وكلُّ ذلك عندي»

(2)

: فيه من الاعترافِ أعظَمُ مما في دعاءِ الصدِّيقِ، والصدِّيقونَ تجوزُ عليهم جميعُ الذنوبِ باتفاقِ الأئمةِ.

‌فما يُلقى لأهلِ

المكاشفاتِ والمخاطَباتِ من المؤمنينَ؛ هو من جنسِ ما يكونُ لأهلِ القياسِ والرأيِ؛ فلا بدَّ من عرضِه على الكتابِ والسنَّةِ والإجماعِ، فليس أحدٌ من هؤلاء المشايخِ ولا الصدِّيقينَ معصومًا، فكلُّ مَن ادَّعى غِناه عن الرسالةِ بمكاشفةٍ أو بمخاطبةٍ أو عصمةٍ، سواءٌ ادَّعى ذلك له أو لشيخِه؛ فهو من أضَلِّ الناسِ.

ومَن استدلَّ على ذلك بقصَّةِ الخضِرِ؛ فهو مِن أجهلِ الناسِ؛ فإنَّ موسى لم يكنْ مبعوثًا إلى الخَضِرِ، ولا كان يجبُ على الخضِرِ اتباعُه؛ بل قال لموسى

(3)

: «إني على علمٍ من علمِ اللهِ علَّمَنيه اللهُ لا تعلمُه، وأنت على علمٍ من علمِ اللهِ علَّمَكه اللهُ لا أعلمُه» ، ولمَّا سلَّم عليه قال:

(1)

رواه مسلم (2702)، من حديث الأغر المزني رضي الله عنه.

(2)

تقدم تخريجه ص

ظظ

(3)

في الأصل: قال له موسى. والمثبت من (ك) و (ع)، وهو الموافق لما في البخاري.

ص: 221

«وأنَّى بأرضِك السلامُ!» ، قال:«أنا موسى» ، قال:«موسى بني إسرائيلَ؟» قال: «نعم»

(1)

. فالخضِرُ لم يعرفْ موسى حتى عرَّفَه نفسَه.

وأما محمدٌ صلى الله عليه وسلم؛ فهو الرسولُ إلى جميعِ الخلْقِ، فمن لم يَتَّبِعْه كان كافراً ضالاً مِن جميعِ مَن بلغتْه دعوتُه، ومَن قال له مثلَ ما قال الخضِرُ فهو كافرٌ.

وأيضًا: ما فعله الخضِرُ لم يكنْ خارجًا عن شريعةِ موسى، فلمَّا بيَّنَ له الأسبابَ؛ أقرَّه على ذلك، فكان قد علِم الخضرُ الأسبابَ التي أباحتْ له ذلك الفعلَ، ولم يعلمْها موسى؛ كما يدخلُ الرجلُ دارَ غيرِه فيأكلُ طعامَه ويأخذُ مالَه؛ لعلمِه بأنَّه مأذونٌ له.

وأيضًا: فإن الخضِرَ - إن كان نبيًّا- فليس لغيرِه أن يتشبَّه به، وإن لم يكنْ نبيًّا -وهو قولُ الجمهورِ-؛ فأبو بكرٍ وعمرُ أفضلُ منه؛ فإن هذه الأمةَ خيرُ أمةٍ أُخرِجت للناسِ، وأبو بكرٍ وعمرُ خيارُها، وكان حالُهما معَ رسولِ اللهِ كما قد عُلِم من الطاعةِ لأمرِه، ونحن مأمورونَ أن نقتديَ بهما، بل مَن اعتقد أنه يجوزُ له أن يخرُجَ عن طاعةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتصديقِه في شيءٍ من أمورِه الباطنةِ أو الظاهرةِ؛ فإنه يجبُ استتابتُه، فإن تاب وإلا قُتِل؛ كائنًا مَن كان.

وأما ما ذكَره التِّرْمِذيُّ

(2)

في أصنافِ الرحمةِ؛ فلا ريبَ أن الرحمةَ

(1)

رواه البخاري (122)، ومسلم (2380)، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.

(2)

أي: الحكيم الترمذي، وقد سبق كلامه ص .. ظظ.

ص: 222

أصنافٌ متنوعةٌ كما ذكره، وليس في الحديثِ:«رحمةً من عندِك» ، وإنما فيه:«فاغفِرْ لي مغفرةً من عندِك» ، ولكنَّ مقصودَه: أن يشبِّهَ هذا بقولِه: {وهب لنا من لدنك رحمة} ، وقد جعل هذه المغفرةَ من عندِه مغفرةً مخصوصةً، ليست مما يُبذَلُ للعامَّةِ، كما أن الرحمةَ مخصوصةَ ليست مما يُبذَلُ للعامَّةِ.

وهذا الكلامُ في بعضِه نظرٌ، وهو كغيرِه من المصنِّفينَ في كلامِه مردودٌ ومقبولٌ، فليس في قولِه:«مغفرةً من عندِكَ» ، ولا:{هب لنا من لدنك رحمة} ونحوِ ذلك؛ ما يقتضي اختصاصَ هذا الشخصِ دونَ غيرِه، وإلا لَمَا ساغ لغيرِه أن يدعوَ بهذا الدعاءِ، وهذا خلافُ الإجماعِ، وتفسيرٌ للفْظِ بما لا يدُلُّ عليه، وقد قال زكريا:{هب لي من لدنك ذرية طيبة} ، ولم تكن الذريةُ مختصةً به ولا بالأنبياءِ، بل اللهُ يُخْرِجُ الأنبياءَ من الكفارِ إذا شاء، ولكن بمشيئتِه، واللهُ أعلمُ أنه إذا قال:«مِن عندِك» و: «من لدُنْك» كان مطلوبًا بغيرِ فعلِ العبدِ؛ فإن ما يعطيه اللهُ العبدَ على وجهينِ:

منه ما يكونُ بسببِ فعلِه؛ كالرزقِ الذي يرزقُه بكَسْبِه، والسيئاتِ التي يغفِرُها بالحسناتِ الماحيةِ، والولدِ الذي يعطيه بالنكاحِ المعتادِ، والعلمِ الذي ينالُه بالتعلُّمِ.

ومنه ما يعطيه للعبدِ، ولا يُحْوِجُه إلى السببِ الذي ينالُ به في غالبِ الأمورِ؛ كما أعطى زكريا الولدَ معَ أن امرأتَه كانت عاقرًا، وقد بلَغ من الكِبَرِ عِتِيًّا، فهذا وهبه له اللهُ مِن لدُنْه ليس بالأسبابِ المعتادةِ.

ص: 223

وكذلك العلمُ الذي علَّمَه الخضِرَ مِن لدُنْه لم يكُنْ بالتعلُّمِ المعهودِ، وكذلك الرحمةُ الموهوبةُ، ولهذا قال:«إنكَ أنتَ الوهابُ» ، وقولُه:«مغفرةً من عندِك» ؛ لم يقُلْ فيه: «من لدُنْك مغفرةً» بل «مِن عندِك» .

ومن الناسِ من يُفرِّقُ بينَ «لدنكَ» و «عندكَ» كما قد يُفَرِّقُ بينَ التقديمِ والتأخيرِ، فإن لم يكُنْ بينَهما فرْقٌ؛ فقد يكونُ المرادُ:«اغفِرْ لي مغفرةً من عندِك» ؛ لا يصلُها بأسبابٍ؛ لا من عزائمِ المغفرةِ التي يُغفَرُ لصاحبِها كالحجِّ والجهادِ ونحوِه، بل اغفِرْ لي مغفرةً تخصُّها لي وتجودُ بها عليَّ بلا عملٍ يقتضي تلك المغفرةَ.

ومن المعلومِ أن اللهَ قد يغفرُ الذنوبَ بالتوبةِ، وقد يغفِرُها بالحسناتِ، أو بالمصائبِ، وقد يغفِرُها بمجرَّدِ استغفارِ العبدِ وسؤالِه أن يغفِرَ له؛ فهذه مغفرةٌ من عنده.

فهذا الوجهُ إذا فُسِّر به قوله: «من عندِكَ» ؛ كان أحسنَ وأشبهَ مما ذُكِرَ من الاختصاص.

وأما قولُه: «والأشياءُ كلُّها من عندِه» فيقالُ: للأشياءِ وجهانِ؛ منها ما جُعل سببًا من العبدِ يوفِّيه عليه، ومنها ما يفعلُه بدونِ ذلك السببِ، بل إجابةً لسؤالِه، وإحسانًا إليه، واستعمالُ لفظِ:«مِن عندِك» في هذا المعنى هو المناسبُ، دونَ تخصيصِ بعضِ الناسِ دونَ بعضٍ؛ فإن قولَه:«مِن عندِك» دلالتُه على الأولِ أبينُ، ولهذا يقولُ الرجلُ لما يطلبُه: أعطني مِن عندِك؛ لِما يطلبُه منه بغيرِ سببٍ؛ بخلافِ ما يطلبُه من الحقوقِ التي عليه، كالدَّينِ والنفقةِ، فلا يقالُ فيه: مِن عندِك، واللهُ

ص: 224

تعالى أعلم.

وإن كان الخلقُ لا يوجِبون عليه شيئًا؛ فهو قد كتَب على نفسِه الرحمةَ، وحرَّم الظُّلمَ على نفسِه، وأوجَب بوعدِه ما يجبُ لمن وعده إيَّاه، فهذا قد يصير واجبًا بحُكمِ إيجابِه ووعدِه؛ بخلافِ ما لم يكُنْ كذلك، فاستعمالُ «من عندِكَ» في هذا؛ هو شبيهٌ باستعماله فيما يُطلبُ من الناسِ من الإحسانِ.

وأيضاً فقوله: «من عندِكَ» يُرادُ به أن تكونَ مغفرةً تجودُ بها أنت، لا تُحْوِجُني فيها إلى خلقِك، ولا يحتاجُ إلى أحدٍ يشفعُ فيَّ أو يستغفرُ لي.

واستعمالُ لفظِ: «من عندِكَ» في مثلِ هذا معروفٌ، كما في حديثِ توبة كعبِ بنِ مالكٍ لمَّا قال له رسولُ اللهِ: «أبْشِرْ بخيرِ يومٍ مرَّ

(1)

عليكَ منذُ ولَدَتْك أمُّك»، فقلت: يا رسولَ اللهِ، أمِن عندِ اللهِ أو مِن عندك؟ فقال:«بل من عندِ اللهِ»

(2)

، فأخبره أنه تاب عليه من عندِه.

وكِلا الوجهين: قول مريمَ: {هو من عند الله} ، فلما كان الرزقُ لم يأتِ به بشرٌ، ولم يُسْعَ فيه السعيَ المعتادَ قالت:{هو من عند الله} .

فهذه المعاني وما يناسبُها هي التي يشهدُ لها استعمالُ هذا اللفظِ.

وإن قال قائلٌ: كذلك كلامُ الحكيمِ أرادَ به مثلَ هذا؛ كان محتمِلًا،

(1)

في الأصل: يسير. والمثبت من (ك) و (ع)، وهو الموافق لرواية الصحيحين.

(2)

رواه البخاري (4418)، ومسلم (2769)، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.

ص: 225

وقد قال عمرُ: «احملْ كلامَ أخيك على أحْسَنِه؛ حتى يأتيَك ما يغلِبُك منه»

(1)

، واللهُ أعلمُ.

‌والتوبةُ والاستغفارُ

قد يكونُ من تركِ الأفضلِ

(2)

، والذمُّ والوعيدُ لا يكون إلا عن ذنبٍ.

‌ومن سمِع المؤذِّنَ وهو في صلاةِ

(3)

التطوُّعِ

؛ أتمَّها، ولا يقولُ مثلَ ما يقولُ عند الجمهورِ

(4)

، كما لو سمِع غيرَه يقرأُ سجدةً؛ لم يسجُدْ في الصلاةِ عندَ الجمهورِ.

‌وقولُ القائلِ:

(ليس إلا اللهُ، ما ثَمَّ إلا اللهُ) مُجْمَلٌ يحتمِلُ حقًّا وباطلًا

(5)

.

(1)

رواه أبو داود في الزهد (83).

(2)

أي: يستغفر بسبب انتقاله من حال الكمال إلى التي أدنى منها، قال في مجموع الفتاوى 5/ 274:(فمن نقل إلى حال أفضل مما كان عليه قد يتوب من الحال الأول).

(3)

في الأصل: الصلاة.

(4)

واختار شيخ الإسلام: أنه يجيب المؤذن ولو كان في الصلاة. قال في الفروع 2/ 28: (وعند شيخنا - أي: شيخ الإسلام-: يجيبه فيها - أي: في الصلاة -، وكذا عند ذكر ودعاء ونحوه وجد سببه فيها)، وينظر: الاختيارات للبعلي ص 61.

(5)

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 2/ 488: (قول القائل "ما ثم إلا الله": لفظ مجمل يحتمل معنى صحيحًا ومعنى باطلًا؛ فإن أراد: ما ثم خالق إلا الله، ولا رب إلا الله، ولا يجيب المضطرين ويرزق العباد إلا الله .... فهذه المعاني كلها صحيحة، وهي من صريح التوحيد

وأما إن أراد القائل: "ما ثم إلا الله" ما يقوله أهل الاتحاد؛ من أنه ما ثم موجود إلا الله، ويقولون: ليس إلا الله، أي: ليس موجود إلا الله، ويقولون: إن وجود المخلوقات هو وجود الخالق، والخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق، والعبد هو الرب، والرب هو العبد، ونحو ذلك من معاني الاتحادية

فمن أراد هذه المعاني؛ فهو ملحد ضال، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل).

ص: 226

‌فصلٌ

(1)

‌روى أبو ذرٍّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم

أنه قال فيما يَروي عن ربِّه تبارك وتعالى: «يا عبادي إني حرَّمْتُ الظُّلم على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظَالَموا

»

(2)

الحديثَ.

فقولُه: «إنِّي حرَّمْتُ الظُّلم على نفسي» فيه مسألتانِ كبيرتانِ، كلٌّ منهما ذاتُ شُعَبٍ وفروعٍ.

إحداهما: في الظُّلمَ الذي حرَّمه ونفاه عن نفْسِه بقولِه: {وما ظلمناهم} ، وقولِه:{ولا يظلم ربك أحدا} ، {وما ربك بظلام للعبيد} ، {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} ، {ولا تظلمون فتيلا} ، {وما الله يريد ظلما للعباد} ، {فلا يخاف ظلما ولا هضما}: فقد تنازعَ الناسُ في معنى هذا الظُّلمِ تنازعًا صاروا فيه بينَ طرفينِ ووسطٍ بينَهما، وخيارُ الأمورِ أوسطُها.

(1)

ينظر أصل هذه الفتوى في هذا الفصل والذي يليه في: مجموع الفتاوى 18/ 136، الفتاوى الكبرى 1/ 75.

(2)

رواه مسلم (2577).

ص: 227

وذلك بسببِ مجامعةِ القدرِ للشرع؛ إذ الخوضُ فيه بغيرِ علمٍ أوجب ضلالَ عامَّةِ الأممِ، ونهى النبيُّ أصحابَه عن التنازعِ فيه.

فذهب المكذِّبون بالقدَرِ القائلون بأن اللهَ لم يخلُقْ أفعالَ العبادِ، ولم يُرِدْ أن يكونَ إلا ما أمر بأن يكونَ، وغُلاتُهم المكذِّبون بتقدُّمِ عِلمِ اللهِ وكتابِه ما سيكونُ من أفعالِ العبادِ من المعتزلةِ وغيرِهم: إلى أن الظُّلمَ منه هو نظيرُ الظُّلم من الآدميين بعضِهم لبعضٍ، وشبَّهوه ومثَّلوه في الأفعالِ بأفعالِ العبادِ، وضربوا للهِ الأمثالَ، بل أوجبوا عليه وحرَّموا ما رأوا أنه يجبُ على العبادِ ويحرُمُ بقياسِه على العبادِ.

وقالوا: إذا أمر العبدَ ولم يُعِنْه بجميعِ ما يقدرُ عليه من وجوهِ الإعانةِ؛ كان ظالمًا، والْتزموا أنه لا يقدِرُ أن يَهْدِيَ ضالًّا، كما قالوا: إنه لا يقدرُ أن يُضِلَّ مهتديًا، وقالوا: إذا أمر اثنين بأمرٍ واحدٍ، وخصَّ أحدَهما بإعانتِه على فعلِ المأمورِ؛ كان ظالمًا، إلى مثلِ ذلك من الأمورِ التي هي من بابِ الفضلِ والإحسانِ، جعلوا تركَه لها ظلمًا.

وكذلك ظنُّوا أن التعذيبَ لمن كان فعلُه مقدَّرًا؛ ظلمٌ له، ولم يفرِّقوا بينَ التعذيبِ لمن قام به سببُ استحقاقِ ذلك، ومن لم يقُمْ، وإن كان ذلك الاستحقاقُ خلقَه لحكمةٍ أخرى عامَّةٍ أو خاصةٍ.

وهذا الموضعُ زلَّتْ فيه أقدامٌ، وضلَّتْ فيه أفهامٌ؛ فعارضَ هؤلاءِ آخرونَ من أهلِ الكلامِ المثبتينَ للقدَرِ، فقالوا: ليس للظُّلمِ منه حقيقةٌ يمكنُ وجودُها، بل هو من الأمورِ الممتنعةِ لذاتِها، فلا يجوزُ أن يكون مقدورًا، ولا أن يقالَ: إنه تاركٌ له باختيارِه، وإنما هو من بابِ الجمعِ

ص: 228

بينَ الضدَّين، وجعْلِ الجسمِ الواحدِ في مكانين، وقلبِ القديمِ محدَثًا، وإلا فمهما قُدِّرَ في الذِّهنِ وكان وجودُه ممكنًا؛ فاللهُ قادرٌ عليه، فليس بظلمٍ منه؛ فعَله أو لم يفعَلْه.

وتلقَّى هذا القولَ عن هؤلاء طوائفُ من أهلِ الإثبات من الفقهاءِ وأهلِ الحديثِ مِن أصحابِ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ وغيرِهم، ومِن شُرَّاح الحديثِ، وفسَّروا هذا الحديثَ بما ينبني على هذا القولِ.

وربما احتجوا

(1)

بظواهرَ مأثورةٍ؛ كما رُوِّينا عن إياسِ بنِ معاويةَ أنه قال: ما ناظرتُ بعقلي كلِّه أحدًا إلا القدريةَ، قلتُ لهم: ما الظلمُ؟ قالوا: أن تأخذَ ما ليس لك، أو تتصرَّفَ فيما ليس لك. قلتُ: فللهِ كلُّ شيء

(2)

.

وليس هذا من إياسٍ إلا ليبيِّنَ أن التصرفاتِ الواقعةَ هي في ملكِه، فلا يكونُ ظلمًا بموجِبِ حدِّهم، وهذا لا تنازع بينَ أهلِ الإثباتِ فيه؛ فإنهم متفقونَ على أنَّ كلَّ ما فعله اللهُ فهو عَدْلٌ.

فرأى إياسٌ أن الجوابَ المطابِقَ لحدِّهم خاصِمٌ لهم، ولم يدخلْ معهم في التفصيلِ الذي يطولُ بالجملةِ؛ كما قال ربيعةُ لغَيلانَ حينَ قال

(1)

قوله: (احتجوا) مثبتة من (ع) و (ك)، وسقطت من الأصل، وكتب في هامشها:(لعله: واستدلوا).

(2)

رواه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة (946)، والخلال في السنة (942)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (1899)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1280).

ص: 229

له غَيلانُ: نشَدتُك اللهَ أترى اللهَ يحبُّ أن يُعصى؟ فقال: نشدْتُك اللهَ أترى اللهَ يُعصى قَسْرًا! فكأنما ألْقمه حجَرًا

(1)

.

فإن قوله: (يحبُّ أن يعصى) لفظٌ فيه إجمالٌ، وقد لا يتأتَّى في المناظرةِ تفسيرُ المجمَلاتِ؛ خوفًا من لَدَدِ الخصمِ، فيُؤْتى بالواضحاتِ كما ألزمه بالعجزِ الذي هو لازمٌ للقدريةِ، ولمن هو شرٌّ منهم من الدَّهريةِ الفلاسفةِ وغيرِهم.

فقولُه: {فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا} قال أهلُ التفسيرِ: (لا يَخاف أن يُظْلَمَ فيُحْمَلَ عليه سيئاتُ غيرِه، ولا يُهضَمَ فيُنْقَصَ من حسناتِه)

(2)

.

ولا يجوزُ أن يكونَ هذا الظُّلمُ هو شيءٌ ممتنعٌ غيرُ مقدورٍ عليه، فيكونَ التقديرُ: فلا يخافُ ما هو ممتنعٌ لذاتِه، خارجٌ عن الممكِناتِ والمقدوراتِ؛ فإنَّ مثلَ هذا إذا لم يكُنْ وجودُه ممكنًا حتى يقولوا: إنه غيرُ مقدورٍ ولو أراده؛ كخَلْقِ المِثْلِ، فكيف يُعقلُ وجودُه؛ فضلًا أن يُتصوَّرَ خوفُه حتى يُنفى خوفُه؟!

ثم أيُّ فائدةٍ في نفيِ خوفِ هذا؛ وقد عُلِم من سياقِ الكلامِ أن

(1)

رواه الفريابي في القدر (317)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (1872)، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1265).

(2)

رواه ابن أبي حاتم في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه ابن جرير في التفسير (18/ 380) عن قتادة رحمه الله.

ص: 230

المقصودَ بيانُ أن هذا العاملَ لا

(1)

يُجْزى على إحسانِه بالظُّلمِ والهَضْمِ.

فعُلِم أن الظُّلمَ والهضمَ المنفيَّ يتعلقُ بالجزاءِ كما ذكره أهلُ التفسيرِ، وأن اللهَ لا يَجْزيه إلا بعملِه، ولهذا كان الصوابُ: أن اللهَ لا يُعَذِّبُ إلا مَن أذْنبَ.

وكذا قولُه: {وما ربك بظلام للعبيد} يدلُّ الكلامُ على أنه لا يظلِمُ محسنًا فينقُصَه مِن حسناتِه، أو يجعلَها لغيرِه، ولا يظلِمُ مسيئًا فيَحمِلَ عليه سيئات غيرِه، بل {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} ، كقولِه:{أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفَّى ألا تزر وازرة وزر أخرى} ، فليس على أحدٍ وِزْرُ غيرِه، ولا يستحقُّ إلا ما سعاه، وكلا القولينِ حقٌّ على ظاهرِه.

وكذلك قولُه فيمن عاقَبَهم: {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} ؛ بيَّن أن عقابَ المجرمين عدْلٌ لذنوبِهم واتخاذِهم الآلهةَ التي لم تُغْنِ عنهم شيئًا؛ لا لأنَّا ظلمْناهم فعاقبْناهم بغيرِ ذنبٍ.

وكذا قولُه: {ويا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب} إلى قوله: {وما الله يريد ظلما للعباد} ؛ يبيِّن أن هذا العقابَ لم يكُنْ ظلمًا؛ بل لاستحقاقِهم ذلك.

وأيضًا: فالأمرُ الذي لا يمكنُ؛ لا يصلحُ أن يُمْدَحَ الممدوحُ بعدمِ إرادتِه، وإنما يكونُ الممدوحُ

(2)

بتركِ الأفعالِ القادرِ عليها، فعُلِم أنه

(1)

سقطت (لا) من الأصل، والمثبت من (ك) و (ع) ومجموع الفتاوى.

(2)

في مجموع الفتاوى: المدح.

ص: 231

قادرٌ على ما نزَّه نفسَه عنه من الظُّلمِ، وأنه لا يفعلُه.

وبذلك يصحُّ قولُه: «إني حرمتُ الظُّلمَ على نفسِي» ، فلا يجوزُ أن يكونَ فيما هو ممتنعٌ لذاتِه، فلا يصلُحُ أن يقالَ: حرمتُ أو منعتُ نفسي من خَلْقِ مِثْلي، أو من جَعْلِ المخلوقاتِ خالقةً، ونحوَ ذلك من المُحالاتِ التي يَعلمُ كلُّ أحدٍ أنها ليست مرادًا للربِّ.

والذي قاله الناسُ: أنَّ الظُّلمَ وضْعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه؛ يتناولُ هذا المقدورَ دونَ ذاك الممتنعِ، وكذلك قولِ بعضِهم: الظُّلمُ إضرارُ غيرِ مستحقٍّ، فاللهُ لا يعاقِبُ أحدًا بغيرِ حقٍّ، وكذلك من قال: هو نقصُ الحقِّ؛ كقولِه: {كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئًا} .

ومن قال: التصرفُ في مِلْكِ الغيرِ؛ فليس بمطَّرِدٍ، فقد يتصرفُ الإنسانُ في ملكِ غيرِه بحقٍّ ولا يكونُ ظُالمًا، وقد يتصرفُ في مِلْكِه بغيرِ حقٍّ فيكونُ ظالمًا، وظلمُ العبدِ نفسَه كثيرٌ في القرآنِ.

‌فَصْل

‌فتبيَّنَ بما قدَّمْنا:

أن القولَ الوسطَ- وهو الحقُّ-: أن الظُّلمَ الذي حرَّمه على نفسِه مثلُ أن يتركَ حسناتِ المحسنِ فلا يَجْزِيَه بها، ويعاقبَ البريءَ على ما لم يفعلْ من السيئاتِ، ويعاقبَ هذا بذنبِ غيرِه، أو يحكمَ بينَ الناسِ بغيرِ القسطِ، ونحوِ ذلك من الأفعالِ التي نزَّه نفسَه سبحانه عنها لقسطِه وعدلِه، وهو قادرٌ عليها، وإنما استحقَّ الحمدَ والثناءَ؛ لأنه ترك هذا الظُّلمَ وهو قادرٌ عليه.

ص: 232

المسألةُ الثانيةُ: للناسِ في أفعالِ اللهِ باعتبارِ ما يصلحُ منه ويجوزُ وما لا يجوزُ: ثلاثةُ أقوالٍ؛ طرفانِ ووسطٌ.

الطرفُ الأولُ: القَدَريةُ؛ حجَروا عليه أن يفعلَ إلا ما ظنُّوا بعقولِهم أنه الجائزُ له؛ حتى وضعوا له شريعةَ التعديلِ والتجويزِ، لا بمعنى أن العقلَ آمرٌ له وناهٍ، فإن هذا لا يقولُه عاقلٌ؛ بل بمعنى أن تلك الأفعالَ مما عُلِم بالعقلِ وجوبُها وتحريُمها، ولكن أدْخَلوا في ذلك ما بنَوْه على بدعتِهم من التكذيبِ بالقدرِ وتوابعِ ذلك.

الطرفُ الثاني: طرفُ الغُلاةِ في الردِّ عليهم؛ وهم الذين قالوا: لا يُنَزَّهُ الربُّ عن فعلٍ من الأفعالِ، ولا يُعْلَمُ وجهُ امتناعِ الفعلِ منه إلا من جهةِ خبرِه أنه لا يفعلُه المطابق لعلمِه بأنه لا يفعلُه؛ وهؤلاء منعوا حقيقةَ ما أخبرَ به أنه كتب على نفسِه الرحمةَ، وحرَّم على نفسِه الظُّلمَ.

والثالثُ: القولُ الوسطُ؛ أنه سبحانَه على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وله الخلقُ والأمرُ، وأنه معَ ذلك حرَّم على نفْسِه أشياءَ، وأخبَرَ أنه لا يفعَلُها، وهي مقدورةٌ له، ويتركُه مع قدرتِه عليه؛ لأنه عادلٌ ليس بظالمٍ، كما ينزِّهُ عن عقوبةِ الأنبياءِ، وكما ينزِّهُ أن يُحَمِّلَ البريءَ ذنوبَ المُعْتدينَ.

وقولُه: «فلا تَظَالَموا» فيه كلُّ الدِّينِ؛ فالجملةُ الأولى قولُه: «حرمتُ الظُّلمَ على نفسي» يجمعُ جلَّ مسائلِ الصفاتِ إذا أُعْطِيَتْ حقَّها من التفسيرِ، وهذه تتضمنُ الدِّينَ كلَّه؛ فإن كلَّ ما نهى اللهُ عنه راجعٌ إلى الظلمِ، وكلَّ ما أمر به راجعٌ إلى العدلِ.

ص: 233

ولمَّا ذكر ما أوجَبَه من العدلِ وحرَّمَه من الظُّلمِ على نفْسِه وعلى عبادِه؛ ذكر إحسانَه إلى عبادِه مع غِناه عنهم وفقْرِهم إليه، وأنهم لا يقدرونَ على جلبِ منفعةٍ لأنفسِهم، ولا دَفْعِ مضرَّةٍ؛ إلا أن يكونَ هو الميسِّرَ لذلك، وأمر العِبادَ أن تسأله ذلك، وأخبَر أنهم لا يقدِرونَ على نفعِه ولا ضُرِّه؛ مع عِظَمِ ما يوصِلُ إليهم من النَّعماءِ، ويَدفعُ عنهم من البلاءِ.

وجلبُ المنفعةِ ودفْعُ المضَرَّةِ: إما أن يكونَ في الدِّينِ أو في الدُّنيا، فصارت أربعةَ أقسامٍ: الهدايةُ، والمغفرةُ؛ وهما جلبُ المنفعةِ ودفعُ المضَرَّةِ في الدِّينِ، والطعامُ، والكِسوةُ؛ وهما جلبُ المنفعةِ ودفعُ المضَرَّةِ في الدنيا.

وإنْ شئتَ قلتَ: الهدايةُ والمغفرةُ يتعلقان بالقلبِ الذي هو مَلِكُ البدنِ، وهو الأصلُ في الأعمالِ الإراديةِ، والطعامُ والكِسوةُ يتعلقانِ بالبدنِ؛ الطعامُ لجلبِ المنفعةِ، والكِسوةُ لدفعِ المضرَّةِ، وفتحُ الأمرِ بالهدايةِ؛ فإنها وإن كانت الهدايةُ النافعةُ هي المتعلقة بالدِّين؛ فكلُّ أعمالِ الناسِ تابعةٌ لهدايةِ اللهِ إيَّاهم، قال:{والذي قدر فهدى} ، {وهديناه النجدين} ، {إنا هديناه السبيل} .

ولهذا قيلَ: الهدايةُ أربعةُ أقسامٍ:

أحدُها: الهدايةُ إلى مصالحِ الدُّنيا.

الثاني: الهدى بمعنى دعاءِ الخلقِ إلى ما ينفعُهم، وأمْرِهم بذلك.

ص: 234

الثالثُ: الذي لا يقدِرُ عليه إلا اللهُ؛ وهو جعْلُ الهُدى في القلبِ؛ كقولِه: {من يهد الله فهو المهتدي} ، وهذا تنكِرُه القدريةُ أن يكونَ اللهُ هو الفاعلَ لها، بل يزعُمون أن العبدَ يَهْدي نفسَه، وهذا الحديثُ حُجَّةٌ عليهم؛ حيث قال:«فاسْتَهْدوني أهْدِكمْ» بعد قولِه: «كلُّكم ضالٌّ إلا مَن هديتُه» .

وعندَهم: لا يقدِرُ من الهُدى إلا على ما فعله من إرسالِ الرسلِ، ونَصْبِ الأدلَّةِ، وإزاحةِ العِلَّةِ، ولا مزيَّةَ للكافرِ على المؤمنِ في هدايةِ اللهِ، ولا نعمةَ له على المؤمنِ عندَهم أعظمُ من نعمتِه على الكافرِ في بابِ الهُدى.

والقسمُ الرابعُ: الهُدى في الآخِرةِ؛ كما قال: {وهدوا إلى الطيب من القول واهدوا إلى صراط الحميد} .

وأما قولُه: «كلُّكم جائعٌ إلا من أطعمتُه، وكلُّكم عارٍ إلا مَن كسَوْتُه» فيقتضي أصلينِ عظيمينِ:

أحدُهما: وجوبُ التوكُّلِ على اللهِ في الرِّزقِ واللِّباسِ، وأنه لا يقدِرُ أحدٌ غيرُ اللهِ على ذلك قدرةً مُطْلقةً، [والقدرة]

(1)

التي تحصُلُ لبعضِ العبادِ تكونُ على بعضِ أسبابِ ذلك، فليس في المخلوقاتِ ما هو وحدَه سببٌ تامٌّ لحصولِ المطلوبِ، فمن ظنَّ الاستغناءَ بالسببِ عن التوكُّلِ؛ فقد ترك الواجبَ عليه من التوكُّلِ، وأخَلَّ بواجبِ التوحيدِ، ولهذا

(1)

في النسخ الخطية: القدر، والمثبت من مجموع الفتاوى والفتاوى الكبرى.

ص: 235

يُخْذَلُ، كما أن من دخل في التوكُّلِ وترَك ما أُمِر به من الأسبابِ؛ فهو جاهلٌ ظالمٌ عاصٍ للهِ بل قال:{فاعبده وتوكل عليه} ، {إياك نعبد وإياك نستعين} .

وفي هذا ردٌّ على مَن

(1)

جَعَل السببَ نقصًا أو قدحًا في التوحيدِ والتوكلِ، وأن تَرْكَه من كمالِ التوحيدِ والتوكلِ، وهُم مَلْبوسٌ عليهم، وقد يقترِنُ بذلك اتباعُ الهَوى، ومَيلُ النفسِ إلى البَطالةِ، ولهذا تجِدُ عامةَ هذا الضرْبِ يتعلَّقون بأسبابٍ دونَ ذلك؛ إما بالخلقِ رغبةً ورهبةً، وإما أن يتركوا واجباتٍ أو مستحَبَّاتٍ أنفعَ لهم من ذلك.

وفوقَ هؤلاء من يجعلُ التوكُّلَ والدعاءَ نقصًا عن الخاصَّةِ؛ ظنًّا أن مَن لاحَظَ ما فُرِغ منه في القَدَرِ هو حالُ الخاصةِ، فقد قال:«كلُّكم جائعٌ وكلُّكم عارٍ إلا من أطعمتُه وكسوتُه، فاستَطْعِموني أُطْعِمْكم، واستَكْسوني أكْسُكم» ، وإنما غلِطوا لظنِّهم أن التقديرَ يمنعُ أن يكونَ بالسببِ، كمن يتزندَقُ ويتركُ الأعمالَ الواجبةَ؛ بناءً على أن القدرَ قد سبَقَ، أو لم يعلَمْ أن القدرَ قد سَبَقَ بالأمورِ على ما هي عليه من أسبابِها.

وطائفةٌ تظنُّ أن التوكلَ من مقاماتِ الخاصَّةِ المتقربين بالنوافلِ، وكذلك قولُهم في أعمالِ القلبِ من الحُبِّ والرجاءِ والخوفِ والشكرِ

(1)

زاد في الأصل هنا: (قال) وزيادتها خطأ، قال في مجموع الفتاوى 18/ 183:(وفي هذه النصوص بيان غلط طوائف: طائفة تضعف أمر السبب المأمور به فتعده نقصًا أو قدحًا في التوحيد والتوكل وأن تركه من كمال التوكل والتوحيد).

ص: 236

ونحوِه، وهذا ضلالٌ مبينٌ، بل جميعُ هذه الأمورِ فرضٌ على الأعيانِ باتفاقِ أهلِ الإيمانِ.

وقولُه: «يا عبادي إنكم تُخْطئون بالليلِ والنهارِ، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعًا» فالمغفرةُ العامةُ نوعان:

أحدهما: المغفرةُ لمن تاب، وهذه عامةٌ في جميعِ الذنوبِ على الصحيحِ؛ خلافًا لمن يستثني بعضَ الذنوبِ؛ كتوبةِ الداعيةِ إلى البدعِ لا تُقبَلُ باطنًا، وكتوبةِ القاتلِ ونحوِه؛ لأن اللهَ قد بين أنه يتوبُ على أئمةِ الكفرِ- الذين هم أعظمُ من [أئمة]

(1)

البدعِ- وغيرِها، والتوبةُ العامَّةُ كما في قولِه:{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا} .

النوعُ الثاني من المغفرةِ العامةِ التي دلَّ عليها قولُه: «يا عبادي إنكم تُخْطئون بالليلِ والنهارِ، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعًا» : المغفرةُ بمعنى تخفيفِ العذابِ، أو تأخُّرِه إلى أجلٍ مسمًّى، وهذا عامٌّ مطلقًا، ولهذا شَفَع النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أبي طالبٍ مع موتِه على الشركِ، فنُقِل من غمرةٍ من نارٍ فجُعِل في ضَحْضاحٍ

(2)

، ومنه قولُه:{ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} ، {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} .

(1)

زيادة من مجموع الفتاوى ليستقيم المعنى.

(2)

رواه البخاري (3883)، ومسلم (209) من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.

ص: 237

وأما قولُه: «إنكم لن تبلُغوا ضُرِّي فتضرُّوني، ولن تبلُغوا نفعي فتنفعوني» ؛ فإنه بيَّن بذلك أنه ليس هو بمستعيضٍ فيما يحسِنُ به إليهم من إجابةِ الدعوةِ وغفرانِ الذنوبِ؛ جلبَ منفعةٍ أو دفعَ مضرَّةٍ، كما يفعلُه الخلقُ مع بعضِهم البعض، فلستُ إذا هديتُكم وأطعمْتُكم وكسوتُكم؛ بالذي أطلبُ أن تنفعوني، ولا إذا غفرتُ خطاياكم بالليلِ والنهارِ؛ أتَّقي بذلك أن تضرُّوني، فإنكم لن تبلُغوا ذلك؛ بل عاجزون عن ذلك كلِّه، بل لا تقدِرون إلا على ما أُقَدِّرُه لكم وأُدبرُه، وكذلك ما يأمرُهم من الطاعاتِ وما ينهاهم عنه من السيئاتِ، فإنه لا يتضمنُ استجلابَ نفعِهم كأمرِ السيدِ لعبدِه والوالدِ لولدِه، ولا دفعَ مضرتِهم كنهيِ هؤلاء أو غيرِهم، فنزَّه نفسَه عن لحوقِ نفعِهم وضُرِّهم.

فلهذا ذكر هذين الأصلين بعدَ ذلك، فذكر أن بِرَّهم وفجورَهم، طاعتَهم ومعصيتَهم؛ لا تَزيدُ في ملكِه ولا تنقُصُ، وأن ما يعطيهم إياه مِن غايةِ ما يسألونه نسبتُه إلى ما عندَه أدنى نسبةٍ، فقال:«يا عبادي لو أن أوَّلَكم وآخِرَكم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ؛ ما نقص ذلك من مُلكي شيئًا، ولو أن أوَّلَكم وآخِرَكم وجِنَّكم وإنسَكم كانوا على أتْقى قلبِ رجلٍ منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئًا» ؛ إذ ملكُه قدرتُه على التصرفِ، فلا تزدادُ ولا تنقُصُ كما تزداد قدرةُ الملكِ بكثرةِ المطيعين، وتنقُصُ بقلةِ المطيعينَ، فإن مُلكَه سبحانَه متعلقٌ بنفسِه، وهو خالقُ كلِّ شيءٍ وربُّه، يؤتي الملكَ من يشاءُ وينزِعُه ممن شاء.

ثم ذكر حالَهم في النوعين: سؤالِ بِرِّه وطاعةِ أمرِه اللَّذَيْن ذكرهما

ص: 238

في الحديث، ذكر الاستهداءَ والاستطعامَ والاستكساءَ، وذكر الغفرانَ والبِرَّ والفجورَ؛ فقال:«لو أن أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجِنَّكم كانوا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوني، فأعطيتُ كلَّ واحدٍ مسألتَه؛ ما نَقَصَ ذلك مما عندي إلا كما ينقُصُ المِخْيَطُ إذا أُدْخِل البحرَ» .

فذكر أن جميعَ الخلائقِ إذا سألوه وهم في مكانٍ واحدٍ وزمانٍ واحدٍ، فأعطى كلَّ إنسانٍ منهم مسألتَه؛ لم ينقُصْه ذلك مما عندَه إلا كما ينقُصُ المِخْيَطُ - وهي الإبرةُ - إذا غُمِس في البحرِ.

وقوله: «لم ينقُصْ مما عنده» فيه قولان:

أحدُهما: يدلُّ على أن عنده أمورًا موجودةً، وعلى هذا فيقالُ: لفظُ النقصِ على حالِه؛ لأن العطاءَ من الكثيرِ وإن كان قليلًا فلا بدَّ أن ينقُصَه شيئًا ما، ومن رواه:«لم ينقُصْ من ملكي» يُحْمَلُ على ما عندَه.

وقد يقالُ: المُعْطَى إن كان أعيانًا قائمةً؛ فقد تُنْقَلُ من محَلٍّ إلى محَلٍّ فيظهرُ النقصُ، وإن كانت صفاتٍ؛ فلا تُنقَلُ من مَحَلِّها، وإن وجد نظيرُها في محلٍّ آخرَ، كما يوجد نظيرُ علمِ المُعَلِّمِ في قلبِ المتعلمِ من غيرِ زوالِ علمِ المُعَلِّمِ، وكما يتكلمُ المتكلمُ بكلامِ المتكلمِ قبلَه من غيرِ انتقالِ كلامِ المتكلمِ الأولِ إلى الثاني.

وعلى هذا: فالصفاتُ لا تنقصُ مما عندَه شيئًا، وهي من المسؤولِ كالهُدى.

وقد يجابُ عن هذا: أنه من الممكنِ في بعض الصفاتِ إن ثبتَ

ص: 239

مثلُها [أن ينقلَها]

(1)

من المحل الأولِ؛ كاللونِ وكالروائحِ التي تَعبَقُ بمكانٍ وتزولُ، كما دعا النبيُّ على حُمَّى المدينةِ

(2)

.

وهل هذا بانتقالِ عينِ العَرَضِ الأولِ، أو بوجودِ مثلِه من غيرِ انتقالِ عينِه؟ فيه للناسِ قولانِ.

والقولُ الثاني في النقص: أنه كالنقصِ الذي في حديثِ الخضِرِ

(3)

، ومعلومٌ أن نفسَ علمِ اللهِ القائمِ به لا يزولُ منه شيءٌ بتعلُّمِ العبادِ، وإنما المقصودُ أن نسبةَ علمي وعلمِك إلى علمِ اللهِ كنسبةِ ما علِق بمِنْقارِ العصفورِ إلى البحرِ، ومن هذا البابِ: كونُ العلمِ يورَثُ والكتابِ يورَثُ.

وتحقيقُ الأمرِ: ما أحاط علمي وعلمُك من علمِ اللهِ إلا كما ينقُصُ هذا العصفورُ؛ نسبةُ هذا إلى هذا كنسبةِ هذا إلى هذا، وإن كان المشبَّهُ

(1)

المثبت بين المعقوفتين موافق لما في مجموع الفتاوى، وفي الأصل و (ز):(ألا ينقلها)، وفي (ك) و (ع):(وألا ينقلها).

والصواب المثبت، قال في مجموع الفتاوى 18/ 197:(وقد يجاب عن هذا: بأنه من الممكن في بعض الصفات ألا يثبت مثلها في المحل الثاني حتى تزول عن الأول).

(2)

رواه البخاري (1889)، ومسلم (1376) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

يشير إلى ما رواه البخاري (122)، ومسلم (2380)، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه في قصة موسى والخضر عليهما السلام:«فجاء عصفور، فوقع على حرف السفينة، فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر» .

ص: 240

به جسمًا ينتقلُ من محَلٍّ إلى محَلٍّ ويزولُ عن محلٍّ، وليس المشبَّهُ كذلك؛ فهذا الفرقُ يعلمُه المستمعُ من غيرِ الْتِباسٍ.

ثم ختَمه بتحقيقِ ما بيَّنه فيه من عدلِه وإحسانِه فقال: «إنما هي أعمالُكم أُحْصيها لكم ثم أوفِّيكم إيَّاها، فمَن وجد خيرًا فليَحْمَدِ اللهَ، ومَن وجد غيرَ ذلك؛ فلا يلومنَّ إلا نفسَه» .

فبيَّن أنه محسِن إلى عبادِه في الجزاءِ على أعمالِهم إحسانًا يستحقُّ به الحمدَ؛ لأنه هو المنعِمُ بالأمرِ بها والإرشادِ إليها والإعانةِ عليها، ثم إحصائِها، ثم توفيةِ جزائِها، فكلُّ ذلك فضلٌ منه وإحسانٌ، فكلُّ نعمةٍ منه فضلٌ، وكلُّ نِقْمةٍ منه عدلٌ، وإن كان أوجب ذلك على نفسِه؛ فليس هو كوجوبِ حقوقِ الناسِ بعضِهم على بعضٍ؛ لكونِ إحسانِ الناسِ بعضهم إلى بعضٍ بحقِّ المعاوضةِ ورجاءِ المنفعةِ، وهو قد بيَّن عدمَ ذلك في حقِّه، فليس لأحدٍ من جهةِ نفسِه عليه حقٌّ، بل هو الذي أحقَّ الحقَّ على نفسِه بكلماتِه؛ فهو المحسنُ بالإحسانِ، وبإحقاقِه وكتابتِه على نفسِه، فهو محسنٌ إحسانًا مع إحسانٍ.

ثم بيَّن أنه عادلٌ في الجزاءِ على السيئاتِ فقال: «ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه» كما تقدم: {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} .

وهذه نكتٌ تُنبِّهُ الفاضلَ على ما في الحقائقِ مِن الجوامعِ والفوارقِ التي تفصِلُ بينَ الحقِّ والباطلِ في هذه المضايقِ، واللهُ ينفعُنا وسائرَ إخوانِنا المؤمنين بما علِمْناه، ويعلِّمُنا ما ينفعُنا، ويزيدُنا علمًا، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ، وعليه التُّكْلانُ.

ص: 241

‌فَصْلٌ

(1)

‌في قوله: «دعوةُ أخي ذي النُّونِ:

لا إلهَ إلا أنتَ سبحانكَ، إني كنتُ من الظالمينَ؛ ما دعا بها مكروبٌ إلا فرَّجَ اللهُ كربه»

(2)

.

اعلَمْ أن لفظَ: «الدعاءِ» و «الدعوةِ» في القرآن يتناول معنيين؛ دعاءِ العبادةِ ودعاءِ المسألةِ، وكلُّ عابدٍ سائلٌ، وكلُّ سائلٍ عابدٌ، وأحدُ الاسمين يتناولُ الآخرَ عند تجرُّدِه عنه، وإذا جُمع بينَهما فإنه يُرادُ بالسائلِ: الذي يطلبُ بجلبِ المنفعةِ ودفعِ المضرَّةِ بصيغِ السؤالِ والطلبِ، ويرادُ بالعابدِ: مَن يطلبُ ذلك بامتثالِ الأمرِ، وإن لم يكُنْ هناك صيغةُ سؤالٍ.

ولا يتصوَّرُ أن يخلوَ داعٍ للهِ - دعاءَ عبادةٍ أو دعاءَ مسألةٍ - من الرغَبِ والرَّهَبِ والخوفِ والطَّمعِ، وما يُذكَرُ عن بعضِ الشيوخِ أنه جعل الخوفَ والرجاءَ من مقاماتِ العامَّةِ؛ فهذا قد يفسَّرُ مرادُه: بأن المقرَّبين يريدون وجهَ اللهِ، فيقصِدون التلذُّذَ بالنظرِ إليه، وإن لم يكُنْ هناك مخلوقٌ يُتلذَّذُ به، وهؤلاء يرجون حصولَ هذا المطلوبِ، ويخافون حرمانَه أيضًا، فلم يخلوا عن الخوفِ والرجاءِ.

ومَن قال مِن هؤلاءِ: لم أعبُدْك خوفًا من نارِك، ولا شوقًا إلى

(1)

تنظر أصل الفتوى في هذا الفصل والفصلين بعده في: مجموع الفتاوى 10/ 237، الفتاوى الكبرى 5/ 218.

(2)

رواه أحمد (1462)، والترمذي (3505) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

ص: 242

جنَّتِك؛ فهو يظنُّ أن الجنةَ اسمٌ لما يُتمتَّعُ به من المخلوقاتِ، وأن النارَ اسمٌ لِما لا عذابَ فيه سوى ألمِ المخلوقاتِ؛ وهذا قُصورٌ منهم عن فهمِ مُسَمَّى الجنة، بل كلُّ ما أعدَّ اللهُ لأوليائِه فهو في الجنةِ، والنظرُ إليه هو في الجنةِ، ولهذا كان أفضلُ الخلقِ يسألُ الجنةَ ويستعيذُ به من النارِ.

وقد أنكَر على مَن يقولُ: «أسألُك لذَّةَ النظرِ إلى وجهِك» فريقٌ من أهلِ الكلامِ، فظنُّوا أنه لا يتلذَّذُ بالنظرِ إلى وجهِه، ولا نعيمَ إلا بمخلوقٍ، فغَلِطوا في معنى الجنةِ كما غلِط أولئك، لكن طلَبوا ما يستحِقُّ أن يُطْلَبَ، وهؤلاءِ أنكروا ذلك.

ومن قال: لو أدخلني النارَ كنت راضيًا؛ فهو عزمٌ منه، والعزائمُ قد تنفسخُ عند وجودِ الحقائقِ، ومثلُ هذا يقعُ في كلامِ طائفةٍ مثلِ قولِ سَمْنونٍ

(1)

:

فَلَيْسَ لِي فِي سِوَاكَ حَظٌّ

فَكَيْفَمَا شِئْتَ فَامْتَحِنِّي

فابتُليَ بعُسرِ البولِ، فجعل يطوفُ على صِبيانِ المكاتبِ، ويقولُ: ادعوا لعمِّكم الكذَّابِ.

وبعضُ مَن تكلَّم في عِللِ المقاماتِ؛ جعل الحبَّ والرِّضا والخوفَ والرجاءَ من مقاماتِ العامةِ؛ بناءً على مشاهدَةِ القدرِ، وأنَّ مَن نظر إلى توحيدِ الأفعالِ حتى فَنِيَ من لم يكُنْ، وبقِيَ من لم يزُلْ؛ يخرُجُ عن هذه الأمورِ.

(1)

سمنون بن حمزة، أبو الحسن الخواص، سكن بغداد ومات بها قبل الجنيد، وسمى نفسه: سمنون الكذاب. ينظر: حلية الأولياء 10/ 309، الأعلام للزركلي 3/ 140.

ص: 243

وهذا كلامٌ مستدرَكٌ حقيقةً وشرعًا؛ فإن الحيَّ لا يتصورُ ألا يكون حساسًا محبًّا لما يلائمُه، مبغِضًا لما ينافرُه، ومن قال: إن الحيَّ يُتصورُ عندَه أن يستويَ جميعُ المقدوراتِ؛ فهو أحدُ رجُلَين؛ إما جاهلٌ، وإما مكابرٌ.

فمن زعَم أن المُشاهِدَ لمقامِ توحيدِ الربوبيةِ يدخلُ إلى مقامِ الجمعِ والفناءِ، فلا يشهدُ فرقًا؛ فإنه غالطٌ، بل لا بُدَّ من الفرقِ؛ فإنه أمرٌ ضروريٌّ، لكن إذا خرج عن الفرقِ الشرعيِّ بقِيَ في الفرقِ الطبيعيِّ، فيبقى متبعًا لهواه، لا مطيعًا لمولاه.

ولهذا لمَّا وقعتْ هذه المسألةُ بينَ الجُنيدِ وأصحابِه ذكر لهم الفرقَ الثانيَ؛ وهو أن يفرَّقَ بينَ المأمورِ والمحظورِ، بينَ ما يحبُّه اللهُ وما يكرهُه مع شهودِه للقدْرِ الجامعِ، فيشهدَ الفرقَ في الجمعِ.

ومَن لم يفرِّقْ بينَ المأمورِ والمحظورِ؛ فقد خرج عن دينِ الإسلامِ، وخرج إلى وَحدةِ الوجودِ؛ فلا يفرِّقُون بينَ الخالقِ والمخلوقِ، ولم يخرج كلُّ هؤلاءِ إلى هذا الحدِّ، بل يفرِّقون بين وجهٍ دونَ وجهٍ، فيطيعون اللهَ ورسولَه تارةً، ويعصون اللهَ ورسولَه أخرى، كالعصاة من أهلِ القِبلةِ.

ودعوةُ ذي النونِ تتناولُ نوعَيِ الدعاءِ؛ فقولُه: «لا إلهَ إلا أنتَ» اعترافٌ بتوحيدِ الإلهيةِ، وتوحيدُ الإلهيةِ يتضمَّنُ توحيدَ نوعَيِ الدعاءِ؛ فإن الإلهَ هو المستحِقُّ لأنْ يُدْعى دعاءَ عبادةٍ ودعاءَ مسألةٍ، وهو اللهُ لا إلهَ إلا هو.

ص: 244

وقولُه: «إني كنتُ من الظالمينَ» اعترافٌ بالذنبِ؛ وهو متضمِّنٌ طلبَ المغفرةِ؛ فإن الطلبَ تارةً يكونُ بصيغةِ الطلبِ، وتارةً يُسألُ بصيغةِ الخبرِ، إما بوصفِ حالِه، وإما بوصفِ حالِ المسؤولِ، وإما بوصفِ الحالين، وقد صحَّ عنه أنه قال:«أفضلُ ما قلتُ أنا والنبيُّون مِن قبلي يومَ عرفةَ: لا إلهَ إلا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ»

(1)

، وسُئل سفيانُ عن أفضلِ الدعاءِ، فذكر هذا الحديثَ، وأنشد قولَ أميَّةَ يمدحُ ابنَ جُدْعانَ:

أأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي

حِبَاؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الحِبَاءُ

(2)

إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ المَرْءُ يَوْمًا

كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ

قال: فهذا مخلوقٌ يخاطبُ مخلوقًا فكيف بالخالقِ تعالى؟!

(3)

وأكملُ أنواعِ الطلبِ ما تضمَّن وصفَ حالِ الداعي والمدعوِّ، والسؤالُ بالمطابقةِ، كحديثِ أبي بكرٍ:«اللهُمَّ إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت، فاغفرْ لي مغفرةً من عندِك وارحمْني إنك أنت الغفورُ الرحيمُ» ، لكِنَّ صاحبَ الحوتِ مقامُه مقامُ اعترافٍ،

(1)

رواه الترمذي (3585)، من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.

(2)

قوله: (حباؤك) و (الحباء) كذا في الأصل بالباء، وهو الموافق لما في مجموع الفتاوى، وفي (ك) و (ع):(حياؤك)، (الحياء)، وهو الموافق لما في عيون الأخبار 3/ 168.

(3)

أخرجه أبو بكر الدينوري في المجالسة (49)، وأبو عبد الرحمن السلمي في الفتوة (49)، والبيهقي في شعب الإيمان (570)، عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى.

ص: 245

فناسب حالَه صيغةُ الوصفِ والخبرِ دونَ صيغةِ الطلبِ؛ كأنه قال: ما أصابني من الشرِّ بسببِ ذنبي، والمقصودُ دفعُ الضررِ، والاستغفارُ جاء بالقصدِ الثاني، فلم يذكُرْ صيغةَ الطلبِ؛ لاستشعارِه أنه مسيءٌ ظالمٌ، هو الذي أدخل الضررَ على نفسِه، فذكر ما يرفعُه من الاعترافِ بظلمِه.

وقولُه: «سبحانكَ» يتضمنُ تعظيمَ الربِّ، وتنزيهَه عن الظُّلمِ والعقوبةِ بغيرِ حقٍّ من ذنبٍ، يقولُ: أنت مقدَّسٌ منزَّهٌ عن ظلمي وعقوبتي بغيرِ ذنبٍ، بل أنا الظالمُ الذي ظلمتُ نفسي.

«لا إلهَ إلا أنت» ، فهو إلهٌ يستحقُّ أن يُؤْلَهُ لما يُريه

(1)

من الرحمةِ، وما اتصف به من كمالِ القدرةِ والحكمةِ، وغيرِ ذلك من الصفاتِ التي تستلزمُ أن يكونَ هو المحبوبَ غايةَ الحبِّ، المخضوعَ له غايةَ الخضوعِ.

والعبادةُ تتضمنُ غايةَ الحبِ بغايةِ الذلِّ، ولهذا قال:«لا ينبغي لعبدٍ أن يقولَ: إنه خيرٌ مِن يونسَ بن متَّى»

(2)

، فليس لأحدٍ من العِبادِ أن يبرِّئَ نفسَه عن هذا الوصفِ، لا سيَّما في مقامِ مناجاتِه لربِّه، فمن ظنَّ أنه خيرٌ من يونسَ بنِ متَّى، فهو كاذبٌ؛ إذ زَعَمَ أنه ليس عليه أن يعترفَ بظلمِ نفسِه، فمن ادَّعى ذلك فقد كذَبَ، ولهذا كان ساداتُ الخلائقِ يعترفون بذلك، كإبراهيمَ ومحمدٍ صلى الله عليه وسلم.

(1)

في (ك) و (ع): يرديه.

(2)

رواه البخاري (3395)، ومسلم (2377)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 246

‌فَصْلٌ

‌لفظُ الإيمانِ إذا أُفْرِد

؛ دخلت فيه الأعمالُ الباطنةُ والظاهرةُ مما يحبُّه اللهُ ورسولُه، وقيل: الإيمانُ قولٌ وعملٌ؛ أي: قولُ القلبِ واللسانِ، وعملُ القلبِ والجوارحِ، ومنه قولُه:«الإيمانُ بِضْعٌ وستون أو بِضْعٌ وسبعون شعبةً؛ أعلاها قولُ: لا إلهَ إلا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريقِ، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمانِ»

(1)

، وقولُه:{إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} الآيةَ.

فالإيمانُ المطلَقُ يدخلُ فيه الإسلامُ؛ كما في «الصحيحين» عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لوفدِ عبدِ القيسِ: «آمرُكم بالإيمانِ باللهِ، أتدرون ما الإيمانُ باللهِ؟ شهادةُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأن محمدًا رسولُ اللهِ، وإقامُ الصلاةِ، وإيتاءُ الزكاةِ، وأن تؤدُّوا خُمُسَ ما غنِمْتُم»

(2)

.

ولهذا قال من قال من السَّلفِ: (كلُّ مؤمنٍ مسلمٌ، وليس كلُّ مسلمٍ مؤمنًا).

فأما إذا اقترن لفظُ الإيمانِ بالعملِ أو بالإسلامِ؛ فإنه يفرَّقُ بينَهما؛ كما في قولِه: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ، وكما في «الصحيحِ» لما سأله جبريلُ عليه السلام عن الإسلامِ والإيمانِ والإحسانِ، فقال:

(1)

رواه البخاري (9)، ومسلم (53) واللفظ له، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (4368)، ومسلم (17)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 247

«الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأن محمدًا رسولُ اللهِ، وتُقيمَ الصلاةَ، وتؤتيَ الزكاةَ، وتصومَ رمضانَ، وتحُجَّ البيتَ» ، قال: فما الإيمانُ؟ قال: «أن تؤمِنَ باللهِ وملائكتِه وكتبِه ورسلِه والبعثِ بعدَ الموتِ، وتؤمِنَ بالقدرِ خيرِه وشرِّه» ، قال: فما الإحسانُ؟ قال: «أن تعبُدَ اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكُنْ تراه فإنه يراك»

(1)

.

ففرَّقَ بينَ الإيمانِ والإسلامِ لمَّا قرن بينهما، وفي ذلك النصِّ أدخل الإسلامَ في الإيمانِ لما أفرده بالذِّكرِ.

وكذلك لفظُ «العملِ» ؛ فإن الإسلامَ هو من العملِ، والعملُ الظاهرُ هو موجَبُ إيمانِ القلبِ ومقتضاه، وإذا حصل إيمانُ القلبِ حصَلَ إيمانُ الجوارحِ ضرورةً، ولا بدَّ في إيمانِ القلبِ من تصديقِ القلبِ وانقيادِه، وإلا فلو صدَّق قلبُه أن محمدًا رسولُ اللهِ، وهو يُبْغِضُه ويحسُدُه ويستكبرُ عن متابعتِه؛ لم يكُنْ قد آمَن قلبُه.

والإيمانُ وإن تضمَّن التصديق فليس هو مرادِفًا له، فلا يُقالُ لكلِّ مصدِّقٍ بشيءٍ: إنه مؤمنٌ به، فلو قال: أنا أُصَدِّقُ بأنَّ الواحدَ نصفُ الاثنين، وأن السماءَ فوقَنا، والأرضَ تحتَنا، ونحوَ ذلك مما يشاهدُه الناسُ؛ لم يُقَلْ لهذا: إنه مؤمنٌ بذلك، بل لا يُستعملُ إلا فيمن أَخْبَرَ بشيءٍ من الأمورِ الغائبة؛ كقول إخوةِ يوسفَ:{وما أنت بمؤمن لنا} ؛ فإنهم أخبروه بما غاب عنه.

(1)

رواه البخاري (50)، ومسلم (8)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 248

وفرقٌ بينَ «آمن له» و «آمن به» ؛ فالأولُ يقالُ للمُخبَرِ، والثاني للمخبَرِ به؛ كما قال إخوةُ يوسفَ، وكما قال:{يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} ، ففرَّقَ بينَ إيمانِه باللهِ وإيمانِه للمؤمنين؛ لأن المرادَ تصديقُ المؤمنين إذا أخبروه، وأما إيمانُه باللهِ فهو من بابِ الإقرارِ به، ومنه قولُه:{أنؤمن لبشرين مثلنا} ؛ أي: نُقِرُّ لهما ونصدِّقُهما، ومنه:{أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} ، {فآمن له لوط} ، ومن المعنى الآخرِ:{يؤمنون بالغيب} ، {آمن الرسول بما أنزل إليه} ، {ولكن البر من آمن بالله}؛ أي: أقرَّ بذلك.

والمقصودُ: أن لفظَ «الإيمانِ» إنما يُستعمَلُ في بعضِ الأخبارِ، وهو مأخوذٌ من الأمنِ؛ كالإقرارِ مأخوذٌ مِن «قَرَّ» ، فالمؤمنُ صاحبُ أمْنٍ، كما أنَّ المُقِرَّ صاحبُ قرارٍ، فلا بدَّ في ذلك من عملِ القلبِ بموجَبِ تصديقِه، فإذا علِم أن محمدًا رسولُ اللهِ، ولم يقترِنْ به حبُّه

(1)

ولا تعظيمُه، بل كان يحسدُه؛ فإنه ليس بمؤمنٍ به بل كافرٌ به.

ومن هذا البابِ كفرُ إبليسَ وفرعونَ وأهلِ الكتابِ؛ الذين يعرِفونه كما يعرِفون أبناءَهم.

فمجرَّدُ علمِ القلبِ لا يكفي، بل لا بدَّ من عملِ القلبِ بموجَبِ عِلْمِه؛ مثلُ محبةِ القلبِ له، واتباعِه له، بل أشدُّ الناسِ عذابًا عالمٌ لم

(1)

في الأصل: (حقه)، والمثبت من (ك)، (ع) ومجموع الفتاوى.

ص: 249

ينفعْه اللهُ بعلمِه؛ كما قال: «اللهُمَّ إني أعوذُ بكَ من علمٍ لا ينفعُ»

(1)

.

ولكنَّ الجهميَّةَ ظنُّوا أن مجردَ علمِ القلبِ وتصديقِه هو الإيمانُ، وأن من دلَّ الشرعُ على أنه ليس بمؤمنٍ؛ فإن ذلك يدلُّ على عدمِ علمِ قلبِه؛ وهذا من أعظمِ الجهلِ شرعًا وعقلًا، وحقيقتُه توجبُ التسويةَ بينَ المؤمنِ والكافرِ، ولهذا أطلق وكيعٌ وأحمدُ وغيرُهم القولَ بكفرِهم بذلك؛ فإنَّ من المعلومِ أن الإنسانَ يعلمُ بقلبِه الحقَّ، وقد يُبْغِضُه لغرضٍ آخرَ، فليس كلُّ مستكبرٍ عن الحقِّ يكونُ غيرَ عالمٍ به، فحينئذ لا بدَّ من تصديقِ القلبِ وعملِه، وهذا معنى قولِ السلفِ: الإيمانُ قولٌ وعملٌ.

ثم إذا تحقَّق القلبُ بالتصديقِ والمحبةِ التامَّةِ المتضمنةِ للإرادةِ؛ لزِم وجودُ الأفعالِ الظاهرةِ؛ فإن الإرادةَ الجازمةَ إذا اقترن بها القدرةُ التامَّةُ لَزِمَ وجودُ المرادِ قطعًا؛ وأبو طالبٍ وإن كان عالمًا بأن محمدًا رسولُ اللهِ، وهو محبٌّ له؛ فلم تكُنْ محبتُه له لمحبةِ اللهِ، بل لأنه ابنُ أخيه؛ فيحبُّه للقرابةِ، وإذا أحبَّ ظهورَه فلِمَا يحصُلُ له به من الشرفِ والرياسةِ؛ فأصلُ محبوبِه هو الرِّياسةُ، ولهذا لما عَرَض عليه الشهادةَ عندَ الموتِ، أحبَّ دينَه أكثرَ مِن ابنِ أخيه، فلم يُقِرَّ بهما لئلَّا يزولَ دينُه، فلو كان حبُّه كحُبِّ أبي بكرٍ وغيرِه من المؤمنين؛ لنطق بالشهادتين قطعًا، فكان حبُّه حبًّا مع اللهِ؛ لا حُبًّا للهِ، فلم يُقبَل ما فعله مع الرسولِ مِن نُصرتِه ومؤازرتِه؛ لأنه لم يعمَلْه للهِ؛ بخلافِ من فعلَ ما فعلَ ابتغاءَ وجهِ ربِّه الأعلى.

(1)

رواه مسلم (2722)، من حديث زيد بن الأرقم رضي الله عنه.

ص: 250

فهذا يحقِّقُ أن الإيمانَ والتوحيدَ لا بدَّ فيهما من عملِ القلبِ، فلا بُدَّ من إخلاصِ الدِّينِ للهِ، والدينُ لا يكون دينًا إلا بعملٍ.

وكذلك لفظُ «العبادةِ» و «التوكُّلِ» ، إذا أُطْلقت «العبادةُ» دخل فيها التوكُّلُ ونحوُه؛ كقولِه:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، {اعبدوا ربكم} ، وإذا قُرِنَتْ اختَصَّتْ؛ كقولِه:{إياك نعبد وإياك نستعين} ، {فاعبده وتوكل عليه} .

وتنوُّعُ دلالةِ لفظِ الشيءِ في عمومِه وخصوصِه بحسَبِ الإفرادِ والاقترانِ كثيرٌ؛ كلفظِ «المعروفِ» و «المنكرِ» ؛ نحوُ: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} ؛ فيدخلُ في «المنكر» ما كرِهه اللهُ، كما يدخلُ في «المعروف» ما يحبُّه.

وكذا لفظِ «الفقيرِ» و «المسكينِ» إذا أُفْرِد أحدُهما دخل فيه الآخرُ، وإذا اقترن اختَصَّ.

وكذا «الإلهُ» و «الربُّ» ؛ مثلُ: {الحمد لله رب العالمين} ؛ فإن «الإلهَ» هو المعبودُ، و «الربُّ» هو الذي يُربِّي غيرَه؛ فيُدَبِّرُه، ولهذا كانت العبادةُ متعلقةً باسمِ «الإلهِ» ، والسؤالُ متعلقٌ باسمِ «الرَّبِّ» .

ولما كانت العبادةُ متعلقةً باسمِ اللهِ، جاءت الأذكارُ المشروعةُ بهذا الاسمِ، مثلُ كلماتِ الأذانِ «اللهُ أكبرُ» ، ومثلُ الشهادتين، والتحياتِ للهِ، والتسبيحِ والتحميدِ والتهليلِ:«سبحان اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أكبرُ» .

ص: 251

وأما السؤالُ فكثيرًا ما يجيءُ باسمِ الربِّ، نحوُ {ربنا ظلمنا أنفسنا} ، {رب أعوذ بك} ، {ربي إني ظلمت نفسي} ، {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع} الآيةَ.

وقد نُقِل عن مالكٍ أنه قال: أكرهُ أن يقولَ في دعائِه: يا سيِّدي، يا حنَّانُ، يا منَّانُ، ولكن بما دعت به الأنبياءُ: ربَّنا، ربَّنا؛ نقله عنه العُتْبيُّ في «العتبية»

(1)

.

فإذا سبق إلى القلبِ قصدُ السؤالِ؛ ناسَبَ أن يَسألَ باسمِ «الربِّ» ، ولو سأل باسمِ «اللهِ» ؛ لتضمُّنِه اسمَ «الربِّ» ؛ كان حسنًا، وأما إذا سبق إلى القلبِ قصدُ العبادةِ، فاسمُ «اللهِ» أولى بذلك.

فلما كان حالُ يونسَ المغاضبةَ ومنازعةَ القدرِ، ونوعَ معارضةٍ في خلقِه وأمْرِه، ووساوسَ في حكمتِه ورحمته، فيحتاجُ العبدُ أن يقعَ عنه ذلك، ويعلمَ أن الحكمةَ والعدلَ فيما اقتضاه علمُه وحكمتُه، فرُوِيَ أنه نادى بارتفاعِ العذابِ عن قومِه بعد أن أظَلَّهم، وخاف أن يُنْسَبَ إلى الكذبِ، فنادى من القَدْرِ

(2)

، وحصل من منازعتِه الإرادةَ ما يُزاحِمُ الإلهيةَ، فناسَبَ أن يجرِّدَ الإلهيةَ ويُخْلِصَها للهِ وحدَه.

وقولُه: {لا إله إلا أنت} يتضمَّن براءةَ ما سوى اللهِ من الإلهيةِ؛

(1)

ينظر: البيان والتحصيل على مسائل المستخرجة (العتبية) لابن رشد 1/ 456.

(2)

هكذا في النسخ الخطية، ولعل القدر هنا بمعنى الضيق، أي: نادى من الضيق.

ص: 252

سواءٌ [صدر ذلك عن]

(1)

هوى النفسِ أو طاعةِ الخلقِ أو غيرِ ذلك؛ بخلافِ آدمَ، فإنه اعترف أولًا بذنبِه فقال:{ربنا ظلمنا أنفسنا} ؛ لأنه لم يكُنْ عنده شيءٌ من منازعةِ الإرادةِ لما أمَر اللهُ به ما يزاحمُ الإلهيةَ، بل ظنَّ صِدقَ إبليسَ، فناسَب:{ربنا ظلمنا أنفسنا} في كونِنا قَبِلْنا غرورَه وما أظهر من نصحِنا ففَرَّطْنا، فكانا محتاجَينِ إلى أن يَربَّهما ربوبيةً تكمِّل حالهما، فلا يغتَرَّا بمثلِ ذلك، فشهِدا حاجتَهما إلى ربِّهما الذي لا يقضي حاجتَهما غيرُه.

وهذا مبنيٌّ على القولِ بالعصمةِ، والناسُ متفقون على أنَّهم معصومون فيما يبلِّغون عن اللهِ، فلا يستقرُّ في ذلك خطأ باتفاقِ المسلمين، لكن هل يتصورُ ما يستدركُه اللهُ، فيَنسَخُ ما يُلقي الشيطانُ ويُحْكِمُ اللهُ آياته؟ هذا فيه قولان، والمأثورُ عن السلفِ يوافقُ القولَ بذلك.

وأما العصمةُ في غيرِ ما يتعلقُ بتبليغِ الرسالةِ: فللناسِ فيه نزاعٌ؛ هل هو ثابتٌ بالعقلِ أو بالسمعِ؟

ومتنازعون في العصمةِ من الكبائرِ أو الصغائرِ أو من بعضِها، أو هل العصمةُ إنما هي في الإقرارِ عليها لا في فِعْلِها؟ أم لا يجبُ القولُ في العصمة إلا في التبليغِ فقط؟ وهل تجبُ العصمةُ من الكفرِ والذنوبِ قبلَ

(1)

ما بين المعقوفتين من مجموع الفتاوى 10/ 286، والذي في النسخ الخطية:(قدر لكل).

ص: 253

البعثةِ أم لا؟

والذي عليه الجمهورُ الموافقُ للآثارِ: إثباتُ العصمةِ من الإقرارِ على الذنوبِ مطلقًا، ورَدُّ قولِ مَن يجوِّزُ إقرارَهم عليها، وحُججُ القائلين بالعصمةِ إذا حُرِّرتْ إنما تدلُّ على هذا القولِ، وحُججُ النُّفاةِ لا تدلُّ على وقوعِ ذنبٍ أُقِرَّ عليه الأنبياءُ؛ فإن وقوعَ الذنبِ إذا لم يُقَرَّ عليه؛ لم يحصُلْ تنفيرٌ ولا نقصٌ؛ فإن التوبةَ النَّصوحَ يُرفع بها صاحبُها أكثرَ مما كان أولًا، وكذلك التأسي بهم إنما هو فيما أقِرُّوا عليه؛ بدليل النسخِ ونحوِه.

ومن قال: إن إلقاءَ يونسَ إلى بطنِ الحوتِ كان قبلَ النبوةِ؛ فليس هو من هذا البابِ.

‌فَصْلٌ

(1)

‌وتصحُّ التوبةُ من ذنبٍ

مع إصرارِه على آخَرَ عند السلَفِ والخلَفِ.

وقال طائفةٌ من أهلِ الكلامِ كأبي هاشمٍ: لا تصحُّ إلا بالتوبةِ مِن الجميعِ، وحكى القاضي وابنُ عَقيلٍ هذا عن أحمدَ.

والمعروفُ هو الأولُ، وما روي عنه؛ محمولٌ على أنها ليست توبةً تجعلُه تائبًا مطلقًا؛ فإن الذي ذكره المروذيُّ عنه: أنه سُئل عمن تاب عن

(1)

هذا الفصل والفصلان بعده تبع للفصلين قبله، ينظر: مجموع الفتاوى 10/ 237، الفتاوى الكبرى 5/ 276.

ص: 254

الفاحشةِ ولم يتُبْ عن النظرِ؟ فقال: أيُّ توبةٍ ذه؟!

وهذا لا يعطي ما قالوه عنه، إنما أراد أنها ليست توبةً عامَّةً؛ فإن نصوصَه المتواترة عنه خلاف ذلك، فحَمْلُ كلامِه على ما يوافِقُه أَوْلى؛ لا سيَّما إذا كان القولُ الآخر مبتدَعًا لا يُعرَفُ له سلفٌ.

وأحمدُ من أشدِّ الناسِ توصيةً بالسلفِ، وتوصيتُه بالسنةِ والاتباعِ أكثرُ مِن أن تُحْصَرَ.

‌ومن تاب من بعضِ ذنوبِه

فإن التوبةَ تقتضي مغفرةَ ما تاب منه فقط، وما علمتُ فيه نزاعًا إلا في الكافرِ إذا أسلم، فإن إسلامَه يغفِرُ له الكفرَ، وهل يُغفَرُ له الذنوبُ التي فعَلها في حالِ كفرِه ولم يتبُ منها في الإسلام؟ على قولين معروفين، الصحيحُ: أنه إذا لم يتُبْ من الذنبِ؛ بقِيَ عليه حكمُه، ولا يُغفَرُ إلا بمشيئةِ اللهِ تعالى، كغيرِه من المسلمين الذين عمِلوا في الإسلامِ.

‌فَصْلٌ

‌الإنسانُ قد يستحضرُ ذنوبًا

فيتوبُ منها، وقد يتوبُ توبةً مطلقةً لا يستحضرُ معها ذنوبَه، لكن إذا كانت نيتُه التوبةَ العامةَ؛ فهي تتناولُ كلَّ ما رآه ذنبًا؛ لأن التوبةَ العامةَ تتضمَّنُ عزمًا عامًّا لفِعْلِ المأمورِ وتركِ المحظورِ، وكذلك تتضمَّنُ ندمًا عامًّا على كلِّ محظورٍ، والندمُ سواءٌ قيل: إنه من بابِ الاعتقاداتِ، أو من بابِ الإراداتِ، أو من باب الآلامِ التي تَلْحَقُ النفسَ بسببِ فعلِ ما يضُرُّها، فإذا استشعر القلبُ أنه

ص: 255

فعَل ما يضرُّه؛ حصل له معرفته بأن الذي فعله كان من السيئاتِ، وهذا من بابِ الاعتقاداتِ، وكراهيتُه لِمَا كان فعَلَه؛ وهو من جنسِ الإراداتِ، وحصل له أذًى وغَمٌّ لما كان فعله، وهذا من بابِ الآلامِ كالغمومِ والأحزانِ، كما أن الفرحَ - وهو السرورُ- من بابِ اللذَّاتِ، ليس من بابِ الاعتقاداتِ والإراداتِ.

ومن قال من الفلاسفةِ: إن اللذَّةَ هي إدراكُ الملائمِ، والألمُ: هو إدراكُ المنافي؛ فقد غلِطَ، فإن اللذةَ والألمَ حالانِ يتعقبان إدراكَ الملائمِ والمنافي، فإن المحبَّ لما يلائمُه له ثلاثةُ أحوالٍ:

الحبُّ؛ وهو الشهوة.

والثاني: إدراكُ المحبوبِ، كأكلِ الطعامِ.

والثالثُ: اللذَّةُ الحاصلةُ، واللذةُ أمرٌ مغايرٌ للشهوةِ ولذوقِ المشتهَى، بل هي حاصلةٌ بذوقِ المشتهَى، ليست نفسَ الذوقِ.

وكذلك المكروهُ: كراهتُه شيءٌ وحصوله شيءٌ، والألمُ الحاصلُ به شيءٌ ثالثٌ.

إذا عُرِف ذلك؛ فمن تاب توبةً عامةً؛ كانت مقتضيةً لغُفرانِ الذنوبِ كلِّها وإن لم يستحضِرْ أعيانَ الذنوبِ، إلا أن يكونَ بعضُ الذنوبِ لو استحضره لم يتُبْ منه لقوةِ إرادتِه إيَّاه، أو لاعتقادِه أنه حسنٌ ليس قبيحًا، فما كان لو استحضره لم يتُبْ منه؛ لم يدخُلْ في التوبةِ؛ بخلافِ ما كان لو استحضره تاب منه؛ فإنه يدخلُ في عمومِ التوبةِ.

ص: 256

وأما التوبةُ المطْلقةُ؛ وهي أن يتوبَ توبةً مجملةً، ولا يلتزمَ التوبةَ من كل ذنبٍ؛ فهذه لا توجبُ دخولَ كلِّ فردٍ فردٍ ولا تمنعُ دخولَه، كاللفظِ المطلقِ، لكن هذه تصلحُ أن تكونَ سببًا لغفرانِ المعين، كما تصلحُ أن تكونَ سببًا لغفرانِه

(1)

؛ بخلافِ العامةِ؛ فإنها مقتضيةٌ للغفرانِ العامِّ.

‌فَصْلٌ

‌إذا تحقَّقَ توحيدُ الربوبيةِ وتوحيدُ الإلهية

بانقطاعِ الرجاءِ مِن الخلقِ -وتوحيدُ الربوبيةِ أنه لا خالقَ إلا اللهُ؛ فلا يستقلُّ شيءٌ سواه بإحداثِ أمرٍ من الأمورِ، بل ما شاء كان، وما لم يشأْ لم يكُنْ-، فإذا تحقَّق ذلك؛ كان سببًا بأن ينالَ مطلوبَه ويأتيَه الفرجُ.

وأما من تعلَّق قلبُه بمخلوقٍ؛ فالمخلوقُ عاجزٌ إن لم يجعلْه اللهُ فاعلًا لذلك، وهذا من الشركِ الذي لا يغفرُه اللهُ؛ أن يرجوَ العبدُ مخلوقًا لقضاءِ حاجتِه، فمن أنعم اللهُ عليه من المؤمنين يمنعه حصولَ مطلوبِه بذلك الشركِ حتى يَصرِفَ قلبَه إلى التوحيدِ، ويُنزِلُ بعبدِه المؤمنِ من الشدةِ والضُّرِّ ما يُلْجِئُه إلى توحيدِه، فيدعوه مخلصًا له الدينَ، ولا يرجو أحدًا سواه، ويتعلقُ قلبُه به وحده، فيحصلُ له من التوكلِ والإنابةِ وحلاوةِ الإيمانِ وذَوْقِ طَعْمِه والبراءةِ من الشركِ؛ ما هو أعظمُ نعمةً من

(1)

أي: غفران الجميع، وعبارة مجموع الفتاوى 10/ 328:(لغفران الجميع).

ص: 257

زوالِ ضُرِّه، فإن ما يحصلُ لأهلِ التوحيدِ لا يمكنُ وصفُه.

فإن الضُّرَّ في الدنيا من المرضِ والعُسْرِ والألمِ وغيرِه؛ يشتركُ في زوالِه وذوقِ لذةِ حلاوتِه المؤمنُ والكافرُ؛ لأنه من أمورِ الدنيا؛ بخلافِ حلاوةِ الإيمانِ، فلا يمكنُ أن يعبَّرَ عنه بمقالٍ، ولكلِّ امرئٍ من المؤمنين نصيبٌ بقدْرِ إيمانِه؛ فمن تجرَّد توحيدُه؛ بحيث يحبُّ فيه، ويوالي ويُعادي فيه، ويتوكلُ عليه؛ فلا يسألُ إلا إيَّاه، ولا يرجو إلا إيَّاه؛ بحيث يكونُ عند الحقِّ بلا خلقٍ، وعندَ الخلقِ بلا هوًى، قد فنيَتْ عنه إرادةُ ما سواه بإرادتِه، ومحبةُ ما سواه بمحبتِه، وخوفُ ما سواه بخوفِه، ورجاءُ ما سواه برجائِه، ودعاءُ ما سواه بدعائِه، هو أمرٌ لا يعرفُه بالذوقِ والوَجْدِ إلا من له منه نصيبٌ، وما من مؤمنٍ إلا وله منه نصيبٌ.

وهذا هو حقيقةُ الإسلامِ، وقُطْبُ رَحى القرآنِ، به بعَث اللهُ الرسلَ، وبه أنزل الكتبَ، واللهُ المستعانُ، وعليه التُّكلانُ.

‌فَصْلٌ

‌أجمَعَ المسلمونَ

على أن العبدَ المسلمَ يجوزُ له أن يشتكيَ إلى اللهِ ما يَنزِل به من الضرِّ، وليس ذلك منافيًا للصبرِ، بل الشَّكوى إلى الخَلْقِ قد تنافي الصبرَ.

ومن قال: (إن نبيًّا من الأنبياءِ أكَله القملُ فاشتكى إلى ربِّه، فأوحى إليه: لئن اختَلَج هذا في سِرِّك، لأمْحُوَنَّك من ديوانِ الأنبياءِ)؛ فهذا لا ينبغي أن يُحكى؛ لأنها إما كذِبٌ، أو مخالفةٌ لشريعةِ محمدٍ، بل كان

ص: 258

الأنبياءُ قد شَكَوْا إليه؛ كيعقوبَ وأيوبَ وذي النُّونِ ونوحٍ.

فهؤلاء الأنبياءُ قد اشتكَوا، وكشَف ما بهم من الضرِّ والغمِّ، لكن ينبغي الرِّضا، وليس هو واجبًا في أصحِّ قولي العلماءِ؛ بل مستحبٌّ، وإنما الواجبُ الصبرُ، وهو لا ينافي الشَّكْوى، واختلاجُ السرِّ لا ينافي الرِّضا بالقضاءِ باتفاق العقلاءِ، والرضا يكونُ بعد القضاءِ.

‌فَصْلٌ

(1)

‌أصلُ الإيمانِ في القلبِ

؛ وهو قولُ القلبِ وعملُه، وهو إقرارُ القلبِ بالتصديقِ والحبِّ والانقيادِ، ولا بدَّ أن يَظهَرَ موجَبُه ومقتضاه على الجوارحِ، فالأعمالُ الظاهرةُ مِن موجَبِ إيمانِ القلبِ، ودليلٌ عليه، وشاهدٌ له، وشُعبةٌ من مجموعِ الإيمانِ المطلقِ، وبعضٌ له، وما في القلبِ أصلٌ لها، وهو الملِكُ، والأعضاءُ جنودُه.

وقد ظن طوائفُ أن الإيمانَ هو ما في القلبِ خاصةً، وما على الجوارحِ لا يدخلُ في مسماه، لكن هو من ثمراتِه ونتائجِه؛ حتى آل بِغُلاتِهم - كجَهْمٍ وأتباعِه - إلى أن قالوا:(يمكنُ أن يصدِّقَ بقلبِه، ولا يُظْهِرَ بلسانِه إلا الكفرَ، ويكونَ ما في القلبِ إيمانًا نافعًا له، وإذا حكَم الشرعُ بكفرِ أحدٍ بعملٍ أو قولٍ؛ فلكونِه دليلًا على انتفاءِ ما في القلبِ)؛ فتَناقَضَ قولُهم؛ فإنه إذا كان دليلًا مستلزِمًا انتفاءَ الإيمانِ من القلبِ؛

(1)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل والذي بعده في مجموع الفتاوى 7/ 641.

ص: 259

امتنع أن يكونَ الإيمانُ في القلبِ مع الدليلِ المستلزمِ نفيَه، وإن لم يكُنْ دليلًا؛ لم يَجُزْ أن يستدلَّ به على الكفرِ الباطنِ.

فالتحقيقُ: أن اسمَ الإيمانِ المطلقَ يتناولُ الأصلَ مع الفروعِ، وقد يُخصُّ الاسمُ

(1)

وحدَه بالاسمِ مع الاقترانِ، وقد لا يتناولُ إلا الأصلَ إذا لم يخصَّ إلا هو، كاسمِ الشجرةِ يتناولُ الأصلَ والفرعَ إذا وُجِدَ، ولو قُطِعت الفروعُ لتناول اسمُ الشجرةِ الأصلَ وحدَه.

وكذا اسمُ الحجِّ يتناولُ كلَّ ما شُرِع من ركنٍ وواجبٍ ومستحبٍّ، وهو أيضًا تامٌّ بدونِ المستحباتِ، وحجٌّ ناقصٌ بدونِ الواجباتِ.

‌والشارعُ لا ينفي اسمَ الإيمانِ

عن العبدِ لتركِ مستحَبٍّ، لكن لتركٍ واجبٍ.

ولفظُ الكمالِ: يُرادُ به الكمالُ الواجبُ والكمالُ المستحبُّ، فلمَّا قال:«لا يزني الزاني حينَ يزني وهو مؤمنٌ»

(2)

، و «لا إيمانَ لمن لا أمانةَ له»

(3)

، ونحوَ ذلك؛ كان لانتفاءِ بعضِ ما يجب فيه، لا لانتفاء الكمالِ المستحبِّ.

‌والإيمانُ يتبعَّضُ

ويتفاضلُ الناسُ فيه؛ كالحجِّ والصلاةِ، ولهذا قال:«يخرجُ من النارِ مَن في قلبِه مثقالُ ذرةٍ من إيمانٍ، ومثقالُ شعيرةٍ»

(4)

.

(1)

هكذا في أصل الفتوى في مجموع الفتاوى، وفي هامش الأصل:(لعله: الأصل)

(2)

رواه البخاري (2475)، ومسلم (57)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

رواه أحمد (12383)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري (7510)، ومسلم (193)، من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 260

وأما إذا استُعمل اسمُ الإيمانِ مقيَّدًا؛ كقولِه: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ، وقولِه:«الإيمانُ أن تؤمنَ باللهِ، وملائكتِه، وكتبِه، ورسلِه، والبعثِ بعدَ الموتِ»

(1)

؛ فهنا قد يقالُ: إنه متناولٌ لذلك، وأن عطفَ ذلك عليه من بابِ عطفِ الخاصِّ على العامِّ، كقولِه:{وملائكته ورسله وجبريل وميكال} .

وقد يقالُ: إن دلالةَ الاسمِ متنوعةٌ بالإفرادِ والاقترانِ، كلفظ الفقيرِ والمسكينِ إذا أُفْرِد أحدهما تناول الآخرَ، وإذا جُمِع بينَهما كانا صنفين.

ولا ريبَ أن فروعَ الإيمانِ مع أصولِه كالمعطوفَينِ، وهي مع جميعِه كالبعضِ مع الكلِّ.

ومن هنا نشأ النزاعُ والاشتباهُ: هل الأعمالُ داخلةٌ في الإيمانِ، أم لا؛ لكونها عُطِفت عليه؟

وقد يُعطَفُ على الإيمانِ بعضُ شُعبِه، فيقالُ: هذا أرفعُ الإيمانِ؛ أي: اليقينُ والعلمُ أرفعُ من المؤمنِ الذي ليس معه يقينٌ ولا علمٌ.

ومعلومٌ أن الناسَ يتفاضلونَ في نفسِ الإيمانِ والتصديقِ في قوتِه وضعفِه، وعمومِه وخصوصِه، وبقائِه ودوامِه، وموجِبِه ومقتضيه، وغيرِ ذلك من أمورِه، فيُخَصُّ أحدُ نوعيه باسمٍ يفضَّلُ به على النوعِ الآخرِ، ويبقى اسمُ الإيمانِ، ومثلُ ذلك متناولٌ للقسمِ الآخرِ؛ كما يقالُ:

(1)

رواه البخاري (50)، ومسلم (9)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 261

الإنسانُ خيرُ الحيوانِ

(1)

، والإنسانُ خيرُ الدَّوابِّ

(2)

، وإن كان الإنسانُ يدخلُ في الدوابِّ في قولِه:{إن شر الدواب} .

فإذا عُرف ذلك؛ فحيث وُجِد تفضيلُ شيءٍ على الإيمانِ؛ فإنما هو تفضيلُ نوعٍ خاصٍّ على عمومِه، أو تفضيلُ بعضِ شُعَبِه العاليةِ على غيره، واسمُ الإيمانِ قد يتناولُ النوعين جميعًا، وقد يخُصُّ أحدَهما كما تقدم، وأكثرُ اختلافِ العقلاءِ من جهةِ اشتراكِ الأسماءِ.

‌والإيمانُ له نورٌ في القلبِ

؛ قال: {مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} ؛ أي: مثَلُ نورِه في قلبِ المؤمنِ كمشكاةٍ فيها مصباحٌ، إلى قولِه:{ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور} ، وقال:{أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به} ، فسمَّى الإيمانَ الذي يهَبُه للعبدِ: نورًا.

ولا ريبَ أنه يحصلُ بسببٍ؛ مثلِ سماعِ القرآنِ وتدبُّرِه، ومثلِ رؤيةِ أهلِ الإيمانِ والنظرِ في أحوالِهم، ومعرفةِ أحوالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومعجزاتِه، والنظرِ في آياتِ اللهِ، والتفكرِ في أحوالِ نفسِ الإنسانِ، والضَّروراتِ التي يُحْدِثُها اللهُ للعبدِ تضطرُّه إلى الذلِّ للهِ والاستسلامِ له، واللَّجَأِ إليه، وقد يكونُ هذا سببًا لشيءٍ من الإيمانِ، وهذا سببًا لشيءٍ آخرَ، بل كلُّ ما يكونُ في العالمِ فلا بدَّ له من سببٍ، وسببُ الإيمانِ وشُعَبِه يكونُ تارةً من العبدِ وتارةً من غيرِه، مثلُ مَن يقيَّضُ له مَن يدعوه إلى الإيمانِ،

(1)

في مجموع الفتاوى 7/ 648: (خيرٌ من الحيوان).

(2)

في مجموع الفتاوى 7/ 648: (خيرٌ من الدواب).

ص: 262

ويأمرُه بالخيرِ، وينهاه عن الشرِّ.

ثم قد يكونُ بعضُ أسبابِه أهونَ على بعضِ الناسِ من بعضِها الآخرِ، ومنهم من يكونُ العلمُ أيسرَ عليه من الزُّهدِ، وبالعكسِ، ومنهم من تكونُ العبادةُ أيسرَ عليه منهما.

فالمشروعُ لكلِّ إنسانٍ أن يفعلَ ما يقدِرُ عليه من الخيرِ، كما قال:{فاتقوا الله ما استطعتم} .

‌وإذا ازدحمتْ شُعَبُه

؛ قَدَّمَ ما كان أرْضى للهِ، وهو عليه أقدرُ، فقد يكونُ على المفضولِ أقدرَ منه على الفاضلِ، ويحصلُ له أفضلُ مما يحصلُ له من الفاضلِ، فالأفضلُ لهذا أن يطلبَ ما هو أنفعُ وهو في حقِّه أفضلُ، لا يطلبُ ما هو الأفضلُ مطلقًا إذا كان متعسرًا عليه؛ إذ قد يفوتُه ما هو أفضلُ له وأنفعُ؛ كمن يقدِرُ أن يقرأَ القرآنَ بالليلِ فيتدبرَه وينتفعَ بتلاوتِه، والصلاةُ تثقُلُ عليه ولا ينتفعُ بها بطائلٍ، أو ينتفعُ بالذِّكرِ أعظمَ مما ينتفعُ بالقراءةِ، فأيُّ عملٍ كان له أنفعَ وللهِ أطوعَ؛ أفضلُ في حقِّه من عملٍ لا يأتي به على وجهِه، ومعلومٌ أن الصلاةَ آكَدُ من القراءةِ، والقراءةُ أفضلُ من الذِّكرِ والدعاءِ، ومعلومٌ أن الذكرَ في وقتِه الخاصِّ كالركوعِ والسجودِ؛ أفضلُ من قراءةِ القرآنِ في ذلك المحلِّ، وأن الذِّكرَ والقراءةَ والدعاءَ عندَ طلوعِ الشمسِ وغروبِها؛ خيرٌ من الصلاةِ.

ص: 263

‌فَصْلٌ

‌والزهدُ هو ضدُّ الرغبةِ

، وهو كالبُغضِ المخالفِ للمحبةِ، والكراهةِ المخالفةِ للإرادةِ.

وحقيقةُ المشروعِ منه: أن يكونَ بغضُه وحبُّه وزهدُه فيه أو عنه تابعًا لحبِّ الله وكراهتِه، فيحبُّ ما أحبه اللهُ، ويُبغِضُ ما أبغضَه، ويرضى ما يرضاه، ويسخطُ ما يسخطُه؛ بحيث لا يكونُ تابعًا لهواه بل لأمرِ مولاه؛ فإن كثيرًا من الزهَّاد في الدنيا أعرضوا عن فضولِها، ولم يُقْبِلوا على ما يحبُّه اللهُ ورسولُه، وليس هذا الزهدُ مما يأمر اللهُ به، ولهذا كان في المشركين زهَّادٌ، وفي أهلِ الكتابِ زهَّادٌ، وفي أهلِ البدعِ زهادٌ.

ومن الناسِ من يزهدُ طلبًا للراحةِ من تعبِ الدنيا أو لمسألةِ أهلهاِ، والسلامةِ من أذاهم، أو لطلبِ الرئاسةِ، إلى أمثالِ هذه الأنواعِ التي لا يأمُرُ اللهُ بها ولا رسولُه.

وإنما يأمر اللهُ ورسولُه أن يزهدَ فيما لا يحبُّه اللهُ، ويرغبَ فيما يحبُّه اللهُ ورسولُه، فيكونُ زهدُه عما لا يأمرُ اللهُ به أمرَ إيجابٍ أو استحبابٍ؛ سواءٌ كان محرَّمًا أو مكروهًا أو مباحًا، ويكونُ مع ذلك مقبِلًا على ما أمر اللهُ به، ولا يتركُ المكروهَ بدون فعلِ المحبوبِ، وإنما المقصودُ بالقصدِ الأولِ فعْلُ المحبوبِ، وتركُ المكروهِ مُعِينٌ على ذلك، فتَزْكو النفسُ بذلك كما يزكو الزرعُ إذا نُقِّي عنه الدَّغَلُ.

ص: 264

وطريقُ الوصولِ إلى ذلك: هو الاجتهادُ في فعلِ المأمورِ وتركِ المحظورِ، والاستعانةُ باللهِ على ذلك.

فمَن فعل ذلك وصَل إلى حقيقةِ الإيمانِ لقولِه: «احرِصْ على ما ينفعُك، واستعنْ باللهِ

»، بعدَ قولِه:«المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كلٍّ خيرٌ، احرِصْ على ما ينفعُكَ، واستعنْ باللهِ ولا تعجِزْ، وإن أصابكَ شيءٌ فلا تقُلْ: لو أني فعلتُ لكان كذا وكذا، ولكن قُلْ: قدر اللهُ وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتحُ عملَ الشيطانِ»

(1)

.

‌فَصْلٌ

(2)

‌لا ريبَ أن الذين أوتوا العلمَ والإيمانَ

أرفعُ من الذين أوتوا الإيمانَ فقط؛ كما دلَّ عليه الكتابُ والسنةُ، والعلمُ الممدوحُ هو الذي ورَّثَتْه الأنبياءُ، وهذا العلمُ ثلاثةُ أقسامٍ:

علمٌ باللهِ وأسمائه وصفاتِه، وما يتبَعُ ذلك، وفي مثلِه أنزل اللهُ سورةَ الإخلاصِ، وآيةَ الكرسيِّ، ونحوَهما.

والقسمُ الثاني: العلمُ بما أخبر اللهُ به مما كان من الأمورِ الماضيةِ، ومما يكونُ من المستقبلةِ، وما هو كائنٌ من الأمورِ الحاضرةِ؛ وفي مثلِه

(1)

رواه مسلم (2664)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 11/ 395.

ص: 265

أنزل القصصَ، والوعيدَ والوعدَ، وصفةَ الجنةِ والنارِ.

والقسمُ الثالثُ: العلمُ بما أمر اللهُ به من الأمورِ المتعلقةِ بالقلوبِ والجوارحِ؛ من الإيمانِ باللهِ من معارفِ القلوبِ وأحوالِها، وأقوالِ الجوارحِ وأعمالِها، وهذا يندرجُ فيه العلمُ بأصولِ الإيمانِ وقواعدِ الإسلامِ، والعلمُ بالأقوالِ والأفعالِ الظاهرةِ مما هو في كتبِ الفقهِ.

‌وقد يكون الرجلُ حافظًا لحروفِ العلمِ

، ولا يكونُ مؤمنًا بل منافقًا؛ فالمؤمنُ الذي لا يحفظُ العلمَ وصُوَرَه خيرٌ منه، وإن كان ذلك المنافقُ ينتفعُ به الغيرُ كما ينتفعُ بالرَّيحانِ، وأما الذي أوتيَ العلمَ والإيمانَ فهو مؤمنٌ عليمٌ؛ هذا أصلٌ.

وأصلٌ آخرُ؛ وهو أنه ليس كلُّ عملٍ أورثَ كشفًا أو تصرفًا في الكونِ يكونُ أفضلَ من العملِ الذي لا يورثُ ذلك؛ فإن الكشفَ إن لم يكُنْ مما يُستعانُ به على دينِ اللهِ وإلا كان من متاعِ الحياةِ الدنيا، وقد يحصلُ ذلك للكفارِ وإن لم يحصلْ لأهلِ الإيمانِ، ففضائلُ الأعمالِ ودرجاتُها لا تُتلقَّى من مثلِ هذا؛ بل من الكتابِ والسنةِ، فأكرمُ الخلقِ عندَ اللهِ أتقاهم.

وتفضيلُ العملِ على العملِ قد يكون مطلقًا، وقد يكون مقيَّدًا في وقت أو زمان أو شخصٍ، وقد يأتي الرجلُ بالعملِ الفاضلِ ويفوِّتُ شروطَه، وغيرُه يأتي بالمفضولِ مكمَّلًا، فيكونُ هذا أفضلَ من ذاك.

ص: 266

‌فَصْلٌ

‌إذا قرأ القارئُ بغيرِ حرفِ ابنِ كثيرٍ

كان تركُه للتكبيرِ هو الأفضلَ، بل هو المشروعُ المسنونُ؛ فإن

(1)

هؤلاء الأئمةَ نقلوا ذلك عن رسولِ اللهِ، فيمتنعُ أن يكونوا أضاعوا فيها ما أمرهم به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أهلُ تواترٍ.

وأبلغُ من ذلك البسملةُ؛ فإن في القُرَّاءِ مَن لا يَفْصِلُ بها مع كونِها مكتوبةً في المصاحفِ، وليس التكبيرُ من القرآنِ باتفاقِ المسلمين؛ بخلافِ البسملةِ، فإن مذهبَ مالكٍ: أنها ليست من القرآنِ إلا في النملِ؛ وهو قولٌ في مذهبِ أحمدَ وأبي حنيفةَ

(2)

.

‌وليس لمن كان يقرأُ القرآنَ

والناسُ يصلُّون تطوعًا أن يجهرَ جهرًا يشغَلُهم به؛ فإنه صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابِه وهم يصلُّونَ من السَّحَرِ، فقال:«أيُّها الناسُ كلُّكم يناجي ربَّه، فلا يجهرْ بعضُكم على بعضٍ في القراءةِ»

(3)

.

وصلاةُ النافلةِ في الجملةِ أفضلُ من استماعِ القرآنِ، لكن قد تكونُ

(1)

في الأصل: فإنهم.

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا فرأ القارئ

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 13/ 417.

(3)

رواه أحمد (4928)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 267

القراءةُ واستماعُها أفضلَ لبعضِ الناسِ

(1)

.

‌وقولُه:

{إن من أزواجكم وأولادكم عدوًّا} «من» للتبعيضِ بالاتفاقِ.

‌وقد يكونُ العابدُ بغيرِ علمٍ

شرًّا من العالمِ الفاسقِ، وقد يكونُ العالمُ الفاسقُ شرًّا منه، وأما العابدُ بعلمٍ فهو خيرٌ من

(2)

الفاسقِ إلا أن يكونَ للفاسقِ حسناتٌ تفضُلُ على سيئاتِه؛ بحيث يفضلُ له أكثرُ من حسناتِ ذلك العابدِ

(3)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وليس لمن كان

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 61، والفتاوى الكبرى 2/ 236.

(2)

سقطت (من) من الأصل، والمثبت من (ك).

(3)

ينظر أصل الفتوى في: مجموع الفتاوى 23/ 61، والفتاوى الكبرى 2/ 236.

ص: 268

‌بَابٌ في الكُسُوفِ

(1)

‌الكسوفُ والخسوفُ

لهما أوقاتٌ مقدَّرةٌ، كما لطلوعِ الهلالِ وقتٌ مقدَّرٌ، وذلك مما أجرى اللهُ عادتَه بالليلِ والنهارِ، والشتاءِ والصيفِ، وسائر ما يتبَعُ جريانَ الشمسِ والقمرِ، وذلك من آياتِ اللهِ، فكما أن العادةَ أن الهلالَ لا يستهِلُّ إلا ليلةَ ثلاثين أو إحدى وثلاثين، وأن الشهرَ لا يكونُ إلا ثلاثين أو تسعةً وعشرين؛ فكذلك أجرى اللهُ العادةَ أن الشمسَ لا تُكسفُ إلا وقتَ الاستِسْرارِ

(2)

، وأن القمرَ لا يُخْسَفُ إلا وقتَ الإبدارِ.

وللشمسِ والقمرِ ليالٍ معتادةٌ؛ من عرَفها عرَف الكسوفَ والخسوفَ، كما أن من علِم كمْ مضى من الشهرِ؛ يعلمُ أن الهلالَ يطلعُ في الليلةِ الفُلانيةِ، لكنَّ العلمَ بالهلالِ عامٌّ للناسِ، وأما علمُ الكسوفِ فهو لمن يعرِفُ حسابَ جَرَيانِهما.

(1)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 24/ 254، والفتاوى الكبرى 4/ 424.

(2)

قال الأزهري في تهذيب اللغة 12/ 204: (سرار الشهر: آخر ليلة، إذا كان الشهر تسعًا وعشرين فسراره ليلة ثمان وعشرين، وإذا كان الشهر ثلاثين فسراره ليلة تسع وعشرين).

ص: 269

وليس خبرُ الحاسبِ بذلك من بابِ علمِ الغيبِ؛ بل مثلُ العلمِ بأوقاتِ الفصولِ.

ومن قال من الفقهاءِ: إن الشمسَ تُكْسَفُ في غيرِ وقتِ الاستسرارِ؛ فقد غلِطَ، وقال ما ليس له به علمٌ.

‌وما يُروى عن الواقديِّ

من ذكرِه أن إبراهيمَ مات يومَ العاشر؛ وهو اليوم الذي كُسِفت الشمسُ؛ غلطَ، والواقديُّ لا يحتَجُّ بمسانيدِه، فكيف بمراسيلِه؟! هذا فيما لم يُعلَمْ أنه خطأٌ، وأمَّا هذا فهو خطأٌ قطعًا.

‌وأما ما ذكره طائفةٌ من الفقهاءِ

من اجتماعِ صلاةِ العيدِ والكسوفِ، فذكرُوه في ضمنِ كلامِهم فيما إذا اجتمع صلاةُ الكسوفِ وغيرِها من الصَّلواتِ، فذكَروا صلاةَ الوترِ والظُّهرِ، وذكروا العيدَ؛ مع عدمِ استحضارِهم هل ذلك ممكنٌ أم لا؟

لكن استفَدْنا من تقديرِهم العلمَ بالحكمِ فقط على تقديرِ وجودِه، كما يُقَدِّرون مسائلَ يُعلَمُ أنها لا تقعُ؛ لتحريرِ القواعدِ وتمرينِ الأذهانِ.

وبكلِّ حالٍ؛ فالمخبِرُ بذلك قد يكونُ غالطًا أو فاسقًا، لكن إذا تواطؤوا على ذلك

(1)

لا يكادُ يخطئُ، وبكلِّ حالٍ فلا نرتبُ عليه حكماً شرعيًّا، فإنا لا نُصلِّي إلا إذا شاهدْنا ذلك.

وقد أخبر الصادقُ أنهما آيتان من آياتِ اللهِ يخوِّفُ اللهُ بهما عبادَه، وهذا بيانٌ أنهما سببٌ لنزولِ العذابِ، فأمر النبيُّ بما يُزيلُ الخوفَ؛ من

(1)

أي: أهل الحساب.

ص: 270

الصلاةِ والدعاءِ والاستغفارِ والصدقةِ والعتقِ؛ حتى ينكشفَ ما بالناسِ

(1)

.

‌فَصْلٌ

(2)

‌وهذه النجومُ من آياتِ اللهِ الدالةِ عليه

، المسبِّحةِ له، الساجدةِ؛ كما قال:{ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب} .

وهذا يبيِّنُ أنه لم يُرِدْ من

(3)

سجودِها أنَّها دالةٌ عليه لما فيها من الدلالةِ على ربوبيتِه؛ كما يقولُ ذلك طوائفُ من الناسِ؛ إذ هذه الدلالةُ يشتركُ فيها جميعُ المخلوقاتِ، وهو قد فرَّقَ، فعُلِم أن ذلك قدرٌ زائدٌ على الدلالةِ، ومع ذلك فقد جعلها منافعَ لعبادِه، وسخَّرَها لهم.

ومن منافعِها الظاهرةِ ما يجعله سبحانه بالشمسِ من الحرِّ والبردِ، والليلِ والنهارِ، وإنضاجِ الثمارِ، وخلقِ الحيوانِ والنباتِ والمعادنِ، والترطيبِ والتيبيسِ، وغيرِ ذلك من الأمورِ المشهورةِ، كما جعل في النارِ الإشراقَ والإحراقَ، وفي الماءِ التطهيرَ والسَّقْيَ، وأمثالِ ذلك من نِعَمِه التي يذكرُها في كتابِه.

(1)

كما في حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري (1044)، ومسلم (901)، وغيرها من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

(2)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل مجموع الفتاوى 35/ 166، والفتاوى الكبرى 1/ 57.

(3)

قوله (من) سقطت من الأصل.

ص: 271

وقد أخبَرَ في غيرِ موضعٍ: أنه يجعلُ بعضَ مخلوقاتِه ببعضٍ؛ كما قال: {لنحيي به بلدة ميتًا} .

‌ومن قال من أهلِ الكلامِ:

(إنه يُفْعَلُ ذلك عندَه لا به)؛ فعبارتُه مخالفةٌ للكتابِ والأمورِ المشهورةِ، كمن زعم أنها مستقلَّةٌ بالفعلِ، فهو شركٌ مخالفٌ للعقلِ والدينِ.

ومن قال: (إن لها تأثيرًا)، وعَنى بذلك ما جعله اللهُ فيها مما ذكره سبحانه، فهو حقٌّ، ولكن قد أمر اللهُ ورسولُه العبادَ بما يدفعُ سببَ العذابِ الحاصلِ بها، مثلُ صلاةِ الكسوفِ والذِّكرِ عندَ الريحِ مثلِ قولِه: «اللهُمَّ إنا نسألُكَ خيرَ هذه الريحِ

(1)

، وخيرَ ما أرسِلَتْ به، ونعوذُ بك من شرِّها، وشرِّ ما أرْسِلَتْ به»

(2)

.

فهذه السنَّةُ في أسبابِ الخيرِ والشرِّ، فيفعلُ العبدُ عندَ هذه الأسبابِ ما علَّمه اللهُ.

أما الأسبابُ التي تَخْفى؛ فليس العبدُ مأمورًا بأن يتكلفَ معرفتَه، بل يتقي اللهَ ويفعلُ ما أمره، {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب} .

وفي «سننِ أبي داودَ» : «مَن اقتبسَ شُعْبةً من النجومِ؛ فقد اقتبس شُعْبةً من السِّحرِ»

(3)

.

(1)

زيد في (ك): وخير ما فيها. وقد وردت في أصل الحديث.

(2)

رواه أحمد (21138)، والترمذي (2252)، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.

(3)

رواه أبو داود (3905)، ورواه أحمد (2840)، وابن ماجه (3726)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 272

‌والسِّحرُ محرَّمٌ بالكتابِ والسنةِ والإجماعِ

، وذلك أن النجومَ التي من السحرِ نوعان:

أحدُهما: علميٌّ؛ وهو الاستدلالُ بحركاتِ النجومِ على الحوادثِ؛ من جنسِ الاستقسامِ بالأزلامِ.

والثاني: عمليٌّ؛ وهو الذي يقولون: إنه [

]

(1)

القوى معاً

(2)

؛ السماويةِ بالقوى المنفعلةِ الأرضيةِ، كالطلاسِمِ ونحوِها؛ وهذا من أرفعِ أنواعِ السحرِ.

وكلُّ ما حرَّمه اللهُ فضررُه أعظمُ من نفعِه.

فالثاني وإن توهَّم المتوهِّمُ أن فيه تقدِمةً للمعرفةِ بالحوادثِ، وأن ذلك ينفعُ؛ فالجهلُ في ذلك أضعفُ، ومضرَّةُ ذلك أعظمُ، ولهذا فقد عُلِم بالتواترِ أن ما يحكمُ به المنجِّمون يكونُ الكذبُ فيه أضعافَ الصِّدقِ، وهم في ذلك من نوعِ الكهَّانِ.

ولمَّا ناظرتُ بدمشقَ مَن حضَرني من رؤسائهم، وبيَّنتُ فسادَ صناعتِهم بالأدلةِ، قال لي: واللهِ إنا لَنَكْذِبُ مائةَ كذبةٍ حتى نصدُقَ في واحدةٍ.

وذلك أن مبناها: على أن الحركاتِ العلويةَ هي السببُ في

(1)

بياض في (الأصل) و (ك) و (ز) بمقدار ثلاث كلمات. وفي هامش (ز): (بياض في الأصل).

(2)

في (ك) و (ز): القوتين معًا.

ص: 273

الحوادثِ، والعلمُ بالسببِ يوجِبُ العلمَ بالمسبَّبِ، وهذا إنما يكونُ إذا عُلِم السببُ التامُّ، وهؤلاء أكثرُ ما يعلمون - إنْ علِموا- جزءًا يسيرًا من جملةِ الأسبابِ الكثيرةِ، ولا يعلمون بقيةَ الأسبابِ ولا الشروطَ ولا الموانعَ؛ مثلُ من يعلمُ أن الشمسَ في الصيفِ تعلو الرأسَ حين يشتدُّ الحرَّ، فيريدُ أن يعلمَ مِن هذا مثلًا: أنه حينئذ أن العنبَ الذي في الأرضِ الفُلانيةِ يصيرُ زَبيبًا؛ بناءً على أن هناك عنبًا، وأنه ينضجُ وينشرُه صاحبُه في الشمسِ وقتَ الحرِّ، فيتزبَّبُ.

وهذا وإن كان يقعُ كثيرًا، لكن أخْذُ هذا من مجردِ حرِّ الشمسِ جهلٌ عظيمٌ؛ إذ قد يكونُ هناك عنبٌ وقد لا يكونُ، وقد يثمرُ ذلك الشجرُ وقد لا، وقد يؤكَلُ عنبًا وقد يُسرقُ، والدلالةُ على فسادِ هذه الصنعةِ وتحريمِها كثيرةٌ جدًّا.

وقد روي: «من أتى عرَّافًا فسأله؛ لم تُقبَل صلاتُه أربعينَ يومًا»

(1)

.

والعرَّافُ: اسمٌ للكاهنِ والمنجِّمِ والرمَّالِ ونحوِهم ممن يتكلمُ في تقدِمةِ المعرفة بهذه الطرقِ.

وأما إنكارُ بعضِ الناسِ أن يكونَ شيءٌ من حركاتِ الكواكبِ وغيرِها من الأسبابِ؛ فهو أيضًا قولٌ بلا علمٍ، بل النصوصُ تدلُّ على خلافِ ذلك، كما في السننِ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نظر إلى عائشةَ، فقال:«يا عائشةُ تعوَّذي باللهِ من شرِّ هذا- يعني القمرَ-، فهذا الغاسقُ إذا وقَب»

(2)

،

(1)

رواه مسلم (2230)، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

رواه أحمد (24323)، والترمذي (3366)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 274

وحديثُ الكسوفِ حيث أخبر أن اللهَ يخوِّفُ بهما عبادَه، وأنهما لا يُخْسفان لموتِ أحدٍ ولا لحياتِه

(1)

، وإن كان موتُ بعضِ الناسِ قد يقتضي حدوثَ أمرٍ في السماواتِ؛ كما في الصحاح:«أنَّ عرشَ الرحمنِ اهتزَّ لموتِ سعدِ بنِ معاذٍ»

(2)

.

وأما كونُ الكسوفِ أو غيرِه قد يكونُ سببًا لحادثٍ في الأرضِ من عذابٍ يقتضي موتًا أو غيرَه؛ فهذا قد أثبته الحديثُ، ولا ينافي ذلك كونُ الكسوفِ له وقتٌ محددٌ؛ أن يكونَ عندَ أجلِه يجعله اللهُ سببًا لما يقضيه من عذابٍ وغيرِه، كما أن تعذيبَه لمن عذَّبه بالريحِ الشديدةِ كان في الوقتِ المناسبِ؛ وهو آخِرُ الشتاءِ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا رأى مَخِيلةً- وهو السحابُ الذي يُخالُ فيه المطرُ- أقبل وأدبر وتغيَّرَ وجهُه، فقالت عائشةُ: إن الناسَ إذا رأوه استبشروا، فقال:«وما يؤمِّنُني وقد رأى قومُ عادٍ العذابَ فقالوا: {عارضٌ ممطرُنا}، قال اللهُ: {بل هو ما استعجلتم به}»

(3)

.

وكذلك الأوقاتُ التي تنزلُ فيها الرحمةُ؛ كالعَشرِ الآخرِ، والأُوَل من ذي الحَجَّةِ، وجوفِ الليلِ، وغيرِ ذلك: هي أوقاتٌ محدودةٌ وتنزلُ فيها الرحمةُ ما لا تنزلُ في غيرِها.

‌واعتقادُ أن نجمًا من النجومِ السبعةِ

هو المتولي لسعدِ فلانٍ ونحسِه؛

(1)

كما في حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري (1044)، ومسلم (901)، وغيرها.

(2)

رواه البخاري (3803)، ومسلم (2466)، من حديث جابر رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (3206)، ومسلم (899)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 275

اعتقادٌ فاسدٌ، وإن اعتقد أنه هو المدبِّرُ فهو كافرٌ، وخصوصًا إذا انضمَّ إلى ذلك دعاؤه والاستغاثةُ به؛ كان كفرًا وشركًا محضًا.

وغايةُ من يقولُ ذلك يبْنيه على أن هذا الولدَ وُلِد بهذا الطالعِ، وهذا القدرُ يمتنعُ أن يكونَ وحدَه هو المؤثِّرَ في أحوالِ هذا المولودِ، بل غايتُه أن يكونَ جزءًا يسيرًا من جملةِ الأسبابِ، وهذا القدْرُ لا يوجِبُ

(1)

، بل الوالدان والبلدُ الذي هو فيه سببٌ محسوسٌ في أحوالِ الولدِ، ومع هذا فليس هذا مستقلًّا.

ثم إن الأوائلَ من المنجِّمينَ المشرِكينَ؛ قيلَ: إنهم كانوا إذا وُلِد الولدُ سمَّوْه باسمٍ يدلُّ على الطالعِ، فإذا كبرَ سُئِل عن اسمِه؛ أخذ السائلُ حالَ الطالعِ، فجاء هؤلاءِ الطرقيةُ يسألون الرجلَ عن اسمِه واسمِ أمِّه، يزعُمونَ أنهم يأخذونَ من ذلك الدلالةَ على أحوالِه، وهذه ظلماتٌ بعضُها فوقَ بعضٍ، منافيةٌ للعقلِ والدينِ.

وأما اختباراتُهم؛ مثلُ أن يأخذوا للسفرِ: مثلًا أن يكونَ القمرُ في شرقِه؛ وهو السرطانُ، وألَّا يكونَ في هبوطِه؛ وهو العقربُ؛ فهو من هذا البابِ المذمومِ.

ولما أراد عليٌّ أن يسافرَ لأجلِ الخوارجِ، عرَض له منجِّمٌ فقال: لا تسافرْ؛ فإن القمرَ في العقربِ، يُهْزمْ جيشُك، فقال:(بل نسافرُ توكلًا على الله، وتكذيبًا لك). فبُورِك له، وقتَل عامَّةَ الخوارجِ، وكان ذلك

(1)

عبارة مجموع الفتاوى 35/ 178: (لا يوجب ما ذكر).

ص: 276

من أعظمِ ما سُرَّ به؛ حيث كان قتالُه لهم بأمرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وما يذكرُه بعضُ الناسِ أن النبيَّ قال: «لا تسافروا والقمرُ في العقربِ» ؛ فكذبٌ مختلَقٌ باتفاقِ أهلِ الحديثِ.

ومن قال: (إن هذه الصنعةَ مأخوذةٌ عن إدريسَ)؛ فهو قولٌ بلا علمٍ، ولكن في كتبِ هؤلاء: هرمس؛ ويزعمون أنه إدريسُ، والهرمسُ عندَهم اسمُ جنسٍ، ولهذا يقولون: هرمسُ الهرامسةِ.

وتعلمُ أن ما عندَهم ليس مأخوذًا عن نبيٍّ من الأنبياءِ، ولو كان مأخوذًا عن إدريس؛ فإنه كان معجزةً له، وعِلمًا أعطاه اللهُ إياه، فيكونُ من العلومِ النبويةِ، وهؤلاء إنما يحتجُّون عليه بالتجربةِ والقياسِ، لا بقولِ أحدٍ من الأنبياءِ، ولو كان بعضُه مأخوذًا عن نبيٍّ؛ ففيه من الكذبِ والباطلِ أضعافُ ما فيه من المأخوذِ عن النبيِّ.

ومعلومٌ أن اليهودَ والنَّصارى عندَهم من المأخوذِ عن الأنبياءِ ما هو أقلُّ كذبًا من هؤلاء؛ فإنَّا قد تيقنَّا قطعًا أن أصلَ دينِهم مأخوذٌ عن النبيِّ، ثم أخبرنا اللهُ أنهم قد حرَّفوا وكذَّبوا.

فإذا كان هذا حالَ الوحيِ المحقَّقِ الذي هو أقربُ إلينا من إدريسَ؛ فما الظنُّ بهذا القدرِ إن كان فيه ما هو منقولٌ عن إدريسَ؟! فإنا نعلمُ أن فيه من الكذبِ والباطلِ أعظمَ مما في علومِ أهلِ الكتابِ، وقد ثبت عنه في «صحيحِ البخاريِّ» أنه قال: «إذا حدَّثَكم أهلُ الكتابِ؛ فلا

(1)

تنظر القصة في البداية والنهاية 10/ 585.

ص: 277

تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم»

(1)

، فكيف يجوزُ تصديقُ هؤلاء فيما يزعُمون أنه مأخوذٌ عن إدريسَ؛ مع أنهم أبعدُ عن علمِ الصِّدقِ وأهلِ الكتابِ؟!

وأما علمُ الحسابِ؛ من معرفةِ أقدارِ الأفلاكِ والكواكبِ وصفاتِها ومقاديرِها وكذا؛ في الأصلِ علمٌ صحيحٌ لا ريبَ فيه؛ كمعرفةِ الأرضِ وصفاتِها، لكنْ جمهورُ الدقيقِ منه؛ كثيرُ التعبِ قليلُ الفائدةِ؛ كالعالمِ بمقاديرِ الدقائقِ والثواني والثوالثِ في حركاتِ السبعةِ المتحيِّرةِ؛ الخُنَّسِ الجَوارِي الكُنَّسِ، فهذا يمكنُ أن يكونَ أصلُه مأخوذاً عن إدريسَ، واللهُ أعلمُ بحقيقةِ ذلك، كما يقولُ ناسٌ: إن أصلَ الطبِّ مأخوذٌ عن بعضِ الأنبياءِ.

وأما الأحكامُ التي هي من جنسِ السحرِ؛ فمن الممتنعِ أن يكونَ نبيٌّ من الأنبياءِ كان ساحرًا، ومنها ما هو دعاءٌ للكواكبِ وعبادةٌ لها، وأنواعٌ من الشركِ الذي يعلمُ كلُّ مَن آمن باللهِ ورسلِه بالاضطرار؛ أن نبيًّا من الأنبياءِ لم يأمرْ بشيءٍ من ذلك، وإضافةُ ذلك إلى نبيٍّ من الأنبياءِ؛ كإضافةِ مَن أضاف ذلك إلى سليمانَ لمَّا سخَّر اللهُ له الجنَ، فقال:{وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} .

وكذلك الاستدلالُ على الحوادثِ بما يستدلون به من الحركاتِ العُلويةِ والاختيارِية؛ كلُّ هذا مما يُعلَمُ قطعًا أن نبيًّا من الأنبياءِ لم يأمرْ قط بهذا؛ إذ فيه من الكذبِ والباطلِ ما يُنَزَّهُ عنه العقلاءُ الذين هم دونَ الأنبياءِ.

(1)

رواه البخاري (7362)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 278

قال إمامُ هؤلاء أبو نصرٍ الفارابيُّ ما مضمونُه: إنك لو قلبتَ أوضاعَ المنجِّمين فجعلتَ مكانَ السَّعدِ نحسًا ومكانَ النحسِ سعدًا، أو مكانَ الحارِّ باردًا ومكانَ الباردِ حارًّا، أو مكانَ الذَّكَرِ مؤنثًا ومكانَ المؤنثِ مذكَّرًا، وحكمتَ؛ لكان حكمُك من جنسِ أحكامِهم؛ تصيبُ تارةً وتخطئُ أخرى، وما كان بهذه المثابةِ فهم ينزِّهون عنه سقراطَ وأفلاطنَ وأرسطو وأصحابَه الفلاسفةَ، الذين يوجدُ في كلامِهم من الباطلِ ما هو أبطلُ مما يوجدُ في كلامِ اليهودِ والنصارى.

قالَ: [إذا كانوا]

(1)

ينزهون الصابئين وأبناءهم الذين هم أقلُّ مرتبةً وأبعدُ عن معرفةِ الحقِّ من اليهودِ، فكيف يجوزُ نسبةُ ذلك إلى نبيٍّ كريمٍ؟!

ونحن نعلمُ أنه قد أُضيفَ إلى جعفرٍ الصادقِ - وليس هو من الأنبياءِ - من جنسِ هذه الأمورِ؛ مما يعلمُه كلُّ عاقلٍ: أن جعفرًا الصادقَ مكذوبٌ عليه ذلكَ؛ حتى نسبوا إليه أحكامَ الحركاتِ السُّفليةِ، كاختلاجِ الأعضاءِ وحوادثِ الجوِّ من الرعدِ والبرقِ والهالةِ وقوسِ اللهِ الذي يقالُ له: قوسُ قُزَحَ، وأمثالِ ذلك، والعلماءُ يعلمون أنه بريءٌ من ذلك كلِّه.

وكذلك يُنسَبُ إليه الجدولُ الذي يبني عليه الضَّلالَ طائفةٌ من الرافضةِ، وهو كذبٌ.

(1)

في الأصل: أكانوا. والمثبت من مجموع الفتاوى.

ص: 279

وكذلك أُضيف إليه كتابُ الجَفرِ

(1)

و «البطاقةِ» و «الهَفْتِ» حتى أُضيفَ إليه «رسائلُ إخوانِ الصَّفا»

(2)

، وهذا في غايةِ الجهلِ؛ فإن الرسائلَ إنما وُضِعت بعد موتِه بأكثرَ من مائتي سنةٍ؛ فإنه توفي سنةَ ثمانٍ وأربعين ومائةٍ، والرسائلُ وُضِعتْ في دولةِ بني بُوَيْهٍ في أثناءِ المائةِ الرابعةِ في أوائلِ دولةِ بني عبيدٍ؛ الذين بنوا القاهرةَ، وضعها جماعةٌ وزعموا أنهم جمعوا بها بينَ الشريعةِ والفلسفةِ، فضلُّوا وأضلُّوا.

وكذلك كثيرٌ من التفسيرِ كذبٌ عليه.

(1)

في الأصل و (ك): الجفير. والمثبت من (ز) وهو المذكور في كتب شيخ الإسلام وغيره رحمهم الله تعالى.

(2)

قال في مجموع الفتاوى 4/ 78: (وأما الكذب والأسرار التي يدعونها عن جعفر الصادق: فمن أكبر الأشياء كذبًا، حتى يقال: ما كذب على أحد ما كذب على جعفر رضي الله عنه.

ومن هذه الأمور المضافة: كتاب "الجفر" الذي يدعون أنه كتب فيه الحوادث، والجفر: ولد الماعز، يزعمون أنه كتب ذلك في جلده.

وكذلك كتاب "البطاقة" الذي يدعيه ابن الحلي ونحوه من المغاربة، ومثل كتاب:"الجدول" في الهلال، و "الهفت" عن جعفر وكثير من تفسير القرآن وغيره.

ومثل كتاب "رسائل إخوان الصفا" الذي صنفه جماعة في دولة بني بويه ببغداد، وكانوا من الصابئة المتفلسفة المتحنفة، جمعوا بزعمهم بين دين الصابئة المبدلين وبين الحنيفية، وأتوا بكلام المتفلسفة وبأشياء من الشريعة، وفيه من الكفر والجهل شيء كثير، ومع هذا فإن طائفة من الناس - من بعض أكابر قضاة النواحي - يزعم أنه من كلام جعفر الصادق).

ص: 280

وكذلك كثيرٌ من المذاهبِ الباطلةِ يَحْكيها عنه الرافضةُ، وهي من أبينِ الكذبِ عليه.

وأولُ مَن ابتدعَ الرفضَ عبدُ اللهِ بنُ سبأٍ، كان منافقًا زنديقًا، أراد فسادَ دينِ المسلمين، كما فعل بولصُ صاحبُ الرسائلِ التي بأيدي النصارى؛ حيثُ ابتدعَ لهم بدعًا أفسد بها دينَهم، وكان يهوديًّا، فأظهر النصرانيةَ نفاقًا لقصدِ إفسادِ ملَّتِهم.

وكذلك كان ابنُ سبأٍ يهوديًّا، فقصد ذلك وسعى في الفتنةِ، فلم يتمكنْ، لكن حصل بينَ المؤمنين تحريشٌ وفتنةٌ قُتِل فيها عثمانُ رضي الله عنه، ولله الحمدُ فلم تجتمعْ هذه الأمَّةُ على الضَّلالةِ، بل لا تزال طائفةٌ منهم ظاهرين على الحقِّ حتى تقومَ الساعةُ.

ولما حدثتْ البِدعُ الشيعيةُ في خلافةِ عليٍّ رضي الله عنه، وكانت ثلاثَ طوائفَ: غاليةٌ، وسبَّابة، ومفضِّلةٌ.

فحرَّق الغاليةَ لما خرج إليهم من بابِ كِنْدةَ، فسجدوا له، فقال: ما هذا؟ فقالوا: أنت هو اللهُ. فخَدَّ الأخاديدَ وأضْرَم فيها النارَ، ثم قذفهم فيها وقال:

لَمَّا رَأَيْتُ الأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرَا أَجَّجْتُ نَارِي وَدَعْوتُ قَنْبَرَا

(1)

(1)

ينظر: تاريخ الإسلام للذهبي 3/ 643.

ص: 281

وأما السبابةُ؛ فلما بلغه أن ابنَ سبأٍ يسُبُّ أبا بكرٍ وعمرَ؛ طلب قتلَه، فهرب إلى قَرْقِيسياءَ

(1)

، وكان عليٌّ يُداري؛ لأنه لم يكُنْ متمكِّنًا

(2)

.

وأما المفضِّلةُ؛ فقال: «لا أُوتَى بأحدٍ يفضِّلُني على أبي بكرٍ وعمرَ إلا جلدتُه جلدَ المفتري»

(3)

.

وأضافتْ إليه القرامطةُ والباطنيةُ والخُرَّميَّةُ والمَزْدَكيَّةُ

(4)

والإسماعيليةُ والنُّصيريةُ مذاهبَها التي هي من أفسدِ مذاهبِ العالمِ.

فإذا كان هذا في الزمنِ القريبِ، الذي هو أقلُّ من سبعِ مائةِ؛ قد كُذِبَ على أهل بيتِه وأصحابِه وغيرِهم، وأُضيفَ إليهم من مذاهبِ الفلاسفةِ والمنجِّمين ما يعلمُ كلُّ عاقلٍ براءتَهم منه، ونفَق ذلك على

(1)

قرقيسياء: بالفتح ثم السكون، وقاف أخرى، وياء ساكنة، وسين مكسورة، وياء أخرى، وألف ممدودة، ويقال بياء واحدة، بلد على الخابور عند مصبه، وهى على الفرات، جانب منها على الخابور وجانب على الفرات. ينظر: معجم البلدان 4/ 328، مراصد الاطلاع 3/ 1080.

(2)

رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق بإسناده (29/ 9).

(3)

رواه أحمد في فضائل الصحابة (49)، وابن أبي عاصم في السنة (1219)، والبيهقي في الاعتقاد (ص 358)، من طريق الحكم بن حجْل عن علي رضي الله عنه.

(4)

الخرمية: صنف من الزنادقة الغلاة، يعتقدون في أئمتهم الإلهية، يقال لهم في أصبهان بالخرمية. ينظر: الملل والنحل 1/ 173.

والمزدكية: صنف من الزنادقة الغلاة، نشأت في العراق، لهم أمور منكرة، سُمّوا بذلك؛ نسبة لشخص يقال له: مزدك، ظهر في زمن الأكاسرة. ينظر: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص 92، والملل والنحل 2/ 54.

ص: 282

طوائفَ كثيرةٍ منتسبة إلى هذه الملةِ، مع وجودِ من يبيِّنُ كذبَ هؤلاء وينهى عن ذلك، ويذُبُّ عن المسألةِ بالقلبِ والبدنِ واللسانِ، فكيف الظنُّ بما يُضافُ إلى إدريسَ أو غيرِه من الأنبياءِ من أمورِ النُّجومِ والفلسفةِ، مع تطاولِ الزمانِ وتنوُّعِ الحدَثانِ، واختلافِ المِلَلِ والأديانِ، وعدمِ من يبيِّنُ ذلك بحجةٍ أو برهانٍ، واشتمالِ ذلك على ما لا يُحْصى من الكذبِ والبُهتانِ.

وكذلك دعوى المدَّعي: أن نجمَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالعقربِ والمِريخِ، ونجمَ أمتِه بالزُّهَرةِ، ونجمَ النصارى بالمُشْتري؛ مع قولِهم: إن المشتريَ يقتضي العلمَ والدينَ، والزُّهَرةَ تقتضي اللهوَ واللعبَ، وكلُّ عاقلٍ يعلم أن النصارى أعظمُ المللِ جهلًا وضلالةً، وأكثرُهم اشتغالًا بالملاهي.

والفلاسفةُ متفقون على أنه ما قرَع العالَمَ ناموسٌ أعظمُ من الناموسِ الذي جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وأمتُه أكملُ الأممِ عقلًا ودينًا وعلمًا؛ باتفاقِ الفلاسفةِ، حتى فلاسفةِ اليهودِ والنصارى؛ وإنما يمكثُ أحدُهم على دينِه لهواه، أو ظنًّا منه أنه يجوزُ التمسُّكُ بأيِّ ملةٍ كانت كالمذاهبِ، فإن جمهورَ الفلاسفةِ من المنجِّمين وأمثالِهم يقولون ذلك، فظهر جهلُهم على اعتقادِهم وصنعتِهم؛ فإن المسلمين باتفاقِ كلِّ ذي عقلٍ أولى بالعلمِ والدينِ والعقلِ والعدلِ مما يناسبُ عندَهم آثارَ المُشْتري، والنصارى أبعدُ عن ذلك مما يناسبُ عندَهم آثارَ الزُّهَرةِ.

فما ذكروه ظاهرُ الفسادِ؛ حتى إن كبيرَ الفلاسفةِ الذي يسمُّونه بفيلسوفِ الإسلامِ يعقوبَ بنَ إسحاقَ الكِنديَّ عمِل تسييرًا لهذه الأمةِ،

ص: 283

وزعم أنها تنقضي عامَ ثلاثٍ وتسعين وستمائةٍ، وزعم من زعم: أنه استخرج ذلك من حسابِ الجُمَّلِ الذي للحروفِ التي في أوائلِ السُّورِ، وهي مع حذْفِ التكريرِ أربعةَ عشرَ حرفًا، وحسابُها في الجمَّلِ الكبيرِ ستُّمائةٍ وثلاثة وتسعون.

وهذا أيضًا مما ذُكر في التفسير: أنه لما نزل {ألم} قال بعضُ اليهودِ: بقاءُ هذه الملَّةِ أحدٌ وثلاثون، فلما نزل {الر} و {الم} قالوا: خلَّطَ علينا

(1)

.

وهذه الأمورُ وأشباهُها خارجةٌ عن دينِ الإسلامِ، محرَّمةٌ يجبُ إنكارُها والنهيُ عنها على المسلمين، على كلِّ قادرٍ بالعلمِ والبيانِ واليدِ واللسانِ، فإن ذلك من أعظمِ ما أوجبه اللهُ من الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ، وهؤلاء أعداءُ الرسلِ وسُوسُ الملل

(2)

، ولا ينفُقُ الباطلُ إلا بشَوبِ حقٍّ؛ فيحصلُ بذلك فتنةٌ في الدِّينِ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيمِ.

(1)

ينظر: تفسير الطبري 1/ 216.

(2)

السُّوس: العثة التي تقع في الصوف والثياب والطعام. ينظر: لسان العرب 6/ 107.

ص: 284

‌بَابٌ فِي الاسْتِسْقَاءِ

تحويلُ ردائِه ليتحوَّلَ القَحْطُ:

من الناس من قال: إن اليدَ لا تُرفعُ في الدعاءِ إلا في الاستسقاءِ، وتركوا رفعَ اليدين في سائرِ الأدعيةِ.

ومنهم من فرَّق بينَ دعاءِ الرَّغبةِ ودعاءِ الرَّهْبةِ؛ فقال: في دعاءِ الرَّغْبةِ يجعلُ ظاهرَ كفَّيه إلى السماءِ وبطنَهما إلى الأرضِ

(1)

، وفي دعاءِ

(1)

هكذا في الأصل، والظاهر أنه سبق قلم، لأنه قال بعدها:(وفي دعاءِ الرَّهْبةِ بالعكسِ؛ يجعلُ ظاهرَهما إلى السماءِ وباطنَهما إلى الأرضِ) وهذه كالعبارة الأولى، لا عكسها.

ولعل صواب العبارة: (في دعاءِ الرَّغْبةِ يجعلُ ظاهرَ كفَّيه إلى الأرضِ وبطنَهما إلى السماءِ)؛ ليوافق قوله بعد ذلك: (وقالوا: الراغبُ كالمستطعِمِ، والراهبُ كالمستجيرِ).

ويدل على ذلك: ما رواه أحمد (16514) عن خلاد بن السائب الأنصاري: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سأل جعل باطن كفيه إليه، وإذا استعاذ جعل ظاهرهما إليه» ، وجاء في الفروع 2/ 234:(على ما ذكر ابن عقيل وجماعة أن دعاء الرهبة بظهر الكف، كدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء)، وقال النووي في شرح مسلم 6/ 190:(قال جماعة من أصحابنا وغيرهم: السنة في كل دعاء لرفع بلاء كالقحط ونحوه؛ أن يرفع يديه ويجعل ظهر كفيه إلى السماء، وإذا دعا لسؤال شيء وتحصيله جعل بطن كفيه إلى السماء).

ص: 285

الرَّهْبةِ بالعكسِ يجعلُ ظاهرَهما إلى السماءِ وباطنَهما

(1)

إلى الأرضِ، وقالوا: الراغبُ كالمستطعِمِ، والراهبُ كالمستجيرِ.

‌والصحيحُ:

الرفعُ مطلقًا؛ فقد تواتر عنه كما في الصحاحِ أن الطُّفَيلَ قال: يا رسولَ اللهِ إن دَوْسًا قد عصَتْ وأبَتْ، فادْعُ عليهم، فاستقبَل القِبلةَ ورفع، وقال:«اللهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وائْتِ بهم»

(2)

، وفي «الصحيحينِ»: لما دعا لأبي عامرٍ رفَع يديه

(3)

، وفي حديث عائشةَ:«لما دعا لأهل البَقيعِ فرفع يديه ثلاثَ مراتٍ» رواه مسلمٌ

(4)

، وفيه أيضًا: أنه رفع يديه فقال: «اللهُمَّ أمَّتي أمَّتي» ، وفي آخرِه:«إن اللهَ قال: إنا سنُرضيكَ في أمتِكَ ولا نَسوؤُكَ»

(5)

، وفيه: أنه لمَّا نظر إلى المشركين وهمْ ألفٌ، وأصحابُه ثلاثُمائةٍ؛ مدَّ يديه وجعل يهتِفُ بربِّه، فما زال يهتِفُ بربِّه مادًّا يديه حتى سقط رداؤه عن منكِبَيه

الحديثَ

(6)

.

وفي حديثِ قيسِ بنِ سعدٍ: فرفع يديه وهو يقولُ: «اللهُمَّ اجعلْ

(1)

قوله: (يجعلُ ظاهرَهما إلى السماءِ وباطنَهما) هو في (ك): باطنهما إلى السماء وظاهرهما.

(2)

رواه البخاري (2937)، ومسلم (2524)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (4323)، ومسلم (2498)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(4)

(5)

رواه مسلم (202)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

(6)

رواه مسلم (1763)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ص: 286

صلواتِك ورحمتَك على آل سعدِ بنِ عُبادةَ»

(1)

.

وبعث جيشًا فيه عليٌّ، فرفع يديه وقال:«اللهُمَّ لا تُمِتْني حتى تُرِيَني عليًّا»

(2)

.

ولما كان أسامةُ رَديفَه قال: فرفع يديه يدعو، فسقَط خِطامُ الناقةِ، فتناوله بإحدى يديه وهو رافعٌ الأخرى

(3)

، وفي حديثِ القنوتِ: رفع يديه يدعو عليهم. رواه البيهقيُّ

(4)

، والأولُ أبو داودَ وغيرُه

(5)

.

وروى عنه أنسٌ، قال:«كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يرفعُ يدَيْه في شيءٍ من دعائِه إلا في الاستسقاءِ» أخرجاه في «الصحيحينِ» ، فيه:«فإنه كان يرفعُ يدَيْه حتى يُرى بياضُ إبْطَيهِ»

(6)

.

والجمعُ بينَ حديثِ أنسَ وسائرِ الأحاديثِ: ما قالَه طوائفُ من العلماءِ، وهو أنَّ أنساً ذكرَ الرفعَ الشديدَ الذي يُرى فيه بياض إبطيه، وتنحني فيه يدَيْه.

(1)

رواه أحمد (15476)، وأبو داود (5185).

(2)

رواه الترمذي (3737)، من حديث أم عطية رضي الله عنها.

(3)

رواه أحمد (21821)، والنسائي (3011)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

(4)

، من حديث أنس رضي الله عنه.

(5)

لعله يريد حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وقد رواه أبو داود (1920)، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة وعليه السكينة ورديفه أسامة. وليس فيه ذكر رفع اليدين، وإنما جاء ذكر رفع اليدين عند أحمد والنسائي كما تقدم.

(6)

رواه البخاري (1031)، ومسلم (895).

ص: 287

وهذا هو الذي سمَّاه ابنُ عباسٍ: الابتهالَ

(1)

، وجعلَ المراتبَ ثلاثةً:

الإشارةُ بإصبَعٍ واحدةٍ؛ كما كان يفعلُ يومَ الجمعةِ على المنبَرِ.

والثانيةُ: المسألةُ؛ وهو أن تجعلَ يدَيْك حَذْوَ مَنْكِبَيْكَ؛ كما في أكثرِ الأحاديثِ.

والثالثة

(2)

: الابتهالُ؛ وهو الذي ذكره أنسٌ؛ ولهذا قال: كان يرفع يديه حتى يُرى بياضُ إبْطَيه؛ وهذا الرفعُ إذا اشتد، كان بطونُ يديه مما يلي وجهَه والأرضَ، وظهورُهما مما يلي السماءَ

(3)

.

وقد يكون أنسٌ أراد بالرفعِ على المنبرِ يومَ الجمعةِ - كما في «مسلمٍ» وغيرِه -: «أنه كان لا يَزيدُ على أن يرفَعَ إصبَعَه المسبِّحةَ»

(4)

.

(1)

روى أبو داود (1489)، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك، أو نحوهما، والاستغفار أن تشير بأصبع واحدة، والابتهال أن تمد يديك جميعًا» .

(2)

في (ك): والثالث.

(3)

قال ابن رجب في فتح الباري 9/ 224: (النوع الخامس -أي: من أنواع رفع اليدين في الاستسقاء-: أن يقلب كفيه، ويجعل ظهورهما مما يلي السماء، وبطونهما مما يلي الأرض، مع مد اليدين ورفعهما إلى السماء، خرج مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس:«أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى، فأشار بظهر كفيه إلى السماء»

وقد تأول بعض المتأخرين حديث أنس على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد قلب كفيه، إنما حصل له من شدة رفع يديه انحاء بطونهما إلى الأرض، وليس الأمر كما ظنه، بل هو صفة مقصود لنفسه في رفع اليدين في الدعاء)، ثم ذكر بعض الآثار عن السلف في ذلك.

(4)

رواه مسلم (874)، ورواه أحمد (17224)، وأبو داود (1104).

ص: 288

وفي هذه المسألةِ قولانِ، هما وجهانِ في مذهبِ أحمدَ؛ في رفع الخطيب يديه:

قيل: يستحَبُّ؛ قاله ابنُ عَقيلٍ.

وقيل: لا يستحبُّ بل يكره؛ وهو أصحُّ.

قال إسحاقُ بنُ راهَوَيْهِ: هو بدعةٌ للخاطبِ، إنما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يشيرُ بإصبَعِه إذا دعا.

وأما في الاستسقاءِ لما استسقى على المنبرِ؛ رفع يدَيْه؛ كما رواه البخاريُّ عن أنسٍ، فقد روى أنس هذا الحديثَ: أنه استسقى بهم يومَ الجمعةِ على المنبرِ ورفَع يدَه

(1)

، وقد ثبَت أنه لم يكُنْ يرفعُ يدَيْه على المنبرِ في غيرِ الاستسقاءِ

(2)

، فيكونُ أنسٌ أراد هذا المعنى؛ لا سيَّما وقد كان عبدُ الملكِ أحدثَ رفعَ الأيدي على المنبرِ، وأنسٌ أدرك هذا العصرَ، وقد أنكر ذلك على عبدِ الملكِ [غضيفُ]

(3)

بنُ الحارثِ،

(1)

رواه البخاري (933)، ورواه مسلم (897).

(2)

تقدم تخريجه قريبًا.

(3)

في النسخ الخطية: عصف. وصوابه: غضيف بن الحارث الكندي الثمالي، صحابي. ينظر: أسد الغابة 4/ 325، الإصابة في تمييز الصحابة 5/ 249.

والأثر رواه أحمد (16970)، عن غضيف بن الحارث الثمالي، قال: بعث إلي عبد الملك بن مروان، فقال: يا أبا أسماء، إنا قد جمعنا الناس على أمرين، قال: وما هما؟ قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثل بدعتكم عندي، ولست مجيبك إلى شيء منهما، قال: لم؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة» ، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة.

ص: 289

فيكونُ هو أَخبرَ بالسنَّةِ التي أخبر بها غيرُه؛ من أن النبيَّ لم يكنْ يرفعُ يدَه- يعني: على المنبرِ- إلا في الاستسقاءِ.

وهذا يبيِّنُ أن الاستسقاءَ مخصوصٌ بمزيدِ الرفعِ؛ وهو الابتهالُ الذي ذكره ابنُ عباسٍ.

فالأحاديثُ تأتلِفُ ولا تختلفُ، ومن ظنَّ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في الرفعِ المعتدلِ جعَل ظهر كفَّيه إلى السماءِ، فقد أخطأ.

وكذلك مَن ظنَّ أنه قصَد توجيهَ ظهرِ يديه إلى السماءِ، فإنه نهى، فقال:«إذا سألتم اللهَ فسلوه ببطونِ أكُفِّكم، ولا تسألوه بظهورِها» أخرجه أبو داودَ؛ قال: وهو من غيرِ وجهٍ واهيةٌ

(1)

. ورويَ أحاديثُ أخرُ في أبي داودَ وغيرِه

(2)

.

وبالجملةِ؛ فهذا الرفعُ الذي استفاضت به الأحاديثُ، وعليه الأئمةُ والمسلمون مِن زمنِ نبيِّهم إلى هذا التاريخِ.

وحديثُ أنسٍ تقدم أنه لشدةِ الرفعِ انحنَتْ يده؛ فصار كفُّه مما يلي السماءَ لشدةِ الرفعِ؛ لا قصدًا لذلك، كما جاء أنه رفعهما حِذاءَ وجهِه، وتقدم حديثُ أنسٍ، ففيه: أنه رآه يدعو بباطنِ كفَّيه وظاهرِهما.

(1)

، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

من ذلك: حديث مالك بن يسار السكوني عند أبي داود (1486)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2459)، والطبراني في مسند الشاميين (1639)، بنحو حديث ابن عباس رضي الله عنهم.

ص: 290

فهذه ثلاثةُ أنواعٍ في هذا الرفعِ الشديدِ: رفعُ الابتهالِ يذكرُ فيه أن بطونَها مما يلي وجهَه؛ وهذا أشدُّ، وتارةً يذكرُ هذا وهذا؛ فتبيَّن بذلك أنه لم يقصِدْ في هذا الرفعِ الشديدِ لا ظهرَ اليدِ ولا بطنَها؛ لأن الرفعَ إذا قوِيَ تبقى أصابعُها نحوَ السماءِ مع نوعٍ من الانحناءِ؛ الذي يكونُ فيه هذا تارةً وهذا تارةً.

وأما إذا قصد توجيهَ بطنِ اليدِ أو ظهرِها؛ فإنما كان يوجهُ بطنها، وهذا في الرفعِ المتوسطِ الذي هو رفعُ المسألةِ التي يمكنُ فيه القصدُ، ورفعُ ما يختارُ من البطنِ أو الظَّهرِ؛ بخلافِ الرفعِ الشديدِ الذي يُرى بياضُ إبْطَيه، فلا يمكنُ فيه توجيهُ باطنِها، بل تنحني قليلًا بحسَبِ الرفعِ؛ فبهذا تتآلفُ الأحاديثُ وتظهرُ السنَّةُ.

‌فَصْلٌ

(1)

‌والسماواتُ مستديرةٌ

عندَ علماءِ المسلمين؛ حكى الإجماعَ غيرُ واحدٍ؛ مثلُ أبي الحسينِ أحمدَ بنِ جعفرٍ المنادي من الطبقةِ الثانيةِ، وأبي محمدِ بنِ حزمٍ، وابنِ الجوزيِّ.

والاستِسْرارُ: اجتماعُ القُرْصَينِ، فظنَّ طائفةٌ من الجهَّال أنهم يضبطونَ وقتَ طلوعِ الهلالِ لمعرفتِهم وقتَ ظهورِه بعدَ استِسْرارِه، بمعرفةِ بُعدِه

(2)

عن الشمسِ بعدَ مفارقتِها وقتَ الغروبِ وضبطِهم «قوسَ

(1)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 6/ 586.

(2)

في الأصل: بعيده.

ص: 291

الرؤيةِ»؛ وهو الخطُّ المفروضُ مستديرًا -قطعة من دائرةٍ- وقتَ الاستهلالِ؛ فإنَّ هذه دعوى باطلةٌ، اتفقَ علماءُ الشريعةِ على تحريمِ العملِ بذلك في الهلالِ؛ واتفق علماءُ الحسابِ العقلاءُ على أن معرفةَ ظهورِ الهلالِ لا يُضبطُ بالحسابِ ضبطًا

(1)

قطُّ، ولم يتكلمْ فيه إلا قومٌ من المتأخِّرينَ تقريبًا، وذلك ضلالٌ عن دينِ اللهِ وتغييرٌ له، شبيهٌ بضلالِ اليهودِ والنصارى عما أُمِروا به مِن الهلالِ إلى غاية الشمسِ وقتَ اجتماعِ القُرْصينِ، وليس الشهورَ الهلاليةَ، ونحو ذلك من النسيءِ الذي كان في العرب زيادةً في الكفرِ.

فمن أخذ علمَ الهلالِ بالحسابِ؛ فهو فاسدُ العقلِ والدِّينِ، وإذا صحَّحَ الحاسب؛ فأكثرُ ما يمكنُه ضبطُ المسافةِ التي بينَ الشمسِ والقمرِ وقتَ الغروبِ مثلًا، وهو الذي يُسمَّى بُعْدَ القمرِ عن الشمسِ، أما كونُه يُرى أو لا يُرى لا يعلمُ بذلك؛ فإنَّ الرؤيةَ تختلفُ بعلوِّ الأرضِ وانخفاضِها وصفاءِ الجوِّ، ولذلك لم يتفقوا على قوسٍ واحدٍ للرؤيةِ، بل اضطربوا فيه كثيرًا، ولا أصلَ له، وإنما مرجِعُه إلى العادةِ، وليس لها ضابطٌ حسابيٌّ، فمنهم من ينقُصُه عن عشرِ درجاتٍ، ومنهم من يَزيدُ، وفي الزيادةِ والنقصِ أقوالٌ متقابلةٌ.

(1)

في هامش الأصل عند قوله: (ضبطًا): (لعله: صحيحًا).

ص: 292

‌كِتَابٌ فِي الصَّلَاةِ

‌الحُكْمُ فِيمَنْ تَرَكَهَا

‌قال عمرُ رضي الله عنه:

«الجمعُ بينَ الصَّلاتينِ من غيرِ عُذْرٍ من الكبائرِ»

(1)

، ورواه التِّرْمِذيُّ مرفوعًا، وقال:(العملُ عليه عندَ أهلِ العلمِ والأثرِ)

(2)

.

وتفويتُ العصرِ أعظمُ من تفويتِ غيرها؛ فإنها الوُسْطى، وعُرِضَتْ على مَن كان قبلَنا فضيَّعوها، ومن حافَظ عليها فله الأجرُ مرَّتَينِ

(3)

، ولما فاتت سليمانَ فعل بالخيلِ ما فعل

(4)

، وفي «الصحيحِ»:«من فاتَتْه صلاةُ العصرِ حَبِطَ عملُه»

(5)

، و:«وُتِرَ أهلُه ومالُه» في حديثٍ آخرَ

(6)

.

وكذلك كلُّ مَن أخَّر صلاةً عن وقتِها، فقد أتى بابًا من الكبائرِ.

وكذلك من ترك الطهارةَ أو القبلةَ، أو ترك فيها ركوعًا، أو سجودًا،

(1)

رواه البيهقي في الكبرى (5560).

(2)

رواه الترمذي (188)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

رواه مسلم (830)، من حديث أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه.

(4)

ينظر تفسير قوله تعالى: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) وما بعدها من الآيات في سورة ص. تفسير الطبري 20/ 80، تفسير ابن كثير 7/ 65.

(5)

رواه البخاري (553)، من حديث بريدة رضي الله عنه.

(6)

رواه البخاري (552)، ومسلم (626)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 293

أو القراءةَ الواجبةَ، أو غيرَ ذلك متعمِّدًا؛ فقد فعل كبيرةً، بل تُنوزِعَ في كُفْرِه إذا لم يستحلَّ ذلك، أما لو استحلَّه؛ فقد كفَرَ بلا ريبٍ.

‌ولا نزاعَ أنه إذا عَلِم العادمُ للماءِ

أنه يجدُه بعدَ الوقتِ؛ لم يجزْ له تأخيرها ليصليها بعد الوقت بوضوء، وكذا العاجز عن الركوعِ أو السجودِ إذا علمَ أنه بعدَ الوقتِ يمكنُه أن يفعلَ ذلك؛ كان الواجبُ عليه أن يصلِّيَ في الوقتِ بحسَبِ إمكانِه.

ومن قال: (يجوزُ تأخيرٌ لمشتغِلٍ بشرطِها)؛ فهذا لم يقُلْه قبلَه أحدٌ من أصحابِنا، بل ولا من سائرِ طوائفِ المسلمين إلا أن يكونَ بعضَ الشافعيةِ، فهذا أشكُّ فيه، ولا ريبَ أنه ليس على عمومِه وإطلاقِه بإجماع المسلمين، وإنما أراد صوراً معروفةً؛ كما إذا أمكنَ الوصولُ إلى البئرِ بعد

(1)

أن يصنعَ حبلًا يستقي به لا يفرغُ إلا بعدَ الوقتِ، أو أمكن العُريانَ أن يَخيطَ له ثوبًا لا يفرُغُ منه إلا بعدَ الوقتِ، ونحوِ هذه الصورِ.

ومعَ ذلك؛ فالذي قالوه في ذلك خلاف المذهبِ المعروفِ عن أحمدَ وأصحابِه وغيرِهم؛ إلا من ذكرناه، وهو محجوجٌ بإجماع المسلمين؛ فإنه لو دخل الوقتُ وأمكنه أن يطلبَ الماءَ ويجدَه بعدَ الوقتِ؛ لم يجُزْ له التأخيرُ باتفاقِ المسلمينَ، وإن كان مشتغِلًا بالشرطِ، وكذلك العريانُ لو أمكنه أن يذهبَ إلى قريةٍ يشتري له ثوبًا، ولا يصلِّيَ إلا بعدَ خروجِ الوقتِ؛ لم يجُزْ له التأخيرُ بلا نزاعٍ.

(1)

قوله: (بعد) زيادة من (ك).

ص: 294

وكذلك مَن لا يتعلمُ الفاتحةَ إلا بعدَ الوقتِ، والتكبيرَ والتشهدَ إذا ضاق الوقتُ، وكذلك المستحاضةُ إذا كان دمُها ينقطعُ بعدَ الوقتِ؛ فكلُّ هؤلاءِ يصلُّونَ في الوقتِ بحسَبِ الحالِ، ولا يجوزُ لهم التأخيرُ.

وأما من يُجَمِّعُ فهو لم يؤخِّرْ عن الوقتِ المشروعِ

(1)

، بل لا يحتاجُ الجمعُ إلى نيةٍ، ولا القصرُ في أحد القولين؛ وهو قولُ أبي حنيفةَ ومالكٍ والجمهورِ.

وكذا صلاةُ الخوفِ تُفعَلُ في الوقتِ بحَسَبِ الحالِ، ولا تؤخَّرُ لتُفعلَ تامةً.

وكذا من اشتَبَهَتْ عليه القبلةُ لا يؤخِّرُها حتى يسألَ بعدَ الوقتِ، بل يُصلي على حسَبِه بالاجتهادِ.

وإنما نزاعُ الناسِ فيما إذا أمكنه التعلمُ بدلائلِ القبلةِ، ولكن يخرجُ الوقتُ؛ وهذا هو القولُ المحدَثُ الشاذُّ الذي تقدَّمَ.

وإنما النزاعُ المعروفُ: فيما إذا استيقظ النائمُ في آخرِ الوقتِ، ولم يمكنْه أن يصلِّيَ قبلَ خروجِ الوقتِ بوضوءٍ؛ هل يصلِّي بالتيمُّمِ، أو يتوضأُ ويصلِّي بعدَ الوقتِ؟ على قولينِ، الأولُ: قولُ مالكٍ؛ مراعاةً للوقتِ، والثاني: قولُ الأكثرينَ

(2)

.

ومن هنا توهَّمَ قومٌ أن الشرطَ مقدَّمٌ على الوقتِ، وليس كذلك فإن

(1)

في الأصل: المشرع.

(2)

واختار شيخ الإسلام قول الأكثر. ينظر: مجموع الفتاوى 22/ 36.

ص: 295

الوقتَ في حقِّ النائمِ حينَ يستيقظُ، فليس في النومِ تفريطٌ؛ بخلافِ المستيقِظِ.

وقد نصَّ جمهورُ العلماءِ: على أنه إذا ضاق الوقتُ ولم يُصَلِّ؛ قُتِلَ ولو قال: أنا أقضيها؛ كما إذا قال: أنا أُصَلِّي بغيرِ وضوءٍ، أو ترك فرضًا مُجمَعًا عليه، قُتِلَ، ولا يقتلُ حتى يُستتابَ.

وهل هي واجبةٌ، أو مستحبةٌ، أو هي مؤقتةٌ بثلاثةِ أيامٍ؟ فيه نزاعٌ.

وهل يُقتلُ بصلاةٍ، أو ثلاثةٍ؟ على روايتينِ.

وهل يُشترطُ ضيقُ وقتِ التي بعدَها، أو يكفي ضيقُ وقتِها؟ على وجهينِ، ووجهٌ ثالثٌ: الفرقُ بين صلاتَيِ الجمعِ وغيرِها

(1)

.

‌ومن لا يعتقدُ وجوبَ الصلاةِ عليه

؛ فهو في الباطنِ كافرٌ، وتجري في الظاهرِ عليه أحكامُ الإسلامِ؛ كالمنافقينَ، وإن لم يكُنْ في الباطنِ مُكذِّبًا للرسولِ، لكنْ مُعْرِضٌ عما جاء به، لا يخطُرُ بقلبِه الصلاةُ هل

(1)

جاء في أصل هذه الفتوى في مجموع الفتاوى 22/ 60: (وكل فرض من فرائض الصلاة المجمع عليها إذا تركه عمدًا فإنه يقتل بتركه، كما أنه يقتل بترك الصلاة. فإن قلنا: يقتل بضيق الثانية والرابعة؛ فالأمر كذلك، وكذلك إذا قلنا: يقتل بضيق الأولى - وهو الصحيح -، أو الثالثة، فإن ذلك مبني على أنه: هل يقتل بترك صلاة أو بثلاث؟ على روايتين. وإذا قيل بترك صلاة: فهل يشترط وقت التي بعدها أو يكفي ضيق وقتها؟ على وجهين. وفيها وجه ثالث: وهو الفرق بين صلاتي الجمع وغيرها).

وينظر أصل الفتوى من أول الفصل إلى هنا في: مجموع الفتاوى 22/ 53، والفتاوى الكبرى 2/ 33.

ص: 296

هي واجبةٌ أو ليست واجبةً، وإن خطَر ذلك له، أعرض عنه واشتغل بأمورِه وشهواتِه عن أن يعتقدَ الوجوبَ ويعزِمَ على الفعلِ، فهؤلاء وإن صلَّوا؛ لم تُقبَلْ صلاتُهم.

وإذا تاب فاعتقد الوجوبَ وعزَم على الفعلِ؛ كان بمنزلةِ مَن تاب من الزكاةِ، فأصحُّ قولَيِ العلماءِ وأكثرِهم: لا يوجبُ عليهِ قضاءَ ما تركه قبلَ الإسلامِ من صلاةٍ وغيرِها، ولهذا لم يكُنِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأمرُ من تاب من المنافقين بإعادةِ ما فعلوه، أو تركوه، ولا أمَر المرتدِّينَ الذين تابوا بقضاءِ ما تركوه حالَ الردَّةِ؛ وهذا مذهبُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ، وأحمدَ في الظاهرِ عنه، ومذهبُ الشافعيِّ: القضاءُ.

وبنَوْه على أنه: هل يحبَطُ عملُه بنفْسِ الرِّدَّةِ، أو بها مع الموتِ عليها؟ وفيه كلامٌ ليس هذا موضعَه.

وأما الذي

(1)

تركها تكاسُلًا مع اعتقادِه وجوبَها؛ فيجبُ عليه القضاءُ عندَ الجمهورِ، وعندَ بعضِهم: لا يجبُ إذا تاب؛ بخلافِ النائمِ أو الناسي؛ فيقضي بالإجماعِ.

وتاركُ الصلاةِ يجبُ أن يُستتابَ، فإن تاب وإلا عُوقب عقوبةً شديدةً؛ إلى أن يصليَ بإجماعِ المسلمينَ، وأكثرُهم يقتلُه؛ إما كفرًا، أو حدًّا، على قولينِ لأحمدَ، ومالكٍ، والشافعيِّ.

(1)

في الأصل: أن الذي.

ص: 297

‌فَصْلٌ

(1)

‌يجبُ على الإنسانِ

أن يأمرَ بالصلاةِ كلَّ مَن يقدِرُ على أمرِه إذا لم يقُمْ به غيرُه، فإن لم يأمرْه عُزِّرَ تعزيرًا بليغًا، ولم يستحقَّ أن يكونَ من جندِ المسلمينَ، بل من جند التتار، فإنهم يتكلمون بالشهادتين ويجوز قتالهم، بل يجب بإجماع المسلمين.

‌ويأمرُ زوجتَه ويحُضُّها

بالرغبةِ والرهبةِ، فإن أصرَّتْ على تركِ الصلاةِ طلَّقَها في الصحيحِ.

‌ومن ترك الزكاةَ أُخِذت منه قهرًا

، فإن غيَّبَ مالَه قُتِل في أحدِ قولَيِ العلماءِ، وفي الآخرِ: لا يزالُ يُضرَبُ ضربًا بعدَ ضربٍ حتى يُظهِرَ مالَه، فتُؤخَذَ منه الزكاةُ.

‌ومن عُرِف حالُه

؛ فينبغي أن يهجُرَه فلا يسلِّمَ عليه، ولا يجيبَ دعوتَه، ولا يعاشرَه، ويوبِّخَه ويغلُظَ عليه حتى يقيمَ الصلاةَ، ويؤتيَ الزكاةَ.

ولا نفقةَ للزوجةِ مُدَّةَ تركِها الصلاةَ، وإن هجَرها وامتنَع مِن وَطْئِها كان محسنًا.

(1)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل مجموع الفتاوى 22/ 50، والفتاوى الكبرى 2/ 31.

ص: 298

‌ويجوزُ أن يقالَ عنه:

إنه تاركٌ للصلاةِ، بل ينبغي أن يُشاعَ عنه ذلك حتى يصلِّيَ.

‌وكلُّ طائفةٍ ممتنعةٍ

عن شريعةٍ من شرائعِ المسلمينَ الظاهرةِ المعلومةِ؛ يجبُ قتالُها ولو تشهَّدوا، مثلُ: ألَّا يصلُّوا، أو لا يزكوا، أو لا يصوموا، أو لا يحُجُّوا البيتَ، أو قالوا: نفعلُ هذا، ولا ندعُ الخمرَ، ولا الزِّنى، أو الربا، أو الفواحشَ، أو لا نجاهدُ، أو لا نضربُ الجزيةَ، ونحوَ ذلك، قوتلوا حتى يكونَ الدينُ كلُّه للهِ.

ص: 299

‌كِتَابُ الجَنَائِزِ

‌كان الميتُ على عهدِ رسولِ اللهِ

يخرجُ به الرجالُ يحمِلونَه إلى المقبُرةِ يُسْرعونَ، عليهم السكينةُ، لا نساءَ معهم، ولا يرفعونَ أصواتَهم لا بقراءةٍ ولا غيرِها؛ وهذه هي السنَّةُ باتفاقِ علماءِ المسلمينَ.

‌وعملُ العُرْسِ للميتِ

من أعظمِ البدعِ المنكراتِ، وكذلك الضربُ بالدفِّ عندَ الجَنازةِ، لكن يُضرَبُ به في العُرْسِ، وكرهه بعضُهم مطلقًا، والصحيحُ الفرقُ، وكان دُفُّهم ليس له صلاصلُ

(1)

، ولهذا تنازعَ العلماءُ في دُفِّ الصلاصلِ، على قولينِ.

‌وأما الشَّبَّابةُ

(2)

؛ فلم يرخِّصْ فيها أحدٌ من الأئمةِ الأربعةِ

(3)

.

(1)

الصلصلة: صوت الحديد إذا حرك. ينظر: لسان العرب 11/ 382.

(2)

قال العسكري: (واليراعة: القصبة التي يزمِّر بها الراعي، والعامة تسميها: الشبابة، وهي مولدة، ويقولون: قصب فلان يقصب، إذا زمَّر باليراع). ينظر: التلخيص في أسماء الأشياء ص 422.

(3)

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (30/ 212): (ومذهب الأئمة الأربعة أن الشبابة حرام. ولم يتنازع فيها من أهل المذاهب الأربعة إلا متأخرو الخراسانيين من أصحاب الشافعي؛ فإنهم ذكروا فيها وجهين. وأما العراقيون - وهم أعلم بمذهبه - فقطعوا بالتحريم كما قطع به سائر المذاهب. وبكل حال فهذا وجه ضعيف في مذهبه).

ص: 301

‌وتلقينُ الميتِ بعدَ دفنِه:

مباحٌ، وقيل: مستحَبٌّ، وقيل: مكروهٌ، وفعَلَه واثلةُ بنُ الأسقع وأبو أُمامةَ

(1)

، بل المستحبُّ الدعاءُ له، كما في «سننِ أبي داودَ»: أنه كان إذا مات رجلٌ من أصحابِه يقومُ على قبرِه: «سلوا له التثبيتَ؛ فإنه الآنَ يُسأَلُ»

(2)

.

(1)

أما أثر أبي أمامة رضي الله عنه: فرواه الطبراني في الكبير (7979) مرفوعاً، وفي أوله:«إذا أنا مت؛ فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا» ، ثم ذكر حديث التلقين.

ولم نقف على أثر واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.

وروى سعيد بن منصور في سننه عن راشد بن سعد، وضمرة بن حبيب، وحكم بن عمير، قالوا:«إذا سوي على الميت قبره وانصرف الناس عنه؛ كانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره: يا فلان، قل: لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله - ثلاث مرات - قل: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، ثم ينصرف» ذكره عنه ابن الملقن في البدر المنير 5/ 338، وابن حجر في التلخيص الحبير 2/ 311.

قال الإمام أحمد: (ما رأيت أحدًا فعل هذا إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة) ينظر: المغني 2/ 377.

(2)

رواه أبو داود (3221)، من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه.

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (24/ 296): (هذا التَّلقين المذكور قد نُقِلَ عن طائفةٍ من الصَّحابة: أنَّهم أمروا به، كأبي أمامة الباهلي وغيره، ورُوي فيه حديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم لكنَّه ممَّا لا يُحْكَمُ بصحته؛ ولم يكن كثيرٌ من الصَّحابة يفعل ذلك، فمن الأئمة من رَخَّص فيه كالإمام أحمدَ، وقد استحبَّه طائفة من أصحابه وأصحاب الشَّافعي، ومن العلماء من يكرهه لاعتقاده أنَّه بدعة، فالأقوال فيه ثلاثة: الاستحباب، والكراهة، والإباحة، وهذا أعدل الأقوال).

ص: 302

‌فَصْلٌ

‌القبورُ ثلاثةٌ:

متفقٌ على صحتِه؛ كقبرِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، وصاحِبَيْه أبي بكرٍ وعمرَ.

ومنها ما هو كذبٌ بلا ريب؛ مثلُ قبرِ أُبَيٍّ بدمشقَ.

وكذلك اتفقَ المسلمونَ على أنَّ أمهاتِ المؤمنينَ بالمدينةِ، فمن قال: إن أمَّ حبيبةَ بدمشقَ؛ قد كذَب، ولكن قبرُ بلالٍ ممكنٌ؛ فإنه دُفِن ببابِ الصغيرِ، وأسماءُ بنتُ يزيدَ بنِ السَّكَنِ تُوفِّيتْ بالشامِ، صحابيةٌ.

وكذلك قبرُ أُويس غربيَّ دمشقَ؛ كذبٌ، وكذلك قبرُ هودَ.

والثالث: مختلفٌ فيه؛ كقبرِ خالدٍ في حِمْصَ، قيل: هو خالدُ بنُ الوليدِ، وقيل: خالد بنِ يزيدَ أخو معاويةَ بنِ يزيدِ؛ الذي خارجَ بابِ الصغيرِ.

وكذلك قبرُ أبي مسْلمٍ الخَوْلانيِّ بِدارِيَّا فيه قولان، وكذا قبور غير هذه؛ اختلف الناس فيها.

ومن الكذبِ قطعًا: قبرُ عليِّ بن الحسينِ بمصرَ.

وكذا قبرُ نوحٍ بجبلِ بَعْلَبَكَّ؛ كذبٌ قطعًا.

وكذا قبرُ عليٍّ الذي بالنَّجَفِ؛ فإنه إنما دُفِن بالكوفةِ بقصرِ الإمارةِ، وعمرٌو بقصرِ الإمارةِ بمصرَ، ومعاويةُ بقصرِ الإمارةِ بدمشقَ؛ خوفًا

ص: 303

عليهم من الخوارجِ.

ومثل قبرِ جابرٍ الذي في حَرَّانَ؛ كذبٌ؛ إنما هو بالمدينةِ بالاتفاقِ، وقبرِ عبدِ اللهِ بنِ عمرو بالجزيرةِ؛ بل هو بمكَّةَ اتفاقًا.

وكذا قبرُ رُقيَّةَ وأمِّ كُلْثومٍ مما هو بالشامِ أو مصرَ أو غيرِهما؛ فإن الناسَ متفقونَ على أنهما ماتتا في حياةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تحتَ عثمانَ، وبهما سُمِّي: أبا النُّورَينِ، ولكن قد يتفقُ اسم أحدٍ من الناسِ، فيظنُّ الجهَّالُ أنه فلانٌ -مثلًا- لشهرتِه، ويكونُ غيرَه

(1)

.

وكذلك المسجدُ الذي بجانب عرفةَ، يقالُ له: مسجدُ إبراهيمَ، قد يظنُّ بعضُهم أنه الخليلُ، وإنما هو من ولدِ العباسِ، وكان بحَرَّانَ مسجدُ إبراهيمَ، فيَظنُّ الجهَّالُ أنه الخليلُ، وإنما هو إبراهيمُ بنُ محمدِ بنِ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ؛ الذي كانت له الدعوةُ العباسيةِ، مات هناك في الحبسِ، وأوصى إلى أخيه المنصورِ.

وأما قبرُ الخليلِ عليه السلام؛ قال العلماءُ: على أنه حقٌّ لكن كان مسدودًا، بمنزلةِ قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأُحْدِث عليه المسجدُ، وكان أهلُ العلمِ والدينِ العالمينَ بالسنَّةِ لا يُصَلُّون هناك.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (القبور ثلاثة

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 27/ 491، الفتاوى الكبرى 5/ 365.

ص: 304

‌فَصْلٌ

‌وينزِلُ عيسى بنُ مريمَ

على المنارةِ البيضاءِ شرقيَّ دمشقَ، ويُدركُ الدجَّالَ ببابِ لُدٍّ الشرقيِّ فيقتلُه، ويأمرُ اللهُ بعدَ قتلِه أن يُحصِّنَ الناسَ إلى الطُّورِ، ويقالُ له: يا روحَ اللهِ تقدمْ فصلِّ بنا، فيقولُ: لا، إنَّ بعضَكم على بعضٍ أميرٌ، فيُصلي بالمسلمين بعضُهم، ويتمُّ الصلاةَ ولا يموت

(1)

فيها.

‌والاستئجارُ على نفْسِ التلاوةِ

(2)

غيرُ جائزٍ، وإنما النزاعُ في التعليمِ ونحوِه مما فيه مصلحةٌ تصِلُ إلى الغيرِ، والثوابُ لا يصِلُ إلى الميتِ إلا إذا كان العملُ للهِ، وما وقع بالأجرِ؛ فلا ثوابَ فيه وإن قيل: يصحُّ الاستئجارُ عليه.

(3)

‌فإذا وصى الميتُ

أن يُعمَلَ له ختمةٌ، فيتصدَّقُ بذلك على المحاويجِ مِن أهلِ القرآنِ؛ كانَ أفضلَ وأحسنَ

(4)

.

(1)

وفي (ك): ولا يحدث.

(2)

أي: الاستئجار على قراءة القرآن وإهدائها للميت، كما في أصل الفتوى.

(3)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (والاستئجار على

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 315، والفتاوى الكبرى 4/ 376.

(4)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (فإذا وصى الميت

) إلى هنا في الفتاوى الكبرى 5/ 363.

ص: 305

‌فصلٌ

‌والأنبياءُ أحياءٌ في قبورِهم

، وقد يصلُّون كما رأى محمدٌ موسى صلَّى في قبرِه ليلةَ الإسراءِ صلى اللهُ عليهما وسلَّمَ.

‌وقد جاء في أحاديثَ حِسَانٍ:

أن العملَ الصالحَ يُصوَّرُ لصاحبِه صورةً حسنةً، والسيئَ صورةً قبيحةً، يُنعَّمُ به، أو يُعذَّبُ

(1)

.

وجاء مخصوصًا ببعضِ الأعمالِ؛ مثلُ القرآنِ وغيرِه، وذلك في البرزخِ، وفي عَرَصاتِ القيامةِ

(2)

.

(1)

من ذلك ما رواه أحمد (18539)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما في عذاب القبر، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم في حق المؤمن:«ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح» ، وفيه في حق الكافر:«ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث» .

(2)

ومن ذلك ما رواه أحمد (22950)، وابن ماجه مختصراً (3781)، من حديث بريدة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا» الحديث.

ص: 306

وأما جزاءُ الأعمالِ بالعملِ

(1)

؛ فإن كان المعنى أن عبورَهم على الصراطِ بحسَبِ أعمالِهم فهذا حقٌّ، وأما تصويرُ العملِ لصاحبِه على الصراطِ فلم يبلُغْني فيه شيءٌ.

‌فَصْلٌ

(2)

‌قال عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ:

«من كان منكم مستنًّا فلْيَسْتنَّ بمن قد مات؛ فإن الحيَّ لا تؤمَنُ عليه الفتنةُ، أولئك أصحابُ محمدٍ؛ أبَرُّ هذه الأمةِ قلوبًا، وأعمقُها علمًا، وأقلُّها تكلُّفًا، قومٌ اختارهم اللهُ لصُحبةِ نبيِّه، وإقامةِ دينِه، فاعرِفوا لهم حقَّهم، وتمسَّكوا بهدْيِهم؛ فإنهم كانوا على الصراطِ المستقيمِ»

(3)

.

وقال حذيفةُ بنُ اليمانِ: «يا معشرَ القُرَّاءِ، استقيموا وخذوا طريقَ مَن قبلَكم؛ فواللهِ لقد سبقْتُم سبقًا بعيدًا، ولئن أخذتُم يمينًا أو شمالًا لقد ضللْتُم ضلالًا بعيدًا»

(4)

.

فلم يكُنْ من عادةِ السلفِ إذا صلَّوا، أو صاموا، أو حجُّوا تطوعًا، أو قرؤوا القرآنَ أن يُهْدوا ثوابَ ذلك إلى الموتى، بل كان من عادتِهم

(1)

في الأصل: بالعمال.

(2)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 24/ 321، والفتاوى الكبرى 3/ 37.

(3)

أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1810).

(4)

رواه البخاري (7282).

ص: 307

أن يعبُدوا اللهَ بأنواعِ العباداتِ المشروعةِ، ويدعون للمؤمنينَ والمؤمناتِ، لأحيائِهم وأمواتِهم في صلاتِهم على الجَنائزِ، وعندَ زيارةِ قبورِهم، وغيرِ ذلك.

‌رُوِيَ أن عندَ كلِّ ختمةٍ دعوةً مجابةً

(1)

، فإذا دعا عَقيبَ الختمةِ لنفسِه ولوالِدَيْه ولمشايخِه وغيرِهم من المؤمنينَ والمؤمناتِ، كان مشروعًا.

وكذلك مواطنُ الإجابةِ كقيامِ الليلِ ونحوِه، فلا ينبغي العدولُ عن طريقِهم.

(1)

أي: روي ذلك عن طائفة من السلف كما هو في أصل الفتوى.

روى البيهقي في شعب الإيمان (1919) عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: «مع كل ختمة دعوة مستجابة» ، قال البيهقي:(في إسناده ضعف)، وأخرجه الطبراني في الكبير (647) من حديث العرباض رضي الله عنه.

وروى الدارمي في سننه (3516)، وسعيد بن منصور في التفسير (27)، والطبراني في الكبير (674)، عن ثابت:«أن أنس بن مالك كان إذا ختم القرآن جمع أهله وولده، فدعا لهم» .

وروى الفريابي في فضائل القرآن (88)، وابن الضريس في فضائل القرآن (81)، عن الحكم قال: كان مجاهد وعبدة بن أبي لبابة وناس يعرضون المصاحف، فلما كان في اليوم الذي أرادوا أن يختموا فيه القرآن بعثوا إلي وإلى سلمة بن كهيل، فقالوا:"إنا كنا نعرض المصاحف، وإنا نريد أن نختم اليوم، فإنه كان يقال: الرحمة تنزل أو تحضر عند ختم القرآن".

ص: 308

‌فَصْلٌ

‌يجوزُ ركوبُ البحرِ

إذا غلَب على ظنِّه السلامةُ، ولو مات غريقًا فهو شهيدٌ

(1)

.

‌ودفنُ الميتِ في المسجدِ:

حرامٌ بإجماعِ المسلمين.

‌ومن يحدِّثُ بأحاديثَ مفتعلةٍ

ليُضْحِكَ الناسَ، أو غرضٍ آخرَ؛ فهو عاصٍ للهِ ولرسولِه، مستحِقٌّ للعقوبةِ التي تردَعُه

(2)

.

‌وعرضُ الأديانِ على الميتِ عندَ الموتِ

؛ فليس هو أمرًا عامًّا لكلِّ ميتٍ، ولا عدمُه أيضًا عن كلِّ أحدٍ، بل قد يُعرَضُ على واحدٍ دونَ غيرِه، وقد يُعْرَضُ قبلَ الموتِ، وذلك من فتنةِ المحيا التي أُمِرْنا بالاستعاذةِ منها، ولكن قد رُوِيَ أن الشيطانَ أشدُّ ما يكونُ عندَ الموتِ، يقولُ لأعوانِه: دونَكم؛ فإنْ فاتكم لم تَظْفَروا

(3)

به أبدًا. وحكايةُ الإمامِ أحمدَ مشهورةٌ.

‌وفتنةُ القبرِ عامةٌ

إلا للنبيِّينَ، وغيرُ المكلَّفينَ فيهم خلافٌ

(4)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (يجوز ركوب

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 24/ 293، الفتاوى الكبرى 3/ 22.

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن يحدث) إلى هنا في مجموع الفتاوى 32/ 256.

(3)

في الأصل: لم تظفر.

(4)

قال في مجموع الفتاوى 4/ 280: (أما من ليس مكلفًا كالصغير والمجنون، فهل يمتحن في قبره ويسأله منكر ونكير؟ على قولين للعلماء:

أحدهما: أنه يمتحن، وهو قول أكثر أهل السنة، ذكره أبو الحسن بن عبدوس عنهم، وذكره أبو حكيم النهرواني وغيرهما.

والثاني: أنه لا يمتحن في قبره، كما ذكره القاضي أبو يعلى وابن عقيل وغيرهما؛ قالوا: لأن المحنة إنما تكون لمن يكلف في الدنيا.

ومن قال بالأول: يستدل بما في الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنه صلى الله عليه وسلم صلى على صغير لم يعمل خطيئة قط فقال: اللهم قه عذاب القبر وفتنة القبر" وهذا يدل على أنه يفتن).

ص: 309

‌وتنازعوا في المرتدِّ:

هل كان إيمانُه صحيحًا يحبَطُ بالردَّةِ، أم يقالُ: بالردَّةِ تبيَّنَّا أن إيمانَه كان فاسدًا، وأن الإيمانَ الصحيحَ لا يزولُ البتةَ؟ على قولينِ للناسِ.

وعلى ذلك ينبني قولُ المستثني: (أنا مؤمنٌ إن شاء اللهُ)، هل يعودُ إلى كمالِ الإيمانِ في الحالِ، أو يعودُ إلى الوفاة في المآلِ؟

(1)

‌وفي إلحادِ الرجلِ للمرأةِ نزاعٌ

؛ الصحيحُ: أنه إن كان من أهلِ الخيرِ يُلْحِدُها.

‌ويجوزُ حجُّه عنها اتفاقًا

، وفي حَجِّها عنه نزاعٌ.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (عرض الأديان) إلى هنا: مجموع الفتاوى 4/ 255.

ص: 310

‌فَصْلٌ

‌ولا يُستحَبُّ

حفرُ القبرِ قبلَ الموتِ.

‌وروى ابنُ حِبَّانَ

في «صحيحِه» وغيرُه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الميِّتَ يُبعَثُ في ثيابِه التي قُبِضَ فيها»

(1)

، ودعا أبو سعيدٍ بثيابٍ جددٍ فلبِسَها عندَ الموتِ، وقال ذلك عن النبيِّ

(2)

، فحَمَل الحديثَ على ثيابِه التي يُقْبَضُ فيها، لا على كفنِه، فقيل: يُبعَثُ في نفسِ الثوبِ الظاهرِ.

وقيل: إن المرادَ أنه يبعَثُ على ما مات عليه من العملِ

(3)

، كما قال أكثرُ المفسرينَ في قولِه:{وثيابك فطهر} ؛ أي: عملَك.

يؤيِّدُ ذلك ما ثبت في «الصحيحِ» : «أنهم يُحْشَرونَ عُراةً، حُفاةً، غُرْلًا، {كما بدأنا أول خلق نعيده}» ، قالت عائشةُ: النساءُ والرجالُ ينظُرُ بعضُهم إلى بعضٍ؟! قال: «الأمرُ أشدُّ مِن ذلك»

(4)

.

(1)

رواه ابن حبان (7316)، ورواه عبد الرزاق (6203)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

رواه أبو داود (3114)، والبيهقي في الكبرى (6603).

(3)

ورجحه شيخ الإسلام، كما في الاختيارات للبعلي ص 132.

(4)

رواه البخاري (6527)، ومسلم (2859)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 311

‌فَصْلٌ

‌إذا قُضيتْ الحاجةُ عندَ قبرٍ من القبورِ

، من أين يُعرفُ أنه لأجلِ القبرِ؟ فقد قال صلى الله عليه وسلم:«إن النذْرَ لا يأتي بخيرٍ، وإنما يُستخرَجُ به من البخيلِ»

(1)

، وفي لفظٍ:«النذرُ لا يأتي ابنَ آدمَ بشيءٍ، ولكن يُلْقيه القدرُ فيعطى على النذرِ ما لا يُعطى على غيرِه»

(2)

.

فإذا كان ذلك في النذرِ الذي تُقضَى أكثرُ الحوائجِ عندَه؛ فكيفَ يكونُ غيره؟!

ثمَّ تلك الحاجةُ: إمَّا أن تكونَ قُضِيت بغيرِ دعائِه؛ فلا كلامَ، وإما بدعائِه فيكونُ قد اجتهدَ في الدعاءِ اجتهادًا لو اجتهدَه في غيرِ تلك البقعةِ أو عندَ الصليبِ؛ لقُضِيتْ، فيكونُ السببُ اجتهادَه لا خصوصَ القبرِ، ولهذا قد تُقْضى حوائجُ المشركينَ عندَ أوثانِهم، وصُلْبانِهم، وكنائسِهم، فهل يقولُ مسلمٌ: إنه يجوزُ قصدُ صُلْبانِهم وأوثانِهم لذلك؟

ولو قيلَ: إن للقبرِ تأثيرًا في ذلك؛ سواءٌ كان باتصالِ روحِ الداعي وروحِ الميتِ فيقوى بذلك، كما يزعمُه ابنُ سينا وأبو حامدٍ وأمثالُهما في زيارةِ القبورِ، أو كان بسببٍ آخرَ.

(1)

رواه البخاري (6608)، ومسلم (1639)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري (6609)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 312

فيقالُ: ليس كلُّ سببٍ نال به الإنسانُ حاجتَه يكونُ مشروعًا ولا مباحًا، وإنما يكونُ مشروعًا إذا غَلبتْ مصلحتُه على مفسدتِه.

ومن هذا البابِ: تحريمُ السِّحرِ معَ ما له من التأثيرِ وقضاءِ بعضِ الحاجاتِ، وما يدخلُ في ذلك من عبادةِ الكواكبِ، ودعائِها، واستحضارِ الجنِّ، والكَهانةِ، والأزلامِ، وأنواعِ المحرماتِ؛ مع كونِها لها نوعُ كشفٍ أو نوعُ تأثيرٍ.

وفي هذا تنبيهٌ على جملةِ الأسبابِ التي تُقْضى بها الحوائجُ، وأما تفصيلُ ذلك فله موضعٌ آخرُ، ولكنَّ العاقلَ يعلمُ أن أمةً من الأممِ لا تجتمعُ على أمرٍ بلا سببٍ، فلأجلِ ذلك استمتع ناسٌ بالسحرِ، وناسٌ بالشركِ وعبادةِ الأصنامِ، والخليلُ يقولُ:{رب إنهن أضللن كثيرًا من الناس} ، ولم يقُلْ أحدٌ: إنهم كانوا يقولونَ: إن الأصنامَ تخلُقُ، وتُحْيي، وتجلِبُ الرزقَ، بل عبدوها لحاجاتِهم؛ من جنسِ قصدِ المشركينَ بالقبور المعظَّمةِ، وقصْدِ النصارى صورَ القِدِّيسين يتَّخِذونهم شفعاءَ ووسائطَ ووسائلَ.

ويكفي المسلمَ أن يعلمَ أن اللهَ لم يحرِّمْ شيئًا إلا ومفسدتُه محضةٌ، أو غالبةٌ.

ص: 313

‌فَصْلٌ

‌تعودُ الروحُ

إلى الميتِ وتفارقُه، وهل يُسمَّى ذلك موتًا؟ فيه قولانِ

(1)

.

‌والنفخُ ثلاثةٌ:

أحدُها: قولُه تعالى: {ونفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض} ، ونفخةُ الصَّعْقِ والقيامِ المذكورِ في قولِه تعالى:{ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى} .

وقولُه: {إلا من شاء الله} متناولٌ لأهلِ الجنةِ من الحورِ وغيرِهم؛ ممن يعلمُه اللهُ

(2)

.

‌فَصْلٌ

‌ذهب طائفةٌ من المتأخِّرينَ

إلى جوازِ إهداءِ الأعمالِ الصالحةِ؛ من الصدقةِ والصلاةِ والقراءةِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأزواجِه.

وفي إهداءِ الفريضةِ وجهانِ.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (تعود الروح

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 4/ 274.

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (والنفخ ثلاثة

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 4/ 260.

ص: 314

وأما السلَفُ فلم يكونوا يفعلونَ شيئًا من ذلك، وهم أحقُّ بالاتباعِ.

‌وحديثُ أبيٍّ الذي فيه:

أجعَلُ صلاتي كلَّها عليك؟ قال: «إذًا يكفيَكَ اللهُ همَّكَ، ويغفرَ ذنبَكَ»

(1)

، المرادُ: أنه يجعلُ له ربعَ دعائِه أو نصفَه أو ثلثَه

إلى أن قال: كلَّها؛ أي: كلَّ دعائي؛ فإن الصلاةَ في اللغةِ الدعاءُ، ولهذا قال له:«إذًا يكفيَكَ اللهُ همَّكَ، ويغفِرَ ذنبَكَ» ؛ فإنه إذا صلَّى عليه مرةً صلى اللهُ عليه بها عشرًا، و «من دعا لأخيه وكَّلَ اللهُ به ملكًا يقولُ: ولك بمثلِه»

(2)

، فإذا صلَّى عليه بدَلَ دعائه؛ كفاه اللهُ، وحصل مقصودُك من كفايةِ همِّك وغُفرانِ ذنبِك، واللهُ في عونِ العبدِ ما كان في عونِ أخيه، فكيف بمن يدعو للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بدلَ نفسِه؟! إنه لَحقيقٌ أن يحصلَ له أكثرُ مما يطلبُه لنفسِه.

وقد يُتوهَّمُ مِن قولِه: «من صلَّى عليَّ مرةً صلَّى اللهُ عليه عشرًا»

(3)

، أنه يحصُلُ للمصلي عليه أكثرُ مما يحصُلُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك؛ بل له مثلُ أجرِ المصلِّي الذي حصل له، فإنه هو الذي علَّمَه وسَنَّ له ذلك؛ فله مِثْلُ أجرِه.

‌وليس للأبِ إلا ما يدعو به الولدُ له

، فظهر قولُه:{النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} ؛ فهو الأبُ الرُّوحانيُّ، والوالدُ أبٌ جثمانيٌّ، هو سببُ السعادةِ الأبديةِ في الآخرةِ، والأبُ سببٌ لوجودِه في الدنيا.

(1)

رواه أحمد (21242)، والترمذي (2457).

(2)

رواه مسلم (2732)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.

(3)

رواه مسلم (384)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

ص: 315

ومعلومٌ أن الإنسانَ يجبُ عليه أن يطيعَ معلِّمَه الذي يدعوه إلى الخيرِ، ويأمرُه بما أمره اللهُ به، ولا يجوزُ له أن يطيعَ أباه في مخالفةِ هذا الداعي؛ لأنه يدلُّه على ما ينفعُه، ويقرِّبُه إلى ربِّه، ويحصلُ له باتباعِه السعادةُ الأبديةُ، فظهر فضل الأب الروحاني على الأب الجثماني، فهذا أبوه في الدين، وذلك أبوه في الطين، وأين هذا من هذا؟!

(1)

.

‌وأزواجُ النبيِّ

أمهاتُ المؤمنينَ في الحُرمةِ، لا في المحرَميَّةِ، ولهنَّ من الاحترامِ ما ليس للأمِّ الوالدةِ.

‌فَصْلٌ

(2)

‌لقاءُ اللهِ تعالى:

قد فسَّره طائفةٌ من السلفِ والخلفِ أنه المشاهدةُ والمعاينةُ، واستدلَّ به قومٌ على رؤيةِ اللهِ تعالى

(3)

‌وقولُه:

{ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه} ؛ لأنَّ الإنسانَ يشاهدُ بنفْسِه هذه الأمورَ، وقد قيلَ: إن الموتَ نفْسَه يُشهَدُ، ويُرى ظاهرًا. وقيل: المرئيُّ أسبابُه.

(1)

من قوله: (فظهر فضل) إلى هنا غير واضحة في الأصل بسبب الرطوبة، وهي مثبتة في (ع) و (ك).

(2)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 6/ 462.

(3)

في الأصل هنا علامة تصحيح، ولم يكتب شيئاً.

ص: 316

‌وقد تنازعَ الناسُ في الكفارِ:

هل يَرَوْن ربَّهم أولَ مرةٍ ثم يحتجِبُ عنهم، أم لا يرَوْنَه بحالٍ؟ على قولينِ، الأولُ أصحُّ؛ وهو قولُ أهلِ‌

‌ الحديثِ وأكثرِ الفقهاءِ، والثاني قولُ المتكلِّمِينَ.

فَصْلٌ

‌نطَق الكتابُ والسنةُ

بمحبَّةِ الله تعالى، وهي على حقيقتِها عندَ سلَفِ الأمةِ وأئمَّتِها ومشايخِها.

وأولُ من أنكرَ حقيقتَها شيخُ الجهميةِ الجَعْدُ بنُ دِرْهمٍ، فقتله خالدُ بنُ عبدِ اللهِ القَسْريُّ بواسِطَ يومَ النحرِ، وقد فسَّروا محبتَه بمحبةِ عبادتِه وطاعتِه.

ولا ريبَ أن المؤمنينَ يعرفونَ ربَّهم في الدنيا، ويتفاوتونَ في درجاتِ العِرفانِ

(1)

.

‌وأكلُ الشيطانِ

لو تُصُوِّرَ لكانَ من أعظمِ المحرَّماتِ؛ لما فيه من الخبثِ والبغيِ والعدوانِ، فمن قال: إن آدمَ سلَقه وأكَله؛ فمن أقبحِ البهتانِ.

‌وأمَّا عرضُ السجودِ على إبليسَ عندَ قبرِ آدمَ

؛ فقد ذكَرَه بعضُ الناسِ، وأما عرضُه عليه في الآخرةِ؛ فما علمتُ أحدًا ذكَرَه، وكلاهما باطلٌ.

(1)

ينظر أصل الفتوى من بداية الفصل إلى هنا في: مجموع الفتاوى 6/ 477.

ص: 317

‌واتفقَ سلَفُ الأمةِ وأئمتُها

على أنَّ من المخلوقاتِ ما لا يُعدَمُ؛ وهو الجنةُ، والنارُ، والعرشُ، وغيرُ ذلك، ولم يقُلْ بفَناءِ جميعِ المخلوقاتِ إلا طائفةٌ من أهلِ الكلامِ المبتدعينَ؛ وهو قولٌ باطلٌ

(1)

.

‌فَصْلٌ

‌قولُه: «أنا في بركةِ فلانٍ»

، أو «تحتَ نظرِه» ، «مُدَّني بخاطرِك» ؛ فإن أرادَ أنَّ نظَرَه أو خاطرَه أو بركتَه مستقِلةٌ بتحصيلِ المنافعِ ودفعِ المضارِّ؛ فهو كذبٌ.

وإن أرادَ أن فلانًا دعا لي فانتفعتُ بدعائِه، أو أنه علَّمَني، أو أدَّبَني، فأنا في بركةِ ما انتفعتُ به من تعليمِه وتأديبِه؛ فهو صحيحٌ.

وإن أرادَ أنه بعدَ موتِه يجلِبُ المنافعَ، ويدفعُ عني المضارَّ؛ فهو كذبٌ محرَّمٌ.

‌والسؤالُ مع الغنى

؛ حرامٌ بالإجماعِ.

‌ولا يجوزُ الدعاءُ

للوالدَينِ الكفارِ.

‌وقولُ الشخصِ:

«اللهُمَّ صلِّ على محمدٍ في الأولينَ» ليس هو مأثورًا، والمرادُ بالأولينَ: قبلَ محمدٍ، والآخرينَ: أمَّتُه؛ قاله الجمهورُ.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (واتفق سلف الأمة) إلى هنا في مجموع الفتاوى 18/ 307.

ص: 318

وقيلَ: «الأولينَ والآخِرينَ» : من أمَّتِه. والأولُ أصحُّ.

قيلَ ذلك في قولِه: {ثلة من الأولين} .

و «الأولُ» إضافيٌّ، فكلُّ شخصٍ قبله أوَّل، وبعدَه آخِر

(1)

.

وقولُه: «على سيِّدِنا محمدٍ في الأولينَ» ؛ إن أرادَ بهم قبلَ محمدٍ أو قبلَ المصلِّي؛ لكن يكونُ المرادُ: صلِّ عليه في الأولينَ، وإن كانوا ماتوا فالمرادُ أزواجُهم، فإنَّها موجودةٌ، أي: صلِّ عليه في الموجودينَ، فهذا محملٌ حسَنٌ، و «في الآخرينَ»؛ أي: فيمن يوجدُ من المستأخرينَ.

وقد يكونُ المرادُ: صلِّ عليه فيمن يُصلَّى عليهم من الأولينَ والآخرينَ والملأِ الأعلى؛ أي: صلِّ عليه في كلِّ طائفةٍ صلَّيْتَ عليها، فهو معنًى صحيحٌ.

‌فَصْلٌ

(2)

‌روى مالكٌ في «موطَّئِه»

وأبو داودَ والنَّسائيُّ وغيرُهم، عن مسلم بن يسار - وفي لفظٍ: عن نُعَيمِ بنِ ربيعةَ - أن عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه سُئِلَ عن هذه الآيةِ: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم} الآيةَ، فقال عمرُ: عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عنها، فقال: «إن اللهَ خلَقَ آدمَ، ثم مسَح ظهرَه بيمينِه، فاستخرجَ

(1)

كذا في (ك)، وفي الأصل: فكلُّ شخصٍ قبل أوَّل، وبعد آخِر.

(2)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 8/ 65.

ص: 319

منه ذريتَه، فقال: خلقتُ هؤلاءِ للجنةِ، وبعمَلِ أهلِ الجنةِ يعملونَ، ثم مسَح ظهرَه فاستخرجَ منه ذريتَه، فقال: خلقتُ هؤلاءِ للنارِ، وبعملِ أهلِ النارِ يعملونَ»، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، ففيمَ العملُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ اللهَ إذا خلَقَ الرجلَ للجنةِ استَعمَلَه بعمَلِ أهلِ الجنةِ؛ حتى يموتَ على عملٍ من أعمالِ أهلِ الجنةِ، فيُدخلهُ به الجنةَ، وإذا خلَق الرجل للنارِ استَعملَه بعملِ أهلِ النارِ؛ حتى يموتَ على عملٍ من أعمالِ أهلِ النارِ؛ فيُدخلهُ به النارَ»

(1)

.

وفي حديثِ الحكمِ بنِ سِنانٍ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن اللهَ قبَضَ قبضةً، فقال: إلى الجنةِ برَحْمتِي، وقبَضَ قبضةً فقال: إلى النارِ ولا أُبالي»

(2)

.

وهذا المعنى مشهورٌ عنه من وجوهٍ متعددةٍ، وفيه فصلانِ:

أحدُهما: القدرُ السابقُ؛ وهو أنَّ اللهَ سبحانَه علِمَ أهلَ الجنةِ من أهلِ النارِ قبلَ أن يعملوا الأعمالَ، وهذا حقٌّ يجبُ الإيمانُ به، بل قد نصَّ الأئمةُ كمالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ: أن مَن جحَدَ هذا فقد كفَر؛ بل يجبُ الإيمانُ به؛ فإن اللهَ علِمَ ما سيكونُ كلَّه قبلَ أن يكونَ؛ كما في «صحيحِ مسلمٍ»

(3)

عن النبيِّ: «إنَّ اللهَ قدَّر مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلقَ

(1)

رواه مالك (2/ 898)، وأبو داود (4703)، والترمذي (3075)، ورواه أحمد أيضًا (311)، من طريق مسلم بن يسار عن عمر رضي الله عنه.

(2)

رواه أحمد (17594).

(3)

، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

ص: 320

السماواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، وكان عَرْشُه على الماءِ».

وفي «صحيحِ البخاري»

(1)

عن عِمْرانَ بنِ حُصَينٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«كان اللهُ ولا شيءَ غيرُه، وكان عَرْشُه على الماءِ، وكتَب في الذِّكْرِ كلَّ شيءٍ، وخلَقَ السماواتِ والأرضِ» .

وفي «المسنَدِ»

(2)

عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني عندَ اللهِ لمكتوبٌ: بخاتَمِ النبِيِّينَ، وإن آدمَ لمُنجَدِلٌ في طينتِه، وسأُنبِّئُكم بأولِ ذلك: دعوةُ أبي إبراهيمَ، وبشرى عيسى، ورؤيا أمِّي، رأت حينَ ولدَتْني أنه خرَج منها نورٌ أضاءَتْ له قصورُ الشامِ» .

ونحوُه كثيرٌ في الصحيحِ؛ كما في الصحيحينِ من حديثِ عليٍّ؛ حديثُ بَقيعِ الغَرْقدِ

(3)

.

وفي الصحيحِ: قالوا: يا رسولَ اللهِ، أعُلِمَ أهلُ الجنةِ مِن أهلِ النارِ؟ فقال:«نعم» ، قيلَ: ففيمَ العملُ؟ قال: «اعمَلوا فكلٌّ مُيسَّرٌ لما خُلِقَ له»

(4)

.

وذلك أنَّ اللهَ علِمَ الأشياءَ كما هي عليه، وقد جعل لها أسبابًا تكون

(1)

(2)

، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (1362)، ومسلم (2647)، وفيه:«ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتب شقية أو سعيدة» .

(4)

رواه مسلم (2649)، من حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه. وأخرج نحوه البخاري (6217) ومسلم (2647)، من حديث علي رضي الله عنه.

ص: 321

بها، فيعلمُ أنها تكونُ بتلك الأسبابِ.

فلو قال قائلٌ: إذا علِمَ اللهُ أنه يُولَدُ لي ولدٌ، فلا حاجةَ لي في الزوجةِ؛ كان أحمقَ؛ فإن اللهَ يعلمُ ما سيكونُ بما يقدِّرُه من الوَطْءِ وغيرِه من أنَّ هذا يشبَعُ بالأكلِ، ويموتُ بالقتلِ، فلا بدَّ من الأسبابِ التي قد علِمَها اللهُ سبحانَه من الدعاءِ والسؤالِ وغيرِه، فلا ينالُ العبدُ شيئًا إلا بما قدَّرَه اللهُ من جميعِ الأسبابِ، واللهُ خالقُ ذلك الشيءِ، وخالقُ الأسبابِ.

ولهذا قيلَ: الالتفاتُ إلى الأسبابِ؛ شِركٌ في التوحيدِ، ومَحْوُ الأسبابِ أن تكونَ أسبابًا؛ نَقْصٌ في العقلِ، والإعراضُ عن الأسبابِ بالكليةِ؛ قَدْحٌ في الشرعِ.

ومجردُ الأسبابِ لا تُوجِبُ حصولَ المُسبَّبِ؛ بل لا بدَّ من تمامِ الشروطِ وزوالِ الموانعِ، وكلُّ ذلك بقضاءِ اللهِ وقدَرِه.

وكذلك أمرُ الآخِرةِ ليس بمجردِ العمَلِ ينالُ الإنسانُ السعادةَ؛ بل العملُ سببٌ؛ كما قال: «لن يدخُلَ أحدٌ منكم الجنةَ بعمَلِه

» الحديثَ

(1)

، وقال تعالى:{ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} ، فهذه باءُ السببِ؛ أي: بسببِ أعمالِكم، والذي نفاه النبيُّ باءُ المقابلةِ؛ كما يقالُ: اشتريتُ هذا بهذا؛ أي: ليس العملُ عوضًا وثمنًا كافيًا في دخولِ الجنةِ، بل لا بدَّ من عَفْوِ الله ورحمتِه، وفَضْلِه، ومغفرتِه،

(1)

رواه البخاري (6463)، ومسلم (2816)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 322

فبمغفرتِه يمحو السيئاتِ، وبرحمتِه تأتي الخيراتُ، وبفضلِه تضاعفُ البركاتُ.

وهنا ضلَّ فريقانِ؛ فريقٌ أخذوا بالقدَرِ، وأعرضوا عن الأسبابِ الشرعيةِ والأعمالِ الصالحةِ، ظنُّوا أن ذلك كافٍ، وهؤلاءِ يؤولُ أمرُهم إلى الكفرِ باللهِ وكتُبِه، ورسُلِه.

وفريقٌ أخذوا يطلبونَ الجزاءَ من اللهِ، كما يطلُبُه الأجيرُ من المستأجِرِ؛ مُتَّكِلِينَ على حَوْلِهم وقوتِهم وعمَلِهم، وهؤلاء جُهَّالٌ ضُلَّالٌ، فإن اللهَ لم يأمرِ العبادَ بما أمَرَهم به حاجةً منه إليهم، وإنما أمَرَهم بما فيه صلاحُهم، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلًا؛ بل نهاهم عما فيه فسادُهم، وكما قال:«يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضَرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نَفْعي فتنفعوني»

(1)

، وهو معَ غناه عن العالمينَ أرسَلَ إليهم الرُّسُلَ بفضلِه، وهدايتهم بفضله، وجميعُ ما ينالونَ به الخيراتِ فضلٌ منه سبحانه، وإن كان أوجَبَ على نفْسِه الرحمةَ وحرَّم الظلمَ عليها، فهو واقعٌ لا محالةَ، واجبٌ بحكمِ إيجابِه ووعدِه، لا أنَّ الخَلْقَ يُوجبونَ على اللهِ شيئًا أو يُحرِّمونَ؛ بل هم أعجَزُ من ذلك وأقلُّ، كلُّ نعمةٍ منه فضلٌ، وكلُّ نِقْمةٍ منه عدلٌ، كما في قولِه:«فمَن وجَدَ خيرًا فلْيَحْمَدِ اللهَ، ومَن وجَدَ غيرَ ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفْسَه»

(2)

.

(1)

رواه مسلم (2577)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

(2)

تتمة حديث أبي ذر السابق.

ص: 323

فمَن أعرضَ عن الأمرِ والنهيِ والوَعْدِ والوَعيدِ ناظرًا إلى القدَرِ: فقد ضلَّ، ومَن طلَبَ المقامَ بالأمرِ والنهيِ مُعرِضًا عن القدَرِ: فقد ضلَّ؛ بل لا بدَّ من الأمرينِ؛ كما قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} ، فنعبُدُه اتباعًا للأمرِ، ونستعينُه إيمانًا بالقدَرِ.

فكلُّ عملٍ يعمَلُه العاملُ، ولا يكونُ طاعةً وعبادةً وصالحًا؛ فهو باطلٌ، فإنَّ الدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها؛ إلا ما كان للهِ، ولو نال بذلك العملِ رياسةً ومالًا؛ فغايةُ المُترَئِّسِ أن يكونَ كفرعونَ، وغايةُ المُتمَوِّلِ أن يكونَ كقارونَ، وقد ذكَر اللهُ في سورةِ القَصَصِ من قصَّتِهما ما فيه عبرةٌ لأولي الألبابِ.

وكلُّ عملٍ لا يعينُ اللهُ العبدَ عليه؛ فإنه لا يكونُ ولا يقعُ، فما لا يكونُ به لا يكونُ، وما لا يكونُ له لا يدومُ ولا ينفعُ، فلذلك أمَرَ العبدَ أن يقولَ:{إياك نعبد وإياك نستعين} في كلِّ صلاةٍ.

وللعبدِ حالانِ:

حالٌ قبلَ القدرِ؛ فعليه أن يستعينَ باللهِ، ويتوكَّلَ عليه، ويدعوَه.

وحالٌ بعدَ القدَرِ، فعليه أن يحمَدَ اللهَ في الطاعةِ، ويصبِرَ أو يرضى في المصيبةِ، ويستغفِرَ في الذنبِ، وفي الطاعةِ منَ النَّقْصِ، ويشكرَه عليها؛ إذ هي من نعمتِه.

ص: 324

ص: 325

‌فَصْلٌ

‌في الأحاديثِ التي سُئِلَ عنها

رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الساعةِ، فقال:«إن يعِشْ هذا الغلامُ فلن يدركَه الهَرَمُ حتى تقومَ الساعةُ»

(1)

؛ المراد بذلك: ساعةُ ذلك القَرْنِ؛ وهو موتهم، فإنَّ في «الصحيحَينِ» عن عائشةَ قالت: كان الأعرابُ إذا قدِموا على رسولِ اللهِ سألوه عن الساعة: متى الساعةُ؟ فنظَرَ إلى أحدثِ إنسانٍ منهم، فقال:«إن يعِشْ هذا الغلامُ لم يدرِكْه الهَرَمُ حتى تقومَ عليكم ساعَتُكم» ، قال هشامٌ: يعني: موتَهم. فهذا يُبيِّنُ تلك الأحاديثَ.

وقد يُرادُ بالقيامةِ: الموتُ، وأنَّه مَن مات فقد قامتْ قِيامتُه؛ كما قال المغيرةُ بنُ شُعْبةَ:«أيُّها الناسُ، إنكم تقولونَ: القيامةَ القيامةَ، وإنه مَن مات فقد قامتْ قِيامتُه»

(2)

.

وليس واحدٌ من هذينِ النوعينِ منافيًا لما أخبَرَ اللهُ به من القيامةِ الكبرى التي يقومُ فيه الناسُ من قُبُورِهم لربِّ العالمينَ حفاةً عُراةً بعدَ أن تُعادَ الأرواحُ إلى الأجسادِ، وإنما يُنكِرُ هذا أهلُ الزَّنْدَقةِ من الفلاسفةِ ونحوِهم، ويتأوَّلونَ ما في القرآنِ من ذلك ومِن ذِكْرِ القيامةِ على أن المرادَ

(1)

رواه البخاري (6511)، ومسلم (2952)، من حديث عائشة رضي الله عنها، ورواه مسلم (2953)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

رواه الدولابي في الكنى والأسماء (1627)، وعزاه السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 671) للطبراني، ولم نقف عليه في كتبه المطبوعة.

ص: 326

به الموتُ، نحو قولهم:{إذا الشمس كورت} : أنها العقل إذا غاب بالموت، {وإذا النجوم انكدرت}: أنها أعضاءُ الإنسانِ وحَواسُّه، {وإذا الجبال سيرت}: أنها أعضاؤُه الكبارُ التي يحمِلُها الحاملونَ إلى القبرِ، {وإذا العشار عطلت}: أنها ما في بدَنِه من الأرواحِ البخاريةِ وقُواها، وأمثالِ هذه التأويلاتِ التي يذكُرُها مثلُ السُّهْرورديِّ المقتولِ على الزَّنْدَقةِ في الألواحِ العماديةِ

(1)

، ويذكُرُها مَن يذكُرُها مِن المتفلسفةِ القرامطةِ الباطنيةِ.

فإن القيامةَ الكبرى مما عُلِم بالاضطرارِ من دينِ الإسلامِ، ومَن تدبَّرَ القرآنَ وتفسيرَه، والأحاديثَ المتواترةَ عنه صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابِه، وسائرِ الأئمَّةِ؛ عَلِم ذلك كما يَعلَمُ أن محمدًا جاءَ بالصَّلاةِ، وبالصومِ، وحجِّ البيتِ العتيقِ، وتحريمِ الفواحشِ، ونحوِ ذلك، كما في أولِ سورةِ الواقعةِ، وقال في آخِرِ السورةِ:{فلولا إذا بلغت الحلقوم} ، فهذا تفصيلٌ لحالِ الموتِ، وأول السورةِ لذكرِ القيامةِ.

وكذلك قولُه: {لا أقسم بيوم القيامة} ، ثم قال:{ولا أقسم بالنفس اللوامة أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه} ، فجَمْعُ عظامِه هو في القيامةِ الكبرى، إلى قولِه: {كلا إذا بلغت التراقي

(1)

ذكره شيخ الإسلام وذكر كتابه الألواح العمادية في مواطن من كتبه، وهو شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي الفيلسوف، قال شيخ الإسلام:(المقتول على الزندقة صاحب "التلويحات" و "الألواح" و "حكمة الإشراق"، وكان في فلسفته مستمِدًا من الروم الصابئين والفرس والمجوس). ينظر: مجموع الفتاوى 9/ 18، سير أعلام النبلاء 21/ 207.

ص: 327

وقيل من راق وظن أنه الفراق}، فبيَّنَ ما يكون عندَ الموتِ، إلى قولِه:{أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى} ، إلى أن

(1)

قال: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} ، فاستدلَّ بقدرتِه على الخلقِ الأولِ على قدرتِه على إحياءِ الموتى، وذلك في القرآنِ كثيرٌ، يَستدِلُّ بالنشأةِ الأولى على البعثِ في القيامةِ الكبرى، وتارةً يبيِّن البعثَ بقدرتِه على خلقِ الحيوانِ، وتارةً بخلقِ النباتِ؛ كما قال: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث

} الآيةَ، وقولِه: {وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت

}، إلى قولِه:{وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا رَيْبَ فيها وأن اللهَ يبعث من في القبور} ، وقولِه:{وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج} ، و {كذلك النشور} ، فهذا كلُّه بيانٌ للقيامةِ.

وتارةً يَستدِلُّ عليها بقدرتِه على خلقِ العالَمِ؛ كما في قولِه في «ق» : {أفلم ينظروا إلى السماء

}، إلى قولِه: {ونزلنا من السماء ماء مباركا

}، إلى قولِه:{كذلك الخروج} ، ثم ذكر الموتَ بقولِه:{وجاءت سكرة الموت بالحق} ، وقولِه:{أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} ، وقولِه:{لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} وقولِه: {أو لم يروا أن اللهَ الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير} .

(1)

قوله: (أن) سقطت من الأصل، وهي مثبتة في (ع).

ص: 328

وتارةً يَستدِلُّ بالنشأةِ الأولى؛ نحوُ: {وضرب لنا مثلا

} الآياتِ، وقولِه: {قل كونوا حجارة

} الآيةَ.

وذَكَر إحياءَ المَوْتى في غيرِ موضعٍ، نحوُ قولِه:{ثم بعثناكم من بعدَ موتكم} ، وقال فيها أيضًا:{فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى} ، وقولِه:{ألم تر إلى الذينَ خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا، ثم أحياهم} ، وقولِه:{وانظر إلى العظام كيفَ ننشزها، ثم نكسوها لحما} ، وذلك أكثرُ من أن يُحصَرَ.

وأما أشراطُ الساعةِ التي ذكَرها اللهُ، مثلُ: الدجالِ، والدابَّةِ، وخروج الشمسِ من مغرِبِها، وغيرِ ذلك: هي من أشراطِ الساعةِ، وهي القيامةُ الكبرى التي لا يعلَمُها أحدٌ إلا اللهُ، فهذه الساعةُ لا يعلَمُها غيرُه سُبْحانَه، بخلافِ غيرِها من موتِ الإنسانِ، وانخرامِ القَرْنِ، فإنه يعرفُه من الخلقِ مَن شاءَ اللهُ، وجمهورُ الخلقِ يعلمونَ ذلك تقريبًا، وإن لم يعلموه تحديدًا، كما يعلمونَ أن غالبَ الخلقِ لا يَبْقَوْنَ مائةَ سنةٍ، ونحوَ ذلك مما جرَتْ به العادةُ، وقد يُعلَمُ ذلك بطريقٍ آخر مما لا يتَّسِعُ له هذا الموضعُ، فلا يقالُ في ذلك:{لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض} ؛ أي: خفِيَ عِلْمُها على أهلِ السمواتِ والأرضِ، ولا يقال:{إنما علمها عندَ اللهِ} ، وقد قال:{إن اللهَ عندَه علم الساعة} الآية.

ص: 329

‌والناسُ في المعادِ على أربعةِ أقوال:

فالذي عليه الرُّسُلُ وأتباعُهم الذينَ لا بدعةَ فيهم: الإقرارُ بمعادِ الأبدانِ والأرواحِ.

وبإزاء هؤلاءِ؛ الدهريَّةُ ونحوُهم؛ كذَّبوا بالمعادِ مطلقًا.

وبينَ هذينِ طائفتانِ:

طائفةٌ من أهلِ الكلامِ، أقَرُّوا بمعادِ الأبدانِ والقيامةِ الكبرى، وأنكروا أمْرَ الرُّوحِ، فلم يُقِرُّوا بأنه بعدَ الموتِ يكونُ في نعيمٍ أو عذابٍ.

ومنهم مَن أقرَّ به على البدنِ فقط دونَ الرُّوحِ، وزعَم أن الرُّوحَ هي الحياةُ التي للبدنِ، ومنهم مَن أقرَّ به على الروح فقط.

وطائفةٌ من أهل الفلسفةِ أقَرُّوا بمعادِ الأنفسِ فقط دونَ الأبدانِ، وكفروا بما جاءَتْ به الرُّسُلُ.

وقد دخل معَ أولئكَ من متكلِّمة الإثباتِ؛ كالقاضي أبي بكرِ بنِ الطيِّبِ وأمثالِه، ممن يزعمُ أن الرُّوحَ ليست جوهرًا قائماً بنفسه، لكنَّها عرَضٌ من أعراضِ البدنِ.

ومنهم مَن يجعل الرُّوحَ جزءًا من أجزاءِ البدنِ، وهو الريحُ الذي يدخُلُ البدنَ ويخرُجُ منه، والبخارُ الذي يخرج من القلبِ.

وهذه الأقوالُ باطلة فاسدةٌ.

والذي عليه السَّلَفُ أن الرُّوحَ التي تُقبَضُ بالموتِ ليست هي البدنَ، ولا جزءٌ منه، ولا صفةٌ من صفاتِه؛ بل هي جوهرٌ قائمٌ بنفْسِه، ودلائلُ

ص: 330

الكتابِ والسُّنَّةِ على ذلك كثيرةٌ جدًّا.

لكنَّ هؤلاءِ معَ غلَطِهم وضلالِهم أقربُ إلى الإسلامِ ممن قال: إن هذه الرُّوحَ ليسَتْ داخلَ العالمِ، ولا خارجَه، ولا تُوصَفُ بحركةٍ، ولا سكونٍ، ولا دخولٍ، ولا خروجٍ، ولا تَحَوُّلٍ، ولا انتقالٍ، وأن المعادَ ليس إلا لها، والبدنَ لا يُعادُ. فإن إنكارَ معادِ الأبدانِ كفرٌ بَيِّنٌ، وقد عُلِم من دينِ الإسلامِ فسادُه، وأن المنكرين له مُراغِمونَ للرُّسُلِ مراغمةً بيِّنةً، كما قد بُسِطَ في موضِعِه، واللهُ أعلمُ.

‌فَصْلٌ

(1)

‌وِلْدانُ أهلِ الجنةِ:

خلقٌ من خلقِ الجنةِ.

وأبناءُ الدنيا إذا دخَلوا الجنةَ: يكمُلُ خَلْقُهم على صورةِ آدمَ، أبناءَ ثلاثةٍ وثلاثينَ، طولَ ستينَ ذراعًا

(2)

.

ورُوِي: أن العرضَ سبعة

(3)

أذرُعٍ

(4)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 4/ 311، الفتاوى الكبرى 5/ 82.

(2)

رواه البخاري (6227)، ومسلم (2841) من حديث أبي هريرة دون قوله:(ثلاثة وثلاثين)، فرواها أحمد (10913).

(3)

في الأصل: (ستة)، والمثبت من (ز) ومجموع الفتاوى 4/ 311، وهو الموافق لما في مسند أحمد.

(4)

رواه أحمد (10913)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 331

وأرواحُ المؤمنينَ تُنعَّمُ في الجنةِ، وأرواحُ الكفارِ تُعذَّبُ في النارِ.

‌وولدُ الزنا كغيرِه

يُجازى بعملِه، لا بنسَبِه، وإنما يُذَمُّ ولدُ الزنا لمَظِنَّةِ أن يعملَ خبيثًا؛ كما هو الغالبُ عليه.

‌وأكرمُ الخلقِ

أتقاهم.

‌وأولادُ المشركينَ

فيهم عدةُ أقوالٍ؛ وأصَحُّها جوابُ رسولِ اللهِ كما في «الصحيحَينِ» عن أبي هُرَيرةَ، عن النبيِّ أنه قال: «ما مِن مولودٍ إلا يُولَدُ على الفِطْرةِ

» الحديثَ، إلى قولِه: قيلَ: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ مَن يموتُ من أطفالِ المشركينَ؟ فقال:«اللهُ أعلمُ بما كانوا عاملينَ»

(1)

؛ يعني: أنَّ اللهَ يعلمُ ما كانوا يعملونَ لو بلغوا.

وكذلك قال لعائشة لما قالت: «عصفورٌ من عصافيرِ أهلِ الجنةِ» ، قال: «أَوَغَير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة خلقاً

» الحديث

(2)

، وثبتَ أن الغلامَ الذي قتَلَه الخضرُ طُبِعَ كافراً

(3)

، وكان أبواه مؤمنين، فلا يقطعُ لأحدٍ بعينِه بشيءٍ.

وقد رُوِي: أنهم في القيامةِ يُبعَثُ إليهم رسولُ فيظهَرُ ما علِمه فيهم من الطاعةِ والمعصيةِ، وقد رُوِي: أنهم يُحبَسونَ في عَرَصاتِ القيامةِ، وقد دلَّتِ الأحاديثُ الصحيحةُ على أن بعضَهم في الجنةِ، وبعضَهم في النارِ

(4)

.

(1)

رواه البخاري (6599)، ومسلم (2658)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم (2662)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

رواه مسلم (2661)، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه مرفوعًا:«إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا» .

(4)

روى أحمد (16301)، من حديث الأسود بن سريع رضي الله عنه مرفوعًا:«أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق فيقول: رب، لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئًا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب، ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمد بيده، لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا» .

ورواه أحمد (16302)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي آخره:«فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها يسحب إليها» .

وبنحوه حديث أنس عند أبي يعلى (4224)، والبزار (7594)، وحديث أبي سعيد الخدري عند البزار كما في مجمع الزوائد للهيثمي (11938)، وحديث معاذ بن جبل عند الطبراني في الكبير (158).

ص: 332

‌وليس في الجنةِ شمسٌ

، ولا قمرٌ، ولا ليلٌ، ولا نهارٌ، ولكن تُعرَفُ البُكْرةُ والعَشِيَّةُ بأنوارٍ تظهَرُ من قِبَلِ العرشِ.

‌قَاعِدَةٌ

‌علمُ اللهِ السابقُ

يُحيطُ بالأشياءِ على ما هي عليه، فلا مَحْوَ فيه، ولا تغييرَ، ولا إثباتَ، ولا نقصَ.

وأما اللوحُ المحفوظُ الذي لا يطَّلِعُ عليه غيرُه؛ فهل فيه مَحْوٌ وإثباتٌ؟ على قولَينِ.

وأما الصُّحُفُ التي بيد الملائكةِ كما في «الصحيحَينِ» من قولِه صلى الله عليه وسلم: «فيُؤمَرُ بكَتْبِ رِزْقِه، وعمَلِه، وأجَلِه، وشقيٌّ وسعيدٌ»

(1)

، فهذا يحصل

(1)

رواه البخاري (3208)، ومسلم (2643)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 333

فيه المحوُ والإثباتُ، فإنه قد يُقدَّرُ له مدةٌ، ثم يعملُ شيئًا يزيدُ به على ذلك مما عَلِمَه اللهُ أن يفعَلَه؛ مثلُ: أن يصِلَ رحِمَه، ففي «الصحيحَينِ»:«مَن سرَّه أن يُبسَطَ له في رزقِه، ويُنسَأَ له في عمره؛ فلْيصِلْ رحِمَه»

(1)

، أو غيرِ ذلك من الأسبابِ، كما روَى التِّرْمِذيُّ: «أن اللهَ أرَى آدمَ ابنَه

(2)

داودَ، فأعجَبَه، فسألَ عن عمرِه؟ فقال: أربعينَ سنةً، فوهَبَه من عمرِه ستينَ سنةً، وكتب عليه كتابًا، ثم بعدَ ذلك أنكَرَ ونسِيَ، فجحَد فجحَدَتْ ذُرِّيَّتُه»

(3)

.

فقد عَلِم الله أنه قدَّر له أربعينَ بلا سببٍ، وعَلِم أنه يحصُلُ له ستونَ بسببِ هِبَةِ أبيه له.

وقولُه: {ولا يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} ؛ فمن الناس من فسَّر التعمير والنقص بذلك، ومنهم من فسَّره: بأنَّه إبقاؤه عمراً طويلاً، ونقْصُ شخصٍ عما عُمِّر هذا، فيكون ذلك بالنسبة إلى شخصين، كقوله:{أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} ، فيكون المراد طول الأعمار وقصرها

(4)

.

(1)

رواه البخاري (2067)، ومسلم (2557)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

في الأصل: (نبيه)، والمثبت من (ك) وهو الموافق لما في المصادر الحديثية.

(3)

رواه الترمذي (3076)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وروى نحوه أحمد (2713)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(4)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (علم الله السابق

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 14/ 488.

ص: 334

‌وقولُه: {ومن أعرض عن ذكري

} الآيةَ: يشملُ الكافرَ، فله منها أحقُّ الوعيدِ، ويشملُ المؤمنَ المُرتكِبَ الكبيرةِ، فله بقدرِ إعراضِه.

‌ومذهبُ أهلِ السُّنَّةِ:

أن الشخصَ الواحدَ تجتمعُ فيه الحسناتُ والسيئاتُ، فيستحقُّ الثوابَ والعقابَ جميعًا.

‌وسماعُ الميتِ لقَرْعِ نِعالِهم

، ولسلامِ المسلِّم عليه

(1)

، ونحوِ ذلك مما ثبَتَ أن جنسَ الأمواتِ يسمعونَ: ليس ذلك مخصوصًا بقومٍ معيَّنِينَ؛ بل هو مطلَقٌ.

وقولُه: {فإنك لا تسمع الموتى} ؛ المرادُ: السماعُ المعتادُ الذي يتضمَّنُ القَبولَ والانتفاعَ، كما نفى في حقِّ الكفارِ السماعَ النافعَ في قولِه:{ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} ، وقولِه:{لو كنا نسمع أو نعقل} .

فإذا كان قد نفى عن الكافرِ السمعَ مطلقًا، وعُلِم أنَّ ما نَفى عنه سمعُ القلبِ المتضمِّنُ للفهمِ والقَبولِ، لا مجرَّدُ سمعِ الكلامِ، فكذلك المشبَّهُ به؛ وهو الميتُ.

والذي قاله فيه: «إن الميتَ إذا حُمِل قال: قدِّموني، أو يقولُ: يا وَيْلَها

»

(2)

ليس هو الكلامَ المعتادَ بتحرك اللسانِ؛ فإنه لو كان كذلك

(1)

قوله: (المسلم عليه) سقط من (ع).

(2)

رواه البخاري (1314)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 335

لسمِعَه كلُّ أحدٍ، ولكن هو أمرٌ آخر باطن، ليس هو مجرَّدَ الرُّوحِ منفصلًا عن البدنِ، فالنائمُ قد يسمعُ ويتكلمُ، وذلك برُوحِه وبدنِه الباطنِ؛ بحيثُ يظهرُ آثارها في بدنِه حتى يقومُ، ويصيحُ، ويمشي، ويتنعمُ بدنُه ويتعذَّبُ، ومعَ ذلك فعينُه مُغمَضة، وغالبُهم أن لسانَه لا يتحركُ؛ لكن إذا قوِيَ أمرُ الباطنِ قد ينطقُ اللسانُ الظاهرُ حتى يصوتَ به، ولو نُودِي من حيثُ الظاهرُ لا يسمعُ.

فكما أن النائمَ حالُه لا يشبهُ حالَ اليقظانِ، ولا أحوالُه مختصةٌ بالرُّوحِ، فالميتُ أبلغُ من ذلك، فإن معرفتَه بالأمورِ أكملُ من النائمِ.

وإدراكُ الإنسانِ بعدَ موتِه لأمورِ الآخرةِ أكمَلُ من أهلِ الدنيا، وإن كان قد تَعْرِضُ للميتِ حالٌ لا تدركُ، كما قد يَعرضُ ذلك للنائمِ، وقد رُوِي:«من مات ولم يُوصِ؛ لا يستطيعُ الكلامَ»

(1)

.

‌وأرواحُ المؤمنينَ - وإن كانت بالجنةِ

- فلها اتصالٌ بالبدنِ إذا شاءَ اللهُ تعالى من غيرِ زمنٍ طويلٍ، كما تنزلُ الملائكةُ في طَرْفةِ عينٍ، قال مالكٌ: بلغني أن الرُّوحَ مُرسَلةٌ، تذهبُ حيثُ شاءَتْ

(2)

، ولهذا رُوِي:

(1)

روي عن قيس بن قبيصة مرفوعاً بلفظ: «من لم يوص؛ لم يؤذن له في الكلام مع الموتى» . قيل: يا رسول الله! وهل يتكلمون؟ قال: «نعم، ويتزاورون» ، ذكره الحافظ في "الإصابة"(5/ 375) من رواية أبي موسى المديني من طريق عبد الله الألهاني عنه، وقال:(سنده ضعيف) وينظر: السلسلة الضعيفة للألباني 10/ 188.

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في كتابه ذكر الموت، نقله عنه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 4/ 295.

ص: 336

أنها على أفنيةِ القبورِ

(1)

، وأنها في الجنةِ

(2)

، والجميعُ حقٌّ.

وفي الصِّحاحِ: أنها تُرَدُّ إليه بعدَ الموتِ ويُسأَلُ

(3)

، وتُرَدُّ فتكونُ متصلةً بالبدنِ بلا رَيْبٍ، واللهُ أعلمُ.

‌وقد استفاضَتِ الأخبارُ

بمعرفةِ الميتِ بحالِ أهلِه وأصحابِه في الدنيا، وأن ذلك يُعرَضُ عليه، وأنه يرى ويَدري بما يُفعَلُ عندَه، ويُسَرُّ بما كان حسنًا، ويتألَّمُ بما كان قبيحًا، ورُوِي أن عائشةَ بعدَ أن دُفِن عمرُ كانت تستترُ، وتقولُ: كان أبي وزوجي، أما عمرُ فأجنبيٌّ؛ تعني: أنه يراها

(4)

.

(1)

روي ذلك عن مجاهد، علقه ابن عبد البر في الاستذكار 3/ 89، وذكره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 4/ 295، 24/ 365، قال السيوطي في شرحه على صحيح مسلم 2/ 491:(ولم أقف على سنده).

واستدل ابن عبد البر على ذلك بما رواه البخاري (1379)، ومسلم (2866)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:«إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة» قال في الاستذكار 3/ 89: (وهو أصح ما ذهب إليه في ذلك).

(2)

روى أحمد (15778)، والنسائي (2073)، وابن ماجه (4271)، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا:«إنما نسمة المؤمن طائر في شجر الجنة حتى يبعثه الله عز وجل إلى جسده يوم القيامة» .

(3)

يشير إلى حديث البراء بن عازب الطويل، رواه أحمد (18534)، وأبو داود (4753)، وفيه:«وتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان: له من ربك؟» .

(4)

رواه أحمد (25660) بنحوه.

ص: 337

ورُوِي: أن الموتى يسألونَ الميتَ عن حالِ أهلهم، فيُعرِّفونهم أحوالَهم، وأنه وُلِد لفلانٍ، وتزوجَتْ فلانةُ، ومات فلانٌ فما جاء؟ فيقولونَ: راح إلى أمِّه الهاويةِ

(1)

.

‌مَسْأَلَةٌ

‌بناءُ المساجدِ على القُبورِ:

محرَّمٌ باتِّفاقِ الأئمَّةِ.

ولو بُنِي عليهِ غير مسجدٍ؛ نُهِي عنه أيضًا باتِّفاقِ العلماءِ، وإنما تَنازَعوا في تَطْيينِه؛ فرخَّصَ فيه أحمدُ والشافعيُّ، وكرِهَه أبو حنيفةَ؛ كالتَّجْصِيصِ.

والبناءُ على القبورِ من المساجدِ والتُّرَبِ؛ محدث في الإسلام من قريب.

وكذلك ترتيبُ قراءةٍ على القُبورِ؛ مُحدَثٌ.

‌وقد تنازَعَ العلماءُ فيمن أهدَى إلى الميتِ

عبادةً بدنيةً؛ كالصَّلاةِ، والصيامِ، والقراءةِ:

(1)

رواه النسائي في الكبرى (1972)، وابن حبان (3014)، والحاكم (1302)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه الطبراني في الكبير (3889)، من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.

ورواه ابن أبي شيبة (35006)، من قول عبيد بن عمير رحمه الله، ورواه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة (2166)، من قول الحسن البصري رحمه الله.

ص: 338

فمذهَبُ أحمدَ وأبي حنيفةَ وغيرِهما: وصولُ ذلك

(1)

.

والمشهورُ من مذهَبِ مالكٍ والشافعيِّ: أن ذلك لا يصِلُ.

واتفقوا على وصولِ العباداتِ الماليةِ؛ كالعِتْقِ، والوَقْفِ على مَن يتعلمُ القرآنَ ويُعلِّمُه، أو الحديثَ، أو العلمَ، ونحوَه من الأعمالِ المأمورِ بها في الشريعةِ، فهذا أفضلُ من الوقفِ على مَن يقرأُ ويُهدِي ثوابَه لأيٍّ من كان؛ من نبيٍّ أو غيرِه.

‌ولم يقُلْ أحدٌ: إن القراءةَ عندَ القبرِ

أفضلُ من غيرِه.

‌وكلُّ مَن وقَف على شيءٍ

من أعمالِ البِرِّ؛ كان له أجرُه، وللنبيِّ صلى الله عليه وسلم عليه وسلم أجرُ ذلك كلِّه؛ لأنه هو الذي أحيا الدينَ، وسنَّ للناسِ، وعلَّمَهم جميعَ الخيراتِ، فله أجرُ من يعملُ إلى يومِ القيامةِ، من غيرِ أن ينقُصَ من أُجورِهم شيءٌ، فإنه الداعي إلى كلِّ هدًى صلى الله عليه وسلم.

‌مَسْأَلَةٌ

(2)

‌الدينُ الذي بعَث اللهُ به رُسُلَه

، وأنزلَ به كُتُبَه: هو عبادةُ اللهِ وحدَه لا شريكَ له، فإذا كان مطلوبُ العبدِ من الأمورِ التي لا يقدرُ عليها إلا

(1)

قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 262: (وهو الصواب لأدلة كثيرة)، وينظر: مجموع الفتاوى 24/ 306 وما بعدها.

وقال في مجموع الفتاوى 24/ 323: (ومع هذا فلم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعًا وصاموا وحجوا أو قرؤوا القرآن يهدون ثواب ذلك لموتاهم المسلمين ولا لخصوصهم).

(2)

ينظر أصل هذه المسألة في مجموع الفتاوى 27/ 64.

ص: 339

اللهُ؛ مثلُ: شِفاءِ مريضِه، أو وفاءِ دَينِه من غيرِ جهةٍ معينةٍ، أو عافيتِه وما به من بلاءِ الدنيا والآخرةِ، وانتصارِه على عدُوِّه، أو هدايةِ قلبِه، أو غُفْرانِ ذنبِه، أو دخولِه الجنةَ ونجاته من النارِ، أو يتعلمَ العلمَ أو القرآنَ، أو أن يُصلِحَ قلبَه، ويُحسِّنَ خُلُقَه، وأمثالُ ذلك: فهذا لا يجوزُ أن يُطلَبَ إلا من اللهِ.

ولا يجوزُ أن يقالَ لمَلَكٍ، ولا نبيٍّ، ولا شيخٍ ميتٍ، أو حيٍّ: اغفِرْ لي ذنبي، انصرني على عدُوِّي، فمن سأل مخلوقًا شيئًا من ذلك فهو مشركٌ به، يجبُ أن يُسْتتابَ، فإن تاب وإلا قُتِل، وهذا مثلُ دينِ النصارى.

وكذا قولُه: يا سيدي أنا في حسبِكَ، أو في جيرتِكَ، أو فلانٌ يظلِمُني، يا شيخي فلانٌ انصرني عليه.

وأما ما يقدرُ عليه العبدُ ويجوزُ أن يُطلَبَ منه في بعضِ الأحوالِ دونَ بعضٍ، فإن مسألةَ المخلوقِ قد تكونُ جائزةً، وقد تكونُ منهيًّا عنها، ومن ذلك قولُه: يا فلانُ ادعُ لي، اسألِ اللهَ لي كذا، فطلبُ الدعاءِ ممن هو فوقَه ودونَه مشروعٌ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«مَن سأل اللهَ لي الوسيلةَ؛ حلَّتْ عليه شَفاعتي»

(1)

؛ وذلك لأجلِ مَنفعتِنا.

وفرقٌ بينَ من يطلبُ من غيرِه الدعاءَ لمنفعة المطلوب منه، ومن سأل غيرَه لحاجتِه إليه فقط.

(1)

رواه مسلم (384)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

ص: 340

وفي الصحيحِ أن عمرَ قال: «اللهُمَّ، إنا كنَّا إذا أجدَبْنا نتوسَّلُ إليك بنبِيِّكَ فتَسْقينا، وإنا نتوسَّلُ إليك بعَمِّ نبِيِّنا فاسقِنا»

(1)

.

‌وأما زيارةُ القبورِ المشروعةُ:

فهو أن يُسلِّمَ على الميتِ، ويدعوَ له فقط؛ كالصَّلاةِ على جَنازتِه.

فليس في الزيارةِ الشرعية حاجةٌ للحيِّ إلى الميتِ، ولا توسُّلُه له ولا به؛ بل فيها منفعةُ الحيِّ للميتِ؛ كالصَّلاةِ عليه، واللهُ يرحمُ هذا، ويُثيبُه على عمَلِه، ويرحمُ هذا بدعاء هذا؛ كما عَلَّم الصحابةَ الزيارةَ، وكما كان هو يزورُ صلى الله عليه وسلم.

‌والمقصودُ: أن مَن يأتي إلى قبرٍ

، أو رجلٍ صالحٍ، ويَسْتنجِدُه، فهذا على ثلاثِ درجاتٍ:

أحدها: أن يسألَ حاجتَه؛ مثلَ أن يقولَ: اغفِرْ لي، ونحوِه؛ فهذا شِرْكٌ كما تقدَّمَ.

الثاني: أن يطلبَ منه أن يدعوَ له؛ لأنه أقربُ إلى الإجابةِ، فهذا مشروعٌ في الحيِّ، وأما في الميتُ فلم يُشرَعْ لنا أن نقولَ له: ادْعُ لنا، ولا: سلْ لنا ربَّكَ، لم يفعلْ ذلك أحدٌ من الصحابةِ والتابعِينَ، ولا أمَر به أحدٌ من الأئمَّةِ، ولا ورَد فيه حديثٌ؛ بل ثبت في الصحيحِ: أن عمرَ استَسْقى بالعباسِ، ولم يأتِ قبرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ بل كانوا إذا جاؤوا قبرَه

(1)

رواه البخاري (1010)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 341

سلَّموا عليه

(1)

، فإذا دعَوُا الله استَقْبلوا القِبلةَ، ودَعَوُا اللهَ وحدَه لا شريكَ له، كما يَدْعونَه في سائرِ البقاعِ.

وقد نهى عن إتيانِ قبرِه، واتخاذِه مسجدًا في أحاديثَ كثيرةٍ

(2)

.

ولهذا قال العلماءُ: إنه لا يجوزُ بناءُ المساجدِ على القُبورِ.

ولا يجوزُ أن يُنذَرَ للقبرِ، ولا للمجاورينَ عندَه شيءٌ من الأشياءِ، لا دراهمٌ، ولا زيتٌ، ولا شمعٌ، ولا حيوانٌ، ولا غيرَ ذلك.

ولم يقُلْ أحدٌ من أئمةِ المسلمِينَ: إن الصَّلاة عندَ القبورِ، أو في مشاهدِ القبور مستحبةٌ، أو فيها فضيلةٌ، ولا أن الدعاءَ والصَّلاةَ أفضلُ عندَ القبورِ من غيرِها، بل اتَّفَقوا كلُّهم أن الصَّلاةَ في المساجدِ والبيوتِ أفضلُ من الصَّلاةِ عندَ قبورِ الأنبياءِ والصالحينَ، وقد شرَع اللهُ الصَّلاةَ

(1)

روى مالك (68)، عن عبد الله بن دينار، قال:«رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أبي بكر وعمر» ، وفي رواية محمد بن الحسن الشيباني للموطأ (948) بلفظ:«كان إذا أراد سفرًا، أو قدم من سفر جاء قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى عليه، ودعا ثم انصرف» .

(2)

من ذلك: ما رواه البخاري (435)، ومسلم (531)، من حديث عائشة، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك:«لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا.

ومنه ما رواه أحمد (8804)، وأبو داود (2042)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:«لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» .

ص: 342

في المساجدِ دونَ المشاهدِ.

ولهذا اتَّفقَ المسلمونَ على أن مَن زار قبرَ النبيِّ أو غيرِه من أهلِ البيتِ وغيرِهم؛ أنه لا يتمسَّحُ به، ولا يُقبِّلُ، بل ليس شيءٌ يُشرَعُ تقبيلُه إلا الحجرَ الأسودَ، وقد ثبَتَ أن عمرَ قال فيه:«إنكَ حجرٌ، لا تنفعُ ولا تضرُّ»

(1)

.

ولكن تنازَعَ الفقهاءُ في وضعِ اليدِ على منبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لما كان موجودًا؛ فكرِهَه مالكٌ وغيرُه.

وأما التمسُّح

(2)

بقبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتقبيلُه فكلُّهم نهَى عنه، وذلك أنهم علِموا ما قصَدَه من حَسْمِ مادةِ الشركِ، وتحقيقِ التوحيدِ للهِ وحدَه.

وهذا مما يظهرُ به الفرقُ بينَ سؤالِ النبيِّ والصالح في حياتِه وبعدَ موتِه، وذلك أن أحدًا في حياتِه لا يَعبُدُه؛ لأنه لا يمكِّنُ أحدًا من ذلك، كما قال المسيحُ:{ما قلت لهم إلا ما أمرتني به .. } الآية.

وقال نبِيُّنا: «لا تُطْروني كما أَطْرَتِ النصارى المسيحَ، بل قولوا عبدُ اللهِ»

(3)

، وكذا لما سجَد له معاذٌ؛ نهاه وقال:«إنه لا يصلُحُ السجودُ إلا للهِ»

(4)

.

(1)

رواه البخاري (1597)، ومسلم (1270).

(2)

في (الأصل): التمسك. والمثبت من (ك).

(3)

رواه البخاري (3445)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(4)

رواه أحمد (21986)، من حديث معاذ رضي الله عنه، ورواه ابن ماجه (1853)، من حديث ابن أبي أوفى رضي الله عنه.

ص: 343

وما كان أحدٌ أحبَّ إليهم من رسولِ اللهِ، وما كانوا يقومونَ له، من كراهية ما يرونه منه لذلك

(1)

.

فهذا شأنُ أنبياءِ اللهِ تعالى وأوليائِه، وإنما يُقِرُّ على الغُلُوِّ فيه وتعظيمِه بغير حق من يريدُ العلوَّ في الأرضِ والفسادَ؛ كفرعونَ ومشايخِ الضلالةِ الذينَ غرَضُهم العلوُّ

(2)

في الأرضِ، والفتنةُ بالأنبياءِ والصالحينَ، واتخاذُهم أربابًا، والإشراكُ بهم في غَيْبتِهم.

فظهر الفرقُ بينَ سؤالِ النبيِّ والصالحِ في حياتِه بحضورِه، وبينَ سؤالِه في مماتِه وغَيْبتِه.

ومن أعظمِ الشركِ أن يستغيثَ الإنسانُ برجلٍ ميتٍ عندَ المصائبِ، يا سيدي فلانُ؛ كأنه يطلبُ منه إزالةَ ضرَرِه، أو جلْبَ نفْعِه، كما هو حالُ النصارى في المسيحِ وأمِّه وأحبارِهم ورُهْبانِهم.

فإذا حصَل هذا الشركُ تنزَّلَتْ عليهم الشياطينُ وأغْوَتْهم، وربما خاطَبَتْهم كما فعلت في أصحابِ الأصنامِ؛ لا سيَّما عندَ سماعِ المُكاءِ والتصديةِ، فإن الشياطينَ تنزل عليهم، وقد يصيبُ أحدَهم من الإرغاءِ، والإزبادِ، والصياحِ المُنكَرِ، وتكلُّمِه ما لا يعقِلُه هو ولا الحاضرونَ، وأمثالِ ذلك.

(1)

رواه أحمد (12345)، والترمذي (2754)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

في الأصل: (علواً)، والمثبت من (ك) ومجموع الفتاوى.

ص: 344

وأما القسمُ الثالثُ: وهو أن يقولَ: اللهُمَّ، بجاه فلانٍ عبدَكَ، أو ببركةِ فلانٍ، أو بحرمةِ فلانٍ عندَكَ؛ افعَلْ بي كذا وكذا، فهذا يفعَلُه كثيرٌ من الناسِ؛ لكن لم يُنقَلْ عن أحدٍ من الصحابةِ والتابعِينَ وسلَفِ الأمةِ: أنهم كانوا يَدْعونَ بمثلِ هذا الدعاءِ.

قال شيخُ الإسلامِ: ولم يبلُغْني عن أحدٍ من العُلَماءِ في ذلك ما أحكيه؛ إلا ما رأيتُه في فتاوى محمد بنِ عبدِ السلامِ؛ فإنه أفتى أنه لا يجوزُ لأحدٍ أن يفعلَ هذا إلا للنبيَّ

(1)

صلى الله عليه وسلم إن صحَّ الحديثُ في النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

ومعنى ذلك: أنه رُوِي عن النبيِّ أنه علَّم بعضَ أصحابِه أن يدعوَ فيقولَ: «اللهُمَّ، إني أسألُكَ وأتوسَّلُ إليك بنبِيِّكَ نبيِّ الرحمةِ، يا محمدُ، يا رسولَ اللهِ، إني أتوسَّلُ بك إلى ربي في حاجتي؛ ليقضِيَها لي، اللهُمَّ فشفِّعْه فيَّ»

(2)

.

فهذا الحديثُ قد استَدلَّ به طائفةٌ على جواز التوسُّلِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم في حياتِه ومماتِه، وليس فيه إلا أنه دعا واستغاثه به

(3)

؛ وفيه سؤاله بجاه

(1)

في الأصل: (النبي)، والمثبت من (ك) و (ع) و (ز).

(2)

رواه أحمد (17240)، والنسائي في الكبرى (10420)، والترمذي (3578)، وابن ماجه (1385)، من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه.

(3)

أي: استغاث الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفي (ك): وليس فيه أنه دعاه واستغاث به. والذي في مجموع الفتاوى 27/ 83: (قالوا: وليس في التوسل دعاء المخلوقين ولا استغاثة بالمخلوق، وإنما هو دعاء واستغاثة بالله).

ص: 345

النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما في قولِه:«اللهُمَّ، إني أسألُكَ بحقِّ السائلينَ، وبحقِّ مَمْشاي هذا»

(1)

، فالله قد جعَل على نفْسِه حقًّا، فقال:{وكان حقا علينا نصر المؤمنين} .

وقالت طائفةٌ: ليس في هذا الحديثِ جوازُ التوسُّلِ به في مماته

(2)

، ولا مَغِيبِه؛ بل إنما فيه التوسُّلُ به في حياتِه بحضورِه؛ كما استَسْقى عمرُ بالعباسِ لما مات صلى الله عليه وسلم وقال:«إنا كنا نتوسَّلُ إليك بنبِيِّنا»

(3)

، وذلك أن التوسُّلَ به في حياتِه: هو أنهم كانوا يسألونَه أن يدعوَ اللهَ، فيدعوَ لهم، ويدعونَ معه، فيتوسَّلونَ بشفاعتِه ودعائِه، كما سألوه أن يستَسْقي لهم.

وكذا معاويةُ لما استَسْقى، قال:«اللهُمَّ إنا نتشفَّعُ إليك بخِيارِنا يزيدَ بنِ الأسودِ الجُرَشيِّ، ارفَعْ يدَكَ إلى اللهِ» ، فرفَع يدَيْه ودعا، ودعَوْا، فسُقوا

(4)

.

وكذلك قال العلماءُ: يُستحَبُّ أن يُستَسْقى بأهلِ الصلاحِ والدينِ، وإذا كانوا من أهلِ بيتِ رسولِ الله كان أحسَنَ.

(1)

رواه أحمد (11156)، وابن ماجه (778)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

في (الأصل): حياته. والمثبت من (ك)، و (ع)، ومجموع الفتاوى، وهو الموافق للسياق.

(3)

تقدم تخريجه قريبًا ص

(4)

رواه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه (ص 602)، ويعقوب الفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 380)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (65/ 111)، واللالكائي في كرامات الأولياء من شرح أصول اعتقاد أهل السنة (9/ 215).

ص: 346

ولم يذكُرْ أحدٌ من العُلَماءِ أنه يُشرَعُ التوسُّلُ بالنبيِّ والرجلِ الصالحِ بعدَ موتِه، ولا في مَغِيبِه، ولا استَحبُّوا ذلك في الاستسقاءِ، ولا في الاستنصارِ، ولا غيرِ ذلك من الأدعيةِ.

‌والدعاءُ مُخُّ العبادةِ

، والعبادةُ مَبْناها على السُّنَّةِ والاتباعِ، لا على الهوىِ والابتداعِ، وإنما يُعبَدُ اللهُ بما شرَع؛ لا يعبد بالأهواء والبدعِ.

‌وأما وضعُ الرأسِ

عندَ الكبراءِ من الشيوخِ أو غيرِهم، أو تَقْبيلُ الأرضِ، ونحوُ ذلك؛ فهو مما لا نزاعَ بينَ الأئمَّةِ في النَّهْيِ عنه؛ بل مجرَّدُ الانحناءِ بالظهرِ لغيرِ اللهِ مَنْهيٌّ عنه.

‌وقولُ القائلِ:

انقضَتْ حاجتي ببركةِ فلانٍ؛ فمُنكَرٌ من القولِ وزورٌ؛ لأن قائلًا قال: ما شاءَ اللهُ وشئتَ، فقال:«أجعَلْتَني للهِ ندًّا؛ بل ما شاءَ الله وحدَه»

(1)

.

‌وقولُ القائلِ:

ببركةِ الشيخِ فلان؛ قد يعني به معنًى صحيحًا؛ مثلُ: بركةِ دعائِه، أو بركةِ ما أمَرَه به من الخيرِ، أو بركةِ اتباعِه له على الحقِّ، وطاعتِه له من طاعةِ اللهِ، أو بركةِ معاونتِه على الحقِّ، ومُوالاتِه في الدينِ، ونحوِ ذلك.

وقد يعني به معنًى باطلًا؛ مثلُ: دعائِه الميتَ والغائبَ، واستقلالِ الشيخِ بذلك تأثيرًا، وفعلِه لما لا يقدرُ عليه، أو متابعتِه، أو مطاوعتِه

(1)

رواه أحمد (1839)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه ابن ماجه بنحوه (2117).

ص: 347

على بعض البِدَعِ أو المنكراتِ، ونحوِ هذه المعاني الباطلةِ.

والذي لا رَيْبَ فيه: أن العملَ بطاعةِ اللهِ ودعاءَ المؤمنينَ بعضِهم لبعضٍ ونحوَ ذلك؛ هو نافعٌ في الدنيا والآخرةِ، وذلك بفضلِ اللهِ ورحمتِه.

‌وأما قولُ القائلِ:

إن الغوثَ هو القطبُ الجامعُ في الوجودِ، وتفسيرُ ذلك بأنه مدَدُ الخلائقِ في رزقِهم ونصرهم؛ حتى إنه مدَدُ الملائكةِ، والحيتانِ في البحرِ؛ فهذا كفرٌ بالاتفاقِ.

وكذلك إن عنى بالغَوْثِ ما يقولُه بعضُهم: إن في الأرضِ ثلاثمائة وبضعةَ عشَرَ رجلًا، النُّجَباء منهم سبعونَ نقباً، منهم أربعونَ أبدال، منهم سبعةُ أقطابٍ، منهم أربعةُ أوتادٍ، منهم واحدٌ غَوْثٌ، وأنه مقيمٌ بمكةَ، وأن أهلَ الأرضِ إذا نابَهم نائبةٌ في رزقِهم ونصرِهم؛ فزِعوا إلى الثلاثمائة وبضعةَ عشَرَ رجلًا، وأولئكَ يفزعونَ إلى السبعينَ، والسبعونُ إلى الأربعينَ، والأربعونَ إلى السبعةِ، والسبعةُ إلى الأربعةِ، والأربعةُ إلى الواحدِ، وبعضُهم يزيدُ في ذلك وينقصُ في الأعدادِ والأسماءِ والمراتبِ، فإن لهم فيها مقالاتٍ؛ حتى يقولَ بعضُهم: إنه ينزلُ من السماءِ ورقةٌ خضراء باسم غوث الوقت واسمه: «خضر» - على قول مَن يقولُ منهم: إن الخَضِرَ رتبةٌ، وإن لكلِّ زمانٍ خَضِرًا، وإن لهم في ذلك قولَينِ -؛ فهذا كلُّه باطلٌ لا أصلَ له في كتابِ اللهِ، ولا سنةِ رسولِ اللهِ، ولا قالَه أحدٌ من سلَفِ الأمةِ وأئمَّتِها، ولا من الشيوخِ الكبارِ المتقدِّمينَ الذينَ يصلُحُونَ للاقتداءِ بهم.

ص: 348

ومعلومٌ أن النبيَّ وأبا بكرٍ وعمرَ وعثمان وعليًّا كانوا خيرَ الخلائقِ في زمانِهم، وكانوا بالمدينةِ، لم يكونوا بمكةَ.

ومثلُ ذلك: ما يقولُه الفلاسفةُ من العقولِ العشَرةِ التي قد يزعمونَ أنها الملائكةُ، هو مثلُ ما يقولُه النصارى في المسيحِ، كلُّ ذلك كفرٌ باتِّفاقِ الأئمَّةِ.

وقد روَى بعضُهم حديثًا في «هلال» غلامِ المغيرةِ بنِ شُعْبةَ، وأنه أحدُ السبعةِ، وهو كذِبٌ باتِّفاقِ أهلِ المعرفةِ، وقد يروي بعضَ هذه الأحاديثِ أبو نُعَيمٍ والشيخُ أبو

(1)

عبدِ الرحمنِ السُّلَميُّ، فلا يُغتَرَّ بشيءٍ منها

(2)

.

وكذلك يقالُ: ثلاثةٌ ما لها أصلٌ: بابُ النصارى، وغَوْثُ جهال المتصوفةِ، ومُنتظَرُ الرافضةِ.

‌والصوابُ:

أن الخَضِرَ مات، فإنه لو كان موجودًا في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لآمنَ به، وجاهدَ معه.

ثم ليس للمسلمِينَ به حاجةٌ؛ فإنهم أخذوا دينَهم عن المعصومِ النبيِّ

(1)

قوله: (أبو) سقط من الأصل، وهو مثبت في (ع)، وأصل الفتوى في مجموع الفتاوى، وهو المعروف.

(2)

لعله يشير إلى ما رواه أبو نعيم في الحلية (2/ 24)، ونقله عن أبي عبد الرحمن السلمي في كتابه أهل الصُّفَّة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليدخلنَّ من هذا الباب رجل ينظر الله إليه» ، قال: فدخل - يعني هلالًا -، فقال له:«صل عليَّ يا هلال» فقال: ما أحبك على الله وما أكرمك عليه.

ص: 349

الأُمِّيِّ الذي علَّمَهم الكتابَ والحكمةَ، كيفَ يظهرُ للمشركينَ، ولا يظهرُ للسابقينَ الموحِّدِينَ؟! كيفَ يظهرُ لقومٍ كفارٍ يرفعُ سفينتَهم، ولا يظهرُ لخيرِ أمةٍ أُخرِجتْ للناسِ؟! وقد قال لهم نبِيُّهم:«لو كان موسى حيًّا لما وسِعَه إلا اتِّباعي»

(1)

، «ولو اتَّبَعْتُموه وترَكْتُموني لو كان حيًّا لضَلَلْتُم»

(2)

، وإذا أُنزلَ عيسى من السماءِ إنما يحكُمُ بمِلَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

وعامةُ ما يُحكَى عن الخَضِرِ: إما كذبٌ، وإما مَبْنيٌّ على ظنٍّ؛ مثلُ من رأى شخصًا، فقال: إنه الخَضِرُ، وهذا مثلُ قولِ الرافضةِ في المُنتظَرِ.

ويرُوَى عن الإمامِ أحمدَ أنه ذُكِر له ذلك، فقال: من أحالكَ على غائبٍ فما أنصَفَكَ، وما ألقى هذا على ألسن الناس إلا الشيطان.

وقد يُراد بالغَوْثِ أنه أفضلُ أهلِ زمانِه، فهذا ممكنٌ؛ لكن قد يكونُ ذلك جماعةً، وقد يتساوونَ، وقد يتفاضلونَ من وجهٍ دونَ وجهٍ.

وبكلِّ حالٍ؛ تسميته هذا غوثًا، أو قطبًا، أو جامعًا؛ بدعةٌ ما أنزلَ اللهُ بها من سُلْطانٍ، ولا تكلَّم بها أحدٌ من السَّلَفِ، وما زال السَّلَفُ يظنونَ في بعضِ الناسِ أنه أفضلُ أهلِ زمانِه، ولا يُطلِقونَ هذه التسميةَ عليه.

(1)

رواه أحمد (14631)، من حديث جابر رضي الله عنه.

(2)

رواه أحمد (15864)، وعبد الرزاق في المصنف (10164)، من حديث عبد الله بن ثابت رضي الله عنه.

ص: 350

وقال بعضُ الكبارِ المنتحلينَ لهذا: إن القطبَ ينطقُ علمُه على علمِ اللهِ، وقدرتُه على قدرةِ اللهِ، فيعلمُ ما يعلمُه اللهُ، ويقدرُ على ما يقدرُ عليه اللهُ، وزعم أن النبيَّ كان كذلك، وانتقلَ ذلك عنه إلى الحسَنِ، ثم انتقلَ إلى شيخِه؛ فهذا كفرٌ قبيحٌ، وجهلٌ صريحٌ، واللهُ المستعانُ.

‌مَسْأَلَةٌ

‌الاعتداءُ في الدعاءِ غيرُ جائزٍ

، مَنهِيٌّ عنه في القرآنِ والسُّنَّةِ، وهو أن يسألَ اللهَ منازلَ الأنبياءِ، أو أكثرَ من ذلك من السؤالِ الذي لا يصلُحُ.

‌والاعتداءُ في الطهور منهيٌّ عنه

، وهو الزيادةُ على المشروعِ، قال صلى الله عليه وسلم:«سيكونُ في هذه الأمةِ قومٌ يعتدون في الطهور والدعاءِ»

(1)

.

‌مَسْأَلَةٌ

‌عيسى بنُ مريمَ صلى الله عليه وسلم حيٌّ

، رفَعَه اللهُ إليه برُوحِه وبدنِه، وقولُه:{متوفيك} ؛ أي: قابضُك، وكذلك ثبَتَ أنه ينزلُ على المنارةِ البيضاءِ شرقِيَّ دمشقَ

(2)

، فيقتُلُ الدجَّالَ بباب لدٍّ، ويكسِرُ الصليبَ، ويقتُلُ الخِنْزيرَ، ويضعُ الجِزْيةَ، حَكَمًا عدلًا مُقسِطًا

(3)

.

(1)

رواه أحمد (16796)، وأبو داود (96)، من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم (2937)، من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (2222)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 351

ويُرادُ بالتوَفِّي: الاستيفاءُ، ويُرادُ به: الموتُ، ويُراد به: النومُ، يدلُّ على واحدٍ بقرينة

(1)

.

‌ولا يجوزُ ذبحُ الضحايا ولا غيرِها في المسجدِ

، ولا الدفنُ فيه، ولا تغييرُ الوقفِ لغيرِ مصلحةٍ، ولا الاستنجاءُ في المسجدِ.

‌وفي كراهةِ الوضوءِ فيه نزاعٌ

؛ إلا أن يحصُلَ معَه بصاقٌ، أو امتخاطٌ في المسجدِ؛ فإن البصاقَ فيه خطيئةٌ، وكفارتُها دَفْنُها، فكيفَ بالمخاطِ؟

‌ومَن لم يأتمِرْ بما أمَره اللهُ به ورسولُه

، وينتهي عما نهاه الله ورسوله عنه؛ بل يرُدُّ على من أمَره بالمعروفِ، أو نهاه عن مُنكَرٍ؛ يُعاقَبُ العقوبةَ الشرعيةَ.

‌ولا تُغسَّلُ الموتى في المسجدِ

، ولا يُحدَثُ به ما يضُرُّ بالمصلِّينَ، فإن أُحدِثَ أُزيلَ وأُعيد إلى الصفةِ الأولى أو أَصْلَحَ منها

(2)

.

‌مَسْأَلَةٌ

‌قال أبو العاليةِ:

سألتُ أصحابَ محمدٍ عن قولِه: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة

}؛ فقالوا: «كلُّ من

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (عيسى بنُ مريمَ صلى الله عليه وسلم

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 4/ 322.

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يجوزُ ذبحُ الضحايا

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 202، والفتاوى الكبرى 1/ 67.

ص: 352

عصَى اللهَ فهو جاهلٌ، وكلُّ من تاب قبلَ الموتِ فقد تابَ عن قريبٍ»

(1)

.

‌وأما كتابةُ «لا إلهَ إلا اللهُ»

على الدراهمِ: فمُحدَثٌ من خلافةِ عبدِ الملكِ بنِ مَرْوانَ، وإلى الآنَ، وكانوا يكتبونَ عليها نحوًا من ذلك.

ويجوزُ للمُحدِثِ مسكُها، وإذا كانت معَه في منديلٍ، أو خريطةٍ، وشقَّ عليه مسكُها؛ جاز أن يدخُلَ بها الخلاءَ.

ولم يضرِبِ الرسولُ ولا أصحابُه دراهمَ، وإنما أُحدِثَ ضربُها من خلافةِ عبدِ الملكِ؛ كما تقدَّمَ.

‌ومريمُ بنتُ عِمْرانَ

وآسية زوجةُ فرعونَ من أفضلِ النساءِ، والفواضلُ من هذه الأمةِ؛ كخديجةَ وعائشةَ وفاطمةَ؛ أفضلُ منهما؛ كما أن الفاضلِينَ من رجالِ هذه الأمةِ أفضلُ من فاضلي رجالِ غيرِها.

فإن الصوابَ الذي عليه عامةُ المسلمِينَ، وحكى الإجماعَ عليه غيرُ واحدٍ: أنهما ليستا بنبِيَّتَينِ، وإنما غايتُهما الصدِّيقيةُ، كما دلَّ عليه القرآنُ.

وصِدِّيقو هذه الأمةِ - رجالُها ونساؤُها -؛ أفضلُ من صِدِّيقِي غيرِها.

‌وأما الأبكارُ فإن اللهَ يُزوِّجُهنَّ في الجنةِ

، وأما مريم فقد روي: أنها

(1)

أخرج ابن جرير في التفسير نحوه (6/ 507).

ص: 353

زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما أعلمُ صحةَ ذلك

(1)

، واللهُ أعلمُ.

‌ولا خلافَ بينَ المسلمِينَ

أن مَن لم يؤمنْ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم بعدَ بلوغِ رسالتِه إياه؛ أنه كافرٌ مُخلَّدٌ في النارِ، ومنِ ارتابَ في ذلك؛ فهو كافرٌ يجبُ قتلُه، ولا فرق بين الكتابيين وغيرهم.

‌ولا خلاف في تحريم الخمرة

؛ ومن أنكر ذلك بعد قيام الحجة عليه؛ فإنه يكفر، ويجب قتله، كما استتابَ عمرُ وعليٌّ طائفةً جهِلَت، فظنَّتْ أنها تُباحُ للصالحينَ دونَ غيرِهم، واتَّفَقَ الصحابةُ على أن هؤلاءِ إن أصرُّوا قُتِلوا

(2)

.

‌مَسْأَلَةٌ

‌نُقِل عن ابنِ عبَّاسٍ

في قولِه: {يوم يكشف عن ساق} : أنه قال: «عن شِدَّةٍ»

(3)

، وثبَتَ في «الصحيحَينِ» من حديثِ أبي سعيدٍ في

(1)

جاء في ذلك أحاديث، منها: ما رواه الطبراني في الأوسط (2316)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه:«فوعده من الثيبات آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وأخت نوح، ومن الأبكار مريم بنت عمران، وأخت موسى عليهم السلام» ، وفي إسناده موسى بن جعفر، قال الذهبي في الميزان:(لا يعرف، وخبره ساقط).

وروى الطبراني في الكبير (8006)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه بنحوه، وفيه عبد النور بن عبد الله، قال فيه الذهبي:(كذاب)، ويونس بن شعيب، وهو منكر الحديث.

(2)

تقدم تخريجه ص

(3)

رواه ابن جرير في التفسير (23/ 195)، والبيهقي في الأسماء والصفات (746).

ص: 354

حديثِه الطويلِ الذي فيه تجلَّي اللهِ تعالى لعبادِه يومَ القيامةِ، وأنه يحتجبُ، ثم يتجلَّى، قال:«فيكشِفُ عن ساقِه»

(1)

فينظرونَ إليه، والذي في القرآنِ ليست مضافةً، فلهذا وقع النِّزاعُ: هل هو من الصفاتِ، أم لا؟

قال شيخُ الإسلامِ: ولا أعلمُ خلافًا عن الصحابةِ في شيءٍ مما يُعَدُّ من الصفاتِ المذكورةِ في القرآنِ إلا هذه الآيةَ؛ لعدمِ الإضافةِ فيها، ومن يجعَلُ ذلك من الصفاتِ يقولُ فيه كقولِه:{لما خلقت بيدي} ، وقولِه:{ويبقى وجه ربك} ، ونحوِ ذلك، فإنه معَ الصفاتِ تثبتُ، ويجبُ تَنْزيهُ الربِّ تعالى عن التمثيلِ؛ لأنه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} .

‌ومَن نبَشَ قبورَ المسلمِينَ

عدوانًا؛ عُوقِبَ بما يردَعُه وأمثالَه عن ذلك، وكذا من خرَّبَ مسجدَهم وعليه إعادتُه من مالِه.

‌مَسْأَلَةٌ

‌أخَرج مسلمٌ عن عائشةَ قالت:

سألتُ رسولَ اللهِ عن قولِه تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} ؛ فأينَ يكونُ الناسُ يومئذٍ؟ فقال: «على الصِّراطِ»

(2)

، فالأرضُ تُبدَّلُ، كما ثبَتَ في

(1)

رواه البخاري (7439)، ومسلم (183).

(2)

رواه مسلم (2791).

ص: 355

«الصحيحَينِ» : «أن الناسَ يُحْشَرونَ على أرضٍ بيضاءَ عَفْراءَ كقُرصةِ النَّقِيِّ، ليس فيها عَلَمٌ لأحدٍ»

(1)

.

قال ابنُ مسعودٍ: «هي أرضٌ بيضاءُ، كهيئةِ الفضةِ، لم يُعمَلْ عليها خطيئةٌ، ولا سُفِكَ فيها دمٌ حرامٌ، ويُجمَعُ الناسُ في صعيدٍ واحدٍ، ينفذُهم البصرُ، ويُسمعُهم الداعيُ، حُفاةً عُراةً غُرْلًا كما خُلِقوا، فيأخذُ الناسَ من كَرْبِ ذلك اليومِ وشدَّتِه؛ حتى يُلجِمَهم العرقُ»

(2)

، وبعضُهم يرفعُه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(3)

، وكذا عن مجاهدٍ وغيرِه من السَّلَفِ

(4)

.

فهذا الحديثُ وسائرُ الآثارِ تبيِّنُ أن الناسَ يُحْشرَونَ على الأرضِ المبدَّلةِ، والقرآنُ يوافقُ ذلك؛ كقولِه:{يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا للهِ الواحد القهار} .

وحَشْرُهم وحسابُهم يكونُ قبلَ الصراطِ، فإن الصراطَ منه ينجو إلى الجنةِ، ويسقُطُ أهلُ النارِ فيها؛ كما ثبَتَ في الأحاديثِ

(5)

.

وحديثُ عائشةَ المتقدمُ يدُلُّ على أن التبديلَ يكونُ وهم على

(1)

رواه البخاري (6521)، ومسلم (2790)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

(2)

رواه الحاكم (8699)، وابن جرير في التفسير (13/ 729)، موقوفًا.

(3)

رواه ابن أبي عاصم في الأوائل (178)، والطبراني في الأوسط (7167)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 153)، مرفوعًا.

(4)

تفسير ابن جرير (13/ 729) وما بعدها.

(5)

من ذلك ما رواه البخاري (7439)، ومسلم (183)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو حديث طويل في ذكر الصراط والشفاعة.

ص: 356

الصراطِ؛ لكن البخاريَّ لم يروه، فلعله ترَكَه لهذه العلةِ، أو غيرِها؛ فإن سنَدَه جيدٌ.

أو يُقالُ: تُبدَّلُ قبلَ الصراطِ، وعلى الصراطِ تُبدَّلُ الأرض والسمواتُ.

وأما قولُه: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب} ، فالطَّيُّ غيرُ التبديلِ، وقال:{والسموات مطويات بيمينه} .

وفي «الصحيحَينِ» : أنه يَطوي السمواتِ، ثم يأخذُهُنَّ بيمينِه، ثم يقولُ:«أنا الملِكُ، أينَ الجبارونَ؟! أينَ المُتكبِّرونَ؟!»

(1)

، وفي لفظٍ:«يأخذُ الجبارُ سماواتِه وأَرَضِيه بيدِه»

(2)

، وهو في أحاديثَ كثيرةٍ.

فطيُّ السمواتِ لا يُنافي أن يكونَ الخلقُ في موضِعِهم، ليس في شيءٍ من الحديثِ أنهم يكونونَ عندَ الطيِّ على الجسرِ، كما رُوِي ذلك وقتَ تبدِيلِ الأرض غيرَ الأرضِ، وإن كان في تلك الروايةِ ما فيها.

والذي لا رَيْبَ منه: أنه لا بدَّ من تبديلِها وطَيِّها.

ومذهَبُ سلَفِ الأمةِ إثباتُ الصفاتِ للهِ كما جاءت؛ إثباتًا بلا تشبيه، وتَنْزيهًا بلا تعطيلٍ.

‌وفي يومِ القيامةِ

تُبدَّلُ الجلودُ في النارِ غير الجلود، كما أخبَرَ سُبْحانَه.

(1)

رواه البخاري (7412)، ومسلم (2788)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

عند مسلم (26/ 2788).

ص: 357

فقيلَ: إن المراد غير الجلودِ في الصفاتِ لا في الذواتِ، فكلما تغيَّرَتِ الصفاتُ صار هذا غيرَ هذا، وإن كان الأصلُ واحدًا، وهذا كما تُمَدُّ الأرضُ، وتكونُ السماءُ كالمُهْلِ، وكما يُعادُ خلقُ الإنسانِ، ويبقى طولُه ستونَ ذراعًا.

‌قَاعِدَةٌ

‌الذي اتَّفقَ عليه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ:

أن النارَ لا يُخلَّدُ فيها أحدٌ من أهلِ الإيمانِ والتوحيدِ، كما ثبَتَ ذلك في الأحاديثِ؛ أنه يُخرَجُ مِن النارِ مَن في قلبِه مِثْقالُ ذرةٍ من إيمانِ

(1)

، ونحوُه، لكن لا بدَّ أن يدخلَ النارَ من أهلِ التوحيدِ بذنوبِهم، ويُعاقَبونَ على مقدارِ ذنوبِهم، ثم يُخرَجونَ بشفاعةِ النبيِّ أو غيرِه.

وأما أهلُ البِدَعِ؛ فلهم أقوالٌ مضطربةٌ باطلةٌ.

فجمهورُ المعتزلةِ والخوارجِ يقولونَ: من دخل النارَ يُخلَّدُ فيها.

وآخَرونَ من المرجئةِ يقولونَ: إنا لا نقطعُ لمعيَّنٍ

(2)

.

فأولئكَ اعتقدوا أن الإيمانَ متى ذهَبَ بعضُه ذهَبَ جميعُه، قالوا: والفاسقُ قد نقَصَ إيمانُه.

(1)

كما في حديث أنس رضي الله عنه في الشفاعة عند البخاري (7510)، ومسلم (193).

(2)

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 7/ 297 موضحًا هذه العبارة: (وقول غلاة المرجئة الذين يقولون: ما نعلم أن أحدًا منهم يدخل النار؛ بل نقف في هذا كله، وحكي عن بعض غلاة المرجئة الجزم بالنفي العام).

ص: 358

والحقُّ ما عليه السَّلَفُ.

‌وقولُه:

«لا يزني الزاني حينَ يزني وهو مؤمنٌ

»

(1)

: إنما سلَبَه كمالَ الإيمان الواجبِ وحقيقتَه التي بها يستحِقُّ الجنةَ، والنجاةَ من النارِ، وكذلك قولُه:«مَن غشَّنَا فليس منا»

(2)

، وشبهُه.

‌وما ورد من نصوصِ الوعيدِ المطلَقةِ

كقولِه تعالى: {فسوف نصليه نارا} : فهو مُبيَّنٌ ومُفسَّرٌ بما في الكتابِ والسُّنَّةِ من النصوصِ المبينةِ لذلك، المقيدةِ له.

وكذلك ما ورد من نصوصِ الوَعْدِ المطلَقةِ.

ولذلك بيَّنَ أن الحسناتِ تمحو السيئاتِ، والخطايا تُكفَّرُ بالمصائبِ وغيرِها من العملِ الصالحِ وغيرِه؛ كالدعاءِ له، والصدقةِ عنه، والصيامِ، والحجِّ عنه.

فقولُه: «لا يدخُلُ النارَ مَن في قلبِه مِثْقالُ ذَرَّةٍ من إيمانٍ»

(3)

؛ نفى به الدخولَ المُطلَقَ الذي توعَّدَ به القرآنُ توعدًا مطلقًا، وهو دخولُ الخلودِ فيها، وأنه لا يخرُجُ منها بشفاعةٍ ولا غيرِها؛ مثلُ قولِه:{لا يصلاها إلا الأشقى} ، وقولِه:{سيدخلون جهنم داخرين} .

(1)

رواه البخاري (2475)، ومسلم (57)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم (101)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

رواه مسلم (91)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 359

فيُقالُ: إن مَن في قلبِه مثقالُ ذرةٍ من إيمانٍ يُمنَعُ من هذا الدخولِ المعروفِ، لا أنه لا يصيبُه شيءٌ من عذابِ النارِ؛ لأنه قال:«يقولُ اللهُ تعالى: أخْرِجوا مِن النارِ مَن في قلبِه مِثْقالُ ذَرَّةٍ من إيمانٍ»

(1)

، وقال: «أمَّا أهلُ النارِ الذينَ هم أهلُها: فإنهم لا يموتونَ فيها، ولا يَحْيَوْنَ، ولكنْ ناسٌ أصابَتْهم النار بذنوبِهم، فأماتَتْهم إماتةً؛ حتى إذا كانوا حُمَمًا أُذِنَ في الشفاعةِ، فيجاء بهم ضَبائرَ ضَبائرَ

(2)

، فينبُتُونَ على نهرِ الجنةِ»

(3)

.

وكذا قولُه: «لا يدخُلُ الجنةَ مَن في قلبِه مثقالُ ذرةٍ مِن كِبْرٍ»

(4)

؛ نفى الدخولَ المُطلَقَ المعروفَ، وهو دخولُ المؤمنينَ الذينَ أُعِدَّتْ لهم الجنةُ؛ كقولِه:{وسيق الذينَ اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا} الآيةَ، وقولِه:{يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} ، وأمثالِ ذلك مما يُطلَقُ الدخولُ، والمرادُ: الدخولُ ابتداءً من غيرِ عذابٍ في النارِ؛ بحيثُ لا يُفهَمُ من ذلك أنهم يُعذَّبونَ، فهذا الدخولُ لا ينالُه مَن في قلبِه مثقالُ ذرةٍ مِن كِبْرٍ.

وأيضًا: فهذه الأحاديثُ مُبيَّنٌ فيها سببُ دخولِ الجنةَ من العملِ الصالحِ، وسببُ دخولِ النارِ كالكِبْرِ، فإن وُجِد في العبدِ أحدُ السببَينِ

(1)

رواه البخاري (22)، ومسلم (183)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

هم الجماعات في تفرقة، واحدتها ضِبارة، بفتح الضاد وكسرها. ينظر: مشارق الأنوار 2/ 55، النهاية في غريب الحديث 3/ 71.

(3)

رواه مسلم (185)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(4)

رواه مسلم (91)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 360

فقط، فهو من أهلِه، وإن وُجِدا معًا استحَقَّ الجنةَ والنارَ.

فالذي معَه كِبْرٌ وإيمانٌ يستحِقُّ النارَ، فيُعذَّبُ حتى يزولَ الكِبْرُ من قلبِه، وحينئذٍ يدخل الجنةَ، وما في قلبِه كِبْرٌ ولا مِثْقالُ ذرةٍ منه، كما أنه لو تاب منه لم يكُنْ من أهلِه.

وكذلك إذا عُذِّبَ بذنبِه في الدنيا أو في الآخرةِ لم يكُنْ حينئذٍ من أهلِه.

فقولُه: «لا يدخُلُ الجنةَ إلا نفسٌ مؤمنةٌ»

(1)

حقٌّ أيضاً، إذا أُريدَ به الدخولُ المُطلَقُ الكاملُ؛ أُريدَ بالمؤمنِ المؤمنُ الكاملُ المُطلَقُ، وإذا أُريدَ بالدخولِ مُطلَقُ الدخولِ حتى يتناولَ الدخولَ بعدَ العذابِ؛ فإنه يُرادُ به المؤمنِ المطلق؛ حتى يتناولَ الفاسقَ الذي في قلبِه مثقالُ ذرةٍ من إيمانٍ، فإن هذا يدخُلُ في مُطلَقِ المؤمنِ؛ كقولِه:{فتحرير رقبة مؤمنة} ، ولا يدخُلُ في المؤمنِ المُطلَقِ؛ كقولِه: {إنما المؤمنون الذينَ إذا ذكر الله وجلت قلوبهم

} الآيةَ.

ومثلُ هذا كثيرٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ، ينتفي الاسمُ عن المسمَّى تارةً؛ لنفيِ حقيقتِه وكمالِه، ويثبتُ له تارةً؛ لوجودِ أصلِه وبعضِه؛ حتى يقالَ عن العالِمِ القاصرِ، والصانعِ القاصرِ: هذا عالِمٌ، وهذا صانِعٌ، بالنسبةِ إلى مَن لا يعلمُ، ويُقالُ: هذا ليس بعالِمٍ، ولا صانعٍ، لوجودِ نقصِه

(1)

رواه أحمد (594)، والنسائي (2958)، والترمذي (3092)، من حديث علي رضي الله عنه. ورواه البخاري (3062)، ومسلم (111) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:«إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة» .

ص: 361

وتقصيرِه، حتى يُقالُ للكاملِ: هو العالِمُ والصانِعُ، وهذا هو الشجاعُ، وأمثالُه كثيرٌ من الأسماءِ والصفاتِ؛ كالمؤمنِ، والكافرِ، والفاسقِ، والمنافقِ، واللهُ أعلمُ.

‌ووُرودُ حوضِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

قبلَ الصراطِ، فيَرِدُه قومٌ، ويُذادُ عنه آخَرونَ قد بدَّلوا وغيَّروا، واللهُ أعلمُ.

‌ولا رَيْبَ أن قولَه:

«أكتُبْ لكم كتابًا لن تَضِلُّوا بعدَه»

(1)

: إنما كان أرادَ أن يكتبَ لأبي بكرٍ العهدَ في الخلافةِ بعدَه، كما فُسِّر ذلك في حديثِ عائشةَ يومَ الخميس، قال لها:«ادعي لي أباكِ وأخاكِ؛ أكتبْ لأبي بكرٍ كتابًا لا يختلفُ الناسُ عليه بعدي» ، ثم علم أن الناس واللهَ يأبى ذلك فقال:«يأبى الله والمؤمنونَ إلا أبا بكرٍ»

(2)

، وذلك لما كان قد نصَبَ لهم من العلامةِ على خلافتِه؛ من الصَّلاةِ بالناسِ، وسَدِّ خَوْخةِ غيرِه، وإخبارِه بحُبِّه أكثرَ من غيره وغير ذلك من العلاماتِ.

ثم لما قال عمرُ: «أهَجَرَ؟!»

(3)

، نسَخ اللهُ كتابَه ذلك عن الناس،

(1)

رواه البخاري (114)، ومسلم (1637)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

رواه مسلم (2387)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

تتمة حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم تخريجه.

قال في النهاية 5/ 246: («أهَجَر؟» أي: اختلف كلامه بسبب المرض، على سبيل الاستفهام. أي: هل تغير كلامه واختلط لأجل ما به من المرض؟ وهذا أحسن ما يقال فيه، ولا يجعل إخبارًا، فيكون إما من الفحش أو الهذيان، والقائل كان عمر، ولا يظن به ذلك). وينظر: مشارق الأنوار 2/ 265، فتح الباري 8/ 133.

ص: 362

وإلا فما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتركُ حكمَ اللهِ ولم يُبلِّغْه لقولِ عمرَ.

وقولُ ابنِ عبَّاسٍ

(1)

؛ المرادُ به: أنها رزية في حقِّ من شكَّ في خلافةِ أبي بكرٍ، وصدَق رضي الله عنه؛ فإنها رزية في حقِّ مَن شاءَ اللهُ فِتنتَه.

وأما مَن أرادَ هُداه؛ فذلك خيرٌ في حقِّه لمزيدِ اجتهادِه، وموافقتِه الحقَّ، واللهُ يَبْتلي العباد بما شاء، ويهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ.

‌فَصْلٌ

(2)

‌ما يُذكَرُ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه:

أنه لما مات رُكِّبَ فوقَ ناقةٍ، أو دابَّةٍ، وسُيِّبَتْ، ودُفِن حيثُ تَبْرُك به، وأنه أوصى بذلك، وفُعِل به: فهذا كذِبٌ مُختلَقٌ باتِّفاقِ أهلِ العلمِ، لم يوصِ عليٌّ بشيءٍ من ذلك، ولا فُعِل به شيءٌ من ذلك، ولا يَحِلُّ أن يُفعَلَ هذا بأحدٍ من موتى المسلمِينَ، ولا يَحِلُّ لأحدٍ أن يُوصِيَ بذلك، هذا مُثْلةٌ بالميتِ.

وقد تنازَعَ العلماءُ في موضعِ قبرِه، والمعروفُ: أنه دُفِن بقصرِ الإمارةِ في الكوفةِ، وعُمِّي قبرُه؛ لئلا تنبُشَه الخوارجُ الذينَ كانوا يُكفِّرونَه، ويستحِلُّونَ قتلَه؛ فإن الذي قتَلَه عبدُ الرحمنِ بنُ مُلجَمٍ

(1)

لعل المراد قول ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه البخاري (114)، ومسلم (1637) عنه:«إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم» .

(2)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 4/ 499.

ص: 363

المراديُّ، أحدُ الخوارجِ، وكان قد تعاهَدَ هو وآخَرانِ على قتلِ عليٍّ ومعاويةَ وعمرِو بنِ العاصِ، فإنهم يُكفِّرونَ هؤلاءِ كلَّهم، وكلَّ مَن لم يُوافِقْهم على أهوائِهم، وقد تواترتِ النصوصُ على قتلِهم

(1)

، رواه مسلمٌ والبخاريُّ من عشَرةٍ أوجهٍ

(2)

، واتَّفَقَ الصحابةُ على قتالِهم؛ لكنَّ الذي باشَرَ قتالهم وأمَر به: عليٌّ رضي الله عنه، كما ثبَتَ ذلك في «الصحيحَينِ»

(3)

، وكانوا اجتمعوا في حَرُوراءَ، فلذلك قيلَ لهم: الخوارجُ، والحَروريةُ.

ومعاويةُ أرادَ الآخَرُ قَتْلَه؛ فجرَحَه واتَّخذَ المقصورةَ.

وأما الذي أرادَ قتلَ عمرِو بنِ العاصِ؛ فكان عمرٌو قد استَخلفَ ذلك اليومَ خارجةَ، فظنَّ الخارجيُّ أنه عمرٌو؛ فقتَلَه، فلما تبيَّنَ له قال: أردتُّ عمرًا، وأرادَ اللهُ خارجةَ، فصارَ مثلًا.

فكتَموا قبرَ عليٍّ لذلك، وقبرَ معاويةَ وقبرَ عمرِو بنِ العاصِ؛ خوفًا عليهم من الخوارجِ، ودفَنوا معاويةَ داخلَ الحائطِ القبليِّ من جامعِ دمشقَ في قصرِ الإمارةِ الذي كان يقالُ لها: الخَضراءُ، وهو الذي تُسمِّيه العامةُ «قبرَ هودٍ» ، وهودٌ باتفاق العلماء لم يجئْ إلى دمشقَ؛ بل قبرُه ببلادِ اليمنِ، وقيلَ: بمكةَ.

(1)

زيد في (ك): (يعني الخوارج).

(2)

ينظر: صحيح البخاري، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم (9/ 16)، وصحيح مسلم، باب التحريض على قتل الخوارج (2/ 746).

(3)

رواه البخاري (6930)، ومسلم (1066) من حديث علي رضي الله عنه.

ص: 364

وأما المشهدُ الذي بالنجَفِ: فأهلُ المعرفةِ متَّفِقونَ على أنه ليس قبرَ عليٍّ؛ بل قيلَ: إنه قبرُ المغيرةِ بنِ شُعْبةَ، وإنما قيلَ: إنه قبرُ عليٍّ؛ بعدَ وفاتِه بأكثرَ من ثلاثِمائةِ سنةٍ.

وأما أهلُ البيتِ، وإركابُهم على الإبلِ حينَ سُيِّبوا، وأن اللهَ خلَقَ لها سنامينِ؛ وهي البَخاتيُّ: فهذا أيضًا من أقبحِ الكذبِ وأبينِه، وهو مما افتراه الزَّنادِقةُ المنافقونَ الذينَ مقصودُهم الطعنُ في الإسلامِ.

وهذا مثلُ كذِبِهم بأنَّ عليًّا رضي الله عنه نصَبَ يدَه حتى مرَّ عليها الجيشُ بخَيْبرَ، فوطِئَتْه البغلةُ، فقال لها: قطَع اللهُ نَسْلَكِ، فإنَّ كلَّ عاقلٍ يعلمُ أن البغلةَ لم يكُنْ لها نَسْلٌ، معَ أنهم لم يكُنْ معَهم بخَيْبرَ بغلةٌ.

وأما الحسينُ رضي الله عنه، ولعَنَ مَن قتَلَه ومَن رضِيَ بقَتْلِه -؛ فالشِّمْرُ حضَّ على قتلِه، وسعى فيه إلى نائبِ السلطنةِ على العراقِ عبيد اللهِ

(1)

بنِ زيادٍ، فأمَر نائبَه عمرَ بنَ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ بقتالِه، فقاتلوه، حتى قتَلوه ظلمًا، ثم حمَلوا ثَقَلَه وأهلَه إلى يزيدَ بنِ معاويةَ بدمشقَ، ولم يكُنْ يزيد أمَر بقَتْلِه، ولا ظهَرَ منه سرورٌ بذلك؛ بل قال كلامًا فيه ذمٌّ لهم.

قيلَ إنه قال: لقد كنتُ أرضى من طاعة

(2)

أهلِ العراقِ بدونِ ذلك، وقال: لعَن اللهُ ابنَ رَيْحانةَ - يعني: عبيدَ اللهِ بنَ زيادٍ - أما واللهِ لو كان بينَه وبينَ الحسينِ رَحِمٌ لما قتَلَه. يُعرِّضُ بالطعنِ في نسَبِه؛ لأنه كان

(1)

في (الأصل): عبد الله. والمثبت هو الموافق لما في مجموع الفتاوى، وهو الصواب.

(2)

في (الأصل): طلعة. والمثبت من (ع) و (ك) ومجموع الفتاوى.

ص: 365

يُنسَبُ إلى أبي سفيانَ بنِ حربِ بنِ أميةَ، وبنو أميةَ وبنو هاشمٍ هما بنو عبدِ مَنافٍ.

ورُوِي أنه لما قُدِم عليه بأهلِه ظهَرَ من دارِه البكاءُ والصراخُ؛ لكنه معَ هذا لم يُقِمْ حدَّ اللهِ على مَن قتَلَه، ولا اقتصَّ له؛ بل [قتَلَ]

(1)

أعوانَه لإقامةِ مُلكِه.

وقد نُقِل عنه أنه تمثَّل بهذينِ البيتينِ:

لمَّا بدتْ تلكَ الحمولُ وأشرفَتْ تلكَ الرؤوسُ على رُبَى جَيْرونِ

(2)

نعَقَ الغرابُ فقلتُ: نُحْ أو لا تَنُحْ فلقد قضيت عن النبيِّ ديوني

وهذا الشعرُ كفرٌ.

والناسُ منهم من يُكفِّرُه؛ وهم الرافضةُ؛ حتى يُكفِّرونَ أباه، وأبا بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ.

ومنهم مَن يجعَلُه من أئمةِ الهدى والعدلِ؛ حتى قد يجعله بعضُهم نبيًّا، وبعضُهم صحابيًّا، وهذا من أبينِ الجهلِ والضلالِ.

بل الحقُّ فيه؛ أنه كان مَلِكًا من ملوكِ المسلمِينَ، له حسناتٌ وسيئاتٌ، والقولُ فيه كالقولِ في أمثالِه من الملوكِ، لا نُحِبُّه ولا نسُبُّه.

(1)

في (الأصل) و (ك) و (ز): قتله. والمثبت من مجموع الفتاوى.

(2)

جَيْرون: بالفتح، المعروف أنه باب من أبواب الجامع بدمشق من الجهة الشرقية، وقيل: هو حصن في دمشق، وقيل: جَيرُون هي دمشق نفسها. ينظر: معجم البلدان 2/ 199.

ص: 366

وهو أولُ مَن غزا قسطنطينيةَ، وقال رسولُ اللهِ:«أولُ جيشٍ يغزوها يُغفَرُ لهم»

(1)

. وفعَل في أهلِ المدينةِ ما فعَل، وقد توعَّدَ رسولُ اللهِ من قتَل فيها قتيلًا، ولعَنَه

(2)

.

وأما رأسُ الحسينِ: فإن الحسينَ قُتِل بكَرْبلاءَ قريبًا من الفراتِ، ودُفِن جسَدُه حيثُ قُتِل، وحُمِل رأسُه إلى قُدَّامِ عُبَيدِ اللهِ بنِ زيادٍ بالكوفةِ، وهذا هو الذي رواه البخاريُّ

(3)

.

وأما حملُه إلى الشامِ فلم يثبُتْ، وإن كان قد رُوِي

(4)

.

وأما حملُه إلى مصرَ: فالعلماءُ مُتفِقونَ على أنه كذِبٌ، والمشهدُ الذي بمصرَ بالقاهرةِ باطلٌ، ليس فيه رأسُ الحسينِ ولا شيء منه، وإنما أُحدِثَ في دولةِ القدَّاحِ في أثناءِ المائةِ الخامسةِ، نقَل هذا المشهدَ من عَسْقلانَ، وعَقيبَ ذلك انقرضَتْ دولةُ الذينَ ابتدَعوه.

(1)

رواه البخاري (2924)، من حديث أم حرام رضي الله عنها، ولفظه:«أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم» .

(2)

رواه البخاري (1870)، ومسلم (1370)، من حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ:«المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا، من أحدث فيها حدثًا، أو آوى محدثًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» الحديث.

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 27/ 478: (ويزيد بن معاوية: قد أتى أمورًا منكرة، منها: وقعة الحرة. وقد جاء في الصحيح عن علي رضي الله عنه ثم ذكر الحديث.

(3)

رواه البخاري (3748).

(4)

رواها الطبراني (2846).

ص: 367

والذي رجَّحَه

(1)

أهلُ العلمِ: أن رأسَ الحسينِ حُمِل إلى المدينةِ النبوية، ودُفِن بها، وهذا مناسب، وما ذُكِر أنه في عَسْقلانَ فأبطلُ الباطلِ، لا يقبَلُه عقل؛ بل أُحدِث بعدَ التسعينَ والأربعِمائةٍ، فهو مُحدَثٌ بعدَ قتلِ الحسينِ بأكثرَ من أربعِمائةِ سنة وثلاثينَ سنةً، لم ينقل ذلك إلى القاهرةِ.

والمشروعُ في مثل ذلك أن يُقالَ: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتِنا واخْلُفنا خيراً منها، فقد رَوَت فاطمةُ بنتُ الحسينِ عن النبيِّ أنه قال:«ما مِن مسلمٍ يُصابُ بمصيبةٍ فيَذكرُ مصيبتَه وإن قدُمَتْ، فيُحدِثُ لها استِرجاعًا إلا أعطاه اللهُ مِن الأجرِ مثلَ أجرِه يومَ أُصيبَ بها»

(2)

، فهذا الحديثُ رواه الحسينُ وعنه ابنتُه التي شَهِدتْ مَصرعَه، وقد علِمَ اللهُ أنَّ مصيبتَه تُذكَرُ على طولِ الزمانِ، قال اللهُ:(وبشر الصابرين)

(3)

.

وكذلك أُحدِثَ قبرُ نوحٍ بالبقاعِ في أثناءِ المائةِ السابعةِ، وكذلك مشهدُ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ بدمشقَ؛ كذِبٌ بالاتفاقِ.

(1)

في (الأصل): رجحوه. والمثبت من (ع) و (ك).

(2)

رواه أحمد (1734)، وابن ماجه (1600).

(3)

من قوله: (والمشروع في مثل ذلك) إلى هنا، كُتبت في هامش الأصل دون علامة تصحيح وسقطت من (ك) و (ع)، وهذا هو موطنها كما في أصل الفتوى من مجموع الفتاوى.

ص: 368

ولم يثبُتْ سوى قبرِ نبِيِّنا، وفي الخليلِ نظَرٌ

(1)

، صلى الله عليهما وسلم.

(1)

قال شيخ الإسلام: (أما قبور الأنبياء، فقالت طائفة، منهم مالك بن أنس: لا يعرف قبر نبي، إلا قبر نبينا خاصة، وقال هؤلاء: لا يعرف قبر الخليل ولا غيره.

وطائفة أخرى: قد يعرفون بعض القبور؛ كقبر الخليل عليه السلام، لكن من هؤلاء من يثبت أمورًا مكذوبة، مثل قبر نوح الذي بقرية الكرك بجبل لبنان، وغيره من القبور المضافة إلى الأنبياء، فإنها كذب بلا ريب، وإن كان قبر الخليل صحيحًا). ينظر: قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق، ص 105.

وقال في مجموع الفتاوى (27/ 444): (وأما " قبر الخليل " فأكثر الناس على أن هذا المكان المعروف هو قبره، وأنكر ذلك طائفة، وحكي الإنكار عن مالك، وأنه قال: ليس في الدنيا قبر نبي يعرف إلا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لكن جمهور الناس على أن هذا قبره ودلائل ذلك كثيرة، وكذلك هو عند أهل الكتاب).

ص: 369

‌فائدة

‌قراءةُ القرآنِ

في الطُّرُقاتِ وفي الأسواقِ مَنْهيٌّ عنها؛ لأنه للتأكُّلِ على القرآنِ، وفيه ابتذالُ القرآنِ، وقد لا يُصغى إليه.

‌وأما قولُه صلى الله عليه وسلم:

«إنَّ الميتَ يُعذَّبُ ببكاءِ أهلِه عليه»

(1)

؛ فقد أشكَلَ على كثيرٍ:

فطائفةٌ ظنَّتْ أنه غيرُ صحيحٍ؛ كعائشةَ

(2)

والشافعيِّ.

ومِن الناسِ مَن يتأوَّلُه على ما إذا أوصى به.

ومنهم من تأوَّلَه على ما إذا لم يَنْهَ عنه معَ اعتيادِهم له.

وهؤلاءِ ظنوا أن العذابَ لا يكونُ إلا على ذنبٍ، فاحتاجوا إلى أن يجعلوا للميتِ ذنبًا، وليس الأمرُ كذلك؛ بل العذابُ قد يكونُ على ذنبٍ، وقد لا يكونُ، قال النبيُّ:«السَّفَرُ قطعةٌ من العذابِ»

(3)

، وهو لم يقُلْ: إنه يُعاقَبُ؛ بل يُعذَّبُ بالإيذاء كما قد يتألمُ الحيُّ بشمِّ الرائحةِ الكريهةِ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم للنساءِ:«ارجِعْنَ مَأْزُوراتٍ، إنكنَّ تُؤذِينَ الميتَ»

(4)

، وقال: «ما مِن ميتٍ يموتُ، فيقولُ قائلُهم: واجَبَلاهْ،

(1)

رواه البخاري (1286)، ومسلم (927)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

رواه مسلم (3978)، عن عروة بن الزبير عنها.

(3)

رواه البخاري (1804)، ومسلم (1927)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

رواه ابن ماجه (1578)، من حديث علي رضي الله عنه بلفظ:«فارجعن مأزورات غير مأجورات» ، دون الزيادة المذكورة.

ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (7/ 154)، ومن طريقه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 420)، من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ:«ارجعن مأزورات غير مأجورات، مفتنات الأحياء، مؤذيات الأموات» .

ص: 370

ونحوَه؛ إلا وَكَّلَ اللهُ به مَلَكانِ يلْهَزَانِه: أهكذا أنتَ؟!»

(1)

.

فيكونُ قولُه: «يُعذَّبُ» ؛ أي: يتألَّمُ ويتأذَّى، وهذا لا رَيْبَ فيه، كما قد ثبَتَ، خصوصًا إذا عُلِم أنه يسمَعُ ويُبصِرُ ويُدرِكُ ما يكونُ عندَه.

(1)

رواه الترمذي (1003)، من حديث أبي موس الأشعري رضي الله عنه، وبنحوه عند أحمد (19716)، وابن ماجه (1594).

ص: 371

‌فَصْلٌ فِي الرُّوحِ

(1)

‌رُوحُ الإنسانِ مخلوقةٌ مبتدعة

باتِّفاقِ سلَفِ الأمةِ وأئمَّتِها، حكى الإجماعَ غيرُ واحدٍ؛ مثلُ: محمدِ بنِ نصرٍ المروزيِّ، الإمامِ الذي هو أعلمُ أهلِ زمانِه بالإجماعِ والاختلافِ، وأبي محمدِ بنِ قُتَيبةَ.

والذينَ قالوا: إنها ليسَتْ مخلوقةً: هم الزَّنادِقةُ، والنصارى في عيسى فقط.

والقائلونَ بقِدَمِها صِنْفانِ:

أحدُهما: من الصابئةِ والفلاسفةِ، يقولونَ: هي قديمةٌ أزليةٌ؛ لكن ليسَتْ من ذاتِ اللهِ، كما يقولونَ ذلك في العقولِ والنفوسِ الفلكيةِ، وزعَم مَن دخَل منهم في أهلِ المللِ: أنها هي الملائكةُ.

وصِنْفٌ من زَنادقةِ هذه الأمةِ من المتصوِّفةِ والمتكلِّمةِ والمحدثة: يزعُمونَ أنها من ذاتِ اللهِ، تعالى الله، وهؤلاءِ شرُّ قول من أولئكَ، وهؤلاء جعلوا الآدميَّ نصفينِ؛ نصفٌ لاهوتٌ؛ وهو رُوحُه، ونصفٌ ناسوتٌ؛ وهو جسَدُه، نصفٌ ربٌّ، ونصفٌ عبدٌ، وقد كفَّر اللهُ النصارى بنحوٍ من هذا القولِ في المسيحِ فقط، فكيفَ بمَن عمَّم ذلك؛ حتى في فرعونَ وهامانَ وقارونَ.

(1)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 4/ 216.

ص: 372

والناسُ في رُوحِ الأدميِّ على طرَفَيْ نقيضٍ، فكثيرٌ من المتكلمةِ يجعَلُها جزءًا من هذا البدنِ، أو صفةً من صفاتِه، وهذا خطأٌ؛ بل الرُّوحُ أمرٌ غيرُ البدنِ وأبعاضِه وصفاتِه، ولهذا تكونُ باقيةً بعدَ مفارقةِ البدنِ.

وكثيرٌ من المتفلسفةِ يُبالِغونَ في تحييزِها ووصفِها بالصفاتِ السلبيةِ؛ حتى يقولونَ: ليسَتْ داخلَ العالَمِ، ولا خارِجَه، ولا متحركةً، ولا ساكنةً، ولا تختصُّ بمكانٍ دونَ مكانٍ، كما يقولونَ في واجبِ الوجودِ، وهذا القولُ أيضًا خطأ باطل.

‌فصل

(1)

‌هل يكونُ العبدُ

قادرًا على غيرِ الفعلِ الذي فعَلَه الذي سبَقَ به العلم مِن اللهِ تعالى؟

هذا مما تنازَعَ فيه الناسُ، كما تَنازَعوا في أن الاستطاعةَ تكونُ مع الفعلِ، أو يجبُ أن تتقدَّمَه؟

فمن قال: إن الاستطاعةَ لا تكونُ إلا معَ الفعلِ، يقولُ: إن العبدَ لا يستطيعُ غيرَ ما فعَلَه، وهو ما تقدَّمَ به العلمُ والكتابُ.

ومَن قال: إن الاستطاعةَ قد تتقدَّمُ الفعلَ، وقد توجدُ بدونِ الفعلِ؛ فإنه يقولُ: إنه سيكونُ مستطيعًا لما لم يفعَلْه، ولما عُلِم وكُتِب أنه لا يفعَلُه.

(1)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 8/ 290.

ص: 373

وفصلُ الخطابِ: أن الاستطاعةَ في الكتابِ والسُّنَّةِ نوعانِ:

أحدُهما: المصحِّحةُ للفعلِ، وهي متناولةٌ الأمرَ والنَّهْيَ؛ لقولِه:{ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} ، وقولِه تعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم} ، فهذه الاستطاعةُ مُتقدِّمةٌ على الفعلِ؛ لأنها لو كانت لا توجدُ إلا معَ الفعلِ؛ لوجبَ ألا يجبَ الحجُّ إلا على مَن حجَّ.

وأما الاستطاعةُ التي يكونُ معَها الفعلُ؛ قد يقالُ: هي المقترنةُ بالفعلِ، المُوجِبةُ له، وهذه - النوعُ الثاني -؛ نحوُ قولِه:{ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} ؛ فإن الاستطاعةَ المنفية هنا ليست هي الاستطاعة المشروطةَ في الأمرِ والنَّهْيِ، التي هي مَناطُ التكليفِ في قولِه:{فاتقوا الله ما استطعتم} ؛ لكن قد يقالُ: إن الاستطاعةَ هنا كالاستطاعةِ المنفيةِ في قولِ الخَضِرِ لموسى: {إنك لن تستطيع معي صبرا} ، فإن هذه لو كان المراد بها مجرَّدَ المقارَنَةِ في الفاعلِ والتاركِ؛ لم يكُنْ فرقٌ بينَ المذمومين والمؤمنينَ، ولا بينَ موسى والخَضِر؛ فإن كلَّ أحد فعَلَ أو لم يفعَلْ، لا تكونُ المقارَنَةُ موجودةً قبلَ فِعْلِه.

والقرآنُ يدلُّ على أن هذه الاستطاعةَ إنما نُفِيتْ عن التاركِ، لا عن الفاعلِ، فعُلِم أنها تقومُ بالعبدِ من الواقعِ التي تَصُدُّ قلبَه

(1)

عن إرادةِ

(1)

في (الأصل): قبله. والمثبت من مجموع الفتاوى، والعبارة في مجموع الفتاوى 8/ 292:(فعلم أنها مضادة لما يقوم بالعبد من الموانع التي تصد قلبه عنه إرادة الفعل وعمله).

ص: 374

الفعلِ وعمَلِه بكلِّ حالٍ؛ فهذه الاستطاعةُ مُنتفِيةٌ في حقِّ مَن كُتِب عليه أنه لا يفعلُ، وقُضِي عليه ذلك.

وإذا عُرِف هذا التقسيمُ؛ عُلِم أن إطلاقَ القولِ بأن العبدَ لا يستطيعُ غيرَ ما فعَلَ، ولا يستطيعُ خلافَ المعلومِ المقدورِ، وإطلاقَ القولِ بأن استطاعةَ الفاعلِ والتاركِ سواءٌ، وأن الفعلَ لا يختصُّ من التاركِ باستطاعةٍ خاصةٍ؛ كلا الإطلاقينِ خطأٌ وبدعةٌ.

ولهذا اتَّفقَ سلَفُ الأمةِ وأئمَّتُها على أن اللهَ قادرٌ على ما علِمَه وأخبَرَ أنه لا يكونُ، وعلى ما يمتنعُ ضرورةً عنه؛ لعدمِ إرادتِه له، لا لعَدَمِ قدرتِه عليه.

وإنما خالفَ في ذلك أهلُ الضلالِ من الجَهْميَّةِ، والقَدَريَّةِ، والمتفلسفةِ الصابئةِ، والذينَ يزعمونَ انحصارَ المقدورِ في الموجودِ، ويخُصُّونَ قدرتَه بما شاءَ وعلِمَه، وقد قال تعالى:{أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه} ، وقال:{هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} .

وقد ثبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزلَتْ هذه الآيةُ: {من فوقكم} : «أعوذُ بوَجْهِكَ» ، {أو من تحت أرجلكم}:«أعوذُ بوَجْهِكَ» ، {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} ،

ص: 375

قال: «هاتانِ أهوَنُ»

(1)

، وقال تعالى:{ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} .

ومَن حكَى عن أهل السنة: أن العبدَ ليس قادرًا على غيرِ ما فعل، الذي هو خلافُ المعلومِ؛ فإنه مخطئٌ فيما نقَلَه عنهم مِن نَفْيِ القدرةِ مطلَقًا، ومُصيبٌ فيما نقَلَه عنهم من نَفْيِ القدرةِ التي اختصَّ بها الفاعلُ دونَ التاركِ.

وهذا من أصولِ تنازُعِهم في جوازِ تكليفِ ما لا يُطاقُ.

فإن مَن يقولُ: (إن الاستطاعةَ لا تكونُ إلا معَ الفعلِ، والتاركَ لا استطاعةَ له بحالٍ)؛ يقولُ: (كلُّ مَن عصى اللهَ فقد كلَّفَه ما لا يُطيقُه)، كما قد يقولونَ:(إن جميعَ العبادِ كُلِّفوا ما لا يُطيقونَ).

ومَن يقولُ: (إن استطاعةَ الفعلِ هي استطاعة التركُ)؛ يقول: (إن العبادَ لم يُكلَّفوا إلا بما هم مسبوقونَ في طاعتِه وقدرتِه واستطاعته، لا يختَصُّ الفاعلُ دونَ التاركِ باستطاعةٍ خاصةٍ).

فإطلاقُ القولِ بأنه كُلِّف ما لا يُطيقُه؛ كإطلاقِه بأنه مجبورٌ على أفعالِه؛ إذ سَلْبُ القدرةِ في المأمورِ نظيرُ إثباتِ الجبرِ في المحظورِ.

وإطلاقُ القولِ بأن العبدَ ليس مجبورًا بحالٍ؛ كإطلاقِه بأن العبدَ قادرٌ على خلافِ معلومِ اللهِ وتقديرِه.

(1)

رواه البخاري (7313)، من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 376

وسلفُ الأمةِ وأئمَّتُها يُنكِرونَ هذه الإطلاقاتِ كلَّها؛ لاشتمالِ كلِّ واحدٍ من طرَفَيِ النَّفْيِ والإثباتِ على باطلٍ، وإن كان فيه حقٌّ؛ بل الواجبُ إطلاقُ العباراتِ الحسنةِ، وهي المأثورة التي جاءتْ بها النصوصُ، والتفصيلُ في العباراتِ المجمَلةِ المشتبه.

وكذلك الواجبُ نظير ذلك في سائرِ أبوابِ أصولِ الدينِ أن يجعلَ نصوصَ الكتابِ والسُّنَّةِ هي الأصلَ المُعتمَدَ الذي يجبُ اتباعُه، ويسوغُ إطلاقُه، ويجعل الألفاظ التي تنازَعَ فيها الناسُ نفيًا وإثباتًا موقوفةً على الاستفسارِ والتفصيلِ، ويَمنَعُ من إطلاقِ نفيِ ما أثبته اللهُ ورسولُه، أو إطلاقِ إثباتِ ما نفى اللهُ ورسولُه.

وفي المسألةِ قولٌ ثالثٌ: أنه يجوز تكليف كل ما يمكن، وإن كان ممتنعًا لذاتِه كالجمعِ بينَ النقيضينِ

(1)

.

وفصلُ الخطابِ أن النِّزاعَ في أصلينِ:

أحدُهما: أن التكليفَ الواقعَ الذي اتَّفقَ المسلمونَ على وقوعِه في الشريعةِ؛ وهو أمرُ العبادِ كلِّهم بما أمَرَهم اللهُ به ورسولُه؛ من الإيمانِ به وتقواه، هل يُسمَّى هذا أو شيءٌ منه تكليفَ ما لا يُطاقُ؟ فالقائل:(إن القدرةَ لا تكونُ إلا معَ الفعلِ)؛ يقولُ: (إن المعاصيَ تكليفٌ بما لا يُطاقُ)، ويقولُ:(إنَّ كلَّ أحدٍ كُلِّف حينَ كان غيرَ مُطيق).

(1)

هذه العبارة مذكورة في الهامش في غير هذا المكان، وفي مجموع الفتاوى هي قبل قوله: (وفصل الخطاب

).

ص: 377

وكذلك مَن زعم أن تقدُّمَ العلمِ والكتابِ بالشيءِ يمنعُ أن يقدرَ على خلافِه.

وكذلك مَن يقول: (إن العرضَ لا يبقى زمانينِ)؛ يقولُ: (إن الاستطاعةَ المتقدمةَ لا تبقى إلى حينِ الفعلِ).

وهذا في الحقيقةِ ليس نزاعاً في الأفعالِ التي أمَر اللهُ بها، أو نهى عنها؛ هل يتناوَلُها التكليفُ؟

(1)

وقد قدَّمْنا أن القدرةَ نوعانِ، وأن مَن يُطلِقُ القولَ بأن الاستطاعةَ لا تكونُ إلا معَ الفعلِ؛ فإطلاقُه مخالفٌ لما ورَد في الكتابِ والسُّنَّةِ؛ كإطلاقِ الجبْرِ، وإن كان قد أطلَقَ ذلك طوائفُ من المنتسبينَ إلى السُّنَّةِ، ومَنْعُ الإطلاقِ في ذلك منقولٌ عن ابن سريج والقَلَانسيِّ، ونُقِل عن أبي حنيفةَ، وهو مُقتضَى قولِ الأئمَّةِ، وامتنعَ منه أبو إسحاقَ بنُ شاقلا، وحكى فيه القولَينِ - فيما ذكَرَه [عنه القاضي أبو يَعْلى]

(2)

-: الاستطاعةُ؛ معَ الفعلِ أو قبلَه؟

وهذا كما أن مَن قال: (ليس للعبدِ إلا قدرةٌ واحدةٌ يقدرُ بها على الفعلِ والتركِ)؛ فهو باطلٌ؛ وهم القَدَريَّةُ، الذينَ يقولونَ: (إن العبدَ لا يفتقرُ إلى اللهِ حال الفعل بعينه بأكثر مما وجد قبلَ الفعلِ، وإن اللهَ ليس

(1)

تتمة الكلام حتى يفهم المراد كما في مجموع الفتاوى 8/ 299: (وإنما هو نزاع في كونها غير مقدورة للعبد التارك لها وغير مقدورة قبل فعلها).

(2)

في الأصل: عن القاضي أبي يعلى. والمثبت من مجموع الفتاوى وهو الصواب، فإن القاضي متأخر عن ابن شاقلا.

ص: 378

له نعمةٌ أنعمَ بها على مَن آمَنَ به وأطاعه، أكثرَ من نعمتِه على مَن كفَر به وعصاه)، واتَّفَقَ أهلُ السُّنَّةِ على تضليلِ هذا.

ثم النِّزاعُ بينَهم بعدَ ذلك كثير؛ منه لفظيٌّ، ومنه اعتباريٌّ؛ كتَنازُعِهم في أن العرضَ: هل يبقى زمانينِ؟ وبَنَوا عليه بقاءَ الاستطاعةِ.

فالواجبُ أن تُجعَلَ نصوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ هي الأصلَ كما قدَّمْناه.

وأما الأصلُ الثاني - ما اتَّفقَ الناسُ أنه غيرُ مقدورٍ للعبدِ، وتَنازَعوا في جوازِ تكليفِه -، وهو نوعانِ:

أحدُهما: ما هو ممتنعٌ عادةً؛ كالمشيِ على الوجهِ، والطيرانِ، ونحوِ ذلك.

وما هو ممتنعٌ في نفْسِه؛ كالجمعِ بينَ الضِّدَّينِ، فهذا في جوازِه عقلًا ثلاثةُ أقوالٍ؛ كما تقدَّمَ، وأما وقوعُه في الشريعةِ وجوازُه شرعًا؛ فقد اتَّفقَ حَمَلةُ الشريعةِ على أن مثلَ هذا ليس بواقعٍ في الشريعةِ.

وحكى الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ؛ منهم ابنُ الزاغوني، قال: إن التكليفَ على ضَرْبَينِ:

أحدُهما: ما لا يطاقُ؛ لوجودِ ضدِّه من العجزِ؛ كنَقْطِ الكتابِ للأعمى، فلا يجوزُ؛ للإجماعِ على ذلك.

والثاني: تكليفُ ما لا يطاقُ، لا لوجودِ ضدِّه من العجزِ؛ مثلُ أن يُكلَّفَ الكافرُ الذي سبَق في علمِه أنه لا يستجيبُ للتكليفِ؛ كفرعونَ وهامانَ وأبي جهلٍ؛ فهذا جائزٌ.

وذهبَتِ المعتزلةُ إلى أن تكليفَ ما لا يطاقُ غيرُ جائزٍ.

ص: 379

وهذا الإجماعُ الذي ذكَرَه؛ هو إجماعُ الفقهاءِ والعلماءِ، فإنه قد ذهَب طائفةٌ من أهلِ الكلامِ إلى أن

(1)

تكليفَ الممتنعِ لذاتِه واقعٌ في الشريعةِ؛ وهو قولُ الرازيِّ وطائفةٍ قبلَه، وزعموا أن تكليفَ أبي جهلٍ من هذا؛ حيثُ كُلِّف أن يصدِّقَ بالأخبار التي من جُمْلتِها الإخبار بأنه لا يؤمنُ.

وهذا غلَطٌ؛ فإن من أخبَرَ اللهُ أنه لا يؤمنُ بعدَ دعاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم له إلى الإيمانِ؛ فقد حقَّت عليه كلمةُ العذابِ، كالذي يُعايِنُ الملائكةَ وقتَ الموتِ، ولم يبْقَ بعدَ هذا مُخاطَبًا من جهةِ الرسولِ بهذينِ الأمرينِ المتناقضينِ.

وكذلك مَن قال: تكليفُ العاجزِ واقعٌ؛ مُحتَجًّا بقولِه: {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} ، فإنه لا يُناقِضُ هذا الإجماعَ، إذ مضمونُ الإجماعِ ينفي وقوعَه في الشريعةِ.

وأيضًا: فإنه خطابُ تعجيزٍ على وجهِ العقوبةِ لهم؛ لتَرْكِهم السجودَ وهم سالمونَ، يعاقبون على تَرْكِ العبادةِ في حالِ قدرَتِهم؛ بأن أُمِروا بها حالَ عَجْزِهم.

وخطابُ العقوبةِ هو من جنسِ خطابِ التكوينِ، لا يُشترَطُ فيه قدرةُ المخاطَبِ؛ إذ ليس المطلوبُ فِعْلَه.

فإذا ثبتَتِ الأنواعُ والأقسامُ، زال الاشتباهُ والإيهامُ، واللهُ أعلمُ.

(1)

قوله: (أن) سقطت من الأصل، وهي مثبتة في (ك) ومجموع الفتاوى.

ص: 380

‌فَصْلٌ

(1)

‌قد قال بعضُ الناسِ:

«إنه تجوْهَرَ» ، وهذا قولُ قومٍ داوموا على الرياضةِ مدةً، فقالوا: لا نُبالي بما عمِلْنا، وإنما الأمرُ والنهيُ رَسْمٌ للعوامِّ، ولو تجَوْهَروا سقَطَ عنهم، وحاصلُ النبوةِ ترجعُ إلى الحكمةِ والمصلحةِ، والمرادُ منها ضبطُ العوامِّ، ولَسْنا من العوامِّ فندخلَ في التكليفِ؛ لأنا قد تجَوْهَرْنا، وعرَفْنا الحِكَم.

فهؤلاءِ أكفر من اليهودِ والنصارى؛ بل هم أكفرُ أهلِ الأرضِ، فإن اليهودَ والنصارى آمَنوا ببعضِ، وكفَروا

(2)

ببعضٍ، وهؤلاءِ كفروا بالجميعِ؛ خارجونَ عن التزامِ شيءٍ من الحقِّ.

لكنْ كثيرٌ من هؤلاءِ لا يُطلِقونَ السلبَ العامَّ مطلقًا؛ بل يزعمونَ سقوطَ بعضِ الواجباتِ عنهم، وحِلَّ بعضِ المحرَّماتِ لهم، فمنهم مَن يزعمُ أنه تسقط عنه الصَّلاةُ لوصولِه إلى مقصودِها، وبعضُهم يزعمُ سقوطَها وقتَ المشاهدةِ، وبعضُهم سقوطَ الجُمُعاتِ؛ استغناءً بالتوجه والحضورِ، وبعضُهم يُسقِطُ الحجَّ، ومنهم من يستحِلُّ الفطرَ في رمضانَ لغيرِ عذرٍ شَرْعيٍّ، ومنهم من يستحِلُّ الخمرَ، أو يزعمُ أنها تحرُمُ على العامةِ دونَ الخاصةِ العقلاءِ، فإن أهلَ الأنفسِ الزكيةِ والأعمالِ الصالحةِ لا يقعُ منهم ما يقعُ من العوامِّ.

(1)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 11/ 401.

(2)

في (الأصل): أو كفروا. والمثبت من (ك) ومجموع الفتاوى.

ص: 381

وهذا كان حصَلَ لبعضِ الأولينَ، فاتَّفقَ الصحابةُ رضي الله عنهم على قتلِهم إن لم يتوبوا، فإن قُدَامةَ بنَ عبدِ اللهِ شرِبَها هو وطائفةٌ، وتأوَّلوا قولَه: {ليس على الذينَ آمنوا وعملوا الصالحات جناح

} الآيةَ، فلما ذُكِر ذلك لعمرَ بنِ الخطابِ اتَّفقَ معَ عليٍّ وسائرِ الصحابةِ على أنهم إن اعترفوا بالتحريمِ جُلِدوا، وإن أصَرُّوا على استحلالِها قُتِلوا

(1)

.

وذلك أن الآيةَ نزلَتْ في الذينَ شرِبُوها قبلَ تحريمِها، وماتوا في وَقْعةِ أُحُدٍ، ثم علِمَ قدامةُ وأصحابُه أنهم قد أخطَؤوا، وأَيِسوا من التوبةِ؛ حتى كتَب إليهم عمرُ: {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم غافر الذنب وقابل التوب

}، ما أدري: أيُّ ذنبِكَ أعظمُ: استحلالُكَ المحرَّمَ أولًا، أم يأسُكَ من التوبةِ ثانيًا؟!

والذي اتَّفقَ عليه الصحابةُ مُتَّفَقٌ عليه بينَ الأئمَّةِ، لا يُنازِعونَ في ذلك.

ومن جحَد وجوبَ بعضِ الواجباتِ الظاهرةِ المتواترةِ؛ كالصَّلاةِ، أو جحَد تحريمَ بعض المحرماتِ الظاهرةِ المتواترةِ؛ كالفواحشِ والظلمِ والخمرِ والربا والزنى، أو جحَدَ حِلَّ بعضِ المباحاتِ الظاهرةِ المتواترةِ؛ كالخبزِ واللحمِ والنكاحِ: فهو كافرٌ مرتدٌّ، يُسْتتابُ، فإن تاب وإلا قُتِل، ومن أضْمَرَه فهو منافقٌ، لا يُسْتتابُ عندَ أكثرِ العلماءِ.

ومِن هؤلاءِ من يستحِلُّ بعضَ الفواحشِ؛ كمؤاخاةِ النساءِ الأجانبِ،

(1)

تقدم تخريجه ص

ظظ

ص: 382

والخَلْوةِ بهن، والمباشرةِ لهن؛ زعماً منه أنه يحصُلُ لهن البركةُ بما يفعَلُه معهنَّ، وإن كان محرمًا في الشريعةِ.

وكذلك من يستحلُّ ذلك من المُرْدانِ، ويزعمُ أن التمتعَ بالنظرِ إليهم ومباشرتِهم هو طريقٌ لبعضِ السالكينَ؛ حتى يترَقَّى من محبةِ المخلوقِ إلى محبةِ الخالقِ، ويأمرونَ بمقدماتِ الفاحشةِ الكبرى، وقد يستحِلُّونَ الفاحشةَ الكبرى، كما يستحِلُّها مَن يقولُ: إن اللِّواطَ مباحٌ بمِلْكِ اليمينِ.

فهؤلاءِ كلُّهم كفارٌ باتِّفاقِ أئمَّةِ المسلمِينَ؛ لكنْ مِن الناس من يكونُ جاهلًا ببعضِ ذلك، فلا يُحكَمُ بكفرِه حتى تقومَ عليه الحجةُ؛ {لئلا يكون للناس على الله حجة} ، كما لو أسلَمَ رجلٌ ولم يعلَمْ أن الصَّلاةَ واجبةٌ؛ يُعلَّم ذلك قبل الحكم، فإن أصرَّ كفر، بل قد اختلف العلماء فيمن أسلم ولم يعلم أن الصلاة واجبة ثم عَلِم؛ هل يجبُ عليه قضاءُ ما ترَكَه حالَ جَهْلِه؟ على قولَينِ في مذهَبِ أحمدَ وغيرِه:

أحدُهما: لا يجبُ؛ وهو قولُ أبي حنيفةَ.

والثاني: يجبُ؛ وهو قولُ الشافعيِّ، المشهورُ عند أصحابِه.

بل النِّزاعُ في كلِّ مَن ترَكَ واجبًا قبلَ بلوغِ الحجةِ؛ مثلُ: مَن ترَكَ الصَّلاةَ عندَ عدمِ الماءِ زَعْمًا منه أنها لا تصِحُّ معَ التيَمُّمِ، أو أكَلَ حتى تبيَّنَ له الخيطُ الأبيضُ من الأسودِ، كما جرى للصحابةِ

(1)

، أو مسَّ

(1)

رواه البخاري (1916)، ومسلم (1090)، من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.

ص: 383

ذكَرَه، أو أكَلَ لحمَ إبلٍ ولم يتوضَّأْ، ثم يتبيَّنَ له وجوبُ ذلك، وأمثالُ هذه المسائلِ.

وأصلُ ذلك: أن الخطابَ هل يثبتُ في حقِّ المكلَّفِ قبلَ التمكنِ من سَماعِه؟ على ثلاثةِ أقوالٍ لأحمدَ وغيرِه؛ قيلَ: يثبُتُ. وقيلَ: لا. وقيلَ: يُفرَّقُ بين الخطابِ الناسخِ وبين المبتدئ كما في القبلة.

والصحيحُ: أنه لا يثبُتُ قبلَ التمكنِ، وأن القضاءَ لا يجبُ في الصور المذكورةِ، معَ اتفاقِهم على انتفاءِ الإثمِ.

وجاء في الحديثِ: «يأتي على الناسِ زمانٌ لا يعرفونَ فيه صلاةً، ولا زكاةً، ولا صومًا، ولا حجًّا، إلا الشيخَ الكبيرَ والعجوزَ الكبيرةَ يقولون: أدْرَكْنا آباءنا وهم يقولونَ: لا إلهَ إلا اللهُ، فقيلَ لحُذَيفةَ بنِ اليمانِ: ما تُغني عنهم «لا إلهَ إلا اللهُ» بلا صومٍ، ولا صلاةٍ، ولا زكاةٍ، ولا حجٍّ؟! فقال:«تُنجِّيهم من النارِ، تنجِّيهم من النار»

(1)

.

وجميعُ الأنبياءِ قد أَتَوا بالأمرِ والنهيِ إلى حينِ موتِ العبدِ، فلا يصدر هذا القول ممن في قلبِه خضوعٌ وإقرارٌ بأن اللهَ إلهُ العالَمِ؛ لأن الإلهَ يُعبَدُ دائمًا.

وتَجَوْهُرُ النفسِ وصفاتِها وطهارتُها على الكمال عن الأكوان البشريةِ؛ ممتنعٌ في حقِّ البشرِ، ولهذا كان قول سلَفِ الأمةِ وأئمَّتِها أنَّ الأنبياءَ إنما هم مَعْصومونَ من الإقرارِ على الذنوبِ، وأن اللهَ سيدرِكُهم

(1)

رواه ابن ماجه (4049)، والحاكم في المستدرك (8460).

ص: 384

بالتوبةِ، وإن كانت حسناتُ الأبرارِ سيئاتِ المقرَّبينَ، وأن ما صدر منهم من ذلك إنما كان لكمالِ النهايةِ بالتوبةِ، لا لنَقْصِ البدايةِ بالذنبِ، وأما غيرُهم فلا تجبُ لهم العصمةُ، وإنما يَدَّعِي العصمةَ المطلقةَ لغيرِ الأنبياءِ؛ الجُهَّالُ من الرافضةِ وغاليةِ النُّسَّاكِ.

ومن هؤلاءِ من [يظن]

(1)

استغناءه عن النوافلِ حينئذٍ، وهذا مفتونٌ منكوسٌ.

‌ولفظُ الشرعِ يُطلَقُ على ثلاث معانٍ:

شرعٌ مُنزَّلٌ، وشرعٌ مُؤوَّلٌ، وشرعٌ مُبدَّلٌ.

فالمُنزَّلُ: الكتابُ والسُّنَّةُ، فهذا الذي يجبُ اتباعُه على كلِّ أحدٍ.

والمُؤوَّلُ: هو [موارد]

(2)

الاجتهادِ التي تنازع فيها الفقهاءُ، فاتباعُ أحدِ المجتهدينَ جائزٌ لمن اعتقدَ حجته هي القويةَ، أو لمن ساغ له تقليدُه.

والمُبدَّلُ: فمثلُ الأحاديثِ الموضوعةِ، والتأويلاتِ الفاسدةِ، والأقيسة الباطلةِ، والتقليدِ المحرَّمِ، فهذا يحرُمُ اتباعُه.

وهذا مِن مثارِ النِّزاعِ بين الناس، فإن كثيرًا يوجِبُ اتباعَ حاكمِه وإمامِه وشيخِه، والتزامَ حكمِ حاكمه ظاهرًا وباطنًا، ويرى أن الخروجَ عن ذلك خروجٌ عن الشريعةِ المحمديةِ، وهذا جهلٌ منه وظلمٌ؛ بل دعوى ذلك على الإطلاقِ كفرٌ ونفاقٌ، واللهُ أعلمُ.

(1)

زيادة من مجموع الفتاوى 11/ 417 يقتضيها السياق.

(2)

في الأصل: رد. والمثبت موافق لما في مجموع الفتاوى.

ص: 385

‌فَصْلٌ

‌ليس للمرأةِ

أن تُحِدَّ على غيرِ زوجِها فوقَ ثلاثٍ؛ لا على أبيها ولا أخيها، وهذا باتِّفاقِ الأئمَّةِ، فإن تعمَّدتْ ترْكَ بعضِ الثيابِ للميتِ غيرِ الزوجِ فهذا مَنْهيٌّ عنه، واللهُ أعلمُ.

‌والعمرُ يطولُ، والرزقُ يُبسَطُ

بالتوبةِ والاستغفارِ والعملِ الصالحِ، كما أن الهلاكَ والإغراقَ استَحقَّه قومُ نوحٍ بالكفرِ والتكذيبِ، وقد قال:{وأن استغفروا ربكم، ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى} الآية، وقال:{أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى} ، وقال صلى الله عليه وسلم:«مَن أحَبَّ أن يُنسَأَ له في عمُرِه، فلْيَصِلْ رَحِمَه»

(1)

.

‌واللهُ يعلمُ ما كان، وما يكونُ

، وما لا يكونُ لو كان كيفَ كان يكونُ، واللهُ أعلمُ.

‌أما تغشيةُ قبورِ الأنبياءِ والصالحينَ

وغيرِهم بالأغشيةِ؛ فليس مشروعًا في الدينِ، ولا قربةً لربِّ العالمينَ، فلا يجبُ الوفاءُ به بلا نِزاعٍ بينَ الأئمَّةِ؛ بل يُنهَى عن ذلك.

وهل على ناذِرِه كفارةُ يمين؟ على قولَينِ.

وكذلك نذر الزيتِ والحُصُرِ بمكانٍ لا يُصلِّي فيه المسلمونَ، ولا

(1)

رواه البخاري (2067)، ومسلم (2557)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 386

يَنْتفعونَ به، ليس بطاعةٍ للهِ، ولا ينعقِدُ نَذْرُه.

لكنْ من العُلَماءِ مَن يوجِبُ عليه كفارةَ يمينٍ، أو صرفَ النَّذْرِ في طاعةٍ نظيرِ هذه، ومنهم مَن لا يوجبُ شيئًا؛ فيكونُ هذا مالًا ضائعًا لا مستحِقَّ له؛ فيُصرَفُ في مصالحِ المسلمِينَ حيث ينتفعونَ به، في مسجدٍ وغيرِه.

‌فَصْلٌ

‌فيما ذُكِرَ من نزولِ الملائكةِ

إلى الأرضِ وأنهم يعبدونَ اللهَ فيها، ويموتونَ فيها: لا أصلَ لذلك.

وكذلك طيُّ السماءِ قبلَ الأرضِ بأربعينَ سنةً: باطلٌ، ولا أعلَمُ أحدًا من العُلَماءِ المعتبَرينَ ذكَر ذلك.

‌وأما الأحاديثُ المأثورةُ في المهديِّ:

فمنها ما هو صحيحٌ، ومنها ما هو حسَنٌ، وقد صحَّحَ التِّرْمِذيُّ حديثاً من حديث ابنِ مسعودٍ وأمِّ سلَمةَ وغيرِهما، قالوا:«لو لم يبْقَ من الدنيا إلا يومٌ لطوَّلَ اللهُ ذلك اليومَ؛ حتى يبعَثَ فيه رجلًا من أهلِ بيتي، يواطِئُ اسمُه اسمي، واسمُ أبيه اسمَ أبي، يملأُ الأرضَ قِسْطًا وعدلًا؛ كما مُلِئتْ ظلمًا وجَوْرًا»

(1)

.

(1)

رواه أحمد (3571)، وأبو داود (4282)، والترمذي (2230)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال الترمذي:(وفي الباب عن علي، وأبي سعيد، وأم سلمة، وأبي هريرة، وهذا حديث حسن صحيح).

وأورد أبو داود في سننه في كتاب المهدي (4284)، وابن ماجه (4086)، من حديث أم سلمة مرفوعًا:«المهدي من عترتي، من ولد فاطمة» .

ص: 387

ورُوِي عن عليٍّ أنه قال: «المهديُّ من ولدِ الحسنِ»

(1)

.

وما يُروى: «لا مهديَّ إلا عيسى» ؛ حديثٌ ضعيفٌ رواه ابنُ ماجه

(2)

.

وقد ادُّعِيتْ هذه الصفة لعددٍ كثيرٍ، وكلُّ ذلك باطلٌ؛ مثلُ ادِّعاءِ الرافضةِ ذلك لمحمدِ بنِ الحسنِ الداخلِ في السردابِ، وهو مما يُعلَمُ بُطْلانُه عقلًا، ومثلُ ادِّعاءِ محمدٍ التُومَرتِ أنه المهديُّ الذي بشَّر به رسولُ اللهِ، وقد اتَّفقَ أهلُ الدينِ على أنه كاذبٌ.

وطوائفُ ادَّعَوا ذلك؛ منهم مَن قُتِل، ومنهم من عُزِّر وحُبِس، ومنهم من راج أمرُهُ على طائفةٍ من الضُّلَّالِ؛ حتى انكشفَ ما فعَلَه من المُحالِ، وباللهِ المستعانُ.

(1)

لم نقف عليه بهذا اللفظ، ولعل شيخ الإسلام ذكره بمعناه، فقد ذكر في منهاج السنة النبوية 8/ 255، ما يتعلق بأمر المهدي وأنه من ولد الحسن، وساق ما رواه أبو داود (4290)، عن أبي إسحاق، قال: قال علي رضي الله عنه، ونظر إلى ابنه الحسن، فقال:«إن ابني هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخُلُق، ولا يشبهه في الخَلْق - ثم ذكر قصة - يملأ الأرض عدلًا» .

(2)

رواه ابن ماجه (4039)، ورواه الحاكم (8363)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الذهبي في الميزان 3/ 535:(خبر منكر).

ص: 388

‌فَصْلٌ

‌وأما الجَنازةُ التي فيها مُنكَرٌ

؛ مثلُ: أن يُحمَلَ قُدَّامَها الخبزُ والغنمُ، ويُجعَلَ على النعشِ بُشخاناتٌ

(1)

؛ فهل يُمتنع مِن تَشْيِيعِها؟ على قولَينِ؛ هما روايتانِ عن أحمدَ، والصحيحُ: أنه يُشيِّعُها؛ لأنه حقٌّ للميتِ، فلا يسقُطُ بفعلِ غيرِه، ويُنكِرُ بحسَبِه، وإن كان ممن إذا امتنعَ ترَكوا المنكَرَ؛ امتنَعَ؛ بخلافِ الوليمةِ؛ فإن صاحبَ الحقِّ هو فعل المنكَرَ، فسقَط حقُّه لمعصيتِه؛ كالمتلبِّسِ بمعصيةٍ، لا يُسلَّمُ عليه

(2)

حالَ تلبُّسِه بها، واللهُ أعلمُ.

‌فَصْلٌ

‌الذي عليه أهلُ السُّنَّةِ:

أن اللهَ لا يُخلِّدُ في النارِ أحدًا من أهلِ الإيمانِ.

وخالفَ في ذلك قومٌ من أهلِ البِدَعِ كالخوارجِ والحَروريةِ

(1)

قال ابن القيم في حادي الأرواح ص 281 في أثناء كلامه على نعيم الجنة: (وإن سألت عن أرائكها؛ فهي الأسرة عليها البشخانات؛ وهي الحجال مزررة بأزرار الذهب).

وفي شرح مختصر خليل للخرشي 1/ 252: (البشخانات، بضم الباء، البشخانة هي الناموسية في عرف مصر).

(2)

في (الأصل): عليها. والمثبت من (ك).

ص: 389

والمعتزلةِ، فقالوا: إن أهلَ الكبائرِ يُخلَّدونَ فيها، ومن دخَلَها لم يخرُجْ بشفاعةِ محمدٍ ولا غيرِه.

وعارَضَ هؤلاءِ قومٌ من المرجئةِ، زعموا أن الإيمانَ من الخلقِ جميعِهم واحدٌ، وأن إيمانَ الملائكةِ والأنبياءِ والصدِّيقينَ كإيمانِ أهلِ الكبائرِ.

وغُلاتُهم تزعمُ: أنه لا يدخُلُ النارَ أحدٌ، ويُحرِّفونَ الكَلِمَ عن مواضِعِه.

وكلُّ هؤلاءِ ضالونَ.

فالأولون نظَروا

(1)

إلى نصوصِ الوعيدِ، والثانيةُ نظَروا إلى نصوصِ الوعدِ.

وأما أهلُ السُّنةِ فآمنوا بكلِّ ما جاء من عندِ اللهِ، ولم يَضربوا بعضَ ذلك ببعضٍ، ونظروا في الكتابِ والسُّنَّةِ؛ فوجَدوا

(2)

أن أهلَ الكبائرَ الذينَ أوعدوا بالعقابِ بيَّنَ أن عقابَهم يزولُ عنهم بأسبابٍ:

أحدُها: التوبةُ، فإن اللهَ يغفرُ الذنوبَ جميعًا.

الثاني: الحسناتُ الماحيةُ؛ كما قال: {والوزن يومئذ الحق} .

الثالثُ: مصائبُ الدنيا والبرزخِ.

(1)

في (الأصل): نظر. والمثبت من (ك).

(2)

في الأصل و (ك): وجدوا، والمثبت من (ز).

ص: 390

الرابعُ: الدعاءُ والشفاعةُ؛ مثلُ: الصدقةِ عليه بعدَ موتِه، والدعاءِ له، والاستغفارِ له.

الخامسُ: الأعمالُ الصالحةُ التي يُهْديها له غيرُه من عَتاقةٍ وصدقةٍ.

السادسُ: رحمةُ ربِّه.

فكلُّ حديثٍ فيه عن مؤمنٍ أنه يدخلُ النارَ، وأنه لا يدخلُ الجنةَ؛ فقد فسَّرَه الكتابُ والسُّنَّةُ: أنه عندَ انتفاءِ هذه الموانعِ.

وكذلك نصوصُ الوعدِ مشروطةٌ بعدمِ الأسبابِ المانعةِ:

فأعظَمُها: أن يموتَ كافرًا.

ومنها: أن تكثُرَ ذُنوبُه وظلمُه؛ فيُؤخَذُ من حسناتِه حتى تذهبَ.

ومنها: أن يُعقِبَ العملَ ما يُبطِلُه؛ كالمَنِّ والأذى، وتركِ صلاةِ العصرِ - قيلَ: تُحبِطُ عملَ ذلك اليومِ -، وكما قال:«مَن لم يدَعْ قولَ الزورِ والعملَ به؛ فليسَ للهِ حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابَه»

(1)

.

فالنفي هو الدخولُ المُطلَقُ، وهو دخولُ الجنةِ بلا عذابٍ، فمن أتى بالكبائرِ لم يستحِقَّ هذا الدخولَ المُطلَقَ الذي لا عذابَ قبلَه.

وهذا مثلُ قولِه: «مَن غشَّنَا فليس مِنَّا»

(2)

.

(1)

رواه البخاري (1903)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم (101)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 391

فإن الاسمَ المُطلَقَ للنبيِّ والذينَ آمنوا معَه؛ الإيمانُ الكاملُ المُطلَقُ الذي يستحِقُّونَ به الثوابَ، ويدفعُ عنهم به العقابَ، فمن غشَّهم؛ لم يكُنْ من هؤلاءِ؛ بل معَه أصلُ الإيمانِ الذي يفارقُ به الكفارَ، ويخرجُ به من النارِ.

وإذا جاء: «مَن ماتَ وهو يعلَمُ أنه لا إلهَ إلا اللهُ؛ دخلَ الجنةَ، وإن زنى، وإن سرق، وإن شرِب الخمرَ»

(1)

، ونحوُه؛ فهذا يُعطي أن صاحبَ الإيمانِ مستحِقٌّ للجنةِ، وأن الذنوبَ لا تمنَعُه ذلك؛ لكنْ قد يحصُلُ له قبلَ الدخولِ نوعٌ من العذابِ، إما في الدنيا، وإما في البَرْزخِ، وإما في العَرْصةِ، وإما في النارِ.

وكذلك نصوصُ الوعيدِ؛ كقولِه: «لا يدخُلُ الجنةَ قاطعُ رحِمٍ»

(2)

، وكقولِه:«ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم اللهُ، ولا ينظرُ إليهم: مَلِكٌ كذابٌ، وشيخٌ زانٍ، وعائلٌ مستكبِرٌ»

(3)

، و:«لا يدخلُ الجنةَ مَن في قلبِه مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ»

(4)

، و:«لا يدخُلُ النارَ مَن في قلبِه مِثْقالُ ذَرَّةٍ من إيمانٍ»

(5)

، و:«مَن شرِبَ الخمرَ في الدنيا لم يشرَبْها في الآخرةِ»

(6)

، و: «مَن لبِسَ

(1)

رواه البخاري (5827)، ومسلم (94)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه بنحوه.

(2)

رواه البخاري (5984)، ومسلم (2556)، من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.

(3)

رواه مسلم (107)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

رواه مسلم (91)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(5)

رواه أحمد (3947)، وأبو داود (4091)، والترمذي (1999)، وابن ماجه (59)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(6)

رواه البخاري (5575)، ومسلم (2003)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 392

الحريرَ في الدنيا لم يلبَسْه في الآخرةِ»

(1)

، و:«المسبل والمَنَّانُ والمنفقُ سِلْعتَه بالحلِفِ الكاذبِ لا يُكلِّمُهم اللهُ، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ»

(2)

، وثلاثةٌ أخَرُ:«رجلٌ على فَضْلِ ماءٍ يمنَعُه ابن السبيلِ، فيقولُ: اليومَ أمنَعُكَ فَضْلي كما مَنَعتَ فَضْلَ ما لم تعملْ يداكَ، ورجلٌ بايَعَ إمامًا لا يُبايِعُه إلا للدنيا، ورجلٌ حلفُ على سِلْعةٍ بعدَ العصرِ كاذبًا: لقد أعطى أكثرَ مما أُعطِي»

(3)

، و: «لا يدخُلُ الجنةَ بخيلٌ، ولا مَنَّانٌ، ولا سيئُ الملَكَةِ

(4)

»

(5)

، فإن البخلَ مِن الكبائرِ، وهو منعُ الواجباتِ؛ من الزكاةِ، وصِلةِ الرحمِ، وقِرَى الضيفِ، وتركِ الإعطاءِ في النوائبِ، وتركِ النفقات الواجبة وقضاء الديون، وترك الإنفاق في سبيلِ اللهِ، وعقوقُ الوالدينِ، وشهادةُ الزورِ، وأكلُ مالِ اليتيمِ، وقذفُ المُحصَناتِ، والتولِّي يومَ الزَّحْفِ، والسحرُ، وأكلُ الربا من الكبائرِ، بل كلُّ ذنبٍ فيه حدٌّ للهِ في الدنيا، أو في الآخرةِ؛ مثلُ: غضبِ اللهِ، ولعنتِه، والنارِ.

وهذا بابٌ يطولُ وصفُه؛ لكن قد ذكَرْنا الأصلَ الجامعَ في ذلك.

(1)

رواه البخاري (5832)، ومسلم (2073)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم (106)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (2672)، ومسلم (108)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

في (الأصل): المملكة. والمثبت من (ك) و (ع)، وهو الموافق لما المسند.

وسيئ المَلَكَة: الذي يسيء صحبة المماليك. ينظر: النهاية في غريب الحديث 4/ 358.

(5)

رواه أحمد (13)، والترمذي (1963)، من حديث أبي بكر رضي الله عنه.

ص: 393

‌ومَن تاب من ذنبٍ فيما بينَه وبينَ اللهِ

؛ فإن اللهَ يتوبُ عليه، وإن كان مِن مظالمِ العبادِ مثلُ ظلمِ أبَوَيْه؛ فعليه أن يفعلَ معهم الحسناتِ بقَدْرِ ما فعَل من السيئاتِ؛ حتى يقومَ هذا بهذا.

‌فَصْلٌ

‌قد ثبَتَ بالكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ

أمرُ الثقلينِ؛ الجنِّ، والإنسِ، وثبَتَ أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسولٌ إليهما.

واتفقوا على ثوابِ الإنسِ على الطاعةِ، واختلفوا في الجنِّ؛ هل يُثابُونَ، أو لا ثوابَ لهم إلا النجاةُ من العذابِ؟ على قولَينِ:

والأول: قولُ جمهور المالكيةِ والشافعيةِ والحنبلية وأبي يوسفَ ومحمدٍ، وغيرِهم.

والثاني: مأثورٌ عن طائفةٍ، منهم أبو حنيفةَ.

وقد اختُلِف: هل من شرطِ الوجوبِ العقابُ على الترك؟ على قولَينِ.

وأما الثوابُ على الفعلِ: فواجبٌ بالسمعِ.

‌ومَن لا تكليفَ عليه:

هل يُبعَثُ يومَ القيامةِ؟ فالإنسُ والجنُّ يُبعَثونَ جميعًا بالاتفاقِ، ولم يختلفوا - فيما علمتُ - إلا فيمن لم تُنفَخْ فيه الرُّوحُ، واختار القاضي: بَعْثَه، وذكَرَه عن أحمدَ.

‌وأما البهائمُ فهي مبعوثةٌ

بالكتابِ والسُّنَّةِ، قال اللهُ: {وما من دابة في

ص: 394

الأرضِ} إلى قوله: {ثم إلى ربهم يحشرون} {وإذا الوحوش حشرت} ، والحديثُ في قولِ الكافرِ:{يا ليتني كنت ترابا} ، لما يرى

(1)

، معروفٌ، وما أعلمُ فيه خلافًا.

‌ولكن اختَلفَ بنو آدمَ

في معادِ الآدميِّينَ على أربعةِ أقوالٍ:

أحدُها: قولُ المسلمِينَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وجماهيرِ اليهودِ والنصارى والمجوسِ: أن المعادَ للرُّوحِ والبدنِ، ويُنكِرونَ معادَ رُوحٍ قائمةٍ بنفْسِها.

الثاني: أن المعادَ للبدنِ دونَ الروحِ

(2)

.

والثالثُ: ضدُّ هذا، وهو قولُ الفلاسفةِ ومَن ينصَر مذهَبَهم من متكلِّمي أهلِ القِبْلةِ ومُتصوِّفيهم: أن المعادَ للرُّوحِ دونَ البدنِ.

الرابع: أنه لا معادَ لا لبدنٍ ولا لروحٍ، وهو قولُ أكثر مشركي العربِ، والطبائعِيِّينَ، والمُنجِّمِينَ، وبعضِ الإلهيِّينَ من المتفلسفةِ.

(1)

كتب في هامش الأصل: (لعله: من جعل البهائم تراباً)، وهي مثبتة في (ك) في أصل الكتاب.

والحديث رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 55)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا وموقوفًا، ورواه أيضًا (24/ 54)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما موقوفًا.

(2)

سقط من الأصل قوله: (الثاني: أن المعادَ للبدنِ دونَ الروحِ)، وأُثبِتت في (ك)، وكُتب في هامش الأصل:(لعله: الثاني: معاد البدن). وفي الصفدية 2/ 267: (والثاني: القول بمعاد البدن فقط، وهذا قول كثير من أهل الكلام من الجهمية والقدرية ومن وافقهم من الأشعرية).

ص: 395

فعلى هذينِ القولَينِ؛ يُنكر حَشْرُ البهائمِ، وعلى القولَينِ الأولينِ؛ يُقبَلُ الخلافُ.

‌فَصْلٌ

‌ومَن لا تكليفَ عليه

ممن رُفِعَ عنه القلمُ؛ هل يُعذَّبُ في الآخرةِ؟

وهنا مسألةُ أطفالِ المشركينَ، فمَن قال من أصحابِنا وغيرِهم: إنهم يُعذَّبونَ تَبَعًا لآبائِهم؛ قال بتعذيب غيرِ المكلَّفِ تَبَعًا.

ومَن قال: يدخلونَ الجنةَ، من أصحابنا وغيرِهم؛ قال: يُنعِّمُهم.

والصوابُ: أنهم لا يُعذَّبونَ جميعُهم؛ ولا ينعمون جميعهم، بل فريقٌ في الجنةِ وفريقٌ في السعيرِ، وهذا مُقتضَى نصوصِ أحمدَ؛ فإن أكثرَ نصوصِه الوقفُ، لا يُحكَمُ بجنةٍ ولا بنارٍ، فدلَّ على جوازِ الأمرينِ عندَه في حقِّ المُعيَّن.

وأما تجويز الأمرِين في حقِّ مجموعِهم؛ فلا يلزمُهم، وهذا قولُ الأشعريِّ وغيرِه، وبهذا أجابَ رسولُ اللهِ في قولِه:«اللهُ أعلمُ بما كانوا عاملِينَ»

(1)

، فبيَّنَ أن الأمرَ راجعٌ إلى علمِ اللهِ فيما كانوا يعملونَ لو بَلَغوا.

‌ويجوزُ قتلُ الصبيِّ

إذا قاتلَ أو صال؛ كالمجنونِ، والبهيمةِ

(2)

.

(1)

رواه البخاري (1384)، ومسلم (2658)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

في الأصل مكتوب على أولها وآخرها (م)، والعبارة مقحمة.

ص: 396

‌وفي حديثِ عائشةَ:

«عُصفورٌ من عصافيرِ الجنةِ» ، فقال: «أوَغيرَ ذلك يا عائشةُ، إن اللهَ خلَقَ للجنةِ أهلاً وهم في أصلاب

(1)

آبائِهم، وخلَق للنارِ أهلاً وهم في أصلابِ آبائِهم»

(2)

.

وثبَتَ أن الغلامَ الذي قتَلَه الخَضِرُ طُبِعَ كافراً، وقتَلَه قبلَ الاحتلامِ، وكان أبواه مؤمنَينِ

(3)

.

ولهذا قال أصحابُنا: لا يُشهَدُ لأحدٍ بعينِه من أطفالِ المؤمنينَ أنه في الجنةِ؛ ولكن يُطلَقُ القولُ: إن أطفالَ المؤمنينَ في الجنةِ.

وقد رُوِي أحاديثُ حسانٌ: أن اللهَ تعالى يمتحنُ مَن لم يُكلَّفْ في الدنيا مِن الصِّبْيانِ والمجانينِ، ومَن مات في الفترةِ، يوم القيامة؛ فمَن أطاعَ دخل الجنةَ، ومن عصى دخل النارَ

(4)

.

فهذا التفصيلُ هو الصوابُ.

وأما البهائمُ؛ فعامةُ المسلمِينَ أنه لا عقابَ عليهم إلا ما يُحكَى عن التناسخيةِ.

(1)

في (الأصل): بطون. والمثبت من (ك)، وهو الذي في صحيح مسلم.

(2)

رواه مسلم (2662).

(3)

رواه مسلم (2661)، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.

(4)

رواه أحمد (16301)، من حديث الأسود بن سريع رضي الله عنه، وتقدم تخريجه ص

ص: 397

‌فَصْلٌ

(1)

‌الدنيا دارُ تكليفٍ بلا خلافٍ

، وكذلك البَرْزخُ وعَرْصةُ القيامةِ، وإنما ينقطعُ التكليفُ بدخولِ دارِ الجزاءِ، وهي الجنةُ أو النارُ؛ كما صرَّحَ بذلك أصحابُنا وغيرُهم.

والامتحانُ في البَرْزخِ لمن لم يكُنْ مكلَّفًا؛ فيهم

(2)

قولانِ لأصحابِنا

(3)

وغيرِهم، وعلى هذا؛ لا خلافَ في امتحانِهم في العَرْصةِ.

وغيرُ المكلَّفِ قد يُرحَمُ؛ فإن أطفالَ المؤمنينَ معَ آبائِهم في الجنةِ.

‌فَصْلٌ

‌والتكليفُ بالأمرِ والنهيِ

ثابتٌ بالشرعِ والاتفاقِ، وفي ثبوتِه بالعقلِ اختلافٌ بينَ العلماءِ من أصحابِنا وغيرِهم.

‌والثوابُ والعقابُ معلومٌ بالسمعِ

؛ وهو قولُ كثيرٍ من أصحابِنا والأشعريةِ وغيرِهم، وذهَب طوائفُ إلى أنه يُعلَمُ بالعقلِ.

والصوابُ: أن معرفتَه بالسمعِ واجبةٌ، وأما بالعقلِ فقد يُعرَفُ وقد لا يُعرَفُ، وليست معرفتُه بالعقلِ ممتنعةً، ولا هي واجبةٌ، واللهُ أعلمُ.

(1)

ينظر أصل الفتوى لهذا الفصل والذي بعده في: جامع المسائل - المجموعة الثالثة، ص 238.

(2)

في الأصل: ففيهم. والمثبت من (ك).

(3)

في الأصل: ولأصحابنا. والمثبت من (ك).

ص: 398

‌فَصْلٌ

‌وأما الشهادةُ لرجلٍ بعينِه

بأنه من أهلِ النارِ أو الجنةِ؛ فليس لأحدٍ ذلك إلا بما يوجبُ؛ كالعشرةِ الذينَ أخبر عنهم الصادقُ.

ومنهم من جوَّزَ ذلك لمن استفاضَ في الأمةِ الثناءُ عليه؛ كعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ وأمثالِه

(1)

.

وقد كان بعضُ السَّلَفِ يمنعُ أن يُشهدَ بالجنةِ لغيرِ الرسولِ؛ حتى ناظَرَ عليُّ بنُ المَدِينيِّ أحمدَ في هذه المسألةَ، وقال:(أقولُ: إنهم في الجنةِ، ولا أشهدُ)، فقال أحمدُ:(متى قلتَ: إنهم في الجنةِ؛ فقد شهِدتَّ أنهم في الجنةِ)

(2)

.

وإنما توقَّفَ الناسُ في القطع؛ لخَوْفِ الخاتمةِ، ومعَ هذا فنرجو للمُحسِنِ، ونخافُ على المسيءِ.

‌ومَن ظهَر منه أفعالٌ

يُحِبُّها اللهُ ورسولُه؛ وجَبَ أن نُعاملَه بموجَبِ ذلك من المولاةِ والمحبةِ والإكرامِ، ومَن ظهَرَ منه خلافُ ذلك؛ عُومِلَ بمقتضاه.

(1)

قال في مجموع الفتاوى 11/ 65: (أما من شاع له لسان صدق في الأمة، بحيث اتفقت الأمة على الثناء عليه؛ فهل يشهد له بذلك؟ هذا فيه نزاع بين أهل السنة، والأشبه أن يشهد له بذلك).

(2)

السنة لأبي بكر الخلال (2/ 362)، وما بعدها.

ص: 399

‌فَصْلٌ

‌في قولِه في الحديثِ الصحيحِ

الذي قال في آخرِه: «قد غفرتُ لعبدِي؛ فليَعمل ما شاء»

(1)

؛ هذا الحديثُ لم يجعَلْه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عامًّا في كلِّ من أذنب وتاب، وإنما ذكَرَه حكايةَ حالٍ عن عبدٍ كان منه ذلك، فأفادَ أن العبدَ قد يعمَلُ من الحسناتِ العظيمةِ ما يُوجِبُ غُفْرانَ ما تأخَّرَ من ذنوبِه، وإن غُفِر بأسبابٍ.

وهذا مثلُ حديثِ حاطِبِ بنِ أبي بَلْتعةَ الذي قال فيه: «وما يُدريكَ أن اللهَ اطَّلعَ على أهلِ بدرٍ، فقال: اعمَلوا ما شِئتُم، فقد غفرتُ لكم»

(2)

، وكما جاء غلامُ حاطِبٍ يشكوه، فقال: واللهِ يا رسولَ اللهِ، ليدخُلَنَّ حاطبٌ النارَ! فقال:«كذبْتَ، إنه قد شهِدَ بدرًا والحُدَيْبِيَةَ»

(3)

. وقال: «لا يدخل النارَ أحدٌ بايع تحت الشجرة»

(4)

.

ففي هذه الأحاديثِ بيانُ أن مِن المؤمنين مَن يعملُ من الحسناتِ ما يُغفَرُ له بها ما تأخَّرَ من ذنوبه، وإن غُفِر بأسبابِها، ويدُلُّ على أنه يموتُ مؤمنًا، ويكونُ من أهلِ الجنةِ، وإذا وقَع منه ذنبٌ فقد يتوبُ؛ كما تاب على بعضِ البَدْريِّينَ؛ كقُدامةَ بنِ عبدِ اللهِ؛ لما شرِبَ الخمرَ متأوِّلًا،

(1)

رواه مسلم (2758)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (3007)، ومسلم (2494)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(3)

رواه مسلم (2495)، من حديث جابر رضي الله عنه.

(4)

رواه مسلم (2496) بنحوه، من حديث أم مبشر رضي الله عنها.

ص: 400

فاستتابَه عمرُ والصحابة، وجلدوه، وتطهَّرَ بالحدِّ والتوبةِ، وإن كان ممن قيلَ له:«اعمَلوا ما شئتُم»

(1)

.

ومغفرةُ اللهِ لعبدِه لا تنافي أن تكونَ المغفرةُ بأسبابِها، ولا تمنعُ أن تصدر منه توبةٌ؛ إذ مغفرةُ اللهِ لعبدِه مقتضاها: أنه لا يُعذِّبُه بعدَ الموتِ، وهو سُبْحانَه يعلمُ الأشياءَ على ما هي عليه، فإذا علِمَ من العبدِ أنه سيتوبُ، أو يعملُ حسناتٍ ماحيةً؛ غفَرَ له في نفسِ الأمرِ؛ إذ لا فرقَ بينَ أن يحكمَ بالمغفرةِ، أو بدخولِه الجنةِ.

ومعلومٌ أنَّ من بَشَّره بالجنةِ فإنما هو لعِلْمِه بما يموتُ عليه، ولا يُمنَعُ أن يعملَ سببَها.

وعلمُ اللهِ بالأشياءِ وإخبارُه بها لا ينافي ما علَّقَها عليه من الأسبابِ؛ كما أخبَرَ: «أن ما منكم من أحدٍ إلا وقد كُتِب مقعدُه من الجنةِ أو النارِ» ، ومعَ ذلك فقال:«اعمَلوا، فكلٌّ مُيسَّرٌ لما خُلِقَ له»

(2)

، وكمَن أُخبِرَ أنه ينتصرُ على عدُوِّه؛ لا يَمنَعُ أن يعملَ أسبابَه، أو أنه يكونُ له ولدٌ؛ لا يُمنَعُ أن يتزوجَ أو يتَسرَّى، وكذا من أُخبِرَ بالمغفرةِ والجنةِ؛ لا يَمنَعُ أن يريد الآخرةَ، ويسعى لها سَعْيَها.

ومن ذلك الدعاءُ المذكورُ في آخِرِ البقرةِ، فقد ثبَتَ أنه تعالى قال:«قد فعلتُ»

(3)

، ومعَ ذلك فمِن المشروعِ لنا أن ندعوَه.

(1)

تقدم تخريجه ص

(2)

رواه البخاري (4945)، من حديث علي رضي الله عنه.

(3)

رواه مسلم (126)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 401

ومنه قولُه: «سَلوا اللهَ لي الوسيلةَ»

(1)

، فحصولُ الموعودِ لا ينافي السببَ المشروعَ.

وأبلغُ من ذلك قولُه لنبِيِّه سنةَ ستٍّ: {ليغفر لك الله ما تقدَّمَ من ذنبك وما تأخر} ، ومعَ هذا فما زال يستغفرُ في بقيةِ عُمُرِه.

وقال له في آخر سورةِ النصرِ

(2)

: {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} ، وكان يتأوَّلُ ذلك في ركوعِه وسجودِه؛ أي: يمتثلُ ما أمَرَه ربُّه

(3)

.

فإذا كان هذا سيدَ المرسلينَ، كيفَ لا يستغفرُ غيرُه ويتوبُ؟! وإن قيلَ له ذلك.

ولهذا سُبْحانَه ما زال يخاطِبُ أهلَ بدرٍ وبيعةِ الرِّضوانِ بالأمرِ والنهيِ، والوعدِ والوعيدِ، ويذكرُ أنه يتوب عليهم؛ كما قال:{لقد تاب الله على النبي والمهاجرين} الآية، وقد نزلَتْ بعدَ عام الحديبيةِ بثلاثِ سنينَ، وقد كان من شأنِ مِسطَحٍ ما كان، وهو من أهلِ بدرٍ، وتوعَّدَه اللهُ في قولِه:{لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم} ، وقولِه:{وهو عندَ اللهِ عظيم} ، وقولِه:{إن الذينَ يرمون المحصنات} إلى قوله: {لعنوا في الدنيا والآخرة}

(1)

رواه مسلم (384)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

(2)

قوله: (النصر) سقطت من الأصل. ومثبتة في (ك) و (ع).

(3)

رواه مسلم (484)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 402

الآية، وقد رُوِي أن النبيَّ جلَدَهم

(1)

.

فقد وقع هذا البدريُّ المغفورُ له بهذا الإفكِ العظيمِ؛ لكنْ تاب منه بلا رَيْبٍ، فتبيَّنَ أن قولَه:«فقد غفرْتُ لكم» لا يمنعُ أن يعملوا بعدَ ذلك ذنوبًا، ويتوبونَ؛ بل لئلا

(2)

يتكلوا على الأخبارِ فقط؛ بل لا بدَّ من فعلِ السببِ من التوبةِ، أو الحسناتِ الماحية مع المتقدمةِ، أو غيرِ ذلك من الأسبابِ؛ كالمصائبِ في الدنيا، أو في البَرْزخِ، أو في القيامةِ، أو يرحَمُه.

وهذه الأسبابُ يشتركُ فيها من علِمَ أنه غُفِر له ومَن لم يعلَمْ؛ لكن الذي علم قد علِمَ أن اللهَ يغفرُ له، ويُدخِلُه الجنةَ، وأما الجاهلُ بحالِه؛ فلا يدري حالَه عندَ اللهِ، فعِلْمُه بأن اللهَ يغفرُ الذنبَ ويأخذُ به، وإيمانُه العظيمُ الذي في قلبِه بذلك؛ أفادَه أنه صار عندَ اللهِ ممن يُغفَرُ له لا محالةَ، ولا بدَّ له من الأسبابِ، فإنه لا بدَّ أن يدومَ على الإيمانِ، ودوامُه على الإيمانِ من أعظمِ الحسناتِ الماحيةِ، ولا بدَّ أن يصلِّيَ ويتوبَ ويستغفرَ ونحوُ ذلك من موجِباتِ الرحمةِ وعزائمِ المغفرةِ.

ومن كرَّر التوبةَ مراتٍ، واسترسلَ في الذنوبِ، وتعلَّقَ بهذا الحديثِ

(3)

؛ كان مخدوعًا مغرورًا من وجهَينِ:

(1)

رواه أحمد (24066)، وأبو داود (4474)، والترمذي (3181)، وابن ماجه (2567)، من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت:«لما نزل عذري، قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فذكر ذاك، وتلا - تعني - القرآن، فلما نزل من المنبر، أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم» .

(2)

قوله: (لئلا) سقطت من الأصل. والمثبت من (ك).

(3)

وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه في أول الفصل: «قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء» .

ص: 403

أحدُهما: ظنُّه أن هذا الحديثَ عامٌّ في حقِّ كلِّ تائبٍ، وإنما هو حكايةٌ، فيدلُّ على أن في عباد الله مَن هو كذلك.

الثاني: أن هذا لا يقتضي أن يُغفَرَ له بدونِ أسبابِ المغفرةِ؛ كما قدَّمْناه، ومَن كرَّر هذه التوبةَ المذكورةَ لا يُجزَمُ له أنه قد دخل في معنى هذا الحديثِ، وأنه يعملُ بعدَ ذلك ما شاءَ، ولكن يُرجَى له أنه قد يكونُ من أهلِ هذا الوعدِ، ولا يُجزَمُ لمعيَّنٍ بهذا الحكمِ، كما لا يُجزَمُ في حقِّ معيَّنٍ بسائرِ نصوصِ الوعدِ والوعيدِ، فإن هذا كقولِه: من فعَل كذا دخَل الجنةَ، ومَن فعَل كذا دخَل النارَ؛ لا يُجزَمُ لمعيَّنٍ؛ لكن نرجَو للمُحسِنِ، ونَخافُ على المسيءِ.

ومن هذا البابِ؛ حديثُ البطاقةِ التي جِيء بالرجلِ وأُخرِج له تسعةٌ وتسعون سجلاً، كلُّ سجلٍّ مدَّ البصرِ، وأُخرِج له بطاقةٌ قَدْرُ الكفِّ فيها التوحيدُ، فرجَحتْ على تلك السِّجِلاتِ

(1)

.

وليس كلُّ من تكلَّمَ بالشهادتينِ كان بهذه المنزلة؛ لأن هذا العبدَ قد كان في قلبِه من التوحيدِ واليقينِ والإخلاصِ ما أوجَبَ أن عُظِّمَ قدرُه حتى صارَ راجحًا على هذه السيئاتِ، ومن أجلِ ذلك صارَ المُدُّ من الصحابةِ أفضلَ من جبلِ أُحُدٍ من غيرِهم ذهباً.

ومن ذلك: حديثُ البَغِيِّ التي سقَتْ كلبًا، فغُفِر لها

(2)

، فلا يُقالُ في

(1)

رواه ابن ماجه (4300)، والحاكم (1937)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري (3467)، ومسلم (2245)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 404

كلِّ بَغِيٍّ سقَتْ كلبًا: غُفِر لها؛ لأن هذه البغيَّ قد حصَلَ لها من الصدقِ والإخلاصِ والرحمةِ بخَلْقِ اللهِ ما عادلَ إثمَ البِغاء، والمغفرةُ تحصُلُ بما يحصُلُ في القلبِ من الإيمانِ الذي يعلمُ اللهُ به مقدارَه وصفتَه، وهذا يفتحُ بابَ العملِ، فيجتهدُ العبدُ أن يأتيَ بهذه الأعمالِ وأمثالِها من موجِباتِ الرحمةِ وعزائمِ المغفرةِ، ويكونُ معَ ذلك بينَ الخوفِ والرجاءِ، كما قال:{والذينَ يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} .

ولهذا استثنى ابنُ مسعودٍ وغيرُه في الإيمانِ

(1)

، وقولُ أحدهم:(أنا مؤمنٌ إن شاءَ اللهُ)، فإن الإيمانَ المُطلَقَ الكاملَ يقتضي أداءَ الواجبِ، وأحدُهم لا يعلَمُ أنه أدى الواجبَ كما أُمِر، فلهذا استَثْنَوا فيه، واستَثْنَوا في الصَّلاةِ وغيرِها؛ لأنه لا يُجزَمُ بأنه أتى بها على وجهِها، فيأتي بما أتى من الخيرِ وقلبُه وجِلٌ.

وإن كان للاستثناءِ وجهٌ آخَرُ؛ وهو خوفُ الخاتمةِ، وأن المؤمنَ المُطلَقَ في علِمِ اللهِ: أنه يموتُ على ذلك.

ووجهٌ ثالثٌ: وهو التبَرُّكُ بتعليقِه بمشيئةِ اللهِ.

ومثلُ هذا الحديثِ يُوجِبُ فائدتينِ عظيمتينِ:

إحداهما: أن يعملَ الإنسانُ مثلَ هذا العملِ مجتهدًا في تقوى اللهِ؛ حتى يُثيبَه بمثلِ هذا الجزاءِ.

الثاني: أنه إذا رأى غيرَه من المؤمنينَ له من الذنوبِ ما يمكنُ أن

(1)

رواه ابن أبي شيبة (30335)، والخلال في السنة (1129).

ص: 405

يكونَ له معَها مثلُ هذه الحسنةِ التي يكونُ صاحِبُها مغفورًا له؛ لم يشهَدْ له بالنارِ، ولم نعامِلْه بما يُعاملُ به أهلَ الكبائرِ؛ بل نرجو أن يرحمَه اللهُ؛ بل ويكونُ من أولياءِ اللهِ، فإن مَن كان مؤمنًا تقِيًّا كان للهِ وليًّا، فلا يُحكَمُ على أحدٍ من أهل القِبْلةِ معينٍ أنه من أهلِ النارِ؛ إلا أن يكونَ معَه علمٌ بيقينٍ، كالذي شهِدَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه من أهلِ النارِ؛ فقتل نفْسَه بالمِشْقَصِ

(1)

، وابنِ أُبَيِّ، وإبليسَ، واللهُ أعلمُ.

‌فَصْلٌ

في الصحيحِ أنه قال: «من أحَبَّ أن يُبسَطَ له في رزقِه، ويُنسَأَ له في عمُرِه؛ فلْيَصِلْ رحِمَه»

(2)

؛ وقد تأوَّلَ بعضُهم: أنه يُبارَكُ له في عمرِه؛ حتى قد يعملُ فيه من الخيرِ في العمرِ القصيرِ ما يعمَلُه غيره بالعمرِ الكثير.

والصحيحُ: أنه يزيدُ وينقُصُ بما في أيدي الملائكةِ من الصُّحُفِ؛ كما تقدَّمَ

(3)

.

وليس لأحدٍ اطلاعٌ على اللَّوحِ سوى اللهِ، وما يُوجَدُ في كلامِ بعضِ الشيوخِ والمتكلمينَ من الاطلاعِ عليه؛ فهو مبنيٌّ على ما تلقوه: أن اللوحَ هو العقلُ الفعالُ، وأن نفوسَ البشرِ تتصِلُ به، كما يذكرُ مثلَ ذلك

(1)

رواه البخاري (2898)، ومسلم (112)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (2067)، ومسلم (2557)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

ينظر ص

عند قوله: (وأما الصُّحُفُ التي بيد الملائكةِ).

ص: 406

صاحبُ رسائلِ إخوانِ الصفا، وقد يُوجَدُ في كلامِ أبي حامدٍ في مثلِ «جواهرِ القرآنِ» و «الإحياءِ» ، ويظُنُّ مَن لا يعرفُ حقيقةَ دينِ الإسلامِ أن هذا من كلامِ أولياءِ اللهِ المُكاشَفِينَ، ولا يعلمُ الجاهلُ أن ما يقوله هؤلاء المتفلسفة في العقلِ الفعالِ، وأن العالمَ السُّفْليَّ يفيضُ عنه، وأنه في الحقيقةِ ربُّه ومدبِّرُه، وكذلك ما يقولونَه في العقولِ العشرةِ، من كونِ كلِّ عقلٍ يفيضُ عنه ما تحتَه؛ هو كفرٌ باتِّفاقِ المسلمِينَ واليهودِ والنصارى.

وهؤلاءِ يأخذونَ لبَّ الصابئةِ، ويكسونَه لحى الإسلامِ، هم من جنسِ الملاحدةِ المنافقينَ، يُلبِّسونَ على المسلمِينَ، وإن كان منهم مَن قد تاب، أو تلبَّسَ عليه معَ أن أصلَ الإيمانِ معَه، وأخطأ في بعضِ ذلك خطأً يغفِرُه اللهُ له.

ويزعمونَ أنه لم يسجُدْ لآدمَ شيءٌ من الملائكةِ، وأن الشياطينَ امتنعوا عن السجودِ له؛ لأنهم يُفسِّرونَ الملائكةَ والشياطينَ بقوى النفسِ؛ قوى الخيرِ والشرِ، ويجعلونَ كلامَ اللهِ؛ ما يفيضُ عليه من نفوسِ الأنبياءِ وغيرِهم، وملائكة الله؛ ما يكونُ في نُفوسِهم من الأشكالِ النورانيةِ.

والمقصودُ: أنه يُوجَدُ في عبارة هؤلاءِ إطلاقُ اللَّوحِ والقلمِ والملائكةِ ونحوِ ذلك من عباراتِ المسلمِينَ؛ والمرادُ بها ما ليس من دينِ المسلمِينَ.

ص: 407

‌فَصْلٌ

‌أما الدعاءُ بطولِ العمرِ

فقد كرِهَه الأئمَّةُ، وكان أحمدُ إذا دعا له أحدٌ بطولِ العمرِ يكرَهُ ذلك، ويقول:(هذا أمرٌ قد فُرِغ منه)، وحديثُ أمِّ حبيبةَ لما طلبتْ الإمتاع بزوجِها، وأبيها، وأخيها، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«سألتِ اللهَ لآجالٍ مضروبةٍ، وآثارٍ مبلوغةٍ، وأرزاقٍ مقسومةٍ»

(1)

، ففيه أن العمرَ لا يطولُ بهذا السببِ الذي هو الدعاءُ فقط.

‌وقد تنازَعَ الناسُ في الدعاءِ مطلقًا:

فقالتْ طائفةٌ: لا فائدةَ فيه؛ وهم المتفلسفةُ، والمتصوفةُ، وتبِعَهم طائفةٌ من المؤمنينَ بالشرائع، قالوا: إنه عبادةٌ محضةٌ.

وقال آخَرونَ: بل هو أمارةٌ وعلامةٌ على حصولِ المطلوبِ.

وكلُّ هذا باطلٌ؛ بل الحقُّ: أنه من أعظمِ الأسبابِ التي جعلَها الله سببًا.

‌والصوابُ:

أن اللهَ جعل في الأجسامِ قُوًى التي هي الطبائعُ، فإن مِن أهلِ الإثباتِ مَن أنكَرَها، وقال: إن اللهَ جعَل الآثارَ عندَها لا بها، فيخلُقُ الشِّبعَ عندَ الأكلِ لا به، وهذا خلافُ الكتابِ والسُّنَّةِ، فإنه تعالى قال:{فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من الثمرات} ، وفي

(1)

رواه مسلم (2663)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 408

القرآنِ كثيرٌ، فهو سُبْحانَه وإن كان جعَل في الأجسامِ قُوًى مهيئةً؛ فذلك من جملةِ الأسبابِ التي خلَقَها، والسببُ لا يستقلُّ بالحكمِ ولا يُوجِبُه؛ بل يتخلَّفُ الحكمُ عنه لمانعٍ؛ فإذا كان متوقفًا على وجودِ أسبابٍ أُخَرَ وانتفاءِ موانعَ؛ فليسَ في الوجودِ ما يستقلُّ بالتأثيرِ إلا اللهُ وحده الذي هو خالقُ كلِّ شيءٍ، وما شاء كانَ، وما لم يشَأْ لم يكُنْ، فقال تعالى:{ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} ، فتعلمونَ أن خالقَ الأزواجِ واحدٌ.

وقد بسَطْنا الكلامَ في فساد ما قالَه المتفلسفونَ في أن الواحدَ لا يصدُرُ عنه إلا واحد، وما ذكَروه من الترتيبِ الذي وضَعوه لخيالاتِهم الفاسدةِ.

‌فَصْلٌ

(1)

‌لا نعلمُ في القيامِ للمصحفِ

شيئًا مأثورًا عن السَّلَفِ.

‌وقد سُئِلَ أحمدُ عن تَقْبيلِه

؟ فقال: (ما سمعتُ فيه شيئًا، ولكن رُوِي عن عكرمةَ بنِ أبي جهلٍ أنه كان يفتحُ المُصحَفَ، ويضعُ وجهَه عليه، ويقولُ: كلامُ ربي! كلامُ ربي!)

(2)

.

والسَّلَفُ وإن لم يكُنْ من عادتِهم القيامُ له؛ فلم يكن من عادتهم

(1)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل: في الفتاوى الكبرى 1/ 49.

(2)

أثر عكرمة أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة (110).

ص: 409

قيام بعضِهم لبعضٍ إلا لمثلِ القادمِ من غَيْبةٍ ونحوِ ذلك، ولم يكُنْ أحدٌ أحبَّ إليهم من رسولِ اللهِ، ولم يكن يقومونَ له لما يرونَ في وجهِه من كراهة ذلكَ

(1)

، والأفضلُ للناسِ اتباعُ السَّلَفِ في كلِّ شيءٍ.

فأما إذا اعتادوا القيامَ لبعضِهم البعض؛ فقد يقالُ: ترك القيام للمصحفِ معَ هذه العادة لم يكونوا مُحسِنينَ؛ بل هم إلى الذمِّ أقربُ؛ حيثُ يجبُ من احترامِه وتعظيمِه ما لا يجبُ لغيرِه، وفي ذلك تعظيمُ حُرُماتِ اللهِ وشَعائرِه، وقد ذكَر بعضُ الفقهاءِ الكبارِ قيامَ الناسِ للمصحفِ ذكرُ مقرِّرٍ له غير مُنكِرٍ.

وأما جعلُه عندَ القبرِ، وإيقادُ القناديلِ هناك؛ فهو مَنْهيٌّ عنه، ولو جُعِل للقراءةِ هنالك، فكيفَ إذا لم يُقرَأْ فيه؟ وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لعَن اللهُ زوَّاراتِ القبورِ، والمُتَّخذِينَ عليها السُّرُجَ والمساجدَ»

(2)

، وترتيبُ الذمِّ على المجموعِ يقتضي أن كلَّ واحدٍ له تأثيرٌ في الذمِّ، والحرامُ لا يتولَّدُ بانضمامِ المباحِ إليه.

والناسُ قد تَنازَعوا في القراءةِ عندَ القبرِ.

وجعلُ المُصحَفِ عندَ القبرِ ليُقرَأَ فيه؛ بدعةٌ مُنكَرةٌ لم يفعَلْها

(1)

رواه أحمد (12345)، والترمذي (2754)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

رواه أحمد (2030)، وأبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (2043)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، بلفظ:«زائرات القبور» ، مكان:«زوارات القبور» .

ورواه ابن ماجه (1575)، بلفظ:«زوارات القبور» دون ذكر آخره.

ص: 410

السَّلَفُ؛ بل يدخُلُ في معنى اتخاذِ المساجدِ على القُبورِ، ولا نزاعَ في النهيِ عن اتخاذِها مساجدَ.

ومعلومٌ أن المساجدَ بَيتُ الصلاةِ والدعاءِ والذِّكْرِ والقراءةِ.

‌فَصْلٌ

(1)

‌وأما استفتاحُ الفألِ بالمُصحَفِ

فلم يُنقَلْ عن السَّلَفِ فيه شيءٌ، وقد تنازَعَ فيه المتأخِّرونَ، ذكر القاضي أبو يَعْلى أن ابنَ بَطَّةَ فعَلَه، وذكَرَ عن غيرِه أنه كرِهَه.

وإنما كان الفألُ الكلمةُ تُسمعُ نحوُ: يا بريدةُ، قال:«يا أبا بكرٍ، بَرد أمرُنا»

(2)

.

وأما الطِّيَرةُ بأنْ يكونَ قد فعل أمرًا، أو يعزمُ عليه؛ فيسمعُ كلمةً مكروهةً مثلَ: ما يتمُّ؛ فيترُكُه، فهذا مَنْهيٌّ عنه.

والذي ينبغي: الاستخارةُ التي علَّمَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّتَه، ولم يجعلِ الفألَ والطِّيَرةَ أمرًا باعثًا على شيءٍ من الفعلِ أو التَّرْكِ، وإنما يأتمرُ وينتهي عن ذلك أهلُ الجاهليةِ الذينَ يَسْتقسِمونَ بالأزلامِ.

(1)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 23/ 66، الفتاوى الكبرى 1/ 51.

(2)

رواه ابن أبي خيثمة في التاريخ الكبير (1/ 103)، وابن عبد البر في الاستيعاب (1/ 185)، من حديث بريدة رضي الله عنه.

ص: 411

وقد حرَّم اللهُ الاستقسامَ بها؛ فالضربُ بالحصا، والشعيرِ، واللَّوحِ، والخشبِ، والورَقِ المكتوبِ عليه حروفُ «أبجد» ، أو أبياتُ شعرٍ، ونحوُ ذلك مَنْهيٌّ عنه؛ لأنها من بابِ الاستقسامِ بالأزلامِ.

‌فَصْلٌ

(1)

‌فيمن قال: لا بدَّ لنا من واسطةٍ بيْنَنا وبينَ اللهِ:

فإن أرادَ: أنه لا بدَّ من واسطةٍ تبلِّغُه أمرَ اللهِ ونَهْيَه؛ فهذا حقٌّ لا بدَّ للناسِ من رسولٍ يبلِّغُ عن اللهِ أمرَه ونَهْيَه، ويُعلِّمُهم دينَ اللهِ الذي تعبَّدَهم به، فهذا مما أجمعَ عليه أهلُ المِلَلِ، ومَن أنكَرَ ذلك فهو كافرٌ بالإجماعِ.

وإن أرادَ بالواسطةِ: أنه لا بدَّ منه في جلبِ المنافعِ، ودفعِ المضارِّ، ورزقِ العبادِ، وهُداهم؛ فهذا شركٌ كفَّر اللهُ به المشركينَ؛ حيثُ اتَّخذوا من دونِه شفعاءَ وأولياءَ يَجْلِبونَ بهم المنافِعَ، فمن جعَل الملائكةَ أو غيرَهم أربابًا، ووسائطَ يدعوهم، ويتوكَّلُ عليهم، ويسأَلُهم غُفْرانَ الذنوبِ، وهدايةَ القلوبِ، وتفريجَ الكُرُباتِ، ونحوَ ذلك؛ فهو كافرٌ بإجماعِ المسلمِينَ.

ومَن جعَل المشايخَ من أهلِ العلمِ والدينِ وسائطَ عن الرسل؛ يعلمونهم ويقتدون بهم؛ فقد أصابَ، وقد قال: «العُلَماءُ وَرَثةُ

(1)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 1/ 121.

ص: 412

الأنبياءِ»

(1)

، وكلُّ أحدٍ يُؤخَذُ من كلامِه ويُترَكُ إلا رسولَ اللهِ.

وإن أثبَتَهم وسائطَ بمعنى الحُجَّابِ الذينَ بينَ الملكِ ورعيتِه؛ بحيثُ يكونونَ هم يرفعونَ إلى اللهِ حوائجَ خَلْقِه؛ فهذا شركٌ وكفرٌ.

‌فَصْلٌ

(2)

‌وأعظَمُ نعمةٍ أنعَمَها اللهُ على العبادِ:

الإيمانُ، وهو قولٌ وعملٌ، يزيدُ وينقُصُ، يزيدُ بالطاعةِ والحسناتِ، فكلما ازدادَ الإنسانُ عملًا للخيرِ ازدادَ إيمانُه، هذا هو الإنعام الحقيقيُّ المذكورُ في قولِه تعالى:{اهدنا الصراط المستقيم صراط الذينَ أنعمت عليهم} .

بل نِعَمُ الدنيا دونَ الدينِ؛ هل هي نعمةٌ أم لا؟ فيه قولانِ مشهورانِ للعُلماءِ من أصحابِنا وغيرِهم، والتحقيقُ: أنها نعمةٌ من وجهٍ، وإن لم تكُنْ نعمة تامةً من وجهٍ.

وأما الإنعامُ بالدينِ؛ مِن فعلِ المأمورِ وتَرْكِ المحظورِ؛ فهو الخيرُ، والنعمةُ الحقيقيةُ عندَ أهلِ السُّنَّةِ؛ إذ عندَهم أن اللهَ هو الذي أنعَمَ بفعل الخيرِ.

والقَدَريَّةُ عندَهم إنما أنعَمَ بالقدرةِ عليه، الصالحة للضِّدَّينِ فقط.

(1)

رواه أحمد (21715)، وأبو داود (3641)، والترمذي (2682)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.

(2)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل والفصلين بعده في: مجموع الفتاوى 1/ 133.

ص: 413

فَصْلٌ

‌قد حرَّم اللهُ على العبدِ

أن يسألَ العبدَ مسألةً إلا عندَ الضرورةِ، وإن كان إعطاءُ المالِ مُستحَبًّا، فمن طلب من غيرِه واجبًا أو مستحَبًّا: إن كان قصدُه مصلحةَ المأمور، أو مصلحته ومصلحةَ نفْسِه؛ فهو مُثابٌ على ذلك.

فإن قصَدَ حصولَ مطلوبِه من غيرِ قصدٍ بحصولِ النفعِ للمأمور؛ فهذا من نفْسِه أُتِي، ومثلُ هذا السؤالِ لا يأمُرُ اللهُ به قطُّ؛ إذ هو سؤالٌ محضٌ للمخلوقِ

(1)

من غيرِ قصده لنَفْعِه، واللهُ يأمُرُنا أن نعبدَه، ويأمرُنا أن نحسنَ إلى عبادِه، وهذا لم يقصِدْ لا هذا ولا هذا، فلم يقصِدِ الرغبةَ إلى اللهِ ودعائِه، ولا قصَد الإحسانَ إلى الخلق الذي هو الزكاةُ، وإن كان قد لا يأثمُ بمثلِ هذا السؤالِ؛ لكن فرقٌ بينَ ما يُؤمَرُ العبدُ به، وبينَ ما يُؤذَنُ له فيه.

ألا تَرى أن السبعينَ ألفًا هم الذينَ لا يَسْتَرقونَ، وإن كان الاسترقاءُ جائزًا.

(1)

في (الأصل): المخلوق. والمثبت من (ز) ومجموع الفتاوى.

ص: 414

‌فَصْلٌ

‌والإلهُ هو الذي تأْلَهُهُ القلوبُ

بكمالِ المحبةِ والتعظيمِ، والإجلالِ والإكرام، والرجاءِ والخوفِ، ومعَ علمِ المؤمنِ أن اللهَ ربُّ كلِّ شيءٍ ومَليكُه، فلا يُنكِرُ ما خلَقَه اللهُ من الأسبابِ.

وينبغي أن يَعرفَ في الأسبابِ ثلاثةَ أمورٍ:

أحدُها: أن السببَ المُعينَ لا يستقِلُّ بالمطلوبِ؛ بل لا بدَّ معَه من أسبابٍ أُخَرَ، ومعَ هذا فلها موانعُ.

الثاني: أنه لا يجوزُ أن يعتقدَ أن الشيءَ سببٌ إلا بعلمٍ، فمن أثبَتَ سببًا بلا علمٍ، أو بخلافِ الشرعِ كان مُبطِلًا، كمن يظُنُّ أن النَّذْرَ سببٌ في دفعِ البلاءِ.

الثالثُ: أن الأعمالَ الدينيةَ لا يجوزُ أن يُتَّخَذَ شيءٌ منها سببًا؛ إلا أن تكونَ مشروعةً، فإن العبادةَ مَبْناها على الإذنِ من الشارع، فلا يجوزُ أن يُشرِكَ باللهِ فيدعو غيرَه، وإنْ ظنَّ أنَّ ذلك سبباً في حصولِ بعضِ أغراضِه، وكذلك لا يَعبُدُ اللهُ بالبِدَعِ، وإن ظنَّ ذلك، فإن الشيطانَ قد يعينُ الإنسانَ على بعضِ مقاصدِه إذا أشرَكَ، وقد يحصُلُ بالكفرِ والفسوقِ والعصيانِ بعضُ أغراضِه، فلا يحل له ذلك.

ص: 415

فَصْلٌ

‌العذابُ أو النعيمُ في البَرْزخِ:

هل هو على الرُّوحِ فقط، أو على البدنِ فقط، أو عليهما؟ فيه ثلاثةُ أقوالٍ للمسلمِينَ

(1)

.

وهل يجبُ أن يكونَ على كلِّ بدنٍ، أو لبعضِ الأشخاصِ وفي بعضِ الأحوالِ؟ على قولَينِ.

فإذا مات الإنسانُ، تفرَّقَتْ أوصالُه بحريقٍ أو أَكْلِ، ولم يَبْقَ له أثرٌ؛ كيفَ يضْغَطُه القبرُ؟ أو يُنعَّمُ أو يُعذَّبُ؟

فمن قال: إن ذلك على الروحِ؛ لا يرِدُ عليه.

ومَن قال: إنه على البدنِ، أو عليهما، وهو مختصٌّ؛ فلا يرِدُ أيضًا.

(1)

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 4/ 282: (بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين، كما يكون للروح منفردة عن البدن. وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة والكلام، وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث)، ثم ذكرها، وقال:(فإذا عرفت هذه الأقوال الثلاثة الباطلة؛ فاعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها: أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانًا فيحصل له معها النعيم والعذاب).

ص: 416

ومن قال: إنه عامٌّ؛ فلهم في الأبدانِ البالية قولانِ:

أحدُهما: أن اللهَ يوصلُ ذلك إلى جزءٍ من البدنِ، وهو الجوهرُ الفردُ.

والقولُ الثاني: أنه يَبْلى إلا عَجْبَ الذَّنَبِ؛ كما ثبَتَ في الصحيحِ

(1)

؛ فالنعيمُ والعذابُ يتصلُ إليه معَ الرُّوحِ، وتعلُّقُ الرُّوحِ بالبدنِ بعدَ الموتِ نوعٌ آخَرُ.

والعذابُ أنواعٌ قد شاهَدَه في زمانِنا غيرُ واحدٍ، وسمِعَ أصواتَهم، ولهذا إذا أصابَ الخيلَ مَغَلٌ

(2)

قُرِّبتْ من قبورِ الكفارِ؛ فيزولُ لما تسمَعُه، فتفزعُ فيَنْحلُّ البطنُ، كما يحصُلُ للخائفِ، فإن الفَزَعَ يحلُّ البطنَ.

‌فَصْلٌ

‌والمعاصي في الأيامِ المفضلةِ والأمكنةِ المفضلةِ

تُغلَّظُ المعصية والعقابُ عليها على قدرِ ذلك المكانِ والزمانِ

(3)

.

(1)

رواه البخاري (4935)، ومسلم (2955)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

قال في لسان العرب 11/ 626: (المغل: وجع البطن من تراب، مغِلت الدابة، بالكسر، والناقة تمغل مغلًا، فهي مغلة، ومغلت: أكلت التراب مع البقل فأخذها لذلك وجع في بطنها).

(3)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (والمعاصي في الأيام

) في: مجموع الفتاوى 34/ 180، الفتاوى الكبرى 3/ 412.

ص: 417

‌ولا يجوزُ كتابةُ القرآنِ حيثُ يُهانُ

، كما لو كُتِبَ على نصيبةِ قبرٍ تبولُ عليه الكلابُ، ويدوسُه الناسُ، كما لا يجوزُ أن يُسافَرَ به إلى أرضِ العدُوِّ، فتجبُ إزالتُه، أو إزالةُ ما كُتِب فيه من موضعِ الإهانةِ بالاتفاقِ.

‌واللهُ تعالى إذا أرادَ أن يجمعَ

بينَ أحدٍ من أعلى الجنةِ؛ أنزَلَه إلى الأسفلِ، وقال رجلٌ للنبيِّ: إني أحِبُّكَ، ما أستطيعُ أصبرُ عنكَ، وإنك في أعلى الجنةِ، فلا أراكَ؟ فأنزلَ اللهُ:{ومن يطع الله والرسول} الآية

(1)

.

‌وإبليسُ لعَنَه اللهُ يُعذَّبُ

بالنارِ وذُرِّيَّتُه؛ وإن كان من نارٍ، فالإنسانُ مخلوقٌ من صَلْصالٍ، ولو ضُرِبَ به قَتَلَه، واللهُ أعلمُ.

(1)

رواه الطبراني في الكبير (12559)، وابن مردويه كما في تفسير ابن كثير (2/ 355)، من طريق الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ورواه ابن جرير في التفسير (7/ 213)، عن سعيد بن جبير مرسلاً.

ص: 418

‌كِتَابُ الزَّكَاةِ

‌إذا خلَّفَ مُوروثٌ مالًا

؛ من إبلٍ، أو غنمٍ، أو غيرِه، فيه شيءٌ حرامٌ من غصْبٍ أو غيرِه لا يعرِفُه الوارثُ عَيْنًا - يعرِفُ مالكَه أو لا يعرِفُه - وقدرُ نصيبِ الحرامِ غيرُ معروفٍ: فإنه يَقسم نِصْفينِ؛ نصفُه لهذه الجهةِ، ونصفُه لهذه الجهةِ؛ كما فعل عمرُ بنُ الخطابِ في مشاطرةِ العمالِ لمَّا تبيَّنَ له أنَّ في مالِهم شيئًا من بيتِ المالِ، وما هو لهم، ولم يتبيَّنِ القدرَ، فجعَلَ أموالَهم نصفينِ

(1)

، ولأنه مالٌ مشتركٌ، والشركةُ المطلقةُ تقتضي التسويةَ، ولا تجوزُ القُرْعةُ، ووقفُ الأمرِ إضاعةُ الحقوقِ.

فالقولُ في هذه المسائل بالقسمةِ تارةً، والقرعةِ تارةً، وإنفاقِها في المصالحِ تارةً؛ خيرٌ من حَبْسِها بلا فائدةٍ.

‌وقال طائفةٌ: تجبُ الزكاةُ في خَمسٍ من البقرِ كالإبلِ

، ورَوَوْا فيه أثرًا، فقالوا: هذا آخِرُ الأمرينِ

(2)

.

(1)

رواه ابن معين في تاريخه برواية ابن محرز (3/ 43)، وابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص 173)، والعسكري في الأوائل (ص 168)، في قصة كتابة يزيد بن الصعق لعمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكوه متاجرة العمال بأموال بيت المال، وفيها:«فأخذ من العمال نصف أموالهم» .

(2)

روى عبد الرزاق (6852)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما:«في كل خمس من البقر شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي كل عشرين أربع شياه» قال الزهري: «فإذا كانت خمسًا وعشرين ففيها بقرة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت على خمسة وسبعين ففيها بقرتان إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على مائة وعشرين ففي كل أربعين بقرة بقرة، إن ذلك كان تخفيفًا لأهل اليمن، ثم كان هذا بعد ذلك لا يروى» .

ثم روى عن معمر، عن أيوب قال: كنت أسمع زمانًا من الزمان أنهم كانوا يقولون: خذوا منا ما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أعجب حين لم يقبلوا منهم ذلك، حتى حدثني الزهري:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابًا فيه هذه الفرائض، فقبض النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يكتب إلى العمال، فأخذ به أبو بكر، وأمضاه بعده على ما كتب لا أعلمه إلا ذكر البقر أيضًا» .

ص: 419

‌وقولُه: «ولا صاحبِ إبلٍ لا يُؤدِّي حقَّها»

(1)

: يُرادُ بالحقِّ الزكاةُ، ويُرادُ به ما يجبُ من غيرِ الزكاةِ؛ مثلُ: الإعطاءِ في النوائبِ لابنِ السبيلِ والمسكينِ وذي الرَّحِمِ.

ومِن حقِّها حَلبُها يومَ وِرْدِها؛ لأجلِ ابنِ السبيلِ ونحوِهم، فإنهم يقعدونَ على الماءِ، فإن إطعامَ المحتاجِ وسَقْيَه فرضُ كفايةٍ.

‌وأما العِدَادُ

(2)

؛ إن كان هو من

(3)

الزكاةِ

؛ أجزَأَتْ عن صاحبِها عندَ الأئمَّةِ، وإن كان من الكُلَفِ

(4)

التي وضَعَتها الملوكُ؛ لم تُجزِئْ عن الزكاةِ.

(1)

رواه مسلم (987)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

هكذا ضبطها في الأصل، والعداد: العطاء، قال ابن الأعرابي: العداد: يوم العطاء، وكذلك كل شيء كان في السنة وقتاً مؤقتاً. ينظر: مقاييس اللغة 4/ 31، تاج العروس 8/ 364.

(3)

قوله: (من) سقطت من الأصل و (ك) و (ع)، والمثبت من (ز).

(4)

هي الضرائب، قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 30/ 337:(فصل في " المظالم المشتركة " التي تطلب من الشركاء مثل المشتركين في قرية أو مدينة إذا طلب منهم شيء يؤخذ على أموالهم أو رؤوسهم: مثل الكلف السلطانية التي توضع عليهم كلهم).

ص: 420

‌ومَن أنكرَ زكاةَ السائمةِ

؛ وجبَتِ استتابتُه.

‌فَصْلٌ

‌الإقطاعُ اليومَ

؛ إقطاعُ استغلالٍ، ليس له بَيْعُه، ولا هِبَتُه باتِّفاقِ الأئمَّةِ، ولا ينتقلُ إلى ورَثَةٍ؛ بخلافِ ما كان.

‌وما يأخُذُه الجندُ ليس أجرةً للجهادِ

؛ لأنه لو كان أجرةً كان الجند كالفعلة

(1)

، وإنما عليهم أن يُقاتِلوا في سبيلِ اللهِ لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العُلْيا، ويكونَ الدينُ كلُّه للهِ، وأجرُهم على اللهِ، فإنَّه تعالى اشترى من المؤمنينَ أنفُسَهم وأموالَهم.

والإقطاعُ يأخذونَه معاونةً لهم، ورزقًا لنفقةِ عِيالِهم، وإقامةِ الخيلِ والسلاحِ، وفي الحديثِ:«مثَلُ الذي يغزو من أُمَّتي في سبيلِ اللهِ مثَلُ أمِّ موسى تُرضِعُ ابنَها، وتأخُذُ أجرَها»

(2)

، فهي تُرضِعُه لما في قلبِها عليه، لا لأجلِ أجرِها، وكذا المجاهدُ يغزو لما في قلبِه من الإيمانِ، لا لأجلِ المالِ.

(1)

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 8/ 355 في بيان معنى الفعلة: (الذين يعملون من البناء والخياطة والنساجة وغير ذلك ما يطلبون به أجورهم).

(2)

رواه ابن أبي شيبة (19532)، وأبو داود في المراسيل (332)، والبيهقي في الكبرى (17840)، من مرسل جبير بن نفير الحضرمي رحمه الله.

ص: 421

وإذا كان اللهُ قد أمَر المسلمِينَ من الصحابةِ وغيرِهم أن يُجاهِدوا بأموالِهم وأنفُسِهم، وأوجَبَ عليهم عُشْرَ أموالِهم من الخارجِ من الأرضِ؛ فكيفَ لا يجبُ على مَن يُعطَى مالًا ليُجاهدَ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«من جهَّز غازيًا فقد غزا، ومَن خلَفَه في أهلِه فقد غزا»

(1)

، فالذي يُعطِي المجاهدَ يكونُ مجاهدًا بمالِه، والمجاهدُ يجاهدُ بنفْسِه، وأجرُ كلِّ واحدٍ منهما على اللهِ، لا ينقُصُ أحدُهما من أجر الآخَرِ شيئًا، ولم يكُنْ هذا أجيرًا لهذا.

ولو أعطى رجلٌ من المسلمِينَ رجلًا أرضًا يستغِلُّها، ويكونُ يجاهدُ في سبيلِ اللهِ؛ لوجَبَ عليه فيها العُشْرُ، ولم يسقُطْ لأجلِ الجهادِ، فالإقطاع أَوْلى.

ووَلِيُّ الأمرِ لا يعطيهم من مالِه، وإنما يقسِمُ بينَهم حقَّهم، كما يقسِمُ التَّرِكةَ بينَ الوَرَثةِ، ولهذا يجوزُ لهم إيجاره، كما يجوزُ لأهلِ الوَقْفِ، كما قال تعالى:{الذينَ إن مكناهم في الأرضِ أقاموا الصَّلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المُنكَرِ ولله عاقبة الأمور} ، فمَن قام بهذه الأربعة؛ نصَرَه اللهُ على عدُوِّه.

فعلى كلِّ مَن أنبَتَ اللهُ له زرعًا: العُشْرُ؛ سواءٌ كان بأرضِ مصرَ أو غيرِها، من مالكٍ، ومُستأجِرٍ، ومُقطَعٍ، ومُستعيرٍ، وكذلك التمرُ والزبيبُ ونحوُه مما تجبُ فيه الزكاةُ، فلا تخلو أرضٌ من عشرٍ أو خَراجٍ باتِّفاقِ المسلمِينَ.

(1)

رواه البخاري (2843)، ومسلم (1895)، من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه.

ص: 422

ولكنِ اختَلفوا: هل يجتمعُ العُشْرُ والخراجُ الذي هو خراجُ الإسلامِ؟ فقال أبو حنيفةَ: لا، وقال الباقونَ: نعَمْ.

والخراجيةُ عندَ أبي حنيفةَ: هي التي تكون ملكاً لصاحِبها، وعليه فيها الخراجُ، وله بَيْعُها، وهِبَتُها، وتُورَثُ عنه، فمَن قال: إن أرضَ مصرَ اليومَ لا عُشْرَ عليها عندَ أبي حنيفةَ فقد أخطأَ؛ لأن الجُنْدَ لا يملِكونَها، ولا الفلاحونَ، ولم يُضرَبْ على المُقطَعِ خَراجٌ في خدمتِه، وإذا تُرِكتِ الأرضُ المملوكةُ بلا عُشْرٍ ولا خَراجٍ؛ كان هذا مخالفًا لإجماعِ المسلمِينَ، ومَن أفتى بخُلُوِّ هذه الأرضِ عن العُشْرِ والخَراجِ؛ يُسْتتابُ، فإن تاب وإلا قُتِل.

ومَن زعم أن الجهادَ هو عوضُ الخراجِ فقد أخطأَ لوجهَينِ:

أحدُهما: أنهم لا يملكونها؛ بل تنازَعَ الناسُ في إجارةِ الإقطاعِ؛ حتى ظنَّ طوائفُ من الحنفيةِ وغيرِهم أنه لا يُؤجَّرُ؛ لكون المُقطَعَ لم يملِكِ البقعةَ، والأرضُ الخراجيةُ يُؤجِّرُها مَن عليه الخَراجُ بالإجماعِ.

الثاني: أن ما يُعطاه الجند من الرزقِ ليس خَراجًا عليهم، ولا أجرةً للجهادِ؛ بل هم أعظَمُ المستحِقِّينَ للخَراجِ وغيرِه من أموال الفَيْءِ، والفَيْءُ إما أن يختصُّوا به في أحدِ القولَينِ، وإما أن يكونوا من أحقِّ المستحقين له، فإذا كانوا هُم المستحقِّينَ؛ فكيفَ يكونُ الخَراجُ مأخوذًا منهم؟!

وقولُ القائلِ: الإمامُ أسقَطَ عنهم الخراجَ لكَوْنِهم من المقاتلةِ، فصاروا كأنهم يُؤدُّونَه.

ص: 423

يقالُ له: هذا لا يُسقِطُ الزكاةَ؛ لأن إقطاعَهم إيَّاها يستَغِلُّونها بلا خَراجٍ، لو كان يجعلها كالخراجيةِ لجاز لهم بَيْعُها، والذي تنتقلُ إليه إما أن يُؤدِّي خَراجَها، أو يسقطُ عنه إن كان من المقاتلةِ، فلما لم يكُنْ لهم ذلك؛ عُلِم أنه لا خَراجَ عليهم.

ولو استأجَرَ المجاهدُ أرضًا؛ كان عليه العُشْرُ عندَ الجمهورِ، وعليه الأجرةُ لربِّ الأرضِ، وهو قولُ صاحِبَيْ أبي حنيفةَ.

وأبو حنيفةَ يقولُ: العُشْرُ على المُؤجِّرِ، فلا يجتمعُ عندَه الأجرةُ والعُشْرُ.

وأبو حنيفةَ أسقَطَ العُشْرَ عمن عليه الخَراجُ، قال: لأن كلاهما حقٌّ وجَبَ بسببِ الأرضِ، والمُقطَعُ لم يعط

(1)

شيئًا غيرَ ما أعَدَّ نفْسَه له مِن القتالِ، ألا تَرى أنه لو أخَذ بعضُ المسلمِينَ أرضًا خراجيةً كان عليه العشرُ معَ الجهادِ.

يوضِّحُ ذلك: أن الأرضَ لو كانت عشريةً، وصارَتْ لبيتِ المالِ بطريقِ الإرثِ، فأقطَعَها السلطانُ لمن يستَغِلُّها من المقاتلةِ؛ فهل يكونُ ذلك مُسقِطًا للعشرِ؟

ومَن يجعلُ الإقطاعَ استئجارًا؛ يجعَلُ المجاهدينَ بمنزلةِ مَن يستأجِرُه الإمامُ للعمارةِ والفلاحةِ، ويقولُ: إذا كان الخَراجُ على شخصٍ، فاعتاضَ عنه الإمامُ ببعضِ هذه الأعمالِ كانت الأرضُ خراجيةً.

(1)

في الأصل: يفرط. والمثبت من (ك).

ص: 424

وهذا غلَطٌ عظيمٌ؛ فإنه يُخرِجُ الجهاد عن أن يكونَ قُرْبةً وطاعةً، ويجعلُ المجاهدينَ في سبيلِ اللهِ بمنزلةِ اليهودِ أو نصارى؛ استُؤْجِروا لعمارةِ دارٍ أو صنعِ سلاحٍ، والفقهاءُ مُتَّفِقونَ على الفرقِ بينَ الاستئجارِ على القُرَبِ، وبينَ رزقِ أهلِها.

فرِزْقُ المقاتِلةِ والقضاةِ والمؤذِّنِينَ والأئمَّةِ؛ جائزٌ بلا نزاعٍ.

وأما الاستئجارُ: فلا يجوِّزهُ أكثرهم، لا سيَّما أبو حنيفةَ والشافعيُّ، وإن جوَّزه على الإمامةِ؛ فإنه لا يجوزُ على الجهادِ؛ لأنه يصيرُ مُتعيِّنًا.

فهؤلاءِ غلِطوا على الأئمَّةِ عمومًا، وعلى أبي حنيفةَ خصوصًا.

‌فَصْلٌ

‌يجوزُ أن يُوكِّلَ

مَن يقبضُ له شيئًا من الزكاةِ ما تيسَّرَ، وإن كان مجهولًا؛ لأنه لا مَحْذورَ فيه.

‌ومن استأجَرَ أرضًا

؛ فعندَ انعقادِ الحبِّ أمطَرَتِ السماءُ حجارةً أهلكَت زَرْعَه قبلَ حصادِه؛ سقَط العُشْرُ، وفي وجوبِ الأجرةِ نزاعٌ، الأظهرُ: أنه إن لم يكُنْ تمكَّنَ من استيفاءِ المنفعةِ المقصودةِ بالعقدِ؛ فلا أجرةَ عليه.

ص: 425

‌فَصْلٌ

‌لا ينبغي أن تُعطَى الزكاةُ

لمن لا يستعينُ بها على طاعةِ اللهِ، فإن اللهَ فرَضَها معونةً على طاعتِه، فمن لا يُصلِّي لا يُعطَى؛ حتى يتوبَ ويلتزمَ بأداءِ الصلاةِ

(1)

.

‌وما يُؤخَذُ من التجارِ

بغيرِ اسمِ الزكاةِ منِ الوظائفِ السلطانيةِ؛ فلا يُعتد بها من الزكاةِ

(2)

.

وأما ما يُؤخَذُ باسمِ الزكاةِ: ففيه نزاعٌ؛ والأَوْلى إعادتُها إذا غلَبَ على الظنِّ أنها لا تُصرَفُ إلى مُستحِقِّها.

‌وإذا أخَذ العُشْرَ أو زكاةَ التجارةِ

وليُّ الأمر، فصَرَفها في مَصارِفها؛ أجزَأَتْ باتِّفاقِ المسلمِينَ.

وأما إن كان وليُّ الأمرِ ممن يتعدَّى في صَرْفِها؛ فالمشهورُ عندَ الأئمَّةِ: أنه يجزئ أيضًا؛ كما نُقِل ذلك عن الصحابة

(3)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (لا ينبغي أن تعطي

) إلى هنا في الفتاوى الكبرى 5/ 373.

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وما يؤخذ من التجار

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 25/ 93.

(3)

روى ابن أبي شيبة في باب من قال: تدفع الزكاة إلى السلطان (2/ 382)، وعبد الرزاق في باب موضع الصدقة، ودفع الصدقة في مواضعها (4/ 43)، والبيهقي في السنن الكبرى، باب الاختيار في دفعها إلى الوالي (4/ 192)، آثارًا عن المغيرة بن شعبة وابن عمر وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وابن عباس وجابر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم.

ومن ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة (10189)، عن سهيل، عن أبيه، قال: سألت سعيدًا، وابن عمر، وأبا هريرة، وأبا سعيد، فقلت: إن لي مالًا وأنا أريد أن أعطي زكاته، ولا أجد له موضعًا، وهؤلاء يصنعون فيها ما ترون؟ فقال:«كلهم أمروني أن أدفعها إليهم» .

ص: 426

‌فَصْلٌ

‌إذا زرَع الجنديُّ إقطاعَه

؛ فعليه فيه الزكاةُ.

‌ومذهبُ سائرِ الأئمَّةِ:

أنه لا بدَّ في الأرضِ من عُشْرٍ، أو خَراجٍ، وهل يجتمعانِ؟

قال أبو حنيفةَ: لا.

فلو كانت مصر عليها خَراجٌ كما كان في أولِ الإسلامِ؛ كان في وجوبِ العشرِ عليها نِزاعٌ، فأما اليومَ فلا خَراجَ عليها؛ لأن الأرضَ الخراجيةَ عندَ أبي حنيفةَ: هي التي يملِكُها صاحبُها وعليه خَراجُها، وهو الخَراجُ الذي ضرَبَه عمرُ على ما فتحَ عَنْوةً، وأقرَّها في أيدي أربابِها بالخَراجِ الذي ضرَبه

(1)

، فأما الجندُ فلا يملكونَ الأرضَ اليومَ، فلا خَراجَ عليهم، فيكونُ عليهم العشرُ بلا نزاعٍ.

(1)

رواه البخاري (4235)، عن عمر رضي الله عنه بلفظ:«أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس بَبَّانًا ليس لهم شيء؛ ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها» .

وروى أبو عبيد في الأموال (146)، وسعيد بن منصور (2589)، عن إبراهيم التيمي، قال: لما فتح المسلمون السواد قالوا لعمر: اقسمه بيننا، فإنا افتتحناه عنوة، فأبى، وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف إن قسمته أن تفاسدوا بينكم في المياه، قال: فأقر أهل السواد في أرضيهم، وضرب على رؤوسهم الجزية، وعلى أرضيهم الطسق، ولم يقسم بينهم. قال أبو عبيد: يعني: الخراج.

ص: 427

لكن لو استَأْجَرها رجلٌ وزرَعَها؛ فالعشرُ على المستأجِرِ صاحبِ الزرعِ عندَهم، إلا أبا حنيفةَ فقال: على ربِّ الأرضِ المؤجِّرِ لها.

‌فَصْلٌ

‌دَفْعُ الزكاةِ إلى الوالدِ

لا يجوزُ عندَ الأئمَّةِ المتبوعينَ في المشهورِ عنهم؛ إلا إذا أخَذَها لكونِه غارمًا لصلاحِ ذاتِ البَيْنِ، أو للجهادِ ونحوِه مما فيه مصلحةٌ للمسلمِينَ.

وأما إذا كان غارمًا في مصلحةِ نفْسِه ففيه خلافٌ، وجوازُه قويٌّ مُتوجِّهٌ.

‌ويدفَعُها إلى بناته

إن كان عاجزًا عن نفَقتِهم في قولِ بعضِهم.

‌وإن دفَعَها إلى غريمِه

، وشارَطَه أن يُوفِّيَهُ إياها؛ فلا يجوزُ، وإن قصَد ذلك من غيرِ شرطٍ؛ ففيه نزاعٌ.

‌وإن دفَعَها إلى من لا تجبُ عليه نفقتهم

ممن هم في عيالِه، فيُعطيهم فيما لم تَجْرِ عادتُه بإنفاقِه من مالِه، وإن أعطاهم ما هو مُعوَّدٌ إنفاقَه من

ص: 428

مالِه؛ ففيه نزاعٌ، والمأثورُ عن ابنِ عبَّاسٍ وغيره: المَنْعُ

(1)

، وذكَرَ أحمدُ عن سفيانَ بنِ عُيَيْنةَ قال: كان العلماءُ يقولونَ: لا يُحابى

(2)

قريبٌ، ولا يدفعُ بها مذلَّةً، ولا يقي بها مالَه

(3)

، واللهُ أعلمُ.

‌فَصْلٌ

‌في المالِ حقٌّ سوى الزكاةِ

؛ مثلُ: صلةِ الرحِمِ من النفقةِ الواجبةِ، وحَمْلُ العَقْلِ عن المعقولِ عنه واجبان بالإجماعِ، ومثلُ: إطعامِ الجائعِ، وكسوةِ العاري، ونحوِ ذلك، فهو فرضُ كفايةٍ، فمن غلَب على ظنه أن غيرَه لا يقومُ بذلك؛ تعيَّنَ عليه، ومثلُ الإعطاءِ في النوائبِ؛ مثلُ النفقةِ في الجهادِ، ومثل قِرَى الضيفِ، فهو واجبٌ بالسُّنَّةِ الصحيحةِ.

‌فَصْلٌ

‌كلُّ ما أُعِدَّ للتجارةِ

من ماءٍ وحطبٍ وغيرِه؛ ففيه الزكاةُ.

(1)

علقه البيهقي في الكبرى (7/ 45)، عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ:«لا تجعلها لمن تعول» .

وذكر المجد ابن تيمية في المنتقى (ص 381)، أن الأثرم رواه في سننه بلفظ:«إذا كان ذوو قرابة لا تعولهم فأعطهم من زكاة مالك، وإن كنت تعولهم فلا تعطهم ولا تجعلها لمن تعول» .

(2)

في (الأصل): يحازى. والمثبت من (ع) و (ك)، وهو الذي في مسائل صالح.

(3)

ينظر: مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح 3/ 219 (1681).

ص: 429

وما أُعِدَّ للكِراءِ؛ كالقدورِ والجمالِ والعقارِ وغيرِها؛ ففيه نزاعٌ في مذهَبِنا وغيرِه.

ومِن السَّلَفِ مَن يوجبُ الزكاةَ في الكِراءِ إذا قبَض الثمن

(1)

.

‌فَصْلٌ

‌إذا اشترى

- مَن قبَض الزكاةَ ليدفَعَها إلى أهلِها - عقارًا ونحوَه؛ فإن عليه أن يُؤدِّيَ إلى الثمانيةِ الأصنافِ مقدارَ الذي قبَضَه، وما حصَلَ من نَماءٍ يقسِمُه بينَه وبينَهم.

‌إذا مُنِع بنو هاشمٍ أخذ الخُمُسِ

؛ فلا يجوزُ لهم أخذُ الصدقةِ؛ إلا عندَ بعضِ المتأخِّرينَ، وليس هو قولًا لأحدِ المتبوعينَ

(2)

.

‌فَصْلٌ

‌إذا فرَّطَ الإنسانُ

ولم يُخرِجِ الزكاةَ حتى ماتَ؛ فعلى الوَرَثةِ الإخراجُ عندَ أحمدَ والشافعيِّ، وكذا كلُّ حقٍّ للهِ.

(1)

في الاختيارات للبعلي ص 146: (وتجب الزكاة في جميع أجناس الأجرة المقبوضة، ولا يعتبر لها مضي حول، وهو رواية عن أحمد، ومنقول عن ابن عباس).

(2)

في الاختيارات للبعلي ص 154: (وبنو هاشم إذا منعوا من خمس الخمس؛ جاز لهم الأخذ من الزكاة، وهو قول القاضي يعقوب وغيره من أصحابنا، وقاله أبو يوسف والاصطخري من الشافعية؛ لأنه محل حاجة وضرورة).

ص: 430

وعندَ غيرِهما: لا يجبُ على الوَرَثةِ، معَ أنه يُعذَّبُ بتَرْكِه الزكاةَ.

وأما إذا مات الغُرماءُ ولم يُسْتوفَ منهم شيءٌ؛ فهل مطالبتُهم يوم القيامة للميتِ، أو للوَرَثةِ؟ اضطَربَ فيه الناسُ.

والصوابُ: إن كان الحقُّ مظلمة لم يتمكَّنْ هو ولا وَرَثتُه من استِيفائِها، مثل قَوَدٍ، أو قَذْفٍ، أو غَصْبٍ؛ فهو المطالَبُ.

وإن كان دَينًا ثبَتَ باختيارِه، وتمكَّن من استيفائِه، فلم يَسْتوفِهِ حتى مات؛ فوَرَثتُه تطالَبُ به يوم القيامةِ.

وإن كان دَينًا عجَز عن استيفائِه هو ووَرَثتُه؛ فالأشبَهُ: أنه هو الذي يطالَبُ به؛ فإن العجزَ إذا كان ثابتًا فيه وفي الوارثِ لم يتمكَّنْ أحدُهما من الانتفاعِ بذلك في الدنيا؛ لم يدخُلْ في الميراثِ، فيكونُ المستحِقُّ أحقَّ بحَقِّه في الآخرةِ، كما في المظالمِ، والإرثُ مشروطٌ بالتمكُّنِ من الاستيفاءِ، كما أنه مشروطٌ بالعلمِ بالوارثِ، فلو مات وله عَصَبةٌ بعيدةٌ لا يُعرَفُ نسَبُه؛ لم ترِثه، لا في الدنيا ولا في الآخرةِ، وهذا عامٌّ في جميعِ الحقوقِ التي للهِ ولعبادِه؛ هي مشروطةٌ بالتمكُّنِ من العلمِ والقدرةِ، والمجهولُ والمعجوزُ عنه كالمعدومِ، ولهذا قال العلماءُ: إن ما يُجهَلُ مالكُه من الأموالِ التي قُبِضتْ بغيرِ حقٍّ؛ كالمُكوسِ، أو قُبِضتْ بحقٍّ كالوديعةِ والعاريَّةِ، وجُهِلَ صاحِبُها؛ بحيثُ تعذَّرَ رَدُّها إليه؛ فإنها تُصرَفُ في مصالِحِ المسلمِينَ، وتكونُ حلالًا لمن أخذَها بحقٍّ؛ كأهلِ الحاجةِ، والاستعانةِ بها على مصالحِ المسلمِينَ، دونَ مَن أخَذَها بباطلٍ؛ كمن يأخُذُ فوقَ حقِّه.

ص: 431

ثم المظلومُ إذا طالبَ بها يومَ القيامةِ وعليه زكاةٌ؛ فلا تُقوَّمُ هذه بالزكاةِ؛ بل عقوبةُ ترك الزكاةِ أعظمُ من حسنةِ المظالمِ، والوعيدُ بتَرْكِ الزكاةِ عظيمٌ.

ولكنَّ الذي ورد: أن الفرائضَ تُجبَرُ بالنوافلِ، فهذا إذا تصدَّقَ باختيارِه صدقةَ تطوُّعٍ لا يكونُ شيئًا خرَج بغيرِ اختيارِه؛ فإنه يُرجَى له أن يُحاسَبَ بما فوته من الزكاةِ إذا كان مِن أهلِها العازمِينَ على فِعْلِها.

‌وأولُ ما يُحاسَبُ به العبدُ عن الصَّلاة

، فإن أكمَلَها؛ وإلا قيلَ: انظروا

(1)

إن كان لعبدي تطوُّعٌ، فيُكمَّلُ بها فريضتُه، ثم الزكاةُ كذلك، ثم تُؤخَذُ الأعمالُ على حسابِ ذلك؛ روي ذلك في «المسنَدِ»

(2)

؛ وهذا لأن التطوُّعَ من جنسِ الفريضةِ، فأمكَنَ الجُبْرانُ به عندَ التعذُّرِ، كما قال الصدِّيقُ:«واعلم أن اللهَ لا يقبلُ نافلةً حتى تُؤدَّى الفريضةُ»

(3)

.

فيكونُ من رحمةِ اللهِ به أن يجعلَ النَّفْلَ مثلَ الفرضِ، بمنزلةِ مَن أحرمَ بالحجِّ تطوُّعًا وعليه فرضُه؛ فإنه يقعُ فرضاً عندَ طائفةٍ؛ كالشافعيِّ وأحمدَ في المشهورِ، وكذلك في رمضانَ عندَ أبي حنيفةَ، وقولٌ في مذهَبِ أحمدَ.

(1)

في (الأصل): انظر. والمثبت من (ك).

(2)

رواه أحمد (16614)، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه أبو داود (864)، والترمذي (413)، والنسائي (465)، وابن ماجه (1425)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

رواه ابن المبارك في الزهد (914)، وابن أبي شيبة (34433)، وسعيد بن منصور في التفسير من سننه (942)، والزهد لأبي داود (28).

ص: 432

‌وكذلك مَن شكَّ:

هل وجَبَ عليه غُسْلٌ أو وُضوءٌ بحدَثٍ، أم لا؟ فإنه لا يجبُ عليه غُسْلٌ، وكذا الوضوءُ عندَ جمهورِ العُلَماءِ؛ لكن يُستحَبُّ له التطهُّرُ احتياطًا، وإذا فعَل ذلك وكان واجبًا عليه في نفسِ الأمرِ؛ أجزأَ عنه، {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} .

وكذلك الشارعُ جعَل عملَ الغيرِ عنه يقومُ مَقامَ فعلِه فيما عجَز عنه؛ مثلُ مَن وجَبَ عليه الحجُّ وهو معضوبٌ

(1)

، أو مات ولم يحُجَّ، أو نذَرَ صومًا أو غيرَه ومات قبلَ فِعْلِه؛ فعَلَه عنه وَلِيُّه، وقال:«فدَيْنُ اللهِ أحَقُّ بالقضاءِ»

(2)

؛ أي: أحقُّ بأن يُستَوْفَى من وارثِ الغريمِ؛ لأنه أرحَمُ من العبادِ، فهذا تشهَدُ له الأصولُ، أما أن يُعتدَّ له بالدَّينِ على الناسِ معَ كونِه لم يَصرف الزكاةَ؛ فلا يصِحُّ.

نعم، لو كان للناسِ عليه مظالِمُ أو ديونٌ بقدرِ مالِه عندَ الناسِ؛ كان يسوغُ أن يقالَ: يُحاسَبُ بذلك، فيُؤخَذُ حقُّه من هذا، ويُصرَفُ إلى هذا، كما يُفعَلُ في الدنيا بالمدينِ الذي له وعليه، وكلُّ هذا من حكمِ العدلِ بينَ العبادِ، {ولا يظلم ربك أحدا} .

‌فَصْل

‌يجوزُ دفعُ الزكاةِ إلى الوالدَينِ إذا غرِموا

، أو كانوا مُكاتَبِينَ في

(1)

قال في القاموس المحيط ص 116: (المعضوب: الضعيف، والزَّمِن لا حراك به).

(2)

رواه البخاري (1852)، ومسلم (1148)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 433

وجهٍ، والأظهرُ: الجوازُ.

وأما إن كانوا فقراءَ وهو عاجزٌ عن نفَقتِهم؛ فالأقوى جوازُه في هذه الحالِ

(1)

.

‌والأحوَجُ أَوْلى

، فإن استَوَوْا؛ فالقرابةُ أَوْلى من الأجنبيِّ.

‌فَصْلٌ

‌الفطرة قدرُها صاعٌ

من الشعيرِ والتمرِ، ونصفُه من البُرِّ عندَ أبي حنيفةَ واختيار

(2)

الشيخِ، وخرَّجَه على قواعدِ أحمدَ.

‌وإذا كان الفقراءُ مجتمعينَ في موضعٍ

، ومأكلهم جميعًا في سِماطٍ، وهم مشتركونَ فيما يأكلونَ في الصومِ ويومَ العيدِ؛ لم يكُنْ لأحدِهم أن يُعطي فطرتَه لواحدٍ من هؤلاءِ الشركاءِ.

وكذلك إن دفَعَها إلى واحدٍ على أن يدفَعَها إلى آخرِ.

وأما إذا كانوا متفقينَ أن الصدقةَ التي يأخُذُها أحدُهم يشتركونَ في أَكْلِها؛ فهذا لا يجوزُ بلا رَيْبٍ.

(1)

في الاختيارات للبعلي ص 154: (ويجوز صرف الزكاة إلى الوالدين وإن علوا وإلى الولد وإن سفل إذا كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم؛ لوجود المقتضي السالم عن المعارض العادم، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، وكذا إن كانوا غارمين، أو مكاتبين، أو أبناء السبيل، وهو أحد القولين أيضًا).

(2)

كذا في (ع)، وفي الأصل و (ك): واختار.

وذكره البعلي في الاختيارات (ص 152) عن شيخ الإسلام، وعبارته:(وقدر الفطرة: صاع من التمر والشعير، وأما من البر: فنصف صاع، وهو قول أبي حنيفة، وقياس قول أحمد في بقية الكفارات).

ص: 434

‌كِتَابُ الصِّيَامِ

‌إذا غُمَّ الهلالُ

، أو حال دونَه غَيْمٌ أو قَتَر ليلةَ الثلاثينَ من شعبانَ؛ فللناسِ في صومِه ثلاثةُ أقوالٍ:

أحدُها: يجبُ صومُه؛ وهو قولُ كثيرٍ من أصحابِ أحمدَ، وضعَّفَ أبو الخطابِ وابنُ عَقِيلٍ هذا.

والأولونَ يذكرونَ أن هذا هو المشهورُ عنه، ولم أجِدْ فيما وقفتُ عليه من كلامِ أحمدَ ما يقتضي أنه كان يوجِبُه، ولكن الذي وجدتُّه: أنه كان يصومُه، أو يستحِبُّ صومَه اتباعًا للصحابةِ، وكذلك المنقولُ عن الصحابةِ يقتضي جوازَ صَوْمِه أو استحبابَه؛ لا وجوبَه

(1)

.

والقولُ الثاني: أنه جائزٌ، لا واجبٌ، ولا محرَّمٌ، وهذا القولُ أعدلُ

(2)

.

(1)

فممن ورد عنه أنه كان يصومه: عمر بن الخطاب، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن عمرو، وأبو هريرة، وعائشة، ومعاوية رضي الله عنهم، رواه الإمام أحمد في مسائل الفضل بن زياد كما أوردها ابن القيم في زاد المعاد (2/ 41).

(2)

اختلف النقل عن شيخ الإسلام بعد قوله بعدم وجوب الصوم، قال في الإنصاف (3/ 270):(فعلى هذه الرواية: يباح صومه. قال في الفائق: اختاره الشيخ تقي الدين، وقيل: بل يستحب. قال الزركشي: اختاره أبو العباس. انتهى، قال في الاختيارات: وحكي عن أبي العباس أنه كان يميل أخيراً إلى أنه لا يستحب صومه. انتهى).

ص: 435

‌وهل يجبُ تعيينُ النيةِ لرمضانَ

؟

فمذهَبُ مالكٍ والشافعيِّ: يجبُ، فلو نوى نيةً مطلقةً أو معلقةً أو تطوعًا؛ لم تَجْزِه.

وعندَ أبي حنيفةَ: لا يجبُ التعيينُ، فيقعُ عن رمضانَ في هذه الصور.

وفي مذهَبِ أحمدَ ثلاثةُ أقوالٍ:

أحدُها: كمذهَبِ مالكٍ والشافعيِّ؛ يجبُ.

والثاني: كقولِ أبي حنيفةَ.

والثالثُ: يقعُ عن رمضانَ معَ الإطلاقِ، لا معَ نيةِ غيرِ رمضانَ، وهذا اختيارُ الخِرَقيِّ في «شرحِ المختصرِ» ، واختيارُ جَدِّي وغيرِهما.

والذي يجبُ: أن يُفرَّقَ بينَ العالِمِ والجاهلِ، فمن علِمَ أن غدًا من رمضانَ ولم يَنْوِه، بل نوى غيرَه؛ فقد ترَكَ الواجبَ، فلم يَجْزِهِ، ومَن لم يعلمْ فنوى صومًا مطلقًا للاحتياطِ، أو صومًا مقيدًا؛ فهذا إذا قيلَ يجزئه كان متوجِّهًا.

‌ويومُ الشكِّ:

يومٌ يَتحدَّثُ برؤيته مَن لا يثبتُ بقولِه، ويكون صحوًا.

ص: 436

أما يومُ الغَيْمِ: فهل هو شك؟ فيه روايتانِ.

وقد يقالُ: إن أصلَ ذلك أن الهلالَ هل هو اسمٌ لما يَراه الناسُ ويَسْتهِلُّونَ به، أو هو اسمٌ لما يطلُعُ في السماءِ وإن لم يَرَه الناسُ؟ على قولَينِ

(1)

.

‌والقولُ الثالثُ في المسألةِ:

أنه يُنهَى عن صومِ هذا اليومِ؛ لأنه يومُ شكٍّ؛ إلا أن يوافقَ عادةً، وهل هو نهي تحريم أو تنزيهٌ؟ على قولَينِ.

وهذا مذهَبُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ في إحدى الرواياتِ عنه.

وعنه روايةٌ ثالثةٌ: أن الناسَ تَبَعٌ للإمامِ.

‌فَصْلٌ

‌ومَن شكَّ في قدرِ ما وجب

(2)

من الصَّلاةِ عليه، أو في قدرِ ما

(1)

قال في مجموع الفتاوى 25/ 203: (أصل ذلك: أن الله سبحانه وتعالى علق الحكم بالهلال والشهر فقال تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج}، والهلال اسم لما يستهل به: أي يعلن به ويجهر به، فإذا طلع في السماء ولم يعرفه الناس ويستهلوا لم يكن هلالًا، وكذا الشهر مأخوذ من الشهرة؛ فإن لم يشتهر بين الناس لم يكن الشهر قد دخل، وإنما يغلط كثير من الناس في مثل هذه المسألة؛ لظنهم أنه إذا طلع في السماء كانت تلك الليلة أول الشهر، سواء ظهر ذلك للناس واستهلوا به أو لا، وليس كذلك؛ بل ظهوره للناس واستهلالهم به لا بد منه).

(2)

في الأصل: وجوب. والمثبت من (ك).

ص: 437

وجَبَ من الزكاةِ؛ كمَن قال: لا أدري أبلغْتُ من سنةٍ أم من سنتينِ، أو حالَ على مالي حولٌ أو حولانِ؟ فعليه اليقينُ.

‌ومَن لم يعلمْ أن الهلالَ رُؤِي إلا مِن النهارِ:

هل يُلحَقُ بأهلِ الأعذارِ؟ فيه نزاع مَبْناه على أن الهلالَ اسمٌ لما يُسْتهَلُّ؛ أي: يتكلمُ به، أو اسمٌ لما يطلُعُ في السماءِ، وإن لم يتكلَّم به؟ ثم إذا قيلَ: هو اسمٌ لما يتكلَّمُ به؛ فهل يختصُّ بمن تكلَّمَ به، أو بمن تكلم وبغيرِه؟ فيه نزاعٌ أيضًا.

ومَن نذَر صومَ يومِ

(1)

يقدَمُ فلانٌ، فقدِمَ نهارًا، فأمسَكَ من حينِ علِمَ به، فهل يَجزِئه؟ فيه قولانِ، هما روايتانِ عن أحمدَ.

فمن لم يُلحِقْه بالأعذارِ قال: إذا علِم من النهارِ؛ فعليه أن يُمسِكَ، كما يقولُه طائفةٌ من أصحابِ أحمدَ وغيرِه.

ومَن ألحقَه بأهلِ الأعذارِ قال: إذا لم يعلَمْ إلا بالنهارِ

(2)

؛ فإنه يُجْزئه الصومُ؛ سواءٌ علِمَ قبلَ الزوالِ أو بعدَه، كمن نذَرَ صومَ يومِ يقدَمُ فلانٌ، فقدِمَ نهارًا وهو مُمسِكٌ، فنوى حينَ قدومِه؛ أجزَأَه في أحدِ القولَينِ، وهو إحدى الروايتينِ كما قدَّمْناه، والأخرى: يقضي.

وإن قدِمَ وهو مُفطِرٌ، أو يومَ عيدٍ، أو في رمضانَ؛ فهل عليه القضاءُ؟ على روايتينِ.

(1)

في الأصل: صوم صوم.

(2)

في الأصل: إذا لم يعلم بالنهار إلا بالنهار. والمثبت من (ك).

ص: 438

‌فَصْلٌ

‌الصَّلاة لم تجبْ على الحائضِ

؛ لأنه لا يجبُ في يومٍ أكثرُ من خمسِ صلواتٍ، ولم يكُنِ الصَّوم إلا في وقت الطهر، فلما وجَبَ فيه خمسٌ؛ لم يجبْ فيه خمسٌ أخرى، بخلافِ الصومِ، فإنه يجبُ في وقتِ غير الحيضِ، ولا يكونُ فيه صومٌ آخَرُ عليها.

‌صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ

هل هي واجبةٌ على الكفايةِ؟ فيه قولانِ للعُلماءِ.

‌ولو نذَر الصَّلاةَ في وقتِ النَّهْيِ

، ففي صِحَّتِها - لكونِه يُفعَلُ فيها الواجب- وجهانِ في مذهَبِ الشافعيِّ وأحمدَ، الصوابُ: أنه لا يصِحُّ.

‌وإفرادُ رجب بالصومِ:

مكروهٌ، نصَّ على ذلك الأئمَّةُ؛ كالشافعيِّ وأحمدَ وغيرِهما، وسائرُ الأحاديثِ التي رُوِيتْ في فضلِ الصومِ فيه؛ موضوعةٌ؛ لكن لو صام أكثرَه فلا بأسَ.

فلو نذَرَ صومَه قصدًا؛ فهو مثلُ مَن نذَرَ صومَ يومِ الجمعةِ وغيرَه من العباداتِ المكروهةِ، والواجبُ أن يصومَ شهرًا آخَرَ في شهرين.

وهل عليه كفارةُ يمينٍ؟ على قولَينِ لنا ولغيرِنا، وإنما يشرع الوفاءُ بما كان طاعةً بدونِ النَّذْرِ، والنَّذْرُ ليس بطاعةٍ، لكن يجعلُ الطاعةَ واجبةً، والصَّلاةُ في وقتِ النَّهْيِ مَنْهيٌّ عنها، فلا تصيرُ بالنَّذْرِ طاعةً واجبةً.

ص: 439

‌فَصْلٌ

‌إذا دخَل المسافرُ

بلداً فنوى الإقامةَ فيه أقلَّ من أربعةِ أيامٍ؛ فله أن يُفطِرَ.

‌وقد نُقِلَ عن طائفةٍ من السَّلَفِ:

أن الغِيبةَ والنميمةَ ونحوَها تُفطِّرُ الصائمَ، وذُكِر وجهًا في مذهَبِ أحمدَ.

وتحقيقُ الأمرِ في ذلك: أن اللهَ أمَر بالصيامِ لأجلِ التقوى، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن لم يدَعْ قولَ الزورِ والعملَ به؛ فليسَ لله

(1)

حاجةٌ في أن يدَعَ طعامَه وشرابَه»

(2)

، فإذا لم تحصُلْ له التقوى؛ لم يحصُلْ مقصودُ الصومِ، فينقُصُ أجر الصومِ.

والأعمالُ الصالحةُ لها مقصودانِ: حصولُ الثوابِ، واندفاعُ العقابِ، فإذا فعَلَها معَ المنهياتِ من أكلِ الحرامِ وغيرِه؛ فاته الثوابُ.

فقولُ الأئمَّةِ: لا يُفطِرُ؛ أي: لا يُعاقَبُ على الترك.

ومَن قال: إنه يُفطِرُ؛ بمعنى: أنه لم يحصُلْ له مقصودُ الصومِ، أو قد تذهبُ بأجرِ الصومِ؛ فقولُه موافقٌ للأئمَّةِ.

ومَن قال: يُفطِرُ؛ بمعنى: أنه يُعاقَبُ على التركِ؛ فهو مخالفٌ لأقوالِهم.

(1)

قوله: (لله) سقطت من الأصل.

(2)

رواه البخاري (1903)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 440

‌وأما نقضها للوضوءِ:

فقد نُقِلَ عن طائفةٍ من السَّلَفِ وبعضِ الخَلَفِ.

والتحقيقُ: أن الطهارة

(1)

لها معنيانِ:

أحدُهما: الطهارةُ من الذنوبِ؛ كقولِه: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} ، {إنهم أناس يتطهرون} ، {تطهرهم وتزكيهم بها} .

والمعنى الثاني: الطهارةُ الحسيةُ بالماءِ أو الترابِ، وإنما أمَر بهذه لتحقق تلك، فالفاعلُ المنهيَّ عنه خرج عن مقصودِ الطهارةِ، فيُستحَبُّ له الوضوء.

وأما أنه ينقُضُ كالحاجةِ؛ فلا، ولكن لو صلَّى بعدَ الغِيبةِ كان أجرُ صلاتِه أنقصَ بقدرِ نَقْصِ الطهارةِ، فتخريجُ كلامِهم على هذا لا ينافي قولَ الأئمَّةِ، والله أعلم.

‌فَصْلٌ

‌في اليوم الثامن من شوَّالٍ

ليس لأحدٍ أن يتخِذَه عيدًا، ولا هو عيدُ أبرارٍ، ولا عيدُ فُجَّارٍ، ولا يُحدِث فيه شيئًا من شعائرِ الأعيادِ، فإن المسلمِينَ مُتَّفِقونَ على أنه ليس بِعيدٍ، وكِرَه بعضُهم أن يصام عقيب العيدِ؛ لئلا يعتقد الناسُ عيدًا آخَرَ.

(1)

في الأصل: الطاهر.

ص: 441

‌فَصْلٌ

‌صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:

«صيامُ عرفةَ يُكفِّرُ سنتينِ، وعاشوراءَ يُكفِّرُ سنةً»

(1)

؛ لكن إطلاقَ القولِ بأنه يُكفِّرُ؛ لا يوجبُ أن يُكفِّرَ الكبائرَ بلا توبةٍ، فإنه قال في الجمعةِ ورمضانُ إلى رمضانَ كفارةٌ لما بينَهنَّ إذا اجتُنِبتِ الكبائرُ

(2)

.

ومعلومٌ أن الصَّلاةَ هي أفضلُ من الصيامِ، وصيامَ رمضانَ أعظمُ من يومِ عرفةَ، ولا يُكفِّرُ إلا باجتنابِ الكبائرِ، كما قيَّدَه صلى الله عليه وسلم، فكيفَ يُظَنُّ أن صومَ يومٍ أو يومينِ تطوُّعًا يُكفِّرُ الزنى والسرقةَ وشُرْبَ الخمرِ والسحرَ ونحوَه، فهذا لا يكونُ.

‌فَصْلٌ

‌والائتمامُ بإمامِ التراويحِ

ليُحصِّلَ صلاةَ الجماعةِ؛ أَوْلى من صلاتِه وحدَه، كما رجَّح العلماءُ صلاةَ المريضِ قاعدًا في الجماعةِ على صلاتِه قائمًا وحدَه.

‌والتراويحُ سنةٌ

، وإن سميت بدعةً؛ لأنها لم تُفعَلْ قبلَ ذلك، كما أُخرِجَ اليهود والنصارى من الجزيرةِ، وكما قاتَلوا أهلَ الرِّدَّةِ، وكما

(1)

رواه مسلم (1162)، من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم (233)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 442

جمع المُصحَفَ أبو بكرٍ، وكما قاتلَ عليٌّ الخوارجَ، وكما شرطوا على أهلِ الذمةِ الشروطَ، وغيرِ ذلك من الأمورِ التي فعَلوها عملًا بكتابِ اللهِ وسنةِ رسولِه، وإن لم يتقدَّمْ نظيرُها، وكضربِ عمرَ على الركعتينِ بعدَ العصرِ

(1)

، وعلى الإفطار في رجبٍ

(2)

، وكسَرَ [أبو بكرة]

(3)

كيزانَ أهلِه، وقال:«لا تُشبِّهوه برمضانَ»

(4)

.

فهذه العقوبةُ البدنيةُ والماليةُ لمن كان يعتقدُ أن صومَ رجبٍ مشروعٌ مستحَبٌّ، وأنه أفضلُ من صومِ غيرِه من الأشهرِ، وهذا الاعتقادُ خطأٌ وضلالٌ، ومَن صامَه على هذا الاعتقادِ الفاسدِ كان عاصيًا، فيُعزَّرُ على ذلك، ولهذا كرِهَه مَن كرِهَه أن يفرد، وقال: يُستحَبُّ أن يفطرَ بعضَه، ومنهم مَن رخَّصَ فيه إذا صام شهرًا آخَرَ كالمحرَّمِ.

‌ورجَبٌ أحدُ الأشهرِ الحُرُمِ

، وله فضلٌ على غيرِه من الأشهرِ التي ليسَتْ بحُرُمٍ، وكلما كان المكانُ والزمانُ أفضلَ كانت الطاعات فيه أفضلَ، والمعاصي فيه أشدَّ، وليسَ هو أفضلَ الشهورِ عندَ اللهِ؛ بل شهرُ رمضانَ أفضلُ منه، كما أن يومَ الجمعةِ أفضلُ الأسبوعِ.

(1)

رواه مسلم (836)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(2)

رواه ابن أبي شيبة (9758)، من طريق خرشة بن الحر رحمه الله.

(3)

في الأصل والنسخ الخطية: (أبو بكر)، والمثبت موافق لما في المغني 3/ 172، ولما في شرح العمدة لشيخ الإسلام 3/ 456.

(4)

عزاه ابن قدامة في المغني 3/ 172، وشيخ الإسلام في شرح العمدة 3/ 458 لأحمد، ولم نجده.

ص: 443

‌وصلاةُ الرغائبِ

(1)

: بدعةٌ مُحدَثةٌ.

‌وأما ليلةُ النصفِ

؛ ففيها فضلٌ، وكان في السَّلَفِ مَن يُصلِّيها؛ لكنَّ الاجتماعَ فيها لإحيائِها في المساجدِ بدعةٌ، واللهُ أعلمُ.

وصلاةُ الألفيةِ فيها، والاجتماعُ على صلاةٍ راتبةٍ فيها؛ بدعةٌ

(2)

، وإنما كانوا يُصلُّونَها في بيوتِهم؛ كقيامِ الليلِ.

وإن قام معَه بعضُ الناسِ من غيرِ مداومةٍ على الجماعةِ فيها؛ فلا بأسَ، كما صلى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بابنِ عبَّاسٍ

(3)

، وليلةً بحُذَيْفةَ

(4)

.

ووليُّ الأمرِ ينهى عن الاجتماعاتِ البدعيةِ

(5)

.

‌الاعْتِكَافُ وَالفِطْرَةُ

‌ليس للمُعتكِفِ أن يخيطَ

. وقيلَ: يجوزُ لنفْسِه، لا ليكتسبَ. وقيلَ: يجوزُ اليسيرُ. وهذه الثلاثةُ أقوالٍ في المذهبِ.

(1)

هي التي تصلَّى في رجب في أول ليلة جمعة منه. ينظر: منهاج السنة 7/ 39.

(2)

وهي الاجتماع في ليلة النصف من شعبان للصلاة التي يسمونها الألفية، لأن فيها قراءة " قل هو الله أحد " ألف مرة. ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 146.

(3)

رواه البخاري (117)، ومسلم (763)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(4)

رواه مسلم (772)، من حديث حذيفة رضي الله عنه.

(5)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وصلاة الرغائب .. ) إلى هنا في مجموع الفتاوى 23/ 413.

ص: 444

‌وزكاةُ الفطرِ:

هل تجري مَجْرى زكاةِ المالِ، أو مَجْرى الكفاراتِ؟ على قولَينِ.

فإن أُجرِيتْ مُجرى الكفارة؛ تُعطَى لمن هو آخذ لحاجةِ نفْسِه، لا في المؤلفةِ والرقابِ، وهذا أقوى دليلًا.

ومَن قال بالآخر؛ استَوعبَ إن كان مذهبُه ذلك، وإلا فلا.

وأضعفُ الأقوالِ قولُ مَن يقولُ: يجبُ دفْعُها إلى اثني عشَرَ، أو ثمانيةَ عشر، أو اثنتينِ وثلاثينَ، أو ثمانيةٍ وعشرينَ، أو نحوِ ذلك

(1)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وزكاة الفطر .. ) إلى هنا في مجموع الفتاوى 25/ 71، الفتاوى الكبرى 2/ 491.

ص: 445

‌كِتَابُ الحَجِّ

‌الحجُّ على الوجهِ المشروعِ

؛ أفضلُ من الصدقةِ التي ليست بواجبةٍ.

وأما إن كان له أقاربُ مَحاويجُ، أو هناك فقراءُ مضطرون إلى نفقةٍ؛ فالصدقةُ عليهم أفضلُ.

أما إذا كان كلاهما تطوعًا فالحجُّ أفضلُ؛ لكن بشرطِ أن يقيمَ الواجبَ، ويتركَ المحرماتِ، ويصلِّيَ الصلواتِ، ويصدقَ الحديثَ، ويؤديَ الأمانةَ، ولا يعتديَ على أحدٍ، فمَن فعَل شيئًا من ذلك فقد يكونُ إثمُه أعظمَ من أجرِه، فأيُّ فضيلةٍ في هذا؟!

‌قال تعالى:

{الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} ؛ فيها قراءتانِ:

«فلا رَفَثٌ ولا فُسُوقٌ» بالرفع، {ولا جدالَ} بالفتحِ.

والقراءةُ الثانيةُ: التسويةُ في الكلِّ بالفتحِ

(1)

.

(1)

قال الأزهري في معاني القراءات 1/ 196: (قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ) رفعًا بالتنوين، وقرأ الباقون نصبًا غير منوَّن، على التبرئة، واتفقوا كلهم على نصب اللام من قوله:(ولا جدالَ في الحج)، وقال:(ولو قرئ: (ولا جدالٌ) بالرفع والتنوين كان ذلك جائزًا في كلام العرب، فأما في القرآن فلا يجوز؛ لأن القراءة سنة، ولم يقرأ بها أحد من القراء).

وفي جامع البيان لأبي عمرو الداني 2/ 910: (وأجمعوا على النصب من غير تنوين في قوله: (ولا جدال في الحج) إلا شيئًا يروى عن المفضل عن عاصم، أنه رفع الأسماء الثلاثة ونوَّنها، ولم أقرأ بذلك من طريقه).

ص: 447

فالقراءةُ الأولى توافقُ الحديثَ الذي في الصحيحِ أنه قال: «مَن حجَّ هذا البيتَ فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ؛ رجَع كيومَ ولدَتْه أمُّه»

(1)

، فجعل الوعدَ بالمغفرةِ لمن لم يرفُثْ، ولم يفسُقْ، فالمنهيُّ عنه المحرِمُ في الآيةِ:«الرَّفَثُ» ، وهو الجماعُ قولًا وفعلًا، و «الفسوقُ» وهي المعاصي كلُّها، فهذا الذي نهى عنه المُحرِمَ.

وقولُه: {ولا جدال} نهي للمحرم وغيره عن المجادلة في أمر الحج وحكمه ووقته من المجادلة الباطلة، ولم يرد نهي المحرم عن الجدالِ مطلقًا؛ بل الجدالُ بالتي هي أحسنُ قد يُؤمَرُ به المُحرِمُ وغيرُه، والمعنى: أنَّ أمْرَ الحجِّ قد بيَّنَه اللهُ وأوضَحَه، فلم يبق فيه جدالٌ.

وأما القراءةُ الأخرى: فقالوا في أحدِ القولَينِ: نُهي المُحرِم عن الثلاثةِ:

- الرَّفَثِ؛ الجماعِ وذِكْرِه.

(1)

أخرجه البخاري (1521)، ومسلم (1350)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 448

- والفُسوقِ، وهو السبابُ، والتحقيقُ: أن الفسوقَ أعمُّ من السبابِ.

- والجدالِ المكروهِ المحرَّمِ، وهو المراءُ والخصومةُ؛ كقولِه:«مَن ترَكَ المِراءَ وهو مُحِقٌّ بني له بيتٌ في أعلى الجنةِ، ومَن ترَكَه وهو مُبطِلٌ بُني له بيتٌ في ربَضِ الجنةِ»

(1)

.

وقالوا في القولِ الآخَرِ: حكمُ هذه القراءةِ حكمُ الأولى؛ في أن المرادَ: نهيُ المُحرِمِ عن الرفَثِ، والفسوقِ، وهو المعاصي كلُّها، وبيَّنَ سُبْحانَه بعدَ ذلك أن الحجَّ قد وضَحَ أمرُه، فلا جدالَ فيه بالباطلِ؛ أي: لا تُجادلوا فيه بغيرِ حقٍّ، فقد ظهَر وبان.

وهذا القولُ أصحُّ؛ لموافقتِه الحديثَ المتقدمَ، فإن فيه:«من حجَّ فلم يرفُثْ، ولم يفسُقْ» فقط.

وبكلِّ حالٍ؛ فالحاجُّ مأمورٌ بالبِرِّ والتقوى.

والبِرُّ: إطعامُ الطعامِ وإفشاءُ السلامِ؛ كذا رُوِي في الحديثِ

(2)

،

(1)

رواه الترمذي (1993)، وابن ماجه (51)، من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ:«من ترك الكذب وهو باطل؛ بني له -زاد في رواية ابن ماجه: قصر- في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق؛ بني له في وسطها، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها» .

(2)

يشير إلى ما رواه أحمد (14482)، من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» ، قالوا: يا نبي الله ما بر الحج المبرور؟ قال: «إطعام الطعام، وإفشاء السلام» .

ص: 449

وهو يتضمَّنُ الإحسانَ إلى الناسِ بالنفسِ والمالِ.

‌وإذا حصل من الحاجِ أو غيرِه

المشاجرةُ والخصومةُ والسبُّ؛ فكفارتُه الاستغفارُ، وفعلُ الحسناتِ الماحيةِ إلى مَن جَهِلَ عليه، فيُحسِنُ إليه، ويستغفرُ له، ويدعو له، ويُداريه ويُلاينُه.

وإن اغتاب غائبًا وهو لم يعلَمْ؛ دعا له، ولا يحتاجُ إلى إعلامِه في أصحِّ قولَيِ العلماءِ.

‌مَن بَذل له والدُه المالَ

؛ فهل يجبُ عليه الحجُّ؟ فيه نزاع.

(1)

‌فَصْلٌ

‌من روى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم

أنه تمتَّعَ فإنه فسَّر التمتُّعَ: بأنه قرَن بينَ العمرةِ والحجِّ

(2)

، وهو تمتُّعٌ يجبُ فيه هَدْيُ التمتُّعِ.

ومَن روَى أنه أفردَ الحجَّ

(3)

فإنه فسَّره: بأنه لم يعمل غيرَ أعمالِ

(1)

قوله: (مَن بَذل له والدُه المالَ؛ فهل يجبُ عليه الحجُّ؟ فيه نزاع) كتبها المؤلف على هامش الأصل تصحيحًا دون الإشارة إلى مكانها، فرأينا وضعها هنا.

(2)

ومن ذلك: ما رواه البخاري (1691)، ومسلم (1227)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:«تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، بالعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة» ، ونحوه عن عائشة رضي الله عنها رواه البخاري (1692)، ومسلم (1228)، ولمسلم (1226) عن عمران بن الحصين رضي الله عنه:«تمتع نبي الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه» .

(3)

روى مسلم (1211) عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج» ، وروى أيضًا (1231) عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال: «أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردًا» .

تنظر المسألة: مجموع الفتاوى 26/ 61 وما بعدها، شرح العمدة لشيخ الإسلام 4/ 322، زاد المعاد 2/ 112.

ص: 450

الحجِّ، ولم يحلَّ من إحرامِه، كما يحِلُّ المتمتعُ.

‌وهنا مسألةٌ:

وهو أن القارنَ هل يطوفُ طوافينِ، ويسعى سَعْيَينِ، أم يَكْفيه طوافٌ واحدٌ وسَعْيٌ واحدٌ؟

فمذهبُ أبي حنيفةَ: أنه يطوفُ ويسعى للعمرة أولًا، ثم يطوفُ ويسعى للحجِّ ثانيًا، وإذا فعَل محظورًا فعليه فِدْيتانِ، وقد رُوِي عن عليٍّ وابنِ مسعودٍ

(1)

.

وأما الأئمَّةُ الثلاثةُ فعندَهم: يطوفُ ويسعى مرةً واحدةً، وعملُ العمرةِ دخَل في الحجِّ، كما يدخُلُ الوضوءُ في الغسلِ؛ لأن الأحاديثَ الصحيحةَ تبيِّنُ أنه لم يطُفْ ولم يَسْعَ إلا طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا، وذلك كلُّه قبلَ التعريفِ، فأما بعدَ التعريفِ فإنه يطوفُ طوافَ الحجِّ، وهو الزيارة والإفاضة، وهو ركنُ الحجِّ الذي به تمامُه، وليس عليه بعدَه سعيٌ؛ إلا أن يكونَ لم يَسْعَ معَ طوافِ القدومِ.

فأما المتمتعُ فلا بدَّ أن يسعى قبلَ ذلك، وهل عليه سعيٌ ثانٍ؟ فيه روايتانِ، هما قولانِ للعُلماءِ

(2)

، وذلك لما رُوِي أن الصحابةَ تمتَّعوا

(1)

روى ابن أبي شيبة (14313)، عن زياد بن مالك، أن عليًّا وابن مسعود قالا في القارن:«يطوف طوافين» .

(2)

واختار شيخ الإسلام: أن المتمتع عليه سعيٌ واحد. ينظر: مجموع الفتاوى 26/ 138، الاختيارات للبعلي ص 175.

ص: 451

بالعمرةِ إلى الحجِّ، ولم يَسْعَوا بينَ الصفا والمروةِ إلا مرةً واحدةً

(1)

.

وهذا بيانٌ أنَّ عمرةَ المتمتعِ بعضُ حَجِّه، كما أن وضوءَ المغتسلِ بعضُ غُسلِه؛ فيقعُ السعيُ عن جملةِ النُّسُكِ، كما قال:«دخلَتِ العمرةُ في الحجِّ إلى يومِ القيامةِ»

(2)

، واللهُ أعلمُ.

‌ومَن حجَّ بمالٍ حرامٍ

؛ لم يَتقبَّلِ اللهُ منه حجَّه، وهل عليه الإعادةُ؟ على قولَينِ للعُلماءِ.

‌فَصْلٌ

‌مَن ترَك طوافَ الزيارةِ

حتى رجَع إلى بلدِه فوطِئَ؛ لزِمَه الرجوعُ والإحرامُ من الميقاتِ بعمرةٍ، فإذا طاف وسعى وقصَّر للعمرةِ؛ طاف حينئذٍ كطوافِ الزيارةِ الذي ترَكَه، نصَّ عليه أحمدُ وغيرُه، بخلافِ مَن يخرُجُ إلى التنعيمِ، فإنه تكْفيه العمرة؛ لأن ذلك لم يخرُج من مكةَ.

‌لو لم يمكنْه الطوافُ إلا عُرْيانًا

؛ لكان طوافُه عُرْيانًا أهونَ من صلاتِه عُرْيانًا، وهو واجبٌ بالاتفاقِ، فالطوافُ معَ العُرْيِ إذا لم يمكنْه إلا ذلك أَوْلى وأَحْرى، وهذا العذرُ نادرٌ لا يكادُ الشخصُ يعجِزُ عن السترةِ؛ لكن لو سُلِب ثيابَه، والقافلةُ خارجونَ لا يمكِنُه أن يتخلفَ عنهم؛ كان

(1)

رواه مسلم (1215) عن جابر قال: «لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا؛ طوافه الأول» .

(2)

رواه مسلم (1218)، من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 452

الواجبُ فِعلَ ما يقدِرُ عليه من الطوافِ معَ العُرْيِ، كما تطوفُ المستحاضة ومن به

(1)

سَلَسُ البولِ، معَ أن النهيَ عن طوافِ العريانِ أظهرُ وأشهرُ في الكتابِ والسُّنةِ من طوافِ الحائضِ، فإذا جاز في العريانِ العاجزِ؛ ففي الحائضِ إذا عجَزَتْ وأفضى إلى تخلُّفِها وانقطاعِ الطريقِ أو مسافرتِها وهلاكِها: أَوْلى وأَحْرى.

فمن جعَل الطهارةَ واجبةً في الطوافِ؛ فإنه يقولُ: إذا طاف مُحدِثًا، وأبعدَ عن مكةَ لم يلزَمِ العودُ للمشقةِ؛ فكيفَ يجبُ على هذه ما لا يمكِنُها إلا بمشقةٍ أعظمَ من ذلك.

ومن جعَلَها شرطًا؛ فليس كونُها شرطًا فيه أعظمَ من كونِها شرطًا في الصَّلاةِ، وشروطُ الصَّلاةِ تسقُطُ بالعجزِ، فشروطُ الطوافِ أَوْلى وأَحْرى

(2)

.

‌فَصْلٌ

‌ومَن اغتصبَ إبلًا

، أو اشتراها بثمنٍ مغصوبٍ، أو بعضِه، وأرادَ الحجَّ، وليس له مالٌ يحجُّ به غيرُه؛ فإنه يجبُ عليه أن يعوضَ أربابَها إن أمكنَ معرفتُهم؛ وإلا تَصدَّقَ بقدرِ قيمةِ الثمنِ عنهم، فإن عجَزَ عن الصدقةِ؛ تصدَّقَ وقتَ قدرتِه بعدَ ذلك، وإن عرَفَهم في قريةٍ ولا يعرِفهم

(1)

قوله: (من به) سقط من الأصل. وهي مثبتة في (ع) و (ك).

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (لو لم يمكنْه الطوافُ

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 26/ 214.

ص: 453

عيناً؛ تصدَّقَ على فقراءِ تلكَ القريةِ، وقد طاب له الحجُّ، واللهُ أعلمُ.

‌وإذا ندَب الإمامُ مَن يحجُّ

لخفارةِ الحاجِّ من الجندِ المرتَّبة في الديوانِ، وأمَرَ الجماعةَ الذينَ لم يخرجوا أن يُعطوا الذي يحجُّ ما يحتاجُه؛ فله أخذُ ذلك، وهو حلالٌ، فإن هذا يكون قد خرَجَ بنفْسِه وهؤلاءِ بأموالِهم، وهذا الذي ينبغي ليكونَ عدلًا بينَ الجميعِ، وسواءٌ شرَطَ هذا عليهم في الإقطاعِ أو لا، وله أجران؛ أجرُ الحجِّ وأجرُ الجهادِ بالدفعِ عن الوفدِ وإقامةِ حرمةِ الحجِّ إلى بيتِ اللهِ تعالى.

‌ولا يُسقِطُ الوقوفُ بعرفةَ

شيئًا من فرائضِ الإسلامِ الواجبةِ، لا من حقِّ اللهِ كالزكاةِ، ولا من حقِّ الآدميِّينَ كالدماءِ والأموالِ، ومكةُ لا تشفعُ بأحدٍ.

‌فَصْلٌ

(1)

‌الأفضلُ لمن كان بمكةَ

من مجاوِرٍ ومستوطِنٍ وقادمٍ؛ الطوافُ بالبيتِ، وهو أفضلُ من العمرةِ؛ سواءٌ خرَج إلى التنعيمِ أو غيرِه من أَدْنى الحِلِّ، أو أقصى الحِلِّ كالجِعْرَانةِ، وهذا مُتَّفَقٌ عليه.

وإنما النِّزاعُ في أنه: هل يكره للمَكِّيِّ أن يخرُجَ للاعتمارِ مِن الحلِّ، أم لا؟

(2)

وهل يُكرَهُ أن يعتمرَ مَن تُشرَعُ له العمرةُ كالآفاقي في السَّنةِ

(1)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل والذي بعده في مجموع الفتاوى 26/ 248.

(2)

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 26/ 264: (وهذا الذي ذكرناه مما يدل على أن الطواف أفضل فهو يدل على أن الاعتمار من مكة وترك الطواف ليس بمستحب؛ بل المستحب هو الطواف دون الاعتمار؛ بل الاعتمار فيه حينئذ هو بدعة لم يفعله السلف، ولم يؤمر بها في الكتاب والسنة، ولا قام دليل شرعي على استحبابها، وما كان كذلك فهو من البدع المكروهة باتفاق العلماء، ولهذا كان السلف والأئمة ينهون عن ذلك).

ص: 454

أكثرَ من عمرةٍ، أم لا؟ وهل يُستحَبُّ [كثرة]

(1)

الاعتمارُ، أم لا؟

(2)

فهذا فيه النزاعُ.

‌ولا يُشرَعُ الطوافُ بغيرِ البيت

من سائرِ الأرضِ باتِّفاقِ المسلمِينَ، ومن اتَّخذَ ذلك قربةً عُرِّفَ، فإن أصرَّ قُتِل بالاتفاقِ.

‌وهل كانت عائشةُ رضي الله عنها

- لما اعتَمرَتْ من التنعيمِ - قارنةً حينَ حاضَتْ، أو رافضةً إحرامَها

(3)

؟ على قولَينِ للعُلماءِ، والثاني: قولُ أبي حنيفةَ.

(1)

زيادة ليستقيم المعنى، من مجموع الفتاوى 26/ 249.

(2)

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 26/ 270: (المسألة الثانية: في الإكثار من الاعتمار والموالاة بينها: مثل أن يعتمر من يكون منزله قريبًا من الحرم كل يوم أو كل يومين، أو يعتمر القريب من المواقيت التي بينها وبين مكة يومان: في الشهر خمس عُمَر أو ست عمر ونحو ذلك، أو يعتمر من يرى العمرة من مكة كل يوم عمرة أو عمرتين؛ فهذا مكروه باتفاق سلف الأمة، لم يفعله أحد من السلف، بل اتفقوا على كراهيته، وهو وإن كان استحبه طائفة من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد؛ فليس معهم في ذلك حجة أصلًا إلا مجرد القياس العام، وهو أن هذا تكثير للعبادات، أو التمسك بالعمومات في فضل العمرة ونحو ذلك).

(3)

أي: إحرامها بالعمرة.

ص: 455

‌فَصْلٌ

‌لما نهى عمرُ عن الاعتمارِ

في أشهرِ الحجِّ

(1)

؛ قصَد أمْرَهم بالأفضلِ؛ لأنهم تركوا الاعتمارَ في سفرةٍ مفردةٍ في غيرِ أشهرِ الحجِّ، وصاروا في عهدِ أبي بكرٍ وعمرَ يقتصرونَ على العمرةِ في أشهرِ الحجِّ، ويتركونَ سائرَ الأشهرِ، فصار البيتُ يُعرَى عن العمارةِ من أهلِ الأمصارِ في سائرِ الحولِ، فكان عمرُ من شفَقَتِه على رعيَّتِه اختارَ

(2)

الأفضلَ؛ لإعراضِهم عنه؛ كالأبِ الشفيقِ يأمُرُ ولدَه بما هو الأصلحُ له، وهذا كان موضعَ اجتهادٍ لرعيَّتِه، فألزَمَهم بذلك.

وخالَفَه عليٌّ

(3)

وعِمْرانُ بنُ حُصَيْنٍ

(4)

وغيرُهما من الصحابةِ، ولم يَرَوْا أن يُلزَم الناسُ؛ بل يُترَكونَ، من أحبَّ شيئًا عمِلَه قبلَ أشهرِ الحجِّ وفيها، وإن كان الأولُ أكمل.

وقوِيَ النِّزاعُ في ذلك في خلافةِ عثمانَ رضي الله عنه؛ حتى ثبَتَ أنه كان يَنْهى عن المتعةِ، فلما رآه عليٌّ؛ أهَلَّ بهما، وقال:«لم أكنْ أدعَ سنةَ رسولِ اللهِ لقولِ أحدٍ»

(5)

.

(1)

رواه مسلم (1217)، من حديث جابر رضي الله عنه.

(2)

في الأصل: (اختيار)، والمثبت من (ك) و (ع) و (ز).

(3)

رواه مسلم (1223).

(4)

رواه مسلم (1226).

(5)

رواه مسلم (1223).

ص: 456

ونَهْيُ عثمانَ عن المتعةِ كان لاختيارِ الأفضلِ، وليُعمَرَ البيتُ بالقصدِ في كلِّ السنة، لا نَهْيَ كراهةٍ.

فلما قُتِل عثمانُ صار الناسُ شيعتينِ؛ قومًا يميلونَ إلى عثمانَ، وقومًا يميلونَ إلى علي، وصار قومٌ من بني أميةَ يَنْهَونَ عن المتعةِ، ويُعاقِبونَ على ذلك، ولا يُمكِّنونَ أحدًا من العمرةِ في أشهرِ الحجِّ، وكان في ذلك نوعٌ من الظلمِ والجهلِ، فلما رأى ذلك علماءُ الصحابةِ؛ كابنِ عبَّاسٍ وابنِ عمرَ وغيرِهما جعلوا يُنكِرونَ ذلك، ويأمرونَ بالمتعةِ اتباعًا للسُّنَّةِ، فصار بعضُ الناسِ يُناظِرُهم بها بوَهْمِه على أبي بكرٍ وعمرَ، فيقولونَ لابنِ عمرَ: إن أباكَ كان يَنْهى عنها! فيقولُ: إن أبي لم يُرِدْ ذلك، ولا كان يضربُ الناسَ عليها، ويبيِّنُ لهم أن قصدَ عمر كان الأفضلَ، لا تحريمَ المفضولِ، فكانوا يُنازِعونَه، فيقولُ لهم: قدِّروا أن عمرَ نهى عن ذلك؛ تتبعونَه، أم النبيَّ صلى الله عليه وسلم؟

(1)

، وكذلك ابنُ عباسٍ لما كانوا يعارضونَه بما توَهَّموه على أبي بكرٍ وعمرَ، يقولُ لهم: يوشكُ أن تَنزِلَ عليكم حجارةٌ من السماءِ! أقولُ: قال رسولُ اللهِ، وتقولونَ: قال أبو بكرٍ وعمرُ!

(2)

.

(1)

رواه الترمذي (824).

(2)

رواه أحمد (3121) بنحوه.

ص: 457

‌فَصْلٌ

(1)

‌في الصحيحِ أنه صلى الله عليه وسلم أفرَدَ

(2)

، وفيه أنه قرَنَ

(3)

، ورُوِي أنه تمتَّعَ

(4)

، وكلُّ ذلك صحيحٌ بمعنًى واحدٍ.

فمعنى أنه قرَنَ أو تمتَّعَ واحدٌ؛ لأن القِرانَ تمتعٌ عامٌّ مشهورٌ، والتمتُّعُ بمعنى أنه يحِلُّ من العمرةِ، ثم يحجُّ في أشهرِ الحجِّ في عامٍ واحدٍ: اصطلاحٌ خاصٌّ.

ومَن روَى أنه أفردَ فمعناه: أنه لم يحِلَّ من عمرتِه؛ بل أفردَ أفعالَ الحج، ولم يكُنْ في أفعالِه زيادةٌ على عملِ المفرِدِ، فالمعنى واحدٌ، ولهذا كان رواةُ الإفرادِ هم رواةَ القِرانِ.

فرواياتُ الصحابةِ متفقةٌ، وفسَّروا التمتعَ بالقِرانِ، ورَوَوْا فيه صريحًا أنه قال:«لبَّيكَ حجًّا وعمرةً»

(5)

، وأنه قال:«أتاني آتٍ في وادِ العقيقِ، قال: قلْ: عمرةٌ في حجة»

(6)

، قال الإمامُ أحمدُ: (لا أشكُّ أن النبيَّ

(1)

هذا الفصل تابع للفتوى السابقة، ينظر أصلها في مجموع الفتاوى 26/ 283.

(2)

رواه مسلم (1211)، من حديث عائشة رضي الله عنها، ورواه أيضاً (1231)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

رواه البخاري (1551)، ومسلم (1232)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري (1692)، ومسلم (1228)، من حديث عائشة رضي الله عنها، ورواه البخاري (1691)، ومسلم (1227)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(5)

رواه مسلم (1232)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(6)

رواه البخاري (2337)، من حديث عمر رضي الله عنه.

ص: 458

صلى الله عليه وسلم كان قارِنًا، والتمتُّعُ أحبُّ إليَّ)؛ أي: لمن لم يَسُقِ الهَدْيَ، فإنه لا يختلفُ قولُه أن مَن جمع الحجَّ والعمرةَ في سفرةٍ واحدةٍ، فقدم في أشهر الحج، ولم يَسُقِ الهَدْي أن هذا التمتُّعَ أفضلُ؛ بل هو المسنون؛ لأمرِ النبيِّ أصحابَه بذلك

(1)

.

وأما مَن ساقَ الهَدْيَ؛ فهل القِرانُ أفضلُ له، أم التمتُّعُ؟ ذكَروا عنه روايتينِ.

وأمَّا من أفرَدَهما في سفرتينِ، أو اعتَمرَ قبلَ أشهرِ الحجِّ وأقامَ إلى الحجِّ؛ فهذا أفضلُ من التمتُّعِ

(2)

، وهو قولُ الخلفاءِ الراشدينَ

(3)

، وقولُ

(1)

ومن ذلك: ما رواه البخاري (1085) ومسلم (1240) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال:«قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة إلا من معه الهدي» .

(2)

مراده والله أعلم، أنه أفضل من التمتع الخاص، قال في مجموع الفتاوى 26/ 85:(فالتحقيق في هذه المسألة: أنه إذا أفرد الحج بسفرة والعمرة بسفرة فهو أفضل من القران والتمتع الخاص بسفرة واحدة وقد نص على ذلك أحمد وأبو حنيفة مع مالك والشافعي وغيرهم).

وأما لو سافر للعمرة ثم رجع إلى دويرة أهله، ثم سافر مرة أخرى؛ فالتمتع أفضل من الإفراد، قال في مجموع الفتاوى 26/ 88:(ومن سافر سفرة واحدة واعتمر فيها، ثم أراد أن يسافر أخرى للحج؛ فتمتعه أيضًا أفضل له من الحج)، ثم قال:(لو تمتع ثم سافر من دويرة أهله للمتعة فهذا أفضل من سفرة بعمرة وسفرة بحجة مفردة وهذا المفرد أفضل من سفرة واحدة يتمتع فيها).

(3)

لعله يريد به ما رواه البخاري (1641) من حديث عائشة رضي الله عنه، وفيه:«أنه أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ، ثم طاف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم حج أبو بكر رضي الله عنه فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم عمر رضي الله عنه مثل ذلك، ثم حج عثمان رضي الله عنه، فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة» ، كما يدل عليه كلام شيخ الإسلام في شرح العمدة (4/ 332).

وأما ما جاء عن علي رضي الله عنه، فروى ابن أبي شيبة (12689) أن عليًّا رضي الله عنه سئل عن قوله {وأتموا الحج والعمرة لله} فقال:«أن تحرم من دويرة أهلك» .

ص: 459

أحمدَ وغيرِه، وبعضِ أصحابِ مالكٍ والشافعيِّ وغيرِهم.

‌وهل على المتمتعِ بعدَ طوافِ الإفاضةِ

سَعْيٌ بالبيت غيرُ السعيِ الأولِ الذي كان عَقيب

(1)

طواف العمرةِ؟ فيه قولانِ في مذهَبِ أحمدَ وغيرِه.

ومالكٌ؛ وإن كان يختارُ الإفرادَ؛ فلا يختاره لمن يعتمرُ عَقيبَ الحجِّ؛ بل مَن يعتمرُ في غيرِ أشهرِ الحجِّ كالمُحَرَّمِ.

ولا أحفَظُ قولَ الشافعيِّ فيمن يعتمرُ عَقيبَ الحجِّ، وإن كان من أصحابِه مَن يجعلُ هذا هو الأفضلَ، كما يظنُّ كثيرٌ من أصحابِ أحمدَ: أن المتعةَ أفضلُ من الاعتمارِ قبلَ أشهرِ الحجِّ؛ فالغَلَطُ كثيرٌ.

‌فَصْلٌ

(2)

‌الذي ينبغي أن يقالَ:

إن ما اختارَه اللهُ لنبِيِّه هو الأفضلُ، وقولُه:«لوِ استَقْبلْتُ من أمري ما استَدْبَرتُ لم أسُقِ الهَدْيَ»

(3)

، فهو حكمٌ معلَّقٌ

(1)

في الأصل: (عقبه). والمثبت من (ك) و (ع).

(2)

هذا الفصل تابع للفتوى السابقة، ينظر أصلها في مجموع الفتاوى 26/ 285.

(3)

رواه البخاري (7229)، ومسلم (1216) من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 460

على شرطٍ، والتعليقُ على شرطٍ يَعْدَمُ عندَ عدَمِه، فما استقبلَ من أمره ما استَدْبرَ، وقد اختارَ الله له أنه لم يستقبلْ ما استَدْبرَ.

ولكن هذا يبيِّنُ أن الموافقةَ - إذا كانت في تنويعِ الأعمالِ تَفرُّق وتشتُّت - هو أَوْلى من تنويعِها، وتنويعُها هو باختيارِ القادرِ للأفضلِ، والعاجزِ للمفضولِ، كما اختار مَن قدَرَ على سَوْقِ الهديِ الأفضلَ ممن لم يقدِرْ على سَوْقِه معَ السلامةِ.

‌وجمهورُ العلماءِ على أن طوافَ القادمينَ

أفضلُ من الصَّلاةِ بالمسجدِ الحرامِ معَ فضيلتِها أيضًا، وكذلك الطوافُ أفضلُ

(1)

.

‌فصل

‌صحَّ عن عمرَ أنه قال:

«إني لأعلَمُ أنك حجرٌ لا تنفعُ ولا تضرُّ، ولولا أني رأيتُ رسولَ اللهِ يُقبِّلُكَ لما قبَّلْتُكَ»

(2)

. وزاد بعضُهم أن أبا بكرٍ قال: «بل ينفعُ ويشفعُ» ، وهو كذِبٌ.

وروَى الأزرقيُّ عن عليٍّ في ذلك أثرًا؛ لكنَّ إسنادَه ضعيفٌ

(3)

.

(1)

لعل المراد: أن الطواف أفضل من تكرار العمرة والموالاة بينها، كما هو في أصل الفتوى.

(2)

رواه البخاري (1605).

(3)

روى الأزرقي في أخبار مكة 1/ 323)، من طريق أبي هارون العبدي عن أبي سعيد أن عليًّا قال لعمر رضي الله عنهم:(بلى يا أمير المؤمنين، هو يضر وينفع)، وأبو هارون قال فيه الذهبي:(تابعي لين بمرة)، وكذبه حماد بن زيد والجوزجاني وغيرهما، وقال أحمد:(ليس بشيء). ينظر: ميزان الاعتدال 3/ 173.

ص: 461

‌والبيتُ زادَه اللهُ تشريفًا وتعظيمًا ومهابةً وبِرًّا

؛ له الشرفُ من وجوهٍ كثيرةٍ:

منها: نفسُ البقعةِ، شرَّفها اللهُ على غيرِها، كما شرَّفَ غاية

(1)

الأنواعِ بعضُ أشخاصِها، كما خصَّ بعضَ الناسِ.

ومنها: أن اللهَ بوَّأَه لخليلِه خيرِ البريةِ، فليس بعدَ محمدٍ أفضلُ منه، فهو الذي بناه، ودعا الناس إليه.

ومنها: أنه جعَل على الناسِ حجَّ البيتِ؛ حتى حجَّه الأنبياءُ؛ كموسى ويونسَ وغيرِهما، وفيه آياتٌ كثيرةٌ؛ مثلُ: مقامِ إبراهيمَ، ومثلُ: الأمانِ الذي جعَلَه الله للناسِ والطيرِ والوحشِ، ومثل: إهلاكِ الجبابرةِ الذين يقصِدون انتهاكَه، إلى غيرِ ذلك مما فيه من العلاماتِ والدلالاتِ على حُرْمتِه وعظمتِه.

ومَن دخَلَه كان آمِنًا، فلا يُقتَلُ عندَ أحمدَ وأبي حنيفةَ.

وكان الكفارُ يُعظِّمونَه؛ حتى يلقى الرجلُ قاتلَ أبيه؛ فلا يقتُلُه، والإسلامُ زاده حُرْمةً.

وأما أن يُظَنَّ أن مَن دخَلَه كان آمِنًا من عذابِ اللهِ معَ تَرْكِه الفرائضَ؛ فخلافُ إجماعِ المسلمِينَ، فقد دخله من هو كافر ومنافق بإجماع المسلمين.

(1)

كذا في (الأصل) و (ع) و (ز)، وفي (ك): عامة. وفي المطبوع: في بقية.

ص: 462

‌فَصْلٌ

‌هل تجوزُ الصَّلاةُ

على غيرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على وجهِ الإفرادِ؛ مثلُ: اللهُمَّ صلِّ على أبي بكرٍ، أو عمرَ، أو عليٍّ؟

فذهَب مالكٌ والشافعيُّ وطائفةٌ من الحنابلةِ: إلى أنه لا يُصلَّى على غيرِ النبيِّ مفردًا

(1)

.

وذهب الإمامُ أحمدُ وأكثرُ أصحابِه: إلى أنه لا بأسَ بذلك؛ لأن عليَّ بنَ أبي طالبٍ قال لعمرَ بنِ الخطابِ: «صلَّى اللهُ عليكَ»

(2)

، وهذا أصَحُّ وأَوْلى.

لكنَّ إفرادَ واحدٍ من الصحابةِ، أو القرابةِ - كعليٍّ - بالصَّلاةِ دونَ غيرِه؛ مضاهاةً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ بحيثُ يُجعَلُ ذلك شعارًا مقرونًا باسمِه: بدعةٌ

(3)

.

(1)

كُتب في هامش الأصل: (الصحيح من مذهب الشافعي: الجواز، وحُكي عن مالك).

(2)

رواه الحاكم في المستدرك (4523).

(3)

ينظر أصل هذه الفتوى من قوله: (هل تجوز الصلاة

) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 4/ 496، الفتاوى الكبرى 1/ 55.

ص: 463

‌سُؤَالٌ:

في خطبةٍ بينَ صلاتينِ، كلاهما فرض

لوقتِها، في ساعةٍ مشكلةِ العينِ

واعتبارُ الشرطِ فيها كما في

غيرِها من هيئةِ الدينِي

كالطهرِ، والستر، والوقتِ، والـ

ـقِبْلةِ أيضًا بالتأذينِ

الجوابُ: هذه المسألةُ قد تُنزَّلُ على عدةِ مسائلَ، بعضُها مُتَّفَقٌ عليه، وبعضُها مُتنازَعٌ فيه.

منها: إذا اجتمعَ عيدٌ وجمعةُ، فمن قال: إن العيدَ فرضٌ؛ يقولُ: إن خطبةَ الجمعةِ هي خطبةٌ بينَ صلاتينِ، كلاهما فرضٌ بخلافِ خطبةِ العيدِ؛ فإنه يقولُ: ليست فرضًا.

وإما أن يتنزَّلُ على ما إذا عُقِدتْ جمعتانِ في موضعٍ لا تصِحُّ جمعتانِ، فإنه تصِحُّ للأولى، وتبطُلُ الثانيةُ، إذا كانتا بإذنِ الإمامِ، فإن أشكلَ عينُ السابقِة؛ بطَلَتا جميعًا، وصلَّوا ظهرًا، فالخطبةُ التي قبلَ الثانيةِ خطبة بين صلاتين كلاهما فرض إذا كان الإمام قد أذِنَ في كلٍّ منهما، واعتقدوا أن الجمعةَ لا تقامُ عندَهم، فكلاهما يعتقدُ أن جمعتَه فرضٌ.

ويمكنُ أن يريد السائلُ: الفجرَ والجمعةَ، فإن الفجرَ فرض في وقتِها، والجمعةَ فرض لوقتِها، وبينَهما خطبةٌ.

ومنها: خطب الحجِّ، فإن خطبةَ عرفةَ تكونُ بينَ الصَّلاةِ بعرفةَ وبينَ صلاةِ المغربِ، فكلاهما فرضٌ، والخطبةُ يومَ النحرِ تكونُ بين الفجرِ والظهرِ، وكلاهما فرضٌ، والله أعلم

(1)

.

(1)

ينظر أصل هذه الفتوى من قوله: (سُؤَالٌ: في خطبةٍ

) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 24/ 214، الفتاوى الكبرى 2/ 366.

ص: 464

‌فَصْلٌ

(1)

‌دمُ المتعةِ:

دمُ نُسُكٍ وهَدْيٍ، وهو مما وسَّعَ اللهُ به على المسلمِينَ، فأباحَ لهم التحللَ في أثناءِ الإحرامِ والهَدْي، لما في استمرارِ الإحرامِ من المشقةِ، فهو بمنزلةِ القصرِ في السفرِ، والفطرِ، والمسحِ، فهو أفضلُ.

ولأجلِ ذلك سُنَّ له الأكلُ منه، فقد أكَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن هَدْيه

(2)

، وأطعَمَ نساءَه من الهَدْي الذي ذبَحَه عنهنَّ

(3)

، وكن متمتعاتٍ، وهو كان متمتعًا التمتعَ العامَّ.

فدلَّ على استحبابِ الأكلِ من هَدْي التمتعِ، ودمُ الجُبْرانِ ليس كذلك.

وأيضًا سببُ الجبرانِ محظورٌ، كالوَطْءِ، وفعلِ المحظوراتِ، أو تَرْكِ الواجباتِ، والتمتعُ جائزٌ مطلَقًا، فلا يقدَحُ دمُ التمتعِ فيه، ويجعلُه مفضولًا.

(1)

كتب في هامش الأصل: (أول المجلد الرابع) أي: من الفتاوى المصرية، إذ هو سبع مجلدات كما أفاده ابن رجب وغيره.

وينظر أصل هذه الفتوى في هذا الفصل مجموع الفتاوى 26/ 58.

(2)

رواه مسلم (1218)، من حديث جابر رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (1709)، ومسلم (1211)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 465

والهَدْيُ وإن كان بدلًا عن ترَفُّهِه لسقوطِ أحدَ السفرينِ؛ فهو أفضلُ لمن جمَع بينَهما وقد قدم في أشهرِ الحجِّ مِن أن يأتيَ بحجٍّ مفردٍ يعتمرُ عَقبَه، والبدلُ قد يكونُ واجبًا؛ كالجمعةِ، وكالمتيمِّمِ العاجزِ عن استعمالِ الماءِ، فإن الجمعةَ والتيممَ واجبٌ عليه، وهو بدلٌ، فإذا جاز كونُ البدلِ واجبًا؛ فكونُه مستحبًّا أَوْلى بالجوازِ.

وكذلك المريضُ والمسافرُ يُستحَبُّ له أن يُفطِر ويَقْضِي، والقضاءُ بدلٌ، وتخللُ الإحلالِ لا يمنعُ أن يكونَ الجميعُ بمنزلةِ العبادةِ الواحدةِ؛ كطوافِ الفرضِ؛ فإنه من تمامِ الحجِّ باتفاقٍ، ولا يفعلُ إلا بعد التحللِ الأولِ

(1)

، ورَمْيُ الجِمارِ من تمامِ الحجِّ، وإذا طاف قبلَ ذلك؛ فقد رمَى بعدَ الحلِّ التامِّ، وهو السُّنَّةُ كما فعَلَه صلى الله عليه وسلم، وصومُ رمضانَ يتخلَّلُ صيامَ أيامِه فطرُ الليلِ.

‌فَصْلٌ

(2)

‌لم يختَلفِ النقلُ، ولا أحدٌ من أهلِ العلمِ

؛ أنه أمَرَ أصحابَه بفَسْخِ الحجِّ إلى العمرةِ، وأنهم إذا طافوا بالبيتِ وبالصفا والمروةِ أن يَحِلُّوا من إحرامِهم، فهو مما تواترَتْ فيه الأحاديثُ.

ولم يختلفوا أنه لم يعتمرْ بعدَ حجِّه صلى الله عليه وسلم، ولا أحدٌ من أصحابِه؛ إلا عائشة.

(1)

في الأصل: للأول. والمثبت من (ك).

(2)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل مجموع الفتاوى 26/ 61.

ص: 466

لكن تَنازَعوا في إحرامِه: هل كان متمتعًا، أو قارنًا، أو مُفردًا، أو أحرَمَ مطلقًا؟ واضطَربتْ عليهم الأحاديثُ، وهي بحمدِ اللهِ متفقةٌ لمن فهم مرادَهم.

والمنصوصُ عن أحمدَ: أنه كان قارنًا، وهو قولُ إسحاقَ بنِ راهَوَيْهِ وغيرِه، وهو الصوابُ.

وأولُ من ادَّعى أنه كان متمتعًا التمتعَ الخاصَّ: القاضي أبو يَعْلى.

ثم الذينَ قالوا: إنه كان متمتعًا على قولَينِ:

أضعَفُهما: أنه حلَّ من إحرامِه معَ سَوْقِه الهَدْيَ، وحملوا أن المتعةَ كانت لهم خاصةً، أنهم حلُّوا من الإحرامِ معَ سَوْقِ الهَدْيِ، وهذه طريقةُ القاضي، وهي مُنكرَةٌ عندَ جماهيرِ العلماءِ.

والقولُ الثاني: أنه تمتعَ بمعنى: أنه أحرمَ بالعمرةِ، ولم يحِلَّ؛ لسَوْقِه الهَدْيِ، وأحرَمَ بالحجِّ بعدَ أن طافَ وسعى للعمرةِ، وهي طريقةُ الشيخِ أبي محمدٍ وغيره، وقد يُسمُّونَ هذا قارنًا.

وأما الشافعيُّ فقال تارةً: إنه أفرَدَ، وتارةً: إنه تمتعَ، وتارةً: إنه أحرَمَ مطلقًا، وأخذ بقولِ مَن روَى الإفرادَ كعائشةَ

(1)

؛ لكونِه أحفظَ، وجابرٌ هكذا قال

(2)

، وظَنَّ أن الأحاديثَ فيها ما يخالِفُ بعضُه بعضًا.

(1)

أخرج مسلم (1211)، عن عائشة رضي الله عنها:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج» .

(2)

روى ابن ماجه (2966)، عن جابر رضي الله عنه:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج» ، وفي البخاري (1651) ومسلم (1216)، قال جابر رضي الله عنه:«أهلَّ النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالحج» ، واللفظ للبخاري.

ص: 467

فإن قال قائلٌ: فمِن أينَ أُثبِتَ حديثُ عائشةَ وجابرٍ وابنِ عمرَ

(1)

دون من قال: «قرَنَ» ؟

قيلَ: لتقدُّمِ صُحْبةِ جابرٍ، وحسنِ سِياقه، ولفَضْلِ حفظِ عائشةَ، ولقُرْبِ ابنِ عمرَ منه.

قال شيخ الإسلام: قلتُ: والصوابُ أن الأحاديثَ متفقةٌ إلا شيئًا يسيرًا، يقعُ مثلُه في غيرِ ذلك، فقد كان عثمانُ يَنْهى عن المتعةِ، وكان عليٌّ يأمُرُ بها، فقال عليٌّ:«لقد علمتَ أنَّا تمَتَّعْنا معَ رسولِ اللهِ» ، فقال:«أجَلْ، ولكنا كنا خائفينَ»

(2)

.

فقد اتَّفقَ عثمانُ وعليٌّ على أنهم تمَتَّعوا معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو في الصحيحُ.

وقولُ عثمانَ: «كنا خائفينَ» ؛ فإنهم كانوا خائفينَ في عُمْرةِ القضيةِ، وكانوا قد اعتَمروا في أشهرِ الحجِّ، وكلُّ مَن اعتَمرَ في أشهرِ الحجِّ يُسمَّى متمتِّعًا.

والناهونَ عن المتعةِ كانوا يَنْهونَ عن العمرةِ في أشهرِ الحجِّ مطلقًا، ففي الصحيحِ عن سعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ، لما بلَغَه أن معاويةَ نهى عن

(1)

أي: في روايتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج، وتقدم ذكر رواية عائشة وجابر رضي الله عنهما، وأما رواية ابن عمر رضي الله عنهما فرواها عنه مسلم (1231)، قال:«أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردًا» .

(2)

رواه مسلم (1231).

ص: 468

المتعةِ، فقال:«فعَلْناها معَ رسولِ الله وهذا كافرٌ بالعُرُشِ»

(1)

يعني: معاويةَ.

ومعلومٌ أن معاويةَ كان مسلمًا في حجةِ الوداعِ؛ بل وفي عمرةِ الجِعْرَانةِ عامَ الفتحِ، ولكن في عُمْرةِ القضيةِ كان كافرًا بعُرُشِ مكةَ.

فقد سمَّى سعدٌ عمرةَ القضيةِ: متعةً، وكانوا خائفينَ أيضًا عامَ الفتحِ، أما عامُ حجةِ الوداعِ فكانوا آمنينَ، ولهذا قالوا:«صلَّيْنا معَ رسولِ اللهِ بمنًى آمَنَ ما كان الناسُ ركعتينِ»

(2)

.

فلعلَّه قد اشتَبَه حالُهم هذا العامَ بحالِهم هذا العامَ، كما اشتَبَه على مَن روى أنه نهى عن متعةِ النساءِ في حجةِ الوداعِ، وإنما كان النَّهْيُ في غزاةِ الفتحِ

(3)

، وكما يظنُّ بعضُهم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخَل الكعبةَ في حجَّةٍ أو عمرةٍ، وإنما دخَلها عامَ الفتحِ

(4)

، ولم ينقُلْ أحدٌ أنه دخَلَها في حجَّة ولا عمرةٍ.

(1)

رواه مسلم (1225).

(2)

رواه البخاري (1083)، ومسلم (696)، من حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه.

(3)

رواه مسلم (1406)، من حديث سبرة رضي الله عنه:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة زمان الفتح - متعة النساء -» .

(4)

رواه البخاري (397)، ومسلم (1329)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة، وبلال، وعثمان بن طلحة الحَجَبي، فأغلقها عليه، ثم مكث فيها، قال ابن عمر: فسألت بلالًا حين خرج: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «جعل عمودين عن يساره، وعمودًا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه - وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة - ثم صلى» .

وروى البخاري (1600)، ومسلم (1332) عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أدخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت في عمرته؟ قال:«لا» .

ص: 469

أو يكونُ مرادُ عثمانَ: أن غالبَ الأرضِ كانوا كفارًا مخالفينَ لنا، والآنَ قد فُتِحتِ الأرضُ، فيُمكَّنُ الإنسانُ أن يذهبَ إلى مِصرِه، ثم يرجعُ لعمرةٍ، وهذا لم يكُنْ ممكنًا في حجةِ الوداعِ لمن كان مجاورَ العدُوِّ بالشامِ والعراقِ ومصرَ.

وفي «الصحيحَينِ» عن مُطرِّفِ بنِ الشِّخِّيرِ، قال: قال لي عِمْرانُ بنُ حُصَيْنٍ: «أُحدِّثُكَ حديثًا لعلَّ اللهَ أن ينفَعَكَ به؛ إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جمَعَ بينَ حجَّه وعُمرته، ثم إنه لم يَنْهَ عنه حتى ماتَ، ولم ينزلْ فيه قرآنٌ يُحرِّمُه» ، وفي روايةٍ:«تمتَّعَ رسولُ الله، وتمَتَّعْنا معه»

(1)

.

فهذا عِمْرانُ من أجلِّ السابقينَ الأوَّلِينَ؛ أخبَرَ أنه تمَتَّعَ، وأنه جمَع.

وفي «مسلمٍ» عن غُنَيمِ بنِ قَيْسٍ، قال: سألتُ سعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ عن المتعةِ في الحجِّ، فقال:«فعَلْناها وهذا كافرٌ بالعُرُشِ»

(2)

؛ يعني: معاويةَ، وهو إنما كان كافرًا في عمرةِ القضيةِ.

فكان السابقونَ يَنْهَونَ عن الاعتمار في أشهرِ الحجِّ، فصار الصحابةُ يرونَ السُّنَّةَ في ذلك ردًّا على مَن نهى عن ذلك، فالقارنُ عندَهم متمتعٌ، ولهذا وجَبَ عليه الهدي، ودخَل في قولِه:{فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} .

(1)

رواه البخاري (1571)، ومسلم (1226).

(2)

رواه مسلم (1225).

ص: 470

وفي «البخاريِّ» عن عمرَ، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ يقولُ: «أتاني آتٍ مِن ربِّي، فقال: صَلِّ في هذا الوادي المبارَكِ، وادي العقيقِ، وقل: عمرةٌ في حجةٍ»

(1)

.

فهذه الأحاديثُ تبين أنه كان قارنًا بلا شكٍّ، ويُسمُّونَه متمتعًا.

وفي «الصحيحينِ» عن أنسِ بنِ مالكٍ، قال:«سمعتُ رسولَ اللهِ يُلبِّي بالحجِّ والعمرةِ» ، قال بكرٌ: فحدثت ابنَ عمرَ فقال: «لبَّى بالحجِّ وحدَه» ، فلقيتُ أنسًا فحدثته، فقال أنس:«ما يعُدُّونا إلا صِبْيانًا، سمعتُ رسولَ اللهِ يُلبِّي بالحجِّ والعمرةِ جميعًا»

(2)

.

وقد روَى الثقاتُ مثلُ سالمٍ؛ روَى عنِ ابنِ عمرَ أنه قال: «تمتَّعَ رسولُ اللهِ بالعمرةِ والحجِّ»

(3)

.

وهؤلاءِ أثبَتُ عن ابنِ عمرَ من بكرٍ، وغلَطُ بكرٍ أَوْلى من غلَطِ سالمٍ ابنه عنه وتَغْليطِه هو على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويُشبه أن ابنَ عمرَ قال له:«أفرَدَ الحجَّ» ، فظن هو أنه قال: لبَّى بالحجِّ، فإنهم كانوا يُطلِقونَ إفرادَ الحجِّ، ويُريدونَ إفرادَ أعمالِه.

وفي «الصحيحَينِ» عن سالمٍ، عن أبيه، قال:«تمتَّعَ رسولُ اللهِ في حجةِ الوداعِ بالعمرةِ إلى الحجِّ» ، قال الزُّهْريُّ: وحدَّثَني عُرْوةُ عن عائشةَ

(1)

رواه البخاري (1534).

(2)

رواه البخاري (1551)، ومسلم (1232) واللفظ له.

(3)

رواه البخاري (1691)، ومسلم (1227).

ص: 471

بمثلِ حديثِ سالمٍ عن أبيه

(1)

.

فهذا أصَحُّ حديثٍ على وجهِ الأرضِ.

وثبَتَ عنها في «الصحيحَينِ» أنه اعتَمرَ أربعَ عُمَرٍ

(2)

، الرابعةُ معَ حجَّتِه، ولم يعتمرْ بعدَ حجِّه باتِّفاقِ المسلمِينَ، فتعيَّنَ أن يكونَ تمتُّعَ قِرانٍ.

وأما الذينَ نقَلوا أنه أفرَدَ فهم ثلاثةٌ: عائشةُ وابنُ عمرَ وجابرٌ

(3)

، والثلاثةُ نُقِل عنهم التمتُّعُ

(4)

، وحديثُ عائشةَ وابنِ عمرَ أنه تمتَّعَ بالعمرةِ إلى الحجِّ أصَحُّ من حديثِهما أنه أفرَدَ الحجَّ.

وما صَحَّ من ذلك عنهما فمعناه: إفرادُ أعمالِ الحجِّ، وفي

(1)

رواه البخاري (1692)، ومسلم (1228).

(2)

رواه البخاري (1776)، ومسلم (1225).

(3)

حديث عائشة رضي الله عنها رواه مسلم (1211)، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما رواه مسلم أيضًا (1231)، وأما حديث جابر رضي الله عنه فرواه ابن ماجه (2966) بلفظ:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج» وهو في البخاري (1651) ومسلم (1216) بلفظ: «أهلَّ النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالحج» .

(4)

حديث عائشة رضي الله عنها رواه البخاري (1692)، ومسلم (1228)، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما رواه أيضًا البخاري (1691)، ومسلم (1227).

وأما حديث جابر رضي الله عنه؛ فلعله أراد ما رواه النسائي (2807)، من طريق عطاء قال: قال سراقة: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمتعنا معه، فقلنا: ألنا خاصة أم لأبد؟ قال: «بل لأبد» ، والحديث رواه البخاري (1785)، ومسلم (1216)، من طريق عطاء عن جابر قال: فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله هي لنا أو للأبد؟ فقال: «لا، بل للأبد» .

ص: 472

«الصحيحَينِ» أنه أمَرَ أزواجَه أن يحْلُلْنَ عامَ حجِّ الوداعِ، قالت حَفْصةُ: فما منَعكَ أن تحِلَّ؟ قال: «إني لبَّدتُّ رَأْسي، وقلدتُّ هَدْيي، فلا أَحِلُّ حتى أنحرَ»

(1)

.

وفي حديثِ عائشةَ وابنِ عمرَ: «فطافَ بالصفا والمروةِ، ثم لم يَحْلِلْ من شيءٍ حَرُمَ منه؛ حتى قضَى حجَّه، ونحَرَ هَدْيَه يومَ النحرِ، وأفاضَ فطاف بالبيتِ، ثم حلَّ من كلِّ شيءٍ»

(2)

، وفي روايةٍ: قالت حَفْصةُ: ما شأنُ الناسِ حلُّوا، ولم تَحِلَّ أنتَ من عُمْرتِكَ؟ فقال:«إنِّي لبَّدتُّ رأسي، وقلَدتُّ هَدْيي، فلا أحِلُّ حتى أنحرَ» .

فهذا يدلُّ على أنه كان معتمرًا، وليس فيه أنه لم يكُنْ معَ العمرةِ حاجًّا.

فقد تبيَّنَ أن الرواياتِ الكثيرةَ الثابتةَ عنِ ابنِ عمرَ وعائشةَ توافِقُ ما نقلَه سائرُ الصحابةِ؛ أنه كان متمتعًا التمتعَ العامَّ.

ومَن قال: إنه أحرَمَ مطلقًا؛ احتَج بحديثٍ مُرسَلٍ

(3)

، فلا يُعارِضُ هذه الأحاديثَ الثابتةَ.

فقد تبيَّنَ أن مَن قال: أفرَدَ الحجَّ، وأرادَ أنه اعتَمرَ بعدَ حجِّه - كما

(1)

رواه البخاري (1566)، ومسلم (1229).

(2)

رواه البخاري (1691 - 1692)، ومسلم (1227 - 1228).

(3)

لعله يشير إلى ما رواه الشافعي في الأم (1/ 111)، عن طاوس أن قال:(خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يسمي حجًّا ولا عمرة، ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة).

ص: 473

يظُنُّه بعضُ المتفقهةِ-: فهذا مُخطِئٌ باتِّفاقِ العلماءِ.

وإن قال: أفرَدَ الحجَّ؛ بمعنى: أنه لم يأتِ معَ حجِّه بعمرةٍ؛ فقد اعتَقدَه بعضُ العلماءِ، وهو غلَطٌ؛ لأنهم اتفقوا أنه اعتَمرَ أربعَ عُمَرٍ، الرابعةُ معَ حجِّه.

ومَن قال: إنه أحرَمَ إحرامًا مطلقًا؛ فقولُه غلَطٌ، لم يُنقَلْ عن أحدٍ من الصحابةِ.

ومَن قال: إنه تمتَّعَ بمعنى: أنه لم يحرِمْ بالحجِّ حتى طاف وسعى؛ فقولُه أيضاً غلطٌ لم ينقلْ عن أحدٍ من الصحابةِ.

ومن قال: إنه تمتَّعَ بمعنى: أنه حلَّ من إحرامِه فهو أيضًا مُخِطئٌ باتِّفاقِ العلماءِ العارفينَ بالأحاديثِ.

ومَن قال: إنه قرَنَ؛ بمعنى: أنه طافَ طوافينِ، وسعَى سَعْيَينِ؛ فقد غلِطَ أيضًا، ولم يَنقُلْ ذلك أحدٌ من الصحابةِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

فالغَلَطُ وقَع ممن دونَ الصحابةِ ممن لم يفهمْ كلامَهم، وأما الصحابةُ فنُقولُهم متفقةٌ.

ومما يبيِّنُ أنه لم يطُفْ طوافينِ، ولا سَعْيَينِ، لا هو ولا أصحابُه: ما في «الصحيحَينِ» عن عائشةَ قالتْ: خرَجْنا معَ رسولِ اللهِ، فقال:«مَن كان معَه هَدْيٌ فليُهِلَّ بالحجِّ معَ العمرةِ، ثم لا يحِلُّ منهما جميعًا» ، وقالتْ فيه: فطاف الذينَ كانوا أهَلُّوا بالعمرةِ بالبيتِ وبينَ الصفا والمروةِ، ثم حلوا، ثم طافوا طوافًا آخَرَ بعدَ أن رجَعوا من مِنَى

ص: 474

لحجِّهم، وأما الذينَ جمَعوا الحجَّ والعمرةَ فإنما طافوا طوافًا واحدًا

(1)

.

وفي «مسلمٍ» عنها

(2)

: أنه قال لها رسولُ اللهِ يومَ النَّفرِ: «يَسعُكِ طَوافُكِ لحَجِّكِ وعُمْرتِكِ» ، فأبتْ، فبعَثَها معَ عبدِ الرحمنِ إلى التَّنْعيمِ، فاعتَمرتْ بعدَ الحجِّ.

وفي «الصحيحَينِ»

(3)

، و «السُّنَنِ»

(4)

: أنه قال لها: «يسَعُكِ لحَجِّكِ وعُمْرتِكِ» ، «يكفيكِ طَوافُكِ لحجِّكِ وعُمْرتِكِ» ، «قد حلَلْتِ من حجِّكِ وعُمْرتِكِ جميعًا» ، قالت: يا رسولَ اللهِ إني أجِدُ في نفسي أني لم أطُفْ بالبيتِ حين حجَجْتُ، قال:«فاذهَبْ بها يا عبدَ الرحمنِ، فأَعْمِرْها من التَّنْعيمِ» ، وذلك ليلةَ الحَصبةِ.

فقد أخبرتْ أن الذينَ قرَنوا لم يطوفوا بالبيتِ وبينَ الصفا والمروةِ إلا الطوافَ الأولَ، الذي طافَه المتمتِّعونَ أولًا، وقال لها:«يسَعُكِ طَوافُكِ لحَجِّكِ وعُمْرتِكِ» ، فدلَّ على أنها كانت قارِنةً، وأنه يجزئها طوافٌ واحدٌ وسَعْيٌ واحدٌ كالمفردِ، لا سيَّما وهي لم تطُفْ أولًا طوافَ قدومٍ؛ بل لم تطُفْ إلا بعدَ التعريفِ، وسعَتْ معَ ذلك، فإذا كان طوافُ الإفاضةِ والسعيُ بعدَه يكفي القارنَ؛ فلأن يكفِيه طوافُ القدومِ معَ

(1)

رواه البخاري (1638)، ومسلم (1211).

(2)

مسلم (132 - 1211).

(3)

رواه مسلم (132 - 1211) كما تقدم، وأصله في البخاري (2984).

(4)

رواه أبو داود (1785)، والترمذي (934)، والنسائي (2763)، وابن ماجه (3000).

ص: 475

طوافِ الإفاضةِ وسَعْيٌ واحدٌ معَ أحدِهما بطريقِ الأَوْلى.

وقد صَحَّ عنه أنه قال: «دخلَتِ العمرةُ في الحجِّ إلى يومِ القيامةِ»

(1)

، وإذا دخلَتْ لم يُحتَجْ إلى عملٍ زائدٍ.

فقد تبيَّنَ أن مَن ساق الهَدْيَ فالقِرانُ أفضلُ له، ومَن لم يسُقِ؛ فالتمتُّعُ أفضلُ، كما عليه عامةُ أصحابِ الحديثِ؛ كأحمدَ وغيرِه؛ فإنَّ اللهَ اختارَ لنبيِّه الأفضلَ، فإنَّ خيرَ الهدى هدىُ محمَّدٍ، وكونُه تأسَّفَ وقال:«لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لم أسقِ الهديَ، ولجعلتها عمرةً»

(2)

؛ إنَّما هو لأجلِ تألُّفِ قلوبِهم ليفعلوا ما أُمروا به مع الانشراحِ، وقد يَتركُ الأفضلَ لموافقةِ الائتلافِ، كما تركَ بناءَ الكعبةِ خوفاً من التنفيرِ.

وعلى هذا التقديرِ؛ فيكونُ اللهُ قد جَمَع له بينَ أنْ فَعَل الأفضلَ، وبينَ أنْ أعطاهُ ما يَراه مِن الموافقةِ لهم ما في ذلك مِن الفضلِ

(3)

، واللهُ أعلمُ.

(1)

رواه مسلم (1218)، من حديث جابر رضي الله عنه.

(2)

تقدم تخريجه ص

ظظ

(3)

من قوله: (وعلى هذا التقدير) إلى هنا، كُتب في هامش الأصل تصحيحًا، وقد تأثرت أطراف المخطوط، ولا يوجد في (ك) و (ع)، وصححنا ما يحتاج إلى تصحيح من أصل الفتوى في مجموع الفتاوى 26/ 91.

ص: 476

‌فَصْلٌ

(1)

‌قال تعالى:

{قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} .

فالدعوةُ إلى اللهِ هي الدعوةُ إلى الإيمانِ به، وبما جاءَتْ به رسُلُه، وذلك يتضمَّنُ الدعوةَ إلى الشهادتينِ، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وصومِ رمضانَ، وحجِّ البيتِ، والإيمانِ باللهِ، وملائكتِه، وكتُبِه، ورُسُلِه، والبعثِ بعدَ الموتِ، والإيمانِ بالقدرِ خيرِه وشرِّه، والدعوةَ إلى أن يعبدَ العبدُ ربَّه كأنه يَراه، فإن هذه الدرجاتِ الثلاثَ - التي هي الإسلامُ والإيمانُ والإحسانُ- داخلةٌ في الدينِ.

وأصلُ الدينِ: عبادتُه وحدَه لا شريكَ له؛ كما اتَّفقَ على ذلك جميعُ الرسلِ، {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} ، فالدينُ واحدٌ، وإنما تنوعت شرائعُهم ومناهِجُهم، {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} .

فالرسلُ مُتفقونَ في الدينِ الجامعِ للأصولِ الاعتقاديةِ والعمليةِ.

فالاعتقاديةُ: كإيمانٍ باللهِ، ورسلِه، واليومِ الآخِرِ، والعملية: كالأعمالِ العامةِ المذكورةِ في الأنعامِ والأعرافِ وبني إسرائيلَ؛ كقولِه: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم

} إلى

(1)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل مجموع الفتاوى 15/ 157.

ص: 477

آخِرِ الآياتِ الثلاثِ، وقولِه: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه

} إلى آخِرِ الوصايا، {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عندَ كل مسجد} ، {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق} .

فالدعوةُ إلى اللهِ تتضمَّنُ الأمرَ بكلِّ ما أمرَ اللهُ بهِ، والنهيَ عن كلِّ ما نهى عنه، وهذا هو الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ؛ بكلِّ معروفٍ وعن كلِّ منكرٍ، فكلُّ ما أحبَّه اللهُ ورسولهُ من واجبٍ ومستحبٍّ من باطنٍ وظاهرٍ؛ فالدعوةُ إلى اللهِ الأمرُ بهِ، وكلُّ ما أبغضهُ اللهُ ورسولُه من باطنٍ وظاهرٍ؛ فمنِ الدعوةِ إلى اللهِ النهيُ عنه، لا تتمُّ الدعوةُ إلى اللهِ إلا بذلك؛ سواءٌ كان من الأقوالِ الباطنةِ أو الظاهرةِ، أو من الأعمالِ الباطنةِ أو الظاهرةِ؛ كالتصديقِ بما أخبَرَ به الرسولُ من أسمائِه وصفاتهِ، والمعادِ، وما أخبَرَ به عن سائرِ المخلوقاتِ؛ كالعرشِ، والكرسيِّ، والملائكةِ، والأنبياءِ، وأُمَمِهم، وأعدائِهم، وكإخلاصِ الدينِ له، وأن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إلينا مما سِواهما، وكالتوَكُّلِ عليه، والرجاءِ لرحمِته، وخشيته، والصبرِ لحكمِه، وأمثالِ ذلك، وكصدقِ الحديثِ، وأداءِ الأمانةِ، ووفاءِ العهدِ، وصِلَةِ الأرحامِ، وحُسْنِ الجوارِ، وكالجهادِ في سبيلِهِ بالقلبِ والبدنِ واللسانِ.

إذا تبيَّنَ ذلك: فالدعوةُ إلى اللهِ واجبةٌ على مَن اتَّبَعَهُ، وهم أُمَّتُه؛ يدعونَ إلى اللهِ كما دعا إلى اللهِ، ويتناولُ الأمرَ بكلِّ معروفٍ، والنهيَ عن كلِّ مُنكَرٍ؛ كما وصَفَهم تعالى بذلكَ فقالَ: {كنتم خير أمة أخرجت

ص: 478

للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المُنكَرِ}، وقال:{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} ، وهذا واجبٌ على كلِّ الأمةِ، إن قام به طائفةٌ سقَطَ عن الباقينَ.

فمجموعُ أُمَّتِه تقومُ مقامَهُ في الدعوةِ إلى اللهِ تعالى، ولهذا كان إجماعُهم حجةً قاطعةً، فلا تجتمعُ أُمَّتُه على ضلالةٍ.

وكلُّ واحدٍ من الأمةِ يجبُ عليه أن يقومَ من الدعوةِ بما يقدرُ عليه؛ إذا لم يقُمْ به غيرُه، فيجبُ على كلِّ مَن يقدرُ على شيءٍ أن يدعوَ إليه؛ مِن تعليمِ العلمِ، والجهادِ، والعملِ، وتبيينِ الأمورِ، وغيرِ ذلك.

والدعوةُ إلى اللهِ هي الدعوةُ إلى سبيلِه، وسبيلُه: تصديقُه فيما أخبَرَ، وطاعتُه فيما أمَر، وقد تبيَّنَ أنهما واجبانِ على كلِّ فردٍ من أفرادِ المسلمِينَ وجوبَ فرضِ الكفايةِ.

والقيامُ بالواجبِ من الدعوةِ الواجبةِ وغيرِها لهُ شروطٌ؛ كما جاءَ في الحديثِ: (ينبغي لمن أمَرَ بالمعروفِ، ونهى عن المُنكَرِ أن يكونَ فقيهًا فيما يأمرُ به، فقيهًا فيما يَنْهى عنه، رفيقًا فيما يأمرُ به، رفيقًا فيما يَنْهى عنه، حليمًا فيما يأمرُ به، حليمًا فيما يَنْهى عنه)

(1)

.

(1)

قال شيخ الاسلام في الاستقامة 2/ 233 عن هذا الأثر: (جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعًا، ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد).

ورفعه الغزالي للنبي صلى الله عليه وسلم في الأربعين في أصول الدين، ص 54.

ورواه الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص 24) من قول سفيان بلفظ: (لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى).

ص: 479

فالتَّفقُّهُ ليَعرِفَ، والرِّفْقُ ليَسْلُكَ أقربَ الطرقِ إلى تحصيلِ المقصودِ، والحلمُ ليصبِرَ على الأذى، فكثيرًا ما يحصُلُ له الأذى؛ كما قال:{واصبر على ما أصابك} بعدَ أن قال: {وأمر بالمعروف وانه عن المُنكَرِ} ، وقولِه لنبِيِّه:{ولربك فاصبر} ، {واصبر على ما يقولون} ، وهو كثيرٌ في القرآنِ والسُّنَّةِ.

لكن للآمِرِ أن يدفعَ عن نفْسِه، فإذا أرادَ المأمورُ أن يؤذِيَه؛ فله أن يدفعَ أذاه عن نفْسِه قبلَ الوقوعِ، أما بعدَ وقوعِ الأذى والتوبةِ؛ فيصبِرُ ويحلُمُ.

والكمالُ حالُ نبِيِّنا صلى الله عليه وسلم أنه ما انتقَمَ لنفْسِه، ولا ضرَبَ خادمًا، ولا زوجةً، ولا دابَّةً، ولا نِيلَ منه فانتقَمَ لنفْسِه؛ إلا أن تُنتهَكَ حُرُماتُ اللهِ، فإنه لم يقُمْ لغَضَبِه شيءٌ؛ حتى ينتقمَ للهِ

(1)

.

فالآمِرُ الناهي إذا نِيلَ منه، ثم إنَّ ذلكَ المأمورَ تابَ وقَبِلَ الحقَّ؛ فلا ينبغي له أن يقتصَّ منه ويعاقِبَه على أذاه؛ فإنه قد سقَطَ بالتوبةِ، كما تسقُطُ عن الكافرِ إذا أسلمَ حقوقُ اللهِ، ولم يضْمَنْ ما أتلَفَه للمسلمِينَ من

ص: 480

الدماءِ والأموالِ؛ بل أجرُ المسلمِينَ على اللهِ، ولو أسلمَ وبيدِه مالٌ للمسلمِينَ؛ كان مِلْكًا له عندَ الجمهورِ

(1)

، وهو الذي مضَتْ به السُّنَّةُ

(2)

، وفي الحديثِ:«الإسلامُ يهدِمُ ما كان قَبْلَه، والتوبةُ تهدِمُ ما كان قبلَها»

(3)

.

فالمأمورُ المنهيُّ إن كانَ مُستحِلًّا لأذى الآمِرِ؛ كالرافضيِّ وغيرِه، يسُبُّ الصحابةَ، أو يُكفِّرُهم؛ فإذا تاب من هذا الاعتقادِ، وصار يُحِبُّهم؛ لم يَبْقَ لهم عليه حقٌّ؛ بل دخَل حقُّهم في حقِّ اللهِ، ولهذا كان أصَحُّ قولَيِ العلماءِ: أن أهلَ البغيِ لا يضمَنونَ ما أتلَفُوه على أهلِ العدلِ، وكذلك المرتدُّ.

(1)

قال في الاختيارات ص 451: (وإذا أسلموا وفي أيديهم أموال المسلمين؛ فهي لهم، نص عليه الإمام أحمد، وقال في رواية أبي طالب: ليس بين المسلمين اختلاف في ذلك.

قال أبو العباس: وهذا يرجع إلى أن كل ما قبضه الكفار من الأموال قبضًا يعتقدون جوازه؛ فإنه يستقر لهم بالإسلام، كالعقود الفاسدة والأنكحة والمواريث وغيرها؛ ولهذا لا يضمنون ما أتلفوه على المسلمين بالإجماع).

(2)

من ذلك: ما رواه أحمد (16728)، عن سعد بن أبي ذباب، قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت، قلت: يا رسول الله، اجعل لقومي ما أسلموا عليه من أموالهم، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروى سعيد بن منصور (189)، عن عروة بن الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم على شيء فهو له» .

وروى البيهقي (18261)، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في أهل الذمة:«لهم ما أسلموا عليه من أموالهم وعبيدهم وديارهم وأرضهم وماشيتهم، ليس عليهم فيه إلا الصدقة» .

(3)

رواه مسلم (121)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.

ص: 481

وهذا بخلافِ مَن يعتقدُ أن ما يفعَلُه بغيٌ وعدوانٌ؛ كالمسلمِ إذا ظلَمَ المسلمَ، والذِّمِّيُّ إذا ظلمَ المسلمَ، والمرتدُّ الذي أتلَفَ وليس بمحارِبٍ؛ بل هو في الظاهرِ مسلمٌ أو مُعاهَدٌ، فإن هؤلاءِ يضمَنونَ ما أتلَفوه بالاتفاقِ، فمن اعتقدَ أذى الآخَرِ بتأويلٍ فهو من المتأوِّلِينَ.

وحقُّ الآمِرِ الناهي داخلٌ في حقِّ اللهِ، فإذا تاب؛ يسقُطُ عنه الحقَّانِ، فهو كالحاكمِ إذا حكمَ فأخطأَ، وكالمفتي وكالشاهد؛ إذا أخطأ.

وقد يقالُ: إنه يسقط عنه الجزاءُ على وجهِ القصاصِ الذي يجبُ في العمدِ، لا في الخطأِ، كما تجبُ الديةُ في الخطأِ، وكما يجبُ ضمانُ الأموالِ التي يُتلِفُها الصِّبْيانُ والمجانينُ، والقاتلُ خطأً تجبُ الديةُ على عاقِلَتِه، كذلك هذا الذي ظلم خطأً.

لكن يقالُ: الفرقُ بينَ ما كان الحقُّ للهِ وحقُّ الآدميِّ تبَعٌ له، وما كان حقًّا لآدمِيٍّ مَحْضًا أو غالبًا، والأمرُ بالمعروفِ والنَّهْيُ عن المُنكَرِ، والجهادُ من هذا البابِ؛ موافقٌ لقولِ الجمهورِ الذينَ لا يُوجِبونَ على أهلِ البَغْيِ ضمانَ ما أتلَفوه لأهلِ العدلِ بالتأويلِ، فهذا من بابِ الجهادِ الذي يقَعُ فيه الأجرُ على اللهِ تعالى، وهذا مما يتعلَّقُ بالعبدِ الآمِرِ الناهي.

والإنسانُ تُزيِّنُ له نفْسُه أن عَفْوَه عن ظالمِه يُجَرِّئُهُ عليه، وليس كذلك، فقد ثبَتَ عنه أنَّه قال في «صحيحِ مسلمٍ»

(1)

: «ثلاثٌ إن كنتُ

(1)

رواه مسلم (2588)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه دون قوله في أوله:«ثلاثٌ إن كنتُ لحالفًا عليهِنَّ» ، ورواه أحمد (1674) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«ثلاث والذي نفس محمد بيده، إن كنت لحالفًا عليهن: لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا يعفو عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا رفعه الله بها عزًّا، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر» .

ص: 482

لحالفًا عليهِنَّ: ما زادَ اللهُ عبدًا بالعَفْوِ إلا عزًّا، وما نقصَتْ صدقةٌ من مالٍ، وما تواضَعَ أحدٌ للهِ إلا رفَعَه اللهُ».

فالذي ينبغي أن يعفوَ الإنسانُ عن حقِّه، ويستوفيَ حقوقَ اللهِ بحسَبِ الإمكانِ، قال تعالى:{والذينَ إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} .

قال النَّخَعيُّ: (كانوا يكرهونَ أن يُستذَلُّوا، فإذا قدَروا عفَوْا)

(1)

، قال تعالى:{هم ينتصرون} ، يمدحُهم بأنَّ فيهم همةَ الانتصارِ للحقِّ والحَمِيةِ له، ليسوا بمنزلةِ الذي يعفو عجزًا وذُلًّا؛ بل هذا مما يُذمُّ به الرجلُ.

‌فَصْلٌ

(2)

‌أهلُ الصُّفَّةِ

التي كانت شماليَّ المسجدِ يَنْزِلُها المهاجرونَ الفقراءُ، فمَن تأهَّلَ منهم، أو سافرَ، أو خرَج غازيًا؛ خرَج منها، وقد كانوا

(1)

ذكره البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، (3/ 129)، وقال ابن حجر في الفتح (5/ 100):(وصله عبد بن حميد وبن عيينة في تفسيرهما)، وذكر إسنادهما في تغليق التعليق (3/ 332).

(2)

ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 11/ 72.

ص: 483

يكونونَ في الوقتِ الواحدِ سبعينَ، أو أقلَّ، أو أكثرَ، ومنهم: سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وأبو هُرَيرةَ، وخُبَيبٌ، وسلمانُ، وغيرُهم.

وقد جمَع أبو عبدِ الرحمنِ السلميُّ تاريخَهم، وهم نحوُ ستِّمائةٍ، أو سبعِمائةٍ، أو غيرِ ذلك.

ولا خلافَ بينَ المسلمِينَ أنهم كانوا كافرينَ جاهلينَ باللهِ ورسولِه؛ حتى هداهم اللهُ بكتابِه وبمحمدٍ رسولِه صلى الله عليه وسلم، وبعدَ الإسلامِ كان غيرُهم ممن ليس من أهلِ الصُّفَّةِ؛ كأبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ رضي الله عنهم أعلمَ باللهِ منهم، وأعظمَ يقينًا من عامَّتِهم وأفضل، وكانوا من أعظمِ الناسِ قتالًا معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كما وصَفَهم القرآنُ في قولِه: {للفقراء المهاجرين الذينَ أخرجوا من ديارهم وأموالهم

} الآيةَ، وقال:{للفقراء الذينَ أحصروا في سبيلِ اللهِ لا يستطيعون ضربا في الأرضِ} .

وقُتِلَ منهم يومَ بئرِ مَعُونةَ سبعونَ، وقنَتَ رسولُ اللهِ على الذينَ قَتَلوهم

(1)

، وأخبَرَ عنهم «أنَّهم بهم تُتَّقى المَكارِهُ، وتُسَدُّ بهم الثُّغورُ»

(2)

، «وأنهم أولُ الناسِ وُرودًا على الحوضِ، وأنهم الشُّعْثُ رؤوسًا، الدُّنْسُ ثيابًا، الذينَ لا يَنْكحِونَ المُنعَّماتِ، ولا تُفتَحُ لهم أبوابُ السُّدَدِ»

(3)

.

(1)

رواه البخاري (3064)، ومسلم (677)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

رواه أحمد (6570)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.

(3)

رواه أحمد (22367)، والترمذي (2444)، وابن ماجه (4303)، من حديث ثوبان رضي الله عنه.

ص: 484

وأما أنهم كانوا قَبْلَ مَبْعثِه مهتدينَ؛ فعلى مَن قال هذا: لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ؛ بل لا خلافَ أنهم كانوا كافرينَ.

وكذلك مَن يقول: إنهم عرَفوا ما أوحاه اللهُ إلى نبِيِّه ليلةَ المعراجِ؛ فكذِبٌ ملعونٌ قائلُه، والمعراجُ كان بمكةَ، والصُّفَّةُ بالمدينةِ بعدَ المعراجِ بكثير.

وكذلك مَن يقولُ: إن عمرَ كان يكونَ كالزنجيِّ بينَ النبيِّ وأبي بكرٍ، وأنهما يتكلمانِ بما لا يفهمه؛ فكذِبٌ.

نعم كان أبو بكرٍ أقرَبَ الناسِ إلى رسول الله، وأعلمَهم بمرادِه، لم يسؤه قطُّ.

وكذلك قول مَن يقولُ: إنه صلى الله عليه وسلم قال: «أنا مِن اللهِ، والمؤمنونَ مِنِّي» ؛ فكذِبٌ على قائلِه، ومُفْتريه لعنهُ اللهِ، وليَتَبوَّأْ مقعدَه من النار؛ بل مَن اعتَقدَ صحةَ مجموعِ هذه الأحاديثِ وجبَتِ استِتابتُه؛ فإن تاب وإلا قُتِل، وهذا كلُّه واضحٌ عندَ من عرَفَ اللهَ، وكان مؤمنًا حنيفيًّا.

وإنما يقَعُ في هذه الجهالاتِ مَن نقَصَ إيمانه، وقلَّ علمُه، واستَكبَرَ حتى صار بمنزلةِ فرعونَ، والله يتوب علينا وعليهم.

‌فَصْلٌ

‌ما رُوِي:

«أن مَن وقف بعرفةَ غُفِر له ذنوبُه، ومن ظنَّ أنه لم يُغفرْ له، فلا غفَر اللهُ له» ، «ولو مرَّ بها راعي غنمٍ غُفِر له، وإن لم يعلمْ أنه يومُ عرفةَ» ، «ومَن حَجَّ ولم يَزُرْني فقد جَفاني، ومن زارَني وجبَتْ له

ص: 485

شَفاعتي»

(1)

ليس فيها حديثٌ صحيحٌ؛ بل منها ما معناه مخالفٌ للسنَّةِ؛ فإنه لو وقف رجلٌ خائفٌ أن اللهَ لا يغفرُ له ذنوبَه، لم يقُلْ أحدٌ: إن اللهَ لا يغفِرُ له؛ فإن اللهَ يغفرُ الذنوبَ جميعًا بالتوبةِ، ويغفرُ غيرَ الشِّركِ لمن يشاء.

والمسلمونَ متِّفقونَ على أن مَن وقَف بعرفةَ لم يسقُطْ عنه ما وجب عليه من صلاةٍ وزكاةٍ، وكذلك حقوقُ العِبادِ من المظالمِ.

‌وجَفاءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مُحَرَّمٌ

، وزيارةُ قبرِه ليست واجبةً باتِّفاقِ المسلمِينَ؛ ولم يثبُتْ عنه حديثٌ في زيارةِ قبرِه

(2)

.

‌ويجوزُ الحجُّ بمالٍ

يؤخذُ على وجهِ النِّيابةِ اتفاقًا.

أما على وجهِ الإجارةِ؛ ففيه قولانِ للعُلماءِ، هما روايتانِ عن أحمدَ:

أحدهما: يجوزُ عندَ الشافعيِّ.

والآخر: لا يجوزُ عندَ أبي حنيفةَ.

ثم إن كان قصدُه الحجَّ أو نفعَ الميتِ؛ كان له في ذلك أجرٌ وثوابٌ، وإن كان ليس مقصوده إلا أخذَ الأجرةِ، فما له في الآخرةِ من خَلَاقٍ

(3)

.

(1)

ذكره ابن الجوزي في الموضوعات 2/ 217.

(2)

ينظر أصل الفتوى من أول الفصل إلى هنا في: مجموع الفتاوى 18/ 344

(3)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجوزُ الحجُّ بمالٍ

) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 26/ 18.

ص: 486

‌وإذا كانت من القواعدِ

، وقد يئسَتْ من النِّكاحِ ولا مَحْرَمَ لها؛ فيجوزُ لها أن تحجَّ معَ من تأمَنُه في أحد قولَيِ العلماءِ؛ هما روايتانِ عن أحمدَ، ومذهَبُ مالكٍ والشافعيِّ

(1)

.

‌ومن استطاع الحجَّ بالزَّادِ والراحلةِ

؛ وجب عليه الحجُّ بالإجماعِ، فإن حجَّ عَقبَ ذلك بحسَبِ الإمكانِ، ومات في الطريقِ؛ وقع أجْرُه على اللهِ، ومات غيرَ عاصٍ.

وإن كان فرَّطَ، ثم خرج بعدَ ذلك، ومات قبلَ الحجِّ؛ مات عاصيًا، وله أجْرُ ما فعله، ولم يسقُطْ عنه الفرضُ؛ بل يُحَجُّ عنه مِن حيثُ بلَغَ.

‌وفي أحدِ قولَيِ العلماءِ:

لا يكونُ هديًا إلا ما سيقَ من الحِلِّ إلى الحَرَمِ، وسَوْقُه من الميقاتِ أفضلُ من أدنى الحِلِّ.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا كانت من القواعدِ

) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 26/ 13.

وفي الفروع (5/ 245) نقلاً عن شيخ الإسلام: (وعند شيخنا: تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم، وقال: إن هذا متوجه في كل سفر طاعة).

ص: 487

‌كتابُ اللِّباسِ

‌هذه العمائمُ التي تلبَسُها النساءُ

؛ حرامٌ بلا رَيْبٍ، التي مثلُ أسْنِمةِ البُخْتِ؛ لقولِه: «صِنْفانِ من أمَّتي لم أرَهما بعدُ

» الحديثَ

(1)

، ولما رأى أمَّ سلمةَ تتعصَّبُ فقال:«ليَّةً لا ليَّتَيْنِ»

(2)

.

‌وحِيَاصةُ

(3)

الذهبِ محرَّمةٌ

، وأما حِيَاصةُ الفِضَّةِ؛ ففيها نزاعٌ.

وأما الكتابةُ بالقرآنِ عليها؛ فتُشْبِهُ كتابَته على الدراهمِ والدنانيرِ، ولكن تمتازُ؛ بأنه يُعادُ إلى النارِ، وهذا كلُّه مكروهٌ

(4)

.

‌ولُبسُ الحريرِ عندَ القتالِ

ضرورةً جائزٌ؛ بأن لا يقومَ غيرُه مقامَه؛ من دَفْعِ السلاحِ، وأما لِباسُه لإرهابِ العدوِّ؛ ففيه نزاعٌ؛ الأظهرُ الجوازُ.

(1)

رواه مسلم (2128) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه أحمد (26522)، وأبو داود (4115).

وينظر أصل الفتوى من قوله: (هذه العمائم

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 145.

(3)

قال في تاج العروس 17/ 538: (والحياصة، بالكسر، والأصل: الحواصة، قلبت الواو ياء: سير في الحزام، وقيل: سير طويل، يشد به حزام السرج).

(4)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وحِيَاصةُ الذهبِ

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 25/ 66.

ص: 489

والعَلَمُ الحريرُ أربعَ أصابعَ؛ جائزٌ، وفي العلَمِ الذهبِ؛ نزاعٌ؛ الأظهرُ جوازُه

(1)

.

‌وخاتمُ الفِضَّةِ:

مُباحٌ، وخاتمُ الذَّهَبِ؛ حرامٌ باتِّفاقِ الأربعةِ على الرِّجالِ.

‌وتجوزُ تَحْليةُ السيفِ

بيسيرِ الفِضَّةِ، وفي الذَّهَبِ خلافٌ؛ الأصحُّ جوازُه.

‌والحِيَاصةُ بيسيرِ الفِضَّةِ

؛ جائزٌ على الأصحِّ.

‌والكلاليبُ إذا احْتيجَ إليها

وكانت بِزِنَةِ الخاتمِ؛ كالمِثْقالِ ونحوِه؛ فهي أَوْلى من الخاتَمِ.

‌ويَسيرُ الذَّهَبِ التابعِ لغيرِه

؛ كالطِّرزِ

(2)

ونحوِه؛ جائزٌ في الأصحِّ من مذهَب أحمدَ وغيرِه

(3)

.

‌وقُبَعُ

(4)

الحريرِ

حرامٌ على الرِّجالِ إجماعًا، وعلى النِّساءِ؛ لأنه لعَن مَن تتشبَّه منهنَّ بالرِّجال

(5)

، وأما للصِّبيان ففيه قولانِ؛ الأظهرُ: أنه لا يجوزُ.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولُبسُ الحريرِ

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 28/ 27.

(2)

قال في تاج العروس (15/ 195): (الطراز، بالكسر: علم الثوب، فارسي معرب).

(3)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وخاتمُ الفِضَّةِ

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 25/ 63.

(4)

هي القلنسوة، لباس الرأس المعروف. ينظر: تحرير ألفاظ التنبه ص 283.

(5)

رواه البخاري (5885) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 490

‌وما حَرُمَ لُبْسُه

لم تحِلَّ صناعتُه ولا بيعُه لمن يلبَسُه من أهلِ التحريمِ، ولا يَخيطُه لمن يحرُمُ عليه لُبْسُه؛ لما فيه من الإعانةِ على الإثمِ والعدوانِ؛ فهو مثلُ الإعانةِ على الفواحشِ.

ولا يُباعُ الحريرُ لرجلٍ يلبَسُه، أما بيعُه للنساءِ فجائزٌ، وكذلك بيعُه للكافر؛ لأن عمرَ أرسلَ بحريرةٍ إلى رجلٍ مشركٍ

(1)

.

‌ولا يجوزُ أن يُباعَ المسترسِلُ

إلا بالسِّعرِ الذي يُباعُ به غيرُه، فلا يُغبَنُ من الرِّبحِ غَبْنًا يَخْرُجُ عن العادةِ، وقدَّرَه بعضُهم بالثُّلُثِ، وبعضُهم بالسُّدُسِ، وبعضُهم بالعادة، فما جرَت به العادةُ من الرِّبْح على المماكِسينَ؛ يجوزُ رِبْحُه على المسترسِلِ.

والمسترسِلُ: فُسِّرَ بأنه الذي لا يُماكِسُ؛ بل يقولُ: أعطني، وبأنَّه الجاهلُ بقيمةِ المَبيعِ، فلا يُغبَنُ غَبْنًا فاحشًا، لا هذا ولا هذا، ففي الحديثِ:«غَبْنُ المسترسِلِ رِبًا»

(2)

.

ومَن عُلِمَ أنه يغبِنُهم؛ يستحقُّ العقوبةَ؛ بل يُمنعُ من الجلوسِ في سوقِ المسلمِينَ.

وللمغبونِ فسخُ البيعِ ويردُّه.

وإذا تاب هذا الغابنُ ولم يمكِنْه ردُّ المظالمِ، فليتصدَّقْ بمقدارِ ما ظلَمهم عنهم؛ لتَبْرَأَ ذمَّتُه من ذلك.

(1)

رواه البخاري (886)، ومسلم (2068) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

رواه البيهقي (10924) من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 491

وكذلك المضطرُّ ولا يجِدُ حاجتَه إلا عندَ هذا الشخص؛ ينبغي له أن يربَحَ عليه مثلَ ما يربحُ على غيرِ المضطرِّ؛ ولو كانت الضرورةُ إلى ما لا بدَّ منه، مثلُ أن يضطرَّ الناسُ إلى ما عندَه من الطعامِ واللِّباسِ، فيجبُ عليه ألا يبيعَهم إلا بالقيمةِ المعروفةِ بغير اختيارِه، ولا يعطوه زيادةً على ذلك

(1)

.

‌والصمتُ، وملازمةُ لُبْسِ الصُّوفِ

، والتعرِّي، والقيامُ في الشَّمْسِ، أو لُبْسُ اللِّيفِ، أو يغطِّيَ وجهَه، أو يمتنعَ من أكْلِ الخُبْزِ أو اللَّحْمِ، أو شُرْبِ الماءِ ونحوِه: كلُّه بدعٌ مردودةٌ ليست من الدِّينِ؛ فإن المبتدعَ لذلك قصْدُه أن يعظَّمَ ويُزارَ؛ فليس عملُه للهِ ولا صوابًا؛ بل زَغَلٌ وناقصٌ؛ بمنزلةِ لحم خنزيرٍ ميِّتٍ؛ حرامٌ من وجهَينِ.

فيجبُ الإنكارُ على أهلِ البِدَعِ بحُسْنِ قصدٍ؛ بحيث يكونُ المقصودُ طاعةَ اللهِ ورسولِه؛ لا اتباعَ الهوى، ولا منافسةً

(2)

.

‌وطولُ السراويلِ

(3)

وسائرِ اللباسِ: ليس له أن يجعلَه أسفلَ من الكعبَينِ

(4)

.

(1)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وقُبَعُ الحريرِ

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 279.

(2)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (والصمتُ، وملازمةُ

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 11/ 612.

(3)

في (ك): وطول القميص والسراويل. وهو موافق لما في مجموع الفتاوى

(4)

ينظر أصل الفتوى من قوله: (وطول السراويل

) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 144.

ص: 492