الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ البُيُوعِ
مَن اشترى عشَرةَ أزواجٍ
بثمنِ واحدٍ، فقسَم الثمنَ على قدرِ كلِّ واحدٍ بالعدلِ، وأخبرَ بصورةِ الحالِ؛ فقد صدَقَ
(1)
.
ومتى ظهر المَبيعُ مستحَقًّا
؛ فللمشتري أن يرجعَ بالثمن على من قبَضه منه، أو ببدلِه، فإن كان القابضُ غائبًا؛ حُكِمَ عليه إذا قامت الحُجَّةُ، وسُلِّم إلى المحكومِ له حقُّه من مالِ الغائبِ، معَ بقائِه على حُجَّتِه
(2)
.
ومن اشترى جاريةً فأبِقَتْ
، وكانت معروفةً بالإباقِ قبلَ ذلك، وكتم البائعُ؛ فللمشتري أن يطالِبَ البائعَ بالثمنِ إذا أبِقَتْ عندَ المشتري في أصحِّ قولَيِ العلماءِ؛ كما هو مذهَبُ مالكٍ، والمنصوصُ عن أحمدَ.
وفي الآخر: يُطالِبُه بالأرْشِ.
وإن حدَث العيبُ؛ فلا ردَّ له، إلا عندَ مالكٍ، له الردُّ إلى تمامِ ثلاثةِ أيامٍ
(3)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (مَن اشترى عشَرةَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 144.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومتى ظهر المَبيعُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 417.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن اشترى
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 393.
والبَخْسُ في المكيالِ والميزانِ
من الأعمالِ التي أهلك اللهُ بها قومَ شُعَيبٍ، والإصرارُ عليه من أعظمِ الكبائرِ، ويؤخَذُ منه ما بخَسَه على طولِ الزمانِ، ويُصْرَفُ في مصالحِ المسلمِينَ إذا لم يمكِنْ إعادتُه إلى أصحابِه، والذي يبخَسُ لغيرِه؛ هو مِن أخْسَرِ الناسِ صفقةً؛ إذ باع آخرتَه بدُنْيا غيرِه.
ولا يحِلُّ أن يَجْعَلَ بينَ الناسِ وزَّانًا يَبْخَسُ أو يُحابي؛ كما لا يحِلُّ أن يكونَ بينَهم مقوِّمٌ يُحابي؛ بحيثُ يَكيلُ أو يَزِنُ
(1)
أو يقوِّمُ لمن يرجوه، أو مخافةً من شَرِّه، أو يكونُ له جاهٌ ونحوُه؛ بخلافِ ما يَكيلُ أو يقوِّمُ لغيرِهم، أو يظلِمُ مَن يُبْغِضُه، ويَزيدُ مَن يُحِبُّه
(2)
.
ومَن أعتقه سيدُه
وهو بَطَّالٌ وله عائلةٌ؛ هل يجوزُ بيعُه؟
أما البيعُ الشرعيُّ فلا، ولكن إذا انضمَّ إلى بعضِ الملوكِ أو الأمراءِ [متسمِّيًا]
(3)
باسمِ مملوكه، فيجعلُه من مماليكِه الذينَ يُعْتِقُهم، لا يتملَّكُه بمِلْكِ الأرِقَّاءِ؛ فهذا يُشْبِهُ ملْكَ السيدِ الأوَّلِ؛ فإن هذا الذي يفعلُه هؤلاءِ إنما هو بيعٌ عادٍ وإطلاقٌ عناديٌّ
(4)
، وأكثرُ المماليكِ ملكُ بيتِ المالِ، ولاؤهم للمسلمِينَ.
(1)
في الأصل: (يوزن)، والمثبت من (ك) و (ع) و (ز).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والبَخْسُ في الميكالِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 474.
(3)
المثبت من مجموع الفتاوى 29/ 222، وفي الأصل، و (ك): فيقسما. وسقطت من (ز).
(4)
كذا في النسخ الخطية، وفي مجموع الفتاوى 29/ 222:(إنما هو بيع عادي وإطلاق عادي).
ولا بأسَ أن ينضافَ الإنسانُ إلى مَن يعطيه حقَّه، وعليهم طاعةُ مَن ولَّاه اللهُ أمرَهم، ولا يطيعوا أحدًا في معصيةٍ
(1)
.
ولا يَحِلُّ لأحدٍ يضمَن
من ولاةِ الأمورِ ألَّا يبيعَ الصنفَ الفُلانيَّ إلا هو، وإن كان يشتري بمالٍ حلالٍ؛ جاز الشِّراءُ منه، وإن اشترى بمالِ مَن يظلِمُه؛ فهو كالمغصوبِ، وحكمُه ظاهرٌ.
وإن كان أصلُ مالِه حلالًا، ولكن رَبِحَ فيه بهذه المعيشةِ حتى زاد؛ فقد صار شبهة؛ إن كان الغالبُ حلالًا؛ جاز الشراءُ، وتَرْكُه وَرَعٌ، وإن كان الغالبُ حرامًا فهل الشراءُ منه حلالٌ؟ على وجهَينِ
(2)
.
والنَّباتُ الذي ينبُتُ
بغيرِ فِعْلِ الآدميِّين؛ كالكَلأِ يُنْبِتُه اللهُ في ملكِ الإنسانِ ونحوِه؛ لا يجوزُ بيعُه في أحدِ قولَيِ العلماءِ؛ لكن إن قصَد صاحبُها تركَها بغيرِ زرعٍ لينبُتَ فيها الكلأُ؛ فبيعُ هذا أسهلُ؛ لأنه بمنزلةِ استنباتِه
(3)
.
وإذا دخل المسلمُ إلى بلادِ الحربِ
بغيرِ أمانٍ، فاشترى منهم
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن أعتقه سيدُه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 222.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يَحِلُّ لأحدٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 239.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والنَّباتُ الذي ينبُتُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 218.
أولادَهم، وخرج بهم إلى دارِ الإسلامِ؛ كانوا ملكًا له باتِّفاقٍ، وله بيعُهم.
وكذلك إن باع الحربيُّ نفْسَه للمسلمِ وخرج؛ بل لو أعطوه أولادَهم بغيرِ ثمنٍ، وخرج بهم؛ مَلَكهم، وكذا لو سرَقَهم.
أما لو كان بأمانٍ ففيه قولانِ؛ أحدُهما: له شراءُ أولادِهم، والآخر: لا يجوزُ.
وكذلك لو هادَنَ المسلمون أهلَ بلْدٍ، فسَبَاهم من باعهم للمسلمِينَ.
ولو قهَر أهلُ الحربِ بعضُهم بعضًا، أو اشترى بعضُهم بعضًا، أو سرَقَهم، فوهَبَهم أو باعهم للمسلمِينَ؛ مَلَكوهم
(1)
.
فَصْلٌ فيما يجوزُ بيعُه، وما لا يجوزُ
إذا اتَّفقَ أهلُ السُّوقِ
ألا يَزيدوا في سِلْعةٍ لهم فيها غَرَضٌ ليشتريَها أحدُهم ويتقاسمونها، فهذا يضُرُّ بالمسلمِينَ أكثرَ مِن تلقِّي الرُّكبانِ.
أما إذا اتَّفقَ اثنانِ وفي السوقِ من يزيدُ؛ فلا يحرُمُ ذلك؛ لأن بابَ المزايدةِ مفتوحٌ.
ولا يجوزُ أن يطلبَ بالسلعةِ ثمنًا كثيرًا؛ ليغرَّ المشتريَ، فيدفعَ ما
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا دخل المسلمُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 223.
يَزيدُ على قيمتِها إذا كان جاهلًا بالقيمةِ.
وهل يلزمُ الوكيلَ عهدةُ العقدِ
إذا سمَّى موكِّلًا؟ على قولَينِ هما روايتانِ، وإن لم يُسَمِّ طولِبَ بدَرَكِ المَبِيعِ.
والماءُ والكلأُ الذي يكونُ في الأرضِ المباحةِ
؛ لا يجوزُ بيعُه باتِّفاقِ العلماءِ
(1)
.
ولا يجوزُ للمالكِ أن يزيدَ في السِّلْعةِ
، فإنه يكون ظالمًا ناجِشًا؛ بل هو أعظمُ مِن نَجْشِ الأجنبيِّ؛ فإنه لا يُبطلُ البيعَ؛ وأما البائعُ إذا ناجَشَ أو واطَأَ مَن يُناجِشُ؛ ففي بطلانِ البيع قولانِ؛ هما روايتانِ
(2)
.
لا يجوزُ خَلْطُ الماءِ باللبنِ
لمن يريدُ بيعَه، ولو أعْلَمَ به المشتريَ؛ فإنه لا يدري قدْرَ ما شابَهُ.
والشَّريكانِ في العَقارِ ونحوِه
؛ يجوزُ لكلِّ واحدٍ أن يؤاجِرَ للآخرِ، ويؤاجِرَه لغيرِهما، ويتهايآه بالمكانِ وبالزمانِ
(3)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والماءُ والكلأُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 219.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يجوزُ للمالكِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 359.
(3)
قال في المصباح المنير 2/ 645: (تهايأ القوم تهايُؤًا: من الهيئة، جعلوا لكل واحد هيئة معلومة، والمراد النوبة، وهايأته مهايأة، وقد تبدل للتخفيف فيقال: هاييته مهاياة)، وقال الجرجاني في التعريفات ص 237:(المهايأة: قسمة المنافع على التعاقب والتناوب).
ومن امتَنَع من المؤاجَرةِ؛ أُجْبِرَ عليها عندَ جمهورِ العُلماءِ إلا الشافعيَّ.
وفي الإجبارِ على المهايأةِ أقوالٌ ثلاثةٌ معروفةٌ
(1)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والشَّريكانِ في العَقارِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 233.
بَابُ الرِّبَا
الذَّهَبُ المخيَّشُ
(1)
؛ إذا عُلِم مقدارُ ما فيه من الفِضَّةِ والذَّهَبِ؛ فهل يجوزُ بيعُه بأحدِهما إذا كان المفردُ أكثرَ مِن الذي معَه غيرُه؟ فهذه على ثلاثةِ أنواعٍ:
أحدُها: أن يكونَ المقصودُ بيعَ فِضَّةٍ بفِضَّةٍ متفاضلًا، أو بيعَ ذهبٍ بذهبٍ متفاضلًا، ويضمَّ إلى الأنقصِ من غيرِ جِنْسِه حيلةً؛ فلا يجوزُ أصلًا.
والثاني: أن يكونَ المقصودُ بيعَ أحدِهما وبيعَ عرضٍ بأحدِهما، وفي العرضِ ما ليس مقصودًا؛ مثلُ بيعِ السلاحِ بأحدِهما وفيه حِلْيةٌ يسيرةٌ، أو بيعِ عَقارٍ بأحدِهما وفي سَقْفِه وحيطانِه كذلك، مِثْلُ بيعِ غنَمٍ ذاتِ صوفٍ بصوفٍ، وذاتِ لبنٍ بلبنٍ؛ فيجوزُ عندَ أكثرِ العلماءِ؛ وهو الصوابُ، وبيعُ الفضَّة المُخَيَّشةِ بذهَبٍ يَذهب عندَ السَّبْكِ بفِضَّةٍ مثلِه؛ هو من هذا البابِ، فإذا بيعَتِ الفِضَّةُ المصنوعةُ المُخَيَّشةُ بذهبٍ، أو بيعَتْ بذهبٍ مقبوضٍ؛ جاز ذلك، وإذا بيعَتْ الفِضَّةُ المصنوعةُ بفضَّةٍ أكثرَ منها لأجلِ الصِّناعةِ؛ لم يجُزْ.
(1)
الدينار المخيش: هو ما غطي بالذهب وحشوه مغشوش. ينظر: تاج العروس 17/ 200.
والثالثُ: أن يكونَ كلا الأمرين مقصودًا؛ مثلُ أن يكونَ على السلاحِ ذهبٌ أو فِضَّةٌ كثيرٌ؛ فهذا إذا كان معلومَ المقدارِ، وبِيعَ بأكثرَ من ذلك: ففيه نزاعٌ مشهورٌ؛ والأظهرُ جوازُه.
وإذا أُبيعت الفِضَّةُ المصنوعةُ المخيَّشة بذهب، أو أُبيعت بذهب مغشوش؛ جاز ذلك، وإذا أُبيعت الفضَّة المصنوعة بفِضَّةٍ أكثرَ منها؛ لم يجُزْ
(1)
.
ومن احتاج إلى دراهمَ
فاشترى سلعةً يبيعها في الحالِ؛ فهو مكروهٌ في أظهرِ قولَيِ العلماءِ.
وأما الحِياصةُ
؛ الذَّهَب أو الفِضَّة: فلا تُباعُ إلى أجلٍ بذهبٍ أو فِضَّةٍ؛ لكن تُباعُ بعوضٍ إلى أجلٍ
(2)
.
ومن اشترى قَمْحًا إلى أجلٍ
، ثم عوَّضَ البائعَ عن ذلك الثمنِ سِلْعةً إلى أجلٍ؛ لم يجُزْ، وكذلك إن احتالَ على أن يَزيدَه في الثمنِ، ويزيدَه ذلك في الأجلِ بصورةٍ يظهرُ رِباها؛ لم يجُزْ، ولم يكُنْ له عندَه إلا الدَّينُ الأولُ؛ فإن هذا هو الرِّبا الذي أنزل اللهُ فيه القرآنَ؛ يقولُ الرجلُ لغريمِه عندَ مَحِلِّ الأجلِ: تقضي أو تُرْبي، فإنْ قضاه وإلا
(3)
زاده هذا
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (الذَّهَبُ المخيَّشُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 463.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وأما الحياصةُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 425.
(3)
في الأصل: ولا. والمثبت من (ك).
في الدَّين، وهذا في الأجلِ، فحرَّمَ اللهُ ذلك، وأمر بقتال مَن لم ينتَهِ
(1)
.
ومن تدايَنَ من رجلٍ
، فدخَل به السوقَ، فاشترى شيئًا بحَضْرةِ الرجلِ، ثم باعَه عليه بفائدةٍ؛ فهي على ثلاثةِ أوجهٍ:
أحدُها: أن يكونَ بينَهم مواطأةٌ لفظيةٌ أو عُرفيةٌ؛ على أن يشتريَ السِّلعةَ من ربِّ الحانوتِ، ثم يبيعَها للمشتري، ثم تُعادَ إلى صاحبِ الحانوتِ؛ فلا يجوزُ.
الثاني: أن يشتريَها منه، ثم يُعيدَها إليه، فلا يجوزُ أيضًا؛ لحديثِ أمِّ ولدِ زيدِ بنِ أرْقَمَ
(2)
.
والثالثُ: أن يشتريَ السِّلعةَ شراءً بتاتًا، ثم يبيعَها للمستدين بتاتًا، فيبيعَها أحدُهما، فهذه تُسَمَّى التورُّقَ؛ لأن غرضَ المشتري الورِقُ، فيأخذُ مائةً ويبقى عليه مائةٌ وعشرون مثلًا؛ فقد تنازع في ذلك السَّلَفُ، والأقوى: أنه منهيٌّ عنه؛ قال عمرُ بنُ عبد العزيز: (التورُّقُ رِبًا)؛ فإنَّ اللهَ حرَّمَ أخْذَ دراهِمَ بدراهمَ أكثرَ منها إلى أجلٍ؛ لِما في ذلك من ضرَرِ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن اشترى قَمْحًا
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 430.
(2)
وهو ما رواه عبدالرزاق (14812) والدارقطني (3002)، عن أم محبة قالت: يا أم المؤمنين! كانت لي جارية وإني بعتها من زيد بن أرقم الأنصاري بثمانمائة درهم إلى عطائه، وإنه أراد بيعها، فابتعتها منه بستمائة درهم نقدًا، قالت: فأقبلت علينا، فقالت:«بئسما شريت وما اشتريت، فأبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب» ، فقالت لها: أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالي؟ قالت: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف} .
المحتاجِ، وأكْلِ مالِه بالباطلِ، وهذا المعنى موجودٌ في هذه الصورةِ، وإنما الأعمالُ بالنيَّاتِ، والذي أباحه اللهُ البيعَ والتجارةَ
(1)
.
وكلُّ قَرْضٍ جَرَّ منفعةً فهو رِبًا
، كما يُقْرِضُ صُنَّاعَه ليُحابوه بالأجرةِ فهو ربًا، أو يُقْرِضُه مائةً، ويبيعُه سلعةً تساوي مائةً بمائةٍ وخمسينَ ونحوِ ذلك
(2)
.
ويجبُ على المقترِضِ
أن يوفِّيَ المقرِضَ في البلدِ الذي اقتَرَضَ فيه، ولا يُكَلِّفَه شيئًا من مُؤْنةِ السفرِ إلى بلدٍ آخَرَ، وحَمْلِ ذلك، فإن قال: ما أوفِّيك إلا في بلدٍ آخر؛ كان عليه مُؤْنةُ المُقْرِضِ وما ينفقُه بالمعروفِ
(3)
.
ولا يجوزُ الوفاءُ فلوسًا
إلا برِضى البائعِ، وإذا وفَّوا فلوسًا؛ فلا يكونُ إلا بالسِّعْرِ الواقعِ.
أما النَّقْدانِ؛ فيجوزُ استيفاءُ أحدِهما عن الآخرِ كاستيفاءِ أحدِهما عن نفْسِه، فلا يكونُ ذلك من بابِ المعاوضةِ، ولا يجوزُ فيه الزيادةُ بالشرطِ، كما لا تجوزُ في القَرْضِ ونحوِه مما يوجِبُ المماثلةَ.
فإذا اتَّفَقا على أن يوفِّيَ أحدُهما أكثرَ من قيمتِه؛ كان كالاتفاقِ أن
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن تدايَنَ من رجلٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 433.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وكلُّ قَرْضٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 533.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجبُ على المقترِضِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 530.
يوفِّيَ عنه أكثرَ منه مِن جنسِه؛ بخلافِ الزيادةِ من غيرِ شرطٍ.
وعلى هذا فالفلوسُ النافقةُ قد يكونُ فيها شَوْبٌ قوي من الأثمانِ، فتوفيتهما عن أحدِ النقْدَينِ كتوفيةِ أحدِهما عن صاحبِه
(1)
.
وإذا قوَّمَ السِّلْعةَ بقيمةٍ حالَّةٍ
، ثم باعَها إلى أجلٍ بأكثرَ من ذلك، فهذا منهيٌّ عنه في أصحِّ قولَيِ العلماءِ؛ كما قال ابنُ عبَّاسٍ: «إذا استَقمْتَ
(2)
بنقدٍ، ثم بِعْتَ بنقدٍ؛ فلا بأسَ، وإذا استقمت بنقدٍ، ثم بِعْتَ بنسيئة؛ فتلك دراهم بدراهم»
(3)
، وقوله:«استقمت» ، أي: قوَّمت
(4)
.
ولو باعَه مِلكَه بيَع أمانة
على أن يشتري منه الملك بعد ذلك بأكثرَ من الثمنِ؛ فهذا هو الربِّا
(5)
.
إذا كان له على رجلٍ دراهمُ مؤجَّلةٌ
، فباعَه بأقلَّ منها حالَّةً؛ فهذا رِبًا، وإن كانت حالَّةً، فأخذ البعضَ وأبْرَأَه من البعضِ؛ فقد أحْسَنَ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يجوزُ الوفاءُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 467.
ونص السؤال: (عن جماعة تبيع بدراهم وتوفي عن بعضها فلوسًا محاباة، ثم تخبر عن الثمن بالثمن المسمى؟).
(2)
في الأصل: أسلمت. والمثبت من (ك) ومجموع الفتاوى.
(3)
رواه عبدالرزاق (15028).
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا قوَّمَ السِّلْعةَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 496.
(5)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولو باعه ملكه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 530.
وأجرُه على اللهِ
(1)
.
وإذا أُبيعَتْ أسْوِرةُ ذهبٍ
بذهبٍ أو فِضَّةٍ إلى أجلٍ؛ لم يجُزْ باتِّفاقِ العلماءِ؛ بل يجبُ ردُّ الأَسْورةِ إن كانت باقيةً، وردُّ بَدَلِها إن كانت فائتةً
(2)
.
ومن قال لتجَّارٍ:
أعْطوني هذه السِّلْعةَ، فقال التاجرُ: مُشْتراها ثلاثين، وما أبيعُها إلا بخمسينَ إلى أجلٍ، فهي على ثلاثةِ أنواعٍ:
أحدها: أن يكونَ مقصودُه السِّلْعةَ، ينتفعُ بها للأكلِ والشُّربِ واللُّبْسِ ونحوِه.
والثاني: أن يكونَ مقصودُه التجارةَ.
فهذان جائزانِ بالكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ.
لكن لا بدَّ من مراعاةِ الشُّروطِ الشرعيةِ؛ فإذا كان المشتري مضطرًّا
(3)
؛ لم يجُزْ أن يُباعَ إلا بقيمةِ المِثْلَ، مثلُ أن يضطرَّ الإنسانُ إلى شراءِ طعامٍ لا يجِدُه إلا عندَ شخصٍ، فعليه أن يبيعَه إيَّاه بقيمةِ المثلِ، وإن لم يبعه إلا بأكثرَ؛ فللمشتري أخْذُه قهرًا بقيمةِ المثلِ، وإذا أعطاه إيَّاه لم يجبْ عليه إلا قيمةُ المثلِ، وإن باعه إيَّاه إلى أجلٍ؛ باعه بالقيمةِ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا كان له على رجلٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 526.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا أُبيعَتْ أسْوِرةُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 425.
(3)
في الأصل: مقصودًا. والمثبت من (ك) ومجموع الفتاوى.
إلى ذلك الأجلِ؛ فإنَّ الأجل يأخُذُ قِسْطًا من الثمن.
النوعُ الثالثُ: أن يكونَ المشتري إنما يريدُ دراهمَ - مثلًا - ليوفِّيَ بها دينَه، فيتفِقان على أن يعطيَه مثلًا المائةَ بمائةٍ وعشرين إلى أجلٍ؛ فهذا منهيٌّ عنه.
فإن اتَّفقا على أن يُعيدَ السِّلْعةَ إليه؛ فهو بَيْعانِ في بيعةٍ، وإن أدْخَلا بينَهما ثالثًا فيشتري منه السِّلْعةَ، ثم تعادُ إليه؛ فكذلك، وإن باعه وأقْرَضه فكذلك.
وإن كان المشتري يأخذُ السِّلْعةَ فيبيعُها في موضعٍ آخَرَ، يشتريها بمائةٍ ويبيعُها بتسعينَ لأجل الحاجةِ إلى الدراهمِ؛ فهي مَسْألةُ التورُّقِ، وفيه نزاعٌ، والأقوى: أنه مَنْهيٌّ عنه، وأنه أصلُ الرِّبا؛ كما قال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ وطائفةٌ من المالكيَّةِ وغيرُهم؛ وهو إحدى الروايتينِ عن أحمدَ، ورخَّص فيه آخَرون، والأقوى كراهتُه، واللهُ أعلمُ
(1)
.
فَصْلٌ
(2)
ما يصنعُه بنو آدمَ مِن الذَّهَبِ والفِضَّة
وغيرِهما مِن أنواعِ الجواهرِ والطِّيبِ واللُّؤلؤِ والياقوتِ والمِسْكِ والعَنبرِ وماءِ الوردِ، وغيرِ ذلك؛ كلُّه
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن قال لتجَّارٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 499.
(2)
ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 29/ 367.
ليس بمثْلِ ما يخلُقُه اللهُ من ذلك، بل هو مشابهٌ له من بعضِ الوجوهِ، ليس هو مساويًا له في الحدِّ وفي الحقيقةِ، وذلك كلُّه محرَّمٌ في الشرعِ بلا نزاعٍ بينَ العلماءِ الذينَ يعلمون حقيقةَ ذلك.
وحقيقةُ الكيمياءِ: تشبيهُ المصنوعِ بالمخلوقِ؛ وهو باطلٌ في العقلِ، واللهُ تعالى ليس كمثلِه شيءٌ؛ لا في ذاتِه ولا في صِفاتِه ولا في أفعالِه، فلم يَقدِر العِبادُ أن يصنعوا مثلَ ما خلَق، وما يصنعونه لم يَخْلُقْ لهم مثلَه، فلم يخلُقْ طعامًا مطبوخًا، ولا ثوبًا منسوجًا.
وقد استقرَّ أن المخلوقَ لا يكونُ مصنوعًا، والمصنوعُ لا يكونُ مخلوقًا عندَ المسلمِينَ وعندَ أوائلِ الفلاسفةِ الذينَ تكلَّموا في الطَّبائعِ؛ قال تعالى:{أم جعلوا للهِ شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء} ، وفي «الصحيحِ» عنه صلى الله عليه وسلم فيما يَرْوي عن ربِّه أنَّه قال: «ومَن أظْلَمُ ممن ذهب يخلُقُ كخَلْقي، فلْيَخْلُقوا ذَرَّةً، فلْيَخْلُقوا بَعُوضَةً
…
»
(1)
؛ وقد لعَن المصوِّرينَ
(2)
، وقال:«من صَوَّر صورةً كُلِّفَ أن ينفُخَ فيها الرُّوحَ، وليس بنافخٍ»
(3)
، وقال:«أشدُّ الناسِ عذابًا يومَ القيامةِ الذينَ يُضاهون خلقَ اللهِ»
(4)
.
(1)
الحديث بهذا اللفظ رواه أحمد (7521) من حديث أبي هريرة، ورواه البخاري (5953)، ومسلم (2111) أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:«ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، وليخلقوا ذرة» .
(2)
رواه البخاري (5347)، من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (5963)، ومسلم (2110) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
رواه البخاري (5954)، ومسلم (2107) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وليس في التصوير غشٌّ وتلبيسٌ، فإنَّ كلَّ أحدٍ يعلمُ أن صورةَ الحيوانِ المصوَّرةَ ليست حيوانًا، ولهذا يُفَرَّقُ في التصويرِ بين الحيوان وغيره، فيجوزُ تصويرُ الشجرِ والمعادنِ في الثيابِ والحيطانِ، ولهذا قال جبريلُ:«مُرْ بالرأسِ فليُقْطَعْ»
(1)
، ونصَّ الأئمَّةُ على ذلك وقالوا: الصورةُ بلا رأسٍ لا تبقى فيها حياةٌ، فتبقى مثلَ الجماداتِ، وأما الكيمياءُ فإنها غِشٌّ؛ وقد قال:«مَن غَشَّنا فليس منَّا»
(2)
.
ولم يكُنْ في الأنبياءِ ولا الصلحاء ولا العلماءِ مَن هو من أهلِ الكيمياءِ، وأقْدَمُ من يُحْكى عنه: خالدُ بن يزيدَ بنِ معاويةَ، وليس هو ممن يقتَدي به المسلمون في دينِهم، فإن ثبَتَ النقلُ عنه فقد دُلِّسَ عليه، فإنها على مراتبَ؛ منها: ما يفسُدُ بعدَ بضْعِ سنينَ أو أكثرَ؛ كما دُلِّسَ على غيرِه؛ كمحمدِ بنِ زكريا الرازيِّ المُتَطَبِّبِ، وكان من المصحِّحين لها، وما أعلمُ في الأطباءِ الإسلاميينَ من كان أبلغ فيها منه، وهي أشدُّ تحريمًا من الرِّبا.
ومن قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف ذلك؛ فقولُه مستلزِمٌ للكفرِ، وهو يقول:{لا أجد ما أحملكم عليه} ، وقد كان يمكنُه أن يعملَ الكيمياءَ على قولِ هذا المفتري، وكثيرًا ما يُضمُّ إليها السحرُ، كما كان ابنُ سبعينَ والسُّهْرَوَرْديُّ المقتول والحلَّاجُ، والسِّحرُ من
(1)
رواه أحمد (8045)، وأبوداود (4158) والترمذي (2806) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (101) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الكبائرِ، والسيمياءُ هي مِن السِّحْرِ
(1)
.
فَصْلٌ
بيعُ الدَّراهمِ بأنصافٍ
، وأصلُه مسألةُ مُدِّ عَجْوةٍ، وهي على ثلاثةِ أقسامٍ، يجمعُها: بيعُ رِبَويٍّ بجنسِه، ومعهما أو معَ أحدِهما مِن غيرِ جنسِه:
القسمُ الأولُ: أن يكونَ المقصودُ بيعَ ربويٍّ بجنسِه متفاضلًا، ويُضَمَّ إلى الأقلِّ غيرُ الجنسِ حيلةً، مثلُ بيع ألْفَي دينارٍ بألفِ دينارٍ ومنديلٍ؛ فالصوابُ في مثلِ هذا: الجزمُ بالتحريمِ، كما هو مذهَبُ مالكٍ وأحمدَ والشافعيِّ، وإلا فلا يعجِزُ أحدٌ في رِبَا الفضلِ.
القسمُ الثاني: أن يكونَ المقصودُ بيعَ غيرِ رِبَويٍّ مع ربويٍّ، وإنما دخل الرِّبَويُّ ضمنًا وتَبَعًا؛ كبيعِ شاةٍ ذاتِ صوفٍ ولبنٍ بشاةٍ ذاتِ صوفٍ ولبنٍ، أو سيفٍ فيه فِضَّةٌ يسيرةٌ بسيفٍ أو غيرِه فيه فِضَّةٌ، أو دارٍ مموَّهٍ بدارٍ؛ فهنا الصحيحُ في مذهَبِ مالكٍ وأحمدَ: الجوازُ.
وكذلك لو كان المقصودُ بيعَ الرِّبويِّ بغيرِ الربويِّ؛ مثلُ بيعِ الدارِ والسيفِ بذهبٍ، أو بيعِه بجنسِه وهما متساويان.
ومَسْألةُ الدراهمِ المغشوشةِ في زمانِنا من هذا البابِ؛ فإن الفِضَّةَ
(1)
جاء في معجم اللغة العربية المعاصرة 2/ 1151: (السيمياء: الكيمياء القديمة، وكانت غايتها تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب).
التي في أحدِ الدِّرهمين مثلُ الفِضَّةِ التي في الدِّرهمِ الآخرِ، والنُّحاسُ تابعٌ غيرُ مقصودٍ، ولهذا كان الصحيحُ جوازَ ذلك؛ بخلافِ القسمِ الثالثِ؛ وهو ما إذا كان كلاهما مقصودًا؛ مثلَ بيعِ مُدِّ عَجْوةٍ ودرهمٍ بمدِّ عجْوةٍ ودرهم، أو مُدَّينِ، أو دِرْهَمَينِ، أو بيعِ دينارٍ بنصفِ دينارٍ وعشَرةِ دراهمَ، أو عشَرةِ دراهمَ ورِطْلِ نُحاسٍ بعشَرةٍ ورِطْلِ نُحاسٍ؛ فمثلُ هذه فيها نزاعٌ مشهورٌ: فأبو حنيفةَ يجوِّزُه، والشافعيُّ يُحَرِّمُه، وعن أحمدَ روايتانِ، ومالكٌ يُفَصِّلُ بينَ الثلثِ وغيرِه
(1)
.
وقال في موضعٍ آخَرَ:
وهو الأشبهُ؛ إذ لم تشتملْ على الرِّبا، والأصلُ حَمْلُ العقودِ على الصحَّةِ، فحصَلَ أن بيع الدراهمِ النُّقْرةِ التي ثُلُثُها فِضَّةٌ، بالسُّودِ التي ربُعُها فِضَّةٌ؛ مُخَرَّجةٌ على مُدِّ عَجْوةٍ، والناسُ بينَ مُفَرِّطٍ ومتوسِّطٍ.
فإذا كان المقصودُ بيعَ الرِّبَويِّ بجنسِه متفاضِلًا؛ فحرامٌ.
وإن كان المقصودُ البيعَ الجائزَ وما فيه مِن رِبَويٍّ تَبَعٌ؛ فالصوابُ جوازُه، كما جاز في الثَّمرةِ قبلَ بُدُوِّ صلاحِه بيعه تبعًا.
وأما إنْ كان كِلا الصِّنفَينِ مقصودًا؛ ففيها النِّزاعُ المشهورُ:
منهم مَن حرَّمه؛ لكونِه ذريعةً إلى الرِّبا، أو لكونِ الصِّفةِ المشتمِلةِ على عِوَضَينِ ينقسمُ الثمنُ عليهما بالقيمةِ؛ وهو مذهَبُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ في روايةٍ.
(1)
ينظر أصل الفتوى من أول الفصل إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 461.
والروايةُ الأخرى: يجوزُ إذا كان المفردُ أكثرَ.
وجوَّزه أبو حنيفةَ.
فبيعُ النُّقْرةِ بالنُّقْرةِ المَغشوشتين؛ الغشٌّ تبعٌ، والنُّقْرةِ بالسَّوداءِ
(1)
إذا لم يقصِدْ بيعَ فِضَّةٍ بفضَّةٍ متفاضلًا؛ يُخَرَّجُ على النِّزاع المشهورِ في مُدِّ عَجْوةٍ
(2)
.
(1)
أي: بيع النقرة بالسوداء، كما في أصل الفتوى، والمراد بالنقرة كما تقدم من كلام شيخ الإسلام: ما كان ثُلثها فضة، وبالسوداء: ما كان رُبعها فضة.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وقال في موضع آخر
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 464.
وهذه الفتوى جعلت تصحيحًا في الأصل وأشار إلى أن موضع التصحيح في الفتوى السابقة عند قوله: (فأبو حنيفة يجوزه) وقد جعلناه عقب الفتوى السابقة لاختلافهما.
كِتَابُ الأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا
(1)
إذا باع الرجلُ سلعتَه
، وأُخِذ عليها مَكْسٌ من البائعِ أو من المشتري؛ لم يُحَرِّمْ ذلك السِّلْعةَ ولا الشراءَ؛ لا على بائعِها ولا على مُشْتريها، ولا شُبْهةَ في ذلك أصلًا؛ ولو كان المأخوذُ بعضَ السِّلْعةِ؛ كسواقِطِ الشَّاةِ مثلًا.
وأما إذا ضمِنَ نوعًا من السِّلعِ لا يبيعُها إلا هو؛ فهو ظالمٌ، وهذا نوعان:
منهم من يستأجِرُ حانوتًا بأكثرَ من قيمتِها- إما لمُقْطِعٍ أو غيرِه- على ألَّا يبيعَ في المكانِ إلا هو، أو يجعلَ عليه مالًا يُعطيه لمُقْطِعٍ أو غيرِه بلا استئجارِ حانوتٍ ولا غيرِه؛ وكِلاهما ظالمٌ.
النوعُ الثاني: ألا يكونَ عليهم ضمانٌ؛ لكن يلتزمون بالبيعِ للناسِ؛ كالطَّحَّانينَ والخَبَّازينَ ونحوِهم ممن ليس عليهم وظيفةٌ، لكن عليه أن يبيعَ كلَّ يومٍ شيئًا مقدرًا، ويمنعون مَن سواهم من البيعِ، ولهذا جاز التسعيرُ على هؤلاءِ، وإن لم يجُزِ التسعيرُ في الإطلاقِ؛ فإنهم قد وجَبت عليهم المبايعةُ لهذا الصِّنفِ، ومُنِعَ من ذلك غيرُهم، فلو مُكِّنوا أن يبيعوا
(1)
ينظر أصل الفتوى في: مجموع الفتاوى 29/ 253.
بما شاؤوا؛ كان ظُلْمًا للمساكينِ؛ بخلافِ ما إذا كان الناسُ كلُّهم متمكِّنينَ من ذلك؛ لكن لم يجُزْ أن يُلْزَموا أن يبيعوا بدونِ ثمنِ المثلِ، كما لا يبيعوا بما شاؤوا.
وهل يجوزُ أن يَلتزِموا بمثلِ ذلك؟
فيقالُ: أمَّا إذا اختاروا أن يقوموا بما يحتاجُ الناسُ إليه من تلك المَبيعاتِ، وألَّا يبيعوا إلا بقيمةِ المثلِ؛ على أن يُمْنَعَ غيرُهم من البيعِ، ومن اختار الدخولَ معهم في ذلك مُكِّنَ: فهذا لا يتبيَّنُ تحريمُه؛ بل قد يكونُ فيه مصلحةٌ عامةٌ للناسِ، فهم لم يُلْزَموا؛ بل دخلوا باختيارِهم، ومُنِع غيرُهم لمصلحةٍ عامَّةٍ للناسِ، فإن دخَل في هذه المصلحةِ؛ مُكِّنَ.
وقد يُقالُ: هذان نوعانِ من الظُّلمِ: إلزامٌ الشخص أن يبيعَ، وأن يكونَ بيعُه بثمنِ المثلِ، وفي هذا فسادٌ، وحينئذٍ فإن كان أمرُ الناسِ صالحًا بدونِ هذا؛ لم يجُزِ احتمالُ هذا الفساد بلا مصلحةٍ راجحةٍ، وأما إن كان بدونِ هذا لا يحصُلُ للناسِ ما يَكْفيهم من الطعامِ ونحوِه، أو لا يُكفَوْن ذلك إلا بأثمانٍ مرتفعةٍ، وبذلك يحصُلُ ما يَكْفيهم بثمنِ المثلِ؛ فهذه المصلحةُ العامَّةُ يُغْتَفرُ في جانبِها ما ذُكِرَ من المنعِ.
وأما إذ أُلْزِمَ الناسُ بذلك ففيه تفصيلٌ: فإن الناسَ إذا اضْطُرُّوا إلى ما عندَ الإنسانِ من السِّلْعةِ والمنفعةِ؛ وجَب عليه أن يَبذُلَ لهم بقيمةِ المثلِ، وَمنْعَه: ألَّا يبيعَ سلعةً حتى يبيعَ مقدارًا معيَّنًا، وتفصيلُ ذلك ليس هذا موضعَه.
إذا تبيَّنَ ذلك؛ فالذي يضمنُ كُلْفةً من الكُلَفِ على ألَّا يبيعَ السِّلْعةَ
إلا هو، ويبيعُها بما يختارُ؛ لا رَيْبَ أنه مِن جنس ظلمِ الكُلَفِ السُّلطانيةِ، وسبيلُ أهلِ الوَرَعِ لا يأكُلون مِن الشِّواءِ المضَمَّنِ أو المِلْحِ المُضَمَّنِ؛ فإنه مكروهٌ لأجلِ الشُّبْهةِ؛ فإنه إذا كان لا يبيعُ إلا هو بما يختارُ؛ صار كأنه يُكْرِه الناسَ على الشِّراءِ منه، فيأخذُ منهم أكثرَ مما يجبُ عليهم، ويختلطُ بمالِه فيكونُ بمالِه شُبْهةٌ.
ومَن أخذ ذلك من المباحِ - وإن كان إنما يأخذُه بضمانٍ-؛ فليست كغيرِها؛ فإن أصلَ المِلْحِ مشتركٌ بينَ الناسِ، فلا يحرُمُ شراؤُها؛ لأن المشتريَ لا يظلمُ أحدًا، والمباحُ لم يملِكْه بمالِه، فيجوزُ للمشتري دفعُ المالِ ليأخُذَ ما كان له أخذهُ بغيرِ شيءٍ، كما يجوزُ أن يشتريَ الرجلُ ملكَه المغصوبَ من غاصبِه، وله بذْلُ ثمنِه وإنْ حَرُمَ على البائعِ، كما يجوزُ رِشْوةُ العاملِ ليدفعَ الظُّلمَ لا لمنعِ الحقِّ، وإرشاؤه حرامٌ فيهما، وكذلك الأسيرُ والعبدُ المعتَقُ والزوجةُ المطَلَّقةُ؛ إذا أنكَروا ذلك، جاز لهم دفعُ شيءٍ ليُقِرُّوا بالحقِّ، وإنْ حرُم على الآخذِ، ومن ذلك قولُه صلى الله عليه وسلم:«ما وُقِيَ به العِرْضُ؛ فهو صدقةٌ»
(1)
.
فلو أعطى الرجلُ شاعرًا لئلَّا يكذبَ عليه بِهَجْوٍ أو غيرِه، أو لئلَّا يقولَ في عِرْضِه ما يحرُمُ عليه؛ كان بَذْلُه لذلك جائزًا، وما أخذه ذلك لئلَّا يَظْلِمَه حرامٌ؛ لأنه يجبُ عليه تَرْكُ ظُلْمِه، وتَرْكُ الكذبِ عليه بلا عِوَضٍ، فإذا لم يتركْه إلا لمالٍ؛ كان حرامًا، تُسمِّيه العامةُ: قَطَعَ مصانعَه.
(1)
رواه الدارقطني (2895)، والحاكم (2311) من حديث جابر رضي الله عنه.
فالمباحاتُ التي يشترِكُ فيها المسلمون؛ كالصُّيود البريَّةِ والبحريَّةِ والمعادنِ؛ إذا حجرها السلطانُ وأمَر ألَّا يأخُذَها إلا نوَّابُه، وتُباعَ للناسِ؛ لم يحرُمْ على الناسِ شراؤُها، ونوَّابُ السُّلطانِ يَستخرجونها بأثمانِها التي أخذوها ظلمًا، ونحوُ ذلك من الظُّلْمِ.
قيل: تلك الأموالُ أُخِذَت من المسلمِينَ ظلمًا، فالمسلمون هم المظلومون، وذلك لا يحرِّمُ عليهم ما كان حلالًا لهم، وهذا ظاهرٌ فيما إذا كان الظلمُ فيه مناسبًا، مثلُ أن يُباعَ كلُّ مقدارٍ بثمنٍ معيَّنٍ، ويُؤْخَذَ من تلك الأثمانِ ما يُستخرجُ به تلك المباحاتِ؛ فلا شبهة هنا على المشتري أصلاً، وإن كان ما يستخرج به تلك المباحات بدونِ المعاملةِ بالأموالِ السُّلطانيةِ المشتركةِ.
أمَّا لو سخَّر نوَّابُ السلطانِ بغيرِ حقٍّ مَن يستخرِجُ تلك المباحاتِ؛ فهذا بمنزلةِ أن يغصِبَ من يَطبُخُ له طعامًا، أو ينسِجُ له ثوبًا، أو يطبُخُ بحطبٍ مغصوبٍ؛ فهذا فيه شُبْهةٌ، وطريقُ التخلُّصِ: أن ينظُرَ النفعَ الحاصلَ في تلك العينِ بعملِ المظلومِ، فيُعطى أجرتَه، وإن تعذَّر معرفةُ المظلومِ تصدَّقَ بها عنه، كما لو اختلَط مالُه بما غصَبه، فلا يوجِبُ تحريمَ مالِه عليه؛ لأنَّ المحرَّماتِ نوعانِ:
محرَّمٌ لوصفِه وعينِه، كالدَّمِ والميتةِ، فهذا إن اختلط بالمائعِ وظهَر فيه؛ حَرُمَ.
ومُحَرَّمٌ لكَسْبِه؛ كالنقْدَينِ والحبوبِ والثِّمارِ وأمثالِه، فهذا لا تحرُمُ أعيانُها تحريمًا مُطْلقًا؛ بل تحرُمُ على من أخذها ظُلْمًا أو بوجهٍ مُحَرَّمٍ،
فإذا أخَذ الرجلُ منها شيئًا، وخلَطَه بمالِه؛ فالواجبُ إخراجُ قدْرِه، وقدرُ مالِه حلالٌ له.
ولو أخْرَجَ مثلَ المال الحرامِ من غيرِه؛ ففيه وجهانِ لأصحابِ أحمدَ والشافعيِّ، وهذا أصلٌ فيما يحصُلُ في يدِ الإنسانِ مِن وديعةٍ وعاريَّةٍ وغصبٍ ولا يَعْرِفُ صاحبُها، يتصدَّقُ بها عنه في مصالحِ المسلمِينَ؛ على مذهَبِ مالكٍ وأحمدَ وأبي حنيفةَ وغيرِهم، ويجوزُ للفقراء أخْذُها، فإنَّ المعطيَ نائبُ صاحبِها؛ بخلافِ من تصدَّقَ مِن غُلولٍ؛ وهو الذي يَحوزُ المالَ ويتصدَّقُ به؛ معَ إمكانِ ردِّه، أو يتصدَّقُ به صدقةَ متقرِّبٍ كَمالِه، وأما ذاك فيتصدَّقُ صدقةَ متحرِّجٍ متأثِّمٍ؛ بمنزلةِ أداءِ الدَّينِ وأداءِ الأمانات إلى أصحابها؛ وهو قولُ ابنِ مسعودٍ
(1)
ومعاويةَ رضي الله عنهما
(2)
، وقال
(1)
رواه عبدالرزاق (18631)، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال:«اشترى عبد الله بن مسعود من رجل جارية بست مائة أو بسبع مائة، فنشده سنة لا يجده، ثم خرج بها إلى السدة فتصدق بها من درهم ودرهمين عن ربها، فإن جاء صاحبها خيره، فإن اختار الأجر؛ كان الأجر له، وإن اختار ماله؛ كان له ماله» ، ثم قال ابن مسعود:«هكذا افعلوا باللقطة» .
(2)
في اللُّقَطةِ: «فإن جاء صاحبُها، وإلا فهي مالُ اللهِ يُؤتيه مَن يشاءُ»
(1)
؛ فجعَلها للملتقِطِ لمَّا تعذَّرَ معرفةُ صاحبِها، ولا خلافَ بينَ المسلمِينَ في جوازِ صدقتِه بها، وإنما نِزاعُهم في جوازِ تملُّكِه لها معَ الغِنى، الجمهورُ على جوازِه؛ معَ الجزمِ أنها سقَطَتْ من مالكٍ، فكيفَ بما يُجْهَلُ به ذلك؟
فَصْلٌ
في كلبٍ تولَّدَ
(2)
على نَعجةٍ
، فولدَتْ خروفًا؛ نصفُه كلبٌ ونصفُه خروفٌ، وهو نِصفانِ بالطولِ: لا يؤكَلُ منه شيءٌ وإن كان مميَّزًا، ولأن الأكلَ بعدَ التذكيةِ، ولا يصِحُّ تَذْكيةُ مثلِ هذا لأجلِ الاختلاطِ
(3)
.
وأما المتولِّدُ من حمارِ وَحْشٍ وفَرَسٍ
؛ فهو بَغْلٌ حلالٌ؛ بخلافِ المتولِّدِ بينَ حمارٍ إنسيٍّ
(4)
.
(1)
رواه البخاري (2372)، ومسلم (1722)، من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
(2)
في (ك): نزا.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (في كلبٍ تولَّدَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 35/ 209.
(4)
زاد في (ك): وفرس.
وينظر أصل الفتوى من قوله: (وأما المتولِّدُ من حمارٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 35/ 208.
وعَناقٌ أرضعَتْها
امرأةٌ؛ يجوزُ أكلُها وشُرْبُ لبنِها
(1)
.
وما رُوِيَ في البطِّيخِ
أنه مكتوبٌ عليه: (لا إلهَ إلا اللهُ)، (ومَن أكَلَه بقِشْرِه، فله كذا، وببَزْرِه فله كذا)؛ فكُلُّه كذِبٌ
(2)
.
ولا بأسَ بالأكلِ والشُّربِ قائمًا معَ العُذْرِ
؛ كما شَرِب صلى الله عليه وسلم مِن زمزمَ قائمًا
(3)
؛ لأنه ليس موضعَ جلوسٍ، وأما معَ عدمِ الحاجةِ فيُكْرَهُ؛ لنهيِه عنه
(4)
، وبهذا التفصيلِ يحصُلُ الجمعُ بينَ النصوصِ، وفيه عن أحمدَ روايتانِ؛ قيل: يُكْرَهُ، وقيلَ: لا
(5)
.
مَن قال: إنه قال:
(6)
؛ كذِبٌ لا أصلَ له.
ومَن أكَل الطيِّباتِ
بدونِ الشُّكرِ الواجبِ فهو مذمومٌ؛ قال تعالى:
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وعَناقٌ أرضعَتْها
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 35/ 209.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وما رُوِيَ في البطِّيخِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 32/ 213.
(3)
رواه البخاري (1637)، ومسلم (2027) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
رواه مسلم (2024) من حديث أنس رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب الرجل قائما» .
(5)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا بأسَ بالأكلِ والشُّربِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 32/ 211.
(6)
قال في مجوع الفتاوى 18/ 127): (دو دو؛ يعني: عنبتين عنبتين؛ هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو باطل).
{ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} ؛ أي: عن شُكْرِ النعيمِ.
والإسرافُ في الأكلِ مذمومٌ، وهو مجاوَزةُ الحدِّ.
ومَن أكَل بنيَّةِ الاستعانةِ على العِبادةِ؛ كان مأجورًا
(1)
.
وإذا أضاف الرجلَ مَن في مالِه شُبْهةٌ
قليلةٌ، وفي التَّرْكِ مفسدةٌ مِن قطيعةِ رحِمٍ أو فسادِ ذاتِ البَيْنِ؛ فَلْيُجِبْه، وإن لم يكُنْ في التَّركِ مفسدةٌ، بل فيه مصلحةُ تَوقِّيه الشبهةَ، ونَهْيُ الداعي عن قليلِ الإثم، وإن كان في الإجابةِ مصلحةُ الإجابةِ فقط، وفيها مفسدةُ الشبهةِ؛ فأيُّهما أرجحُ؟ فيه نزاعٌ أظنُّه
(2)
.
وقولُهم: «مَن أكَل معَ مغفورٍ غُفِرَ له»
؛ لم يُنقَلْ عنه صلى الله عليه وسلم يقظة، وإنما ذُكِر أنه رَأْيُ منامٍ رآه؛ وليس هذا على إطلاقِه صحيحًا
(3)
.
وأكْلُ الحيَّاتِ والعقاربِ
؛ حرامٌ مُجَمَعٌ عليه؛ فمَن أكَلَها مستحِلًّا؛ استُتيبَ، ومَن اعتقدَ التحريمَ وأكَلَها، فهو فاسقٌ عاصٍ للهِ ورسولِه، فكيفَ يكونُ صالحًا؟ ولو ذَكَّى الحيَّةَ كان أكْلُها بعدَ ذلك حرامًا عندَ جماهيرِ العلماءِ.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (مَن قال: إنه قال
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 32/ 211.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا أضاف
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 32/ 215.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وقولُهم: «مَن أكَل
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 32/ 207.
وأمَّا مَن يأكُلُ الحيَّةَ، ويجعلُه مِن بابِ الكراماتِ؛ فهو شرٌّ ممَّن يأكُلُها فِسْقًا؛ لأنَّ كراماتِ الأولياءِ لا تكونُ بما نهى اللهُ عنه مِن أكْلِ الخبائثِ، كما لا تكونُ بتركِ الواجباتِ.
ولا يجوزُ إعانةُ هؤلاءِ بالصدقةِ ونحوِها؛ على أن يقيموا السَّماعاتِ المحرَّمةَ، ويفعلون ما لا يُرضي اللهَ تعالى؛ من إقامةِ مشيخةٍ تخالفُ الكتابَ والسُّنَّةَ، ولا يعطَى رزقَه على مشيخةٍ جاهليةٍ تخالفُ كتابَ اللهِ، وإنما يُعانُ بالرزقِ مَن قام بطاعةِ اللهِ ورسولِه، ودعا إلى طاعةِ اللهِ ورسولِه
(1)
.
والسياحةُ في البلادِ لغيرِ مقصِدٍ مشروعٍ
كما يُعانيه بعضُ النُّسَّاكِ؛ أمرٌ منهيٌّ عنه، قال الإمامُ أحمدُ: (ليست السياحةُ من الإسلامِ في شيءٍ، ولا مِن فِعْلِ النبيِّينَ ولا الصالحينَ، وقولُه:{السائحون} المرادُ به: الصيَّامُ
(2)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وأكْلُ الحيَّاتِ والعقاربِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 11/ 609.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والسياحةُ في البلادِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 10/ 641.
فَصْلٌ فِي بَيْعِ الأُصُولِ وَالثِّمِارِ
إذا ضُمِّنَ البستانُ
؛ بحيثُ يكون الضامنُ هو الذي يزدرعُ
(1)
أرضَه، ويسقي شجرَه، كالذي يستأجرُ الأرضَ؛ فلِلْعُلماءِ في ذلك ثلاثةُ أقوالٍ:
أحدُها: أنها داخلةٌ في النَّهْيِ عن بيعِ الثمرةِ حتى يبدُوَ صلاحُها.
وعلى هذا: فمنهم من يحتالُ على ذلك بإجارةِ الأرضِ والمُساقاةِ على الشَّجرِ، كما يقولُه طائفةٌ مِن أصحابِ أبي حنيفةَ والشافعيِّ، وبعضُ أصحابِ أحمدَ منهم القاضي أبو يعلى في كتابِ «إبطالِ الحِيَلِ» ، والمنصوصُ عن أحمدَ: بطلانُ ذلكَ.
القولُ الثاني: يفرَّقُ بينَ كونِ الأرضِ كثيرةً أو قليلةً؛ فإن كانتِ الأرضُ البيضاءُ أكثرَ من الثُّلُثَينِ، والشجرُ أقلَّ من الثُّلثِ؛ جاز إجارةُ الأرضِ، ودخل فيها بيعُ الثمرِ تَبَعًا؛ وهذا قولُ مالكٍ، وفي وقْفِ الثُّلثِ قولان.
القولُ الثالثُ: جوازُ ذلك مطلقًا؛ وهذا قولُ طائفةٌ من السَّلَفِ والخَلَفِ؛ منهم ابنُ عَقيلٍ وغيرُه؛ وهو المأثورُ عن الصحابةِ، فقد روي عن عمرَ بإسنادٍ ثابتٍ:«أنه قَبَّلَ حديقةَ أُسَيدِ بنِ حُضَيرِ لما ماتَ ثلاثَ سنينَ وتسَلَّفَ القَبالةَ، ووفَّى دينَه»
(2)
، ولم ينكِرْ ذلك أحدٌ.
(1)
في (ك): يزرع.
(2)
رواه ابن أبي شيبة (23260) بلفظ: «أن أسيد بن حضير مات وعليه دين، فباع عمر ثمرة أرضه سنتين» .
وأيضًا: وضَعَ الخَراجَ على أرضِ الخَراجِ والأعيانِ
(1)
، والخَراجُ أجْرةٌ عندَ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ في المشهور.
وهذا القولُ أصحُّ الأقوالِ؛ وبه يزولُ الحَرَجُ عن المسلمِينَ، وله مأخذان:
أحدُهما: أنه لا بدَّ من إجارةِ الأرضِ، ولا يمكنُ إلا معَ الشجرِ، فجاز للحاجةِ؛ كما إذا بَدا بعضُ صلاحٍ في شجرةٍ؛ جاز بيعُ جميعِها اتفاقًا، وقد يدخُلُ من الغَرَرِ في العقودِ
(2)
ما لا يدخُلُ أصلًا؛ كأساساتِ الحِيطِ وداخله، وما يدخُلُ من الزِّيادةِ بعدَ بدوِّ الصلاحِ، وكما جاز بيعُ العرايا للحاجةِ، والمُضارَبة والمُساقاة والمُزارعة تبعاً.
المأخذُ الثاني: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيعِ الثمرةِ قبلَ البُدُوِّ في صلاحِها، والحَبِّ قبلَ اشتداد حبِّه»
(3)
، ثم إنه يجوزُ عندَ الأئمَّةِ الأربعةِ إجارةُ الأرضِ لمن يعمَلُ عليها حتى ينبُتَ الزَّرعُ، وليس ذلك بيعًا للحَبِّ.
كذلك تقبيلُ الشجرِ لمن يعملُ عليه حتى يُثْمِرَ؛ ليس هو بيعًا للثمرةِ، ألَا تَرى أن المزارعةَ على الأرضِ كالمُساقاةِ على الشجرِ! وأنَّ إعارةَ الأرضِ كإعارةِ الشجرِ! فالثمرةُ - وإن كانت أعيانًا- فإنها تَجْري
(1)
رواه عبد الرزاق (10133)، وابن أبي شيبة (21533).
(2)
أي: تبعًا، كما في أصل الفتوى في مجموع الفتاوى.
(3)
رواه أحمد (13613)، وأبو داود (3371)، والترمذي (1228)، وابن ماجه (2217)، من حديث أنس رضي الله عنه.
مَجْرى الفوائدِ والنَّفْعِ؛ لأنها يُسْتَخْلَفُ بَدَلُها، كاللبنِ في استرضاعِ الظِّئْرِ؛ لمَّا كان يُسْتَخْلَفُ بَدَلُه أُجريَ مُجْرى النفعِ، ولهذا في بابِ بيعِ الثمرِ إنما يقومُ بسَقيِها وكمالِها البائعُ.
والقَبالةُ التي فعَلها عمرُ؛ إنما يقومُ فيها بسَقيِ الشجرِ ومُؤْنةِ حصولِ الثمرِ المتصلِ هو المتقبِّلُ؛ فلا يُقاسُ هذا بهذا.
ونهيُه عن بيعِ الثمرِ حتى يبدوَ صلاحُه لم يتناوَلْ هذه القَبالةَ بلا رَيْبٍ، ثم إنْ قُدِّرَ أن الثمرةَ لم تُطْلِعْ أو تَلِفَ بعدَ إطلاعِه بدونِ تفريطِ المتقبِّلِ؛ كان بمنزلةِ تعطُّلِ المنفعةِ في الإجارةِ؛ وهو لا يستحِقُّ أجرةً إلَّا إذا تمكَّنَ المستأجرُ من الانتفاعِ.
وأما إذا كان المشترَى مجرَّدَ الثمرةِ فقط، ومُؤْنةُ السَّقْي على البائعِ، وقد أطْلَعَ الثمرُ ولم يَبْدُ صلاحُ جميعِه؛ بل نوعٌ دونَ نوعٍ؛ ففيه قولانِ: أحدُهما: يجوزُ بيعُ جميعِ البُستانِ؛ لأن في التفريقِ ضَرَرًا؛ وهو أقوى مِن الثانِي مِن أنَّه لا يجوزُ؛ وهو المشهورُ، وإذا استُثْنيَتِ العريَّةُ من المُزابنةِ للحاجةِ، فَلَأَنْ يجوزَ بيعُ النوعِ تَبَعًا لنوعٍ آخَرَ، معَ أن الحاجةَ إلى ذلك أشدُّ وأَوْلى.
ونهيُه عن بيعِ الثمرةِ حتى يبدُوَ صلاحُها، قد خُصَّ منه بيعُها تَبَعًا للشجرةِ؛ فعُلِم أنه إنما نهى عن مفردِ بيعِ الثمرةِ، كنهيِه عن الذَّهَبِ والحريرِ مفردًا، والحملُ لا يجوزُ إفرادُه، ويجوزُ تَبَعًا.
وسرُّ الشريعةِ: أن الفعلَ إذا اشتمل على مفسدةٍ مُنِعَ منه؛ إلا إذا عارَضَها مصلحةٌ راجحةٌ؛ كما في إباحةِ الميتةِ للمضطرِّ، وبيعُ الغَرَرِ نهى
عنه لأنه نوعُ مَيْسِرٍ؛ مِن كونِه أكْلَ مالٍ بالباطلِ، فإذا عارَضَه ضررٌ أعظمُ منه أباحه؛ دفعًا لأعظمِ الفسادَينِ باحتمالِ أدناهما، واللهُ أعلمُ
(1)
.
ويجوزُ بيعُ القصبِ السُّكَّرِ والجَوْزِ واللَّوْزِ في أصحِّ
قولَيِ العلماءِ، وكذلك اللفتُّ والقُلقاسُ في أصحِّ القولَينِ؛ وهو قولٌ لأحمدَ، وكذلك بيعُ المَقاثي بعروقِها، وكلُّ ذلك مِن بابِ تجويزِه للحاجةِ؛ لأن في تحريمِه فسادًا أعظمَ منه عندَ جوازِه.
ثم إن الجوائحَ توضَعُ إن تَلِفَ كالثمرةِ، والشريعةُ استقرَّتْ على أن ما يحتاجُ إلى بيعِه يجوزُ، وإن كان معدومًا؛ كالمنافعِ وأجزاءِ الثمرِ الذي لم يَبْدُ صلاحُه معَ الأصلِ، والذي بدا صلاحُه مطلقًا؛ كما استقرَّ أن ذلك يجوزُ تَبَعًا، وإن لم
(2)
يجُزْ مفردًا، ومنه ما روى مسلمٌ:«من باعَ عَبْدًا وله مالٌ، فمالُه للبائعِ إلا أن يشترِطَه المُبْتاعُ»
(3)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا ضُمِّنَ البستانُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 478.
(2)
قوله: (لم) سقط من الأصل، والمثبت من (ك).
(3)
رواه البخاري (2379)، ومسلم (1543)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجوزُ بيعُ القصبِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 484 - 490 - 492.
فَصْلٌ
ظاهرُ مذهَبِ أحمدَ:
أن ما كان متعيِّنًا بالعقدِ؛ لا يحتاجُ إلى توفيةٍ بكيلٍ أو وزنٍ ونحوِهما؛ بحيثُ يكونُ المشتري قد تمكَّنَ من قبضِه، فهو مِن ضمانِه؛ قبَضَه أو لم يقبِضْه؛ كصُبْرةٍ اشتراها جِزافًا ونحوِه؛ وهو قولُ مالكٍ.
أما عند
(1)
الشافعيِّ وأبي حنيفةَ: فإنها من ضمانِ البائعِ؛ وهو روايةٌ عن أحمدَ اختارها أبو محمدٍ.
لكنَّ الصوابَ في ذلك متنوعةٌ؛ فمذهبُ أبي حنيفةَ: لا يَدْخُلُ المبيعُ كلُّه في ضمانِ المشتري إلا بالقبضِ، إلا العَقارَ.
وعند الشافعيِّ: العقارُ وغيرُه سواءٌ؛ وهو روايةٌ عن أحمدَ.
وعن أحمد روايةٌ بالفرقِ بينَ المَكيلِ والموزونِ وغيرِهما.
وروايةٌ بالفرقِ بينَ الطعامِ وغيرِه.
وروايةٌ بينَ المطعومِ المَكيلِ الموزونِ وغيرِه.
وهذا في القبضِ عنه؛ كالرواياتِ
(2)
في الرِّبا
(3)
.
(1)
قوله: (عند) سقط من الأصل، وهو مثبت في (ك).
(2)
في النسخ الخطية: الروايات. والمثبت من مجموع الفتاوى.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ظاهرُ مذهَبِ أحمدَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 405.
وهل جوازُ التصرُّفِ والضمانِ متلازمانِ
؟ فيه نزاعٌ.
فطريقةُ القاضي أبي يَعْلى وأصحابِه والمتأخِّرينَ من أصحابِ أحمدَ معَ أبي حنيفةَ والشافعيِّ: يقولون بتلازمِ التصرفِ والضمانِ؛ فما دخل في ضمانِ المشتري جاز تصرُّفُه فيه، وما لا فلا.
وطرَد الشافعيُّ ذلك في بيعِ الثمارِ على الشَّجرِ، فلم يقُلْ بوضْعِ الجوائحِ؛ بناءً على أن المشتريَ إذا قبَضَها وجاز تصرُّفُه فيها؛ صار ضمانُها عليه.
والقولُ الثاني في مذهَبِ أحمدَ الذي ذكَره الخِرَقيُّ وغيرُه من المتقدمينَ، وعليه تدلُّ أصولُ أحمدَ: أن الضمانَ والتصرفَ لا يتلازمانِ، ولهذا كان ظاهرُ مذهبِه بوضْعِ الجوائحِ في الثمارِ، وظاهرُ مذهبهِ جواز تصرُّفِه فيها بالبيعِ وغيرِه؛ فيجوزُ تصرُّفه فيها معَ كونِ ضمانِها على البائعِ، فهي كمنافعِ الإجارةِ مضمونةٌ على المؤجِّرِ قبلَ الاستيفاءِ، فلو ماتت الدابَّةُ وتعطَّلَت المنافعُ؛ كانت من ضمانِ المؤجِّرِ؛ معَ أنه يجوزُ للمستأجرِ التصرُّفُ فيها حتى بالبيعِ في ظاهرِ المذهبِ.
ولهذا كان ظاهرُ مذهبِه في بابِ ضمانِ العقدِ: الفرقَ بينَ ما تَمكَّنَ مِن قبضِه وما لم يتمكَّنْ، ليس هو الفرقَ بينَ المقبوضِ وغيرِه؛ كما قال الخِرَقيُّ وغيرُه في بيعِ الصُّبرةِ المتعينةِ جِزافًا: تدخلُ في ضمانِ المشتري بالعقدِ، ولا يجوِّزونَ للمشتري بيعَها حتى ينقُلَها، فجازَ التصرُّفُ في الثمرةِ معَ كونِ ضمانِها على البائعِ، ومَنَعَ في الصُّبرةِ معَ كونِ ضمانِها على المشتري، فثبَت عدمُ التلازُمِ.
ولو أُعْتِقَ العبدَ المَبيعَ قبلَ قبضِه، نفَذَ عتقُه إجماعًا.
وقد تنازَعَ الناسُ في الهِبَةِ وغيرِها، وأصولُ الشريعةِ توافقُ هذه الطريقةَ؛ فليس كلُّ ما كان مضمونًا على شخصٍ جازَ له التصرفُ فيه؛ كالمغصوبِ والعاريَّةِ، وليس كلُّ ما جاز التصرُّفُ فيه كان مضمونًا على المتصرِّفِ، كالمالكِ له أن يتصرَّفَ في المغصوبِ والمُعارِ؛ فيبيعُ المغصوبَ من غاصبِه أو من يقدِرُ على تخليصِه، وإن كان مضمونًا على الغاصبِ؛ كما أن الضمانَ بالخراجِ إنما هو فيما اتَّفَقَ مِلْكًا ويدًا.
وأما إذا كان المِلْكُ لشخصٍ واليدُ لآخرَ؛ فقد يكونُ الخراجُ للمالكِ، والضمانُ على القابضِ.
ويجوزُ بيعُ الدَّينِ لمن هو عليه، وعند مالك: ولغيرِ من هو عليه، وهو روايةٌ عن أحمد، معَ أن الدَّينَ ليس مضمونًا على المالكِ.
وأيضًا: فالبائعُ إذا أمكنَ المشتريَ من القبضِ؛ فقد قَضى ما عليه.
وظاهرُ المذهبِ في الثمرةِ إذا بيعَتْ بعدَ بدُوِّ الصلاحِ؛ أنها من ضمانِ البائعِ؛ لأنَّ عليه الحفظ
(1)
إلى كمالِ الجِذاذِ، والمشتري لم يتمكَّنْ مِن جِذاذِها، ولكن جاز تمكنه به منها إذا خلَّى بينَه وبينَها، فجعل في التصرُّفِ قبضُها: التخليةُ، وجعلَ في الضمانِ قبْضُها: التمكُّنُ من الانتفاعِ، الذي هو المقصودُ بالعقدِ.
(1)
في الأصل: القبض. والمثبت من (ك) ومجموع الفتاوى.
ولغموضِ مأخذِ هذه المسائلِ كَثُر تنازُعُ الفقهاءِ فيها، وكثيرٌ منهم لم يلحَظْ فيها معنًى؛ بل يتمسَّكُ فيها بظاهرِ النصوصِ
(1)
.
أجرةُ المِثْلِ في الأرضِ المغروسةِ
؛ تُقَوَّمُ الأرضُ بيضاء لا غِراسَ فيها، لِأَنْ يُغرَسَ فيها
(2)
؛ فما بلَغ فهو أُجْرة المِثْلِ
(3)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وهل جوازُ التصرُّفِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 398.
(2)
في مجموع الفتاوى: (ثم تُقوَّمُ وفيها ذلك الغِراسُ)، مكان قوله:(لأن يُغْرَسَ فيها).
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (أجرة المِثْلِ في الأرضِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 126.
فَصْلٌ في المُصَرَّاةِ وغيرِها
لا يجوزُ بيعُ المَغْشوشِ ولا عملُه
إذا لم يُعْلَمْ قدْرُ الغشِّ، ولو أعْلَمَ المشتريَ أنه مغشوشٌ؛ لم يجُزْ بيعُه، كاللَّبَنِ المَشوبِ، والصُّوفِ المشوبِ بالمُشاقَةِ
(1)
؛ لأن المشتريَ لا يعلَمُ قدْرَ الخَلْطِ، فيبقى البيعُ مجهولًا، وكلُّ ما كان من الغِشِّ في المطاعمِ والملابسِ وغيرِها.
وقد أفتى طائفةٌ من العُلَماءِ مِن أصحابِ مالكٍ وأحمدَ وغيرِهما: أن مَن صنَعَ مثلَ هذا؛ فإنه يجوزُ أن يعاقَبَ بتمزيقِ الثَّوْبِ الذي غشَّه، والتَّصدُّقِ بالطعامِ الذي غشَّه، كما يجوزُ شَقُّ ظروفِ الخَمْرِ، وكسرُ دِنانِها، وكما أمَر عمرُ بتحريقِ مكانٍ يُباعُ فيه الخمرُ
(2)
، وقد نصَّ عليه أحمدُ وغيرُه، وكما «أمَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتحريقِ الثوبَيْنِ المُعَصْفَرَينِ» رواه مسلمٌ
(3)
، وكما حرَّق موسى العِجْلَ، ولم يُعِدْه إلى أهلِه، وكما تُكْسَرُ آلاتُ الملاهي.
(1)
قال في تاج العروس 26/ 393: (المشاقة، كثمامة: ما سقط من الشعر، أو الإبريسم والكتان والقطن عند المشط، أي: تخليصه وتسريحه، وهي المشاطة أيضًا، أو ما طار وسقط عن المشق، أو ما خلص أو ما انقطع).
(2)
رواه عبدالرزاق (10051)، عن صفية قالت: وجد عمر في بيت رجل من ثقيف خمرًا، وقد كان جلده في الخمر، فحرّق بيته، وقال:«ما اسمك؟» قال: رويشد قال: «بل أنت فويسق» .
(3)
رواه مسلم (2077)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وهذه تُبْنى على أن العقوباتِ في الأموالِ تتبعُ حيث جاءت بها الشريعةُ، كالأبدانِ يُتَّبَعُ فيها ما جاءت به الشريعةُ من العقوبة.
وادَّعى طائفةٌ أن العقوباتِ الماليةَ منسوخةٌ، ولا حُجَّةَ معهم بذلك أصلًا؛ وكما أنَّ البدنَ إذا قام به الفُجور قد يُتلَفُ، كذلك الذي قام به صَنَعةُ الفُجورِ مثلُ الصنَمِ؛ يجوزُ تلفُه وتحريقُه؛ كما حرَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الأصنامَ
(1)
.
وكذلك مَن صنَع صنعةً مُحَرَّمةً في طعامٍ أو لِباسٍ ونحوِ ذلك
(2)
.
ولا يجوزُ للدَّلَّالِ
(3)
أن يكونَ شريكًا في أن يَزيدَ مِن غيرِ عِلْمِ البائعِ؛ لأنه لا يحبُ أن يزيدَ أحدٌ عليه، فلا ينصحَ، وإذا تواطأ جماعةٌ على ذلك استحَقُّوا التعزيرَ، ومِن تعزيرِهم أن يُمْنعوا المُناداة حتى يتوبوا، وتظهرَ توبتُهم
(4)
.
وكلُّ بيعِ غَررٍ
؛ مثلُ الطائرِ في الهواءِ، والشَّارِدِ، والآبِقِ، والثَّمرةِ
(1)
نقله الأزرقي في أخبار مكة (1/ 121)، عن ابن إسحاق أنه قال:«لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يوم الفتح أمر بالأصنام التي كانت حول الكعبة كلها، فجمعت، ثم حرقت بالنار وكسرت» ، وأصل القصة في البخاري (4287)، ومسلم (1781)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (لا يجوزُ بيعُ المَغْشوشِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 362.
(3)
هو وكيل البائع في المناداة. ينظر: مجموع الفتاوى 29/ 305.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يجوزُ للدَّلَّالِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 305.
قبلَ بدُوِّ صلاحِها، وبيعِ الحَصاةِ؛ مِن المَيْسِرِ الذي حرَّمه اللهُ في القرآنِ؛ لأنه إنْ قُدِرَ عليه كان المشتري قد قَمَرَ البائعَ؛ حيث أخَذ مالَه بدونِ قيمتِه، وإن لم يُقْدَرْ عليه؛ كان البائعُ قد قَمَرَ المشتريَ، وفي كلٍّ منهما أكْلُ مالٍ بالباطلِ؛ فهو قِمارٌ.
ومنه: أن يبيعَه ما في
(1)
بطنِ الدابَّةِ ونحوِه.
ويجوزُ بيعُ العَرِيَّة لحاجةِ البائعِ إلى البيع؛ كما قد بُسِطَ
(2)
.
إذا أنْزَى على بهائمِه فَحْلَ غيرِه
؛ فالنتاجُ له، ولكن إذا كان ظالمًا في الإنزاءِ؛ بحيثُ يضُرُّ بالفحْلِ المُنْزَى؛ فعليه ضمانُ ما نقَصَ لصاحبِه، فإنْ لم
(3)
يعرِفْ له صاحبًا؛ تصدَّقَ عنه، وأما إن كان لا يضرُّه؛ فلا قيمةَ له
(4)
.
إذا مات ربُّ المال في المُضارَبةِ
؛ انفسخَتْ، ثم إذا علِمَ العاملُ بموتِه وتصرَّفَ بغيرِ إذن؛ فهو غاصبٌ.
وقد اختلَف العلماءُ في الرِّبْحِ: هل هو للمالكِ فقط كنماءِ الأعيانِ؟ أو للعامِلِ فقط لأن عليه الضمانَ؟ أو يتصدَّقانِ به؛ لأنه رِبْحٌ خبيثٌ؟ أو
(1)
قوله: (في) سقطت من الأصل و (ك) و (ع)، والمثبت من (ز).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وكلُّ بيعٍ غَرر
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 426.
(3)
قوله: (لم) سقط من الأصل، والمثبت من (ك) ومجموع الفتاوى.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا أنْزَى على
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 320.
يكونُ بينَهما؟
على أربعةِ أقوالٍ؛ أصحُّها الرابعُ؛ وبه حكَم أميرُ المؤمنينَ عمرُ؛ فيما أخَذه بنوه من مال بيتِ المالِ، فاتَّجَروا فيه بغيرِ استحقاقٍ؛ فجعله مُضارَبةً
(1)
، وعليه اعتمد الفقهاءُ في بابِ المضاربةِ؛ لأن الرِّبْحَ نماءٌ حصَل من منفعةِ بدَنِ هذا ومالِ هذا، فكانَ بينَهما
(2)
.
فَصْلٌ
إذا أعطى لدَلَّال شيئاً
من قِماشٍ يبيعُه ويختِمُه؛ فما وجد الختَّامَ، فأودعه عندَ شخصٍ أمينٍ عادتُهم يودِعون عندَه، فعَدِمَ منه شيءٌ: فإذا كان عادتُهم أن يودِعوه، وأصحابُ القِماشِ يعلمون ذلك ويُقِرُّونهم عليه؛ فلا ضمانَ على الدَّلَّالِين.
وأما إنْ كان الدَّلَّالُ فرَّطَ بحيث فعلَ ما لم يؤذَنْ له فيه لفظًا ولا عُرْفًا؛ ضَمِنَ
(3)
.
ومن أُودِعَ وديعةً فحفِظَها
عندَ مالِه؛ فسُرِقَتْ دونَ مالِه؛ فيكون
(1)
رواه مالك (2/ 687)، والشافعي في المسند من طريقه (ص 252)، والبيهقي في الكبرى من طريقهما (11605)، عن زيد بن أسلم عن أبيه.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا مات ربُّ المال
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 86.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا أعطى لدَّلال شيئاً
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 389.
ضامنًا للوديعةِ في أحدِ قولَيِ العلماءِ؛ هما روايتانِ؛ فإنَّ عمرَ ضمَّنَ أنسَ بنَ مالكٍ وديعةً ادعى أنها ذهبت دونَ مالِه
(1)
.
وأمَّا إن ادَّعى أنها ذهبت معَ مالِه، ثم ظهر أن مالَه لم يذهبْ، بل باعه أو نحوَه؛ فهنا أوْكَدُ أن يضمَنَ.
فإذا ادَّعى صاحبُها أنه طلَبها فلم يُسَلِّمْها، أو أنه خان فيها؛ كان قولُه معَ يمينِه أقوى وأوكَدَ؛ بل يستحقُّ المودَعُ التعزيرَ على كذبِه.
وإن كان من أهلِ الذمَّةِ، فشَهِدَ عليه مِن أهلِ دينِه المقبولين عندَهم؛ قُبِلَتْ شهادتُهم في أحدِ قولَيِ العلماءِ؛ هما روايتانِ، وقَبولُ شهادتِهم هنا أوْكَدُ، ومن لم يقبلْ شهادتَهم فإنه يَحْكُمُ بيمينِ المدَّعي عليه؛ لظهورِ رُجْحانِ قولِ المدَّعي في أحد قولَيْهم أيضًا.
وأما مَن كان من أهلِ الذمَّةِ يُؤوي أهلَ الحربِ ويعاوِنُهم على المسلمِينَ؛ فقد انتقض عهدُه، وحَلَّ مالُه ودمُه
(2)
.
وإذا أوْدَعَ رجلٌ شخصًا مالًا
يُوصِّلُه إذا مات لأولادِه، فمات وترك غيرَ أولادِه ورثةً أُخَرَ، فإذا كان هذا المالُ للمودِعِ؛ وجَب أن يُوصلَه، إلى كلِّ وارثٍ حقَّه؛ سواءٌ خصَّ به المالكُ أولادَه أو لا، وليس للمستودَعِ أن يخُصَّ به بعضَ الورثةِ إلا بإجازةِ الباقينَ، ولو صرَّح له
(1)
رواه ابن أبي شيبة (21454).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن أودع وديعةً
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 396.
المالكُ بالتخصيصِ؛ فلا يجوزُ له، ويَحفَظُ نصيبَ هؤلاءِ الصغارِ.
فإن كان في البلدِ حاكمٌ عالمٌ عادلٌ قادرٌ يحفظُ هذا المالَ لهم؛ سُلِّمَ إليه.
وإن لم يجِدْ من يحفظُه؛ أبْقاه بيدِه يتَّجِرُ فيه بالمعروفِ، والرِّبْحُ لليتيمِ، وأجْرُه على الله تعالى
(1)
.
ويجوزُ صرفُ مالِ الأسيرِ
في فِكاكِه بلا إذنِه
(2)
.
والمالُ الموصَى به في يدِ الناظرِ فيه
؛ أمانةٌ يجبُ عليه حفظُه حيث يَحفَظُ الأماناتِ، ولا يودِعُه إلَّا لحاجةٍ.
فإن أوْدَعه عندَ من يغلِبُ على الظنِّ حفظُه؛ كالحاكمِ العادلِ إن وُجِدَ أو غيرِه؛ بحيثُ لا يكونُ في إيداعِه تفريطٌ؛ فلا ضمانَ عليه.
وإن أودعه لخائنٍ أو عاجزٍ معَ إمكانِه ألَّا يفعلَ؛ فهو مُفَرِّطٌ.
وأما المودَعُ إذا لم يعلمْ أنه وديعةٌ؛ ففي تضمينِه قولانِ؛ هما روايتانِ؛ أظهرُهما: لا ضمانَ عليه.
وما حصَل على التَّرِكةِ بسببِ ظلمٍ أو غير ظلمٍ من المغارمِ؛ فهو على المالِ جميعِه.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا أوْدَعَ رجلٌ شخصًا
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 392.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجوزُ صرفُ مالِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 305.
وإذا غُصِبَتِ الوديعةُ؛ فللناظرِ المطالبةُ بها، وللمودَعِ أيضًا في غيبتِه.
وإذا مات المودَعُ ولم يُعلمْ حالُ الوديعةِ؛ هل أُخِذت أو أخذها أو تلِفَتْ؛ فإنها تكون دَينًا على تركتِه في أظهرِ قولَيِ العلماءِ، كأبي حنيفةَ ومالكٍ وأحمدَ وظاهرِ نصِّ الشافعيِّ، تؤخَذُ من مالِه.
فإن لم يكُنْ له مالٌ سوى الوقفِ؛ ففيه نزاعٌ مشهورٌ في وقْفِ المدينِ الذي أحاط الدَّينُ بمالِه.
وكذلك الوقفُ الذي لم يخرُجْ عن يدِه حتى مات؛ فإنه يبطُلُ في أحدِ قَوْلي العلماء؛ مالكٍ وأحدِ القولَينِ لأحمدَ وأبي حنيفةَ.
وإن كان الوقفُ قد صحَّ ولزِمَ وله مستحقُّون، ولم يكُنْ صاحبُ الدَّينِ يتناولُه الوقفُ؛ لم يمكنْ وفاءَ الدَّينِ من ذلك؛ لكن إن كان ممن تناوَلَه الوقفُ، مثلُ أن يكونَ على الفقراءِ وصاحبُ الدَّينِ فقيرٌ؛ فلا رَيْبَ أن الصرفَ إلى هذا الفقيرِ الذي له دَينٌ على الوقفِ أَوْلى من الصرفِ إلى غيرِه
(1)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والمالُ الموصَى به في يدِ الناظرِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 390.
فَصْلٌ
في رجلٍ أسْلَمَ مائةً على حريرٍ
، فلما حلَّ لم يكُنْ عندَه ما يوفيه، فقال ربُّ الدَّينِ: اشْتَر منِّي هذا الحريرَ، وأحضِرْ حريرًا إلى أجلٍ بمائةٍ وخمسينَ، ثم قال: وفِّني هذا الحريرَ عن السَّلَفِ الذي لي عندَك: فهو حرامٌ رِبًا، وهذا المُرْبي لا يستحقُّ في ذِمَمِ الناسِ إلا ما أعطاهم أو نظيرَه.
فأما الزِّياداتُ؛ فلا، لكن ما قبَضَه قبلَ ذلك بتأويلٍ؛ يُعْفى عنه، وأما ما بقِيَ في الذِّمَمِ فهو ساقطٌ؛ لقولِه تعالى:{وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} ، واللهُ أعلمُ
(1)
.
إذا أسْلَفَ في حِنطةٍ
؛ فاعتاضَ عنها شعيرًا، ففيه قولانِ؛ هما روايتانِ؛ أصحُّهما: الجوازُ إذا كان بسِعْرِ الوقتِ أو أقلَّ؛ وهو مرويٌّ عن ابنِ عبَّاسٍ
(2)
.
ومن باع قمحًا إلى أجلٍ بدراهمَ
؛ فلا يجوزُ أن يَعتاضَ عنه بما يجري فيه الرِّبا؛ في قولِ مالكٍ والمشهورِ عن أحمدَ.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (في رجلٍ أسْلَمَ مائةَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 435.
(2)
رواه عبدالرزاق (14120) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إذا أسلفت في طعام فحلَّ الأجل، فلم تجد طعامًا؛ فخذ منه عرضًا بأنقص، ولا تربح عليه مرتين» .
وينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا أسْلَفَ في حِنطةٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 518.
وقال بعضُ أصحابِه: يجوزُ؛ وهو قولُ الشافعيِّ وأبي حنيفةَ
(1)
.
ومن باع عَقارًا ثم خرَجَ مستحَقًّا
، وكان المشتري عالمًا؛ ضمِنَ المنفعةَ؛ سواءٌ انتفع بها أو لا، وإن لم يعلمْ؛ فقرارُ الضمانِ على البائعِ الظالمِ.
وإذا انتُزِعَ المبيعُ من يدِ المشتري، وأُخِذت منه الأجرةُ وهو مغرورٌ؛ رجع بذلك على البائعِ الغَارِّ له
(2)
.
وإذا أُسِرت المرأةُ ولها مِلْكٌ
، فرَهَنه أخوها أو زوجُها حتى يخلِّصَها؛ فلا شيءَ عليهم، فلو وجَدها قد خُلِّصَت، أعاد إليها ما قبَضَه، ويُفَكُّ الرهنُ عن مِلْكِها
(3)
.
ومَن أخَذ من تاجرٍ مالًا
، وامتَنع من إعطائِه؛ جاز ضرْبُه حتى يؤدِّيَ المالَ.
ومَن غَيَّبَ المالَ وجحَد موضعَه؛ ضُرِبَ حتى يدلَّ على موضعِه
(4)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن باع قمحًا
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 450.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن باع عَقارًا
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 389.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا أُسِرت المرأةُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 540.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن أخَذ من تاجرٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 243، والفتاوى الكبرى 3/ 526.
وكلُّ مَن عليه حقٌّ لا يوفِّيه مَطْلًا
؛ جاز عقوبتُه حتى يوفِّيَه بضربٍ مرةً بعدَ أخرى.
ومنهم من قال: كلَّ مرةٍ تسعةً وثلاثين، ومنهم من لم يُقَدِّرْه.
وله أن يعاقبَه حتى يتولَّى هو توفيتَه، فليس على الحاكمِ ذلك، وإن كان يجوزُ له بيعُ مالِه ووفاءُ دَينِه؛ لكن متى رأى أن يُلْزِمَه البيعَ؛ إما لشغلهِ عنه، وإمَّا لخوفِ مفسَدةٍ، أو رَدْعِه؛ جاز له ذلك
(1)
.
ومَن عليه مالٌ ولم يُوَفِّه
حتى شُكِيَ وغَرِمَ عليه مالًا، وكان الذي عليه الحقُّ قادرًا على الوفاءِ، ومَطَلَ حتى أحْوَجَ مالكَه إلى الشَّكْوى؛ فما غَرِمَ بسببِ ذلك فهو على الظالمِ الماطلِ؛ إذا كان غَرِمَه على الوجهِ المعتادِ
(2)
.
ومن حُبِسَ بدَينٍ
وله رهنٌ لا وفاءَ له من غيره؛ وجَب على ربِّ الدَّينِ إمهالُه حتى يبيعَه، فإن كان في بيعِه وهو في الحبْسِ ضررٌ؛ وجَب إخراجُه ليبيعَه، ويُضمنُ عليه، أو يمشي معَه، أو وكيلُه
(3)
.
ومَن عليه دَينٌ وله مِلْكٌ
لم يمكن بيعُه إلا بدونِ ثمنِ المثلِ المعتادِ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وكلُّ مَن عليه حقٌّ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 22.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن عليه مالٌ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 24.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن حُبِسَ بدَينٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 25.
غالبًا في ذلك البلدِ؛ لم يَجِبْ بيعُه، ويَلْزَمُ الغريمَ إنظارُه إلى ميسرةٍ؛ إلا أن تكونَ العادةُ تغيَّرت تغيُّرًا مستقرًّا، فيكونَ حينئذٍ ثمنُ المثلِ قد نقَص، فيباعُ بثمنِ المثلِ المستقرِّ، وله أن يطلُبَ منه كلَّ وقتٍ ما يقدِرُ عليه؛ وهو التَّقسيطُ
(1)
.
ومن هَرَب وعندَه أماناتٌ لا يُعرَفُ حالُها
، وكان عليها علامةٌ مِن اسمِ كلِّ واحدٍ على متاعِه؛ عُمِلَ بذلك.
وإن تعذَّرَ ذلك كلُّه؛ أُقْرِعَ بينَ المُدَّعينَ، فمن خرجتْ قرعتُه على عينٍ أخَذَها معَ يمينِه، ومن عَلِمَ حقَّه ببيِّنةٍ أخَذه
(2)
.
وإذا حبَست زوجَها على كِسْوَتِها
وكان مُعْسِرًا؛ فلا نفقةَ لها أيامَ حبسِه؛ لأنها منعتْه ظلمًا، وإن كان مماطلًا معَ قدرتِه وهي باذلةٌ نفْسَها؛ فعليه نفقتُها
(3)
.
ومن أعطى رجلًا مالًا قِراضًا
، ثم ظهر عليه دينٌ قبل القِراضِ؛ فلا يجوزُ أن يوفِّيَ الدَّينَ مِن مالِ القِراضِ؛ إلا أن يختارَ ربُّ المالِ، وإذا ادَّعى ما يمكنُ في العادةِ؛ من نقصِ القِراضِ أو عدمِه؛ فالقولُ قولُه معَ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن عليه دَينٌ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 25.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن هَرَب وعندَه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 26.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا حبَست زوجَها
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 97.
يمينِه، وإن ادَّعى ما يخالفُ العادةَ؛ لم يُقْبَلْ بمجرَّدِ قولِه
(1)
.
ومن ادُّعيَ عليه حقٌّ
، فطلَب أن يُعْقَدَ في الترسيمِ
(2)
حتى يبيعَ مالَه ويوفِّيَ؛ وجَب تمكينُه، ولم يجُزْ حبسُه الحاجزَ له عن ذلك؛ وهذا باتِّفاقِ المسلمِينَ
(3)
.
وكذلك إن أمكَنَه أن يحتالَ لوفاءِ دينِه باقتراضٍ
، أُمْهِلَ بقدرِ ذلك، ولم يجُزْ منعُه من ذلك بحبسِه
(4)
.
والحالُّ لا يتأجَّلُ
، وقيلَ: بلى، وقيلَ: في المعاوضاتِ يتأجَّلُ دونَ التبرُّعاتِ، والثلاثةُ لأحمدَ.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن أعطى رجلًا
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 88.
(2)
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 35/ 399: (تنازع العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم: هل يتخذ الإمام حبسًا؟ على قولين. فمن قال: لا يتخذ حبسًا؛ قال: يعوقه بمكان من الأمكنة، أو يقام عليه حافظ، وهو الذي يسمى: الترسيم
…
).
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن ادُّعيَ عليه حقٌّ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 34.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وكذلك إن أمكَنَه أن
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 31.
فَصْلٌ في الحَجْرِ
إذا تزوَّجتِ المرأةُ
لم يَجِبْ عليها طاعةُ أبيها ولا أمِّها في فِراقِ زوجِها، ولا في زيارتِهم، ونحوِ ذلك
(1)
؛ بل طاعةُ زوجِها إذا لم يأمُرْها بمعصيةٍ أحقُّ من طاعتِهما، و «أيُّما امرأةٍ ماتت وزوجُها راضٍ عنها؛ دخَلَتِ الجنَّةَ»
(2)
.
وإذا أرادتِ الأمُّ التفريقَ بينَ ابنتِها وزوجِها؛ فهي من جِنْسِ هاروتَ وماروتَ؛ لا طاعةَ لها ولو دعَتْ عليها، اللهُمَّ إلا أن يكونَا مجتمعين على معصيةِ اللهِ، أو يكونَ أمرُه للبنتِ بمعصيةِ اللهِ، والأم تأمرُها بطاعةِ اللهِ ورسولِه الواجبةِ على كلِّ مسلمِ
(3)
.
ومن تزوَّجَ امرأةً
، وبعدَ مدَّةٍ جاء والدُها فطلب منه شيئًا لمصلحتِها، فقال: أنا تحتَ الحَجْرِ، فلا يُقْبَلُ قولُه؛ بل الأصلُ صحةُ التصرفِ،
(1)
قوله: (ونحو ذلك) طمس في الأصل، وسقط من (ك).
(2)
رواه الترمذي (1161)، وابن ماجه (1854)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(3)
من قوله: (دخلت الجنة) إلى هنا غير واضح من الأصل، والمثبت من (ك) ومجموع الفتاوى.
وقوله: (أو يكون أمرُه للبنتِ بمعصيةِ اللهِ، والأم تأمرها بطاعة الله ورسوله الواجبة على كل مسلم)، هو في (ك):(أو تكون أمرت البنت بطاعة الله ورسوله، وطاعة الله واجبة على كل مسلم، واللهُ أعلمُ).
وينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا تزوَّجتْ المرأةُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 33/ 113.
وعدمُ الحَجْرِ حتى يثبُتَ
(1)
.
ومن كان تحتَ حَجْرِ أبيه
(2)
فله عليه اليمينُ أنه لا يعلمُ رشدَه، إذا طُلِبَ ذلك، ولم يُقِمْ بيِّنةً، وإن أقام بيِّنةً برُشْدِه، فُكَّ عنه الحَجْرُ، وإن لم يعترِفْ به أبوه.
ومن قال لزوجتِه:
إن أبرأتيني فأنتِ طالقٌ، فأبرأتْه، وليست تحتَ الحجرِ، ولا لها أبٌ، ثم ادَّعَتِ السَّفَهَ ليسقُطَ الإبراءُ؛ لم تُقْبَلْ دعواها، ولو قامت بينة أنها سفيهةٌ ولم تكُنْ تحتَ الحجرِ، لم يبطُلِ الإبراءُ بذلك، وإن كانت هي المتصرفةَ لنفْسِها
(3)
.
ومن ثبَتَ أنه ضامنٌ
بإقرارٍ أو بيِّنةٍ أو خطِّهِ؛ لَزِمَه ما ضَمِنه، فإن ادَّعى أنه كان تحتَ الحَجْرِ؛ لم يُقْبَلْ بمجرَّدِه، ولو قال: إن المضمونَ له يعلمُ ذلك؛ فله إحلافُه، وكذا لو ادَّعى الإكراهَ
(4)
.
وإذا مات الوصيُّ
، ولم يعلَمْ أن مالَ اليتيمِ قد ذهب بغيرِ تفريطٍ؛ فهو في تَرِكَتِه؛ لكن هل هو دَينٌ يُحاصُّ به الغرماءُ أم أمانةٌ يقدمُ به؟ فيه نزاعٌ
(5)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن تزوَّجَ امرأةً
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 45.
(2)
في الأصل: ابنه. والمثبت من (ك).
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن قال لزوجتِه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 32/ 285.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن ثبَتَ أنه ضامنٌ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 551.
(5)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا مات الوصيُّ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 329.
فَصْلٌ في الصلحِ
ومن شارَك كافرًا في بناءٍ
؛ فليس له رفعُ ذلك على بناءِ المسلمِينَ، وإن أرادَ ذلك، واستخدم الكافرَ أو شارَكَه، وقصَد بِجاهِ الإسلامِ رفْعَه؛ فقد بَخَسَ الإسلامَ، واستحقَّ أن يُهانَ الإهانةَ الإسلاميةَ
(1)
.
ويجوزُ أن يبنيَ مَن وقف المسجدَ
خارجَ المسجدِ بيتًا ينتفعُ به أهلُ الاستحقاقِ لريعِ الوقفِ القائمينَ بمصلحتِه
(2)
.
ويجوزُ أن يَعمَلَ ما كان مصلحةً للمسجدِ وأهلِه
؛ من تغييرِ العِمارةِ من صورةٍ إلى صورةٍ، ونحوِ ذلك
(3)
، مثلُ أن يعمل في مصيفه مكانًا للوضوءِ، ولا محذورَ فيه؛ فإن الوضوءَ في المسجدِ جائزٌ؛ بل لا يُكْرهُ عندَ الجمهورِ
(4)
.
وليس لأحدٍ التحجيرُ
على مقبرةِ المسلمِينَ؛ ليختصَّ بموضعٍ، ولا
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن شارَك كافرًا
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 12.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجوزُ أن يبنيَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 285، الفتاوى الكبرى 4/ 281.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجوزُ أن يَعمَلَ ما كان
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 209، الفتاوى الكبرى 4/ 357.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (مثلُ أن يعمل
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 208، الفتاوى الكبرى 4/ 358.
بناءُ حائطٍ ونحوه
(1)
.
ما لا تقومُ العمارةُ
إلا بهم من العُمَّالِ والحُسَّابِ، فهم من العِمارةِ
(2)
.
ولا يجوزُ بيعُ شيءٍ من طريقِ المسلمِينَ
؛ سواءٌ كانت واسعةً أو ضيقةً
(3)
.
وإذا صالح على بعضِ الحقِّ
خوفًا من ذَهابِ جميعِه؛ فهو مُكْرَهٌ لا يصحُّ صلحُه، وله أن يطالبَه بالحقِّ بعدَ ذلك إذا أقرَّ به أو ثبَتَ ببينةٍ
(4)
.
وإذا لم يَبْقَ من أهلِ الذمَّةِ
في القريةِ أحدٌ؛ بل ماتوا أو أسْلَموا؛ جاز أن تُتَّخَذَ البِيَعةُ مسجدًا؛ لا سيَّما إن كانت ببرِ الشَّامِ؛ فإنه فُتِحَ عَنْوةً
(5)
.
لا يجوزُ لأحدٍ أن يُخْرِجُ في طريقِ المسلمِينَ
شيئًا من أجزاءِ البناءِ؛
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وليس لأحدٍ التحجيرُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 263، الفتاوى الكبرى 4/ 364.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ما لا تقومُ العمارةُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 210، الفتاوى الكبرى 4/ 358.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يجوزُ بيعُ شيءٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 7.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا صالح على بعضِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 72.
(5)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا لم يَبْقَ من أهلِ الذمَّةِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 256، الفتاوى الكبرى 4/ 280.
حتى إنه يُنهى عن تجصيصِ الحائطِ، إلا أن يدخُلَ في حدِّه بقدْرِ غلظِ الجَصِّ
(1)
.
ولا يجوزُ قسمةُ الوقفِ
إذا كان على جهةٍ واحدةٍ اتفاقًا، وقد صرَّح طائفةٌ في قسمةِ الوقفِ بوجهَينِ، وصرَّحوا بأن الوقفَ إنما يُقسَمُ إذا كان على جهتَينِ
(2)
.
وليس لأحدٍ اتخاذُ المسجدِ طريقًا
(3)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (لا يجوزُ لأحدٍ أن يُخْرِجُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 10.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يجوزُ قسمةُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 196، الفتاوى الكبرى 4/ 350.
(3)
ينظر أصل الفتوى في قوله: (وليس لأحدٍ اتخاذُ المسجدِ طريقًا) في مجموع الفتاوى 22/ 193، الفتاوى الكبرى 2/ 80.
فَصْلٌ فِي الضَّمَانِ
إذا تعدَّى المضمونُ
فهَرَب معَ قدرتِه على الوفاءِ؛ فما لَزِمَ الضامنَ من غرامةِ؛ فله أن يرجِعَ بذلك على المضمونِ الذي ظلَمه؛ إذا كان ما غَرِمه بالمعروفِ ضمانَ ما لم يَجِبْ
(1)
.
وضمانُ المجهولِ جائزٌ
عندَ جمهورِ العلماءِ؛ كمالكٍ وأبي حنيفةَ وأحمدَ، ولا يجوزُ عندَ الشافعيِّ.
ويجوزُ للكاتبِ والشاهدِ أن يكتُبَه ويَشْهَدَ عليه؛ ولو لم يَرَ جوازَه؛ لأنه من مسائلِ الاجتهادِ، ووليُّ الأمرِ يحكُمُ بما يراه من القولَينِ
(2)
.
وإذا كان على الولدِ مال فتغيَّبَ
؛ فلا يُطلَبُ به والدُه إذا لم يكُنْ ضامنَه، ولا له عندَه مالٌ؛ لكن إن أمكنه معاونةُ صاحبِ الحقِّ على إحضارِ ولدِه بالتعريفِ بمكانه ونحوِه؛ لَزِمَه ذلك، وإلا فلا شيءَ عليه
(3)
.
ومن سلَّم غريمَه إلى السجَّانِ
ففَرَّطَ فيه حتى هَرَب؛ فالسجَّانُ ونحوُه
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا تعدَّى المضمونُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 550.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وضمانُ المجهولِ جائزٌ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 549.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا كان على الولدِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 551.
ممن هو وكيلٌ على بدنِ الغريمِ بمنزلةِ الكفيلِ؛ يتوجَّهُ عليه إحضارُه، فإن تعذَّرَ؛ ضَمِنَ ما عليه عندَنا وعندَ مالكٍ
(1)
.
وإذا سلَّمَ الكفيلُ الغريمَ
وهو في حبسِ الشَّرعِ؛ بَرِئَ، ولا يلزمُه إخراجُه من الحبسِ وتسليمُه إلى المكفول له؛ بل يكفي تسليمُه وهو في الحبسِ
(2)
.
ومن كان في يدِه دوابُّ لغيرِه
- من راعٍ وغيرِه-، فحصل مرضٌ وخاف موتَها؛ فله ذَبْحُها، ولا شيءَ عليه؛ فإنَّ ذَبْحَها خيرٌ من تركِها حتى تموتَ، وقد فعَل مثلَ هذا راعٍ على عهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ولم ينكِرْ عليه، ولا بيَّنَ أنه ضامنٌ
(3)
، وهو نظيرُ خرقِ صاحبِ موسى السفينةَ لينتفع بها أهلُها مرقوعةً، خيرٌ مِن ذَهابِها بالكليَّةِ.
ومثلُه لو رأى الرجلُ مالَ أخيه يتلَفُ بمثلِ هذا، فأصْلَحه بحسَبِ الإمكانِ؛ كان مأجورًا عليه، وإن نقَصَت قيمتُه؛ فناقصٌ خيرٌ من تالِفٍ،
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن سلَّم غريمَه إلى السجَّانِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 557.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا سلَّمَ الكفيلُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 554.
(3)
روى أحمد (23647)، وأبو داود (2823)، عن رجل من بني حارثة:«أنه كان يرعى لِقحةً بشِعبٍ من شعاب أُحُد، فأخذها الموت فلم يجد شيئًا ينحرها به، فأخذ وتدًا فوجأ به في لبَّتها حتى أهريق دمها، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فأمره بأكلها» ، ورواه النسائي (4402) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
فكيفَ إذا كان مؤتمنًا كالراعي والمُسْتكري ونحوِه؟!
(1)
ومن كانوا مماليكَ لرجلٍ
نَجِسٍ يمنعُهم من طاعةِ اللهِ، ويُكْرِهُهم على معصيتِه، ويطلبون البيعَ، فيَضْرِبُهم، فهرَبوا منه؛ فلا شيءَ عليهم؛ بل الواجبُ عليهم ذلك، وقد أحْسَنوا، فلا حُرمةَ لمن يكونُ كذلك لو كان في طاعةِ المسلمِينَ، فكيفَ إذا كان في طاعةِ التتر؟! فإنه يجبُ قتالُه وإن كان مُسْلِمًا، وهؤلاءِ المهاجرون الذينَ فرُّوا بأنفْسِهم قد أحسنوا، والعبدُ إذا هاجَر من أرضِ الحربِ فهو حُرٌّ
(2)
.
ومن دخَل إلى زرعه دوابُّ غيرِه
، فله إخراجُها بأسهلِ ما يمكنُ، فإذا أمكن إخراجُها بغيرِ العَرْقَبةِ
(3)
، فعَرْقَبها؛ عُزِّرَ على تعذيبِ الحيوانِ بغيرِ حقٍّ، وعلى العدوانِ على أموالِ الناسِ، وضَمِنَ بدَلَها لمالكِها.
وعلى أهلِ الزرعِ حفْظُ زرعِهم نهارًا، وعلى أهلِ المواشي حفْظُ دوابِّهم ليلًا؛ كما أمر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن كان في يدِه دوابُّ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 254.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن كانوا مماليكَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 385.
(3)
قال في النهاية 3/ 221: (لا تعرقبها: أي لا تقطع عرقوبها، وهو الوتر الذي خلف الكعبين بين مفصل القدم والساق من ذوات الأربع، وهو من الإنسان فويق العقب).
(4)
رواه أحمد (18606)، وأبوداود (3569)، وابن ماجه (2332) من حديث محيصة بن مسعود رضي الله عنه.
وينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن دخَل إلى زرعه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 377.
كمن ربَط جَمَلَه في الرَّبيعِ جنب جَمَلِ غيرِه
، فتفلَّتَ عليه فقتَلَه؛ فإن كان فرَّطَ في ربْطِه فربطه بقيدٍ ضعيفٍ؛ فعليه ضمانُ ما أتْلَفه من جَمَل غيره، وإلا فلا
(1)
.
ومن شارَك ببدنِه ومالِ صاحبِه
، وتَلِف المالُ أو بعضُه بغيرِ عدوانٍ من صاحبِ البدنِ العاملِ؛ فلا ضمانَ عليه من المالِ؛ سواءٌ كانت المضاربةُ صحيحةً أو فاسدةً؛ باتِّفاقِ العلماءِ
(2)
.
ومن اتُّهِم بقتيلٍ
، فأُحْضِر إلى النائبِ وألْزَموه بعقابِه، وضمنوا دمَه، فعُوقِبَ حتى مات، ولم يُقِرَّ بشيءٍ، ولا ظهَر عليه شيءٌ؛ لزِمَهم ضمانُ دمِه؛ بل يُعاقَبون كما عوقِبَ؛ كما رَوى أبو داودَ في السننِ عن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ أنه قضى نحو ذلك
(3)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (كمن ربَط جَمَلَه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 380.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن شارَك ببدنِه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 82.
(3)
روى أبو داود (4382)، أن قومًا من الكلاعيين سرق لهم متاع، فاتهموا أناسًا من الحاكة، فأتوا النعمان بن بشير صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فحبسهم أيامًا ثم خلى سبيلهم، فأتوا النعمان، فقالوا: خليت سبيلهم بغير ضرب ولا امتحان، فقال النعمان:«ما شئتم؟! إن شئتم أن أضربهم فإن خرج متاعكم فذاك، وإلا أخذت من ظهوركم مثل ما أخذت من ظهورهم» ، فقالوا: هذا حكمك؟ فقال: «هذا حكم الله، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم» .
وينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن اتُّهِم بقتيلٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 174، والفتاوى الكبرى 3/ 409.
فَصْلٌ
يجِبُ أن يُولَّى في المساجدِ
الأحقُّ شرعًا؛ وهو الأقْرأُ لكتابِ اللهِ، الأعلمُ بسنَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، الأسبقُ إلى الأعمالِ الصالحةِ؛ مثلُ أن يكونَ أسبقَ إلى هجرةٍ أو أقدمَ سِنًّا، فكيفَ إذا كان الأحقُّ هو المتولِّيَ؟ فلا يجوزُ عزلُه باتِّفاقِ العلماءِ
(1)
.
وللشريكِ إلزامُ شريكِه
بالقِسمةِ إن كان المكانُ مما يقسَمُ بلا ضررٍ، وإن كان فيه ضررٌ؛ فله المطالبةُ ببيعِ الجميعِ ليقتَسِما الثمنَ.
ومن شهِد على بيعٍ ظُلْمٍ
يعلمُ أنه ظلمٌ، فشهِد معونةً على ذلك؛ فقد أعان على الإثمِ؛ بل قد صحَّ عن رسول صلى الله عليه وسلم:«أنه لعَن آكِلَ الرِّبا، وموكِلَه، وشاهدَيه، وكاتبَه»
(2)
، وقال:«إني لا أَشْهَدُ على جَوْرٍ»
(3)
، فمن فعل ذلك مُصِرًّا عليه؛ قُدِحَ في عدالتِه
(4)
.
إذا مات الوصيُّ ولم يُعلَمْ مالُ اليتيم
، ففيه ثلاثةُ أقوالٍ:
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (يجِبُ أن يُولَّى في المساجدِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 94، الفتاوى الكبرى 4/ 289.
(2)
رواه مسلم (1598)، من حديث جابر رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (2650)، ومسلم (1623)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وللشريكِ إلزامُ شريكِه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 235.
أحدُها: يُقْسَمُ بينَهما؛ وهو قولُ أبي حنيفةَ.
والثاني: يوقفُ الأمرُ حتى يصطلِحا؛ كقولِ الشافعيِّ.
والثالثُ مذهَبُ أحمدَ: يُقْرَعُ بينَهما، فمن قرعَ حلَف وأخَذَ؛ لما رَوى أبو داودَ: أن رجلَينِ اختَصَما في متاعٍ ولا بيَّنةَ لواحدٍ منهما، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«استَهِما عليه»
(1)
.
وإذا طلَب الشريكُ أن يؤاجروا العينَ
ويقتسموا الأجرةَ، أو أن يهايئُوه بقسْمِ المنفعةِ؛ وجَب على الشُّركاء إجابتُه إلى أحدِ الأمرَينِ، وليس لهم الغلق
(2)
؛ وهو قولُ مالكٍ وأحمدَ وأبي حنيفةَ، ويجبُ على الشَّريكِ أن يُعَمِّرَ معَ شريكِه في أصحِّ قولي العلماءِ
(3)
.
فإن أجابوه إلى المُهايَأَةِ، وطلَبوا تطويلَ الدَّورِ الذي يأخذُ فيه نصيبَه، وطلب هو تقصيرُه؛ وجبت إجابتُه دونَهم؛ فإن المهايأةَ فيها
(1)
رواه أبو داود (3616)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأصله في البخاري (2674).
وينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا مات الوصيُّ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 327، والفتاوى الكبرى 4/ 383.
(2)
أي: أن يغلق الشريك الدار، قال شيخ الإسلام في أصل الفتوى:(وليس له أن يغلقها؛ بل يكري على جميع الشركاء إذا طلب بعضهم ذلك؛ وتُقسَّم بينهم الأجرة).
(3)
من قوله: (وليس لهم الغلق) إلى هنا، أخذها المؤلف من فتوى أخرى وأدخلها في هذه الفتوى، وهي موجودة في مجموع الفتاوى 31/ 263، والفتاوى الكبرى 4/ 364.
تأخيرُ حقوقِ بعضِ الشُّركاءِ، فكلَّما كان إلى الاستيفاءِ أقربَ كان أولى؛ لأن الأصلَ وجوبُ استيفاءِ الشُّركاءِ جميعِهم حقوقَهم، والتأخيرُ لأجلِ الحاجةِ، فكلَّما قلَّ زمنُ التأخيرِ كان أَوْلى
(1)
.
وليس للشَّريكِ أن يقسِمَ بنفْسه شيئًا ويأخُذَ نصيبَه منه.
وإذا امتنع بعضُ الشُّركاءِ من الزَّرعِ
؛ جاز لبعضِهم أن يزرَعَ في مقدارِ نصيبِه، ويختصَّ بما زَرَعه
(2)
.
وإذا اشترك الشُّهودُ ونحوُهم
؛ فمقتضى عقدِ الشَّركةِ المطْلَقةِ؛ التسويةُ في العملِ والأجرِ، فإن عمِل بعضُهم أكثرَ تبرُّعًا؛ ساوَوْه في الأجرِ، وإن لم يتبرَّعْ؛ طالَبَهم [إما]
(3)
بما زاده في العملِ، وإمَّا بأجرةِ الزائدِ، وإن اتفقوا على شرطِ زيادةٍ له؛ جاز
(4)
.
وليس لوليِّ الأمرِ
أن يحمِلَ الناسَ على مذهبِه في منعِ معاملةٍ لا يراها، ولا للعالِمِ والمفتي أن يُلْزِم الناسَ باتباعِه في مسائلِ الاختلافِ بينَ الأئمَّةِ؛ بل قال العلماءُ: إجماعُهم حُجَّةٌ قاطعةٌ، واختلافُهم رحمةٌ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا طلَب الشريكُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 35/ 418.
(2)
ينظر أصل هذه الفتوى من قوله: (وإذا امتنع بعضُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 144.
(3)
زيادة يقتضيها الكلام، من مجموع الفتاوى 30/ 97.
(4)
ينظر أصل هذه الفتوى من قوله: (وإذا اشترك الشُّهودُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 97.
واسعةٌ، ومثلُ هذه المسائلِ الاجتهاديةِ لا تُنْكَرُ باليدِ
(1)
.
وإذا لم يتَّفِقِ الشريكان
في الدابَّةِ بجعلِها عندَ أحدِهما أو غيرِهما؛ جعَلها الحاكمُ عندَ ثالثٍ يختارُه لها، فإنْ طلَب أحدُهما مفاضلةَ الآخرِ فيها، بيعَتْ جميعُها، وقُسِم ثمنُها بينَهما
(2)
.
وكذا الدارُ إذا طلَب أحدُهما القسمةَ
، وكانت تقبَلُها؛ قُسِمَتْ، وأُجْبِر الممتنعُ عندَ الأربعةِ، وإلا كان لطالب القسمةِ طلَبُ البيع، فيُجْبرُ الممتنعُ، ويُقْسَمُ بينَهما الثمنُ في مذهَبِ مالكٍ وأبي حنيفةَ والإمامِ أحمدَ
(3)
.
ومن اشْتَرك هو وآخرُ
؛ مِن أحدِهما الدابَّةُ، ومن الآخرِ دراهمُ؛ نُظِر في قيمةِ الدابَّةِ، فتكونُ هي والدَّراهمُ رأسَ المالِ، وذلك مشتركٌ بينَهما؛ لأن عندَنا الشركةَ والقسمةَ تصحُّ بالأقوالِ، لا تفتقِرُ إلى خَلْطٍ ولا تمييزٍ، وإذا اقتسما بيعَتِ الدابَّةُ، واقتَسَما ثَمَنَها.
هذا إذا صحَّحْنا الشركةَ بالعُروضِ، وأما إذا أبْطلْناها فحُكمُ الفاسدةِ حكمُ الصحيحةِ في الضمانِ وعدمِه، وصحةِ التصرُّفِ وفسادِه، وإنما
(1)
ينظر أصل هذه الفتوى من قوله: (وليس لوليِّ الأمرِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 79.
(2)
ينظر أصل هذه الفتوى من قوله: (وإذا لم يتَّفِقِ الشريكان
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 92.
(3)
ينظر أصل هذه الفتوى من قوله: (وكذا الدارُ إذا طلَب
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 35/ 416.
يفتَرِقان في الحِلِّ ومقدارِ الرِّبْحِ على أحدِ القولَينِ؛ فظاهرُ مذهَبِ أحمدَ: أن الرِّبْحَ على ما شرَطا، وعلى القولِ الآخرِ: الرِّبْحُ تبَعٌ للمالِ، وللآخرِ أجرةُ المثلِ، والأصحُّ في هذا: أن له رِبْحَ المثلِ، والأقوالُ ثلاثةٌ
(1)
.
وإذا كان غَنَمُ الخلطاءِ معَ راعٍ
، واحتاجَتْ إلى نفقةٍ، فباع بعضَها، وأنفَقَه على الباقي؛ اقتَسَموا الباقيَ على قدرِ رؤوسِ الأموالِ، أو غُرِّمَ أربابُ الباقي قيمةَ ما باعه
(2)
.
وإذا كان الشريكُ في البقرةِ يأخذُ اللبنَ
، وهو قدرُ العَلَفِ؛ فلا شيءَ عليه، وإن كان انتفاعُه بها أكثرَ من العلَفِ؛ أعطى شريكَه نصيبَه من الفضلِ
(3)
.
ولا يجوزُ أن يبيعَه على أن يُقرِضَه
، ولا يؤجرَه على أن يساقيَه، ولا يشاركَه على أن يُقرِضَه، ولا يبيعَه على أن يبتاعَ منه، باتفاقِهم
(4)
.
(1)
ينظر أصل هذه الفتوى من قوله: (ومن اشْتَرك هو وآخرُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 91.
(2)
ينظر أصل هذه الفتوى من قوله: (وإذا كان غَنَمُ الخلطاءِ معَ راعٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 95.
(3)
ينظر أصل هذه الفتوى من قوله: (وإذا كان الشريكُ في البقرةِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 94.
(4)
ينظر أصل هذه الفتوى من قوله: (ولا يجوزُ أن يبيعَه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 82.
فَصْلٌ فِي الوَكَالَةِ
إذا قال لرجلٍ:
إن لم ترضَ زوجتي بالنفقةِ سلِّم إليها كتابَها؛ فقد وكَّلَه، وهذا القولُ كنايةٌ في الطلاقِ.
فإن قال المُوكِّل: أردتُّ به الطلاقَ، أو عُلِم ذلك بقرينةِ الحالِ؛ ملَك الوكيلُ أن يطلِّقَ واحدةً، لا ثلاثًا؛ إلا بإذنِ الموكِّلِ.
فإذا قال الموكل: لم أُرِدْ إلا واحدة؛ كان القولُ قولَه، وللزوجِ أن يُراجِعَها
(1)
.
وإذا أَجَر أرضَ موكِّلِه
بناقصٍ عن شركته؛ مثلُ أن أَجَرها بنصفِ أجرةِ المِثْلِ؛ كان الوكيلُ ضامنًا للنقصِ.
وهل للمالكِ إبطالُ الإجارةِ؟ فيه نزاعٌ
(2)
.
ومَن طلَّق زوجتَه
، ثم تزوَّجَ غيرَها، ووكَّلَ الثانيةَ في طلاقِ الأولى، فقال: متى ما رددتُّ أمَّ أولادي كان طلاقُها بيدِكِ؛ ثم طلَّقَ التي وكَّلَها؛ بطَلَتْ وَكالتُها في ذلك.
بخلافِ ما لو وكَّلَها في بيعٍ ونحوِه، ثم طلَّقَها ثلاثًا؛ لم تبطُلِ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا قال لرجلٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 33/ 121.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا أَجَر أرضَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 55.
الوَكالةُ بالتطليقِ هنا، كما ذكَر ذلك الفقهاءُ، وقد يُظَنُّ أنَّ التوكيلَ في التطليقِ كذلك.
والصوابُ: أنه يبطُلُ توكيلُها في طلاقِ الأولى إذا طلَّقَها؛ لأن مقصودَه أني لا أجمعُ بينَكِ وبينَها إلا برِضاكِ؛ لما تكرهُ من الضررِ بما تستحِقُّه بالعقد من القَسْمِ ونحوِه، فإذا بَتَّها لم يبقَ لها عليه حقٌّ، فلا تزاحِمُها تلك في الحقوقِ، ولا يعتبرُ رضاها في تزوُّجِه بتلك؛ لأن العادةَ أنه يُرضي زوجتَه، وهو قد أسخَطَها بطلاقِها، كيفَ يقصدُ رضاها بما هو دونَه؟
(1)
.
ومَن كان مملوكُه يتصرَّفُ له
تصرُّفَ الوكلاءِ؛ من البيعِ والإجارةِ ونحوِها، وهو يعلمُ ذلك، ففعَلَ شيئًا من البيعِ أو الإجارةِ، فقال السيدُ: ليس هو وكيلي في ذلك: لم يُقبَلْ إنكارُه؛ حتى لو قُدِّر أنه لم يُوكِّلْه، فتفريطُه وتسليطُه عدواناً منه يُوجِبُ الضمانَ
(2)
.
ومَن وكَّل رجلًا في تحصيلِ أموالِه
، والتحدثِ فيها بالعشرِ، أو وكَّلَه مطلقًا على الوجهِ المعتادِ الذي يقتضي في العرفِ أنَّ له العشرَ: فله ذلك، فإنه يستحِقُّ العشرَ بشرطٍ لفظيٍّ أو عرفيٍّ، وهذا كاستئجارِ الأرضِ للزرعِ بجزءٍ من زرعِها، وهي مسألةُ قفيزِ الطحَّانِ، ومَن نقل
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن طلَّق زوجتَه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 33/ 118.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن كان مملوكُه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 69.
النهيَ عنه
(1)
؛ فقد غلطَ.
واستيفاءُ المالِ بجزءٍ شائعٍ منه؛ جائزٌ في أظهرِ قولَيِ العلماءِ.
وإن كان قد عمِل له على أن يُعطيَه عِوضًا، ولم يتبيَّنْ؛ فله أجرُ المثلِ - أيضاً - الذي جرَتْ به العادةُ، وإذا استحقَّ عليه شيئًا؛ فله استيفاؤُه من تَرِكتِه وبدونِ إذنِه، وإن لم يستحِقَّ شيئًا؛ لم يأخذْ شيئًا إلا بإذنِه
(2)
.
ومَن وكَّل رجلًا وَكالةً مطلقةً
في إجارةٍ أو نحوِها، فأَجَرَ أرضَه بخمسةِ آلافٍ، وأُجرتُها تساوي عشَرةَ آلافٍ: فله تضمينُ الوكيلِ ما فرَّطَ فيه.
وأكثرُ الفقهاءِ يقولونَ: الإجارةُ باطلةٌ، كما هو مذهَبُ الشافعيِّ وأحدُ قولَيْ أحمدَ؛ لكنْ إن كان المستأجِرُ مغرورًا لم يعلمْ بحالِ الوكيلِ؛ بل ظن أنه مالكٌ عالِمٌ بالقيمةِ؛ فله الرجوعُ على مَن غرَّه بما لم يلزمْه
(3)
في أصحِّ قولَيِ العلماءِ، وزرعُه محترمٌ لا يُقلَعُ مجانًا؛ بل يُترَكُ
(1)
أي: ما رواه الدارقطني (2985) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قفيز الطحان» ، قال عنه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 28/ 88:(حديث ضعيف، بل باطل).
وقفيز الطحان: قال في مجموع الفتاوى 30/ 112: (هو: أن يستأجر ليطحن الحب بجزء من الدقيق).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن وكل رجلًا
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 67.
(3)
هكذا في النسخ الخطية، وفي مجموع الفتاوى 30/ 68:(فله أن يرجع على من غره بما يلزمه).
بأجرةِ المثلِ، وإن كان عالمًا؛ فهو ظالمٌ غاصبٌ.
وهل للمالكِ قَلْعُه مجانًا؟ على قولَينِ.
وهل يملِكُه بنفقتِه؟ على قولَينِ.
ويملكُ إبقاءَه بأجرِة المثلِ اتفاقًا
(1)
.
وإذا ادَّعَى على المستأجِرِ أنه عالِمٌ بالحالِ، فأنكَرَ؛ فالقولُ قولُه معَ يمينِه.
ومَن وكَّل وكيلًا في بيعِ ملكِه
، فباعَه
(2)
لشخصٍ، وثبَتَ البيعُ والحيازةُ، وحكَم به حاكمٌ، ثم وقَفَها المشتري، وحكَم حاكمٌ بصحةِ الوقفِ، والموكِّلُ عالِمٌ بذلك كلِّه، ولم يُبْدِ فيه مطعنًا، ثم ادَّعَى أنه كان قد عزَلَ الوكيلَ قبلَ البيعِ، ولم يعلمِ الوكيلُ، وأقام بينةً، وثبتَ وحكَم بها حاكمٌ؛ فمَن قال: لا ينعزلُ الوكيلُ بالعزلِ قبلَ علمِه؛ فتصرُّفُ الوكيلِ صحيحٌ، فيصحُّ البيعُ والوقفُ.
ومن قال: إنَّه ينعزلُ قبل العلمِ؛ وهو المشهورُ في مذهَبِ أحمدَ والشافعيِّ وقولُ مالكٍ؛ فعلى هذا لا تُقبَلُ مجرَّد دعواه العزلَ بعدَ التصرفِ.
وإذا أقام به بينةً ببلدٍ آخَرَ؛ كان حكمًا على الغائبِ - إذا قيلَ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن وكَّل رجلًا وَكالةً
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 68.
(2)
في الأصل: فباعها. والمثبت من (ك) و (ز).
بصحتِه - فالغائبُ على حجتِه، فله القدحُ في الشهودِ وفي الحكمِ بما يسوغُ من كونِ الحاكمِ الذي حكَم لا يرى العزلَ، وكونِ الشهودِ فسَقَةً، أو مُتَّهَمة.
ثم الذي حكَم بصحةِ البيعِ والوقفِ: إن كان ممن لا يرَى عزلَ الوكيلِ قبلَ علمِه، وقد بلَغَه ذلك؛ فحكمُه نافذٌ لا يجوزُ نقْضُه بحالٍ؛ بل مَن نقَضَه نُقِضَ حكمُه.
وإن كان لم يعلمْ ذلك، ومذهبُه عدمُ الحكمِ بالصحةِ إذا ثبَتَ؛ كان وجودُ حكمِه كعدمِه.
والحاكمُ الثاني إذا لم يعلَم بأنَّ العزلَ قبلَ العلمِ، أو علِمَ بذلك وهو لا يراه، أو رآه وهو لا يرى نقْضَ الحكمِ المتقدمِ وما ذُكِر من علمِ الموكِّلِ بما جرى وسكوتِه؛ كان وجودُ حكمِه كعدمِه، واستوثق الحكم في القصةِ.
وقَبْضُ الموكَّلِ الثمنَ دليلٌ على بقاءِ الوَكالةِ إذا لم يعارضْه معارضٌ راجحٌ.
وأكثرُ العلماءِ يقبلونَ مثلَ هذه الحجةِ، ويدفعونَ بها دعوى العزلِ، لا سيَّما معَ كثرةِ شهودِ الزورِ.
ولو حُكِم ببطلانِ الوقفِ؛ لم يجبْ على الوكيلِ ولا على المشتري ضمانُ ما استوفاه من المنفعةِ؛ لأنهما مغرورانِ، غرَّهما الموكِّلُ، فلا تُضمَنُ له المنفعةُ، والقولُ في دفعِ الثمنِ إلى الموكِّلِ قولُ الوكيلِ إن
كان بلا جُعْلٍ، وإن كان بجُعْلٍ؛ قولانِ
(1)
.
وإذا فسَخ الوكيلُ المأذونُ له
في فسخِ النكاحِ بعدَ تمكينِ الحاكمِ له؛ صحَّ فسخُه، ولم يحتجْ بعدَ ذلك إلى حكمٍ بصحةِ الفسخِ في مذهَبِ أحمدَ والشافعيِّ ومالكٍ وغيرِهم.
ولكنَّ الحاكمَ نفْسَه إذا فعَلَ فعلًا مختلفًا فيه؛ من عقدٍ أو فسخٍ، كتزويجٍ بلا وَلِيٍّ، وشراء عينٍ غائبةٍ ليتيمٍ، ثم رُفِع إلى حاكمٍ لا يراه؛ فهل له نقْضُه قبلَ أن يَحكُمَ به، أو يكونُ فعلُ الحاكمِ حكمًا؟ على وجهَينِ في مذهَبِ الشافعيِّ وأحمدَ.
والحاكمُ هنا ليس هو الفاسخَ، وإنما هو الآذِنُ والحاكمُ بجوازِه، كما لو حكَم لرجلٍ بميراثٍ، وأذِنَ له في التصرفِ، أو حكَم له بأنه وَلِيٌّ، وأذِنَ له في التصرفِ.
ففي كلِّ موضعٍ حَكَم لشخصٍ باستحقاقِ العقدِ أو الفسخِ؛ فعقَدَ هذا المستحِقُّ أو فسَخَ؛ لم يحتجْ بعدَ ذلك إلى حكمِ حاكمٍ لصحةِ العقد أو الفسخِ بلا نزاعٍ في مثلِ هذا، وإنما النِّزاعُ فيما إذا كان هو العاقدَ أو الفاسخَ، والصحيحُ: أن
(2)
عقدَه وفسخَه لا يحتاجُ إلى حكمٍ فيه.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن وكَّل وكيلًا في بيعِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 60.
وكتب في هامش الأصل: (لعله في أصل هذه المسألة غلط).
(2)
في الأصل: أنه. والمثبت من (ك).
هذا إذا رفع الأمر إلى حاكمٍ يرى أن لا يُفسَخَ بالإعسارِ؛ كأبي حنيفةَ، أما مَن يرى الفسخَ؛ ليس له نقضٌ
(1)
باتِّفاقِ الأئمَّةِ.
وكلُّ تصرُّفٍ متنازَعٌ فيه، إذا حكم حاكمٌ بصحتِه؛ لم يكُنْ لغيرِه نقضُه إذا لم يخالفْ نصًّا ولا إجماعًا
(2)
.
ومَن صالَحَ على بعضِ الحقِّ
خوفًا من ذَهابِ جميعِه؛ فهو مُكرَهٌ، لم يصِحَّ، وله أن يطالبَه بالحقِّ بعدَ ذلك إذا ثبَتَ ببينةٍ أو إقرارٍ
(3)
.
وإذا غَرَّ الوكيلُ شخصًا
، وأَجَره بدونِ أجرةِ المثلِ؛ فهل لأصحابِ الأرضِ تضمينُ المستأجِرِ؟ على قولَينِ.
وإذا ضمَّنوه؛ فهل له الرجوعُ على الغارِّ الذي هو الوكيلُ بما لم يلزم ضمانَه بالعقدِ؟ على قولَينِ لأحمدَ وغيرِه.
وإن علِمَ المستأجِرُ؛ ضمِنَ ما استوفاه من المنفعةِ، وإن لم يكُنْ استوفى بعدُ؛ فللمالكِ مَنْعُه من الاستيفاءِ
(4)
.
(1)
زيد في (ك): الحكم.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا فسَخ الوكيلُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 56.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن صالَحَ على بعضِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 72.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا غَرَّ الوكيلُ شخصًا
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 55.
فَصْلٌ فِي الإِقْرَارِ
ومَن اتَّهم غلامَه بسرقةِ شيءٍ
؛ فذكَر الغلامُ أنه أودَعَه عندَ فلانٍ -مثلًا-؛ فلا يجوزُ مؤاخذةُ فلانٍ بقولِ الغلامِ باتِّفاقِ المسلمِينَ؛ سواءٌ كان الحاكمُ قاضيَ الحكمِ أو وليَّ الحربِ؛ بل الذي عليه جمهورُ الفقهاءِ في المُتَّهَمِ بسرقةٍ ونحوِها أن يُنظَرَ في المتهَمِ، فإما أن يكونَ معروفًا بالفجورِ، أو مجهولَ الحالِ، فلو كان معروفًا بالبِرِّ والتقوى؛ لم تجزْ مطالبتُه، ولا عقوبتُه، وهل يحلَّفُ؟ على قولَينِ للعُلماءِ، ومنهم مَن قال: يُعزَّرُ مَن رماه بالتهمةِ.
وأما إن كان مجهولَ الحالِ؛ فإنه يُحبَسُ حتى يُكشَفَ أمرُه، قيلَ: يُحبَسُ شهرًا، وقيلَ: بقدرِ اجتهادِ وليِّ الأمرِ؛ لما في السُّنَنِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه حبَس في تهمةٍ
(1)
، وكذا نصَّ عليه الفقهاءُ من أصحابِ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ وغيرِهم.
وإن كان قد يكونُ الرجلُ معروفًا بالفجورِ المناسبِ للتهمةِ، فقال طائفةٌ من الفقهاءِ: يضربُه الوالي والقاضي، وقال طائفةٌ: يضربُه الوالي فقط، ذكَر ذلك طوائفُ من أصحابِ مالكٍ والإمامِ أحمدَ والشافعيِّ.
ومن الفقهاءِ مَن قال: لا يُضرَبُ، وقد ثبَتَ في الصحيحِ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم
(1)
رواه أحمد (20019)، وأبو داود (3630)، والترمذي (1417)، والنسائي (4875) من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده.
أمَر الزُّبَيرَ أن يَمَسَّ بعضَ المُعاهَدِينَ بالعذابِ؛ لما كتَم إخبارَه بالمالِ، وقالَ:«أينَ كَنْزُ حُيَيِّ بنِ أخطَبَ؟» ، فقال: يا محمدُ، أذهبَتْه النفقاتُ والحروبُ، فقال:«المالُ كثيرٌ، والعهدُ أقربُ من هذا» ، وقال للزُّبَيرِ:«دونَكَ هذا» ، فمسَّه الزُّبَيرُ بشيءٍ من العذابِ، فدلَّهم على المالِ
(1)
.
وأما إذا ادَّعى أنه استودِعَ فهو أخَفُّ؛ فإذا كان معروفًا بالخيرِ لم يجُزْ إلزامُه بالمالِ باتِّفاقِ المسلمِينَ؛ بل يحلفُ المدَّعَى عليه؛ سواءٌ كان الحاكمُ واليًا أو قاضيًا
(2)
.
ومَن أقَرَّ بوَطْءِ جاريتِه
، فأتَتْ بولدٍ يمكنُ كونُه منه؛ لحِقَه، وليس له بيعُها، ولا ولدِها؛ لكن إن ادَّعَى الاستبراءَ ففي قبولِ قولِه وتحليفِه نزاعٌ بينَ العلماءِ
(3)
.
ومَن ادَّعَى بحقٍّ بعدَ مدةٍ طويلةٍ
من غيرِ مانعٍ يعوقُ: فلا تُقبَلُ الدَّعْوى في أحدِ قولَيِ العلماءِ، مالكٍ وغيرِه
(4)
.
(1)
رواه أبو داود (3006)، وابن حبان (5199) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وأصله في البخاري معلقًا مختصرًا (3/ 192)، كما أفاده ابن حجر في النكت الظراف على تحفة الأشراف (6/ 133).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن اتَّهم غلامَه
…
) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 34/ 234، والفتاوى الكبرى 3/ 520.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن أقَرَّ بوَطْءِ
…
) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 34/ 11.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن ادَّعَى بحقٍّ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 35/ 427.
ومَن كان عليه حقٌّ شرعيٌّ
، فتبَرَّعَ بملكِه، بحيثُ لا يبقى لأهلِ الحقوقِ ما يستَوْفونَه؛ فهو باطلٌ في أحدِ قولَيِ العلماءِ، وهو مذهَبُ مالكٍ، وإحدى الروايتينِ عن الإمامِ أحمدَ، من جهةِ أنَّ قضاءَ الدينِ واجبٌ ونفقةَ الولدِ، فيحرُمُ عليه أن يدعَ الواجبَ، ويصرفَه فيما لا يجبُ، فيردُّ التمليك، ويصرفُه فيما يجبُ من قضاءِ دينِه ونفقةِ ولدِه
(1)
.
وإذا أقَرَّ لفلانٍ بمالٍ
، ولم يكُنْ له قبلَ هذا الإقرارِ شيءٌ؛ لم يصِرْ له عليه شيءٌ بهذا الإقرارِ؛ بل الإقرارُ باطلٌ كذبٌ، ولو جعَلَ له في ذِمَّتِه عطيَّةً؛ لم يكُنْ أمرًا واجبًا، والعدلُ بينَ أولادِه واجبٌ في أصحِّ قولَيِ العلماءِ
(2)
.
وإذا قال: أعطُوا هذا لأيتامِ فلانٍ
، وثَمَّ قرينةٌ تُبيِّنُ مرادَه: هل هو
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن كان عليه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 43.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا أقَرَّ لفلانٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 35/ 428.
والمؤلف قد اختصر الفتوى اختصارًا شديدًا، فإن شيخ الإسلام سئل: (عن رجل له ابنتان إحداهما مزوجة والأخرى عزباء، وكان كتب للمتزوجة ثلاث آلاف درهم، والعزباء سبعة آلاف درهم، وقد توفيت المزوجة وخلفت ولدًا ذكرًا وزوجًا، وقد طلب الولد والزوج المكتوب من والدها؛ فهل يرثون ذلك ويجوز لهم مطالبة الولد، والوالد يدعي في ذلك الوقت ما كان له ولدٌ ذكرٌ، وكتب هذا المكتوب خشية أن تدخل يد الغير في موجده والولد يعيش؟ فأجاب: إذا أقر لهذه ولهذه بمال في ذمته ولم يكن لهما قبل ذلك في ذمته مال لم يصر لها عليه بهذا الإقرار شيء
…
).
إقرارٌ أو وصيةٌ؟ عُمِل بها، وإن لم يُعرَفْ، فما كان محكومًا له به لم يَزُلْ عن ملكِه بلفظٍ مجملٍ؛ بل يُجعَلُ وصيةً، لا إقرارًا، واللهُ أعلمُ
(1)
.
ومَن أقَرَّ لزوجتِه بشيءٍ
، ولا شيءَ لها؛ لم يَحِلَّ لها أخذُه؛ فإنه يكونُ وصيةً لوارثٍ، إلا بإجازةِ الوَرَثةِ، وأما في الحكمِ فلا تُعطَى حتى تُصدِّقَ على الإقرار، وإن كان في مرضِ الموتِ كان باطلًا عندَ أكثرِ العلماءِ.
وإذا صَدَّقتْ على الإقرارِ، فادَّعَى وَصِيُّه أو وَرَثتُه أنه إقرارٌ من غيرِ استحقاقٍ؛ فإن ذلك بمنزلةِ أن يُدَّعَى في الإقرارِ أنه أقَرَّ قبلَ القَبْضِ، ومثلُ ذلك قد تنازَعَ العلماءُ في التحليفِ عليه، والصحيحُ: التحليفُ
(2)
.
ومَن أعتقَ أَمَةً
، ثم تزَوَّجَها، ثم ملَّكَها - في صحةٍ من عقله
(3)
- جميعَ ما حوَى مَسْكنُهم الذي هم فيه؛ من نُحاسٍ وقماشٍ وغيرِ ذلك مما هو خارجٌ عن لُبْسِه، ثم أقَرَّ لها بذلك إقرارًا:
فأجابَ ابنُ جَماعةٍ بدرُ الدينِ: إن كان الذي ملَّكَها إيَّاه مُعيَّنًا، وأقبَضَها إيَّاه - في صحةٍ منه وجوازِ تصرُّفٍ -؛ صحَّ التمليكُ بشُروطِه، واللهُ أعلمُ.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا قال: أعطُوا
…
) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 31/ 305، والفتاوى الكبرى 4/ 369.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن أقَرَّ لزوجتِه
…
) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 31/ 306، والفتاوى الكبرى 4/ 369.
(3)
في الأصل: علقه. والمثبت من (ك) و (ز).
وأجابَ شيخُ الإسلامِ أبو العباسِ: إذا أقَرَّ بأن جميعَ ما في بيتِه ملكُ زوجتِه، إلا السلاحَ والدوابَّ وآلةَ الخيلِ؛ كان هذا إقراراً صحيحًا يُعمَلُ بموجَبِه بلا خلافٍ، وإذا كان مُستنَدُه في ذلك: أنه ملك لزوجتِه تمليكًا
(1)
شرعيًّا لازمًا كان الإقرارُ صحيحاً باطنًا وظاهرًا، واللهُ أعلمُ
(2)
.
(1)
في مجموع الفتاوى: تملُّكًا.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن أعتقَ أَمَةً
…
) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 35/ 429.
مَسْأَلَةٌ
في الأمراءِ الذينَ يستدينونَ
ما يحتاجونَ إليه، ويكتبُ خَطَّه الأميرُ لصاحبِه، أو يُنزلُه وكيلُه ونوَّابُه في دفترِه، ويُقرِضُ دراهمَ، وكلُّ ذلك بغيرِ حُجَجٍ وإشهادٍ، ثم يموتُ؛ فكلُّ ما وُجِد بخطِّ
(1)
الأميرِ، أو أخبَرَ به كاتبُه أو وكيلُه في ذلك؛ مثلُ أستادارِه
(2)
؛ فإنه يجبُ العملُ بذلك؛ لأن خَطَّه كلفظِه، وإقرارَ وكيلِه فيما وكَّلَه فيه مقبولٌ، فلا يحتاجُ أصحابُ الحقوقِ إلى بَيِّنةٍ؛ لأن فيه ظلمًا للأمواتِ والأحياءِ، وخروجًا عن العدلِ المعروفِ
(3)
.
إذا أبرَأَتْه من صَداقِها
، ثم أقَرَّ لها به؛ لم يجُزْ هذا الإقرارُ؛ لأنه قد علم أنه كذبٌ، ولو جعَلَه تمليكًا بدَلَ ذلك؛ لم يجُزْ أيضًا عندَ الجمهورِ أن يجعلَ ذلك دينًا في ذِمَّتِه؛ لأن التمليكَ لا يكونُ في الذِّمَّةِ
(4)
.
(1)
في الأصل: بخطه. والمثبت من (ك) ومجموع الفتاوى.
(2)
أستاداره: هو كبير الخدم عند العظماء. ينظر: تكملة المعاجم العربية 8/ 202.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (في الأمراءِ الذينَ
…
) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 30/ 66.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا أبرَأَتْه من صَداقِها
…
) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 35/ 424.
كِتَابُ الغَصْبِ
مَن استعارَ فرسًا إلى مكانٍ معينٍ
، فزاد؛ ضمِنَ نقصَ الفرسِ إن نقصَتْ، وكان ظالمًا.
إذا طلبَتِ الجاريةُ شيئًا
من شخصٍ على لسانِ سيِّدَتِها، ولم تكُنِ السيدةُ أذِنتْ لها؛ كانت الجاريةُ غاصبةً قابضةً ذلك بغيرِ حقٍّ، فإن تلِفَ فضمانُه في رقَبتِها
(1)
.
مَن كان معَه دراهمُ حرامًا
، فأعطاها أباه وأخذ بدَلَها من دراهمِ والدِه الحلال؛ فحكمُ البدَلِ حكمُ المُبدَلِ منه، فإذا نَمَا بفعلِه ورَبِح أو كَسَب؛ ففيه نزاعٌ، أعدلُ الأقوالِ: أن يُقسمَ بينَ منفعةِ المالِ ومنفعةِ العاملِ بمنزلةِ المضاربةِ، كما فعل عمرُ في المالِ الذي اتَّجَر منه أولادُه من بيتِ المالِ
(2)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا طلبَتِ الجاريةُ
…
) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 30/ 321.
(2)
روى مالك في الموطأ (2/ 687) عن أسلم: أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه وكان أمير البصرة -، أعطى عبد الله وعبيد الله ابني عمر رضي الله عنهم مالًا من بيت المال ليتجرا به، ويؤديا رأس المال ويكون الربح لهما، فلما قدما المدينة باعا فأُربِحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر قال:«أكل الجيش أسلفه، مثل ما أسلفكما؟» قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب:«قد جعلته قراضًا» ، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال.
وينظر أصل الفتوى من قوله: (مَن كان معَه دراهمُ
…
) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 30/ 139.
والكُلَفُ التي تُطلَبُ من الناسِ
بحقٍّ أو غيرِ حقٍّ؛ يجبُ العدلُ فيها، ويحرُمُ أن يوفرَ فيها بعضُ الناسِ ويجعلَ قسطَه على غيرِه، ومَن قام فيها بنيةِ العدلِ، وتخفيفِ الظلمِ مهما أمكَنَ، وإعانةِ الضعيفِ لئلا يتكررَ الظلمُ عليه، بلا نيةِ إعانةِ الظالِمِ؛ كان كالمجاهِدِ في سبيلِ اللهِ تعالى إذا تحرَّى العدلَ، وابتغى وجهَ اللهِ
(1)
.
الثوابُ والجزاءُ:
إنما هو على الصبرِ على المصيبةِ، لا على المصيبةِ؛ لأن المصيبةَ من فعْلِ اللهِ تعالى، وهي من جزاءِ اللهِ للعبدِ على ذنبِه، وتكفيرِه ذنبَه بها، وفي «المُسنَدِ»: أنهم دخَلوا على أبي عُبَيدةَ بنِ الجرَّاحِ وهو مريضٌ، فذكروا أنه يُؤجَرُ على مرَضِه، فقال:«ما لي من الأجرِ ولا مثلُ هذه! ولكن المصائبَ حطة»
(2)
، فتبيَّنَ أن نفسَ المرضِ لا يُؤجَرُ عليه؛ بل يُكفَّرُ به عنه.
وكثيرًا ما يُفهَمُ من الأجرِ: غُفْرانُ الذنوبِ، فيكونُ فيه أجرٌ بهذا الاعتبارِ.
ومِن الناسِ مَن يقول: لا بدَّ فيه من التعويضِ والأجرِ والامتنانِ،
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والكُلَفُ التي تُطلَبُ
…
) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 30/ 336.
(2)
رواه أحمد (1690).
وقد
(1)
يحصُلُ له ثوابٌ بغيرِ عملٍ منه، كما يُفعَلُ عنه من أعمالِ البِرِّ.
وأما الصبرُ؛ ففيه أجرٌ عظيمٌ، فمَن أُصيبَ بجُرحٍ ونحوِه، فعفا؛ كان الجُرْحُ مصيبةً يُكفَّرُ بها عنه، ويُؤجَرُ على صبرِه، وعلى إحسانِه إلى الظالِمِ بالعَفْوِ عنه.
فمن توهَّمَ أن بالعَفْوِ يسقُطُ حقُّه، وينقُصُ، أو يحصُلُ له ذُلٌّ؛ فهو غالِطٌ، كما ثبَتَ في الصحيحِ أنه قال:«ثَلاثٌ إن كنتُ لحالفًا عليهِنَّ: ما زادَ اللهُ عبدًا بعَفْوٍ إلا عِزًّا، وما نَقَصَتْ صدقةٌ من مالٍ، وما تواضَعَ أحدٌ للهِ إلا رفَعَه الله»
(2)
.
وهذا ردٌّ لما يظُنُّه من يتبع الظنَّ وما تَهْوى الأنفسُ؛ من أن العفوَ يُذِلُّه، والصدقةَ تنقُصُ مالَه، والتواضُعَ يخفِضُه، وما انتَقمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لنفْسِه قطُّ؛ إلا أن تُنتَهكَ محارمُ اللهِ فينتقِمُ للهِ
(3)
.
والناسُ أربعةٌ:
منهم من ينتصرُ لنفْسِه ولربِّه، وهو الذي فيه دِينٌ وغضبٌ.
ومنهم مَن لا ينتصرُ لا لنفْسِه ولا لربِّه، وهو الذي فيه حلمٌ وضعفُ دينٍ.
ومنهم من ينتقمُ لنفْسِه لا لربِّه، وهو شرُّ الأقسامِ.
(1)
في النسخ الخطية: (قد) بدون الواو، والمثبت من مجموع الفتاوى 30/ 364.
(2)
تقدم تخريجه ص
…
ظظ
(3)
تقدم تخريجه ص
…
ظظ.
وأما الكاملُ: فهو الذي ينتصرُ لحقِّ اللهِ، ويعفو عن حقِّ نفْسِه
(1)
.
ومَن غصَب زرعَ رجلٍ وحصَدَه
؛ أُبيحَ للفقراءِ إلْقاطُ المتساقِطِ، كما لو حصَدَها المالِكُ، كما يُباحُ رَعْيُ الكَلَأِ في الأرضِ المغصوبةِ؛ نصَّ أحمدُ على هذه المسألةِ الثانيةِ؛ لأن ما يُباحُ من الكَلَأِ واللقاطِ لا يختلفُ بالغَصْبِ وعدمِه، ولا يمنعُه حقَّ الملكِ
(2)
.
ومَن وهَب ربعَ مكانٍ
؛ فتبيَّنَ أنه أقلُّ من ذلك؛ لم تبطُلِ الهِبَةُ
(3)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (الثوابُ والجزاءُ
…
) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 30/ 370.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن غصَب زرعَ
…
) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 30/ 317.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن وهَب ربعَ مكانٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 375.
بَابُ الشُّفْعَةِ
لا يحِلُّ الكذبُ والتحيلُ
على إسقاطِ حقِّ المسلمِ من الشُّفْعةِ وغيرِها، ويجبُ على المشتري تسليمُ الشِّقْصِ بالثمنِ الذي وقَع باطنًا
(1)
.
والتحيلُ على إسقاطِها
بعدَ وجوبِها؛ حرامٌ باتِّفاقِ، وإنما النِّزاعُ في الاحتيالِ عليها قبلَ الوجوبِ
(2)
.
إذا باع المشتري الشِّقْصَ المشفوعَ
؛ فلا تسقُطُ الشُّفْعةُ، وإن وقَفَه أو وهَبَه؛ ففيه نزاعٌ.
وحيثُ حكَم الحاكمُ للشفيعِ بالشُّفْعةِ؛ فلا يُنقَضُ الوقفُ، إلا إذا أخذ الشفيعُ الشِّقْصَ، أما مجرَّدُ الحكمِ باستحقاقِه فلا؛ لكن ما وُجِد من التصرفاتِ لأجلِ الاحتيالِ على إسقاطِ الشُّفْعةِ؛ فهو باطلٌ، فإذا أظهَرَ صورةَ أن البَيْعَ باطلٌ لتخلُّفِ شَرْطِه؛ بأن ادَّعَى عدَمَ الرؤيةِ المعتبَرةِ، وردَّ المبيعَ، ثم وقَفه البائعُ على المشتري حيلةً؛ فكلُّه باطلٌ،
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (لا يحِلُّ الكذبُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 388.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والتحيلُ على إسقاطِها
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 386.
وحقُّ الشفيعِ ثابتٌ إلا أن يتركَه.
والمالُ المكسوبُ عِوضَ عينٍ محرمةٍ
، أو منفعةٍ محرمةٍ: إن كانت العينُ أو المنفعةُ مباحةً في نفْسِها، وإنما حرُمَتْ بالقصدِ؛ مثلُ مَن يبيعُ عنبًا لمن يتخذُه خمرًا، أو من يُستأجَرُ لعصرِ الخمرِ أو حَمْلِها، فهذا يفعلُه بالعِوَضِ؛ لكن لا يطيبُ له أكْلُه.
وأما إن كانت العينُ أو المنفعةُ محرمةً؛ كمهرِ البغيِّ، وثمنِ الخمرِ: فهنا لا يُقضَى له به قبلَ القبضِ، ولو أعطاه إيَّاه؛ لم يُحكَمْ برَدِّه إلى باذِلِه، فإن هذا معونةٌ لهم على المعاصي؛ إذا جمع لهم بينَ العوضِ والمعوضِ، ولا يَحِلُّ هذا المالُ للبَغِيِّ والخَمَّارِ ونحوِهما؛ لكن يُصرَفُ في مصالحِ المسلمِينَ، فإن تابَتْ هذه البَغِيُّ وهذا الخَمَّارُ، وكانوا فقراءَ؛ جاز أن يُصرَفَ إليهم من هذا المالِ مقدارُ حاجتِهم، فإن يقدرْ يتَّجِر، أو يعمل صَنْعةً؛ كالنَّسْجِ والغزلِ؛ أُعطِي ما يكونُ له رأسَ مالٍ، وإن اقتَرَضوا منه شيئًا ليكتسبوا به، ولم يرُدُّوا عوضَ القرضِ؛ [كان]
(1)
أحسَنَ.
وأما إذا تصدَّقَ به لاعتقادِه أنه لا يحلُّ عليه أن يتصدقَ به؛ هذا يُثابُ على ذلك.
وأما إذا تصدَّقَ به كما يتصدَّقُ المالكُ بملكِه؛ فهذا لا يقبلُه اللهُ، إن اللهَ لا يقبَلُ إلا الطيبَ، فهذا خبيثٌ؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَهْرُ البَغِيِّ خبيثٌ»
(2)
.
(1)
ما بين المعقوفتين زيادة من مجموع الفتاوى (29/ 309).
(2)
رواه مسلم (1568) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.
وينظر أصل الفتوى من قوله: (والمالُ المكسوبُ عِوضَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 308.
ولا يجوزُ خياطةُ الحريرِ
لمن لبسَهُ لباسًا محرمًا؛ مثلُ لُبْسِه مُصمتًا للرجلِ في غيرِ حربٍ وتداوٍ؛ لأنه من الإعانةِ على الإثمِ والعدوانِ.
وكذلك ما كان من هذا البابِ؛ مثلُ: صَنْعةِ الذَّهَبِ لمن لبسَهُ لباسًا محرمًا، وكذلك الآنيةُ من الذَّهَبِ والفِضَّةِ؛ على أصَحِّ القولَينِ عندَ جماهيرِ العلماءِ.
وكذلك صَنْعةُ آلاتِ اللهوِ، وتصويرُ الحيوانِ، وتصويرُ الأوثانِ والصُّلْبانِ، وأمثالُ ذلك مما فيه تصويرُ الشيءِ على صورةٍ يحرُمُ استعمالُه فيها.
وكذلك صَنْعةُ الخمرِ، وأمكنةُ الكفرِ والمعاصي، والعِوَضُ المأخوذُ على ذلك العملِ المحرمِ؛ خبيثٌ، ويجبُ إنكارُ ذلك.
وأما خياطتُه لمن يلبَسُه لباسًا جائزًا؛ فهو مباح؛ كالنساء، وإن كان الرجلُ يَمَسُّه عندَ الخياطةِ.
ويجوزُ استعمالُ خُيوطِ الحريرِ في لباسِ الرجالِ، وكذلك العَلَمُ والسِّجافُ
(1)
؛ موضعَ إصبَعين أو ثلاثةٍ، أو أربعةٍ
(2)
.
(1)
السَّجف: بالفتح، ويكسر، وسِجاف، ككتاب، وهو: الستران المقرونان بينهما فرجة. ينظر: تاج العروس 23/ 414.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يجوزُ خياطةُ الحريرِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 139.
ومَن ورِثَ من آبائِه ملكًا
هو للسلطانِ مقاسَمة الثلث ثلث المغَلِّ؛ فليس لأحدٍ أن ينزِعَ حقوقَ الناسِ التي بأيديهم، ولا يجوزُ رفعُ أيدي المسلمِينَ الثابتةِ على حقوقِهم؛ إذ الأرضُ الخراجيةُ كالسوادِ وغيرِه نُقِل من المخارجةِ إلى المقاسمةِ، كما فعل ذلك المنصورُ بسوادِ العراقِ، وأُقِرَّتْ بيد أهلِها، وهي تنتقلُ عن أهلِها إلى ذُرِّيتِهم وغيرِهم بالإرثِ والوصيةِ والهِبَةِ، وكذلك البيع في أصحِّ قولي العلماءِ؛ إذ حكمُها بيدِ المشتري كحكمِها بيدِ البائعِ، وليس هذا تَبعًا للوقفِ الذي لا يُباعُ ولا يُوهَبُ ولا يُورَثُ، كما غلِط في ذلك مَن منَعَ بَيْعَ أرضِ السوادِ معتقدًا أنها كالوَقْفِ الذي لا يجوزُ بيعُه؛ معَ أنه يجوزُ أن يُورَثَ ويُوهَبَ؛ إذ لا خلافَ في هذا؛ بل ينبغي أن يَبيعَ
(1)
ما لبيتِ المالِ من هذه الأَرَضِينَ، وما لبيتِ المالِ من المقاسمةِ الذي هو بمنزلةِ الخَراجِ، فمثلُ هذا لا يُباعُ لما فيه من إضاعةِ حقوقِ المسلمِينَ
(2)
.
ومَن أخذَ مالَ أستاذِه
، فاشترى به مماليكَ وأعتَقَهم؛ فإن كان اشترى بإذنِه؛ فلا يصِحُّ العتقُ إلا بإذنِه، وإن اشترى بمالِه بغيرِ إذنِه؛ فلصاحبِ المالِ أخذُهم، وله أن يغرمَه مالَه، وإذا أعتَقَهم هذا المشتري
(1)
في الأصل: بيع. والمثبت من مجموع الفتاوى.
(2)
قوله: (فمثلُ هذا لا يُباعُ لما فيه من إضاعةِ حقوقِ المسلمِينَ) هي في أصل الفتوى من مجموع الفتاوى: (وقيل: لاتباع لما فيه من إضاعة حقوق المسلمين)، ولعل ما في مجموع الفتاوى هو الأقرب؛ لأنه نص أولًا على جواز البيع.
و ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن ورِثَ من آبائِه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 28/ 588.
إِذَنْ؛ فلصاحبِ المالِ أخذُهم، والعتقُ باطلٌ
(1)
.
لا يجوزُ أن يُزاحَمَ
مَن فرَض له وليُّ الأمرِ على الصدقاتِ فرضًا لأجلِ فقرِه، فلا يجوزُ انتزاعُه من يدِه، وإذا حرُم السَّوْمُ على سَوْمِ الرجلِ في المعاوضاتِ؛ فهذا أشدُّ تحريمًا من ذلك.
نِتاجُ الدابةِ لمالِكِها
، ولا يَحِلُّ للغاصِبِ؛ لكن إن كان النِّتاجُ مُستولَدًا مِن عمَلِ المستولي؛ فمِن الناسِ مَن يجعلُ النَّماءَ بينَ المالكِ والعاملِ كالمضارَبةِ ونحوِها
(2)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن أخذَ مالَ أستاذه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 386.
(2)
واختاره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 30/ 323، 30/ 86، ونقلها عنه المرداوي في الإنصاف 15/ 164.
وينظر أصل الفتوى من قوله: (نِتاجُ الدابةِ لمالِكِها
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 320.
كتابُ المُسَاقَاةِ
المزارعةُ على الأرضِ
بشطرِ ما يخرُجُ منها؛ جائزٌ؛ سواءٌ كان البَذْرُ من ربِّ الأرضِ، أو من العاملِ؛ هذا هو الصوابُ الذي دلَّتْ عليه سنةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه زارَعَ أهلَ خَيْبَرَ على شَطْرِ ما يخرُجُ منها من ثمرٍ وزرعٍ؛ على أن يعمُروها من أموالِهم
(1)
.
والمزارعةُ على الأرضِ البيضاءِ مذهَبُ الثوريِّ، وابنِ أبي ليلى، وأحمدَ ابن حنبل، وأبي يوسُفَ، ومحمدِ، والمحقِّقينَ من أصحابِ الشافعيِّ العلماءِ بالحديثِ، وبعضِ أصحابِ مالكٍ وغيرِهم.
ونَهْيُه عن المُخابَرةِ: هي أنهم كانوا يعاملونَ ويشترطونَ للمالِكِ بقعةً معينةً من الأرضِ، وهذا باطلٌ باتفاق، كما لو شرَطَ دراهمَ مقدرةً في المضارَبةِ
(2)
.
ومَن استأجَرَ أرضًا
بجزءٍ من زرعِها؛ فظاهرُ المذهبِ صِحَّتُها؛ سواءٌ سُمِّيتْ إجارةً أو مزارعةً، فإن لم يزرَعِ الأرض، وصحَّحْناها؛ ضُمِنتْ
(1)
رواه البخاري (2328)، ومسلم (1551) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (المزارعةُ على الأرضِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 120.
بالمُسمَّى الصحيح، وهنا ليس هو في الذِّمَّةِ، [فيُنظَرُ]
(1)
إلى معدلِ المُغَلِّ، فيجبُ القسطُ المسمَّى فيه.
وإذا جعَلْناها مزارعةً صحيحةً؛ فينبغي أن تُضمَنَ بمثلِ ذلك؛ لأن المعنى واحدٌ.
وإن أفسَدْناها وسَمَّيْناها إجارةً؛ ففي الواجبِ قولانِ:
أحدُهما: أجرةُ المثلِ؛ وهو ظاهرُ قولِ أصحابِنا وغيرِهم.
والثاني: قسطُ المثلِ؛ وهذا هو التحقيقُ.
وأجاب بعضُ الناسِ: أن هذه إجارةٌ فاسدةٌ، فيجبُ بالقبضِ فيها أجرةُ المثلِ
(2)
.
وضمانُ البساتينِ
التي فيها أرضٌ وشجرٌ عدةَ سنينَ؛ صحيحٌ في أحدِ قولَيِ العلماءِ في مذهَبِ أحمدَ وغيرِه، وهو الصحيحُ الذي اختارَه ابنُ عَقيلٍ وغيرُه، وثبَتَ عن أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخطابِ: أنه ضمَّنَ حديقةً لأُسَيْدِ بنِ حُضَيْرٍ بعدَ موتِه ثلاثَ سنينَ، ووفَّى بالضمانِ دينَه
(3)
.
فهذه الضماناتُ التي لبساتينِ دِمَشْقَ الشتويةِ التي فيها أرضٌ وشجرٌ؛ ضماناتٌ صحيحةٌ، وإن كان قد كُتب في المكتوبِ إجارةُ الأرضِ
(1)
في الأصل و (ك) و (ع): (يضطر)، وفي (ز):(ينظر) والتصحيح من مجموع الفتاوى 30/ 123.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن استأجَرَ أرضًا بجزءٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 122.
(3)
تقدم تخريجه ص
…
ظظ
والمساقاةُ على الشجرِ؛ فالمقصودُ الذي اتَّفَقا عليه هو الضمانُ المذكورُ، والعِبْرةُ في العقودِ بالشروطِ التي اتَّفقَ عليها المتعاقدانِ، والمقاصِدُ مُعتبَرةٌ في العقودِ، والذي
(1)
نهى عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من بيعِ الثمرةِ قبلَ بُدُوِّ صلاحِها
(2)
؛ هو بيعُ الثمرِ المجرَّدِ، كما تُباعُ الكرومُ في دِمَشْقَ؛ بحيثُ يكونُ السَّقْيُ والعملُ على البائعِ، والضماناتُ شبيهةٌ بالمؤاجراتِ
(3)
.
ومَن أعطى أرضَه لرجلٍ
يغرِسُها بجزءٍ معلومٍ، وشرَط عليه عِمارتَها، فغرَس بعضَ الأرضِ، وتعطَّلَ ما في الأرضِ من الغراسِ؛ فإذا لم يقُمْ بما شرَطَ عليه؛ كان لربِّ الأرضِ الفَسْخُ، وإذا فسَخ العاملُ أو كانت فاسدةً؛ فلربِّ الأرضِ أن يتمَلَّكَ نصيبَ الغارسِ بقيمتِه إذا لم يتفقا على القلعِ
(4)
.
ومَن رُتِّبَ له على فائضِ مسجدٍ رزقُه
- على الحكمِ أو الخطابةِ -، فبَقِي سنتين لا يتناولُ شيئًا لعدمِ الفائضِ، ثم زادَ الريعُ في السَّنةِ الثالثةِ، وليس له مصارفُ شرعيةٌ، واقتضى نظَرُ الإمامِ أن يصرِفَه إلى الحاكم عِوَضًا عما فاتَه في الماضي؛ جاز ذلك، وإن كان له مصارِفُ شرعيةٌ بالشرطِ؛ لم يجُزْ؛ بل يُصرَفُ إلى مصارِفِه
(5)
.
(1)
في الأصل: الذي. والمثبت من (ك).
(2)
رواه البخاري (2194)، ومسلم (1534) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وضمانُ البساتينِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 151.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن أعطى أرضَه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 126.
(5)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن رُتِّبَ له
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 211.
ومزارعةُ الإقطاعِ جائزةٌ
؛ كالملكِ في أصحِّ قولَيِ العلماءِ، ولا يجوزُ أن يشترطَ على العاملِ شيئًا معينًا كدجاجٍ ونحوِه، وتجوزُ الشهادةُ عليها، ولو كان الشاهدُ ممن لا يجيزُها؛ لأنه عقدٌ مختلَفٌ فيه، والشاهدُ يشهَدُ بما جرى، والمحققونَ من أصحابِ أبي حنيفةَ والشافعيِّ على تجويزها، كما هو مذهَبُ فقهاءِ الحديثِ
(1)
.
وإذا ألزموا الفلاحَ بعُشْرِ
ما على الجنديِّ المزارعِ، فيؤدِّيه من مالِ الجنديِّ؛ فإنه حقٌّ ثابتٌ بيِّنٌ لا نزاعَ فيه، ليس حقًّا خفيًّا، ولا يمكنُ الجنديَّ جَحْدُه، فهو بمنزلةِ حقِّ هندٍ على أبي سفيانَ، فإن حقَّ النفقةِ للزوجةِ ظاهرٌ، لا يمكنُ جَحْدُه، فقال:«خذي ما يَكفيكِ وولدَكِ بالمعروفِ»
(2)
، بخلافِ الخَفِيِّ الذي قال فيه:«أدِّ الأمانةَ إلى مَن ائْتمَنَكَ، ولا تَخُنْ مَن خانَكَ»
(3)
، لما قال له: إنَّ لنا جِيرانًا لا يدَعونَ لنا شاذَّةً ولا فاذَّةً إلا أخَذوها، فإذا قدَرْنا لهم على شيءٍ أنأخُذُه؟ فقال:«أدِّ الأمانةَ إلى مَن ائْتمَنَكَ» ؛ لأن الحقَّ هنا خَفِيٌّ، فإذا أخَذ شيئًا من غيرِ استحقاقٍ ظاهرٍ؛ كان خيانةً
(4)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومزارعةُ الإقطاعِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 140.
(2)
رواه البخاري (5364)، ومسلم (1714) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
رواه أحمد (15424)، وأبو داود (3534) والترمذي (1264).
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا ألزموا الفلاحَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 149.
كتَابُ الإِجَارَةِ
إذا دلَّس المستأجِرُ على المُؤجِرِ
؛ مثلُ أن يكونَ أخبَرَه أن قيمةَ الأرضِ في الناحيةِ كذا؛ بما ينقُصُ عن قيمتِها، ولم يكُنِ الأمرُ كذلك، فأَجَرَه بمالٍ، ثم تبيَّنَ له؛ فله فسخُ الإجارةِ.
وكذلك إن أخبرَه أنه ليس هناك مَن يستأجِرُه، وكان له طلابٌ، أو أخبَرَه أن هذا سعرُه، ولم يكُنْ سعرَه، وأمثالُ ذلك
(1)
.
وإذا أجَّرَ الوَصِيُّ بدونِ أجرةِ المثلِ
؛ كان ضامنًا لما فوَّتَه على اليتيمِ، وليسَتِ الإجارةُ لازمةً، فلليتيمِ فسخُها بعدَ رُشْدِه؛ بل هي باطلةٌ في أحدِ قولَيِ العلماءِ، وفي الآخَرِ: له أن يفسَخَها.
ثم إن كان المستأجِرُ لم يعلم بتحريمِ ما فعَلَه الوَصِيُّ؛ كان له أن يُضَمِّنَه ما لم يلتزمْ ضمانَه، وإن علِم؛ استقرَّ الضمانُ عليه، بل إذا أَجَرَه بأجرةِ المثلِ مدةً يعلمُ أن الصبيَّ يبلُغُ في أثنائِها؛ فأكثرُ العلماءِ يُجوِّزونَ لليتيمِ الفسخَ
(2)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا دلَّس المستأجِرُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 170.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا أجَرَ الوَصِيُّ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 181.
وصناعةُ التنجيمِ والاستدلالُ بها على الحوادثِ
؛ محرَّمٌ بإجماعِ المسلمِينَ، وأخذُ الأجرة على ذلك، ويُمنعُ
(1)
من الجلوسِ في الحوانيتِ والطُّرُقاتِ، ويُمنَعُ الناسُ من أن يُكروهم، والقيامُ في ذلك من أفضلِ الجهادِ في سبيلِ اللهِ تعالى
(2)
.
وليس للمُؤجِرِ فسخُ الإجارةِ
بموتِ المستأجرِ عندَ جماهيرِ العلماءِ، لكن منهم مَن قال: تحلُّ الأجرةُ، وتُستوفَى من تَرِكتِه، فإن لم يكُنْ له تَرِكةٌ؛ فسَخ الإجارةَ.
ومنهم من قال: لا تحلُّ إذا وثَّق الوَرَثةُ، وهذا أظهرُ القولَينِ لأحمدَ، واللهُ أعلمُ
(3)
.
ومَن أَجَرَ أرضَه وساقاه على الشجرِ
، ثم قطَعَ المُؤجِرُ بعضَ الشجرِ؛ فقد نقَصَ من العوضِ المستحَقِّ بقدرِ ما نقَصَ من المنفعةِ، وهذا وإن كان في اللفظِ إجارةٌ ومساقاةٌ فهي في المعنى المقصودِ؛ عوضٌ عن الجميعِ.
وقد تنازَعَ العلماءُ في صحةِ هذا العقدِ؛ وسواءٌ قيلَ بصحتِه أو فسادِه، فما ذهب من الشجرِ ذهب ما يقابِلُه من العِوَضِ؛ سواءٌ كان
(1)
قوله: (ويمنع) سقطت من الأصل. والمثبت من (ك) و (ز).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وصناعةُ التنجيمِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 35/ 197.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وليس للمُؤجرِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 157.
بقطعِ المالِكِ، أو غيرِ قطعِه
(1)
.
وتجوزُ إجارةُ أرضِ مصرَ
؛ سواءٌ شمِلَها الماءُ أو لم يشمَلْها إذا كانت الأرضُ مما قد جرَتِ العادةُ بأن الرِّيَّ يشمَلُها، كما تُكرَى الأرضُ التي جرَتْ عادتُها أن تشربَ من الماءِ قبلَ أن يتنزَّلَ المطرُ عليها، وهذا مذهَبُ أئمةِ المسلمِينَ؛ مالكٍ، وأبي حنيفةَ، وأحمدَ، وهو أيضًا مذهَبُ الشافعيِّ الصحيحُ عنه، ولكنَّ بعضَ أصحابِه غلِطَ في معرفةِ مذهبِه، فلم يُفرِّقْ بينَ الأرضِ التي ينالُها الماءُ غالبًا والتي لا ينالُها إلا نادرًا، كالتي تشربُ
(2)
في أغلبِ الأوقاتِ.
ثم هذه الأرضُ التي صحَّتْ إجارتُها؛ إن شَمِلها الرِّيُّ وأمكنَ الزرعُ المعتادُ؛ وجبَتِ الأجرةُ، وإن لم يَرْوَ منها شيءٌ؛ فليسَ على المستأجِرِ شيءٌ من الأجرةِ، وإن رَوِيَ بعضُها؛ وجَبَ من الأجرةِ بقدرِه، ومَن ألزمَ المستأجِرَ بالأجرةِ إذا لم تَرْوَ الأرضُ؛ فقد خالَفَ إجماعَ المسلمِينَ.
وإذا كان كذلك؛ فلا حاجةَ إلى قولِه: (أجَرْتُكَها مَقيلًا ومَراحًا)، ولا فائدةَ فيه، وإنما فعَلَ ذلك مَن ظنَّ أنه لا تجوزُ الإجارةُ قبلَ رِيِّ الأرضِ، والذي فعلوه من إجارتِها مَقيلًا أو مَراحًا؛ باطلٌ بإجماعِ المسلمِينَ من وجهَينِ:
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن أجرَ أرضَه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 154.
(2)
في الأصل: تشرق. والمثبت من (ك) و (ع) ومجموع الفتاوى.
أحدُهما: أنها لا تصلُحُ مَقيلًا ولا مَراحًا؛ لأن الماشيةَ لا تقيلُ إلا بأرضٍ تقيمُ بها عادةً بقربِ ما ترعاه وتشربُ منه، أما الفيافي التي ليس بها ماءٌ ولا زرعٌ ولا عمارةٌ؛ فلا تصلُحُ مَقيلًا ومَراحًا، وإجارةُ العينِ لمنفعةٍ ليست فيها؛ باطلةٌ.
الثاني: أن هذه المنفعةَ إذا كانت حاصلةً؛ فهي غيرُ مُتقَوَّمةٍ في مثلِ هذه الأرضِ؛ بل البَرِّيَّةُ كلُّها تشاركُ هذه الأرضَ في كونِها مَقيلًا ومَراحًا، والمنفعةُ التي لا قيمةَ لها في العادةِ، بمنزلةِ الأعيانِ التي لا قيمةَ لها؛ لا يصحُّ أن يَرِدَ عليها عقدُ إجارةٍ ولا بيعٍ باتِّفاق؛ كالاستظلالِ، والاستضاءةِ بنارِه من بُعْدٍ، والناسُ يعلمونَ: هل رَوِيتْ، أم لا؟
(1)
.
فَصْلٌ
إذا كانت الإجارةُ لازمةً
؛ فليس للمؤجِرِ أن يُحوِّلَهُ قبلَ انقضاءِ المدةِ؛ سواءٌ حصَلتْ زيادةٌ في أثناءِ المدةِ أو لم تحصُلْ، وسواءٌ كانت العينُ وقفًا أو طلقًا؛ ليتيمٍ أو غيرِه، هذا مذهَبُ الأئمَّةِ الأربعةِ وغيرِهم، لم يقُلْ أحدٌ من المسلمِينَ: إن الإجارةَ المطلقةَ تكونُ لازمةً من أحدِ الطرفينِ في وقفٍ ولا غيرِه، وإن شذَّ بعضُ المتأخِّرِينَ فحكَى نزاعًا في بعضِ ذلك؛ فهو مسبوقٌ باتِّفاقِ الأئمَّةِ قبلَه.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وتجوزُ إجارةُ أرضِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 303.
فلا يجوزُ قبولُ الزيادةِ في وقفٍ ولا غيرِه، إلا حيثُ لا تكونُ الإجارةُ لازمةً؛ مثلُ: كلَّ يومٍ بكذا، ففي كلِّ يومٍ له أن يُخرِجَه، وله هو أن يَخرُجَ؛ فهو متمكنٌ من الإخلاءِ، والمؤْجِرُ مثلُه
(1)
.
ليس للناظرِ ولا وليِّ اليتيمِ
أن يسلمَ ما يتصرَّفُ فيه إلا بإجارةٍ شرعيةٍ، وكذلك الوكيلُ معَ مُوكِّلِه، وكلُّ متصرفٍ بحكمِ الولايةِ.
وليس للناظرِ أن يجعلَ الإجارةَ لازمةً من جهةِ المستأجِرِ، جائزةً من جِهَتِه؛ فإن هذا خلافُ الإجماعِ.
بل إن اعتقدَ صحةَ الإجارةِ والبيعِ ونحوِها بما جرَتْ به العادةُ - كما هو قولُ الجمهورِ-: جاز له أن يسلِّمَه بما هو إجارةٌ في العرفِ، وإن كان
(2)
لا يرى صحةَ ذلك إلا باللفظِ؛ كان عليه ألا يسلِّمَها إلا إذا أَجَرَها باللفظِ.
ومَن اعتقدَ جوازَ بيعِ المعاطاةِ؛ سلَّمَه بهذا البيعِ، وإن اعتقدَ عدمَ صحتِه؛ لم يكُنْ له أن يسلِّمَه بالمعاطاةِ.
فكلُّ مَن اعتقد شيئًا؛ وجَبَ عليه العملُ به له وعليه، ليس لأحدٍ أن يعتقدَ أحدَ القولَينِ فيما له دونَ ما عليه، كمن يعتقدُ أنه إذا كان جارًا استحَقَّ شُفْعةَ الجوارِ، وإذا كان مشتريًا؛ لم تجبْ عليه شُفْعةُ الجوارِ،
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا كانت الإجارةُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 217.
(2)
قوله: (كان) سقطت من الأصل. وهي مثبتة في (ك) و (ز).
وإذا كان من الإخوةِ من الأمِّ في المشرَّكةِ؛ أسقَطَ ولدَ الأبوَينِ، وإن كان هو من الإخوةِ للأبوينِ؛ ورِثَ وشارَكَ، وإذا كان هو المُدَّعِي؛ قَضى له بالنُّكولِ، وإذا كان مُدَّعًى عليه؛ قَضى بردِّ اليمينِ، وأمثالُ ذلك كثيرٌ، فليس لأحدٍ أن يعتقدَ في مسألةِ نزاعٍ مثلِ هذا باتِّفاقِ المسلمِينَ، فإن مضمونَ هذا: أن يُحلِّلَ لنفْسِه ما يُحرِّمُه على مثلِه، وبالعكسِ، ويوجبَ على غيرِه ما لا يوجبُه على نفْسِه معَ تساويهما، فمن اعتقدَ جوازَ ذلك؛ فهو كافرٌ، فالمؤجِرُ يلتزمُ له وعليه ما يعتقِدُه، فإذا سلَّمَ العينَ بإجارةٍ يُجوِّزُها لنفْسِه ويطلبُ الأجرة التي سمَّاها؛ لم يحِلَّ له أن يقبلَ زيادةً
(1)
.
ومَن زاد على مَن هو يَكْتري
، أو مساوِم رُكن إليه؛ وجَبَ تعزيرُ الزائدِ الذي يُضارِرُه.
ويجوزُ إجارةُ الإقطاعِ
، وإذا أُقطِعَتْ لآخَرَ صارَتْ له من حينِ أُقطِعَ، فإن شاء أَجَرَ لذلك المستأجِرِ، وإن شاء لم يُؤْجِرْها له، وإن كان للمستأجِرِ فيها زرعٌ؛ أبقاه بأجرةِ المثلِ إلى حينِ كمالِه
(2)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ليس للناظرِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 175.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجوزُ إجارةُ الإقطاعِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 252، والفتاوى الكبرى 4/ 166.
فَصْلٌ
هل يجوزُ ضمانُ البساتينِ
والأرضِ التي
(1)
فيها النخلُ أو الشجرُ الذي لم يَبْدُ صلاحُه؟ في المسألةِ ثلاثةُ أقوالٍ:
قيلَ: لا يجوزُ بحالٍ، بناءً على أنه داخلٌ فيما نُهي عنه من بيعِ الثمرةِ قبلَ بُدُوِّ صلاحِها، وهذا هو المعروفُ عن الشافعيِّ وأحمد [وهو منقول عن]
(2)
نصِّه، ومذهبُ أبي حنيفةَ أشدُّ منعًا.
وتنازَعَ هؤلاءِ: هل يجوزُ الاحتيالُ على ذلك؛ بأن يُؤْجِرَ الأرضَ، ويساقيَ على الشجرِ بجزءٍ يسيرٍ؟ على قولَينِ:
المنصوصُ عن أحمدَ: أنه لا يجوزُ.
وذكر القاضي أبو يَعْلى: أنه يجوزُ
(3)
، وهو المعروفُ عندَ أصحابِ الشافعيِّ.
وهذه الحيلةُ قد تتعذَّرُ على أصلِ مُصحِّحي الحيَلِ، وهي باطلةٌ من وجوهٍ:
أحدُها: أن الأمكنةَ قد تكونُ وقفًا، أو ليتيمٍ ونحوِه ممن يتصرفُ في مالِه بحكمِ الولايةِ، فالمساقاةُ على ذلك بجزءٍ يسيرٍ لا تجوزُ، واشتراطُ
(1)
في الأصل: التي كان. والمثبت من (ك) ومجموع الفتاوى.
(2)
ما بين المعقوفين تصحيح من مجموع الفتاوى 30/ 220.
(3)
كذا في (ك) و (ع) ومجموع الفتاوى، وفي الأصل: أنه لا يجوز.
أحدِ العقدينِ في الآخَرِ لا يجوزُ.
الثاني: أن الفسادَ الذي [من أجله]
(1)
نُهي عن بيعِ الثمرةِ قبلَ بُدُوِّ صلاحِها؛ من كونِه غَررًا وهو من جنسِ القِمارِ؛ موجودٌ في هذه المعاملةِ أكثرَ من وجودِه عندَ مجرَّدِ بيعِ الثمرةِ.
الثالثُ: أن استئجارَ الأرضِ التي تساوي مائةً بألفٍ، والمساقاةَ على الثمرةِ بجزءٍ من ألفِ جزءٍ؛ فعلُ السفهاءِ الذينَ يستحِقُّونَ الحَجْرَ عليهم، فضلًا عن إمضاءِ فعلِهم والحكمِ بصحتِه.
وأيضًا: له أن يطالِبَه بجميعِ الأجرةِ؛ حصَلَتِ الثمرةُ أو لم تحصُل، فليس هذا من أفعالِ الرشيدينَ؛ لا سيَّما إن كان المتصرفُ ممن لا يملِكُ التبرعَ، وليس الفقيهُ من عمَدَ إلى ما نهى عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم دفعًا لفسادٍ يحصُلُ لهم، فعدَل عنه إلى ما فسادُه أشدُّ منه، فإنه بمنزلةِ المستجيرِ من الرَّمْضاءِ بالنارِ، وهذا يتسلمُ من قاعدةِ إبطالِ الحيلِ، فإن كثيرًا منها يتضمَّنُ من الفسادِ والضررِ أكثرَ مما في إتيان المنهيِّ عنه ظاهرًا، كما قال أيوبُ السَّخْتِيانيُّ:«يُخادِعونَ اللهَ كأنما يُخادِعونَ الصبيانَ، لو أتَوُا الأمرَ على وجهِه كان أهونَ عليَّ»
(2)
.
ولهذا يوجدُ في نكاحِ التحليلِ من الفسادِ أعظمُ مما يوجدُ في نكاحِ المتعةِ؛ إذ المتمتِّعُ قاصدٌ للنكاحِ إلى وقتٍ، والمُحلِّلُ غيرُ قاصدٍ، فكلُّ
(1)
ما بين المعقوفين زيادة تصحيح من مجموع الفتاوى 30/ 221.
(2)
علقه البخاري في صحيحه، كتاب الحيل، باب ما ينهى من الخداع 9/ 24، لكن مكان:(الصبيان) قال: (آدميًّا).
فسادٍ نُهي عنه المتمتع فهو في التحليلِ وزيادةٌ، ولهذا تُنكِرُ قلوبُ الناسِ التحليلَ أعظمَ من المتعة، والمتعةُ أُبيحَتْ أولَ الاسلامِ، وتنازَعَ السَّلَفُ في بقاءِ الحلِّ، والتحليلُ لم يُبَحْ قطُّ، ومَن شنَّعَ على الشيعةِ بإباحةِ المتعةِ معَ إباحتِه للتحليلِ؛ فقد سلَّطَهم على القدحِ في السُّنَّةِ، كما يُسلِّطُ النصارى على القدحِ في الإسلامِ بمثلِ إباحةِ التحليلِ؛ حتى قالوا: إن هؤلاءِ قال لهم نبِيُّهم: إذا طلَّقَ أحدُكم امرأتَه لم تَحِلَّ له حتى تزنيَ، وذلك أن نكاحَ التحليلِ سِفاحٌ، كما سَمَّاه الصحابةُ
(1)
.
والقولُ الثاني: أنه إن كان منفعةُ الأرضِ هو المقصودَ والشجرُ تبعٌ؛ جاز أن تُؤْجَرَ الأرضُ، ويدخُلُ في ذلك الشجرُ تَبَعًا، وهذا قولُ مالكٍ، ويُقدَّرُ التابعُ بقدرِ الثلثِ، ويجوزُ من بيعِ الثمر قبلَ بُدُوِّ صلاحِها ما يدخُلُ ضمنًا وتبعًا، كما جاز أن يشترطَ المُبْتاعُ الثمرةَ بعدَ أن تُؤبَّرَ، فالمُبْتاعُ قد اشترى الثمرةَ قبلَ بُدُوِّ صلاحِها؛ لكن تَبَعًا، كذلك هذا.
والقولُ الثالثُ: أنه يجوزُ ضمانُ الأرضِ والشجرِ جميعًا، وإن كان الشجرُ أكثرَ، وهو قولُ ابنِ عقيلٍ، ومأثورٌ عن عمرَ بنِ الخطابِ في بيعِه حديقةَ أُسَيْدِ لما قَبَّلها
(2)
ثلاثَ سنينَ، ووفَّى دينَ أُسَيْدِ بنِ حُضَيرٍ
(3)
،
(1)
ومن ذلك ما رواه عبد الرزاق (10776)، وابن أبي شيبة (17085) أن ابن عمر رضي الله عنهما سئل عن تحليل المرأة لزوجها، فقال:«ذلك السفاح» ، ورواه البيهقي (14189) بلفظ:«كنا نعد هذا سفاحًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
(2)
قال ابن كثير في مسند الفاروق (ص 358): (ومعنى: "قبلهم" أي: ضمنهم)، وفي القاموس (ص 1045):(والقبيل: الكفيل والعريف والضامن).
(3)
تقدم تخريجه ص .... ظظ
روى ذلك حربٌ في مسائِلِه عن أحمدَ، ورواه أبو زرعة الدمشقيُّ وغيرُهما، وهو معروفٌ عن عمرَ، والحدائقُ التي بالمدينةِ يغلبُ عليها الشجرُ.
وقد ذكَر هذا الأثرَ بعضُ فقهاءِ المغربِ، وزعم أنه خلافُ الإجماعِ؛ وليس بشيءٍ؛ بل ادِّعاءُ الإجماعِ على جوازِه أقربُ، فإن عمرَ فعَلَه بالمدينةِ النبويةِ بمشهدٍ من المهاجرينَ والأنصارِ، واشتَهَر ولم يُنكَرْ، معَ أنهم كانوا يُنكِرونَ ما دونَها على عمرَ، كما أنكَرَ عِمْرانُ بنُ حُصَيْنٍ وغيرُه ما فعَلَه عمرُ من متعةِ الحجِّ
(1)
.
والذي فعَلَه عمرُ هو الصوابُ، إذا تدبَّرَ الفقيهُ أصولَ الشريعةِ؛ تبيَّنَ له أنه ليس داخلًا فيما نهى اللهُ عنه لأمورٍ:
أحدُها: أن الأرضَ يمكنُ فيها الإجارةُ، ويمكنُ فيها بيعُ حَبِّها قبلَ أن يشتدَّ، ثمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لما نهى عن بيعِ الحبِّ حتى يشتدَّ؛ لم يكُنْ ذلك نَهْيًا عن إجارةِ الأرضِ، وإن كان مقصودُ المستأجِرِ هو الحبَّ؛ لأنَّ المستأجر هو الذي يعملُ في الأرضِ حتى يحصِّلَ الحبَّ، بخلافِ المشتري؛ فإنه يشتري حبًّا مجردًا، وعلى البائعِ خدمتُه حتى يتحصَّلَ، فكذلك نَهْيُه عن بيعِ العِنَبِ حتى يسودَّ؛ ليس نَهْيًا عمَّن يأخذُ الشجرَ فيقومُ عليها ويَسْقيها حتى تثمرَ، إنما النهيُ لمن اشترى عينًا
(2)
مجردةً
(1)
رواه مسلم (1226).
(2)
في (ك) و (ع): عنباً.
وعلى البائعِ خدمتُها حتى تكملَ، كما يفعلُ المشترونَ للأعيانِ التي تُسمَّى الكرمَ، ولهذا كان هؤلاءِ لا يبيعونَها حتى يبدُوَ صلاحُها، بخلافِ التضمينِ.
الوجهُ الثاني: أن المزارَعةَ على الأرضِ كالمساقاةِ على الشجرِ، وكلاهما جائزٌ عندَ فقهاءِ الحديثِ وإجماعِ الصحابةِ، والذينَ نَهَوا عنها ظنُّوها من بابِ الإجارةِ، وعوَضُها مجهولٌ، وأبو حنيفةَ طرَدَ قياسَه فلم يُجوِّزْها بحالٍ، وأما الشافعيُّ فإنه استثنى ما يحتاجُ إليه؛ كالبياضِ إذا دخل تَبَعًا للشجرِ في المساقاةِ، وكذلك مالكٌ لكن يراعي القلةَ والكثرةَ على أصلِه.
وهؤلاءِ جعلوا المضاربةَ أيضًا خارجةً عن القياسِ؛ ظنًّا أنها من بابِ الإجارةِ بعِوَضٍ مجهولٍ، والتحقيقُ: أن هذه المعاملاتِ هي من بابِ المشاركاتِ، لا من بابِ المؤاجراتِ، فالمضاربةُ والمساقاةُ والمزارعةُ؛ مشاركةُ هذا بنفعِ بَدَنِه وهذا بنفعِ مالِه، وما قسَم اللهُ من الرِّبْحِ كان بينَهما كشريكي العِنانِ.
ولو قيلَ: هي جِعالةٌ؛ كان أشبَهَ؛ لأن الجِعالةَ لا يكونُ العملُ فيها معلومًا، ولكن ليست جِعالةً أيضًا؛ فإن الجَعالةَ يكونُ المقصودُ لأحدِهما من غيرِ جنسِ مقصودِ الآخَرِ، هذا قصدُه ردَّ آبِقِه، وهذا قصدُه الجُعْلَ، بخلافِ المساقاةِ والمزارعةِ والمضاربةِ، هما شريكانِ في جنسِ المقصودِ، وهو الربحُ، مستويانِ في المَغْرمِ والمَغْنمِ، ولهذا وجَب أن يكونَ المشروطُ فيها مشاعًا مقدَّرًا معلومًا، ولو كانت إجارةً أو جِعالةً
لكان أقلُّ الأحوالِ فيها أن يجوزَ كونُ العِوَضِ فيها مقدَّرًا معلومًا لا شائعًا، فلما كان المشروطُ لأحدِهما من جنسِ المشروطِ للآخَرِ؛ عُلِم أنه من بابِ المشاركةِ، كما في العِنانِ، ولو شَرَط لأحدِهما مقدَّرًا من الربحِ أو غيرِه لم يجُزْ؛ لأنه المخابرةُ، فأينَ من يجعلُ ما جاءتْ به السُّنَّةُ موافقًا للأصولِ ممن يجعلُه مخالفًا للأصولِ؟
وإذا كان كذلك؛ فمعلومٌ أنه إذا ساقاه على الشجرِ بجزءٍ من الثمرةِ؛ كما إذا زارَعَه على الأرضِ بجزءٍ من الزرعِ، وضاربه على النقدِ بجزءٍ من الرِّبْحِ؛ فقد جُعِلتِ الثمرةُ من بابِ النَّماءِ، والفائدةُ الحاصلةُ ببدنِ هذا ومالِ هذا، والذي نُهِي عنه من بيعِ الثمرةِ ليس للمشتري عمَلٌ في حصولِه أصلًا؛ بل العملُ كلُّه على البائعِ، فإذا استأجَرَ الأرضَ والشجرَ حتى يحصُلَ له ثمرٌ؛ جاز، كما إذا استأجَرَ الأرضَ حتى يحصُلَ له الزرعُ.
الوجهُ الثالثُ: أن الثمرةَ تجري مَجْرى المنافعِ والفوائدِ في الوقفِ والعاريَّةِ ونحوِهما، فيجوزُ وقفُ الشجرِ لينتفعَ أهلُ الوقفِ بالثمرِ، كما يقفُ الأرضَ، ويجوزُ إعارةُ الشجرِ، كما يجوزُ إفقارُ الظهرِ، وعاريةُ الدارِ، ومنيحةُ اللبنِ.
فإن قيلَ: هذا يقتضي أن الأعيانَ معقودٌ عليها في الإجارةِ.
قيلَ الجواب: أن تقبيلَ الأرضِ والشجرِ ليس هو عقداً على عينٍ، وإنما هو بمنزلةِ إجارةِ الأرضِ ليحصُلَ له الزرعُ؛ لكن العقدَ ورَد على المنافعِ التي هي تشبه هذه الأعيانِ.
ويقالُ ثانيًا: لا نسلِّمُ أن إجارةَ الظِّئْرِ على خلافِ القياسِ، وكيفَ يُقالُ ذلك وليس في القرآنِ إجارةٌ منصوصةٌ في شَريعتِنا إلا إجارةَ الظِّئْرِ، فمن ظنَّ أن الإجارةَ لا تكونُ إلا على المنفعةِ قال ذلك، وليس الأمرُ كذلك؛ بل الإجارةُ تكونُ على كل ما يُستوفَى معَ بقاءِ أصلِه؛ سواءٌ كان عينًا أو منفعةً؛ كالظِّئْرِ ونقعِ البئرِ، فهي يُحدِثُها اللهُ وأصلُها باقٍ، فهي كالمنفعةِ، ولهذا جاز وقفُ هذه الأصولِ لاستثمارِ
(1)
هذه الفوائدِ؛ أعيانِها ومنافِعِها.
فإن قيلَ: فهذا يقتضي جوازَ إجارةِ الحيوانِ؟
قيلَ: وفي هذه المسألةِ نزاعٌ بينَ العلماءِ أيضًا، والمعارضةُ لا تكونُ بمسألةِ نزاعٍ؛ بل بدليلٍ شرعيٍّ، فإن كلَّ ما ذكَرْنا من دليلٍ يوجبُ صحةَ هذه الإجارةِ؛ لزمَ طَرْدُه.
وإذا لم يتمكَّنِ المستأجِرُ من ازْدِراعِ الأرضِ لآفةٍ حصَلَتْ؛ لم تكُنْ عليه أجرةٌ، وإن نبَت الزرعُ ثم حصَلَتْ آفةٌ سماويةٌ أتلَفَتْه قبلَ التمكُّنِ من حَصادِه؛ ففيه نزاعٌ، نظرًا إلى أن الثمرةَ والمنفعةَ هي المعقودُ عليها، وهنا الزرعُ ليس بمعقودٍ عليه؛ بل المعقودُ عليه المنفعةُ، ومن سوَّى قال: المقصودُ بالإجارةِ هو الزرعُ، فإذا حالَتِ الآفةُ بينَ المقصودِ بالإجارةِ؛ كان قد تلِفَ المقصودُ بالعقدِ قبلَ التمكنِ من قبضِه، والمؤجِرُ وإن لم يعاوِضْ على زرعٍ؛ فقد عاوضَ على المنفعةِ التي يتمكنُ بها من
(1)
في (ك) و (ع): لاستمرار.
حصولِ الزرعِ، فإذا حصَلَتِ الآفةُ قبلَ التمكنِ؛ لم تسلمْ له المنفعةُ المعقودُ عليها؛ بل تلِفَتْ قبلَ التمكنِ، ولا فرقَ بينَ تعطُّلِ منفعةِ الأرضِ في أولِ المدةِ أو آخِرِها، وعلى هذا ينبني مسألةُ ضمانِ الحدائِقِ، واللهُ أعلمُ
(1)
.
ومَن لها حُلِيٌّ فأكرَتْه كِراءً مباحًا
لمن تتزيَّنُ به لزوجِها أو سيدِها؛ فهو جائزٌ، وكرِهَه مالكٌ وأحمدُ وكثيرٌ من أصحابِهما كراهةَ تَنْزيهٍ.
فإذا أكرَتْه لحاجتِها، وأكَلتْ كِراءَه؛ لم يُنْهَ عنه، وعليها زكاتُه عندَ أكثرِهم؛ أبي حنيفةَ ومالكٍ وأحمدَ.
فأما إن أكرَتْه لمن تتزيَّنُ به للرجالِ الأجانبِ؛ فلا يجوزُ، وأشدُّ منه لمن تفعلُه للفاحشةِ، قال اللهُ تعالى:{وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، ولا يجوزُ إعانةُ أحدٍ على الفاحشةِ، لا بحُلِيٍّ، ولا لباسٍ، ولا مسكنٍ، ولا دابَّةٍ، ولا بغيرِه
(2)
.
ومَن استأجَرَ ما تكونُ منفعةُ إيجارِه للناسِ
؛ مثلُ: الحمامِ، والفندقِ، والقيساريةِ
(3)
، فنقصَتِ المنفعةُ المعروفةُ؛ لنقل جيرته، وقلةِ الزبونِ؛ لخوفٍ أو حربٍ أو تحويلِ ذي سلطانٍ ونحوِه؛ فإنه يُحَطُّ عن
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (هل يجوزُ ضمانُ البساتينِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 220.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن لها حُلِيٌّ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 195.
(3)
قال في لسان العرب 5/ 93: (القيسري من الإبل: الضخم الشديد القوي).
المستأجِرِ من الأجرةِ بقدرِ ما نقَصَ من المنفعةِ؛ سواءٌ رضِيَ الناظرُ وأهلُ الوقفِ أو سخِطوا
(1)
.
الوزانُ بالقَبَّانِ
(2)
كالوزنِ بسائرِ الموازينِ، إذا وزن بالعدلِ؛ جاز له أخذُ الأجرةِ ممن وزن له، وإن وزن
(3)
باخسًا كان من الظالمينَ المعتدينَ
(4)
.
إذا أعطاه شمعًا
، وقال: أوْقِدْه، فكلما نقَصَ منه أوقيةٌ فهي بكذا؛ جاز ذلك، كما لو قال: اسكُنْ هذه الدارَ كلَّ يومٍ بكذا، في أظهرِ قولَيِ العلماءِ، فإنه إذنٌ في الإتلافِ على وجهِ الانتفاعِ بعوضٍ، ليس هو من باب الإجارةِ، ولا من بابِ البيعِ اللازمِ؛ بل معاوضةٌ جائزةٌ لا لازمةٌ، كما لو قال: ألْقِ مَتاعَكَ في البحرِ وعليَّ ثمنُه؛ لكن لا بدَّ أن يكونَ الإيقاد في أمرٍ مباحٍ
(5)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن استأجَرَ ما تكونُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 311.
(2)
نوع من أنواع الموازين التي توزن بها الأشياء. ينظر: الصحاح 6/ 2179، تاج العروس 16/ 378.
(3)
قوله: (وزن) سقطت من الأصل، وهي مثبتة في (ك) و (ز)، والعبارة في مجموع الفتاوى 30/ 189:(وإن كانت الآلة فاسدة والوازن باخساً كان من الظالمين المعتدين).
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (الوزانُ بالقَبَّانِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 189.
(5)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا أعطاه شمعًا
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 196.
وعلى الناظرِ ألا يؤْجِرَ
حتى يغلبَ على ظنِّه أنه ليس هناك مَن يزيدُ، وعليه أن يُشهِرَ المكانَ عندَ أهلِ الرغباتِ الذينَ جرَتِ العادةُ باستئجارِهم مثلَ ذلك المكانِ، فإذا فعَل ذلك فقد أَجَره بأجرةِ المثلِ، وهي الإجارةُ الشرعيةُ، فإن حابى به بعضَ أصدقائِه، أو بعضَ مَن له عندَه يدٌ، فأَجَرَه بدونِ أجرةِ المثلِ؛ كان ظالمًا ضامنًا لما نقَصَ أهلَ الوقفِ من أجرةِ المثلِ.
ولو تغيَّرتْ أسعارُ العقارِ بعدَ الإجارةِ الشرعيةِ؛ لم يملكِ الفسخَ بذلك، فإن هذا لا ينضبِطُ ولا يدخُلُ في التكليفِ.
والمنفعةُ بالنسبةِ إلى الزمانِ قد تختلفُ، فتكونُ قيمتُها في الشتاءِ أكثرَ من الصيفِ، وبالعكسِ، فلو قُدِّر أنها انفسَخَتْ في بعضِ الحولِ؛ لَبُسِطَتِ الأجرةُ في مثلِ ذلك بالقيمةِ لا بأجزاءِ الزمانِ، فيقالُ: كم قيمتُه وقتَ الصيفِ، وقيمتُه وقتَ الشتاءِ؟ فتُقسَمُ الأجرةُ على القيمةِ، ويُحسَبُ لكلِّ زمانٍ من الأجرةِ بقدرِ قيمتِه.
والواجبُ على الناظرِ
(1)
أن يفعلَ مصلحةَ الوقفِ من كِرائِه موايمةً
(2)
، أو مُشاهرةً
(3)
، أو مُساناةً
(4)
، وليس له إخراجُه قبلَ انقضاءِ مدتِه لأجلِ زيادةٍ أو غيرِها.
(1)
قوله: (الناظر) سقطت من الأصل، والمثبت من (ك) و (ع) ومجموع الفتاوى.
(2)
كذا في النسخ الخطية، ولعل صوابها:(مياومة)، قال في جمهرة اللغة 2/ 994:(اكتريته مياومة، إذا اكتريته يومًا يومًا).
(3)
أي المعاملة شهراً بشهر. ينظر العين 3/ 400.
(4)
أي: المعاملة سنة بسنة. ينظر العين 3/ 8.
وما فعَلَه بعضُ متأخِّرِي الفقهاءِ من أصحابِ الشافعيِّ وأحمدَ من التفريقِ بينَ أن يزادَ قدرُ الثلثِ أو أقلُّ؛ فهو قولٌ مُبتدَعٌ، لا أصلَ له عن أحدٍ من الأئمَّةِ، لا في وقفٍ ولا غيره، واللهُ أعلمُ
(1)
.
وإذا كان الوقفُ
على جهةٍ عامةٍ؛ جازَتْ إجارتُه بحسَبِ المصلحةِ، ولا يتقدرُ بعددٍ عندَ أكثرِ العلماءِ
(2)
.
وإذا قال
(3)
الزارعُ:
أعَرْتَني، فقال المالكُ: بل أجَرْتُكَ، فالقولُ قولُ المالِكِ.
وفي الدابَّةِ روايتانِ؛ قيلَ: قولُ المالِكِ، وقيلَ: قولُ الراكبِ؛ وهو قولُ أبي حنيفةَ.
وإذا قُلْنا في الأرضِ مثلًا: القولُ قولُ المالكِ؛ فهل يُطالَبُ بالأجرةِ التي ادَّعاها، أو بأجرةِ المثلِ، أو بالأقلِّ منهما؟ على ثلاثةِ أقوالٍ في مذهَبِ أحمدَ وغيرِه.
وقال مالكٌ: القولُ قولُ المالكِ.
ومنهم من قال: إلا أن يكونَ مثلُه لا يُكرِي الدوابَّ.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وعلى الناظرِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 185.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا كان الوقفُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 246.
(3)
قوله: (قال) سقطت من الأصل. والمثبت من (ك).
وللشافعيِّ فيهما قولانِ بالنقلِ والتخريجِ، فإنه نصَّ في الأرضِ: أن القولَ قولُ المالكِ، وفي الدابَّةِ: قولُ الراكبِ.
وبعضُ أصحابِه قرَّر النصَّيْنِ، وفرَّق: بأن الدابَّةَ يُسمَحُ بعارِيَّتِها، بخلافِ الأرضِ
(1)
.
فَصْلٌ
في فلاحٍ حرَثَ أرضًا
، ثم زرَعَها غيرُه: إذا كانت الأرضُ مقاسمةً؛ لربِّ الأرضِ سهمٌ، وللفلاحِ سهمٌ؛ فإنه يُقْسَمُ نصيبُ الفلاحِ بين الحارثِ والزارعِ على مقدارِ ما بذَلَاه من نفعٍ ومالٍ
(2)
.
وإذا أَجَرَ الوصِيُّ مدةَ ثلاثينَ
سنةً بغيرِ قيمةِ المثلِ، ثم تُوُفِّيَ الوَصِيُّ، وبلَغَتِ المُوصَى عليها؛ فلها أن تفسَخَ الإجارةَ بلا نزاعٍ، وإنما النِّزاعُ: هل تقعُ باطلةً من أصلِها، أو مضمونةً على المؤجرِ؟
أجاب بذلك في رجلٍ تصدَّقَ على ابنْتِه لصُلْبِه، وأسندَ وصِيَّتَه لرجلٍ، فأَجَر مدةَ ثلاثينَ سنةً؛ فأجابَ بذلك
(3)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا قال الزارعُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 249.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (في فلاحٍ حرَثَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 251.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا أجَرَ الوصِيُّ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 308، الفتاوى الكبرى 4/ 276.
وإذا أقرَضَه عشرةً
على أن يَكْتريَ منه حانوتَه بأكثرَ من أجرةِ المثلِ؛ لم يجُزْ هذا باتِّفاقِ المسلمِينَ؛ بل لو قرَنَ بينَهما كان باطلًا منهيًّا عنه عندَ أكثرِ العلماءِ
(1)
.
والإقطاعُ نوعانِ:
إقطاعُ تمليكٍ، كما يُقطَعُ المواتُ لمن يُحْيِيه بتملُّكِه.
وإقطاعُ استغلالٍ؛ وهو إقطاعُ منفعةِ الأرضِ لمن شاء أن يستغلَّها، أو يُؤْجِرَها، أو يُزارِعَ عليها.
والإقطاعُ اليومَ من هذا البابِ، فإن المُقطَعِينَ لم يُقطَعوا مجرَّدَ خراجٍ واجبٍ على شيءٍ من الأرضِ بيدِه؛ كالخراجِ الشرعيِّ الذي ضرَبَه عمرُ رضي الله عنه على بلادِ العَنْوةِ
(2)
، وكالإجارةِ التي تكونُ في ذِمَّةِ مَن يستأجرُ عقارًا لبيتِ المالِ، فمن أقطَعَ ذلك فقد أقطَعَ خراجًا.
وإذا عُرِف ذلك؛ فإذا انفسَخَ الإقطاعُ في أثناءِ السَّنةِ - إما لموتِ المقطَعِ وإما لغيرِه - وأُقطعَ لغيرِه؛ كانت المنفعةُ الحادثةُ للمقطَعِ الثاني دونَ الأولِ؛ بحيثُ لو كان الأولُ قد أَجَرَ الأرضَ، ثم انفسَخَ إقطاعُه؛ انفسَخَتْ تلك الإجارةُ، كما تنفسِخُ إجارةُ البطنِ إذا انتَقلَ الوقفُ إلى البطنِ الثاني في أصحِّ الوجهَينِ، فإذا انفسَخَ في نصفِ المدةِ؛ كان له
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا أقرَضَه عشرةً
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 162.
(2)
تقدم تخريجه ص .... ظظ
نصفُ المنفعةِ، أو رُبُعِها الأولِ كان للأولِ الربعُ، وللثاني ثلاثةُ أرباعِ المنفعةِ المستحَقَّةِ، والأولُ ليس بغاصبٍ؛ بل هو كالمستأجِرِ؛ بل أَوْلى، فهنا للفقهاءِ ثلاثةُ أقوالٍ:
أحدُها: الزرعُ للمزدرعِ، وعليه الأجرةُ.
والثاني: الزرعُ لربِّ الأرضِ، وعليه ما أنفَقَه الأولُ على زرعِه.
وهذان القولانِ معروفانِ فيمن زرَعَ أرضَ غيرِه بغيرِ إذنِه، وهذا ليس هو غاصبًا؛ لكن بمنزلةِ أنه مما يعد زرَعَ في أرضِ الغيرِ بغيرِ إذنِهِ، فهو كما لو اتَّجَر في مالٍ يظنُّه لنفْسِه، فبان أنه لغيرِه.
وفي هذه المسألةِ قولٌ ثالثٌ، قضَى عمرُ في نظيرِه؛ وهو أصَحُّها، فإنه كان قد اجتَمعَ عندَ أبي موسى مالٌ للمسلمِينَ، يريدُ أن يرسلَه إلى عمرَ، فمَرَّ به ابنا عمرَ، فقال: إني لا أستطيعُ أن أُعطِيَكُما شيئًا، ولكنْ عندي مالٌ أريدُ حملَه إليه، فخُذاه اتَّجِرا به، وأعطوه مثلَ المالِ، فيكون قد انتفَعْتُما، والمالُ حصَلَ عندَه معَ ضمانِكُما له، اشتَريا به بضاعةً، فلما قدِمَا على عمرَ قال: أكلَّ العَسْكرِ أقرَّهم مثلَ ما أقرَّكما؟ فقالا: لا، فقال: ضَعَا الربحَ كلَّه في بيت المالِ، فسكَتَ عبدُ اللهِ، وقال له عُبَيدُ اللهِ: أرأيتَ لو ذهَبَ هذا المالُ؛ أما كان علينا ضَمانُه؟ قال: بلى، فقال: كيفَ يكونُ الربحُ للمسلمِينَ، وعلينا ضمانُه؟ فوقَفَ عمرُ، فقال له الصحابةُ: اجعَلْه مضاربةً بينَهما وبينَ المسلمِينَ، لهما نصفُ الربحِ، وللمسلمِينَ النصفُ، فعمِلَ عمرُ ذلك
(1)
.
(1)
تقدم تخريجه ص .... ظظ
وهذا أحسَنُ الأقوالِ التي تنازَعَها الفقهاءُ في مسألةِ التجارةِ بالوديعةِ وغيرِها من مالِ الغيرِ، فإن فيها أربعةَ أقوالٍ لأحمدَ وغيرِه؛ هل الربحُ لبيتِ المالِ
(1)
، أو للعاملِ، أو يتصدقانِ به، أو يُقسَمُ بينَهما كالمضاربةِ؟
ومسألةُ الإقطاعِ كذلك، فإنه زرَعَ الأرضَ يظنُّها لنفْسِه، فتبيَّنَ أنها أو بعضَها لغيرِه، فجُعل الزرعُ بينَهما مزارعةً، والمزارعةُ المطلقةُ تكونُ مشاطرةً، فجُعل للأولِ نصفُ الزرعِ، كالعاملِ في المزارعةِ، ويُجعل النصفُ الثاني للمنفعةِ المقطعةِ، والأولُ قد استحقَّ ربعَها، فيُجعَلُ له النصفُ ورُبُعُ النصفِ بناءً على ما ذكَرْنا، وللثاني ثلاثةُ أرباعِ النصفِ، وهذا أعدلُ الأقوالِ في مثلِ هذه المسألةِ.
وتضَمَّنَ ذلك: أن المزارعةَ يكونُ الزرعُ فيها من العاملِ؛ وهو الصوابُ، كما عامَلَ أهلَ خَيْبرَ.
وأما القوةُ التي تُجعَلُ في الأرضِ؛ فإنها ليست قرضًا محضًا كما يظنُّه بعضُهم، فإن القرضَ المُطلَقَ يَتصرَّفُ فيه بما أرادَ، وهذه القوةُ مشروطةٌ على من يقبِضُها أن يبذُرَها في الأرضِ، ليس له التصرفُ فيها بغيرِ ذلك، فقد جُعِلتْ قوةٌ في الأرضِ ينتفعُ بها كلُّ من يستعملُ الأرضَ من مقطَعٍ وعاملٍ؛ إذ مصلحةُ الأرضِ لا تقومُ إلا بذلك، ولهذا يُقالُ: مَن دخَل على قوةٍ خرَجَ على نظيرِها.
(1)
في (ك): لرب المال.
وحقيقةُ الأمرِ: أن السلطانَ اشترطَ على المقاطِعَةِ
(1)
أن يَتركوا في الأرضِ قوةً، وإذا كان الأولُ قد تركَ فيها قوةً، والثاني محتاجٌ إليها، فرأى وليٌّ من ولاةِ الأمرِ أن يجعلَ عطاءَها للأولِ بقسطه بحسَبِ المصلحةِ؛ جاز ذلك، وإذا جرَتِ العادةُ بأن مَن دخَل على قوةٍ خرَج على نظيرِها، ومَن أعطى قوةً من عندِه واستوفاها مؤجلةً؛ كان إقطاعُ وليِّ الأمرِ بهذا الشرطِ، وذلك جائزٌ، فإن الزرعَ إنما ملكَه بالإقطاعِ، وإقطاعُ وليِّ الأمرِ بمنزلةِ قسمةِ بيتِ مالِ المسلمِينَ.
وليست قسمةُ الأموالِ السلطانيةِ بمنزلةِ قسمةِ المالِ بينَ الشركاءِ المُعيَّنينَ؛ لأن قسمةَ المالِ بينَ الشركاءِ مثلُ قسمةِ الميراثِ، يُقسَمُ بينَهم كلُّ صنفٍ إن قبِلَ القسمةَ؛ وإلا بِيعَ وقُسِم ثمنُه عندَ أكثرِ الفقهاءِ؛ كمالكٍ وأحمدَ وأبي حنيفةَ، وليس لأحدِ الشريكَيْنِ أن يختصَّ بصنفٍ.
وأما أموالُ الفَيْءِ؛ فللإمامِ أن يخُصَّ طائفةً بصنفٍ، وطائفةً بصنفٍ آخَرَ، وكذلك في المغانِمِ على الصحيحِ، كما يجوزُ تفضيلُ بعضِ الغانِمِينَ لمنفعته على الصحيحِ، فمالُ الفَيْءِ يُستحَقُّ بحسَبِ الحاجةِ والمقاتلةِ، فيجبُ أن يُقسَمَ بالعدلِ، كما يجبُ العدلُ على كلِّ حاكمٍ وكلِّ قاسمٍ؛ لكنْ إذا قُدِّر أن الحاكمَ أو القاسمَ ليس عدلًا؛ لم تبطُلْ جميعُ أحكامِه وقَسْمُه على الصحيحِ الذي عليه السَّلَفُ؛ فإنه قد ثبَتَ عنه صلى الله عليه وسلم: أنه أمَر بطاعةِ وُلاةِ الأمورِ معَ جَوْرِهم
(2)
، فإذا أمَرَ بالمعروفِ؛
(1)
في النسخ الخطية: المقاطع. والمثبت من مجموع الفتاوى.
(2)
سيرد الحديث من كلام المصنف قريبًا.
وجَبَ طاعتُه وإن كان ظالمًا، وإذا حكَم حكمًا عدلًا، وقسَم قسمًا عدلًا؛ كان من العدلِ الذي يجبُ طاعتُه، والظالِمُ لو قسَم ميراثًا بينَ مستَحِقِّيه بكتابِ اللهِ؛ كان عدلًا بإجماعِ المسلمِينَ، ولو قسم مغنمًا بينَ الغانِمِينَ بالحقِّ؛ كان عدلًا بالإجماعِ، ولو حكَم لمدعٍّ ببينةٍ عادلةٍ لا تُعارَض؛ كان عدلاً، تجبُ طاعتُه فيه.
وأما إن كانت القسمةُ غيرَ عادلةٍ؛ مثلُ: أن يُعطِيَ بعضَ الناسِ فوقَ ما يستحِقُّ، أو ينقُصَ بعضَهم؛ فهذا من الأَثَرةِ التي ذكَرَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ حيثُ قال:«على المسلمِ السمعُ والطاعةُ في عُسْرِه ويُسْرِه، ومَنْشَطِه ومَكْرَهِه، وأَثَرةٍ عليه؛ ما لم يُؤمَرْ بمعصيةٍ»
(1)
، ومعلومٌ أن هذا ما زال في وُلاةِ الأمرِ، وإنما يُستثنَى الخلفاءُ الراشدونَ ومَن اتَّبَعَهم.
وليس لقائلٍ أن يقولَ: آخُذُه بمجرَّدِ الاستيلاءِ، كما لو لم يكُنْ حاكمٌ ولا قاسمٌ، فإنه على نفوذِ هذه المقالةِ تبطُلُ الأحكامُ والأعطيةُ التي فعَلَها ولاةُ الأمورِ جميعُهم غيرَ الخلفاءِ، وحينئذٍ تسقُطُ طاعةُ ولاةِ الأمورِ، إذ لا فرقَ بينَ حُكمٍ وقَسْمٍ وبينَ عدمِه، وفي ذلك من الفسادِ في العقلِ والدينِ ما لا يخفى، فإنه لو فُتِح ذلك أَفْضى الفسادُ إلى ما هو أعظمُ من ظلمِ الظالمِ، ثم كان كلُّ واحدٍ يظُنُّ أن ما يأخُذُه حقُّه، وليس للإنسانِ أن يكونَ حاكمًا لنفْسِه، ولا شاهدًا لها، فكيفَ يكونُ قاسمًا لها؟! ولو كان على ما يظنُّه الجاهلُ لكان وجودُ السلطانِ كعدمِه، وهذا لا يقولُه عاقلٌ؛ بل قال العقلاءُ: (ستُّونَ سنةً من سلطانٍ ظالِمٍ؛ خيرٌ من
(1)
رواه مسلم (1839) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ليلةٍ بلا سلطانٍ)، وما أحسَنَ قولَ عبدِ اللهِ بنِ المبارَكِ:
لولا الأئمَّةُ لم تأمَنْ لنا سُبُلٌ وكان أضعَفُنا نَهْبًا لأَقْوانا
(1)
وتجوزُ إجارةُ المقصبةِ
(2)
ليقومَ عليها المستأجِرُ، ويسقِيَها، فتنبتُ العروقُ التي فيها، بمنزلةِ من يسقي الأرضَ ليَنبُتَ له فيها الكَلَأُ بلا بَذْرٍ
(3)
.
فصل
ثبَتَ «أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم احتَجمَ
، وأعطى الحجَّامَ أجْرَه»
(4)
، ولو كان سُحْتًا لم يُعْطِه إيَّاه، ولا رَيْبَ أن الحجَّامَ إذا حجَمَ استحقَّ أجرةَ حجمِه عندَ جماهيرِ العلماءِ، وفيه قولٌ ضعيفٌ بخلافِ ذلك، وقد أُرخِصَ له أن يعلِفَه ناضِحَه، ويُطعِمَه رقيقَه، كما رُوِي ذلكَ عنه صلى الله عليه وسلم
(5)
،
(1)
ينظر: سير أعلام النبلاء 8/ 414.
وينظر أصل الفتوى من قوله: (والإقطاع نوعان
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 127.
(2)
أرض مقصبة: ذات قصب، والقصب: كل نبات ذي أنابيب، واحدتها قصبة. ينظر: لسان العرب 1/ 674.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجوزُ إجارةُ المقصبةِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 152.
(4)
رواه البخاري (2278)، ومسلم (1202) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(5)
رواه أحمد (23690)، وأبو داود (3422)، والترمذي (1277) من حديث محيصة بن مسعود رضي الله عنه.
وبذلك احتجَّ أكثرُ العلماءِ على أنه لا يحرُمُ، وإنما يُكرَهُ للخبرِ تَنْزيهًا؛ لأنه لا يأمرُ بإطعامِ الحرامِ للرقيقِ.
وقيلَ: بل يحرُمُ؛ لما روى مسلمٌ أنه قال: «كَسْبُ الحجَّامِ خبيثٌ»
(1)
(2)
.
قال الأولونَ: قد قال: «مَن أكَلَ من هذينِ الشجرتينِ الخبيثتينِ؛ فلا يقرَبَنَّ مسجِدَنا»
(3)
، فسمَّاهما خبيثتينِ لخُبْثِ رِيحِهما، وليستا حرامًا، وقال:«لا يُصلِّيَنَّ أحدُكم وهو يُدافِعُ الأخْبَثينِ»
(4)
، فتكونُ تسميتُه خبيثًا لملاقاةِ صاحبِه النجاسةَ، لا لتحريمِه، بدليلِ أنه أَعطَى الحجَّامَ أجرَه، وأذِنَ أن يُطعِمَه الرقيقَ والبهائمَ، ومهرُ البَغِيِّ لا يُطعِمُه رقيقًا.
وبكلِّ حالٍ؛ فحالُ المحتاجِ إليهِ ليس كحالِ المستغني عنه، كما قال بعضُ السَّلَفِ:(كَسْبٌ فيه بعضُ الدناءةِ خيرٌ من مسألةِ الناسِ).
ولهذا تنازَعَ الناسُ في أخذِ الأجرةِ على تعليمِ القرآنِ ونحوِه؛ على ثلاثةِ أقوالٍ؛ لأحمدَ وغيرِه، أعدلُها: أنه يُباحُ للمحتاجِ؛ قال أحمدُ: (أجرةُ التعليمِ خيرٌ من جوائزِ السلطانِ، وجوائزُ السلطانِ خيرٌ من صلةِ الإخوانِ).
(1)
رواه مسلم (1568) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (2086) من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه.
(3)
رواه أحمد (16247)، وأبو داود (3827) من حديث قرة المزني، وأصله في البخاري (854)، ومسلم (564)، من حديث جابر رضي الله عنه دون قوله:(الخبيثتين).
(4)
رواه مسلم (560) من حديث أنس رضي الله عنه.
وأصولُ الشريعةِ تُفرِّقُ في المنهياتِ بينَ المحتاجِ وغيرِه؛ كما في المأموراتِ، فأُبيحَتِ المحرماتُ عندَ الضرورةِ؛ لا سيَّما إذا قُدِّر أنه يعدلُ عن ذلك إلى سؤالِ الناسِ، فالمسألةُ أشَدُّ تحريمًا، ولهذا قال العلماءُ: يجبُ أداءُ الواجباتِ وإن لم يقُمْ إلا بالشبهاتِ، كما سُئِلَ أحمدُ، سأله رجلٌ فقال: إن ابنًا لي مات، وعليه دينٌ، وله ديونٌ أكرهُ تقاضيها، فقال له: أتدَعُ ذِمَّةَ ابنِكَ مُرتَهَنةً؟!
ولهذا اتَّفقَ العلماءُ على أنه يُرزَقُ الحاكمُ وأمثالُه عندَ الحاجةِ، وتَنازَعوا في الرزقِ عندَ عدَمِها، وأصلُه: وليُّ اليتيمِ، قال تعالى:{ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} ؛ إذ الشريعةُ مَبْناها على تحصيلِ المصالحِ وتكميلِها، وتعطيلِ المفاسدِ وتقليلِها، والوَرَعُ ترجيحُ خيرِ الخيرينِ بتفويتِ أدناهما، ودفعُ شرِّ الشرَّيْنِ وإن حصَل أَدْناهما.
وقد جاء في الحجامةِ أحاديثُ كثيرةٌ، وفي الصحيحِ أنه قال:«شِفاءُ أُمَّتي في ثلاثٍ: شربةِ عسلٍ، أو شرطةِ مِحْجمٍ، أو كَيَّةِ نارٍ، وما أُحِبُّ أن أَكْتوِيَ»
(1)
، والتداوي بالحجامةِ جائزٌ بالسُّنَّةِ المتواترةِ، وإجماعِ العلماءِ
(2)
.
وإذا جاء من يختمُ القماشَ
بدراهمَ يدفعُها عن دَينِهِ، وذكَر أنها من
(1)
رواه البخاري (5683)، ومسلم (2205) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
ينظر أصل الفتوى من أول الفصل إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 190.
غيرِ كَسْبِه، وغلَب على الظنِّ صدقُه؛ جاز أخْذُها، وإن لم يغلبْ على الظنِّ كذِبُه؛ جاز تصديقُه إذا لم يُعرَفْ كذِبُه
(1)
.
وأيُّ الأمرينِ أفضلُ
في دابَّةٍ تنقلُ
(2)
الناس: أن تُؤخَذَ أجرةٌ، ويُتصدَّقَ بها، أو ينقلَ
(3)
بلا أجرةٍ؟
إن كانوا فقراءَ فتركُه لهم أفضلُ، وإن كانوا أغنياءَ وهناك محتاجٌ؛ فأخذُه لأجلِ المحتاجِ أفضلُ
(4)
.
ومَن استأجَرَ أجيرًا يعملُ في بستانٍ
، فتركَ العملَ المشروطَ عليه من غيرِ عذرٍ، فتلِفَ من المالِ شيءٌ: ضمِنَ ما تلِفَ بسببِ تفريطِه
(5)
.
ومَن استأجَرَ أرضًا فمات
، والأجرةُ مقسَّطةٌ؛ فلا يجبُ على أولادِه تعجيلُ جميعِ الأجرةِ؛ لكن إذا لم يُوثِّقوا؛ فلهم أن يطالِبوهم بمن يضمَنُ لهم الأجرةَ في أقساطِها، وهذا على قولُ مَن يقولُ: لا يحلُّ الدينُ المؤجلُ بموتِ مَن هو عليه؛ ظاهر.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا جاء من يختمُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 190.
(2)
في (ك) و (ع): تقتل. وفي (ز): تقبل، وهي مهملة في الأصل، والمثبت من مجموع الفتاوى 30/ 183.
(3)
في (ك) و (ع): تقتل. وفي (ز): تقبل، وهي مهملة في الأصل، والمثبت من مجموع الفتاوى 30/ 183.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وأيُّ الأمرينِ أفضلُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 183.
(5)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن استأجَرَ أجيرًا
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 183.
وأما على قولِ مَن يقولُ: إنه يحِلُّ؛ فكذلك هنا على الصحيحِ من قولَيِ العلماءِ؛ لأن الوارثَ الذي ورِثَ المنفعةَ؛ عليه أجرةُ تلك المنفعةِ التي استوفاها؛ بحيثُ لو كان على الميتِ ديونٌ لم يكُنْ للوارثِ أن يختصَّ بمنفعةٍ، ويزاحمَ أهلَ الدَّينِ بالأجرةِ؛ بناءً على أنها من الديونِ التي على الميتِ، كما لو كان الدَّين ثمنَ مبيعٍ نافذٍ، بمنزلةِ أن تنتقلَ المنفعةُ إلى مشترٍ أو مُتَّهبٍ؛ مثلُ: أن يبيعَ الأرضَ، أو يَهَبَها، أو تورَثَ عنه، فإن الأرضَ من حينِ الانتقالِ تلزَمُ المشتريَ والمُتَّهَبَ والولدَ؛ في أصحِّ قولَيِ العلماءِ، كما عليه عملُ المسلمِينَ، فإنهم يُطالِبونَ المشتريَ والوارثَ بالحِكْرِ قسطًا، لا يطلبونَ الحِكْرَ جميعَه من البائعِ أو تَرِكةِ الميتِ، وذلك لأن المنافعَ لا تستقِرُّ الأجرةُ إلا باستيفائها، فلو تلِفتِ المنافعُ قبلَ الاستيفاءِ؛ سقَطتِ الأجرةُ باتِّفاقٍ، ولهذا كان مذهَبُ أبي حنيفةَ وغيرِه أن الأجرةَ لا تُملَكُ بالعقدِ؛ بل بالاستيفاءِ، ولا تُملَكُ المطالبةُ إلا شيئًا فشيئًا، ولهذا قال: إن الإجارةَ تنفسِخُ بالموتِ.
والشافعيُّ وأحمدُ وإن قالا: تُملَكُ بالعقدِ، وتُملَكُ المطالبةُ بها إذا سلَّمَ العينَ؛ فلا نزاعَ أنها لا تسقطُ إلا باستيفاءٍ
(1)
، ولا نزاعَ أنها إذا كانت مؤجلةً؛ لم تُطلَبْ إلا عندَ محلِّ الأجلِ، فإذا كُلِّف الوارثُ أن يُعجِّلَ الأجرةَ التي لم تجبْ إلا مؤخَّرةً، معَ تأخيرِ استيفاءِ حقِّه من المنفعةِ؛ كان هذا ظالمًا له، مخالِفًا للعدلِ الذي هو مَبْنى المعاوضةِ، وإذا لم يرْضَ الوارثُ بأن تجبَ عليه الأجرةُ، وقال المؤْجِرُ: أنا ما
(1)
في (ك) و (ع): بالاستيفاء. وفي مجموع الفتاوى: باستيفاء المنفعة.
أسلمُ إليك المنفعةَ لتستوفيَ حقَّكَ منها، فأوجَبْنا عليه أداءَ الأجرةِ حالَّةً من التَّرِكةِ معَ تأخيرِ المنفعةِ؛ تبيَّنَ ما في ذلك من الحَيْفِ عليه.
وأما إذا كان المؤْجِرُ وقفًا؛ فهنا ليس للناظرِ تعجيلُ الأجرةِ كلِّها؛ بل لو شرَطَ ذلك لم يجُزْ؛ لأن المنافعَ المستقبلةَ إذًا لم يملِكْها، ويملكُ أجرتَها مَن يحدثُ في المستقبلِ، فإذا تعجَّلَتْ من غيرِ حاجةٍ إلى عمارةٍ؛ كان ذلك أخذًا لما لم يستحِقُّه الموقوفُ عليه الآنَ.
وأجابَ: لا يلزمُهم تعجيلُ الأجرةِ في أصحِّ قولَيِ العلماءِ؛ لا سيَّما إذا كان المستأجَرُ حبسًا؛ فإن تعجيلَ الأجرةِ في الحبسِ لا يجوزُ؛ إلا لعمارةٍ ونحوِها؛ لأن منافعَ الحبسِ يستحِقُّها الموقوفُ عليه بطنًا بعدَ بطنٍ، وكلُّ قومٍ يستحِقُّونَ أجرةَ المنافعِ الحادثةِ في زمانِهم، فإذا تسلَّفوا المستقبلَ؛ كانوا قد أخَذوا ما لم يستحِقُّوه من الوقفِ؛ وهذا لا يجوزُ.
لكن إذا طُلِب من الوَرَثةِ ضمينًا؛ فلهم ذلك، معَ أنه لو لم يكُنْ وقفًا لم تحلَّ الأجرةُ على قولِ مَن يقولُ: لا يحِلُّ الدَّينُ المؤجلُ بالموتِ، وكذا على قولِ مَن يقولُ: يحِلُّ؛ في أظهرِ قوليهم، أو يُفرِّقونَ بينَ الإجارةِ وغيرِها
(1)
، كما يُفرِّقونَ في الأرضِ المحتكَرةِ إذا بِيعَتْ أو وُرِّثتْ، فإن الحِكْرَ يكونُ على المشتري والوارثِ، وليس لهم أخذُه مِن البائعِ وتَرِكةِ الميتِ؛ في أظهرِ قَولَيهم، واللهُ أعلمُ
(2)
.
(1)
في الأصل: وغيره. والمثبت من (ز).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن استأجَرَ أرضًا فمات
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 154.
فَصْلٌ
ضمانُ الإقطاعِ صحيحٌ
، لا نعلمُ أحدًا من العُلَماءِ الذينَ يُفتَى بقولِهم قال: إنَّه باطل، ولا نعلم أحدًا من المصنِّفِينَ قال: إنه باطل؛ إلا ما بلَغَنا أن بعضَ الناسِ حكَى فيه خلافًا؛ قولٌ: بالجوازِ، وقولٌ: بالمنعِ، وقولٌ: يجوزُ سنةً فقطْ.
ولم يُفْتِ أحدٌ بتحريمِه إلا بعضُ أهلِ هذا الزمانِ؛ لشُبْهةٍ عرضَتْ لهم، لكونهم اعتَقدوا أن المُقطَعَ بمنزلةِ المستعيرِ، وغفَلوا عن كونِ المنافعِ مستحَقَّةً لأهلِ الإقطاعِ، وغفَلوا عن كونِ السلطانِ أذِنَ في الانتفاعِ بالمقطَعِ استغلالًا وإيجارًا، ولو أذِنَ المعيرُ في الإجارةِ؛ جازَتْ وفاقًا، فكيفَ الإقطاع؟
(1)
.
ومَن أخذ عوضًا
عن عينٍ محرمةٍ، أو نفعٍ محرمٍ؛ مثلُ: أجرةِ حَمَّالِ الخمرِ، وصانعِ الصليبِ، والبغيِّ، ونحوِه؛ فليتصدَّق بها، وليَتُب، وتكونُ صدقتُه بذلك كفارةً عما عمِلَه من المحرَّمِ؛ فإن هذا العِوَضَ لا يجوزُ الانتفاعُ به؛ لأنه خبيثٌ، ولا يُعادُ إلى صاحبِه لأنه إعانة له
(2)
؛
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ضمانُ الإقطاعِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 245.
(2)
قوله: (إعانة له) سقط من الأصل، والمثبت من (ك) و (ع) و (ز). وفي مجموع الفتاوى:(لأنه استوفى العوض).
بل يُتصدقُ به، كما نصَّ على ذلك
(1)
أحمدُ في مثلِ حاملِ الخمرِ، وأصحابُ مالكٍ وغيرُهم
(2)
.
ومَن اكتَرَى منفعةً
لفعلِ محرَّمٍ؛ كالغناءِ، والزنى، وشهادةِ الزورِ؛ كان كِراؤُه مُحرَّمًا.
وكذلك إن أَكْراهَا لفعلِ ما وجَبَ عليه؛ مثلُ أن يتعيَّنَ عليه شهادةٌ بحقٍّ، أو فُتْيا في مسألةٍ، أو قضاءٌ في حكومةٍ، أو جهادٌ متعيِّنٌ؛ فإنَّ هذا الكِراءَ لا يجوزُ.
وإن كان لفعلٍ يختصُّ لأهلِ القُرُباتِ؛ كالكِراءِ لإقراءِ القرآنِ والعلمِ والإمامةِ والأذانِ، أو للحجِّ عن غيره، أو للجهادِ الذي لم يتعينْ: ففيه نزاعٌ.
وإن كان الكِراءُ لعملٍ؛ كالخياطةِ والتجارةِ والبناءِ: جاز بالاتفاقِ
(3)
.
إذا نقلَ نحلٌ إلى بلدٍ
؛ فلا يجوزُ لأهلِ البلدِ أن يَأخذوا حقًّا على ما يَجْنيه النحلُ من أرضِهم، فإنه لا ينقُصُ من ملكِهم شيئًا، والعسلُ هو
(1)
قوله: (ذلك) سقط من الأصل، والمثبت من (ك) و (ع) و (ز).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن أخذ عوضًا
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 22/ 141.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن اكتَرَى
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 208.
من الطُّلولِ
(1)
التي هي من
(2)
المباحاتُ، وهي أحقُّ بالبَذْلِ من الكَلَأِ، فإن هذه الطلولَ لا يمكنُ أن يجمَعَها إلا النحلُ؛ لكن إن كان لصاحبِ الأرضِ نحلٌ؛ فهو أحقُّ بالجَنْيِ في أرضِه، فإذا كان جَنْيُ تلك النحلِ يضُرُّ به؛ فله مَنْعُه من ذلك
(3)
.
ويصحُّ استئجارُ الأعمى
واشتراؤُه عندَ جمهورِ العُلَماءِ؛ كمالكٍ وأبي حنيفةَ وأحمدَ في المشهورِ عنه، ولا بدَّ من أن يُوصَفَ له المبيعُ والمُستأجَرُ، فإن وجَدَ بخلافِه؛ فله الفَسْخُ
(4)
.
ولا يجوزُ أن يستأجِرَ
مَن يصلِّي عنه فرضًا ولا نافلةً، في حياتِه ولا في مماته، فإذا أوصى بدراهمَ لمن يصلِّي عنه؛ تُصدِّقَ بها عنه، ويُخَصُّ بالصدقةِ أهلُ الصَّلاةِ، فيكونُ للميتِ أجرُ كلِّ صلاةٍ يُصلُّونَها، ويستعينونَ عليها بصدقتِه، من غيرِ أن ينقُصَ من أجرِ المصلِّي شيئًا، كما قال:«مَن فطَّر صائمًا فله مثلُ أجرِه»
(5)
،
(1)
قال في الصحاح 5/ 1752: (الطل: أضعف المطر)، قال في مطالب أولي النهى 3/ 25:(وطلول: جمع طل - وهو المطر الخفيف -، يجني، أي: يتغذى نحل منها؛ أي: الطلول على الزهر والشجر من الندى).
(2)
قوله: (من) سقطت من الأصل و (ز). والمثبت من (ك).
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا نقلَ نحلٌ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 29/ 221.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويصحُّ استئجارُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 201.
(5)
رواه أحمد (17033)، والترمذي (807)، وابن ماجه (1746) من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه.
(1)
(2)
.
وأما تعليمُ القرآنِ والعلمِ
بغيرِ أجرةٍ؛ فهو من أفضلِ الأعمالِ، وأحَبِّها إلى اللهِ تعالى، وهذا مما يُعلَمُ بالاضطرارِ من الدِّينِ، وكان السَّلَفُ كلُّهم لا يُعلِّمونَ إلا للهِ، وكذلك الأنبياءُ، والعلماء ورثة الأنبياء.
وتعليم العلم الذي بُعِث به؛ فرضٌ على الكفاية، ويجوزُ أن يُعطَى رزقًا من بيتِ المالِ معَ الحاجةِ.
وهل يجوزُ معَ الغنى؟ على قولَينِ
(3)
.
وإجارُ الإقطاعِ جائزٌ
، وللمستأجِرِ منه أن يُؤْجِرَها.
وأما إذا مات المُقطَعُ، أو انقطعَ إقطاعُه: فالمُقطَعُ الثاني لا يلزَمُه إجارةُ الأولِ، وليس له أن يقلعَ ما فيها مجانًا؛ بل يخيرُ بينَ أن يبقى بأجرةِ المثلِ، أو يُؤْجِرَ للمُؤْجَرِ إجارةً مستأنفةً بما يتفقانِ؛ لكن ليس له أن يُلزِمَه بأكثرَ من أجرةِ المثلِ، وإذا استأجَرَها صاحبُ الزرعِ؛ جاز، فإنه يتمكنُ من الانتفاعِ بها، ولصاحبِ الزرعِ الفَسْخُ، فإنها تنفسِخُ بانتقالِ الإقطاعِ، فليس لأحدِهما إلزامُ الآخَرِ بشيء، ولو استأجَرَها
(1)
رواه البخاري (2843)، ومسلم (1895) من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يجوزُ أن يستأجِرَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 203.
(3)
وتقدم اختيار شيخ الإسلام ص
…
أنه قال: (وأعدلها: أنه يباح للمحتاج)، وقال في مجموع الفتاوى 24/ 316:(وقيل: يجوز أخذ الأجرة عليها للفقير دون الغني، وهو القول الثالث في مذهب أحمد؛ كما أذن الله لولي اليتيم أن يأكل مع الفقر ويستغني مع الغنى، وهذا القول أقوى من غيره).
وينظر أصل الفتوى من قوله: (وأما تعليمُ القرآنِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 204.
غيرُه جاز على الصحيحِ، وقام فيها مقامَ المؤجرِ
(1)
.
وهذه المعاملاتُ الواقعةُ على البساتينِ
المسماةِ بالضمانِ؛ سواءٌ كانت قبلَ ظهورِ الثمرةِ وقبلَ بُدُوِّ صلاحِها، أو بعدَهما، أو بينَهما، وسواءٌ سُمِّيتْ: ضمانًا، أو سُمِّيتْ للتحيُّلِ: مساقاةً وإجارةً؛ فإنه إذا تلِفَ الثمرُ بآفةٍ سماويةٍ؛ وجَبَ وضعُ الجائحةِ عن المستأجِرِ؛ سواءٌ كان العقدُ فاسدًا، أو صحيحًا، أو متحيَّلًا على صحتِه
(2)
.
ولو قال العاملُ:
ضمِنتُه بكذا وإن كان أكَلَه الجرادُ؛ فهو شرطٌ فاسدٌ، شرطُ غرَرٍ وقمارٍ، وإذا كان معَ الشرطِ قد ضمِنَه بعِوَضٍ دونَ عِوَضِ المثلِ الخالي من الشرطِ، وحينئذٍ يُفرَّقُ بينَ صحةِ العقدِ وفسادِه على المشهورِ.
فإذا كان فاسدًا؛ كان الواجبُ ردَّ المقبوضِ به، أو قيمتَه.
وإن كان صحيحًا؛ زِيدَ على نصيبِ الباقي من المُسمَّى بقدرِ قيمةِ ما بينَ القيمةِ معَ الشرطِ والقيمةِ معَ عدَمِه، فإذا كان المُسمَّى ألفًا، والباقي ثلثَ الثمرةِ؛ كان نصيبُه ثلثَ ما بقِيَ من الألفِ، فينظرُ قيمةَ الجميعِ بالشرطِ، فيؤخذُ بتسعِمائةٍ
…
(3)
ألف ومائتان، فيُزادُ على المسمَّى أو
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإجارُ الإقطاعِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 172.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وهذه المعاملاتُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 309.
(3)
سقط من الأصل بمقدار كلمة، وهو في مجموع الفتاوى سقط أيضًا في نفس الموطن.
نصيبِه ثلثُه
(1)
.
ومَن استأجَرَ دارًا
بجوارِه رجلُ سوءٍ، فمثلُ هذا عيبٌ في العقارِ، إذا لم يعلَمْ به المستأجِرُ؛ فله فسخُ الإجارةِ
(2)
.
ومذهبُ الأئمَّةِ الأربعةِ:
أن الشَّبَّابةَ
(3)
حرامٌ، ولم يتنازَعْ إلا متأخِّرو أصحابِه
(4)
مِن الخُراسانيينَ؛ ذكَروا فيها وجهَينِ، وأما العراقيونَ قطَعوا بالتحريمِ، وهم أعلمُ بمذهبِه، وبكلِّ حالٍ؛ فهو وجهٌ ضعيفٌ، وقد قال الشافعيُّ:(الغناءُ مكروهٌ، يُشبِهُ الباطلَ).
والمحرمُ استماعُ آلاتِ اللهوِ؛ لا سماعُها، فمَن اجتازَ فسمِعَ كفرًا، أو غِيبةً، أو شَبَّابةً؛ لم يحرُمْ عليه، ولو استمعَ ولم يُنكِرْ بقلبِه أو يدِه أو لسانِه؛ أثِمَ اتفاقًا.
وما رُوِي أن ابن عمرَ سَمِع راعيَ غنمٍ يشبِّب؛ فسَدَّ أُذُنَيْه، وقال
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولو قال العاملُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 256.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن استأجَرَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 161.
(3)
نوع من المزامير، قال أبو هلال العَسكري في التلخيص في معرفة أسماء الأشياء ص 422:(اليراعة: القصبة التي يزمر بها الراعي، والعامة تسميها: الشبابة).
(4)
الضمير يعود إلى الشافعي، كما في أصل الفتوى في مجموع الفتاوى 30/ 212: حيث قال: (ولم يتنازع فيها من أهل المذاهب الأربعة إلا متأخري الخراسانيين من أصحاب الشافعي).
لنافعٍ: هل تسمَعُ؟ قال: لا، فأخرجَ أصابِعَه، وروى عن النبيِّ ذلك
(1)
؛ فهو يُبيِّنُ أن عدمَ السماعِ أَوْلَى، ولكن لا يدلُّ على أن الشَّبَّابةَ جائزةٌ، فإن ابنَ عمرَ كان مارًّا فسمع، لا مستمعٌ، والسامعُ لا يحرُمُ عليه، كما لا يُؤجَرُ السامعُ لقراءةِ القرآنِ، إنما يُؤجَرُ المستمعُ، وسَدَّ أُذُنَيْه مبالغةً في التحفُّظِ، ولو كان مباحًا لما سَدَّ أُذُنَيْه؛ بل سَدَّهما ليدلَّ على أن لا يسمعَ ما لا يجوزُ استماعه
(2)
.
وأيضًا؛ فالرفيقُ لم يُعلَمْ أنه كان بالغًا، فلعله كان صغيرًا، والصبيانُ يُرخَّصُ لهم من اللعبِ ما لا يُرخَّصُ فيه للبالغِ.
وأيضًا؛ لو قُدِّرَ أن الاستماعَ لا يجوزُ؛ فلو سَدَّ هو ورفيقُه آذانَهما لم يَعرفا متى ينقطعُ الصوتُ؟!
وأيضًا؛ زَمَّارةُ الراعي ليست مُطربةً كالشَّبَّابةِ التي تُصنَعُ من اليراعِ
(3)
، فلو قُدِّرَ الإذنُ فيها؛ لم يجُزِ الإذنُ في اليراعِ الموصولِ، وما يتبَعُه من الأصواتِ التي تفعلُ في النفوسِ فعلَ حُمَيَّا الكؤوسِ.
وأيضًا؛ فقد ذكَر ابنُ المنذرِ اتفاقَ العلماءِ على المنعِ مِن الغناءِ والنوحِ، فقال:(أجمَعَ كلُّ مَن نحفَظُ عنه من أهلِ العلمِ على إبطالِ إجارةِ النائحةِ والمغنِّيةِ)
(4)
، فإذا كانت المغنيةُ لا يجوزُ استئجارُها معَ
(1)
رواه أبو داود (4924).
(2)
في الأصل: استماعا. والمثبت من (ك).
(3)
اليراع: القصب. ينظر: الصحاح 3/ 1310.
(4)
الإشراف لابن المنذر 6/ 325.
أن الغناءَ رُخِّصَ فيه للنساءِ في العرسِ؛ فكيفَ بالشَّبَّابةِ التي لم يُبِحْها أحدٌ من العُلَماءِ، لا للرجالِ ولا للنساءِ، لا في عُرْسٍ ولا في غيرِه، فلا يجوزُ أن يعطي لمن يشبِّب له.
وأيضًا؛ ليس كلُّ جائزٍ فعلُه؛ جائزًا إعطاءُ العوضِ عليه؛ لأن في الحديثِ: «لا سَبَقَ إلا في خُفٍّ، أو حافرٍ، أو نصلٍ»
(1)
، فقد نهى عن السَّبَقِ في غيرِ الثلاثةِ معَ جوازِ المصارعةِ والمسابقةِ بالأقدامِ.
أما مَن يصلُحُ للَّعبِ؛ فيُرخَّصُ له في الأعيادِ، كما كانت الجاريتانِ تُغنِّيانِ والنبيُّ لا يستمعُ، ولا ينهاهما، فقال أبو بكرٍ: «أمُزْمورُ
(2)
الشيطانِ في بيتِ رسولِ اللهِ!»، فقال:«دَعْهما يا أبا بكرٍ، فإنَّها أيامُ عيدٍ» ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم
(3)
.
فمن استدلَّ بجوازِ الغناءِ للصغارِ في يومِ العيدِ على أنه مُباحٌ للرِّجالِ؛ فهو مُخطِئٌ.
وكذلك من استدلَّ على جوازِ اليراعِ بالحديثِ الذي سَدَّ فيه أُذُنَه ابنُ عمرَ، وسأل نافعًا؛ لو كان الحديثُ صحيحًا، فكيفَ وهو حديثٌ
(1)
رواه أحمد (10138)، وأبو داود (2574)، والنسائي (3586)، وابن ماجه (2878)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
قال النووي في شرح مسلم 6/ 183: (هو بضم الميم الأولى وفتحها، والضم أشهر، ولم يذكر القاضي - أي: عياض - غيره، ويقال أيضًا: مزمار، بكسر الميم، وأصله صوت بصفير).
(3)
رواه البخاري (3931)، ومسلم (892) من حديث عائشة رضي الله عنها.
مُنكَرٌ؛ قاله أبو داودَ، ولكن رواهُ الخلالُ من وجوهٍ يُصدِّقُ بعضُها بعضًا.
وبالجملةِ: فلا حجةَ فيه لما قدَّمْنا
(1)
.
وما رُوِي: «مَن علَّمَكَ آيةً
؛ فقد ملَك رِقَّكَ؛ إن شاء باعَكَ
(2)
، وإن شاء أعتَقكَ»؛ حديثٌ باطلٌ مخالفٌ للإجماعِ، ومن اعتقد جوازَ ملكِ المعلمِ للذي علَّمَه؛ يُسْتتابُ، فإن تاب وإلا قُتِل، والحُرُّ المسلمُ لا يُسترَقُّ، ولا يقولُ مسلمٌ: إنَّ مَن علَّم امرأةً آيةً من القرآنِ؛ ملَك وَطْأَها
(3)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومذهبُ الأئمَّةِ الأربعةِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 211.
(2)
هكذا في (ك) و (ز) ومجموع الفتاوى، وفي الأصل:(أباعك).
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وما رُوِي
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 18/ 345.
كِتَابُ الوَقْفِ
يجوزُ بيعُ الأشجارِ التي في المسجدِ
، ويُشترَى بثمنِها ما يغلُّ على الوقفِ، إذا كان فيه مصلحةٌ، وللناظرِ أن يغيرَ صورةَ الوقفِ من صورةٍ إلى صورةٍ أصلَحَ منها، كما غيَّرَ الخلفاءُ الراشدونَ صورةَ المسجدينِ اللذينِ بالحرمينِ
(1)
، وكما نقَل عمرُ مسجدَ الكوفةِ من موضعٍ إلى موضعٍ
(2)
.
(1)
تمت توسعة المسجد الحرام في عهد عمر وفي عهد عثمان أيضًا رضي الله عنهما. رواها الأزرقي أخبار مكة 2/ 68.
وأما توسعة المسجد النبوي؛ فروى البخاري (446) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيًّا باللَّبِن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبًا، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقَصَّة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسَقَفه بالساج» .
(2)
روى الطبراني في الكبير (8949) عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال: قدم عبد الله وقد بنى سعدٌ القصرَ، واتخذ مسجدًا في أصحاب التمر، فكان يخرج إليه في الصلوات، فلما ولي عبد الله بيت المال نُقِب بيت المال، فأُخِذ الرجل، فكتب عبد الله إلى عمر، فكتب عمر:«أن لا تقطعه، وانقل المسجد، واجعل بيت المال مما يلي القبلة، فإنه لا يزال في المسجد من يصلي» .
وعلى الناظرِ أن يعملَ ما يقدرُ عليه من العملِ، ويأخذَ على ذلك العملِ ما يقابِلُه، وله أن يأخذَ على فَقْرِه ما يأخذُه الفقيرُ على فقرِه
(1)
.
وإذا جعل الواقفُ للناظرِ
أن يُخرِجَ مَن شاء ويُدخِلَ مَن شاء، ويزيدَ وينقصَ؛ فذلك راجعٌ إلى المصلحةِ الشرعيةِ، لا إلى شَهْوتِه وهَواه؛ بل يفعلُ من الأمورِ المخيَّرِ فيها ما كان أَرْضى للهِ ورسولِه، وهذا في كلِّ من تصرَّفَ لغيرِه بالولايةِ؛ كالإمامِ، والحاكمِ، والواقفِ
(2)
، وناظرِ الوقفِ، وغيرِهم، حتى لو صرَّحَ الواقفُ بأن الناظرَ يفعلُ ما يَهْواه وما يَراه مطلقًا؛ لم يكُنْ هذا الشرطُ صحيحًا؛ بل باطلًا؛ فإنه شرطٌ مخالفٌ لكتابِ اللهِ، ومَن شرَط ما ليس في كتابِ اللهِ فهو باطلٌ.
فإذا عُزِل عزلًا موافقًا لأمرِ اللهِ؛ لم يكُنْ للمعزولِ أخذُ شيءٍ من الوقفِ، وإن كان عزلُه غيرَ موافقٍ للهِ؛ كان مردودًا بحسَبِ الإمكانِ، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«مَن عمِلَ عملًا ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»
(3)
.
ومَن وقف وقفًا ولم يخرج من يدِه
؛ ففيه قولانِ مشهورانِ:
أحدُهما: يبطُلُ؛ وهو قولُ مالكٍ، وأحمدَ في إحدى الروايتينِ،
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (يجوزُ بيعُ الأشجارِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 260، والفتاوى الكبرى 4/ 282.
(2)
في الأصل و (ك): والوقف. والمثبت من (ز).
(3)
رواه مسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا جعل الواقفُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 67، والفتاوى الكبرى 4/ 270.
وأبي حنيفةَ، ومحمدٍ.
والثاني: يلزَمُ؛ وهو مذهَبُ الشافعيِّ، والروايةُ الأخرى عن أحمدَ، وقولٌ لأبي حنيفةَ، وقولُ أبي يوسفَ
(1)
.
وإذا شرَطَ الواقفُ
المحاصَصَةَ بينَهم؛ فهل يُعطَى أربابُ الوظائفِ مكملًا؟
يُقالُ: إن كان الذي يحصُلُ بالمحاصَّةِ لأربابِ الوظائفِ التي يُستَأْجَرُ عليها؛ كالبوَّابِ، والقيِّمِ، والسوَّاقِ، ونحوِهم، أجرةُ مثلِهم؛ أُعطُوا.
وإن كان ما يحصُلُ دونَ أجرةِ المثلِ، وأمكنَ مَن يعملُ بذلك؛ لم يحتجْ إلى الزيادةِ.
وإن كان الحاصلُ لهم أقلَّ من أجرةِ المثلِ، ولا يحصل من يعملُ بأقلَّ من أجرةِ المثلِ؛ فلا بدَّ من تكميلِ أجرةِ المثلِ لهم؛ إذا لم تقُمْ مصلحةُ المكانِ إلا بهم.
وإن أمكنَ أن يُجمَعَ بينَ الوظائفِ لواحدٍ؛ فعل ذلك، ولا يُكثَّرُ العددُ الذي لا يُحتاجُ إليه معَ كونِ الوقفِ قد عاد إلى رَيعِه
(2)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن وقف وقفًا
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 6، والفتاوى الكبرى 4/ 236.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا شرَطَ الواقفُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 71، والفتاوى الكبرى 4/ 272.
وقولُهم: نصوصُ الواقفِ كنصوصِ الشَّارعِ
؛ أي: في الفهمِ والدلالةِ، فيُفهَمُ مقصودُه مِن وجوهٍ متعدِّدةٍ كما يُفهَمُ مقصودُ الشارعِ
(1)
.
والأصلُ: أنَّ كلَّ ما شُرِط
من العملِ من الوقوفِ التي تُوقَفُ على الأعمالِ؛ فلا بدَّ أن يكونَ قربةً؛ إما واجبًا وإما مستحبًّا، أما اشتراطُ عملٍ محرمٍ فلا يصِحُّ باتِّفاقِ المسلمِينَ؛ بل كذلك المكروهُ، وكذلك المباحُ على الصحيحِ.
وقد اتَّفقَ المسلمونَ على أن شروطَ الواقفِ تنقسِمُ إلى صحيحٍ وإلى فاسدٍ، كما في سائرِ العقودِ، ومَن قال: إن شروطَ الواقفِ كنصوصِ الشارعِ، فمُرادُه: أنها كالنصوصِ في الدلالةِ على مرادِ الواقفِ، لا في وجوبِ العملِ بها؛ أي: أن مرادَ الواقفِ يُستفادُ من ألفاظِهِ المشروطةِ، كما يُستفادُ مرادُ الشارعِ من ألفاظِه، فكما نعرفُ الخصوصَ والعمومَ والإطلاقَ والتقييدَ والتشريكَ من ألفاظِ الشارعِ، كذلك يُعرَفُ في الوقفِ من ألفاظِ الواقفِ.
مع أن التحقيقَ في هذا: أن لفظَ الواقفِ ولفظَ الحالفِ والموصي، وكلِّ عاقدٍ؛ يُحمَلُ على عادتِه في خطابِه ولغتِه التي يَتكلمُ بها؛ سواءٌ وافقَتِ العربيةَ العرباءَ، أو العربيةَ المولدةَ، أو العربيةَ الملحونةَ، أو كانت غيرَ عربيةٍ، وسواءٌ وافقَتْ لغةَ الشارعِ أو لم توافِقْه، فإن المقصودَ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وقولهم: نصوص
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 97.
في الألفاظِ دلالتُها على مرادِ الناطقينَ بها، فنحن نرجع
(1)
في معرفةِ كلامِ الشارعِ إلى معرفةِ لغتِه وعرفِه وعادتِه، وكذلك في خطابِ كلِّ أمةٍ وكلِّ قومٍ، فإذا تخاطبوا بينَهم في البيعِ والإجارةِ، أو الوقفِ، أو الوصيةِ، أو النَّذْرِ، أو غيرِ ذلك بكلامٍ: رُجِع في
(2)
معرفةِ مرادِهم إلى ما يدلُّ على مرادِهم من عادتِهم في الخطابِ، وما يقترِنُ بذلك من الأسبابِ.
وأما أن نجعلَ نصوصَ الواقفِ أو نصوصَ غيرِه من العاقدينَ كنصوصِ الشارعِ في وجوبِ العملِ بها؛ فهذا كفرٌ باتِّفاقِ المسلمِينَ؛ إذ لا أحدَ يُطاعُ فيما يأمرُ به من البشرِ بعدَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
والشروطُ إن وافقَتْ كتابَ اللهِ؛ كانت صحيحةً، وإن خالفَتْه؛ كانت باطلةً، كما ثبَتَ عنه أنه قال:«من اشترطَ شرطًا ليس في كتابِ اللهِ فهو باطِلٌ، وإن كان مائةَ شرطٍ»
(3)
، وهذا الكلامُ حكمُه ثابتٌ في البيعِ والإجارةِ والوقفِ وغيرِه باتِّفاقِ الأئمَّةِ؛ إذ الأخذُ بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السببِ.
فإذا شرَطَ فعلًا محرمًا ظهَر أنه باطلٌ؛ فإنه لا طاعةَ للمخلوق في معصيةِ الخالقِ، وإن شرَطَ مباحًا لا قربةَ فيه كان أيضًا باطلًا؛ لأنه شرَطَ شرطًا لا منفعةَ فيه، لا له ولا للموقوفِ عليه، فإنه في نفْسِه لا ينتفعُ إلا بالبِرِّ والتقوى.
(1)
قوله (نرجع) سقطت من الأصل. والمثبت من (ك) و (ز).
(2)
في الأصل: على. والمثبت من (ك) و (ز).
(3)
رواه البخاري (456)، ومسلم (1504) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وأما بذلُ المالِ في مباحٍ في حياتِه؛ فله فيه منفعةٌ، أما بعدَ الموتِ فالواقفُ والموصي لا ينتفعانِ بما يفعلُ الموصى له والموقوفُ عليه من المباحاتِ في الدنيا، ولا يُثابانِ على بذلِ المالِ في ذلك في الآخرةِ، فيكونُ منفِقًا للمالِ في الباطلِ، وهذا مُسخَّر مُعذَّبٌ.
وإذا كان الشارعُ قد قال: «لا سَبَقَ إلا في خفٍّ، أو حافرٍ، أو نصلٍ»
(1)
؛ فلم يُجوِّزْ بذلَ الجُعْلِ بشيءٍ لا يُستعانُ به على الجهادِ وإن كان مباحًا، وقد يكونُ فيه منفعةٌ، كما في المصارعةِ والمسابقةِ على الأقدامِ، فكيفَ ببذلِ العوضِ المؤبدِ في عملٍ لا منفعةَ فيه، لا سيَّما والوقفُ مُحبَّسٌ مؤبدٌ؟! فيكونُ في ذلك ضررٌ على حبس الوَرَثةِ وسائرِ الآدميين بحبسِ المالِ عنهم بلا منفعةٍ حصَلتْ لأحد، وفي ذلك ضررٌ على المتناوَلِينَ باستعمالِهم في عملٍ هم فيه مُسخَّرونَ، يعوقُهم عن مصالحهم الدينيةِ والدنيويةِ بلا فائدةٍ تحصُلُ، لا له ولا لهم.
وقد بسَطْنا الكلامَ في هذه القاعدةِ في غيرِ هذا الموضعِ.
إذا عُرِف ذلك: فقراءةُ القرآنِ كلُّ واحدٍ على حِدَتِه؛ أفضلُ من قراءتِه مجتمعينَ بصوتٍ واحدٍ، فإن هذه تُسمَّى قراءةَ الإدارةِ، وقد كرِهَها طوائفُ من أهلِ العلمِ؛ كمالكٍ وطائفةٍ من أصحابِ الإمامِ أحمدَ وغيرِهم، ومَن رخَّصَ فيها - كبعضِ أصحابِ أحمدَ - لم يقُلْ: إنها أفضلُ من قراءةِ الانفرادِ؛ يحصُلُ لكلِّ واحدٍ جميعُ القراءةِ، وأما هذه
(1)
تقدم تخريجه ص ....
فلا يحصُلُ لكلِّ واحدٍ جميعُ القراءةِ؛ بل هذا يُتِمُّ ما قرأه هذا، وهذا يُتِمُّ ما قرأه هذا.
وليس في القراءةِ
بعدَ المغربِ فضيلةٌ مستحبةٌ تُقدَّمُ بها على القراءةِ في جوفِ الليلِ، أو بعدَ الفجرِ، ونحوِ ذلك من الأوقاتِ، فلا قربةَ في تخصيصِ مثلِ ذلك بالوقفِ.
ولو نذَرَ صلاةً أو صيامًا
أو قراءةً أو اعتكافًا في مكانٍ بعينِه؛ فإن كان للتعيينِ مَزِيةٌ في الشرعِ؛ كالصَّلاةِ في المساجدِ الثلاثةِ؛ لزمَ الوفاءُ به، وإلا لم يتعيَّنْ بالنَّذْرِ الذي أمَر اللهُ بالوفاءِ به، فإذا كان النَّذْرُ الذي أمَر اللهُ بالوفاءِ به لا يجبُ أن يُوفَّى منه إلا بما كان طاعةً باتِّفاقِ الأئمَّةِ؛ فلا يجبُ أن يُوفَّى منه بمباحٍ، كما لا يجوزُ أن يُوفَّى منه بمحرمٍ باتِّفاقِ العلماءِ في الصورتينِ، وإنما تَنازَعوا في لزومِ الكفارةِ؛ فكيفَ بغيرِ النَّذْرِ من العقودِ التي ليس في لزومِها من الأدلةِ الشرعيةِ ما في النَّذْرِ.
وأما اشتراطُ إهداءِ
ثوابِ التلاوةِ؛ فهذا ينبني على إهداءِ ثوابِ العباداتِ البدنيةِ كالصَّلاةِ؛ وفيه نزاعٌ:
فمن كان مذهبُه أنه لا يجوزُ إهداءُ ثوابِها؛ كأكثرِ أصحابِ مالكٍ والشافعيِّ: كان هذا الشرطُ عندَهم باطلًا، كما لو شرَطَ أن يحملَ عن الواقفِ ذنوبَه؛ فإنه (لا تَزِرُ وازِرةٌ وِزْرَ أخرى).
ومَن كان مذهبُه أنه يجوزُ إهداءُ ثوابِها للميتِ؛ كأحمدَ وأصحابِ أبي حنيفةَ وطائفةٍ من أصحابِ مالكٍ والشافعيِّ: فهذا يعتبرُ أمرًا آخَرَ، وهو أن هذا إنما يكونُ من العباداتِ، والعباداتُ ما قُصِد بها وجهُ اللهِ
تعالى، فأما ما يقع مستحَقًّا بعقدِ إجارةٍ أو جِعالةٍ؛ فإنه لا يكونُ قربةً، فإن جاز أخذُ الأجرِ والجُعْلِ عليه؛ فإنه يجوزُ الاستئجارُ على الإمامةِ والأذانِ وتعليمِ القرآنِ، يقول
…
(1)
.
وأما الصوفيُّ الذي يدخُلُ في الوقفِ
على الصوفيةِ؛ فله ثلاثةُ شروطٍ:
أحدُها: أن يكونَ عدلًا في دينِه.
الثاني: أن يكونَ ملازمًا لغالبِ الآدابِ الشرعيةِ في غالبِ الأوقاتِ، وإن لم تكُنْ واجبةً؛ مثلُ: أدبِ الأكلِ والشربِ، واللباسِ والنومِ، والسفرِ والركوبِ، والصحبةِ والعشرةِ والمعاملةِ معَ الخلقِ، إلى غيرِ ذلك من آدابِ الشريعةِ قولًا وفعلًا، ولا يُلتفَتُ إلى ما أحدَثَه بعضُ المتصوِّفةِ من الآدابِ التي لا أصلَ لها في الدينِ؛ من التزامِ شكلٍ مخصوصٍ في اللِّبسةِ ونحوِها مما لا يُستحَبُّ في الشريعةِ، فإن مبنى الآدابِ على اتباعِ السُّنَّةِ.
ولا يُلتفَتُ أيضًا إلى ما يُهْدرُه بعضُ المتفقِّهةِ من الآدابِ المشروعةِ، يعتقدُ - لقلةِ علمِه - أن ذلك ليس من آدابِ الشريعةِ؛ لكونِهِ ليس فيما بلَغَه من العلمِ، بل الاعتبارُ بالآدابِ بما جاءَتْ به الشريعةُ قولًا وفعلًا وتركًا.
(1)
في الأصل و (ك) بيَّض له في هذا الموضع، وهو كذلك في مجموع الفتاوى 31/ 52، والفتاوى الكبرى 4/ 261، وقد كتب في هامش الأصل:(فَرَغت هنا).
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والأصلُ: أن كلَّ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 46، والفتاوى الكبرى 4/ 258.
والشرطُ الثالثُ في الصوفيِّ: قناعَتُه بالكَفافِ من الرزقِ؛ بحيثُ لا يُمسِكُ من الدنيا ما يفضُلُ عن حاجتِه، فمَن كان جامعًا لفضولِ المالِ؛ لم يكُنْ من الصوفيةِ الذينَ يُقصَدُ إجراءُ الأرزاقِ عليهم، وإن كان قد يُفسَحُ لهم في مجرَّدِ السكنى في الرُّبَطِ ونحوِها.
ومَن جمَعَ هذه الثلاثَ؛ كان من المقصودِين بالربطِ والوقفِ عليه.
وما فوق هؤلاءِ من أربابِ المقاماتِ العَلِيَّةِ والأحوالِ الزكيةِ؛ فيدخُلونَ في العمومِ؛ لكن لا يختَصُّ الوقفُ بهم؛ لقِلَّتِهم، ولعُسْرِ تمييزِ الأحوالِ الباطنةِ على غالبِ الخلق، فلا يمكن ربطُ استحقاقِ الدنيا بذلك.
وما دونَ هذه الصفاتِ من المقتصرينَ على مجرَّدِ رسمٍ في لِبْسةٍ أو مِشيةٍ؛ لا يستحِقُّونَ الوقفَ، ولا يدخُلونَ في مُسمَّى الصوفيةِ؛ لا سيَّما إن كان ذلك الرسمُ مُحدَثًا، فإنَّ بذلَ المالِ على مثلِ هذه الرسومِ فيه نوعٌ من التلاعبِ بالدينِ، وأكلِ أموالِ الناسِ بالباطلِ، وصَدٍّ عن سبيلِ اللهِ.
ومَن كان من الصوفيةِ المذكورينَ فيه قدرٌ زائدٌ؛ مثلُ: اجتهادٍ في نوافلِ العباداتِ، أو سعيٍ في تصحيحِ أحوالِ القلبِ، أو علمِ الكفايةِ؛ فهو أَوْلَى من غيرِه.
ومَن لم يكُنْ متأدِّبًا بالآدابِ الشرعيةِ؛ فلا يستحِقُّ شيئًا البتةَ.
وطالبُ العلمِ الصِّدِّيقِ الذي ليس له كفايةٌ؛ أَوْلى ممن ليس فيه
الأدبُ الشرعيُّ ولا علمَ عندَه، بل مثلُ هذا لا يستحِقَّ شيئًا
(1)
.
فَصْلٌ
وليس للحاكمِ
أن يولِّيَ ولا يتصرَّفَ في الوقفِ بدونِ أمرِ الناظرِ الشرعيِّ الخاصِّ؛ إلا أن يكونَ الناظرُ الخاصُّ قد تعدَّى فيما يفعلُه، وللحاكمِ أن يعترضَ عليه إذا خرَج عما يجبُ عليه.
وإذا كان بينَ الحاكمِ والناظرِ مُنازَعةٌ؛ حكَم بينَهما غيرُهما حُكْمَ اللهِ
(2)
.
وقَرابةُ الواقفِ
؛ أحقُّ من الفقيرِ المساوي له
(3)
.
وما فضَلَ من الوقفِ
؛ صُرِفُ في مصالحِ مثلِه؛ مثلُ مسجدٍ آخَرَ، وفقراءِ الجيرانِ، ونحوِ ذلك، خيرٌ من أن يُرصَدَ لعمارةٍ أو غيرِها؛ فإنه لا فائدةَ في رَصْدِه معَ زيادةِ الوقفِ؛ إلا لمن يتولَّى من المباشرينَ الظالمينَ.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وأما الصوفيُّ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 53، والفتاوى الكبرى 4/ 262.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وليس للحاكمِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 65، والفتاوى الكبرى 4/ 269.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وقَرابةُ الواقفِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 84، والفتاوى الكبرى 4/ 283.
وأيضًا: فعمرُ رضي الله عنه كان يتصدَّقُ كلَّ عامٍ بكُسْوةِ الكعبةِ، يقسِمُها بينَ الحجاجِ
(1)
.
وصرفُه إلى إمامِه ومؤذِّنِه معَ فقرِهما؛ أَوْلى من غيرِهما
(2)
.
ولْيُعلَمْ أن الجهاتِ الدينيةَ
- مثلُ: الخوانقِ والمدارسِ، وغيرِها -؛ لا يجوزُ أن يَنزِلَ فيها فاسقٌ، سواءٌ كان فسقُه بظلمِه للخلقِ، وتعدِّيه بقولِه وفِعْلِه، أو فسقه بتعدِّي حدودِ اللهِ التي بينَه وبينَ اللهِ.
ومَن ينزلُ بشرطِ الواقفِ؛ لم يَجُزْ صرفُه، ومَن أعان على ذلك فقد أعانَ على الإثمِ والعدوانِ
(3)
.
وإذا رأى الناظرُ
تقديمَ أربابِ الوظائفِ الذينَ يأخذونَ على عملٍ معلومٍ؛ كالإمامِ والمؤذِّنِ: فقد أصابَ؛ إذا كان الذي يأخذونَه لا يزيدُ على جُعْلِ مثلِهم في عادةِ الناسِ، كما أنه يجبُ تقديمُ الجابي والعاملِ والصانعِ والبنَّاءِ، ونحوِهم ممن يأخذُ على عملٍ يعمَلُه في تحصيلِ المالِ، أو عمَارَة المكانِ؛ يُقدَّمونَ بأخذِ الأجرةِ.
(1)
رواه الفاكهي في أخبار مكة (5/ 232).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وما فضَلَ من الوقفِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 17، والفتاوى الكبرى 4/ 242.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولْيُعلَمْ أن الجهاتِ الدينيةَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 19، والفتاوى الكبرى 4/ 243.
والإمامةُ والأذانُ شعائرُ لا يمكنُ إبطالُها، ولا تنقيصُها بحالٍ، [فالجاعلُ]
(1)
جَعَل مثلَ ذلك لأصحابِها، يُقدَّمُ على ما تأخذُه الفقهاءُ، بخلافِ المدرِّسِ والمفيدِ والفقهاءِ؛ فإنهم من جنسٍ واحدٍ
(2)
.
وإذا كان الوقفُ على معيَّنٍ
، ولم يقبَلْه؛ فالتحقيقُ أنه ليس كالوقفِ المنقطعِ؛ بل الوقفُ هنا صحيحٌ قولًا واحدًا، ثم إنه ينتقلُ إلى مَن بعدَه، كما لو مات أو تعذَّرَ استحقاقُه؛ مثلُ: أن يقفَ عليه بشرطِ كونِه فقيرًا أو عدلًا، ففاتت الصفةُ؛ انتقلَ الوقفُ إلى مَن بعدَه، فإنَّ الطبقةَ الثانيةَ يتلقَّوْنَ الوقفَ من الواقفِ لا من الموقوفِ عليه، فلا يُشترَطُ في استحقاقِ الثانيةِ استحقاقُ الأولى.
والقبولُ شرطٌ في استحقاق المعيَّنِ
في الموقوفِ عليهم، فإذا لم يقبلْ؛ كان كما لو ردَّ الوصيةَ واحدٌ من المُوصَى لهم، ولم يقدَحْ ذلك في استحقاقِ بقيةِ الشركاءِ، بخلافِ ما إذا وقفَ على مَن لا يجوزُ؛ فإن هذا يدخُلُ في مسائلِ تَفْريقِ الصفقةِ، ويوجِبُ جهلَ المستحِقِّ أولًا، ولهذا صار فيه نزاعٌ، فالصحيحُ: أنه يصِحُّ، وإن لم يقبلِ المُعيَّنُ؛ لكن لا يستحِقُّ شيئًا حتى يقبلَ، وكذا لو ردَّه لا يبطلُ؛ بل ينتقلُ إلى مَن بعدَه.
(1)
في النسخ الخطية: (فالجعل) والتصحيح من مجموع الفتاوى 31/ 22، والفتاوى الكبرى 4/ 245.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا رأى الناظرُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 21، والفتاوى الكبرى 4/ 244.
ومن شرَطَ كونَ المقرئِ
مثلًا عَزَبًا؛ فهو شرطٌ باطلٌ، والمتأهِّلُ أحقُّ بمثلِ هذا من المتعَزِّبِ؛ إذ ليس في التعزُّبِ مقصودٌ شرعيٌّ
(1)
.
وهل يجبُ أن يُوصِيَ
لأقاربِه الذينَ لا يرِثونَه؟ على قولَينِ، هما روايتانِ
(2)
.
إذا وقَف وَقْفًا
، ثم قال:(ونظرُه إلى حاكمِ المسلمينَ بدِمَشقَ)؛ فليس هو مختصًّا بمذهبٍ معيَّنٍ؛ فإنه يقتضي أنه لو لم يكُنْ في البلدِ إلا حاكمٌ على غيرِ المذهبِ الذي كان عليه حاكمُ البلدِ زمنَ الواقفِ؛ ألَّا يكونَ له نظرٌ؛ وهذا باطلٌ باتِّفاقِ المسلمِينَ؛ فإن ذلك يقتضي بطلانَ الشرعِ في الوقوفِ العامةِ التي لم يُعيِّنْ وليُّ الأمرِ لها ناظرًا خاصًّا، وفي الوقفِ الخاصِّ نزاعٌ معروفٌ، ثم قد يكونُ للحاكمِ وقتَ الوقفِ مذهَبٌ، وبعدَ ذلك يكونُ له مذهبٌ آخَرُ.
ولو شرَط الإمامُ على الحاكمِ أو شرَط الحاكمُ على خليفتِه أن يحكمَ بمذهبٍ معيَّنٍ؛ بطَل الشرطُ، وفي فسادِ العقدِ وجهانِ.
ولا يسوغُ لواقفٍ ألَّا يجعلَ النظرَ في الوقفِ إلا لذي مذهَبٍ معيَّنٍ دائمًا معَ إمكانِ ألا يتولَّى في ذلك المذهبِ أحدٌ، فكيفَ إذا لم يشترطْ ذلك؟!
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن شرَطَ كونَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 22، والفتاوى الكبرى 4/ 245.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وهل يجبُ أن
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 23، والفتاوى الكبرى 4/ 245.
فالحاكمُ على أيِّ مذهَبٍ كان، إذا كانت وِلايَتُه تتناولُ النظرَ في الوقفِ؛ كان تَفْويضُه سائغًا، ولم يَجُزْ لحاكمٍ آخَرَ نقضُ ذلك، ولو ولَّى كلُّ حاكمٍ شخصًا؛ كان الواجبُ على وَلِيِّ الأمرِ أن يقدمَ أحَقَّهما
(1)
.
ومَن وقَف على ولدَيْه
عمرَ وعبدِ اللهِ بينَهما بالسويةِ أبدًا ما عاشوا، ثم على أولادِهما من بعدِهما، وأولادِ أولادِهما، ونَسْلِهما، وعقِبِهما بطنًا بعدَ بطنٍ، فتُوُفِّيَ عبدُ اللهِ، وخلَّفَ أولادًا، فرفع عمرُ لولدِ عبدِ اللهِ إلى حاكمٍ يرى الحكمَ بترتيبِ الجمعِ، وسألَه رفعَ يَدِ ولدِ عبدِ اللهِ عن الوقفِ، وتسليمَه إليه؛ ففعل: فليس الحكمُ جاريًا في جميعِ البطونِ، ولا يكونُ حكمًا لأولادِه بما حكَم له به، فإن قولَه:(ثم على أولادِهما) هو لترتيبِ المجموعِ على المجموعِ، أو لترتيبِ الأفراد على الأفرادِ؛ بحيثُ ينتقلُ نصيبُ كلِّ ميتٍ إلى أولادِه؟ فيه قولانِ
(2)
، فإذا حكم الحاكمُ باستحقاقِ عمرَ الجميعَ بعدَ موتِ عبدِ اللهِ؛ كان لاعتقادِه أنه لترتيبِ المجموعِ، فإذا مات عمرُ فقد يكونُ ذلك الحاكمُ يرى الترتيبَ في الطبقةِ الأولى فقط، وقد يكونُ يرى الترتيبَ في جميعِ البطونِ؛ لكنْ ترتيبُ الجميعِ على الجميعِ، وتشتركُ كلُّ طبقةٍ من
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا وقَف وَقْفًا
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 72، والفتاوى الكبرى 4/ 273.
(2)
قال في الاختيارات للبعلي (ص 259): (والأظهر فيمن وقف على ولديه نصفين، ثم على أولادهما وأولاد أولادهما وعقبهما بعدهما، بطنًا بعد بطن: أنه ينتقل نصيب كل واحد إلى ولده، وإن لم ينقرض جميع المستحقين من البطن الأول، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد).
الطبقتينِ في الوقفِ دونَ مَن هو أسفلُ منها، وقد يرى غيرَه وأنه بعدَ ذلك لترتيبِ الأفرادِ على الأفرادِ، فإذا حكَم حاكمٌ ثانٍ فيما لم يحكمْ فيه الأولُ بما لا يناقضُ حُكْمَه؛ لم يكُنْ نقضًا لحكمِه، فلا يُنقَضُ الثاني إلا بمخالفةِ نصٍّ أو إجماعٍ
(1)
.
ولا يجوزُ إكِراءُ الوقفِ
لمن يضُرُّ به باتِّفاقِ المسلمِينَ.
ولا يجوزُ اكِتراءُ الشجرِ بحالٍ، وإن سُوقِيَ عليها بجزءٍ يسيرٍ حِيلةً؛ لم يَجُزْ ذلك في الوقفِ باتِّفاقِ العلماءِ
(2)
.
ومَن وقَف مدرسةً
، وشرَط على أهلِها الصلواتِ الخمسَ فيها، ليس هذا شرطًا صحيحًا يقفُ الاستحقاقُ عليه، كما كان يفتي بذلك في هذه الصورةِ بعينِها الشيخُ عزُّ الدينِ بنُ عبدِ السلامِ وغيرُه من العُلَماءِ؛ لأدلةٍ متعددةٍ، وقد بسَطْناها في غيرِ هذا الموضعِ.
ويجوزُ للمُنْزَلينَ أن يُصلُّوا في المسجدِ الأقصى الصلواتِ الخمسَ، ولا يُصلُّوها في المدرسةِ، ويستحِقُّونَ معَ ذلك ما قُدِّرَ لهم، وذلك أفضلُ لهم من أن يُصلُّوا في المدرسةِ، والامتناعُ من أداءِ الفرضِ في المسجدِ الأقصى لأجلِ حِلِّ الجاري؛ وَرَعٌ فاسدٌ، يمنعُ صاحبَه الثوابَ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن وقَف على
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 185، والفتاوى الكبرى 4/ 344.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يجوزُ إكِراءُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 69، والفتاوى الكبرى 4/ 272.
العظيمَ في الصَّلاةِ في المسجدِ
(1)
.
قولُه صلى الله عليه وسلم في حديثِ عائشةَ:
«مَن اشتَرطَ شرطًا ليس في كتابِ اللهِ فهو باطلٌ؛ وإن كان مائةَ شرطٍ، كتابُ اللهِ أحقُّ، وشرطُ اللهِ أوثَقُ» هذا حديثٌ متَّفَقٌ على عمومِه
(2)
، وأنه من جوامعِ الكلمِ التي أُوتِيَها وبُعِث بها، فهو عامٌّ في جميعِ العقودِ، وإن كان سبَبُها العِتْقَ؛ فالعبرةُ بعمومِه.
ولكن تَنازَعوا في العقودِ المباحاتِ؛ كالبيعِ والإجارةِ والنكاحِ؛ هل معنى الحديثِ: مَن اشتَرطَ شرطًا لم يثبُتْ أنه مأذونٌ فيه شرعًا، أو مَن اشتَرطَ شرطًا يُعلَمْ أنه مخالفٌ لما شرَعه اللهُ؟ هذا فيه نزاعٌ؛ لأن قولَه في آخِرِ الحديثِ:«كتابُ اللهِ أحقُّ، وشرطُ اللهِ أوثَقُ» ؛ يدُلُّ على أن الشرطَ الباطلَ ما خالَفَ ذلك، وقولُه:«مَن اشتَرطَ شرطًا ليس في كتابِ اللهِ فهو باطلٌ» ؛ قد يُفهَمُ منه ما ليس بمشروعٍ.
وصاحبُ القولِ الأولِ يقولُ: ما لم يُنْهَ عنه من المباحاتِ فهو مما أُذِنَ فيه، فيكونُ
(3)
مشروعًا بكتابِ اللهِ، وأما ما كان في العقودِ التي يُقصَدُ بها الطاعاتُ؛ كالنَّذْرِ؛ فلا بدَّ أن يكونَ المنذورُ طاعةً، فمتى كان مباحًا؛ لم يجبِ الوفاءُ به.
وكذلك الوقفُ وحكمُ الشروطِ فيه، فإذا وصى أو أوقَف على
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن وقَف مدرسةً
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 52، والفتاوى الكبرى 4/ 261.
(2)
تقدم تخريجه ص
…
ظظ
(3)
في الأصل و (ز): ليكون. والمثبت من (ك).
معيَّنٍ، وكان كافرًا أو فاسقًا؛ لم يكُنِ الكفرُ والفسقُ هو سببَ الاستحقاقِ، ولا شرطاً فيه؛ بل هو يستحِقُّ ما أعطاه، وإن كان مسلمًا عدلًا، فكانت المعصيةُ عديمةَ التأثيرِ، بخلافِ ما لو جعَلَها شرطًا في ذلك على جهةِ الكفارِ، أو الفسَّاقِ، أو على الطائفةِ الفلانيةِ بشرطِ أن يكونوا كفارًا أو فساقًا، فهذا الذي لا رَيْبَ في بطلانِه عند العلماء.
ولكن تنازعوا في الوقف على جهة مباحة؛ كالوقف على الأغنياء على قولين، والصحيح البطلان.
وهنا أصلانِ:
أحدُهما: أن بَذْلَ المالِ لا يجوزُ إلا لمنفعةٍ في الدينِ أو الدنيا، وهذا مُتَّفَقٌ عليه بينَ العلماءِ، ومَن خرَج عن ذلك كان سفيهًا مبذِّرًا لمالِه، وقد نهى تعالى عن التبذيرِ، ونهى عن إضاعةِ المالِ في الحديثِ
(1)
، ومن المعلومِ أن الواقفَ لا ينتفعُ بوقفِه في الدنيا، ولا ينتفعُ به في الدينِ إن لم ينفِقْه في سبيلِ اللهِ، وسبيلُ اللهِ طاعتُه وطاعةُ رسولِه، فإنه تعالى إنما يُثيبُ العبدَ على ما أنفَقَه فيما يُحِبُّه، فالمباحاتُ لا يثيبُ عليها، ولا يكونُ في الوقفِ عليها منفعةٌ وثوابٌ في الدينِ، ولا منفعةٌ في الوقفِ عليها في الدنيا، فالوقفُ عليها خالٍ من المنفعةِ في الدينِ أو الدنيا؛ فيكونُ باطلًا؛ كمن خصَّص الغنيَّ لكونِه غنيًّا، معَ
(1)
وهو ما رواه البخاري (147)، ومسلم (593)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعًا وهات، ووأد البنات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» .
مشاركةِ الفقيرِ له في أسبابِ الاستحقاقِ سوى الغنى، مع زيادةِ استحقاقِ الفقيرِ عليه، فهذا مما يُعلَمُ بالاضطرارِ أن اللهَ لا يُحِبُّه، فلا يكونُ اشتراطُه صحيحًا.
وأيضًا: المالُ يُمنَعُ منه الوارثُ، فلو أن فيه مصلحةً؛ لما جاز منعُ الوارثِ، فأما منعُ الوارثِ منه، ولا مصلحةَ للواقفِ ولا منفعة؛ فهذا لا يجوزُ تنفيذُه.
وأما الوقفُ على الأعمالِ الدينيةِ؛ كالقراءةِ والحديثِ والفقهِ ونحوِ ذلك؛ فهذا هو الأصلُ الثاني، وذلك لا يمكنُ أن يكونَ في ذلك نزاعٌ في جوازِه إذا كان على ما شرَعَه اللهُ وأوجَبَه من هذه الأعمالِ، فأما مَن ابتَدعَ عملًا لم يشرَعْه اللهُ، وجعَلَه دِينًا؛ فهذا يُنهَى عن عملِ هذا العملِ، فكيفَ يُشرَعُ له أن يقفَ عليه الأموالَ؟! بل هذا من جنسِ الوقفِ على ما يعتقِدُه اليهودُ والنصارى عباداتٍ، وهي من الدينِ المُبدَّلِ، فبابُ العباداتِ والدياناتِ مُتلقًّى عن اللهِ ورسولِه، فليس لأحدٍ أن يجعلَ شيئًا عبادةً أو قربةً إلا بدليلٍ شرعيٍّ، فالبِدَعُ المذمومةُ شرعًا: هي ما لم يشرَعْه اللهُ؛ أي: لم يدخُلْ في أمرِه.
ولا خلافَ بينَ المسلمِينَ: أن مَن وقَف على صلاةٍ أو صيامٍ أو قراءةٍ أو جهادٍ غيرِ شرعيٍّ؛ لم يصِحَّ وقْفُه، وفَرْقٌ بينَ المباحِ الذي يُفعَلُ لأنه مباحٌ، وبينَ ما يُتَّخَذُ دِينًا وعبادةً وطاعةً، فمن جعَل ما ليس قربةً ولا طاعةً أنَّه دين وطاعةٌ؛ كان ذلك حرامًا باتِّفاقِهم، ووَقْفُه على ذلك باطلٌ.
لكن قد يقَعُ النِّزاعُ في بعضِ الأمورِ؛ هل هو من بابِ القُرُباتِ، أم لا؟ كما تَنازَعوا في مسائلِ الاجتهادِ، كمَن يرى وجوبَ القراءةِ على المأمومِ، وآخَرُ يكرهُها له.
فمن علِمَ في شيءٍ أنه بدعةٌ؛ لم يَجُزْ أن يوقفَ عليه باتفاقِ العلماءِ، فالشروطُ المتضمنةُ للأمرِ بما نُهي عنه، والنَّهْيِ عمَّا أُمر به؛ مخالَفةٌ للنصِّ والإجماعِ.
فما تبيَّنَ أنَّه من الشروطِ الفاسدةِ المضادَّةِ لمحبةِ الشارعِ ورضاه؛ أُلغيَ، وما تبيَّنَ أنه موافقٌ لكتابِ اللهِ؛ أُنفِذ، وما اشتَبهَ أمرُه، أو كان فيه نزاعٌ؛ فله حُكْمُ نظائرِه.
ومن هذه الشروطِ: ما يَحتاجُ تغييرُه إلى همةٍ قويةٍ وقدرةٍ نافذةٍ يؤيِّدُها اللهُ بالعلمِ والدينِ، وإلا فمجرَّدُ قيامِ الشخصِ في هوى نفْسِه لجَلْبِ دنيا، أو دفعِ مَضرَّةٍ دنيويةٍ، إذا خرَج ذلك مخرجَ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهْيِ عن المُنكَرِ؛ لا يكادُ ينجَحُ سَعْيُه، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ.
فمَبيتُ الشخصِ في مكانٍ معيَّنٍ دائمًا؛ ليس قربةً ولا طاعةً باتِّفاقِ العلماءِ، ولا يكونُ ذلك إلا نادرًا؛ كالمَبيتِ في ليالي مِنًى، ومَبيتِ الإنسانِ في الثَّغْرِ للرباطِ، أو في حرسٍ في سبيلِ اللهِ، أو عندَ عالِمٍ أو رجلٍ صالحٍ ينتفعُ به، فأما أن يرابطَ دائمًا في بقعةٍ بالليلِ لغيرِ مصلحةٍ دينيةٍ؛ فليس من الدينِ؛ بل تعيينُ مكانٍ للصلوات الخمسِ، أو قراءةِ القرآنِ، أو إهدائه غيرَ ما عيَّنَه الشارعُ؛ ليس مشروعًا باتفاقِهم؛ حتى لو نذَر الصَّلاةَ في مسجدٍ غيرِ الثلاثةِ؛ لم يتعيَّنْ، ولهم في وصولِ العباداتِ
قولانِ؛ لكن لم يقُلْ أحدٌ: التفاضل في مكانٍ دونَ مكانٍ، ولم يقُلْ أحدٌ: إن القراءةَ عندَ القبرِ أفضلُ، مع أن الميتَ ينتفعُ بسَماعِها، فقولُه بدعةٌ باطلةٌ؛ لأنَّ الميتَ بعدَ موتِه لا ينتفعُ بأعمالٍ يعملُها هو بعدَ الموتِ، لا من استماعٍ أو قراءةٍ، ولا غيرِ ذلك باتِّفاقِ المسلمِينَ، وإنما ينتفعُ بآثارِ ما عمِلَه في حياتِه.
وإلزامُ المسلمِ ألَّا يعملَ ولا يتصدقَ إلا في بقعةٍ معينةٍ؛ مثلُ كنائِسِهم [باطلٌ]
(1)
.
ومتى نقَصوا مما
شَرَط لهم الواقفُ كان لهم أن ينقُصوا من المشروطِ عليهم بحسَبِ ذلك، واللهُ أعلمُ
(2)
.
إذا تعدَّى الناظرُ في الوقفِ
؛ مثلُ: أن يصرفَ المالَ إلى مَن لا يستحِقُّه؛ إلى نفْسِه أو غيرِه، أو فرَّطَ فيه؛ مثلُ: أن يدَعَ استخراجَ ما يجبُ استخراجُه من مالِ الوقفِ؛ فإن الواجبَ إذا لم يستقِمْ أن يُستبدَلَ به ناظرٌ غيرُه يقومُ بالواجبِ، أو يُضَمَّ إليه أمينٌ، ولمستحِقِّي الوقفِ مطالبةُ الناظرِ بالمحاسبةِ على المستخرَجِ والمصروفِ بتعيينِ الأماكنِ الموقوفةِ، وتعيين المستأجرين لها؛ لينظروا مالَهم، ويستدلوا بذلك على
(1)
ما بين المعقوفتين سقط من النسخ الخطية، وهو من مجموع الفتاوى.
وينظر أصل الفتوى من قوله: (قولُه صلى الله عليه وسلم في حديثِ عائشةَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 26، والفتاوى الكبرى 4/ 247.
(2)
جاء في هامش الأصل: (آخر المجلد الرابع، والحمد لله وحده). وبعدها: (أول المجلد الخامس).
صِدْقِه فيما يُخبِرُهم أو كذِبِه، وعلى عدلِه وجَوْرِه، فقد ثبَتَ في الصحيحِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم استعملَ رجلًا يقالُ له: ابنُ اللُّتْبِيَّةِ، فلما رجَع حاسَبَه
(1)
، معَ أنه كان له ولايةٌ في صَرْفِها، والمستحِقُّ غيرُ معيَّنٍ، فجاز للمُوَلِّي والمستحِقِّ ذلك.
ومَن باع أرضًا
، ثم تبيَّنَ أنها وقفٌ عليه صحيحٌ لازمٌ؛ فالبيعُ بعدَ ذلك باطلٌ، ويرجعُ المشتري على مَن غرَّه بالثمنِ، وبما يغرمُه من أجرةٍ.
وأما إن لم يكُنِ الوقفُ كذلك، كمن أوقَفَ ولم يُخرِجْه عن يدِه على مذهَبِ مالكٍ وإحدى الروايتينِ عن أحمدَ وأبي حنيفةَ: فهنا لا يبطُلُ البيعُ بمثلِ ذلك، وما وجب لأهلِ الوقفِ من أُجرةٍ تستقِرُّ على الغارِّ الذي غرَّ المشتري.
وإذا كانت يدُ المستحِقِّينَ على الوقفِ، ولهم عادةٌ مستمرةٌ في صَرْفِه، وذَكروا أن تلك العادةَ من شروطِ الواقفِ؛ كان ذلك بمنزلةِ اليدِ على المالِ لا تُرفعُ إلا بحجةٍ شرعيةٍ تُبيِّن أن شرطَ الواقفِ بخلافِه، فإن يدَ المصارفِ على الوقفِ والأيديَ المستقرةَ على الملكِ، والوقفَ عينَه ومصرفَه؛ لا تُرفَعُ إلا بحجةٍ.
والشهادةُ بمصرِفِ الوقفِ مقبولةٌ، وإن كان مُستنَدُها الاستفاضةَ؛ في أصحِّ قولَيِ العلماءِ، ولا يُعلَمُ مصارفُ الوقوفِ المتقادمةِ إلا بمثلِ ذلك.
(1)
رواه البخاري (1500)، ومسلم (1832) من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.
وإذا كان في شرطِ الواقفِ:
أنه لا يُؤْجَرُ أكثرَ من سنتينِ، وتعطلَ وخربَ، ولا تُمكنُ إجارتُه وعمارتُه إلا بأربعِ سنينَ؛ أُوجِر كذلك، وإن كان فيه مخالفةٌ لشرطِ الواقفِ المُطلَقِ، ولا يفسُقُ فاعلُ ذلك.
ومَن وقَف وقفًا
، وشرَط نظَرَه له مدةَ حياتِه، ثم مِن بعدِه إلى الأرشدِ مِن أولادِه، فغاب عن البلدِ؛ فأجاب طائفةٌ: بأن النظرَ للحاكمِ مدةَ الغَيْبةِ، وأن الواقفَ إذا خرَج عن الأهليةِ؛ كان النظَرُ للحاكمِ، لا لولدِه، بناءً على أن الانتقالَ إلى الولدِ لا يكونُ إلا بعدَ مماتِه.
قلت: - قال شيخُ الإسلامِ-: كأنَّهم جعَلوا توليةَ الوقفِ كتزويجِ الأَيِّمِ إذا غاب الوَلِيُّ الأقربُ، وفيه نظَرٌ؛ لأن لهذا ولايةَ الاستقلالِ لا الاستئذانِ، وليس في التأخيرِ تفويتُ كفءٍ، بل مضَتِ السُّنَّةُ بأن الأئمَّةَ يُولُّونَ معَ بُعْدِ الدارِ شرقًا وغربًا، وكذلك المستحِقُّونَ للولايةِ بالشرطِ، وليسَ أمرُ الولاياتِ كالتزويجِ وحفظ المال
(1)
؛ بل الولايةُ على الولاياتِ أوسعُ من الولايةِ على البُضْعِ والمالِ، فإذا مات المدرسُ -مثلًا- فلا يُولِّيه حاكمُ البلدِ؛ بل يراسِلُ الناظرَ، فأما الانتقالُ بخروجِه عن الاستقلالِ بالحياةِ؛ ينتقلُ؛ كالموتِ، وينتقلُ إلى الأبعدِ، كما في وليِّ النكاحِ.
وقوله: (بعده)؛ كقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا نبِيَّ بعدي»
(2)
أي: بعدَ نُبُوَّتي.
(1)
قوله: (المال) زيادة من (ك)، وسقطت من الأصل.
(2)
رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فقولُه: (والنظَرُ بعدَه) أي: بعدَ نظَرِه، كما أن قولَه:(مدةَ حياتِه) مشروطٌ بالأهليةِ، فقولُه:(بعده) يعودُ إلى القسمينِ: عدمِ الأهليةِ، وعدمِ الوجودِ بالكليةِ.
ويُصرَفُ رَيعُ الوقفِ في مصالحِ المسجدِ، مثلُ: عِمارتِه وتَنْويرِه وفَرْشِه وإمامِه ومُؤذِّنِه كفايتُهم بالمعروفِ، وما فضَل بعدَ ذلك؛ يجوزُ صرفُه إلى مسجدٍ آخَرَ، وفي مصالحِ الجيرانِ؛ مثلُ: رزقِ قاضي الناحيةِ ونحوِ ذلك.
إذا حكَم حاكمٌ
باختصاصِ الوقفِ بفلانٍ؛ لأنه لم يُعقِبْ من ولدِ الواقفِ غيرُ أمِّه، وثبَتَ أن فلانةَ الأختَ الأخرى أعقبتْ فلانًا؛ قُسِمَ بينَهما؛ لأن بينةَ الإثباتِ مقدمةٌ على النَّفْيِ.
والوقفُ على اليتامى
لا يدخُلُ فيه يتامى الكفارِ، وأما الغلامُ الصغيرُ الذي أُعتِقَ وليس له أبٌ يُعرَفُ؛ فيدخُلُ، وإن لم يُعرَفْ هل مات أبوه في دارِ الحربِ.
وإذا عُدِمَ بعضُ الموقوفِ عليهم
قبلَ استحقاقِه؛ انتَقلَ نصيبُه لو عاش إلى ولدِه، وإن لم يستحِقَّ هو شيئًا؛ لأن الطبقةَ الثانيةَ يأخذون عن الواقفِ.
ونازَعَ بعضُهم فيما إذا عُدِموا قَبل زَمَن الاستِحْقاقِ، ولم يُنَازِعوا فيما إذا انتفَتِ الشرُوطُ في الطبقةِ الأُولى أو بعضِهم: لم يلزمْ حرمانُ الطبقةِ الثانيةِ إذا وُجدتْ فيهم الشروطُ، ولا فرقَ بينَ الصورتينِ.
وقولُ الواقفِ:
(على زيدٍ، ثم على أولادِه، ثم أولادِ أولادِه)؛ ففيه للفقهاءِ من أصحابِ أحمدَ وغيرِهم عندَ الإطلاقِ قولانِ:
أحدُهما: أنه لترتيبِ الجمعِ على الجمعِ؛ كالمشهورِ في قولِه: على زيدٍ وعمرو، ثم على المساكينِ.
والثاني: أنه لترتيبِ الأفرادِ على الأفرادِ، كما في قولِه:{ولكم نصف ما ترك أزواجكم} ؛ أي لكلِّ واحدٍ نصفُ ما تركتْ زوجتُه، وكذا:{حرمت عليكم أمهاتكم} ؛ إذ مقابلةُ الجمعِ بالجمعِ تقتضي توزيعَ الأفرادِ على الأفراد؛ نحوُ: لَبِسَ الناسُ ثيابَهم، وركِب الناسُ دوابَّهم
(1)
.
ويجبُ على ناظرِ الوقفِ
أن يجتهدَ في صَرْفِه، فيُقدِّمَ الأحقَّ فالأحقَّ، وإذا اقتَضَتِ المصلحةُ الشرعيَّةُ صَرْفَه إلى ثلاثةٍ؛ مثلُ ألَّا يَكْفيَهم أقلُّ من ذلك، وغيرُهم من الفقراءِ مَكْفِىٌّ بغيرِ هذا الوقفِ، أو يُساويهم فيما يحصُلُ من رَيعِه، وهم أحَقُّ منه عندَ التزاحمِ ونحوِ ذلك؛ جاز ذلك.
وأقاربُ الواقفِ الفقراءُ أَوْلى من الأجانبِ معَ التساوي في الحاجةِ، ويجوزُ أن يُصرَفَ إليه كفايتُه إذا لم يوجدْ أحَقُّ منه.
وإن قُدِّرَ وجودُ فقيرٍ مضطرٍّ؛ كان دَفْعُ ضرورتِه واجبًا، وإن قُدِّرَ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا عدمَ بعضُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 189، والفتاوى الكبرى 4/ 346.
تنقيصُ غيرِه من غيرِ ضرورةٍ تحصُلُ له؛ تعيَّنَ ذلك، واللهُ أعلمُ
(1)
.
فَصْلٌ
الشروطُ في الوقفِ
؛ كعدَمِ الجمعِ بينَ الوَظيفةِ وبين غيرِها من مدرسةٍ أخرى: إنَّما يلزمُ الوفاءُ بالشرط إذا لم يُفْضِ ذلك إلى الإخلالِ بالمقصودِ الشرعيِّ الذي هو إما واجبٌ، أو مستحَبٌّ.
فأمَّا المحافظة على بعضِ الشروطِ معَ فواتِ المقصودِ بالشروطِ؛ فلا يجوزُ.
فاشتراطُ عدمِ الجمعِ؛ باطلٌ معَ ذَهابِ بعضِ أصلِ الوقفِ، وعدمِ حصولِ الكفايةِ للمُرتَّبِ بها؛ لا يجبُ التزامُه، ولا يجوزُ الإلزامُ به؛ لوجهَينِ:
أحدُهما: أن ذلك إنما شُرِط عليهم معَ وجودِ رَيعِ الوقفِ؛ سواءٌ كان كاملًا أو ناقصًا، فإذا ذهَب بعضُ أصلِ الوقفِ؛ لم تكُنِ الشروطُ مشروطةً في هذه الحالِ، وفَرْقٌ بينَ نَقْصِ ريعِ الوقفِ معَ وجودِ أصلِه، وبينَ ذَهابِ بعضِ أصلِه.
الوجهُ الثاني: أن حصولَ الكفايةِ للمُرتَّبِ بها أمرٌ لا بدَّ منه؛ حتى لو قُدِّرَ أن الواقفَ صرَّحَ بخلافِ ذلك؛ لكان شرطًا باطلًا؛ مثلُ أن
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجبُ على ناظرِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 90، والفتاوى الكبرى 4/ 287.
يقولَ: إن المُرتَّبَ بها لا يُرتزَقُ من غيرِها ولو لم يحصُلْ له كفايةٌ، فلو صرَّح بهذا؛ لم يصِحَّ؛ لأنه يخالفُ كتابَ اللهِ، فإن حصولَ الكفايةِ لا بدَّ منها، وتحصيلَها للمسلمِ واجبٌ، إما عليه، وإما على الكفايةِ من المسلمِينَ، والوقفُ سواءٌ شُبِّهَ بالجُعْلِ، أو بالأجرةِ، أو بالرزقِ؛ فإنما على العاملِ أن يعملَ إذا وفِّي له بما شُرِط له
(1)
.
وإذا شرَط للناظرِ معلومًا
؛ فليس في شرطِه كونُه يُقدَّمُ على غيرِه؛ بل هو مذكورٌ بالواوِ التي مقتضاها التشريكُ، لكن إذا كان ثَمَّ دليلٌ مُنفصِلٌ يقتضي جوازَ الاختصاصِ والتقدُّمِ؛ مثلُ كونِه يأخذُ أجرةَ عمَلِه معَ فقرِه كوَلِيِّ اليتيمِ؛ عمِل بذلك الدليلِ المنفصلِ الشرعيِّ
(2)
.
والمالُ المشروطُ للناظرِ
؛ مستحَقٌّ على العملِ المشروطِ عليه، فمِن يومِ عمِلَ يستحِقُّ؛ لا من حينِ تولَّى
(3)
.
ولا يجوزُ الوقفُ على الأغنياءِ
؛ وإن كان الغنى مباحًا، وكذا سائرُ الصفاتِ المباحةِ، وكذا لو شرَط عليهم التزامَ نوعٍ من المَطْعَمِ، أو المَلبَسِ، أو المَسْكَنِ الذي لم تستحِبُّه الشريعةُ، أو تَرْكَ بعضِ الأعمالِ التي تستحِبُّ الشريعةُ عمَلَها.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (الشروطُ في الوقفِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 15، والفتاوى الكبرى 4/ 241.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا شرَط للناظرِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 66، والفتاوى الكبرى 4/ 270.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والمالُ المشروطُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 75، والفتاوى الكبرى 4/ 275.
بقِيَ الكلامُ في تحقيقِ هذا المناطِ في أعيانِ المسائلِ، فإنه قد يكونُ متفقًا عليه، وقد يختلفُ فيه الاجتهادُ، فيُنظَرُ في الشرطِ، إن لم يكُنْ فيه مقصودٌ شرعيٌّ خالصٌ أو راجحٌ؛ كان باطلًا، فإذا شرَط ألا يرتزقَ في وظيفةٍ أخرى؛ نُظِر في ذلك كما تقدَّمَ، والوقفُ هو من بابِ الرزقِ والمعاونةِ على الدِّينِ، بمنزلةِ ما تُرزَقُه المقاتِلةُ والعلماءُ من الفَيْءِ، ليست كالجعالةِ، ولا كالإجارةِ على عملٍ دنيويٍّ
(1)
.
ويجوزُ لوَلِيِّ الأمرِ
أن ينصبَ ديوانًا مستوفيًا لحسابِ الأموالِ الموقوفةِ عندَ المصلحةِ، كما ينصبُ لحسابِ الأموالِ السلطانيةِ، وله أن يفرضَ له على عمَلِه ما يستحِقُّه مثلُه من كلِّ ما يعمَلُ فيه بقدرِ ذلك المالِ والعملِ؛ لقولِه:{والعاملين عليها} ، وقد استَعملَ صلى الله عليه وسلم رجلاً وحاسَبَه
(2)
.
ونصبُ المستوفي الجامعِ للعمالِ المتفرقينَ هو بحسَبِ الحاجةِ، فقد يكونُ واجبًا إذا لم تتمَّ مصلحةُ قبضِ المالِ وصَرْفِه إلا به، وكذا نصبُ الحاكمِ قد يجبُ إذا لم تصلِ الحقوقُ إلى مستحِقِّها، أو لم يتمَّ فعلُ الواجبِ وتَرْكُ المُحرَّمِ إلا به، وقد يُستغنَى عنه إذا باشَرَ الحكمَ بنفْسِه، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُباشِرُ الحكمَ واستيفاءَ الحسابِ بنفْسِه في المدينةِ، وفيما بعدُ يولِّي مَن يقومُ بالأمرِ، ولما كثُرتِ الرعيةُ على عهدِ الخلفاءِ؛ استَعملوا القضاةَ، ودوَّنوا الدواوينَ.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يجوزُ الوقفُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 12، والفتاوى الكبرى 4/ 239.
(2)
تقدم تخريجه ص .... ظظ
فإذا قام المستوفي بما عليه؛ وجَب له ما فُرِض له، وإذا عمِلَ ولم يُعْطَ جُعْلَه؛ فله أن يطلبَ عن العملِ الخاصِّ، فإن ما وجَب بطريقِ المعاملةِ؛ يجبُ
(1)
.
ومَن وقَف، ثم ظهَر عليه دينٌ
، فأمكنَ وفاءُ الدينِ من غيرِ بيعِ الوقفِ؛ لم يَجُزْ بيعُ الوقفِ.
وإن لم يمكنْ وفاؤُه إلا ببيعِ شيءٍ من الوقفِ، وهو في مرضِ الموتِ؛ بِيعَ باتِّفاقِ العلماءِ.
وإن كان الوقفُ في الصحةِ؛ فهل يُباعُ لوفاءِ الدَّينِ؟ فيه خلافٌ في مذهَبِ أحمدَ وغيرِه، ومَنْعُه قويٌّ
(2)
.
وأجرةُ إثباتِ الوقفِ
والسعيِ في مصالحِه؛ من تَرِكةِ الميتِ لا من رَيعِه
(3)
.
وإذا عيَّنَ ناظرًا، ثم عيَّن ناظرًا غيرَه من غيرِ عَزْلٍ للأولِ؛ يُرجَعُ فيه
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجوزُ لوَلِيِّ الأمرِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 84، والفتاوى الكبرى 4/ 283.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن وقَف
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 204، والفتاوى الكبرى 4/ 355.
(3)
هكذا في النسخ الخطية، والذي في أصل الفتوى كما في مجموع الفتاوى 31/ 78، والفتاوى الكبرى 4/ 277 أن ذلك ليس من تركة الميت، قال رحمه الله:(ليست أجرة إثبات الوقف والسعي في مصالحه من تركة الميت، فإن ما زاد على المقر به كله مستحق للورثة، وإنما عليهم رفع أيديهم عن ذلك وتمكين الناظر منه، وليس عليه السعي ولا أجرة ذلك).
إلى عُرْفِ مثلِ هذا الواقفِ وعادةِ أمثالِه، فإن كان مثلُ هذا رجوعاً؛ كان رجوعًا، وكذلك إن كان في لفظِه ما يقتضي انفرادَ الثاني، وإلا
(1)
فقد عُرِفتِ المسألةُ فيما إذا أوصى بالعينِ لشخصٍ، ثم وصَّى بها لآخَرَ؛ هل يكونُ رجوعًا، أم لا؟
وما علِمَه الشهودُ من حقٍّ في تَرِكتِه يصِلُ الحقُّ إلى مستحِقِّه بشهادتِهم؛ لم يكتموها، وإن كان يأخُذُه مَن لا يستحِقُّه، ولا يصِلُ إلى مَن يستحِقُّه؛ فليس عليهم أن يُعِينوا واحدًا منهما.
وإن كان في يدِه بتأويلٍ واجتهادٍ؛ لم يكُنْ عليهم أيضًا نَزعُه من يدِه؛ بل يُعانُ المتأولُ على مَن لا تأويلَ له.
أجابَ بذلك فيما إذا علِمَ الشهودُ بحقٍّ لبيتِ المالِ في تَرِكة؛ هل يجبُ كَتْمُه، أم لا؟
(2)
ومَن قال: إذا متُّ فداري وقفٌ
، ثم تَعافَى ولزِمَه ديونٌ؛ جاز بيعُ الدارِ ووفاءُ الدَّينِ، وإن كان التعليقُ صحيحًا كما هو أحدُ قولَيِ العلماءِ، وليس هذا بأبلغَ من التدبيرِ، وقد باع النبيُّ صلى الله عليه وسلم المُدبَّرَ في الدَّينِ
(3)
.
(1)
في الأصل: لا. والمثبت من (ك) و (ز).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وأجرةُ إثباتِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 78، والفتاوى الكبرى 4/ 276.
(3)
رواه البخاري (2141)، ومسلم (997) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رجلًا أعتق غلامًا له عن دُبُرٍ، فاحتاج، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«من يشتريه مني» .
وينظر أصل الفتوى من قوله: (وأجرةُ إثباتِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 205، والفتاوى الكبرى 4/ 355.
فَصْلٌ
(1)
الأموالُ التي لها أصلٌ في كتابِ اللهِ تعالى ثلاثةٌ:
مالُ المغنمِ؛ ذكَره في قولِه: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن للهِ خمسه} الآية، فهذه المغانِمُ للغانمينَ وخُمُسُها له.
والثاني: الفَيْءُ؛ وهو الذي ذكَره في سورةِ الحشرِ؛ حيث قال: {وما أفاء الله على رسوله منهم} ، وقوله:{فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} ؛ أي: ما حركتُم، ولا أعملتُم، ولا سقتُم؛ فهو ما صار للمسلمِينَ بغيرِ إيجافِ خيلٍ ولا رِكابٍ؛ فإن اللهَ أفاءَه على المسلمِينَ، فإنه خلَق الخلقَ لعبادتِه، وأحلَّ لهم الطيباتِ ليأكلوا طيبًا، ويعملوا صالحًا، والكفارُ عبدوا غيرَه؛ فصاروا غيرَ مستحِقِّينَ للمالِ، فأباح للمؤمنينَ الذينَ يعبدونَه أن يَستَرِقُّوا أنفُسَهم، وأن يسترجعوا الأموالَ منهم، فقد فاءَتْ؛ أي: رجعَتْ إلى مستحِقِّها.
ويدخُلُ فيه: جزيةُ الرؤوسِ، وما يُؤخَذُ من العشورِ، وما يُصالَحُ عليه الكفارُ من المالِ الذي يحملونَه، وما جَلَوْا عنه خوفًا؛ كأموالِ بني النضيرِ الذينَ كانوا شَرقيَّ المدينةِ، فقال: {هو الذي أخرج الذينَ كفروا من
(1)
ينظر أصل الفتوى لهذا الفصل في مجموع الفتاوى 28/ 558، والفتاوى الكبرى 4/ 214.
أهل الكتاب}، فذكَر مصارِفَ الفَيْءِ بقولِه: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل
…
} الآيةَ، إلى قولِه: {للفقراء المهاجرين الذينَ أخرجوا من ديارهم
…
} إلى قولِه: {والذينَ جاؤوا من بعدهم} ، فهؤلاءِ المهاجرونَ والأنصارُ والذينَ جاؤوا من بعدِهم إلى يومِ القيامةِ، ولهذا قال مالكٌ وأبو عبيدٍ وأبو حكيمٍ النَّهْروانيُّ من أصحابِ أحمدَ وغيرُهم: إن مَن سَبَّ الصحابةَ؛ لم يكُنْ له في الفَيْءِ نصيبٌ.
ومِن الفيءِ ما ضرَبَه عمرُ على أرضِ العَنْوةِ
(1)
، فلا يُخمَّسُ في قولِ الجماهيرِ؛ كأبي حنيفةَ، ومالكٍ، وأحمدَ، ويُخمَّسُ عندَ الشافعيِّ وبعضِ أصحابِ أحمد، وذُكِر ذلك روايةً عنه، والفيءُ لم يكُنْ ملكًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في حياتِه؛ في قولِ أكثرِ العلماءِ، وقال الشافعيُّ وبعضُ أصحابِنا: كان ملكًا له.
وأما مصرِفُه بعدَ موتِه: فقد اتفقَ العلماءُ على أنه يُصرَفُ منه أرزاقُ الجندِ الذينَ يقاتِلونَ الكفارَ.
وتَنازَعوا: هل يُصرَفُ في سائرِ المصالحِ، أم يختصُّ به المقاتلةُ؟ على قولَينِ للشافعيِّ وأحمدَ؛ لكن المشهورَ عنه: أنه لا يختصُّ، كما هو قولِ مالكٍ وأبي حنيفةَ؛ بل يُصرَفُ في المصالِحِ كلِّها.
(1)
رواه ابن أبي شيبة (32977)، وابن زنجويه في الأموال (226) والبيهقي في الكبرى (12821).
وعلى القولَينِ: يُعطَى مَن فيه منفعةٌ عامةٌ لأهلِ الفَيْءِ؛ كولاةِ أمورِهم، ومَن يُقرِئُهم القرآنَ ويُفْتيهم ويُحدِّثُهم ويَؤُمُّهم ويُؤذِّنُ لهم، وسَدِّ ثُغورهم، وعِمارةِ طُرُقاتِهم وحصونِهم، وإلى ذوي الحاجاتِ، يبدأُ بالأهمِّ من ذوي المنافعِ؛ نصَّ عليه عامةُ الفقهاءِ من أصحابِ أحمدَ والشافعيِّ وأبي حنيفةَ وغيرِهم.
لكنَّ مذهَبَ الشافعيِّ وبعضِ أصحابِ أحمدَ: أنه لا حقَّ فيه للأغنياءِ الذينَ لا منفعةَ للمسلمِينَ بهم، ومذهبُ الجمهورِ - كمالكٍ وأحمدَ وغيرِهما - أن للأغنياءِ فيه حقًّا؛ إذا فضَلَ واتسَعَ عن حاجاتِ المسلمِينَ، كما قال عمرُ:«ما من مسلمٍ إلا وله في هذا المالِ حقٌّ»
(1)
، وكان لجميع المسلمِينَ فرضٌ في ديوان عمرَ؛ غَنِيِّهم وفقيرِهم
(2)
، وعلى هذا فلا يُعطَى الغنيُّ شيئًا إلا بعدَ الفقيرِ إذا فضَلَ عنه؛ هذا مذهَبُ الجمهورِ؛ كأحمدَ في الصحيحِ عنه ومالكٍ، والشافعيُّ - كما تقدَّمَ - يخصِّصُ الفقراءَ بالفاضلِ.
وأما المالُ الثالثُ: فهو الصدقاتُ التي هي زكاةُ الأموالِ، وهذا مصرِفُه ما ذكَره اللهُ تعالى في قولِه: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها
…
}، الثمانيةِ الأصناف، وقد اتفقَ المسلمونَ على أنه لا يجاوزُ بها الثمانيةَ الأصنافَ التي سَمَّى اللهُ تعالى.
(1)
رواه عبد الرزاق (7287)، وابن أبي شيبة (32978).
(2)
الأموال لأبي عبيد، (باب فرض الأعطية من الفيء، ومن يبدأ به فيها؟)، (ص 285) وما بعدها.
إذا تبيَّنَ هذا الأصلُ؛ فنذكُرُ أصلًا آخَرَ ونقولُ:
أموالُ بيتِ المالِ في هذه الأزمنةِ هي أصنافٌ؛ منها ما هو الفَيْءُ
(1)
، أو الصدقاتُ، أو الخُمُسُ، فقد عُرِف حكمُ هذا.
ومنها ما صار إلى بيتِ المالِ بحقٍّ غيرِ هذا؛ مثلُ مَن مات مِن المسلمِينَ ولا وارِثَ له.
ومِن ذلك ما فيه نزاعٌ، ومنه ما هو مُتَّفَقٌ عليه.
وصنفٌ قُبِضَ بغيرِ حقٍّ، أو بتأويلٍ يجبُ ردُّه إلى مستحِقِّه إذا أمكنَ، وقد تعذَّرَ ذلك؛ مثلُ: ما يُؤخَذُ من مصادراتِ العمالِ وغيرِهم الذينَ أخذوا الهديةَ وأموالَ المسلمِينَ ما لا يستحِقُّونَه؛ فاستَرْجَعَه وليُّ الأمرِ منهم، أو من تَرِكاتِهم ولم يُعرَفْ مستحِقُّه، ومَا قُبِضَ من الوظائفِ المحدثةِ؛ فهذه الأموالُ التي تعذَّرَ ردُّها لعدمِ العلمِ -مثلًا- هي: مما يُصرَفُ في مصالحِ المسلمِينَ عندَ أكثرِ العلماءِ؛ كالغاصِبِ، والخائنِ التائبِ، والمرابي، ونحوِهم ممن صار بيدِه مالٌ لا يملِكُه، ولا يُعرفُ صاحبُه، فإنه يُصرَفُ إلى ذوي الحاجاتِ.
إذا تبيَّنَ هذانِ الأصلانِ فنقولُ: مَن كان من ذوي الحاجاتِ؛ كالفقير والمسكين وابنِ السبيلِ: فيجوزُ؛ بل يجبُ أن يُعطَوا من الزكواتِ ومن الأموالِ المجهولةِ باتِّفاقِ المسلمِينَ، ومن الفَيْءِ مما فضَلَ عن المصالحِ العامةِ التي لا بدَّ منها عندَ أكثرِ العلماءِ؛ سواءٌ كانوا
(1)
في مجموع الفتاوى 28/ 568: (من الفيء).
مشتغلينَ بالعلمِ الواجبِ على الكفايةِ أم لا، وسواءٌ كانوا في زوايا أو رُبَطٍ أم لا؛ لكن من كان متميزًا بعلمٍ أو دينٍ؛ كان أَوْلى ومُقدَّمًا على غيرِه.
وأحقُّ هذا الصنف من ذكَرَهم اللهُ تعالى بقولِه: {للفقراء الذينَ أحصروا في سبيلِ اللهِ لا يستطيعون ضربا في الأرضِ
…
}، فمن كان مشغولًا بالعلمِ والدينِ الذي أُحصِرَ به في سبيلِ اللهِ قد منَعَه الكسبَ؛ فهو أَوْلى من غيرِه
(1)
.
ويُعطَى قضاةُ المسلمِينَ وعلماؤُهم منه ما يَكْفيهم، وأرزاقُ المقاتلةِ وذرارِيِّهم؛ لا سيَّما بني هاشمٍ الطالبِيِّينَ والعباسيِّينَ، فيتعيَّنُ عطاؤُهم
(2)
من الفَيْءِ والخُمُسِ والمصالحِ؛ لأن الزكاةَ محرمةٌ عليهم.
والفقيرُ الشرعيُّ ليس هو الفقيرَ الاصطلاحيَّ الذي يتقيدُ بلِبْسةٍ أو طريقةٍ؛ بل كلُّ من ليس له كفايةٌ فهو فقيرٌ أو مسكينٌ.
وقد تنازَعَ العلماءُ: هل الفقيرُ أشَدُّ حاجةً، أو المسكينُ؟ أو الفقيرُ مَن يتعفَّفُ، والمسكينُ مَن يسألُ؟ على ثلاثةِ أقوالٍ.
واتفقوا على أن مَن لا مالَ له، وهو عاجزٌ عن الكسبِ؛ فإنه يُعطَى ما يَكْفيه؛ سواءٌ كان لُبْسُه لُبْسَ الفقراءِ الاصطلاحية، أو لبسَ الجندِ، أو
(1)
قوله: (فهو أَوْلى من غيرِه) بيض لها في الأصل، وكتب في هامشها:(لعله: فهو أَوْلى من غيرِه)، وأثبتت في (ك) و (ز).
(2)
في (ز): (إعطاؤهم).
الفقهاءِ، أو الفلاحينَ، أو غيرِهم، سواء كان جنديًّا، أو تاجرًا، أو في رباط، أو غيرَ ذلك، ما لا يَكْفيه.
ومَن كان مؤمنًا تقِيًّا؛ كان للهِ وليًّا، ومَن كان من هؤلاءِ منافقًا، أو مظهرًا لبدعةٍ مخالِفًا للكتابِ والسُّنَّةِ، من بدعِ الاعتقاداتِ أو العباداتِ؛ فإنه يستحِقُّ العقوبةَ، ومِن عقوبتِه أن يُحرَمَ حتى يتوبَ.
وأما مَن كان زِنْديقًا؛ كالحلوليةِ، والمباحيةِ، ومَن يُفضِّلُ مَتْبوعَه على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومَن يعتقدُ أنه لا يجبُ عليه في الباطنِ اتباعُ شريعةِ رسولِ الله، أو أنه إذا حصَلتْ له المعرفةُ والتحقيقُ؛ سقَطَ عنه الأمرُ والنَّهْيُ، أو أن العارفَ المحقِّق يجوزُ له التدينُ بدينِ اليهودِ والنصارى، ولا يجبُ عليه الاعتصامُ بالكتابِ والسُّنَّةِ، وأمثالِ هؤلاءِ: فإن هؤلاءِ كلَّهم منافقونَ زَنادقةٌ، وإذا ظُهِرَ على أحدِهم؛ وجَبَ قتلُه باتِّفاقِ المسلمِينَ، وهم كثيرونَ في هذه الأزمنةِ.
وعلى وُلاةِ الأمورِ أن يُلزِموا الفقراءَ باتباعِ السُّنَّةِ، ولا يُمكِّنوا أحدًا من الخروجِ من ذلك، ولو ادَّعَى من الدعاوى ما ادَّعَاه، ولو زعم أنه يطيرُ في الهواءِ، أو يمشي على الماءِ.
ومَن كان من الفقراءِ الذينَ لم تشغَلْهم منفعةٌ عامةٌ للمسلمِينَ عن الكسبِ، قادرًا عليه؛ لم يَجُزْ أن يُعطَى من الزكاةِ عندَ الشافعيِّ وأحمدَ، وجوَّزَه أبو حنيفةَ.
ولا يجوزُ أن يُعطَى مِن الزكاةِ مَن يصنعُ بها دعوةً وضيافةً للفقراءِ، ولا يقيمُ بها سماطًا، لا لواردٍ ولا لغيرِ واردٍ؛ بل يجبُ أن يُعطَى ملكاً
للفقير المحتاج؛ بحيثُ يُنفِقُها على نفْسِه وعِيالِه في بيتِه، ويقضي بها دَيْنَه، وفي حاجاتِه.
وليس في المسلمِينَ من يُنكِرُ صرفَ الصدقاتِ وفاضلِ أموالِ المصالحِ إلى الفقراءِ والمساكينِ، ومَن نقَل ذلك فهو إما جاهلٌ، أو كافرٌ بالدينِ، أو يكونُ النقلُ عنه كذِبًا أو مُحرَّفًا، فأما مَن هو متوسطٌ في العلمِ فلا يَخْفى عليه ذلك، ولا يَنْهى عن ذلك، ولكن قد اختَلطَ في هذه الأموالِ السلطانيةِ الحقُّ والباطلُ، فأقوامٌ كثيرونَ من ذوي الحاجاتِ والدينِ والعلمِ؛ لا يُعطَى أحدُهم كِفايتَه، ويتمزَّقُ جوعًا، وهو لا يسألُ، ومَن يعرفُه فليس عندَه ما يُعطيه، وأقوامٌ كثيرون يأكلونَ أموالَ الناسِ بالباطل، ويصُدُّونَ عن سبيلِ اللهِ، قومٌ لهم رواتِبُ أضعافُ حاجاتِهم، وقومٌ لهم رَواتبُ معَ غِناهم، وقومٌ يتولونَ جهاتٍ كمساجدَ وغيرِها، فيأخذونَ معلومَها، ويَسْتنيبونَ مَن يُعطونَه شيئًا يسيرًا، وأقوامٌ في الربطِ والزوايا يأخذونَ ما لا يستحِقُّونَ، ويأخذونَ فوقَ حقوقِهم، ويَمْنعونَ مَن يَستحِقُّ، وهذا موجودٌ في مواضعَ كثيرةٍ لا يُنازِعُ في وقوعِه أحدٌ.
ولا يستريبُ مسلمٌ أن السعيَ في تمييزِ المستحقِّ من غيرِه، وإعطاءَ الولاياتِ والأرزاقِ مَن هو أحقُّ بها، والعدلَ بينَ الناسِ وفعلَه بحسَبِ الإمكانِ: هو من أفضلِ عملِ وُلاةِ الأمورِ؛ بل ومِن أوجَبِها عليهم، فإن اللهَ تعالى يأمُرُ بالعدلِ والإحسانِ، والعدلُ واجبٌ على كلِّ أحدٍ في كلِّ شيءٍ، وكما أن النظرَ في الجندِ المقاتلةِ، والعدلَ بينَهم، وزيادةَ مَن يستحِقُّ الزيادةَ، ونَقْصَ مَن يستحِقُّ النقصَ، وإعطاءَ العاجزِ عن الجهادِ
من جهةٍ أخرى: هو من أحسَنِ أفعالِ وُلاةِ الأمورِ وأوجَبِها؛ فكذلك النظرُ في حالِ سائرِ المرتزقِينَ من أموالِ الفَيْءِ والصدقاتِ والمصالح والوقوف.
ومَن ادَّعى الفقرَ ممن لم يُعرَفْ غناه، وطلَب الأخذَ من الصدقاتِ؛ جاز للإمامِ أن يُعطِيَه بلا بينةٍ بعدَ أن يُعْلِمَه أنه لا حقَّ فيها لغنيٍّ ولا لقويٍّ على الكسبِ.
وإن ذَكَر أن له عيالًا؛ فهل يفتقر إلى بينةٍ؟ فيه قولانِ في مذهَبِ أحمدَ والشافعيِّ.
ومتى
(1)
رأى الإمامُ أن يُقيمَ بينةً؛ فلا خلافَ أنه لا يجبُ أن تكونَ البينةُ من الشهودِ المُعدَّلِينَ، وإن لم يَرتزِقوا على أداءِ الشهادةِ، فكيفَ إذا أخذوا عليها؟!
(2)
لا سيَّما معَ العلمِ بكثرةِ من يشهدُ بالزورِ، ولهذا كانت العادةُ أن الشهودَ بالشامِ المرتزقةَ بالشهادةِ؛ لا يشهدونَ في الاجتهادياتِ؛ كالإعسارِ، والرُّشْدِ، والعدالةِ، والأهليةِ، والاستحقاقِ، ونحوِ ذلك؛ بل يشهدونَ بالحِسِّيَّاتِ؛ كالذي سَمِعوه ورَأَوْه، فإن الشهادةَ
(1)
هكذا في (ك) و (ع)، وفي الأصل و (ز):(ومن)، وفي مجموع الفتاوى 28/ 573:(وإذا).
(2)
قوله: (وإن لم يَرتزِقوا على أداءِ الشهادةِ، فكيفَ إذا أخذوا عليها؟!) مشكِلٌ، والعبارة في أصل الفتوى في مجموع الفتاوى 28/ 573 والفتاوى الكبرى 4/ 223:(بل يجب أنهم لم يرتزقوا على أداء الشهادة، فتُردُّ شهادتهم إذا أخذوا عليها رزقًا).
بالاجتهادياتِ يدخُلُها التأويلُ والتُّهَمُ، فالجُعْلُ يسهِّلُ الشهادةَ فيها بغيرِ تَحَرٍّ، بخلافِ الحِسِّيَّاتِ، فإن الزيادة فيها كذِبٌ صريحٌ، لا يُقدِمُ عليه إلا مَن يُقدِمُ على صريحِ الزورِ.
ومَن نقَل عن حاكمٍ أنه قال: إنه لا يستحقُّ من هؤلاءِ إلا المكسَّحُ
(1)
والأعمى والزَّمِنُ؛ فهذا لم يقُلْه أحدٌ، ومَن قال ذلك قُدِحَ في عَدالتِه، واستُبدِلَ مكانَه، وإن كان الناقلُ عنه مفترياً عليه؛ عُوقِبَ عقوبةً تردَعُه وأمثالَه من المفترينَ على الناسِ، وعقوبةُ مَن افترى على الناسِ وتكلَّم فيهم بما يخالفُ دينَ المسلمِينَ؛ لا يحتاجُ إلى دَعْواهم؛ بل العقوبةُ في ذلك جائزةٌ بدونِ دَعْوى أحدٍ؛ كعقوبةِ مَن يتكلَّمُ في الدينِ بلا علمٍ، فيُحدِّثُ بلا علمٍ، ويُفْتي بلا علمٍ، وأمثالُ هؤلاءِ
(2)
يُعاقَبونَ.
فمَن قال: لا يستحقُّ من الأموالِ إلا الأعمى والمكسَّحُ والزَّمِنُ؛ فقد أخطَأَ باتِّفاقِ.
ومَن قال: إن أموالَ بيتِ المالِ على اختلافِ أصنافِها مستحَقةٌ لأصنافٍ؛ منهم الفقراءُ، وأنه يجبُ على الإمامِ إطلاقُ كِفايتِهم من بيتِ المالِ؛ فقد أخطَأَ؛ بل يستحقونَ من الزكاةِ بلا رَيْبٍ، وأما من الفَيْءِ ومن المصالحِ؛ فلا يستحقونَ إلا ما فضَلَ عن المصالحِ العامةِ، ولو
(1)
قال في الصحاح 1/ 399: (الأكسح: الأعرج، والمقعد أيضًا).
(2)
زيد في (ك) و (ع) و (ز): (ممن يتصدى للأشعار [في (ع) و (ز): للاشتغال] والفتوى ويكون ذلك بلا علم؛ فكل هؤلاء
…
)، ولا توجد في الأصل، ولا في أصل الفتوى في مجموع الفتاوى والفتاوى الكبرى.
قُدِّرَ أنه لم يحصُلْ لهم من الزكاةِ ما يَكْفيهم، وأموالُ بيتِ المالِ مُستغرَقةٌ بالمصالِحِ؛ كان إعطاءُ العاجِزِ عن الكسبِ فرضًا على الكفايةِ، فعلى المسلمِينَ جميعًا أن يُطعِموا الجائعَ، ويَكْسوا العاريَ، ولا يَدَعوا بينَهم محتاجًا، وعلى الإمامِ أن يصرفَ ذلك من المالِ المشتركِ الفاضلِ عن المصالحِ العامةِ التي لا بدَّ منها.
وأما مَن يأخُذُ لمصلحةٍ عامةٍ؛ فإنه يأخُذُ معَ حاجتِه بلا نزاعٍ، ومعَ غِناه على قولَينِ؛ كالقاضي، والشاهدِ، والمفتي، والحاسبِ، والمقرئِ، والمُحدِّثِ.
وفي أرض العَنْوةِ ثلاثةُ أقوالٍ:
أحدُها: أنها تُقسَمُ؛ كما هو مذهَبُ الشافعيِّ، وإن طابتْ نفوسُهم بالوقفِ؛ جاز، فلو حكَم حاكمٌ بوَقْفِها من غيرِ طيبِ أنفسِهم؛ نُقِضَ حُكمُه
(1)
؛ نصَّ عليه الشافعيُّ في «الأمِّ» .
وجمهورُ الأئمَّةِ خالفوه في ذلك، ورأوا أن ما فعَلَه عمرُ مِن جعلِها فَيْئًا
(2)
؛ جائزٌ حسَنٌ، وحبَسَها عمرُ بدونِ استطابةِ أنفُسِهم، ولا نزاعَ أن كلَّ أرضٍ فتَحَها عمرُ لم يَقْسِمْها، وكان مذهَبُ عمرَ في الفَيْءِ: أنه لجميعِ المسلمِينَ؛ لكن يُفضَّلُ بينَهم بالفضائلِ الدينيةِ، وأما أبو بكرٍ فسوَّى بينَهم في العطاءِ، إذا استَوَوْا في الحاجةِ
(3)
.
(1)
قوله: (حكمه) سقط من الأصل، والمثبت من (ك) و (ع) و (ز).
(2)
تقدم تخريجه ص
…
ظظ
(3)
رواه أبو عبيد في الأموال (649)، وعنه ابن زنجويه في الأموال (947).
ورُوِي أن عمرَ قال: «لئن عِشْتُ إلى قابلٍ؛ لأجعلنَّ الناسَ ببَّانًا واحداً»
(1)
؛ أي: بابةً واحدةً.
وكان تفضيلُه بأسبابٍ أربعةٍ: اجتهادِه في قتالِ الأعداءِ، والغَناءِ عن المسلمِينَ في مصالِحِهم؛ كمُعلِّميهم ووُلاتِهم، والسابقةِ إلى الإسلامِ، والحاجةِ، فقال:«إنما هو الرجلُ وبلاؤُه، والرجلُ وغَناؤُه، والرجلُ وسابقتُه، والرجلُ وفاقتُه»
(2)
.
فَصْلٌ
وإحياءُ المواتِ جائزٌ
بدونِ إذنِ الإمامِ في مذهَبِ الشافعيِّ، وأحمدَ، وأبي يوسفَ، ومحمدٍ.
واشترطه أبو حنيفةَ.
وقال مالكٌ: إن كان مما قرُبَ من العامرِ، وتشاحَّ الناسُ فيه؛ وجَب إذنُ الإمامِ، وإلا فلا.
وأما إحياء أرض الخراجِ: فهل يملِكُه بالإحياءِ ولا خراجَ عليه، أو يكونُ بيدِه وعليه الخراجُ؟ على قولَينِ، هما روايتانِ عن أحمدَ
(3)
.
(1)
رواه أبو عبيد في الأموال (651)، وعنه ابن زنجويه (950).
(2)
رواه أحمد (292)، وأبو داود (2950).
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (فصل: والأموال
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 28/ 558، والفتاوى الكبرى 4/ 214.
ومَن له حقٌّ في بيتِ المالِ
، فأُحيلَ على بعضِ المظالِمِ، فقلتُ له
(1)
: لا تستخرجْ أنتَ هذا، ولا تُعِنْ على استخراجِه؛ لأنه ظلمٌ؛ لكن اطلُبْ حقَّكَ من المالِ المحصَّلِ عندَهم، وإن كان مجموعًا من هذه الجهةِ وغيرِها، فإنَّ ما اجتمعَ في بيتِ المالِ، ولم يُرَدَّ إلى أصحابِه؛ فصَرْفُه في مصالِحِ المسلمِينَ أَوْلى من صَرْفِه فيما لا يَنتفعُ به أصحابُه.
وأيضًا: فإنه يصيرُ مختلطًا، فلا يبقى محكومًا بتحريمِه بعينِه، معَ كونِ الصرفِ إلى مثلِ هذا واجبًا على المسلمِينَ، فإن الولاةَ يظلمونَ تارةً في الاستخراجِ، وتارةً في صَرْفِها، فلا تَحِلُّ إعانتُهم على الظلمِ في الاستخراجِ، ولا أخذِ الإنسانِ ما لا يستحِقُّه.
وأما ما يسوغُ فيه الاجتهادُ من الاستخراجِ والصرفِ؛ فكمسائلِ الاجتهادِ، وما لا يسوغُ فيه اجتهادٌ من الأخذِ والإعطاءِ؛ فلا يُعاوَنونَ؛ لكن إذا كان المصروفُ إليه مستحِقًّا لمقدارِ المأخوذِ؛ جاز أخذُه من كلِّ مالٍ يجوزُ صَرْفُه؛ كالمالِ المجهولِ مالكُه.
فإن امتنعوا من إعادتِه إلى مستحِقِّه؛ فهل الأَوْلى إقرارُه بأيدي الظلمةِ، أو السعيُ في صَرْفِه في مصالِحِ المسلمِينَ؛ إذا كان الساعي في ذلك ممن يكرهُ أصلَ أخذِه، ولم يُعِنْ على أخذِه؛ بل سعى في منعِ أخذِه؟
(1)
قوله: (فقلت له)، هي في (ك) و (ع): قال شيخ الإسلام: قد قلت لمن سألني عن ذلك.
فهذه مسألةٌ حسنةٌ، ينبغي التفطُّنُ لها، وإلا دخل الإنسانُ في فعلِ المحرماتِ أو تركِ الواجباتِ، فإن الإعانةَ على الظلمِ من فعلِ المحرماتِ.
وإذا لم تمكنِ الواجباتُ إلا بالصرفِ المذكورِ؛ كان تَرْكُه من تركِ الواجباتِ، وإذا لم يمكنْ إلا إقرارُه بيدِ الظالِمِ أو صَرْفُه في المصالحِ؛ كان النَّهْي عن صَرْفِه في المصالِحِ إعانةً على زيادةِ الظلمِ التي هي إقرارُه بيدِ الظالمِ، فكما يجبُ إزالةُ الظلمِ يجبُ تقليلُه عندَ العجزِ عن إزالتِه، فهذا أصلٌ عظيمٌ.
وأصلٌ آخَرُ: وهو أن الشبهات ينبغي صَرْفُها في الأبعدِ عن المنفعةِ فالأبعدِ، كما أمر بكَسْبِ الحَجَّامِ:«أن يُطعِمَه الرقيقَ والناضحَ»
(1)
.
فالأقربُ ما دخَل الباطنَ من الطعامِ والشرابِ، ثم ما وَلِيَ الظاهرَ من اللباسِ، ثم ما ستَر معَ الانفصالِ من البناءِ، ثم ما عَرَض من الركوبِ، فهكذا يترتب الانتفاعُ بالرزقِ، وكذلك أصحابُنا يفعلونَ
(2)
.
(1)
تقدم تخريجه ص .... ظظ
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن له حقٌّ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 28/ 598، والفتاوى الكبرى 5/ 150.
بَابُ اللُّقَطَةِ
وإذا وقَعَ المركبُ في البحرِ وغرِقَ
، وفيه زيتٌ، فانكفأ الزيتُ على وجهِ الماءِ، فمن جمعَه فقد خلَّصَ مالَ المعصومِ من التَّلَفِ، وله أجرةُ المثلِ في أصَحِّ قولَيِ العلماءِ، والزيتُ لصاحبِه بلا نزاعٍ؛ إلا عندَ الحسنِ، فإنه قال:(هو لمن خلَّصَه)، وقد قال الصحابةُ فيمن اشترى أموالَ المسلمِينَ من الكفارِ:«إنه يَأخذُه ممن اشتراه بالثمنِ»
(1)
.
ولو كان المالُ حيوانًا فخلَّصَه من مهلكةٍ؛ ملَكَه، كما ورد الأثرُ
(2)
؛ لأن للحيوانِ حرمةً في نفْسِه، بخلافِ المتاعِ؛ فتخليصُه لحقِّ الحيوانِ، قد يئِسَ منه صاحبُه، بخلافِ المتاعِ.
وإن كان في السفينةِ رُمَّانٌ؛ فهو لُقَطةٌ؛ إن رُجِي وجودُ صاحبِه عُرِّفَ حولًا، وإن كان لا يُرجَى وجودُه؛ ففي تعريفِه قولانِ، وعلى القولَينِ:
(1)
روى عبد الرزاق (9359)، والبيهقي في معرفة السنن (18205)، عن عمر رضي الله عنه أنه قال:«ما أصاب المشركون من مال المسلمين، ثم أصابه المسلمون بعد، فإن أصابه صاحبه قبل أن تجري عليه سهام المسلمين؛ فهو أحق به، وإن جرت عليه سهام المسلمين؛ فلا سبيل إليه إلا بالقيمة» .
(2)
لعله يشير إلى ما رواه البخاري (2372)، ومسلم (1722)، من حديث زيد بن خالد الجُهَني رضي الله عنه أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشاة، فقال:«خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب» .
له أكلُ الرُّمَّانِ، أو يبيعُه ويَحفظُ ثمنَه، ثم يُعرِّفُه بعدَ ذلك
(1)
.
وتُعرَّفُ اللُّقَطةُ
في المكانِ الذي وُجِدتْ فيه، أو قريبه إن كان وجَدَها في فلاةٍ
(2)
.
وإذا جاء التتارُ فجفَل الناسُ
(3)
، وخلَّفوا أثاثًا ودوابَّ، فضَمَّه مسلمٌ، وطالتْ مُدَّتُه، ولم يظهرْ له صاحبٌ؛ فيجوزُ له أن يستعمِلَه، وأن يتصدَّقَ به على من ينتفع به
(4)
.
ومَن استنقَذَ فرسًا
من أيدي العربِ، ثم مرِضَ الفرسُ، ولم يقدِرْ على المشيِ: جاز له بيعُه؛ بل يجبُ في هذه الحال أن يبيعَه لصاحبِه، وإن لم يكُنْ وكَّلَه؛ نصَّ عليه الأئمَّةُ، ويَحفظُ الثمنَ
(5)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا وقع
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 411، والفتاوى الكبرى 4/ 165.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وتُعرَّفُ اللُّقَطةُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 414، والفتاوى الكبرى 4/ 163.
(3)
قال في الصحاح 4/ 1657: (جفل، أي: أسرع).
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا جاء التتارُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 414، والفتاوى الكبرى 4/ 165.
(5)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن استنقَذَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 411، والفتاوى الكبرى 4/ 166.
كِتَابُ الوَصَايَا
ليس للوَصِيِّ بيعُ العقارِ إلا لحاجةٍ
، أو مصلحةٍ راجحةٍ فيه، وإذا ذَكَر أنه باعَه للاستهدامِ؛ لم يكُنْ له أن يشتريَه ليتيمٍ آخَرَ
(1)
.
إذا كان الميتُ
ممن يَكتبُ ما عليه للناسِ في دَفْترِه، أو كان له وكيلٌ يكتبُ بإذنِه؛ فإن وصِيَّه يرجعُ في ذلك إلى الكتابِ الذي بخطِّه أو خطِّ وكيلِه، فما كان مكتوبًا وليس عليه علامةُ الوفاءِ؛ كان بمنزلةِ إقرارِ الميتِ، فخطُ الميتِ وإقرارُ الوكيلِ فيما وُكِّلَ فيه أو خطُّه؛ مقبولٌ، ولكن على صاحبِ الدَّينِ اليمينُ أنه لم يقبِضْ ولم يُبرِئْ، أو أنه يستحِقُّه، وأما إعطاءُ المُدَّعي ما يدَّعيه بمجرَّدِ قولِه؛ فلا يجوزُ
(2)
.
وتثبُتُ الوصية:
بشاهدٍ ويمينٍ.
ولو ثبَتَ للصبيِّ أو المجنونِ
حقٌّ على غائبٍ؛ من دينٍ أو قرضٍ أو أرش جنايةٍ، أو غيرِ ذلك مما لو كان بالغاً عاقلًا حلَف على عدمِ الإبراءِ أو الاستيفاءِ في أحدِ قولَيِ العلماءِ؛ يُحكَمُ به للصبيِّ والمجنونِ، ولا
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ليس للوَصِيِّ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 331، والفتاوى الكبرى 4/ 386.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا كان الميتُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 325، والفتاوى الكبرى 4/ 382.
يُحلَّفُ وَلِيُّه.
ولو ادَّعى مدَّعٍ على الصَّبيِّ أو المجنونِ حقًّا؛ لم يُحكَمْ له، ولا يُحلَّفانِ.
ولو أوصى لصغيرٍ لم يحلِفْ وَلِيُّه؛ لأن الوصيةَ لا يحلِفُ الموصى له على استحقاقِها، وإن كان
(1)
قد أحدَثَ بعضُ الناسِ التحليفَ فيها.
وتصِحُّ للحملِ، ولم يقُلْ أحدٌ: إنها تؤخَّرُ إلى حينِ بلوغِه، ولا يُحلَّفُ
(2)
.
إذا أوصى أن يُحَجَّ عنه بألفٍ
، فقال رجلٌ: أنا أحُجُّ بأربعِمائةٍ؛ وجَبَ إخراجُ جميعِ ما أوصى به إن خرَجَ من ثُلُثِه، وإن لم يخرُجْ لم يجبْ على الوَرَثةِ إخراجُ الزائدِ على الثلثِ؛ إلا أن يكونَ واجبًا؛ بحيثُ لا يحصِّلُ حجةَ الإسلامِ.
ومَن له ستةُ بنينَ
، فأوصى بمثلِ نصيبِ ابنٍ لزيدٍ، ولعمرو بثلثِ ما بقِيَ من الثلثِ بعدَ أن يُعطَى مَن أوصى له بمثلِ نصيبِ الابنِ؛ فظاهرُ مذهَبِ أحمدَ والشافعيِّ وأبي حنيفةَ: أن هذه المسألةَ تصِحُّ من ستِّينَ، لكلِّ ابنٍ ثمانيةٌ، وللمُوصى له بمثلِ نصيبِ ابنٍ: ثمانيةٌ، وللآخَرِ: أربعةٌ، فإذا أُخِذتْ الثلثُ: عشرونَ؛ أعطيتَ صاحبَ النصيبِ ثمانيةً،
(1)
قوله: (كان) سقطت من الأصل، والمثبت من (ك) و (ع) و (ز).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولو ثبَتَ للصبيِّ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 310، والفتاوى الكبرى 4/ 372.
بَقي بعدَ الثلثِ: اثنا عشرَ، ثلثُ ذلك: أربعةٌ، ولها طرقٌ تُعلَمُ بها، وجوابُ هذه المسألةِ معروفٌ في كتبِ العلمِ
(1)
.
وإذا كان خَلْطُ طعامِ اليتيمِ
بمالِ الوصي
(2)
أصلَحَ لليتيمِ؛ فُعِل ذلك
(3)
.
وإذا أوصى لأختِه
كلَّ يومٍ بدرهمٍ، واتسَعَ مالُه كلَّ يومٍ لدرهمٍ؛ أُعطِيَتْ إن كان ثلثُ مالِه يسعُ، أو أجازَ الوَرَثةُ، ولو لم يُخلِّفْ إلا عقارًا؛ أُعطِيت من مغلِّه أقلَّ الأمرينِ من ثلثِ المغَلِّ، أو من الدرهمِ المُوصى به
(4)
.
ومَن كان متبرِّعًا بالوصيةِ
؛ فما أنفَقَه على إثباتِها بالمعروفِ؛ فهو من مالِ اليتيمِ
(5)
.
ولا يجوزُ للمريضِ
تخصيصُ بعضِ أولادِه بعَطِيَّةٍ منجزةٍ، ولا وصيةٍ، ولا أن يُقِرَّ بشيءٍ ليس في ذِمَّتِه، وإذا فعل ذلك؛ لم يَجُزْ تنفيذُه
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن له ستةُ بنينَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 312، والفتاوى الكبرى 4/ 373.
(2)
في الأصل و (ز): (الموصي)، والمثبت من (ك).
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا كان خَلْطُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 331، والفتاوى الكبرى 4/ 486.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا أوصى لأختِه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 313، والفتاوى الكبرى 4/ 374.
(5)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن كان متبرعًا
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 333، والفتاوى الكبرى 4/ 387.
بدونِ إجازةِ الوَرَثةِ، وهذا كلُّه بالاتفاقِ، ولا يجوزُ لأحدٍ من الشهودِ أن يشهدَ على ذلك شهادةً يعينُ بها على الظلمِ، وهذا التخصيصُ من الكبائرِ الموجبةِ للنارِ، حتى قد رُوي
(1)
.
ولا يجوزُ أن يخصَّ
في الصحةِ أيضًا في أصحِّ قولَيِ العلماءِ.
ولا يجوزُ للولدِ الذي فُضِّلَ أخذُ الفضلِ؛ بل عليه أن يردَّ ذلك في حياةِ الظالمِ الجائرِ وبعدَ موتِه، كما يردُّ في حياتِه في أصحِّ قولَيِ العلماءِ
(2)
.
وسُئِلَ عن رجلٍ
تُوُفِّيَ في الجهادِ، فجمَع صاحبُه جميعَ تَرِكتِه في مدةِ ثلاثِ سنِينَ بعدَ تعبٍ؟
فأجابَ: إن كان وَصِيًّا؛ فله أقلُّ الأمرينِ من أجرةِ المثلِ أو كفايتِه،
(1)
العبارة في مجموع الفتاوى 31/ 309: (حتى قد روى أهل السنن ما يدل على الوعيد الشديد لمن فعل ذلك).
ولعله يشير إلى ما رواه أحمد (7742) واللفظ له، وأبو داود (2867)، والترمذي (2117) وابن ماجه (2704) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته، فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة» .
وينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يجوزُ للمريضِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 308، والفتاوى الكبرى 4/ 370.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يجوزُ أن يخصَّ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 309، والفتاوى الكبرى 4/ 371.
وإن كان مُكرَهًا على العملِ؛ فله أجرةُ المثلِ، وإن عمل متبرعًا؛ فلا شيءَ له؛ بل أجرُه على اللهِ، وإن عملَ ما يجبُ غيرَ متبرِّعٍ؛ ففي وجوبِ أجرَتِه نزاعٌ بينَ العلماءِ، الأظهرُ: أنه يجبُ
(1)
.
ولو قال: بِيعوا غلامي من زيدٍ
، وتصدَّقوا بثمنِه، فامتنع زيدٌ من شرائِه؛ أبيعَ من غيرِه وتُصُدِّقَ بثمنِه.
وكذا لو قال: اشتروا الأرضَ الفلانيةَ، وقِفُوها على المسجدِ الفلانيِّ، فلم تُبَعْ لكونِها وقفًا، أو غيرَ ذلك: فإنه يُشترى بالثمنِ الذي عيَّنَه غيرُ تلك الأرضِ، وتُوقَفُ كما قال.
ولو وصَّى لزيدٍ فلم يَقبلْ؛ لم يكن لغيره.
ولو وصَّى أن يُعتَقَ عبدُه المُعيَّنُ، أو نذَر عتقَ عبدِه المُعيَّنِ، فمات المُعيَّنُ؛ لم يقُمْ غيرُه مَقامَه.
ففرْقٌ بينَ المُوصى به والموقوفِ، وبينَ بدلِ الموصى له والموقوفِ عليه، فالوصيةُ بشراءِ معيَّنٍ والتصدُّقِ به؛ كالوصيةِ ببيعِ معيَّنٍ والتصدُّقِ بثمنِه؛ لأن الموصى له هنا جهةُ الصدقةِ والوقفِ؛ وهي باقيةٌ، والتعيينُ إذا فات قام بدَلُه مَقامَه، كما لو أتلَفَ الوقفَ متلِفٌ أو أتلَفَ المُوصَى به؛ فإن بدَلَها يقومُ مَقامَها
(2)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وسُئِلَ عن رجلٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 334، والفتاوى الكبرى 4/ 387.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولو قال: بِيعوا
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 316، والفتاوى الكبرى 4/ 376.
ولا يجوزُ أن يُولَّى
على مالِ اليتامى إلا مَن كان قويًّا خبيرًا بما وُلِّيَ عليه، أمينًا عليه، وإذا لم يكُنْ كذلك؛ وجَب الاستبدالُ به، ولا يستحقُّ الأجرةَ المسماةَ؛ لكنْ أجرةَ مثلِه
(1)
.
مَن كان عندَه يتيمٌ له مالٌ
، وهو وَصِيُّه؛ فله فعلُ ما يَراه من مصلحةٍ في مالِه، من تجارةٍ وشراءِ عقارٍ بغيرِ إذنِ الحاكمِ.
وإن لم يكُنْ وَصِيَّه، وكان الحاكمُ هو الناظرَ في أموالِ اليتامى، وهو عادلٌ يأمُرُ فيه بالمصلحةِ؛ وجَب استئذانُه في ذلك.
وإن كان في استئذانِه إضاعةُ المالِ؛ مثلُ: كونِ الحاكمِ أو نائبِه فاسقًا، أو جاهلًا، أو عاجزًا، لا يحفظُ؛ حفِظَه المستولي عليه، وعمِلَ فيه بالمصلحةِ
(2)
من غيرِ إذنِ حاكمٍ
(3)
.
فَصْلٌ
وإتلافُ الجيشِ
الذي لا يمكنُ تَضْمينُه؛ كآفةٍ سماويةٍ؛ كالجرادِ.
وإذا تلِفَ الزرعُ بآفةٍ سماويةٍ قبلَ تمكُّنِ الأجيرِ من حَصادِه؛ فهل يوضَعُ فيه الجائحةُ كما تُوضَعُ في التمرِ المُشترَى؟ على قولَينِ، أصَحُّهما
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يجوزُ أن يُولَّى
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 44، والفتاوى الكبرى 4/ 213.
(2)
في الأصل: (المصلحة)، والمثبت من (ك) و (ز).
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن كان عندَه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 49، والفتاوى الكبرى 4/ 213.
وأشبَهُما بالكتابِ والسُّنَّةِ والعدلِ: وضعُ الجائحةِ فيه
(1)
.
وكذلك كلُّ خوفٍ
يمنَعُ من الانتفاعِ؛ هو من الآفةِ السماويةِ
(2)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإتلافُ الجيشِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 225، والفتاوى الكبرى 4/ 186.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وكذلك كل خوف
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 30/ 243، والفتاوى الكبرى 4/ 187.
كِتَابُ الفَرَائِضِ
ينبغي للميتِ
أن يُوصِيَ لأقاربِه الذينَ لا يرِثونَه، فإن لم يُوصِ؛ فينبغي إذا حضَروا القِسْمةَ أن يُعطَوا شيئًا؛ للآيةِ
(1)
.
امرأةٌ ماتَتْ
، وخلَّفتْ زوجًا، وبنتًا، وأمًّا، وأختًا من أمٍّ؟
قال: يُقسَمُ على أحدَ عشَرَ سهمًا، للبنتِ ستةٌ، وللزوجِ ثلاثةٌ، وللأمِّ سهمانِ، ولا شيءَ للأختِ؛ فإنها تسقُطُ بالبنتِ اتفاقًا.
وهذا على قولِ مَن يقولُ بالردِّ؛ كأحمدَ وأبي حنيفةَ.
ومَن لا يقولُ بالردِّ؛ كمالكٍ والشافعيِّ؛ تُقسَمُ عندَه اثني عشَرَ سهمًا، كما قُلْنا، والباقي لبيتِ المالِ
(2)
.
وظاهرُ هذا: أنه ردَّ على الزوجِ؛ وفيه نظَرٌ
(3)
.
(1)
وهي قوله تعالى: {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا} .
وينظر أصل الفتوى من قوله: (ينبغي للميتِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 363، والفتاوى الكبرى 4/ 339.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (امرأةٌ ماتَتْ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 338، والفتاوى الكبرى 4/ 395.
(3)
هذا من تعليق البعلي رحمه الله على فتوى شيخ الإسلام، ووافقه الشيخ ابن عثيمين في ذلك، قال في تسهيل الفرائض ص 88 معلقاً على هذه الفتوى: (فإنَّ ظاهر هذه القسمة أنه يرد على الزوج، وفي ذلك نظر من وجوه ثلاثة:
الأول: أن الشيخ صرح بأنها مبنية على قول من يقول بالرد، وقد علم أن القائلين بالرد لا يرون الرد على الزوجين، فقسمة المسألة المذكورة عندهم من ستة عشر، للزوج أربعة، وللبنت تسعة، وللأم ثلاثة.
الثاني: أن الأصحاب لم ينقلوا عن الشيخ أنه يرى الرد على الزوجين مع اعتنائهم بآرائه واعتبارهم لها، بل إن صاحب مختصر الفتاوى قال عن المسألة المذكورة:(إن فيها نظراً).
الثالث: أن الشيخ نفسه ذكر في موضع آخر مسألتين رد فيهما أحد الزوجين ولم يرد عليهما ففي صفحة (50) من المجموعة رقم 1 من الفتاوى: في رجل مات وترك زوجة وأختاً لأبوين، وثلاث بنات أخ لأبويه، قال الشيخ: للزوجة الربع، وللأخت النصف، ولا شيء لبنات الأخ، والربع الثاني إن كان هناك عصبة فهو للعصبة، وإلا فهو مردود على الأخت على أحد قولي العلماء، وعلى الآخر فهو لبيت المال.
وقال في صفحة (52) من المجموعة المذكورة؛ في امرأة خلفت زوجاً وابن أخت: أن للزوج النصف، وأما ابن الأخت: ففي أحد الأقوال له الباقي، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأحمد في المشهور عنه، وفي القول الثاني لبيت المال، وهو قول كثير من أصحاب الشافعي، قال: وأصل المسألة تنازع العلماء في ذوي الأرحام الذين لا فرض لهم ولا تعصيب، فمذهب مالك والشافعي وأحمد في رواية: أن من لا وارث له بفرض ولا تعصيب يكون ماله لبيت مال المسلمين، ومذهب أكثر السلف وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه يكون لذوي الأرحام، ثم ذكر دليل ذلك. فأنت ترى أن الشيخ لم يرد على الزوجين في هاتين المسألتين، ولو كان يراه لرد عليهما؛ لاستحقاقهما الرد في مثل هذه الحال لو كانا من أهله، والظاهر أن المسألة الأولى التي ظاهرها الرد على الزوج سهو أو سَبْقَةُ قلم. والله أعلم).
...........................................
لُغْزٌ:
ما بالُ قومٍ غَدَوْا قد مات ميِّتُهم فأصبحوا يَقْسِمونَ المالَ والحُلَلَا
فقالَتِ امرأةٌ من غيرِ عِتْرتِهم
…
ألا أُخَبِّركمُ أعجوبةً مَثلَا
في البطنِ منِّي جنينٌ دامَ يشكُرُكم فأخِّروا القَسْمَ حتى تعرِفوا الحَمْلَا
فإن يكُنْ ذكَرًا؛ لم يُعْطَ خَرْدلةً وإن يكُنْ غيرَه أنثى فقد فَضَلَا
بالنِّصْفِ حقًّا يقينًا ليس يُنكِرُه مَن كان يعرِفُ فرضَ اللهِ إذ نزَلَا
إنِّي ذكَرْتُ لكم أَمْري بلا كذِبٍ فما أقولُ لكم جَهْلًا ولا مَيْلَا
جوابُه:
زوجٌ، وأمٌّ، واثنانِ من ولدِ الأمِّ، وحملٌ من الأبِ، والمرأةُ الحاملُ ليست [أم]
(1)
الميتِ؛ فللزوجِ النصفُ، وللأمِّ السُّدُسُ، ولولدِ الأمِّ الثُّلُثُ، فإن كان الحملُ ذكَرًا؛ فهو أخٌ من أبٍ، فلا شيءَ له اتِّفاقِاً، وإن كان الحملُ أنثى؛ فهو أختٌ من أبٍ، لها النصفُ، وهو فاضلٌ عن السهامِ.
فأصلُها من ستةٍ، وتعولُ إلى تسعةٍ.
وأما إن كان الحملُ من أمِّ الميتِ: فهكذا الجوابُ في أحدِ قولَيِ العلماءِ؛ أبي حنيفةَ، والمشهورِ عن أحمدَ.
وعلى القولِ الآخَرِ: إن كان الحملُ ذكَرًا؛ يشاركُ ولدَ الأمِّ كواحدٍ
(1)
في النسخ الخطية: من. والمثبت من أصل الفتوى في مجموع الفتاوى.
منهم، ولا يسقُطُ، وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وروايةٌ عن أحمدَ
(1)
.
في مريضٍ انجرح
، وطلَّقَ امرأتَه ثلاثًا، ومات بعدَ عشرينَ يومًا؟
أما الطلاقُ؛ فيقَعُ إن كان عاقلًا مختارًا؛ لكن ترِثُه عندَ جمهورِ العُلَماءِ؛ كأحمدَ، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ في القديمِ، كما قضى به عثمانُ في امرأةِ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ لما طلَّقَها في مرضِ موته، ورَّثَها عثمانُ
(2)
.
وتعتَدُّ أطولَ الأجلينِ من عِدَّةِ الطلاقِ أو عِدَّةِ الوفاةِ في أحدِ الوجوهِ، وقيلَ: بل عِدَّةَ الطلاقِ، وقيلَ: بل عِدَّةَ الوفاةِ.
وهل يُكمَّلُ لها المَهْرُ؟ على قولَينِ
(3)
.
وإن كان قد زال عقلُه؛ فلا طلاقَ عليه
(4)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (لُغْزٌ: ما بال
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 367، والفتاوى الكبرى 4/ 401.
(2)
رواه مالك في الموطأ 2/ 571، وعبد الرزاق (12192).
(3)
قال في مجموع الفتاوى 31/ 371 فيمن طلق زوجته في مرض موته ليمنعها من الميراث: (وعلى هذا القول: ففي وجوب العدة نزاع، هل تعتد عدة الطلاق، أو عدة الوفاة، أو أطولهما؟ على ثلاثة أقوال، أظهرها: أنها تعتد أبعد الأجلين، وكذلك هل يكمل لها المهر؟ قولان، أظهرهما: أنه يكمل لها المهر أيضًا؛ فإنه من حقوقها التي تستقر كما تستحق الإرث).
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (في مريضٍ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 367، والفتاوى الكبرى 4/ 402.
فَصْلٌ
يُورِّثُ ذوي الأرحامِ
جمهورُ السَّلَفِ، وأحمدُ في المشهورِ عنه، وأبو حنيفةَ، وطوائفُ من أصحابِ الشافعيِّ، وقولٌ لمالكٍ إذا فسَد بيتُ المالِ.
والقولُ الثاني: يرِثُ بيتُ المالِ؛ وهو قولُ الشافعيِّ، ومالكٍ، وأحمدَ في روايةٍ.
ومَن جهَّزَها أبوها
على الوجهِ المعتادِ في الجَهازِ؛ فهو تمليكٌ لها، فليس له الرجوعُ بعدَ موتِها؛ بل ينتقلُ ما في يدِها إلى الوَرَثةِ
(1)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن جهَّزَها أبوها
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 282، والفتاوى الكبرى 4/ 407.
كِتَابُ النِّكَاحِ
إذا شُرِط ألا يُخرِجَها من بلدِها
، ولا يتزوجَ، ولا يتسرَّى عليها: فهو شرطٌ صحيحٌ في ظاهر مذهَبِ أحمدَ ومالكٍ في جميعِ العقودِ، وهو وجهٌ في مذهَبِ الشافعيِّ يخرَّجُ من مسألةِ صَداقِ السرِّ والعلانيةِ.
وكذا إن كان متقدِّمًا على العقدِ، ولو لم يذكُرْه حينَ العقدِ.
ويطرُدُه أحمدُ في جميعِ العباداتِ، فإن النيةَ المتقدمةَ عندَه كالمقارنةِ.
ولأحمدَ قولٌ ثانٍ: أن الشروطَ المتقدمةَ لا تؤثرُ.
وفيه قولٌ ثالثٌ: الفرقُ بينَ الشرطِ الذي يجعلُ العقدَ غيرَ مقصودٍ؛ كالتواطُؤِ على أن البيعَ تلجئة
(1)
لا حقيقةَ له، وبينَ الشرطِ الذي لا يُخرِجُه عن كونِه مقصودًا؛ كالخيارِ ونحوِه.
وعامةُ نصوصِه وقدماءِ أصحابِه ومحققِّي المتأخِّرينَ على أن
(2)
(1)
في النسخ الخطية: (بيع التلجئة)، والتصحيح من مجموع الفتاوى 32/ 166.
وبيع التلجئة: هو أن يخاف أن يأخذ السلطانُ أو غيرُه ملكَه فيواطئ رجلًا على أن يظهرا أنه اشتراه منه؛ ليحتمي بذلك، ولا يريدان بيعًا حقيقيًا. ينظر: في المغني 4/ 162.
(2)
قوله: (أن) سقطت من الأصل، والمثبت من (ك) و (ع) و (ز) ومجموع الفتاوى.
الشرطَ والمواطأة التي تجري بينَ المتعاقدَينِ قبلَ العقدِ إذا لم يفْسَخاها حتى عُقِدَ العقدُ؛ ينعقد العقدُ بها، وعلى هذا جوابُ أحمدَ في مسائلِ الحيلِ في البيعِ والإجارةِ والرهنِ والقرضِ وغيرِ ذلك
(1)
.
وإذا تزوَّجتْ ولها زوجٌ
لم تستَشعِرْ موتَه ولا طلاقَه: فهي زانيةٌ، لا مهرَ لها، وإن اعتَقدتْ موتَه أو طلاقَه؛ فهو وَطْءُ شبهةٍ بنكاحٍ فاسدٍ؛ فلها المهرُ، وظاهرُ المذهبِ: أن لها المُسمَّى، وعن أحمدَ روايةٌ: أنه مهرُ المثل؛ كقولِ الشافعيِّ
(2)
.
فصل
(3)
كونُ المرأةِ مستحاضةً:
عيبٌ يثبُتُ به فسخُ النكاحِ في أظهرِ الوجهَينِ في مذهَبِ أحمدَ وغيرِه.
وما يمنعُ الوَطْءَ حسًّا؛ كانسدادِ الفرجِ، أو طبعًا؛ كالجنونِ والجُذامِ: يُثبِتُ الفسخَ عندَ مالكٍ، وأحمدَ، والشافعيِّ.
وفيما يمنعُ كمالَ الوَطْءِ؛ كالنجاسةِ في الفرجِ؛ نزاعٌ.
والمستحاضةُ أشدُّ من غيرِها، فإذا فسَخ قبلَ الدخولِ؛ فلا مهرَ.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا شُرِط ألا
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 32/ 166، والفتاوى الكبرى 3/ 78.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا تزوَّجتْ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 32/ 198، والفتاوى الكبرى 3/ 79.
(3)
ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 32/ 172، والفتاوى الكبرى 3/ 81.
وإن كان بعدَه - وقيلَ: إن الصداقَ يستقرُّ بهذه الخلوةِ -، أو كان قد وطِئَها؛ فإنه يرجعُ بالمهرِ على مَن غرَّه.
وإن قيلَ: لا يستقرُّ؛ فلا شيءَ عليه.
وله أن يُحلِّفَ مَن ادَّعى الغرورَ عليه: أنه لم يَغُرُّه.
وله الخيارُ ما لم يصدرْ منه ما يدلُّ على الرضا، بقولٍ أو فعل.
فإن وطِئَها بعدَ ذلك؛ فلا خيارَ له؛ إلا أن يدعيَ الجهلَ، فهل له الخيارُ؟ فيه نزاعٌ، الأظهرُ: ثبوتُ الفسخِ.
فَصْلٌ
ليس للعمِّ ولا لغيرِه
أن يزوِّجَ مولِّيتَه بغيرِ كُفْءٍ إذا لم تكُنْ راضيةً، باتِّفاقِ الأئمَّةِ، وإذا فعل ذلك استحقَّ العقوبةَ الشرعيةَ؛ بل لو رضِيَتْ بغيرِ كُفْءٍ؛ كان لوليٍّ آخَرَ الفسخُ، وليس للعمِّ إجبارُ البالغةِ بكُفْءٍ، فكيفَ بغيرِ كُفْءٍ؟!
وإذا قال لها: إن لم تأذَني زوَّجَكِ الشرعُ بغيرِ اختيارِكِ؛ لم يصِحَّ الإذنُ ولا النكاحُ.
وليس للزوجِ منعُ الأمِّ من بنتِها إذا كشَفَتْ حالَها؛ بل إما يمكِّنُها من كشفِ حالِها، أو تسكنُ بينَ جيرانٍ من أهلِ الصدقِ يكشفونَ حالَها
(1)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ليس للعمِّ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 32/ 56، والفتاوى الكبرى 3/ 79.
وأصل السؤال في الفتوى: (وسئل رحمه الله: عن رجل زوج ابنة أخيه من ابنه، والزوج فاسق لا يصلي، وخوفوها حتى أذنت في النكاح، وقالوا: إن لم تأذني وإلا زوجك الشرع بغير اختيارك، وهو الآن يأخذ مالها؛ ويمنع من يدخل عليها لكشف حالها؛ كأمها وغيرها؟).
وليس للوليِّ عَضْلُها عن الكُفْءِ إذا طلَبَتْه، فلا يمنع، فإن منع؛ زوَّجَها الوَلِيُّ الآخَرُ الأبعدُ، أو الحاكمُ.
شعرٌ:
جَدَّتي أمُّه وأبي جَدُّه وأنا عمةٌ له وهْو خالي
أفْتِنا يا إمامُ يرحمُكَ اللَّـ ـهُ ويَكْفيكَ حادثاتِ الليالي
الجوابُ:
رجلٌ زوَّجَ ابنَه أمَّ أخرى وأتى البنتَ بالنكاحِ الحلالِ
فأتَتْ منه بالتي قالت الشِّعْـ
…
ـرَ وقالتْ لابنِ هاتيكَ: خالي
رجلٌ تزوَّجَ امرأةً، وتزوَّجَ ابنُه بأمِّها، فوُلِد له بنتٌ، ولابنِه ابنٌ، فبِنْتُه هي المخاطِبةُ بالشعرِ، فجَدَّتُها أمُّ أمِّها؛ هي أمُّ ابنِ الابنِ زوجةُ الابنِ، وأبوها جدُّ ابنِ ابنِه، وهي عمَّتُه أختُ أبيه من الأبِ، وهو خالُها أخو أمِّها من الأمِّ، والله أعلم
(1)
.
والصحيحُ: تزويجُ ابنةِ تسعٍ بإذنِها
، ولا خيارَ لها إذن، وهو أعدلُ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (شعرٌ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 31/ 366، والفتاوى الكبرى 3/ 89.
الأقوالِ، وظاهرُ مذهبِ أحمدَ
(1)
.
ومَن استمتعَ بجاريةٍ
؛ فلا يجوزُ أن يستمتعَ ببناتِها
(2)
.
نكاحُ المُحلِّلِ
؛ حرامٌ بإجماعِ الصحابةِ: عمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ
(3)
، وابنِ مسعودٍ
(4)
، وابنِ عبَّاسٍ، وابنِ عمرَ
(5)
، وغيرِهم؛ حتى قال عمرُ:«لا أُوتى بمُحلِّلٍ ولا مُحلَّلٍ له إلا رجَمْتُهما»
(6)
، وقال عثمانُ:«لا نكاحَ إلا نكاحَ رغبةٍ، لا نكاحَ دُلْسةٍ»
(7)
، وقال ابنُ عبَّاسٍ لما قال له رجلٌ: أرأيتَ إن تزوَّجتُها، ومُطلِّقُها لا يعلمُ، لأُحِلَّها له، ثم أُطلِّقُها؟ فقال:«مَن يخادعِ اللهَ يخدَعْه، لا يزالانِ زانيَيْنِ؛ وإن مكَثا عشرينَ سنةً إذا علِمَ اللهُ من قِلبه أنه يريدُ أن يُحِلَّها»
(8)
، و «لعَن رسولُ اللهِ المُحَلِّلَ والمُحلَّلَ له» ، قال التِّرْمِذيُّ: حديثٌ صحيحٌ
(9)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والصحيح
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 32/ 44، والفتاوى الكبرى 3/ 91.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن استمتعَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 32/ 54، والفتاوى الكبرى 3/ 94.
(3)
رواه عبد الرزاق (10803).
(4)
رواه أحمد (4284)، والترمذي (1120)، والنسائي (3416).
(5)
رواه عبد الرزاق (10776)، وابن أبي شيبة (36192).
(6)
رواه عبد الرزاق (10777)، وابن أبي شيبة (36191).
(7)
رواه البيهقي (14193).
(8)
رواه عبد الرزاق (10779)، بنحوه.
(9)
رواه الترمذي (1120)، ورواه أحمد (4283)، والنسائي (3416)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
وقد اتَّفقَ أئمةُ الفَتْوى على أنه إذا شرَط التحليلَ في العقدِ؛ كان باطلًا، وبعضُهم لم يجعلْ للشرطِ المتقدمِ ولا العرفِ المطَّردِ تأثيرًا.
وأما الصحابةُ والتابعونَ وأكثرُ أئمةِ الفَتْوى: فلا فرقَ عندَهم بينَ الشرطِ المتقدمِ والعرفِ، وهو قولُ أهلِ المدينةِ وأهلِ الحديثِ.
والنصارى تَعيبُ الإسلامَ بنكاحِ المُحلِّلِ، يقولونَ: المسلمونَ قال لهم نبِيُّهم: (إذا طلَّقَ أحدُكم زوجتَه؛ لم تَحِلَّ له حتى تزنِيَ)، ونبِيُّنا صلى الله عليه وسلم برِيءٌ من ذلك، هو وأصحابُه والتابعونَ لهم وجمهورُ أئمةِ المسلمِينَ
(1)
.
فَصْلٌ
لا يُشترَطُ في صحةِ النكاحِ
؛ الإشهادُ على إذنِ المرأةِ قبلَ النكاحِ في المذاهبِ الأربعةِ؛ إلا وجهًا ضعيفًا للشافعيِّ وأحمدَ.
بل إذا قال: أذِنَتْ لي؛ جاز عقدُ النكاحِ، ثم إن أنكرَتِ الإذنَ؛ فالقولُ قولُها مع يمينِها.
وإن صدَّقَتْ على الإذنِ؛ فالنكاحُ ثابتٌ باطنًا وظاهرًا.
والذي ينبغي للشهودِ: أن يشهدوا على إذنِ الزوجةِ؛ ليكونَ العقدُ
(1)
دمج المصنف هنا فَتْوَيَيْنِ لشيخ الإسلام من قوله: (نكاحُ المُحلِّلِ
…
) إلى هنا، ينظر أصل الفتوى الأولى في مجموع الفتاوى 32/ 154، والفتاوى الكبرى 3/ 94، وينظر أصل الفتوى الثانية في مجموع الفتاوى 32/ 155، والفتاوى الكبرى 3/ 95.
متفَقًا على صحتِه، ويُؤمن من فسخِه بجُحودِها، ويُعلَمَ صِدقُ الوليِّ في دَعْواه الإذنَ.
وأما الحاكمُ أو العاقدُ الذي هو نائبُه؛ فلا يُزوِّجُها حتى يعلمَ أنها أذِنتْ، وذلك بخلافِ ما إذا كان شاهدًا على العقدِ أو وكيلَ الوليِّ.
وأما مذهَبُ أبي حنيفةَ ومالكٍ وأحمدَ في روايةٍ عنه: فلو لم تأذَنْ حتى عُقِد النكاحُ؛ جاز، وتُسمَّى مسألةَ وقفِ العقودِ.
وكذلك العبدُ إذا تزوَّجَ بدونِ إذنِ مَواليه، ثم أذِن بعدَ العقدِ، فهو على هذا النِّزاعِ، ويُسمَّى نكاحَ الفضوليِّ
(1)
.
وشهودُ النكاحِ يُشترَطُ فيهم العدالةُ الظاهرةُ
، ومَن اشترطَ أن يكونوا مبرزينَ - يكونَوا من المعدَّلِينَ - عندَ الحاكمِ؛ فإذا عقَد المعدِّلُ؛ صحَّ العقدُ؛ لأنه مستورٌ ومبرز عندَ الحكَّامِ، وإن كان قد يكونُ فاسقًا في الباطنِ.
ومَن يركُضُ البلادَ
، ولا يقيمُ في بلدٍ إلا شهرًا وشهرينِ؛ فله أن يتزوجَ؛ لكن ينكِحُ نكاحًا مطلقًا، لا يشترطُ فيه توقيتًا.
وإن نوى طلاقَها حتمًا عندَ انقضاءِ سفَرِه؛ كُرِه مثلُ ذلك، وفي صحةِ النكاحِ نزاعٌ.
(1)
دمج المصنف هنا فتويين لشيخ الإسلام من قوله: (لا يُشترَطُ في صحةِ
…
)، ينظر أصل الفتوى الأولى في مجموع الفتاوى 32/ 55، والفتاوى الكبرى 3/ 98، وينظر أصل الفتوى الثانية في مجموع الفتاوى 32/ 40، والفتاوى الكبرى 3/ 95.
ولو نوى أنه إذا سافَرَ وأعجَبَتْه أمسَكَها، وإلا طلَّقَها؛ جاز.
فإن اشتَرطَ التوقيتَ؛ فهو نكاحُ المتعةِ الذي اتَّفقَ الأربعةُ وغيرُهم على تحريمِه، وإن كان طائفةٌ يُرخِّصونَ فيه؛ إما مطلقًا، وإما للمُضطَرِّ، كما قد كان ذلك في صدرِ الإسلامِ.
فالصوابُ: أن ذلك منسوخٌ؛ كما ثبَتَ في الصحيحِ بعدَ أن رخَّصَ لهم فيها عامَ الفتحِ
(1)
، ولأنه لا يثبُتُ فيها أحكامُ الزوجيةِ من الإرثِ، والاعتدادِ بعدَ الوفاةِ، ونحوِه من الأحكامِ.
وشَرْطُه قبلَ العقدِ؛ كالمقارنِ في أصحِّ قولَيِ العلماءِ.
وأما إذا نوى الزوجَ الأجَل؛ ففيه نزاعٌ، يُرخِّصُ فيه أبو حنيفةَ والشافعيُّ، ويكرَهُه مالكٌ وأحمدُ وغيرُهما، فهو كما لو نوى التحليلَ، فإنَّه مما اتَّفقَ الصحابةُ على النَّهْيِ عنه؛ لكنَّ نكاحَ المُحلِّلِ شرٌّ من نكاحِ المتعةِ؛ لأنه لم يُبَحْ قطُّ.
وأما العزلُ؛ فقد حرَّمَه طائفةٌ؛ لكن الأئمَّةَ الأربعةَ على جوازِه بإذنِ المرأةِ
(2)
.
(1)
رواه مسلم (1406) من حديث سَبْرة الجهني رضي الله عنه.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن يركض
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 106، والفتاوى الكبرى 3/ 100.
فَصْلٌ
الجمعُ بينَ المرأةِ وخالةِ أبي المرأةِ
، أو خالةِ أمِّها، أو عمةِ أبيها، أو عمةِ أمِّها؛ كالجمعِ بينَ المرأةِ وعمَّتِها وخالتِها عندَ أئمةِ المسلمِينَ، وذلك حرامٌ باتفاقِهم.
وهل له أن يتزوجَ المعتدةَ منه في نكاحٍ فاسدٍ؟ فيه قولانِ لأحمدَ:
أحدُهما: يجوزُ، كمذهبِ أبي حنيفةَ والشافعيِّ.
والثاني: لا يجوزُ، كمذهبِ مالكٍ
(1)
.
ومَن له جاريةٌ تزني
؛ فلا يحِلُّ له وطْؤُها حتى تحيضَ ويستبرئَها من الزنى، فإنَّ الزاني لا ينكحُ إلَّا زانيةً أو مشركةً عقداً ووطئاً، ومتى وطِئَها معَ كونِها زانيةً كان دَيُّوثًا
(2)
.
وإذا احتاجتْ أَمَتُه
إلى النكاحِ؛ فليُعِفَّها إما أن يطأَها، أو يُزوِّجَها
(3)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (الجمعُ بينَ المرأةِ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 75، والفتاوى الكبرى 3/ 101.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن له جاريةٌ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 143، والفتاوى الكبرى 3/ 102.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا احتاجت
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 106، والفتاوى الكبرى 3/ 103.
ووَطْءُ المرأةِ في دُبُرِها
؛ حرامٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ، وهو قولُ جماهيرِ السَّلَفِ والخَلَفِ؛ بل هو اللوطيةُ الصغرى، وقد ثبَتَ:«لا تأتوا النساءَ في أدبارِهنَّ»
(1)
، وقولُه:{فأتوا حرثكم} ، الحرثُ: موضعُ الولدِ
(2)
.
فَصْلٌ
وَطْءُ الإماءِ الكتابِيَّاتِ
بملكِ اليمينِ أقوى من وطْئِهنَّ بملكِ النكاحِ عندَ عوامِّ أهلِ العلمِ من الأئمَّةِ الأربعةِ وغيرِهم، ولم يُنقَلْ عن أحدٍ تحريمُ ذلك، كما نُقِل عن بعضِهم المنعُ من نكاحِ الكتابِيَّاتِ، وإن كان ابنُ المنذِرِ قد قال:(لم يصحَّ عن أحدٍ من الأوائلِ تحريمُ نكاحِهنَّ)، فقد رُوِي عن ابنِ عمرَ
(3)
، وهو قولُ الشيعةِ.
(1)
رواه أحمد (21858)، وابن ماجه (1924) من حديث خزيمة بن ثابت رضي الله عنه.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ووَطْءُ المرأةِ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 266، والفتاوى الكبرى 3/ 103.
(3)
وهو ما رواه البخاري (5285) - فيما ذكره شيخ الإسلام في مواطن أخرى من الفتاوى -، عن نافع، أن ابن عمر رضي الله عنهما: كان إذا سئل عن نكاح النصرانية واليهودية، قال:«إن الله حرم المشركات على المؤمنين، ولا أعلم من الإشراك شيئًا أكبر من أن تقول المرأة: ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله» ، وروى ابن أبي شيبة (16166): عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أنه كره نكاح نساء أهل الكتاب» ، وقرأ {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} .
وفي كراهةِ نِكاحِهنَّ عندَ عدمِ الحاجةِ؛ نزاعٌ
(1)
، والكراهةُ معروفةٌ في مذهَبِ أحمدَ، والشافعيِّ، ومالكٍ.
وكذا كراهةُ وَطْءِ الإماءِ منهم نزاعٌ، رُوِي عن الحسنِ أنه كرِهَه، وأما التحريمُ فلا يُعرفُ عن أحدٍ.
وأما الأَمَةُ المجوسيةُ؛ فالكلامُ فيها مبنيٌّ على أصلينِ:
أحدُهما: أن نكاحَ المجوسياتِ لا يجوزُ، كما لا يجوزُ نكاحُ الوَثَنِيَّاتِ، وهو مذهَبُ الأئمَّةِ الأربعةِ، وذكَرُه الإمامُ أحمدُ عن خمسةٍ من الصحابةِ، وحُكِي عن الشافعيِّ قولٌ بجوازِ ذلك؛ بناءً على جوازِ ذبائِحِهم.
الأصلُ الثاني: أنَّ مَن لا يجوزُ نكاحُهنَّ؛ لا يجوزُ وَطْؤُهنَّ بملكِ اليمينِ؛ كالوَثَنِيَّاتِ، وهو مذهَبُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ وغيرِهم.
وحُكِي عن أبي ثورٍ: إباحةُ وَطْءِ الإماءِ بملكِ اليمينِ على أيِّ دينٍ كانوا، وأظنُّ أنه يُذكَرُ عن بعضِ المتقدمينَ
(2)
.
(1)
واختار شيخ الإسلام الكراهة مع وجود المسلمة. ينظر: الفروع 8/ 252، اختيارات البعلي ص 313.
(2)
قال في الإنصاف 8/ 152: (واختار الشيخ تقي الدين رحمه الله: جواز وطء إماء غير أهل الكتاب).
وروى ابن أبي شيبة (16316)، عن مثنى، قال: كان عطاء وطاوس وعمرو بن دينار: «لا يرون بأسًا أن يتسرَّى الرجل المجوسية» ، وعن ابن المسيب نحوه (16315).
وقولُه: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} جعَلَه عثمانُ وغيرُه من الصحابةِ مُتناوِلًا للجمعِ بينَ الأختينِ؛ حين قالوا: «أحلَّتْهما آيةٌ، وحرَّمَتْهما آيةٌ»
(1)
، وما حرُمَ فيه الجمعُ بالنكاحِ، قد تُنوزِعَ في تحريمِ الجمعِ فيه بملكِ اليمينِ
(2)
.
ومَن زنى بامرأةٍ
، ثم وجَد معها بنتًا، لا يعلمُ: هل هي منه، أم لا؟ لا تحِلُّ له؛ لأنها إن كانت من غيرِه؛ حرُمتْ عليه عندَ مالكٍ، وأبي حنيفةَ، وإحدى الروايتينِ عن أحمدَ، وإن كانت بنتَه من الزنى؛ فأغلَظُ من ذلك، وإذا اشتَبهَتْ عليه بغيرِها؛ حرُمتا
(3)
.
وإذا تزوَّجَ الحرُّ القُرَشيُّ أَمَةً
؛ فولدُه رقيقٌ لسيدِ الأَمَةِ باتِّفاقِ العلماءِ؛ لأن الولدَ يتبَعُ أمَّه في الحريةِ والرقِّ، ويتبَعُ أباه في النسبِ والولاءِ، فإن كان الولدُ ممن يُسترَقُّ جنسُه بالاتفاقِ؛ فهو رقيقٌ
(1)
رواه مالك في الموطأ 2/ 538، وعبد الرزاق (12728)، عن قَبيصة بن ذؤيب، أن رجلًا سأل عثمان عن الأختين يجمع بينهما، فقال عثمان:«أحلتهما آية، وحرمتهما آية، فأما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك» قال: فخرج من عنده فلقي رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال: «لكني أنهاك، ولو كان من الأمر إلي شيء، ثم وجدت أحدًا يفعل ذلك لجعلته نكالًا» . فقال ابن شهاب: أراه عليًّا.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وَطْءُ الإماءِ الكتابِيَّاتِ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 181، والفتاوى الكبرى 3/ 104.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن زنى بامرأةٍ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 138.
بالاتفاقِ، وإن كان ممن تُنُوزِعَ في رقِّ جنسِه؛ وقَع النِّزاعُ في رقِّه كالعربِ، والصحيحُ: أنه يجوزُ استرقاقُ العربِ والعجمِ؛ لما في «الصحيحَينِ» أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشةَ - وعندَها سَبِيَّةٌ من بني تميمٍ-: «أعتِقِيها؛ فإنها من ولَدِ إسماعيلَ» ، وجاءت صدقاتُ بني تميمٍ، فقال:«هذه صدقاتُ قومِنا» ، وقال:«هم أشَدُّ أمَّتي على الدَّجَّالِ» ، قال أبو هُرَيرةَ: لا أزال أحِبُّهم؛ يعني: بني تميمٍ، بعدَ هذه الثلاثِ التي سَمِعْتُهنَّ من
(1)
رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وفي «الصحيحَينِ» أنه قال: «من قال: لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كل شيءٍ قديرٌ عشْرَ مراتٍ؛ كان كمَن أعتقَ أربعةَ أنفُسٍ من بني إسماعيلَ»
(3)
.
وسَبَى هَوازِنَ - وهم عربٌ - ثم أعتَقَهم بعدَ أن طلبَهم من المسلمِينَ، وطَيَّبوا ذلك له
(4)
، وقد وطِئَهم المسلمونَ من سَبايا أوطاسَ، وهم من بني هَوازِنَ
(5)
، ولما جاءَتْه جُوَيرَةُ بنتُ الحارثِ تطلبُ منه شيئًا يعينُها في كتابتِها، فقال صلى الله عليه وسلم:«هل لكِ في خيرٍ من ذلك، أقضي دَينَكِ، وأتزوَّجُكِ» ، ففعلَتْ، فتزوَّجَها، فقال الناسُ: أصهارُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأرسَلوا ما بأيديهم، فلقد عتَقَ بتزويجِه إياها
(1)
قوله: (من) سقطت من الأصل. والمثبت من (ك).
(2)
رواه البخاري (2543)، ومسلم (2525)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (6404)، ومسلم (2693)، من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
(4)
رواه البخاري (2307) من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه.
(5)
رواه مسلم (1438) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
مائةُ أهلِ بيتٍ من بني المُصطَلِقِ
(1)
، فدل ذلك على جوازِ استرقاقِ العربِ، ومنَعَه أبو حنيفةَ، والشافعيُّ في القديمِ.
فإذا تزوَّجَ الحرُّ مملوكةً؛ فولَدُها رقيقٌ إلا أن يكونَ من العربِ عندَ أبي حنيفةَ، ولكن لو زنى العربيُّ بمملوكةٍ؛ كان الولدُ رقيقًا اتفاقًا؛ لأن النسبَ غيرُ لاحقٍ بأبيه
(2)
.
ومسألةُ ابنِ سُرَيجٍ
(3)
؛ مُحدَثةٌ، لم يُفْتِ بها أحدٌ من الأئمَّةِ، إنما أفتى بها طائفةٌ من المتأخِّرينَ بعدَ المائةِ الثالثةِ، فأنكَرَه جماهيرُ المسلمِينَ
(4)
.
ومَن قلَّد فيها شخصًا
، ثم تاب؛ عفا اللهُ عنه، ولا يفارِقُ امرأتَه، وإن كان قد تسَرَّجَ فيها؛ إذا كان متأولًا
(5)
.
وإذا وكَّل ذِمِّيًّا
في قبولِ نكاحِ امرأةٍ مسلمةٍ؛ يُشبِهُ تزويجَ الذميِّ ابنتَه
(1)
رواه أحمد (26365) وأبو داود (3931) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا تزوَّجَ الحرُّ
…
) في مجموع الفتاوى 31/ 376، والفتاوى الكبرى 3/ 111.
(3)
وهي أن يقول الرجل لامرأته: إذا طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثًا، ولشيخ الإسلام مصنفٌ مستقل فيها باسم:(قاعدة في المسألة السريجية). ينظر: مجموع الفتاوى 31/ 376، والفتاوى الكبرى 3/ 137.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومسألةُ ابنِ سُرَيجٍ
…
) في مجموع الفتاوى 33/ 240، والفتاوى الكبرى 3/ 316.
(5)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن قلَّد فيها شخصًا
…
) في مجموع الفتاوى 33/ 244.
الذمِّيَّةَ من مسلمٍ، ولو زوَّجَها من ذِمِّيٍّ؛ جاز، وإذا زوَّجَها من مسلمٍ، ففيه نزاعٌ؛ قيلَ: يجوزُ، وقيلَ: لا، فيُوكِّلُ مسلمًا، وقيلَ: يزوِّجُها الحاكمُ.
وكونُه ولِيًّا في تزويجِ المسلمِ؛ مثلُ كونِه وكيلًا في تزويجِ المسلمةِ، ومن قال: إن ذلك جائزٌ، قال: إن الملكَ في النكاحِ يحصُلُ للزوجِ، لا للوكيلِ باتفاقٍ، بخلافِ الملكِ في غيرِه؛ ففيه نزاعٌ لأحمدَ وغيرِه، فلو وكَّل مسلمٌ ذِمِّيًّا في شراءِ خمرٍ؛ لم يجُزْ، وخالفَ فيه أبو حنيفةَ، وإذا كان الملكُ يحصُلُ للزوجِ؛ فتوكيلُه الذِّمِّيَّ بمنزلةِ توكيلِه
(1)
في تزويجِ المرأةِ بعضَ محارمِها؛ كخالِها؛ فإنه يجوزُ توكُّلُه في قبولِ نكاحِها، وإن كان لا يجوزُ له تزوجُّها؛ كذلك الذمِّيُّ إذا توكَّلَ في نكاحِ مسلمٍ؛ وإن كان لا يحلُّ له نكاحُ مسلمةٍ؛ لكنَّ الأحوطَ ألا يفعلَ؛ لما فيه من النزاعِ.
ولو وكَّل امرأةً، أو صَبِيًّا غيرَ مميزٍ، أو مجنونًا؛ لم يجُزْ.
ولو وكَّل عبدًا بغيرِ إذنِ وليِّه، أو وكَّلَ سفيهًا بغيرِ إذنِ ولِيِّه، أو صَبِيًّا مميِّزًا بغيرِ إذنِ ولِيِّه؛ ففيه نزاعٌ لأحمدَ وغيرِه
(2)
.
ومَن تزوَّجَ وشُرِط عليه:
أن كلَّ امرأةٍ تتزوَّجُها فهي طالقٌ، وكلَّ أَمَةٍ تتسرَّى بها؛ فهي حرةٌ، ثم تسرَّى، أو تزوجَ:
(1)
في الأصل: توكله. والمثبت من (ك).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا وكَّل ذِمِّيًّا
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 17، والفتاوى الكبرى 3/ 122.
فقال أبو حنيفةَ: تُطلَّقُ التي تزوَّجَها، وتُعتَقُ، وهو قولُ مالكٍ إذا لم يعمَّ، كما ذُكِر
(1)
.
ومذهَبُ أحمدَ: لا يقعُ به طلاقٌ ولا عِتاقٌ؛ لكنْ للزوجةِ الأولى الخيارُ بينَ المقامِ وفراقِه
(2)
.
وقال الشافعيُّ: لا يقعُ به شيءٌ، ولا تملكُ المرأةُ فراقَه
(3)
.
ومَن تزوَّجَ؛ فأتَتِ امرأته
بولدٍ بعدَ شهرينِ؛ لم يلحَقْه النسبُ، ولا يَستقرُّ عليه المهرُ باتِّفاقٍ.
وفي العقدِ قولانِ، أصَحُّهما: أنه باطلٌ؛ كمذهَبِ مالكٍ وأحمدَ وغيرِهما.
ويُفرَّقُ بينَهما، ولا مهرَ ولا نصفَه، ولا متعةَ إذا لم يدخُلْ بها؛ كسائرِ العقودِ الفاسدةِ إذا حصَلَتِ الفرقةُ قبلَ الدخولِ.
وينبغي أن يُفرِّقَ بينَهما حاكمٌ يرى فسادَ العقدِ؛ لقطعِ النزاعِ.
والقولُ الآخر
(4)
: العقدُ صحيحٌ، ولا يحِلُّ له وَطْؤُها حتى تضعَ؛
(1)
قوله: (إذا لم يعمَّ، كما ذُكِر) مثبتة في جميع النسخ الخطية، وهي غير مذكورة في أصل الفتوى.
(2)
قال شيخ الإسلام في أصل الفتوى: (وهو أعدل الأقوال).
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن تزوَّجَ وشُرِط
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 169، الفتاوى الكبرى 3/ 124.
(4)
قوله: (الآخر) سقط من الأصل، والمثبت من (ك) و (ع).
كقولِ أبي حنيفةَ.
وقيلَ: يجوزُ الوَطْءُ قبلَ الوضعِ؛ كمذهبِ الشافعيِّ.
فإن كانت حاملًا من وَطْءِ شبهةٍ، أو سيدٍ، أو زوجٍ؛ فإن النكاحَ باطلٌ باتِّفاقِ المسلمِينَ، ولا مهرَ قبلَ الدخولِ
(1)
.
وإذا رُكِنَ إلى الخاطبِ
؛ حرُم الخِطْبةُ على خِطبتِه عندَ الأربعةِ، وإن تنازَعَ في تحريمِه بعضُ أصحابِنا.
وفي صحةِ نكاحِ الثاني قولانِ، هما روايتانِ عن أحمدَ.
ويجبُ عقوبةُ الخاطبِ، ومَن أعانَه على ذلك.
وتَزَوُّجُ العبدِ بغيرِ إذنِ سيدِه
إذا لم يُجِزْه سيدُه؛ باطلٌ باتِّفاقٍ، وإن أجازَه فهو تصرُّفُ الفضوليِّ، فيه نزاعٌ.
وإذا غَرَّ المرأةَ، وذكَر أنه حرٌّ، ودخَل بها؛ وجَب المهرُ بلا نزاعٍ؛ لكن، هل يجبُ مهرُ المثلِ؛ كقولِ أبي حنيفةَ والشافعيِّ، أو المسمى؛ كقولِ مالكٍ، أو خُمُسانِ؟ فيه نزاعٌ، وهي ثلاثُ رواياتٍ عن أحمدَ.
وهل يتعلَّقُ برقبتِه؛ كقولِ أحمدَ في المشهورِ عنه، أو بذِمَّتِه كقولِ الشافعيِّ في الجديدِ؟ فيه نزاعٌ، والأولُ أظهرُ؛ لأنه جِنايةٌ
(2)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن تزوَّجَ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 105، والفتاوى الكبرى 3/ 125.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وتَزَوُّج العبدِ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 201، والفتاوى الكبرى 3/ 126.
ومَن كان مُصِرًّا
على الفسقِ؛ لا ينبغي أن يُزوَّجَ
(1)
.
وإذا تزوَّجَ امرأةً
على أنها بِكْرٌ، فبانَتْ ثَيِّبًا؛ فله الفَسْخُ، وله أن يطالِبَ بأَرْشِ الصَّداقِ، وهو تفاوتُ ما بينَ مهرِ البِكْرِ والثَّيِّبِ
(2)
.
وأيُّ الزوجينِ وجَدَ بالآخَرِ
جنونًا، أو جُذامًا، أو بَرَصًا؛ فله فسخُ النكاحِ إذا لم يرضَ بعدَ ظهورِ العيبِ، وقبلَ الدخولِ يسقُطُ المهرُ، وبعدَه لا يسقُطُ
(3)
.
وإذا تعذَّرتِ النفقةُ
من جهةِ الزوجِ؛ فلها فسخُ النكاحِ، والفسخُ للحاكمِ، فإن فسخَتْ هي نفْسَها لتعذُّرِ فسخِ الحاكمِ أو غيرِه؛ ففيه نزاعٌ
(4)
.
وهل لوَلِيِّها أن يطالبَ بفسخِ النكاحِ
، إذا كانت محجورًا عليها؟ على وجهَينِ
(5)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن كان مُصِرًّا
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 60، والفتاوى الكبرى 3/ 127.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا تزوَّجَ امرأةً
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 173، والفتاوى الكبرى 3/ 128.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وأيُّ الزوجينِ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 171، والفتاوى الكبرى 3/ 128.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا تعذَّرتِ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 91، والفتاوى الكبرى 3/ 128.
(5)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وهل لوَلِيِّها
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 92، والفتاوى الكبرى 3/ 141.
وإذا حضَرتْ مطلقةٌ
، فذكَرتْ أنها تزوَّجَتْ زوجًا وطلَّقَها، فأرادَ هذا الزوجُ رَدَّها، فخاف أن يُطلبَ براءَتُها من الزوجِ الثاني، فادَّعى عندَ حاكمٍ أنها جاريتُه، وأنه يريدُ عِتْقَها، ويكتبُ لها كتابًا، فزوَّجَها القاضي على أنه وَلِيُّها، وكانت خليةً من الموانعِ، ولم يكُنْ لها وَلِيٌّ أَوْلى من الحاكمِ؛ صحَّ النكاحُ، وإن ظنَّ القاضي أنها عتيقةٌ، وكانت حُرَّةَ الأصلِ؛ [فهذا الظن]
(1)
لا يقدَحُ في صحةِ النكاحِ.
وهذا ظاهرٌ على أصلِ الشافعيِّ، فإن الزوجَ عندَه لا يكونُ وَلِيًّا.
وأما مَن يقولُ: إن المعتَقَةَ يكونُ زوجُها المعتِقُ وَلِيَّها، والقاضي نائبَه؛ فهنا إذا زوَّجَ الحاكمُ بهذه النيابةِ، ولم يكُنْ قبولُه من جهتِها، ولكن من كونِها حُرَّةَ الأصلِ؛ ففيه نظرٌ
(2)
.
(1)
ما بين المعقوفتين سقط من النسخ الخطية، والمثبت من مجموع الفتاوى 32/ 34.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا حضَرتْ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 33، والفتاوى الكبرى 3/ 129.
باب الأَوْلِيَاءِ
مَن خلَّف ابنًا وابنتينِ غيرَ رشيدتينِ
؛ فللأخِ الولايةُ من جهةِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المُنكَرِ، فإذا فعلَتْ ما لا يحِلُّ لها؛ فله مَنْعُها، وأما الحَجْرُ عليها فلوَصِيِّها إن كان، وإلا فللحاكمِ، ولأخيها رفعُ أمرِها إلى الحاكمِ
(1)
.
وإذا طلَب العبدُ النكاحَ
؛ أُجبِرَ السيدُ في مذهَبِ أحمدَ والشافعيِّ على أحدِ قولَيْه على تزويجِه؛ لأنه كالإنفاقِ عليه.
وتزويجُ الأَمَةِ إذا طلبَتِ النكاحَ من كُفْءٍ؛ واجبٌ باتِّفاقِ العلماءِ
(2)
.
وصح قولُه:
«يا معشرَ الشبابِ، مَن استطاعَ منكم الباءَةَ فلْيتزوَّجْ»
(3)
، واستطاعةُ النكاحِ: هو القدرةُ على المؤنةِ، ليس القدرةَ على الوطءِ، فإن الحديثَ إنما هو خطابٌ للقادرِ على فعلِ الوطءِ،
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (مَن خلَّف ابنًا
…
) في مجموع الفتاوى 30/ 41، والفتاوى الكبرى 3/ 130.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا طلَب العبدُ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 58، والفتاوى الكبرى 3/ 133.
(3)
رواه البخاري (5065)، ومسلم (1400) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
ولهذا أمَر مَن لم يستطعِ بالصومِ؛ فإنه وِجاءٌ.
ومَن لا مالَ له: هل يُستحَبُّ له أن يقترضَ ويتزوَّجَ؟ فيه نزاعٌ لأحمدَ وغيرِه
(1)
.
ومن كان سفيهًا محجورًا عليه
؛ لم يصحَّ تزويجُه بغيرِ إذنِ ولِيِّه، ويُفرَّقُ بينَهما.
وإذا تنازَعَ الزوجان: هل نكَح وهو رشيدٌ، أو سفيهٌ؟ فالقولُ قولُ مُدَّعي الصحةِ
(2)
.
ومسألةُ ابنِ سُرَيجٍ
؛ لم يُفْتِ بها أحدٌ من المتقدمينَ، وقد أُنكِرَ على مَن أفتى بها، ونكاحُ المسلمِينَ لا يكونُ كنكاحِ النصارى، والدَّورُ الذي توهَّموه باطلٌ، فإنهم ظنُّوا أنه إذا وقَع المنجزُ وقَع المعلقُ، وإذا وقع المعلقُ لم يقع المنجزُ، وهذا غلَطٌ؛ فإن المعلقَ إنما يقعُ لو كان التعليقُ صحيحًا، والتعليقُ باطلٌ؛ لأنه محال في العقلِ والشريعةِ، وهو وقوعُ طلقةٍ مسبوقةٍ بثلاثةٍ.
وإذا كان قد تسرَّج وحلَف بالطلاقِ معتقدًا أنه لا يَحْنَثُ، ثم تبيَّنَ له فيما بعدُ أن التسريج لا يجوزُ؛ فلْيُمسِكِ امرأتَه، ولا طلاقَ عليه فيما
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وصح قولُه
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 6، والفتاوى الكبرى 3/ 133.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن كان سفيهًا
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 30، والفتاوى الكبرى 3/ 136.
مضى، ويتوبُ في المستقبلِ
(1)
.
ومَن أعطى قومًا شيئًا
، واتفقوا على أن يُزوِّجوه بنتَهم، فماتت البنتُ؛ لم يكُنْ له أن يرجِعَ عليهم بشيءٍ مما أعطاهم، وإن كانوا لم يَفُوا له بما طلَبَه منهم؛ فله الرجوعُ.
التحليلُ محرَّمٌ
، لا يُحِلُّها؛ لكنْ مَن قلَّدَ فيه المُجوِّزَ له، أو فعله باجتهادٍ، ثم تبيَّن له تحريمُ ذلك؛ فالأقوى أنه لا يجبُ فراقُها؛ بل يمتنعُ من ذلك في المستقبلِ، وقد عفا اللهُ عما مضى.
ومَن تزوَّجَ امرأةً مدةً
، ثم طلَّقَها، وادَّعى أنه مملوكٌ؛ لا يُقبَلُ قولُه بمجرَّدِ دعواه، فإنه لو ادَّعى أنه مملوكٌ بلا بينةٍ، ولم يُعرَفْ خلافُ ذلك:
فقيلَ: يُقبَلُ فيما عليه دونَ ما له؛ كمذهبِ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ وأحمدَ في قولٍ لهما.
وقيلَ: لا يُقبَلُ بحالٍ، كمذهبِ بعضِ المالكيةِ، وإحدى الروايتينِ عن أحمدَ.
والثالثُ: يُقبَلُ مطلقًا، وهو قولُ الشافعيِّ، وروايةٌ عن أحمدَ.
فلها أخذُ حقِّها وإن قُدِّر أنه مملوكٌ؛ فإنه جانٍ، فيتعلَّقُ برقبتِه حقُّها،
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومسألةُ ابنِ سُرَيجٍ
…
) في مجموع الفتاوى 33/ 243، والفتاوى الكبرى 3/ 137.
فلها المطالبةُ على كلِّ حالٍ
(1)
.
ولا يصلحُ لأحدٍ
أن يُنكِحَ مولِّيتَه رافِضيًّا، ولا مَن يتركُ الصَّلاةَ، ومتى زوَّجوه على أنه سُنِّيٌّ يُصلِّي، فبان أنه رافضيٌّ لا يصلِّي، أو كان قد تاب، ثم عاد إلى الرَّفْضِ وتركِ الصَّلاةِ: فإنهم يفسَخونَ نكاحَه، إذا قيلَ: إنه صحيحٌ
(2)
.
ومَن قال لأبي زوجتِه:
إن أبرأَتْني بنتُكَ أوقعتُ عليها الطلاقَ، فقال والدُها: أبرأتُكَ، بغيرِ حضورِها، وبغيرِ إذنِها؛ في هذه المسألةِ نزاعٌ:
فمذهبُ أبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ في المنصوصِ عنهما: أنه ليس للأبِ أن يخالِعَ على شيءٍ من مالِ ابنتِه؛ سواءٌ كانت محجورًا عليها أو لا.
ومذهَبُ مالكٍ: يجوزُ أن يخالعَ عن ابنتِه الصغرى، ورُوِي عنه أنه يخالعُ عن البِكْرِ مطلقًا، وروي عنه: عن ابنته مطلقاً.
ومذهَبُ مالكٍ يُخرَّجُ على أصولِ أحمدَ من وجوهٍ:
أحدُها: أن للأبِ أن يُطلِّقَ ويخلعَ امرأةَ ابنِه الطفلِ في إحدى الروايتينِ. ويجوزُ في إحدى الروايتين للحكم في الشقاق؛ أن يخلعَ المرأةَ بشيءٍ من مالِها دون إذنِها، وتطلقُ على الزوجِ بدونِ إذنِه، ويجوزُ للأبِ أن يُزوِّجَ بنتَه
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن تزوَّجَ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 204، والفتاوى الكبرى 3/ 313.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يصلحُ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 61، والفتاوى الكبرى 3/ 141.
بدونِ صَداقِ مثلِها، وفي إحدى الروايتينِ: هو الذي بيدِه عقدةُ النكاحِ، وله أن يُسقِطَ نصفَ الصداقِ، وللأبِ أن يتملكَ لنفْسِه من مالِ ولدِه ما لا يضُرُّ بالولدِ؛ حتى لو زوَّجَها وشرَطَ لنفْسِه بعضَ الصداقِ؛ جاز.
فإذا كان له من التصرفِ في المالِ والتملكِ هذا التصرفُ؛ لم يَبْقَ إلا طلبُه لفرقتِها، وذلك يملكُه بإجماعِ المسلمِينَ، ويجوزُ عندَه للأبِ أن يُعتِقَ بعضَ رقبةِ المولَّى عليه للمصلحةِ.
فقد يقالُ: الأظهرُ أن المرأةَ إن كانت تحتَ حِجْرِ الأبِ؛ أن له أن يخالِعَ بمالِها، فإنه معاوضةٌ، وافتداءٌ لنفْسِها من الزوجِ، فيملكُه الأبُ كغيرِه من المعاوضاتِ، كما يملكُ افتداءَها من الأسرِ، ولا يفعلُه إلا لمصلحةٍ لها.
وقد يقالُ: قد لا تكونُ مصلحتُها في الطلاقِ، ولكن الزوجَ يملِكُ أن يطلِّقَها، وهو لا يقدرُ على مَنْعِه، فإذا بذلَ له العوضَ غيرُها؛ لم يمكِنْها مَنْعُه، بخلافِ إسقاطِ مَهْرِها وحقِّها الذي تستحِقُّه بالنكاحِ، فقد يكونُ عليها في ذلك ضررٌ، وقد يكونُ غرضُ الأبِ لحَظِّه، لا لمصلحتِها، ولا يملكُ إسقاطَ حقِّها بمجرَّدِ حَظِّه اتفاقًا.
فعلى قولِ مَن يُصحِّحُ الإبراءَ؛ يقَعُ الإبراءُ والطلاقُ.
ومَن لا يُجوِّزُه إن ضمِنَه الأبُ؛ وقَع الطلاقُ بلا نزاعٍ، وعلى الأبِ للزوجِ مثلُ الصداقِ عندَ أبي حنيفةَ، ومالكٍ، وأحمدَ، والشافعيِّ في القديمِ، وفي الجديدِ: عليه مهرُ المثلِ.
وأما إن لم يضمَنْه إن علَّقَ الطلاقَ بالإبراءِ فقال له: إن أبرَأَتْني فهي طالقٌ:
فالمنصوصُ عن أحمدَ: أنه يقَعُ الطلاقُ إذا اعتقدَ الزوجُ أنه يبرأُ، ويرجعُ على الأبِ بقدرِ الصداقِ؛ لأنه غَرَّه، وهي روايةٌ عن أبي حنيفةَ.
والأخرى: لا يقعُ، وهو قولُ الشافعيِّ، وقولٌ لأحمدَ؛ لأنه لم يبرَأْ في نفسِ الأمرِ.
وأما إن طلَّقَها طلاقًا لم يُعلِّقْه على الإبراءِ؛ فإنه يقعُ؛ لكن عندَ أحمدَ يضمَنُ الأبُ الصداقَ؛ لأنه غَرَّه، وعندَ الشافعيِّ: لا يضمَنُ له شيئًا؛ لأنه لم يلتزمْ له شيئًا، واللهُ أعلمُ
(1)
.
ومَن زالت عُذْرتُها بزِنًى
؛ فهل إذنُها صمتاً؟ على قولين: مذهب أبي حنيفةَ ومالكٍ: نعم، والباقون: لا
(2)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن قال لأبي زوجتِه
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 358، والفتاوى الكبرى 3/ 314.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن زالت
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 42، والفتاوى الكبرى 3/ 142.
فَصْلٌ
ومَن كان مُبتلًى
؛ يجوزُ مَنْعُه من السكنِ بينَ الأصِحَّاءِ، ولا يجاوِرُ الأصِحَّاءَ؛ فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«لا يُورِدَنَّ المُمْرِضُ على المُصِحِّ»
(1)
، فنهى صاحبَ الإبلِ المراضِ أن يُورِدَها على صاحبِ الإبلِ الصحاحِ، معَ قولِه:«لا عَدْوى ولا طِيَرةَ»
(2)
، وكذلك رُوِي: أنه لما قدِمَ مَجْذومٌ ليُبايِعَه؛ أرسَلَ إليه بالبيعةِ، ولم يأذنْ له في دخولِ المدينةِ
(3)
.
(1)
رواه البخاري (5774)، ومسلم (2221) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (5707)، ومسلم (2220) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه مسلم (2231) من حديث الشَّريد بن سُويد رضي الله عنه.
وينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن كان مُبتلًى
…
) في مجموع الفتاوى 24/ 285، والفتاوى الكبرى 3/ 17.
كِتَابُ الطَّلَاقِ
مَن أخَذَ ينظرُ بعدَ الطلاقِ في صفةِ العقدِ
، ولم ينظُرْ في صفتِه قبلَ ذلك؛ مثلُ قولِه: أنا تزوجتُ بوليٍّ وشهودٍ فُسَّاقٍ فلا يقعُ طلاقي؛ لأن نكاحي كان باطلًا: فهذا من المعتَدِينَ لحدودِ اللهِ تعالى، فإنه يريدُ أن يستحِلَّ محارمَ اللهِ قبلَ الطلاقِ وبعدَه
(1)
.
والطلاقُ الثلاثُ
سواءٌ قبلَ الدخولِ وبعدَه في تحريمِ الزوجةِ عندَ الأئمَّةِ الأربعةِ، وهو قولُ أكثرِ العلماءِ
(2)
.
وإذا نوَى طلاقَ زوجتِه
؛ لم يقعْ بمجرَّدِ النيةِ طلاقٌ باتِّفاقِ العلماءِ، فلو اعتقدَ الزوجُ أنه طلاقٌ، فأقَرَّ أنه طلَّقَها، ومرادُه تلك النيةُ؛ لم يقعْ بهذا الإقرارِ طلاقٌ في الباطنِ، ولكن يُؤاخَذُ به في الحكمِ
(3)
.
ومَن قال:
فلانةُ طالقٌ كلما تزوَّجتُها على مذهَبِ مالكٍ: فهذا التزمَ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (مَن أخذ ينظرُ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 101، والفتاوى الكبرى 3/ 319.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والطلاقُ الثلاثُ
…
) في مجموع الفتاوى 33/ 116.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا نوَى طلاقَ
…
) في مجموع الفتاوى 33/ 113، والفتاوى الكبرى 3/ 320.
مذهَباً بعينِه؛ فلا يلزمُه، بل له أن يقلدَ مذهبًا غيرَه
(1)
.
ومَن أكرَهَها أبوها
على إبراءِ زوجِها وطلاقِه، فأبرَأَتْه مُكرَهةً بغيرِ حقٍّ؛ لم يصحَّ الإبراءُ، ولم يقَعِ الطلاقُ المُعلَّقُ به.
وإن كانت تحتَ حِجْرِ الأبِ، وقد رأى أن ذلك مصلحةٌ لها؛ فإنه جائزٌ في أحدِ قولَيِ العلماءِ في مذهَبِ مالكٍ، وقولٍ في مذهَبِ أحمدَ
(2)
.
ومَن قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا
، ونوى الاستثناءَ، وكان اعتقادُه أنه إذا قال: الطلاقُ يلزَمُني إن شاءَ اللهُ؛ أنه لا يقعُ به الطلاق، ومقصودُه تخويفُها لا إيقاعِ الطلاقِ: لم يقَعِ الطلاقُ.
فإذا كان قد قال: إن شاءَ اللهُ في هذه الساعةِ؛ فلا يقَعُ عندَ أبي حنيفةَ والشافعيِّ، ومذهَبُ مالكٍ وأحمدَ: أن الطلاقَ المعلَّقَ بالمشيئةِ يقعُ؛ لكن هذا اعتقادُه أنه لا يقعُ، صار الكلامُ عندَه أنه لا يقعُ به طلاقٌ، فلم يقصِدِ التكلمَ بالطلاقِ، وإذا قصَدَ التكلمَ بكلامٍ لا يعتقدُ أنه يقعُ به طلاقٌ؛ مثلُ تكلُّمِ العجميِّ بلفظٍ لا يُفهَمُ معناه، وطلاقُ الهازلِ واقعٌ؛ لأنه قصد التكلمَ بالطلاقِ، وإن لم يقصدْ إيقاعَه، وهذا لم يقصِدْ لا هذا ولا هذا.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن قال
…
) في مجموع الفتاوى 33/ 245، والفتاوى الكبرى 3/ 320.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن أكرَهَها
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 355، والفتاوى الكبرى 3/ 322.
وهوَ يُشبِهُ ما لو رأى امرأةً، فقال: أنتِ طالقٌ، يظنُّها أجنبيةً، فبانت امرأته؛ فإنه لا يقَعُ طلاقُه على الصحيحِ. والله أعلم
(1)
.
وطلاقُ المُكرَهِ
لا يقعُ عندَ الجماهيرِ؛ كمالكٍ وأحمدَ والشافعيِّ وغيرِهم.
وإذا كان حينَ الطلاقِ قد أحاطَ به أقوامٌ يُعرَفونَ بأنهم
(2)
يُعادونه، أو يضربونَه، ولا يُمكِنُه إذ ذاك أن يدفَعَهم عن نفْسِه، وادعى أنهم أكرهوه على الطلاقِ؛ قُبِلَ قولُه، وفي تحليفِه نزاعٌ
(3)
.
إذا أراد أن يطلقَ واحدةً
؛ فسبَق لسانُه فقال: ثلاثًا؛ لم يقعْ إلا واحدةً؛ بل لو أرادَ أن يقولَ: طاهرٌ، فسبَق لسانُه: بطالقٍ؛ لم تَطلُقْ فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى
(4)
.
ولو قال: كلُّ شيءٍ أملِكُه حرامٌ عليَّ
؛ فعليه في غيرِ الزوجةِ كفارةُ ظِهارٍ.
وأما الزوجةُ:
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا
…
) في مجموع الفتاوى 33/ 238، والفتاوى الكبرى 3/ 322.
(2)
في الأصل: بأنه. والمثبت من (ك) و (ز).
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وطلاقُ المُكرَهِ
…
) في مجموع الفتاوى 33/ 110، والفتاوى الكبرى 3/ 323.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا أراد أن يطلقَ
…
) في مجموع الفتاوى 33/ 114، والفتاوى الكبرى 3/ 325.
فمذهَبُ مالكٍ: هو طلاقٌ.
ومذهبُ أبي حنيفةَ والشافعيِّ في أظهرِ قولَيْه: عليه كفارةُ يمينٍ.
ومذهَبُ أحمدَ: عليه كفارةُ ظِهارٍ؛ إلا أن ينويَ غيرَ ذلك؛ ففيه نزاعٌ، والصحيحُ: أنه لا يقعُ به طلاقٌ
(1)
.
فَصْلٌ
(2)
إذا قال الرجلُ:
الطلاقُ يلزمني لأفعَلَنَّ كذا، أو: لا أفعلُه، أو: الطلاقُ لي لازمٌ لأفعَلَنَّه، أو: إن لم أفعَلْه فالطلاقُ يلزَمُني، أو لازمٌ لي، ونحوَ هذه العباراتِ التي تتضمَّنُ التزامَ الطلاقِ، ثم حنِثَ؛ فهل يقعُ به الطلاقُ؟ فيه قولَانِ للعُلماءِ في المذاهبِ الأربعةِ وغيرِها:
أحدُهما: لا يقعُ، وهو منصوصُ أبي حنيفةَ وطائفةٍ من أصحابِ الشافعيِّ؛ كالقَفَّالِ وأبي سعيدٍ المتولِّي، وقولُ داودَ وأصحابِه كابنِ حزمٍ، وقولُ طاوسٍ، وكثيرٍ من علماءِ المغربِ المالكيةِ وغيرِهم، وقد دلَّ عليه
(3)
كلامُ الإمامِ أحمدَ المنصوصُ عنه، وأصولُ مذهبِه.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولو قال: كلُّ شيءٍ
…
) في مجموع الفتاوى 33/ 117، والفتاوى الكبرى 3/ 325.
(2)
ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 33/ 131، والفتاوى الكبرى 3/ 304.
(3)
قوله: (عليه) سقطت من الأصل، وكتب في هامشها:(لعله: عليه)، وهي مثبتة في (ك) و (ز).
ولو حلَف بالثلاثِ فقال: الطلاقُ يلزَمُني ثلاثًا لأفعَلَنَّ كذا؛ فكان طائفةٌ من السَّلَفِ والخَلَفِ من أصحابِ مالكٍ وأحمدَ وداودَ وغيرِهم يُفتُونَ: بأنه لا يقعُ الثلاثُ؛ لكنْ منهم من يُوقِعُ به واحدةً، وهذا منقولٌ عن طائفةٍ من الصحابةِ والتابعِينَ في التنجيزِ، فضلًا عن التعليقِ واليمينِ، وهذا قولُ مَن اتَّبعَهم من أصحابِ مالكٍ وأحمدَ وداودَ في التنجيزِ والتعليقِ والحَلِفِ.
ومِن السَّلَفِ طائفةٌ تُفرِّقُ بينَ المدخولِ بها وغيرِها.
والذينَ لم يُوقِعوا طلاقًا بمن قال: (الطلاقُ يلزَمُني ثلاثًا لأفعَلَنَّ كذا)، منهم: مَن لا يُوقِعُ به طلاقًا، ولا يأمُرُه بكفارةٍ. ومنهم: من يأمُرُه بالكفارةِ، وبكلٍّ مِن القولَينِ أفتى كثيرٌ من العُلَماءِ. وقد بسَطتُ أقوالَ العلماءِ وألفاظَهم، ومَن نقَل ذلك، والكتبَ الموجودَ ذلك فيها، والأدلةَ في مواضِعَ تبلغُ عدةَ مجلداتٍ
(1)
.
وهذا الخلافُ الذي ذكَرْتُه في مذهَبِ أبي حنيفةَ والشافعيِّ هو فيما إذا حلَف بصيغةِ اللزومِ؛ مثلُ: الطلاقُ يلزَمُني، والنِّزاعُ في المذهبينِ؛ سواءٌ كان مُنجَّزًا، أو معلَّقًا بشرطٍ، أو محلوفًا به، فهل ذلك صريحٌ، أو كنايةٌ، أو لا صريحٌ ولا كنايةٌ، فلا يقعُ به طلاقٌ وإن نواه؟ ثلاثةُ أقوالٍ، وفي مذهَبِ أحمدَ قولانِ، هل ذلك صريحٌ، أو كنايةٌ؟
(1)
ذكر ابن رجب في ذيل الطبقات 4/ 523، في معرض ذكره لمؤلفات شيخ الإسلام:(الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق، ثلاث مجلدات).
وأما الحلِفُ بالطلاقِ أو التطليقُ الذي يُقصَدُ به الحلِفُ؛ فالنِّزاعُ فيه عن غيرِهم بغيرِ هذه الصيغةِ، فمن قال:(إن مَن أفتى بأن الطلاقَ لا يقعُ في مثلِ هذه الصورةِ خالَفَ الإجماعَ، وخالفَ كلَّ قولٍ في المذاهبِ الأربعةِ): فقد أخطَأَ، وقَفَا ما لا علمَ له به؛ بل أجمَعَ الأربعةُ وأتباعُهم وسائرُ الأئمَّةِ: على أن مَن قضى بأنه لا يقعُ الطلاقُ في مثلِ هذه الصورِ؛ لم يَجُزْ نقضُ حكمِه، ومَن أفتى به ممن هو من أهلِ الفتوى؛ ساغ له ذلك، ولم يجُزِ الإنكارُ عليه باتِّفاقِ الأربعةِ وغيرِهم من المسلمِينَ، ولا على مَن قلَّدَه، ولو قضى أو أفتى بقولٍ سائغٍ يخرُجُ عن أقوالِ الأئمَّةِ الأربعةِ في مسائلِ الأيمانِ والطلاقِ وغيرِهما مما ثبَتَ فيه النِّزاعُ بينَ علماءِ المسلمِينَ، ولم يخالِفْ كتابًا ولا سنةً ولا معنى ذلك؛ بل كان القاضي به والمفتي به يستدلُّ عليه بالأدلةِ الشرعيةِ: فإنه يُشرَعُ له أن يحكُمَ به ويُفتِيَ به، ولا يُنقَضُ حكمُه اتفاقًا، ولا مَنْعُه من الحكمِ ولا من الفتيا، ولا منعُ أحدٍ من تقليدِه.
ومَن قال: إنه يسوغُ المنعُ من ذلك؛ فقد خالفَ إجماعَ الأئمَّةِ الأربعةِ؛ بل إجماعَ المسلمِينَ، معَ مخالفتِه للهِ ورسولِه.
فمَن قال: يجبُ اتباعُ قولِنا دونَ غيرِنا، من غيرِ أن يُقيمَ دليلًا شرعيًّا على صحةِ قولِه؛ فقد خالفَ إجماعَ المسلمِينَ، وتجبُ استتابته وعقوبتُه، كما يُعاقَبُ أمثالُه.
وكلُّ يمينٍ من أيمانِ المسلمِينَ - غيرِ اليمينِ باللهِ تعالى-؛ مثلُ: الحلِفِ بالطلاقِ، والعِتاقِ، والظهارِ، والحرامِ، والحجِّ، والمشيِ،
والصدقةِ، والصيامِ، وغيرِ ذلك: فللعُلماءِ فيه نزاعٌ معروفٌ؛ سواءٌ حلَف بصيغةِ القسمِ فقال: الحرامُ يلزَمُني، أو الطلاقُ يلزَمُني، أو العتقُ يلزَمُني، أو حلَف بصيغةِ التعليقِ فقال: إن فعلتُ كذا فعليَّ الحرامُ، ونسائي طوالقُ، أو فعبيدي أحرارٌ، أو مالي صدقةٌ، وعليَّ المشيُ إلى بيتِ اللهِ، واتَّفقَت الأئمَّةُ على أنه يسوغُ للقاضي أن يقضيَ في هذه المسائلِ جميعِها بأنه إذا حنِثَ لا يلزمُه ما حلَف به؛ بل إما ألا يجبَ عليه شيءٌ، وإما أن تجزئَه الكفارةُ، وما زال في المسلمِينَ مَن يُفتي بذلك من حينِ حدَث الحلِفُ بها، وإلى هذه الأزمنةِ؛ منهم من يُفتي بالكفارةِ، ومنهم مَن يُفتي بأنْ لا كفارةَ، ولا لزومِ المحلوفِ، كما أن منهم مَن يُفتي بلزومِ المحلوفِ. وهذه الأقوالُ الثلاثةُ في الأمةِ مَن يُفتي بها بالحلِفِ بالطلاقِ والعِتاقِ والحرامِ والنَّذْرِ.
وأما إذا حلَف بالمخلوقاتِ كالكعبةِ؛ فلا كفارةَ فيه باتِّفاقِ المسلمِينَ.
فالأيمانُ ثلاثةُ أقسامٍ:
إما الحلِفُ باللهِ؛ ففيه الكفارةُ بالاتفاقِ.
وإما الحلِفُ بالمخلوقاتِ؛ فلا كفارةَ فيه بالاتفاقِ إلا بالحلِفِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قولان في مذهَبِ أحمدَ، وقد عزا بعضُ أصحابِه ذلك إلى جميعِ النبِيِّينَ.
وأما مَا عُقِد من الأيمانِ لله، وهو هذه الأيمانُ؛ فللمسلمِينَ فيها ثلاثةُ أقوالٍ، وإن كان مِن الناسِ مَن ادَّعى الإجماعَ في بعضِها؛ فهو
مثلُ كثيرٍ من مسائلِ النِّزاعِ؛ يدَّعي الإجماعَ فيها مَن لم يعرفِ الخلافَ، ومقصودُه: أني لا أعلمُ نزاعًا، فمن علِمَ النِّزاعَ وأثبَتَه؛ كان مثبتًا عالمًا ومقدَّمًا على النافي باتِّفاقٍ، فإذا كان الصحابةُ ثبَتَ عنهم أنهم أفتوا في الحلِفِ بالعتقِ الذي هو أحبُّ إلى اللهِ من الطلاقِ؛ أنه لا يُلزَمُ الحالفُ به؛ بل تُجزِئُه كفارةٌ؛ فكيفَ يكونُ قولُهم في الطلاقِ الذي هو أبغَضُ الحلالِ إلى اللهِ؟!
وقد اتَّفقَ المسلمونَ على أن مَن حلَف بالكفرِ؛ أنه لا يلزمُه الكفرُ، وقال تعالى:{قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} .
فَصْلٌ
والألفاظُ التي يتكلَّمُ بها الناسُ
في الطلاقِ ثلاثةُ أنواعٍ:
صيغةُ التنجيزِ والإرسالِ؛ كقولِه: أنتِ طالقٌ، فهذا يقعُ به الطلاقُ، وليس بحلِفٍ، ولا كفارةَ به اتفاقًا.
الثاني: صيغةُ قسمٍ؛ كقولِه: الطلاقُ يلزَمُني لأفعَلَنَّ كذا، فهذا يمينٌ باتِّفاقِ أهلِ اللغةِ، واتفاقِ طوائفِ الفقهاءِ.
الثالثُ: صيغةُ تعليقٍ؛ كقولِه: إن فعلتُ كذا فامرأتي طالقٌ، فهذه إن قصَد به اليمينَ - وهو الذي يكرَهُ وقوعَ الطلاقِ، كما يكرَهُ الانتقالَ عن دينِه -؛ فهو يمينٌ، حكمُه حكمُ الأولِ الذي هو بصيغة القسمِ باتفاقِ الفقهاءِ.
وإن كان يريدُ وقوعَ الجزاءِ عندَ الشرطِ؛ لم يكُنْ حالِفًا؛ كقولِه: إن أعطيتِني ألفًا فأنتِ طالقٌ، وإذا زنيتِ فأنتِ طالقٌ، وقصَد إيقاعَ الطلاقِ عندَ الفاحشةِ، لا مجرَّدَ الحلِفِ عليها؛ فهذا ليس بيمينٍ، ولا كفارةَ في هذا عندَ أحدٍ من الفقهاءِ فيما علِمْناه؛ بل يقعُ به الطلاقُ.
وأما ما يُقصَدُ به الحضُّ أو المنعُ، أو التصديقُ أو التكذيبُ بالتزامِه عندَ المخالفةِ ما يكرهُ وقوعَه؛ سواءٌ كان بصيغةِ القسمِ أو الجزاءِ: يمينٌ عندَ جميعِ الخلقِ من العربِ وغيرِهم، وإذا كان يمينًا فليس لليمينِ إلا حكمانِ: إما أن تكونَ منعقدةً فتُكفَّرُ، وإما ألا تكونَ منعقدةً كالحلِفِ بالمخلوقاتِ؛ فلا تُكفَّرُ، أما يمينٌ منعقدةٌ محترمةٌ غيرُ مُكفَّرةٍ؛ فهذا حكمٌ ليس في كتابِ اللهِ ولا سنةِ رسولِه، ولا يقومُ عليه دليلٌ
(1)
.
ومَن قال: إن مَن اتَّبعَ هذه الفُتْيا
، وقلَّد؛ فوَلَدُه بعدَ ذلك وَلَدُ زِنًى؛ فإنه في غايةِ الجهلِ والضلالِ أو المُشاقَّةِ للهِ ورسولِه، فإن المسلمِينَ متفقونَ على أن كلَّ نكاحٍ اعتقدَ الزوجُ أنه سائغٌ إذا وطِئَ فيه؛ يلحَقُه فيه ولدُه، ويتوارثانِ باتِّفاقِ المسلمِينَ، وإن كان ذلك النكاحُ باطلًا في نفسِ الأمرِ، فاليهوديُّ إذا تزوجَ بنتَ أخيه؛ كان ولَدُه منها يلحَقُه ويرِثُه باتِّفاقٍ، وإن كان هذا النكاحُ باطلًا باتِّفاقٍ، وكذلك لو تزوَّجَ المسلمُ امرأةً في عِدَّتِها، ووطِئَها وهو جاهلٌ يعتَقدُها زوجتَه؛ كان ولَدُه منها يلحَقُه نسَبُه باتِّفاقِ المسلمِينَ، ومثلُ هذا كثيرٌ، فإن ثبوتَ النسبِ لا
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والألفاظُ التي يتكلَّمُ
…
) في مجموع الفتاوى 33/ 140، والفتاوى الكبرى 3/ 311، وهي تابعة للفتوى السابقة.
يفتقرُ إلى صحةِ النكاحِ؛ بل الولدُ للفراشِ.
فمَن طلَّقَ امرأتَه ثلاثًا، ثم وطِئَها لجهلِه، أو تقليدًا لمُفتٍ مخطئٍ، أو لغيرِ ذلك؛ فإنه يلحَقُه النسَبُ بالاتفاقِ، فالولدُ تابعٌ لاعتقادِ الواطئِ، مثلُ مَن غُرَّ بمملوكةٍ، أو تزوَّجَ في نكاحٍ فاسدٍ مُتفَقًا على فسادِه؛ فلا يكونُ أولادُهم أولادَ زِنًى اتفاقًا، قضى به الخلفاءُ الراشدونَ
(1)
، هذا في المجمَعِ على فسادِه، فكيفَ بالمختلفِ فيه؟!
فمَن قال ذلك؛ عُرِّفَه، فإن أصَرَّ استُتيبَ، فإن تاب وإلا قُتِل.
وكذا مَن قال: إن الفُتْيا بذلك غيرُ جائزةٍ، فهو مخالفٌ لإجماعِ المسلمِينَ؛ كما قدَّمْناه، واللهُ أعلمُ
(2)
.
(1)
لعله يشير إلى إلحاق الخلفاء الراشدين أولاد المشركين بآبائهم، قال رحمه الله في مجموع الفتاوى 34/ 15 في أثناء هذه الفتوى:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وسائر أئمة الدين ألحقوا أولاد أهل الجاهلية بآبائهم وإن كانت محرمة بالإجماع؛ ولم يشترطوا في لحوق النسب أن يكون النكاح جائزًا في شرع المسلمين).
روى مالك في الموطأ (2/ 740)، عن سليمان بن يسار: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن قال: إن مَن اتَّبعَ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 13، والفتاوى الكبرى 3/ 325.
فَصْلٌ
الذي عليه أئمةُ المسلمِينَ:
أنه ليس على أحدٍ ولا شُرِع له التزامُ قولِ شخصٍ معينٍ في كلِّ ما يوجبُه ويُحرِّمُه ويُبيحُه؛ إلا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
لكن منهم مَن يقولُ: على المستفتي أن يُقلِّدَ الأعلمَ الأوْرَعَ ممن يمكنُ استفتاؤُه. ومنهم من يقول: بل يتخيرُ بينَ المفتينَ.
وإذا كان له نوعُ تمييزٍ؛ فقد قيلَ: يتبع أيَّ القولَينِ أرجحَ عندَه بحسَبِ تمييزِه، فإن هذا أولى من التخييرِ المُطلَقِ.
وقيلَ: لا يجتهدُ إلا إذا صار من أهلِ الاجتهادِ، والأولُ أشبهُ.
فإذا ترجَّح عندَ المستفتي أحدُ القولَينِ؛ إما لرُجْحانِ دليلِه بحسَبِ تمييزِه، وإما لكونِ قائِلِه أعلمَ وأورعَ: فله ذلك، وإن خالفَ قولُه المذهبَ
(1)
.
وليس تطليقُ المرأةِ
من بِرِّ الأمِّ إذا طلَبَتْه منه.
ومَن قال:
إن أبرأتِيني طلَّقْتُكِ، فقالت: أبرأتُكَ، فلم يُطلِّقْها؛ لم يصِحَّ الإبراءُ، فإن هذا إيجابٌ وقبولٌ لما تقدَّمَ من الشروطِ، ودلالةُ الحالِ والتقديرُ: أبرأتُكَ بشرط أن تطلِّقَني، فالشرطُ المتقدِّمُ على العقدِ كالمقارنِ.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (الذي عليه أئمةُ المسلمِينَ
…
) في مجموع الفتاوى 33/ 168، والفتاوى الكبرى 3/ 329.
كِتَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَالخُلْعِ
إذا أُكرِه الزوجُ على الفُرقةِ بحقٍّ
؛ مثلُ أن يكونَ مقصِّرًا في واجباتِها، أو مُضرًّا لها بغيرِ حقٍّ من قولٍ أو فعلٍ؛ كانت الفرقةُ صحيحةً.
وإن كان أُكره بغيرِ حقٍّ؛ بالضربِ والحبسِ، وهو محسنٌ لعشرتِها؛ لم تقعِ الفرقةُ؛ بل إذا أبغَضَتْه، وهو محسنٌ إليها، يُطلَبُ منه الفرقةُ من غيرِ أن يُلزَمَ بذلك، فإن فعَل، وإلا أُمِرتِ المرأةُ بالصبرِ إذا لم [يكُنْ]
(1)
ما يبيحُ الفسخَ
(2)
.
والخُلْعُ الذي جاءَتْ به السُّنَّةُ:
أن تكونَ المرأةُ مبغِضةَ الرجلِ، فتَفْتدي نفْسَها؛ كالأسيرِ، أما إذا كان كلٌّ منهما مريدًا لصاحبِه فالخُلْعُ مُحدَثٌ في الإسلامِ
(3)
.
ويحرمُ على المرأةِ
ألا تطيعَ زوجَها إلى فراشِه، بل تُقدِّمَ القيامَ والصَّلاةَ والصيامَ؛ بل الواجبُ أن تجيبَه إلى فراشِه إذا طلَبَها؛ حتى ثبَتَ في البخاريِّ: «أنه لا يحِلُّ لها الصومُ وزوجُها شاهدٌ إلا بإذنِه، ولا تَأذَنُ
(1)
في النسخ الخطية: (يمكن)، والتصحيح من مجموع الفتاوى 32/ 283.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا أُكرِه الزوجُ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 282، والفتاوى الكبرى 3/ 334.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والخُلْعُ الذي
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 282، والفتاوى الكبرى 3/ 334.
في بيتِه إلا بإذنهِ»
(1)
، فإذا حرُمَ عليها الصومُ إذا كان شاهِداً إلا بإذنِه؛ لأنه يمنَعُها عن بعضِ ما يجبُ للزوجِ، فكيفَ يكونُ حالُها إذا طلَبَها فامتنعَتْ، وقالَ تعالى:{فالصالحات قانتات حافظات للغيب} ، فالصالحةُ هي التي تكونُ قانتةً؛ أي: مداومةً على طاعةِ زوجِها، فإذا امتنعَتْ من فراشِه أُبِيحَ له ضربُها، وليس عليها حقٌّ بعدَ حقِّ اللهِ ورسولِه أوجبَ من حقِّ الزوجِ، وقد قال:«لو كنتُ آمِرًا أحدًا أن يسجُدَ لأحدٍ، لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجِها» ، رواه الترمذيُّ وحسَّنَه
(2)
، وقال:«أيُّما امرأةٍ ماتَتْ وزوجُها راضٍ عنها دخلَتِ الجنةَ» ، رواه الترمذيُّ، وحسَّنَه
(3)
، وقال:«إذا دعا الرجلُ المرأةَ إلى فراشِه فأبَتْ؛ لعنَتْها الملائكةُ حتى تصبحَ»
(4)
، وفي لفظٍ:«إلا كان الذي في السماءِ ساخطًا عليها حتى تصبحَ»
(5)
(6)
.
وإذا خالَعَها على أن تُبرِئَه من حقوقِها
، وتأخُذَ الولدَ بكفالتِه، ولا تطالبَه بنفقتِه؛ صحَّ ذلك عندَ جماهيرِ العلماءِ؛ كمالكٍ وأحمدَ في المشهورِ عنه وغيرِهما، فإن عندَ الجمهورِ: يصِحُّ الخُلْعُ بالمعدومِ الذي
(1)
رواه البخاري (5195) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه الترمذي (1159) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه أحمد (21986) وابن ماجه (1853) من حديث معاذ رضي الله عنه، وأبو داود (2140) من حديث قيس بن سعد رضي الله عنه.
(3)
رواه الترمذي (1161)، وابن ماجه (1854) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(4)
رواه البخاري (5193)، ومسلم (1436) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
رواه مسلم (1436 - 121) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويحرمُ على المرأةِ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 274، والفتاوى الكبرى 3/ 334.
يُنتظَرُ وجودُه ووجوبُه، كما تحملُ أَمَتُها أو شجَرتُها.
وأما نفقةُ حملِها ورَضاعُ ولدِها ونفقتُه؛ فقد انعقدَ سببُ وجوبِه
(1)
وجوازِه.
وكذلك إذا قالت: طلِّقْني وأنا أُبرِئُكَ من حقوقي، وآخُذُ الولدَ بكفالتِه، ونحوَه مما يدلُّ على المقصودِ.
وإذا خالَعَ بينَهما مَن يرى صحةَ ذلك؛ كالحاكمِ المالكيِّ؛ لم يجُزْ لغيرِه أن ينقضَه وإن رآه فاسدًا، ولا يجوزُ أن يَفرضَ عليه بعدَ هذا نفقةَ الولدِ؛ لأن فعلَ الحاكمِ حكمٌ في الصحيحِ، والحاكمُ متى عقد عقدًا أو فسخ فسخًا جاز فيه الاجتهادُ؛ لم يكُنْ لغيرِه نقضُه
(2)
.
فَصْلٌ
يجبُ العدلُ بينَ زوجتيه باتِّفاقِ المسلمِينَ
، وفي السننِ الأربعةِ عن أبي هُرَيرةَ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«مَن كانت لهُ امرأتانِ، فمال إلى إحداهما دونَ الأخرى؛ جاء يومَ القيامةِ وأحدُ شِقَّيْه مائلٌ»
(3)
.
فعليه العدلُ في القَسْمِ؛ لكن إن أحبَّ إحداهما أكثرَ، أو وطِئَها
(1)
هكذا في النسخ الخطية، والذي في أصل الفتوى من مجموع الفتاوى والفتاوى الكبرى:(وجوده).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا خالَعَها على
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 353، والفتاوى الكبرى 3/ 336.
(3)
رواه أحمد (7936)، وأبو داود (2133)، والترمذي (1141)، والنسائي (3942)، وابن ماجه (1969) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أكثرَ؛ فلا حرَجَ عليه، وفيه أُنزِلَ:{ولن تستطيعوا أن تعدلوا بينَ النساء ولو حرصتم} ؛ أي: في الحبِّ والجماعِ، وفي السننِ أنه صلى الله عليه وسلم كان يقولُ بعدَ عدلِه في القَسْمِ:«اللهُمَّ هذا قَسْمي فيما أملكُ، فلا تُؤاخِذني فيما تملكُ ولا أملكُ»
(1)
؛ يعني: القلبَ.
وأما العدلُ في الكُسوةِ والنفقةِ؛ فهو السُّنَّةُ.
وتَنازَعوا في وجوبِ العدلِ في النفقةِ، ووجوبُه أقوى.
وهذا العدلُ مأمورٌ به ما دامتْ زوجةً، فإن أرادَ أن يُطلِّقَ إحدَاهما؛ فله ذلك.
فإن اصطلَحَ هو والتي يريدُ طلاقَها على أن تقيمَ عندَه بلا قَسْمٍ، وهي راضيةٌ بذلك؛ جاز لقولِه تعالى:{فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير} ، فقد وهبَتْ سَوْدةُ يومَها لعائشةَ
(2)
، وكذلك رافعُ بنُ خَديجٍ جرى له ذلك، ويقالُ: إن الآيةَ نزَلتْ فيه
(3)
.
وإذا نشَزتْ
؛ فلا نفقةَ ولا سُكْنى، وله ضربُها إذا نشَزتْ، أو آذَتْه واعتدَتْ عليه
(4)
.
(1)
رواه أحمد (25111)، وأبو داود (2134)، والترمذي (1140)، والنسائي (3943)، وابن ماجه (1971) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (2593).
(3)
رواه الحاكم (3205)، والبيهقي (14731).
وينظر أصل الفتوى من قوله: (يجبُ العدلُ بينَ زوجتيه
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 269، والفتاوى الكبرى 3/ 148.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا نشَزتْ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 279، والفتاوى الكبرى 3/ 337.
ويجبُ أن يعاشِرَها بالمعروفِ
، فإن تعذَّرَ ذلك وامتنعَ من المعاشرةِ بالمعروف؛ فُرِّقَ بينَهما
(1)
.
فَصْلٌ
رُوِي أن رجلًا قال:
«يا رسولَ اللهِ، إن امرأتي لا ترُدُّ كفَّ لامِسٍ»
(2)
، وهو حديثٌ ضعيفٌ، ضعَّفَه أحمدُ وغيرُه.
وتأوَّلَه بعضُ الناسِ: على أنها لا ترُدُّ طالبَ مالٍ، وسياقُه وظاهرُه يدلُّ على خلافِ ذلك.
ومِن الناسِ مَن اعتقدَ ثبوتَه، وأنه أُمِرَ أن يُمسِكَها معَ كونِها لا تمنعُ الرجالَ، وهذا مما أنكَرَه غيرُ واحدٍ من الأئمَّةِ، فإن اللهَ تعالى قال:{الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} ، وقال: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات
…
} إلى قولِه: {محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان} ، فإنما أباحَ نكاحَ الإماءِ في حالِ كونِهنَّ غيرَ مُسافِحاتٍ، ولا مُتخِذاتِ أخدانٍ، والمسافِحةُ: التي تُسافِحُ معَ كلِّ أحدٍ، والمتخذةُ الخِدْنِ: التي يكونُ لها صديقٌ واحدٌ.
وقال: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذينَ أوتوا الكتاب من قبلكم
…
}
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجبُ أن يعاشِرَها
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 168، والفتاوى الكبرى 3/ 150.
(2)
رواه أبو داود (2049)، والنسائي (3229) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
إلى: {محصنين غير مسافحين} ، فاشترَطَ هذه الشروطَ في الرجالِ هنا، كما اشتَرَطه في النساءِ هناك، وهو موافقٌ لقولِه: {الزاني لا ينكح إلا زانية
…
} الآيةَ.
وقد تنازَعَ العلماءُ في جوازِ نكاحِ الزانيةِ قبلَ توبتِها على قولَينِ، الأَوْلَى: أنه لا يجوزُ، فإنه متى تزوَّجَ زانيةً؛ لم يكُنْ ماؤُه مَصونًا محفوظًا؛ بل مختلطًا بماءِ غيرِه، والفرجُ الذي يطَؤُه مشتركًا؛ وهذا هو الزنى، والمرأةُ إذا كان زوجُها يزني بغيرِها لا يميزُ بينَ الحلالِ والحرامِ؛ كان وَطْؤُه لها من جنس وَطْءِ الزاني للمرأةِ التي يزني بها، وإن لم يَطَأْها غيرُه.
ومِن صورِ الزنى: اتخاذُ الأخدانِ.
ومَن تزوَّجَ بَغِيًّا؛ كان دَيُّوثًا بالاتفاقِ، ولا يدخُلُ الجنةَ دَيُّوثٌ، وإذا كانت المرأةُ خبيثةً؛ كان زوجُها خبيثًا، وإذا كان قرينُها خبيثًا؛ كانت خبيثةً، وبهذا عظُمَ القولُ فيمن قذَف عائشةَ أو غيرَها من أمهاتِ المؤمنينَ، ولهذا قال السَّلَفُ:(ما بغَتِ امرأةُ نبيٍّ قطُّ)، فليس في الأنبياءِ ولا الصالحينَ مَن تزوَّجَ بَغِيًّا؛ لأن ضررَ البغيِّ يتعدَّى إلى إفسادِ فراشِه، بخلافِ الكفرِ؛ فإنه لا يتعدَّى
(1)
.
وليس للزوجِ أن يُسكِنَها حيثُ شاء
، ولا يخرجُ بها حيثُ شاء؛ بل يسكُنُ بها في مسكنٍ يصلُحُ لمثلِها، ولا يخرُجُ بها إلى عند أهلِ الفجورِ؛ بل ليس له أن يعاشِرَ الفجارَ على فجورِهم، ومتى فعل ذلك؛
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (رُوِي أن رجلًا
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 143، والفتاوى الكبرى 3/ 150.
وجَب أن يُعاقَبَ عقوبةً تردَعُه
(1)
.
ولا يحِلُّ للرجلِ
أن يعضُلَ المرأةَ، ويُضيِّقَ عليها حتى تُعطِيَه بعضَ الصَّداقِ؛ لكن إذا أتَتْ بفاحشةٍ مبينةٍ؛ كان له أن يعضُلَها؛ لتفتديَ نفْسَها منه، وله أن يضرِبَها، هذا فيما بينَ الرجلِ وبينَ اللهِ، وأهلُ المرأةِ يكشفونَ الحقَّ معَ مَن هو، فيُعينونَه عليه، فإن كانت مُتعدِّيةً؛ بأن راحت إلى عندَ مَن به رِيبةٌ؛ فهي ظالمةٌ له، ومن تابَتْ جاز له إمساكُها، وصُلْحُها خيرٌ، فإن التائبَ كمن لا ذنبَ له
(2)
.
فَصْلٌ
إذا قال لامرأةٍ:
كلَّما حَلَلْتِ لي حرُمْتِ عليَّ؛ لا تحرمُ عليه، لكن فيها قولانِ:
أحدُهما: أنَّ له أن يتزوَّجَها، ولا شيءَ عليه.
والثاني: عليه كفارةٌ؛ إما ظِهارٌ في قولٍ، وإما كفارةُ يمينٍ في آخَرَ.
وإنما يقولُ بوقوعِ الطلاقِ بمثلِ هذه؛ مَن يُجوِّزُ تعليقَ الطلاقِ على النكاحِ؛ كأبي حنيفةَ ومالكٍ، أما الشافعيُّ وأحمدُ فعندَهما لو قال: كلما تزوَّجْتُكِ فأنتِ طالقٌ؛ لم يقَعْ به طلاقٌ، فكيفَ في الحرامِ؟! لكن
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وليس للزوجِ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 264، والفتاوى الكبرى 3/ 153.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يحِلُّ للرجلِ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 283، والفتاوى الكبرى 3/ 154.
أحمدَ يُجوِّزُ في المشهورِ عنه الظِّهارَ قبلَ الملكِ، بخلافِ الشافعيِّ
(1)
.
ومَن قال عن زوجتِه:
هي مثلُ أمي، أو هي عندي كأمي، وأرادَ أنها: مثلُ أمي؛ أنها تستُرُ عليَّ، فلا تهتِكُني، ولا تلومُني، كما تفعلُ الأمُّ معَ ولدِها؛ فإنه يُؤدَّبُ على هذا القولِ، ولا تحرمُ عليه امرأتُه، فإن عمرَ سمع رجلًا يقولُ لامرأتِه: يا أختي، فأدَّبَه
(2)
، وإن كان جاهلًا لم يُؤدَّبْ على ذلك.
وإن أرادَ: أنها عندي مثلُ أمي؛ أي: في الامتناعِ من وطئِها؛ فهو مُظاهِرٌ.
ولو قال: إن بقيتُ أنكِحُكِ أنكحُ أمي تحتَ ستورِ الكعبةِ؛ فهو مُظاهِرٌ
(3)
.
وإذا قالت الزوجةُ:
أنتَ عليَّ حرامٌ كأبي وأمي؛ فعليها كفارةُ الظِّهارِ
(4)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا قال لامرأةٍ:
…
) في مجموع الفتاوى 33/ 246، والفتاوى الكبرى 3/ 339.
(2)
لم نجده موقوفًا عن عمر رضي الله عنهما، وقد رواه أبو داود (2210) عن أبي تَميمة الهُجَيمي، أن رجلًا قال لامرأته: يا أُخيَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أختك هي؟» ، فكره ذلك ونهى عنه.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن قال عن زوجتِه:
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 6، والفتاوى الكبرى 3/ 339.
(4)
قوله: (كفارة) سقطت من الأصل. وهي مثبتة في (ز) و (ع)، وموافق لمجموع الفتاوى.
وينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا قالت الزوجةُ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 9، والفتاوى الكبرى 3/ 341.
كِتَابُ العِدَدِ
المرضِعةُ تبقى في العدةِ
حتى تحيضَ ثلاثَ حيضٍ، فإن أحبَّتْ أن تسترضعَ لولدِها لتحيضَ، أو تشربَ ما تحيضُ به؛ فلها ذلك، واللهُ أعلمُ
(1)
.
ولا يجوزُ التصريحُ
بخِطبةِ المعتدةِ باتِّفاقِ المسلمِينَ، ومَن فعل ذلك؛ عوقِبَ، ويزجرُ عن التزويجِ بها معاملةً بنقيضِ قصدِه
(2)
.
ومَن أَخبرتْ بانقضاءِ عِدَّتِها
، ثم أتتْ بولدٍ لستةِ أشهرٍ فصاعدًا، أو لدونِ مدةِ الحملِ؛ فهل يلحقُ الزوجَ؟ على قولَينِ، مذهَبُ أحمدَ وأبي حنيفةَ: أنه لا يلحَقُ.
هذا إذا لم تتزوجْ، فأما إذا تزوجتْ بعدَ إخبارِها بانقضاءِ العدةِ، ثمَّ أتتْ بولدٍ لأكثرَ مِن ستةِ أشهرٍ؛ فلا يلحقُ نسَبُه بالأولِ قولًا واحدًا.
وتأخُّرُ الدعوى الممكنةِ في مسائلِ الجَوْرِ ونحوِها؛ يدلُّ على كذِبِه
(3)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (المرضعةُ تبقى
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 22، والفتاوى الكبرى 3/ 343.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يجوزُ التصريحُ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 8، والفتاوى الكبرى 3/ 343.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن أخبرتْ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 11، والفتاوى الكبرى 3/ 344.
ومن أقَرَّ أنه طلَّق زوجتَه
من مدةٍ تزيدُ على العدةِ الشرعيةِ، وكان المقِرُّ فاسقًا، أو مجهولًا؛ لم يُقبَلْ قولُه في إسقاطِ العدةِ؛ إذ فيه حقٌّ للهِ، فلا تُزوَّجُ إلا بعدَ العدةِ.
وأما إن كان عدلًا غيرَ مُتَّهَمٍ، مثلُ أن كان غائبًا، فلما حضر أخبَرَها أنه طلَّق من مدةِ كذا وكذا؛ فهل تعتَدُّ من حينِ بلَغَها الخبرُ إذا لم يُقِمْ بذلك بينةً؟ أو من حينِ الطلاقِ، كما لو قامتْ به بينةٌ؟ فيه خلافٌ عن أحمدَ وغيرِه، والمشهورُ الثاني
(1)
.
المطلقةُ ثلاثًا أجنبيةٌ من الزوجِ
، ولا يجوزُ أن يُواطِئَها على أن تَزَّوَّجَ غيرَه، ثم تطلِّقَه وترجعَ إليه، ولا يجوزُ أن يُعطِيَها نفقةً
(2)
.
ثم لو تزوجتْ غيرَه النكاحَ الصحيحَ المعروفَ، ثم مات زوجُها أو طلَّقَها؛ لم يجُزْ للأولِ أن يخطُبَها في العدةِ صريحًا باتِّفاقِ المسلمِينَ، فكيف إذا كانت في عِصمةِ زوجِها؟ فكيف إذا كان الرجلُ لم يتزوجْها بعدُ؛ تَواعَدَ على [أن]
(3)
تتزوجَه ثم تُطلِّقَه، ثم يتزوجَ بها المواعِدُ؛ هذا حرامٌ باتِّفاقِ المسلمين؛ سواءٌ قيلَ: يصحُّ نكاحُ المُحلِّلِ، أو قيلَ: لا
(4)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن أقَرَّ أنه
…
) في الفتاوى الكبرى 3/ 347.
(2)
أي: يعطيها نفقة لتتزوج غيرَه ثم تطلقه، كما في أصل الفتوى.
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من النسخ الخطية، والتصحيح من مجموع الفتاوى 32/ 12.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (المطلقةُ ثلاثًا أجنبيةٌ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 11، والفتاوى الكبرى 3/ 347.
ولا تحِلُّ المطلقةُ ثلاثًا
إلا بوَطْءٍ في القُبُلِ من زوجٍ، أما في الدُّبُرِ فلا يُحِلُّها.
وما يُذكَرُ عن بعضِ المالكيةِ؛ فهم يطعنونَ في كونِه قولًا.
وما يُذكَرُ عن ابنِ المسيِّبِ من عدمِ اشتراطِ الوَطْءِ؛ فذاك لم يذكَرْ فيه وَطْءُ الدُّبُرِ، وهو قولٌ شاذٌّ، صحَّتِ السُّنَّةُ بخلافِه
(1)
، وانعقد الإجماعُ قبلَه وبعدَه
(2)
.
وليس للمرأةِ
أن تسافرَ في عدةِ الوفاةِ إلى الحجِّ في مذهَبِ الأربعةِ
(3)
.
ومن طلَّق ثلاثًا
، وألزَمَها بوفاءِ العدةِ في مكانِها، فخرجَتْ منه قبلَ أن تُوفيَ؛ فلا نفقةَ لها، وليس لها أن تطالبَ بنفقةِ الماضي في مثلِ هذه العدةِ في مذهَبِ الأربعةِ
(4)
.
(1)
رواه البخاري (2639)، ومسلم (1433)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه:«أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» .
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا تحِلُّ المطلقةُ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 109، والفتاوى الكبرى 3/ 156.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وليس للمرأةِ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 29، والفتاوى الكبرى 3/ 157.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن طلَّق ثلاثًا
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 99، والفتاوى الكبرى 3/ 349.
كِتَابُ الرَّضَاعِ
حديثُ عائشةَ:
«يحرُمُ من الرَّضاعِ ما يحرُمُ من النَّسَبِ»
(1)
حديثٌ صحيحٌ، مُتلقًّى بالقبولِ، متفَقٌ على صحتِه، وفي لفظٍ آخَرَ:«يحرُمُ من الرضاعةِ ما يحرُمُ من الولادةِ»
(2)
.
وقد استثنى بعضُ الفقهاءِ المتأخِّرينَ من عمومِه صورتينِ، وبعضُهم أكثرَ، وهذا خطأٌ؛ لا يحتاجُ أن يُستثنَى منه شيءٌ؛ لأن الولدَ إذا ارتضَعَ خمسَ رَضَعاتٍ؛ صارَتِ المرأةُ أمَّه، وزوجُها صاحبُ اللبنِ أباه، فصار ابنًا لكلِّ واحدٍ منهما من الرضاعةِ، وحينئذٍ فيكونُ جميعُ أولادِ المرأةِ من هذا الرجلِ ومن غيرِه، وجميعُ أولادِ الرجلِ منها ومن غيرِها؛ إخوةً له؛ سواءٌ وُلِدوا قبلَ الرضاعةِ أو بعدَها باتِّفاقِ الأئمَّةِ، وأولادُ أولادِهما؛ أولادُ إخوتِه، فلا يجوزُ للمرتضعِ أن يتزوجَ أحدًا من هؤلاءِ، وإخوةُ المرأةِ وأخواتُها؛ أخوالُه وخالاتُه، وأباها وأمَّها؛ أجدادُه وجَداتُه، وإخوةُ الرجلِ وأخواتُه كذلك؛ أعمامُه وعَمَّاتُه، وأبو الرجلِ وأمُّه؛ جَدَّه وجَدَّتُه؛ لكن يتزوجُ بأولادِ أعمامِه وعماتِه، وأولادِ الأخوالِ والخالاتِ؛ كالنسَبِ سواءً، فهؤلاءِ الأصنافُ الأربعةُ هم من
(1)
رواه مسلم (1445)، ورواه البخاري (2645) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
رواه البخاري (5239)، ومسلم (1444) من حديث عائشة رضي الله عنها.
النسَبِ مباحاتٌ، فكذا من الرضاعةِ.
وإذا كان المرتضِعُ ابنًا للمرأةِ ولزوجِها؛ فأولادُه أولادُ أولادِهما، ويحرُمُ على أولادِه ما يحرُمُ على الأولاد من النسبِ، فهذه الجهاتُ الثلاثُ منها تنتشر حرمةُ الرضاعِ.
وأما إخوةُ المرتضِعِ من النسَبِ، وأبوه من النسَبِ، وأمُّه من النسَبِ؛ فهم أجانبُ أبيه
(1)
وأمِّه وإخوتِه من الرضاعِ، ليس بينَ هؤلاءِ وهؤلاء صلةٌ؛ لا بنسبٍ ولا رضاعٍ؛ لأن الرجلَ يمكنُ أن يكونَ له أخٌ من أبيه، وأخٌ من أمِّه، ولا نسَبَ بينَهما؛ بل يجوزُ لأخيه من أبيه أن يتزوجَ أخاه من أمِّه، فكيفَ إذا كان له أخٌ من النسبِ وأختٌ من الرضاعِ، فيجوزُ لهذا أن يتزوجَ هذا، وبالعكسِ.
وبهذا تزولُ الشبهةُ التي تعرِضُ لبعضِ الناسِ، فإنه يجوزُ للمرتضِعِ أن يتزوجَ أخوه من الرضاعةِ بأمِّه من النسبِ، كما يتزوجُ بأختِه من النسبِ، ويجوزُ لأخيه مِن النسبِ أن يتزوجَ أختَه من الرضاعةِ، وهذا لا نظيرَ له في النسبِ، فإن أخا الرجلِ من النسبِ لا يتزوجُ بأمِّه من النسبِ، أما أن تكونَ بنتَ ابنِه، أو رَبيبةَ ابنِه - والرجلُ تحرُمُ عليه بنتُه وربيبتُه-؛ فحرُمتْ على أبيه بهذا الطريقِ، وأختُه من الرضاعِ؛ ليست بنتَ أبيه من النسبِ، ولا ربيبتَه، فجاز أن تتزوجَ به.
فمَن لا يحقِّقُ يقولُ: يحرمُ من النسبِ على أخي أن يتزوجَ أمي،
(1)
في الأصل: (ابنه)، وهو خطأ، والمثبت من (ك) و (ع).
ولا يحرمُ مثلُ هذا في الرضاعِ، وهذا غلَطٌ منه؛ فإن نظيرَ المحرَّمِ بالنسبِ؛ أن تتزوجَ أختُه أو أخوه من الرضاعةِ بابنِ هذا الأخِ أو بأمِّه من الرضاعةِ، كما لو ارتضَعَ هو وآخَرُ من امرأةٍ، واللبنُ للفحلِ، فإنه يحرمُ على أختِه من الرضاعةِ أن تتزوجَ أخاه وأختَه من الرضاعةِ؛ لكن لكونِهما أخوَينِ للمرتضِعِ، ويحرمُ عليهما أن يتزوجا أباه وأمَّه من الرضاعةِ؛ لكونِهما ولدَيْهما من الرضاعةِ، لا لكونِهما أخوَيْ ولَدهما.
فمَن تدبَّرَ هذا ونحوَه؛ زالتْ عنه الشبهةُ.
وأما رَضاعُ الكبيرِ؛ فإنه لا يُحرِّمُ في مذهَبِ الأربعةِ
(1)
، وفيمن رضَعَ قريبًا من الحولينِ نزاعٌ؛ مذهبُ الشافعيِّ وأحمدَ: أنه لا يحرِّمُ
(2)
.
فأما الرجلُ الكبيرُ والمرأةُ الكبيرةُ؛ فلا يحرُمُ أحدُهما على الآخَرِ برضاعِ القرائبِ؛ مثلُ: أن تُرضِعَ زوجتُه لأخيه من النسبِ؛ فلا تحرمُ عليه زوجتُه؛ لما تقدَّمَ من أنه يجوزُ له أن يتزوجَ بالتي هي أختُه من الرضاعةِ لأخيه من النسبِ؛ إذ ليس بينَه وبينَها صلةٌ ولا رَضاعٌ، إنما حرُمتْ على أخيه؛ لأنها أمُّه من الرضاع، وليست أمَّ نفْسِه من الرضاعِ،
(1)
ذكر شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 34/ 60: أن طائفة من السلف والخلف ذهبوا إلى أن إرضاع الكبير يحرم، وذكر أنه يجوز إن احتيج إلى جعله ذا محرم، ثم قال:(وهذا قول متوجه). وفي الاختيارات للبعلي ص 408: (ورضاع الكبير تنتشر به الحرمة بحيث يبيح الدخول والخلوة إذا كان قد تربى في البيت، بحيث لا يحتشمون منه للحاجة).
(2)
واختار شيخ الإسلام أن الرضاع بعد الفطام لا ينشر الحرمة وإن كان دون الحول. ينظر: الاختيارات للبعلي ص 408.
وأمُّ المرتضِعِ من الرضاعِ؛ لا تكونُ أمًّا لإخوتِه من النسبِ؛ لأنها إنما أرضعَتِ الرضيعَ، ولم تُرضِعْ غيرَه.
نعم، لو كان للرجلِ نسوةٌ يطَؤُهُنَّ، وأرضعَتْ كلُّ واحدةٍ؛ هذه طفلًا، وهذه طفلًا؛ لم يجُزْ أن يتزوجَ أحدُهما الآخَرَ، ولهذا لما سُئِلَ ابنُ عبَّاسٍ عن ذلك؟ فقال:«اللِّقَاحُ وَاحِدٌ»
(1)
.
ولو كان أخوه من النسبِ ابنَ زوجتِه؛ حرُمتْ عليه زوجتُه؛ لأنها [أمُّه، أو امرأة أبيه]
(2)
، وكلاهما حرامٌ.
وأمَّا أمُّ أخيه من الرضاعةِ؛ فليست أمَّه، ولا امرأةَ أبيه؛ لأن زوجَها صاحبَ اللبنِ؛ ليس أبًا لهذا، لا نسبًا ولا رَضاعًا.
فإذا قال القائل: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «يحرُمُ من الرَّضاعِ ما يحرُمُ من النسَبِ» ، وأمُّ أختِه من النسَبِ؛ حرامٌ عليه، فكذا من الرَّضاعِ.
قلنا: هذا تلبيسٌ وتدليسٌ، فإنه تعالى لم يقُلْ:«حُرِّمتْ أمَّهاتُ أخَواتِكم» ، وإنما قال:{حرمت عليكم أمهاتكم} ، {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} ، فحرَّمَ أمَّه، ومَنكوحةَ أبيه وإن لم تكُنْ أمَّه، وهذه تحرمُ من الرضاعةِ، فلا يتزوجُ أمَّه من الرضاعةِ، وأمَّا منكوحةُ أبيه من الرضاع؛ فالمشهورُ عندَ الأئمَّةِ: أنها
(1)
رواه مالك في الموطأ 2/ 602، وعبدالرزاق (13942).
(2)
في النسخ الخطية: (أمُّ أمِّه، وأمُّ امرأةِ أبيه) والتصويب من مجموع الفتاوى 34/ 40.
تحرمُ؛ لكنْ فيها نزاعٌ
(1)
؛ لكونِها من المحرماتِ بالصهرِ، لا بالنسبِ والولادةِ، وليس الكلامُ هنا في تحريمِها، فإنه إذا قيلَ: تحرمُ منكوحةُ أبيه من الرَّضاعِ؛ وفَّيْنا بعمومِ الحديثِ، وأما أمُّ أخي التي ليست أمًّا ولا منكوحةَ أبٍ؛ فهذه لا توجدُ في النسبِ، فلا يجوزُ أن يقالَ: تحرمُ من النسبِ فلا يحرمُ نظيرُها من الرَّضاعةِ، فتبقى أمُّ الأمِّ من النسبِ لأخي من الرضاعةِ، أو الأمُّ من الرضاعةِ لأخي من النسبِ؛ لا نظيرَ لها من الولادةِ، فلا تحرمُ، وهذا مُتَّفَقٌ عليه بينَ المسلمِينَ
(2)
.
وغسلُ عينَيْه بلبنِ امرأتِه
؛ فيجوزُ، ولا تحرمُ عليه بذلك؛ لأنه كبيرٌ، وأيضًا فلا تنتشرُ الحرمةُ بوضعِ اللبنِ في العينِ بلا نزاعٍ
(3)
.
وإذا كانت الأمُّ معروفةً بالصدقِ
، فذكَرتْ أنها أرضَعتْ زوجَ بنتِها؛ فُرِّقَ بينَهما في أصَحِّ قولَيِ العلماءِ.
وأما إذا شكَّ في صِدْقِها، أو في عددِ الرَّضَعاتِ؛ فإنها تكونُ من الشبهاتِ؛ تَرْكُها أَوْلى، ولا يُحكَمُ بالتفريقِ بينَهما إلا بحجةٍ.
(1)
واختار شيخ الإسلام أنهن لا يحرمن، وقال في الاختيارات للبعلي ص 308:(وتحريم المصاهرة لا يثبت بالرضاع، فلا يحرم على الرجل نكاح أم زوجته وابنتها من الرضاع، ولا يحرم على المرأة نكاح أبي زوجها وابنه من الرضاع) وينظر: الفروع 8/ 236.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (حديث عائشة:
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 36، والفتاوى الكبرى 3/ 185.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وغسلُ عينَيْه
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 55، والفتاوى الكبرى 3/ 162.
وإذا رجعَتْ عن الشهادةِ قبلَ التزويجِ؛ لم تحرُمِ الزوجةُ؛ لكن إن عُلِم أنها كاذبةٌ، وأنها كتمَتِ الشهادةَ؛ لم يحِلَّ التزويجُ
(1)
.
وله مَنْعُ الزوجةِ
من رضاعِ غيرِ ولَدِها.
والقطُّ إذا صال
على مالِه؛ فله دفعُه عن ذلك ولو بالقتلِ، وله رَمْيُه بمكانٍ بعيدٍ، فإن لم يمكنْ إلا بالقتلِ؛ قُتِلَ.
وأما النملُ؛ فيُدفَعُ ضَرَرُه بغيرِ التحريقِ
(2)
.
وإذا كان الأبُ عاجزًا
عن أجرةِ الاسترضاعِ، وامتنعَتِ الأمُّ عن الإرضاعِ إلا بأجرةٍ؛ فله أن يسترضِعَ غيرَها، لأنه لا يجبُ عليه ما لا يقدرُ عليه
(3)
.
وإذا كانت المرضِعةُ
[ذات عدالةٍ]
(4)
؛ قُبِلَ قولُها، وفي تحليفِها نزاعٌ
(5)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا كانت الأمُّ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 52، والفتاوى الكبرى 3/ 163.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وله مَنْعُ الزوجةِ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 273، والفتاوى الكبرى 3/ 164.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا كان الأبُ
…
) في الفتاوى الكبرى 3/ 166.
(4)
في النسخ الخطية: ذا عدل. والصواب المثبت
(5)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا كانت المرضِعةُ
…
) في مجموع الفتاوى 35/ 412، والفتاوى الكبرى 4/ 213.
كِتَابُ النَّفَقَاتِ
إذا تسلَّمَ الزوجُ المرأةَ التسليمَ الشرعيَّ
، هو أو أبوه أو نحوُهما، وأطعَمَها كما جرَتِ به العادةُ؛ لم يكُنْ لأبيها أن يدَّعِيَ بالنفقةِ، وأنه لم يأذنْ، وأنها تحتَ حِجْرِه، وإن كان قد توهَّم ذلك، وقاله طائفةٌ، فإذا طلب ولِيُّها النفقةَ، ولم يعتدَّ بما أُنفِقَ عليها؛ كان ظالمًا، لا تحتملهُ الشريعةُ.
ومن توهَّم أن النفقةَ كالدَّينِ، لا بدَّ أن يقبضَه الوليُّ، وهو لم يأذنْ فيه؛ كان مخطئًا من وجوهٍ:
أحدُها: أن المقصودَ بالنفقةِ إطعامُها، لا حفظُ المالِ، وقبضُ الوليِّ ليس فيه فائدةٌ، ولا يُحتاجُ إلى إذنِه، فإنه واجبٌ بالشرعِ، فلو نهى الوليُّ عن الإنفاقِ عليها؛ لم يُلتفَتْ إليه.
وأيضًا: إقرارُه لها معَ حاجتِه
(1)
إلى النفقةِ إذنٌ عرفيٌّ، ولا يقالُ: إنه لم يأتمنِ الزوجَ على النفقةِ؛ لأن الائتمانَ بها حصَلَ بالشرعِ، كما اؤتُمِنَ على بدَنِها والقَسْم لها وغيرِ ذلك من حقوقِها، فإن الرجالَ قوَّامونَ على النساءِ، والنساءُ عوانٍ عندَهم، ولأن الائتمانَ العرفيَّ كاللفظيِّ
(2)
.
(1)
في (ك) و (ع) و (ز): حاجتها. والمثبت موافق لما في الأصل ولأصل الفتوى.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا تسلَّمَ الزوجُ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 96، والفتاوى الكبرى 3/ 359.
وإذا سافر الوليُّ بالزوجةِ
بغيرِ إذنِ الزوجِ؛ عُزِّرَ على ذلك، وتُعزَّرُ هي إذا كان التخلُّفُ يمكنُها، ولا نفقةَ لها من حينِ سافرَتْ
(1)
.
وإذا امتنعَتِ المرأةُ من الصَّلاةِ
؛ فإنها تُستتابُ، فإن تابَتْ وإلا قُتِلتْ، وهَجْرُ الزوجِ لها على تركِها الصَّلاةَ؛ من أعمالِ البرِّ، ولا نفقةَ لها إذا امتنعَتْ من تمكينِه إلا معَ تركِ الصلاةِ
(2)
.
وعلى المولودِ الموسِرِ
أن يُنفِقَ على أبيه وزوجةِ أبيه، وعلى إخوتِه الصغارِ والكبارِ؛ إذا كانوا عاجزينَ عن الكسبِ، وله ما ينفق عليهم، وإن لم يفعَلْ ذلك كان عاقًّا لوالدَيْه، قاطعًا لرَحِمِه، مستحقًّا لعقوبةِ الدنيا والآخرةِ
(3)
.
وإذا طلَّق زوجتَه ثلاثًا
، وأبرَأَتْه من حقوقِ الزوجيةِ قبلَ عِلْمِها بالحملِ؛ لم تدخلْ نفقةُ الحملِ في الإبراءِ، ولو علمَتِ الحملَ وأبرَأَتْه من حقوقِ الزوجية
(4)
فقط؛ لم يدخلْ في ذلك نفقةُ الحملِ؛ لأنها تجبُ بعدَ زوالِ النكاحِ، وهي واجبةٌ للحملِ في أظهرِ قولَيِ العلماءِ؛ كأجرةِ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا سافر
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 95، والفتاوى الكبرى 3/ 360.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا امتنعَتْ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 276، والفتاوى الكبرى 3/ 361.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وعلى المولودِ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 101، والفتاوى الكبرى 3/ 361.
(4)
قوله: (الزوجية) مثبت من (ز) و (ع) ومجموع الفتاوى، وهو بياض في الأصل، وكتب في هامشها:(لعله: النكاح)، وهو في (ك): كذا.
الرضاعةِ، اللهُمَّ إلا أن يكونَ الإبراءُ بمقتضى أنه لا يبقى بينَهما مطالبةٌ بعد النكاحِ أبدًا، فإذا كان مقصودُهما المبارأةَ؛ بحيثُ لا يبقى للآخَرِ مطالبةٌ بوجهٍ؛ فهذا يدخُلُ فيه الإبراءُ من نفقةِ الحملِ
(1)
.
وعلى الوالدِ نفقةُ ولدِه إذا كان موسرًا
، فإن لم يمكنْه إلا بأن يَعْمُرَ ملكَه، أو يُكرِيَه؛ لزمه ذلك؛ بل من كان له ملكٌ لا يَعْمُرُه، ولا يُؤْجِرُه؛ فهو سفيهٌ مبذرٌ، ينبغي أن يُحجَرَ عليه، فأما إذا كان له ولدٌ؛ تعيَّنَ عليه ذلك؛ لأجلِ مصلحةِ ولدِه
(2)
.
والزوجةُ المريضةُ
تستحقُّ النفقةَ في مذهَبِ الأربعةِ، وإن لم ينتفعْ بها
(3)
.
ولدُ الزنى لا يلحقُ نسبُه بأبيه
عندَ الأئمَّةِ الأربعةِ
(4)
، ولكن لا بدَّ أن يُنفِقَ عليه المسلمونَ؛ لأنه من يتامى المسلمِينَ.
والمزوجةُ المحتاجةُ
؛ نفقَتُها على زوجِها واجبةٌ من غيرِ صَداقِها.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا طلَّق زوجتَه
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 361، والفتاوى الكبرى 3/ 362.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وعلى الوالدِ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 104، والفتاوى الكبرى 3/ 363.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والزوجةُ المريضةُ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 98، والفتاوى الكبرى 3/ 364.
(4)
وفي الاختيارات للبعلي ص 400: (وإن استلحق ولده من الزنا ولا فراش؛ لحقه، وهو مذهب الحسن وابن سيرين والنخعي وإسحاق).
وأما صَداقُها المُؤخَّرُ؛ فيجوزُ أن تطالبَه، فإن أعطاها فحسَنٌ، وإن امتنعَ؛ لم يُجبَرْ حتى تقَعَ بينَهما فرقةٌ بموتٍ، أو طلاقٍ، ونحوِه
(1)
.
والصدقةُ على المحتاجِ من الأهلِ
؛ أَوْلى من غيرِه، فإن لم يتَّسِعْ مالُ الإنسانِ للأقاربِ والأباعدِ؛ فإن نفقةَ القريبِ واجبةٌ، فلا يعطي البعيدَ ما يضرُّ بالقريبِ.
أما الزكاةُ والكفارةُ؛ فيجوزُ أن يُعطيَ منها القريبَ الذي لا يُنفِقُ عليه، والقريبُ أَوْلى إذا استوتِ الحاجةُ
(2)
.
وإذا حُكِم بالولدِ للأمِّ
، فغَيَّبَتْه عن الأبِ؛ لم يكُنْ لها أن تطالبَه بالنفقةِ المفروضةِ، ولا بما اتَّفَقا عليه
(3)
.
وإذا عجَزَ الأبُ عن النفقةِ
؛ فلا نفقةَ عليه، ولا رجوعَ لمن أنفقَ في هذه المدةِ بغيرِ إذنِه بلا نزاعٍ.
وإنما تَنازَعوا فيما إذا أنفق مُنفِقٌ على ابنِه بدون إذنِه معَ وجوبِ النفقةِ على الأبِ؛ فقيلَ: يرجعُ بما أنفقَ غيرُ متبَرِّعٍ، كما هو مذهَبُ أبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ في قولٍ، ولا يجوزُ حبسُه، ولا الرجوعِ عليه؛
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والمزوجةُ المحتاجةُ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 76، والفتاوى الكبرى 3/ 364.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والصدقةُ على
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 107، والفتاوى الكبرى 4/ 188.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا حُكِم
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 104، والفتاوى الكبرى 3/ 365.
حتى يثبُتَ الوجوبُ بيَسارِه، وإذا اختلفا في يَسارِه، ولم يُعرَفْ له مالٌ؛ فالقولُ قولُه معَ يمينِه.
وإذا كان مقيمًا في غيرِ بلدِ الأمِّ؛ فالحضانةُ
(1)
له لا للأمِّ، وإن كانت الأمُّ أَحقَّ بالحضانةِ في البلدِ الواحدِ، وهذا أيضًا مذهَبُ الأئمَّةِ
(2)
.
وإذا ادَّعى الابنُ على أبيه
بصداقِ أمِّه وكُسوتِها الماضيةِ قبلَ موتِها
(3)
؛ فعلى الأبِ أن يُوفِّيَه ما يستحقُّه من ذلك.
وإذا تزوجَتِ الأمُّ
؛ فلا حضانةَ لها، وإن سافرَتْ سفرَ نقلةٍ؛ فالحضانةُ للجَدِّ
(4)
دونَها، وإذا حضَنَتْه ولم تكُنْ لها الحضانةُ، وطالبَتْ
(1)
في الأصل: والحضانة. والمثبت من (ك) و (ز) ومجموع الفتاوى.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا عجز الأبُ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 103، والفتاوى الكبرى 3/ 366.
(3)
كتب في الأصل: (والابن محتاج) وعليها أثر شطب، وهي غير مثبتة في (ك) و (ز).
(4)
هكذا في الأصل وفي أصل الفتوى في مجموع الفتاوى 34/ 107، والذي في (ك) و (ز) و (ع): للجدة.
والسؤال إنما ورد في رجل توفي وسافرت امرأته سفر نقلة، فهل تكون الحضانة لها أو للجد، ونصه:(سئل عن رجل له ولد وتوفي ولده وخلف ولدًا عمره ثمان سنين، والزوجة تطالب الجد بالفرض، وبعد ذلك تزوجت وطُلِّقت، ولم يعرف الجد بها، وقد أخذت الولد وسافرت، ولا يعلم الجد بها: فهل يلزم الجد فرض أم لا؟).
وقال في مجموع الفتاوى في موضع آخر 31/ 328: (الأم المزوجة بالأجنبي لا حضانة لها؛ لئلا يحضنهم الأجنبي، فإن الزوجة تحت أمر الزوج، فأسقط الشارع حضانتها؛ لئلا يكونوا في حضانة أجنبي؛ وإنما الحضانة لأم الأم؛ أو لغيرها من الأقارب).
بالنفقةِ؛ فلا شيءَ لها؛ لأنها ظالمةٌ بالحضانةِ
(1)
.
وإذا كان رزقُ الرجلِ على الجهاتِ السلطانيةِ
؛ فللوليِّ أن يمنعَ لولِّيتَه من تناوُلِ مثلِ هذا الرزقِ الذي يعتقِدُه حرامًا؛ لا سيَّما لا ضررَ به
(2)
، فإذا كان الزوجُ يُطعِمُها من غيرِه، أو تأكلُ هي من غيرِه؛ فله أن يُزوِّجَها إذا كان الزوجُ متأولًا فيما يأكُلُه، فإن هذه الجهاتِ السلطانيةَ لم يذكرْ أحدٌ من الفقهاءِ الذينَ يُفتَى بقولِهم؛ جوازَ ذلك، ولكن في أوائلِ الدولةِ السَّلْجوقِيةِ أفتى طائفةٌ من الحنفيةِ والشافعيةِ إذا لم يكُنْ في أموالِ بيتِ المالِ كِفايةُ رزقِ الجندِ الذينَ يُحتاجُ إليهم في الجهادِ: إلى أن يُوضَعَ على المعاملاتِ، وأنكرَ ذلك غيرُ هؤلاءِ، وحكى أبو محمدِ بنُ حزمٍ في كتابِ «الإجماعِ» إجماعَ العلماءِ على تحريمِ ذلك، وقد كان نورُ الدينِ محمودٌ الشهيدُ التركي قد أبطلَ جميعَ الوظائفِ المحدَثَةِ بالشامِ والجزيرةِ ومصرَ والحجازِ، وكان أعرفَ الناسِ بالجهادِ، وهو الذي أقام الإسلامَ بعدَ استيلاءِ الفرنجِ والقرامطةِ على أكثرِ ذلك.
ومَن فعل ما يعتقدُ حِلَّه متأولًا تأويلًا سائغًا - لا سيَّما معَ حاجته-؛
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا تزوجَتِ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 107، والفتاوى الكبرى 3/ 367.
(2)
قوله: (لا ضررَ به)، هكذا في الأصل و (ع) و (ز)، وفي (ك):(لا ضرر)، وفي مجموع الفتاوى 32/ 60:(أنَّ رزقَها منه).
لم يُجعَلْ فاسقًا بمجرَّدِ ذلك بحيثُ يُمنَعُ من تزويجِه؛ لكن له منعُها من تناولِ مثلِ هذا، فإذا أطعَمَها الزوجُ من غيرِه؛ فله أن يزوجَها إذا كان متأولًا فيما يأخذُه كما تقدَّم
(1)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا كان رزقُ
…
) في مجموع الفتاوى 32/ 59، والفتاوى الكبرى 3/ 368.
كِتَابُ الهِبَةِ
ليس للواهبِ أن يرجعَ في هبتِه
؛ غيرَ الوالدِ؛ إلا أن تكونَ الهبةُ على جهةِ المعاوضةِ لفظًا أو عرفًا، فإذا كانت لأجلِ عوضٍ، ولم يحصُلْ؛ فللواهبِ الرجوعُ فيها إذا كانت باقيةً، وإلا في عِوَضها
(1)
.
وإذا لم يكُنْ ضررٌ على الأولادِ
؛ فلأبيهم أن يتملكَ من مالِهم ما يشتري به أَمَةً يطَؤُها وتخدمُه
(2)
.
ومذهَبُ مالكٍ وأحمدَ في المشهورِ عنه:
أن البيعَ والهبةَ والإجارةَ تثبُتُ بالمعاطاةِ، وما عدَّه الناسُ بيعًا أو هبةً أو إجارةً؛ فهو كذلك.
ومذهبُ الشافعيِّ: اعتبارُ الصيغةِ؛ إلا في مواضعَ مستثناةٍ.
وليس لذلك صيغةٌ محدودةٌ في الشرعِ؛ بل المرجعُ في الصيغةِ المفيدةِ لذلك إلى عرفِ الخطابِ، وهذا مذهبُ الجمهورِ، ولذلك صحَّحوا الهبةَ بمثلِ قولِه: أعمرتُكَ هذه الدار، وأطعَمتُكَ هذا الطعام، وحملتُكَ على هذه الدابَّةِ، ونحوَه مما يفهمُ منه أهلُ الخطابِ به الهبةَ.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ليس للواهبِ
…
) في مجموع الفتاوى 31/ 283، والفتاوى الكبرى 4/ 167.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا لم يكُنْ
…
) في مجموع الفتاوى 31/ 299.
وتجهيزُ المرأةِ بجَهازِها إلى بيتِ زوجِها؛ تمليكٌ، كما أفتى به أصحابُ أبي حنيفةَ وأحمدَ وغيرِهما.
وعادةُ الناسِ إذا اشترى الرجلُ أَمَةً، وقال لابنِه: خُذْها لك، استمتِعْ بها، ونحوَ ذلك؛ كان هذا تمليكًا، فإذا أذِنَ لابنِه في الوَطْءِ معَ علمِه أن الوَطْءَ لا يكونُ إلا في ملكٍ؛ فلا يكونُ مقصودُه إلا تمليكَها، وكان وَطْؤُه في ملكِه، فإذا حصَلَ الإذنُ بقولٍ أو فعلٍ؛ ثبَتَ التمليكُ على قولِ الجمهورِ، وهو أصحُّ، وولَدُه حرٌّ، لاحقُ النسبِ، والأَمَةُ أمُّ ولدِه لا تُباعُ.
وأما إن قُدِّرَ أن الأبَ لم يصدُرْ منه تمليكٌ بحالٍ، واعتقدَ الابنُ أنه قد مَلَكَها؛ كان ولده أيضًا حرًّا، ونسبُه لاحقًا، ولا حدَّ عليه.
وإن اعتقدَ الابنُ أنه لم يملِكْها، ولكن وطِئَها بالإذنِ؛ فهذه تنبني على الأصلِ الثاني؛ فإن العلماءَ اختلفوا فيمن وطِئ أَمَةَ غيرِه بإذنِه:
قال مالكٌ: يملِكُها بالقيمةِ، حبِلَتْ أو لم تحبَلْ.
وقال الثلاثةُ: لا يملكُها بذلك.
فعلى قولِ مالكٍ هي أيضًا ملكٌ للولدِ وأمُّ ولدِه، وولدُه حرٌّ.
وعلى قولِ الثلاثةِ: لا تصيرُ أمَّ ولدٍ؛ لكن هل الولدُ حرٌّ؛ مثلُ أن يطَأَ جاريةَ امرأتِه بإذنِها؟ فيه عن أحمدَ روايتانِ:
أحدهما: أنه
(1)
لا يكونَ حرًّا، وهو قولُ أبي حنيفةَ، وإن ظنَّ أنها حلالٌ له.
(1)
في الأصل: (أنها)، والمثبت من (ك) و (ع) و (ز).
والثانيةُ: أن الولدَ يكونُ حرًّا، وهذا هو الصحيحُ؛ إذا ظنَّ أنها حلالٌ، فهو المنصوصُ عن الشافعيِّ وأحمدَ في المرتهِنِ، فإذا وطِئ الأَمَةَ المرهونةَ بإذنِ الراهنِ، وظن أن ذلك جائزٌ؛ فإن ولدَه ينعقِدُ حرًّا؛ لأجلِ الشبهةِ، فإن شبهةَ الاعتقادِ أو الملكِ تُسقِطُ الحدَّ
(1)
باتِّفاقِ الأئمَّةِ، فكذلك يؤثِّرُ في حريةِ الولدِ ونسبِه، كما لو وطِئَها في نكاحٍ فاسدٍ أو ملكٍ فاسدٍ، فإنَّ الولدَ يكونُ حرًّا باتِّفاقِ الأئمَّةِ، وأبو حنيفةَ يخالِفُهم في هذا، ويقولُ: الولدُ مملوكٌ، وأما مالكٌ فعندَه: أنَّ الواطئَ قد ملَك الجاريةَ بالوَطْءِ المأذونِ فيه.
وهل على هذا الواطئِ بالإذنِ قيمةُ الولدِ؟ فيه قولانِ للشافعيِّ:
أحدُهما، وهو المنصوصُ عن أحمدَ: أنه لا تلزمُه قيمتُه؛ لأنه وطِئ بإذنِ المالكِ، فهو كما لو أتلَفَ مالَه بإذنِه.
الثاني: تلزمُه قيمتُه؛ وهو قولُ بعضِ أصحابِ أحمدَ، ومن أصحابِ الشافعيِّ من زعم أن هذا مذهَبُ الشافعيِّ قولًا واحدًا.
وأما المهرُ؛ فلا يلزمُه في مذهَبِ أحمدَ ومالكٍ وغيرِهما، وللشافعيِّ قولانِ، وكلُّ موضعٍ لا تصيرُ فيه أمَّ ولدٍ يجوزُ بيعُها
(2)
.
(1)
في الأصل: (الملك)، والمثبت من (ك) و (ع) و (ز) ومجموع الفتاوى.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومذهَبُ مالكٍ وأحمدَ
…
) في مجموع الفتاوى 31/ 277، الفتاوى الكبرى 4/ 169.
وصِلةُ ذي الرحمِ المحتاجِ
أفضلُ من العتقِ؛ لأن ميمونةَ أعتقَتْ جاريةً، فقال لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لو أعطَيْتِها أخوالَكِ كان خيرًا لكِ»
(1)
، فإذا أعطى ولدَه المحتاجَ عبدًا أو جاريةً؛ كان أفضلَ من أن يُعتقَهما
(2)
.
وإذا وهَب ابنَه شيئًا
، فتعلَّقَ به حقُّ الغيرِ؛ مثلُ أن يكونَ قد صار عليه دينٌ، أو زوَّجوه لأجلِ ذلك المالِ؛ فليس للأبِ أن يرجعَ بذلك
(3)
.
إذا ملَّك أختَه ربعَ دارِه
تمليكًا مقبوضًا؛ فإنه ينتقلُ بعدَها إلى ورثتِها
(4)
.
وفي «سُننِ أبي داودَ»
وغيرِه عن النبيِّ صل الله عليه وسلم أنه قال: «مَن شفَع لأخيه شفاعةً، فأهدى له هَدِيةً فقبِلَها؛ فقد أتى بابًا عظيمًا من أبوابِ الربا»
(5)
، وسُئِلَ ابنُ مسعودٍ عن السُّحْتِ؟ فقال: «هو أن تشفَعَ لأخيكَ
(1)
رواه البخاري (2592)، ومسلم (999).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وصِلةُ ذي الرحمِ
…
) في مجموع الفتاوى 31/ 298، الفتاوى الكبرى 4/ 171.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا وهَب ابنَه
…
) في مجموع الفتاوى 31/ 302، الفتاوى الكبرى 4/ 172.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا ملَّك أختَه
…
) في مجموع الفتاوى 31/ 281، الفتاوى الكبرى 4/ 173.
(5)
رواه أحمد (22251)، وأبو داود (3541)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
شفاعةً، فيُهدِيَ لك هديةً؛ فتقبَلَها»، قيل
(1)
له: أرأيتَ إن كانت هديةً في باطلٍ؟ فقال: «ذلك كفرٌ؛ {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئكَ هم الكافرون}»
(2)
.
ولهذا قال العلماءُ: إن مَن أهدى هديةً لوليِّ أمر ليفعلَ معَه ما لا يجوزُ؛ كان حرامًا على المُهدِي والمُهدَى إليه، وهي من الرِّشوةِ التي قال فيها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لعَن اللهُ الراشيَ والمرتشيَ والرائشَ»
(3)
، وتُسمَّى: البِرْطيلَ، والبِرْطيلُ في اللغةِ: هو الحجرُ المستطيلُ فُوهُ.
فأما إذا أهدى له هديةً ليكُفَّ ظلمَه عنه، أو ليُعطِيَه حقَّه الواجبَ؛ كانت هذه الهديةُ حرامًا على الآخِذِ، وجاز للدافعِ أن يدفعَها كما قال:«إني لأُعطي أحدَهم العطِيَّةَ، فيخرُجُ بها يتأبَّطُها نارًا» ، قيلَ: يا رسولَ اللهِ، فلم تُعطيهم؟ قال:«يأبُونَ إلا أن يسألوني، ويأبَى اللهُ لي البُخْلَ»
(4)
.
ومثلُ ذلك إعطاءُ من أعتقَ عبدًا وكتَم عتقَه، أو أسَرَّ خبرًا
(5)
، أو كان ظالمًا للناسِ، فإعطاءُ هؤلاءِ جائزٌ للمُعطِي، حرامٌ عليهم أخذه.
(1)
قوله: (قيل) سقطت من الأصل، والمثبت من (ك) و (ع) و (ز).
(2)
رواه البيهقي (20481) بنحوه.
(3)
رواه أحمد (22399) من حديث ثوبان رضي الله عنهما، ورواه أحمد (6532)، وأبو داود (3580)، والترمذي (1337)، وابن ماجه (2313) من حديث عبد الله بن عمرو دون قوله:(والرائش).
(4)
رواه أحمد (11004)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(5)
في (ك) و (ع) و (ز): أسر حرًّا.
وأما الهديةُ في الشفاعةِ؛ مثلُ: أن يشفعَ لرجلٍ عندَ وليِّ أمرٍ أن يرفعَ عنه مظلمةً، أو يوصلَ إليه حقَّه، أو يولِّيَه ولايةً يستحِقُّها، أو يستخدمَه في الجندِ المقاتلةِ وهو يستحقُّ ذلك، أو يُعطِيَه من المالِ الموقوفِ على الفقراءِ أو الفقهاءِ أو القراءِ أو النُّسَّاكِ أو غيرِهم، وهو من أهلِ الاستحقاقِ، ونحوُ هذه الاستعانةِ على فعلِ واجبٍ أو تركِ محرمٍ؛ فهذه أيضاً لا يجوزُ فيها قبولُ الهديةِ، ويجوزُ للمهدي أن يبذلَ في ذلك ما يتوصلُ به إلى أخذِ حقِّه، أو دفعِ الظلمِ عنه، هذا هو المنقولُ عن السَّلَفِ والأئمةِ الأكابرِ.
ورخَّص فيه بعضُ المتأخِّرينَ من الفقهاءِ، وجعل هذا من بابِ الجَعالةِ، وهذا مخالفٌ للسُّنَّةِ وأقوالِ الصحابةِ والأئمَّةِ؛ فهو غلَطٌ؛ لأن مثلَ هذا العملِ هو من المصالِحِ العامةِ التي يكونُ القيامُ فيها فرضًا؛ إما على الأعيانِ وإما على الكفايةِ، ومتى سُوِّغ أخذُ الجُعْلِ على مثلِ هذا؛ لزِمَ أن تكونَ الولايةُ وإعطاءُ أموالِ الفَيْءِ والصدقاتِ وغيرِها وكفُّ الظلمِ عمن يَبذُلُ في ذلك، والذي لا يَبذُلُ لا يُولَّى ولا يُعطَى، وإن كان أحقَّ وأنفعَ للمسلمِينَ من هذا.
والمنفعةُ في هذا ليست لهذا الباذلِ حتى يُؤخَذَ منه الجُعْلِ؛ كالجعلِ على الآبِقِ والشاردِ، وإنما المنفعةُ لعمومِ الناسِ؛ أعني: المسلمِينَ، فإنه يجبُ أن يُولَّى في كلِّ مرتبةٍ أصلحُ مَن يقدِرُ عليه، وأن يُرزَقَ من رزقِ المقاتلةِ والأئمَّةِ والمؤذِّنِينَ وأهلِ العلمِ والدِّين، وأهلُ العلمِ و
(1)
الدين
(1)
سقطت الواو من الأصل، والمثبت من (ز).
أحقُّ المسلمِينَ وأنفَعُهم للمسلمِينَ، وهذا واجبٌ على الإمامِ، وعلى الأئمَّةِ أن يعاوِنوه على ذلك.
فمن أخذ جُعْلًا من شخصٍ معينٍ على ذلك؛ أفضى إلى أن يطلُبَ هذه الأمورُ بالعوضِ، ونفسُ طلَبِ الولايةِ منهِيٌّ عنه، فكيفَ بالعوضِ؟! ويلزمُ توليةُ الجاهلِ والفاسقِ والفاجرِ، وتركُ العالمِ العادلِ القادرِ، وأن يُرزَقَ في ديوانِ المقاتلةِ الفاسقُ والجبانُ العاجزُ عن القتالِ، ويُتركَ العدلُ الشجاعُ النافعُ للمسلمِينَ، وفسادُ مثل هذه كثيرةٌ؛ بل يشفَعُ ولا يأخُذُ، هذا هو المأمورُ به.
وأما ذلِكَ الأمرانِ فكلاهما منهيٌّ عنه، ولكن إذا كان لا بدَّ من أحدهما؛ فقد يرجَّحُ هذا تارةً، وهذا أخرى، فإذا أخذَ وشفَعَ لمن لا يستحقُّ وغيره أولى؛ فليس له أن يأخذَ ولا يشفعَ، وتركُهما خيرٌ، وإذا أخذَ وشفعَ لمن هو الأحقُّ الأَوْلى؛ فهنا تركُ الشفاعةِ والأخذِ أضَرُّ من الشفاعةِ والأخذِ.
ويقالُ لهذا الشافعِ الذي له الجاه الذي تُقبَلُ به الشفاعةَ: يجبُ عليكَ أن تكونَ ناصحًا للهِ ورسولهِ ولأئمةِ المسلمِينَ وعامَّتِهم، ولو لم يكُنْ لك هذا الجاهُ والمالُ، فكيفَ إذا كان لك هذا الجاهُ والمالُ؟! فأنتَ عليكَ أن تنصحَ المشفوعَ إليه، فتبيِّنَ له من يستحقُّ الولايةَ والاستخدامَ والعطاءَ، ومَن لا يستحقُّ ذلك، وتنصحَ للمسلمِينَ بفعلِ مثلِ ذلك، وتنصحَ للهِ ورسولِه بطاعَتِه، فإن هذا من أعظمِ طاعتِه، وتنفعَ أخاك هذا المستحِقَّ بمعاونتِه على ذلك، كما عليكَ أن تصليَ وتصومَ وتجاهدَ في سبيلِ اللهِ.
وأما الرجلُ المقبولُ الكلامِ؛ فإذا أكَل قدرًا زائدًا عن الضيافةِ الشرعيةِ؛ فلا بدَّ له أن يُكافِئَ المطعِمَ مثلَ ذلك، أو لا يأكلَ القدرَ الزائدَ؛ وإلا فقبولُه الضيافةَ الزائدةَ مثلُ قبولِه الهديةَ، وهو من جنسِ الشاهدِ والشافعِ إذا أدَّى الشهادةَ وأقام بالشفاعةِ، ومَن زكَّى، أو أخرج بضيافةٍ أو جُعْلٍ؛ كان هذا من أسبابِ الفسادِ
(1)
.
ومَن اشترى عبدًا
، فوهبه شيئًا حتى أثرى، ثم ظهَر أنه كان حرًّا؛ فله أن يأخُذَ منه ما وهَبَه ظنًّا منه أنه عبدُه
(2)
.
ومجرَّدُ التمليكِ بدونِ القبضِ الشرعيِّ
؛ لا يلزمُ به عقدُ الهبةِ، وللورثةِ انتزاعُه، وكذلك الهبةُ الملجئةُ؛ بحيثُ يُوهَبُ في الظاهرِ ويُقبَضُ، معَ اتفاقِ الواهبِ والموهوبِ له على أنه ينتزِعُه منه إذا شاء، ونحوُ ذلك من الحِيَلِ التي تُجعَلُ طريقًا إلى مَنْعِ الوارثِ أو الغريمِ حقوقَهم، فإذا كان الأمرُ كذلك؛ كانت هبةً باطلةً، وإذا عُرِف ذلك حُكِم ببطلانِه
(3)
.
(1)
هكذا في النسخ الخطية، والعبارة في مجموع الفتاوى 31/ 288:(وهو من جنس الشاهد والشافع إذا أدى الشهادة وقام بالشفاعة؛ لضيافة أو جعل؛ فإن هذا من أسباب الفساد).
وينظر أصل الفتوى من قوله: (وفي سنن أبي داود
…
) في مجموع الفتاوى 31/ 285، الفتاوى الكبرى 4/ 173.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن اشترى عبدًا
…
) في مجموع الفتاوى 31/ 290، الفتاوى الكبرى 4/ 177.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومجرَّدُ التمليكِ
…
) في مجموع الفتاوى 31/ 307، الفتاوى الكبرى 4/ 177.
وإذا أعاد إليه العينَ الموهوبةَ
؛ فلا شيءَ له غيرُها، لا أجرَتَها، ولا مطالبتَه بالضمانِ، فإنه كان ضامنًا لها، وكان يُطعِمُها بانتفاعِه بها مقابلةً لذلك
(1)
.
فَصْلٌ
ثبَتَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمرَ:
«ما أتاكَ من هذا المالِ وأنتَ غيرُ سائلٍ ولا مُشرِفٍ فخُذْه، وما لا؛ فلا تُتْبِعْه نفسَكَ»
(2)
، وثبَتَ أيضًا أنَّ حكيمَ بنَ حِزامٍ سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم قال:«يا حكيمُ، ما أكثرَ مسألتَكَ، إن هذا المالَ خضِرةٌ حُلْوةٌ، فمن أخَذَه بسَخاوةِ نفسٍ؛ بُورِكَ له فيه، ومَن أخَذَه بإشرافِ نفسٍ؛ لم يُبارَكْ له فيه، وكان كالذي يأكُلُ ولا يشبَعُ» ، فقال حكيمٌ: والذي بعَثكَ بالحقِّ، لا أرزَأُ بعدَكَ أحدًا شيئًا، فكان أبو بكرٍ وعمرُ يُعطِيانِه؛ فلا يأخُذُ
(3)
.
فتبيَّنَ بهذينِ الحديثينِ: أن الإنسانَ إذا كان سائلًا بلسانِه، أو مُشْرِفًا بقلبِه إلى ما يُعطاه؛ فلا ينبغي أن يقبَلَه؛ إلا حيثُ تُباحُ المسألةُ أو الاستشرافُ، وأما إذا أتاه من غيرِ مسألةٍ ولا إشرافٍ؛ فله أخذُه إن كان
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا أعاد إليه
…
) في مجموع الفتاوى 31/ 284، الفتاوى الكبرى 4/ 177.
(2)
رواه البخاري (1473)، ومسلم (1045).
(3)
رواه البخاري (1472)، ومسلم (1035).
الذي أعطاه حقَّه، كما
(1)
أعطى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمرَ من بيتِ المالِ، فإنه قد كان عمل له، فأعطاه عُمالتَه، وله ألا يقبَلَه، كما فعَل حكيمُ بنُ حِزامٍ.
وقد تنازَعَ العلماءُ في وجوبِ القبولِ، وهو مشهورٌ في مذهَبِ أحمدَ وغيرِه.
وإن كان أعطاه ما لا يستحقُّه عليه؛ فإن قَبِلَه وكافَأَه عليه؛ فقد أحسَنَ، أما إذا قَبِلَه من غيرِ مكافأةٍ بالمالِ؛ فهذا يجوزُ معَ الحاجةِ، ويدعو له، وأما الغنيُّ فينبغي له أن يكافِئَ بالمالِ، كما في الحديثِ:«مَن أسدى إليكم معروفًا فكافِئوه، فإن لم تجدوا ما تُكافِئوه؛ فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافَأْتُموه»
(2)
(3)
.
وإذا صالَحَ عن شيءٍ بأكثرَ من قيمتِه
؛ ففي لزومِ هذه الزيادةِ نزاعٌ في الصلحِ، يُبطِلُه طوائفُ من أصحابِ الشافعيِّ وأحمدَ، ويصَحِّحُه أبو حنيفةَ، وهو قياسُ قولِ أحمدَ وغيرِه، وهو الصحيحُ إن شاءَ اللهُ تعالى
(4)
.
(1)
قوله: (كما) سقطت من الأصل. والمثبت من (ك) و (ز).
(2)
رواه أحمد (5369)، وأبو داود (5109)، والنسائي (2567) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ثبت عنه صلى الله عليه وسلم
…
) في مجموع الفتاوى 25/ 94، الفتاوى الكبرى 4/ 178.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا صالَحَ
…
) في مجموع الفتاوى 31/ 291، الفتاوى الكبرى 4/ 179.
فَصْلٌ
الصدقةُ: ما يُعطَى لوجهِ اللهِ
ديانةً وعبادةً
(1)
محضةً؛ من غيرِ قصدٍ في شخصٍ معينٍ، ولا طلبِ عوضٍ من جهتِه، ولكن يُوضَعُ في مواضعِ الصدقةِ؛ كأهلِ الحاجاتِ.
وأما الهديةُ؛ فيُقصَدُ بها إكرامُ شخصٍ معينٍ؛ إما لمحبةٍ وإما لصداقةٍ، وإما لطلبِ حاجةٍ، ولهذا «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقبلُ الهديةَ، ويثيبُ عليها»
(2)
، فلا يكونُ لأحدٍ عليه منةٌ، ولا أكلُ أوساخِ الناسِ التي يتطهرونَ بها من ذنوبِهم، وهي الصدقاتُ، ولم يكُنْ يأكلُ الصدقةَ لذلك وغيرِه.
إذا تبيَّنَ ذلك؛ فالصدقةُ أفضلُ، إلا أن يكونَ في الهديةِ معنًى تكونُ به أفضلَ من الصدقةِ؛ مثلُ: الإهداءِ لرسولِ اللهِ محبةً له، ومثلُ: الإهداءُ لقريبٍ يصِلُ به رَحِمَه، أو أخٍ له في اللهِ، فهذا قد يكونُ أفضلَ من الصدقةِ
(3)
.
والرقيقُ الذين يُشتَرون بمالِ المسلمِينَ
؛ كالخيلِ والسلاحِ الذي يُشترَى بمالِ المسلمِينَ، أو يُهدَى لملوكِ المسلمين؛ كلُّ ذلك من أموالِ
(1)
في الأصل: (عبادة)، والمثبت من (ك) و (ز).
(2)
رواه البخاري (2585) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (الصدقةُ: ما يُعطَى
…
) في مجموع الفتاوى 31/ 269، الفتاوى الكبرى 4/ 180.
بيتِ المالِ، فإذا تصرَّفَ فيهم المالكُ الثاني بعتقٍ أو إعطاءٍ؛ فهو بمنزلةِ تصرُّفِ الأولِ، ينفُذُ تصرفُ الثاني كما ينفُذُ تصرفُ الأولِ، هذا مذهَبُ الأئمَّةِ كلِّهم
(1)
.
إذا لم يقبضِ الهبةَ حتى ماتَ الواهب
؛ بطلَتْ في المشهورِ من مذهَبِ الأئمَّةِ الأربعةِ، وإن قبَضَها؛ لم يجُزْ على الصحيحِ أن يختصَّ بها وحدَه؛ بل يشتركُ هو وإخوتُه، وكذا إن كتَب في ذِمَّتِه مبلغًا؛ مثلُ: ألفِ دينارٍ من غيرِ إقباضٍ؛ فهو عقدٌ مفسوخٌ
(2)
.
ومَن وهَب لابنِه هبةً
، ثم تصرفَ فيه، وادعى أنه ملَكَه؛ تضمَّن ذلك الرجوعَ؛ لأنه أقَرَّ إقرارًا يملكُ إنشاءَه.
ومَن عليه دينٌ يستغرقُ مالَه
؛ فليس له في مرضِ موتِه أن يتبرعَ بهبةٍ، ولا محاباةٍ، ولا إبراءٍ؛ إلا بإجازةِ الغرماءِ؛ بل ليس للورثةِ حقٌّ إلا بعدَ وفاءِ الدينِ
(3)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والرقيقُ الذين
…
) في مجموع الفتاوى 28/ 600، الفتاوى الكبرى 4/ 181.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا لم يقبضِ
…
) في مجموع الفتاوى 31/ 276، الفتاوى الكبرى 4/ 184.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن عليه دينٌ
…
) في مجموع الفتاوى 31/ 292، الفتاوى الكبرى 4/ 183.
وإذا أبرأَتْ زوجَها من صداقِها
، ثم طلَّقها؛ فهل لها الرجوعُ إذا كان يمكنُه
(1)
؛ لكونِ مثلِ هذا الإبراءِ لا يصدُرُ في العادةِ إلا على أن يُمسِكَها، أو خوفًا من أن يُطلِّقَها، أو يتزوجَ عليها، ونحوِ ذلك؟ فيه قولانِ، هما روايتانِ عن أحمدَ.
وأما إن كانت طابَتْ نفْسُها مطلقًا، مثل أن يكونَ ابتداءً منها، أبرأته بلا سببٍ منه ولا عوضَ؛ فهنا لا ترجعُ فيه بلا رَيْبٍ.
(1)
كذا في الأصل و (ك) و (ع)، وفي (ز):(يمكنها)، وفي مجموع الفتاوى 32/ 286:(يُمكن).
كِتَابُ الجِرَاحِ
من وجَب له القَوَدُ
؛ فله العفوُ، وله أخذُ الديَةِ بغيرِ رضا القاتلِ في مذهَبِ الشافعيِّ وأحمدَ في المشهورِ.
وفي روايةٍ أخرى: لا يأخذُ الديَةَ إلا برضا القاتلِ، وهو مذهَبُ أبي حنيفةَ ومالكٍ
(1)
.
وإذا خنقه الخَنْقَ الذي يقتلُ غالبًا
؛ وجَب القَوَدُ عندَ الجمهورِ؛ كمالكٍ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وصاحِبَيْ أبي حنيفةَ.
ولو ادعى أن هذا لا يقتلُ غالبًا؛ لم يُقبَلْ منه بغيرِ حجةٍ.
وأما إن كان أحدُهما قد غُشي عليه بعدَ الخنقِ، ورفسَه الآخَرُ برجلِه حتى خرج مِن فمِهِ شيءٌ فمات؛ فهنا يجبُ القَوَدُ بلا رَيْبٍ
(2)
.
ومَن شرب الخمرَ
، ثم قتَل وهو يعلمُ ما يقولُ؛ وجب عليه القَوَدُ.
وأما إن كان لا يعلمُ ما يقولُ، ففيه قولانِ، هما روايتانِ، أكثرُ الفقهاءِ يُوجِبونَ القَوَدَ.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (من وجَب
…
) في مجموع الفتاوى 31/ 364.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا خنقه
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 144، الفتاوى الكبرى 3/ 390.
فإن لم يشهدْ بالقتلِ إلا واحدٌ؛ لم يُحكَمْ به، إلا أن يحلفَ معَ ذلك أولياءُ المقتولِ خمسينَ يمينًا، وهذا إن مات بضربه، وكان ضربُه عُدوانًا محضًا.
فأما إن مات مع الضربِ من آخَر؛ ففي القَوَدِ نزاعٌ، وكذلك إن ضربه دفعًا لعُدوانِه عليه، أو ضرَبَه مثلما ضَربه؛ سواءٌ مات بسببٍ آخرَ أو غيرِه
(1)
.
ولو رفسَه في أُنثَيَيْه فمات
؛ فهو عمدٌ؛ لأنه يقتلُ غالبًا.
وليس لوليِّ الأمرِ أن يأخذَ من القاتلِ شيئًا لنفْسِه، ولا لبيتِ المالِ، وإنما الحقُّ لأولياءِ المقتولِ
(2)
.
فَصْلٌ
القاتلُ خطأً لا يُؤخَذُ منه
قِصاصٌ في الدنيا ولا في الآخرةِ؛ بل الواجبُ الكفارةُ والديَةُ.
وأما القاتلُ عمدًا إنِ اقتُصَّ منه في الدنيا؛ فهل للمقتولِ أن يستوفيَ حقَّه في الآخرةِ؟ فيه قولانِ في مذهَبِ أحمدَ، وفي مذهَبِ غيرِه فيما أظنُّ.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن شرب
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 151، الفتاوى الكبرى 3/ 395.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولو رفسَه
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 145، الفتاوى الكبرى 3/ 390.
فقيلَ: يسقُطُ حقُّه؛ لأن الحقَّ استوفيَ.
وقيلَ: بل له عليه حقٌّ، فإن حقَّه لم يسقطْ بقتلِ الورثةِ، كما لا يسقطُ حقُّ اللهِ بذلك، وكما لا يسقطُ حقُّ المظلومِ الذي غُصِب مالُه وأُعيدَ إلى ورثتِه؛ بل له أن يطالبَ الظالِمَ بما حرَمَه من الانتفاعِ به في حياتِه
(1)
.
ومَن دفنَتْ ابنَها في الحياةِ حتى مات
؛ فهو الوَأدُ، يجبُ عليها القودُ في أحدِ قولي العلماءِ.
وفي قولِ الجمهورِ: يجبُ عليها الديَةُ، تكونُ لورثتِه، ليس لها منها شيءٌ باتِّفاقِ الأئمَّةِ.
وفي وجوبِ الكفارةِ عليها قولانِ
(2)
.
وكذلك لو عاندَتْ
فأسقطَتْ جنينَها، إما بضربٍ أو شربٍ؛ وجب عليها غُرَّةٌ لورثتِه غيرِ أُمِّه، وتكونُ قيمةُ الغُرَّةِ: عُشْرَ الديةِ؛ خمسينَ دينارًا، وعليها عندَ أكثرِ العلماءِ عتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ، فإن لم تجدْ فصيامُ شهرينِ متتابعينِ، فإن لم تستطعْ أطعمَتْ ستينَ مسكينًا
(3)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (القاتلُ خطأً
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 140، الفتاوى الكبرى 3/ 387.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن دفنَتِ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 161، الفتاوى الكبرى 3/ 401.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وكذلك لو عاندَتْ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 161، الفتاوى الكبرى 3/ 401.
وإسقاطُ الحملِ
؛ حرامٌ بإجماعِ المسلمِينَ، وهو من الوَأْدِ، ومَن تعمَّدَه؛ عُوقِبَ عقوبةً تردَعُه وأمثالَه، وذلك مما يقدحُ في عَدالتِه؛ مثلُ: أن يطَأَ جاريتَه، ويلطخَ ذكَرَه بقَطِرانٍ، أو يسقيَها سمسمًا أو غيرَه مما يَسقُطُ به جنينُها
(1)
.
وإذا جنى الصبيُّ خطأً
، ففقأ عينًا، أو قلَع سنًّا؛ فدِيَتُه على عاقلتِه؛ كالبالغِ وأَوْلى.
وإن فعلَهُ عمدًا؛ فعمدُه خطأٌ عندَ الجمهورِ، كأبي حنيفةَ، ومالكٍ، وأحمدَ في المشهورِ، والشافعيِّ في أحدِ قولَيْه، وفي القول الآخَرِ: عمدُه في مالِه.
وإذا وجَب عليه شيءٌ، ولم يكُنْ له مالٌ؛ حملَهُ عنه أبوه في إحدى الروايتينِ عن أحمدَ، رُوِي ذلك عن ابنِ عبَّاسٍ
(2)
.
والقولُ الآخَرُ: في ذِمَّتِه، وليس على أبيه شيءٌ
(3)
.
وإذا حمل حرٌّ وعبدٌ خشبةً
فتهورتْ
(4)
على رجلٍ فقتلَتْه؛ فإن حصل
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإسقاطُ الحملِ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 160، الفتاوى الكبرى 3/ 400.
(2)
لعله يشير إلى ما رواه ابن أبي شيبة (14648)، عن عطاء، عن ابن عباس، في صبي يعبث، أصاب حمامة من حمام مكة، فقال:«اذبح عن ابنك شاة» .
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا جنى الصبيُّ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 158، الفتاوى الكبرى 3/ 399.
(4)
قال في تاج العروس 14/ 446: (تهور، إذا سقط، وكل ما سقط من أعلى جرف أو شفير ركية في أسفلها فقد تهور وتدهور).
منهما تفريطٌ أو عُدوانٌ؛ وجَب الضمانُ، وإن كان الواقفُ فرَّطَ بوقوفِه حيثُ لا يصلحُ؛ فلا ضمانَ، وإن لم يحصُلْ تفريطٌ من أحدٍ، وكان التلَفُ بمباشرةٍ منهما؛ فعليهما الضمانُ، وإن كان بطريقِ السببِ فلا ضمانَ، والضمانُ عليهما نصفَينِ، ونصيبُ العبدِ في رقبتِه، ولسيدِه فداؤُه، وإن تغيَّبَ؛ فلا شيءَ على السيدِ
(1)
.
ولا يجوزُ قتلُ الذميِّ بغيرِ حقٍّ
؛ فإن قتَلَه مسلمٌ؛ فلا قَوَدَ، وعليه ديتُه لورثتِه وكفارةُ القتلِ، وإن كان عمدًا؛ فقد قضى عثمانُ بتضعيفِ الديَةِ
(2)
، فيجبُ ديَةُ مسلمٍ
(3)
.
ومظالمُ العبادِ
لا تسقطُ بمجرَّدِ استغفارِ العبدِ؛ بل يُوفِّيهم اللهُ من حسناتِ الظالمِ، أو من عندِه
(4)
.
ومَن أقرَّ بالقتلِ مُكرَهًا
؛ فلا يترتبُ عليه حكمٌ بقتلٍ ولا غيرِه إذا لم يتبيَّنْ صدقُ إقرارِه.
وإن شهد واحدٌ عدلٌ أنه قتَلَه؛ فهو لَوْثٌ، لأولياءِ المقتولِ أن
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا حمل حرٌّ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 164، الفتاوى الكبرى 3/ 403.
(2)
رواه عبد الرزاق (18492).
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يجوزُ قتلُ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 146، الفتاوى الكبرى 3/ 391.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومظالمُ العبادِ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 173، الفتاوى الكبرى 3/ 408.
يحلفوا خمسينَ يمينًا، ويستحقونَ الدمَ
(1)
.
ومَن أُخِذ مالُه
فاتَّهَم به رجلًا من أهلِ التُّهَمِ، فضربه على تقريرِه؛ فأقرَّ، ثم أنكَرَ؛ فضربه حتى مات؛ فعليه أن يُعتقَ رقبةً مؤمنةً، وتجبُ ديَةُ المقتولِ، ولو فعل به فعلًا يقتلُ غالبًا بلا حقٍّ ولا شبهةٍ؛ لوجَب القَوَدُ، ولو كانت بحقٍّ لم يجِبْ شيءٌ
(2)
.
وإذا اتَّفقَ الكبارُ من الورثةِ
على القتلِ؛ فلهم ذلك عندَ أكثرِ العلماءِ؛ كأبي حنيفةَ، ومالكٍ، [وأحمد]
(3)
في إحدى الروايتينِ
(4)
.
ومَن قتَل فعفا عنه الأولياءُ
على أنه لا ينزلُ بلادَهم، ولا يسكُنُها، ولم يَفِ بهذا الشرطِ؛ لم يكُنِ العفوُ لازمًا، بل لهم أن يُطالبوه بالديَةِ في قولٍ للعلماءِ، وبالدمِ في قولٍ آخَرَ، وسواءٌ قيلَ: هو شرطٌ صحيحٌ، أم فاسدٌ، وسواءٌ قيلَ: يفسُدُ العقدُ بفسادِه، أم لا، فإن ذينكَ القولَينِ مبنيان
(5)
على هذه الأصولِ
(6)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن أقرَّ بالقتلِ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 156، الفتاوى الكبرى 3/ 398.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن أُخِذ مالُه
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 149، الفتاوى الكبرى 3/ 393.
(3)
قوله: (وأحمد) سقط من النسخ الخطية، والمثبت من مجموع الفتاوى 34/ 140.
(4)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا اتَّفقَ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 139، الفتاوى الكبرى 3/ 387.
(5)
في الأصل: مبنية. والمثبت من (ك) و (ز).
(6)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن قتَل فعفا
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 157، الفتاوى الكبرى 3/ 398.
وإذا ضربَهُ فقلَعَ أسنانَه
، وكانت الضربةُ مما يقلعُ الأسنانَ عادةً؛ ففيه القِصاصُ، فيُقلعُ من أسنانِه مثلُ ما قلعَ
(1)
.
وإذا قال لزوجتِه:
أسقطي ما في بطنِكِ والإثمُ عليَّ، ففعلَتْ وسمعتْ منه؛ فعليهما الكفارةُ، عتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ، وعليهما غُرَّةٌ
(2)
.
وإذا أوعَد رجلًا بشيءٍ
على أن يقتلَ له فلانًا، ففعل؛ فعلى القاتلِ القَوَدُ، والموعِدُ عليه العقوبةُ التي تردَعُه وأمثالَه، وعندَ بعضِهم: عليه القَوَدُ
(3)
.
ومَن نزل مكانًا
، فجاء لصٌّ سرق قماشَه، فلحِقَ السارقَ فضرَبَه بالسيفِ فمات، وكان هذا هو الطريقَ في استرجاعِ ما معَ السارقِ؛ لم يلزمِ الضاربَ شيءٌ، فقد رُوِي عن ابن عمرَ أن لصًّا دخل دارَه، فقام إليه بالسيفِ، فلولا أنهم ردُّوه عنه لضرَبَه بالسيفِ
(4)
، وفي «الصحيحَينِ»:«مَن قُتِل دونَ مالِه فهو شهيدٌ»
(5)
(6)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا ضربه
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 171، الفتاوى الكبرى 3/ 407.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا قال لزوجتِه
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 159، الفتاوى الكبرى 3/ 400.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا أوعَد
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 153، الفتاوى الكبرى 3/ 295.
(4)
رواه عبدالرزاق (18557)، وابن أبي شيبة (28046).
(5)
رواه البخاري (2480)، ومسلم (141) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(6)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن نزل مكانًا
…
) في مجموع الفتاوى 30/ 334، الفتاوى الكبرى 3/ 527.
ومَن أُعلِمَ بوقوعِ ملْكِه
، فلم يَنْقُضْه، فأتلَفَ صغيرًا؛ فعليه الضمانُ في أحدِ قولَيِ العلماءِ
(1)
.
فَصْلٌ فِي القَسَامَةِ
إذا قال القتيلُ:
فلانٌ قتلني؛ فلا يُؤخَذُ بمجرَّدِ قولِه بلا نزاعٍ.
وهل يكونُ لَوْثًا يحلفُ معَه أولياءُ المقتولِ إذا كان به أثرٌ لضربٍ أو جُرْحٍ؟ فيه قولانِ:
أحدُهما: أنه لَوْثٌ، وهو قولُ مالكٍ.
والثاني: لا، وهو قولُ الباقينَ
(2)
.
ولو شهد شاهدانِ
لم تثبُتْ عدالتُهما؛ فهو لَوْثٌ، للأولياءِ أن يحلفوا ويستحِقُّوا الدمَ
(3)
.
ومَن أخَذ من أموالِ الناسِ شيئًا
يجبُ عليه إحضارُه كالأماناتِ، وادَّعى هلاكَها دَعْوَى تُكذِّبُه العادةُ؛ لم يُلتفَتْ إلى قولِه؛ بل يُعاقَبُ حتى يُحضِرَه، كالمدينِ إذا غيَّب مالَه وأصرَّ على الحبسِ؛ ضُرِب أيضًا.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن أُعلم
…
) في مجموع الفتاوى 30/ 15، الفتاوى الكبرى 3/ 527.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا قال القتيلُ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 151، الفتاوى الكبرى 3/ 394.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولو شهد
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 150، الفتاوى الكبرى 3/ 394.
ومَن عُرِف بالشرِّ
؛ ضُرِب إذا اتُّهِم بسرقةٍ أو غيرِها حتى يعترفَ، ومَن لم يُعرفْ؛ يُحبَسْ حتى يتبيَّنَ أمرُه، ومن عُرِف بالخيرِ؛ لم يُقبَلْ عليه تهمةُ أحدٍ؛ بل لا يُستحلَفُ في أحدِ قولَيِ العلماءِ؛ بل يُؤدَّبُ من اتَّهمَه
(1)
.
ومَن اتُّهِم بقتيلٍ
، وهناك لَوْثٌ؛ وهو ما يغلبُ على الظنِّ أنه قتَلَه؛ كعداوةٍ، واستيعادٍ بقتلٍ ونحوِه؛ جاز لأولياءِ المقتولِ أن يَحلِفوا خمسينَ يمينًا، ويستحِقُّونَ دمَه.
وأما ضربُه ليُقِرَّ؛ فلا يجوزُ إلا معَ القرائنِ التي تدلُّ على أنه قتَلَه، فإن بعضَهم جوَّزَ تقريرَه بالضربِ في هذه الحالِ، ومنَعَه بعضُهم مطلقًا، وليس على أهلِ البقعةِ جناية لا في العادةِ السلطانيةِ، ولا في حكمِ الشريعةِ
(2)
.
ومَن رأى رجلًا قد قتَل
؛ وهو قاطعُ طريقٍ، وعلِم مِن وُلاةِ الأمرِ أنهم يطلبونَه ليقتلوه، وقدَرَ عليه؛ جاز له قتلُه؛ بل يُؤجَرُ على ذلك، وإن كان قد قتل لغرضٍ كعداوةٍ؛ فالأمرُ إلى أولياءِ المقتولِ؛ إن أذِنوا فيه؛ جاز قتلُه
(3)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن أخَذ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 235، الفتاوى الكبرى 3/ 521.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن اتُّهِم
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 154 - 155، الفتاوى الكبرى 3/ 396 - 397.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن رأى
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 167، الفتاوى الكبرى 3/ 404.
روى أبو داودَ
عن النُّعْمانِ بنِ بشيرٍ أنه قال لقومٍ طلَبوا منه أن يضربَ رجلًا على تُهَمةٍ، قال:«إن شئتُم ضربتُه لكم، فإن ظهَرَ مالُكم عندَه، وإلا ضربتُكم مثلَ ما ضربتُه» ، فقالوا: هذا حكمُكَ؟ فقال: «هذا حكمُ اللهِ ورسولِه»
(1)
، وهذا في ضرْبِ مَن لم يُعرَفْ بالشرِّ، أما ضرْبُ من يُعرَفُ بالشرِّ؛ فذاك مقامٌ آخَرُ، فيستحقُّ المضروبُ أن يَضربَ من طلبَ ضربَه من المُتَّهِمِينَ له؛ إذا لم يُعرَفْ بالشرِّ قبلَ ذلك
(2)
.
في ذلك دليلٌ: على أنه يجوزُ ضربُ من لم يُعرَفْ بالشرِّ، وقد تقدَّم في كلامِه: أنه لا يُضرَبُ؛ بل يُحبَسُ؛ إما شهرًا، وإما بحسَبِ ما يراه وليُّ الأمرِ؛ حتى يتبيَّنَ أمرُه، فحمْلُه حديثَ النعمانِ على مَن لم يُعرَفْ بشرٍّ؛ مشكِلٌ
(3)
.
ومَن كذَب على رجلٍ
حتى ضُرِب وعُلِّق، وطافوا به، وحُبِس؛ فيجبُ عقوبةُ الكاذِبِ عقوبةً تردَعُه وأمثالَه؛ بل جمهورُ السَّلَفِ يُوجِبونَ القِصاصَ في مثلِ ذلك.
فمن ضرَب غيرَه أو جرَحَه بغيرِ حقٍّ؛ فإنه يُفعَلُ به كما فعَل؛ كما قال عمرُ: «أيها الناسُ، إني لم أبعَثْ عُمَّالي إليكم ليضْرِبوا أبشارَكم، ولا ليأخُذوا أموالَكم، ولكن ليُعلِّموكم كتابَ اللهِ وسنةَ نبِيِّكم، ويَقسِموا
(1)
رواه أبو داود (4382)، والنسائي (4874).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (روى أبو داودَ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 231، الفتاوى الكبرى 3/ 440.
(3)
قوله: (في ذلك دليلٌ
…
) إلى هنا من كلام البعلي رحمه الله.
بينَكم فَيْئَكم، فلا يبلُغُني أن أحدًا ضرَبَه عاملُه بغيرِ حقٍّ؛ إلا أقَدتُّه»، فراجَعَه عمرُو بنُ العاصِ في ذلك، فقال: إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أقادَ من نفْسِه
(1)
(2)
.
إذا قتَل جماعةٌ لواحد
؛ قتلوا الذينَ باشروا قَتْلَه، وفيمَن أعانوا؛ مثلُ أن أدخلوهم إلى بيتِه، أو حفِظوا الأبوابَ، ونحوِ ذلك؛ ففي قتلِهم قولانِ للعُلماءِ.
وإن كان شارَكَ في قتلِه أولادُه الصغارُ؛ فلا ميراثَ لهم في أحدِ قولَيِ العلماءِ، وهو المشهورُ من مذهَبِ الشافعيِّ وأحمدَ؛ بل يُعاقَبونَ بالتأديبِ، ولا يُقتَلونَ، ومذهبُ أبي حنيفةَ ومالكٍ: يرثونَ
(3)
.
(1)
رواه أحمد (286)، وأبو داود (4537).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن كذَب
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 227، الفتاوى الكبرى 3/ 437.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا قتَل جماعةٌ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 143، الفتاوى الكبرى 3/ 389.
قطَّاعُ الطريقِ
إذا طُلِب أحدٌ من الطائفةِ المفسدةِ
الذينَ خرجوا عن الطاعةِ، وفارقوا الجماعةَ، وعَدَوا على المسلمِينَ في دمائِهم وأموالِهم بغيرِ حقٍّ، وقد طُلبوا ليقامَ فيهم أمرُ اللهِ ورسولِه، فعادَ منهم من يقاتلُ ويمتنعُ؛ جاز قتالُه، ولا شيءَ على من قتَلَه؛ بل المحارَبونَ يستوي فيهم الردء والمباشِرُ عندَ جمهورِ الأئمَّةِ؛ أحمدَ ومالكٍ وأبي حنيفةَ، فمن عاوَنَهم؛ كان حكمُه حكمَهم
(1)
.
ويجوزُ، بل يجبُ بإجماعِ المسلمِينَ:
قتالُ كلِّ طائفةٍ ممتنعةٍ عن شريعةٍ من شرائعِ الإسلامِ الظاهرةِ المتواترةِ؛ مثلُ الطائفةِ الممتنعةِ عن الصلاةِ، أو عن أداءِ الزكاةِ، أو عن الصيامِ المفروضِ من ذلك، ومثلُ: مَن لا يمتنعُ عن سفكِ دماءِ المسلمِينَ وأخذِ أموالِهم، ومثلُ: الشوكةِ المقيمينَ بأرضٍ لا يُصلُّونَ ولا عندَهم مسجدٌ ولا يُؤذِّنونَ، ولا يُزكُّونَ معَ وجوبِها عليهم، ويقتلُ بعضُهم بعضًا، وينهبُ مالَه، ويقتلونَ الأطفالَ، ويَسْبُون ويبِيعونَ ما يسبونَه للإفرنجِ، وإذا دُعِي أحدُهم إلى الشرعِ؛ قال: أنا الشرعُ؛ فهؤلاءِ كلهم يجبُ قتالُهم؛ كما أمر رسولُ اللهِ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا قتَل جماعةٌ
…
) في مجموع الفتاوى 35/ 91، الفتاوى الكبرى 3/ 468.
بقتلِ الخوارجِ، معَ كونِ أحدِ الصحابةِ يحقِرُ صلاتَه معَ صلاتِهم، وصيامَه معَ صيامِهم، فقاتَلَهم عليٌّ رضي الله عنه
(1)
.
ويُدعَونَ قبلَ القتالِ إلى التزامِ شرائعِ الإسلامِ، فإن التزموها؛ استوثِقَ منهم، ولم يُكْتَفَ بمجرَّدِ قولِهم؛ بل تُنزَعُ منهم الخيلُ والسلاحُ، كما فعل أبو بكرٍ رضي الله عنه
(2)
؛ حتى يرى منهم السِّلْمَ، ويرسلُ إليهم من يُعلِّمُهم الإسلامَ، ويقيمُ بهم الصَّلاةَ، ويستخدمُ بعضَ المطاعينَ منهم من جندِ المسلمِينَ، ويجعلُهم في جماعةِ المسلمِينَ، ويُمنَعونَ من ركوبِ الخيلِ وأخذِ السلاحِ حتى يَستقيموا، فإن لم يستجيبوا للهِ ورسولِه؛ وإلا وجَب قتالُهم، وهذا مُتَّفَقٌ عليه بينَ علماءِ المسلمينَ
(3)
.
فَصْلٌ
هذه الفتنُ التي تقعُ بينَ الناسِ
كحرامٍ وثعلبةَ وأمثالِهما؛ من أعظمِ المحرماتِ، وأكبرِ المُنكَراتِ، فيجبُ أن يكونَ بينَ المسلمِينَ من يأمُرُهم بالخيرِ، وهو ما يُحِبُّه اللهُ ورسولُه من عبادتِه وحدَه لا شريكَ له، والاجتماعِ على ما يحبُّه اللهُ ورسولُه، والتعاونِ على البِرِّ والتقوى، ويُؤمَرونَ بالمعروفِ، ويُنهَوْنَ عن المُنكَرِ، والواجبُ أن يُسعَى بينَ هاتينِ
(1)
تقدم تخريجه ص
…
ظظ
(2)
رواه ابن أبي شيبة (32731).
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجوزُ، بل يجبُ
…
) في مجموع الفتاوى 28/ 556، الفتاوى الكبرى 3/ 472.
الطائفتينِ بالصلحِ الذي أمَر اللهُ به ورسولُه، ويقالُ لهذه: ما تنقِمُ من هذه؟ ولهذه: ما تنقِمُ من هذه؟.
ومن كان من الطائفتينِ يظنُّ أنه مظلومٌ مبغيٌّ عليه، فإذا صبَر وعفا؛ أعَزَّه اللهُ تعالى ونصرَهُ، ومَن كان باغيًا ظالمًا؛ فليتَّقِ اللهَ ولْيتُبْ إليه.
وهذه الفتنُ سببُها الذنوبُ، فعلى كلٍّ من الطائفتينِ أن يستغفرَ اللهَ، ويتوبَ إليه، فإنه يرفعُ عنه العذابَ، وتنزِلُ الرحمةُ، قال اللهُ تعالى:{وما كان اللهَ ليعذبهم وأنت فيهم وما كان اللهَ معذبهم وهم يستغفرون}
(1)
.
وأجمعَ المسلمونَ على جوازِ مقاتلةِ قُطَّاعِ الطريقِ
، فإذا طلبوا مالًا لمعصومٍ؛ لم يجبْ عليه أن يُعطِيَهم شيئًا باتِّفاقِ الأئمَّةِ؛ بل يدفَعُهم بالأسهلِ فالأسهلِ، فإن لم يَندفِعوا إلا بالقتالِ؛ فله أن يقاتِلَهم، فإن قُتِل كان شهيدًا، وإن قَتَل واحدًا منهم على هذا الوجهِ؛ كان دَمُه هَدرًا، وكذلك إذا طلبوا دمَه.
وفي وجوبِ دفعِه عن دَمِه نزاعٌ، هما روايتانِ عن أحمدَ، ولا يجبُ الدفعُ عن مالِه
(2)
.
قال تعالى: {وبشر المخبتين}
، قال عمرُو بنُ أَوْسٍ:
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (هذه الفتنُ
…
) في مجموع الفتاوى 35/ 79، الفتاوى الكبرى 3/ 460.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وأجمعَ المسلمونَ
…
) في مجموع الفتاوى 34/ 242، الفتاوى الكبرى 3/ 525.
«هم الذينَ لا يَظلمونَ إذا ظُلِموا»
(1)
، فينبغي الصبرُ على الظالمِ، وألا يُبغى عليه، كما قال ابنُ مسعودٍ:«لو بغَى جبلٌ على جبلٍ؛ لجعل اللهُ الباغيَ منهما دَكًّا»
(2)
.
ومن حكمةِ الشعرِ:
قضَى اللهُ أنَّ البَغْيَ يَصرَعُ أَهْلَهُ وَأَنَّ عَلى البَاغِي تَدُورُ الدَّوائِرُ
ويشهدُ لهذا قولُه: {إنما بغيكم على أنفسكم}
(3)
.
فَصْلٌ
هذه الأُخُوَّةُ التي تقعُ
بينَ بعضِ الناسِ في هذا الزمانِ، وقولُ كلِّ واحدٍ منهما: مالي مالُكَ، ودمي دمُكَ، وولدي ولدُكَ، ويشربُ أحدُهما دمَ الآخَرِ؛ فهذا الفعلُ على هذا الوجهِ غيرُ مشروعٍ باتِّفاقِ المسلمِينَ.
وإنما كان أصلُ الأُخُوَّةِ أنه صلى الله عليه وسلم آخَى بينَ المهاجرينَ والأنصارِ، وحالفَ بينَهم في دارِ أنسِ بنِ مالكٍ
(4)
، كما آخَى بينَ سعدِ بنِ الربيعِ
(1)
رواه ابن جرير في التفسير (18/ 629).
(2)
لم نجده عن ابن مسعود، ورواه البخاري في الأدب المفرد (588) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (قال تعالى: {وبشر المخبتين}
…
) في مجموع الفتاوى 35/ 79، الفتاوى الكبرى 3/ 460.
(4)
رواه البخاري (7340)، ومسلم (2529) من حديث أنس رضي الله عنه.
وعبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ
(1)
، وبينَ سلمانَ وأبي الدَّرْداءِ
(2)
.
وأما ما يذكُرُه بعضُ المصنِّفِينَ من أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم آخَى عليًّا، وآخَى بين أبي بكرٍ وعمرَ، ونحوِ ذلك؛ فهذا باطلٌ باتِّفاقِ الأئمَّة، فإنه لم يُؤاخِ بينَ مهاجريٍّ ومهاجريٍّ، إنما آخى بينَ المهاجرينَ والأنصارِ، وكانوا يَتوارثونَ بالمؤاخاةِ حتى نزل:{وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض} .
وتَنازَعوا: هل يُورَّثُ بها عندَ عدَمِ الورثةِ؟ على قولَينِ، هما روايتانِ
(3)
.
وكذلك تنازَعَ الناسُ: هل يُشرَعُ في الإسلامِ أن يتآخى اثنانِ، ويتحالفا؛ كما فعل المهاجرونَ والأنصارُ؟
فقيلَ: إن ذلك منسوخٌ؛ لما رواه مسلمٌ أنه قال: «لا حِلْفَ في الإسلامِ، وما كان من حِلْفٍ الجاهليةِ فلم يزده الإسلامُ إلَّا شدةً»
(4)
؛ ولأن اللهَ قد جعل المؤمنينَ إخوةً بنصِّ القرآنِ، وقال:«المسلمُ أخو المسلمِ»
(5)
، فمن كان قائمًا بواجبِ الإيمانِ؛ كان أخًا لكلِّ مؤمنٍ، يجبُ عليه أن يقومَ بحقوقِه وإن لم يَجْرِ بينهما عقدٌ خاصٌّ، فإن اللهَ
(1)
رواه البخاري (2048) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
(2)
رواه البخاري (1968)، من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه.
(3)
واختار شيخ الإسلام توريثه. ينظر: الإنصاف 18/ 8.
(4)
رواه مسلم (2530)، من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.
(5)
رواه البخاري (2442)، ومسلم (2580) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ورسولَه قد عقدا الأخوةَ بينهما، فيجبُ على كلِّ مسلمٍ أن يكونَ حبُّه وبُغْضُه ومُوالاتُه تَابعًا لأمرِ اللهِ ورسولِه.
ومَن الناسِ مَن يقولُ: يُشرَعُ مثلُ تلك المؤاخاةِ والمحالفةِ، وهو يُناسِبُ مَن يقولُ بالتوارثِ بالمحالفةِ؛ لكن لا نزاعَ أن ولدَ أحدِهما لا يصيرُ ولدَ الآخَرِ، فإن اللهَ تعالى قد نسَخ التبنيَ الذي كان في الجاهليةِ؛ حيث كان الرجلُ يتبنَّى ولدَ غيرِه، وكذلك لا يصيرُ مالُ كلِّ واحدٍ مالًا للآخَرِ يُورَثُ عنه، ولكن إذا طابَتْ نفسُ الواحدِ بما يتصرفُ فيه الآخرُ من مالِه؛ فجائزٌ، كما كان السَّلَفُ يفعلونَ، وكان أحدُهما يدخُلُ بيتَ الآخرِ، ويأكُلُ من طعامِه معَ غَيْبتِه؛ لعِلمِه بطيبِ نفْسِه بذلك، كما قال تعالى:{أو صديقكم} .
وأما شربُ كلٍّ منهما دمَ الآخَرِ؛ فهذا لا يجوزُ، ويُشبهُ الذينَ يتآخَوْنَ متعاونينَ على الإثمِ بالاكتواءِ، وحبِّ المُرْدانِ، وهذا مثلُ مؤاخاةِ من ينتسبُ إلى المشيخةِ والسلوكِ للنساءِ، فيؤاخي أحدُهم المرأةَ الأجنبيةَ، ويخلو بها، وقد أقرَّ طوائفُ من هؤلاءِ بما جرى بينهم من الفواحشِ، فمثلُ هذه المؤاخاةِ مما فيه تعاونٌ على ما نُهِيَ عنه؛ حرامٌ بإجماعِ المسلمِينَ.
وإنما النِّزاعُ في مؤاخاةٍ يكونُ مقصودُها التعاونَ على البرِّ والتقوى؛ تجمَعُهما السُّنَّةُ، وتُفرِّقُهما البدعةُ؛ فأكثرُ العلماءِ لا يَرَوْنَها؛ اكتفاءً بالأخوةِ في الإسلامِ التي عقَدها اللهُ ورسولُه.
وبالجملةِ: فكلُّ شرطٍ ليس في كتابِ اللهِ فهو باطلٌ، وإن كان مائةَ
شرطٍ؛ سواءٌ البيعِ والإجارةِ والأخوةِ والمشيخةِ وغيرِها
(1)
.
وإذا اقتتَلَ طائفتانِ
من الفلاحينَ وغيرِهم، فانهزَمَ منهم أحدٌ توبةً وخوفًا من اللهِ؛ لم يُحكَمْ له بالنارِ.
وأما إن كان انهزَمَ عجزًا، ولو قدَرَ على خَصْمِه لقتَلَه؛ فهو في النارِ، كما قال صلى الله عليه وسلم:«إذا التقى المسلمانِ بسَيْفَيْهما فالقاتلُ والمقتولُ في النارِ»
(2)
، فإذا كان المقتولُ في النارِ معَ كونِه أسوأَ حالًا من المنهزم، فكيفَ بالمهزومِ؟! فمصيبةُ قتلِه لم تُكفِّرْ ما كان حريصًا عليه من قتلِ صاحبِه، ولهذا قال طائفةٌ من الفقهاءِ: إن منهزِمَ البُغاةِ يُقتَلُ إذا كان له طائفةٌ يأوي إليها فيُخافُ عَودُه، بخلافِ المُثخَنِ منهم.
والمقتولُ قد يقالُ: إنه يُكفَّرُ عنه بعضُ ذنبِه، معَ كونه من أهلِ النارِ، بخلافِ المهزومِ المُصِرِّ على الحِنْثِ العظيمِ؛ فهو أسوَأُ حالًا منه
(3)
.
والنُّصَيْريةُ الإسماعيليةُ
؛ الملاحدةُ، القرامطةُ، الباطنيةُ، الخُرَّميةُ، المحمِّرةُ؛ كلُّ هذه أسماءٌ لهم؛ أجمع المسلمونَ على أنَّه لا تجوزُ مُناكَحتُهم، ولا يجوزُ أن يُنكِحَ الرجلُ موليَّتَه منهم، ولا تُباحُ ذبائِحُهم.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (هذه الأخوة
…
) في مجموع الفتاوى 35/ 92، الفتاوى الكبرى 3/ 467.
(2)
رواه البخاري (31)، ومسلم (2888) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا اقتتل
…
) في مجموع الفتاوى 35/ 51، الفتاوى الكبرى 3/ 442.
وفي الجبنِ المعمولِ بإنْفَحَتهم قولانِ؛ كإنْفَحَةِ ذبيحةِ المجوسِ، وأوانيهم وثيابُهم كأواني المجوسِ وثيابِهم، ولا يجوزُ دفنُهم في مقابرِ المسلمِينَ، ولا يُصلَّى عليهم.
واستخدامُ مثلِ هؤلاءِ في حصونِ المسلمِينَ وثغورِهم؛ من الكبائرِ المحرَّمةِ، بمنزلةِ مَن يستخدمُ الذئابَ لرَعْيِ الغنمِ.
والواجبُ قطعُهم من الدواوينِ، ولا يجوزُ تأخيرُ هذا الواجبِ حيثُ قدرَ عليه، ودماؤُهم وأموالُهم؛ حلالٌ مباحةٌ.
وإذا أظهروا التوبةَ؛ ففي قبولِها منهم نزاعٌ بينَ العلماءِ، فمن قَبِلَ توبتَهم؛ أقرَّهم على الأموالِ التي لهم، ومن لم يقبلْ توبتَهم؛ فمالُهم فيءٌ لبيتِ المالِ، وأصلُ مذهبِهم التَّقِيَّةُ، فإذا أُخِذوا أظهروا التوبةَ، فالطريقُ ألَّا يُترَكوا مجتمعِينَ، ولا يُمكَّنونَ من حملِ السلاحِ، ويلزمونَ شرائعَ الإسلامِ، وتركَ ركوبِ الخيلِ، كما فعَلَ أبو بكرٍ بأهلِ الرِّدَّةِ
(1)
، فمَنْ أظهرَ الإسلامَ، والتهمةُ ظاهرةٌ عليه؛ عومِلَ بذلك.
ولا رَيْبَ أن جهادَ هؤلاءِ وإقامةَ الحدودِ عليهم من أعظمِ الطاعاتِ، وأكبرِ الواجباتِ، وأفضلُ من جهادِ المشركينَ وأهلِ الكتابِ، ولا يحلُّ لأحدٍ أن يكتمَ ما يعرفهُ من أخبارِهم، بل يفشيها.
والجهادُ أفضلُ من الحجِّ والعمرةِ
(2)
.
(1)
تقدم تخريجه ص
…
ظظ
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والنصيرية والإسماعيلية
…
) في مجموع الفتاوى 35/ 145، الفتاوى الكبرى 3/ 503.
فَصْلٌ
(1)
من لعَن أحدًا من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
؛ كمعاويةَ وعمرِو بنِ العاصِ، أو من هو أفضلُ من هؤلاءِ؛ كأبي موسى وأبي هُرَيرةَ، أو من هو أفضلُ من هؤلاءِ؛ كطلحةَ، والزُّبَيرِ، أو عثمانَ، أو عليٍّ، أو أبي بكرٍ، أو عمرَ، أو عائشةَ، أو نحوِ هؤلاءِ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنه مستحِقٌّ للعقوبة البليغة باتِّفاقِ المسلمِينَ.
وتَنازَعوا: هل يُعاقَبُ بالقتلِ، أو ما دونَ القتلِ؟ وقد ثبَتَ في الصحيحِ أنه قال:«لا تسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيدِه لو أنفَقَ أحدُكم مثلَ أُحُدٍ ذهبًا؛ ما بلَغ مُدَّ أحدِهم، ولا نَصِيفَه»
(2)
، واللعنةُ أعظمُ من السبِّ، وقال:«لعنُ المؤمنِ كقتلِه»
(3)
.
وأصحابُه خيارُ المؤمنينَ، كما قال:«خيرُ القُرونِ قَرْني، ثم الذينَ يلونَهم»
(4)
، وكلُّ مَن رآه؛ فله من الصحبةِ بقدرِ ذلك.
ولما كان لفظُ: «الصحبةِ» فيه عمومٌ وخصوصٌ؛ كان من اختَصَّ من الصحبةِ بما يتميزُ به عن غيرِه يوصفُ بتلك الصحبةِ دونَ من لم يشرَكْه
(1)
ينظر أصل الفتوى في هذا الفصل في مجموع الفتاوى 35/ 58، الفتاوى الكبرى 3/ 446.
(2)
رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (6105)، ومسلم (110) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
(4)
رواه البخاري (2652)، ومسلم (2533) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، بنحوه
فيها، كما قال في حديثِ أبي سعيدٍ لخالدِ بنِ الوليدِ لما اختَصمَ هو وعبدُ الرحمنِ:«يا خالدُ، لا تسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيدِه لو أنفَقَ أحدُكم مثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما بلَغ مُدَّ أحدِهم، ولا نَصِيفَه» ، فإنَّ عبدَ الرحمنِ بنَ عوفٍ هو وأمثالُه من السابقينَ الأولينَ من الذينَ أنفقوا قبلَ الفتحِ - فتحِ الحُدَيْبيةِ - وقاتلوا، وخالدٌ وغيرُه ممن أسلمَ بعدَ الحديبيةِ، وأنفقوا وقاتلوا، دونَ أولئكَ، قال تعالى:{لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئكَ أعظم درجة من الذينَ أنفقوا من بعدَ وقاتلوا} .
والمرادُ بالفتحِ: فتحُ الحديبيةِ، لما بايعَ أصحابَه تحتَ الشجرةِ، وكان الذين بايعوه أكثرَ من ألفٍ وأربعمائةٍ، وهم الذين فتحوا خيبرَ، وقد قال:«لَا يَدخُل النارَ أحدٌ بَايعَ تحتَ الشجرةِ»
(1)
، وسورةُ الفتحِ التي فيها ذلك؛ أنزلها اللهُ قبلَ فتحِ مكةِ؛ بل قبلَ أن يعتمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمرةَ القضيةِ، وكان قد بايعَ أصحابَه تحتَ الشجرةِ عامَ الحديبيةِ سنةَ ستٍّ من الهجرةِ، وصالَحَ المشركينَ صلحَ الحديبيةِ المشهورَ، وبذلك الصلحُ حصَل من الفتحِ والخيرِ ما لا يعلمُه إلا اللهُ، معَ أنه قد كان كرِهَه خلقٌ من المسلمِينَ، ولم يعلموا ما فيه من حسنِ العاقبةِ؛ حتى قال سَهْلُ بنُ حُنَيفٍ:«أيها الناسُ، اتَّهِموا أنفسَكم، فلقد رأيتُني يومَ أبي جَنْدلٍ، ولو أستطيعُ أن أرُدَّ أمرَ رسولِ اللهِ لردَدتُّه» رواه البخاريُّ
(2)
.
(1)
رواه مسلم (2496) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (3181)، ومسلم (1785).
فلما كان من العامِ القابلِ؛ اعتَمرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عمرةَ القضيةِ، ودخل هو ومَن اعتَمرَ معَه مكةَ معتمرينَ، وأهلُ مكةَ يومئذٍ معَ المشركينَ، ولما كان في العامِ الثامنِ فتَحَ مكةَ في شهرِ رمضانَ، وقد أنزل اللهُ في سورةِ الفتحِ: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاءَ اللهُ آمنين
…
} إلى قولِه: {فجعل من دون ذلك فتحا قريبا} ، فوَعَدهم في سورةِ الفتحِ أن يدخلوا مكةَ آمنينَ، وأنجَزَ موعِدَهُ من العامِ الثاني عامُ القضيةِ، وأنزل في ذلك:{الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص} ، وذلك كلُّه قبلَ فتحِ مكةَ.
فمَن توهَّم أن سورةَ الفتحِ نزلَتْ بعدَ فتحِ مكةَ؛ فقد غلِطَ غلَطا بيِّنًا.
والمقصودُ: أن الذينَ صحِبوه قبلَ الفتحِ؛ اختصُّوا من الصحبةِ بما استحقوا به التبْرِيزَ على مَن بعدَهم، حتى قال لخالدٍ:«لَا تَسبُّوا أصحَابي» ؛ فإنهم صحِبوه قبلَ أن يصحَبَه خالدٌ وأمثالُه.
ولما كان لأبي بكرٍ الصدِّيقِ من مَزِيَّةِ الصحبةِ رضي الله عنه ما تميَّزَ به على جميعِ الصحابةِ؛ خصَّه بذلك فيما رواه البخاريُّ: أنه كان بينَ أبي بكرٍ وعمرَ كلامٌ، فطلب أبو بكرٍ من عمرَ أن يستغفرَ له، فامتنعَ عمرُ، وجاء أبو بكرٍ إلى النبيِّ، فذكَر له ما جرى، ثم قدِمَ عمرُ، فخرج يطلُبُ أبا بكرٍ في بيتِه، فذُكِر له أنه كان عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما جاء عمرُ أخَذَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يغضَبُ لأبي بكرٍ، وقال: «أيها الناسُ، إني جئتُ إليكم، فقلتُ: إنِّي رسولُ اللهِ إليكم، فقلتُم: كذَبتَ، وقال أبو بكرٍ: صدَقْتَ، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟! فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟! فهل أنتم تاركو لي
صاحبي؟!»، فما أُوذِيَ بعدَها
(1)
، فخَصَّه باسم الصُّحبةِ كما خَصَّه به القرآنُ مِن قولِه:{إذ يقول لصاحبه لا تحزن} ، وقال:«إن أمَنَّ الناسِ عليَّ في صحبتِه وذاتِ يدِه: أبو بكرٍ، ولو كنتُ متخِذًا من أهلِ الأرضِ خليلًا؛ لاتخذتُ أبا بكرٍ خليلًا؛ ولكنَّ صاحِبَكم خليلُ اللهِ، لا تبقَيَنَّ في المسجدِ خَوخةٌ إلا سُدَّتْ؛ إلا خَوخةَ أبي بكرٍ»
(2)
، وهذا حديثٌ من أصحِّ حديثٍ يكونُ باتِّفاقِ أهلِ الخبرة.
فعمومُ الصحبةِ يندرجُ فيه كلُّ مَن رآه مؤمنًا به، ولهذا يقالُ: صحِبتُه سنةً، وشهرًا، وساعةً.
ومعاويةُ وعمرو
(3)
هم من المؤمنينَ، لم يتَّهِمْهم أحدٌ من السَّلَفِ بنفاقٍ؛ بل ثبَتَ في الصحيحِ أن عمرَو بنَ العاصِ لما بايَعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: على أن يُغفَرَ لي ما تقدَّم من ذنبي، فقال:«يا عمرُو، أما علِمتَ أن الإسلامَ يهدِمُ ما قبلَه، والهجرةَ تهدِمُ ما قبلَها، والحجَّ يهدِمُ ما كان قبلَه»
(4)
، والإسلامُ الهادمُ: هو إسلامُ المؤمنينَ.
وأيضًا فعمرٌو وأمثالُه ممن قدِم مهاجرًا بعدَ الحُدَيْبيةِ؛ هاجروا من بلادِهم طَوْعًا، والمهاجرونَ لم يكُنْ فيهم منافقٌ، وإنما كان النفاقُ في بعضِ الأنصارِ، وذلك لأن الأنصارَ هم أهلُ المدينةِ، فلما أسلَمَ
(1)
رواه البخاري (3661)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (467)، ومسلم (3904)، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(3)
في (الأصل): (عمر)، والمثبت من (ك)، ومجموع الفتاوى.
(4)
رواه مسلم (121).
أشرافُهم وجمهورُهم؛ احتاجَ الباقونَ أن يُظهِروا الإسلامَ نفاقًا؛ لعزِّ الإسلامِ وظهورِه في قومِهم، وأما أهلُ مكةَ فكان أشرافُهم كفارًا، فلم يكُنْ يُظهِرُ الإسلامَ إلا من هو مؤمنٌ ظاهرًا وباطنًا، فإن من أظهرَ الإسلامَ كان يُؤذَى ويُهجَرُ، فالمهاجرونَ كلُّهم لم يُتَّهَمْ أحدٌ بالنفاقِ، ولعنُ المؤمنِ كقَتْلِه.
وأما معاويةُ بنُ أبي سُفْيانَ، وأمثالُه من الطلقاءِ الذينَ أسلموا بعدَ الفتحِ؛ كعِكْرمةَ بنِ أبي جهلٍ، والحارثِ بنِ هشامٍ، وسُهَيلِ بنِ عمرٍو، وصفوانَ بنِ أميةَ، وأبي سفيانَ بنِ الحارثِ بنِ عبدِ المطلبِ؛ ممن حسُنَ إسلامُهم باتِّفاقِ الناس، ولم يُتَّهَمْ أحدٌ منهم بعدَ ذلك بنفاقٍ.
ومعاويةُ قد استَكْتَبَه رسول الله، وكان أكثرَ الناسِ كتابةً له، وقد رُوِي بإسنادٍ جيدٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«اللهُمَّ علِّمْه الكتابَ والحسابَ، وقِهِ العذابِ»
(1)
، وكان أخوه يزيدُ بنُ أبي سفيانَ خيرًا منه وأفضلَ، وهو أحدُ الأمراءِ الذينَ بعَثَهم أبو بكرٍ رضي الله عنه في فتحِ الشامِ، ووصَّاه بوصيةٍ معروفةٍ، وأبو بكرٍ ماشٍ ويزيدُ راكبٌ، فقال له يزيدُ: يا خليفةَ رسولِ اللهِ؛ إما أن تركبَ، وإما أن أنزلَ، قال:«لستُ براكبٍ، ولستَ بنازلٍ، إني أحتسِبُ خُطاي في سبيلِ اللهِ»
(2)
، وعمرُو بنُ العاصِ كان هو الأميرَ الآخَرَ، والثالثُ: شُرَحْبيلُ بنُ حَسَنةَ، والرابعُ: خالدُ بنُ الوليدِ، وهو أميرُهم المُطلَقُ رضي الله عنهم أجمعينَ، ثم عزَله عمرُ، وولَّى أبا عُبَيدةَ الذي شهِدَ
(1)
رواه أحمد (17152)، وابن خزيمة (1938)، من حديث العرباض رضي الله عنه.
(2)
رواه مالك في الموطأ (2/ 447)، وسعيد بن منصور (2383).
له الرسولُ بأنه أمينُ هذه الأمةِ
(1)
، فكان فتحُ الشامِ على يدِ أبي عُبَيدةَ، وفتحُ العراقِ على يدِ سعدِ بنِ أبي وقاصٍ.
ثم لما مات يزيدُ بنُ أبي سفيانَ في خلافةِ عمرَ؛ استَعملَ مكانَه أخاه معاويةَ، وكان عمرُ بنُ الخطابِ من أعظمِ الناسِ فِراسةً، وأخبرِهم بالرجالِ، وأقومِهم بالحقِّ، وأعلَمِهم به، حتى قال عليٌّ:«كنا نتحدَّثُ أن السكينةَ تنطقُ على لسانِ عمرَ»
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«إن اللهَ ضرب الحقَّ على لسانِ عمرَ وقلبِه»
(3)
، وقال:«لو لم أُبعَثْ فيكم؛ لبُعِثَ عمرُ»
(4)
، وما استَعملَ عمرُ ولا أبو بكرٍ منافقًا، ولا استَعملا من أقاربِهما، ولا كان تأخُذُهما في اللهِ لومةُ لائمٍ؛ بل لما قاتلوا أهلَ الرِّدَّةِ، وأعادوهم
(5)
إلى الإسلامِ؛ منَعوهم ركوبَ الخيلِ، وحملَ السلاحِ، فكان عمرُ يقولُ لسعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ، وهو أميرُ العراقِ: «لا تستعملْ منهم أحدًا، وأن تشاوِرَهم
(6)
في حروبِهم»
(7)
، فإنهم كانوا أمراءَ أكابرَ؛ مثلُ: طليحةَ
(1)
رواه البخاري (4382)، ومسلم (2419) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
رواه أحمد (834)، والطبراني في الأوسط (5549).
(3)
رواه أحمد (21457)، وأبو داود (2962)، وابن ماجه (108) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، والترمذي (3682) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
رواه ابن عدي في الكامل (4/ 80)، ورواه أحمد (17405)، والترمذي (3686) بلفظ:«لو كان من بعدي نبي؛ لكان عمر بن الخطاب» .
(5)
في (الأصل): (وعادهم)، والمثبت من (ك)، ومجموع الفتاوى.
(6)
هكذا في الأصل و (ك)، وهو الموافق لمعنى الأثر، وفي مجموع الفتاوى 35/ 65:(ولا تشاورهم).
(7)
روى ابن سعد في الجزء المتمم للطبقات (ص 501)، والبيهقي في الكبرى (20329)، وابن عساكر في تاريخه (25/ 154)، أن عمر كتب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:«أن شاور طليحة وعمرو بن معدي كرب في أمر حربك، ولا تولهما من الأمر شيئًا» .
الأسديِّ، والأقرعِ بنِ حابسٍ، وعُيَيْنةَ بنِ حِصْنٍ، والأشعثِ بنِ قيسٍ، وأمثالِهم.
فهؤلاءِ لما تخوَّفَ أبو بكرٍ وعمرُ منهم نوعَ نفاقٍ؛ لم يُولُّوهم على المسلمِينَ، فلو كان عمرُو بنُ العاصِ ومعاويةُ ممن يُتخوَّفُ منهما النفاقُ؛ لم يُولُّوهما على المسلمِينَ؛ بل قد أمَّرَ عمرَو بن العاص رسولُ اللهِ في غزوةِ ذاتِ السلاسلِ
(1)
، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يُوَلِّ على المسلمِينَ منافقًا، واستعمل على نجرانَ أبا سفيانَ بنَ حربٍ
(2)
، أبو معاويةَ، ومات رسولُ اللهِ وأبو سفيانَ نائبُه؛ وقد اتفقَ المسلمونَ على أنَّ إسلامَ معاويةَ خيرٌ من إسلامِ أبيهِ، بل جميعُ علماءِ الصحابةِ متَّفِقونَ على صدقِهم، والأخذِ عنهم، وإذا كانوا مؤمنينَ محبينَ للهِ، فمَن لعَنَهم فقد عصى اللهَ.
وأئمةُ الدينِ لا يعتقدونَ عصمةَ أحدٍ من الصحابةِ، ولا من القرابةِ؛ بل يُجوِّزونَ عليهم وقوعَ الذنوبِ، واللهُ تعالى يغفرُ لهم، وقصةُ حاطبِ في الصحيحِ
(3)
، فقد غُفِر له الذنبُ العظيمُ بشهودِه بدرًا، والصحابةُ لهم من الحسناتِ العظيمةِ والأسبابِ التي تمحو السيئاتِ أعظمُ نصيبٍ، وقد
(1)
رواه البخاري (3662)، ومسلم (2384).
(2)
رواه الدارقطني (3936)
(3)
رواه البخاري (3007)، ومسلم (2494).
قال تعالى: {ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا} ، هذا في الذنوبِ المحقَّقةِ، وأما ما اجتهدوا فيه؛ فتارةً يصيبونَ، وتارةً يخطئونَ، وهم مأجورون على الحالتينِ.
فأهلُ السُّنَّةِ لا يُعصِّمونَ ولا يُؤثِّمونَ، بخلافِ أهلِ البِدَعِ الذينَ غلَوا من الجانبينِ، طائفةٌ عصَّمتْ، وطائفةٌ أثَّمَتْ، فتولَّد بينهم من البِدَعِ ما سبُّوا به السَّلَفَ؛ بل يُفسِّقونَهم ويُكفِّرونَهم، كما كفَّرتِ الخوارجُ عليًّا وعثمانَ، واستحلوا قتالَهم، وهم الذينَ قال فيهم:«تمرُقُ مارقةٌ على خيرِ فرقةٍ من المسلمِينَ، فيقتُلها أَوْلى الطائفتينِ إلى الحقِّ»
(1)
، فقتَلهم عليٌّ رضي الله عنه، وقال:«إن ابني هذا سيدٌ، وسيُصلِحُ اللهُ به بينَ فِئَتَيْنِ عظيمتينِ من المسلمِينَ»
(2)
، فأصلَحَ اللهُ به بينَ شيعةِ عليٍّ وشيعةِ معاويةَ، فدل على أنه فعل ما أحبَّه اللهُ ورسولُه، وأن الفئتينِ من المسلمين ليسوا مثلَ الخوارجِ الذينَ أُمِر بقتالِهم، ولهذا فرِحَ عليٌّ بقتالِ الخوارجِ، وحزن بقتالِ صِفِّينَ، وأظهر الكآبةَ والألَمَ.
وتبرئةُ الفريقينِ من الكفرِ والنفاقِ، والترحُّمُ عليهما؛ من أهدى الأمورِ التي اتفَق عليها عليٌّ وجميعُ الصحابةِ، وشهِدَ القرآنُ بأن اقتتالَ المؤمنينِ لا يُخرِجُهم من الإيمانِ، والحديثُ المرويُّ:«إذا اقتتل خليفتانِ فأحدُهما ملعونٌ» ؛ كذِبٌ مفترًى، لم يَرْوِه أحدٌ من أهلِ العلمِ بالحديثِ.
(1)
رواه مسلم (1064)، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (3629)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
ومعاويةُ لم يدَّعِ الخلافةَ، ولم يُبايَعْ له بها حينَ قاتلَ عليًّا، ولم يُقاتِلْه على أنه خليفةٌ، ولا أنه يستحقُّ الخلافةَ، ولا كان هو وأصحابُه يَرَوْنَ أن يبدؤوا عليًّا بالقتالِ؛ بل لما رأى عليٌّ أن لا يكونَ للناسِ خليفتانِ، وهؤلاء لهم شوكةٌ، وهم خارجون عن طاعتِه؛ رأى أن يقاتلَهم حتى يؤدوا الواجبَ، وهم قالوا: إنَّ ذلك لا يجبُ عليهم، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك يكونوا مظلومينَ؛ لأن عثمانَ قُتِل مظلومًا باتِّفاقِ المسلمِينَ، وقتَلَتُه في عسكرِ عليٍّ، وهم غالبونَ، لهم شوكةٌ، فإذا لم نمتنعْ ظلمونا واعتدوا علينا، وعليٌّ لا يمكنُه دفعُهم، كما لم يمكنُه الدفعُ عن عثمانَ، وإنما علينا أن نبايعَ خليفةً يقدرُ على أن يُنصِفَنا، ويبذُلَ لنا الإنصافَ.
وكان في جُهَّالِ الفريقينِ مَن يظُنُّ بعليٍّ وعثمانَ ظنونًا كاذبةً، برَّأَهما اللهُ منها، منهم مَن ظنَّ أن عليًّا أمر بقتلِه، وكان يحلفُ - وهو البارُّ الصادقُ بلا يمينٍ - أنه لم يقتلْه، ولا رضي بقتلِه، ولم يُمالِئْ على قتلِه، وهذا معلومٌ بلا رَيْبٍ من عليٍّ رضي الله عنه، فكان أناسٌ من مُحِبِّي عليٍّ ومِن مُبغِضِيه يُشِيعونَ ذلك عنه، فمُحِبُّوه يقصدونَ الطعنَ على عثمانَ، وأنه كان يستحقُّ القتلَ، وأن عليًّا أمر بقتلِه، ومبغِضوه يقصدونَ الطعنَ على عليٍّ، وأنه أعان على قتلِ الخليفةِ المظلومِ الشهيدِ الذي صبَّر نفْسَه، ولم يدفَعْ عنها، ولم يسفِكْ دمَ مسلمٍ في الدفعِ عنه، فكيفَ في طلبِ طاعتِه؟!
وأمثالُ هذه الأمورِ التي يُتسبَّبُ بها على المتشيِّعينَ العثمانيةِ والعلويةِ، وكلٌّ منَ الشيعتين مقرَّةٌ مع ذلك بأنَّ معاويةَ ليس كُفُؤاً لعليٍّ بالخلافةِ، ولا يجوزُ أن يكونَ خليفةً معَ إمكانِ استخلافِ عليٍّ، فإن فضلَ عليٍّ وسابقتَه وعلمَه ودينَه وشجاعتَه وسائرَ فضائلِه؛ كانت عندَهم ظاهرةً معروفةً، كفضلِ إخوانِه؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وغيرِهم، ولم يكُنْ بقِيَ من أهلِ الشورى غيرُه وغيرُ سعدٍ؛ لكنَّ سعدًا قد ترك هذا الأمرَ، وكان الأمرُ قد انحصرَ في عثمانَ وعليٍّ، فلما تُوُفِّي عثمانُ؛ لم يبقَ لها معينٌ إلا عليٌّ رضي الله عنه، وإنما وقع الشرُّ بسببِ قتلِ عثمانَ، فحصَل بذلك قوةُ أهلِ الظلمِ والعدوانِ، وضعْفُ أهلِ العلمِ والإيمانِ؛ حتى حصل من الفرقةِ والاختلافِ ما صار يُطاعُ فيه مَن غيرُه أَوْلى منه بالطاعةِ، ولهذا أمر اللهُ بالطاعةِ والائتلافِ، ونهى عن الفرقةِ والاختلافِ.
وأما الحديثُ الذي فيه: «إن عمارًا تقتُلُه الفئةُ الباغيةُ» ، فقد طعَن فيه طائفةٌ من أهلِ العلمِ، لكن رواه مسلمٌ في صحيحِه، وهو في بعضِ نسخِ البخاريِّ
(1)
.
وقد تأوَّلَه بعضُهم على أن المرادَ بالباغيةِ: الطالبةُ بدمِ عثمانَ، كما قالوا:
نبغي ابنَ عَفَّانَ بأطرافِ الأَسَلْ
(2)
(1)
رواه البخاري (447) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، ورواه مسلم (2916) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(2)
البيت للحارث الضبي، قاله يوم الجمل، ينظر: تاريخ الطبري 4/ 518، لكنه فيه:(ننعي) بدل: (نبغي)، وقبله:(نحن بني ضبة أصحاب الجمل).
والأسل: الرماح. ينظر: الصحاح 4/ 1622.
وليس بشيءٍ؛ بل يقالُ: ما قالَه رسول الله حقٌّ.
وليس في كونِ عماراً تقتُلُه الفئةُ الباغيةُ ما ينافي ما ذكَرْناه، فإن اللهَ تعالى قال:{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} إلى قولِه: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بينَ أخويكم} ، فجعَلهم معَ وجودِ الاقتتالِ والبغيِ؛ مؤمنينَ إخوةً؛ بل مع أمرِه بقتالِ الباغيةِ، وليس كلُّ مَا كان بغيًا يخرُجُ عن الإيمانِ، ولا يوجِبُ اللعنةَ، خصوصًا المتأولَ المجتهدَ؛ كأهلِ العلمِ والدينِ الذينَ اجتهدوا واعتقدوا حِلَّ أمورٍ اعتقد الآخَر تحريمَها؟! كما استحلَّ بعضُهم بعضَ أنواعِ الأشربةِ، وبعضَ المعاملاتِ الربويةِ، وعقودَ التحليلِ والمتعةِ، وأمثالُ ذلك كثيرٌ، فغايةُ المجتهدِ أن يكونَ مخطئًا مغفورًا له خطَؤُه، كما ثبَتَ في الصحيحِ أن اللهَ تعالى استجاب دعاءَ النبيِّ والمؤمنينَ في قولِه: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا
…
} الآيةَ
(1)
، وقد حكَم داودُ وسليمانُ في الحَرْثِ، وأثنى الله عليهما، وإن كان قد خصَّ أحدَهما بالعلمِ والحكمِ، والعلماءُ ورثةُ الأنبياءِ، فإذا فهم أحدُهم من العلمِ ما لم يفهَمْه الآخَرُ؛ لم يكُنْ ملومًا، وإن كان لو فعله وقالَه معَ علمِه؛ يكونُ ملومًا؛ بل تحليلُ الحرامِ وتحريمُ الحلالِ كفرٌ.
والبغيُ من هذا البابِ، يكونُ الباغي مجتهدًا ومتأوِّلًا، ولم يتبيَّنْ له أنه باغٍ؛ بل يعتقدُ أنه على الحقِّ، وإذا كان كذلك لم يكُنْ تسميتُه باغيًا
(1)
رواه مسلم (126)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
مُوجِبًا لإثْمِه؛ فضلًا عن أن يُوجِبَ فسقَه، والذينَ يقولونَ بقتالِ البُغاةِ المتأولينَ لا يحكمونَ بفِسْقِهم؛ بل هم باقونَ على عدالتِهم، وقتالُهم لدفعِ ضررِ بَغْيِهم، لا عقوبةً لهم، كما يُمنَعُ الصبيُّ والمجنونُ والنائمُ والناشئُ من عُدوانٍ يصدُرُ منهم؛ بل البهائمُ تُمنَعُ من العُدوانِ، ويجبُ على مَن قَتَل مؤمنًا خطأً؛ الديةُ بالنصِّ، معَ أنه لا إثمَ عليه، وهكذا من رُفِع إلى الإمامِ من أهلِ الحدودِ، وتاب بعدَ القدرةِ عليه؛ يقامُ عليه الحدُّ، والتائبُ من الذنبِ كمَن لا ذنبَ له.
ثم بتقديرِ أن يكونَ البغيُ بغيرِ تأويلٍ يكونُ ذنبًا؛ والذنوبُ تزولُ عقوبتُها بأسبابٍ متعددةٍ؛ كالتوبةِ، والحسناتِ، والمصائبِ، والشفاعةِ، وعفوِ أرحمِ الراحمينَ.
ثم إن: «عَمَّارًا تقتُلُه الفئةُ الباغيةُ» ؛ ليس نصًّا في معاويةَ وأصحابِه؛ بل يمكنُ أن يرادَ تلك العصابةُ التي حمَلَتْ عليه حتى قتلَتْه، وهي طائفةٌ من العسكرِ، ومَن رضي بقتلِ عمارٍ كان حكمُه حكمَها، ومن المعلومِ أن العسكر كانَ فيهِ مَن لم يرضَ بقتلِه؛ كعبدِ اللهِ بن عمرو
(1)
بنِ العاصِ وغيرِه؛ بل كلُّ الناسِ كانوا مُنكِرِينَ لقتلِ عمارٍ؛ حتى معاويةُ وعمرُو بنُ العاصِ وغيرُهما، ويُروَى أن معاويةَ تأوَّلَ أن الذي قتلَه هو الذي جاء به إلى سيوفِ
(2)
مقاتلَتِه
(3)
، وأن عليًّا رد ذلك بقولِه: «فنحنُ إذن قتَلْنا
(1)
قوله: (بن عمرو) سقط من الأصل. والمثبت من (ك) و (ز).
(2)
في الأصل: سنون. والمثبت من (ك) و (ز).
(3)
رواه أحمد (17778).
حمزةَ»
(1)
، ولا رَيْبَ أن قولَ عليٍّ هو الصوابُ.
لكن مَن نظَر في كلامِ المتناظرينَ الذينَ ليس بينهم قتالٌ ولا ملكٌ؛ رأى لهم من التأويلاتِ ما هو أضعفُ من ذلك، فلم يَرَ معاويةُ أنه قتَل عمارًا، ولم يعتقدْ أنه باغٍ، فهو متأوِّلٌ، والفقهاءُ ليس فيهم مَن رأيه القتالُ معَ من قتَل عمارًا؛ لكن لهم قولانِ مشهورانِ، كما كان عليه أكابر الصحابةِ، منهم مَن يرى القتالَ معَ عمارٍ وطائفتِه، ومنهم من يرى الإمساكَ عن القتالِ مطلقًا، وفي كلٍّ من الطائفتينِ طوائفُ من السابقينَ الأولينَ، ففي القولِ الأول: عمارٌ، وسَهْلُ بن حُنَيفٍ، وأبو أيوبَ.
وفي الثاني: سعدُ بنُ أبي وقاصٍ، ومحمدُ بنُ مَسْلمةَ، وأسامةُ، وعبدُ اللهِ بنُ عمر.
ولعلَّ أكثر أكابرَ الصحابةِ كانوا على هذا القولِ، ولم يكُنْ في العسكرَينِ بعدَ عليٍّ أفضلُ من سعدٍ، وكان من القاعدينَ.
وحديثُ عمارٍ قد يَحتَجُّ به من رأى القتالَ؛ لأن قاتلوه بغاةٌ، واللهُ أمر بقتالِ التي تبغي، والساكتونَ يحتجونَ بالأحاديثِ الصحيحةِ الكثيرةِ من أن القعودَ عن الفتنةِ خيرٌ من القتالِ فيها، وهذا القتالُ ونحوُه هو قتالُ الفتنةِ، واللهُ تعالى لم يأمرْ بقتالِ الباغي أولًا؛ بل أمر بالصلحِ، فإن بغَتْ إحداهما؛ قُوتلَتِ الباغيةُ ردًّا لشرِّها، من بابِ ردِّ الصائلِ الذي لا يندفعُ ظلمُه إلا بالقتالِ، كما قال:«من قُتِل دونَ مالِه فهو شهيدٌ»
(2)
.
فبتقديرِ أن يكونَ جميعُ العسكرِ بغاةً؛ لم يُؤمَرْ بقتالِهم ابتداءً، بل
(1)
ذكره في العقد الفريد 5/ 90.
(2)
تقدم تخريجه ص
…
ظظ
أمر بالصلحِ، والقتالُ الأولُ لم يؤمر به، ولا أمر اللهُ كلَّ مَن بُغِي عليه أن يقاتِلَ الباغيَ، إذ قتْلُ كلِّ باغٍ كفرٌ، فإن غالبَ الناسِ لا يخلو من ظلمٍ وبغيٍ، ولكن إذا اقتتلَتْ طائفتانِ من المؤمنينَ؛ وجبَ الإصلاحُ، ولم تكُنْ طائفةٌ منهما مأمورةً بالقتالِ، ثم إذا بغَتِ الواحدةُ قُوتلَتْ.
وأيضًا: فيمكنُ أنهم لم يكونوا بغاةً في الأولِ؛ بل في أثناءِ الحالِ بغَوا، وحينَ بغَوا ووجب قتالُهم؛ كان الذينَ معَ عليٍّ ناكلينَ عن القتالِ، فإنهم كانوا كثيري الخلافِ عليه، ضعيفي الطاعةِ له.
والمقصودُ: أن الحديثَ لا يُبيحُ لعنةَ أحدٍ من الصحابةِ، ولا يُوجِبُ فِسْقَه رضي الله عنهم أجمعينَ.
وأما أهلُ البيتِ فلم يُسْبَوْا قطُّ، وللهِ الحمدُ، ولم يقتُلِ الحَجَّاجُ أحدًا من بني هاشمٍ، وكان قد تزوَّجَ بنتَ عبدِ اللهِ بنِ جعفرٍ، فلم يرْضَ بنو عبدِ منافٍ ولا بنو هاشمٍ ولا بنو أميةَ؛ حتى فرَّقوا بينَهما؛ حيثُ لم يَرَوْه كُفْئًا لها.
فَصْلٌ
ومَن ادَّعى العصمةَ
في المعِزِّ مَعَدِّ بنِ تميمٍ الذي بنى القاهرةَ والقَصْرَينِ، وأنه كان شريفًا فاطِمِيًّا؛ فهو شرٌّ من قولِ الرافضةِ في الاثني عشَرَ، فإن الرافضةَ ادَّعتِ العصمةَ في أناسٍ من أهلِ الجنةِ، وهؤلاءِ ادَّعوا العصمةَ فيمن اشتَهَر نفاقُه، فإذا كان من ادعى العصمةَ في هؤلاءِ السادةِ عليٍّ، وحسنٍ، وحسينٍ، قد أجمعَتِ الأمةُ على تخطئتِه وفسادِ
قولِه؛ فكيفَ بمن ادَّعَى العصمةَ في ذريةِ عبدِ اللهِ بنِ ميمونٍ القَدَّاحِ، معَ شهرتِه بالنفاقِ والكذبِ والضلالِ والمباطنةِ لأهلِ الكفرِ والبغيِ والعدوانِ، ومعَ العداوةِ لأهلِ البرِّ والتقوى.
وهؤلاءِ القومُ يشهدُ عليهم علماءُ الأمةِ وأئمتُها أنهم كانوا منافقينَ زنادقةً، يُظهِرونَ الإسلامَ، ويُبطِنونَ الكفرَ، وجمهورُ الأمةِ تطعنُ في نسَبِهم، وتَذكرُ أنهم من أولادِ اليهودِ أو المجوسِ، وهم يدَّعونَ علمَ الباطنِ الذي مضمونُه الكفرُ باللهِ وملائكتِه وكتبِه ورُسُلِه واليومِ الآخِرِ، وعندَهم لا جنةَ ولا نارَ، ولا بعثَ ولا نُشورَ، وهم في إثباتِ واجبِ الوجودِ على قولَينِ؛ أئمَّتُهم تُنكِرُه، ويستهينونَ باسمِ اللهِ ورسولِه؛ حتى يكتبَ أحدُهم اسمَ «الله» في أسفلِ نَعْلِه
(1)
.
ومَن ادَّعى: أنه لا فرقَ بينَ البُغاةِ والخوارجِ
في الأحكامِ الجاريةِ عليهما؛ فهو قولُ مجازفٍ، فإن التسويةَ بينهما هو قولُ طائفةٍ من أصحابِ أبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ وغيرِهم.
وأما جمهورُ أهلِ العلمِ فيُفرِّقونَ بينَ الخوارجِ المارقينَ، وبينَ أهلِ الجملِ وصِفِّينَ، وهذا هو المعروفُ عن الصحابةِ، وعليه عامةُ أهلِ الحديثِ والفقهِ، وعليه نصوصُ أكثرِ الأئمَّةِ وأتباعِهم من أصحابِ مالكٍ وأحمدَ والشافعيِّ وغيرِهم، وذلك أنه ثبَتَ في الصحيحِ أنه قال: «تَمْرُقُ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن ادَّعى العصمةَ
…
) في مجموع الفتاوى 35/ 120، الفتاوى الكبرى 3/ 487.
مارقةٌ على خيرِ فرقةٍ من المسلمِينَ، تقتُلُها أَوْلى الطائفتينِ بالحقِّ»
(1)
، فتضمَّنَ الطوائفَ الثلاثةَ، وتبيَّنَ أن المارقةَ نوعٌ ثالثٌ، ليسوا من جنسِ أولئكَ، فإن طائفةَ عليٍّ أَوْلى بالحقِّ من طائفةِ معاويةَ، وقال في حقِّ المارقينَ:«يحقِرُ أحدُكم صلاتَه معَ صلاتِهم، وصيامَه معَ صيامِهم، وقراءَتَه معَ قراءتِهم، يقرؤونَ القرآنَ لا يجاوزُ حناجِرَهم، يمرُقونَ من الإسلامِ كما يمرُقُ السهمُ من الرميةِ، أينما لقيتُموهم فاقتلوهم، فإن في قتلِهم أجرًا عندَ اللهِ لمن قتَلَهم يومَ القيامةِ»
(2)
.
وقد روى مسلمٌ أحاديثَهم في صحيحِه من عشرةِ أوجهٍ، واتَّفَقَ الصحابةُ على قتالِ هؤلاءِ.
وأما أهلُ الجملِ وصِفِّينَ؛ فكان طائفةٌ قاتلَتْ من هذا الجانبِ، وطائفةٌ من هذا الجانبِ، وأكثرُ الصحابةِ لم يُقاتلوا؛ لا معَ هؤلاءِ ولا معَ هؤلاءِ، ومدَحَ رسولُ اللهِ الحسَنَ؛ لأن اللهَ يصلحُ به بينَ فئتينِ عظيمتينِ من المسلمِينَ
(3)
، فلم يكُنِ القتالُ واجبًا ولا مستحَبًّا، بخلافِ الخوارجِ؛ فإنه أمَر به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأجمعَتْ عليه الأمةُ، فكيف يسوَّى بينَ ما أمر به وحضَّ عليه، وبين ما مدَحَ تاركَه وأثنى عليه؟! فمن سوَّى بين قتالِ الصحابةِ وبينَ قتالِ ذي الخُوَيْصِرةِ وأمثالِه من الخوارجِ؛
(1)
تقدم تخريجه ص .... ظظ
(2)
تقدم تخريجه ص .... ظظ
(3)
رواه البخاري (2704).
كان قولُه من جنسِ أقوالِ الجهالِ.
وقد اختَلفَ السَّلَفُ في كفرِ الخوارجِ على قولَينِ، معَ اتفاقِهم على الثناءِ على الصحابةِ المقتتلينَ، والإمساكِ عمَّا جرى بينَهم، فكيفَ يُشَبَّه هذا بهذا؟!
وكذلك تنازَعَ الفقهاءُ في كفرِ مانعِ الزكاةِ المقاتَلِ عليها على قولَينِ؛ هما روايتانِ عن أحمدَ، كالروايتينِ في تكفيرِ الخوارجِ، وأما أهلُ البغيِ المجرَّدِ؛ فلا يُكفَّرونَ اتفاقًا
(1)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن ادَّعى أنه لا فرقَ
…
) في مجموع الفتاوى 35/ 53، الفتاوى الكبرى 3/ 443.
كِتَابُ حَدِّ الزِّنَى وَالقَذْفِ
تُغلَّظُ المعصيةُ وعقابُها
في الأيامِ المفضَّلةِ والأمكنةِ المفضَّلةِ
(1)
.
والوَطْءُ في الدُّبُرِ محرمٌ
بالكتابِ والسُّنَّةِ، وعليه عامةُ الأمةِ، وهو كاللواطِ في الذَّكرِ، وهذا قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وأصحابِهم، بلا نزاعٍ عنهم، وهو الظاهرُ من مذهَبِ مالكٍ وأصحابِه، وحكى بعضُ الناسِ عنهم روايةً أخرى بخلافِ ذلك، ومنهم من أنكَرَها.
وأصلُ ذلك ما نُقِل عن نافعٍ عن ابنِ عمرَ
(2)
، وكان سالِمُ بنُ عبدِ اللهِ يُكذِّبُ نافعًا في ذلك
(3)
، فإما أن يكونَ نافعٌ غلِطَ، أو غلِطَ مَن فوقَه، وإذا غلِطَ بعضُ الناسِ غلطةً؛ لم يكُنْ هذا مما يُسوِّغُ خلاف الكتابِ والسُّنَّةِ، فإنه ثبَتَ عنه أنه قال:«إن اللهَ لا يستحي من الحقِّ، لا تأتوا النِّساءَ في حُشُوشِهنَّ»
(4)
، وقال تعالى:{فأتوا حرثكم} ؛ والحرثُ مكانُ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (تُغلَّظُ المعصيةُ) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 180، والفتاوى الكبرى 3/ 412.
(2)
رواه النسائي في الكبرى (8930)، وابن جرير في التفسير (3/ 751)، وغيرهما، وأصله في صحيح البخاري (6/ 29)، وساق ابن حجر الطرق عن نافع به في فتح الباري (8/ 189).
(3)
رواه ابن جرير (3/ 751)، والمخلِّص في المخلصيات (2/ 353)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (15/ 427).
(4)
رواه الطحاوي في معاني الآثار (4418)، والدارقطني (3750)، من حديث جابر رضي الله عنه. ورواه أحمد (39/ 470) من حديث علي بن طلق بلفظ:«ولا تأتوا النساء في أدبارهن، فإن الله لا يستحيي من الحق» .
الزرعِ، كما غلِط طائفةٌ في إباحةِ الدرهم بالدرهمينِ، واتَّفقَ الأئمَّةُ على تحريمِه، وطائفةٌ في الأشربةِ، وثبَتَ عنه:«كلُّ مُسكِرٍ خَمرٌ»
(1)
.
ومَن وطِئ امرأتَه في دُبُرِها؛ وجَب أن يُعاقَبا على ذلك
(2)
.
فَصْلٌ
في قولِه صلى الله عليه وسلم: «إذا همَّ العبدُ بالحسنةِ»
(3)
، كيفَ تطَّلِعُ الملائكةُ على العمل السر بين العبد وبين ربه؟! فقال سفيانُ بنُ عُيَيْنةَ في جوابِ ذلك أنه:(إذا همَّ بالحسنةِ؛ شمَّ الملكُ رائحةً طيبةً، وإذا هم بسيئةٍ، شمَّ رائحةً خبيثةً).
والتحقيقُ: أن اللهَ تعالى قادرٌ أن يُعلِمَ الملائكةَ بما في نفسِ العبدِ كيفَ شاء، كما هو قادرٌ أن يُطلِعَ بعضَ البشرِ على ما في قلبِ الإنسانِ.
وقيلَ في قولِه تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} : أن المرادَ: الملائكةُ، وقد جعل اللهُ الملائكةَ تُلقِي في قلبِ العبدِ الخواطرَ، كما قال ابنُ مسعودٍ: (إن للملَكِ لَمَّةً، وللشيطانِ لَمَّةً، فلَمَّةُ الملَكِ
(1)
رواه مسلم (2003)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والوَطْءُ في الدُّبُرِ) إلى هنا في مجموع الفتاوى 32/ 267.
(3)
رواه مسلم (128)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه البخاري (6491)، بنحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما،.
تصديق
(1)
بالحقِّ، وإيعادٌ بالخيرِ، ولَمَّةُ الشيطانِ تكذيبٌ بالحقِّ، وإيعادٌ بالشرِّ)
(2)
، وقد ثبَتَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِّلَ به قَرينُه مِن الملائكةِ ومِن الجِنِّ»
(3)
.
فالسيئةُ التي يهُمُّ بها العبدُ إذا كانت من إلقاءِ الشيطانِ؛ علمَ بها الشيطانُ، والحسنةُ التي يهمُّ بها إذا كانت من إلقاء الملكِ؛ علمَ بها الملكُ، فإذا علم بها هذا الملكُ؛ أمكنَ علمُ الملائكةِ الحفظةِ بها
(4)
.
ومن زنَتْ أمُّه، وعُلِم ذلك منها
؛ وجَب على أولادِها وعصَبتِها مَنْعُها من المحرماتِ، فإن لم تمتنعْ إلا بالحبسِ؛ حبَسوها وقيَّدوها إن احتاجت، وما ينبغي للولدِ أن يضرب أمَّه، ولا تجوزُ لهم مقاطعَتُها بحيثُ تتمكنُ بذلك من السوءِ؛ بل يمنَعوها بحسَبِ قدرتِهم، وإن احتاجت إلى رزقٍ وكُسْوةٍ؛ رزقوها، ولا يجوزُ لهم إقامةُ الحدِّ عليها بقتلٍ ولا غيرِه، وعليهم الإثمُ في ذلك، والله أعلم
(5)
.
(1)
في (الأصل): تصدق. والمثبت من (ك) و (ز).
(2)
رواه ابن جرير (5/ 8)، موقوفًا، ورواه الترمذي (2988) والنسائي في الكبرى (10985)، مرفوعًا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. قال الترمذي:(لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث أبي الأحوص).
(3)
رواه مسلم (2814)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(4)
ينظر أصل الفتوى من أول الفصل إلى هنا في مجموع الفتاوى 3/ 253، والفتاوى الكبرى 5/ 127.
(5)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن زنت أمه
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 228، والفتاوى الكبرى 3/ 438.
فَصْلٌ
ومَن قال للرجل: أنتَ ملعونٌ
، ولدُ زنًى؛ وجَب تعزيرُه على هذا الكلامِ، وعليه حَدُّ القذفِ، إن
(1)
لم يقصِدْ بهذه الكلمةِ ما يقصِدُه كثيرٌ من الناسِ من أن فعلَه خبيثٌ كفعلِ ولدِ الزنى، إذا طالب المقذوفُ
(2)
.
ولا تقبل للقاذفِ شهادةٌ أبداً، وهو فاسقٌ إذا لم يتب.
ويجبُ على سيدِ الأَمَةِ إذا زنَتْ:
أن يقيمَ عليها الحدَّ ثلاثًا، ثم في الرابعةِ يبيعُها كما أمره رسولُ اللهِ
(3)
، فإن كان هو يُرسِلُها تزني وتأكُلُ من كَسْبِها، أو يأخُذُه منها؛ فهو ملعونٌ فاسقٌ خبيثٌ آذِنٌ في الكبيرةِ، ومثلُ هذا لا يجوزُ إقرارُه بينَ المسلمِينَ؛ بل يستحقُّ العقوبةَ الغليظةَ، وأقلُّ العقوبةِ: أن يُهجَرَ فلا يُسلَّمَ عليه، ولا يُصلَّى خلفَه إذا أمكن الصَّلاةُ خلفَ غيرِه، ولا يُستَشهَدَ، ولا يُولَّى ولايةً أصلًا، وإن استحلَّ ذلك فهو كافرٌ مرتَدٌّ، يُستتابُ، فإن تاب وإلا قُتِل، لا يرِثُه ورَثتُه المسلمونَ، وإن كان جاهلًا بالتحريمِ؛ عُرِّف ذلك حتى تقومَ عليه
(1)
في (ك): فإن.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن قال للرجل:
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 177، والفتاوى الكبرى 3/ 410.
(3)
رواه البخاري (2234)، ومسلم (1703) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول:«إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها؛ فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد، ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة، فتبين زناها؛ فليبعها ولو بحبل من شعر» .
الحجةُ، فإن هذا من المحرماتِ المُجمَعِ عليها
(1)
.
وإذا شتم الرجل أباه واعتَدَى عليه
؛ وجَب أن يُعاقَبَ عقوبةً بليغةً تردَعُه وأمثالَه؛ بل وأبلغ من ذلك أنه ثبَتَ في الصحيحِ: أن «مِن الكبائرِ أن يسُبَّ الرجلُ والدَيْه» ، قالوا: وكيفَ يسُبُّ الرجلُ والدَيْه؟! قال: «يسُبُّ أبا الرجلِ؛ فيسُبُّ الرجلَ أباه، ويسُبُّ أمَّه؛ فيسُبُّ أمَّه»
(2)
، وقال تعالى:{فلا تقل لهما أف} فكيفَ بسبِّهما؟!
(3)
وإذا قال له: أنتَ علقٌ
(4)
، وهو حرٌّ مسلمٌ، لم يشتهرْ عنه ذلك؛ فعليه حدُّ القَذْفِ إذا طلَبَه
(5)
.
ويجبُ قتلُ الفاعلِ والمفعولِ به
رجمًا بالحجارةِ؛ سواءٌ كانا مُحصَنَينِ أو غيرَ مُحصَنَينِ
(6)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجب على سيد
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 178، والفتاوى الكبرى 3/ 410.
(2)
رواه البخاري (5973)، ومسلم (90)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا شتم الرجل
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 226، والفتاوى الكبرى 3/ 437.
(4)
السؤال في أصل الفتوى: (في رجل قذف رجلًا، وقال له: أنت علق، ولد زنى: فما الذي يجب عليه؟).
(5)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (إذا قال له
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 185، والفتاوى الكبرى 3/ 414.
(6)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجبُ قتلُ الفاعلِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 181، والفتاوى الكبرى 3/ 412.
وجلدُ الذَّكَرِ باليدِ؛ حرامٌ
عندَ أكثرِ الفقهاءِ مطلقاً، وعندَ طائفةٍ من الأئمَّةِ حرامٌ إلا عندَ الضرورةِ؛ مثلُ: أن يخافَ العَنَتَ، وهو أن يخافَ المرضَ، أو يخافَ الزنى، فالاستمناءُ أصلح
(1)
.
ومَن قذَف رجلًا بأنه ينظُرُ
إلى حريمِ الناسِ، وهو كاذبٌ؛ عُزِّر على افترائِه بما يَزجرُه وأمثالَه إذا طالبَه المقذوفُ، وكذا شَتْمُه بأنه فاسقٌ أو أنه يشربُ الخمرَ وهو كاذبٌ عليه؛ يعزَّرُ
(2)
.
ولا يجوزُ وَطْءُ الحائضِ حتى تغتسلَ
، يدلُّ عليه ظاهرُ القرآنِ والآثارُ، وجوَّزَه أبو حنيفةَ إذا انقطعَ لأكثرِ الحيضِ، أو مرَّ عليها وقتُ الصلاة، فاغتسلت
(3)
.
فَصْلٌ
حبُّ المالِ والشَّرَفِ يُفسِدُ الدينَ
، والذي يُعاقَبُ الشخصُ عليه هو الحبُّ الذي يستلزم المعاصي؛ مثلُ: الظلمِ، والكذبِ، والفواحشِ، ولا رَيْبَ أن الحرصَ على المالِ والرياسةِ يوجبُ ذلك، أما مجرَّدُ حبِّ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وجلد الذكر
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 231، والفتاوى الكبرى 3/ 439.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن قذف
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 183، والفتاوى الكبرى 3/ 413.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ولا يجوز وطء
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 21/ 627، والفتاوى الكبرى 3/ 173.
القلبِ إذا كان الإنسانُ يفعلُ ما أمَر اللهُ، ويتركُ ما نُهِي عنه، ويخافُ مقامَ ربِّه، وينهى النفسَ عن الهوى؛ فإن اللهَ لا يُعاقِبُ على ميلِ النفس إذا لم يكُنْ معَه عملٌ.
وجمعُ المالِ إذا قام بالواجباتِ؛ لا يُعاقَبُ عليه، لكن إخراجَ الفضلِ، والاقتصارَ على الكفايةِ؛ أفضلُ وأسلمُ، وأفرغُ للقلبِ، وأجمعُ للهَمِّ، وأنفعُ في الدنيا والآخرةِ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«مَن أصبحَ والدنيا أكبرُ هَمِّه؛ شتَّتَ اللهُ عليه شَمْلَه، وجعل فقرَه بينَ عينَيْه، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما كُتِب له، ومَن أصبحَ والآخرةُ هَمُّه؛ جعل اللهُ غِناه في قلبِه، وجمع عليه ضَيْعتَه، وأتَتْه الدنيا وهي راغمةٌ»
(1)
.
وقولُهم: «حبُّ الدنيا رأسُ كلِّ خطيئةٍ» ليس هو حديث؛ بل هو معروفٌ عن جُندَبٍ، ويُذكَرُ عن المسيحِ
(2)
(3)
.
وإذا اعتُدِي عليه بالشتمِ
؛ فله أن يعتدي عليه بمثلِ ذلك، فيشتمَه إذا
(1)
رواه أحمد (21590)، وابن ماجه (4105)، بنحوه من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، ورواه الترمذي (2465)، بنحوه من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
لم نقف عليه من كلام جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وقد ذكر السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 296) أن البيهقي في الشعب رواه من مرسل الحسن، ثم قال: (وجزم ابن تيمية بأنه من قول جندب البجلي رضي الله عنه.
ورواه الدينوري في المجالس (985)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 145)، عن وهيب المكي؛ قال: بلغني أن عيسى قال .... وذكره.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (حبُّ المالِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 11/ 107، الفتاوى الكبرى 5/ 129.
لم يكُنْ ذلك محرمًا لعينِه كالكذبِ
(1)
، وأما إن كان محرمًا لعينِه كالقذفِ بغيرِ الزنى؛ فإنه يُعزَّرُ على ذلك، ولو عُزِّرَ على النوعِ الأولِ من الشتمِ؛ جاز، وهو الذي يُشرَعُ إذا كثُر سفَهُه، أو عُدوانُه على من هو أفضلُ منه
(2)
.
(1)
في (الأصل): كالذب. والمثبت من (ك).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا اعتُدِي
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 228، الفتاوى الكبرى 3/ 438.
فَصْلٌ فِي الذُّنُوبِ الكَبَائِرِ
(1)
أمثلُ الأقوالِ فيها:
هو المأثورُ عن السَّلَفِ؛ كابنِ عبَّاسٍ
(2)
وأبي عُبَيدٍ وأحمدَ بنِ حنبلٍ؛ وهو: أن الصغيرةَ ما دونَ الحدَّيْنِ؛ حدِّ الدنيا، وحدِّ الآخرةِ، وهي معنى قولِ من قال:(ما ليس فيها حدٌّ في الدنيا)، وهو معنى قول القائل:(كلُّ ذنبٍ خُتِم بلعنةٍ، أو غضبٍ، أو نارٍ؛ فهو من الكبائرِ)، ومعنى قولِهم:(ليس فيها حدٌّ في الدنيا، ولا وعيدٌ في الآخرةِ)؛ أي: وعيدٌ خاصٌّ، كالوعيدِ بالنارِ، والغضبِ، واللعنةِ.
وذلك لأن الوعيدَ الخاصَّ في الآخرةِ كالعقوبةِ الخاصةِ في الدنيا، فكما أنه يُفرَّقُ في العقوباتِ المشروعةِ للناسِ بينَ العقوباتِ المقدرةِ بالقطعِ، والقتلِ، وجلدِ مائةٍ، أو ثمانينَ، وبينَ العقوباتِ التي ليست بمقدرةٍ، وهي التعزيرُ؛ فكذلك يُفرَّقُ في العقوباتِ التي يَجْزي اللهُ بها العبادَ - في غيرِ أمرِ العبادِ بها - بينَ العقوباتِ المقدرةِ؛ كالغضبِ، واللعنةِ، والنارِ، ونفسِ العقوباتِ المطلقةِ.
وهذا الضابطُ يسلمُ من القوادحِ الواردةِ على غيرِه، فإنه يُدخِلُ كلَّ ما ثبَتَ بالنصِّ أنه كبيرةٌ؛ كالشركِ، والقتلِ، والزنى، والسحرِ، وقذفِ المحصناتِ، وغيرِ ذلك من الكبائرِ التي فيها عقوباتٌ مقدرةٌ مشروعةٌ،
(1)
ينظر أصل الفتوى في: مجموع الفتاوى 11/ 650، الفتاوى الكبرى 5/ 130.
(2)
أخرج الطبري في التفسير (6/ 652)، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:«الكبائر: كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب» .
وكالفرارِ من الزحفِ، وأكلِ مالِ اليتيمِ، وأكلِ الربا، وعقوقِ الوالدينِ، واليمينِ الغَموسِ، وشهادةِ الزورِ؛ فإن هذه الذنوبَ وأمثالَها فيها وعيدٌ خاصٌّ، وكذلك كلُّ ذنبٍ تُوُعِّدَ صاحبُه بأنه لا يدخلُ الجنةَ، أو لا يشَمُّ رائحتَها، أو قيلَ فيه: مَن فعَلَه فليس منَّا؛ فكلها من الكبائر؛ كقوله: «من غشنا فليس منا»
(1)
؛ لأنه ليس المرادُ ما تقولُه المرجئةُ: (إنه ليس من خيارِنا)، ولا ما يقولُه الخوارجُ:(إنه صار كافرًا)، ولا ما يقولُه المعتزلةُ:(من أنه لم يبقَ معَه من الإيمانِ شيءٌ).
ولكن المراد: أنَّ المؤمنَ المُطلَقَ في بابِ الوعدِ والوعيدِ؛ هو المستحقُّ لدخولِ الجنةِ بلا عقابٍ، فهو المؤدي للفرائضِ، المجتنِبُ المحارم، وهؤلاءِ هم المؤمنونَ عندَ الإطلاقِ، فمن فعَل هذه الكبائرَ؛ لم يكُنْ من هؤلاءِ المؤمنينَ المطلَقين؛ إذ هو متعرِّضٌ للعقوبةِ على تلك الكبيرةِ، فنفيُ الإيمانِ أو الجنةِ، أو كونِه من المؤمنينَ؛ لا يكونُ إلا عن كبيرةٍ، فأما الصغائرُ فلا تنفي هذا الاسمَ والحكْمَ عن صاحبِها بمجرَّدِها، فيُعرَفُ أن النَّفْيَ لا يكونُ لتركِ مستحَبٍّ، ولا لفعلِ صغيرةٍ؛ بل لتركِ واجبٍ.
والدليلُ على أن هذا الضابطَ أَوْلى من غيرِه وجوهٌ:
أحدُها: أنه مأثورٌ عن السَّلَفِ.
الثاني: أنه تعالى قال: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر
(1)
رواه مسلم (101)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما}؛ فوعَد مجتنبَ الكبائرِ بتكفيرِ السيئاتِ، واستحقاق الوعد الكريمِ، وكلُّ مَن وُعِد بغضبٍ، أو لعنةٍ، أو نارٍ، أو حرمانِ جنته، أو ما يقتضي ذلك؛ فإنه خارجٌ عن هذا الوعدِ، فلا يكونُ من مجتنبي الكبائرِ، وكذلك من استحقَّ أن يُقامَ عليه الحدُّ، لم تكُنْ سيئاته مكفرةً باجتنابِ الكبائرِ.
الثالثُ: أن هذا الضابطَ يرجعُ إلى ما ذكَره اللهُ ورسولُه في الذنوبِ، فهو متلقًّى من خطابِ الشارعِ.
الرابعُ: أن هذا الضابطَ يمكنُ الفرقُ [به]
(1)
بينَ الكبائرِ والصغائرِ بخلافِ غيرِه.
الخامسُ: أن تلك الأقوالَ فاسدةٌ، فقولُ مَن قال:(إنها ما اتفقَتِ الشرائعُ على تحريمِه دونَ ما اختلفت)؛ يوجب أن تكونَ الحبَّةُ
(2)
من مالِ اليتيمِ، أو من السرقةِ، والخيانةِ والكذبةِ الواحدةِ وبعضِ [الإساءات]
(3)
الخفيفةِ ونحوِ ذلك كبيرةً، وأن يكونَ الفرارُ من الزحفِ ليس من الكبائرِ، إذ الجهادُ لم يجبْ في كلِّ شريعةٍ، وكذلك التزويجُ بالمحرماتِ بالرضاعةِ أو الصهرِ أو غيرِهما ليس من الكبائرِ، وكذلك
(1)
ما بين المعقوفتين زيادة من مجموع الفتاوى لتستقيم به العبارة، وهو غير موجود في النسخ الخطية.
(2)
في (الأصل) و (ك): (الحسنة). والمثبت من (ز) ومجموع الفتاوى.
(3)
في (الأصل) و (ك) و (ز): (الإحسان). والمثبت من مجموع الفتاوى وهو الموافق للسياق.
إمساكُ المرأةِ بعدَ الطلاقِ الثلاثِ، ووطؤُها بغير ذلك.
وكذلك قولُ مَن قال: (إنها ما تسُدُّ بابَ المعرفةِ، أو ذهابَ النفوسِ، أو الأموالِ)؛ يوجِبُ أن يكونَ القليلُ من الغصبِ والخيانةِ كبيرةً، وأن يكونَ عقوقُ الوالدينِ، وقطيعةُ الرَّحِمِ، وشربُ الخمرِ، وأكلُ الميتةِ ولحمِ الخنزيرِ، وقذفُ المحصَناتِ، ونحوُه؛ ليس من الكبائرِ.
ومن قال: (إنها سميت كبائرَ بالنسبةِ إلى ما دونَها، أو أن ما عصَى اللهَ به فهو كبيرةٌ)؛ فإنه يوجِبُ ألا تكونَ الذنوبُ في نفْسِها تنقسِمُ إلى كبائرَ وصغائرَ، وهذا خلافُ القرآنِ.
ومَن قال: (هي سبعةَ عشَرَ)؛ فهو قولٌ بلا دليلٍ.
ومَن قال: (إنها مُبهَمةٌ، أو غيرُ معلومةٍ)؛ فإنما أخبر عن نفْسِه أنه لا يعلَمُها.
ومَن قال: (إنه ما تُوُعِّدَ عليه بالنارِ)، فقد يُقالُ: فيه تقصيرٌ؛ إذ الوعيدُ قد يكونُ بالنارِ، وقد يكونُ بغيرِها، وقد يقالُ: إن كلَّ وعيدٍ فلا بدَّ أن يستلزمَ الوعيدَ بالنارِ.
وأما مَن قال: (إنه كلُّ ذنبٍ فيه وعيدٌ)؛ فهذا يندرجُ فيما ذكَره السَّلَفُ، فإن كلَّ ذنبٍ فيه حدٌّ في الدنيا ففيه وعيدٌ، من غيرِ عكسٍ، فإن الزنى، والسرقةَ، وشربَ الخمرِ، وقذفَ المحصَناتِ، ونحوَه، فيه وعيد، فمن قال:(إن الكبيرةَ ما فيها وعيدٌ)؛ فقد وافَقَ ما ذكَره.
فَصْلٌ
ومَن تاب من الزنى، أو السرقةِ
، أو شربِ الخمرِ، قبلَ أن يُرفَعَ إلى الإمامِ؛ فالصحيحُ: أن الحدَّ يسقُطُ عنه، كما يسقُطُ عن المحارِبِينَ إجماعًا؛ إذا تابوا قبلَ القدرةِ
(1)
.
ومَن يُخافُ من إفسادِه
؛ يفعلُ به الإمامُ ما يرى المصلحةَ فيه؛ من نَفْيِه، أو حَبْسِه، كالقَوَّادةِ التي لا تتوبُ، أو ينقُلُها عن الحرائرِ، أو غيرِ ذلك مما يراه.
وقد كان عمرُ يأمرُ العزابَ أن لا تسكنَ بينَ المتأهِّلِينَ
(2)
، وكذلك فعَل المهاجرونَ لما قدِموا المدينةَ، وفي «الصحيحَينِ»: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نفَى المُخنَّثِينَ
(3)
، وأمر بنَفْيِهم من البيوتِ
(4)
؛ خشيةَ فسادِهم النساء، فالقَوَّادةُ شرٌّ من هؤلاءِ
(5)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن تاب من الزنى
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 179، الفتاوى الكبرى 3/ 411.
(2)
لم نقف عليه، وروى ابن سعد في الطبقات 3/ 229، عن عاصم بن عمر بن قتادة قال:«لما هاجر صهيب من مكة إلى المدينة نزل على سعد بن خيثمة، ونزل العُزَّاب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد بن خيثمة» .
(3)
رواه أبو داود (4928)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
رواه البخاري (5235)، ومسلم (2180)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها، ورواه البخاري (5886)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(5)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومَن يُخافُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 181، الفتاوى الكبرى 3/ 412.
وكلُّ مَن تاب من ذنبٍ
فإن اللهَ يتوبُ عليه، فإذا عمِل عملًا صالحًا سنةً من الزمانِ، ولم يَنْقُضِ التوبةَ؛ فإنه يُقبَلُ منه ذلك، ويُجالَسُ ويُكلَّمُ.
وأما إذا تاب ولم تمضِ عليه سنةٌ؛ فللعُلماءِ فيه قولانِ، منهم من يقولُ: يُجالَسُ وتُقبَلُ شهادتُه في الحالِ، ومنهم من يقولُ: لا بدَّ من سنةٍ؛ كما فعَل عمرُ بن الخطاب بصَبيغِ بنِ عِسْلٍ
(1)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وكلُّ مَن تاب
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 28/ 214، الفتاوى الكبرى 3/ 441.
وأثر عمر رضي الله عنه: رواه الدارمي (146)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (789)، وابن عساكر في تاريخه 23/ 408.
كِتَابُ الأَشْرِبَةِ
شاربُ الخمرِ يجبُ حدُّه اتفاقًا
، إن شاء ثمانينَ، وإن شاء أربعينَ، فإن جُلِد ثمانينَ؛ جاز باتِّفاقِ الأئمَّةِ، وإن اقتُصِر على أربعينَ؛ ففي الإجزاءِ نزاعٌ، ورُوِي أن عمرَ كان يُعزِّرُ بأكثرَ من ذلك
(1)
، كما رُوِي أنه كان ينفي الشاربَ
(2)
، ويُمثِّلُ به بحلقِ رأسِه
(3)
.
وقد رُوِي من وجوهٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن شرِب الخمرَ فاجلدوه، ثم إن شرِبَها في الثالثةِ أو الرابعةِ؛ فاقتلوه»
(4)
، فأمر بقتلِ
(1)
رواه مسلم (1706)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد، والنعال، ثم جلد أبو بكر أربعين، فلما كان عمر، ودنا الناس من الريف والقرى، قال:«ما ترون في جلد الخمر؟» فقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تجعلها كأخف الحدود، قال:«فجلد عمر ثمانين» .
وروى البخاري نحوه (6779)، من حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه.
(2)
روى عبد الرزاق (17040)، والنسائي (5676)، عن ابن المسيب قال:«غرب عمر ابن أمية بن خلف في الشراب إلى خيبر» .
(3)
رواه عبد الرزاق (17047)، والبيهقي في الكبرى (17498)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
رواه أحمد (7762)، وأبو داود (4484)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الترمذي في الجامع (4/ 48):(وفي الباب عن أبي هريرة، والشريد، وشرحبيل بن أوس، وجرير، وأبي الرمد البلوي، وعبد الله بن عمرو).
الشاربِ في الثالثةِ، أو الرابعةِ، وأكثرُ العلماءِ لا يوجبونَ القتلَ، بل يجعلونه منسوخًا، وهو المشهورُ من مذهَبِ الأئمَّةِ، أو يقولونَ: إذا لم ينتهوا عن الشربِ إلا بالقتلِ جاز ذلك، كما جاء في حديثٍ آخَرَ في السننِ أنه نهاهم عن أنواعٍ من الأشربةِ المسكِرةِ، قال:«فإن لم يَدَعوا ذلك؛ فاقتلوهم»
(1)
.
وأما تاركُ الصَّلاةِ
فإنه يستحقُّ العقوبةَ اتفاقًا، وأكثرُهم يقتُلُه بعدَ أن يُسْتتابَ، وهل يُقتَلُ كافرًا، أو حدًّا؟ فيه نزاعٌ.
وإذا لم يمكنْ إقامةُ الحدِّ على مثلِ هذا؛ فإنه يُعمَلُ معَه الممكنُ، فيُهجَرُّ ويُوبَّخُ، حتى يفعلَ المفروضَ، ويتركَ المحظورَ
(2)
.
وخمرُ العنبِ حرامٌ باتفاقِ المسلمِينَ
، قليلُه وكثيرُه، فمن استحلَّ شيئًا من ذلك يُسْتتابُ، فإن تاب وإلا قُتِل.
وأبو حنيفةَ يحرِّمُ نبيذَ التمرِ والزبيبِ النِّيْءِ، قليلَه وكثيرَه إذا كان مسكرًا، وكذلك المطبوخُ من عصيرِ العنبِ الذي لم يذهَبْ ثُلُثاه، فإنه يحرمُ عنده قليله وكثيره، فهذه الأربعةُ يحرُمُ عندَه قليلُها وكثيرُها، وإنما وقعَتِ الشبهةُ في سائرِ المسكِرِ؛ كالمزرِ الذي يُصنَعُ من القمحِ ونحوِه، فالذي عليه جماهيرُ أئمةِ المسلمِينَ كما في «الصحيحَينِ»: أن أهلَ اليمنِ قالوا: يا رسولَ اللهِ: إن عندَنا شرابًا يقالُ له البِتْعُ من العسلِ، وشرابًا
(1)
رواه أبو داود (3683)، من حديث ديلم الحميري رضي الله عنه.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (شاربُ الخمرِ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 216، الفتاوى الكبرى 3/ 427.
من الذرةِ يقالُ له المِزْرُ، وكان قد أُوتيَ جوامعَ الكَلِمِ، فقال:«كلُّ مُسكِرٍ حرامٌ»
(1)
، وقال:«كلُّ شرابٍ أسكرَ فهو حرامٌ»
(2)
، واستفاضَتِ الأحاديثُ بذلك.
والحشيشةُ المسكِرةُ حرامٌ
، ومَن استحلَّ السُّكْرَ منها فقد كفر؛ بل هي في أصحِّ قولَيِ العلماءِ نَجِسةٌ، فالخمرُ كالبولِ، والحشيشةُ كالعَذِرةِ
(3)
.
ويجبُ فيها الحدُّ
، وإنما توقَّفَ بعضُ الفقهاءِ في الحدِّ؛ لأنه ظن أنها تُغطِّي العقلَ كالبنجِ، فيُعزِّرُه، والصحيحُ: أنها تُسكِرُ، وإنما كانت نجسةً بخلافِ البنجِ، وجوزةِ الطيبِ؛ لأنها تُسكِرُ بالاستحالة؛ كالخمر يسكر بالاستحالةِ أيضًا، والبنجُ يُغيِّبُ العقلَ، ويُسكِرُ بعدَ الاستحالةِ كجوزةِ الطيبِ، ومن ظن أن الحشيشةَ لا تُسكِرُ، وإنما تُغيِّبُ العقلَ بلا لذةٍ؛ فلم يعرفْ حقيقةَ أمرِها، فإنه لولا ما فيها من اللذةِ لم يتناوَلُوها، بخلافِ البنجِ ونحوِه.
والشارعُ اكتفى في المحرماتِ التي لا تَشْتهيها النفوسُ كالدمِ؛ بالزاجرِ الشرعيِّ، فجعل العقوبةَ التعزيرَ، وأما ما تَشْتهيه النفوسُ؛ فجعل مع
(1)
رواه البخاري (4343)، ومسلم (1733)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (242)، ومسلم (2001)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وخمر العنب
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 201، الفتاوى الكبرى 3/ 421.
الزاجر الشرعيِّ زاجراً طبيعيًّا، وهو الحدُّ، والحشيشةُ من هذا البابِ
(1)
.
وما يروَى أن عمرَ أباح النصوحَ
(2)
، - وصورتُه: أن يغليَ العصيرَ حتى يذهبَ ثُلُثاه-، فالذي أباحَه عمرُ لم يكُنْ يُسكِرُ، فمن نقَل أنه أباح المُسكِرَ فقد كذَب.
وأما إذا أضيفَ إليه شيءٌ؛ مثلُ أفاويه
(3)
مما تُقوِّيه؛ حتى يصيرَ يسكِرُ؛ فهذا من باب الخليطينِ، وقد استفاضَ النَّهْيُ عن الخليطينِ، لتقويةِ أحدِهما الآخرَ، كما نُهيَ عن خليطِ التمرِ والزبيبِ، وعن الرطبِ والتمرِ
(4)
، وللعُلماءِ نزاعٌ في الخليطينِ إذا لم يُسكِرا، كما تَنازَعوا في نبيذِ الأوعيةِ التي لا تنشقُ
(5)
بالغليانِ، وكما تَنازَعوا في العصيرِ والنبيذِ بعدَ ثلاثٍ.
وأما إذا صار الخليطانِ مُسكِرًا؛ فإنه حرامٌ باتفاقِ جماهيرِ علماءِ الأمةِ؛ كأهلِ الحجازِ، واليمنِ، ومصرَ، والشامِ، والبصرةِ، وفقهاءِ
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (ويجبُ فيها الحدُّ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 197، الفتاوى الكبرى 3/ 418.
(2)
رواه مالك في الموطأ برواية محمد بن الحسن (721)، وابن أبي شيبة (23988)، والبخاري معلقًا بصيغة الجزم (7/ 107).
(3)
الأفواه: ما يعالج به الطيب، كما أن التوابل ما تعالج به الأطعمة. يقال: فوه وأفواه، مثل سوق وأسواق، و"أفاويه" هو جمع الجمع. ينظر: الصحاح 6/ 2244، تاج العروس 36/ 469.
(4)
رواه مسلم (1986)، من حديث جابر رضي الله عنه.
(5)
في مجموع الفتاوى 34/ 201: (لا يشتد).
الحديثِ، والذي أباحه عمرُ من المطبوخِ ما كان صِرفًا، فإذا خُلِط بما قوَّاه، ولو ذهب ثُلُثاه؛ لم يكُنْ مما أباحه عمرُ، وربما يكونُ لبعضِ البلادِ طبيعةٌ يُسكِرُ منها ما ذهب ثُلُثاه؛ فيحرُمُ إذًا؛ فإن مَناطَ التحريمِ هو السُّكْرُ باتِّفاقِ الأئمَّةِ
(1)
.
فَصْلٌ
(2)
وأما التداوي بالخمرِ
، ولحمِ الكلبِ، وسائرِ المحرماتِ؛ فإنه حرامٌ عندَ جماهيرِ الأئمَّةِ؛ كمالكٍ، وأحمدَ، وأبي حنيفةَ، وأحدُ الوجهَينِ للشافعيِّ؛ لأنه ثبَتَ أنه سُئِلَ عن الخمرِ يُصنَعُ للدواءِ؟ فقال:«إنها داءٌ، وليست بدواءٍ»
(3)
، ونهى عن الدواءِ الخبيثِ في السننِ
(4)
، وذكَر البخاريُّ وغيره عن ابنِ مسعودٍ أنه قال:«إن اللهَ لم يجعَلْ شفاءَ أمَّتِي فيما حُرِّم عليها»
(5)
، ورواه أبو حاتمٍ في «صحيحِه» مرفوعًا
(6)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وما يروَى أن عمرَ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 34/ 198، الفتاوى الكبرى 3/ 419.
(2)
ينظر أصل الفتوى في: مجموع الفتاوى 24/ 267، الفتاوى الكبرى 3/ 7.
(3)
رواه مسلم (1984)، من حديث طارق بن سويد رضي الله عنه.
(4)
رواه أحمد (8048)، وأبو داود (3870)، والترمذي (2045)، وابن ماجه (3459)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
علقه البخاري في باب شراب الحلواء والعسل، (7/ 110)، ووصله ابن أبي شيبة (23492).
(6)
رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه (1391)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
والذينَ جوَّزوا التداويَ بالمحرمِ قاسوا ذلك على إباحةِ المحرماتِ للمضطرِّ، وهذا ضعيفٌ لوجوهٍ:
أحدُها: أن المضطرَّ يحصُلُ مقصودُه يقينًا.
الثاني: لا طريقَ له غيرُ الأكلِ من هذه، وأما التداوي فلم يتعيَّنْ؛ فإن الأدويةَ أنواعٌ كثيرةٌ، وقد يحصلُ الشفاءُ بغيرِ الأدويةِ؛ كالدعاءِ والرُّقَى، وهو أعظمُ نوعَيِ الدواءِ؛ حتى قال بقراطُ:«نسبةُ طِبِّنا إلى طبِّ أربابِ الهياكلِ؛ كنسبةِ طبِّ العجائزِ إلى طِبِّنا» ، وقد يحصلُ الشفاءُ بغيرِ سببٍ؛ بل بما يجعلُه الله من القوى في الجسدِ.
الثالثُ: أن أكلَ الميتةِ واجبٌ على المضطرِّ في ظاهرِ مذهبِ الأئمَّة الأربعة وغيرهم، والتداوي ليس بواجبٍ إلا عندَ طائفةٍ قليلةٍ؛ قالَه بعضُ أصحابِ الشافعيِّ وأحمدَ؛ بل تَنازَعوا: أيُّما أفضلُ؟
وحديثُ الجاريةِ التي كانت تُصرَعُ، وسألَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ لها، فقال:«إن أحببتِ أن تصبري ولك الجنةُ، وإن أحببتِ دعوْتُ اللهَ أن يَشفِيَكِ» ، فقالت: بل أصبِرُ، ولكني أتكشَّفُ، فادعُ اللهَ ألا أتكشَّفَ، فدعا الله بذلك
(1)
؛ يدلُّ على عدمِ وجوبِ التداوي.
وأيضًا: فخلقٌ من الصحابةِ لم يكونوا يتداوَوْنَ؛ بل فيهم من اختار المرضَ؛ كأُبَيٍّ
(2)
،
(1)
رواه البخاري (5652)، ومسلم (2576)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
روى الطبراني في الكبير (540)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 255)، عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال:«اللهم إني أسألك حمى لا تمنعني خروجًا في سبيلك، ولا خروجًا إلى بيتك، ولا مسجد نبيك» .
وأبي ذَرٍّ
(1)
، ولم يُنكَرْ عليهم، فيمتنع القياسُ معَ وجودِ هذه الأمورِ.
فَصْلٌ
(2)
واللعبُ بالشِّطْرَنجِ حرامٌ
عندَ جماهيرِ العلماءِ كالنَّرْدِ، فقد ثبَتَ عن عليٍّ أنه مرَّ بقومٍ يلعبونَ بالشِّطْرَنجِ فقال:«ما هذه التماثيلُ التي أنتم لها عاكفونَ؟!» وقلَب الرقعةَ
(3)
.
وقال طائفةٌ من السلَفِ: إنه من الميسرِ، وهو كما قالوا؛ فإن اللهَ حرَّم الميسرَ، وقد أجمَعَ العلماءُ على أن اللعبَ بالنَّرْدِ والشِّطْرَنجِ حرامٌ إذا كانَ بعوضٍ، وهو من القمارِ والميسرِ.
والنردِ حرامٌ عندَ الأئمَّةِ الأربعةِ؛ سواءٌ كان بعوضٍ أو غيرِه، وجوَّزه بعضُ أصحابِ الشافعيِّ إذا لم يكُنْ بعوضٍ، وجمهورُ أصحابِه ومالكٌ وأحمدُ وأبو حنيفةَ وسائرُ الأئمة فيحرمون ذلك مطلقًا.
وكذلك الشِّطْرَنج، صرح هؤلاء الأئمةِ بتحريمِه؛ مالكٌ وأحمدُ وأبو حنيفةَ وغيرُهم.
(1)
لم نقف عليه.
(2)
ينظر أصل الفتوى في: مجموع الفتاوى 32/ 243، الفتاوى الكبرى 4/ 475.
(3)
رواه ابن أبي شيبة (26158)، والخلال في الأمر بالمعروف (ص 62)، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (88)، والبيهقي في الكبرى (20929)، والآجري في تحريم النرد (25)، وليس فيها قوله:(وقلب الرقعة).
وتَنازَعوا: أيُّما أشدُّ؟ فقال مالكٌ وغيرُه: الشِّطْرَنجُ شرٌّ من النَّرْدِ، وقال أحمدُ وغيرُه: الشِّطْرَنجُ أخفُّ من النَّرْدِ، ولهذا توقَّفَ الشافعيُّ في الشِّطْرَنجِ إذا خلَتْ عن المحرماتِ؛ إذ سببُ الشبهةِ في ذلك: أن أكثرَ من يلعبُ فيها بعوضٍ، بخلافِ الشِّطْرنجِ، فإنها تُلعَبُ بغيرِ عوضٍ غالبًا، وظن بعضُهم أن الشِّطْرَنجَ يعينُ على القتالِ.
والتحقيقُ: أن النَّرْدَ والشِّطْرَنجَ إذا لُعِب بهما بعوضٍ؛ فالشَّطَرَنجُ شرٌّ منها؛ لأن الشَّطَرنجَ حينئذٍ حرامٌ إجماعًا، وكذلك يحرُمُ إجماعًا إذا اشتملت على محرمٍ؛ من كذبٍ، ويمينٍ فاجرةٍ، أو ظلمٍ، أو جنايةٍ، وحديثٍ غيرِ واجبٍ، ونحوِها، وهي حرامٌ عندَ الجمهورِ وإن خلت عن هذه المحرماتِ؛ فإنها تصُدُّ عن ذكرِ اللهِ، وعن الصَّلاةِ، وتُوقِعُ العداوةَ والبغضاءَ أعظمُ من النَّرْدِ إذا كان بعوضٍ، وإذا كانا بعوضٍ فالشَّطَرنجُ شرٌّ في الحالينِ.
وأما إذا كان العوضُ من أحدِهما؛ ففيه من أكلِ المالِ بالباطلِ ما ليس في الآخَرِ، واللهُ قرن الميسرَ بالخمرِ والأنصابِ والأزلامِ؛ لما فيها من الصدِّ، وإيقاعِ العداوةِ والبغضاءِ، والشَّطَرنج إذا استُكثِرَ منها تُسكِرُ القلبَ، وتصدُّه عن ذلك أعظمَ من سُكر الخمر، وقد شبَّه عليٌّ رضي الله عنه لاعبيها بعُبَّادِ الأصنامِ
(1)
، كما شبَّه رسولُ اللهِ شاربَ الخمرِ بعابدِ الوَثَنِ
(2)
.
(1)
تقدم تخريجه أول الفصل.
(2)
رواه أحمد (2453)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه ابن ماجه (3375)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وما يروَى عن سعيدِ بنِ جبيرٍ من اللعبِ بها
(1)
؛ فقد بيَّنَ سببَ ذلك، أن الحجَّاجَ طلَبَه للقضاءِ فلعِب بها؛ ليكونَ ذلك قادحًا فيه فلا يُولَّى القضاءَ، وذلك لأنه رأى ولايةَ الحجاجِ أشدَّ ضررًا عليه في دينِه من ذلك، والأعمالُ بالنياتِ، وقد يُباحُ ما هو أعظمُ تحريمًا من ذلك، لأجلِ الحاجةِ، وهذا يبيِّنُ أن اللعبَ بالشِّطْرنجِ كان عندَهم من المُنكَراتِ، كما نُقِل عن عليٍّ وابنِ عمرَ وغيرِهما
(2)
، ولهذا قال أحمدُ وأبو حنيفةَ: لا يُسلَّمُ على لاعبِ الشِّطْرنجِ؛ لأنه مظهرٌ للمعصيةِ، وقال صاحب أبي حنيفةَ: يُسلَّمُ عليه.
فَصْلٌ
(3)
ليس لأهلِ الذمةِ أن يبيعوا الخمرَ للمسلمِ
، ولا يهدوها، ولا يعاونَهم عليها، ولا يعصروها لمسلمٍ، ولا يحملوها لهم، ولا يبيعونها من ذمِّيٍّ جهارًا، - أما إذا باعها لذميٍّ سرًّا؛ فلا يُمنَعُ ذلك، وإذا تقابضا جاز أن يعامِلَه المسلم بذلك الثمنِ الذي قبَضَه من ثمنِ الخمرِ-، ومتى فعلوا ذلك استحقوا العقوبةَ، وهل يَنتقِضُ عهدُهم؟ فيه نزاعٌ.
(1)
رواه البيهقي في الكبرى (20922).
(2)
نقدم أثر علي رضي الله عنه.
وأما أثر ابن عمر رضي الله عنهما: فرواه البيهقي في الكبرى (20934)، وأسند أيضًا (10/ 359) في كراهتها عن: أبي موسى الأشعري، وعائشة، وأبي سعيد الخدري، وابن المسيب، وابن شهاب الزهري رضي الله عنهم.
(3)
ينظر أصل الفتوى في: الفتاوى الكبرى 3/ 433.
ومَن أعانهم بجاهِهِ، أو غيرِ جاهِهِ؛ وجب عقوبتُه.
وإذا شرِبَها الذمِّيُّ
؛ فقيلَ: يُحَدُّ، وقيلَ: لا يُحَدُّ، وقيلَ: يُحَدُّ إن سكرَ، وهذا إذا ظهر بينَ المسلمِينَ، أما ما يختفونَ به في بُيوتِهم من غيرِ ضررٍ بالمسلمِينَ بوجهٍ من الوجوهِ؛ فلا يُتعرَّضُ لهم.
وعلى هذا؛ فإذا كانوا لا ينتهونَ عن إظهارِ الخمرِ، أو عن معاونةِ المسلمِينَ عليها، أو بَيعِها وهدِيَّتِها إلا بإراقتِها عليهم؛ فإنها تُراق
(1)
معَ ما يُعاقَبونَ به، إما بما يُعاقَبُ به ناقضُ العهدِ، وإما بغيرِه.
فَصْلٌ
(2)
ما يُذكَرُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «لا غِيبةَ لفاسقٍ» ؛ فليس هو من كلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لكنَّه مأثورٌ عن الحسنِ البصريِّ أنه قال: «أترغَبونَ عن ذكرِ الفاجرِ، اذكُروه بما فيه، يحذَرْه الناسُ»
(3)
، وفي حديثٍ آخَرَ:«مَن ألقى جلبابَ الحياءِ؛ فلا غِيبةَ له»
(4)
.
(1)
قوله: (تراق) سقط من الأصل، وهو مثبت في (ك) والفتاوى الكبرى.
(2)
ينظر أصل الفتوى في: مجموع الفتاوى 28/ 219، الفتاوى الكبرى 4/ 476.
(3)
رواه العقيلي في الضعفاء (1/ 202)، وابن عدي في الكامل (2/ 430)، والبيهقي في الكبرى (20914)، مرفوعًا، وضعفوه.
وروى البيهقي في الشعب (9227)، واللالكائي (280)، عن الحسن البصري قوله:«ليس لأهل البدع غيبة» .
(4)
رواه البيهقي في الكبرى (20915)، والقضاعي في مسنده (426)، وابن عساكر في المعجم (551)، من حديث أنس رضي الله عنه.
وهذانِ النوعانِ تجوزُ فيهما الغِيبةُ بلا نزاعٍ بينَ العلماءِ:
أحدُهما: أن يكونَ الرجلُ مظهرًا للفجورِ؛ مثلُ: الظلمِ، والفواحشِ، والبِدَعِ المخالفةِ للسُّنَّةِ، فإذا أظهر المُنكَرَ؛ وجَب الإنكارُ عليه بحسَبِ القدرةِ، ويُهجَرُ، ويُذكَرُ ما فعَلَه، ويُذَمُّ على ذلك، ولا يُرَدُّ عليه السلام إذا أمكنَ من غيرِ مفسدةٍ راجحةٍ، وينبغي لأهلِ الخيرِ أن يَهْجروه ميتاً كما يهجروه حيًّا إذا كان في ذلك كَفٌّ لأمثالِه، فلا يشيِّعوا جِنازَتَه، وكلُّ من علِم حاله ولم يُنكِرْ عليه؛ فهو عاصٍ للهِ ورسولِه، فهذا معنى قولِهم:«مَن ألقى جِلبابَ الحياءِ فلا غِيبةَ له» ، بخلافِ مَن كان مستترًا بذنبِه، مستخفيًا فإن هذا يُستَرُ عليه؛ لكن يُنصَحُ سرًّا، ويهجُرُه من عرَف حالَه؛ حتى يتوبَ، ويذكرُ أمرَه على وجهِ النصيحةِ.
النوعُ الثاني: أن يُستشارَ الرجلُ في مُناكحَتِه، ومعاملتِه، أو استشهادِه، ويعلمُ أنه لا يصلُحُ لذلك، فينصَحُ مُستشيرَه ببيانِ حالِه، فهو كما قال الحسنُ:«اذكروه يحذَرْه الناسُ» ؛ فإن النصحَ في الدينِ أعظم من النصحِ في الدنيا.
وإذا كان الرجلُ يتركُ الصَّلاةَ، ويرتكِبُ المُنكَراتِ، وقد عاشَرَه مَن يُخافُ أن يُفسِدَ دينَه؛ يُبيَّن أمرُه له؛ ليتقِيَ معاشرته.
وإذا كان مبتدعاً يدعو الناسَ إلى عقائدَ تخالفُ الكتابَ والسنةَ، أو يسلكُ طريقاً يخالفُ ذلك، ويخاف أن يضلَّ الناسُ بذلك؛ بُيِّن أمرُه للناس؛ ليتقوا ضلالَه، ويعلموا حالَه.
وهذا كلُّه يجبُ أن يكونَ على وجهِ النصحِ وابتغاءِ وجهِ اللهِ، لا
لهوى الشخصِ معَ الإنسانِ؛ مثلُ: أن يكونَ بينَهما عداوةٌ دنيويةٌ، أو تحاسُدٌ، أو تباغضٌ، أو تنازُعٌ على رئاسةٍ، فيتكلمُ بمساوئه مظهرًا للنصحِ، وفي باطنِه البغضُ واشتفاؤُه منه، فهذا من عملِ الشيطانِ، وإنما الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى؛ بل يقصدُ أن يصلِحَ اللهُ ذلك الشخصَ، ويكفيَ المسلمِينَ ضرَرَه، ويسلكَ إلى ذلك أقربَ طريقٍ.
ولا يجوزُ لأحدٍ أن يشهدَ مجالسَ المُنكَراتِ باختيارِه لغيرِ ضرورةٍ، ورُفِع إلى عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ قومٌ شرِبوا الخمرَ؛ فأمر بجَلْدِهم، فقيلَ: فيهم فلانٌ صائمٌ، فقال: ابدَؤوا به، أما سمعتَ اللهَ يقولُ:{وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم}
(1)
، فجعَلَ حاضرَ المُنكَرِ كفاعلِه.
فَصْلٌ
(2)
وما يُذكَرُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «لا يؤلف تحت الأرضِ» ؛ فلا أصلَ لذلك؛ ليس في تحديدِ وقتِ الساعةِ نصٌّ أصلًا، وإنما أخبرَ الكتابُ والسُّنَّةُ بأشراطِها، وهي كثيرةٌ يقدُمُ بعضُها بعضًا، ومَن تكلَّمَ في وقتِها المُعيَّنِ؛ مثلُ الذي صنَّف كتابًا سَمَّاه: «الدرُّ المنتظمُ في معرفةِ
(1)
رواه ابن جرير في تفسيره 7/ 603، وابن أبي حاتم في تفسيره (6127).
(2)
ينظر أصل الفتوى في: الفتاوى الكبرى 3/ 11.
الأعظمِ»
(1)
، وذكَرَ فيه عشْرَ دلالاتٍ بيَّنَ فيها وقتَها، والذينَ تكلَّموا على ذلك من حروفِ المعجمِ، والذي تكلَّمَ في «عَنْقاءِ مُغرِبٍ»
(2)
، وأمثالُ هؤلاءِ؛ فإنَّهم وإن كان لهم صورةٌ عظيمةٌ عند أتباعهم؛ فغالبهم كاذبون مفترون، وإن ادَّعَوُا الكشفَ ومعرفةَ الأسرارِ، وقد حرَّمَ اللهُ القولَ بغيرِ علمٍ.
(1)
وهو كتاب لـ: كمال الدين، محمد بن طلحة العدوي، الجفار، الشافعي، المتوفى سنة 652 هـ. ينظر: كشف الظنون 1/ 734
(2)
كتابٌ لـ: محيي الدين: محمد بن علي، المعروف: بابن عربي المتوفى سنة 638 هـ. ينظر: كشف الظنون 2/ 1173.
كِتَابُ الجِهَادِ
(1)
المقامُ بثُغورِ المسلمِينَ كالثغورِ الشاميةِ
والمصريةِ أفضلُ من المجاورةِ في المساجدِ الثلاثةِ، وقال شيخ الإسلام
(2)
: لا أعلمُ في هذا نزاعًا بينَ العلماءِ؛ نصَّ عليه غيرُ واحدٍ؛ وذلك لأن الرباطَ من جنسِ الجهادِ، والمجاورةُ غايتُها أن تكونَ من جنسِ الحجِّ، وقد قال تعالى:{أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيلِ اللهِ لا يستوون عندَ اللهِ} ، وفي «الصحيحَينِ» أنه سُئِلَ: أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: «إيمانٌ باللهِ ورسولِه» ، قيلَ: ثم أيٌّ؟ قال: «ثم جهادٌ في سبيلِهِ، ثم حجٌّ مبرورٌ»
(3)
، و:«رِباطُ يومٍ خيرٌ من ألفِ يومٍ فيما سِواه»
(4)
.
(1)
ينظر أصل الفتوى - وهي مجموعة فتاوى - في: الفتاوى الكبرى 3/ 531، وما بعدها.
(2)
قوله: (وقال شيخ الإسلام) سقط من (ك) و (ز).
(3)
رواه البخاري (26)، ومسلم (83)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
رواه أحمد (442)، والترمذي (1667)، والنسائي (3169)، من حديث عثمان رضي الله عنه.
وينظر أصل الفتوى من قوله: (المقام في
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 28/ 5، الفتاوى الكبرى 3/ 531.
ومَن عجَز عن إقامةِ دينِه
بمارِدِينَ
(1)
أو غيرِها؛ وجَب عليه الهجرةُ، وإلا استُحِبَّت.
ومَن كان للمسلمِينَ به منفعةٌ
من الجندِ؛ لم ينبغِ له أن يتركَ الخدمةَ إلا لمصلحةٍ راجحةٍ للمسلمِينَ؛ بل كونُه مقدمًا في الجهادِ الذي يحبُّه اللهُ ورسولُه هو أفضلُ من العباداتِ، والجهادُ
(2)
أفضلُ من الجهادِ
(3)
التطوعِ والحجِّ التطوعِ والصيامِ التطوعِ.
وإذا سباه مسلمٌ فهو مسلمٌ
إذا كان المسبيُّ طفلًا، وإن لم يُعلَمْ حالُ السابي، بل أمكنَ أن يكونَ كافرًا؛ لم يُحكَمْ بإسلامِه بلا حجَّة.
ويجوزُ، بل يجبُ قتالُ هؤلاءِ التتارِ
الذينَ يقدَمونَ إلى الشامِ مرةً بعدَ مرةٍ، وإن تكلَّموا بالشهادتينِ وانتسبوا إلى الإسلامِ، فيجب قتالُهم بسنةِ رسولِ اللهِ، واتفاقِ أئمةِ المسلمِينَ، وهذا مبنيٌّ على أصلينِ:
أحدُهما: المعرفةُ بحالِهم.
والثاني: معرفةُ حكمِ اللهِ فيهم.
أما الأولُ؛ فكلُّ مَن باشرَ القومَ أو بلغه حالَهم، وهو متواترٌ بأخبارِ الصادقينَ، ونحنُ نتكلَّمُ على جملةِ أمورِهم بعدَ أن نُبيِّنَ الأصلَ الآخَرَ
(1)
بكسر الراء والدال، قلعة من قلاع الدنيا الشهيرة، على قنَّة جبل الجزيرة، من أعمال الموصل. ينظر: معجم البلدان 5/ 39، الروض المعطار ص 518.
(2)
في هامش الأصل: (لعله: الواجب)، وهو بياض في (ك) و (ز).
(3)
في هامش الأصل: (لعله: الصلاة).
الذي يختصُّ بمعرفتِه أهلُ العلمِ فنقولُ: كلُّ طائفةٍ خرجَتْ عن شريعةٍ من شرائعِ الإسلامِ الظاهرةِ المتواترةِ؛ وجبَ قتالُها باتفاقِ أئمةِ المسلمين، وإن تكلَّمتْ بالشهادتين، فيجبُ القتالُ حتى يكونَ الدِّينُ كلُه لله.
وأمَّا الأصلُ الآخرُ - وهو معرفةُ أحوالهم -؛ فقد عُلِمَ أنَّ هؤلاءِ القومَ جاروا على الشامِ في المرةِ الأولى عام تسعةٍ وتسعينَ، وأعطَوُا الناسَ الأمانَ، وقرءوه على المنبرِ بدِمَشْقَ، ومع هذا فقد سَبَوا من ذَرارِيِّ المسلمِينَ ما يقالُ: إنه مائةُ ألفٍ، أو يزيدُ عليه، وفعلوا ببيتِ المقدسِ، وجبلِ الصالحيةِ، ونابلسَ، وحِمْصَ، وداريا، وغيرِ ذلك؛ من القتلِ والسَّبْيِ ما لا يعلمُه إلا اللهُ، وفجَروا بخيارِ نساءِ المسلمِينَ في المساجدِ؛ كالأقصى وغيرِه، وجعلوا جامعَ العقيبةِ دَكًّا.
وقد شاهَدْنا عسكرَ القومِ وجَدْناهم جمهورَهم لا يصلُّونَ، ولم نَرَ مؤذنًا ولا إمامًا، ولم يكُنْ معهم إلا من كان من شرِّ الخلقِ، إما زِنْديقٌ منافقٌ، لا يعتقدُ دينَ الإسلامِ في الباطنِ، وإما مَن هو مِن شرِّ أهلِ البِدَعِ؛ كالرافضةِ، والجَهْميَّةِ، والاتحاديةِ، ونحوِهم، وإما مَن هو مِن أفجرِ الناسِ وأفسقِهم، وهم لا يحُجُّونَ البيتَ العتيقَ معَ تمكُّنِهم، وإن كان فيهم من يصلِّي ويصومُ، فليس الغالبُ عليهم إقامةَ الصَّلاةِ، ولا إيتاءَ الزكاةِ، ويقاتلونَ على ملكِ جَنْكِسْخان
(1)
، فمن دخل في طاعةِ ياساقِه
(2)
جعلوه وليًّا لهم وإن كانَ كافرًا، ومَن خرج عنه جعلوه عدوًّا
(1)
هكذا كتبت في الأصل.
(2)
قال في تاج العروس 27/ 29: (يسق بحذف الألف
…
وهي كلمة تركية يعبر بها عن وضع قانون المعاملة
…
وقرأت في كتاب الخطط للمقريزي: أن جنكيزخان القائم بدولة التتر في بلاد المشرق لما غلب على الملك قرر قواعد وعقوبات أثبتها بكتاب سماه "ياسا" وهو الذي يسمى "يسق"، ولما تم وضعه كتب ذلك نقشًا في صفائح الفولاذ، وجعله شريعة لقومه، فالتزموه بعده).
قال في فتح المجيد ص 396: (وهو عبارة عن كتاب أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره وهواه).
لهم وإن كان من خيارِ المسلمِينَ، ولا يقاتلونَ على الإسلامِ، ولا يضعونَ على أهلِ الذِّمَّةِ جزيةً، كما قال أكبرُ مُقدَّميهم الذينَ قدِموا الشامَ، وهو يخاطبُ رُسُلَ المسلمينَ، ويتقربُ إليهم بأنا مسلمونَ، فقال: هذانِ اثنانِ عظيمانِ جاءا من عندِ اللهِ: محمدٌ وجَنْكِسْخان؛ فهذا غايةُ ما يتقربُ به أكبرُ مقدميهم إلى المسلمِينَ؛ أن يسويَ بينَ رسولِ اللهِ وأكرمِ الخلقِ على الله
(1)
، وسيدِ ولدِ آدمَ، وبينَ ملكٍ كافرٍ مشركٍ، وذلك أن اعتقادَهم في جَنْكِسخان كفرٌ عظيمٌ، فإنهم يعتقدونَ أنه ابنُ اللهِ، من جنسِ ما يعتقدُه النصارى في المسيحِ، ويقولونَ: إن الشمسَ حبَّلَتْ أمَّه، وأنها كانت في خيمةٍ، فنزلت الشمسُ من كَوَّةٍ، فدخلَتْ فيها حتى حبلَتْ، وهذا كذبٌ عندَ كلِّ ذي دينٍ؛ بل هو دليلٌ على أنه ولدُ زنًى، ومع ذلك فهو عندَهم أعظمُ من رسولِ اللهِ، يُعظِّمونَ ما سنَّهُ لهم وشرَعه بظنِّه وهواه، ويشركونَ به على أكلِهم وشربِهم، ويستَحِلُّونَ قتلَ من عادى ما سنَّه لهم هذا الكافرُ الملعونُ.
(1)
كلمة (الله) سقطت من الأصل.
ومعلومٌ أن مُسَيْلِمةَ الكذَّابَ كان أقلَّ ضررًا من هذا الكافرِ الذي ادَّعَوا أنه شريكُ محمدٍ في الرسالةِ، فاستحلَّ الصحابةُ قتالَه، فكيفَ بمن كان فيما يُظهِرُه من الإسلامِ بجعلِه محمدًا كجَنْكِسخان، وهم يُعظِّمونَ الكفارَ الذينَ يتبعونَ جَنْكِسخان على المسلمِينَ المتبعينَ للقرآنِ؛ بل جَنْكِسخانَ أعظمُ من فرعونَ وهامانَ ضررًا، فإنه علا في الأرضِ، وجعل أهلَها شِيَعًا، وأهلكَ الحَرْثَ والنسلَ، يَرُدُّ الناس عن ملكِ الأنبياءِ إلى ما ابتدَعَه من جاهليتِه وشريعتِه الكفريةِ، ولو قلتُ ما رأيتُ منهم وسمعتُ؛ لَمَا وسِعَه هذا المكانُ.
ومعلومٌ من دينِ الإسلامِ أن من جوَّزَ اتباعَ شريعةٍ غيرِ الإسلامِ؛ فإنه كافرٌ.
وبالجملةِ: فما من نفاقٍ وزَنْدقةٍ إلا وهي داخلةٌ في أتباعِ التتارِ؛ لأنهم من أجهلِ الخلقِ، وأقَلِّهم معرفةً في الدينِ، وأعظمِ الخلقِ اتباعًا للظنِّ وما تهوى الأنفُسُ، وقد قسَّموا الناسَ أربعةَ أقسامٍ: يال، وباع، ودانِشْمند، وطَاطَ؛ أي: صديقِهم، وعدُوِّهم، والعالمِ، والعاميِّ؛ حتى صنَّف وزيرُهم كتابًا قال فيه: إن محمدًا رضِيَ بدينِ اليهودِ والنصارى، وأنه لا يُنكِرُ عليهم، واستدلَّ بقولِه: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد
…
} إلى آخِرِ السورةِ، وزعَم الخبيثُ أن هذا يقتضي أنه رضِيَ دينَهم، قال: وهذه الآيةُ مكيةٌ، ليست منسوخةً، وهذا من جهلِه، فإن قولَه:{لكم دينكم} إنما يدلُّ على أنه تبَرَّأَ من دينِهم، لا أنه رضِيَه، كما قال:{فإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملك} ، وشرحُ حالِهم يطولُ.
ومَن نفرَ إليهم من أمراءِ العسكرِ؛ فحكمُه حكمُهم، فيه من الرِّدَّةِ بقدرِ ما ترَكَه من شريعةِ الإسلامِ، فعلينا أن نقاتلَهم؛ ولو كان فيهم من هو مُكرَهٌ، لا نلتفتُ إليه؛ لأن اللهَ تعالى يَخْسِفُ بالجيشِ الذي يغزو الكعبةَ معَ علمِه سُبْحانَه بما فيهم ممن هو مُكرَهٌ، ويبعَثُهم على نِيَّاتِهم.
وهل يجوزُ القتالُ في الفتنةِ
؟ على قولَينِ، هما روايتانِ عن أحمدَ.
ويجوزُ أن يغمِسَ المسلمُ
نفْسَه في صفِّ الكفارِ لمصلحةٍ، ولو غلَب على ظنِّه أنهم يقتلونَه.
ومَن زعَم أن هؤلاءِ التتارَ
يُقاتَلونَ كالبُغاةِ؛ فقد أخطأَ خطَأً قبيحًا؛ فإن هؤلاءِ لا شبهةَ لهم؛ بل يسعَوْنَ في الأرضِ فسادًا، خارجينَ عن شرائعِ الدين، ثم لو قُدِّر أنهم متأوِّلونَ لم يكُنْ تأويلُهم سائغًا؛ بل تأويلُ الخوارجِ ومانعي الزكاةِ أوجَهُ من تأويلِهم.
وقد خاطَبَني بعضُهم، فقال: مَلِكُنا مَلِكُ بنُ مَلِكِ بنِ مَلِكٍ
…
، إلى سبعةِ أجدادٍ، ومَلِكُكُم ابنُ مولًى، فقلتُ: آباءُ ذلك الملكِ كلُّهم كفارٌ، ولا فخرَ بالكافرِ؛ بل المملوكُ المسلمُ خيرٌ من الملكِ الكافرِ، قال اللهُ تعالى:{ولعبد مؤمن خير من مشرك} ، فهذه وأمثالُها حُجَجُهم.
وبالجملةِ: فقد اتَّفقَ المسلمونَ على أن مَن ترَك شريعةً من شرائعِ الإسلامِ؛ وجَب قتالُه، فكيفَ بمن ترَك جميعَ شرائعِه، أو أكثرَها؟!
فَصْلٌ
يجبُ جهادُ الكفارِ
، واستنقاذُ ما بأيديهم من بلادِ المسلمِينَ وأَسْراهم باتفاق المسلمين.
ويجبُ على المسلمِينَ أن يكونَوا يدًا واحدةً على الكفارِ، وأن يجتمعوا ويقاتلوا على طاعةِ اللهِ ورسولِه، والجهادِ في سبيلِه، ويدعَ المسلمِونَ ما هم عليه من التفرُّقِ والاختلاف؛ فإن هذا هو من أعظمِ أصولِ الإسلامِ وقواعدِ الإيمانِ التي بعَث اللهُ بها رُسُلَه، وأنزلَ بها كتُبَه، أمَر عبادَه عمومًا بالاجتماعِ، ونهاهم عن التفرقِ والاختلافِ؛ كما قال:{أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} ، وقال:{ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} ، وأخبَرَ أنَّه سُبْحانَه إنَّما أرسلَ جميعَ المرسلينَ بدينِ الإسلامِ، كما قال:{ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل} .
وفي «الصحيحَينِ» عنه صلى الله عليه وسلم: «إنا معاشرَ الأنبياءِ إخوةٌ لِعَلَّاتٍ، دينُنا واحدٌ، وإن أَوْلى الناسِ بابنِ مريمَ لأَنا، إنَّه ليس بيني وبينَه نبِيٌّ»
(1)
، فتبيَّنَ أن دينَ الأنبياءِ واحدٌ، وأنهم إخوةٌ لعَلَّاتٍ، وهم الذينَ أبوهم واحدٌ، وأمهاتُهم شَتَّى، فإن كان بالعكسِ قيلَ: أولادُ أخيافٍ، وإن اشتركوا في الأمرينِ قيلَ: أولادُ أعيانٍ، وهذا؛ لأن الدينَ هو الأصلُ،
(1)
رواه البخاري (3443)، ومسلم (2365)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فشُبِّهَ بالأبِ، والشِّرعةُ والمنهاجُ تبَعٌ، فشُبِّه بالأمِّ، وقال:{لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} ، والشِّرْعةُ: الشِّريعةُ، والمنهاجُ: السبيلُ، وقال:{ولكل وجهة هو موليها} ، والقرآنُ له شريعةٌ، والتوراةُ لها شريعةٌ، واتِّباعُ كلِّ شريعةٍ قبلَ النسخِ والتبديلِ: هو الواجبُ، وهو من تمامِ الدِّينِ الذي هو الإسلامُ، فلما بدَّلَتِ اليهودُ التوراةَ، ونُسِختْ؛ لم يَبْقوا مسلمِينَ؛ وكذلك النصارى بعدَ تبديلِ الإنجيلِ ونسخه؛ لم يبقوا مسلمينَ، حيثُ كفروا ببعضٍ وآمنوا ببعضٍ.
وهؤلاءِ الرافضةُ الجبليةُ الخارجونَ
عن جماعةِ المسلمِينَ وطاعةِ ولاةِ الأمورِ الذينَ قد اعتدوا على المسلمِينَ، وكفَّروا سائرَ المسلمِينَ، وفضَّلوا عليهم اليهودَ والنصارى، واعتقدوا حِلَّ دمائِهم وأموالِهم، وكذَّبوا بأحاديثِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وكفَّروا السابقينَ الأولينَ من المهاجرينَ والأنصارِ، وفارقوا السُّنَّةَ؛ يجبُ قتالُهم بإجماعِ المسلمينَ، ويجوزُ أخذُ أموالِهم التي بالجبلِ؛ لأنهم قد أخذوا من أموالِ المسلمِينَ أضعافَ ذلك؛ {وجزاء سيئة سيئة مثلها} .
وأما سَبْيُ حريمِهم؛ ففيه نزاعٌ، كما تَنازَعوا في تكفيرِهم، منهم من يُلحِقُهم بمانعي الزكاةِ الذينَ سبى حريمَهم أبو بكر، ومنهم من يُلحِقُهم بالخوارجِ الذينَ لم تُسْبَ حريمُهم.
ويجبُ أن يُحالَ بينَ الرافضيِّ وبينَ أولادِه في حالِ حياتِهم إذا أراد أن يُفسِدَ دينَهم.
وإذا قُدِر على كافرٍ حربيٍّ
(1)
فنطَق بالشهادتينِ؛ وجَب الكَفُّ عنه، بخلافِ الخارجينَ عن الشريعةِ؛ كالمرتَدِّينَ الذينَ قاتلَهم أبو بكرٍ رضي الله عنه، أو الخوارجِ الذينَ قاتلَهم عليٌّ رضي الله عنه؛ كالخُرَّمِيَّةِ، والتتارِ، وأمثالِ هذه الطوائفِ ممن ينطق بالشهادة، ولا يلتزمُ بشرائعِ الإسلامِ.
وأما الحربيُّ؛ فإذا نطَق بها كُفَّ عنه، ثم إن لم يُصَلِّ فإنه يُسْتتابُ، فإن صلَّى، وإلا قتَلَه الإمامُ، وليس لآحادِ الرعيةِ قتْلُه، إنما يقتُلُه وليُّ الأمرِ عندَ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، وعندَ أبي حنيفةَ: يعاقِبُه بدونِ القتلِ.
وأما إذا كان في طائفةٍ ممتنعينَ عن الصَّلاةِ ونحوِها؛ فهؤلاءِ يُقاتَلونَ كقتالِ المرتَدِّينَ والخوارجِ، ومن قدَر عليه قتَلَه، فيجبُ الفرقُ بينَ المقدورِ عليه، وبينَ قتالِ الطائفةِ الممتنعةِ التي تحتاجُ إلى قتالٍ.
والرِّقُّ الشرعيُّ سبَبُه الكفرُ
؛ لأنَّ الكافرَ لمَّا لم يُسلِمْ ويعبُدِ اللهَ؛ أباح للمسلمِ أن يستَعْبِدَه.
وأما الكنيسةُ المحدَثةُ في دارِ الإسلامِ
، فليس لهم إعادتُها إذا انهدمَتْ باتِّفاق.
وأما الكنيسةُ العتيقةُ إذا كانت بأرضِ العَنْوةِ؛ ليس لهم إعادتُها أيضًا؛ بل في وجوبِ هَدْمِها قولانِ، هما روايتانِ لأحمدَ والشافعيِّ.
أما إذا كانت في أرضِ الصلحِ التي هي للمسلمِينَ؛ فهذه هل يجوزُ
(1)
هكذا في (ز). وفي الأصل: الحربي. وهو سقط من (ك) و (ع).
إعادتُها؟ فيه نزاعٌ لأحمدَ والشافعيِّ ومالكٍ وغيرِهم.
وأما إذا كانت الكنيسةُ في مكانٍ قد صار فيه مسجدٌ للمسلمِينَ يُصلَّى فيه، وهي أرضُ عَنْوةٍ؛ كأرضِ مصرَ؛ فهذه يجبُ هَدْمُها؛ لما رُوِي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا تجتمعُ قِبْلتانِ بأرضٍ، ولا جِزْيةَ على مسلمٍ» رواه أبو داودَ
(1)
، ولهذا أقرَّهم المسلمونَ في أولِ الفتحِ على ما بأيديهم من الكنائسِ العَنْوة؛ بأرضِ مصرَ والشامِ وغيرِها، فلما كثُر المسلمونَ، وبُنِيتِ المساجدُ في تلك الأرضِ؛ أخذ المسلمونَ تلك الكنائسَ فأقطعوها، أو بنَوْها مساجدَ، أو غيرَ ذلك؛ لأن الكنائسَ العَنْوةَ ملكُ المسلمِينَ، فأقروا ما لم يكُنْ فيه ضرَرٌ على المسلمِينَ كما أقرَّهم بخَيْبَرَ، ثم أمر بإجلائِهم، فأجلاهم عمرُ لما كثُر المسلمونَ، واستَغْنَوا عنهم، وصار عليهم منهم ضرَرٌ
(2)
، وقال عمرُ وغيرُه من السَّلَفِ:«لا يجتمعُ بيتُ رحمةٍ وبيتُ عذابٍ»
(3)
؛ أي: المساجدُ بيوتُ الرحمةِ، والكنيسةُ بيتُ العذابِ، وقد هدَم المسلمونَ بأرضِ الشامِ والعراقِ وغيرِها من
(1)
رواه أبو داود (3032)، دون قوله:«ولا جزية على مسلم» ، ورواه بتمامه الإمام أحمد (1949)، والترمذي (633)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما
(2)
رواه البخاري (2338)، ومسلم (1551)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
لم نقف عليه من قول عمر، وقد جاء عند أبي عبيد في الأموال (263)، عن طاوس أنه قال:«لا ينبغي لبيت رحمة أن يكون عند بيت عذاب» ، قال أبو عبيد: أراه يعني الكنائس والبيع وبيوت النيران، يقول: لا ينبغي أن تكون مع المساجد في أمصار المسلمين. قال أبو عبيد: فهذا ما جاء في الكنائس والبيع وبيوت النار، وكذلك الخمر والخنازير، قد جاء فيهما النهي عن عمر. ثم سرد أبو عبيد الآثار عن عمر رضي الله عنه.
الكنائسِ ما لا يعلمُه إلا اللهُ؛ ممَّا فُتح عَنْوةً، ومُصِّرَ موضعُه، أو بُنِي عندَه مسجدٌ.
وأكثرُ هذه الكنائسِ اليومَ مُجددةٌ، ولا يجوزُ تجديدُ الكنيسةِ باتِّفاقِ المسلمِينَ، وعلى وليِّ الأمرِ أن يهدِمَ ما عمَروه من ذلك، وإذا كانت قديمةً ثم مصَّر المسلمونَ تلكَ الأرض؛ وجَب هَدْمُها في أصحِّ قولَيِ العلماءِ، وهو مذهَبُ أحمدَ.
بَابُ عَقْدِ الذِّمَّةِ
الراهبُ الذي تنازَعَ العلماءُ
في وجوبِ أخذِ الجزيةِ منه: هو الحبيسُ الذي هو منقطع مُتخلٍّ عن الناسِ في دينِهم ودنياهم، كما قال أبو بكرٍ:«ستجِدونَ قومًا قد حبَسوا أنفُسَهم في الصوامعِ»
(1)
، فهذا يُؤخَذُ منه الجزيةُ في مذهَبِ الشافعيِّ في المشهورِ عنه، ولا يُؤخَذُ عندَ غيرِه.
وأما الذي يُخالِطُ أهلَ دينهِ، فيُزارِعُ ويتاجرُ؛ فحكمُه حكمُهم بلا نزاعٍ؛ وتُؤخَذُ منه الجزيةُ بلا رَيْبٍ، ولا يحل إبقاؤُهم بلا جزيةٍ، ولا يُترَكُ له من المالِ إذا فُتِحتِ البلادُ إلا ما يَكْفيه، ولا يجوزُ أن يُقطَعَ شيئًا من أموالِ المسلمِينَ
(2)
.
ومَن أعتَقَه سيدُه؛ وجبت عليه الجزيةُ
عندَ الجمهورِ؛ سواءٌ كان سيدُه مسلمًا أو كافرًا، وفي روايةٍ ضعيفةٍ عن أحمدَ: لا جزيةَ على عتيقٍ، وهي روايةٌ عن مالكٍ، وروايةُ «التهذيبِ»: الفرقُ بينَ العتيقِ المسلمِ والذميِّ، والروايةُ الثالثةُ عن مالكٍ كمذهبِ الجمهورِ: تجبُ الجزيةُ على كلِّ عتيقٍ.
(1)
رواه مالك (2/ 447)، والبيهقي في الكبرى (18125).
(2)
ينظر أصل الفتوى من بداية الباب إلى هنا في: مجموع الفتاوى 28/ 659.
والجزيةُ وجَبتْ عقوبةً وعِوضًا
عن حقنِ الدمِ عندَ أكثرِ العلماءِ، وأجرةً على سُكْنى الدارِ عندَ بعضِهم، ومن قال بالثاني؛ لا يُسقِطُها بإسلامِ مَن وجبت عليه، ولا بموتِه.
ولا جزيةَ على عبدِ المسلمِ
، وفي عبدِ الكافرِ نزاعٌ لأحمدَ وغيرِه.
ولعنُ الكفارِ مطلقًا حسَنٌ
؛ لِما فيهم من الكفرِ، وأما لعنُ المُعيَّنِ فيُنهَى عنه، وفيه نزاعٌ، وتركُه أَوْلى.
ولا يجوزُ أن يُولَّى الكتابيُّ
شيئًا من ولاياتِ المسلمِينَ، لا على الجهات السلطانية، ولا على أخبارِ الأمراءِ، ولا غيرِ ذلك، كما قال عمرُ لما ولَّى رجلٌ نصرانيًّا:«لا تُعِزُّوهم بعدَ إذ أذَلَّهم اللهُ، ولا تأمَنوهم بعدَ إذ خوَّنَهم اللهُ، ولا تُصدِّقوهم بعدَ إذ كذَّبَهم اللهُ»
(1)
، وكتب إلى خالدٍ بالشامِ:«مات النصراني» ، لَمَّا راجَعَه في أمرِ كاتبِ الشامِ أن يكونَ نصرانيًّا
(2)
، فقال: قدِّرْ موتَه، فمن ترك شيئًا للهِ؛ عوَّضه اللهُ خيرًا منه.
والمدينةُ التي يسكُنُها المسلمونَ وفيها مساجدُ المسلمِينَ، والقريةُ التي يسكنُها المسلمون وفيها مساجدُ لهم؛ لا يجوزُ أن يظهرَ فيها شيءٌ من شعائرِ الكفرِ، لا كنائسُ ولا غيرُها؛ إلا أن يكونَ لهم عهدٌ، فيُوفَّى لهم بعهدِهم، فلو كان بأرضِ القاهرةِ ونحوِها كنيسةٌ قبلَ بنائها؛ لكان
(1)
رواه الخلال في أحكام أهل الملل (328)، والبيهقي في الكبرى (20409).
(2)
لم نقف عليه.
للمسلمِينَ أخذُها وهدمُها؛ لأن القاهرةَ فُتِحتْ
(1)
عَنْوةً، فكيفَ وكنائسُها مُحدَثةٌ، فإن القاهرةَ قد ملَكها قومٌ اتَّفقَ المسلمونَ على أنهم خارجونَ عن الشريعةِ، وأنهم كانوا إسماعيليةً، كما قال الغزالي:«ظاهرُ مذهبِهم الرفضُ، وباطنُه الكفرُ المحضُ» ، واتفقوا على أن قتالَهم كان جائزًا، وهم الذينَ أحدثوا للنصارى هذه الكنائسَ، وصنَّف العلماءُ في كفرِهم وزَنْدقتِهم؛ مثلُ: القدوري، والشيخِ أبي حامدٍ الإسفرايينيِّ، والقاضي أبي يَعْلى، وأبي محمدِ بنِ أبي زيدٍ، وأبي بكر بنِ الطيبِ.
والذينَ يوجدونَ في بلادِ الإسلامِ من الإسماعيليةِ والنُّصَيريةِ والدرزيةِ هم من تباعِهم، وكان وزيرُهم بالقاهرةِ مرةً يهوديًّا، ومرةً نَصْرانيًّا أَرْمنيًّا، وقوِيَتِ النصارى بسببِ ذلك النصرانيِّ الأرمنيِّ، وبنوا كنائسَ كثيرةً بأرضِ مصرَ في دولةِ أولئكَ الرافضةِ المنافقينَ، وكانوا ينادونَ بينَ القصرينِ:«مَن لعن وسَبَّ، فله كذا» ، وفي أيامِهم أخذ النصارى ساحلَ الشامِ من المسلمِينَ؛ حتى فتَحَه نورُ الدينِ محمودُ، وصلاحُ الدينِ.
وليس لأهلِ الذمةِ أن يُكاتِبوا
أهلَ دينِهم من أهلِ الحربِ، ولا يُخبِروهم بشيءٍ من أخبارِ المسلمِينَ، ومَن فعل ذلك منهم وجبَتْ عقوبتُه، ونقضُ عهدِه في أحدِّ القولَينِ.
(1)
قوله: (فتحت) زيادة من (ز).
فَصْلٌ
ولا يجوزُ أن يُحبَّسَ شيءٌ
من أراضي المسلمِينَ التي فُتِحتْ عَنْوةً؛ كمصرَ والسوادِ وبرِّ الشامِ على شيءٍ من معابدِ الكفارِ، لا كنائسَ، ولا دياراتٍ، ولا غيرِها؛ بل ولا يجوزُ لآحاد المسلمِينَ أن يُحبِّسَ عليها شيئًا من مالِه، فكيفَ يُحبَّسُ عليها أرضُ المسلمِينَ؟!
بل لو حبس الذمِّيُّ من مالِ نفْسِه شيئًا على معابدِهم؛ لم يجُزْ للمسلمِينَ أن يحكموا بصحتِه، وإذا رُفِع إلى وليِّ الأمرِ؛ حَكَم بفسادِه، وجعَلَه لورثةِ الذمِّيِّ إن كان قد مات؛ كذا نصَّ على هذا الأئمَّةُ؛ مالكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وغيرُهم.
وما كان في أيديهم من المزارعِ المحبسةِ على ذلك؛ فعلى الإمام أخذُه منهم.
وإذا زار أهلُ الذمَّةِ كنيسةَ
بيتِ المقدسِ، فهل يقالُ لهم: يا حاجُّ، مثلًا؟ فمن اعتقد أن زيارتَها قربةٌ؛ فقد كفَرَ، فإن كان مسلمًا فهو مرتَدٌّ، يُسْتتابُ، فإن تاب وإلا قُتِل، وإن جهِل أن ذلك محرَّمًا؛ عُرِّف ذلك، فإن أصَرَّ؛ فقد صار مُرتَدًّا.
ومَن قال لأحدِهم: يا حاجُّ، فإنه يُعاقَبُ عقوبةً بليغةً تردَعُه عن مثلِ هذا الكلامِ الذي فيه تشبهُ القاصدينَ الكنائسَ بالقاصدينَ لبيتِ اللهِ الحرامِ، وفيه تعظيمٌ لذلك، وهو بمنزلةِ من يُشبِّهُ أعيادَ النصارى بأعيادِ المسلمِينَ ويُعظِّمُها، وأمثالُ ذلك
(1)
مما فيه تشبيهُ الذينَ كفروا من أهلِ
(1)
قوله: (ذلك) زيادة من (ز).
الكتابِ بأهلِ الإيمانِ، وتعظيمُ الكفارِ، وقد قال تعالى:{أفنجعل المسلمين كالمجرمين} ، {أفنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرضِ أم نجعل المتقين كالفجار} ، وأيُّ نصرانيٍّ قال لنصرانيٍّ: يا حاجُّ، بينَ المسلمِينَ؛ فإنه يُعاقَبُ على ذلك بما يردَعُه عقوبةً بليغةً.
وكذا من يسافرُ إلى زيارةِ القبورِ والمشاهدِ، كما يفعَلُه طوائفُ من الرافضةِ ونحوِهم في تسميةِ ذلك حَجًّا، وصنَّف بعضُهم كتابًا أسماه:«مناسِكُ حَجِّ المشاهدِ»
(1)
، فمن شبَّه ذلك بالحجِّ المشروعِ، وجعَلَه مثلَه؛ فإنه يُسْتتابُ، فإن تاب وإلا قُتِل، ومن سَمَّاه حَجًّا، أو جعَلَ له مناسكَ؛ فإنه أيضًا يُعاقَبُ بما يردَعُه وأمثالَه.
كيف والذي عليه أئمةُ المسلمِينَ وجمهورُ العلماءِ: أن السفرَ للمشاهدِ التي على القُبورِ غيرُ مشروعٍ؛ بل معصيةٌ؛ حتى لا يجوزُ قصرُ الصَّلاةِ فيه عندَ مَن لا يُجوِّزُ قصرَها في سفرِ المعصيةِ؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم: «لا تُشَدُّ الرحالُ إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ
(2)
الحرامِ، والأقصى، ومسجدي هذا»
(3)
.
(1)
مؤلفه: المفيد بن النعمان، على ما ذكر في مجموع الفتاوى 27/ 338، وهو محمد بن محمد بن النعمان البغدادي، المعروف بابن المعلم، وهو أحد شيوخ الرافضة المتوفى سنة (443 هـ)، قال الذهبي:(وقيل: بلغت تواليفه مائتين، لم أقف على شيء منها -ولله الحمد-). وينظر: سير أعلام النبلاء 13/ 96.
(2)
قوله: (المسجد) زيادة من (ز).
(3)
رواه البخاري (1189)، ومسلم (1397)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ولهذا اتَّفقَ سلفُ الأمةِ وخلَفُها على أنه لو نذَر السفرَ إلى مشهدِ عليٍّ ونحوِه؛ لم يُوفِ بهذا النَّذْرِ، بخلافِ ما لو نذَر إتيانَ المسجدِ الحرامِ؛ فإنه يجبُ الوفاءُ اتفاقًا، وكذلك لو نذَر إتيانَ مسجدِ رسولِ اللهِ أو المسجدِ الأقصى؛ وجَب عليه الوفاءُ عندَ مالكٍ وأحمدَ والشافعيِّ، ولا يجبُ عندَ أبي حنيفةَ.
لكن إذا سُمِّي حَجًّا مقيدًا بقيدٍ يُخرِجُه عن شبه المشروعِ؛ مثلُ أن يقالَ: حجُّ النصارى، وحجُّ أهلِ البِدَع، وحجُّ الضالينَ، كما يقالُ: صومُ النصارى، وصومُ اليهودِ، وصلاةُ النصارى، وصلاةُ اليهودِ، وصلاةُ الرافضةِ، وعيدُ الرافضةِ ونحوُ ذلك؛ فهو جائزٌ؛ ليتميزَ بذلك بينَ الحقِّ المأمورِ به وبين الباطلِ المنهيِّ
(1)
عنه؛ بل السفرُ المشروعُ السفرُ إلى مسجدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو إلى المسجدِ الأقصى، وليس لأحدٍ أن يفعلَ في ذلك ما هو من خصائصِ البيتِ العتيقِ، كما يفعَلُه بعضُ الضُّلَّالِ من الطوافِ بالصخرةِ، أو الحجرةِ، أو السفرِ إلى القدسِ وقتَ التعريفِ، أو الذبحِ هناك، أو حلقِ الرأسِ، ونحوِ ذلك؛ فكلُّ هذا من المُنكَراتِ في دينِ الإسلامِ.
(1)
في الأصل: (للنهي)، والمثبت من (ز).
فَصْلٌ
وإذا شرط وليُّ الأمرِ
على التجارِ الداخلينَ إلى بلادِ الإسلامِ - وهم من أهلِ الحربِ- أنهم يضمنونَ ما أخذَه أهلُ الحربِ منهم لتجَّارِ المسلمِينَ؛ جاز ذلك، وكان شرطًا صحيحًا؛ لأن غايتَه أنه ضمانُ مجهولٍ، وضمانُ ما لم يجبْ، فهو كضمانِ السوقِ؛ وهو أن يضمنَ الضامنُ ما يجبُ على التاجرِ للناسِ من الديونِ، وهذا جائزٌ عندَ أكثرِ العلماءِ؛ مالكٍ، وأحمدَ، وأبي حنيفةَ وغيرِهم، كما في قولِه:{ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} ، ولأن هؤلاءِ الطائفةَ الممتنعةَ ينصُرُ بعضُهم بعضًا، فهم كالشخصِ الواحدِ، فإذا شرطوا على أن تجارَهم يدخلونَ دار الإسلامِ بشرطِ ألا يأخذوا للمسلمِينَ شيئًا، وما أخذوه كانوا ضامنينَ له، والمضمونُ يُؤخَذُ من أموالِ التجارِ؛ جاز ذلك، ولهذا لما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم للأسيرِ العقيليِّ حينَ قال: يا محمدُ، عَلامَ أُوخَذُ؟ فقال:«بجَريرةِ حُلفائِكَ من ثقيفٍ»
(1)
، فأسَرَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وحبَسَه لينالَ بذلك من حلفائِه مقصودَه.
ولو أسَرْنا حربيًّا لأجلِ مَن أسَروه
؛ جاز باتِّفاقِ المسلمِينَ، ولنا أن نَحبِسَه حتى يردوا أسيرَنا، ولو أخَذْنا مالَ حربيٍّ حتى يردوا علينا ما أخذوه لنا؛ جاز، فإذا شرِطَ عليهم ذلك في الأمانِ جاز.
(1)
رواه مسلم (1641)، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
فَصْلٌ
وإذا كان اليهوديُّ أو النصرانيُّ
خبيرًا بالطبِّ، ثقةً عندَ الإنسانِ؛ جاز له أن يستَطِبَّه، كما يجوزُ له أن يودِعَه المالَ، وأن يعاملَه، وقد استأجَرَ رسولُ اللهِ رجلًا مشركًا لما هاجَرَ، وكان هاديًا خِرِّيتًا
(1)
؛ أي: ماهرًا بالهدايةِ، وائتَمنَه على نفْسِه ومالِه، وكانت خُزاعةُ عَيْبةَ نصحٍ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ مسلمِهم وكافرِهم
(2)
، وقد رُوِي أن الحارثَ بنَ كَلَدةَ - وكان كافرًا - أمَرَ رسولُ اللهِ أن يستَطِبَّه
(3)
، وإذا وجَد مسلمًا فهو أَوْلى، وأما إن
(4)
لم يجدْ إلا كافرًا؛ فله ذلك، وإذا خاطَبَه بالتي هي أحسَنُ؛ كان حَسَنًا.
وليس لأهلِ الذمةِ إظهارُ شيءٍ
من شعائرِ دينِهم في ديارِ المسلمِينَ، لا في أوقاتِ الاستسقاءِ، ولا في وقتِ مجيءِ النوائبِ
(5)
، وإظهارِ التوراةِ، ولا يرفعونَ أصواتَهم بالقراءةِ، وعلى وليِّ الأمرِ منعُهم من ذلك.
وليس الخميسُ من أعيادِ المسلمِينَ
؛ بل من أعيادِ النصارى، كعيدِ
(1)
رواه البخاري (2263)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه البخاري (2731)، من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم.
(3)
رواه أبو داود (3875)، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(4)
سقطت من الأصل، والمثبت من (ز).
(5)
في (الأصل): النواب، والمثبت من (ز).
الميلادِ، وعيدِ الغِطاسِ؛ لكلِّ أُمَّةٍ عيد كما لكل أُمَّةٍ قِبْلةٌ.
وليس لأهلِ الذمةِ أن يُظهروا
أعيادَهم في بلادِ المسلمِينَ، وليس للمسلمِينَ أن يُعينوهم على أعيادِهم، لا ببيعِ ما يستعينونَ به على عيدِهم، ولا بإجارةِ دوابِّهم ليركبوها في عيدِهم؛ لأن أعيادَهم مما حرَّمَه اللهُ ورسولُه؛ لما فيها من الكفرِ والفسوقِ والعصيانِ.
وأما إذا فعَل المسلمونَ معهم أعيادَهم؛ مثلُ: صنعِ بيضٍ، وتحميرِ دوابِّهم بِمَغَرةٍ
(1)
وبخورٍ، وإنفاقٍ وعملِ طعامٍ؛ فهذا أظهرُ من أن يحتاجَ إلى سؤالٍ؛ بل قد نصَّ طائفةٌ من العُلَماءِ من أصحابِ أبي حنيفةَ ومالكٍ على كفرِ مَن يفعلُ ذلك، وقال بعضُهم: من ذبَح بطيخةً في عيدِهم؛ كأنما ذبَح خنزيرًا.
ولو تشَبَّه الرجلُ منهم في العادات المختصةِ بهم لنُهِي عن ذلك باتِّفاقِ العلماءِ، وإن كان ذلك جائزًا إذا لم يكُنْ من شعائرِهم؛ مثلُ: لباسِ الأصفرِ ونحوِه، فإن هذا جائزٌ في الأصلِ؛ لكن لما صار مِن
(2)
شعائرِ الكفرِ؛ لم يجُزْ لأحدٍ أن يلبَسَ عمامةً صفراءَ أو زرقاءَ؛ مع كونِ ذلك من لباسِهم الذي يمتازونَ به، فكيفَ بمَن يشارِكُهم في عاداتِهم وشعائرِ دينِهم؟!
(1)
قال في المصباح المنير 2/ 576: (المغرة: الطين الأحمر، بفتح الميم والغين، والتسكين تخفيف).
(2)
قوله: (من) زيادة من (ز).
بل ليس لأحدٍ من المسلمِينَ أن يخُصَّ مواسِمَهم بشيءٍ مما يخُصُّونَها به، فليس للمسلمِ أن يخصَّ خميسَهم الحقيرَ لا بتجديدِ طعامٍ؛ كالرزِّ، والعَدَسِ، والبيضِ المصبوغِ، وغيرِ ذلك، ولا بتجمُّلٍ بالثيابِ، ولا بصبغِ دوابَّ، ولا بنشرِ ثيابٍ، ولا غيرِ ذلك، ومن فعل ذلك على وجهِ التبركِ به واعتقادِ التبررِ به؛ فإنه يُعرَّفُ دينَ الإسلامِ، وأن هذا ليس منه؛ ويُسْتتابُ منه، فإن تابَ وإلا قُتِل.
وليس لأحدٍ أن يجيبَ دعوةَ مسلمٍ يحدِّد في أعيادِهم مثلَ هذه الأطعمةِ، ولا يأكلَ من ذلك؛ بل لو ذبحوا هم في أعيادِهم شيئًا لأنفُسِهم؛ ففي جوازِ أكلِ المسلمِ لذلك نزاعٌ بينَ العلماءِ؛ لكونِهم على وجهِ القربات، فصار من جنسِ ما ذُبِح على النُّصُبِ وما أُهِلَّ به لغيرِ اللهِ.
وأما ذبحُ المسلمِ لنفْسِه في أعيادِهم على وجهِ القربات؛ فكفرٌ بَيِّنٌ؛ كالذبحِ للنُّصُبِ، ولا يجوزُ الأكلُ من هذه الذبيحةِ بلا رَيْبٍ، ولو لم يقصِدِ التقربَ بذلك؛ بل فعَله لأنه اعتاده، أو لتفريحِ أهلِه؛ يحرُمُ عليه ذلك، واستحقَّ العقوبةَ البليغةَ إن عاد إلى مثلِ ذلك؛ لقولِه:«ليس منَّا مَن تشَبَّه بغيرِنا»
(1)
، و:«مَن تشَبَّه بقومٍ فهو منهم»
(2)
، وبسَطْنا ذلك في كتابٍ كامل، وذكَرْنا دلائلَ ذلك كلَّها، وسأل رجلٌ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: إني نذرتُ أن أذبحَ بمكان سمَّاه، فهل أُوفِ بنذري؟ فقال: «إن
(1)
رواه الترمذي (2695)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(2)
رواه أحمد (5114)، وأبو داود (4031)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
كان به عيدٌ من أعيادِ المشركينَ، أو وَثَنٌ؛ فلا تذبَحْ به»
(1)
، فنهاه أن يذبحَ في مكانٍ كانوا يتخذونَه عيدًا؛ لئلا يكونَ ذريعةً إلى إحياءِ سُننٍ من أمر الكفرِ، فكيفَ بمن يظهرُ شعائرَ كفرِهم وإفكِهم؟! وإن كان ذلك لا يعلمُ أنه من خصائصِ دينِهم؛ بل يفعلُه على وجهِ العادةِ؛ فهي عبادةٌ جَاهليةٌ، أصلها مأخوذةٌ عنهم، ليس هذا من عباداتِ المسلمِينَ الذين أخذوها عن المؤمنينَ.
والدينُ الفاسدُ: هو عاداتٌ فاسدةٌ ابتدَعَها بعضُ الضالينَ، والدينُ الصحيحُ: عاداتٌ شرعها اللهُ ورسولُه، وقد كرِهَ السَّلَفُ صيامَ أيامِ أعيادِهم وإن لم يقصِدْ تعظيمَها، فكيفَ بتخصيصِها بمثلِ ما يفعلونَه هم؟! بل قد نهى أئمةُ الدينِ عن أشياءَ ابتدَعَها بعضُ الناسِ من الأعيادِ، وإن لم تكُنْ من أعيادِ الكفارِ؛ كما يفعلونَه في يومِ عاشوراءَ، وفي رجبٍ، وليلةِ النصفِ، ونحوِ ذلك، فنهى العلماءُ عما أُحدِثَ في ذلك من الصلواتِ، والاجتماعاتِ، والأطعمةِ، والزينةِ، وغيرِ ذلك، فكيفَ بأعيادِ المشركينَ؟! فالناهي عن هذه المُنكَراتِ من المُطيعِينَ للهِ ورسولِه المجاهدِينَ في سبيلِه.
ويُنهى المسلم عن كلِّ ما فيه ذلٌّ للنصارى
، كالسؤالِ على بابِه، وخدمتِه له بعوضٍ يعطونه إياه، وكُره إجارةُ نفْسِه له للخدمةِ في المنصوصِ من الروايتينِ، وهو مذهَبُ مالكٍ.
(1)
رواه احمد (23196)، وأبو داود (3315)، من حديث كردم بن سفيان رضي الله عنه.
بَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ
فيما يُشترَطُ قطعُه أقوالٌ:
أحدُها: أن الواجبَ قطعُ الحُلْقُومِ والمَرِيْءِ خاصةً؛ كقولِ الشافعيِّ، وروايةٍ عن أحمدَ.
وعلى هذا؛ لو قطَع الوَدَجَينِ دونهما؛ فهل يباح؟ على وجهين.
ولو قَطَع الحلقومَ وأحد الوَدَجَينِ والمريءَ؛ لكان أولى بالإباحة من قطع الوَدَجَينِ، بل قَطْع أحدِ الوَدَجَينِ والحلقوم أَوْلى بالإباحةِ من قطعِ الحلقومِ والمَريءِ.
والقولُ الثاني: أن الواجبَ قطعُ الأربعةِ؛ كالروايةِ الأخرى عن أحمدَ، ويُروَى عن مالكٍ.
الثالثُ: أن الواجبَ قطعُ ثلاثةٍ، وهو مذهَبُ أبي حنيفةَ وأصحابِه، ومالكٍ فيما نقَلَه أصحابُه، وقولٌ في مذهَبِ أحمدَ؛ لكنْ مالكٌ يعتبرُ قطعَ الحلقومِ والوَدَجَينِ دونَ المَريءِ، وأبو حنيفةَ معَ صاحبيه على قولَينِ:
أحدُهما: يُعتبرُ قطعُ ثلاثةٍ من الأربعةِ؛ يشترطُ أن يكونَ فيها الحلقومُ.
والثاني: يُعتبرُ قطعُ ثلاثةٍ من الأربعةِ؛ سواءٌ كان فيها الحلقومُ أو لم يكُنْ، وهو القولُ الذي في مذهَبِ أحمدَ، فإذا قطع وَدَجَيْه وبُلْعُومَه ولم يقطعِ الحُلْقومَ؛ يجيءُ فيه نزاعٌ، على ما تقدَّم، والأظهرُ: حِلُّه.
وإذا جُرِح الصيدُ فغاب عنه
، وليس به غيرُ سهمِه؛ فإنه يحلُّ على الصحيحِ من أقوالِهم، وبه أفتى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سأله عَدِيُّ بنُ حاتمٍ: إنا نرمي الصيدَ، فنَقْتفي أثَرَه اليومينِ والثلاثةَ، ثم نجِدُه ميتًا وفيه سهمٌ، فقال:«يأكل إن شاء»
(1)
، وفي حديثِ أبي ثَعْلَبةَ:«إذا رميتَ سَهْمكَ فغاب ثلاثةَ أيامٍ وأدرَكْتَه؛ فكُلْ ما لم يُنْتِنْ»
(2)
، فهذانِ الحديثانِ الصحيحانِ: الأولُ في البخاريِّ، والثاني في مسلمٍ، عليهما اعتمدَ العلماءُ، فإن كلاهما أفتى فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ومن أفتى بغيرِ ذلك؛ فلم يبلُغْه الحديثُ.
وأما إذا أنتَنَ؛ فيُكرَهُ أكلُه.
وأما الضَّبُعُ؛ فإنها مباحةٌ
في مذهَبِ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، وحرامٌ في مذهَبِ أبي حنيفةَ؛ لأنها من ذواتِ الأنيابِ، والأولونَ استدلوا بقولِه:«إنها صَيْدٌ» ، وأمَرَ بأكلِها، رواه أهلُ السُّننِ، وصحَّحَه التِّرْمِذيُّ
(3)
، وقالوا: ليس لها نابٌ؛ لأن أضراسَها صفيحةٌ، لا نابَ فيها.
(1)
رواه البخاري (5485)، من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (1931)، من حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه بنحوه.
(3)
رواه أبو داود (3801)، والترمذي (1791)، والنسائي (2836)، وابن ماجه (3085)، من حديث جابر رضي الله عنه.
وما أكَل منه الكلبُ
؛ لا يُؤكَلُ في أصحِّ قولي العلماءِ، ولا يحرمُ ما تقدَّمَ من صيده في أصحِّ قولَيِ العلماءِ أيضًا.
والصيدُ للحاجةِ؛ فإنه جائزٌ
، وأما الصيدُ الذي ليس فيه إلا اللهوُ واللعبُ؛ فمكروهٌ، فإن كان فيه تعَدٍّ على زروعِ الناسِ وأموالِهم؛ فهو حرامٌ
(1)
.
وقد رُوِي عن عثمانَ:
أنه نهى عن الرميِ بالجُلَاهقِ؛ وهي البُنْدُقُ
(2)
، والمقتولُ بالبُنْدُقِ؛ حرامٌ باتِّفاقِ المسلمِينَ، وإن أُدرِكَ حيًّا وذُكِّيَ؛ فحلالٌ
(3)
.
في كلبِ الماءِ
نزاعٌ، الأَوْلى تَرْكُه.
فَصْلٌ
إذا كان السَّبَقُ من أحدِ الحزبينِ
، أو غيرِهما؛ لم يحتجْ إلى محلِّلٍ، ويمكنُهم معَ هذا أن تكونَ الحزبةُ
(4)
للأولِ، يُخرِجُ السَّبَقَ أولَ مرةٍ،
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والصيدُ للحاجةِ
…
) إلى هنا في الفتاوى الكبرى 5/ 550.
(2)
رواه ابن جرير في تاريخه (4/ 398)، وابن عساكر في تاريخه (39/ 228).
والجلاهق: هو البندق المعمول من الطين، الواحدة جلاهقة وهو فارسي. ينظر: المصباح المنير 1/ 106.
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وقد روي
…
) إلى هنا في جامع المسائل المجموعة السابعة ص: 302.
(4)
في المصباح المنير 1/ 133: (الحزب: النصيب).
وللآخَرُ يُخرِجُه في المرةِ الثانيةِ، والأولُ في المرةِ الثالثة، والثاني في المرة الرابعة، وهلُمَّ جرًّا، فإذا فَعَلوا هذا كانَ عَدْلًا بين الحِزبينِ، ولم يحتجَ إلى محلِّلٍ، ويمكنهم معَ هذا أن يُكثِروا الرميَ.
وأما إعارةُ السلاحِ والخيلِ لمن يعرضُ فيها
، فإن كان ممن يرتزقُ من بيتِ المالِ، ويصرِفُه في غيرِ مصارِفِه الشرعيةِ، أو يُقصِّرُ فيما يجبُ عليه من الجهادِ؛ لم يجُزْ إعانتُه على المعصيةِ والتدليسِ والتزويرِ.
وكذلك الجنديُّ الذي يسرفُ في النفقة، أو يُنفِقُها في المعاصي والفواحشِ حتى يبقى؛ لا يمكنُه أن يقومَ بما يجبُ عليه.
وكذلك الذينَ يَكْنِزونَ الذهبَ والفضةَ، ولا يُنفِقونَها في سبيلِ اللهِ، أو يتخذونَ بها ما لا ينفعُ للجهادِ من عرضٍ وعقارٍ؛ حتى لا يَقوموا بما يجبُ عليهم.
وأما إن كان هذا المعارُ معذورًا أو مظلومًا؛ مثلُ: أن يكونَ قد ماتت خيلُه بغيرِ تفريطٍ منه، ولم يُعرِضْ عنها، أو أن الخبزَ الذي له لم يغلَّ
(1)
ما يقومُ بذلك، أو حدَثَ له من العيالِ ما يمنعونَه من تمامِ العملِ، أو كان قد ظُلِم فلم يُعْطَ من بيتِ المالِ الرزقَ الذي عليه أن يقيمَ به ما ينبغي لمثلِه، فهذا إذا خيفَ في عَرْضِه ناقصًا أن يزدادَ ظلمُه، أو يُقطَعَ خبزُه معَ استحقاقِه، أو يُعطَى خبزُه لمن هو دونَه في نفعِ المسلمِينَ، فأُعيرَ ما يتجمَّلُ به؛ فلا بأسَ بذلك؛ بل يُستحَبُّ ذلك،
(1)
في الصحاح 5/ 1785: (فلان يُغِلُّ على عياله، أي يأتيهم بالغَلَّةِ).
ويُؤمَرُ به إذا كانت الإعارةُ لأجلِ معاينة عيونهم جندَ المسلمِينَ، وقُصِد بذلك تتمةُ عسكرِ المسلمِينَ؛ كان حسنًا محمودًا.
ولعبُ الأُكْرةِ
(1)
إذا كان قصَد صاحبُه به المنفعةَ للخيلِ والرجالِ؛ بحيثُ يُستعانُ بها على الكرِّ والفرِّ والدخولِ والخروجِ ونحوِه في الجهادِ، وغرَضُه الاستعانةُ على الجهادِ الذي أمَر اللهُ به ورسوله؛ فهو حسَنٌ، وإن كان في ذلك مَضرَّةٌ بالخيلِ والرجالِ؛ فإنه يُنهَى عنه.
(1)
في لسان العرب (4/ 26): (ومن العرب من يقول للكرة التي يلعب بها: أكرة، واللغة الجيدة: الكرة)، وهي بالضم كما في القاموس المحيط ص 344.
بَابُ الأُضْحِيَّةِ
في «النَّسائيِّ»
(1)
عن ابنِ عبَّاسٍ قال:
كنا معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فحضَر النحرُ، فاشترَكْنا في البعيرِ عن عشرةٍ، والبقرةِ عن سبعةٍ، والذي في الصحيحِ: أنهم عامَ الحُدَيْبيةِ نحَروا البَدَنةَ عن سبعةٍ؛ وهي البعيرُ
(2)
، وهذا مذهَبُ الجمهورِ.
وقال مالكٌ: لا تجزئ نفسٌ إلا عن نفسٍ.
وأما ذبحُ البعيرِ عن عشرةٍ؛ فلم يقُلْ به أحدٌ من الأئمَّةِ الأربعةِ، وحديثُ النسائيِّ قيلَ: إن أصلَه كان في قَسمِ المغنائمِ، فقُسِم بينهم، فعدل الجزورَ بعشرةٍ من الغنمِ، لا في النُّسُكِ؛ لأن ابنَ عبَّاسٍ لم يكُنْ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في سفرِ عيدَ النحرِ إلا في حجةِ الوداعِ خاصةً، فإنه كان مقيمًا معَ أبيه إلى عامِ الفتحِ، فلم يشهدْ معَه عيدًا قبلَ ذلك، لا في حضرٍ ولا سفرٍ، وبعدَ الفتحِ إنما عَيَّد النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ أعيادٍ: عامَ ثمانٍ، وتسعٍ، وعشرٍ، ولم يسافرْ سفرَ حجِّ إلا حجةَ الوَداعِ، أو سَفْرتانِ للغزوِ، وهما: غزوةُ خَيْبَرَ وتَبوكٍ، وابنُ عبَّاسٍ كان صبِيًّا دونَ الاحتلامِ، لم يكُنْ يشهدْ معَه المغازيَ؛ لكن شهِد معَه حجةَ الوداعِ،
(1)
(2)
رواه مسلم (1318)، من حديث جابر رضي الله عنه.
وفي حجةِ الوداعِ؛ لم يذبحوا البَدَنةَ عن عشرةٍ، ولا نقَل ذلك أحدٌ، واللهُ أعلمُ.
ويُنهَى عن التضحيةِ في الكنيسةِ
التي فيها صُوَرٌ، كما يُنهَى عن ذبحِها عندَ الأصنامِ، ومن قال: إن نُسُكَ المسلمِينَ يُذبَحُ عندَ الأصنامِ كما يذبحُ المشركونَ القرابينَ لآلهتِهم؛ فهو مخالفٌ لإجماعِ المسلمِينَ؛ بل يُسْتتابُ قائلُ هذا، فإن تاب، وإلا قُتِل.
وفي الصحيحِ أنه نهى عن العَقْرِ عندَ القبرِ
(1)
، فلا يذبح عند قبر، ولا تشرع الصدقةُ عندَه، ومَن اعتقد أن الذبحَ عندَ القبرِ أفضلُ، أو الصلاةَ، أو الصدقةَ؛ فهو ضالٌّ مخالفٌ لإجماعِ المسلمِينَ.
وفي وجوبِ الأضحيَّةِ قولانِ
لأحمدَ ومالكٍ وغيرِهما
(2)
.
والعقيقةُ سنةٌ
، وتَنازَعوا في وجوبِها على قولَينِ في مذهَبِ أحمدَ وغيرِه، وإن كان بعضُ أهلِ العراقِ لم يعرِفْها، وهي أفضلُ من الصدقةِ.
ويعُقُّ الكبيرُ عن نفْسِه إذا لم يُعَقَّ عنه، جوَّزه طائفةٌ، وروَى
(1)
روى أحمد (13032)، وأبو داود (3222)، من حديث أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عقر في الإسلام» ، قال عبد الرزاق:«كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة» ، ولعله أراد بقوله:(وفي الصحيح) أي: الحديث الصحيح، ولم نقف عليه في الصحيحين، وقد ذكر الحديث في الاقتضاء (2/ 266)، وذكر أنه من رواية أحمد وأبي داود.
(2)
قال في مجموع الفتاوى 23/ 162: (وأما الأضحية فالأظهر وجوبها أيضًا؛ فإنها من أعظم شعائر الإسلام).
عبدُ الحقِّ في «أحكامِه» : «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم عَق عن نفْسِه بعدَ النبوةِ»
(1)
، وهذا فيه نظَرٌ ونزاعٌ.
فَصْلٌ
(2)
هل الذبيحُ إسماعيلُ أو إسحاقُ
؟ فيه قولانِ مشهورانِ، هما روايتانِ، كلُّ منهما قولٌ عن السَّلَفِ، ونصَّ القاضي أبو يَعْلى: أنه إسحاقُ، تَبَعًا لأبي بكرٍ عبدِ العزيزِ، وقال ابنُ أبي موسى: الصحيحُ أنه إسماعيلُ.
والذي يجبُ القطعُ به:
أنه إسماعيلُ؛ يدلُّ على ذلك الكتابُ والسُّنَّةُ والتوراةُ، فإن فيها أنه قال لإبراهيمَ:«اذبَحْ ابنَكَ وحيدَكَ» ، وفي ترجمةٍ أخرى:«بِكْرَكَ» ، وإسماعيلُ هو بِكْرُه ووحيدُه باتِّفاقِ المسلمِينَ وأهلِ الكتابِ؛ لكنَّ أهلَ الكتابِ حرَّفوا فزادوا:«إسحاقَ» ، فتلَقَّى ذلك مَن تلَقَّاه، وشاع بينَ المسلمِينَ.
ومما يدلُّ على أنه إسماعيلُ؛ قصةُ الذبيحِ التي في الصافاتِ؛ حيثُ قال: {وبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى
…
} إلى قولِه: {وفديناه بذبح عظيم
…
}
(1)
علقه عبد الحق الأشبيلي في الأحكام الوسطى (4/ 143)، وقد رواه عبد الرزاق (7960)، والطحاوي في مشكل الآثار (1053)، والبزار (7281)، والطبراني في الأوسط (994)، من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
ينظر أصل الفتوى في مجموع الفتاوى (4/ 331).
إلى قولِه: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين} ، فهذه القصةُ تدلُّ من وجوهٍ أنه إسماعيلُ:
أحدُها: أنَّ البشارةَ بالذبيحِ، وذَكَر قصته وفداءه، فلما استوفى ذلك قال:{وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق} ، فهما بشارتانِ: بِشارةٌ بالذبيحِ، وبِشارةٌ بابنِه إسحاقَ، وهذا بيِّنٌ.
الوجهَ الثاني: أنه لم يذكرْ قصةَ الذبيحِ إلا في هذه السورةِ، وفي سائرِ المواضعِ يذكرُ البشارةَ بإسحاقَ خاصةً، كما قال في سورةِ هودٍ:{وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} ، وقال:{فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم} ، وقال في الحِجْرِ:{قالوا إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون} ، ولم يذكرْ معَ البشارةِ بإسحاقَ أنه ذبيحٌ، معَ تعددِ المواضعِ، فإذا كان قد ذكر البشارةَ بإسحاقَ وحدَه غيرَ مرةٍ، ولم يذكرِ الذبيحَ، ثم ذكر البِشارتينِ جميعًا: البشارةَ بالذبيحِ والبشارةَ بإسحاقَ بعدَه؛ كان هذا من أبينِ الأدلةِ على أن إسحاقَ ليس هو الذبيحَ.
يؤيدُ ذلك: أنه ذكَر هِبتَه وهبةَ يعقوبَ لإبراهيمَ بقولِه: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين} ، وقوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وآتيناه أجره
في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}، ولم يذكرْ ذلك في الذبيحِ.
الوجهُ الثالثُ: أنه ذكَر في الذبيحِ أنه غلامٌ حليمٌ، ولما ذكر البشارةَ بإسحاقَ قال:{بغلام عليم} في غيرِ موضعٍ، ولا بدَّ لهذا التخصيصِ من حكمةٍ، وهذا يقوي افتراق الوصفينِ، والحلمُ الذي هو ثابتٌ للصبرِ الذي هو خُلُقُ الذبيحِ، وإسماعيلُ وُصِف بالصبرِ في قولِه:{واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل كل من الصابرين} ، وهذا وجه ثالث؛ فإنه قال:{ستجدني إن شاءَ اللهُ من الصابرين} .
الوجهُ الرابعُ: أن البشارةَ بإسحاقَ كانت معجزةً؛ لأن أمَّه عجوزٌ عقيمٌ، وأبوه قد مسَّه الكِبَرُ، والبشارةُ مشتركةٌ لإبراهيمَ وامرأتِه، وأما البشارةُ بالذبيحِ فكانت لإبراهيمَ، وامتُحِن بذَبْحِه دونَ الأمِّ المُبشَّرةِ، ولم تكُنْ ولادتُه خرقَ عادةٍ، وهذا يوافقُ ما نُقِل عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه في الصحيحِ: من أن إسماعيلَ لَمَّا وُلِد لهاجرَ، غارَتْ سارَّةُ، فذهب إبراهيمُ بإسماعيلَ وأمِّه إلى مكةَ، وهناك كان أمرُ الذبحِ
(1)
، فيؤيدُ أن إسماعيلَ هو الذبيحُ، ليس إسحاقَ؛ لأنه قال:{فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} ، فكيفَ يأمُرُ بعدَ ذلك بذَبْحِه؟! والبشارةُ بيعقوبَ تقتضي أن إسحاقَ يعيشُ ويولدُ له يعقوب، فكيف يأمر بعد ذلك بذَبْحِه؟! وكانت البشارة بيعقوب قبل ولادةِ إسحاق، بل يعقوب إنما ولد بعد موت إبراهيم، وقصةُ الذبيحِ كانت في حياةِ إبراهيمَ بلا رَيْبٍ.
(1)
رواه البخاري (3365)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ويدلُّ على ذلك أن قصةَ الذبيحِ كانت بمكةَ، ولما فتَح النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكةَ كان قَرْنا الكبشِ في الكعبةِ، وقال للسادِنِ:«إني أردتُّ أن آمُرَكَ أن تُخمِّرَ قَرْنَيِ الكبشِ، فنَسيتُ، فخَمِّرْهما؛ فإنه لا ينبغي أن يكونَ في القِبْلةِ شيءٌ يلهي المصليَ»
(1)
، فلهذا جُعِلتْ منًى محلًّا للنُّسُكِ من عهدِ إبراهيمَ.
وإبراهيمُ وإسماعيلُ هما اللذانِ بَنَيا البيتَ بنصِّ القرآنِ، لم ينقُلْ أحدٌ أن إسحاقَ ذهب إلى مكةَ.
وبعضُ المفترينَ من أهلِ الكتابِ يزعُمُ أن قصةَ الذبيحِ كانت بالشامِ، وهذا افتراءٌ بيِّنٌ، فإنه لو كان ببعضِ جبالِ الشامِ لعُرِف ذلك الجبلُ، وربما جُعِل مَنْسَكًا، كما جُعِل المسجدُ الذي بناه إبراهيمُ وما حولَه من المشاعرِ.
وفي المسألة دلائل أخر، وعلى ما ذكَرْناه أسئلةٌ أوردها طائفةٌ؛ كابنِ جريرٍ، والقاضي أبي يَعْلى، والسُّهَيْليِّ، ولكن لا يتسعُ هذا الموضعُ لذِكْرِها وجوابِها.
فَصْلٌ
ومَن ضحَّى بشاةٍ ثَمنُها
أكثرُ من ثَمنِ البقرةِ؛ كان أفضلَ من البقرةِ؛ فإنه سُئِلَ: أيُّ الصدقاتِ أفضلُ؟ فقال: «أغلاها ثمنًا، وأنفَسُها عندَ أهلِها»
(2)
.
(1)
رواه أحمد (16637)، من حديث امرأة من بني سليم رضي الله عنها.
(2)
رواه مسلم (84)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
والذي دلت عليه السُّنَّةُ:
أن الضحِيَّةَ وإن كانت واجبةً؛ يُضحِّي الرجلُ بالشاةِ الواحدةِ عنه وعن أهلِ بيتِه، فقد ضحَّى صلى الله عليه وسلم بكبشينِ وقال:«اللهمَّ هذا عن محمدٍ وعن آل محمدٍ»
(1)
، «وكان الرَّجلُ يَضحِّي بالشاةِ الواحدةِ عنه وعن أهلِ بيتِه»
(2)
.
فَصْلٌ
الأعمالُ التي تكونُ بينَ اثنينِ فصاعدًا
، يطلبُ كلٌّ منهما أن يغلبَ الآخَرَ: ثلاثةُ أصنافٍ:
صنفٌ: أمَر اللهُ به ورسولُه؛ كالسباقِ بالخيلِ والرميِ؛ لأنه مما يعينُ على الجهادِ في سبيلِ اللهِ.
الصنفُ الثاني: ما نهى اللهُ ورسولُه عنه بقولِه: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه
…
} إلى آخِرِ الآيةِ.
فالميسرُ محرَّمٌ بالنصِّ والإجماعِ، ومنه اللعبُ بالنَّرْدِ والشِّطْرَنْجِ، وما أشبَهَه مما يصُدُّ عن ذكرِ اللهِ، وعن الصَّلاةِ، ويوقعُ العداوةَ والبغضاءَ.
فإذا كان بعِوَضٍ؛ حرُم إجماعًا.
وإن لم يكُنْ بعِوَضٍ؛ حرم عندَ الصحابةِ وجمهورِ العلماءِ؛ كمالكٍ،
(1)
رواه أحمد (27190)، من حديث أبي رافع رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (7210)، من حديث عبد الله بن هشام رضي الله عنه.
وأبي حنيفةَ، وأحمدَ، ونصَّ الشافعيُّ على تحريمِ النَّرْدِ بلا عِوَضٍ، وتوقَّفَ في الشِّطْرَنْجِ.
ومنهم من أباح النَّرْدَ الخالي عن العوضِ؛ لما ظنوا أن اللهَ حرَّم الميسرَ لأجلِ ما فيه من المخاطرةِ المتضمنةِ أكلَ المالِ بالباطلِ، فقالوا: إذا لم يكُنْ فيه أكلُ مالٍ؛ زال سببُ التحريمِ.
وأما الجمهورُ فقالوا: إن تحريمَ الميسرِ مثلُ تحريمِ الخمرِ؛ لاشتمالِه على الصدِّ عن ذكرِ اللهِ، وعن الصَّلاةِ، وإلقاء العداوةَ والبغضاءَ، ومنعِه عن الصلاحِ الذي يحبُّه اللهُ ورسولُه، وإيقاعِه في الفسادِ الذي يبغِضُه اللهُ ورسولُه، واللعبُ بذلك يلهي القلبَ ويشغَلُه، ويُغيِّبُ عن مصالحِه أكثرَ مما
(1)
يفعلُ الخمرُ، ففيها ما في الخمرِ ويبقى صاحبُها عاكفًا كعكوف شاربِ الخمرِ على خمرِه وأشدَّ، وكلاهما مُشبَّهٌ بالعكوفِ على الأصنامِ، كما في «المسنَدِ» أنه قال:«شاربُ الخمرِ كعابدِ وَثَن»
(2)
، وثبَتَ عن أميرِ المؤمنينَ علي رضي الله عنه
(3)
أنه مر بقومٍ يلعبونَ بالشِّطْرَنْجَ، فقال:«ما هذه الأصنام التي أنتم لها عاكفون؟!» وقلب الرقعةَ
(4)
.
وإذا كان ثَمَّ مالٌ تضمَّنَ أيضًا أكلَ المالِ بالباطلِ، فيكونُ حرامًا من
(1)
في الأصل: ما. والمثبت من (ع) و (ز).
(2)
رواه أحمد (2453)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
قوله: (علي رضي الله عنه سقط من الأصل، وهو مثبت في (ع) و (ز).
(4)
سبق تخريجه
…
ظظ
وجهَينِ، واللهُ حرَّم الربا لما فيه من أكلِ المالِ باطلًا، وما نهى عنه من بيعِ الغَرَرِ
(1)
؛ كبيعِ حَبَلِ الحَبَلةِ
(2)
، وبيعِ الثمارِ قبلَ بُدُوِّ الصلاحِ
(3)
، والملامسةِ، والمنابذةِ
(4)
؛ حرَّمه لما فيه من أكلِ المالِ بالباطلِ.
النوعُ الثالثُ من المغالباتِ: ما هو مباحٌ؛ لعدمِ المضرةِ الراجحةِ، وليس مأمورًا به على الإطلاقِ؛ لعدمِ احتياجِ الدينِ إليه، ولكن قد يقعُ أحيانًا؛ كالمصارعةِ، والمسابقةِ على الأقدامِ، ونحوِه؛ فهذا مباحٌ باتِّفاقِ العلماء إذا خلا عن مفسدةٍ راجحةٍ، وقد صارع النبيُّ صلى الله عليه وسلم رُكَانَةَ بنَ عبدِ يزيدَ
(5)
، وسابَقَ عائشةَ
(6)
، وكان أصحابُه يتسابقونَ على أقدامِهم بحضرتِه
(7)
.
لكن أكثرَ العلماءِ لا يُجوِّزونَ في هذا سَبَقًا، وهو مذهَبُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ بنِ حنبلٍ؛ لقولِه:«لا سَبَقَ إلا في خفٍّ، أو حافرٍ، أو نصلٍ»
(8)
، ولأن السبَقَ إنما أُبيح إعانةً على ما أوجبَه من الجهادِ.
(1)
رواه مسلم (1513)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (2143)، ومسلم (1514)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
رواه البخاري (2194)، ومسلم (1534)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
رواه البخاري (2146)، ومسلم (1511)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
رواه أبو داود (4078)، والترمذي (1784)، من حديث محمد بن علي بن ركانة رضي الله عنه.
(6)
رواه أحمد (24118)، وأبو داود (2578)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(7)
روى مسلم (1807) حديثًا طويلًا عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وفيه مسابقة سلمة لرجل من الأنصار أمام النبي صلى الله عليه وسلم وهم راجعون إلى المدينة، من غزوة ذي قرد.
(8)
رواه أحمد (7482)، وأبو داود (2574)، والترمذي (1700)، والنسائي (3585)، وابن ماجه (2878)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وأبو حنيفةَ أباح السبَقَ بالمحلِّلِ، كما يُبيحُه في سباقِ الخيلِ؛ بناءً على أن العملَ بنفْسِه مباحٌ، والسبَقُ عندَه من باب الجَعالةِ، والجَعالةُ تجوزُ على العملِ المباحِ.
والذي قاله هو القياسُ لو كان السبَقُ المشروعُ من جنسِ الجَعالةِ، مع أن الناسَ تَنازَعوا في جوازِ الجَعالةِ، فأبطَلَها طائفةٌ من الظاهريةِ، والصوابُ الذي عليه الجمهورُ: جوازُها، وليست عقدًا لازمًا؛ لأن العملَ فيها غير معلوم، ولهذا يجوزُ أن يَجعلَ للطبيبِ جُعْلًا على الشفاءِ، كما جُعل لأصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الذي رقى سيدَ الحي
(1)
، ولا يجوزُ أن يستأجرَ الطبيبَ على الشفاءِ؛ لأنه غيرُ مقدورٍ عليه.
ومن هنا يظهرُ فقهُ بابِ السَّبَقِ، فإن كثيرًا من العُلَماءِ اعتقدوا أن السبَقَ إذا كان من الجانبينِ، وليس بينهما محلِّلٌ؛ كان هذا من الميسرِ المحرمِ، وأنه قمارٌ، لأن كُلًّا منهما متردِّدٌ بينَ أن يغرمَ أو يغنمَ، وما كان كذلك فهو قمارٌ، واعتقدوا أن القمارَ المحرَّمَ حُرِّم لما فيه من المخاطرةِ والتغريرِ، وظنوا أن اللهَ حرَّم الميسرَ لذلك، وهذا المعنى موجودٌ في المتسابقينِ إذا أخرج كلٌّ منهما السبَقَ، فحرموا ذلك، ورُوِي في ذلك حديثٌ ظنَّه بعضُهم صحيحًا، وهو قولُه:«من أدخلَ فرسًا بينَ فرسينِ، وهو لا يأمَنُ أن يُسبَقَ؛ فليس بقمارٍ، ومن أدخلَ فرسًا بينَ فرسينِ وقد أمِنَ أن يُسبَقَ؛ فهو قمارٌ»
(2)
.
(1)
رواه البخاري (2276)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
رواه أحمد (10557)، وأبو داود (2579)، وابن ماجه (2876)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومعلومٌ أن هذا الحديثَ ليس هو من كلامِ رسول الله، بل من كلامِ سعيدِ بنِ المسيَّبِ، هكذا رواه الثقاتُ
(1)
، ورفَعه سفيانُ بنُ حسينٍ الواسطيُّ، وهو ضعيفٌ.
ثم إن الذينَ اعتقدوا أن هذه المسابقةَ بلا محلِّلٍ قمارٌ؛ تَنازَعوا بعدَ ذلك؛ فمنهم من لم يُجز العوضَ بحالٍ، ومنهم من جوَّزه من أحدِهما بشرطِ ألا يرجعَ إليه؛ بل يطعمه الجماعةَ إن غَلَب، ورُوِي عن مالك وغيرِه، وهو أصحُّ للقياس لو كانت المسابقةُ من الطرفينِ قِمارًا محرمًا، فإنهم رأوا أن هذه ليست جَعالةً، يقصد الجاعلُ فيها بدلَ الجُعْلِ في عملٍ ينتفعُ به، إنما قصد أن يغلبَ صاحبَه، فحرموها، وقالوا: دخولُ المحلِّلِ فيها يزيدُها شرًّا، فإن المقامرةَ حرُمتْ لما فيها من أكلِ المالِ بالباطلِ، والمحلِّلُ يزيدُها شرًّا، فإن المتسابِقَينِ إذا غلَب أحدُهما صاحبَه، فأخذ مالَه؛ كان هذا في مقابلةِ أن الآخَرَ إذا غلَبَه أخذ مالَه، فكان مبناها على العدلِ، بخلافِ المحلِّلِ؛ فإنه إن غَلَب أخذ، وإن غُلِب لم يردَّ شيئًا فكان ظالماً، فدخول المحلِّل ظلمٌ محضٌ، فإنه يعرض
(2)
أن يغنمَ أو يسلمَ، والآخَرانِ قد يغرمانِ، فلا يستوونَ في المغنمِ والمغرمِ والسلامةِ، بخلافِ ما إذا لم يكُنْ بينَهما محلِّلٌ، فكلاهما قد يغرمُ، وقد يغنمُ، وقد يسلمُ فيما إذا تساويا وجاءا معًا،
(1)
رواه مالك (2/ 468)، وابن أبي شيبة (33551)، والبيهقي في الكبرى (19772)، وقال أبو حاتم:(أحسنُ أحواله أن يكون موقوفًا على سعيد بن المسيب). ينظر التلخيص الحبير 4/ 300.
(2)
في (ع) و (ز): يعوض.
فهذا أقربُ إلى العدلِ، فإذا حرُم الأقربُ إلى العدلِ؛ فلأن يحرُمَ الأبعدُ عنه بطريقِ الأَوْلى.
وأيضًا: فإذا قيلَ: هذا محرمٌ لما فيه من المخاطرةِ، وأكلِ المالِ بالباطلِ؛ كان بالمحلِّلِ أشدَّ تحريمًا؛ لأنها أشدُّ مخاطرةً، وأشدُّ أكلَ مالٍ بالباطلِ؛ لأنهما عندَ عدَمِه إما أن يغنمَ أو يغرَمَ أحدُهما، وهنا المخاطرةُ باقيةٌ، كلٌّ منهما قد يغنمُ وقد يغرمُ، وانضم إلى ذلك مخاطرةٌ ثالثةٌ؛ وهو أنه هناك يغرمُ إذا غلَبَه صاحبُه، وهنا يغرمُ إذا غلَبَه صاحبه وإذا غلبه المحلِّلُ، فكان المحلِّلُ زيادةً في المخاطرةِ.
وأيضًا: فإنه من غلب منهما كان يحتمل أن يغلبَ ويغنمَ، وأما المحلِّلُ فلا يحتملُ أن يغلبَ ويغرمَ؛ بل هو يغنمُ لا محالةَ، أو يسلمُ.
فمَن تدَبَّرَ هذه الأمورَ؛ علِم أن الشريعةَ تَتنزَّه عن مثلِ هذا؛ أن يُحرَّمَ الشيء دفعًا لمفسدةٍ قليلةٍ، وتُبيحَه للمفسدةِ إذا كثُرتْ، ولكن أصحابَ الحِيَلِ كثيرًا ما يقعونَ في هذا، فيُحرِّمونَ بعضَ أنواعِ الرباِ؛ دفعًا لأكلِ المالِ بالباطلِ؛ لئلا يتضررَ، ويبيحونَ له حيلةً يُؤكَلُ فيها مالُه بالباطلِ أكثرَ، ويكونُ فيها ظلمُه وضررُه أعظمَ.
ومن العُلَماءِ من أباح السَّبَقَ بالمحلِّلِ؛ كقولِ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وإحدى الروايتينِ عن مالكٍ؛ وهذا مبنيٌّ على أصلينِ:
أحدُهما: أن هذه جَعالةٌ.
والثاني: أن القمارَ هو المخاطرةُ الدائرةُ بينَ أن يغنمَ باذلُ المالِ، أو يغرمَ، وهذا المعنى ينتفي بالمحلِّلِ؛ فإنه حينئذٍ يدورُ الأمر بين أن يغنمَ أو يغرمَ أو يسلمَ.
وقد تقدَّمَ التنبيهُ على بعضِ ما في كلٍّ من الأصلينِ.
والمقصودُ الأعظمُ: بيانُ فسادِ ظنِّ الظانِّ أنه بدونِ المحلِّلِ قمارٌ، وبالمحلِّلِ يزولُ القمارُ، فيقالُ أولًا: أين الدليلُ الشرعيُّ الدالُّ على أن القمارَ هو هذا دونَ هذا.
ويقالُ ثانيًا: المتسابقانِ كلٌّ منهما متردِّدٌ بينَ أن يغنمَ أو يغرمَ أو يسلمَ، فإنهما لو جاءا معًا لم يأخُذْ أحدُهما سَبَقَ الآخَرِ، فقولُهم: إن القمارَ هو التردُّدُ بينَ أن يغرم أو يغنم فقط؛ ليس بمستقيمٍ؛ بل عندَهم: وإن تردَّدَ بينَ أن يغنمَ أو يغرمَ ويسلمَ، فهو أيضًا قمارٌ، وهذا موجودٌ معَ المحلِّلِ، فإن كلًّا منهما يتردَّدُ بينَ أن يغنمَ إن غلَب، وبينَ أن يغرمَ إن غُلِب، وبينَ أن يسلمَ إن جاؤوا معًا، أو جاء هو ورفيقُه معًا، فالمخاطرةُ فيها موجودةٌ معَ المحلِّلِ وبدونِ المحلِّلِ؛ بل زاد بدخولِه.
فتبيَّنَ أن المعنى لم يَزُلْ بدخولِ المحلِّلِ؛ بل ازدادَ مفسدةً؛ فإنه على بَرِّ السلامةِ، ولا عدلَ فيه، بخلافِ ما لو كانا بلا محلِّلٍ، فكان كلٌّ منهما مساويًا للآخَرِ في الاحتمالِ، وهذا عدلٌ، وهو على الميزانِ بينَهما؛ بل الذي بذل الجُعْلَ ليحصِّلَ الرغبةَ فيما يحبُّه الله لم ينظُر في مصلحتِه؛ بل معرضًا للخسارةِ، ويُجعلُ الدخيلُ الذي جاء تابعًا للغرضِ؛ لا يخسرُ شيئًا من مالِه، والذي يتقربُ إلى اللهِ بما يحبُّه
يخسرُ، والذي لم يقصدْ القربة يُحرس
(1)
ولا يخسرُ؛ بل إما سالمًا وإما غانمًا، فهل يحسُنُ هذا في شرعِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟! وإن كان القائلونَ علماءَ فضلاءَ أئمةً، فإنما وقعت الشبهةُ من حيثُ ظنوا أن الميسرَ المحرمَ الذي هو القمارُ؛ حرُم لما فيه من المخاطرةِ.
ثم منهم من رأى المخاطرةَ كلَّها محرمةً مع المحلِّلِ وعدمِه، وهذا أقربُ إلى الأصلِ الذي ظنوه لو كان صحيحًا، ومنهم من رأى الحاجةَ إلى السَبَقِ، وقد جاء الشرعُ بها، فجمَع بينَ ما أمر اللهُ به، وبينَ ما ظنه من القمارِ، فأباحه معَ المحلِّلِ فقط، والمقصودُ هنا بالجُعْلِ: أن يُظْهِرَ أنه قويٌّ؛ لا أن صاحبَه يغلبُه ويأخُذُ مالَه، بخلافِ الجَعالةِ؛ فإن الغرضَ بها العملُ من العاملِ الذي يأخذُ الجُعْلَ، فليست هذه جَعالةً، والجاعلُ قصدُه وجودُ الشرطِ، والمسابقُ الذي أظهرَ المالَ؛ قصدُه ألا يوجدَ الشرطُ الذي هو سَبْقُ صاحبِه له؛ بل قصدُه عدَمُه، فأين هذا من هذا؟! بل هذا يكرَهُ أن يُغلَبَ، وذاك يحبُ أن يفعلَ شغله الذي هو ردُّ آبِقِه، أو بناءُ حائِطِه، كما يقولُ الحالفُ: إن فعلتُ كذا فمالي صدقةٌ، وعليَّ الحجُّ، ومقصودُه أنه لا يفعَلُه، بخلافِ الناذرِ الذي يقولُ: إن شفَى اللهُ مريضي؛ فعليَّ أن أصومَ شهرًا، وكالجاعلِ؛ الذي يقولُ: إن أبرأْتِيني من صَداقِكِ؛ فأنتِ طالقٌ.
ومَن هنا تَتبيَّنُ حقيقةُ هذه المسألةِ، وأن مَن رأى أنه حرامٌ ولو معَ المحلِّل؛ فقولُه أصَحُّ على ما ظنوه.
(1)
قوله: (يحرس) هو في (ك)، و (ع) و (ز): لم يحط شيئًا.
وأما إذا تقرَّرَ أن تحريمَ الميسرِ لِمَا نصَّ اللهُ عليه، من أنه يوقعُ العداوةَ والبغضاءَ، ويصُدُّ عن الصَّلاةِ وعن ذكرِ اللهِ، وقد يشتدُّ تحريمُه لما فيه من أكلِ المالِ بالباطلِ، والمسابقةُ التي أمَر اللهُ بها ورسولُه لا تشتملُ لا على هذا الفسادِ، ولا على هذا، فليست من الميسرِ، وليس إخراجُ السَّبَقِ فيها مما حرَّمَه اللهُ ورسولُه من القمارِ الداخلِ في الميسرِ؛ فإن لفظَ القمارِ المحرَّمِ ليس في القرآنِ، إنما فيه لفظُ الميسرِ، والقِمارُ داخلٌ في هذا الاسمِ، والأحكامُ الشرعيةُ يجبُ أن تتعلقَ بكلامِ اللهِ ورسولِه ومعناه، فيُنظَرُ في دلالةِ ألفاظِ القرآنِ والحديثِ، وفي المعاني والعِلَلِ والحِكَمِ والأسبابِ التي علَّق الشارعُ بها الأحكامَ، فيكونُ الاستدلالُ بما أنزلَ اللهُ من الكتابِ والميزانِ، والقياسُ الصحيحُ الذي يسوِّي بينَ المتماثلينِ ويُفرِّقُ بينَ المختلفينِ؛ هو من العدلِ، وهو من الميزانِ.
وذلك أن المسابَقةَ والمناضَلةَ عملٌ صالِحٌ يحبُّهما اللهُ ورسولُه، وقد سابَقَ صلى الله عليه وسلم بينَ الخيلِ
(1)
، وكان أصحابُه يتناضلونَ، ويقولُ:«ارموا بني إسماعيلَ؛ فإنَّ أباكم كان رامِيًا» ، وكان قد صار معَ أحدِ الحزبينِ، ثم قال:«ارموا، فأنا معَكم كلِّكم»
(2)
؛ تعديلًا بينَ الطائفتينِ.
والرميُ والركوبُ قد يكونُ واجبًا فرضًا على الكفايةِ، وقد يكونُ مستحبًّا، وقد نصَّ أحمدُ وغيرُه على أن العملَ بالرمحِ أفضلُ من صلاةِ
(1)
رواه البخاري (420)، ومسلم (1870)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه البخاري (2899)، من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
النافلة، في الأمكنةِ التي يُحتاجُ فيها إلى الجهادِ كالثغورِ، فكيفَ برميِ النُّشَّابِ؟!
ورُوِي: «إن الملائكةَ لم تحضرْ شيئًا من لَهْوِكم إلا الرميَ»
(1)
، ورُوِي: أن قومًا كانوا يتناضلونَ، فحضَرتِ الصَّلاةُ، فقال: يا رسولَ اللهِ، قد حضَرتِ الصَّلاةُ؟ فقال:«هم في صلاةٍ»
(2)
، وما كان كذلك لم يكن من الميسرِ الذي حرَّمَه اللهُ؛ بل هو من الحقِّ، كما قال:«كلُّ لَهْوٍ يلهو به الرجلُ فهو باطلٌ؛ إلا رميَه بقوسِه، أو تأديبَه فرسَه، أو مُلاعَبَتَه امرأتَه؛ فإنَّهُنَّ من الحقِّ»
(3)
.
وحينئذٍ فأكلُ المالِ بهذه الأعمالِ؛ أكلٌ بالحقِّ لا بالباطلِ، كما قال في حديثِ الرُّقْيَةِ:«لعَمْري، لَمَن أكلَ برقيةِ باطلٍ؛ لقد أكلتُم برقيةِ حقٍّ»
(4)
، فجعل كونَ العملِ نافعًا؛ لا يُنهَى عنه، بل إذا أكل به المالَ فقد أكلَ بحقٍّ، وهنا هذا العملُ نافعٌ للمسلمِينَ، مأمورٌ به، لم يُنْهَ عنه،
(1)
رواه ابن أبي شيبة (33567)، وسعيد بن منصور (2453)، من مرسل مجاهد، وروياه في موطن آخر موقوفًا عليه من قوله.
ورواه الطبراني في الكبير (13474)، وتمام في فوائده (1617)، من طريق مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.
(2)
رواه أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه الرمي والسهام، نقله عنه السخاوي في (القول التام في فضل الرمي بالسهام ق 63/ أ).
(3)
رواه أحمد (17300)، وأبو داود (2513)، والترمذي (4/ 174)، والنسائي (3578)، وابن ماجه (2811)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(4)
رواه أحمد (21835)، وأبو داود (3420)، من حديث خارجة بن الصلت عن عمه رضي الله عنه.
فالمعنى الذي لأجلِه حرَّم اللهُ أكلَ المالِ بالقمارِ؛ هو أن يأكلَ المالَ بالباطلِ، وهذا أكلٌ بالحقِّ.
وأما المخاطرةُ؛ فليس في الأدلةِ الشرعيةِ ما يوجبُ تحريمَ كلِّ مخاطرةٍ؛ بل قد عُلِم أن اللهَ ورسولَه لم يُحرِّم كلَّ مخاطرةٍ، ولا كلَّ ما كان متردِّدًا بين أن يغنمَ أو يغرمَ أو يسلمَ، وليس في أدلةِ الشرعِ ما يوجبُ تحريمَ جميعِ هذا النوع، لا نصًّا ولا قياسًا، ولكن يحرُمُ من هذه الأنواعِ ما يشتملُ على أكلِ المالِ بالباطلِ، والموجِبُ للتحريمِ عندَ الشارعِ: أنه أكلُ مالٍ بالباطلِ، كما يحرُمُ أكلُ المالِ بالباطلِ وإن لم يكُنْ هناك مخاطرةً، لا أن مجرَّدَ المخاطرةِ محرَّمة؛ مثلُ المخاطرةِ على اللعبِ بالنَّرْدِ والشِّطْرَنْجِ؛ بل لما فيه من أكلِ المالِ بالباطلِ، وهو ما لا ينفعُ، فلو جعل السلطانُ أو أجنبيٌّ مالًا لمن يغلبُ في ذلك؛ لما جاز، وإن لم يكُن هناك مخاطرةً، وكذلك لو جعل أحدُهما جُعْلًا، وكذلك لو أَدخلا بينهما محلِّلًا، فعُلِم أن ذلك لم يحرَّمْ لأجلِ المخاطرةِ، لا سيَّما وجمهورُ العلماءِ يُحرِّمونَ هذا العملَ وإن خلا عن عِوَضٍ.
وأما أخذُ العِوَضِ في المسابَقةِ والمصارَعةِ؛ فهنا الأعمالُ لم تُجعَلْ في الأصلِ لأجل عبادةِ اللهِ تعالى وطاعتِه وطاعةِ رسولِه، فلهذا لم يحضَّ الشارعُ عليها، ولا رغَّب فيها، إنما يُقصَدُ بها في الغالبِ راحةُ النفوسِ، أو الاستعانةُ على المباحاتِ، فأباحها الشارعُ لعدمِ الضررِ الراجحِ، ولم يأمُرْ بها ويرغِّب فيها؛ لأنها ليست مما يحتاجُه المسلمونَ، ولا يقوم دينهم إلا به كالرميِ والركوبِ، ولو خلا
المسلمونَ عن مصارِعٍ ومسابقٍ على الأقدامِ؛ لم يضُرَّهم، لا في دينِهم ولا دنياهم، بخلافِ ما لو خَلَوا عن الرميِ والركوبِ؛ لغلب الكفارُ على المسلمِينَ، ولهذا لم يدخُلْ فيها السبَقُ.
ألا ترى أن للإمامِ أن يُخرِجَ جُعْلًا لمن يرمي، ولا يحلُّ له أن يُخرِجَه لمن يصارعُ.
وإذا عُرِف أن مجرَّدَ المخاطرةِ ليس مقتضيًا لتحريمِ المسألةِ؛ انكشَفتْ وظهَرتْ، وعُرِف أن الصوابَ: أن يُعرَفَ مرادُ رسولِ اللهِ من أقوالِه وحكمِه وعِلَلِه التي علَّق بها الأحكامَ، فإن الغلَطَ ينشأُ من عدمِ المعرفةِ بمرادِه.
والمخاطرةُ مشتركةٌ بينَ كلٍّ من المتسابقَينِ؛ كلٌّ يرجو أن يغلبَ الآخرَ، ويخافُ أن يغلِبَه، فكان ذلك عدلًا وإنصافًا بينَهما كما تقدَّم.
وكذلك كلٌّ من المتبايعَيْنِ لسِلْعة صاحبه، يرجو أن يربحَ فيها، ويخافُ أن يخسرَ؛ فمثلُ هذه المخاطرةِ جائزةٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، والتاجرُ مخاطرٌ، وكذلك الأجيرُ المَجْعولُ له جُعْلٌ على رَدِّ آبِقٍ، أو بناءِ حائطٍ، فإنه قد يحتاجُ إلى بذلِ مالٍ، فيكونُ متردِّدًا بينَ أن يغرمَ أو يغنمَ، ومع هذا فهو جائزٌ، والمخاطرةُ إذا كانت من الجانبينِ فهو أقربُ إلى العدلِ والإنصافِ؛ مثلُ: المضاربةِ، والمساقاةِ، والمزارعةِ، فإن كلاهما مخاطرٌ، قد يحصُلُ له ربحٌ، وقد لا يحصُلُ.
وما علمتُ أحدًا من الصحابةِ اشترَط في السباقِ محلِّلًا، ولا حرَّمه إذا كان كلٌّ منهما يُخرِجُ، وإنما علمتُ المنعَ في ذلك عن بعضِ
التابعِينَ
(1)
، وقد رُوِّينا عن أبي عُبَيدةَ بنِ الجَرَّاحِ: أنه راهَنَ رجلًا في سباقِ الخيلِ، ولم يكُنْ بينَهما محلِّلٌ
(2)
، وثبَتَ في «المسنَدِ» و «التِّرْمِذيِّ» وغيرِهما: أنه لما اقتتلَتْ فارسٌ والرومُ، فغلبَتْ فارسُ الرومَ، وبلَغ ذلك أهلَ مكةَ، وكان ذلك في أولِ الإسلامِ، ففرِح المشركون بذلك؛ لأن المجوسَ أقربُ إليهم من أهلِ الكتابِ، وساء ذلك المسلمِينَ؛ لأن أهلَ الكتابِ أقربُ إليهم، فأخبر أبو بكرٍ رضي الله عنه بذلك رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأنزل اللهُ تعالى:{الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعدَ غلبهم سيغلبون في بضع سنين} ، فخرج أبو بكرٍ رضي الله عنه، فراهن المشركينَ على أنه إن غلبَتِ الرومُ في بضعِ سنينَ أخَذَ الرهنين، وإن لم تغلِبْهم أخَذوا هم الرهنينَ
(3)
، وهذه المراهنةُ هي مثلُ المراهنةِ في سباقِ الخيلِ والرميِ بالنُّشَّابِ، وكانت جائزةً؛ لأنها لمصلحةِ الإسلامِ؛ لأن بيانَ صدقِ الرسولِ فيما أخبَرَ به؛ من أن الرومَ سوفَ يغلبونَ بعدَ ذلك، وفيها ظهورُ أقربِ الطائفتينِ إلى المسلمِينَ على أبعَدِها، وهذا فعَلَه الصدِّيقُ، وأقَرَّه عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولم يُنكِرْه عليه، ولا قال: هذا ميسرٌ وقِمارٌ، والصدِّيقُ أجلُّ قدرًا من أن يُقامِرَ، فإنه لم يشربِ الخمرَ في جاهليةٍ ولا إسلامٍ، وهي أشهى إلى النفوسِ من القِمارِ.
(1)
روي ذلك عن سعيد بن المسيب عند ابن أبي شيبة (33551).
(2)
رواه ابن أبي شيبة (33547)، وابن حبان في صحيحه (4766)، والبيهقي في الكبرى (19776).
(3)
رواه أحمد (2495)، والترمذي (3193)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وقد ظن بعضُهم أن هذا قِمارٌ؛ لكن فعله قبلَ تحريمِ القِمارِ، وهذا إنما يُقبَلُ إذا ثبَتَ أنَّ مثلَ هذا ثابتٌ فيما حرَّمَه اللهُ من الميسرِ، وليس عليه دليلٌ شرعيٌّ أصلًا؛ بل أقوالٌ لا دليلَ عليها، وأقيسةٌ فاسدةٌ يظهرُ تناقضُها لمن كان خبيرًا بالشريعة، وحِلُّ مثلِ ذلك ثابتٌ بسنةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ حيثُ أقرَّ صِدِّيقَه على ذلك، فهذا العملُ معدودٌ من فضائلِ الصدِّيقِ رضي الله عنه وكمالِ يقينِه؛ حيث أيقَنَ بما قاله رسولُ اللهِ وأحبَّ ظهورَ أقربِ الطائفتينِ إلى الحقِّ، وراهَنَ على ذلك رغبةً في إعلاءِ كلمةِ اللهِ ودينِه بحسَبِ الإمكانِ.
وبالجملةِ: إذا ثبَتَت الإباحةُ؛ فمُدِّعي النسخِ يحتاجُ إلى دليلٍ.
والكلامُ على هذه المسألةِ مبسوطٌ في مواضع، وإنما كتبتُ ذلك في جَلْسةٍ واحدةٍ.
والسَّبقُ: بالفتحِ هو العِوَضُ
، وبالسكونِ: هو الفعلُ، وقد قال:«لا سَبَقَ إلا في نصلٍ، أو خفٍّ، أو حافرٍ» مطلقًا، لم يشترطْ محلِّلًا، لا هو ولا أصحابُه؛ بل ثبَتَ عنهم مثلُ ذلك بلا محلِّلٍ.
ومما يوضحُ الأمرَ في ذلك: أن السَّبَقَ في غيرِ هذه الثلاثةِ لم يحرمْ لأنه قِمارٌ، فإنه لو بذل أحدُهما عِوَضًا في النَّرْدِ والشِّطْرَنْجِ؛ حرُم اتفاقًا، معَ أن العِوَضَ ليس من الجانبينِ، ولو كان بينهما محلِّلٌ في النَّرْدِ؛ لحرُم اتفاقًا أيضًا، فالعوضُ في النَّرْدِ والشِّطْرَنْجِ حرامٌ؛ سواءٌ كان منهما، أو من أحدِهما، أو من غيرِهما، بمحلِّلٍ وغيرِ محلِّلٍ، فلم يحرُمْ لأجلِ المخاطرةِ، فلو كان الميسرُ المجمعُ على تحريمِه في النَّرْدِ
والشِّطْرَنْجِ لأجلِ المخاطرةِ؛ لأُبيحَ معَ عدَمِها، فلما ثبَتَ أنه محرمٌ على كل تقديرٍ؛ عُلِم بطلانُ تعليلِ ذلك.
وأكثرُ العلماءِ يحرمونَ العِوَضَ من الجانبين في المصارعةِ، وإن كان بينهما محلِّلٌ يرفعُ المخاطرةَ عندَ من يقولُ بذلك، فعُلِم أن المؤثرَ هو أكلُ المالِ بالباطلِ، أو كونُ العملِ مما يصدُّ عن الصَّلاةِ وعن ذكرِ اللهِ، ويوقعُ العداوةَ والبغضاءَ، كما دل عليه القرآنُ، كما أن بذْلَ المالِ لما فيه علو كلمةِ اللهِ ودينِ اللهِ هو من الجهادِ الذي أمَرَ اللهُ به ورسولُه؛ سواءٌ كان فيه مخاطرةٌ أو لم يكُنْ، فإن المجاهدةَ في سبيلِ اللهِ فيها مخاطرةٌ، قد يغلِبُ وقد يُغلَبُ، وكذلك سائرُ الأمورِ من الجَعالةِ، والمزارعةِ، والمساقاةِ، والتجارةِ، والسفرِ، وغيرِها، كما تقدَّمَ بيانُه؛ وفي هذا كفايةٌ. واللهُ أعلمُ.
كِتَابُ جَامِعِ الأَيْمَانِ
إنشاءُ الحرامِ فيما إذا قال الرجلُ لامرأتِه:
أنتِ عليَّ حرامٌ، أو قال: الحِلُّ عليَّ حرامٌ، أو: ما أحلَّ اللهُ عليَّ حرامٌ؛ وله زوجةٌ؛ فقد تنازَعَ فيه الصحابةُ على قولَينِ مشهورينِ، يتفرعُ عنهما أقوالٌ:
أحدُها؛ وهو قولُ عليٍّ وزيدٍ وغيرِهما: أنه طلاقٌ
(1)
؛ وهو قولُ مالكٍ.
والثاني: أنه ليس بطلاقٍ؛ بل يمينٌ مُكفَّرةٌ بالكفارةِ الكبرى؛ وهي كفارةُ الظِّهارِ؛ لأنه ظِهارٌ، أو يكفر بالكفارةِ الصغرى كسائرِ الأيمانِ، وهذا القول الثاني قولُ جمهورِ الصحابةِ؛ عمرَ، وعثمانَ، وابن مسعود، وابنِ عبَّاسٍ
(2)
،
(1)
أثر علي رضي الله عنه: رواه عبد الرزاق (11380)، وابن أبي شيبة (18179)، والبيهقي في الكبرى (15069).
وأثر زيد بن ثابت رضي الله عنه: رواه عبد الرزاق (11372)، وابن أبي شيبة (18187).
(2)
أثر عمر رضي الله عنه: رواه أحمد (1976)، وعبد الرزاق (11360)، وابن أبي شيبة (18189)، والدارقطني (4007)، والبيهقي في الكبرى (15056).
وأثر عثمان رضي الله عنه: لم نقف عليه.
وأثر ابن مسعود رضي الله عنه: رواه عبد الرزاق (11366)، وابن أبي شيبة (18181)، والبيهقي في الكبرى (15061).
وأثر ابن عباس رضي الله عنهما: رواه البخاري (4911)، ومسلم (1473).
ورُوِي عن أبي بكرٍ
(1)
.
ثم مِن الصحابةِ مَن قال: هو ظهارٌ، ومنهم مَن جعله يمينًا بلا ظهارٍ.
وقال مسروقٌ: لا شيءَ فيه، ولا أبالي أحرمت امرأتي، أم قصعةً من ثريدٍ
(2)
.
وتنازَعَ الفقهاءُ في ذلك على نحوِ تنازُعِ السَّلَفِ:
فقال: أبو حنيفةَ والشافعيُّ في أحدِ قولَيْه، ويُذكَرُ عن أحمدَ روايةٌ: أنه عندَ الإطلاقِ يمينٌ، وليس بظهارٍ.
وقال أحمدُ في المشهورِ: هو عندَ الإطلاقِ ظهارٌ
(3)
.
ومَن جعله يمينًا أو ظِهارًا عندَ الإطلاقِ، فنوى به غيرَ ذلك؛ فقال أبو حنيفةَ والشافعيُّ وأحمدُ في روايةٍ: إن نوى به طلاقًا فهو طلاقٌ، وإن نوى به ظهارًا فهو ظهارٌ، وإن نوى يمينًا فهو يمينٌ.
وقال أحمدُ في المشهورِ عنه: هو ظهارٌ؛ كقولِه: أنتِ عليَّ كظهرِ
(4)
أمي، ولو نوى به الطلاقَ لم يكُنْ طلاقًا
(5)
؛ لأن اللفظَ إذا كان صريحًا
(1)
رواه ابن أبي شيبة (18200).
(2)
رواه عبد الرزاق (11375)، والبيهقي في الكبرى (15073).
(3)
قوله: (ظهار) سقطت من الأصل، وكتب في هامشها:(لعله: ظهار).
(4)
في (الأصل): ظهر. والمثبت من (ك) و (ز).
(5)
قال في الاختيارات (ص 396): (وإذا قال لزوجته: أنت علي حرام؛ فهو ظهار، وإن نوى به الطلاق، وهو ظاهر مذهب أحمد).
في حكمٍ، ووُجِد مشاعًا فيه؛ لم يُجعَلْ كنايةً في غيرِه؛ كلفظِ الظهارِ وغيرِه، وكانوا في الجاهليةِ يُطلِّقونَ بالظهارِ، ثم لما تظاهَرَ أَوْسٌ من زوجتِه خَوْلةَ، وسَمِع اللهُ شَكْواها؛ فأنزل سبحانه سورةَ المجادَلةِ، وجعل الظهارَ الذي كانوا يَنْوُونَ به الطلاقَ؛ منكرًا من القولِ وزورًا لا يقعُ به طلاق، وإنما فيه الكفارةُ قبلَ المسيسِ إذا عاد
(1)
.
فمن قال: الحرامُ كذلك، قال: هو في الظهارِ، شبَّهَها بمن تحرمُ عليه على التأبيدِ، فجعل اللهُ ذلك منكرًا؛ لأنها ليست مثلَها، وهنا نطق بالتحريمِ الذي يوجبُ التشبيهَ؛ لأنهم في ذلك التحريمِ ما قصدوا التحريم المؤبدَ، إنما قصدوا الطلاقَ، وهو التحريمُ العارضُ، والزوجةُ حلالٌ، والحلال لا يكونُ حرامًا إلا بأمرِ الشارعِ، فإذا شبَّهَها بمن تحرمُ عليه، أو صرَّح بتحريمِها؛ كان قد ثبت الحكمُ دونَ سبَبِه، ومثلُ هذا ممتنعٌ، ولهذا قال ابنُ عبَّاسٍ:«تحريمُ الحلالِ؛ يمينٌ في كتابِ اللهِ تعالى» ، وقرأ:{قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}
(2)
.
وقد ذهب طائفةٌ من متأخِّري أصحابِ أبي حنيفةَ والشافعيِّ: إلى أن لفظَ الحرامِ قد اشتَهَر في عُرفِ العامةِ في الطلاقِ، فجعلوه طلاقًا عندَ الإطلاقِ.
وذهب بعضُ أصحابِ مالكٍ: إلى أنه ليس الحرامُ في هذه البلادِ طلاقًا.
(1)
رواه أحمد (27319)، وأبو داود (2214)، من حديث خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها.
(2)
رواه البيهقي في الكبرى (15058) بمعناه، وأصله في الصحيحين كما تقدم.
هذا أصلٌ.
والأصلُ الثاني: أن الحَلِفَ بالحرامِ هل هو بمنزلةِ إيقاعِه؟
ذهب كثيرٌ من الفقهاءِ: إلى أنه لا فرقَ بينَهما، كما قالوه في الحلِفِ بالطلاقِ والعِتاقِ.
وذهب طائفةٌ: إلى أن الحلِفَ به ليس كالإنشاءِ، كما لو حلَف بالنَّذْرِ؛ مثلُ: إن فعلتُ كذا فمالي صدقةٌ؛ فإن مذهَبَ الشافعيِّ وأحمدَ وروايةً عن أبي حنيفةَ: أنه تجزئُه كفارةُ يمينٍ، كما أفتى بذلك الصحابةُ والتابعونَ؛ مثلُ: عمرَ، وحَفْصةَ، وزينبَ رَبِيبةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
، وتُسمَّى هذه مسألةَ نذرِ اللَّجاجِ والغضبِ.
فإذا قال: إن فعلتُ كذا فامرأتي حرامٌ، أو: مالي حرامٌ؛ فقد حرَّم على نفْسِه ما لم يحرَّمْ عليه ليمتنعَ من ذلك الفعلِ، كما أنه في النَّذْرِ أوجبَ على نفْسِه ما لم يوجِبْه اللهُ عليه ليمتنعَ من ذلك الفعلِ، والإيجابُ والتحريمُ إلى الشارعِ لا إلى العبدِ، وهو لم يقصِدْ لا إيجابًا ولا تحريمًا، إنما قصد منعَ نفْسِه من ذلك الفعلِ، واللهُ قد جعَل عليه الكفارةَ إذا حَنِث بقولِه:{ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} ، فشرَع الكفارةَ إزالةً للآصارِ والأغلالِ عن هذه الأمةِ، بخلافِ مَن قَبْلَها إنما كان يلزمُهم الوفاءُ أو الندم
(2)
.
(1)
رواه عبد الرزاق (16000)، والدارقطني (4331).
(2)
قوله: (أو الندم)، هو في (ك):(أو لزوم الحنث)، وفي (ع): والالتزام الحنث.
ومَن حلَف على ابنِ أختِ زوجتِه:
ألا يعملَ عندَ إنسانٍ؛ لكونِه يظلِمُه، ثم بلَغ الصبي وخرَج عن أمرِه واستقلَّ بنفْسِه، وأجَرَ نفْسَه لذلك الرجلِ؛ لم يحنَثِ الحالفُ.
ولو قال: أنا بريءٌ من رسولِ الله
إن كلمتُه، فحنِثَ؛ فعليه كفارةُ يمينٍ.
وإذا حلَف على زوجتِه بالطلاقِ
أنها لا تخرجُ إلَّا إلى الحَمَّامِ، فخرجَتْ إلى بيتِ أهلِ الزوجِ، وقالت: لم أظنَّ أنكَ أردتَّ مَنْعي من أهلِكَ، فعَرَف صِدْقَها في ذلك؛ لم يقعْ به طلاقٌ، وإن عَرَف كذِبَها؛ لم يُقبلْ قولُها، وإن شكَّ في صِدقِها وكذِبِها؛ لم يُحكَمْ بوقوعِ الطلاقِ؛ فإن النكاحَ ثابتٌ بيقينٍ، فلا يزولُ بالشكِّ.
وإذا حلَف على أختِ زوجتِه:
لا تدخلُ بيتَه إلا بإذنِه، فدخلَتْ بغيرِ إذنِه، ولم تكُنْ علمَتْ باليمينِ، ثم علمَتْ، فاعتقدَتْ أن اليمينَ انحلَّتْ بالحِنْثِ، وأنه لم يبقَ عليها يمينٌ، فاستمرَّتْ على الدخولِ؛ فلا حِنْثَ على الحالفِ؛ لأن الدخولَ الأولَ لم تكُنْ عالمةً باليمينِ، وبعدَ ذلك اعتقدَتْ أنها انحلَّتْ، وأنه لم يبقَ عليها يمينٌ.
فَصْلٌ
ومَن حلَف على زوجتِه
بالطلاقِ الثلاثِ: لا تفعلين كذا وكذا، ففعَلتْه، وزعَمتْ أنها حينَ فعَلَتْه لم تعلم أنه المحلوفُ عليه؛ فالصحيحُ في مثلِ ذلك: أنه لا يقعُ طلاقُه؛ بناءً على أنه إذا فعَل المحلوفَ عليه
ناسيًا ليمينِه، أو جاهلًا، لم يقعْ به طلاقٌ في أحدِ قولَيِ الشافعيِّ وأحمدَ، وعنه في جنسِ ذلك ثلاثُ رواياتٍ؛ لأن البِرَّ والحنث في الأيمانَ بمنزلةِ الطاعةِ والمعصيةِ في الأمرِ والنَّهْيِ؛ لأن الحالفَ يقصِدُ بيمينِه الحضَّ لنفْسِه، أو لغيرِه ممن يحلفُ عليه، أو المنعَ لنفْسِه أو لغيرِه ممن يحلفُ عليه، فهو في الحقيقةِ طلبٌ مؤكدٌ بالقسَمِ، فكما أن الكلامَ نوعانِ: خبرٌ وإنشاءٌ، والإنشاءُ: أمرٌ ونَهْيٌ وإباحةٌ، والقسَمُ أيضًا نوعانِ: خبرٌ مؤكدٌ بالقسم، وإنشاءٌ مؤكدٌ بالقسَمِ، ولهذا كان القسَمُ جملتينِ: جملةً يُقسَمُ عليها، وجملةً يُقسَمُ بها، فإذا قال: واللهِ لقد كان كذا، وما كان كذا، أو: ليفعَلنَّ كذا؛ كان هذا قسمًا على الخبر، وإذا قال: والله لأفعلن كذا، أو لا أفعلُ
(1)
كذا أو لا تفعلي؛ كان هذا إنشاءً مؤكَّدًا بالقسَمِ؛ لكنَّه طلبٌ يتضمَّنُ الأمرَ والنَّهْيَ، ثم لما صاروا يحلِفونَ بالطلاقِ؛ كان له صيغتانِ: صيغةُ القسَمِ، وصيغةُ الشرطِ.
فصيغةُ القسَمِ: قولُ الحالفِ: الطلاقُ يلزَمُني لأفعَلَنَّ كذا، أو لا أفعَلُه، أو لتفعَلنَّ كذا.
وصيغةُ القسَمِ مُوجَبٌ في صيغةِ الجزاءِ، والمثبتُ في هذه منفيٌّ في هذه.
وصيغةُ الشرطِ إذا تضمَّنتْ معنى الحضِّ والمنعِ؛ كانت حلِفًا بالطلاقِ.
(1)
في (ك): أو لأفعل.
وأما إن كانت تعليقًا محضًا؛ كقولِه: إذا طهُرتِ، أو: طَلَعتِ الشمسُ، ونحوَ ذلك: ففيه نزاعٌ للعلماءِ
(1)
، والصحيحُ: أنه ليس بحلِفٍ؛ بل هو إيقاعُ مُوجَبٍ بوقتٍ معلومٍ، أو مجهولٍ، أو معلقٍ بشرطٍ.
وينبني على ذلك مسائلُ:
منها: لو حلَف لا يحلفُ بالطلاقِ، أو قال: إذا حلَفتُ به فعبدي حرٌّ، ولم تُعرفْ لغتُه، فأما إن عُرِفت لغتُه؛ نزلت يمينُه عليها.
ومنها: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن حلَف فقال: إن شاءَ اللهُ؛ فإن شاء فعل، وإن شاء ترك»
(2)
.
وقد تنازَعَ الناسُ في الاستثناءِ على ثلاثِ درجاتٍ:
أحدُها: الإيقاعُ المجرَّدُ، فعندَ أحمدَ ومالكٍ: أنه يقعُ.
الثانيةُ. إذا علَّق الطلاقَ بشرطٍ يقصِدُ به الحضَّ أو المنعَ؛ ففيه قولانِ، هما روايتانِ عن أحمدَ:
أحدهما: أنه كالإيقاعِ.
والثاني - وهو الصحيحُ -: أنه كالحَلف.
(1)
في (ك) و (ع): بين العلماء.
(2)
رواه أبو داود (3262)، والنسائي (3793)، وابن ماجه (2105)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
والدرجةُ الثالثةُ: إذا حلَف بصيغةِ القسمِ؛ كقولِه: الطلاقُ يلزَمُني لأفعَلنَّ كذا؛ فهنا ظاهرُ المذهبِ عن أحمدَ: أنه لا يحنَثُ، ثم من أصحابِه من يجعلُه قولًا واحدًا، ومنهم من يجعلُ فيه روايتينِ.
فالصوابُ: وقوعُ الاستثناءِ في هاتينِ الصورتينِ، وإن قيلَ: لا يقعُ في الإيقاعِ.
والمقصودُ هنا: أن الحالفَ على نفْسِه أو غيرِه ليفعَلَنَّ، أو لا يفعلن، هو طالبٌ طلبًا مؤكدًا بالقسمِ بمنزلةِ الأمرِ والنَّهْيِ.
وإذا كان كذلك، فقد عُلِم أن المنهيَّ إذا فعَل ما نُهِي عنه ناسيًا أو مخطئًا، حيث فعل شيئًا اعتقد أنه غيرُ المنهيِّ عنه، وكان هو المنهيَّ عنه؛ لم يكُنْ مخالفًا للناهي عاصيًا له، فكذلك من فعل المحلوفَ عليه ناسيًا أو مخطئًا في اعتقادِه؛ لم يكُنْ مخالفًا للحالفِ، فلم يحنَثِ الحالفُ، وهذا بَيِّنٌ لمن تأمَّلَه، واللهُ تعالى لم يُؤاخِذْ بالنسيانِ والخطأِ.
وأما إذا فعلَتِ الزوجةُ المحلوفَ عليه علماً بالمخالفةِ؛ فهذا فيه نزاعٌ آخَرُ غيرُ النِّزاعِ المعروفِ، فأصلُ الحلفِ بالطلاقِ: هل يقعُ به الطلاقُ، أو لا يقعُ؟ فإن النِّزاعَ في ذلك بينَ السَّلَفِ والخلَفِ.
والمقصودُ: إذا حلَف على زوجتِه، فخالفَتْه عمدًا؛ فذهب أشهبُ صاحبُ مالكٍ: إلى أنه لا يقعُ به طلاقٌ في هذه الصورةِ، وخالَفَه غيرُه من المالكيةِ.
ولعل مأخذَه: إما وجوبُ طاعتِه عليها، وجعْلِها عاصيةً بذلك، أو
لئلا يكونَ الطلاقُ بيدِها من غيرِ رضاه، فإنه لم يقصِدْ جعْلَه بيدِها، إنما قصد مَنْعَها، وظنُّه أنها لا تَعْصيه، كمن حلَف على معنًى يظنُّه - كصفةٍ -؛ فتبيَّنَ بخلافِها.
ثم إذا وقع به الطلاقُ بفعلِها، أو حصلَتْ فرقةٌ بفعلِها بعدَ الدخولِ؛ فهل يرجعُ عليها بالمهرِ؟ فينبني على أن إخراجَ البُضْعِ من ملكِ الزوجِ، هل هو متقوِّمٌ؟ فلو شهد شهودٌ بالطلاقِ، ثم رجعوا، هل يضمنونَ الصداقَ؟ فيه قولانِ مشهورانِ، هما روايتانِ، والصحيحُ: أنه متقوِّمٌ.
ومنهم من فرَّق بينَ المرأةِ والأجنبيِّ، فيقولُ: متقوِّمٌ على الأجنبيِّ دونَ المرأةِ، فيقولونَ: إن أفسَدَتِ النكاحَ هي لم تضمَنْه، بخلافِ الأجنبيِّ.
ثم مالكٌ يقولُ: هو مضمونٌ بالمسمَّى، وهو منصوص أحمدَ.
والشافعيِّ يقولُ: هو مضمونٌ بمهرِ المثلِ، وهو وجهٌ لأحمدَ.
وكذلك لو أفسَدَ رجلٌ نكاحَ امرأته قبلَ الدخولِ بها، وبعدَه؛ فللمرأةِ قبلَ الدخولِ نصفُ الصداقِ، وجميعُه بعدَه، ويرجعُ به الزوجُ على المفسدِ في الصورتينِ عندَ من يقولُ: خروجُ البُضْعِ متقوِّمٌ، وهو المنصوصُ عن أحمدَ، وفي مقدارِ ما يرجعُ به القولان.
ومَن يقولُ: لا يَتقوَّمُ، لا يرجعُ به، وهذا القولُ الآخرُ في مذهَبِ أحمدَ.
والدليلُ على أنه متقومٌ: جوازُ الخُلْعِ عليه.
وأيضًا، ما ذكَره اللهُ سُبْحانَه في الممتحَنةِ؛ حيثُ قال:{يا أيها الذينَ آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن .. } إلى قولِه: {وآتوهم ما أنفقوا
…
} إلى قولِه: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} ، نزلَتْ باتِّفاقِ العلماء في قضيةِ الصلحِ الذي كان بينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبينَ أهلِ مكةَ؛ صلحِ الحُدَيْبيةِ؛ لما شُرِط عليهم أن يردوا مَن جاءهم مسلمًا، وألا يردوا عليه مَن ذهب مرتدًّا، فهاجر نسوةٌ كأمِّ كُلْثومٍ بنتِ عُقْبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ، فنسَخ اللهُ الردَّ في النساءِ، وأمَر بردِّ المهرِ عِوَضًا عن ردِّ المرأةِ
(1)
، فذلك قولُه:{وآتوهم ما أنفقوا} ، فأمَر أن يُؤتَى الكفارُ ما أنفقوا على المرأةِ الممتحَنةِ التي لا تُرَدُّ، والذي أنفقوه هو المهر المسمَّى:{واسألوا ما أنفقتم} ، فشرَع للمؤمنينَ أن يسألوا الكفارَ ما أنفقوا على النسوةِ اللاتي ارتدَدْنَ إليهم، وأن يسألَ الكفارُ ما أنفقوا على النساءِ المهاجراتِ، فلما حكَم سبحانه وتعالى بذلك؛ دلَّ على أن خروجَ البُضْعِ متقوِّمٌ، وأنه بمهرِ المسمَّى، ودلت الآيةُ على أن المرأةَ إذا أفسَدتْ نكاحَها رجع عليها بالمهرِ.
فإذا حلَف عليها فخالفَتْه، وفعلَتِ المحلوفَ عليه: كانت عاصيةً ظالمةً مُتلِفةً للبُضْعِ عليه، فيجبُ عليها ضمانُه، إما بالمسمَّى على أصحِّ قولَيِ العُلماءِ، وإما بمهرِ المثلِ.
يؤيدُ ذلك: ما كان من امرأةِ قَيْسِ بنِ شَمَّاسٍ حيث بغَضَتْه، وقالت:
(1)
ينظر: تفسير الطبري 22/ 580.
«أكرهُ الكفرَ بعدَ الإيمانِ» ، فأمَرَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن ترُدَّ حديقتَه
(1)
؛ لأن الفرقةَ جاءَتْ من جِهَتِها، فتبيَّنَ أنه يجوزُ أن يأخذَ صَداقَها إذا كان سببُ الفرقةِ من جِهَتِها؛ لا إذا كانت من جهتِه.
وهذا كلُّه يقرِّرُ أنه يجوزُ أن يُرجَعَ إليه الصداقُ؛ إذا فعلت ما يوجبُ الضمانَ؛ مثلُ ما إذا أفسَدتْ بالهجرةِ أو الرِّدَّةِ.
فَصْلٌ
وإذا حلَف بالطلاقِ الثلاثِ:
أن أحدًا من ألزامِ
(2)
المرأةِ لا يطلُعُ إلى بيتِه؛ فطلع في غَيْبتِه: فإن كان يعتقدُ أنه إذا حلَف عليهم؛ امتنعوا من الصعودِ، فحلَف ظنًّا أنهم ممن يُطيعونَه، فتبيَّنَ الأمرُ بخلافِ ذلك؛ ففي حِنْثِه نزاعٌ بينَ العلماءِ.
الأظهرُ: أنه لا يحنَثُ؛ كمن رأى امرأةً ظنَّها أجنبيةً فقال: أنتِ طالقٌ، ثم تبيَّنَ أنها امرأتُه، ونحوِ ذلك من المسائلِ التي يتعارضُ فيها التعيينُ الظاهر والقصدُ، فإن الصحيحَ اعتبارُ القصدِ.
وإذا حلَف بالطلاقِ الثلاثِ:
لا يسكُنُ هذه الدارَ، وقال: إن شاءَ اللهُ؛ فلا حِنْثَ عليه إذا سكن فيها، وهو مذهَبُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ، وأحمدَ في المشهورِ من مذهبِه، وقولٌ في مذهَبِ مالكٍ إذا قال: إن شاءَ اللهُ، على الوجهِ المعتبرِ.
(1)
رواه البخاري (5273)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
كذا في النسخ الخطية.
وإذا حلَف فقال له رجلٌ: قلْ: إن شاءَ اللهُ، فقال: حلَفت، ومضى، قال قل: إن شاءَ اللهُ، مرةً ثانيةً، فقال إن شاء الله؛ ففيه نزاعٌ مشهورٌ في مذهَبِ أحمدَ وغيرِه، وفي الصحيحِ مثلُ هذا الاستثناءِ؛ كما ثبَتَ في حديثِ سليمانَ أنه قال:«لأطوفَنَّ الليلةَ على تسعينَ امرأةً، تأتي بفارسٍ يقاتل في سبيلِ اللهِ، فقال له صاحبُه: قل: إن شاءَ اللهُ، فلم يقُلْ، فلو قالها لقاتلوا في سبيلِ اللهِ فرسانًا أجمعينَ»
(1)
، وكذلك قولُه في المدينةِ:«لا يُخْتَلَى خَلَاها» ، فقال له العباسُ: إلا الإذخِرَ
(2)
، وقولُه:«لا يَنْفَلِتَنَّ أحدٌ إلا بضَرْبِة عُنُقٍ» ، فقال ابنُ مسعودٍ: إلا سُهَيلَ بنَ بيضاءَ، فإني سمعته يذكرُ الإسلامَ، قال: فسكَت رسولُ اللهِ، حتى خِفْتُ أن الحجارةَ تنزلُ عليَّ من السماءِ، ثم قال:«إلا سُهَيلَ بنَ بيضاءَ»
(3)
، وقال عبد الله:«واللهِ لأغزُوَنَّ قريشًا، واللهِ لأغزُوَنَّ قريشًا، واللهِ لأغزُوَنَّ قريشًا» ، ثم سكَت، ثم قال:«إن شاءَ اللهُ» ، ثم لم يغزُهم
(4)
، وفي القرآنِ جملٌ قد فُصِلَ بين أبعاضِها بكلامٍ آخَرَ؛ كقولِه: {وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذينَ آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون)، (قل إن الهدى هدى الله)، فصَل بينَ أبعاض الكلامِ المحكيِّ عن أهلِ الكتابِ، وله نظائرُ. واللهُ أعلمُ.
(1)
رواه البخاري (2819)، ومسلم (1654)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (112)، ومسلم (1355)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه أحمد (3632)، والترمذي (3084)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(4)
رواه أبو داود (3285)، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا.
وإذا حلَف على يمينٍ
، وكان من عادتِه أنه لا يحلفَ إلا ويستثني، فحلَف يمينًا، وشكَّ بعدَ مدةٍ، هل جرى على عادتِه أم لا؟ فالأظهرُ من قوليِ العلماءِ: إجراؤُه على عادتِه، وإلحاقُ الفردِ بالأعمِّ الأغلبِ.
وإذا أُكرِه على اليمينِ بغيرِ حقٍّ
؛ مثلُ: أن يكونَ باعَه إلى أجلٍ، ثم بعدَ لزومِ العقدِ قال له: إن لم تحلِفْ لي أنكَ تعطيني حقِّي يومَ كذا، وإلا لزمكَ الطلاقُ، فإن لم تحلفْ أخذتُ السلعةَ منك، وذلك بعدَ أداء المشتري الكلفةَ السلطانيةَ؛ فإن هذه اليمينَ لا تنعقدُ، ولا طلاقَ عليه إذا لم يُعطِ.
ولو قال: كنتُ قد استثنيتُ
، فقلتُ: إن شاءَ اللهُ، فقال: لم تقُلْ شيئًا، فالقولُ قولُ الحالفِ في هذه الحالِ أنه استثنى؛ لأنه مظلومٌ، والمظلومُ له مثل ذلك، وله التعريضُ، والقولُ قولُه في ذلك.
ولو قال: إن خرَجتِ بغيرِ إذني
فأنتِ طالقٌ؛ فهو على كلِّ مرةٍ؛ لأن «خرجتِ» فعلٌ، والفعلُ نكرةٌ، وهي في سياقِ الشرطِ تعُمُّ، نحوُ:{فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} .
وكذا قوله: إن أعطيتِني ألفًا فأنتِ طالقٌ، يقتضي تعليقَ العطاء بمسمَّى إعطاء ألف، وهذا المسمَّى موجودٌ في جميعِ أفرادِه، فيقعُ الطلاقُ به إذا وجد، فلو أعطَتْه ما ينقُصُ عن ألفٍ، ثم أعطَتْه الألفَ؛ وقع الطلاقُ؛ لكن العمومَ تارةً يكونُ على سبيلِ البدلِ، وهو العمومُ المُطلَقُ، وهو الذي يُقالُ فيه في تعليقُ الطلاقِ: لا يقتضي التكرارَ، وتارةً يكونُ على سبيلِ الجمعِ، وهو العمومُ على سبيلِ الاستغراقِ، وهو
يقتضي التكرارَ في تعليقِ الطلاقِ، هذا الجوابُ هو الصوابُ.
وقيلَ: إنه إذا أذِنَ لها مرة؛ انحلَّتْ يمينُه؛ بناءً على القولِ بأن النكرةَ في سياقِ النَّفْيِ لا تعُمُّ إلا إذا أُكِّدت بـ «مِن» تحقيقًا أو تقديرًا؛ نحوُ: {وما من إله إلا الله} محتجًّا بقولِ سيبوَيْهِ: إنه يجوزُ أن تقولَ: ما رأيتُ رجلًا؛ بل رجلينِ.
وهذا إنما هو فرقٌ بينَ الصيغتينِ في الجوازِ فقط، فإن قولَه:«ما رأيتُ من رجلٍ» إنما هو نصٌّ في الجنسِ؛ لأن حرفَ «من» للجنسِ، وأما نحوُ:«ما رأيتُ رجلًا» فهو ظاهرٌ في الجنسِ، فيقتضي العمومَ، ويجوزُ أن يُرادَ به معَ القرينةِ نفيُ الجنسِ الواحدِ، فيجوزُ للمتكلمِ أن يريدَ بكلامِه ذلك، كما يريدُ به سائرَ الاحتمالاتِ المرجوحةِ.
فإذا قال: إن خرجتِ إلا بإذني، ونوى خروجًا واحدًا؛ نفعه ذلك، وحُمِلتْ يمينُه عليه، ولو كان السببُ يقتضي ذلك؛ مثلُ: أن تطلبَ منه الخروجَ إلى لقاءِ الحُجَّاجِ، فيقولُ: إن خرجتِ بغيرِ إذني فأنتِ طالقٌ، فهو كما لو حلَف لا يتغدَّى إذا دُعِي إلى غداء، فيه قولانِ، هما وجهانِ في مذهَبِ أحمدَ، الصوابُ: أنه يُقصَرُ على ذلك الغداءِ؛ لأنه المفهومُ من كلامِ الناسِ عرفًا.
والفرقُ بينَه وبينَ الشارعِ - فإن كلامَ الشارعِ العبرةُ بعمومِه لا بخصوصِ سببِه -: أن هناك تَعارَضَ قصدُ التَّخصيصِ وقصدُ التأسيسِ للحكمِ، فرُجِّحُ التأسيسُ؛ لأن الشارعِ منصوبٌ له، وهو موجبُ اللفظِ، وهنا لم يُعرَفْ أن غرضَ الحالفِ تأسيسُ المنعِ من الفعلِ، فسلِمتْ
دلالةُ التخصيصِ عن معارضٍ.
فظهَر أن قولَه: إن خرَجتِ بغيرِ إذني، مثلُ قولِه: إن خرَجتِ إلا أن آذَنَ لكِ: خروجٌ مقيَّدٌ، وهذا خروجٌ مُطلَقٌ، كقولِه: لا أتغدَّى، أو: لا أخرج، ولا أخرج مع ذلك، و «تطلق» نكرة، وهذه
(1)
الأفعالُ كلُّها للعمومِ عندَ الإطلاقِ؛ لأنها نكرةٌ في سياقٍ غيرِ موجبٍ، فيُحمَلُ عليه اللفظ إذا نواه، أو كان معَ السببِ على أصحِّ القولَينِ، وهذا ظاهرٌ في قلوبِ الناسِ.
فَصْلٌ
ومَن حلَّفَه مخدومُه أنه
متى رأى أحدًا خانه يُعلِمُه، فخانه أحدٌ، وإذا اطَّلَع عليه استوفى حقَّه منه، أو عاقَبَه بما يستحقُّ من غيرِ عُدوانٍ: وجَب على الذي عرَف بالقضيةِ أن يُطلِعَه وينصَحَه؛ ولو لم يُحلِّفْه، فكيفَ إذا حلَّفه؟! ويأثَمُ إذا سكَت عن هذه النصيحةِ.
ومَن سُحِر، فبلَغ به السِّحْرُ
أنه لا يعلمَ ما يقولُ؛ فلا طلاقَ له.
ومَن كانت عندَه وديعةٌ
فتصرفَتْ فيها زوجتُه، فطلَب صاحبُ الوديعةِ وديعتَه، فقال لزوجتِه: أعطيه الوديعةَ، فقالت: تصرَّفتُ فيها، فحلَف أنه لا بدَّ أن تُعطِيَه الوديعةَ، وإلا كانت طالقًا، ولا يروحُ الرجل إلا بوديعتِه، وكان قد رأى الوديعةَ في البيتِ؛ فعجَزتِ الزوجةُ عن
(1)
في الأصل: وهذا. والمثبت من (ك).
إحضارِها، وراح الرجلُ ولم يأخُذِ الوديعةَ: فإذا كانت الوديعةُ معدومةً؛ فلا حِنْثَ عليه؛ لأن المحلوفَ عليه ممتنعٌ، فلا يحنَثُ في أصحِّ القولَينِ، ولأنه اعتَقدَ وجودَها، فتبيَّنَ ضدُّه، فلا يحنَثُ في مثلِ ذلك على الصحيحِ.
ومَن رأى مَعجنةَ طينٍ
، فقال: عليَّ الطلاقُ ما تكفي؛ فكفَتْ، فلا يعودُ لمثلِ هذه اليمينِ، فإن فيها خلافًا؛ لكن الأظهرَ: أنه لا يحنَثُ.
وإذا حلَف على زوجتِه:
لا تفعلُ شيئًا، ولم تعلَمْ أنه حلَف، أو علِمتْ ونسِيتْ، ففعَلَت: فلا حِنْثَ عليه، وله أن يُصدِّقَها إن كانت مصدَّقةً عندَه.
إذا حلَف: لا يفعلُ شيئًا لسببٍ
، فزال السببُ، أو أُكرِه على فعلِ المحلوفِ عليه: لم يحنَثْ.
وإن كان السببُ باقيًا، وأرادَ فعلَ المحلوفِ عليه، فخالعَ زوجتَه خُلعًا صحيحًا، ثم فعَلَه بعدَ أن بانتْ؛ لم يحنَثْ.
وإن كان الخلعُ لأجلِ اليمينِ؛ ففيه نزاعٌ مشهورٌ، والصحيحُ: أن خُلْعَ اليمينِ لا يصحُّ؛ كالمحلِّلِ؛ لأنه ليس المقصودُ به الفرقةَ.
وهل يقعُ بخلعِ اليمينِ طلقةٌ رجعيةٌ، أم لا يقعُ به شيءٌ؟ فيه نزاعٌ، الأقوى: أنه لا يقعُ شيءٌ بحالٍ؛ لكن إذا أفتاه مُفْتٍ به، وفعَلَه معتقدًا أن النكاحَ قد زال، وأنه لا حِنْثَ عليه؛ لم يحنث؛ لأنه لم يقصِدْ مخالفةَ يمينِه.
وأكثرُ العلماءِ يقولونَ: إن يمينَه باقيةٌ؛ منهم: مالكٌ، وأبو حنيفةَ، وأحمدُ في المشهورِ، والشافعيُّ في أحدِ قولَيْه، وفي القولِ الآخرِ: أن اليمينَ تنحَلُّ إذا حصَل بينَه وبينَ زوجتِه بينونةٌ.
ويجوزُ للمستفتي أن يستفتي في مثلِ هذه المسائلِ مَن يُفتيه بأنْ لا حِنْثَ عليه.
ولا يجبُ على أحدٍ
أن يطيعَ أحدًا في كلِّ ما يأمرُه به، إلا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وإذا أفتاه من يجوزُ استفتاؤُه؛ جاز له أن يعملَ بفَتْواه، ولو كان ذلك القولُ لا يوافقُ الإمامَ الذي ينتسبُ هو إليه، وليس عليه أن يلتزمَ قولَ إمامٍ بعينِه في جميعِ أيمانِه.
ومن حلَف بالحرامِ ألا تخرجَ
فلانةُ من بيتِه، فخرجَتْ: فمذهَبُ أحمدَ: أنه لا طلاقَ عليه وإن نوى الطلاقَ؛ بل تُجزِئُه كفارةُ يمينٍ في قولٍ، أو كفارةُ ظهارٍ في آخَرَ، وكفارةُ يمينٍ أظهرُ.
وإذا اتَّهَم زوجتَه
، وقال: أنتِ أخذتِ الفِضَّةَ، فحلَفتْ أنها ما أخذَتْها، فقال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا، ثم وجد أنها لم تكُنْ أخذَتْ شيئًا، فذكر أنه هو أخَذَها، وكان قد نوى: أنتِ طالقٌ إن كنتِ أخذتيها؛ فلا حِنْثَ عليه.
وإن اعتقد أنها أخذَتْها، فطلَّقَها لأجلِ ذلك، ثم تبيَّنَ أنها لم تأخُذْه؛ ففيه نزاعٌ؛ الأظهرُ: أنه لا يقعُ.
وكذلك لو نُقِل عنها أنها فعلَتْ فاحشةً، فطلَّقها ينوي أنها طالقٌ لأجلِ ما فعلَتْ، فبان أنها لم تفعلْ؛ فلا حِنْثَ، وإن كان لم يَنْوِ، ولكن السبب ذلك، ففيه نزاعٌ، فلا بدَّ من اعتبارِ لفظِ الحالفِ، ونيَّتِه، وسببِ يمينِه.
وإذا كان الحالفُ يعتقدُ
أن المخاطبَ لا يفعلُ المحلوفَ عليه، باعتقادِه أنه لا يخالفُه إذا حلَف عليه، ولا يُحَنِّثُه لكونِ الحالفِ مزوَّجًا بقرابتِه، وهو لا يختارُ تطليقَها، ونحوِ ذلك من الأسبابِ، فحلَف عليه، فخالفه، وتبيَّنَ أنه كان غالطًا في اعتقادِه فيه، وأنه يختارُ أن يُطلِّقَها، ولا يبالي به؛ ففيه نزاعٌ إذا اعتَقدَ في معينٍ صفةً، فحلَف لأجلِ تلك الصفةِ، ثم تبيَّنَ بخلافِه، والأشبهُ: أنه لا يقعُ به طلاقٌ، كما لو لقِيَ امرأةً ظنَّها أجنبيةً، فقال: أنتِ طالقٌ، ثم تبيَّنَ أنها زوجتُه، ففيه نزاعٌ، والأظهرُ: لا طلاقَ عليه؛ إذ الاعتبارُ بما قصَده، وهو إنما قصَد موصوفًا ليس هو هذا المُعيَّنَ، والله أعلم.
وإذا طلَّقَها طلقةً بائنةً بلا عِوَضٍ
؛ ففيه نزاعٌ، قيلَ: يقعُ واحدةً بائنةً، وقيل: بل رجعيةٌ، وقيلَ: ثلاثٌ، والصحيحُ: أن لا يقعَ به إلا واحدةٌ، والنِّزاعُ في مذهَبِ أحمدَ، ومالكٍ، والشافعيِّ: رجعيةٌ، وأبو حنيفةَ: واحدةٌ.
وإذا حلَف: لا يسكُنُ بيتَ أبيه
، فزارَه وجلَس عندَهم أيامًا؛ لم يحنَثْ؛ لأن الزيارةَ ليست سَكَناً باتِّفاقِ الأئمَّةِ.
وطلاقُ السَّكْرانِ فيه نزاعٌ
لأحمدَ وغيرِه، والأشبَهُ بالكتابِ والسُّنَّةِ:
أنه لا يقعُ، وثبَتَ ذلك عن عثمانَ رضي الله عنه
(1)
، ولم يثبُتْ عن صحابيٍّ خلافُه، وهو قديمُ قَولَيِ الشافعيِّ، وبعض أصحابِ أبي حنيفةَ، وقولُ كثيرٍ من السَّلَفِ والفقهاءِ.
والثاني: يقعُ، وهو مذهَبُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ والشافعيِّ.
وزعم طائفةٌ من أصحابِ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ: أن النِّزاعَ إنما هو في النشوان الذي قد يفهَمُ ويغلَطُ، فأما الذي تَمَّ سُكرُه؛ بحيثُ لا يفهمُ ما يقولُ، وما يقالُ له؛ فلا يقعُ به قولًا واحدًا؛ إلا أن الأئمَّةَ الكبارَ جعلوا النِّزاعَ في الجميعِ
(2)
.
فَصْلٌ
إذا حلَف بالطلاقِ أو غيرِه
أنه لا يدخُلُ دارَ فلانٍ، ولا يأكلُ طعامَه، ولا يطَأُ زوجتَه، ثم حنث بفعل واحدةٍ من هذه الخصالِ؛ انحلَّتْ يمينُه، ولم يحنَثْ بعدَ ذلك بفعلِ البواقي باتِّفاقِ العلماءِ.
ومَن حلَف بالطلاقِ
، فقيلَ له: استَثْنِ، فقال: إن شاءَ اللهُ، فلا حِنْثَ عليه، بخلافِ الذي أوقَعَ الطلاقَ، وقال: إن شاءَ اللهُ؛ فإن ذلك لا يرفعُه؛ وسواءٌ كان قد نوى الاستثناءَ قبلَ فراغِه من اليمينِ، أو بعدَ
(1)
رواه ابن أبي شيبة (17908)، والبيهقي في الكبرى (15113)، وعلقه البخاري بصيغة الجزم (7/ 45).
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وطلاق السكران
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 33/ 102، الفتاوى الكبرى 3/ 303.
ذلك، هذا هو الصحيحُ الذي دلَّ عليه كلامُ الإمامِ أحمدَ وأكثرِ السَّلَفِ، وسنةُ رسولِ الله، فحلِفُه صلى الله عليه وسلم، وقولُه:«لأَغْزُوَنَّ قريشًا» ، وحلِفُ سليمانَ، وقولُه:«إلَّا الإذْخِرَ» ، وقصةُ سُهَيلِ بنِ بيضاءَ، وغيرُه.
ومَن اعتادَ الكذبَ
فصار إذا حدَّث كذَب، وإذا وعَد أخلَفَ، وإذا اؤتُمِنَ خان؛ فهو منافقٌ، والمنافقُ شرٌّ من الكافرِ، فإذا قال رجلٌ للذي يكذِبُ: النصرانيُّ خيرٌ منكَ، وقصد أن النصرانيَّ الذي لا يكذبُ خيرٌ من هذا الكذابِ - معَ أن دينَ الإسلامِ هو الحقُّ-؛ فلا شيءَ عليه، فإن الكذبَ أساسُ النفاقِ، ومَن لا يكذبُ خيرٌ ممن يكذبُ.
وإذا حلَف بالطلاقِ:
ليُعطِيَنَّه كذا، فعجَز عنه؛ فلا حِنْثَ إذا كانت نيَّتُه أن يُعطِيَه معَ القدرةِ.
فَصْلٌ
صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «مَن كان حالفًا فليَحْلِفْ باللهِ، أو ليَصْمُتْ»
(1)
، و:«مَن حلَف بغيرِ اللهِ فقد أشرَكَ»
(2)
؛ فليس لأحدٍ أن يحلفَ لا بملَكٍ، ولا نبيٍّ، ولا غيرِ ذلك من المخلوقاتِ، ولا يحلفَ إلا باسمٍ من أسماءِ اللهِ، أو صفةٍ من صفاتِه.
(1)
رواه البخاري (2679)، ومسلم (1646)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه أحمد (5375)، وأبو داود (3251)، والترمذي (1535)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وقد رُوِي: «مَن حلَف بالأمانةِ فليس مِنَّا»
(1)
، فمن حلَف بالأمانةِ لا يدري ما حلَف به، أو عنَى به مخلوقًا؛ فقد أساء، وإن أرادَ بها صفةً من صفاتِ اللهِ؛ نحوُ: وأمانةِ اللهِ، أو عظمتِه؛ جاز ذلك.
وهل الحلِفُ بغيرِ اللهِ
محرَّمٌ، أو مكروهٌ؟ على قولَينِ؛ الأولُ أصحُّ، وكان السَّلَفُ يعزِّرونَ من يحلِفُ بالطلاقِ، وكلُّ ما سوى اللهِ يدخُلُ في ذلك؛ مثل: الكعبةِ، والعرشِ، والكُرسِيِّ، والملائكةِ، والنبِيِّينَ، والملوكِ، أو نعمةِ السلطانِ، أو الشيخِ، أو تربةِ الشيخ، أو تربةِ أمه، ونحوِ ذلك؛ ولكن في الحَلِفِ برسولِ اللهِ خاصَّةً فيه خلافٌ
(2)
.
وكثرةُ الحلِفِ مكروهٌ
، ولكن قد يُستحَبُّ إذا كان فيه مصلحةٌ شرعيةٌ، كما أمر نبِيَّه أن يحلفَ في ثلاثِ آيات؛ كقوله:{يسألونك أحقٌّ هو قل إي وربي إنه لحق} ، {قل بلى وربي لتبعثن} ، {قل بلى وربي لتأتينكم}
(3)
.
(1)
رواه أحمد (22980)، وأبو داود (3253)، من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه.
(2)
قال في مجموع الفتاوى 1/ 204: (وإنما نعرف النزاع في الحلف بالأنبياء، فعن أحمد في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم روايتان: إحداهما: لا ينعقد اليمين به؛ كقول الجمهور مالك وأبي حنيفة والشافعي. والثانية: ينعقد اليمين به، واختار ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي وأتباعه، وابن المنذر وافق هؤلاء، وقصر أكثر هؤلاء النزاع في ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وعدى ابن عقيل هذا الحكم إلى سائر الأنبياء، وإيجاب الكفارة بالحلف بمخلوق وإن كان نبيًّا قول ضعيف في الغاية مخالف للأصول والنصوص).
(3)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وكثرة الحلف
…
) إلى هنا في جامع المسائل، (المجموعة الأولى ص 376).
ومَن حلَف على رجلٍ:
لا بدَّ أن يُعطِيَ فلانًا كذا، يعتقدُ أن ذلك الشيءَ عندَه موجودٌ؛ بحيثُ لو علِم أنه قد عدِم لما حلَف، ثم تبيَّنَ أن ذلك قد عدِم: فلا حِنْثَ عليه؛ لأنه حلَف على مستحيلٍ؛ نحوُ: لأطيرَنَّ، أو لأشرَبَنَّ ماءَ الكوزِ، ولا ماءَ فيه؛ وهذا لا يحنَثُ به عندَ جماهيرِ العلماءِ.
وله مأخذٌ آخَرُ: وهو أنه حلَف يعتقدُ شيئًا فتبيَّنَ بخلافِه.
ومَن اتَّهمَتْه زوجتُه بوَطْءِ جاريتِه
، فعرَّضَ، وحلَف أنه ما وطِئَها؛ فله ذلك؛ كما جرى لابنِ رَواحةَ وأنشَدَ شعرًا:
شهدتُّ بأنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ
…
وأنَّ النارَ مَثْوى الكافرينَ
وأنَّ العرشَ فَوْقَ الماءِ طافٍ
…
وفوقَ العرشِ ربُّ العالمينَ
وذكر ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فضحِكَ، وقال:«إنَّ امرأتَكَ لفقيهةٌ»
(1)
، فهذا قد أظهَرَ لها أنه يقرأُ القرآنَ، ومثلُ هذا لو فعَلَه الرجلُ لغيرِ عذرٍ؛ كان حرامًا بالاتفاقِ.
وإذا قال لزوجتِه:
إن أبرأتِيني من نفقةِ الأولادِ، أو أخذتِ الأولادَ بالكفالةِ، ونحوَ ذلك من العباراتِ، فأنتِ طالقٌ، فالتزمَتْ بما قال من الإنفاقِ، فإنه يقعُ به الطلاقُ، فإن امتنَعَتْ أُلزِمَتْ بذلك، كما تلزمُ بغيرِه من الحقوقِ.
(1)
رواه الدارمي في الرد على الجهمية (ص 56)، وابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 900)، وابن عساكر في تاريخه (28/ 112)، قال الذهبي في كتاب العرش 2/ 137:(روي من وجوه صحاح مرسلة عن عبد الله بن رواحة).
كِتَابُ الأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ
أصلُ عقدِ النَّذْرِ مكروهٌ
؛ لما في الصحيحِ أنه نهى عنه وقالَ: «إنَّهُ لا يأتي بخيرٍ»
(1)
؛ لكن إن نذَر طاعةً؛ لزِمَه الوفاءُ، ومَن نذَر أن يعصيَه؛ فلا يَعْصِه.
ومَن نذَر للقبورِ زيتًا أو شمعًا
ونحوَه؛ فقد جعَلَه العلماءُ من قسمِ المعصيةِ الذي لا يجوزُ الوفاءُ به، لأنه صلى الله عليه وسلم «لعَن زوَّاراتِ القبورِ، والمُتَّخِذِينَ عليها السُّرُجَ والمساجدَ» رواه أهلُ السُّنَنِ وابنُ حِبَّانَ في «صحيحِه» ، وحسَّنه التِّرْمِذيُّ
(2)
.
وكذلك من نذَر لبئر أو شجرةٍ زيتًا أو خَلوقًا، أو نحوَ ذلك؛ فلا يجوزُ بلا نزاعٍ؛ بل هذا من جنسِ عبادةِ الأوثانِ، وقد بلَغ عمرَ أن قومًا يأتونَ الشجرةَ؛ فقطَعَها
(3)
، وقد كان للمشركينَ شجرةٌ يُعلِّقونَ عليها
(1)
رواه مسلم (1639)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه أحمد (2030)، وأبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (2043)، وابن ماجه (1575)، وابن حبان (3179)، من حديث ابن عباس رضي الله عنها، لكن بلفظ:«زائرات القبور» بدل: «زوارات» .
ورواه أحمد (8449)، والترمذي (1056)، وابن ماجه (1576)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:«لعن زوارات القبور» .
(3)
رواه ابن أبي شيبة (7545)، وابن سعد في الطبقات (2/ 100)، والفاكهي في أخبار مكة (2876)، وصحح ابن حجر إسناده في الفتح 7/ 448.
أسلحتَهم يُسمُّونَها: ذاتَ أنواطٍ، فقال المسلمون: اجعَلْ لنا ذاتَ أنواطٍ، فقال:«اللهُ أكبرُ! قُلتُم كما قال قومُ موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}» ، ثم قال:«لتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَن كان قبلَكم»
(1)
،
فلا يجوزُ أن يُتَّخَذَ شيءٌ من الآثارِ والأشجارِ والأحجارِ ونحوِها، بحيثُ يُرجَى نفعُه وبَرَكتُه بالنَّذْرِ له، والتمسحِ به، أو تعليقِ شيءٍ عليه، بل كلُّ هذا من جنسِ الشركِ.
وأما نذرُ الزيتِ ونحوِه للمسجدِ: فهو من البِرِّ.
وأما الوقفُ على قبورِ الأنبياءِ
؛ فإن كان وقفًا على بناءِ المساجدِ عليها، وإيقادِ المصابيحِ؛ فقد تقدَّم حكمُه
(2)
.
والذينَ يقولونَ: إن مِن العُلَماءِ مَن وقَف على قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم، يريدونَ بذلك أنه وقَف على قبرِ أمرِ نبيِّه
(3)
؛ خطأٌ منهم في العبارةِ؛ فإن هذا إنما وقف على مَن بالمدينةِ النبويةِ، وليس لذلك اختصاصٌ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ جميعُ ما يصرفُه المسلمونَ من الأموالِ في أنواعِ الوَقْفِ وغيرِه إنما هو بأمرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لقولِه:{ما آتاكم الرسول فخذوه} .
وكلُّ ما يُنذَرُ له
ويُعظَّمُ، مِن الأحجارِ ونحوِها، والقبورِ؛ يجبُ أن
(1)
رواه أحمد (21897)، والترمذي (2180)، من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه.
(2)
ينظر ص ....
(3)
في (ك): نبيه.
تزالَ؛ لأنه يحصُلُ للناسِ به ضررٌ في دينِهم، كما كسَّر الخليلُ الأصنامَ، وحرَّق موسى العجلَ، وكما كسَّر رسولُ اللهِ الأصنامَ، وحرَّقَها لمَّا فتَح مكةَ
(1)
، وكتَب أبو موسى إلى عمرَ لمَّا فتَحوا بتُسْتَر قبر دانيالَ، وكانوا يَستفتِحونَ به، فكتَب إليه عمرُ:«احفِرْ بالنهارِ كذا وكذا قبرًا، وادْفِنْه ليلًا في واحدٍ، لئلا يفتتنَ الناسُ به»
(2)
.
ومَن قال: إنه يُشفَى بمثلِ نذرِه لهذه الأشياءِ؛ فهو كاذبٌ؛ بل يُسْتتابُ، فإن تاب وإلا قُتِل، فإنه مكذبٌ للهِ ورسولِه، فإنه قد ثبَتَ أنه قال:«إنَّ النَّذْر لا يأتي بخيرٍ»
(3)
، فمَن قال: إنه يأتي بخيرٍ؛ عُرِّف ذلك؛ فإن أصَرَّ فقد شاقَّ الرسولَ من بعدِ ما تبيَّنَ له الهدى.
ويُكسَرُ ما يُوقَدُ عندَها من السُّرُجِ، أو يُدفَعُ إلى مَن ينتفعُ به مِن المسلمِينَ.
والنَّذْرُ المُطلَقُ مثلُ قولِه:
للهِ عليَّ كذا، والوقفُ المُطلَقُ والكفارةُ لا يُصرَفُ ذلك كلُّه إلى غنيٍّ؛ بل إلى من يستحقُّ الزكاة.
ولو نذَر لشيخٍ معينٍ
على وجهِ الاستغاثةِ به، وطَلَبِ قضاءِ الحاجةِ منه؛ فإنه نَذْرُ معصيةٍ لا يجوزُ الوفاءُ به، وهل عليه كفارةُ يمينٍ؟ على قولَينِ، بخلافِ مَن كان قصدُه الصدقةَ عليه لفقرِه، إحسانًا إليه للهِ تعالى؛ فإن الصدقةَ لا تجوزُ إلا لله.
(1)
تقدم تخريجه ص ....
(2)
رواه ابن إسحاق بإسناده في المغازي (ص 66).
(3)
رواه مسلم (1639)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ومَن نذَر أن يهَبَ فلانًا شيئًا
؛ لم يحصُلِ الوفاءُ بالنذرِ إلا بوجود الهبةِ، فإن قبِلَها؛ فلا كلامَ، وإن لم يقبَلْ؛ فلا شيءَ على الواهبِ، كما لو حلَف: لَيَهَبَنَّ فلانًا، فلم يقبَلْ؛ فإن أصحابَنا وغيرَهم قالوا: إذا حلَف لا يهَبُ، ولا يتصدقُ؛ ففعَلَ، ولم يقبَلِ الموهوبُ له؛ لم يحنَثْ، فهذا في النَّفْيِ، وأما في الإثباتِ؛ إذا حلَف ليهَبَنَّ؛ فإما أن يجريَ مَجْرى الإثباتِ، أو يقالُ: الإثبات يُحمَلُ على الكمالِ
(1)
، كما يُفرَّقُ في لفظِ النكاحِ وغيرِه بينَ النَّفْيِ والإثباتِ، وقد قالوا في الطلاقِ: إذا وهَب امرأتَه لأهلها فلم يقبَلوها؛ لم يقعْ شيءٌ، وفيه نظَرٌ. وكما لو نذَر عِتقَ معينٍ فمات؛ لأن مستحِقَّ النَّذْرِ إذا كان معيَّنًا؛ لم يستحِقَّه غيرُه.
فَصْلٌ
ومَن نذَر لقبرٍ من قبورِ النصارى
؛ فإنه يُسْتتابُ؛ بل كلُّ من عظَّم شيئًا من شعائرِ الكفرِ؛ مثلُ: الكنائسِ، أو قبورِ القِسِّيسِينَ، أو يعظِّم الأحياءَ منهم ويرجو برَكَتَهم؛ فإنه كافرٌ يُسْتتابُ.
وما نذَره للمسلمِينَ
، ولم يُعرَفْ صاحبُه؛ فإنه يُصرَفُ في مصالِحِ المسلمِينَ.
وإذا قال: إن فعلتُ كذا
فعليَّ أن أُعتقَ عبدي، أو مالي صدقةٌ، ونحوَه من ألفاظِ الالتزامِ؛ فيُجزِئُه كفارةُ يمينٍ، بخلافِ قولِه: العتقُ
(1)
في (ك) و (ع) و (ز): على الإجمال.
يلزَمُني؛ ففيه نزاعٌ.
وإذا أعتقَتْ جاريتَها
، ونيَّتُها أن تُعتِقَها إذا كانت مستقيمةً، فبانت زانيةً؛ جاز لها بَيْعُها، وإن أعتَقَتْها مطلقًا؛ لزِمَها.
ومَن نذَر صوم يوم مشروع
، وعجَز عنه لكِبَرٍ، أو مرضٍ لا يُرجَى بُرؤُه؛ كان له أن يُفطِرَ ويُكفِّرَ كفارةَ يمينٍ، أو يُطعِمَ عن كلِّ يومٍ مسكينًا، أو يجمعَ بينَ الأمرينِ؛ على ثلاثةِ أقوالٍ لأحمدَ وغيرِه؛ أحوَطُها: الثالثُ.
وإن كان عجزُه لمرضٍ يُرجَى بُرؤُه؛ فإنه يُفطِرُ، ويقضي بدلَ ما أفطَرَ، وهل عليه كفارةُ يمينٍ؟ فيه نزاعٌ؛ لأحمدَ وغيرِه.
وإن كان يُمكِنُه الصومُ؛ لكنَّه يُضعِفُه عن واجبٍ؛ مثلُ: الكسبِ الواجبِ؛ فله أن يُفطِرَ، ثم إن أمكنه القضاءُ قضى؛ وإلا فهو كالشيخِ الكبيرِ.
وأما صومُ رجبٍ وشعبانَ
؛ ففيه نزاعٌ في مذهَبِ أحمدَ وغيرِه، قيلَ: هو من المشروع، فيجبُ الوفاءُ به، وقيل: بل يُكرَهُ، فيُفطِرُ بعضَ رجبٍ.
بَابٌ فِي أدَبِ القَاضِي
يجوزُ للحنفيِّ الحاكمِ
أن يَسْتنيبَ شافعيًّا يحكمُ باجتهادِه، وإن خالفَ اجتهادُه اجتهادَ مُسْتنيبِه، ولو شرَط عليه أن يحكمَ بقولِ مُسْتَنيبِه؛ لم يجُزْ هذا الشرطُ.
وأيضًا؛ إذا رأى المُسْتَنيبُ قولَ بعضِ الأئمَّةِ أرجحَ من بعضٍ؛ لم يجُزْ له أن يحكمَ بالمرجوحِ؛ بل له أن يحكمَ بالراجحِ، فكيفَ لا يكونُ له أن يستنيبَ مَن يحكمُ بالراجحِ وإن خالَفَ قولَ إمامِه؟! وليس على الخلقِ - لا القضاةِ ولا غيرِهم- أن يطيعوا أحدًا في كلِّ ما يأمرُ به، إلا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ومَن سواه مِن الأئمَّةِ فإنه يُؤخَذُ من قولِه ويُترَكُ، فيجوزُ لكلٍّ من الأئمةِ أن يَسْتَنيبَ مَن يخالفُه في مذهبِه؛ ليحكمَ بما أنزلَ اللهُ.
ومَن باشَرَ القضاءَ معَ عدمِ الأهليةِ
المسوغةِ للولايةِ، وأصَرَّ على ذلك، عامِلًا بالجهلِ والظلمِ؛ فهو فاسقٌ، ولا يجوزُ أن يُولَّى خطابةً، ولا تُنفَّذَ أحكامُه وعقودُه كما تُنفذُ أحكامُ العالمِ العادلِ؛ بل من العُلَماءِ من يردُّها كلَّها، وهو قولُ أكثرِ أصحابِ الشافعيِّ وأحمدَ.
ومن العُلَماءِ من يُنفِّذُ ما وافقَ الحقَّ؛ لمسيسِ الحاجةِ، ولما يلحَقُ الناسَ من الضررِ، والحقُّ يجبُ اتباعُه؛ سواءٌ قام به البَرُّ أو الفاجرُ،
وهذا هو المشهورُ من مذهَبِ أبي حنيفةَ، ومالكٍ، وطائفةٍ من أصحابِ أحمدَ؛ وهو الراجحُ.
وأجمَع المسلمونَ على أن الحاكمَ
ليس له أن يقبلَ الرِّشْوةَ؛ وسواءٌ حكم بحقٍّ أو باطلٍ، ولا يحكمُ لنفْسِه، وليس للحاكمِ أن يكونَ له وكيلٌ يُعرَفُ أنه وكيلُه؛ يتَّجِرُ له في بلادِ عملِه، وإذا عُرِف أن الحاكمَ بهذه المثابةِ؛ فإنه يُنهَى عن ذلك، فإن انتهى؛ وإلا استُبدِل مَن هو أصلَحُ منه إن أمكن.
وإذا فصَل الحكومةَ بينَه وبينَ غَريمِه
حاكمٌ نافذُ الحكمِ في الشرعِ لعلمِه ودينِه؛ لم يكُنْ لغريمِه أن يحاكمَ عندَ حاكمٍ آخَرَ.
وإذا قال الحاكمُ:
ثَبَت عندي، فهل هو حكمٌ؟ فيه وجهانِ
(1)
.
وفي قبولِ شهودِ الفرعِ
معَ إمكانِ حضورِ شهود الأصلِ؛ نزاعٌ، والقولُ به مذهب أبي يوسفَ ومحمدٍ.
وحديثُ معاذٍ لما بعثَه إلى اليمنِ
قال فيه: «فإن لم أجِدْ في سنةِ رسولِ الله حكمتُ برأيي»
(2)
؛ طعَن فيه جماعةٌ، ورُوِي في مسانيد السنن، ورواه أبو داودَ، واستدلَّ به طوائفُ من الفقهاءِ وأهلِ الأصولِ في كُتُبِهم، ورُوِي من طرقٍ.
(1)
قال في الفتاوى الكبرى 5/ 565: (وإخبار الحاكم أنه ثبت عندي بمنزلة إخباره أنه حكم به، أما إن قال: شهد عندي فلان، أو أقر عندي؛ فهو بمنزلة الشاهد).
(2)
رواه أحمد (22061)، وأبو داود (3592)، والترمذي (1327)، من حديث رجال من أصحاب معاذ رضي الله عنه.
وبكلِّ حالٍ؛ يجوزُ اجتهادُ الرأيِ للقاضي والمفتي إذا لم يجِدِ الحادثة في نصِّ الكتابِ والسُّنَّةِ؛ كقولِ جماهيرِ السَّلَفِ وأئمةِ الفقهاءِ؛ كمالكٍ، والأوزاعيِّ، والثوريِّ، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ، وأحمدَ بنِ حنبلٍ، وأبي عُبَيدٍ، وغيرِهم، واستدلوا على ذلك بدلائلَ؛ مثلُ: كتابِ عمرَ إلى أبي موسى: «اعرِفِ الأشباهَ والنظائرَ، وقِسِ الأمورَ برأيِكَ»
(1)
.
وقد تكونُ تلك الحكومةُ في الكتابِ والسُّنَّةِ على وجهٍ خفيٍّ، لم يُدرِكْه، أو تكونُ مركبةً من مقدمتينِ بآيتين؛ الكتابِ والسُّنَّةِ، لكنَّه لم يتفطَّنْ لذلك؛ فيجوزُ له أن يجتهدَ برأيِه حينئذٍ؛ لكونِه لم يجِدْ تلك في الكتابِ ولا في السُّنَّةِ، وإن كانت فيهما.
ثم قولُه: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} ؛ وإن كان قد يكونُ الماءُ تحتَ الأرضِ، وهو لا يَعرفُ به، وكذلك قولُه:{فمن لم يجد فصيام شهرين} ، و {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} .
والقياسُ الذي يسوغُ؛ مثلُ أن يردَّ القضيةَ إلى نظيرِها الثابتِ بالكتابِ والسُّنَّةِ، أو يَفهمَ علةَ الحكمِ التي حكَم الشارعُ لأجلِها، ويجدَها في الصورةِ التي لم يجدْها في النصِّ، وهذا من قياسِ التعليلِ، والأولُ قياسُ التمثيلِ.
(1)
رواه الدارقطني (4471)، والبيهقي في الكبرى (20537).
وليس له أن يحكمَ بما شاءَ، ومن جوَّز ذلك؛ فهو كافرٌ باتِّفاقِ المسلمِينَ، وليس هذا مختصًّا بمعاذٍ رضي الله عنه.
وليس للحاكمِ منعُ الناسِ
مما أباحَه اللهُ ورسولُه؛ مثلُ: أن يمنعَ أن يزوجَ المرأةَ ولِيُّها بحضورِ شاهدَين، أو يمنعَ الشهودَ أو غيرَهم من كتابةِ مهرِها، أو من كتابةِ عقدِ بيعٍ، أو إجارةٍ، أو إقرارٍ، أو غيرِ ذلك، وإن كان الكاتبُ مُرتَزقًا بذلك.
وإذا منَع القاضي ذلك ليصِير إليه منافعُ هذه الأمورِ؛ كان هذا من المَكْسِ، نظيرُ مَن يستأجِرُ حانوتًا في القريةِ على ألا يبيعَ غيرُه، وإن كان منَعَ الجاهلين لئلا يعقِدَ عقدًا فاسدًا، فالطريقُ أن يفعلَ كما فعَل الخلفاءُ الراشدونَ مِن تعزيرِ مَن يعقدُ نكاحًا فاسدًا، كما فعَلَه عثمانُ فيمن تزوَّجَ بغيرِ وَلِيٍّ، وفيمن تزوَّجَ في العِدَّةِ
(1)
.
وهل يجبُ على الشخصِ
أن يلتزمَ مذهبًا واحدًا بعينِه، يأخذُ بعزائمِه ورُخَصِه؟ فيه نزاعٌ في مذهَبِ الشافعيِّ وأحمدَ، وجمهورُ العُلماءِ: على أنه لا يجبُ على أحدٍ أن يقلِّدَ شخصًا بعينِه، ولا يلتزمَ مذهبًا بعينِه فيما يوجبُه ويحرمُه، وهذا هو الصوابُ؛ فإنه يقتضي تنزيلَ الشخصِ الواحدِ المُعيَّنِ منزلةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وذلك غيرُ جائزٍ؛ لكن من عجَز عن الاجتهادِ؛ جاز له التقليدُ، وهل يجبُ عليه الاجتهاد في أعيانِ المفتينَ،
(1)
لم نقف عليه عن عثمان، والمعروف عن عمر رضي الله عنهما في تعزيره لطليحة الأسدية لما نكحت في عدتها من رُشيد الثقفي، رواه مالك (2/ 536)، وعبد الرزاق (10539)، والشافعي في مسنده (ص 301)، والبيهقي في الكبرى (15539).
فيقلِّدُ أعلَمَهم، وأديَنَهم، أم يقلِّدُ مَن شاءَ؟ على قولَينِ في مذهَبِ أحمدَ والشافعيِّ وغيرِهما.
ونهى العلماءُ عن اتباعِ رُخَصِ المذاهبِ؛ لأن هذا يُفضي إلى الانحلالِ
(1)
.
والاجتهادُ يقبلُ التجزؤ والانقسامَ
؛ بل قد يكونُ الرجلُ مجتهدًا في مسألةٍ، أو صنفٍ من العلمِ، ويكونُ غيرَ مجتهدٍ في مسألةٍ أخرى، أو صنفٍ آخَرَ؛ بل أكثرُ مَن عندَه تميزٌ من العلم من المتوسطينَ؛ إذا نظَرَ في مسائلِ النِّزاعِ، وتأمَّلَ أدلةَ الفريقينِ بقصد حسَنٍ ونظَرٍ تامٍّ؛ ترجَّح عندَه أحدُ القولَينِ، ولكن قد لا يثق بنظَرِه، والواجبُ على مثلِ هذا أن يتَّبعَ القولَ الذي ترجَّح عندَه من غيرِ دعوى منه للاجتهادِ؛ بل بمنزلةِ المجتهدِ في أعيانِ المفتينَ والأئمَّةِ، وإذا ترجَّح عندَه أن أحدَهما أعلمُ قلَّده، ولا شكَّ أن معرفةَ الحكمِ بدليلِه أيسَرُ وأسلمُ عن الجهلِ والهوى، فإذا جُوِّز للرجلِ أن يقلِّدَ الشخصَ فيما يقولُه لاعتقادِه أنه أعلمُ؛ فلأَنْ يُجوزَ له أن يقلِّدَ صاحبَ القولِ الذي تبيَّنَ له رُجْحانُ قولِه بالأدلةِ الشرعيةِ أَوْلى وأَحْرى.
وقد قال بعضُ أهلِ الكلامِ: يجبُ على كلِّ أحدٍ أن يجتهدَ في كلِّ مسألةٍ تنزلُ به، ولا يقلدَ أحدًا من الأئمَّةِ، وهذا قولٌ ضعيفٌ خطأٌ،
(1)
جاء قوله: (ونهى العلماءُ عن اتباعِ) إلى هنا في الأصل تصحيحًا دون الإشارة إلى موطنها، وقد جاءت في النسخ الخطية الأخرى بعد قوله:(ولا يلتزمَ مذهبًا بعينِه فيما يوجبُه ويحرمُه)، وكونها في هذا الموطن أقرب.
والأئمَّةُ على خلافِه، فإن أكثرَ آحادِ العامةِ يعجِزُ عن معرفةِ الاستدلالِ في كلِّ مسألةٍ يحتاجُ إلى معرفتِها؛ بل أكثرُ المشتغلينَ بالفقهِ يعجِزُ عن ذلك، وهؤلاءِ الأئمة المجتهدونَ المشهورونَ كان لهم من الاجتهادِ في معرفةِ الأحكامِ وإظهارِ الدينِ للأنام ما فضَّلَهم اللهُ به على غيرِهم.
ومن ظنَّ أنه يعرفُ الأحكامَ
من الكتابِ والسُّنَّةِ بدونِ معرفتِه بما قاله هؤلاءِ الأئمَّةُ وأمثالُهم؛ فهو غالطٌ مخطئٌ؛ فإن كان ولا بدَّ من معرفةِ الاجتماعِ والاختلافِ؛ فلا بدَّ من معرفةِ ما يستدلُّ به المخالفُون، وما استخرجوه من أدلةِ الكتابِ والسُّنَّةِ، وهذا ونحوُه لا يُعرَفُ إلا بمعرفةِ أقوالِ أئمة أهلِ الاجتهادِ، وأَعْلى هؤلاءِ الصحابةُ رضي الله عنهم، فمنَّ ظن أنه يأخذُ من الكتابِ والسُّنَّةِ بدونِ أن يقتديَ بالصحابةِ، ويتبعُ غيرَ سبيلِهم؛ فهو من أهلِ البِدَعِ والضلالِ.
ومن خالفَ ما أجمَع
عليه المؤمنونَ؛ فهو ضالٌّ، وفي تكفيرِه نزاعٌ وتفصيلٌ.
ومَن ادَّعى العصمةَ
في كلِّ ما يقولُه لأحدٍ بعدَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم؛ فهو ضالٌّ، وفي تكفيرِه نزاعٌ وتفصيلٌ.
ومن قلَّد من يسوغُ له تقليدُه
؛ فليس له أن يجعلَ قولَ متبوعِه هو أصحَّ من غيرِه
(1)
بالهوى بغيرِ هدًى من اللهِ، ولا يجعلَ متبوعَه مِحْنةً للناسِ، من وافَقَه والَاهُ، ومَن خالفَه عاداهُ، فإن هذا مما حرَّمه اللهُ ورسولُه باتِّفاقِ
(1)
في الأصل: غير. والمثبت من (ك) و (ع).
المؤمنينَ؛ بل يجبُ على المؤمنينَ أن يكونوا كما قال اللهُ تعالى: {يا أيها الذينَ آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المُنكَرِ وأولئكَ هم المفلحون ولا تكونوا كالذينَ تفرقوا واختلفوا من بعدَ ما جاءهم البينات وأولئكَ لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} ، قال ابنُ عبَّاسٍ:«تبيَضُّ وجوهُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وتسوَدُّ وجوهُ أهلِ البدعةِ والفرقةِ»
(1)
.
وفي جوازِ تقليدِ الميتِ
قولانِ في مذهَبِ أحمدَ وغيرِه.
فَصْلٌ
أولياءُ اللهِ هم المؤمنونَ المتقونَ
؛ كما قال: {ألا إن أولياء اللهِ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذينَ آمنوا وكانوا يتقون} ، وهم على درجتينِ:
أحدهما: درجةُ المقتصدينَ أصحابِ اليمينِ، وهم الذينَ يؤدونَ الواجباتِ، ويتركونَ المحرماتِ.
(1)
رواه ابن أبي حاتم في التفسير (3950)، والآجري في الشريعة (2074)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (74).
والثانيةُ: درجةُ السابقينَ المُقرَّبِينَ، وهم الذينَ يؤدونَ الفرائضَ والنوافلَ، ويتركونَ المحارمَ والمكارهَ، وإن كان لا بدَّ لكلِّ عبدٍ من توبةٍ واستغفارٍ يكملُ بذلك مقامُه.
فمن كان عالمًا بما أمَره اللهُ به وما نهاه عنه، عاملًا بموجَبِ ذلك؛ كان من أولياءِ اللهِ؛ سواءٌ كانت لِبْستُه في الظاهرِ لِبْسةَ العلماءِ، أو الفقراءِ، أو الجندِ، أو التجارِ الصُّنَّاعِ، أو الفلاحينَ؛ لكن إن كان معَ ذلك متقربًا إلى اللهِ بالنوافلِ كان من المُقرَّبِينَ، وإن كان معَ ذلك داعيًا لغيرِه إلى اللهِ، هاديًا للخلقِ؛ كان أفضلَ من غيرِه من أولياءِ اللهِ، كما قال:{يرفع الله الذينَ آمنوا منكم والذينَ أوتوا العلم درجات} ، قال ابنُ عبَّاسٍ:«للعُلماءِ درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة»
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«العلماءُ وَرَثةُ الأنبياءِ؛ إن الأنبياءَ لم يُورِّثوا دينارًا ولا دِرْهمًا، إنما ورَّثوا العلمَ، فمَن أخَذَ به فقد أخَذَ بحَظٍّ وافرٍ» ، وقال:«فضلُ العالِمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ» رواهما أهلُ السُّنَنِ
(2)
.
إذا تبيَّنَ ذلك؛ فمن كان جاهلًا بما أمَره به وما نهاه عنه؛ لم يكُنْ
(1)
لم نقف عليه مسندًا، وقد ذكره أبو طالب المكي في قوت القلوب (1/ 206)، والغزالي في إحياء علوم الدين (1/ 5).
وأسند ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (95)، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا:«فضل المؤمن العالم على المؤمن العابد سبعون درجة» .
(2)
رواه أحمد (21715)، وأبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وهما حديث واحد.
وليًّا للهِ، وإن كان فيه زهادةٌ وعبادةٌ لم يأمُرِ اللهُ بها ورسولُه، كالزهدِ والعبادةِ التي كانت في الخوارجِ والرُّهْبانِ ونحوِهم، كما أن مَن كان عالمًا بأمرِ اللهِ ونَهْيِه، ولم يكُنْ عاملًا بذلك؛ لم يكُنْ من أولياءِ اللهِ؛ بل قد يكونُ فاسقًا فاجرًا، كما قال صلى الله عليه وسلم: «مثلُ المؤمنِ الذي يقرأُ القرآنَ كالأُتْرُجَّةِ؛ طعمُها طيبٌ، وريحُها طيبٌ، ومثلُ المؤمنِ الذي لا يقرأُ القرآنَ مثلُ التَّمرةِ
(1)
؛ طعمُها طيبٌ، ولا ريحَ لها، ومثلُ المنافقِ الذي يقرأُ القرآنَ مثلُ الرَّيْحانةِ؛ ريحُها طيبٌ، وطعمُها مرٌّ، ومثلُ المنافقِ الذي لا يقرأُ القرآنَ مثلُ الحَنْظَلةِ؛ طعمُها مرٌّ، ولا ريحَ لها»
(2)
.
ويقالُ: (ما اتخذَ اللهُ وليًّا جاهلًا)؛ أي: جاهلًا بما أمَره الله ونهاه، فأما من عرَف ما أمَر اللهُ به، وما نهى عنه، وعمِل بذلك فهو وليٌّ للهِ، وإن لم يقرأِ القرآنَ كلَّه، وإن لم يُحسِنْ أن يُفتِيَ الناسَ ويقضيَ بينَهم.
فأما الذي يُرائي بعملِه الذي ليس بمشروعٍ، فهذا بمنزلةِ الفاسقِ الذي ينسبُ إلى العلمِ، ويكونُ علمُه من الكلامِ المخالفِ للكتابِ والسنةِ، فكلٌّ من هذينِ بعيدٌ عن ولايةِ اللهِ تعالى، بخلافِ العالمِ الفاجرِ الذي يقولُ ما يوافقُ الكتابَ والسُّنَّةَ، والعابدِ الجاهلِ الذي يقصِدُ بعبادتِه الخيرَ، فإن كلًّا من هذينِ مخالفٌ لأولياءِ اللهِ من وجهٍ دونَ وجهٍ، فقد يكونُ في الرجلِ بعضُ خصالِ أولياءِ اللهِ دونَ بعضٍ، وقد يكونُ فيما تركه معذورًا بخطأٍ أو نسيانٍ، وقد لا يكونُ معذورًا.
(1)
في الأصل: الثمرة. والمثبت من باقي النسخ الخطية، وهو الموافق لما في الأصول الحديثية.
(2)
رواه البخاري (7560)، ومسلم (797)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
ومَن قال: إن الأولياءَ أفضلُ من الأنبياء؛ فإنه كافر يستتاب، فإن العلم بأن الأنبياء أفضل من جميعِ الخلقِ؛ أظهرُ عندَ جميعِ المللِ من أن يُشَكَّ فيه؛ بل هو ضرورة، وأن الرُّسُلَ أفضلُ الأنبياءِ، وأن أولي العزمِ؛ كنوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى ومحمدٍ؛ أفضلُ من سائرِ المرسلين، وأن محمدًا سيِّدُ ولدِ آدَمَ، وليس هذا مما يحتاجُ أن يُثبَتَ بحديثٍ ولا أثرٍ، فقد رتَّب سُبْحانَه خلْقَه فقال:{فأولئكَ معَ الذينَ أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين} ، فرتَّبَهم على أربعِ طبقاتٍ.
وأجمَع المسلمونَ على أن مَن سبَّ نبيًّا؛ فقد كفَر، ومن سبَّ أحدًا من الأولياءِ الذينَ ليسوا بأنبياءَ؛ فإنه لا يكفُرُ إلا إذا كان سَبُّه مخالفًا لأصلٍ من أصولِ الإيمانِ؛ مثلُ: أن يتخذَ ذلك دينًا، وقد علم أنه ليس بدينٍ، وعلى هذا ينبني التَّنازعُ في تكفيرِ الرافضةِ.
وقد اتَّفقَ المسلمونَ على أنَّ
(1)
خيرَ الأممِ؛ أمةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وخيرَ الأمةِ؛ أصحابُ نبِيِّها، وأفضَلَهم السابقونَ الأولونَ، وأفضَلَهم أبو بكرٍ، ثم عمرُ، ثم عثمانُ، ثم عليٌّ.
ومن كان رسولًا فقد اجتمَعتْ فيه ثلاثةُ أصنافٍ: الرسالةُ، والنبوةُ، والولايةُ، ومَن كان نبِيًّا فقد اجتَمعَ فيه الصفتانِ، ومَن كان وليًّا فقط؛ لم يكُنْ فيه إلا صفةٌ واحدةٌ، ومَن كان لكتابِ اللهِ أتبعَ؛ فهو بولايتِه أحقُّ.
(1)
قوله: (أن) سقطت من الأصل، وهي مثبتة في (ك) و (ز).
وقد أجمَع المسلمونَ على أن موسى أفضلُ من الخَضِرِ، فمن قال: إن الخَضِرَ أفضلُ؛ فقد كفَر، وسواءٌ قيلَ: إن الخَضِرَ نبِيٌّ، أو ولِيٌّ، والجمهورُ على أنه ليس بنبِيٍّ؛ بل أنبياءُ بني إسرائيلَ الذينَ اتبعوا النور، وذكَرهم اللهُ؛ كداودَ وسليمانَ، أفضَلُ من الخَضِرِ؛ بل على قولِ الجمهورِ أنه ليس بنبِيٍّ، فأبو بكرٍ وعمرُ رضي الله عنهما أفضلُ منه، وكونُه يعلمُ مسائلَ لا يعلمُها موسى؛ لا يوجبُ أن يكونَ أفضلَ منه مطلقًا، كما أن الهدهدَ لما قال:{أحطت بما لم تحط به} ؛ لم يكُنْ أفضلَ من سليمانَ، وكما أن الذينَ كانوا يُلقِّحونَ النخلَ لَمَّا كانوا أعلمَ بالفلاحة من الأنبياء؛ لم يجبْ ذلك أن يكونوا أفضلَ من النبي، وقد قال لهم:«أنتم أعلمُ بأمورِ دُنْياكم، وأما ما كان من أمرِ دينِكم فإليَّ»
(1)
.
وأبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ كانوا يتعلمونَ ممن هو دونَهم عِلْمَ الدينِ الذي ليس هو عندَهم، وقال:«لم يَبْقَ بعدي من النبوةِ إلا الرؤيا الصالحةُ»
(2)
، ومعلومٌ أن ورثتَه
(3)
في العلمِ أفضلُ ممن حصَلتْ
(4)
الرؤيا الصالحةُ، وغايةُ الخَضِرِ أن يكونَ عندَه من الكشفِ ما هو جزءٌ من أجزاءِ النبوةِ، فكيفَ يكونُ أفضلَ من نبِيٍّ؟! فكيفَ بالرسولِ، فكيفَ بأولي العزمِ؟!
(1)
رواه مسلم (2362)، من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (6990)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه مسلم (479)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
في (ك) و (ز): ذريته.
(4)
هكذا في النسخ الخطية، وفي هامش (ع):(لعله: عنده).
فَصْلٌ
ومَن تعبَّدَ بالصمتِ
، أو بالقيامِ بالشمسِ، أو بالجلوسِ، أو العُرْيِ، ونحوِ ذلك؛ فهو ضالٌّ، يجبُ أن يُنكَرَ عليه.
وأما السلامُ على الشيخِ
عَقيبَ الأذانِ، أو كُسْوةُ قبرِه بالثيابِ؛ فقد اتَّفقَ الأئمَّةُ على أنه يُنكَرُ إذا فُعِل بقبورِ الأنبياءِ والصالحينَ، فكيفَ بقبرِ مجنونٍ أو ضالٍّ.
وكذلك مَن ترَك أكلَ الخبزِ أو شربَ الماءِ تزهُّدًا في الدنيا، وتقربًا إلى اللهِ؛ فهو جاهلٌ مبتدعٌ ضالٌّ عاصٍ للهِ ورسولِه، ناقصُ العقلِ، أو نصابٌ مخادعٌ، والغالبُ على مَن يفعلُ ذلك أن يكونَ كذابًا نصَّابًا يستحِقُّ هو ومَن يُعظِّمُه على ذلك العقوبةَ البليغةَ.
وقد اختلفَ الفقهاءُ في الصمتِ
؛ هل هو حرامٌ، أو مكروهٌ؟ والتحقيقُ: أنه إذا طال حتى يتضمَّنَ تركَ الكلامِ الواجبِ؛ صار حرامًا، كما قال الصدِّيقُ
(1)
.
(1)
رواه البخاري (3834)، أن أبا بكر رضي الله عنه دخل على امرأة من أحمس، فرآها لا تكلم، فقال:«ما لها لا تكلم؟» قالوا: حجت مصمتة، قال لها:«تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية» .
وينظر أصل الفتوى من قوله: (وقد اختلف الفقهاء في الصمت
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 25/ 291، والفتاوى الكبرى 2/ 479.
فَصْلٌ
والتوبةُ النَّصوحُ
؛ فقد قال عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه وغيرُه من السَّلَفِ: «هي أن يتوبَ ثم لا يعودَ»
(1)
، ومن تاب، ثم عاد؛ فعليه أن يتوبَ مرةً ثانيةً، ثم إن عاد فعليه أن يتوبَ، وكذلك كلما أذنَبَ، ولا ييأسُ من رَوْحِ اللهِ
(2)
.
وإن لم تكُنِ التوبةُ الأولى نَصوحًا
؛ فإذا عاد إلى التوبةِ مرةً بعدَ مرةٍ؛ مَنَّ عليه في آخِرِ الأمرِ بتوبةٍ نَصوحٍ.
والتائبُ إذا كانت نيتُه خالصةً محضةً لم يشُبْها قصدٌ آخَرُ؛ فإنه لا يعودُ إلى الذنبِ، فإنه إنما يعودُ لبقايا غشٍّ كانت في نفْسِه، وقد قيلَ: إنه قد يعودُ مَن تاب توبةً نَصوحًا.
وقد يُقالُ: الأولُ أرجحُ، فإن الإيمانَ إذا خالطتْ بَشاشتُه القلوبَ؛ لم يسخَطْه أحد، والقلبُ إذا باشر حقيقةَ الإيمانِ لم يترُكْه، وهذا أصلٌ قد تنازَعَ فيه الناسُ، وهو أن مَن خُتِم له بسوءٍ: هل يُقالُ: إنه كان في أصلِ عملِه غِشٌّ عاد إليه، أو كان عملُه الأولُ خالصًا لا غشَّ فيه؟ على قولَينِ، والتوبةُ من هذا النوع.
(1)
رواه عبد الرزاق في التفسير (3256)، وابن جرير في التفسير (23/ 106)، وهناد في الزهد (2/ 453)، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (والتوبةُ النَّصوحُ
…
) إلى هنا في مجموع الفتاوى 11/ 699.
والاستقراءُ يدلُّ على أنه إذا خلَص الإيمانُ إلى القلبِ لم يرجِعْ عنه؛ ولكن قد يحصلُ له اضطرابٌ، ويُلقي الشيطانُ في قلبِه وساوسَ وخَطَراتٍ، ويُوجِدُ فيه هَمٌّ، وأمثالُ ذلك، كما شكا أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: «إن أحدَنا ليَجِدُ في نفْسِه ما لأَنْ يحترِقَ حتى يصيرَ حُمَمةً
(1)
، أو يخرَّ من السماءِ، أحبُّ إليه من أن يتكلمَ به»، فقال:«أوقَدْ وجدتُّموه؟» فقالوا: «نعم» ، فقال:«ذلك صَريحُ الإيمانِ» ، وقال:«الحمدُ للهِ الذي ردَّ كيدَه إلى الوسوسةِ» ، والحديثُ في «مسلمٍ»
(2)
.
فكراهةُ هذه الوساوسِ هي صريحُ الإيمانِ، والتائبُ يجد في نفْسِه من الهمِّ والوساوسِ والميلِ معَ كراهتِه لذلك ونفور قلبِه ما لا يُخرِجُه ذلك عن كونِه توبةً نَصوحًا، قال الإمامُ أحمدُ:(الهَمُّ همانِ: همُّ خَطَراتٍ، وهمُّ إصرارٍ)
(3)
، وكان همُّ يوسفَ همَّ خَطَراتٍ، فترَك ما همَّ به لله، فكتبَ اللهُ له حسنةً، ولم يكتبْ عليه سيئةً، وكان همُّ المرأة همَّ إصرارٍ، فكذَبَت، وراودَتْ، وظلمَتْ؛ لأجلِ مرادِها.
وقد تنازَعَ الناسُ في العزمِ:
هل يُؤاخَذُ به بدونِ العملِ؟ على قولَينِ، والصوابُ: أن العزمَ الجازمَ متى اقترَنَ به القدرةُ؛ فلا بدَّ من وجودِ العملِ، فإذا كان العازمُ قادرًا، ولم يفعلْ ما عزَم عليه؛ فليس
(1)
قال في لسان العرب 12/ 157: (والحمم: الفحم، واحدته: حُمَمة).
(2)
رواه مسلم (132)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
من مسائل الحسن بن علي الإسكافي عن أحمد. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 137.
عزمُه جازمًا، فيكونُ من بابِ الهمِّ الذي لا يُؤاخَذُ به، ولهذا مَن عزَم على معصيةٍ فعَل مقدماتِها، ولو أنه خطوةٌ برجلِه، أو نظرةٌ بعينِه، فإذا عجَز عن إتمامِ مقصودِه بها؛ يُعاقَبُ؛ لأنه فعل ما قدَر عليه.
فَصْلٌ
ولم يكُنْ من عادة الصحابةِ
أن يقوموا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لما يكرهه، ولا بعضُهم لبعضٍ، بل رُوِي أنه كان يقومُ لمن قدِم من مَغيبِه، فالقيامُ لمثلِ القادمِ مِن السفَرٍ لا بأسَ به، فقد رخَّص في القيامِ للإمامِ العادلِ، والوالدِ، ونحوِ ذلك، ورُوِي أنه قام لعِكْرِمةَ بنِ أبي جهلٍ، وجعفرِ بنِ أبي طالبٍ، لَمَّا قدِما
(1)
، وقال للأنصارِ:«قوموا إلى سيِّدِكم» ؛ يعني: سعدَ بنَ معاذٍ
(2)
، ولهذا فرقوا بينَ القيامِ إليه لتلَقِّيه - كما قال كعب:«لم يقُمْ إليَّ أحدٌ من الأنصارِ إلا طلحةَ»
(3)
- وبينَ القيامِ له، وهو أن يكونَ قاعدًا وهم قيامٌ، فهذا لا يجوزُ.
والذي ينبغي للناسِ أن يعتادوا السُّنَّةَ في تركِ القيامِ المتكررِ للقاءِ،
(1)
أما قيامه لعكرمة رضي الله عنه: فرواه الحاكم في المستدرك (5055)، من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
وأما قيامه لجعفر رضي الله عنه: فرواه أبو يعلى في مسنده (1876)، والآجري في الشريعة (1715)، والمخلص (1180)، من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (3043)، ومسلم (1768)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (4418)، ومسلم (2769)، في قصة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه.
ولكن إذا اعتاد الناسُ القيامَ، وقدِم مَن لا يرى كرامتَه إلا بالقيامِ له، وإذا تُرِك ذلك توَهَّمَ نقصَه، وتولَّدَ من ذلك عداوةٌ وشرٌّ؛ فالقيامُ له على هذا الوجهِ لا بأسَ به، وإنما الأعمالُ بالنياتِ.
وأما تقبيلُ اليدِ
؛ فلم يكونوا يعتادونَه إلا قليلًا، ولما قدِموا عليه عامَ مؤتةَ قبَّلوا يدَه، وقالوا: نحن الفَرَّارُونَ، قال:«بل أنتم العَكَّارونَ»
(1)
، وقبَّل أبو عُبَيدةَ يدَ عمرَ
(2)
، وأرخص أكثرُ الفقهاءِ - أحمدُ وغيرُه - لمن فعَل ذلك على وجهِ التديُّنِ، لا على وجهِ التعظيمِ للدنيا، وكرِه ذلك آخرونَ؛ كمالكٍ وغيرِه، وقال سليمانُ بنُ حربٍ:(هي السجدةُ الصغرى).
وأما ابتداءُ مدِّ اليدِ للناسِ ليُقبِّلوها، وقصْدُه لذلك؛ فيُنهَى عن ذلك بلا نزاعٍ؛ كائن من كان، بخلافِ ما إذا كان المُقبِّلُ هو المبتدئَ بذلك، وفي «السننِ» قالوا: يا رسولَ اللهِ، الرجل يلتقي أخاه، أيَنْحني له؟ قال:«لا» ، قالوا: فيلتزِمُه ويعانِقُه؟ قال: «لا» ، قالوا: فيصافِحُه؟ قال: «نعم»
(3)
.
(1)
رواه أحمد (5384)، وأبو داود (2647)، والترمذي (1716)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
العكارون: أي: الكرارون إلى الحرب، والعطافون نحوها. ينظر: النهاية 3/ 283.
(2)
رواه ابن وهب في الجامع (173) والبيهقي في الكبرى (13585).
(3)
رواه أحمد (13044)، والترمذي (2728)، وابن ماجه (3702)، من حديث أنس رضي الله عنه.
ونَهْيُه لأبي ذرٍّ عن الحُكمِ
وتولِّي مالِ اليتيمِ لما رآه ضعيفًا
(1)
، لا أنه نهاه مطلقًا.
وأما سؤالُ الولايةِ؛ فقد ذمَّه
(2)
، وأما سؤالُ يوسفَ، وقولُه:{اجعلني على خزائن الأرض} ؛ فلأنَّه كان طريقًا إلى أن يدعوَهم إلى اللهِ، ويعدلَ بينَ الناسِ، ويفعلَ من الخيرِ ما لم يفعلوه، معَ أنهم لم يكونوا يعرفونه ويعرفونَ حالَه، وقد عَلِم بتعبيرِ الرؤيا ما يؤولُ إليه حالُ الناسِ، فهذه الأحوالُ ونحوُها ما يُوجِبُ الفرقَ بينَ مثلِ هذه الحالِ وبينَ ما نُهي عنه.
وأيضًا: فليسَتْ هذه إمارةً تخصه، إنما هي أمانةٌ، وقد يُقالُ: هذا شرعُ مَن قبلَنا.
وقد تنازَعَ العلماءُ في سؤالِ الإنسانِ القضاءَ ونحوَه، فقال أكثرُهم: يُكرَهُ وإن كان صالحًا له، وهو مذهَبُ مالكٍ وأحمدَ وغيرِهما، وقال بعضُهم: ينبغي أن يسألَ إذا كان متعيِّنًا له، وربما قيلَ: إذا كانت ولايتُه أفضلَ له، وأما الإمامُ فينبغي ألا يُولِّيَ مَن سأل إذا أمكنَه أن يُولِّيَ المستحِقَّ بغيرِ سؤالٍ.
(1)
رواه مسلم (1826).
(2)
رواه البخاري (6622)، ومسلم (1652)، من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه.
فَصْلٌ
أما عِشيْرةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم
الأقربون التي قال الله تعالى فيها: {وأنذر عشيرتك الأقربين} ، فقيلَ: إنها قريشٌ كلُّها؛ لأنه لما نزَلَتْ هذه الآيةُ عمَّ قريشًا بالنِّذارةِ، وخصَّ الأقربَ إليه فالأقربَ.
وأما اسمُ الشَّرَفِ
؛ فليس هو من الأسماءِ التي علَّق الشارعُ بها حكمًا حتى يكونَ حدُّه مُتَلَقًّى من جهةِ الشارعِ.
وأما الشريفُ في اللغةِ: فهو خلافُ الوضيعِ والضعيفِ، كما قال:«إنَّما هلَكَ مَن كان قبلَكم إذا سرَق فيهم الشريفُ ترَكوه، وإذا سرَق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ»
(1)
.
ومَن رَأَسَ الناسَ وشرَّفوه؛ كان شريفَهم، فالشريفُ
(2)
هو الرائس والسلطانُ؛ لكن لما كان أهلُ البيتِ أحقَّ أهلِ البيوتِ بالتشريفِ؛ صار من كان من أهلِ البيتِ يُسمَّى «قرشيًّا» ، فأهلُ العراقِ كانوا لا يسمون شريفًا إلا من كان من بني العباسِ، وكثيرٌ من أهلِ الشامِ وغيرِهم لا يسمونَ شريفًا إلا من كان عَلَوِيًّا.
وأما الأحكامُ الشرعية التي عُلِّقت بأهل البيت؛ فهي مذكورةٌ باسمِ آل النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وباسمِ أهلِ بيتِه، وذوي القُرْبَى، وهذه الأسماءُ الثلاثةُ
(1)
رواه البخاري (3475)، ومسلم (1688)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
في (الأصل) و (ك): فالشرف.
تتناولُ جميعَ بني هاشمٍ، لا فرقَ بينَ ولدِ العباسِ وولدِ أبي طالبٍ وغيرِهم.
وأعمامُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي تعينت ذريتُهم: العباسُ، وأبو طالبٍ، والحارثُ بنُ عبدِ المطلبِ، وأبو لهبٍ، فمن كان من ذريةِ الثلاثةِ الأول حرُمتْ عليهم الزكاةُ، واستحقوا من الخُمُسِ باتِّفاقٍ، وأما ذريةُ أبي لهبٍ ففيه خلافٌ بينَ الفقهاءِ؛ لكونِ أبي لهبٍ خرَج عن بني هاشمٍ لَمَّا نصروا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ومنَعوه ممن كان يريدُ أذاه من قريشٍ، ودخل معَ بني هاشمٍ بنو المطلبِ - رهطُ الشافعي -، ولهذا لما جاء عثمانُ بنُ عفانَ وجُبَيرُ بنُ مُطعِمٍ إلى النبيِّ حينَ أعطى من خُمُسِ خيبرَ لبني هاشمٍ وبني المطلبٍ، فقالا: يا رسولَ اللهِ، أما إخواننا بنو هاشمٍ فلا نُنكِرُ فضلَهم؛ لما بك منهم، وأما بنو المطلبِ فإنما هم ونحن منكَ بمنزلةٍ واحدةٍ، فقال:«إنهم لم يُفارِقونا في جاهليةٍ ولا إسلامٍ، إنَّما بنو هاشمٍ وبنو المُطَّلِبِ شيءٌ واحدٌ»
(1)
.
وأفضلُ الخلقِ النبيونَ، ثم الصدِّيقونَ، ثم الشهداءُ، ثم الصالحونَ، وأفضلُ كلِّ صنفٍ أتقاهم، كما قال:«لا فضلَ لعربيٍّ على عَجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عربيٍّ، ولا أبيضَ على أسودَ، ولا أسودَ على أبيضَ؛ إلا بالتقوى»
(2)
، هذا في الأصنافِ العامةِ.
(1)
رواه أبو داود (2978)، والنسائي (4137)، وابن ماجه (2881)، من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه. وأصله في البخاري (3502).
(2)
رواه أحمد (23489)، من طريق أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق.
وأفضلُ الخَلْق في الطبقاتِ؛ القَرْنُ الذينَ بُعِث فيهم رسولُ اللهِ، ثم الذينَ يلونَهم، ثم الذينَ يلونَهم.
وأما في الأشخاصِ؛ فأفضلُهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ثم إبراهيمُ.
فتبيَّنَ أن الشرفَ ليس لبني هاشمٍ خاصةً؛ بل يتنوعُ بتنوُّعِ عرفِ المخاطَبِينَ ومقاصدِهم.
وأما المسمَّى بهذا اللفظِ، فيقالُ: من الأحكامِ ما تَشتركُ فيه قريشٌ كلُّها؛ نحوُ الإمامةِ الكبرى، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«الإمامةُ في قريشٍ؛ ما بقِيَ من الناسِ اثنانِ»
(1)
، وقال:«الناسُ تَبَعٌ لقريشٍ في هذا الأمرِ»
(2)
.
وكذلك لقريشٍ مَزِيَّةٌ، كما قال:«إن اللهَ اصطفى بني إسماعيلَ، واصطفى كِنانةَ من بني إسماعيلَ، واصطفى قريشًا من كِنانةَ، واصطفى بني هاشمٍ من قريشٍ، واصطفاني من بني هاشمٍ»
(3)
.
ومن الأحكامِ ما يختصُّ ببني هاشمٍ، أو بني هاشمٍ معَ بني المطلبِ دونَ سائرِ قريشٍ؛ كالاستحقاقِ من خُمُسِ الغنائمِ، وتحريمِ الصدقةِ، ودخولِهم في الصَّلاة إذا صُلِّي على آل محمدٍ، وثبوتِ المَزِيَّةِ على غيرِهم.
ومَن كانت أمُّه قرشيةً دونَ أبيه؛ لم يستحقَّ الإمامةَ التي اختُصَّتْ بها قريشٌ.
(1)
رواه البخاري (3501)، ومسلم (1820)، بنحوه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه البخاري (3495)، ومسلم (1818)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه مسلم (2276)، من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.
ومَن أمُّه هاشميةٌ فاطميةٌ أو غيرُ فاطميةٍ، وأبوه ليس بهاشميٍّ ولا مطلبيٍّ؛ فلا يستحقُّ من الخُمُسِ كما يستحقُّ بنو هاشمٍ، وإن كان ينتسبُ إليهم نسبًا مطلقًا؛ فله نوعُ امتيازٍ؛ لكونِ أمِّه منهم.
وأما أولادُ العشيرةِ؛ فلهم من الاختصاصِ نظيريه
(1)
من النسبِ؛ لكونِ أجدادِهم أفضلَ من غيرِهم.
وبكلِّ حالٍ؛ فهذه الخصائصُ لا تُوجِبُ أن يكونَ الرجلُ بنفْسِه أفضلَ من غيرِه لأجلِ نسَبِه المجردِ؛ بل التفاضلُ عندَ اللهِ بالتقوى؛ كما قال: «إن آلَ بني فلانٍ ليسوا لي
(2)
بأولياءَ، إنما ولِّيِيَ اللهُ وصالِحُ المؤمنينَ»
(3)
، فمن كان في الإيمانِ والتقوى أفضلَ؛ كان عندَ اللهِ أفضلَ ممن هو دونَه في ذلك، وأَوْلاهم برسولِ اللهِ، وإن كان غيرُه أقربَ نسبًا منه، إذ الولايةُ الإيمانيةُ الدينيةُ هي أعظمُ من القرابةِ النَّسَبيةِ، واللهُ أعلمُ.
فَصْلٌ
وإذا طلبا حاكمَينِ؛ أُجِيب
مَن طلَبَ الذي له الولايةُ على محلِ النِّزاعِ، إذا كان الحاكمانِ عَادلَينِ، فإن كان لهما الولايةُ معًا؛ أُجِيبَ مع
(4)
طلَبٍ الحاكمُ الأقربُ، وإما يقرعُ بينَهما، أو يجابُ المدعي، هذا
(1)
قوله (نظيريه) في (ك): نظريه.
(2)
قوله: (لي) سقطت من الأصل. والمثبت من (ك).
(3)
رواه البخاري (5590)، ومسلم (215)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(4)
في (ك) و (ع): من.
القولُ الثالثُ أفتى به طائفةٌ في زمانِنا، والأولانِ متقدمانِ
(1)
، فهذه مسألةُ نزاعٍ.
ولا يمضي حكمُ العدوِّ
على عدُوِّه، كما لا تُقبَلُ شهادتُه عليه؛ بل يترافعانِ إلى حاكمٍ آخَرَ.
فَصْلٌ
(2)
ولفظُ الصُّوفِيَّةِ لم يكُنْ مشهورًا
في القرونِ الثلاثةِ، وإنما اشتُهِر بعدَ ذلك، نُقِل التكلمُ به عن أحمدَ، وأبي سليمان الدارانيِّ، وغيرِهما، وعن سفيانَ الثوريِّ، وذُكِر عن الحسنِ البصريِّ.
وتنازَعوا في المعنى الذي أُضِيف إليه ذلك:
فقيلَ: نسبةً إلى أهلِ الصُّفَّةِ؛ وهو غلَطٌ؛ لأنه كان يُقال: صُفِّيٌّ.
وقيلَ: نسبةً إلى الصفِّ المقدَّمِ بينَ يدي اللهِ؛ وهو غلَطٌ أيضًا؛ لأنه كان يقال: صَفِّيٌّ.
وقيلَ: نسبةً إلى الصفا؛ وهو غلَطٌ؛ لأنه كان يقال: صفائيٌّ.
وقيلَ: نسبةً إلى الصفوةِ من خلقِ اللهِ؛ وهو غلَطٌ؛ لأنه كان يقال: صَفَويٌّ.
(1)
في (ك): المتقدمان، وفي (ع): مقدَّمان.
(2)
ينظر أصل الفتوى في: مجموع الفتاوى 11/ 5.
وقيلَ: نسبةً إلى صوفةَ بنِ مُرِّ ابنِ أَدِّ ابنِ طابخةَ، قبيلٌ
(1)
من العربِ كانوا يجاورونَ بمكةَ في الزمنِ القديمِ، ينتسبُ إليهم النُّسَّاكُ، وهذا وإن كان موافقًا
(2)
لكنَّه ضعيفٌ؛ لأنهم
(3)
غيرُ مشهورينَ، ولم يعرِفْه الصحابةُ والتابعونَ وتابعوهم.
وقيلَ: إنه نسبةٌ إلى لُبْسِ الصوفِ، وهو المعروفُ، فإنه أولُ ما ظهرت الصوفيةُ من البصرةِ، وأولُ مَن ابتَنَى دُوَيرةَ الصوفيةِ؛ بعضُ أصحابِ عبدِ الواحدِ بنِ زيدٍ، وعبدُ الواحدِ من أصحابِ الحسنِ، وكان في أهلِ البصرةِ من المبالغةِ في الزهادةِ والعبادةِ ما لم يكُنْ في سائرِ الأمصارِ، قال ابنُ سِيرينَ:(هديُ نبِيِّنا أحبُّ إلينا، وكان نبينا يلبَسُ القطنَ وغيرَه)، قال ذلك لما قيلَ له: إن قومًا يلبَسونَ الصوفَ تشبُّهًا بالمسيحِ
(4)
.
وأما سماعُ القرآنِ والموتُ عندَه
، والغشيُ، ونحوُه، كما نُقِل عن زُرارةَ بنِ أَوْفَى قاضي البصرةِ أنه سمع قارئًا يقرأُ:{فإذا نقر في الناقور} ، فمات
(5)
، وكذا جرى لأبي جهيرٍ
(6)
؛ فأنكَر ذلك طائفةٌ من
(1)
في (الأصل): قبيل. والمثبت من (ك) و (ع) ومجموع الفتاوى.
(2)
أي: موافقًا للنسب من جهة اللفظ. كما في أصل الفتوى.
(3)
في (الأصل): أنَّهم. والمثبت من (ك) و (ز).
(4)
رواه أبو الشيخ الأصبهاني في أخلاق النبي (2/ 234).
(5)
رواه أحمد في الزهد (1382)، والترمذي في سننه (2/ 306).
(6)
رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق بإسناده (56/ 146)، وأورده ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 197).
الصحابةِ والتابعِينَ، وظن ذلك تكلفًا وتصنعًا، كما قال ابنُ سِيرِينَ:«بيْنَنا وبينَ الذينَ يُصعقونَ عندَ سَماعِ القرآنِ؛ أن يقرأَ واحدٌ منهم على رأسِ حائطٍ، فإن خرَّ فهو صادقٌ»
(1)
، ومنهم من أنكَرَه؛ لأنه رآه بدعةً مخالفاً لما عُرِف من هديِ الصحابةِ.
والذي عليه الجمهورُ: أنَّ الواحدَ من هؤلاءِ إذا كان مغلوبًا؛ لم يُنكَرْ عليه، وإن كان حالُ الثابتِ أكملَ منه، ولهذا لما سُئِلَ الإمام أحمدُ عن هذا؟ فقال: قُرِئ القرآنُ على يحيى بنِ سعيدٍ فغُشِي عليه، ولو قدر أحد أن يدفعَ عن نفْسِه لدفَعَه يحيى، فما رأيتُ أعقلَ منه، ونُقِل عن الشافعيِّ أنه أصابَه ذلك، وعليِّ بن الفُضَيلِ بنِ عياضٍ.
وبالجملةِ؛ فهذا كثيرٌ ممن لا يُسترابُ في صدقِه؛ لكن أحوالَ الصحابةِ هي التي ذُكِرت في القرآنِ من وجَلِ القلوبِ، ودموعِ العيونِ، واقشعرارِ الجلودِ، وقد يُنكِرُ أحوالَ هؤلاءِ مَن فيه قسوةٌ، وقد يغلو فيهم من يظنُّ أن حالَهم أكملُ الأحوالِ، وكلٌّ من الطرفينِ مذمومٌ؛ بل المراتبُ ثلاثةٌ:
ظالمٌ لنفْسِه، الذي هو قاسِي القلبِ، لا يلينُ للقرآنِ، ولا للذكرِ؛ ففيه شبَهٌ من اليهودِ؛ لقولِه: {ثم قست قلوبهم من بعد ذلك
…
} الآيةَ.
والثاني: حالُ المؤمن التقي الذي فيه ضعفٌ عن حملِ ما يرِدُ على
(1)
رواه أبو نعيم في الحلية (2/ 265).
قلبِه، فهذا يَصعَقُ صعقَ موتٍ أو غَشْيٍ؛ لقوةِ الواردِ، وقد يحصلُ هذا لمن يفرحُ أو يحزنُ أو يخافُ أو يحبُّ، ففي أهلِ عشقِ الصُّوَرِ مَن أمرَضَه العشقُ أو قتَلَه أو جنَّنَه، وكذلك في غيرِهم.
فالحاصلُ؛ أنه إذا لم يكُنْ ثَمَّ تفريطٌ ولا عُدوانٌ، ولا ذنبَ له فيما أصابه، وحصَل له ضعفٌ؛ فليس بملومٍ، كمن سمع القرآنَ سَماعًا شرعيًّا، ولم يُفرِّطْ بتركِ ما يوجب له ذلك، وكذلك ما يرِدُ على القلوبِ مما يُسمُّونَه السكرَ والفناءَ، ونحوَه من الأمورِ التي تُغيِّبُ العقلَ، فإنه إذا كان السببُ محظورًا؛ لم يكُنِ السَّكْرانُ معذورًا، فإن السُّكْرَ لذةٌ بلا تمييزٍ، فإذا حصَل بمحرَّمٍ كالخمرِ والحشيشةِ؛ حرم بلا نزاعٍ، وقد يحصُلُ بسببِ محبةِ الصُّوَرِ كما قيل
(1)
:
سُكْرَانِ سُكْرُ هوًى وسُكْرُ مُدامَةٍ
…
ومتَى إفاقةُ مَن به سُكْرانِ
وهذا مذمومٌ؛ لأن سببَه محظورٌ، وقد يحصلُ بسببِ سماعِ الأصواتِ المطربةِ، وهذا أيضًا مذمومٌ؛ فإنه ليس للرجلِ أن يسمعَ من الأصواتِ التي لم يُؤمَرْ بسَماعِها ما يزيلُ عقلَه؛ إذ إزالةُ العقلِ محرمةٌ، فمتى أفضى إليه سبب غير شرعيٍّ كان محرمًا، وما يحصُلُ في ضمن ذلك من لذةٍ قلبيةٍ أو روحيةٍ، ولو بأمورٍ فيها نوعٌ من الإيمانِ؛ فهي مغمورةٌ بما يحصُلُ معها من زوالِ العقلِ، ولم يأذَنِ اللهُ لنا أن نمتِّعَ قلوبَنا بما يكونُ سببًا لزوالِ عقولِنا، بخلافِ مَن زال عقلُه بسببٍ
(1)
البيت لـ: ديك الجن الحمصي؛ عبد السلام بن رغبان، المتوفى (236 هـ)، والبيت في ديوانه (ص 292).
مشروعٍ، أو بأمرٍ صادَفَه لا حيلةَ له فيه.
وقد يحصلُ السُّكْرُ بسببٍ لم يفعَلْه العبدُ؛ كسماعٍ لم يقصِدْه، يهيِّج باطنَه ويحرِّك ساكنَه؛ فهذا لا يلامُ عليه، وما صدر في حالِ زوالِ عقلِه فهو فيه معذورٌ؛ لأن القلمَ رُفِع عنه؛ كالمغمى عليه والمجنونِ.
أما من زالَ عقله بمحرَّمٍ كالخمرِ، فهل هو مُكلَّفٌ حالَ زوالِ عقلِه؟ فيه قولانِ مشهورانِ، وفي طلاقِه نزاعٌ.
ومَن زال عقلُه بالبنجِ، فقيلَ: يلحقُ به، وقيلَ: لا؛ لأن هذا لا يُشتهَى، بخلافِ الخمرِ، ولهذا وجبَ الحدُّ في هذا دونَ هذا.
ومن هؤلاءِ من يغلبُ عليه الواردُ حتى يصيرَ مجنونًا، إما بخلطٍ أو غيرِه، ومن هؤلاءِ: عقلاءُ المجانينَ الذينَ يُعدُّونَ في النُّسَّاكِ، ويُسمَّونَ: المُولَهِينَ.
ففصلُ الخطابِ: أن هذه الأحوالَ إذا كانت أسبابُها مشروعةً، وصاحبُها صادقًا عاجزًا عن دفعِها؛ كان محمودًا على ما فعَلَه من الخيرِ، معذورًا فيما عجَز عنه وأصابه بغيرِ اختيارِه، وهم أكملُ ممن لم يبلُغْ منزلتَهم؛ لنقصِ إيمانِه وقساوةِ قلبِه.
ومَن لم يَزُلْ عقلُه معَ كونِه قد حصل له مِن الإيمانِ ما حصَل لهم، وأكملُ؛ فهو أفضلُ منهم
(1)
، وهذه حالُ الصحابةِ رضي الله عنهم، وحالُ نبِيِّنا صلى الله عليه وسلم، فإنه أُسرِي به، ورأى ما رأى، وأصبح ثابتَ العقلِ لم يتغيرْ،
(1)
وهذه المرتبة الثالثة.
فحالُه أكملُ من حالِ موسى الذي خَرَّ صَعِقًا لما تجَلَّى ربُّه للجبلِ، وحالُ موسى حال جليلةٌ فاضلةٌ عَلِيَّةٌ؛ لكن حالَ محمدٍ أفضلُ وأكملُ وأعلى صلى الله عليهما وسلم، فخيرُ الكلامِ كلامُ اللهِ، وخيرُ الهديِ هديُ محمدٍ، وأفضلُ الطرقِ ما كان عليه هو وأصحابُه.
فالصوفيُّ منسوبٌ إلى اللِّبْسةِ؛ لأنها ظاهرُ حالِهم.
ثم إن عندَهم حقائقَ وأحوالَ معروفةً، يشيرونَ بها إلى الصوفيِّ، كقولِ بعضِهم:«الصوفيُّ مَن صفا مِن الكَدَر، وامتلأ قلبُه مِن الفِكَر، واستوى عندَه الذهبُ والحَجَر» ، «التصوفُ كتمانُ السرِّ، وتركُ الدعاوي» ؛ وهم يشيرونَ إلى معنى الصدِّيقِ.
وقد انتسبَ إليهم طوائفُ من الزَّنادقةِ وغيرِهم؛ كالحَلَّاجِ مثلًا، فإن أكثرَ المشايخِ مشايخِ الطريقِ أنكروه، وأخرجوه عن الطريقِ؛ مثلُ: الجُنَيدِ بنِ محمدٍ سيد الطائفةِ وغيرِه؛ كما ذكر ذلك أبو عبدِ الرحمنِ السُّلميُّ في «طبقاتِ الصوفيةِ»
(1)
، والحافظُ أبو بكرٍ الخطيبُ في «تاريخِ بغدادَ»
(2)
.
وقد تنازَعَ الناسُ في طريقِهم، فطائفةٌ ذمَّت الصوفيةَ والتصوفَ، وقالوا: إنهم مبتدعونَ خارجونَ عن السُّنَّةِ.
(1)
(ص 236)، وقال:(والمشايخ في أمره مختلفون، ردَّه أكثر المشايخ ونفوه وأبوا أن يكون له قدم في التصوف).
(2)
(8/ 688)، وقال:(والصوفية مختلفون فيه، فأكثرهم نفى الحلاج أن يكون منهم، وأبى أن يعده فيهم).
وطائفةٌ غلَتْ؛ فجعلت طريقَهم أفضلَ الطرقِ.
والصوابُ: أنهم مجتهدونَ في طاعةِ اللهِ، ففيهم المذنبُ والمتَّقي.
وقد صارت الصوفيةُ ثلاثَ طَبَقاتٍ: صوفيةُ الحقائقِ، وصوفيةُ الأرزاقِ، وصوفيةُ الرسومِ.
فأما صوفيةُ الحقائقِ؛ فهم الذينَ وصَفْناهم.
وأما صوفيةُ الأرزاقِ؛ فهم الذينَ وُقِفت عليهم الخوانقُ والوقوفُ، فلا يُشترَطُ في هؤلاءِ أن يكونوا من أهلِ الحقائقِ.
وصوفيةُ الرسومِ؛ فهم المقتصرونَ على التشبُّهِ بهم في اللباسِ والآدابِ الوضعيةِ، فهم بمنزلةِ الذي يقتصرُ على زيِّ أهلِ العلمِ.
وأما اسمُ الفقراءِ فهو في القرآنِ
، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«فقراءُ أمتي يدخلونَ الجنةَ قبلَ الأغنياءِ بنصفِ يومٍ»
(1)
، والفقراءُ أنواعٌ.
وقد تنازَعَ الناسُ؛ أيُّما أفضلُ: الفقيرُ الصابرُ، أو الغنيُّ الشاكرُ؟ والصحيحُ: أن أفضلَهما أتقاهما، فإن استويا في التقوى استويا في الدرجةِ، فإن الفقراءَ يسبقونَ الأغنياءَ إلى الجنةِ لخفةِ الحسابِ، ثم إذا دخَل الأغنياءُ، فكلُّ واحدٍ يكونُ في منزلتِه على قدرِ حسناتِه وأعمالِه.
(1)
رواه أحمد (10730)، والترمذي (2354)، وابن ماجه (4122)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فَصْلٌ
القَدَريَّةُ من المعتزلةِ وغيرِهم
الذينَ لا يُقِرُّونَ بأن اللهَ خالقُ كلِّ شيءٍ، ولا بأنه ما شاءَ كان، وما لم يشَأْ لم يكُنْ، فإذا أُطلِق عليهم أنهم خارجونَ عن التوحيدِ، بمعنى أنهم كذَّبوا بالقدرِ؛ فهذا فيه نزاعٌ، حتى في مذهَبِ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، ومسألةُ التكفيرِ بإنكارِ بعضِ الصفاتِ أو إثباته؛ قد كثُر فيها الاضطرابُ.
وتحقيقُ الأمرِ فيها: أن الشخصَ المُعيَّنَ الذي ثبَتَ إيمانُه؛ لا يُحكَمُ بكفرِه إن لم تُقَمْ عليه حجةٌ يَكفُرُ بمخالفتِها، وإن كان القولُ الذي قاله كفرًا في نفسِ الأمرِ؛ بحيثُ يَكفُرُ بجحودِه مَن عَلِم أن الرسولَ قاله.
فقد أنكَرَ طائفةٌ من السَّلَفِ بعضَ حروف القرآنِ؛ لعدمِ علمِهم أنها منه، فلم يُكفَّروا، وعلى هذا حمَل المحققونَ حديثَ الذي قال لأهلِه:«إذا أنا مِتُّ فأَحرِقوني»
(1)
، فإنه كان جاهلًا بقدرةِ اللهِ إذا فَعَل ذلك، وليس كلُّ مَن جهِل بعضَ ما أخبَرَ به الرسولُ يَكفُرُ، ولهذا قال السَّلَفُ:(مَن قال: القرآنُ مخلوقٌ فهو كافرٌ)، (ومن قال: إن اللهَ لا يُرَى في الآخرةِ فهو كافرٌ)، ولا يُكفِّرونَ المُعيَّنَ الذي يقولُ ذلك؛ لأن ثبوتَ حكمِ التكفيرِ في حقِّه متوقفٌ على شروطٍ وانتفاءِ موانعَ، فلا يُحكَمُ بكفرِ شخصٍ بعينِه إلا أن يُعلَمَ أنه منافقٌ؛ بأنْ قامت عليه الحجةُ النبويةُ
(1)
رواه البخاري (3478)، ومسلم (2757)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
التي يكفُرُ مَن خالفها ولم يقبَلْها؛ لكن قولَ هؤلاءِ المعتزلةِ وشبههم هو من الشركِ والكفرِ والضلالِ.
فَصْلٌ
ومَن قال: إن عبدَ الرحمنِ بنَ عوفٍ
ما يدخُلُ الجنةَ إلا حَبْوًا
(1)
، ويدخلُها بعدَ الصحابةِ، وذكر أن أبا بكرٍ قال له رسولُ اللهِ ليلةَ الإسراءِ:«رأيتُ ربي بعَيْن رأسي» ، وقال لعائشةَ:«رأيتُه بعَيْنَيْ قلبي» ، فمَن قال: إن هذه أحاديثُ صحيحةٌ؛ فهو كاذبٌ مُفْتَرٍ باتِّفاقِ أهلِ العلمِ بذلك؛ بل يستحقُّ العقوبةَ البليغةَ؛ فإن القولَ على الرسولِ بغيرِ علمٍ يُوجِبُ التَبَوُّؤَ من النارِ، ومن تعمَّدَ الكذِبَ عليه ففي كفرِه وقتلِه قولانِ؛ ولا نقل أحدٌ أنه قال:«رأيتُ ربي بعَيْنَيْ رأسي» ، لا أبو بكرٍ، ولا غيرُه، ولا نقَلَتْ عائشةُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئًا؛ بل اجتهدَتْ، فقالت:«مَن قال: إن محمدًا رأى ربَّه؛ فقد أعظَمَ على اللهِ الفِرْيةَ»
(2)
، واستدلَّتْ بقولِه:{لا تدركه الأبصار} ، وقد ثبَتَ في الصحيحِ عن ابنِ عبَّاسٍ أنه رآه بفؤادِه مرتينِ
(3)
، وكذلك قال أبو زرعة، وفي الصحيحِ:«نورٌ أَنَّى أراه»
(4)
.
(1)
رواه أحمد (24842)، قال أحمد بن حنبل:(هذا الحديث كذب منكر). ينظر: الموضوعات لابن الجوزي 2/ 13.
(2)
رواه البخاري (7380)، ومسلم (177)، عن مسروق عنها. واللفظ لمسلم.
(3)
رواه مسلم (176).
(4)
رواه مسلم (178)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
ومِن العُلَماءِ مَن جمَع بينَ قولِ عائشةَ وابنِ عبَّاسٍ، ومنهم من جعَلَها مسألةَ نزاعٍ.
ولم يثبتْ بسندٍ صحيحٍ عن أحدٍ من الصحابةِ أنه قال: «رآه بعَيْن رأسِه» ؛ بل يقولُ: «رآه بفؤادِه» ، أو:«رآه» ، ويُطلِقُ، وكذلك عن أحمدَ؛ ولكن طائفةً من أصحابِه نقَلوا عنه إثباتَ رؤيةِ العينِ ونصروها، كما حكى ذلك طائفةٌ عن ابنِ عبَّاسٍ، وكلاهما لم يثبتْ عنهما نقلٌ صحيحٌ صريحٌ؛ لكن بألفاظٍ مطلقةٍ.
وقد اتَّفقَ المسلمونَ على أن غيرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يَرَ اللهَ في الدنيا، كما اتفقوا على أنه يُرَى في الآخرةِ بالأبصارِ، وإن كان من أهلِ البِدَعِ مَن يُنازِعُ في هاتينِ المسألتينِ؛ لكنَّ السَّلَفَ متفقونَ على ذلك.
والحديثُ المذكورُ عن عبدِ الرحمنِ باطلٌ، رواه أبو نُعَيمٍ
(1)
من طريقِ رجلٍ اتَّفقَ أهلُ العلمِ على ردِّ أخبارِه
(2)
؛ بل هو مخالفٌ للنصوصِ وإجماعِ السَّلَفِ والأئمَّةِ، فإنه من أهلِ الشُّورَى الذينَ هم أفضلُ الأمةِ بعدَ أبي بكرٍ وعمرَ، وعثمانُ وعليٌّ وعبدُ الرحمنِ والزبيرُ
(1)
رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 98).
(2)
وهو عمارة بن زاذان، ولعله يريد فيما يرويه عن ثابت عن أنس رضي الله عنه، قال أحمد:(يروي عن ثابت عن أنس أحاديث مناكير)، وأما في غير ما يرويه عن ثابت عن أنس فمختلف فيه، قال فيه أحمد في رواية عبد الله:(شيخ ثقة لا بأس به)، وضعفه آخرون. ينظر: الجرح والتعديل 6/ 365، تهذيب التهذيب 7/ 417.
وطلحةُ وسعدٌ رضي الله عنهم أجمعينَ، فهؤلاءِ الستةُ الذين جعَل عمرُ الخلافةَ فيهم، وأخبر أن رسولَ الله تُوُفِّي وهو عنهم راضٍ، ثم إن ثلاثةً قدَّموا ثلاثةً، قدَّموا عثمانَ وعليًّا وعبدَ الرحمنِ، ثم إنهم جعَلوا عبدَ الرحمنِ يختارُ للأمةِ، ورضوا بذلك، فمن هو بهذه المنزلةِ؛ كيفَ يتأخَّرُ دخولُه، أو يدخُلُ حَبْوًا؟! ولو دخَلها لغِناه؛ لدخَلها سائرُ الصحابةِ الأغنياءِ حَبْوًا؛ كعثمانَ وطلحةَ والزبيرِ وسعدِ بنِ معاذٍ وابنِ عُبادةَ وأُسَيْدِ بنِ حُضَيرٍ؛ بل في الأنبياءِ مَن هو غنيٌّ؛ كإبراهيمَ وداودَ وسليمانَ ويوسفَ صلى الله عليهم أجمعينَ.
فَصْلٌ
ومَن كان قادرًا على الكسبِ
ويأكلُ من صدقاتِ الناسِ؛ فهو مذمومٌ على ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لا تَحِلُّ الصدقةُ لغنيٍّ، ولا لقويٍّ مكتسبٍ»
(1)
.
وأما سؤالُ الناسِ معَ القدرةِ على الكسبِ؛ فهو حرامٌ بلا نزاعٍ، فمن حَجَّ على أن يسألَ معَ إمكانِ القعودِ؛ فهو عاصٍ، فقد جاء بضعةَ عشَرَ حديثًا في النَّهْيِ عن المسألةِ
(2)
.
(1)
رواه أحمد (17972)، وأبو داود (1633)، والنسائي (2598)، من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار، قال: أخبرني رجلان.
(2)
منها: ما رواه البخاري (1474)، ومسلم (1040)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:«ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم» .
وإذا تعدَّى أحدٌ على الركبِ
في الطريقِ أو في مكةَ، فدفَعَهم الركبُ عن أنفُسِهم كالصائلِ؛ فيجوزُ الدفعُ معَ الركبِ؛ بل يجبُ دفعُ هؤلاءِ عن الركبِ.
وأما إذا اعتدى الركبُ على أهلِ مكةَ أو غيرِهم؛ فلا يُعينُهم على ذلك.
وإذا وجَد معَ الركبِ
جائعًا أو عطشانَ؛ فعليه أن يبذُلَ ما فضَلَ عن حاجتِه، فأما ما يحتاجُ إليه هو؛ فلا يجبُ بَذْلُه.
ولو وجد ميتًا؛ فليس عليه أن يتخلفَ ليَدفِنَه؛ بحيثُ يخافُ الانقطاعَ.
ومَن سأل وظهَر صدقُه
؛ وجب إطعامُه؛ لقولِه: {وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} ، وإن ظهَر كذِبُهم؛ لم يجبْ إعطاؤهم، وإن سألوا مطلقًا لغيرِ معينٍ؛ لم يجبْ أيضًا.
وإذا أقسَموا على غيرِ معينٍ؛ فإن إبرارَ المقسِمِ إنما هو إذا أقسمَ على معينٍ، وقولُه: لأجلِ فلانٍ من المخلوقينَ؛ فلا حُرْمةَ له، وأما قولُه: شيءٌ للهِ، و: لأجلِ اللهِ؛ فيُعطَى؛ لأنه سؤالٌ، وليس هذا إقسامًا.
فَصْلٌ
ثبَت في «صحيحِ مسلمٍ» أنه قال:
(1)
، وهذا موافقٌ لقولِه تعالى:{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} ، فإنه سُبْحانَه وعَد باجتنابِ كبائرِ ما يُنهَى عنه أن يُكفِّرَ عنا سيئاتِنا، ويُدخِلَنا مُدْخلًا كريمًا، وكذلك قولُه:{الذينَ يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} ، وهو مقدِّماتُ الوَطْءِ؛ من النظَرِ، واللمسِ، والسمعِ، والمشيِ، ونحوِه، كما ثبَتَ في الصحيحِ عن ابنِ عبَّاسٍ أنه قال:«ما رأيتُ أشبَهَ باللَّمَمِ ما حدَّثَ أبو هُرَيرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن اللهَ كتَب على ابنِ آدمَ حظَّه من الزنى، فهو مُدرِكٌ ذلك لا محالةَ، فالعينانِ تَزْنِيانِ وزِناهما النظَرُ، والأُذُنانِ تَزْنِيانِ وزِناهما السمعُ، واليدانِ تَزْنيانِ وزناهما البَطْشُ، والرجلانِ تَزْنيانِ وزِناهما المشيُ، والقلبُ يتمَنَّى ويشتهي، والفَرْجُ يُصدِّقُ ذلك، ويُكذِّبُه»
(2)
، وسَمَّاه اللهُ لَمَمًا؛ لأن العبدَ يُلِمُّ بالكبيرةِ، ولا يأتيها، قال الشاعر
(3)
:
متَى تأتِنا تُلْمِمْ بنا في دِيارِنا تجِدْ حَطَبًا جزلًا ونارًا تأَجَّجا
(1)
رواه مسلم (233)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (6243)، ومسلم (2657).
(3)
البيت لـ: عبيد الله بن الحر الجعفي كما في خزانة الأدب 9/ 90.
وقال
(1)
:
متَى تأتِنا تُلْمِمْ في دِيارِنا تجِدْ خيرَ نارٍ عندَها خيرُ موقِدِ
فإن الطارقَ يُلِمُّ بأهلِ المنزلِ قبلَ أن يدخُلَ إلى منزلِهم، ويقالُ: اللَّمَمُ أن يُلِمَّ بالذنبِ الصغيرِ مرةً من غيرِ إصرارٍ؛ لأن مَن أصَرَّ على الصغيرةِ صارَتْ كبيرةً، كما في «التِّرْمِذيِّ»:«لا صغيرةَ معَ إصرارٍ، ولا كبيرةَ معَ استغفارٍ»
(2)
، فقد جاء الكتابُ والسُّنَّةُ بتكفيرِ الصغائرِ لمن اجتَنبَ الكبائرَ، وهذا لا رَيْبَ فيه.
ثم قال قائلونَ: مفهومُ هذا أنه لا تُكفَّرُ الصغائرُ إلا بهذا الشرطِ، فمن لم يجتنبِ الكبائرَ كلَّها لا تُكفَّرُ عنه صغيرةٌ.
وبالغت الخوارجُ والمعتزلةُ، فقالوا: إن من أتى كبيرةً استحقَّ العقوبةَ حتمًا، فتَحبَطُ جميعُ حسناتِه بتلكَ الكبيرةِ، ويستحقُّ التخليدَ في النارِ، لا يخرُجُ منها بشفاعةٍ ولا غيرِها.
وهذا قولٌ باطلٌ باتِّفاقِ الصحابةِ وسائرِ أهلِ السُّنَّةِ.
والمرجئةُ من الشيعةِ والأشعريةِ قابلوا المعتزلةَ، فقالوا: لا نجزِمُ بتعذيبِ أحدٍ من أهلِ التوحيدِ، وهذا أيضًا باطلٌ؛ بل تواتَرَتِ السننُ
(1)
البيت لـ: الحطيئة، كما في الكتاب لسيبويه 3/ 86. إلا أن صدر البيت منه: مَتى تَأْتِه تَعْشو إلى ضَوْءِ نارِه.
(2)
لم نقف عليه في جامع الترمذي، وقد رواه القضاعي في مسند الشهاب (853)، مرفوعًا، ورواه ابن جرير في التفسير (6/ 651)، وابن أبي حاتم في التفسير (5217)، البيهقي في الشعب (6882)، موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما.
بدخولِ أهلِ الكبائرِ النارَ، وخروجِهم منها بشفاعةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وسَلَفُ الأمةِ وأئمَّتُها متفقونَ على ما جاءَتْ به السننُ.
وقد يفعلُ العبدُ من الحسناتِ ما يمحو اللهُ به بعضَ الكبائرِ، كما غفَر للبغيِّ بسَقْي الكلبِ
(1)
، وقولِه لأهلِ بدرٍ:«اعمَلوا ما شئتُم؛ فقد غفرتُ لكم»
(2)
، ولكن هذا يختلفُ باختلافِ الحسناتِ ومقاديرِها، وصفاتِ الكبائرِ ومقاديرِها، فلا يمكِنُنا أن نُعيِّنَ حسنةً تُكفَّرُ بها الكبائرُ كلُّها غيرَ التوبةِ، فمن أتى بكبيرةٍ ولم يتُبْ منها؛ ولكن أتى معها بحسناتٍ أُخَرَ، فهذا يقفُ أمرُه على الموازنةِ والمقابلة، {فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ومن خفت موازينه فأمه هاوية} ، فلهذا كان صاحبُ الكبيرةِ تحتَ الخطرِ ما لم يتُبْ منها، فإذا أتى بحسناتٍ؛ يُرجَى له بها محوُ الكبيرةِ، وكان بينَ الخوفِ والرجاءِ.
والحسنةُ الواحدةُ قد يقترنُ بها من الصدقِ واليقينِ ما يجعلُها تكفِّرُ الكبائرَ؛ كالحديثِ الذي في صاحبِ البطاقةِ، الذي يُنشَرُ له تسعةٌ وتسعونَ سِجِلًّا مدَّ النظرِ، ويُؤتَى ببطاقةٍ فيها كلمةُ: لا إلهَ إلا اللهُ، فتُوضَعُ البطاقةُ في كِفَّةٍ، والسِّجِلَّاتُ في كِفَّةٍ، فثقُلَتِ البطاقةُ وطاشَتِ السجلاتُ
(3)
، وذلك لعِظَمِ ما في قلبِه من الإيمانِ واليقينِ، وإلا فلو
(1)
رواه البخاري (3467)، ومسلم (2245)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (3007)، ومسلم (2494)، من حديث علي رضي الله عنه.
(3)
رواه أحمد (6994)، والترمذي (2639)، وابن ماجه (4300)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
كان كلُّ مَن نطَق بهذه الكلمةِ تُكفَّرُ خطاياه؛ لم يدخلِ النارَ من أهلِ الكبائر المؤمنين أحدٌ، وهذا خلافُ ما تواتَرَتْ به السننُ، وكذا حديثُ البغيِّ، وإلا فليس كلُّ مَن سقَى كلبًا عطشانَ يُغفَرُ له.
كما أنه قد يقترنُ بالسيئةِ من الاستخفافِ والإصرارِ ما يُعظِّمُها، فلهذا وجَب التوقفُ في المُعيَّنِ، فلا يُقطَعُ بجنةٍ ولا نارٍ؛ إلا ببيانٍ من اللهِ؛ لكن يُرجَى للمحسنِ، ويُخافُ على المسيءِ، وأما من شهِد له النصُّ؛ فنقطعُ له، ومن له لسانُ صدقٍ؛ ففيه نزاعٌ
(1)
.
وما يُوجَدُ في كتبِ أبي حامدٍ
من كلامِ الفلاسفةِ الباطنيةِ، كما يوجدُ في «المضنونِ به على غيرِ أهلِه» وأمثالِه، قال طائفةٌ من الفضلاءِ: إنه كذِبٌ عليه، وطائفةٌ قالت: بل رجع عن ذلك، فإنه صرَّح بكفرِ الفلاسفةِ في «التهافتِ» ، واستَقَرَّ أمرُه على مطالعةِ «البخاري» و «مسلم» ، ومات على أحسنِ أحوالِه، فلا يجوزُ أن تُنسَبَ إليه مثلُ هذه الأقوالِ نسبةً مستقرةً.
ومَن قال للآخر: اللهُ أكبرُ عليك
، فهو من نحوِ الدعاءِ عليه، فإن لم يكُنْ بحقٍّ، وإلا
(2)
كان ظالمًا له؛ يستحقُّ الانتصارَ منه لذلك، إما بمثلِ
(1)
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة 3/ 497: (والقول بكون الرجل المعين من أهل الجنة قد يكون سببه إخبار المعصوم، وقد يكون سببه تواطؤ شهادات المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض).
وفي الفروع لابن مفلح 3/ 304: (ونرجو للمحسن، ونخاف على المسيء، ولا نشهد إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره الأصحاب، وقال شيخنا: أو اتفقت الأمة على الثناء أو الإساءة عليه، ولعل مراده: الأكثر، وأنه الأكثر ديانة).
(2)
في الأصل: (ولا)، والمثبت من (ك).
ذلك، وإما بالتعزيرِ.
وليس لأحدٍ استعمالُ القرآنِ لغيرِ ما أنزلَ له
، وبذلك فسَّر العلماءُ الحديثَ المأثورَ:«لا يُناظَرُ بكتابِ اللهِ»
(1)
؛ أي: لا يَجعَلُ
(2)
له نظيرًا يَذكُرُه عندَه، كقول القائِلِ لمن قدَّمَ حاجة:«لقد جئتَ على قَدَرٍ يا موسى» ، وقولِه عندَ الخصومةِ:«متى هذا الوعد؟» ، «واللهُ يشهدُ إنهم لكاذبونَ» ونحوه.
ثم إن خَرَج هذا مخرجَ الاستخفافِ بالقرآنِ والاستهزاءِ به؛ كفَرَ صاحبُه، وأما إذا تُليت الآيةُ عندَ الحكمِ الذي أُنزِلت له، أو ما يُناسِبُه من الأحكامِ؛ فحسَنٌ.
ومِن هذا البابِ؛ ما يبيِّنه الفقهاءُ من الأحكامِ الثابتةِ بالقياسِ، وما يتكلمُ فيه المشايخُ والوُعَّاظُ، فلو دُعِي الرجلُ إلى معصيةٍ قد تاب منها، فقال:{وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاءَ اللهُ ربنا} ؛ كان حسناً، وكذا لو قال عندَ هَمِّه:{إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} ، ونحوَ ذلك؛ لو قصَد به التلاوةَ والتنبيهَ بالقرآن على معنًى يخاطِبُ به للحاجةِ؛ كان جائزًا؛ مثلُ ما قيلَ لعليٍّ في الصَّلاةِ:{لئن أشركت ليحبطن عملك} ، فقال:{فاصبر إن وعد الله حق}
(3)
، فهذا ونحوُه رخَّص فيه العلماءُ.
(1)
رواه ابن المبارك في الزهد (795)، من قول الزهري رحمه الله.
(2)
في الأصل: (لا يجعله)، والمثبت من (ك).
(3)
رواه ابن جرير في تاريخه (5/ 73).
ولا يجوزُ أن يُظهِرَ ما عمِله من السيئاتِ سرًّا؛ بل إن أظهَرَه كَثُرَ إثْمُه.
فَصْلٌ
لواءُ الحمدِ الذي بيدِ
رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ القيامةِ هو لواءٌ صورةً ومعنًى؛ إشارةً إلى سيادتِه لجميعِ الخلائِقِ، فيكونُون تحتَ لوائِهِ كما يكونُ الأجنادُ تحتَ ألويةِ الملوكِ، وحاملُه المقدَّمُ الذي يكونُ خطيبَ الأنبياءِ إذا وفدوا، وإمامُهم إذا اجتمعوا، وهو الذي يُقدَّمُ للشفاعةِ، فيحمَدُ ربَّه بمحامدَ لا يحمَدُه بها أحدٌ غيرُه، وهو محمدٌ وأحمدُ، وأمَّتُه الحَامدونَ الذينَ يَحمدونَ اللهَ على السراءِ والضراءِ، وهو أولُ مَن يُدعَى إلى الجنةِ، فلا تُفتَحُ لأحدٍ قبلَ صاحبِ لواءِ الحمدِ.
وقولُه سُبْحانَه:
{فوجدها تغرب في عين حمئة} ؛ العينُ في الأرضِ، ومعنى {تغرب في عين}؛ أي: في رأيِ الناظرِ باتِّفاقِ المفسرينَ، وليس المرادُ: أنَّها تسقُطُ من الفلكِ، فتغربُ في تلك العينِ؛ فإنها لا تنزِلُ من السماءِ إلى الأرضِ، ولا تُفارِقُ فلَكَها، والفَلَكُ فوقَ الأرضِ من جميعِ أقطارِها، لا يكونُ تحتَ الأرضِ؛ لكن إذا تخيلَ المتخيِّلُ أن الفَلَكَ محيطٌ بالأرضِ وهَمَ أن ما يلي رأسَه هو أعلاه، وما يلي رجلَيْه أسفَلُه وليس الأمرُ كذلك؛ بل جانبُ الفَلَكِ من هذا الجانبِ كجانبِه من المشرقِ والمغربِ، والسماءُ فوقَ الأرضِ بالليلِ والنهارِ، والسُّفْلُ - هو أضيقُ مكانٍ في الأرضِ - المركزُ الذي إليه
تنتهي الأثقالُ، وكلُّ ما تحركَ من المركزِ إلى السماءِ من أيِّ جانبٍ كان؛ فإنه يصعَدُ من أسفل إلى الأعلى، واللهُ أعلمُ.
والأمرُ بالمعروفِ والنَّهْيُ عن المنكَرِ
واجبٌ على الكفايةِ باتِّفاقِ أئمَّةِ المسلمِينَ، وكلٌّ من الأمةِ مخاطبٌ بقدرِ قدرتِه، وهو من أعظمِ العباداتِ، ومن الناسِ مَن يكونُ ذلك لهواه لا للهِ.
وليس لأحدٍ أن يُزيلَ المنكَرَ بما هو أنكَرُ منه؛ مثلُ أن يقومَ آحادُ الناسِ يريدُ أن يقطعَ السارق، ويجلدَ الشاربَ، ويقيمَ الحدودَ؛ لأنه لو فعَل ذلك لأفضى إلى الهرجِ والفسادِ؛ لأن كلَّ واحدٍ يضربُ غيرَه، ويدعي أنه استحقَّ ذلك؛ فهذا مما يقتصر فيه إلى من يطاعُ؛ كالسلطانِ ونُوَّابِه.
وكذلك دقيقُ العلمِ الذي لا يفهَمُه إلا خواصُّ الناسِ، وجِماعُ الأمرِ في ذلك: أن يُنكِرَ بحسَبِ قدرتِه.
وإنما الخلافُ فيما إذا غلَب على ظنِّ الرجلِ أن أمرَه بالمعروفِ ونَهْيَه لا يُطاعُ؛ هل يجبُ عليه حينئذٍ؟ على قولَينِ، أصَحُّهما: أنه يجبُ، وإن لم يُقبَلْ منه، إذا لم تكُنْ مفسدةُ الأمرِ راجحةً على مفسدةِ التركِ، كما بقي نوحٌ ألفَ سنةٍ إلا خمسينَ عامًا يُنذِرُ قومه، ولما قيل:{لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم} ؛ أي: نقيمُ عُذْرَنا عند ربِّنا، وليس هداهم علينا؛ بل الهدايةُ إلى اللهِ.
ومن لم يحبَّ ما أحبَّه اللهُ
، وهو المعروفُ، ويُبغِضْ ما أبغَضَه اللهُ، وهو المُنكَرُ؛ لم يكُنْ مؤمنًا، فلهذا لم يكُنْ وراءَ ذلك حبةُ خَرْدلٍ من إيمانٍ، ولا يتركُ إنكارَ جميعِ المُنكَراتِ بالقلبِ إلا مَن يكونُ كافرًا؛ وهو الذي مات قلبُه، كما قال بعضُ السلفِ لما سُئِلَ عن ميتِ الأحياءِ في قولِهم:
ليس مَن ماتَ فاسْتراحَ بِمَيْتٍ
…
إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأحياءِ
فقال: «هو الذي لا يعرفُ معروفًا، ولا يُنكِرُ منكرًا»
(1)
؛ لكن من الناسِ مَن قد يُنكِرُ بعضَ الأمورِ دونَ بعضٍ، فيكونُ في قلبِه إيمانٌ ونفاقٌ، كما ذكر ذلك من ذكَره من السَّلَفِ؛ حيثُ قالوا:(القلوبُ أربعةٌ: قلبٌ أجرَدُ، فيه سِراجٌ يزهرُ، فذلك قلبُ المؤمنِ، وقلبٌ أغلَفُ؛ فهو قلبُ الكافرِ، وقلبٌ منكوسٌ؛ فذلك قلبُ المنافق، وقلبٌ فيه مادتانِ؛ مادةٌ تُمِدُّه بالإيمان، ومادةٌ تُمِدُّه بالنفاق، فذلك رجلٌ خلطَ عملًا صالحًا وآخَرَ سيئًا)
(2)
.
وفي الجملةِ؛ فالأمرُ بالمعروفِ والنَّهْيُ عن المنكرِ فرضُ كفايةٍ، فإذا غلَب على الظنِّ أن غيرَه لا يقومُ به؛ تعيَّنَ عليه، ووجَب عليه ما يقدرُ عليه من ذلك، فإن ترَكَه كان عاصيًا للهِ ورسولِه، وقد يكونُ فاسقًا، وقد يكونُ كافرًا.
(1)
رواه البيهقي في الشعب (10188)، من قول حذيفة رضي الله عنه.
والبيت لعدي بن رعلاء الغساني، شاعر جاهلي. ينظر: الأصمعيات ص 152.
(2)
نسبه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 7/ 304 لحذيفة رضي الله عنه، وقد رواه عنه ابن أبي شيبة (30404)، ورواه أحمد (11129) مرفوعاً من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
وينبغي لمن يأمرُ بالمعروفِ وينهى عن المُنكَرِ: أن يكونَ فقيهًا قبلَ الأمرِ، رفيقًا عندَ الأمرِ؛ ليسلُكَ أقربَ الطرقِ في تحصيلِه، حليمًا بعدَ الأمرِ؛ لأن الغالبَ أن يُصيبَه أذًى، كما قال:{وانه عن المُنكَرِ واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} .
فَصْلٌ
قولُ مَن يقول:
يلزمُ من كونِ الشيءِ في جهةٍ؛ سواءٌ كانت الجهةُ داخلَ العالمِ أو خارجَه؛ ثبوتُ إمكانِ الانقسامِ لذاتِه؛ لأن كلَّ واحدٍ من جوانبِه غيرُ الجانبِ الآخرِ، وكلُّ ممكنِ القسمةِ لذاتِه ممكنُ الوجودِ لذاتِه، لا واجب الوجود لذاته، ويلزمُ أيضًا من كونِ الشيءِ في جهةٍ؛ إما قِدَمُ الجهةِ، وإما ثبوت الانتقالِ.
والجواب عن ذلك:
أما الحجةُ الأولى؛ فللناسِ في جوابِها طريقانِ:
أحدُهما: أنه تعالى فوقَ العرشِ، وهو معَ ذلك ليس بمنقسمٍ، هذا قولُ الكلَّابيةِ وأئمةِ الأشعريةِ وغيرِهم، وإذا قيلَ لهم: هذا ممتنعٌ، قالوا: إثباتُ وجودِ موجودٍ لا داخلَ العالمِ ولا خارجَه؛ أبعدُ عن العقولِ من إثباتِ موجودٍ خارجَ العالمِ وليس بجسمٍ ولا منقسمٍ، فإن كان الأولُ جائزًا في العقلِ؛ فالثاني أَوْلى بالجوازِ، وإن كان ممتنعًا؛ بطَلَ قولُ النُّفاةِ.
الطريقُ الثاني: أن يقالَ: الانقسامُ إن أريدَ به ثبوتُ الانقسامِ فيه بالفعلِ أو بالإمكانِ، بحيثُ يقبلُ التفريقَ والتبعيضَ؛ لم يسلَّمِ اللزومُ، ولا دليل عليه، وإنما ذَكر في الدليلِ أن كلَّ جانبٍ غيرُ الآخَرِ، ومُطلَقُ المغايرةِ لا يقتضي قبولَ التفريقِ والانفصالِ؛ فإن لفظَ «الغير» فيه اصطلاحانِ:
أحدُهما: اصطلاحُ الأشعريةِ ومَن وافَقَهم؛ أنه ما جاز مفارقةُ أحدِهما الآخرَ بزمانٍ أو مكانٍ أو وجودٍ، أو ما جاز مفارقةُ أحدِهما مطلقًا، ولهذا لا يقولونَ: صفاتُ اللهِ مغايرةٌ لذاتِه، بل لا يقولونَ: إن الصفةَ اللازمةَ للمخلوقِ مغايرةٌ له، ولا أن بعضَ الجملةِ مغايرةٌ لها، ولا الواحدُ من العشرةِ مغايرٌ لها، فعلى هذا؛ إذا لم يقبلِ التفريقَ لم يكُنْ أحد
(1)
الجانبين مغايرًا للجملةِ ولا للآخرِ.
والاصطلاحُ الثاني: أن حدَّ «الغيرين» ما جاز العلم بأحدِهما دونَ الآخرِ، وهو اصطلاحُ المعتزلةِ والكراميةِ، فعلى هذا تكونُ صفةُ الموصوفِ مغايرةً له، وتكون صفاتُ اللهِ مغايرةً لذاتِه، ويكونُ كلامُ اللهِ غيرَ اللهِ.
وعلى قول الأولينِ: لا يكونُ كلامُه غيرَه.
والذي عليه السَّلَفُ: أنه لا يُطلَقُ إثباتُ المغايرةِ ولا نَفْيُها؛ لكن يُفصَّلُ: هل أُريدَ بالغيرِ أنه يمكنُ العلم بهذا دونَ هذا، وأريدَ أنه يمكنُ
(1)
قوله: (أحد) سقط من الأصل، وهي مثبتة في (ك) و (ع) و (ز).
مفارقةُ هذا لهذا، أو وجودُ هذا دون هذا، أو تحقيقُ ماهيةِ هذا دونَ هذا، ونحوُ ذلك؟
فعلى هذا التفسيرِ؛ لا تكونُ الصفةُ اللازمةُ للموصوفِ ولا البعضُ اللازمُ مغايرًا لكلِّه.
وعلى ذلك؛ فقولُه: (كلُّ ممكنِ القسمةِ لذاتِه ممكنُ الوجودِ لذاتِه)؛ جوابُه: أن لفظَ: (إمكانِ القسمةِ) فيه الإجمالُ المتقدمُ:
فإن أردت أنه يقبلُ مفارقةَ بعضِه لبعضٍ؛ فلا دليلَ على لزومِ ذلك بعلُوِّه على عرشِه.
وإن أردتَ به الامتيازَ الذي ذكَرْتَه والمغايرةَ التي عيَّنتَها؛ فلا نُسلِّمُ أن ما أمكنَ أن يميزَ منه شيءٌ عن شيءٍ يجبُ أن يكونَ ممكنَ الوجودِ لذاتِه، لا واجبَ الوجودِ لذاتِه؛ لا سيَّما على مذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ الصفاتيةِ؛ فإن عندَهم: عالمٌ بعلمٍ، قادرٌ بقدرةٍ، حيٌّ بحياةٍ، وهذه معانٍ متميزةٌ ليس أحدُها هو الآخَرَ، بل وكذلك نُفاةُ الصفاتِ باتفاقِهم وجودُ واجبٍ قديمٍ في ذاتِه، عليمٍ قديرٍ، وليس المفهومُ من كلِّ اسمٍ هو المفهومَ من الآخَرِ؛ بل هو معانٍ متميزةٌ، وإن كان المسمَّى واحدًا، والمُعطِّلُ مُقِرٌّ بأنه موجودٌ، واجبٌ، قديمٌ، عاقلٌ، معقولٌ، عقلٌ، ونحوُ ذلك من المعاني المتميزةِ.
ودَعْواه أن هذه الأمورَ تعودُ إلى سلْبِ أوصافِه معلومٌ بالضرورةِ، وإن جوَّز عقلُه أن تكونَ هذه المعاني لا تعودُ إلا إلى عدمِ أوصافِه؛ أمكنَ منازِعُه أن يقولَ فيما يُثبِتُه من الصفاتِ والقدرِ مثلَ ذلك، ويقول:
إن ذلك لا يوجبُ تعدُّدًا ولا تكثيرًا، بل هو راجعٌ إلى سلبِ أوصافه.
وأما الحجةُ الثانيةُ؛ فجوابُها أن يقالَ: الجهةُ إما أن يُرادَ بها أمرٌ موجودٌ، أو معدومٌ:
فإن أُريدَ بها أمرٌ موجودٌ؛ فما ثَمَّ موجودٌ إلا اللهُ ومخلوقاتُه، والله ليس في مخلوقاتِه.
وإن أُريدَ بها أمرٌ معدومٌ؛ فالمعدومُ ليس بشيءٍ يحوي الموجودَ، وإنما يُقدَّرُ فيه الموجودُ تقديرًا.
فقولُه: (يلزمُ قِدَمُ الجهةِ أو الانتقالُ)؛ إنما يصِحُّ لو قيلَ: إنه في موجود سواه، وأما إذا أريد بذلك أنه فوقَ العالَمِ، أو وراءَ العالمِ، وليس هناك غيرُه، فليس هناك شيءٌ موجودٌ غيرُه، حتى يقالَ: إنه قديم، وأما القدمُ؛ فإن قيلَ: إنه قديمٌ؛ فهو لعدمِ سائرِ المخلوقاتِ، وقدمُ العدمِ بهذا التفسيرِ ليس بممتنعٍ، فظهر فسادُ لزومِ أحدِ الأمرينِ.
وأما لزومُ الانتقالِ؛ فللناسِ عنه جوابانِ مبنيانِ على جوازِ قيامِ الصفاتِ الفعليةِ المتعلقةِ بالمشيئةِ بذاتِه، فمن لم يُجوِّزْ ذلك قال: إنه لمَّا خلَق العالمَ لم ينتقلْ هو ولم يتغيرْ؛ بل خلَقَه مباينًا له، لم يدخُلْ في العالمِ، ولم يدخُلِ العالمُ فيه، وحدَثَت بينَه وبينَ العالمِ إضافة كما حدثت إضافةُ المعيَّةِ، وحدوثُ الإضافاتِ جائزٌ اتفاقًا؛ بل لا بدَّ منه، وهذا قولُ مَن يقولُ: الاستواءُ إضافةٌ محضةٌ، وأنه فعَلَ فِعْلَةً في العرشِ صار به مستويًا عليه لكونِه خلَق العرشَ تحتَه، فلزم أن يكونَ فوقَه من غيرِ حركةٍ من الربِّ، ولا تحولٍ قائمٍ بذاتِه.
والجوابُ الثاني: جوابُ مَن يُجوِّزُ قيامَ الأفعالِ الإراديةِ بذاتِه، كما هو المفهومُ من النصوصِ، وهؤلاءِ يلتزمونَ ما ذُكِر من معنى الانتقالِ والحركةِ؛ لكن منهم من يُقِرُّ بالمعنى دونَ اللفظِ؛ لكونِ الشرعِ لم يرِدْ بهذا اللفظِ، وإنما ورَد بلفظِ الاستواءِ، والمجيءِ، والنزولِ، ونحوِ ذلك، ومنهم من يُقِرُّ باللفظِ أيضًا، ويقولُ: إن ذلك لا يستلزمُ الحدوثَ، وإن الاستدلالَ بذلك على الحدوثِ باطلٌ، ومَن قال: إن ذلك حجةُ إبراهيمَ عليه السلام؛ فقد أبطَلَ؛ بل قصةُ إبراهيمَ تدلُّ على نقيضِ المطلوبِ، كما قد بُسِط كلامُ الناسِ في غيرِ هذا المكانِ، وهذا احتَملَتْه الورقةُ
(1)
.
فَصْلٌ
(2)
وجودُ الجنِّ ثابتٌ
بالكتابِ والسُّنَّةِ واتفاقِ سَلَفِ الأمةِ، وكذلك دخولُ الجِنِّيِّ في بدَنِ الإنسانِ ثابتٌ باتِّفاقِ أئمةِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعة، وهو أمرٌ مشهورٌ محسوسٌ لمن تدَبَّرَه، يدخُلُ في المصروعِ، ويتكلمُ بكلامٍ لا نَعرفُه؛ بل ولا نَدْري به؛ بل يُضرَبُ ضربًا لو ضُرِبه جملٌ لمات، ولا يُحِسُّ به المصروعُ.
وقولُه: {يتخبطه الشيطان من المس} ، و: «إنَّ الشيطانَ
(1)
جاء في هامش الأصل: (هذه المسألة لم يُحذف منها شيء).
(2)
ينظر أصل الفتوى: مجموع الفتاوى 24/ 276، الفتاوى الكبرى 3/ 12.
يجري مَجْرى الدمِ»
(1)
، وغيرُ ذلك يُصدِّقُه.
وأما معالجةُ المصروعِ بالرُّقَى والتعوذِ حتى يبرأَ؛ فهذا على وجهَينِ:
فإن كانت الرُّقَى مما يُعرَفُ معناها، وهو مما يجوزُ في دينِ الإسلامِ أن يتكلمَ الرجلُ بها داعيًا للهِ، أو ذاكرًا له، ومخاطبًا لخلقِه، ونحوُه؛ فإنه يجوزُ أن يُرقَى بها؛ لأنه أذِنَ في الرُّقَى ما لم تكُنْ شركًا؛ ثبَتَ ذلك في الصحيحِ
(2)
، وقال:«مَن استطاعَ أن ينفعَ أخاه فلْيفعَلْ»
(3)
.
وإن كان في ذلك كلماتٌ محرمةٌ؛ مثلُ شركٍ، أو كانت كلمات مجهولة المعنى، يَحتمِلُ أن يكونَ فيها ما هو كفرٌ؛ فليس لأحدٍ أن يرقيَ بها، ولا يعزمَ، ولا يقسمَ، وإن كان قد ينصرفُ عن المصروعِ بها؛ فإنَّ ما حرَّمَه اللهُ ضررُه أكثرُ من نفعِه؛ كالسيمياءِ وغيرِها من أنواعِ السحرِ، فإن الساحرَ السيماويَّ، وإن كان يَنالُ بذلك بعضَ أغراضِه؛ فهو كما ينالُ بالزنى بعضَ أغراضِه، فليس للعبدِ أن يدفعَ كلَّ ضررٍ بما شاءَ، ولا يجلبَ كلَّ منفعةٍ بما شاء؛ بل لا بدَّ من تقوى اللهِ.
فمن كذَّبَ بما هو موجودٌ من الجنِّ والشياطينِ والسِّحْرِ، وما [يأتون به]
(4)
على اختلافِ أنواعِه؛ كدعاءِ الكواكبِ، وتمريخِ
(5)
القوى الفعالةِ
(1)
رواه البخاري (2038)، ومسلم (2175)، من حديث صفية رضي الله عنها.
(2)
رواه مسلم (2200)، من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه.
(3)
رواه مسلم (2199)، من حديث جابر رضي الله عنه.
(4)
في الأصل و (ز): وما بين أنه. وفي (ك) و (ع): وما بين الله. والمثبت من مجموع الفتاوى.
(5)
هكذا في النسخ الخطية، وفي مجموع الفتاوى:(وتخريج).
السماوية بالقوى المنفعلةِ الأرضيةِ، وما ينزلُ مِن الشياطينِ على كلِّ أفاكٍ أثيمٍ، وحضورِ الجنِّ بما يُستحضَرونَ به من العزائمِ والأقسام وأمثالِ ذلك، كما هو موجودٌ؛ فقد كذَّبَ بما لم يُحِطْ به علمًا.
ومَن جوَّز أن يفعلَ الإنسانُ بما يراه مؤثرًا من غيرِ أن يزِنَه على شريعةِ الإسلامِ؛ فقد أخطأَ خطأً بيِّنًا، بل ثبَتَ عنه أنه قال:«مَن قرأ آيةَ الكرسيِّ حينَ يأوي إلى فِراشِه؛ لم يزَلْ عليه حافظٌ، ولم يقرَبْه شيطانٌ»
(1)
، وكان يُعلِّمُ أصحابَه:«أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامةِ من غضَبِه وعقابِه، وشرِّ عبادِه، ومن هَمَزاتِ الشياطينِ، وأن يحضرونِ»
(2)
، وقد جمع العلماءُ ما ثبَتَ عنه من ذلك مما فيه نجاةُ المؤمنينَ وسبيلُ المتقينَ.
فَصْلٌ
الذي عليه جمهورُ سلَفِ المسلمِينَ:
أنَّ كلَّ مؤمنٍ مسلمٌ، وليس كلُّ مسلمٍ مؤمنًا، فالمؤمنُ أفضلُ من المسلمِ، قال تعالى:{قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} ، ومَن كان عالمًا بما أمَره اللهُ ونهاه؛ فهو عالمٌ بالشريعةِ، ومَن لم يكُنْ عالمًا بذلك؛ فهو جاهلٌ من أجهلِ الناسِ.
(1)
رواه البخاري (3275)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه أحمد (16573)، من حديث الوليد بن الوليد رضي الله عنه، ورواه أبو داود (3893)، والترمذي (3528)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وليس القَدَمُ الذي بالصخرةِ
قدمَ النبيِّ، ولا قدمَ أحدٍ من الأنبياءِ، ولا يُضافُ إلى الشريعةِ تقبيلُه، ولا التمسُّحُ به، ولا شيءٍ من الأرضِ سوى الحجرِ الأسودِ والركنَينِ اليمانِيَيْنِ بالبيتِ العتيقِ، وتنازَعوا في التمسحِ بمِنْبرِه لو كان باقيًا.
وأبو بكرٍ وعمرُ؛ هما
أفضلُ وأشجعُ وأدينُ وأكرمُ من جميعِ الصحابةِ رضي الله عنهم أجمعينَ.
والثوبُ الذي هو للشهرةِ
؛ هو الثوبُ يُقصَدُ به الارتفاعُ على الناسِ، أو إظهارُ التواضعِ والزهدِ، كما جاء أن السَّلَفَ يكرهونَ الشهرتينِ من اللباسِ المرتفعِ والمنخفضِ
(1)
، ولهذا قال في الحديثِ:«مَن لبِسَ ثوبَ شُهْرةٍ ألبَسَه اللهُ ثوبَ مَذَلَّةٍ»
(2)
؛ فإنه عُوقِبَ بنقيضِ قَصْدِه، وجاء في الحديثِ:«إن لكلِّ عاملٍ شِرَّةً، ولكلِّ شِرَّةٍ فَتْرةً، فإنْ صاحِبُها سدَّد وقارَبَ، فارجوه، وإنْ أشِير إليه بالأصابعِ؛ فلا تَعُدُّوه»
(3)
، وقال الحسنُ البصريُّ:«إذا دخلْتَ السوقَ، وأشار الناسُ إليكَ بالأصابعِ»
(4)
، فقال: إنه لم يُرِدْ هذا، وإنما أرادَ المبتدعَ في دينهِ، والفاجرَ في دينِه؛ أي: يشار إليه بخروجِه عن الطريقِ الشرعيةِ.
(1)
رواه ابن أبي الدنيا في التواضع والخمول (64) عن سفيان الثوري رحمه الله.
(2)
رواه أحمد (5664)، وأبو داود (4029)، وابن ماجه (3606)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
رواه الترمذي (2453)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
رواه ابن أبي الدنيا في التواضع والخمول (33)، بعد إيراده لحديثٍ في الإشارة بالأصابع.
ومَن قال: إن أحدًا
من أولياءِ اللهِ يقولُ للشيءِ: «كُنْ فيكونُ» ؛ فإنه يُسْتتابُ، فإن تاب وإلا قُتِل؛ فإنه لا يقدرُ على ذلك أحدٌ غيرُ الله، وليس كلُّ ما يريدُه ابنُ آدمَ يحصلُ له، ولو كان مَن كان؛ لكنْ في الآخرةِ يحصُلُ له كلُّ ما يريدُ، فإذا اشتهى شيئًا حصَل له ذلك بقدرةِ اللهِ تعالى.
فَصْلٌ
أعمالُ القلوبِ التي تُسمَّى المقاماتِ
أو الأحوالَ؛ وهي من أصولِ الإيمانِ وقواعدِ الدينِ؛ مثلُ: محبةِ اللهِ ورسولِه، والتوكلِ على اللهِ، وإخلاصِ الدينِ له، والشكرِ له، والصبرِ على حكمِه، والخوفِ منه، والرجاءِ له، وما يتبعُ ذلك؛ كلُّ ذلك واجبٌ على جميعِ الخلقِ المأمورينَ في الأصلِ باتِّفاقِ أئمةِ الدينِ.
والناسُ فيها على ثلاثِ درجاتٍ، كما هم في أعمالِ الأبدانِ على ثلاثِ درجاتٍ أيضًا: ظالمٌ لنفْسِه، ومقتصِدٌ، وسابقٌ بالخيراتِ.
فالظالمُ: العاصي بتركِ مأموراتٍ، وفعلِ محظوراتٍ.
والمقتصدُ: المؤدي للواجباتِ، والتاركُ للمحرماتِ.
والسابقُ بالخيراتِ: المتقربُ بما يقدرُ عليه من واجبٍ ومُستحَبٍّ، والتاركُ للمحرمِ والمكروهِ.
وإن كان كلٌّ من المقتصدِ والسابقِ قد تكونُ له ذنوبٌ تُمحَى عنه؛ إما بتوبةٍ، واللهُ يحِبُّ التوابينَ، وإما بحسناتٍ ماحيةٍ، وإما بمصائبَ
مكفِّرةٍ، وإما بغيرِ ذلك، وكلٌّ من السابقينَ والمقتصدينَ؛ أولياءٌ للهِ، فإن أولياءَ اللهِ هم الذينَ قال فيهم:{ألا إن أولياء اللهِ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذينَ آمنوا وكانوا يتقون} ، فحَدُّ أولياءِ اللهِ: هم المؤمنونَ المتقونَ.
وأما الظالمُ لنفْسِه؛ فهو من أهلِ الإيمانِ، فمعَه ولايةٌ بقدرِ إيمانِه وتقواه، كما معَه من ضدِّ ذلك بقدرِ فُجورِه؛ إذِ الشخصُ الواحدُ تجتمعُ فيه الحسناتُ والسيئاتُ؛ حتى يمكنَ أن يثابَ ويُعاقَبَ، وهذا قولُ جميعِ الصحابةِ وأئمةِ الإسلامِ وأهلِ السُّنَّةِ؛ بخلافِ الخوارجِ والمعتزلةِ القائلينَ بأنه لا يخرُجُ من النارِ مَن دخَلها مِن أهلِ القبلةِ، وأنه لا شفاعةَ للرسولِ، ولا لغيرِه في أهلِ الكبائرِ، لا قبلَ دخولِ النارِ ولا بعدَها، فعندَهم: لا تجتمعُ في شخصٍ حسناتٌ وسيئاتٌ.
ودلائلُ هذا الأصلِ مبسوطةٌ في موضعٍ آخَرَ.
وأصلُ الدينِ هو الأمورُ الباطنةُ
من العلومِ والأعمالِ، فإن الأعمالَ الظاهرةَ لا تنفعُ بدونِها، كما في الحديثِ:«إن في الجسدِ مُضْغةً، إذا صلَحَتْ صلَحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدَتْ فسَد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلبُ»
(1)
، وعن أبي هُرَيرةَ، قال:«القلبُ مَلِكٌ، والأعضاءُ جنودُه، فإذا طاب الملكُ طابَتْ جنودُه، وإذا خبُثَ خبُثَتْ جنودُه»
(2)
.
(1)
رواه البخاري (52)، ومسلم (1599)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(2)
رواه معمر بن راشد في جامعه التابع لمصنف عبد الرزاق (20375)، والدينوري في المجالسة (570)، والبيهقي في شعب الإيمان (108).
وأما الحزنُ فلم يأمُرِ اللهُ به؛ بل نهى عنه في مواضعَ؛ مثلُ: {ولا تهنوا ولا تحزنوا} ، {لا تحزن إن اللهَ معنا} ، {لكيلا تحزنوا} ، وذلك لأنه لا يجلبُ منفعةً ويدفعُ مَضَرَّةً؛ فلا فائدةَ فيه، وما لا فائدةَ فيه
(1)
لا يأمُرُ اللهُ به.
نعم؛ ولا يأثَمُ صاحبُه إذا لم يقترنْ بحزنِه محرمٌ، كما يحزنُ على المصائبِ، كما قال:«إن اللهَ لا يُؤاخِذُ على دمعِ العينِ، ولا على حزنِ القلبِ»
(2)
.
وقد يقترنُ الحزن بما يُثابُ صاحبُه عليه ويُحمَدُ عليه، فيكونُ محمودًا من تلك الجهةِ، لا من جهةِ الحزنِ، كالحزينِ على مصيبةٍ في دينِه، وعلى مصائبِ المسلمِينَ عمومًا؛ فهذا يُثابُ على قدرِ ما في قلبِه من حبِّ الخيرِ وبغضِ الشرِّ وتوابعِ ذلك، ولكن الحزنَ على ذلك إذا أفضى إلى تركِ مأمورٍ من الصبرِ والجهادِ وجلبِ منفعةٍ ودفعِ مضرةٍ؛ نُهِيَ عنه، وإلا كان حسْبُ صاحبه رفعَ الإثمَ عنه من جهةِ الحزنِ.
وأما إذا أفضى إلى ضعفِ القلبِ واشتغالِه به عن فعلِ ما أمَر اللهُ به ورسولُه؛ كان مذمومًا من تلك الجهةِ، وإن كان محمودًا من جهةٍ أخرى.
وأما المحبةُ له، والتوكلُ عليه، والإخلاصُ له؛ فهذه كلُّها خيرٌ
(1)
قوله: (فيه) سقطت من الأصل، وهي مثبتة في (ك) و (ع).
(2)
رواه البخاري (1304)، ومسلم (924)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
محضٌ، وهي حسنةٌ محبوبةٌ في حقِّ كلٍّ من النبيينَ والصدِّيقينَ والشهداءِ والصالحينَ، لا يخرُجُ عنها مؤمنٌ قطُّ، وهذه المقاماتُ للخاصةِ خاصَّتُها، وللعامةِ عامَّتُها.
والعبادةُ هي الغايةُ التي خلَق اللهُ لها العبادَ من جهةِ أمرِ اللهِ ومحبتِه ورضاه، وهو اسمٌ يجمعُ كمالَ الحبِّ لله ونهايتَه، وكمالَ الذلِّ ونهايتَه، والحبُّ الخليُّ عن الذلِّ، والذلُّ الخليُّ عن الحبِّ؛ لا يكونُ عبادةً، وإنما العبادةُ ما جمَع كمالَ الأمرينِ، ولهذا كانت العبادةُ لا تصلُحُ إلا للهِ، وهي وإن كانت للعبدِ منفَعتُها واللهُ غنيٌّ عن العالمينَ؛ فهي له من جهةٍ أخرى؛ من جهةِ محبتِه لها ورضاه بها، ولهذا كان أشدَّ فرحًا بتوبةِ عبدِه من الفاقدِ لراحلتِه عليها طعامُه وشرابُه، في أرضٍ دَوِّيَّةٍ مهلكةٍ، إذ نام آيِسًا منها، ثم استيقظَ فوجَدَها، فاللهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدِه مِن هذا براحلتِه، وهذا يتعلقُ به أمورٌ جليلةٌ شرَحْناها في غيرِ هذا الموضعِ.
وروَى الطبرانيُّ في «كتابِ الدعاءِ» أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «يقولُ اللهُ تعالى: يا ابنَ آدمَ، إنما هي أربعٌ، واحدةٌ لي، وواحدةٌ لكَ، وواحدةٌ بيني وبينَكَ، وواحدةٌ بينَكَ وبينَ خَلْقي، فأما الذي هي لي: فتعبُدُني لا تشركُ بي شيئًا، وأما التي هي لكَ: فعملُكَ أجزيكَ به أحوجَ ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينكَ: فمنك الدعاءُ، وعليَّ الإجابةُ، وأما التي بينَكَ وبينَ خَلْقي: فائتِ الناسَ ما تحبُّ أن يأتوه لكَ»
(1)
.
(1)
رواه الطبراني في الدعاء (12)، ورواه البيهقي في شعب الإيمان أيضًا (10671)، من حديث أنس رضي الله عنه.
وينظر أصل الفتوى من أول الفصل إلى هنا في مجموع الفتاوى 10/ 5.
وطلبُ العلمِ الواجبِ
لكونِه معيَّنًا على كلِّ أحدٍ، أو لكونِه هو محتاجٌ إلى جوابِ مسائلَ في أصولِ دينِه أو فروعِه، ولا يجدُ في بلدِه من يُجيبُه، وإما لكونِه فرضًا على الكفايةِ، ولم يقُمْ به مَن يُسقِطُ الفرضَ؛ فيجوزُ السفرُ لطلبِ ذلك بدونِ رضا الوالدينِ، فلا طاعةَ لهما في تركِ فريضةٍ.
فَصْلٌ
(1)
ومَن قال: إن اللهَ لم يكلِّمْ
موسى تكليمًا، فإنه يُعرَّفُ نصَّ القرآنِ، فإن أنكَرَه بعدَ ذلك استُتِيبَ، فإن تاب وإلا قُتِل، فالكفرُ لا يكونُ إلا بعدَ البيانِ.
وأما الأئمَّةُ الذينَ أفتَوا بقتلِ مثل هؤلاء الجَهْميَّةِ الذينَ يُنكِرونَ رؤيةَ اللهِ في الآخرةِ، ويقولونَ: القرآنُ مخلوقٌ، ونحوَ ذلك؛ قيلَ: إنهم أمروا بقتلِهم لأجلِ كفرِهم، وقيلَ: لأنهم إذا دعوا الناسَ إلى بدعَتِهم؛ أضلُّوا الناسَ، فقُتِلوا لأجلِ الفسادِ في الأرضِ، وحفظًا لدينِ الناسِ أن يُضِلُّوهم.
وبالجملةِ؛ فقد اتَّفقَ سلَفُ الأمةِ وأئمَّتُها على أن الجَهْميَّةَ من شرِّ طوائفِ أهل البدع، حتى أخرجوهم عن الثنتينِ والسبعينَ فرقةً.
ومِن الجَهْميَّةِ: المتفلسفةُ والمعتزلةُ الذينَ يقولونَ: كلامُ الله
(1)
ينظر أصل الفتوى في: مجموع الفتاوى 12/ 523، والفتاوى الكبرى 5/ 45.
مخلوق، وأنه لا يُرَى في الآخرةِ، وأنه ليس مباينًا لخلقِه، وأمثالَ هذه المقالاتِ المستلزمةِ تعطيلَ الخالقِ، وليس كلُّ من خالفَ ما عُلِم بطريقِ العقلِ كان كافرًا، ولو قُدِّرَ أنه جحَد بعضَ صرائحِ العقلِ؛ لم يُحكَمْ بكفرِه؛ حتى يكونَ قوله كفرًا في الشريعةِ، بخلافِ مَن خالفَ ما عَلِم أن الرسولَ جاء به؛ فإنه كافرٌ بلا نزاعٍ.
وذلك أنه ليس في الكتابِ والسُّنَّةِ، ولا في قولِ أحدٍ من سلف الأمةِ: الإخبارُ عن اللهِ بأنه مُتحيِّزٌ، أو ليس بمُتحيِّزٍ، ولا في الكتابِ والسُّنَّةِ: أن مَن قال هذا وهذا يكفُرُ.
وهذا اللفظُ مُبتدَعٌ، والكفرُ لا يتعلقُ بمجرَّدِ أسماءٍ مُبتدَعةٍ لا أصلَ لها؛ بل يُستفسَرُ هذا القائلُ، فإن قال: أعني أنه مُتحيِّزٌ؛ أي: داخلٌ في المخلوقاتِ، قد حازَتْه؛ فهذا باطلٌ، وإن قال: أعني أنه منحازٌ عن المخلوقاتِ، مباينٌ لها؛ فهذا حقٌّ، وكذلك قولُه: ليس بمتحيز؛ إن أرادَ أن المخلوقَ لا يحوزُ الخالقَ؛ فقد أصابَ، وإن قال: الخالقُ لا يُبايِنُ المخلوقَ؛ فقد أخطأَ.
فَصْلٌ
(1)
السماعُ الذي أمَر الله به
ورسولُه هو سماعُ القرآنِ؛ كما قال: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} ، وقال: {إذا يتلى عليهم
(1)
ينظر أصل الفتوى في: مجموع الفتاوى 11/ 587.
يخرون للأذقان}، {يبكون ويزيدهم خشوعا} ، {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع} ، {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} ، {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} ، {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن} ، {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذينَ يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} ، وهذا كثيرٌ في القرآنِ.
وذَمَّ المعرضينَ عنه مثل قولِه: {وقال الذينَ كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} ، {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها} ، {إن شر الدواب عندَ اللهِ الصم البكم الذينَ لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} .
وشُرِع سماعُه في عِشاءِ الآخرةِ والمغربِ، وأعظمُ سماعٍ شرَعه في الفجرِ؛ قال:{وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} ، قال ابنُ رَواحةَ يمدحُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم:
وفينا رسولُ اللهِ يتلو كتابَه إذا انشَقَّ معروفٌ من الفجرِ ساطِعُ
أرانا الهُدَى بعدَ العَمَى فقُلوبُنا
…
به موقناتٌ أنَّ ما قال واقِعُ
يَبِيتُ يُجافي جَنْبَه عن فِراشِه
…
إذا استَثْقَلَتْ بالمشركينَ المضاجِعُ
(1)
(1)
رواه البخاري (1155)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وهو مُستحَبٌّ لهم في غير الصلاة، كما في الصحيحِ أنه قال لابنِ مسعودٍ:«اقرأ عليَّ» ، فقلتُ: أقرأُ عليكَ وعليكَ أُنزِلَ؟! فقال: «إنِّي أحِبُّ أن أسمعَه مِن غيري» ، فقرأتُ عليه سورةَ النساءِ حتى قرأتُ قولَه:{فكيفَ إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاءِ شهيدا} ، فقال:«حَسْبُكَ» ، فنظرتُ فإذا عيناه تذرفانِ
(1)
، وكان الصحابةُ إذا اجتمعوا أُمِر أحدُهم يقرأ، والباقون
(2)
يستمعونَ
(3)
.
وهذا السماعُ له آثارٌ إيمانيةٌ من المعارفِ القدسيةِ والأحوالِ الكونيةِ، يطولُ شرحُها، وله في الجسدِ آثارٌ محمودةٌ من خشوعِ القلبِ، ودموعِ العينِ، واقشعرارِ الجلدِ.
وقد ذكَر اللهُ هذه الثلاثةَ في القرآنِ، وكانت موجودةً في الصحابةِ، وحدَثَ بعدَهم آثارٌ ثلاثةٌ؛ من الاضطرابِ، والصراخِ، والإغماءِ أو الموتِ، فأنكَرَ بعضُ السَّلَفِ ذلك؛ إما لبدعَتِهم، وإما لتصنُّعِ صاحبه، وجمهورُ السَّلَفِ لا يُنكِرُ ذلك إذا كان السماعُ شرعيًّا، فإن السببَ إذا لم يكُنْ محذورًا؛ كان صاحبُه معذورًا، وسبَبُه ضعفُ القلبِ وقوةُ الواردِ، ولو لم يُؤثِّرْ لكان مذمومًا، كما قال:{ولا تكونوا كالذينَ أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} ، ولو
(1)
رواه البخاري (4583)، ومسلم (800)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
في (الأصل): والتابعون. والمثبت من (ك) و (ع).
(3)
من ذلك: ما رواه عبد الرزاق (4179)، والدارمي (3536)، وابن حبان (7196)، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: كان عمر بن الخطاب إذا جلس عنده أبو موسى ربما قال له: ذكرنا ربنا يا أبا موسى قال: «فيقرأ» .
أثَّر آثارًا محمودةً ولم يُخرِجْ عن العقلِ؛ لكانوا أكملَ.
وأما سَماعُ القصائدِ لصلاحِ القلوبِ والاجتماعِ على ذلك، إما نشيدًا مجردًا، وإما مقرونًا بالتغبيرِ
(1)
ونحوِه؛ مثلِ: الضربِ بالقضيبِ على الجلودِ حتى يطيرَ الغبارُ، وإمَّا بالتصفيقِ ونحوِه؛ فهذا السماعُ مُحدَثٌ في الإسلامِ بعدَ ذهابِ القرونِ الثلاثةِ، وقد كرِهَه أعيانُ الأئمَّةِ، ولم يحضُرْه أكابرُ المشايخِ، فقال الشافعيُّ:«خلَّفْتُ ببغدادَ شيئًا أحدَثَتْه الزَّنادِقةُ يُسمونَه التغبيرَ، يصُدُّونَ به الناسَ عن القرآنِ» ، وسُئِلَ الإمامُ أحمدُ؟ فقال:«هو مُحدَثٌ، أكرَهُه» ، قيلَ له: إنه يُرِقُّ القلبَ، قال: لا تجلسْ معَهم، قيلَ: أيُهجَرونَ؟ فقال: «لا يبلُغُ بهم هذا كلُّه» .
فتبيَّنَ أنه بدعةٌ، ولو كان للناسِ فيه منفعةٌ لفعَلَه القرونُ الثلاثةُ، ولم يحضرْه مثلُ ابنِ أدهمَ، والفضيلِ، ومعروفٍ، وسَرِيٍّ، وأبي سليمانَ الدارانيِّ، والشيخِ عبدِ القادرِ، والشيخ عدي، وأبي البيان، والشيخ حياة، بل في كلام بعضهم - كالشيخ عبد القادر وغيرِه - النهيُ عنه، وكذلك أعيانُ المشايخِ.
(1)
قال في تاج العروس 13/ 195: (وقال ابن دريد: التغبير: تهليل أو ترديد صوت يردد بقراءة وغيرها. ومثله قول ابن القطاع، ونصه: وغبر تغبيرًا: وهو تهليل وترديد صوت بقراءة أو غيرها. فقوله: أو غيرها وكذا قول ابن دريد: وغيرها، المراد به ما قال الليث ما نصه: وقد سموا ما يطربون فيه من الشعر في ذكر الله تغبيرًا، كأنهم إذا تناشدوه بالألحان طربوا فرقصوا وأرهجوا، فسموا المغبرة لهذا المعنى).
وقد حضَره جماعةٌ من المشايخِ، وشرَطوا له المكانَ والإمكانَ والخِلَّانَ، وأكثرُ الذينَ حضَروه من المشايخِ؛ المعروفُ أنهم رجَعوا عنه في آخِرِ عمرِهم؛ كالجُنَيدِ، وكان يقولُ:(من تكلَّفَ السماعَ فُتِنَ به، ومَن صادَفَه استراحَ)، فقد ذَمَّ مَن يجتمعُ له، ورخَّص لمن لا يقصِدُه؛ بل صادَفَه.
وسببُ ذلك: أنه مجمل؛ فيه شعر يحتمل حبَّ الرحمنِ، والمردانِ والنِّسوانِ والصلبانِ والإخوانِ والأوطانِ، فقد يكونُ فيه منفعةٌ إذا حرَّك الساكنَ، وكان مما يحبُّه اللهُ ورسولُه؛ لكن فيه مضرةً راجحةً على منفعتِه؛ كالخمرِ والميسرِ؛ فإن {فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} ، فلهذا لم تأتِ به الشريعةُ، فإنها لم تأتِ إلا بالمصلحةِ الخالصةِ أو الراجحةِ.
أما ما غَلبتْ مفسدتُه فلا تأتي به شريعةٌ، وذلك أنه يهيجُ الوَجدَ المشتركَ، فيُثيرُ من النفسِ كوامنَ تضُرُّه آثارُها، وتعدي النفسَ وتُتعِبُها به، فيعتاضُ به عن سماعِ القرآنِ؛ حتى لا يبقى فيها محبةٌ لسماعِ القرآنِ، ولا الالتذاذُ به؛ بل يبقى في النفسِ بغضٌ لذلك، كمن شغَل نفْسَه بتعلُّمِ علمِ التوراةِ والإنجيلِ وعلومِ أهلِ الكنائسِ، واستفادةِ العلمِ والحكمةِ منها، وأعرَضَ بذلك عن كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِه، إلى أشياءَ أخَرَ يطولُ شرحُها، فلما كان هذا السماعُ لا يعطي بنفْسِه ما يحِبُّ اللهُ ورسولُه من الأحوالِ والمعارفِ، بل قد يصُدُّ عن ذلك، ويُعطي ما لا يحبُّه اللهُ ورسولُه، أو ما يُبغِضُه؛ لم يأمُرِ اللهُ به ولا رسولُه، ولا سلَفُ الأمةِ، ولا أعيانُ مشايخِها.
ونكتةُ ذلك: أن الصوتَ يؤثرُ في النفسِ بحسَبِه، فتارةً يُفرِحُ، وتارةً يُحزِنُ، وتارةً يُغضِبُ، وتارةً يُرضِي، وإذا قوِي أسكَرَ الروحَ، فتصيرُ في لذةٍ مطربةٍ من غيرِ تمييزٍ، كما يحصُلُ لها إذا سكرتْ بالصورِ، والجسدِ إذا سكِر بالطعامِ أو الشرابِ، فإن السُّكْرَ هو الطَّرَبُ الذي يُورِثُ لذةً بلا عقلٍ، فلا تقومُ منفعةُ تلك اللذةِ بما يحصُلُ من غَيْبةِ العقلِ الذي صَدَّتْ عن ذكرِ اللهِ وعن الصَّلاةِ، وأورَثَتْ العداوةَ والبغضاءَ.
وبالجملةِ؛ فعلى المؤمنِ أن يعلمَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يتركْ شيئًا يُقرِّبُ إلى الجنةِ إلا وقد حدَّث به، ولا شيئًا يُبعِدُ عن النارِ إلا وقد حدَّث به، ولو كان في هذا السماعِ مصلحةٌ شرعيةٌ؛ لشرَعَه اللهُ ورسولُه، فإنه يقولُ:{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} ، وإذا وجَد فيه منفعةً بقلبِه، ولم يجدْ شاهدَ ذلك من الكتابِ والسُّنَّةِ؛ لم يَلْتفِتْ إليه، كما أن الفقيهَ إذا رأى قياسًا لا يشهدُ له الكتابُ والسُّنَّةُ؛ لم يَلتفِتْ إليه ويكونُ باطلًا.
وقال أبو سليمانَ الدارانيُّ: (إنه ليمُرُّ بقلبي النكتةُ من نُكَتِ القومِ، فلا أقبَلُها إلا بشاهدَيْن عدلين: الكتابِ والسُّنَّةِ)، وقال أيضًا:(ليس لمن أُلهِمَ شيئًا من الخيرِ أن يَفعلَه حتى يجدَ فيه أثرًا، فإذا وجَد فيه أثرًا؛ كان نورًا على نور)، وقال الجُنَيدُ:(عِلمُنا هذا مقيدٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ، فمن لم يقرَأِ القرآنَ ويكتب الحديثَ؛ لم يصلُحْ له أن يتكلمَ في علمِنا).
وأيضًا: فإن اللهَ تعالى يقولُ: {وما كان صلاتهم عندَ البيت إلا مكاء وتصدية} ، قال السَّلف: المُكاءُ: الصفير، والتصديةُ: التصفيقُ باليدِ، فقد أخبر عن المشركين أنهم كانوا يجعلونَ التصفيقَ والغناءَ لهم صلاةً وعبادةً وقربةً، يعتاضونَ به عن الصَّلاةِ التي شرَعَها اللهُ ورسولُه.
وأما المسلمونَ من الصحابةِ والتابعِينَ؛ فصلاتُهم وعبادتُهم القرآنُ واستماعُه، والركوعُ والسجودُ، وذِكْرُ اللهِ ودعاؤُه، ونحوُ ذلك مما يحبُّه اللهُ، فمن اتخذَ الغناءَ والتصفيقَ عبادةً؛ فقد شابَهَ المشركينَ، فإن فعَلَه في بيوتِ اللهِ؛ فقد شابَهَهم أكثرَ وأكثرَ، وإن اشتَغلَ به عن الصَّلاةِ والقرآنِ؛ فقد عظُمتِ المشابهةُ لهم، وصار له كِفْلٌ عظيمٌ من الذمِّ الذي دلَّ عليه القرآن؛ لكن قد يُغفَرُ لهم بحسناتٍ، أو اجتهادٍ، أو غيرِ ذلك مما يفترقُ فيه المسلمُ والكافرُ؛ لكن مفارقتَه للمشركينَ في غيرِ هذا؛ لا يمنعُ أن يكونَ ملومًا خارجًا عن الشريعةِ، داخلًا في البدعةِ التي ضاهَى بها المشركينَ.
فينبغي للمؤمنِ أن يتفطنَ لهذا، ويُفرِّقَ بينَ سماعِ المسلمِينَ الذي أمَر اللهُ به، وسماعِ المشركينَ الذي نهى الله عنه، ويعلمَ أن هذا السماعَ المُحدَثَ من جنسِ سماعِ المشركينِ، ومعَ ذلك فقد شرَطوا له شروطًا لا تكادُ توجدُ في سماعٍ، فعامةُ هذه السماعاتِ خارجةٌ عن إجماعِ المشايخِ، وليس للعالَمينَ شريعةٌ سوى التي جاء بها محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فخيرُ الكلامِ كلامُ اللهِ، وخيرُ الهدي هدي محمدٍ.
وقد تزَنْدقَ بعضُ الكذابينَ، ورَوى أن أعرابيًّا أنشد للنبيِّ صلى الله عليه وسلم:
قد لسعَتْ حيةُ الهوى كَبِدي فلا طبيبَ لها ولا راقي
إلا الحبيبُ الذي شُغِفْتُ به فعندَه رُقْيَتي وتَرْياقي
وأنه تواجدَ حتى سقَط رداؤُه عن مَنكِبيه، وقال:«ليس بكريمٍ مَن لم يتواجدْ عندَ ذكرِ محبوبه»
(1)
.
وهذا كذبٌ بإجماعِ العارفينَ بسيرةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وسنتِه وأحوالِه، كما كذَب بعضُهم أن أهلَ الصُّفَّةِ قاتلوا المسلمِينَ معَ المشركينَ، فهذا كلُّه قد كَذَبه مَن خرَج عن أمرِ اللهِ ورسولِه، ونفَقَتْ على طوائفَ من الجاهلينَ.
وأما الرقصُ؛ فلم يأمُرِ اللهُ به
ولا رسولُه، ولا أحدٌ من الأئمَّةِ؛ بل قال:{ولا تمش في الأرضِ مرحا} ، والرقصُ شيء من ذلك.
وليس لأحدٍ أن يتعاطى ما يُسكِرُه ويُخرِجُه عن عقلِه، فمن كان صادقًا في هذه الأحوالِ؛ فهو مبتدعٌ ضالٌّ، من جنسِ خُفَراء العدوِّ وأعوانِ الظلمةِ، ومن كان كاذبًا فهو منافقٌ ضالٌّ، وقال الجُنَيدُ:(من وقَّر صاحبَ بدعةٍ؛ فقد أعانَ على هدمِ الإسلامِ، ومَن انتَهرَ صاحبَ بدعةٍ؛ ملأ اللهُ قلبَه أمنًا وإيمانًا)، وإذا كان غيرَ مشروعٍ ولا مأمورٍ به؛
(1)
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 11/ 563: (ذكره محمد بن طاهر المقدسي في "مسألة السماع" وفي "صفة التصوف"، ورواه من طريقه الشيخ أبو حفص عمر السهروردي صاحب عوارف المعارف).
فالتعبدُ به، واستفتاحُ بابِ الرحمةِ به؛ هو مِن جنسِ عبادةِ الرُّهْبانِ، ليس مِن عبادةِ أهلِ الإسلامِ والإيمانِ.
فَصْلٌ
وأما دعاءُ غيرِ اللهِ
والاستعانةُ بغيرِه؛ فلا تجوزُ، وإن جاز أن يتوسلَ برسولِ اللهِ، فيجوز أن يقولَ:«اللهُمَّ إني أسألُكَ وأتوسلُ إليكَ بنبِيِّكَ نبيِّ الرحمةِ، يا محمدُ، يا رسولَ اللهِ، إني أتوسلُ بكَ إلى ربي في حاجتي؛ ليقضِيَها لي، اللهُمَّ فشفِّعْه فيَّ»
(1)
.
ولا يجوزُ أن يقولَ: يا رسولَ اللهِ اغفِرْ لي، ولا: ارحَمْني، ولا: تُبْ عليَّ، ولا: أَعِنِّي، ولا: انصُرْني، ولا: أغِثْني، ولا يُدعَى إلا اللهُ، ولا يُعبَدُ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، {وأن المساجد للهِ فلا تدعوا معَ الله أحدا} ، فلا يجوزُ أن يُدعَى أحدٌ من الملائكةِ والنبيينَ، فكيفَ بالمشايخِ؟!
ولكنَّ حقَّ الرسولِ: أن نؤمنَ به ونُعَزِّرَه ونُوَقِّرَه ونتبِعَه، ويكونَ أحبَّ إلينا من أنفسِنا، وأهلِنا، وأموالِنا، وأولادِنا.
ولولاةِ الأمورِ من العُلَماءِ والمشايخِ والملوكِ والأمراءِ حقوقٌ، كلٌّ بحسَبِه فيما أمَر اللهُ به ورسولُه.
(1)
رواه أحمد (17240)، والترمذي (3578)، وابن ماجه (1385)، من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه.
وأما العبادةُ والاستعانةُ وتوابِعُها فللهِ، {إياك نعبد وإياك نستعين} ، فلا يجوزُ لأحدٍ أن يحلفَ بحياةِ أبيه، أو نفْسِه، أو شيخِه، أو تربتِه، ولا برأسِه، أو رأسِ فلانٍ، ولا بنعمةِ السلطانِ، ولا بالسيفِ، ولا بغيرِ اللهِ، واللهُ يُوفِّقُنا وسائرَ إخوانِنا لما يحبُّه ويَرْضاه.
فَصْلٌ
(1)
وليس في جبلِ لبنانَ
وأمثالِه فضلٌ، ولا نصَّ في ذلك عن اللهِ ولا عن رسولِه؛ بل هو كغيرِه من الجبالِ التي خلَقَها اللهُ تعالى.
وأما ما يُذكَرُ في بعضِ الحكاياتِ من الاجتماع ببعضِ العبادِ في جبلِ لبنانَ، وجبلِ اللُّكامِ ونحوِه، وما يُؤثَرُ عن بعضهم من حميدِ المقالِ؛ فلأن هذه الأمكنةَ كانت ثُغورًا يُرابِطُ بها المسلمونَ بجهادِ العدوِّ، فكانت غزةُ، وعَسْقلانُ، وعَكَّا، وبيروتُ، وجبلُ لبنانَ، وطَرابُلُسُ، ومَصِيصةُ، وسِيسُ، وطَرْطُوسُ، وأَذِنةُ، وجبلُ اللُّكامِ، ومَلَطْيةُ، وآمِدُ، وجبل ليسون، إلى قَزْوينَ، إلى الشاشِ، ونحوُ ذلك من البلادِ كانت ثُغورًا، كما كانت الإسكندريةُ وعَبَّادانُ، وكان الصالحونَ ينتابونَ الثغورَ لأجلِ الجهادِ والمرابطةِ في سبيلِ اللهِ، فإن المرابطةَ أفضلُ من المجاورةِ بمكةَ والمدينةِ، ما أعلَمُ في ذلك خلافًا، فكان
(1)
ينظر أصل الفتوى في: مجموع الفتاوى 27/ 50.
صالحو المؤمنينَ يرابطونَ في هذه الأماكنِ؛ كالأوزاعيِّ، وأبي إسحاقَ الفزاريِّ، ومَخْلَدِ بنِ الحسينِ، وإبراهيمَ بنِ أدهمَ، وعبدِ اللهِ بنِ المباركِ، وحذيفةَ المرعشي، ويوسفَ بنِ أسباطَ، وغيرِهم، كأحمد ابن حنبلٍ وسَرِي وغيرِهما كانا يقصدانِ طَرَسوسَ.
فعامةُ ما يُذكَرُ في فضلِ هذه الأماكنِ في كلامِ المتقدمينَ هو لأجلِ كونِها كانت ثغورًا، لا لخاصيةٍ في ذلك المكانِ، وكونُ البقعةِ ثَغرًا وغيرَ ثَغْرٍ هو من الصفاتِ العارضةِ لها لا الملازمةِ، بمنزلةِ كونها دارَ إسلامٍ أو دارَ كفرٍ، فذلك يختلفُ باختلافِ سُكَّانِها وصفاتِهم، بخلافِ المساجدِ الثلاثةِ؛ فإن حرمَتَها صفةٌ لازمةٌ لها، لا يمكنُ إخراجُها عن ذلك، وأما سائرُ المساجدِ فبين العُلماءِ نزاعٌ في جوازِ تغييرِها للمصلحةِ وجعلِها غيرَ مسجدٍ، كما فعَل عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه بمسجدِ الكوفةِ؛ لما بدَّلَه وجعَلَه حَوانيتَ للتمَّارِينَ
(1)
، وهذا مذهَبُ إمامِ الأئمَّةِ أحمدَ بن حنبل وغيرِه.
وكان قد فتَح المسلمونَ قُبرُصَ، فتحها معاويةُ في خلافةِ عثمانَ، فكانت هذه الأماكنُ - السواحلُ الشاميةُ - ثُغورًا، ثم في أثناءِ المائةِ الرابعةِ تغَلَّبَت على الخلافةِ الرافضةُ والمنافقونَ وصار لهم دولةٌ، فغلَبَ النصارى على عامةِ السواحلِ وأكثرِ بلادِ الشامِ، وقهروا الروافضَ والمنافقينَ وغيرَهم، إلى أن يسَّر اللهُ بولاةِ ملوكِ السُّنَّةِ؛ مثلِ: نورِ الدينِ، وصلاحِ الدينِ، فاستنقَذوا عامةَ الشامِ من النصارى، وبقِيتْ
(1)
رواه الطبراني في الكبير (8949).
بقايا الروافضِ والمنافقينَ في جبلِ لبنانَ وغيرِه، ليس فيه فضيلةٌ، ولا يُشرَعُ، بل ولا يجوزُ المقامُ بينَ النصارى والروافضِ إذا منعوا المسلمَ عن إظهارِ دينِه.
وصار طائفةٌ من الذينَ يؤثرونَ الخلوةَ يُحِبُّونَ هذه الأماكنَ، ويظنونَ أن فضيلتَها لأجلِ ما فيها من الخلوةِ والمباحات، فيقصدونَه لأجلِ ذلك، وهذا غلَطٌ وخطأٌ؛ فإن سُكْنى الجبالِ والغِيرانِ والبَوادي غيرُ مشروعةٍ للمسلمِينَ؛ إلا عندَ الفتنةِ في الأمصارِ التي تخرِجُ الرجلَ إلى ترك دينه، فيهاجرُ المسلمُ من أرضٍ يعجِزُ فيها عن إقامةِ دينِه إلى أرضٍ يمكنُه فيها إقامةُ دينِه، وربما كان فيه بعضُ الأوقاتِ من الزهادِ والنُّسَّاكِ ممَّن هو إما ظالمٌ لنفْسِه، وإما مقتصدٌ مخطئٌ مغفورٌ له، وأمَّا السابقونَ؛ فهم الذينَ يتقربونَ بالنوافلِ بعدَ الفرائضِ.
ولا خلافَ أنَّ جنسَ النُّساكِ والزُّهادِ الساكنينَ في الأمصارِ أفضلُ من جنسِ ساكني الجبالِ والبوادي؛ كفضيلةِ القرويِّ على البدويِّ، والمهاجرِ على الأعرابيِّ، قال اللهُ تعالى:{الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} ، وفي الحديثِ:«إنَّ من الكبائرِ أن يرتدَّ الرجلُ أعرابيًّا بعدَ الهجرةِ»
(1)
، هذا لمن هو ساكنٌ في الباديةِ بينَ الجماعةِ، فكيفَ بالمقيمِ وحدَه دائمًا في جبلٍ أو باديةٍ؟! فإنه يفوتُه من مصالحِ دينِه نظيرُ ما يفوتُه مِن مصالحِ
(1)
رواه البخاري في الأدب المفرد (578)، بمعناه موقوفًا على أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه الطبراني في الأوسط (5709)، مرفوعًا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
الدنيا، أو قريبٍ منها، فإن يدَ اللهِ على الجماعةِ، والشيطانُ معَ الواحدِ، وهو مِن الاثنينِ أبعدُ.
وأما اعتقادُ بعضِ الجهَّالِ أن فيه الأربعينَ الأبدالَ؛ فهذا جهلٌ وضلالٌ، ما اجتَمعَ فيه الأبدالُ الأربعونَ قطُّ، ولا هو مشروعٌ لهم ولا فائدةَ في ذلك؛ وهو نظيرُ اعتقادِ جهالِ الرافضةِ في الإمامِ المعصومِ صاحبِ الزمانِ الذي يقولونَ: إنه غائبٌ عن الأبصارِ، حاضرٌ في الأمصارِ، ويُعظِّمونَ قدرَه ويرجون برَكتَه؛ وهو معدومٌ لا حقيقةَ له، فكلُّ من علَّق دينَه بالمجهولاتِ؛ فهو من أهلِ الضلالاتِ.
وكذلك قولُ بعضِ الجهالِ: إن به أو بغيرِه رجالَ الغيبِ، فقد أضلوا به كثيرًا من الأتراكِ والجهالِ، وأكلوا أموالَهم بالباطلِ، ولم يكُنْ من أولياءِ اللهِ من هو غائبُ الجسدِ عن أبصارِ الناسِ، ولكن قد يغيبُ كثيرٌ منهم عن الناسِ حقيقةُ قلبِه وما في باطنِه من ولايةٍ للهِ، فيكونُ في الأمصارِ وبينَ الناسِ مَن هو مِن أولياءِ اللهِ، وقد لا تُعلمُ حالُه، كما قال:«رُبَّ أشعثَ أغبرَ ذي طِمرَيْنِ، مدفوعٍ بالأبوابِ؛ لو أقسَمَ على اللهِ لأَبَرَّه»
(1)
، وليس ذلك محصورًا في رَثاثةِ الحالِ، بل الولايةُ في كلِّ مؤمنٍ تقِيٍّ، كما قال تعالى:{ألا إن أولياء اللهِ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذينَ آمنوا وكانوا يتقون} .
وكذلك خبَرُ الرجلِ الذي ينبُتُ الشعرُ على جميعِ بدنِه كالماعزِ؛ باطلٌ ومحالٌ.
(1)
رواه أحمد (12476)، والترمذي (3854)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
نعم، قد يكونُ في الضُّلَّالِ من الزُّهادِ مَن يتركُ السنةَ حتى ينبُتُ الشعرُ ويكثرُ على جسَدِه، فينبغي أن يُؤمَرَ بما أمَر اللهُ به ورسولُه من إحفاءِ الشواربِ، ونَتْفِ الإِبْطِ، وحلقِ العانةِ، فإن ظَنَّ أن هَدْيَه خيرٌ من هديِ محمدٍ؛ فهو كافرٌ.
فالانحناء لهذا الجبلِ هو من الجهالاتِ والضلالاتِ، وكذلك التبركُ بما يحملُ منه مِن التمرِ، وهو من البِدَعِ الجاهليةِ المضاهيةِ لجهالاتِ النصرانيةِ المشركينَ.
فَصْلٌ
وكراماتُ الأولياءِ حقٌّ
باتِّفاقِ أئمةِ أهلِ الإسلامِ والسُّنَّةِ والجماعةِ، وقد دلَّ عليه القرآنُ في غيرِ موضعٍ، والأحاديثُ الصحيحةُ، والآثارُ المتواترةُ عن الصحابةِ والتابعِينَ وغيرِهم، وإنما أنكَرها أهلُ البِدَعِ من المعتزلةِ والجَهْميَّةِ ومَن تابَعَهم؛ لكنْ كثيرٌ ممن يدَّعيها، أو تُدَّعى له؛ يكونُ كذبًا أو ملبوسًا عليه.
وأيضًا؛ فإنها لا تدلُّ على عِصمةِ صاحبِها، ولا على وجوبِ اتباعِه في كلِّ ما يقولُه؛ بل قد تصدرُ بعضُ الخوارقِ من الكشفِ وغيرِه عن الكفارِ، كما ثبَتَ عن الدَّجَّالِ أنه يقولُ للسماءِ: أمطري، فتُمطِرُ، وللأرضِ: أَنْبِتِي، فتُنبِتُ، وأنه يقتلُ واحدًا، ثم يحْيى، وأنه يُخرِجُ خلفَه كنوزَ الذهبِ والفِضَّةِ
(1)
.
(1)
رواه مسلم (2937)، من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه.
ولهذا اتَّفقَ أئمةُ الدينِ على أن الرجلَ لو طارَ في الهواءِ، ومشى على الماءِ؛ لم يغترَّ به حتى يُنظَرَ وقوفُه عندَ الأمرِ والنَّهْيِ الذي بعَث اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم.
والعلاجُ بالحجارةِ
إن كان فيه منفعةٌ للجهادِ، وإلا فهو باطلٌ.
وما روي عنه:
«اتخذوا معَ الفقراءِ أياديَ؛ فإن لهم دولةً وأيَّ دولةٍ» ؛ حديثٌ باطلٌ، والدولةُ في الآخرةِ للمتقينَ؛ سواءٌ كانوا فقراءَ أو أغنياءَ، ومن أحسَنَ إلى الفقراء؛ فاللهُ يأجُرُه على ذلك، ومن أحسنَ إليهم لطلبِ الجزاءِ منهم، كما تؤخذُ اليدُ مِن الشخصِ ليُكافِئَه بها؛ فلا أجرَ له عندَ اللهِ.
وأما ما رُوِي: «إنه مكتوبٌ على كلِّ فَرْجٍ ناكِحُه» ؛ فليس له صحة أيضًا، وليس هو من كلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لكن لا رَيْبَ أن اللهَ كتَب ما يفعلُ العبادُ قبلَ أن يفعلوه، وذلك عندَه، وقد كتبت الملائكة ما يعملُه العبدُ قبلَ أن يَعملَه.
كِتَابُ الشَّهَادَاتِ
إذا مات الشاهدُ
فهل يُحكَمُ بخطِّه؟ فيه نزاعٌ، فمذهَبُ مالكٍ: يُحكَمُ، وهو قولٌ في مذهبِ أحمدَ.
إذا شهِد شاهد
أن فلانةَ أبرأَتْ زوجَها: حلَف الزوجُ، وحُكِم له إن كان الشاهد ممن يُرضَى من الشهداءِ.
وإذا كان الشاهدُ
في الرضاعِ ذا عدل؛ قُبِل قولُه، وفي تحليفِه نزاعٌ
(1)
.
ويجوزُ للشافعيِّ
أن يشهدَ عندَ حاكمٍ مالكيٍّ: أن هذا خطُّ فلانٍ، إذا جزَم به من غيرِ شكٍّ، متبعًا لمن يجيزُ ذلك من الأئمَّةِ في مسألةٍ يتوجَّهُ فيها قولُ الذي قلَّدَه، ولم يكُنْ متبعًا للرخصةِ، فهذا سائغٌ في المشهورِ من مذاهب الأربعةِ؛ إذ لا يجبُ على أحدٍ أن يلتزمَ مذهَبَ شخصٍ بعينِه في جميعِ الشريعةِ في ظاهرِ مذهَبِ الشافعيِّ وغيرِه، لكن متى التزمَه فلا بدَّ أن يلتزمَه له وعليه؛ مثلُ من يترجَّح عندَه إثباتُ الشُّفْعةِ للجارِ، فيتبعُ ذلك له وعليه، فأما أن يُقلِّدَ إذا كان الطالبُ هو من يرى إثباتها، وإذا
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وإذا كان الشاهد) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 35/ 412.
كان هو المطلوبَ قلَّد
(1)
من يرى نفيها؛ فهذا لا يجوزُ بلا نزاعٍ فيما أعلَمُه، وكذلك لا يجوزُ تتبُّعُ الرُّخَصِ مطلقًا.
والعملُ بالخطِّ مذهبٌ قويٌّ
، بل هو قولُ جمهورِ السَّلَفِ، وإذا رأى الرجلُ بخطِّ أبيه حقًّا له، وهو يعلمُ صِدْقَه؛ جاز له أن يَدَّعِيَه ويحلفَ عليه.
واتفقوا على أنه يجوزُ
أن يشهدَ على الرجلِ إذا عرَف صورتَه، معَ إمكانِ الاشتباه، وتَنازَعوا في الشهادةِ على الصوتِ من غيرِ رؤيةِ المشهودِ عليه، فجوَّزَها الجمهورُ؛ كمالكٍ وأحمدَ، وجوَّزَها الشافعيُّ في صورةِ الضبطةِ
(2)
، والشهادةُ على الخطِّ دونَ ذلك؛ لكنَّه قويٌّ.
وما يجرح به الشاهدُ وغيرُه
مما يقدحُ في عَدالتِه ودينِه؛ فإنه يَشهَدُ به إذا علِمَه الشاهدُ بالاستفاضةِ، ويكونُ ذلك قدحًا شرعيًّا، صرَّحوا بأنه يُجرَحُ بما سَمِعَه منه، أو رآه، أو استفاضَ عنه، وما أعلمُ في هذا نزاعًا بينَ الناسِ، فإن المسلمِينَ يشهدونَ في وقتِنا هذا في مثلِ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ والحسنِ البصريِّ وأمثالِهما بالعدالةِ والدِّينِ، ولا يعلمونَ ذلك إلا بالاستفاضةِ، ويشهدونَ في مثلِ الحَجَّاجِ بنِ يوسفَ، والمختارِ بنِ أبي عُبَيدٍ، وعمرِو بنِ عبيدٍ، وغَيْلانَ القدريِّ، أنهم من
(1)
قوله: (قلَّد) سقطت من الأصل.
(2)
قال الرُّوياني في بحر المذهب للروياني 14/ 138: (وهو أن يجيء إلى أعمى، فيضع فاه على أذنه، ويضع الأعمى يده على رأسه، حتى يعلم أنه المقِر، ثم يحمله إلى الحاكم مضبوطًا ويقول: أقر عندي هذا بكذا).
أهلِ البِدَعِ والظلمِ؛ وذلك بالاستفاضةِ أيضًا، هذا إذا كان فيه ردُّ شهادتِه.
أما إذا كان المقصودُ اتقاءَ شَرِّه، فيجوزُ، ويُتلقَّى بما دونَ ذلك، كما قال ابنُ مسعودٍ:«اعتَبِروا الناسَ بأخدانِهم»
(1)
، وبلغ عمرَ أن رجلًا يجتمعُ إليه الأحداثُ، فنهى عن مجالسَتِه
(2)
، فإذا كان الرجلُ مخالطًا في الشرِّ لأهلِ الشرِّ يُحذَّرُ منه.
والداعي إلى البدعةِ
يستحقُّ العقوبةَ باتِّفاقِ المسلمِينَ، وعقوبتُه تكونُ تارةً بالقتلِ، وتارةً بما دونَه، كما قتَل السَّلَفُ الجَهْمَ بنَ صَفْوانَ، والجَعْدَ، وغَيْلانَ وغيرَه، ولو قُدِّر أنه لا يستحقُّ العقوبةَ، أو لا تمكنُ عقوبتُه؛ فلا بدَّ من بيانِ بدعتِه والتحذيرِ منها؛ لأنه من الأمرِ بالمعروفِ، والنَّهْيِ عن المُنكَرِ.
والبدعةُ ما اشتُهِر عندَ أهلِ السُّنَّةِ مخالفتُها للكتابِ والسُّنَّةِ؛ كبدعةِ الروافضِ، والخوارجِ، والقَدَريَّةِ، والمرجئةِ، قال ابنُ المباركِ ويوسفُ بنُ أسباطَ: (أصولُ الثِّنْتَينِ وسبعينَ فرقةً أربعةٌ: الخوارجُ، والروافضُ، والقَدَريَّةُ، [والمرجئةُ]
(3)
، قيلَ لابنِ المباركِ: والجَهْميَّةُ؟ قال: (ليسَتِ الجَهْميَّةُ من أمةِ محمدٍ).
(1)
رواه عبد الرزاق (7894)، وابن بطة في الإبانة (376).
(2)
لم نقف عليه.
(3)
ما بين المعقوفين سقط من النسخ الخطية، وهي من أصل الفتوى في مجموع الفتاوى.
والجَهْميَّةُ نُفاةُ الصفاتِ، القائلونَ بأن القرآنَ مخلوقٌ، وأن اللهَ لا يُرَى في الآخرةِ، ولم يُعرَجْ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولا عِلْمَ لله ولا قدرةَ ولا حياةَ، ونحو ذلك
(1)
.
ولا يجبُ عندَ أحدٍ من العُلَماءِ
أن يُكتَبَ في الوثائقِ أنه قادرٌ مليءٌ، ولا يجوزُ أن يُكتَبَ ذلك إلا إذا علم أنه مُقِرٌّ به.
ولا يجوزُ تلقينُ الإقرارِ
لمن لا يُعلَمُ أنه صادقٌ فيه، ولا الشهادةُ عليه إذا عُلِم أنه كاذبٌ في ذلك؛ كالعقودِ المحرمةِ، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لعَن آكِلَ الربا، ومُوكِلَه، وشاهدَه، وكاتبَه
(2)
، ومَن أقرَّ بمثلِ هذا الكذِبِ، وشهِد على الإقرارِ به، أو لَقَّنَه أن يقولَ: إنه مليءٌ بالحقِّ، وهو غيرُ مليءٍ به؛ بل لقَّنَه ذلك معَ علمِه بالحال؛ قدَحَ ذلك في عدالته.
ويجبُ على مَن طُلِبتْ
منه الشهادةُ أداؤُها؛ بل إذا امتَنعَ الجماعةُ من الشهادةِ؛ أثِموا كلُّهم باتِّفاقِ العلماءِ، وقدَح ذلك في دينِهم وعدالتِهم.
وإذا شهِد أن العينَ
كانت على ملكِه حينَ خرَجتْ من يدِه بغيرِ حقٍّ؛ حُكِم له بها، وأما إن شهِد أنها كانت ملكَه فقط، فهل يُحكَمُ له بذلك؟ على وجهَينِ في مذهَبِ الإمام أحمدَ، وقولَينِ للشافعيِّ.
(1)
ينظر أصل الفتوى من قوله: (وما يجرح به الشاهدُ
…
) إلى هنا في: مجموع الفتاوى 35/ 412، والفتاوى الكبرى 4/ 193.
(2)
رواه مسلم (1598)، من حديث جابر رضي الله عنه.
وإن شهِد بسببِ الملكِ أو ظهورِه؛ مثلُ: أنه ابتاعَه، أو ورِثَه، أو حكَم له به الحاكمُ الفلانيُّ؛ فإن الحاكمَ هنا يحكُمُ باستصحابِ الحالِ، إذا لم يثبُتْ معارضٌ راجحٌ، والشاهدُ لا يشهدُ بناءً على استصحابِ الحالِ، ولا أعلمُ في الأولى خلافًا أن الحاكمَ يحكمُ باستصحابِ الحالِ باتِّفاقِ العلماءِ.
وأما صورةُ الخلافِ؛ فإن البينةَ لما شهِدت بالملكِ في الماضي، وسكتَتْ عنه في الحالِ؛ كان هذا رِيبةً تُجوِّزُ أن البينةَ علمت بالزوالِ وسكتَتْ عن ذلك، وأما إذا شهِدت بسببِ الملك؛ لم يكُنْ فيه ريبةٌ، والأصلُ بقاءُ الملكِ.
وإذا شهِدت أنه لم يزُلْ ملكُه إلى أن غُصِبت منه، أو استُعيرتْ، أو زالت عنه يدُه بغيرِ حقٍّ، كما لو شهِدت له أنه لم يزُلْ ملكُه إلى أن مات؛ فإنه يُحكَمُ به للورثةِ حتى تقومَ حجةٌ بما يخالفُ ذلك، وكذلك هناك يُحكَمُ به للذي كان مالكًا حائزًا إلى حينِ زوالِ حَوزِه؛ فزوالُ الحوزِ كزوالِ الملكِ، ولا أعلمُ في هذا خلافًا، ولا ينبغي أن يكونَ فيه خلافٌ، فإن الغاصبَ والسارق والمستعيرَ وغيرَهم إذا جحَدوا ملكَ غيرِهم، فشهِدتِ البينةُ أنه لم يزُلْ ملكُه إلى حينِ الغَصْبِ مثلًا: احتاجوا هم إلى إثباتِ الانتقالِ لهم، وإلا فالأصلُ بقاءُ الملكِ، وقد عُلم أن زوالَ اليدِ بالعدوانِ، فلا يُقبلُ أن اليدَ يدُه إذا عُرِف مستندُها ما يصلحُ أن يستند إليه من زوالِ اليدِ المحقَّقة والانتقالِ إلى يدٍ عاديةٍ، إما هذه المعيَّنةُ أو غيرُها، فلا يُكلَّفُ ربُّ البينةِ بقاءَ الملكِ إلى حينِ الدعوى؛
لتعذُّرِ ذلك أو لتعَسُّرِه، وفيه معونةٌ عظيمةٌ لكلِّ ظالمٍ من سارقٍ وناهبٍ.
يوضحُ ذلك: أن الحاكمَ يحكمُ باستصحابِ الحال، باليدِ وبغيرِها من الطرقِ التي تفيدُ غالبَ الظنِّ، والشاهدُ لا يشهدُ إلا بالعلمِ؛ لأن الحاكمَ لا بدَّ له من فصل الخصومة، فيفصِلُها لأقوى الجانبيينِ حجةً.
وإذا حضره الموتُ
، وليس عندَه مسلمٌ؛ فله أن يُشهِدَ مَن حضَرَه من أهلِ الذِّمَّةِ في الوصيةِ، ويُحَلَّفوا إذا شهِدوا، هذا قولُ جمهورِ السَّلَفِ، وهو قولٌ للإمامِ أحمدَ وأبي عُبَيدٍ، وعليه يدلُّ القرآنُ والسُّنَّةُ، وهذا مبنيٌّ على أصلٍ؛ وهو أن الشهادةَ عندَ الحاجةِ تُجُوِّزَ فيها مثلُ شهادةِ النساءِ فيما لا يطَّلعُ عليه الرجالُ.
وشهادةُ الفاسقِ مردودةٌ
بنصِّ القرآنِ واتفاقِ المسلمِينَ، وقد يُجيزُ بعضُهم قبول شهادة الأمثلِ فالأمثلِ من الفساقِ عندَ الضرورةِ؛ إذا لم يوجَدْ عدولٌ ونحوُ ذلك.
وأما قبولُ شهادةِ الفاسقِ؛ فهذا لم يقُلْه أحدٌ من المسلمِينَ.
كذا هو؛ وظاهره التناقض إلا أن يكون في النسخة غلط، أو يكون المراد أن شهادة الفاسق لم يَقلْ أحدٌ بقبولها مطلقًا، النفيُ ضدُّ الإطلاقِ
(1)
.
(1)
من قوله: (كذا هو) إلى هنا، غير موجود في النسخ الخطية والمطبوع، وهو مثبت في الأصل، وهو تعليقٌ من البعلي على كلام شيخ الإسلام رحمهما الله.
وإذا شهِد رجلٌ
في شيءٍ أنه ملكُ فلانٍ إلى حينِ بيعِه، وحُكِم بشهادتِه، ثم شهِد بعدَ ذلك في كتابِ إقرارٍ على والدِ البائعِ بتاريخٍ متقدمٍ على تاريخِ البائعِ أنه وقَف المكانَ المذكورَ، وأن الواقفَ لم يزُلْ ملكُه إلى حينَ وقَفَه؟
فأجابَ بأن قال: رجوعُ الشاهدِ عن شهادتِه بعدَ الحكمِ بها لا تُقبَلُ، وإنما يضمَنُ، وشهادتُه الثانيةُ المنافيةُ للأولى أبلغُ من الرجوعِ، فهو أَوْلى ألَّا تُقبَلَ، والله أعلم.
ويجبُ على الشاهدِ
أداءُ الشهادةِ إذا طُلِبت منه.
ولو كان الشهودُ أكثرَ
من نِصابِ الشهادةِ، وطُلِب أحدُهم؛ وجَب عليه في أصحِّ قولَيِ العلماءِ.
وأما إذا كان المطلوبُ لا يتمُّ النِّصابُ إلا به؛ تعيَّنتْ عليه إجماعًا؛ إلا أن تكونَ الشهادةُ محرَّمةٌ كجورٍ أو كذبٍ ونحوِه، فلا يجوزُ أن يُعانَ على ذلك، لا بشهادةٍ ولا غيرِها.
ومَن قصَد خروجَ الريحِ
منه ليُضحِكَ الجماعةَ؛ فإنه يُعزَّرُ على ذلك، وتُرَدُّ شهادتُه، فقد ذكر العلماءُ أن هذا عملُ قومِ لوطٍ، ومَن لا يستحيي من الناسِ لا يستحيي من اللهِ، قال طائفةٌ في قولِه:{وتأتون في ناديكم المُنكَر} : إنهم كانوا يتضارَطُونَ في مجالسِهم، وينصبونَ مزالقَ تَزلِقُ فيها المارةُ، ونحوُ ذلك
(1)
.
(1)
ينظر: تفسير الطبري 18/ 389.
فَصْلٌ
في السنن: «أن الذي
يُحدِّثُ فيكذب فيُضحِكُ الناسَ؛ ويلٌ له، ثم ويلٌ له، ثم ويل له»
(1)
، والمصِرُّ على ذلك فاسقٌ، مسلوبُ الولايةِ، مردودُ الشهادةِ.
وما كان مباحًا في غيرِ حالِ القراءةِ
؛ مثلُ المزاحِ الذي جاءَتْ به الآثارُ، وهو أن يمزحَ ولا يقولَ إلا حقًا
(2)
، لا يكونُ في مزاحِه كذبٌ ولا عدوانٌ، فهذا أيضًا لا يُقالُ في حالِ القراءةِ، بل يُنَزَّهُ عنه القرآنِ، فليس كلُّ ما يُباحُ في حالِ غيرِ القراءةِ يُباحُ فيها، كما أنه ليس كلُّ ما يباحُ خارجَ الصَّلاةِ يباحُ فيها؛ لا سيَّما ما كان يَشْغَلُ القارئَ والمستمعَ عن التدبرِ والفهمِ؛ مثلُ كونِه يُخايلُ أو يضحكُ، كيفَ واللغوُ والضحكُ حالَ القراءةِ من أعمالِ المشركينَ؟! كما قال:{وقالوا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} ، {وإذا علم من آياتنا شيئًا اتخذها هزوا} ، {أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون} ، ووصَف المؤمنينَ أنهم يبكونَ ويخشعونَ حالَ القراءةِ.
فمن كان يضحكُ حالَ القراءةِ؛ فقد تشبَّهَ بالمشركينَ لا بالمؤمنينَ، وليس لأحد إذا أُنكِرَ عليه يقولُ للذي أنكَرَ عليه: أنتَ مُراءٍ؛ بل عليه أن
(1)
رواه أحمد (20021)، وأبو داود (4990)، والترمذي (2315)، من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه.
(2)
رواه أحمد (8481)، والترمذي (1990)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
يطيعَ اللهَ ورسولَه، ولا يكونَ ممن إذا قيلَ له اتَّقِ اللهَ أخذَتْه العِزَّةُ بالإثمِ.
وكَسْبُ المُغنِّي خبيثٌ
باتِّفاقِ الأئمَّةِ، والمُغنِّي خارجٌ عن العدالةِ.
ومَن عُرِفَ أنها زوجةُ فلانٍ
فمات؛ فلها المطالبةُ بمهرِ المثلِ، ولو لم يكُنْ لها بينةٌ بمقدارِ الصداقِ، وعليها اليمينُ: أنها لم تُبرِئْه، ولم تقبَضْ.
وإذا رحَل رجُلٌ وخلَّى
وظيفتَه شاغرةً، فتوَلَّاها أحدٌ ولايةً شرعيةً، ثم عاد ذلك الأولُ بعدَ مدةٍ؛ فليس له أن ينازعَه، وإن ذَكَر أن وليَّ الأمرِ أذِن له أن يستنيبَ؛ فإنه إن كان جائزًا فلم يفعَلْه، وإن لم يكُنْ جائزًا لم ينفَعْه، وإذا أصَرَّ على منازعتِه معَ علمِه بالتحريمِ؛ قُدِح في عَدالتِه.
كِتَابُ الدَّعَاوَى وَالبَيِّنَاتِ
ومَن ادَّعى أن بعضَ الحكام
أخَذ منه شيئًا، وكان الرجلُ معروفًا بالصدقِ؛ فله على الحاكمِ اليمينُ، وإن كان غيرُه من الصادقينَ قد قال مثلَ قولِه؛ لم تُرَدَّ أخبارُ الصادقينَ؛ بل ينبغي عزلُ الحاكمِ.
وإن كان الحاكمُ معروفًا بالأمانةِ، والرجلُ فاجرٌ؛ لم
(1)
يُلتفَتْ إلى قولِه، وعُزِّرَ، وإن كان كلٌّ منهما مُتَّهمًا؛ فله تحليفُه، ولا يُعزَّرُ.
وإذا ادَّعتْ جاريةٌ أن فلانًا
- زوجَ سيِّدتِها - وطِئَها؛ فالقولُ قولُه، وهل يحلِفُ؟ فيه نزاعٌ، ولا يحلُّ أن يجحدَ أنه وطِئَها إن كانت صادقةً، والولدُ رقيقٌ تَبَعًا لأمِّه إن لم يُقِرَّ بوَطْئِها.
وإذا نكَل المدَّعى عليه
عن اليمينِ؛ رُدَّتْ على المدعي.
وقيلَ: لا تُرَدُّ، بل يُحكَمُ عليه بنُكولِه.
وقيلَ: إن كان المدَّعَى عليه هو العالمَ بالمدعى به؛ مثلُ: أن تدَّعِيَ الورثةُ أو الوَصِيُّ على غريمٍ للميتِ دَعْوى، فيُنكِرُها، فهنا لا يُحلَّفُ المدعي؛ بل إذا نكَل المُنكِرُ قُضِي عليه؛ لقولِه: «لا تَضْطرُّوا الناسَ في
(1)
في الأصل: فلم. والمثبت من (ك) و (ع).
أيمانِهم إلى ما لا يعلمونَ»
(1)
، وإن كان المدعي هو العالمَ؛ مثلُ: أن يدَّعِيَ على وَرَثةِ الميتِ حقًّا عليه يتعلق بتَرِكتِه؛ فهنا لهم رَدُّ اليمينِ عليه، فإذا لم يحلِفْ لم يأخُذْ، وأما إذا كان المدعي يدعي العلمَ، والمنكِرُ يدعي العلمَ؛ فهنا يتوجَّهُ القولانِ.
وإذا مات الرجلُ
، وقد قال لأولادِه: إنه طلَّق امرأتَه من مدةٍ، واتفقوا معَ بعضِ الشهودِ من أصحابِ الميتِ، فشهِدوا بذلك، وهم من أصحابِه المباطِنِينَ له، وكانت المرأةُ مقيمةً معَه إلى أن تُوُفِّي، يخلو بها، وهم يعلمونَ ذلك في العادةِ؛ فإن شهادتَهم مردودةٌ؛ لأن إقرارَهم له على خَلْوتِه بها بعدَ الطلاقِ يجرَحُ عَدالتَهم.
وإذا حَبَستِ المرأة زوجَها
على حقٍّ؛ فله عليها ما كان يجبُ قبلَ الحبسِ؛ من إسكانِها حيثُ شاءَ، ومَنْعِها الخروجَ، فإذا أمكنَ حبسُه في مكانٍ تكونُ هي عندَه تمنَعُه من الخروجِ ويمنعها من الخروج كذلك؛ فُعِل ذلك، وليس للغريمِ منعُ المحبوسِ من حوائجِه إذا احتاج؛ بل يُخرجُه ويلازِمُه؛ مثلُ: غُسْلِ الجنابةِ، ونحوِه، والزوجُ له مَنْعُها مطلقًا.
وأيضًا: فإنها قد تحبِسُه، وتبقى مفلتةً، تفعلُ الفواحشَ وتقهَرُه وتعاشِرُ مَن تختارُ، وتبقى هي القَوَّامةَ عليه؛ لا سيَّما حيثُ يكثُرُ ذلك في الأزمنةِ والأمكنةِ، فرعايةُ مثلِ ذلك من أعظمِ المصالِحِ الذي لا يجوزُ إهمالُها، فكيفَ يستحلُّ مسلمٌ أن يحبسَ الرجلَ، ويمنعَه حبسَها بل
(1)
رواه عبد الرزاق (16030)، وأبو داود في المراسيل (399)، من طريق القاسم بن عبد الرحمن مرسلًا.
تذهبُ حيثُ شاءت، وهي إنما تملكُ ملازمتَه، وهي تحصُلُ بأن تكونَ هي وهو في موضعٍ واحدٍ؛ فإن النبيَّ أمر الغريمَ بملازمةِ غريمِه
(1)
.
وإذا طلَب منها الجماعَ في الحبسِ؛ لم يكُنْ لها منعُه.
وإذا ظهَر أنه قادرٌ على الوفاءِ
، وامتنعَ ظلمًا؛ عُوقِبَ بغيرِ الحبسِ؛ مثلُ: ضربِه مرةً بعدَ مرةٍ حتى يُوَفِّيَ؛ لأن مَطْلَ الغنيِّ ظلمٌ، والظالِمُ يستحقُّ العقوبةَ.
وتمكينُ مثلِ هذا من فضولِ الأكلِ والنكاحِ محلُّ اجتهادٍ، فإن رأى الحاكمُ أن تعزيرَه به؛ كان له ذلك.
وإن لم يمكنْ حبسُها معَه؛ إما لعداوةٍ تحصلُ بينهما، فأمكنَ أن يُسكِنَها في موضعٍ لا تخرجُ منه، مثلُ: رِباطٍ عندَ أناسٍ مأمونينَ؛ فلا بأسَ.
وبالجملةِ؛ فلا تُترَكُ تذهبُ حيثُ شاءت باتفاقٍ.
ولا تُقبَلُ الدعوى بما
يناقِضُ إقرارَه؛ إلا أن يذكرَ شبهةً تجري بها العادة.
وإذا أنكَر زوجيةَ امرأتِه
قُدَّامَ الحاكمِ، فلمَّا أبرَأَتْه الزوجةُ بعدَ ذلك؛ اعترفَ بالزوجيةِ، وطلَّق على مائَتَيْ درهمٍ؛ لم يبطُلْ حقُّها؛ بل هو باقٍ في ذِمَّتِه، لها أخذُه منه.
(1)
رواه أبو داود (3629)، وابن ماجه (2428)، من حديث الهرماس بن حبيب، عن أبيه، عن جده.
والخطُّ كاللفظِ
إذا ثبت أنه خطه، فلو ادَّعى عليه قَدْرًا، ثم أخذه منه، ثمَّ ظهر خطه أنَّه كان عنده على سبيلِ الوديعةِ، أو أنه قبَضَه؛ أخذ بالخطِّ، كما لو لفظَ بذلك، وله أن يأخذَ منه ما أخَذَه إذا كان قد تلفت الوديعةُ بغيرِ تفريطٍ.
وإذا كانت عادةُ العمالِ
يستخرجونَ بالوصولاتِ، فمات بعضُ العمالِ، فادَّعى بعضُ المستأجرينَ أنه قبَضَ منه؛ فلا يُقبَلُ إلا ببيِّنةٍ أو وصولٍ.
وإذا قبَضَه من له ولايةُ القبضِ؛ لم يعُدْ على المحتكرينَ به؛ بل يحتسبُ على أهلِ الوقفِ.
وإذا خلَّف رجلٌ مالًا
بينَه وبينَ آخَرَ، فأنكَرَ الوَرَثةُ حتى أبرؤوا وأخذوا منه بعضَ شيءٍ؛ لم يصِحَّ إبراؤُهم؛ لأنهم مُكرَهونَ.
وكذلك إذا قال: ما لكم عندي غيرُ كذا؛ فأبرؤوه، ثم ظهَر أن لهم عندَه غيرَ ما أقَرَّ لهم به؛ فلا يصِحُّ إبراؤُهم من الزائدِ الذي كتَمَه.
ولا يجوزُ أن يكذبَ
على مَن كذَبَ عليه، ولا يشهدَ بزورٍ على من شهِد عليه بزورٍ، ولا يُكفِّرَه بالباطلِ كما كفَّره بالباطلِ، ولا يقذِفَه كذبًا كما قذَفَه كذبًا، ولا يفجُرَ إذا خاصَمَه كما فجر هو، فكذلك لا يجوزُ له أن يغدرَ في عقدٍ عقده بينهما؛ لأجلِ كونِه غدره، فلا يخونُه كما خانه، والشارعُ نهى عن الخيانةِ لمن خان
(1)
، ولم يجعلْه قِصاصًا، فلا يأخذُ
(1)
رواه أبو داود (3535)، والترمذي (1264)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
من مالِه بغيرِ علمِه بقدرِ ما أخَذَه هو، وهذا أصحُّ قولَيِ العلماءِ.
وأما إذا كان الرجلُ قد غصَب مالَ الرجلِ مجاهرةً، فغصَب من مالِه مجاهرةً بقدرِ مالِه؛ فليس هذا من هذا البابِ، فإن الأولَ يؤدي إلى التأويلاتِ الفاسدةِ، وأن يُحلِّلَ لنفْسِه ما لا يحلُّ له أخذُه، وهذا يَعرفُ ما أخَذَه، فلا يأخذُ إلا قدرَ حقِّه، أو أكثرَ، ويكونُ معلومًا لا يمكنُ إنكارُه.
وإذا حملوا الجَهازَ
معَ البنتِ إلى بيتِها على الوجهِ المعروفِ؛ فهو تمليكٌ لها، فلا تُقبَلُ دعوى أمِّها أنَّه مِلكُها، وليس للأمِّ الرجوعُ بها ولا للأبِ أيضًا بعدَ أن تعلَّقَ بذلك رغبةُ الزوجِ، وزُوِّجتْ على ذلك.
ومَن ادعى بحقٍّ
، وخرج يقيمُ البَيِّنةَ؛ لم يجُزْ حبسُ الغريمِ؛ لكنْ هل له طلَبُ كفيلٍ منه إلى ثلاثةِ أيامٍ أو نحوِها؛ إذا قال المدعي: لي بَيِّنةٌ حاضرةٌ؟ فيه نزاعٌ، هذا إذا لم تكُنْ دعوى تُهَمةٍ.
فإن كانت تُهَمة مثلُ أنه سرَق، فهنا: إن كان مجهولَ الحالِ؛ حُبِسَ حتى يكشفَ عنه.
وأما دعاوى الحقوقِ؛ مثلُ: البيعِ، والقرضِ؛ فلا يُحبَسُ بدونِ حجةٍ، وإن ذَكر نزاعًا في المدةِ القريبةِ كاليومِ، فلا نزاعَ فيما أعلَمُه.
كِتَابُ العِتْقِ
إذا اعترفَ السيدُ
بوَطْءِ الأَمَةِ قبلَ خروجِها من ملكِه، وجاءَتْ بولدٍ لمدةِ الإمكانِ؛ لحِقَه نسَبُه، وثبَتَ في «صحيحِ مسلمٍ» أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في امرأةٍ مُجِحٍّ على بابِ فُسْطاطٍ - والمُجِحُّ: هي الحاملُ المُقرِبُ - فقال: «لعَلَّ سيدها يطؤها» ، قالوا: نعم، قال:«لقد هممْتُ أن ألعَنَه لعنةً تدخُلُ معَه قبرَه، كيفَ يُورِّثُه وهو لا يَحِلُّ له؟! كيفَ يستعبِدُه وهو لا يَحِلُّ له؟!»
(1)
، فنصَّ أنه لا يجوزُ له استعبادُه، ولا أن يجعلَه ميراثًا عنه؛ إذا كان قد سقاه ماءَه، وزاد في سمعِه وبصرِه، فصار فيه ما هو بعضٌ له، فهي أمُّ ولدِه من هذا الوجهِ.
وقد نصَّ على ذلك غيرُ واحدٍ من العُلَماءِ؛ منهم أحمدُ وغيرُه؛ حتى قالوا: تصيرُ أمَّ ولدٍ، والإسلامُ يسري كالعِتقِ، فإذا وطِئَها وهي حاملٌ؛ عتِق الولدُ، وحُكِم بإسلامِه، وليس له بَيْعُه، ولا يثبُتُ نسَبُه بمجرَّدِ ذلك.
ومَن زنَتْ أَمَتُه
، وأتَتْ بولدٍ فأعتَقَه؛ فله أجرُ عِتقٍ كاملٍ عندَ جمهورِ العُلَماءِ، وذهبَ طائفةٌ - كأبي هريرة ومالكٍ - إلى أن عِتقَه ناقصٌ
(2)
.
(1)
رواه مسلم (1441)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
(2)
روى أبو داود (3963) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «لأن أُمَتِّع بسوط في سبيل الله عز وجل أحب إليَّ من أن أُعتق ولد زِنية» .
وإذا اشترى أمَّ ولدٍ
، ثم وطِئَها؛ فهل هذا البيعُ شبهةٌ في الوَطْءِ؟ فيه نزاعٌ، والأقوى: أنه شبهة، فيلحَقُه الولدُ، وتُرَدُّ إلى سيدِها؛ لأن عندَ الأئمَّةِ الأربعةِ: لا يجوزُ بَيْعُها، وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«ثلاثةٌ لا يقبلُ اللهُ لهم صلاةً: الرجلُ يؤُمُّ قومًا وهم له كارهونَ، ورجلٌ لا يأتي الصَّلاةَ إلا دِبارًا، ورجلٌ اعتَبَدَ مُحرَّرًا»
(1)
.
فالرجلُ الأولُ يؤُمُّ القومَ وهم يكرهونَه لفسقِه أو بدعته؛ فليس له أن يؤُمَّهم، ولو كان بينَ الإمامِ والمأموم معاداةٌ من جنسِ أهلِ الأهواءِ والمذاهبِ؛ لم يسُغْ له أن يؤُمَّهم؛ لأن في ذلك منافاةً لمقصودِ الصَّلاةِ جماعةً.
والرجلُ الذي يأتي الصَّلاةَ دِبارًا؛ فهو الذي يُفوِّتُ الوقتَ.
والذي اعْتبدَ مُحرَّرًا؛ هو الذي يستعبِدُ الحرَّ؛ مثلَ: أن يُعتقَ عبدًا ويجحَدَه، أو يقهَرَه على العبوديةِ.
فلا تُقبَلُ صلاةُ هؤلاءِ؛ لأنهم قد أتوا بذنبٍ يُقاوِمُ فعلَ الصَّلاةِ، فصار ثوابُ هذا يقاومُ عقاب هذا؛ لأنه أدخلَ عليهم من البغض في الصَّلاةِ ما يقاومُ صلاتَه، وأخرَج الصَّلاةَ عن وقتِها، فعليه إثمُ التأخيرِ، فدخَل في {الذينَ هم عن صلاتهم ساهون} ، وهذا منعَ عبدَ اللهِ أن يفعلَ نفْسَه عبدًا للهِ، وجعله عبدًا لنفْسِه، فأيُّ ذنبٍ مثلُ
(1)
رواه أبو داود (593)، وابن ماجه (970)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
هذا؟! فلم تُقبَلْ لهم صلاةٌ، إذ الصَّلاةُ المقبولةُ هي التي يتقبلُها اللهُ من عبدِه فيثيبُه عليها.
ومَن وطِئ جاريةَ امرأتِه
، وتعلَّق بالحديثِ الذي فيه: عن الحسنِ، [عن قبيصة بن حريث؛ عن سلمة بن المحبِّق]
(1)
، عن النبيِّ في رجلٍ وقَع على جاريةِ امرأتِه، فقال:«إن كان استَكرَهَها؛ فهي حرةٌ وعليه مثلُها، وإن كانَتْ طاوَعَتْه؛ فهي جاريتُه وعليه مثلُها»
(2)
، فهذا الحديثُ في السننِ، وليس هو من الواهيةِ، وبعضُ الناسِ ضعَّفَه؛ لأن رُواتَه غيرُ مشهورينَ بالحديثِ، ولأنه يخالفُ الأصولَ من جهةِ عِتقِ الموطوءةِ، وجعلِها للواطِئِ.
وبعضُهم رآه حديثًا حسنًا، وحكى ذلك عن أحمدَ وإسحاقَ، وقالوا: إنه موافقٌ للأصولِ؛ لأنه يجري مَجرى إفسادِها على سيدتِها، فإنها إذا طاوَعَتْه؛ فقد فسد حالها عليها، وزاحمت سيدتها في زوجها، فيخاف من زيادة الشرِّ، فقد عَطَّل عليها بذلك نفعَها واستخدامَها، وإذا أتلَفَ مالَ غيرِه ومنَع مالِكَه من التصرفِ فيه عادةً؛ مثلُ: أن يُجدِّعَ مَركوبَ الحاكمِ ونحوَه مما لا يمكنُه ركوبُه عادةً؛ فإنه في مذهَبِ مالكٍ ومَن اتبعَه يصيرُ له، وعليه القيمةُ لمالكِه، فوَطْءُ الأَمَةِ من هذا البابِ.
(1)
في الأصل: عن عوفٍ عن سلمةَ، عن ابن الحبق. وهو خطأ، والمثبت هو ما في الأصول الحديثية وفتوى أخرى لشيخ الإسلام. ينظر مجموع الفتاوى 20/ 561.
(2)
رواه أحمد (15911)، وأبو داود (4460)، والنسائي (3363)، من حديث سلمة بن المحبق رضي الله عنه.
وإذا استَكرَهَها فهو مثلُ التمثيلِ بها، ومَن مثَّل بعبدِه عَتَقَ عليه عندَ مالكٍ وأحمدَ.
وكذا مَن جعل استكراهَ المملوكِ على التلوُّطِ به من هذا البابِ.
فإذا وطِئَها فقد أتلَفَها، فلزِمتْهُ القيمةُ، وتصيرُ له، ولأجلِ أن استِكْراهَها يُشبِهُ تمثيلَه بها؛ فتعتقَ عليه.
وقولُه: «وعليه مثلُها» في الموضعينِ، فهو مبنيٌّ على أن الحيوانَ هل يُضمَنُ بالمثلِ، أو بالقيمةِ؟ على قولَينِ للفقهاءِ الشافعيةِ والحنبليةِ، فهذا الحديثُ جارٍ على هذه الأصولِ.
ولا يملكُ السيدُ نقلَ
الملكِ في أمِّ الولدِ، لا في حياتِه ولا بعدَ موتِه، ولا يجوزُ وَقْفُها ولا هِبَتُها ولا غيرُه، ولا نزاعَ أنه يجوزُ له استخدامُها ووَطْؤُها، وفي جوازِ إجارتِها وتزويجِها نزاعٌ؛ يجوزُ عندَ أحمد وأبي حنيفةَ، وأحدُ قولَيِ الشافعيِّ، والآخَرُ: لا يجوزُ التزويجُ، وله قولٌ ثالثٌ: يجوزُ برِضاها، ومالكٌ لا يُجوِّزُ إجارتَها، ولا تزويجَها.
فمن سأل فقال:
إذا وقَفَها هل تكونُ الديةُ إذا قُتِلتْ وقفًا؟ فيه تغليطٌ للمفتي؛ فإنه كان ينبغي أن يقولَ: فهل يصِحُّ وقْفُها أم لا؟ وعلى التقديرينِ ما يكونُ حكمُها؟ فينبغي أن يُعزَّرَ هذا المستفتي تعزيرًا يردَعُه، فقد نهى رسولُ اللهِ عن أغلوطاتِ المسائلِ
(1)
، واللهُ أعلمُ.
(1)
رواه أحمد (23688)، وأبو داود (3656)، من حديث معاوية رضي الله عنه.
انتهى كتاب القواعد النُورانية المختصرة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية من الدرر المضيئة، انتهت في غرة شهر صفر [
…
] بالصور، سنة خمسين وسبعمائة، والحمد لله وحده
(1)
.
(1)
زيد في (ك): والحمد لله وفي المنَّة، وصلَّى الله على محمَّد وآله وصحبه وسلَّم.
إن تجد عيباً فَسُدَّ الخَلَلا
…
جلَّ من لا عيب فيه وعلا
والحمد لله على ما أوحى، فنعم المولى ونعم النصير، داخل هذا الكتاب غفر الله لمن هو له، ومن كتبه، ولمن قرأ فيه، ولمن سمعه، آمين، 635 سنة من هجرته صلى الله عليه وسلم الهجرة النبويَّة، كتبه الفقير إلى الله تعالى سنة 1224.
وزيد في (ع): والحمد لله ربِّ العالمين حمداً يوافي نعمه، ويكافئ مزيد فضله وكرمه، وأشكره على ممرِّ الساعات عدد كلِّ نفس ولحظة، وخطرة وطرفة.
إن تجد عيباً فَسُدَّ الخَلَلا
…
جلَّ من لا عيب فيه وعلا
وهو الله سبحانه، يطرق بها أهل السماوات والأرض، وكلُّ شيء في علم الله كائن، أو قد كان، والحمد لله الَّذي هدانا لهذا، وما كنَّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، تمَّ بحمد الله وحسن تيسيره، وتوفيقه، غرة رجب سنة 1398 على يد الفقير الحقير، المقر بالذنب والتقصير، الراجي رحمة ربِّه اللَّطيف الخبير؛ عبد الله آل محمَّد آل سليم، وصلَّى الله على سيِّدنا ونبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله على التمام.