الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة التحقيق
الحمد لله وحدَهُ، وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبِهِ أجمعين، أما بعدُ:
فهذه الطبعة الثانية من التعليقات على «تفسير ابن جُزَيٍّ الكَلْبي» رحمه الله، الموسومِ ب «التسهيل لعلومِ التنزيل» ، أملاها شيخُنا عبد الرحمن بن ناصر البرَّاك، وفيها استدراكاتٌ على مواضعَ مِنْ الكتابِ المذكورِ جانَبَ المؤلِّفُ فيها الصوابَ في مسائلَ من الاعتقاد.
وتتميز هذه الطبعة بعدة مميزات، منها:
1 -
إضافة تعليقات جديدة على مواضع من المخالفات العقدية في كتاب التسهيل، وقد شملت التعليقات في الطبعة الأولى: اثنين وسبعين موضعًا، وبلغت في هذه الطبعة الثانية: أحد عشر ومئة.
2 -
رتب شيخنا التعليقات على سور القرآن الكريم.
3 -
أضفنا فهرسًا موضوعيًا للمخالفات العقدية والسلوكية في كتاب «التسهيل» .
وننوِّه أن شيخنا - حفظه الله - قد اختار لهذه التعليقات اسم: «التعليقات على المسائل العَقَديَّة في كتاب التسهيل لعلوم التنزيل»
وقد سرنا في العمل على هذا الكتاب وفق الخطة التالية:
1 -
مقابلة نصِّ كلام ابن جزي على نسخة المحقق الشيخ علي بن حمد الصالحي.
2 -
ردُّ مسائل الكتاب إلى مصادرها من كتب الفنون المتنوعة.
3 -
توثيق جميع النقول التي وردت في الكتاب.
4 -
ضبط الكلمات المشكلة وتشكيلها بالحركات، والعناية بعلامات الترقيم.
5 -
عزو الآيات إلى مواضعها من كتاب الله، وإثباتها على رواية حفص عن عاصم إلا عند الحاجة إلى إثبات رواية غيره.
6 -
تخريج جميع الأحاديث والآثار الواردة في المتن أو الشرح.
والطريقة في ذلك ما يلي:
أ - إذا كان الحديث في الصحيحين، أو أحدهما؛ يُقتصر في العزو إليه إلا لفائدة؛ كأن يكون اللفظ المذكور لغيرهما.
ب - إذا كان الحديث في غير الصحيحين:
- خرَّجناه من أهم المصادر، وهي السنن الأربعة وموطأ مالك ومسند أحمد، وغيرها من المصادر الحديثية.
- لا نتوسع بذكر الطرق والشواهد، وإنما نحيلُ إلى بعض المراجع لمن أراد التوسُّع والزيادة.
- ننقل ما تيسَّر من كلام الأئمة النقاد عليه تصحيحًا أو تضعيفًا باختصار؛ لئلا يطول الكلام.
- إذا لم نجد للأئمة النقاد كلامًا في الحديث: لا نحكم على الحديث؛ صحةً أو ضعفًا، وغالبًا ما نعتمد في هذه الحالة على أحكام المعاصرين؛ كالألباني وشعيب الأرناؤوط في ضوء قواعد النقاد.
ج - نذكر اسم الصحابي راوي الحديث إلا أن يُذكر في المتن، وإذا كان الحديث مرويًا عن أكثر من صحابي ذكرنا صاحب اللفظ وأشرنا إلى غيره تبعًا.
7 -
ربطُ كثيرٍ من مباحث الشرح أو الكتاب بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما من محقّقي أهل السنة.
8 -
إحالةُ بعض المباحث إلى موضعٍ آخر موسَّع للشيخ من شروحه ودروسه وفتاويه وغير ذلك.
9 -
ترجمةُ الأعلام غير المشهورين، والتعريف بالفِرق والمقالات.
10 -
صنع الفهارس وقائمة لأغلب المصادر والمراجع.
ملاحظة: إذا ورد في الهوامش كلمة «شيخنا» فالمراد به صاحب التعليقات شيخنا العلامة عبد الرحمن البراك - حفظه الله -.
اللجنة العلمية
في مؤسسة وقف الشيخ
عبد الرحمن بن ناصر البراك
0505112242
ترجمة موجزة
لابن جزي الكلبي
رحمه الله
هو الفقيهُ المفسِّرُ المُقْرئُ أبو القاسِمِ محمدُ بنُ أحمدَ بنِ محمد بنِ عبد الله بنِ جُزَي الكلبي، يُعرفُ بمحمدِ بنِ جُزَيّ
(1)
، ينحدِرُ مِنْ أصلٍ عربيٍّ، فهو مِنْ قبيلَةِ كَلْبٍ اليمانية، ولد سنة (693 هـ) في غَرْناطةَ بالأندلس في بيْتِ عِلْمٍ وفضلٍ ومجد، فنشأ في بيئةٍ عِلميَّة، وجَدَّ في طلب العلم حتى صار مِنْ علماء غَرناطة المشهورين.
وكان وراءَ هذا العَلَمِ مشايخُ مِنْ العلماءِ العامِلينَ والرِّجالِ المؤثرينَ في الوسَطِ الأندلسي والمغربي، تلقى عنهم ونهل مِنْ علمهم؛ فمنهم:
الأستاذُ المُحَدِّثُ المقرئُ أبو جعفرِ بنُ الزبيرِ الثقفيُّ العاصميُّ، قرأ عليه واستفاد منه في العربيَّةِ والفقْهِ والحديث والقراءات، وهو شيخُهُ الأوَّلُ في التفسير، وقرأ القرآن على المُقرئِ الرَّاوِيَةِ المُكثِرِ الأُستاذِ: أبي عبدِ اللهِ ابنِ الكماد، وأفاد مِنْ الأُستاذِ العَلَّامةِ النَّظارِ المُتفنِّنِ: أبي القاسِمِ قاسمِ بنِ عبْدِ الله الشاط، وغيرهم.
ثُم كان رحمه الله على طريقةٍ مُثلى مِنْ العُكوفِ على العِلم، والاشتغال بالنَّظرِ والتقييد والتَّدوين، جمَعَ إلى الفقْهِ جودَةَ الحفْظ، وإتقانَ التفسير، وشارك فى كثيرٍ مِنْ الفنون: كالعربية، والأصول، والقراءات،
(1)
وكذلك ممن يعرف بابن جزي: ابنه محمد، مرتِّبُ رحلة ابن بطوطة، وجدُّه العلامة الوزير يعرفان به.
والحديث، والأدب، وتولَّى الخَطابَةَ بالمسجِدِ الأعْظَمِ في بلدِهِ على حَداثَةِ سِنِّه، فاتُّفِقَ على فضْلِهِ واشْتُهِر جِدُّهُ وعِلْمُه.
وكان ابن جزي في الأصْلِ فقيهًا مالِكيًّا، خَلا أنَّه لمْ يتقيَّدْ بالمذهَبِ، بلْ خَرجَ مِنْ رِبْقَةِ التَّقليد، وأخذ بما دَلَّ عليه الدَّليل، وكان هذا سبَبًا في عدَمِ اشتهارِ كتابِهِ في الفقْهِ في الأوساط العِلميَّةِ عندهم.
وقدْ تفرَّغَ ابنُ جُزيٍّ لتدريس العلم وتدوينه، كما أنَّهُ وَلِيَ بعضَ الوظائف؛ كالخَطابَةِ في جامعِ غَرناطَةَ الأعْظَمِ مَعَ حَداثَةِ سِنِّه، واتفقوا على أهليَّتِه وفضْلِه لهذا المنْصِب، ولم يُعبْ عليهِ شيءٌ في أيّام خَطابته، وكان مِنْ المفتين في غَرناطة.
وقد تخرَّجَ بابْنِ جزي كثيرٌ مِنْ العلماء الأفذاذ؛ فكان مِنْ طلبته الوزراءُ والقضاةُ والفقهاء والعلماء والكُتَّاب والدُّعاة، وممن أَخَذ عنه وانتفع به وتخرَّجَ به: أبناؤه الثلاثة: محمد وأحمد وعبد الله، ولسانُ الدِّينِ ابنُ الخطيب ذو الوزارتين الشاعر الأديب، وغيرهم.
وقد تَرَك ابنُ جزيٍّ ميراثًا أبقى له ذكرًا وثناءً حسنًا في الناس مِنْ تصانيفَ نافعةٍ كثيرة في فنون عِدَّة، وكان لعَقِبِهِ الصالحِ وغيرِهم سببٌ في المحافظة على بعضِ آثاره العلمية، لاسيما تلميذُهُ ابنُ الخطيبِ الذي نوَّهَ بتآليفِ شيخِهِ، وذَكَر شيئًا مِنْ أدَبِهِ وشعرِهِ.
ومِن
أشهَرِ مصنفاته:
1 - «التَّسهيل لِعُلومِ التَّنْزيل» ،
وهو مِنْ آخرِ ما ألَّف ابنُ جزي، إِنْ لم يكنْ آخرَهَا على الإطلاق. وهو تفسيرٌ مختصرٌ جمَعَ فيه بين
التفسير بالمأثورِ والتفسير بالرَّأي، وإنْ كانتْ صبغةَ التفسير بالمأثور فيه هي الأغلب، وفيه إضافاتٌ جديدةٌ ومتنوعة، قدَّمَ له مؤلفُهُ بمقدمتين مهمتين؛ الأولى: في أصولِ التفسيرِ وقواعدِه، والأخرى: في بيان ألفاظٍ يكثُرُ دورانها في القرآن الكريم. وهو مطبوع، وعليه وضع شيخنا عبد الرحمن البراك هذه التعليقات التي بين يديك.
2 - «الأنوارُ السَّنية في الألفاظ السُّنية» ،
كتابٌ مختصرٌ في الحديث، شمِل أبوابَ الدِّين؛ من أبوابِ الإيمان والإسلام والأحكام والآداب والرِّقاق. وهو مطبوع وله شروح.
3 - «تقريبُ الوصول إلى عِلم الأصول» ،
وهو كتابٌ مختصرٌ نافع في عِلم (أصول الفقه)، وهو مطبوع.
وغيرها من المؤلفات في العقيدة والنحو والقراءات.
كما أنَّ لابن جزي رحمه الله نتاجًا أدبيًّا وآثارًا شعرية رائقة - وإن كانت قليلة - حفظ لنا بعضَهَا تلميذُهُ الوفيُّ ابنُ الخطيب، تدلُّ على مَلَكةٍ متأصلة، وقُدرةٍ على قَرْضِ الشِّعر، وعنايةٍ كبيرةٍ بحفظه ورِوَايته.
ومن ذلك قوله:
يا ربِّ إنَّ ذنوبي اليومَ قد كثرتْ
…
فما أُطيق لها حصرًا ولا عَدَدا
وليس لي بعذاب النَّار مِنْ قِبَلٍ
…
ولا أُطيقُ لها صبرًا ولا جَلَدا
فانظرْ إلهي إلى ضعْفِي ومسكنتي
…
ولا تُذِيقَنَّني حرَّ الجحيم غَدا
وفاته:
كان رحمه الله مِنْ المشايخ العارفين والعلماء المجاهدين، اجتمع له الجهاد بالحُجَّة والبَيَان والجهادُ بالسَّيف والسِّنان، فكان له مشاركةٌ في الجهاد في سبيل الله، فقد فُقد وهو يحرِّض الناس يومَ معركة طَريف، وكان ذلك في جُمادى الأولى سَنَة (741 هـ)، وكان ذلك آخرُ العهدِ به، نسأل الله أن يتقبله في الشهداء، وأن يرحمه رحمة واسعة
(1)
.
(1)
من مصادر ترجمته: «الإحاطة في أخبار غرناطة» لأبي عبد الله بن سعد بن أحمد السلماني (لسان الدين ابن الخطيب)(3/ 10)، و «الديباج المذهب» (2/ 274)، و «غاية النهاية في طبقات القراء» لابن الجزري (2/ 83، رقم 2786)، و «الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة» للحافظ ابن حجر (5/ 88، رقم 944).
مقدمة المؤلف
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمد، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين؛ أمَّا بعد: فإنَّ مِنْ التفاسير المختصرة المشهورة تفسيرَ ابنِ جزيٍّ الكلبيِّ رحمه الله المسمَّى: (التسهيل لعلوم التنزيل)، وقد بعثَ إليَّ الأخُ الفاضل عليُّ بنُ حمَدٍ الصالحيُّ؛ نظرًا إلى أنه قد عُني بتحقيق كتاب التسهيل، بعثَ إليَّ بمواضعَ مِنْ الكتاب تتعلق بمسائلَ مِنْ العقيدة للتعليق عليها؛ فأجبتُه إلى ذلك، وتمَّ - بتيسير الله - التعليقُ على ما يَحتاج منها إلى تعليق، وقد أمليتها على أخي الفاضلِ الشيخ الدكتور: عبدِ المحسن بنِ عبد العزيز العسكر جزاه الله خيرًا.
وأذكر في كل موضع رقمه، ونص كلام المفسر، وأرمز له بحرف النون، وللتعليق بحرف التاء، وقد رتبت هذه التعليقات حسب ترتيب السور، وجعلت اسم كل سورة عنوانًا للتعليقات المتعلقة بتفسيرها.
وأنا أطلب ممَّن يطَّلِع على هذه التعليقاتِ أنْ يبعثَ إليَّ بما يبدو له مِنْ ملحوظاتٍ أو سؤالات. نسأل اللهَ أن يُصلحَ لنا النِّياتِ ويَقِيَنا العثرات. وصلى الله وسلم على محمد خير البريات.
التعليقات على المقدمات
(1)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(فأما علم الربوبية:
فمنه: إثباتُ وجود الباري جل جلاله، والاستدلالُ عليه بمخلوقاته، فكلُّ ما جاء في القرآن من التنبيه على المخلوقات، والاعتبار في خِلْقة الأرض والسماوات والحيوان والنبات والرياح والأمطار والشمس والقمر والليل والنهار وغير ذلك من الموجودات؛ فهو دليلٌ على خالقه.
ومنه: إثبات الوَحدانية، والردُّ على المشركين، والتعريفُ بصفات الله من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر وغير ذلك من أسمائه وصفاته، وتنزيهُه عما لا يليق به)
(1)
.
مضمون كلام ابن جزي: أن المخلوقات دليل على ربوبيته تعالى وإلهيته وتوحيده، وهو حق، ولا إشكال فيه فلا يحتاج إلى تعليق.
(1)
«التسهيل» (1/ 69 - 70).
(2)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(وأما التصوُّفُ: فله تعلُّقٌ بالقرآن؛ لما ورد في القرآن من المعارف الإلهية ورياضة النفوس وتنوير القلوب وتطهيرها باكتساب الأخلاق الحميدة واجتناب الأخلاق الذميمة)
(1)
.
التصوف البريء من البدع القولية والفعلية، والمقصور على العناية بالأخلاق وأعمال القلوب يشهد له آيات من القرآن، كقوله تعالى:{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، وقوله:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، وقوله:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقوله:{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].
فأما التصوفُ البدعيُّ المشتمل على بدع قولية أو فعلية، أو الدعاوى التي لا دليل عليها من كتاب ولا سنة، فلا تجوز إضافته إلى القرآن؛ فالقرآن لا يدلُّ إلَّا على الحقِّ من الاعتقادات والعبادات الظاهرة والباطنة، وشيوخ الصوفية المتقدمون يتقيدون في تصوفهم وسلوكهم بالكتاب والسنة كالجُنَيد، وأبي سليمان الدارانيِّ، وسهل بن
(1)
«التسهيل» (1/ 79).
عبد الله التستري، والفضيل بن عياض، قال أحدهم، وهو أبو سليمان الداراني: إنه ليقع بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين اثنين من الكتاب والسنة
(1)
. ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
.
(1)
أخرجه السلمي في «طبقات الصوفية» (ص 76)، ومن طريقه القشيري في «الرسالة» (1/ 61)، ومن طريق القشيري ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (34/ 127).
(2)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 694)، و «درء التعارض» (5/ 394)، و «الصفدية» (1/ 253)، و «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» (ص 161)، و «جامع المسائل» (4/ 57).
(3)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(السادس: ما فيه من التعريف بالباري جل جلاله، وذكرِ صفاته وأسمائه، وما يجوز عليه وما يستحيل عليه)
(1)
.
ليس في هذا الكلام إشكال؛ فإن هذه المعاني قد دلَّ عليها القرآن، وما يستحيل على الله هي العيوب والآفات، وقد نفاها القرآن؛ كالموت والسِّنة والنوم واللُّغوب والعجز والغفلة. تعالى الله عن ذلك.
(1)
«التسهيل» (1/ 118).
(4)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(آمَنَ إيمانًا؛ أي: صدَّق.
والإيمانُ في اللغة: التصديقُ مطلَقًا.
وفي الشرعِ: التصديقُ باللهِ وملائكتِهِ وكتبِهِ ورسلِهِ واليومِ الآخِر.
والمُؤمِنُ في الشرع: المصدِّقُ بهذه الأمورِ.
و «المؤمِنُ» : اسمُ اللهِ تعالى؛ أي: المصدِّقُ لنَفْسِه، وقيل: إنَّه مِنْ الأَمْنِ؛ أي: يؤمِّنُ أولياءَهُ مِنْ عذابِه)
(1)
.
قولُهُ رحمه الله: (الإيمانُ في اللغة: التصديقُ مطلَقًا):
هذا هو المشهورُ عند اللغويِّين
(2)
وجمهورِ المفسِّرين
(3)
، وهذا التفسيرُ للإيمانِ أشهَرُ ما احتَجَّ به المرجِئةُ القائلونَ بأنَّ الإيمان هو التصديقُ؛ يَعنُونَ به تصديقَ القَلْب
(4)
.
(1)
«التسهيل» (1/ 127 - 128).
(2)
ينظر: «العين» للخليل (8/ 389)، و «تهذيب اللغة» للأزهري (15/ 368)، و «الصحاح» للجوهري (5/ 2071)، و «لسان العرب» (13/ 21).
(3)
ينظر: تفاسير: الطبري (1/ 241)، والقرطبي (1/ 162)، وابن كثير (1/ 165).
(4)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (7/ 121) و (7/ 509) و (7/ 543 - 550)، و «التسعينية» (2/ 648)، و «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (3/ 1351).
والقولُ بأنَّ الإيمانَ هو التصديقُ مطلَقًا، يقتضي أنَّ كلَّ تصديقٍ إيمانٌ.
وخالَفَ في ذلك الإمامُ ابن تيميَّةَ رحمه الله؛ فذكَرَ أنَّ الإيمانَ في اللغةِ تصديقٌ خاصٌّ، وهو التصديقُ فيما يُؤتَمَنُ عليه المُخبِر؛ كالإخبارِ عن الأمورِ الغائبة؛ فلا يقالُ لمن صدَّق مُخبِرًا عن طلوعِ الشمسِ:«آمَنَ له» ، بل صدَّقه؛ لأنَّ طلوعَ الشمسِ منِ الأمورِ الحِسِّيَّةِ الظاهرةِ
(1)
.
وقولُهُ: (والإيمانُ في الشرعِ: هو التصديقُ باللهِ وملائكتِهِ وكتبِهِ ورسلِهِ واليومِ الآخِر):
ما ذكره هو الإيمانُ في الشرعِ بمعناهُ الخاصِّ المتعلِّقِ بالاعتقاد، ويُطلَقُ الإيمان في الشرعِ إطلاقًا عامًّا يَشمَلُ جميعَ شرائعِ الدِّينِ الظاهِرةِ والباطِنة؛ يَدُلُّ لذلك قولُهُ صلى الله عليه وسلم:((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ))
(2)
؛ وفي الحديثِ رَدٌّ على المرجِئةِ الذين يُخرِجونَ الأعمالَ عن مسمَّى الإيمان.
وعلى ذلك: فيكونُ الإيمانُ بمعناهُ العامِّ اسمًا لكلِّ ما شرَعَهُ اللهُ مِنْ الاعتقاداتِ والأقوالِ والأعمال؛ ولذا قال أهلُ السُّنَّةِ: «الإيمانُ: اعتقادٌ بالجَنَانِ، وقولٌ باللسانِ، وعمَلٌ بالأركانِ»
(3)
.
(1)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (7/ 122) و (7/ 291) و (7/ 529).
(2)
أخرجه مسلم (35)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
سيأتي مزيد بيان في التعليق (19).
(5)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(و «الحَقُّ»: اسمُ اللهِ تعالى؛ أي: الواجبُ الوجودِ)
(1)
.
قولُهُ: (أي: الواجبُ الوجودِ):
هذا مِنْ معنى اسمِهِ تعالى الحَقِّ، ويدخُلُ في معنى هذا الاسمِ «الحَقِّ»: أنه الموصوفُ بكلِّ كمال، المنزَّهُ عن كلِّ نقص، وأنه الإلهُ الحَقُّ، ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُهُ، فيدخُلُ في معنى هذا الاسمِ: جميعُ أسمائِهِ الحسنى، وصفاتِهِ العلا، ويجوزُ إطلاقُ «واجبِ الوجودِ» على اللهِ تعالى خبرًا، لا اسمًا
(2)
؛ فهو تعالى واجبُ الوجود؛ أي: لا يجوزُ عليه الحدوثُ ولا العدَمُ، وليس ذلك مِنْ الأسماءِ الحسنى التي يُدْعَى بها.
(1)
«التسهيل» (1/ 155).
(2)
وذلك بناءً على القاعدة المشهورة: أن باب الإخبار عن الله أوسع من باب الأسماء والصفات؛ كالشيء والموجود والقائم بنفسه؛ فإنه يخبر به عن الله ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا. ينظر: تقرير هذه القاعدة في: «مجموع الفتاوى» (6/ 142) و (9/ 300 - 301)، و «درء التعارض» (1/ 297 - 298)، و «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 172)، و «الجواب الصحيح» (5/ 8)، و «بدائع الفوائد» (1/ 161 - 162)، و «التعليق على القواعد المثلى» لشيخنا (ص 68).
(6)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(وكريم: اسم الله تعالى؛ أي: محسنٌ)
(1)
.
هذا تفسير للاسم ببعض معناه؛ فإن الكرَم يتضمن الجود والإحسان، ويتضمن الحسن والجمال
(2)
، وما ذكره المُفسِّر هو المناسب للسياق.
(1)
«التسهيل» (1/ 177).
(2)
ينظر: «شأن الدعاء» للخطابي (ص 70 - 71)، و «التبيان في أيمان القرآن» (ص 328).
(7)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(كيدٌ: هو من المخلوق: احتيالٌ. وهو من الله: مشيئةُ أمرٍ يَنزل بالعبد من حيث لا يشعر)
(1)
.
فسر ابن جزي الكيد من الله بالمشيئة، والكيد فعل من أفعال الرب يفعله بالكفار عقوبة ومجازاة بمثل فعلهم، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15)} [الطارق]، ويكون الكيد من الله للعبد المؤمن من نبيٍّ أو صالحٍ نصرا وتأييدا، {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76]، فابن جزي فسَّره بسببه من جهة الله، وهو المشيئة.
(1)
«التسهيل» (1/ 178).
(8)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(عزيز: اسم الله تعالى، معناه: الغالب)
(1)
.
هذا تفسير للاسم ببعض معناه؛ فإن العزَّة تتضمَّن القهر والغلبة والقوة وعدم النظير، وهو تعالى عزيزٌ بكل معاني العزَّة
(2)
.
(1)
«التسهيل» (1/ 202).
(2)
ينظر: «تفسير الأسماء الحسنى» للزجاج (ص 33)، و «اشتقاق أسماء الله» للزجاجي (ص 237)، و «شأن الدعاء» (ص 47).
(9)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(و «العَلِيُّ» : اسمُ اللهِ، و «المُتعالِي» ، و «الأَعْلَى» ، مِنْ العُلُوِّ؛ بمعنى: الجلالِ والعَظَمة.
وقيل: بمعنى التنزيهِ عمَّا لا يَلِيقُ به)
(1)
.
قولُهُ: (مِنْ العُلُوِّ؛ بمعنى: الجلالِ والعَظَمة
…
)، إلخ:
يلاحَظُ أنه اقتصَرَ على معنيَيْنِ مِنْ معاني العُلُوِّ:
الأوَّل: الجلالُ والعَظَمةُ؛ المتضمِّنُ لعلوِّ القهر.
والثاني: التنزيهُ للهِ عما لا يليقُ به؛ وهذا يتضمَّنُ علوَّ القَدْرِ.
ولم يذكُرْ رحمه الله عُلُوَّ الذاتِ، وهو ارتفاعُهُ تعالى فوقَ جميعِ المخلوقاتِ، مستوِيًا على عَرْشِه.
وهذا هو الذي اختلَفَ فيه أهلُ السُّنَّةِ والمبتدِعةُ؛ كالجهميَّةِ ومَن وافَقَهم؛ فاسمُهُ: «العَلِيُّ» سبحانه، يتضمَّنُ معانيَ العلوِّ الثلاثةَ، والله أعلم
(2)
.
(1)
«التسهيل» (1/ 206).
(2)
ينظر: التعليق رقم (39).
(10)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(واسم الله تعالى الفتاح: قيل: الحاكم، وقيل: خالق النصر والفتح)
(1)
.
كلٌّ من المعنيَيْن صحيح: الحاكم وخالق النصر، ويشهد للأول قوله تعالى عن شعيب:{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين (89)} [الأعراف]، ونصرُه تعالى لأوليائه على أعدائه نوع من الحكم الكوني، وصيغة الفتَّاح تدل على كثرة الفتح، كالغفَّار والخلَّاق والرَّزَّاق، وفي الجملة ما قاله المفسِّر مستقيم.
(1)
«التسهيل» (1/ 212).
(11)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(وسَبَّحْتُ اللهَ؛ أي: نَزَّهْتُهُ عما لا يليقُ به؛ مِنْ الصاحبةِ والوَلَد، والشُّرَكاءِ والأنداد، وصفاتِ الحُدُوث، وجميعِ العيوبِ والنقائص)
(1)
.
قولُهُ: (وصفاتِ الحُدُوث):
هذا لفظٌ مجمَلٌ يَحتمِلُ حقًّا وباطلًا:
فإنْ أُريدَ به: تنزيهُهُ تعالى عن وصفِهِ بشيءٍ مِنْ خصائصِ المخلوقِ - مما يستلزِمُ تمثيلَهُ سبحانه بخَلْقِه -: فهو حقٌّ.
وإنْ أُريدَ به: تنزيهُهُ عما يكونُ بمشيئتِهِ تعالى مِنْ أفعالِهِ - وهو ما يعبِّرون عنه بحلولِ الحوادثِ، ويَقصِدونَ نفيَ قيامِ الأفعالِ الاختياريَّةِ به -: فإنَّ ذلك باطلٌ.
وهذا أصلٌ عند أكثَرِ المتكلِّمين؛ فإنهم يقولون: إنه تعالى منزَّهٌ عن حلولِ الحوادثِ، يريدونَ: نفيَ قيامِ الأفعالِ الاختياريَّةِ به سبحانه؛ كالمجيءِ، والنزولِ، والاستواءِ على العَرْش، والله أعلم
(2)
.
(1)
«التسهيل» (1/ 220).
(2)
أَوْلى شيخ الإسلام هذا الأصل عند المتكلمين عناية خاصة، وناقشه بتوسع في جُلِّ كتبه تقريبًا خاصة في «درء التعارض» ؛ لأن هذا الدليل هو لب الكلام المذموم الذي =
(12)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(الثامنةُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيم (1)} [الفاتحة]، صفتان، مِنْ الرحمةِ.
ومعناهما: الإحسانُ؛ فهي صفةُ فِعْلٍ.
وقيل: إرادةُ الإحسانِ؛ فهي صفةُ ذاتٍ)
(1)
.
قولُه: (ومعناهما: الإحسانُ
…
)، إلخ:
هذا يتضمَّنُ تفسيرَ الرحمةِ: إمَّا بالإحسان، أو بإرادةِ الإحسان.
= ذمه السلف، وقد بين ذلك شيخ الإسلام مرارًا، وأفاض في بطلانه بما لا مزيد عليه. ينظر بسط هذا الموضوع من كلام شيخ الإسلام في:«درء التعارض» (1/ 100 - 113، 121 - 127، 301 - 314، 320 وما بعدها)، و (2/ 3 - 18، 115، 124، 207، 238، 344)، و الجزء الثالث كله وأول الرابع، و (7/ 224، 229)، و (9/ 177، 196)، و «جامع الرسائل» -رسالة في الصفات الاختيارية- كلها، و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 221، 440 - 446)، و «مجموع الفتاوى» (5/ 411 - 412، 5/ 541 - 545) و (12/ 140 - 148، 213)، و «شرح الأصبهانية» (ص 154 - 160)، والصفدية (1/ 50 - 54، 61 - 65، 277، 81)، و «منهاج السنة» (1/ 155 - 158، 303، 436) و (3/ 193)، و «النبوات» (1/ 251 - 264)، و «الجواب الصحيح» (3/ 312 - 313)، و «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (3/ 984 - 1013)، و «الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات والرد عليها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية» (2/ 203 - 438).
(1)
«التسهيل» (1/ 246 - 247).
قال: (والإحسانُ صفةُ فعلٍ)، والذين يقولون هذا يريدونَ: ما يخلُقُهُ اللهُ مِنْ النِّعَم؛ فالرحمةُ - إِذَنْ - عبارةٌ عن مخلوقاتِهِ سبحانه، وإن سمَّوْهَا:«صفةَ فعلٍ» ، فهو غلَطٌ في العقل؛ فإنَّ المفعولَ لا يكونُ صفةً للفاعلِ، بل أثَرُ فِعْلِه، وهم لا يُثبِتُونَ فعلًا يقومُ بالفاعلِ بمشيئتِه؛ فليس عندهم إلا فاعلٌ ومفعول.
وقد يفسِّرون «الرحمةَ» : بإرادةِ الإحسانِ؛ وعليه فهي صفةٌ ذاتيَّةٌ؛ كما قال المؤلِّف؛ أي: أنَّها قائمةٌ بذاتِهِ تعالى
(1)
.
وكلٌّ من التفسيرَيْنِ فيه صرفٌ للَّفْظِ عن ظاهرِه
(2)
؛ فإنَّ الرحمةَ لها معنى يقابِلُ الغضَبَ؛ كما جاء في الحديثِ القُدسيِّ: ((إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي))
(3)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في «العقيدة التدمريَّة»
(4)
، في الذين ينفُون صفةَ الرحمةِ والمحبَّةِ، والغضَبِ والرضا:«إنَّهم يفسِّرونَ ذلك: إمَّا بالإرادةِ، وإمَّا ببعضِ المفعولاتِ مِنْ النِّعَمِ والعُقُوبات» . اه.
وعليه: فالواجبُ إثباتُ الرحمةِ صفةً للهِ حقيقةً، وتفسيرُها بالإحسانِ تفسيرٌ لها بأَثَرِها.
والرحمةُ في صفاتِ اللهِ نوعانِ:
(1)
ينظر: «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 521).
(2)
ينظر: «مختصر الصواعق المرسلة» (3/ 860)
(3)
أخرجه البخاري (7422)، ومسلم (2751)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
«العقيدة التدمرية» (ص 31).
- صفةٌ ذاتيَّةٌ.
- وصفةٌ فعليَّةٌ.
وذهَبَ ابن القيِّم
(1)
: إلى أنَّ الصفةَ الذاتيَّةَ مدلولُ اسمِهِ الرحمنِ، والفعليَّةَ مدلولُ اسمِهِ الرحيمِ.
وينبغي أنْ يُعلَمَ أنَّ الرحمةَ المضافةَ إلى الله نوعان:
- نوعٌ هو صفةٌ له سبحانه، ذاتيَّةً أو فعليَّةً، كما تقدَّم، وإضافتُها إليه مِنْ إضافةِ الصفةِ إلى الموصوفِ، وهي مدلولُ الاسمَيْنِ الشريفَيْن الرَّحمنِ الرحيمِ؛ ومِن هذا النوعِ: قولُ سليمانَ عليه السلام متوسِّلًا: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِين (19)} [النمل].
- والنوعُ الثاني: رحمةٌ مخلوقةٌ، وإضافَتُها إلى الله مِنْ إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِهِ؛ ومِن ذلك قولُه تعالى:{فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم: 50]، فالرحمةُ هنا المَطَرُ، وقولُه تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون (107)} [آل عمران]، والرحمةُ هنا الجَنَّةُ، وفي الحديثِ القدسيِّ: أنَّ اللهَ قال للجَنَّةِ: ((أَنْتِ رَحْمَتِي؛ أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ))
(2)
، والله أعلم.
(1)
«بدائع الفوائد» (1/ 42).
(2)
أخرجه البخاري (4850)، ومسلم (2846)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(13)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(العاشرة: إنما قدَّم الرحمن لوجهين:
اختصاصه بالله.
وجريانه مجرى الأسماء التي ليست بصفات)
(1)
.
تقديم اسم الرحمن على الرحيم في الآيات يرجع إلى الفرق بين الاسمين، وكلُّ ما قيل في الفرق بينهما يقتضي تقديم الرحمن، وقول المفسِّر:«وجريانه مجرى الأسماء التي ليست بصفات» معناه: أن مِنْ أسماء الله ما هو علم محضٌ، لا يدل على صفة، والصواب أن كلَّ اسم من أسماء الله يدل على صفة، فهو علم وصفة؛ علم يدل على ذات الرب وصفة من صفاته، فهو علم وصفة، وليس من أسماء الله ما هو علم محض، فتدبَّر
(2)
.
(1)
التسهيل (1/ 248).
(2)
ينظر: «منهاج السنة» (2/ 160)، و «جواب الاعتراضات المصرية» (ص 129)، و «بدائع الفوائد» (1/ 285)، و «القواعد المثلى» بتعليق شيخنا (ص 24).
سورة الفاتحة
(14)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في كلامِهِ عن مقامِ الشُّكْر:
(والشُّكْرُ على ثلاثِ دَرَجاتٍ:
- فدرجةُ العوامِّ: الشكرُ على النِّعَم.
- ودرجةُ الخواصِّ: الشكرُ على النِّعَمِ والنِّقَم، وعلى كلِّ حال.
- ودرجةُ خواصِّ الخواصِّ: أن يَغِيبَ عن النِّعْمةِ بمشاهَدةِ المُنعِم.
قال رجلٌ لإبراهيمَ بنِ أَدْهَمَ: إنَّ الفقراءَ إذا أُعْطُوا شكَرُوا، وإذا مُنِعُوا صبَرُوا؟ فقال إبراهيمُ: هذه أخلاقُ الكِلَاب؛ ولكنَّ القومَ إذا مُنِعُوا شكَرُوا، وإذا أُعْطُوا آثَرُوا
(1)
(2)
.
قولُهُ: (الشُّكْرُ على ثلاثِ دَرَجاتٍ
…
)، إلخ:
(1)
ذكره الغزالي في «الإحياء» (4/ 215).
(2)
«التسهيل» (1/ 252).
سلَكَ المؤلِّفُ رحمه الله في تقسيمِ مراتبِ الشُّكْرِ والتعبيرِ عنها طريقَ الصوفيَّة، وفي كلامِهِ هذا عِدَّةُ مآخِذَ:
الأوَّل: قولُهُ: (إنَّ الشكرَ على النعمِ درجةُ العوامِّ):
بل الشكرُ على النعمِ مِنْ شأنِ العوامِّ والخواصِّ مِنْ المؤمنين، وقد أثنى الله على إبراهيم عليه السلام؛ فقال:{شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ} [النحل: 121]، ولما ذكَر الله ما أعطى سليمانَ عليه السلام مِنْ تسخير الجِنِّ والرِّيح، قال:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13].
الثاني: زعمُهُ أنَّ درجةَ الخواصِّ الشكرُ على النِّقَم:
هذا لا يصحُّ؛ فإنه لم يأتِ في الكتابِ ولا في السُّنَّةِ تعلُّقُ الشكرِ بالنقم، وإنما الذي ورَد الحمدُ؛ فيقالُ: له الحَمْدُ على كلِّ حال، وأمَّا الشكرُ، فمتعلَّقُهُ النِّعَم، وشواهدُ هذا في القرآنِ كثيرة
(1)
.
الثالث: قولُهُ في الدرجةِ الثالثةِ: «إنَّها درجةُ خواصِّ الخواصِّ» ، وفسَّرها بأن يَغِيبَ عن النِّعْمةِ بمشاهَدةِ المُنعِم:
هذا مِنْ جنسِ ما سيأتي في درجاتِ الذِّكْرِ عند المؤلِّف؛ حيثُ جعَل أعلى درجاتِ الذِّكْرِ الفناءَ، وهي أنْ يَغِيبَ باللهِ عن كلِّ ما سوى الله؛ حتى عن نَفْسِه. وسيأتي أنَّ مقامَ الفناءِ ليس بكمالٍ، بل هو نقصٌ
(2)
.
(1)
ينظر: «مدارج السالكين» (2/ 236)، و «شرح التدمرية» لشيخنا (ص 29).
(2)
ينظر: التعليق (25).
ولم يأتِ في الكتابِ ولا في السُّنَّةِ مدحُه، بل الرسولُ صلى الله عليه وسلم وهو أكمَلُ الخلقِ ذِكْرًا وعبوديَّة - لا يغيبُ وهو يصلِّي، بل يَسمَعُ بكاءَ الصبيِّ فيتجوَّزُ في صلاتِه، وخيرُ الهَدْيِ هَدْيُ محمَّد صلى الله عليه وسلم.
الرابع: ذكرُهُ الحكايةَ عن إبراهيمَ بنِ أدهَمَ، وفيها التحقيرُ للشكرِ على النِّعَم، وأنَّه أخلاقُ الكلابِ؛ فهذا - على فرضِ ثبوتِهِ - قبيح.
(15)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(الخامسة: قولنا: «الحمد لله رب العالمين» أفضل عند المحققين من: «لا إله إلَّا الله» ؛ لوجهين:
أحدهما: ما خرَّجه النسائي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال: لا إله إلَّا الله كتبت له عشرون حسنة، ومن قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة)).
والثاني: أنَّ التوحيد الذي يقتضيه «لا إله إلَّا الله» حاصل في قولك: «رب العالمين» ، وزادت بقولك:«الحمد لله» ، وفيه من المعاني ما قدَّمنا.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلَّا الله))؛ فإنما ذلك للتوحيد الذي تقتضيه، وقد شاركتها «الحمد لله رب العالمين» في ذلك، وزادت عليها.
وهذا المؤمنُ يقولها لطلب الثواب، وأما لمن دخل في الإسلام فيتعيَّن عليه «لا إله إلَّا الله» )
(1)
.
(1)
«التسهيل» (1/ 253 - 254).
قوله: (قولنا: «الحمد لله رب العالمين» أفضل عند المحققين من: «لا إله إلَّا الله») صريحٌ في تفضيل «الحمد لله رب العالمين» على «لا إله إلا الله» ، وعزا ابن جزيٍّ هذا التفضيل إلى المحققين، ولم يذكر بعض أعيانهم، ومن أيِّ طائفة هم، فمجرد قوله:(عند المحققين) لا تكفي، وفي دعوى هذا التفضيل نظر، وأما الاستدلال عليها بالحديث الذي رواه النسائي:((ومن قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة))
(1)
، فهو معارض بالحديث الذي ذكره، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:((خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير))
(2)
، فلا إله
(1)
أخرجه أحمد (8012)، والنسائي في «الكبرى» (10608) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن ضرار بن مرة، عن أبي صالح الحنفي، عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن الله اصطفى من الكلام أربعًا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله، كتب له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر فمثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله فمثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كتب له ثلاثون حسنة وحطت عنه ثلاثون سيئة)).
وأخرجه ابن أبي شيبة (29827) عن مصعب بن المقدام، والحاكم (1886) من طريق مالك بن إسماعيل، كلاهما عن إسرائيل، به. وقال الحاكم «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» .
وصححه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» (1554).
(2)
أخرجه أحمد (6961)، والترمذي (3585) من طريق حماد بن أبي حُميد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، به. قال الترمذي:«هذا حديث غريب من هذا الوجه، وحماد بن أبي حُميد هو محمد بن أبي حُميد، وهو أبو إبراهيم الأنصاري المديني، وليس هو بالقوي عند أهل الحديث» . وينظر: «الميزان» (2244). =
إلا الله كلمة التقوى، وهي كلمة التوحيد التي هي أصل دين الرسل، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون (25)} [الأنبياء]، وهي مفتاح دعوتهم، ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله مكث عشر سنين بمكة لا يقول للناس إلا قولوا: لا إله إلا الله، لم يأمرهم بشيء من الكلام غيرها، وهي الكلمة التي شهد الله بها لنفسه، وشهدت بها ملائكته وأولو العلم.
وأما جواب المؤلف عن الحديث الذي ذكره بأن «الحمد لله رب العالمين» تدل على التوحيد وزيادة، فلا يسلَّم له؛ فإن غاية ما تدل عليه توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون، لا على توحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل وأنكره المشركون، ولقد فرق الله بين الرب والإله بقوله:{بِرَبِّ النَّاس (1) مَلِكِ النَّاس (2) إِلَهِ النَّاس (3)} [الناس]، والربُّ هو الخالق المالك المدبِّر، والإله هو المعبود.
= وله شاهد مرسل من حديث طلحة بين عبيد الله بن كريز: أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 300، برقم 726/ 239) -ومن طريقه البيهقي في سننه الكبير (4/ 470، برقم 8391)، وعبد الرزاق في «المصنف» (4/ 378، برقم 8125)، من طريق زياد بن أبي زياد ميسرة المخزومي المدني، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلًا. وهذا إسناد مرسل صحيح.
وللحديث شاهد آخر من حديث علي: أخرجه الطبراني في «الدعاء» (874) من طريق قيس بن الربيع، عن الأغر بن الصباح، عن خليفة بن حصين، عن علي مرفوعًا. وفي إسناده قيس بن الربيع، قال الذهبي:«أحد أوعية العلم، صدوق في نفسه، سيئ الحفظ» . «الميزان» (6911)، فحديثه يصلح للمتابعات والشواهد.
وجملة القول: أن الحديث حسن بمجموع هذه الشواهد، والله أعلم. وينظر:«الصحيحة» برقم (1503).
وكلمة توحيد الإلهية لا يحصَى ذكرها في القرآن؛ تارة بالاسم الظاهر: لا إله إلا الله، وتارة بضمير الغائب: لا إله إلا هو، وتارة بضمير المتكلم: لا إله إلا أنا، وتارة بضمير الخطاب كما في دعاء يونس عليه السلام: لا إله إلا أنت
(1)
، وبكلمة التوحيد لا إله إلا الله كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في الكرب:((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض، ورب العرش العظيم))
(2)
، وجاء في فضل كلمة التوحيد أحاديث كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم:((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. في يوم مئة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان، يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر منه))
(3)
.
فهذه الفضائل لا يقاومها حديث: ((من قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة))؛ فلا بد من تأويله، ولعل هذا التفضيل لأمر قام بقلب الذاكر لقوله:((من قبل نفسه))
(4)
.
ويقال أيضاً: إن هذا الحديث قد روي عن كعب من قوله، ونقل ابن رجب في شرح الأربعين عن بعض أهل العلم أن الموقوف أصح من المرفوع
(5)
. ثم وقفت - أخيرًا - على كلام للحافظ أبي بكر ابن
(1)
ينظر: «شرح كلمة الإخلاص» لشيخنا (ص 129).
(2)
أخرجه البخاري (6345)، ومسلم (2730) عن ابن عباس واللفظ للبخاري.
(3)
أخرجه البخاري (6403)، ومسلم (2691) عن أبي هريرة رضي الله عنه واللفظ للبخاري.
(4)
تقدم تخريجه، ولم يذكر المصنف هذه الزيادة.
(5)
«جامع العلوم والحكم» (2/ 21).
العربي في كتابه «المسالك في شرح موطأ مالك» أفاض فيه في الكلام على المسألة، وذكر أن أكثر العلماء على أن كلمة التوحيد أفضل من الحمد لله، فيحسن مراجعة كلامه
(1)
.
وبعد: فالذي ظهر لي أن الصحيح ما دلَّت عليه الأحاديث المستفيضة في فضل لا إله إلا الله، مع ما تقدم من الوجوه، فكلمة التوحيد هي أول الأمر وآخره، وعليها مدار الخلق والأمر، فلا يعدلها شيء من كلمات الذكر، فضلا عن أن يكون أفضل منها. والله أعلم.
(1)
«المسالك في شرح موطأ مالك» (3/ 469 - 471).
(16)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(الحاديةُ عشرة: {وإِيَّاكَ نَسْتَعِين (5)} [الفاتحة]؛ أي: نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا.
وفي هذا دليلٌ على بطلان قول القدرية والجبرية، وأنَّ الحق بين ذلك)
(1)
.
قول المفسِّر صحيح؛ فإنَّ قوله تعالى: {وإِيَّاكَ نَسْتَعِين (5)} ؛ فيه الردُّ على القدرية؛ لأنهم ينفون قدرة الله على فعل العبد ومشيئته له، وعلى قولهم فلا معنى للاستعانة به؛ لأن الاستعانة إنما تكون بالقادر، لا بالعاجز، وفي قوله تعالى:{وإِيَّاكَ نَسْتَعِين (5)} ردٌّ على الجبرية الذين ينفون فعل العبد، بل ينفون قدرته على أفعاله، وفي الآية إسناد فعل العبادة إلى العبد، وهي أجلُّ ما يفعله، فدلَّت الجملتان في الآية على توحيد الربوبية والإلهية، فتوحيد الربوبية يقتضي التوحيد في الاستعانة، وتوحيد الإلهية يقتضي توحيد العبادة، فهو سبحانه المعبود، وهو المستعان، وبهذا جمعت هذه الآية حظَّ العبد وحقَّ الرب. والله أعلم.
(1)
«التسهيل» (1/ 256).
سورة البقرة
(17)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({اللّهُ يَسْتَهْزِاءُ بِهِمْ} [البقرة: 15] فيه ثلاثةُ أقوال:
- تسميةُ العقوبةِ باسمِ الذنبِ؛ كقولِه: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّهُ} [آل عمران: 54].
- وقيل: يُملِي لهم؛ بدليل قوله: {وَيَمُدُّهُمْ} [البقرة: 15].
- وقيل: يَفعَلُ بهم في الآخِرةِ ما يَظهَرُ لهم أنه استهزاءٌ بهم؛ كما جاء في سورة الحديد: {ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا
…
} الآيةَ [الحديد: 13])
(1)
.
لا إشكالَ فيما ذكَرَ المؤلِّف مِنْ الوجوه؛ فلكلٍّ منها وَجْهٌ، وأقرَبُها الثاني والثالث؛ فإنَّ في كلٍّ منهما استهزاءً بالفعل.
(1)
«التسهيل» (1/ 275).
(18)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(الثالثةُ: تكرَّر في القرآنِ ذكرُ المخلوقاتِ، والتنبيهُ على الاعتبارِ في الأرضِ والسماوات، والحَيَوانِ والنبات، والرياحِ والأمطار، والشمسِ والقمَر، والليلِ والنهار؛ وذلك أنها تَدُلُّ بالعقلِ على عشَرَةِ أمورٍ؛ وهي:
1 -
أنَّ اللهَ موجودٌ؛ لأنَّ الصنعةَ دليلٌ على الصانِعِ لا محالةَ.
2 -
وأنَّه واحدٌ لا شريكَ له؛ لأنَّه لا خالقَ إلَّا هو: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17].
3 -
6: وأنه حيٌّ، قديرٌ، عالِمٌ، مُرِيد؛ لأنَّ هذه الصفاتِ الأربعَ مِنْ شروطِ الصانِع؛ إذْ لا تصدُرُ صنعةٌ عمَّن عُدِمَ صفةً منها.
7 -
وأنه قديمٌ؛ لأنه صانعٌ للمحدَثاتِ؛ فيَستحِيلُ أن يكونَ مِثْلَها في الحدوث.
8 -
وأنه باقٍ؛ لأنَّ ما ثبَتَ قِدَمُه، استحالَ عَدَمُه.
9 -
وأنه حَكِيمٌ؛ لأنَّ آثارَ حِكْمَتِهِ ظاهرةٌ في إتقانِهِ للمخلوقات، وتدبيرِهِ للملكوت.
10 -
وأنه رحيمٌ؛ لأنَّ في كلِّ ما خلَقَ منافعَ لبني آدَمَ؛ سَخَّرَ لهم ما في السماواتِ وما في الأرض.
وأكثَرُ ما يأتي ذِكْرُ المخلوقاتِ في القرآنِ: في مَعرِضِ الاستدلالِ على وجودِهِ تعالى، أو على وحدانيَّته)
(1)
.
قولُهُ: (لأنَّه لا خالقَ إلَّا هو):
هذا توجيهٌ لدَلَالةِ المخلوقاتِ على أنه واحدٌ؛ وهذا ليس بجيِّد في صياغةِ الاستدلال؛ لأنه تعليلٌ للشيءِ بنَفْسِه؛ فكأنه قال: «دلَّت على أنه واحدٌ؛ لأنه واحدٌ» ؛ ولا يخفى ما فيه.
وقولُهُ: (وأكثَرُ ما يأتي ذِكْرُ المخلوقاتِ في القرآنِ: في مَعرِضِ الاستدلالِ على وجودِهِ تعالى، أو على وحدانيَّته):
في هذا نظَرٌ؛ فإنَّ المخاطَبِينَ ليسوا جاحِدِينَ لوجودِ الله؛ بل مُشرِكِينَ في العبادة؛ فالمقصودُ الأوَّلُ مِنْ ذكرِ المخلوقاتِ: الاستدلالُ بها على توحيدِ الإلهيَّة، وهم يُقِرُّونَ بأنه الخالِقُ لهذه المخلوقاتِ؛ فاحتُجَّ عليهم بما أقَرُّوا به على ما أنكَرُوهُ مِنْ توحيدِ الإلهيَّة؛ {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُون (35)} [الصافات]، {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5]، ولمَّا قال تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم (163)} [البقرة]، أتبَعَ ذلك بقولِه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِنْ مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون
(1)
«التسهيل» (1/ 286 - 287).
164)} [البقرة]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} ، إلى قولِه:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُون (22)} [البقرة: 21 - 22].
فتضمَّنتِ الآيتانِ الأمرَ بعبادتِهِ تعالى، والنهيَ عن الشِّرْكِ به، وذِكْرَ المقتضي لذلك؛ وهو خلقُ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ، وخلقُ السماواتِ والأرضِ وما بينهما، ونظائرُ ذلك كثيرةٌ.
* * * *
(19)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({الَّذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25]. دليلٌ على أنَّ الإيمانَ خلافُ العملِ؛ لعطفِهِ عليه؛ خلافًا لمن قال: «الإيمانُ اعتقادٌ، وقولٌ، وعمل» .
وفيه: دليلٌ على أنَّ السعادةَ بالإيمانِ مع الأعمالِ؛ خلافًا للمرجِئة
(1)
(2)
.
في كلامِ المؤلِّفِ مسألتانِ:
المسألةُ الأولى: قولُه: (دليلٌ على أنَّ الإيمانَ خلافُ العملِ؛ لعطفِهِ عليه).
(1)
المرجئة: اسم فاعل، من الإرجاء، ويدل في العربية على معنيين، أحدهما: التأخير {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ .. } [الأعراف: 111] أي: أخِّره وأمهله، ثانيهما: إعطاء الرجاء، فيكون إطلاق هذا الاسم باعتبار المعنى الأول: تأخير العمل عن مسمى الإيمان، وبالاعتبار الثاني قولهم: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة. والإيمان عندهم: شيء واحد، لا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل أهله فيه، وهم أصناف، يجمعهم القول بإخراج العمل عن مسمى الإيمان. ينظر:«مقالات الإسلاميين» (1/ 213 - 234)، و «مجموع الفتاوى» (7/ 195)، و «النبوات» (1/ 577، 580).
(2)
«التسهيل» (1/ 291).
ظاهرُهُ: أنه يقرِّرُ هذا الاستدلالَ؛ وهو - بهذا - يوافِقُ جميعَ طوائِفِ المرجِئةِ
(1)
في الاستدلالِ بهذه الآيةِ على إخراجِ الأعمالِ عن مسمَّى الإيمان، وأهلُ السُّنَّةِ يُخالِفُونَهم في أصلِ المسألةِ، وفي الاستدلالِ بالآية؛ فيقولون:
العملُ مِنْ الإيمان
(2)
؛ لدلائلَ كثيرةٍ مِنْ الكتاب والسُّنَّة؛ كحديثِ وفدِ عبدِ القَيْس
(3)
، ........
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والمرجئة ثلاثة أصناف:
الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب -وهم أكثر فرق المرجئة كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه، وذكر فرقًا كثيرة يطول ذكرهم -، ومنهم من لا يدخلها في الإيمان؛ كجهم ومن اتبعه كالصالحي، وهذا الذي نصره هو وأكثر أصحابه.
والقول الثاني: من يقول: هو مجرد قول اللسان وهذا لا يعرف لأحد قبل الكَرَّامية.
والثالث: تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم». «مجموع الفتاوى» (7/ 195).
(2)
ينظر: كتاب الإيمان من صحيح البخاري (1/ 10) مع «فتح الباري» لابن رجب (1/ 5)، و «السنة» لابن أبي عاصم (2/ 461)، ولعبد الله بن أحمد (1/ 307)، و» الشريعة» للآجري (2/ 611)، و «الإبانة» لابن بطة (2/ 760)، و «الإيمان» لأبي عبيد (ص 62)، ولابن منده (1/ 305)، و «السنة» للالكائي (4/ 912)، و «التمهيد» لابن عبد البر (9/ 238)، وكتاب الإيمان - الكبير والأوسط- من «مجموع الفتاوى» (7/ 122) و (7/ 308)، و (7/ 330) و (7/ 141) و (7/ 162) و (7/ 289) و (7/ 400) و (7/ 505) و (7/ 529) و (7/ 616) و (7/ 642) و (7/ 645)، و «جامع العلوم» لابن رجب (1/ 104) و «فتح الباري» لابن حجر (1/ 46) وتعقيب شيخنا عليه في «المخالفات العقدية في فتح الباري» (ص 46).
(3)
أخرجه البخاري (53)، ومسلم (17) من حديث ابن عباس. وفيه: «فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، أمرهم: بالإيمان بالله وحده، قال: ((أتدرون ما الإيمان=
وحديثِ شُعَبِ الإيمان
(1)
.
ويقولون: العطفُ لا يقتضي المغايَرةَ دائمًا، بل منه عطفُ الخاصِّ على العامِّ، ومِن ذلك: عطفُ الأعمالِ على الإيمان
(2)
(3)
.
=بالله وحده؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:((شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس)). الحديث.
(1)
أخرجه البخاري (9)، ومسلم (35) من حديث أبي هريرة:((الإيمان بضع وسبعون - أو بضع وستون - شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان))، وهذا لفظ مسلم.
(2)
هذا هو الجواب الأول، وهناك جواب آخر لأهل السنة ذكره شيخ الإسلام بما ملخصه:«إن أعمال الجوارح في الأصل ليست من الإيمان، بل الإيمان أصله ما في القلب، والأعمال هي من لوازمه التي لا تنفك عنه بحال، لكن جاء الشرع فأدخلها فيه، وأصبح اسم الإيمان شاملًا لها على الحقيقة شرعًا، فكثر في كلامه عطفها عليه توكيدًا لذلك؛ لكيلا يظن ظان أن الإيمان المطلوب هو ما في القلب فقط، بل يعلم أن لازمه - العمل - ضروري كضرورته، فها هو ذا قد أدخل في اسمه وحقيقته في مواضع الانفراد، وقرن بحكمه في مواضع العطف» . ظاهرة الإرجاء (2/ 521). وينظر: «الإيمان الكبير -مجموع الفتاوى-» (7/ 162 - 171)، و «الإيمان الأوسط -مجموع الفتاوى-» (7/ 551 - 555)، و (7/ 172)، و «شرح الأصبهانية» (ص 658)، و «مختصر الصواعق» (2/ 721).
(3)
وينظر: تقرير شيخنا لمذهب أهل السنة في مسمى الإيمان وأدلته وفروع مسائله في: «جواب في الإيمان ونواقضه» (ص 7 - 13)، و «شرح العقيدة الطحاوية» (ص 214 - 236)، و «توضيح مقاصد الواسطية» (ص 202 - 210)، و «توضيح المقصود في نظم ابن أبي داود» (ص 138 - 166)، و «شرح القصيدة الدالية» (ص 96 - 98)، و «إرشاد العباد إلى معاني لمعة الاعتقاد» (ص 80 - 82)، و «شرح كشف الشبهات» (ص 95 - 99)، و «شرح نواقض الإسلام» (ص 11)، و «تعليقات على المخالفات العقدية في فتح الباري» (رقم 3، و 46).
المسألةُ الثانية: قولُه: «وفيه: دليلٌ على أنَّ السعادةَ بالإيمانِ مع الأعمالِ؛ خلافًا للمرجِئة» .
هذا الاستدلالُ صحيحٌ، ولكنَّ قوله:«خلافًا للمرجِئة» ، لا يصحُّ على الإطلاق؛ لأنَّ مرجِئةَ الفقهاءِ لا ينازِعون في هذا، وإنما ينازِعُ في هذا المرجِئةُ الجهميَّةُ، القائلون:«لا يَضُرُّ مع الإيمانِ ذنبٌ»
(1)
.
* * * *
(1)
سبق ذكر أصناف المرجئة ومقالاتهم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية. وينظر فتوى لشيخنا في «الفرق بين المرجئة ومرجئة الفقهاء» ، منشورة في موقعه الرسمي.
(20)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسيرِ قولِهِ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]:
(تأوَّل قومٌ أنَّ معناه: لا يَترُك؛ لأنَّهم زعموا أنَّ الحياءَ مستحيلٌ على الله؛ لأنه - عندهم -: انكسارٌ يَمنَعُ مِنْ الوقوعِ في أمرٍ. وليس كذلك؛ وإنما هو: كَرَمٌ وفضيلةٌ تَمنَعُ مِنْ الوقوعِ فيما يُعاب.
ويَرُدُّ عليهم: قولُهُ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ؛ يَسْتَحِيي مِنَ العَبْدِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا))
(1)
(2)
.
(1)
«التسهيل» (1/ 293).
(2)
أخرجه أحمد، وأبو داود (1488)، والترمذي (3556)، وابن ماجه (3865)، وابن حبان (876)، والطبراني في «الكبير» (6148)، والحاكم (1831) من طرق، عن جعفر بن ميمون، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي، به.
وجعفر بن ميمون فيه لين، لكن تابعه أبو المعلى يحيى بن ميمون - وهو ثقة - أخرجه المحاملي في «أماليه» (433 - رواية ابن يحيى البيع)، والبغوي (1385).
وتابعهما سليمان التيمي من رواية محمد بن الزبرقان عنه - وابن الزبرقان صدوق ربما وهم - أخرجه ابن حبان (880)، والطبراني في «الكبير» (6130)، والحاكم (1962).
وخالفه يزيد بن هارون، فرواه عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان موقوفًا. أخرجه أحمد (23714)، والحاكم (1830).
وتابعه: يحيى بن سعيد عند أحمد في «الزهد» (ص 821)، ومعاذ بن معاذ عند ابن أبي شيبة (29555) كلاهما، عن سليمان التيمي، به موقوفًا.
وتابع سليمان التيمي في روايته عن أبي عثمان موقوفًا: يزيد بن أبي صالح. أخرجه وكيع في «الزهد» (رقم 504)، وهناد في «الزهد» (2/ 629)، وثابت البناني،
وحميد، وسعيد الجُريري. أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (رقم 156). خمستهم (سليمان ويزيد وثابت وحميد والجُريري) عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان موقوفًا. وهو الصحيح.
والحديث جوّد إسناده الحافظ في «الفتح» (11/ 143)، وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (5/ 226، رقم 1337).
كلامُ المؤلِّف مستقيم، على مذهب أهل السُّنَّة؛ لأنه تضمَّن إثباتَ الحَيَاءِ لله على ما يليقُ به، وأنكَرَ على مَنْ زعَمَ أنه ممتنِعٌ على الله، مِمَّا أوجَبَ لهم تحريفَ الآية بتأويلِ الحَيَاء بالتَّرْك، واستدَلَّ المؤلِّف لما ذهب إليه بالحديث، وهو استدلالٌ صحيح.
* * * * *
(21)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين (34)} [البقرة]:
(قيل: كفَر بإبايته من السجود؛ وذلك بناء على أن المعصية كفرٌ.
والأظهر: أنه كفَر باعتراضه على الله، وتسفيهه له في أمره بالسجود لآدم، وليس كفره كفرَ جحود؛ لاعترافه بالربوبية)
(1)
.
قوله: (قيل: كفَر بإبايته من السجود) إلخ: تضمَّن كلام المؤلف سببين في كفر إبليس:
الأول: أنه إباؤه السجود الذي أمره الله به، وهو حقيقة المعصية، وهذا يناسب مذهب الخوارج الذين يكفِّرون بالذنوب، ولعل هذا من حجَّتهم.
الثاني: - وهو اختيار المؤلف - أن سبب كفر إبليس الاعتراض على الله بأمره بالسجود لآدم، وهذا يتضمَّن الطعن في حكمته تعالى، وتسفيهه، تعالى الله، كما قاله المؤلف، فحصَر سبب الكفر في هذين الأمرين؛ إذِ اقتصر عليهما، فضعَّف الأول واستظهر الثاني، ونفَى المؤلف أن يكون كفر إبليس جحودًا، وهو صحيح؛ فلم يجحد إبليس
(1)
«التسهيل» (1/ 301).
ربوبيته تعالى إذ قال: رب أنظرني، وما جحد الأمر؛ لأن الله واجهه بالأمر بالسجود مع الملائكة، وصرَّح بأنه أمرَه عينا؛ فقال سبحانه:{مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، وسبب كفر إبليس الذي دلَّت عليه الآيات هو إباء السجود الناشئ عن الاستكبار، ولهذا قال تعالى:{أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34]، وقال لإبليس:{أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِين (75)} [ص]، كما يدل لذلك شبهة إبليس التي اعتذر بها عن امتناعه من السجود، وهو أن الله خلقه من نار، وخلق آدم من طين، وهذه الشبهة تتضمَّن دعاوى باطلة وأقيسة فاسدة ذكرها العلماء، وبيَّنوا بطلانها وفسادها
(1)
، وفخر إبليس فيها بنفسه واحتقاره لآدم ظاهر، فتضمَّن اعتذارُه حقيقةَ الكبر الذي هو ردُّ الحق واحتقار الغير، وذلك بردِّ أمر الله واحتقار آدم، وبهذا يُعلم أن ما ذكره المؤلف من سببَيْ كفر إبليس ناشئان عن الاستكبار
(2)
.
فالكبر إذن هو سبب كفر إبليس وأكثر الكافرين من بعده، وشواهد ذلك في القرآن كثيرة، قال تعالى:{أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} [البقرة: 87]، وقال سبحانه:{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِين (31)} [الجاثية]، وسمَّى الله
(1)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (15/ 5 - 6)، و «الصواعق المرسلة» (3/ 998 - 1007)، و «بدائع الفوائد» (4/ 1554 - 1560).
(2)
ينظر: «الإيمان الكبير» (ص 151)، و «الإيمان الأوسط» (ص 418)، و «الصارم المسلول» (ص 520)، و «بدائع الفوائد» (4/ 1554)، و «مدارج السالكين» (1/ 346).
جهنم مثوى المتكبرين، ومثوى الكافرين؛ فالكافرون هم المتكبرون في الآيتين.
تنبيه: اشتهر عند كثير من المفسرين وغيرهم أن الحامل لإبليس على ترك السجود هو الحسد، ولا دليل عليه من آية أو حديث فيما أعلم.
* * * *
(22)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسيرِ قولِه تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} [البقرة: 115]:
({وَجْهُ اللّهِ} ، المراد به هنا: كقولِه: {ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ} [البقرة: 272]؛ أي: رضاه.
وقيل: معناه الجِهَةُ التي وَجَّهنا إليها.
وأمَّا قولُه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]، و {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]، فهو مِنْ المتشابِهِ الذي يجبُ التسليمُ له مِنْ غير تكييفِ، ويُرَدُّ علمُه إلى الله.
وقال الأصوليُّون: هو عبارةٌ عن الذاتِ، أو عن الوجودِ.
وقال بعضُهم: هو صفةٌ ثابتةٌ بالسمع)
(1)
.
قولُهُ: ({وَجْهُ اللّهِ} ، المرادُ به هنا: كقولِه: {ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ} [البقرة: 272]؛ أي: رضاه
…
)، إلخ:
ذكَرَ في هذا السياق ثلاثَ آيات ورَدَ فيها ذكرُ الوجهِ؛ فذكَرَ في الآيةِ الأولى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} [البقرة: 115]، قولَيْن:
(1)
«التسهيل» (1/ 352).
الأوَّل: أنَّ المرادَ بالوجهِ في الآية كقولِهِ تعالى: {ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ} ، وفسَّره بالرضا.
الثاني: أنَّ المرادَ: الجهةُ التي وجَّهَنا الله إليها؛ يريد: القبلةَ.
وذكَرَ في الآيةِ الثانيةِ والثالثةِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]، و {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]، ثلاثةَ أقوالٍ في تفسيرِ الوجه:
أحدُها: قولُ أهلِ التأويل
(1)
؛ وهو أنَّ المرادَ بالوجهِ: الذاتُ، أو الوجودُ.
الثاني: قولُ أهلِ التفويض
(2)
؛ وهو أنَّ ذكرَ الوجهِ مِنْ المتشابِهِ الذي يجب التسليمُ له، ورَدُّ علمِهِ إلى الله.
الثالث: قولُ بعضهم؛ وهو أنَّ الوجهَ صفةٌ ثابتةٌ بالسمعِ.
(1)
التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمُحَدِّثة والمتصوفة ونحوهم: هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف. «مجموع الفتاوى» (13/ 288). وينظر:«بيان تلبيس الجهمية» (2/ 34).
وهذا التأويل هو الذي صنف في تسويغه وإبطاله من الجانبين: فصنف جماعة في تأويل آيات الصفات وأخبارها كأبي بكر بن فُورك وابن مهدي الطبري وغيرهما، وعارضهم آخرون فصنفوا في إبطال تلك التأويلات كالقاضي أبي يعلى والشيخ موفق الدين بن قدامة، وهو الذي حكى عن غير واحد إجماع السلف على عدم القول به. «الصواعق المرسلة» (1/ 178).
(2)
التفويض في اصطلاح المتكلمين، هو إجراء النصوص على ظاهرها ألفاظًا من غير فهم لمعناها؛ فليس لها معنى مفهوم عندهم، وربما قالوا: لها تأويل لا يعلمه إلا الله. «شرح العقيدة التدمرية» لشيخنا (ص 186). وينظر: «درء التعارض» (1/ 15) و (1/ 201)، و «الصواعق المرسلة» (2/ 422).=
وفيما ذكَرَهُ حقٌّ وباطلٌ:
- فتفسيرُهُ الوجهَ في الآيةِ الأولى بالجهةِ حقٌّ، وبه قال كثيرٌ مِنْ السلف
(1)
.
- وتفسيرُهُ الوجهَ في الآيةِ الأولى بالرضا، وجعلُهُ المرادَ به كالمرادِ في قولِه:{ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ} [البقرة: 272] خطأٌ؛ فالوجهُ لا يُعرَفُ في اللغةِ بمعنى الرضا؛ لكنَّ سياق الآية يتضمَّنُ هذا المعنى
(2)
، والممنوعُ أن يكونَ المرادُ بالوجهِ الرضا.
=وينسبون هذا المذهب للسلف، يقول الجويني:«وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب» . «العقيدة النظامية» (ص 32).
والسلف لم يفوضوا علم معاني النصوص؛ لأن معانيها معلومة لهم، وإنما يفوضون علم كيفية الصفات. ينظر:«الفتاوى» (13/ 308 - 309)، و «القاعدة المراكشية» (ص 29)، و «التدمرية» مع شرح شيخنا (ص 180)، و «علاقة الإثبات والتفويض» لرضا نعسان، و «مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات - عرض ونقد» لأحمد بن عبد الرحمن القاضي.
(1)
ينظر: الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 106)، و «بيان تلبيس الجهمية» (6/ 71)، و «مجموع الفتاوى» (3/ 193) و (6/ 15). قال شيخ الإسلام:«وليست هذه الآية من آيات الصفات، ومن عدها في الصفات فقد غلط كما فعل طائفة؛ فإن سياق الكلام يدل على المراد حيث قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} والمشرق والمغرب الجهات، والوجه هو الجهة، يقال: أي وجه تريده؟ أي: أي جهة؟ وأنا أريد هذا الوجه؛ أي: هذه الجهة؛ كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] ولهذا قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي تستقبلوا وتتوجهوا، والله أعلم» .
(2)
ففيها دلالة على الصفة بمفردها، ودلالة على المعنى بسياقها وتركيبها؛ كما قال شيخنا في شرح كتاب التوحيد «المسألة العشرون من الباب الثاني» . وينظر تقرير هذا المعنى في «مجموع الفتاوى» (6/ 370)، و «بيان تلبيس الجهمية» (6/ 74).
- وتفسيرُ الوجهِ في الآيةِ الثانيةِ والثالثةِ بالذاتِ والوجودِ، خطأٌ؛ وهو تفسيرُ أهلِ التأويلِ مِنْ نفاةِ الصفات
(1)
.
وأمَّا تفسيرُهُ الوجهَ في الآيةِ الثانيةِ والثالثةِ بأنَّه مِنْ المتشابِهِ، والمتشابِهُ عندهم: ما لا يَعلَمُ معناه إلا اللهُ
(2)
؛ وهذا مذهبُ أهلِ التفويضِ، وهم مِنْ النفاة، ويقابِلون أهلَ التأويل.
وما ذكَرَه عن بعضِهم: أنَّ الوجهَ صفةٌ ثابتةٌ بالسمع، فهو حقٌّ
(3)
، لا يجوزُ نفيُهُ ولا تأويلُه، بل يجبُ إثباتُهُ على ما يليقُ به سبحانه، وأنه لا يماثِلُ وجوهَ العباد، وليس هو مِنْ المتشابِه؛ لأنَّ معناه معقول، والكيفَ مجهول، والله أعلم.
* * * *
(1)
ينظر: «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 336) و (1/ 253) و (2/ 539)، و «مختصر الصواعق» (3/ 992).
(2)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (13/ 272)، و «بيان تلبيس الجهمية» (8/ 215) و (8/ 246) و (8/ 337) و (8/ 494)، و «التدمرية» مع شرح شيخنا (ص 344)
(3)
ينظر: «التوحيد» لابن خزيمة (1/ 26)، و «الإبانة» للأشعري (120 - 122)، و «اعتقاد أئمة الحديث للإسماعيلي» (ص 55)، و «مجموع الفتاوى» (2/ 429 - 434)، و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 329) و (6/ 526)، و «مختصر الصواعق» (3/ 992)، و «توضيح مقاصد العقيدة الواسطية» لشيخنا (80 - 84).
(23)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَإِذَا قَضَى أَمْراً} [البقرة: 117]؛ أي: قدَّره، أو أمضاه.
قال ابنُ عطيَّةَ
(1)
قلتُ: لا يكونُ «قَضَى» هنا بمعنى قدَّر؛ لأنَّ القَدَرَ قديمٌ، و «إذا»: تقتضي الحدوثَ والاستقبالَ؛ وذلك يُناقِضُ القِدَم، وإنَّما «قَضَى» هنا: بمعنى: أَمْضَى، أو فعَلَ، أو أوجَدَ؛ كقولِه:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12])
(2)
.
القضاءُ مِنْ اللهِ في القرآن يأتي لمعانٍ
(3)
:
1 -
«قَضَى الخَلْقَ» ؛ بمعنى: فرَغَ مِنْ خلقِهِ؛ كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12].
2 -
«قَضَى» ؛ بمعنى: حكَمَ؛ وهو نوعان:
(1)
في «المحرَّر الوجيز» (1/ 331 ط. وزارة الأوقاف قطر).
(2)
«التسهيل» (1/ 353 - 354).
(3)
ينظر: «نزهة الأعين النواظر» لابن الجوزي (ص 506).
الأول: شرعيٌّ؛ كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، ومعناه: أمَرَ ووصَّى.
والثاني: كونيٌّ؛ ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون (117)} [البقرة]، ومعناه: أراد كَوْنَهُ؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (40)} [النحل]، وقال سبحانه:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (82)} [يس].
وعلى هذا: فتفسيرُ «قضى» : ب «أَمْضَى» ، في قولِهِ تعالى:{وَإِذَا قَضَى أَمْراً} [البقرة: 117]-: أظهَرُ؛ لأن المعنى: إذا أرادَ اللهُ كَوْنَ ما سبَقَ في علمِهِ وإرادتِهِ وكتابِهِ، قال له:«كُنْ» ، فيَكُونُ؛ وهذا هو معنى الإمضاء؛ أي: إتمامُ الأمرِ الذي قدَّره اللهُ في علمِهِ وإرادتِهِ وكتابِه
(1)
.
ولهذا أقولُ: ما وجَّه به المؤلِّفُ ابنُ جُزَيٍّ اختيارَهُ، وهو أنَّ معنى «قَضَى»: أَمْضَى -: وجيهٌ.
ويأتي «قضى» في القرآنِ مضمَّنًا معنى «أَوْحَى» أو «أوصَى» ؛ كما قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِين (66)} [الحجر]، وقال سبحانه:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء: 4].
كما يأتي «القضاءُ» بمعنى: الحُكْمِ، شاملًا للمعنيَيْنِ: الكونيِّ، والشرعيِّ؛ كقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غافر: 20].
(1)
وانظر: «مجموع الفتاوى» (8/ 181 - 186)، والتعليقَ على الموضع التالي.
كما يأتي «القضاء» بمعنى: الفصلِ بين المختلِفِينَ؛ كقولِهِ تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون (93)} [يونس].
(24)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون (117)} [البقرة]؛ قال الأصوليُّون: إنَّ هذا عبارةٌ عن نفوذِ قُدْرةِ اللهِ تعالى، وليس بقولٍ حقيقيٍّ؛ لأنَّه:
- إنْ كان قولُ: «كُنْ» خطابًا للشيءِ في حالِ عَدَمِهِ، لم يصحَّ؛ لأنَّ المعدومَ لا يخاطَبُ.
- وإنْ كان خطابًا للشيءِ في حالِ وجودِهِ، لم يصحَّ؛ لأنه قد كان، وتحصيلُ الحاصلِ غيرُ مطلوب.
وحمَلَهُ المفسِّرون على حقيقتِهِ، وأجابوا عن ذلك بأربعةِ أوجُهٍ:
أحدُها: أنَّ الشيءَ الذي يقولُ اللهُ له: «كُنْ» هو موجودٌ في علمِ اللهِ؛ وإنما يقولُ له: «كُنْ» ؛ لِيُخْرِجَهُ إلى العِيَانِ لنا.
والثاني: أنَّ قولَهُ: «كُنْ» لا يتقدَّمُ على وجودِ الشيءِ، ولا يتأخَّرُ عنه؛ قاله الطَّبَريّ
(1)
.
والثالثُ: أنَّ ذلك خطابٌ لمن كان موجودًا على حالةٍ، فيؤمَرُ بأن يكونَ على حالةٍ أخرى؛ كإحياءِ الموتى، ومَسْخِ الكفَّار.
وهذا ضعيفٌ؛ لأنه تخصيصٌ مِنْ غيرِ مخصِّص.
(1)
في «تفسيره» (2/ 469 - 470 ط. دار هجر).
والرابعُ: أنَّ معنى: {يَقُولُ لَهُ} : يقولُ مِنْ أجلِهِ؛ فلا يلزمُ خطابُه.
والأوَّلُ أحسَنُ هذه الأجوبةِ.
وقال ابنُ عطيَّة
(1)
(2)
.
قولُهُ: (وأجابوا عن ذلك بأربعةِ أوجُهٍ
…
)، إلخ:
كلُّ هذه الأقوالِ الأربعةِ ليس فيها انفصالٌ عن الإشكالِ الذي ذكَرُوه.
والراجحُ منها: القولُ الأوَّلُ؛ كما اختاره المؤلِّف.
وأرجَحُ منه: القولُ الثالث، وإنْ كان المؤلِّفُ قد ضعَّفه؛ ويَشهَدُ له قولُهُ تعالى في خلقِ آدَمَ وعيسى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (59)} [آل عمران].
ولعلَّ الجواب الذي يَرفَعُ الإشكالَ الذي ذكَرُوهُ: أنَّ الأمرَ الواردَ في الآياتِ ليس أمرَ تكليفٍ للمخاطَبِ بفعلِ شيءٍ في نَفْسِهِ أو في غيرِه، بل هو أمرُ تكوينٍ يُوجِبُ كونَ الشيءِ الذي أرادَهُ اللهُ كما أراد؛
(1)
في «المحرَّر الوجيز» (1/ 332 ط - وزارة الأوقاف قطر، باختصار يسير).
(2)
«التسهيل» (1/ 354 - 355).
فيكونُ المُوجِبُ لكونِهِ - أي: وجودِهِ -إرادتَهُ تعالى وقولَهُ؛ كما جمَعَ اللهُ بينهما في الآياتِ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (40)} [النحل]، وقولِه:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (82)} [يس]، وحدوثُ المحدَثاتِ بإرادتِهِ وكلامِهِ سبحانه يستلزِمُ قدرتَهُ على كلِّ شيءٍ، {إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (20)} [البقرة].
وأمَّا قولُ ابن عطيَّةَ رحمه الله، فليس فيه جوابٌ، بل يزيدُ الإشكالَ؛ لقولِهِ:«لم يَزَلْ آمِرًا للمعدوماتِ، بشرطِ وجودِها» ؛ فمضمونُ قولِهِ: أنه تعالى لم يَزَلْ آمِرًا للمعدوماتِ الموجوداتِ؛ وهذا ممتنِعٌ.
وسبَبُ الإشكالِ عندهم: اعتقادُ أنَّ الأَمْرَ أمرُ تكليف؛ الذي يُطلَبُ به مِنْ المأمورِ فعلٌ يَفعَلُهُ بعلمٍ وإرادة، والصوابُ: أنَّ الأمرَ أمرُ تكوينٍ؛ كما تقدَّم. وانظر كلامَ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ في «مجموع الفتاوى» (8/ 181 - 186)، وانظر كذلك: تعليقَنا على الموضع السابق.
* * * *
(25)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في كلامِه على مقام الذِّكْر:
(وللناسِ في المَقصِدِ بالذِّكْرِ مقامان:
- فمَقصِدُ العامَّة: اكتسابُ الأجور.
- ومَقصِدُ الخاصَّة: القربُ والحضور.
وما بين المقامَيْنِ بَوْنٌ بعيد؛ فكم بين مَنْ يأخُذُ أجرَهُ وهو مِنْ وراء حجاب، وبين مَنْ يُقرَّبُ حتى يكونَ مِنْ خواصِّ الأحباب!)
(1)
.
قولُهُ: (وللناسِ في المَقصِدِ بالذِّكْرِ مقامان
…
)، إلخ:
تضمَّن كلامُهُ هذا رحمه الله: أنَّ الذاكِرِينَ نوعان: عامَّةٌ وخاصَّةٌ، وأنَّ مقصود العامَّةِ بالذكرِ: اكتسابُ الأَجْر، وأنَّ مقصودَ الخاصَّةِ القربُ مِنْ الله، ويدخُلُ في الخاصَّةِ: الأنبياءُ والصِّدِّيقون.
وهذا التقسيمُ والتفاضُلُ بين الذاكِرِينَ صحيح، وهو يجري في كلِّ الطاعات؛ فالمؤمِنون، منهم: الأبرارُ أصحابُ اليمين، ومنهم: المقرَّبون السابِقون، كما جاء هذا التقسيمُ في سورةِ الواقِعةِ والإنسانِ والمطفِّفين، ومنه ما ذُكِرَ في سورةِ فاطِر.
(1)
«التسهيل» (1/ 375).
ولكن يُستدرَكُ على الشيخِ ابنِ جُزَيٍّ رحمه الله: ما يُوهِمُهُ كلامُهُ مِنْ أنَّ الخاصَّةَ لا طمَعَ لهم في الأجور، وهذا يُخالِفُ ما وصَفَ اللهُ به أنبياءَهُ وأولياءَه؛ مِنْ رجاءِ رحمتِهِ وخوفِ عذابِه، مع طلبِ القُرْبِ لديه في قولِهِ تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57]؛ فهم يَعْبُدون اللهَ في ثلاثة مَقامَات: مقامِ الحُبِّ، ومقامِ الخوفِ، ومقامِ الرجاء
(1)
.
وكلامُهُ رحمه الله يُوهِمُ ما تقولُهُ جَهَلةُ الصوفيَّةِ
(2)
مِنْ أنَّ العارفَ لا يعبُدُ اللهَ طمعًا في جَنَّتِه، ولا خوفًا مِنْ نارِه
(3)
؛ ويَرُدُّ هذا الزعمَ آياتٌ
(1)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 61) و (10/ 81)، و «مدارج السالكين» (2/ 36. ط دار الكتاب العربي).
(2)
الصوفية: هو نسبة إلى لُبس الصوف، هذا هو الصحيح، كما قال شيخ الإسلام في الفرقان (ص 129). وقد عرفوا في بادئ الأمر بالزهد والعبادة، وكانت لهم أحوال أنكرها عليهم الأئمة، ثم تطور الأمر إلى أن دخل في التصوف فلاسفة الصوفية والزنادقة؛ فأدخلوا فيه القول بالحلول والاتحاد، والقول بالظاهر والباطن، وغيرها من البدع المكفرة. ينظر:«مجموع الفتاوى» (11/ 5 - 20)، و «النبوات» (1/ 280 - 284)، و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 169)، و «بيان حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود -مجموع الفتاوى-» (2/ 134 - 285).
(3)
قال شيخ الإسلام: «هذا القائل ظنَّ - هو ومَن تابعه - أن الجنة لا يدخل في مسماها إلا الأكل والشرب واللباس والنكاح، ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات؛ ولهذا قال بعض مَنْ غلط مِنْ المشائخ لما سمع قوله:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ)} [آل عمران: 152] قال: فأين من يريد الله؟! وقال آخر في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة: 111] قال: إذا كانت النفوس والأموال بالجنَّة فأين النظر إليه؟! وكل هذا لظنِّهم أنَّ الجنَّة لا يدخل فيها النظر، والتحقيق: أن الجنة هي الدار الجامعة لكل نعيم، وأعلى ما فيها: النظر إلى وجه الله، وهو من النعيم الذي ينالونه في الجنة، كما أخبرت به النصوص،=
كثيرةٌ مِنْ كتاب الله عز وجل؛ كقولِه تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين (90)} [الأنبياء].
* * * *
=وكذلك أهل النار، فإنهم محجوبون عن ربهم يدخلون النار، مع أن قائل هذا القول إذا كان عارفاً بما يقول فإنما قصده أنك لو لم تخلق ناراً، أو لو لم تخلق جنَّة لكان يجب أن تُعبد، ويجب التقرب إليك، والنظر إليك، ومقصوده بالجنة هنا ما يتمتع فيه المخلوق». «مجموع الفتاوى» (10/ 62). وينظر:«مدارج السالكين» (2/ 79).
(26)
وقال أيضًا في مقامِ الذِّكْرِ:
(ثُمَّ إنَّ ثَمَراتِ الذِّكْرِ بجميعِ الأسماءِ والصفاتِ مجموعةٌ في الذِّكْرِ الفَرْدِ؛ وهو قولُنا: «اللهُ، اللهُ»؛ فذلك هو الغايةُ، وإليه المنتهَى)
(1)
.
قولُهُ: (ثُمَّ إنَّ ثَمَراتِ الذِّكْرِ بجميعِ الأسماءِ والصفاتِ
…
)، إلخ:
يتضمَّن هذا أمرَيْنِ؛ حقًّا وباطِلًا:
الأوَّل: أنَّ جميعَ معاني أسماءِ الله الحسنى يتضمَّنُها الاسمُ الشريفُ: «اللهُ» ؛ وهذا حقٌّ.
الثاني: أنَّ أفضلَ الذِّكْرِ هو ذكرُ اللهِ بالاسمِ المفرَدِ: «اللهُ، اللهُ» ؛ وهذا باطل؛ وذلك لأمور
(2)
:
- أنَّ الذكرَ بالاسمِ المفرَدِ مِنْ بِدَعِ الصوفيَّة، ولا أصلَ له في كتابٍ ولا سُنَّة؛ فاختيار المؤلِّف لذلك زَلَّةٌ منه؛ عفا الله عنه.
- أنَّ كلَّ ما ورَدَ مِنْ ألفاظِ الذكرِ في الكتابِ والسُّنَّةِ هو مِنْ الكلامِ المركَّب؛ ك «سُبْحَانَ اللهِ» ، و «الحمدُ للهِ» ، و «لا إله إلا اللهُ» ، و «اللهُ أَكْبَر» .
(1)
«التسهيل» (1/ 377).
(2)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 226) و (10/ 556).
- أنَّ الاسمَ المفرَدَ لا يفيدُ فائدةً تامَّة؛ كما هو مقرَّرٌ في علمِ النحو.
لذلك لا يحصُلُ بالاسمِ المفرَدِ إيمانٌ ولا كُفْر؛ فلا يدخُلُ الكافرُ في الإسلامِ بذكرِهِ الاسمَ المفرَدَ: «اللهُ» ، ولا يكفُرُ مَنْ قال:«لا إلهَ إلَّا اللهُ» ، وامتنَعَ عن ذكر الاسمِ المفرَدِ؛ لذلك: لا يُجزِئُ الإتيانُ بالاسمِ المفرَدِ في المواضعِ التي يُستحَبُّ أو يجبُ فيها نوعٌ مِنْ الأذكارِ الشرعيَّة.
* * * *
(27)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسيرِ قولِهِ تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163]:
(الواحدُ له ثلاثةُ معانٍ، كلُّها صحيحةٌ في حَقِّ الله تعالى:
أحدُها: أنه لا ثانيَ له؛ فهو نفيٌ للعدَد.
والآخَر: أنَّه لا شريكَ له ولا نظيرَ.
والثالثُ: أنه واحِدٌ لا يتبعَّضُ ولا ينقسِمُ)
(1)
.
وقال أيضًا:
(واعلَمْ: أنَّ توحيدَ الخَلْقِ للهِ تعالى على ثلاثِ دَرَجاتٍ:
الأولى: توحيدُ عامَّةِ المسلِمين؛ وهو الذي يَعصِمُ النفسَ والمالَ في الدنيا، وينجِّي مِنْ الخلودِ في النارِ في الآخِرة، وهو نفيُ الشُّرَكاءِ والأنداد، والصاحِبةِ والأولاد، والأشباهِ والأضداد.
الدرجةُ الثانية: توحيدُ الخاصَّة؛ وهو أنْ يرى الأفعالَ كلَّها صادرةً مِنْ اللهِ وحدَهُ، ويشاهِدَ ذلك بطريقِ المكاشَفة، لا بطريقِ الاستدلال؛ فإنَّ معرِفةَ ذلك بطريقِ الاستدلالِ حاصلةٌ لكلِّ مؤمِن، وإنما مقامُ الخاصَّة: يقينٌ في القلبِ بعلمٍ ضروريٍّ لا يحتاجُ إلى دليلٍ، وثَمَرةُ هذا
(1)
«التسهيل» (1/ 383 - 384).
العلمِ: الانقطاعُ إلى الله، والتوكُّلُ عليه وحدَهُ، واطِّرَاحُ جميعِ الخَلْق؛ فلا يرجو إلا اللهَ، ولا يخافُ أحدًا سواه؛ إذْ ليس يرى فاعلًا إلَّا إياهُ، ويَرَى جميعَ الخلقِ في قَبْضةِ القَهْر، ليس بيَدِهم شيءٌ مِنْ الأَمْر، فيَطَّرِحُ الأسبابَ، ويَنبِذُ الأربابَ.
والدرجةُ الثالثة: ألَّا يرى في الوجودِ إلا اللهَ وحدَه؛ فيَغِيبُ عن النَّظَرِ إلى المخلوقات، حتى كأنَّها عنده معدومة.
وهذا هو الذي تسمِّيه الصوفيَّةُ: مقامَ الفَنَاء؛ بمعنى الغَيْبةِ عن الخَلْق؛ حتى إنه يَفنَى عن نَفْسِه، وعن توحيدِه؛ أي: يَغِيبُ عن ذلك باستغراقِهِ في مشاهَدةِ الله)
(1)
.
قولُهُ: (الواحدُ له ثلاثةُ معانٍ
…
)، إلخ:
ما ذكَرَهُ في معنى الواحِدِ، وقولُهُ: إنَّ المعانيَ الثلاثةَ المذكورةَ صحيحةٌ في حقِّ الله: سقيمٌ في الجُمْلة، وقد جرى في ذلك على طريقةِ المتكلِّمين في تقسيمِ التوحيد
(2)
؛ ويُؤخَذُ عليه وعليهم أمورٌ:
- أنَّهم لم يذكُرُوا توحيدَ الإلهيَّةِ المتضمِّنَ توحيدَ العبادة، الذي هو معنى:«لا إله إلا الله» .
- أنَّ ما ذكَرُوهُ غايتُهُ أنْ يتضمَّنَ توحيدَ الربوبيَّةِ، الذي أقَرَّ به المشرِكون.
(1)
«التسهيل» (1/ 384 - 385).
(2)
ينظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 385 - 399)، و «التدمرية» (182 - 188 ت. السعوي) ومع شرح شيخنا (ص 506)، و «مدارج السالكين» (3/ 415 - 417).
- أنَّ بعضَ عباراتِهم في هذا التقسيمِ فيها إجمالٌ؛ كنفيِ النظيرِ والشبيهِ؛ فإنَّ المعطِّلةَ - كالمعتزِلةِ
(1)
ومَن وافَقَهم - يُدخِلُونَ في ذلك نفيَ الصفاتِ.
قولُهم: «إنه واحِدٌ لا يتبعَّضُ، ولا ينقسِمُ» ، هو حقٌّ في ظاهرِه، لكنَّهم يُدخِلُونَ فيه أيضًا: نفيَ علوِّه تعالى على خَلْقِه
(2)
.
(1)
المعتزلة: فرقة كلامية ظهرت في البصرة أول القرن الثاني على يد واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس الحسن البصري؛ لابتداعه القول بأن مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر، مخالفًا بذلك قول الحسن وأهل السنة أنه مؤمن لكنه فاسق، وهم طوائف شتى يجمعهم: القول بنفي الصفات، والقول بخلق القرآن، وأن العبد يخلق فعل نفسه، لهم أصول خمسة وهي: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شرح هذه الأصول شيخهم القاضي عبد الجبار في كتابه:«شرح الأصول الخمسة» . ينظر: «مجموع الفتاوى» (6/ 339)، و «تاريخ الجهمية والمعتزلة» للقاسمي (56 - 58) و «المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها» لعواد المعتق (14 - 19).
(2)
يُنظَر في ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيميَّة في «العقيدة التدمريَّة» ؛ إذ قال: «فإنَّ عامَّة المتكلِّمين غايتُهم أنْ يَجعَلُوا التوحيدَ ثلاثةَ أنواع؛ فيقولون: هو واحدٌ في ذاتِهِ لا قَسِيمَ له، وواحدٌ في صفاتِهِ لا شبيهَ له، وواحدٌ في أفعالِهِ لا شريكَ له» ، إلى أن قال:«النوعُ الثاني - وهو قولُهم: لا شبيهَ له في صفاتِه» ، إلى أنْ قال:«ثُمَّ إن الجهميَّة مِنْ المعتزِلة وغيرِهم أدرَجُوا نفيَ الصفاتِ في مسمَّى التوحيد» ، إلى أن قال:«النوعُ الثالثُ - وهو قولُهم: هو واحدٌ لا قَسِيمَ له في ذاتِهِ أو لا جزءَ له أو لا بعضَ له؛ لفظٌ مجمَلٌ؛ فإن الله سبحانه أحَدٌ صمَدٌ لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ولم يكنْ له كفوًا أحد» ، إلى أن قال:«لكنَّهم يُدرِجُونَ في هذا اللفظ: نفيَ علوِّه على عرشِهِ، ومباينتِهِ لخلقِهِ، وامتيازِهِ عنهم» ، إلى أن قال:«فقد تبيَّن أنَّ ما يسمُّونه توحيدًا، فيه ما هو حق، وفيه ما هو باطل، ولو كان جميعُهُ حقًّا؛ فإنَّ المشرِكين إذا أقرُّوا بذلك كلِّه، لم يخرُجُوا مِنْ الشرك الذي وصَفَهم به في القرآن، وقاتَلَهم عليه الرسولُ صلى الله عليه وسلم؛ بل لا بُدَّ أن يَعترِفوا أنه لا إله إلا الله» . «التدمريَّة» (ص 179). وينظر: شرح شيخنا على الموضع السابق في «شرح التدمرية» (ص 506).
وقولُ ابنِ جُزَيٍّ: (واعلَمْ: أنَّ توحيدَ الخَلْقِ للهِ تعالى على ثلاثِ دَرَجاتٍ
…
)، إلخ:
هذا التقسيمُ للناسِ في التوحيدِ يُشبِهُ ما ذكَرَهُ مِنْ تقسيمِهِ للناسِ في مقصودِهم مِنْ الذِّكْر، وقد تقدَّم التنبيهُ إلى ما فيه، وكذلك نقولُ هنا: إنَّ ما ذكَرَهُ مِنْ تفاضُلِ الناسِ في التوحيدِ صحيحٌ، ولكنَّه سلَكَ في التعبيرِ عن ذلك طريقَ الصوفيَّة؛ إذْ جعَلَهُ ثلاثَ دَرَجاتٍ: توحيدَ العامَّة، وتوحيدَ الخاصَّة، وتوحيدَ خاصَّةِ الخاصَّة.
وفسَّر كلَّ درجةٍ مِنْ هذه الدرجات؛ كما هي عند الصوفيَّة، ولا إشكالَ فيما فسَّر به توحيدَ العامَّةِ، إلا مِنْ حيثُ تخصيصُهُ بالعامَّة.
ولكنْ يُؤخَذُ على المؤلِّف ما فسَّر به الدرجةَ الثانيةَ والثالثةَ مُقِرًّا لهما، وقد تضمَّن كلامُهُ رحمه الله إشكالَيْن:
1 -
قولُهُ: (فيَطَّرِحُ الأسباب):
هذا قولٌ مجمَلٌ يَحتمِلُ أمورًا؛ فإنَّ اطِّراحَ الأسبابِ:
أ -إنْ كان لاعتقادِ عدَمِ تأثيرِها، فهذا جَحْدٌ لما تضافَرَتِ الأدلَّةُ العقليَّةُ والشرعيَّةُ على إثباتِه؛ وهو تأثيرُ الأسبابِ في مسبَّباتها
(1)
؛ وهذا مذهبُ الجهميَّةِ
(2)
.......................................
(1)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (8/ 121) و (8/ 134) و (8/ 137) و (8/ 484) و (8/ 389)، و «شرح الأصبهانية» (ص 172)، و «التدمرية» مع شرح شيخنا (ص 562).
(2)
الجهمية: هي طائفةٌ من المتكلمين، تُنسب إلى الجهم بن صفوان، نفت عن الله تعالى الأسماء والصفات وضلت في أبواب أخرى: كالقول بالجبر في القدر، والقول بفناء=
ومَن وافَقَهم؛ كالأشاعِرة
(1)
.
ب - وإنْ كان لاعتقادِ عدَمِ شرعيَّةِ العمَلِ بها، فهذا مخالِفٌ لمُوجَبِ الشرع؛ كقولِهِ صلى الله عليه وسلم:((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ))
(2)
، وقولِهِ للرجلِ:((اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ))
(3)
، وقولِهِ تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُم مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، وشواهدُ ذلك كثيرة.
=الجنة والنار، والزعم بأن الإيمان هو المعرفة فقط. واشتهر إطلاق هذا الاسم على كل من عطّل صفات الرب سبحانه. ينظر:«مجموع الفتاوى» (3/ 354)، و «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 684) و (5/ 365)، و «تاريخ الجهمية والمعتزلة» (ص 9).
(1)
الأشاعرة: فرقة كلامية تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري في الاعتقاد، في طوره الثاني قبل رجوعه لمذهب السلف الذي يمثل آخر أطواره، والتي ألف فيها مصنفاته:«الإبانة» و «رسالة إلى أهل الثغر» و «مقالات الإسلاميين» . أما الأشعرية فقد تطور مذهبهم؛ من نفي لأفعال الله الاختيارية، إلى نفي الاستواء؛ فالعلو، فبعض الصفات الذاتية، ثم كلها، إلى أن صاروا في النهاية لا يثبتون إلا سبع صفات. قال شيخ الإسلام:«وأما من قال منهم بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة؛ لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة» . «مجموع الفتاوى» (6/ 359). ينظر: التعريف بمذهبهم في: «مجموع الفتاوى» (3/ 103)(4/ 156)(5/ 90 - 99)، و «شرح الأصبهانية» (ص 25 - 34)، و «شرح حديث النزول» (157 - 159، 187، 105، 155)، و «النبوات» (1/ 266 - 271)، و «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (2/ 505).
(2)
أخرجه مسلم (2664)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه الترمذي (2517) من طريق يحيى القطان، عن المغيرة بن أبي قرة السدوسي، عن أنس، به.
قال يحيى القطان: «هذا عندي حديث منكر» .
وقال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أنس لا نعرفه إلا من هذا الوجه».
وقال ابن رجب في شرح العلل (2/ 653): «تفرد به المغيرة عن أنس؛ ولهذا غرَّبه الترمذي» .=
ج - وإنْ كان اطِّراحُ الأسبابِ بتركِ الاعتمادِ عليها، فهذا حقٌّ، وهو مِنْ تحقيقِ التوكُّلِ على الله.
2 -
قولُهُ في الدرجةِ الثالثة: (أَلَّا يرى في الوجودِ إلَّا اللهَ وحدَه
…
)، إلخ:
لفظُهُ هذا يَحتمِلُ أن يَعتقِدَ أَنْ لَا موجودَ إلا الله؛ وهذا هو القولُ بوَحْدةِ الوجود؛ وهو قولُ ملاحِدةِ الصوفيَّةِ الاتحاديَّة
(1)
، والمؤلِّفُ لا يريدُ هذا المعنى قطعًا؛ لأنه فسَّره بقولِه:((حتى كأنَّها عنده معدومةٌ؛ وهذا هو الفناءُ عند الصوفيَّة، وهو الغَيْبةُ عن الخَلْق؛ حتى إنَّه يَفنَى عن نفسِهِ، وعن توحيدِه)).
=والمغيرة هذا، لم يوثقه غير ابن حبان على قاعدته في توثيق المجاهيل، وقال ابن القطان الفاسي في:«الوهم والإيهام» (3/ 118): «مجهول» ، وقال في موضع آخر (3/ 267):«لا يعرف له حال» .
وقال الحافظ في «التقريب» (6849): «مستور» .
وللحديث شاهد من حديث عمرو بن أمية: أخرجه ابن حبان (731)، والحاكم (6616) من طريق يعقوب بن عمرو بن عبد الله بن أمية الضمري، عن جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، به.
قال الذهبي في «تلخيص المستدرك» : «جيد» ! مع أن يعقوب هذا لم يوثقه غير ابن حبان! وقال الحافظ في «التقريب» (7827): «مقبول» ؛ أي حيث يتابع وإلا فلين.
وأورده الهيثمي في «المجمع» (10/ 303) وقال: «رواه الطبراني من طرق، ورجال أحدها رجال الصحيح، غير يعقوب بن عبد الله بن عمرو بن أمية الضمري، وهو ثقة» ! وأورده في موضع آخر (10/ 291) وقال: «رواه الطبراني بإسنادين، وفي أحدهما عمرو بن عبد الله بن أمية الضمري، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات» .
(1)
ينظر: «بيان حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود -مجموع الفتاوى-» (2/ 134 - 285)، و (11/ 232 - 251).
وقد جعَلَ المؤلِّف هذه الدرجةَ بهذا التفسير أعلى درجاتِ التوحيد، وهي الفناءُ عن شهودِ ما سوى الله؛ أي: عدَمِ الشعورِ بما سوى الله مِنْ المخلوقات، وقد غَلِطَ في هذا - عفا الله عنه - فإنَّ الفناءَ والغَيْبةَ نقصٌ، ليس بكمالٍ، فضلًا عن أن يكونَ مِنْ الدِّين، فضلًا عن أن يكونَ أعلى مقاماتِ الدِّين.
قال شيخُ الإسلام في «العقيدة التدمريَّة»
(1)
: «الفناءُ الثاني: وهو الذي يذكُرُهُ بعضُ الصوفيَّة، وهو أنْ يَفنَى عن شهودِ ما سوى اللهِ تعالى
…
بحيثُ قد يَغِيبُ عن شعوره بنَفْسِهِ وبما سِوَى اللهِ تعالى؛ فهذا حالٌ ناقصٌ
…
ومَن جعَلَ هذا نهايةَ السالِكِين، فهو ضالٌّ ضلالًا مُبِينًا، وكذلك مَنْ جعَلَهُ مِنْ لوازمِ طريقِ الله، فهو مُخطِئ، بل هو مِنْ عوارضِ طريقِ اللهِ التي تَعرِضُ لبعضِ الناسِ دون بعض»
(2)
.
* * * *
(1)
«العقيدة التدمرية» (ص 221)، وينظر شرح شيخنا على هذا الموضع في «شرح التدمرية» (ص 590).
(2)
وينظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 218 - 224، و 337 - 343).
(28)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في كلامِهِ عن مقام المحبَّة:
(اعلَمْ: أنَّ محبَّةَ العبدِ لربِّهِ على درجتَيْن:
إحداهما: المحبَّةُ العامَّةُ التي لا يخلو عنها كلُّ مؤمِن؛ وهي واجبة.
والأخرى: المحبَّةُ الخاصَّةُ التي يَنفرِدُ بها العلماءُ الربانيُّون، والأولياء والأصفياء.
وهي أعلى المَقامَات، وغايةُ المطلوبات؛ فإنَّ سائر مقامات الصالحين - كالخوفِ، والرجاءِ، والتوكُّل، وغيرِ ذلك - هي مبنيَّةٌ على حظوظِ النَّفْس؛ أَلَا ترى أنَّ الخائِفَ إنما يخاف على نَفْسِه، وأنَّ الراجي إنما يرجو منفعةَ نَفْسِه؟! بخلافِ المحبَّةِ؛ فإنها مِنْ أجلِ المحبوب؛ فليست مِنْ المعاوَضات)
(1)
.
قولُه: (اعلَمْ: أنَّ محبَّةَ العبدِ لربِّهِ على درجتَيْن
…
)، إلخ:
تضمَّن كلامُهُ تعظيمَ مقامِ المحبَّة، وأنَّ العبادَ فيها متفاضِلون، وهذا صحيح
(2)
، ولكنه - عفا الله عنه - هوَّن مِنْ مقاماتِ الخوفِ والرجاءِ والتوكُّل، وقال: إنَّ غايتَها حظُّ النفس، بينما غايةُ المحبَّةِ المحبوبُ.
(1)
«التسهيل» (1/ 387 - 388).
(2)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (11/ 520)، و «مدارج السالكين» (3/ 29).
وهذا لا يُسلَّمُ له في الجانبَيْن؛ فمقاماتُ الخوفِ والرجاءِ والتوكُّلِ غايتُها إجلالُ اللهِ وتعظيمُه، والخضوعُ له والإقرارُ بربوبيَّتِهِ وكمالِ غناه؛ كيف وقد أثنى اللهُ على ملائكتِهِ بمقامِ الخوفِ؛ فقال:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، وقال سبحانه:{وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُون (28)} [الأنبياء]، وأثنى اللهُ على أنبيائِهِ وأوليائِهِ بمقامِ الخوفِ والرجاءِ والتوكُّلِ؛ فقال سبحانه:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين (90)} [الأنبياء]، وقال عن رسلِهِ عليهم السلام:{وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُون (12)} [إبراهيم].
وأمَّا مقامُ المحبَّةِ - مع علوِّ قدرِهِ - فلا يُستغنَى به عن مقامِ الخوفِ والرجاءِ، كما تزعُمُ الصوفيَّة
(1)
، ومع ذلك: فللنفسِ حظٌّ في مقامِ
(1)
قال ابن القيم رحمه الله: «والمحبة ما لم تقرن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل قد تضره؛ لأنها توجب الإدلال والانبساط، وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات، وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب، وإقباله على الله، ومحبته له، وتألهه له، فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل! ولقد حدثني رجل أنه أنكر على رجل من هؤلاء خلوة له ترك فيها حضور الجمعة؛ فقال له الشيخ: أليس الفقهاء يقولون: إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط عنه؟ فقال له: بلى، فقال له: فقلب المريد أعز عليه من ضياع عشرة دراهم! أو كما قال، وهو إذا خرج ضاع قلبه، فحفظه لقلبه عذرٌ مسقطٌ للجمعة في حقه. فتأمل هذا الغرور العظيم كيف آل بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة! ولهذا قال بعض السلف: «من عبد الله تعالى بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن» . وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاثة بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه، ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف؛ فهذه طريقة عباده وأوليائه». «بدائع الفوائد» (3/ 850 - 851).
الحُبِّ، وهو ما تَجِدُهُ مِنْ اللذَّةِ في مشاهَدةِ جمالِ المحبوبِ وكمالِه؛ فلا بُدَّ مِنْ التعبُّدِ للهِ بكلِّ هذه المقامات؛ حبًّا ورجاءً وخوفًا وتوكُّلًا.
(1)
.
* * * * *
(1)
«مجموع الفتاوى» (10/ 81، 207)، (11/ 390 - 391)، (15/ 21)، و «بدائع الفوائد» (3/ 851).
(29)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ} [البقرة: 174]:
(عبارةٌ عن غضَبِهِ عليهم، وقيل: لا يكلِّمُهم بما يُحِبُّونه)
(1)
.
قولُهُ: (عبارةٌ عن غضَبِهِ عليهم
…
)، إلخ:
فسَّر نفيَ الكلامِ بأحد وجهَيْن:
- بالغضَبِ اللازمِ مِنْ تركِ الكلامِ؛ وهو مِنْ التفسيرِ باللازم.
- أو بتركِ كلامٍ مخصوصٍ، وهو ما يُحِبُّونَهُ ويَسُرُّهم.
والثاني هو المناسِبُ؛ لظاهِرِ اللفظ، والله أعلم
(2)
.
* * * * *
(1)
«التسهيل» (1/ 396).
(2)
وهو اختيار ابن جرير. ينظر: «تفسيره» (3/ 67).
(30)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({كَمَا كُتِبَ} القصد بقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] وبقوله: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] تسهيلُ الصيام على المسلمين، وكأنه اعتذارٌ عن كتْبِه عليهم، ومُلاطفةٌ جميلة)
(1)
.
قول ابن جزيٍّ: (وكأنه اعتذارٌ عن كتْبِه عليهم)، فيه نسبة الاعتذار إلى الله، ومعنى كلامه أن الله أخبر المؤمنين أنه كتب الصيام على من قبلهم اعتذارا منه إلى المؤمنين عن كتب الصيام عليهم، وفي نسبة الاعتذار إلى الله نظر؛ فإنه لم يرد نسبة الاعتذار إلى الله في شيء من نصوص الكتاب والسنة، وإنما الذي ورد الإعذار، أي: إزالة العذر، وذلك بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين، كما قال صلى الله عليه وسلم:((لا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين))
(2)
وبإمهال العبد في عمره إلى أمد يمكنه فيه التدارك، كما في الحديث:((أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجله، حتى بلغه ستين سنة))
(3)
، فلا حجة للعباد على الله، وقد أقام الحجة عليهم بإرسال
(1)
«التسهيل» (1/ 403).
(2)
أخرجه البخاري (7416) عن سعد بن عبادة رضي الله عنه، ولمسلم (1499)، (2760) نحوه عن المغيرة بن شعبة، وابن مسعود رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري (6419) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الرسل وبالإمهال، قال تعالى:{رُّسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال تعالى:{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]، فلا عذر لمن كفر بالله وعصى رسله بعد إعذار الله إليهم.
والاعتذار إنما يكون من الأدنى إلى الأعلى، فالواجب على العباد أن يعتذروا إلى ربهم بالاعتراف والتوبة من ذنوبهم، لا أن يعتذر الله إليهم بما فعله بهم؛ إذْ لم يفعل بهم إلا ما له فعله؛ لأنهم عبيده، كما قال عيسى عليه السلام:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118]، وهو سبحانه بصير بهم، كما قال:{إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِير (27)} [الشورى]، وليس لأحد أن يقول: لمَ فعلتَ كذا يا ربَّنا، ولم شرعتَ كذا، على وجه الاعتراض، قال تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون (23)} [الأنبياء].
* * * *
(31)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسيرِ قولِه تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]:
(مقيَّدٌ بمشيئةِ الله، وموافَقةِ القَدَر؛ وهذا جوابُ مَنْ قال: كيف لا يُستجابُ الدعاءُ، مع وعدِ اللهِ بالاستجابة؟!)
(1)
.
قولُه: (مقيَّدٌ بمشيئةِ الله
…
)، إلخ:
تضمَّنَ كلامُهُ هذا: أنَّ وعدَ اللهِ باستجابةِ دعاءِ الداعي:
مشروطٌ بأمرين:
- أوَّلًا: بمشيئةِ الله؛ وهذا حقٌّ؛ فإنَّ فِعلَهُ تعالى إنما يكونُ بمشيئةٍ: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء (18)} [الحج]، وأدلَّةُ ذلك كثيرةٌ في القرآن.
- ثانيًا: بموافَقةِ القَدَر؛ أي: أن يكونَ المطلوبُ قد سبَقَ القَدَرُ بكَوْنِه، وفي هذا إجمالٌ:
فإنْ أراد: أنه مقدَّرٌ بدون هذا الدعاء، فهذا يَؤُولُ إلى أن يكونَ الدعاءُ لا أثَرَ له في حصولِ المطلوب؛ وهذا هو الظاهِرُ مِنْ مرادِه؛ فإنَّ هذا يَجرِي على مذهبِ نفاةِ تأثيرِ الأسباب، والدعاءُ مِنْ الأسباب، وهو مذهبُ الأشاعِرة
(2)
، والظاهِرُ: أنَّ المؤلِّفَ ممَّن يذهَبُ هذا المذهَب.
(1)
«التسهيل» (1/ 406).
(2)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (8/ 176).
وإنْ أراد: أنه مقدَّرُ الحصولِ بذلك الدعاءِ، فهو حقٌّ؛ لكن يصيرُ التقييدُ بذلك كالتقييدِ بالمشيئة؛ فإنه لا يكون إلا ما سبَقَ به القَدَر، كما لا يكونُ إلا ما شاءَهُ اللهُ تعالى؛ فتخلُّفُ المطلوبِ يَرجِعُ إلى أنَّ اللهَ لم يقدِّرْ حصولَهُ في سابقِ علمِهِ وكتابِه، وما كان كذلك، فإنه لا يشاؤُهُ سبحانه.
فالمشيئةُ والقَدَرُ متلازِمان؛ فما شاءَهُ سبحانه، فقد سبَقَ به علمُهُ وكتابُه، وما عَلِمَهُ وكتَبَهُ فإنه تعالى يشاؤُه؛ فلا يكونُ إلا ما يشاء، ولا يكونُ إلا ما سبَقَ به علمُهُ وكتابُه، والله أعلم.
* * * * *
(32)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسيرِ قولِهِ تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]:
({يَأْتِيَهُمُ اللّهُ} [البقرة: 210]:
تأويلُهُ عند المتأوِّلين: يَأْتِيَهم عذابُ اللهِ في الآخِرة، أو أمرُهُ في الدنيا.
وهي عند السلفِ الصالحِ ومَن تَبِعَهم: مِنْ المتشابِه؛ فيجبُ الإيمانُ بها مِنْ غيرِ تكييف.
ويَحتمِلُ ألَّا تكونَ مِنْ المتشابِه؛ لأنَّ قولَه: {يَنْظُرُونَ} ، بمعنى: يَطْلُبُونَ ذلك بجَهْلِهم؛ كقولِهم: {لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللّهُ} [البقرة: 118].
{فِي ظُلَلٍ} [البقرة: 210]: جمعُ ظُلَّة؛ وهي: ما عَلَاكَ مِنْ فوق؛ فإنْ كان ذلك لأمرِ الله، فلا إشكال، وإنْ كان لله، فهو مِنْ المتشابِه)
(1)
.
قولُه: ({يَأْتِيَهُمُ اللّهُ} ، تأويلُهُ عند المتأوِّلين: يَأْتِيَهم عذابُ اللهِ في الآخِرة، أو أمرُهُ في الدنيا
…
)، إلخ:
ذكَرَ في معنى قولِهِ تعالى: {يَأْتِيَهُمُ اللّهُ} قولَيْن:
(1)
«التسهيل» (1/ 427).
الأوَّل: تفسيرُ أهل التأويل؛ بما ذكَرَهُ مِنْ عذابِ اللهِ في الآخِرة، أو أمرِهِ في الدنيا؛ وهذه طريقةُ أهلِ التأويلِ مِنْ نفاةِ الصفات
(1)
.
الثاني: تفسيرُ أهل التفويض: أنَّ الآيةَ مِنْ المتشابِه، والمتشابِهُ عند المؤلِّفِ وأمثالِهِ: ما لا يَعْلَمُ معناه إلا اللهُ، وزَعْمَ ابنُ جُزَيٍّ أنَّ هذا هو مذهبُ السلفِ ومَن تَبِعَهم، ونسبةُ هذا إلى السلفِ باطلةٌ؛ فهذه الآيةُ وأمثالُها مِنْ نصوصِ الصفاتِ عند السلفِ مفهومةُ المعنى، وهم يُثبِتون ما دلَّت عليه مِنْ الصفاتِ والأفعال
(2)
.
ولكنَّ قولَ المؤلِّف: (فيجبُ الإيمانُ بها مِنْ غيرِ تكييفٍ)، كلامٌ حقٌّ يُشبِهُ ما جاء عن السلفِ في نصوصِ الصفات:«أَمِرُّوها كما جاءَتْ مِنْ غيرِ كَيْفٍ»
(3)
، لكنْ يكون في كلامِ المؤلِّفِ نوعُ تناقُض:
(1)
ينظر: «أساس التقديس» للرازي (ص 135)، و «إيضاح الدليل» لابن جماعة (ص 147)، وينظر: الرد على تحريفهم لدلالة الآية في: «نقض الدارمي» (1/ 338)، و «بيان تلبيس الجهمية» (7/ 78)، و «مجموع الفتاوى» (5/ 369)، و «مختصر الصواعق» (1/ 29) و (3/ 856) و (3/ 1117).
(2)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (13/ 308 - 309)، و «بيان تلبيس الجهمية» (8/ 215)، و «القاعدة المراكشية» (ص 29)، و «التدمرية» مع شرح شيخنا (ص 180)، والحموية (ص 188)، و «علاقة الإثبات والتفويض» لرضا نعسان، و «مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات» لأحمد بن عبد الرحمن القاضي، و «مقالة التفويض» لمحمد آل خضير.
(3)
أخرج هذه الآثار عن السلف: الخلال في «السنة» (1/ 259، رقم 313) بإسناده عن الوليد بن مسلم، قال: سألت سفيان، والأوزاعي، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، عن هذه الأحاديث؟ فقالوا:«نُمِرُّها كما جاءت» . وقال في موضع آخر (1/ 246، رقم 283): حدثنا أبو بكر المروذي، رحمه الله قال: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تردها الجهمية في الصفات، والرؤية، والإسراء، وقصة العرش، فصححها أبو عبد الله، وقال:«قد تلقتها العلماء بالقبول، نسلم الأخبار كما جاءت» . وينظر: «الحموية» (ص 296)، و «مجموع الفتاوى» (4/ 186).
فجَعْلُها مِنْ المتشابِهِ يقتضي عدَمَ الفهمِ لمعناها.
وقولُهُ: (يجبُ الإيمانُ بها مِنْ غيرِ تكييف) يقتضي فهمَها وإثباتَ معناها
(1)
.
ففي تقريرِه لما زعَمَ أنه مذهَبُ السلفِ اضطرابٌ.
وفي كلامِهِ رحمه الله عن الآيةِ اضطرابٌ آخَر؛ فبينما يتعلَّقُ الكلامُ في: {يَأْتِيَهُمُ اللّهُ} ، يَنتقِلُ إلى أن يكونَ متعلِّقًا بقوله:{يَنْظُرُونَ} ؛ وذلك في قولِه: (ويَحتمِلُ ألَّا تكونَ مِنْ المتشابِه)، ثم يفسِّر:{يَنْظُرُونَ} ب: «يَطْلُبون» .
والمعروفُ في اللغة والتفسيرِ: أنَّ {يَنْظُرُونَ} المتعدِّيَ، معناه: يَنتظِرون
(2)
؛ كقولِه: {يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53]، وفي هذا تهديدٌ للمكذِّبين.
والصوابُ: أنَّ الآية تَدُلُّ على أنَّ اللهَ يأتي يومَ القيامةِ كيف شاء؛ كما قال: {وَجَاء رَبُّكَ} [الفجر: 22].
وقولُ المؤلِّف: (فإنْ كان ذلك لأمرِ اللهِ، فلا إشكال، وإنْ كان لله، فهو مِنْ المتشابِه)؛ يريدُ به:
(1)
«لأنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات.
وأيضًا: فإن من ينفي الصفات الخبرية أو الصفات مطلقًا لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فمن قال: إن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف». «الحموية» (ص 306).
(2)
ينظر: «تفسير الطبري» (10/ 240).
- إنْ كان معنى {يَأْتِيَهُمُ اللّهُ} : يَأْتِيَهُمْ أمرُ الله، فلا إشكالَ في إتيانِ أمرِ اللهِ في الظُّلَلِ.
- وإنْ كان معنى {يَأْتِيَهُمُ اللّهُ} : يَأْتِيَهُمُ اللهُ نفسُهُ، فهو مِنْ المتشابِه؛ لأنَّ اللهَ نفسَهُ لا يأتي في الظُّلَلِ مِنْ الغمامِ؛ لأن الظُّلَلَ مخلوقةٌ؛ واللهُ - سبحانه - لا يحيطُ به المخلوق.
لعل هذا مرادَهُ رحمه الله؛ والصوابُ: أنَّ الآية تَدُلُّ على أنَّ اللهَ يأتي يومَ القيامةِ كيف شاء؛ كما قال: {وَجَاء رَبُّكَ} [الفجر: 22]، ويكونُ معنى قولِه:{فِي ظُلَلٍ} ؛ أي: مع ظُلَلٍ؛ ف «في» - على هذا - بمعنى: «مَعَ» ، لا بمعنى «في» التي للظرفيَّة؛ كما يقتضيه كلام المؤلِّف
(1)
؛ وهذا مِنْ أحسَنِ ما عُبِّر به عن معنى «في» في قولِه: {فِي ظُلَلٍ} ؛ وبذلك يَتَّجِهُ معنى الآية، ويزولُ ما يُتوهَّمُ فيها مِنْ إشكالٍ أو تشابُه.
* * * *
(1)
ينظر: «تفسير الطبري» (3/ 608).
(33)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُوا} [البقرة: 243] عبارةٌ عن إماتتهم.
وقيل: إن ملَكين صاحا بهم: «موتوا!» ، فماتوا)
(1)
.
قوله: (عبارة عن إماتتهم) يريد أن القول عبارةٌ عن إماتتهم أو صيحة الملكين، وظاهره نفي حقيقة القول من الله، وتأويله بأحد الأمرين، فجعل القول المضاف إلى الله مجازًا، عبِّر به عن فعل الإماتة، أو عن قول الملكين، وكلٌّ من التأويلين لا دليل عليه، وهما صرف للكلام عن ظاهره بغير حجة، فتكون حقيقتهما تحريفًا للكلم عن مواضعه، والحق أن القول من الله حقيقة، وأنه تعالى تكلَّم بهذا الأمر الكوني:«موتوا» ، ثم أحياهم، ولا أدري ما الذي ألجأ المؤلف إلى هذا التأويل؟ ولعله المذهب المشهور عند الأشاعرة في كلام الله أنه معنى نفسيٌّ
(2)
، وما كان كذلك لا يكون قولًا، وإن كان الأمر كذلك لزم أن يُتَأول كل قول جاء في القرآن، ولا يخفى أنه لا يحصى، فكم في القرآن من إضافة القول إلى الله، ماضيًا ومضارعًا وأمرًا وخبرًا، وهذا أمر عظيم، أعني نفي حقيقة القول عن الله، وصرف هذه الآيات عن ظاهرها، وقد تبيَّن
(1)
«التسهيل» (1/ 467).
(2)
سيأتي في التعليق (68).
أن هذا منهج ابن جزي عفا الله عنه في كل قول من الله تضمَّن أمرًا كونيًا، فانظر كلامه على قوله تعالى:{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)} في سورة «البقرة» ، وعلى قوله تعالى:{وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} في سورة «براءة»
(1)
، فقد جعل القول في سورة «البقرة» عبارة عن المسخ، وفي سورة «براءة» جعله عبارة عن القضاء عليهم بالقعود.
فسبحان الله العظيم عمَّا يقول الجاهلون والغالطون علوًّا كبيرًا.
* * * *
(1)
ينظر على التوالي: (1/ 323)، و (2/ 497).
(34)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسيرِ قولِه تعالى: {وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة: 245]:
({وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ}: إخبارٌ يرادُ به: الترغيبُ في الإنفاقِ)
(1)
.
ليس في العبارةِ إشكال، ووجهُ ما ذكَرَهُ المؤلِّفُ: أنَّ الإنفاقَ سبَبٌ لبسطِ الرزقِ، والإقتارَ سبَبٌ لتضييقِه.
* * * *
(1)
«التسهيل» (1/ 467).
(35)
قال ابن جُزَيٍّ رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255]:
({مِّنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255]: مِنْ معلوماتِه؛ أي: لا يَعْلم عبادُه مِنْ معلوماته إلَّا ما شاء هو أنْ يَعلموه)
(1)
.
قوله: ({مِّنْ عِلْمِهِ} مِنْ معلوماتِه .. ) إلخ: اقتصر المؤلفُ رحمه الله على أحد القولين
(2)
، وهو أنّ المراد ب {عِلْمِهِ}: معلوماتُه سبحانه، وجَعَلَ المنفيَّ عن العباد هو علمهم بمعلومات الربّ، والمنفيُّ في الآية هو الإحاطة:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} ، والإحاطة أخصُّ من مطلق العلم، ولكن كلٌّ منهما منتفٍ عن العباد، فلا يَعْلم العبادُ إلا ما علَّمَهُم اللهُ، ولا يحيطون بشيءٍ علمًا إلا بما شاء سبحانه.
وفي الآية قولٌ آخَر: وهو أن المراد ب «العِلمِ» هو المتعلِّقُ بذاتِه - سبحانه - وأسمائِه وصفاتِه، فعلى هذا يكون المرادُ من العِلمِ: العلمَ الإلهي، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأمرين:
(1)
«التسهيل» (1/ 476).
(2)
ينظر: «تفسير الطبري» (4/ 536)، وابن كثير (1/ 679).
1 -
لأن قوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} ، ورد في أثناء آية الكرسي، التي هي أعظم آية في كتاب الله؛ لأنها اشتملت على جماع أسماء الله وصفاته.
2 -
أن لهذا القول شاهدًا من القرآن، وهو قوله تعالى:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه].
* * * * *
(36)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم} [البقرة: 264] عقيدة أهل السنة: أن السيئات لا تُبطِل الحسنات؛ فقالوا في هذه الآية: إنَّ الصدقة التي يَعلم الله مِنْ صاحبها أنه يمُنُّ أو يؤذي لا تقبل منه)
(1)
.
قوله: (السيئات لا تُبطِل الحسنات) فيه نظر؛ فنقول: دل القرآن على أن من السيئات ما يُحبط الحسنات، أي: يبطلها، فلا تقبل ولا يثاب عليها، وأعظم ذلك الردة، قال تعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217]، وقال سبحانه وتعالى في مخاطبة المؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُون (2)} [الحجرات]، وتأويل المؤلف قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} بأن من علم الله أنه يمُن بصدقته أو يؤذي فإنه لا يقبل صدقته من أول الأمر= لا يخلِّص مما فرَّ منه، بل يتضمَّن معاني فاسدة؛ منها: تقدم الأثر على المؤثِّر، والمسبَّب على السبب، ومنها: أن الله لا يقبل عمل العبد قبل أن يكون منه السبب المانع من قبول عمله.
(1)
«التسهيل» (1/ 484).
وعليه: فمن علم الله أنه يرتدُّ فإن الله لا يقبل عمله قبل أن تقع منه الردة. ومن علم الله أنه يمُن أو يؤذي في صدقته فإن الله لا يقبل صدقته من أول الأمر قبل أن يمُن أو يؤذي، وهذا خلاف ما فهمه السلف، وهو أن الله يقبل صدقة العبد المتصدق، فيستحق عليها الثواب، فإذا منَّ وآذى بطل عمله، وفات ثوابه، وقد ضُرب لذلك المثل الثالث في الآيات في قوله تعالى:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)} ، وبهذا يتبيَّن خطأ المؤلف في تأويله.
ويظهر لي أن ما ذكره من التأويل مبنيٌّ على القول بأن أفعاله تعالى قديمة، فمن علم الله أنه يؤمن ويموت على الإيمان لم يزل الله راضيًا عنه حتى في حال كفره، ومن علم أنه يكفر ويموت على الكفر لم يزل الله ساخطًا عليه حتى في حال إيمانه، كما هو مذهب الكلابية
(1)
والأشاعرة، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة، وهو أن أفعاله تعالى تابعة لمشيئته، والرضا والغضب من أفعاله، فيرضى إذا شاء، ويغضب إذا شاء، ولرضاه وغضبه أسباب، هي بمشيئته تعالى، فمن قام به سبب الرضا رضي الله عنه، ومن قام به سبب الغضب غضب الله عليه، ومعنى هذا أنه تعالى قد يرضى عن العبد ثم يسخط، وقد
(1)
سيأتي التعريف بهم في التعليق (92).
يسخط عن العبد ثم يرضى، بحسب ما يقوم به من أسباب ذلك، وأدلة هذا الأصل مبيَّنة في كتب العقائد
(1)
.
(1)
ينظر: هامش التعليق رقم (11).
سورة آل عمران
(37)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] عطفٌ على اسم {اللّهُ} ؛ أي: هم شهداءُ بالوَحدانية.
ويعني بأولي العلم: العارفين بالله، الذين يقيمون البراهينَ على وَحدانيته)
(1)
.
قوله: (العارفين بالله): فسَّر «أولوا العلم» بالعارفين، ومعلوم أن أول من يدخل في أولي العلم الأنبياء والرسل، ولم يذكرهم الله باسم العارفين، وإنما يوصفون بصفة النبوة والرسالة، ولم يأت ذكر المعرفة في القرآن إلا في معرفة الأعيان بعد طول العهد، كقوله تعالى في يوسف:{فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُون (58)} [يوسف]، وفي الإقرار في مقابل الجحد والإنكار، كما في قوله تعالى:{يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83]، وما أثنى الله على أحد بإيتاء المعرفة، بل بإيتاء العلم، {يَرْفَعِ
(1)
«التسهيل» (1/ 523).
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]، وأثنى تعالى على المتفكرين في الآيات بالعلم دون المعرفة، فقال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِين (22)} [الروم]، وأثنى الله على نفسه بالعلم دون المعرفة، وهو العليم، وعالم الغيب، ويعلم ما في السماوات والأرض، فمن أسمائه العليم، دون العارف. قيل من الفرق بين العلم والمعرفة: إن المعرفة لا تكون إلا بعد جهل
(1)
، والعارف مصطلح صوفي لا يعرف في كلام السلف في الثناء به على الراسخين في العلم، ومعناه عند أرباب التصوف من بلغ الغاية في معرفة الله حتى شهد اللهَ في كل شيء، وهذه حقيقة وحدة الوجود
(2)
، ولا ريب أن ابن جزي رحمه الله لا يريد بالعارف هذا المعنى، بل قد فسَّره، وأبان مراده بقوله: القادر على إقامة البراهين على وَحدانية الله، وهذا معنى حسن، وهو يؤول إلى التمكن في العلم بالحجج الدالة على وجوده تعالى ووحدانيته، وصار المأخذ على المفسِّر هو العدول عن المعنى الواضح إلى لفظ مشتبه، لا أثر له في تفسير الآية، فكان الأولى أن يقول: أولو العلم هم العلماء بما بعث الله به رسله الذين يخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28].
(1)
ينظر: «مدارج السالكين» (4/ 280 - 281)، و «بدائع الفوائد» (2/ 486).
(2)
ينظر: «شرح المصطلحات الفلسفية» (1/ 200)، و «درء التعارض» (6/ 156)، و «الاستغاثة» (ص 156 - 157)، (ص 161)، و «طريق الهجرتين» (2/ 735)، و «شرح كلمة الإخلاص» لشيخنا (ص 79).
(38)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسيرِ قولِه تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّهُ} [آل عمران: 54]:
(وعبَّر عن فعلِ اللهِ بالمَكْرِ؛ مشاكَلةً لقولِه: {وَمَكَرُوا})
(1)
.
قولُه: (عبَّر عن فعلِ اللهِ بالمَكْرِ
…
)، إلخ:
معناه: أنَّ اللهَ سمَّى ما يفعَلُهُ بالكافِرِينَ مِنْ العقوبةِ: مَكْرًا؛ مشاكَلةً لفظيَّة؛ ليوافِقَ مكرَ الكافِرِينَ بالرسولِ صلى الله عليه وسلم والمؤمِنِينَ في الاسمِ؛ فيكونُ الجزاءُ مِنْ جنسِ العمَلِ لفظًا.
وهذا خطأٌ، والحامِلُ عليه عند المؤلِّفِ وغيرِهِ: استقباحُ إضافةِ المكرِ إلى اللهِ حقيقةً؛ بناءً على اعتقادِ أنَّ المكرَ كلَّه مذمومٌ، وليس كذلك؛ بل مِنْ المكرِ ما هو محمودٌ، وهو ما كان على وجهِ المجازاةِ عَدْلًا
(2)
، ومِن هذا: مَكْرُ اللهِ بأعدائِهِ وأعداءِ رسلِه، جزاءً وِفَاقًا، وسُنَّةُ الله أن يكونَ الجزاءُ مِنْ جنسِ العمَل.
(1)
«التسهيل» (1/ 545).
(2)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (7/ 111)، و «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 403)، و «مختصر الصواعق» (2/ 737).
ومِن مكرِ اللهِ بالكافرينَ: الإملاءُ لهم واستدراجُهُم؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُون (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين (183)} [الأعراف].
(39)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]؛ أي: إلى سمائي)
(1)
.
قولُ ابن جزي في قوله تعالى في شأن عيسى عليه السلام: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} قال: (أي: إلى سمائي)، هذا عدولٌ باللفظ عن ظاهره، بتفسيره بلازمِهِ؛ فإنَّ رفْعَ عيسى عليه السلام إلى الله - الذي هو مدلولُ اللفظ - يستلزمُ رفعَه إلى السَّماء، والذي حمل ابنَ جزي وأمثالَه على هذا التأويل مذهبُهم في علوِّ الله، وهو أنه ليس سبحانه بذاتِه فوقَ سماواته، بل هو في كُلِّ مكان، كما في عددٍ من المواضِعِ التي جَرَى التعليقُ عليها، وهذا خلافُ ما دلَّتْ عليه النصوصُ، وأجمَعَ عليه أهلُ السُّنة
(2)
.
(1)
«التسهيل» (1/ 546).
(2)
ينظر: «نقض الدارمي» (1/ 223)، و «التوحيد» لابن خزيمة (1/ 231) و (1/ 254 - 325)، و «الشريعة» للآجري (3/ 1081)، و «السنة» للالكائي (3/ 429)، و «درء التعارض» (الجزء السادس بأكمله وأول السابع إلى ص 140)، و «بيان تلبيس الجهمية» -الجزءان الأول والثاني-، و «الفتوى الحموية» (201 - 220)، و (296 - 512)، و «التدمرية» مع شرح شيخنا (280 - 295)، و «الصواعق المرسلة» (4/ 1280 - 1340)، و «الكافية الشافية -النونية-» (2/ 307 - 484، الأبيات رقم/ 1113 - 1768)، و «اجتماع الجيوش الإسلامية» (2/ 96 - 325)، و «شرح الطحاوية» (2/ 375 - 392)، و «توضيح مقاصد العقيدة الواسطية» لشيخنا (103 - 115)، و «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (3/ 1228 - 1252).
ورفعُ عيسى عليه السلام إلى السّماءِ التي وجَدَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فيها ليلةَ الإسراء = يتضمَّن تكريمًا وتقريبًا، فمَن كان مِنْ العباد أَعْلى مكانًا كان أقربَ إلى اللهِ تعالى، فإبراهيم وموسى عليهما السلام أقربُ إلى الله مِنْ المسيح، فإنَّ إبراهيم في السماء السابعة، وموسى في السادسة، وعيسى في الثانية، كما في حديث أنس عند مسلم
(1)
. والله أعلم.
(1)
برقم (162)(259).
(40)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في قولِهِ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156]:
({لَّوْ كَانُوا عِنْدَنَا}: اعتقادٌ منهم فاسِدٌ؛ لأنَّهم ظنُّوا أنَّ إخوانَهم لو كانوا عندَهم، لم يموتوا ولم يُقتَلُوا؛ وهذا قولُ مَنْ لا يؤمِنُ بالقَدَرِ والأجلِ المحتوم؛ ويقرُبُ منه مذهبُ المعتزِلةِ في القولِ بالأجلَيْن)
(1)
.
قوله: (ويقرُبُ منه مذهبُ المعتزِلةِ في القولِ بالأجلَيْن): من أقوال المعتزلة: أن المقتولَ مقطوعٌ عليه أجَلُهُ الذي قُدِّرَ له، أو إنَّ له أجلَيْنِ:
أحدُهما: ما حصَلَ بسببِ القتل.
والآخر: هو الذي لو عاشَ لَبَلَغَه
(2)
، وهذا من فروع قولهم في أفعال العباد: إنها ليست معلومة لله ولا هي بقدرته ومشيئته، والقتل: من جملة أفعال العباد، وسيأتي لهذا مزيدُ تفصيلٍ عند التَّعليقين الثالث والستين، والتسعين.
(1)
«التسهيل» (1/ 589).
(2)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (8/ 516).
(41)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله عند تفسيرِ قولِهِ تعالى: {وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُون (160)} [آل عمران]:
(واعلَمْ: أنَّ الناسَ في التوكُّلِ على ثلاثِ مَراتِبَ:
الأولى: أن يعتمِدَ العبدُ على ربِّه؛ كاعتمادِ الإنسانِ على وكيلِهِ المأمونِ عندَهُ الذي لا يَشُكُّ في نصيحتِهِ له، وقيامِهِ بمصالِحِه.
والثانية: أن يكونَ العبدُ مع ربِّه كالطِّفْلِ مع أمِّه؛ فإنه لا يَعرِفُ سواها، ولا يَلجَأُ إلَّا إليها.
والثالثة: أن يكونَ العبدُ مع ربِّه كالميِّتِ بين يَدَيِ الغاسلِ، قد أسلَمَ نَفْسَهُ إليه بالكليَّة.
فصاحبُ الدرجةِ الأولى: له حظٌّ مِنْ النَّظَرِ لنفسِهِ؛ بخلافِ صاحبِ الثانية. وصاحبُ الثانيةِ: له حظٌّ مِنْ المرادِ والاختيارِ، بخلافِ صاحبِ الثالثة.
وهذه الدرجاتُ مبنيَّةٌ على التوحيدِ الخاصِّ الذي تكلَّمنا عليه في قولِه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163]؛ فهي تَقْوَى بقُوَّتِه، وتضعُفُ بضَعْفِه)
(1)
.
(1)
«التسهيل» (1/ 591 - 592).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قولُه: (واعلَمْ: أنَّ الناسَ في التوكُّلِ على ثلاثِ مَراتِبَ
…
)، إلخ:
التوكُّلُ مِنْ أعمال القلوب، وهو مِنْ تحقيقِ توحيدِ الربوبيَّة، ومِن مقاماتِ العبوديَّةِ القلبيَّة
(1)
، وجَعْلُهُ ثلاثَ درجاتٍ طريقةُ الصوفيَّة، والحقُّ: أنَّه درجتان:
الأولى: توكُّلُ المقتصِدِين.
والثانية: توكُّلُ المقرَّبين.
وهذا يوافِقُ معنى ما ذكَرَهُ المؤلِّفُ في الدرجة الأولى والثانية؛ فإنه لا إشكالَ فيهما.
وأمَّا الدرجةُ الثالثةُ، فهي مِنْ بِدَعِ الصوفيَّةِ التي خالَفُوا فيها الحسَّ والعقلَ والشرعَ؛ فكونُ الإنسانِ يصلُ إلى حالةٍ يكونُ فيها كالمَيِّتِ بين يَدَيِ الغاسلِ، بحيثُ لا تكونُ له إرادةٌ في جلبٍ ولا دفعٍ: حالةٌ ممتنِعةٌ حسًّا وعقلًا، وغيرُ مطلوبةٍ شرعًا.
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ؛ تعليقًا على هذا القولِ المنسوبِ لبعضِ الصوفيَّة: «إنَّ العارِفَ يصيرُ كالميِّتِ بينَ يَدَيِ الغاسِلِ» ؛ أي: في استسلامِهِ للقَدَرِ، قال الشيخ: «فهذا إنما يُمدَحُ منه سقوطُ إرادتِهِ التي لم يُؤمَرْ بها، وعدَمُ حظِّه الذي لم يُؤمَرْ بطَلَبِه، وأنه كالميِّتِ في طلَبِ ما لم يُؤمَرْ بطَلَبِه، وتركِ دَفْعِ ما لم يُؤمَرْ بدَفْعِه.
(1)
ينظر: «مدارج السالكين» (2/ 112).
ومَنْ أراد بذلك: أنه تبطُلُ إرادتُهُ بالكليَّةِ، وأنه لا يُحِسُّ باللَّذَّةِ والأَلَم، والنافعِ والضارِّ؛ فهذا مخالِفٌ لضرورةِ الحسِّ والعقل، ومَن مدَحَ هذا؛ فهو مخالِفٌ لضرورةِ الدِّينِ والعقل». اه. مِنْ «العقيدة التدمريَّة»
(1)
.
(1)
«العقيدة التدمرية» مع شرح شيخنا (ص 588).
سورة النساء
(42)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسيرِ قولِه تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
…
} [النساء: 93]:
(وهذه الآيةُ مُعضِلةٌ على مذهبِ الأشعريَّةِ وغيرِهم ممَّن يقولُ: لا يخلَّدُ عصاةُ المؤمِنِين في النار.
واحتَجَّ بها المعتزِلة وغيرُهم ممن يقولُ بتخليدِ العصاةِ في النار؛ لقولِه: {خَالِدًا فِيهَا} .
وتأوَّلها الأشعريَّة بأربعةِ أوجُه:
أحدها: أنْ قالوا: إنها في الكافِرِ إذا قتَلَ مؤمِنًا.
والثاني: قالوا: معنى المتعمِّدِ هنا: المستَحِلُّ للقتل؛ وذلك يَؤُولُ إلى الكفر.
والثالث: قالوا: الخلودُ فيها ليس بمعنى الدوامِ الأَبَدِيِّ، وإنما هو عبارةٌ عن طولِ المُدَّة.
والرابع: أنَّها منسوخةٌ بقولِه تعالى: {إِنَّ اللّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48].
وأما المعتزِلة: فحمَلُوها على ظاهِرِها، ورأَوْا أنها ناسخةٌ لقولِه:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} ، واحتجُّوا على ذلك بقولِ زَيْد بن ثابت:«نزَلَتِ الشديدةُ بعد الهَيِّنة»
(1)
، وبقولِ ابن عبَّاس:«الشِّرْكُ والقَتْلُ مَنْ مَاتَ عَلَيْهِمَا خُلِّدَ»
(2)
، وبقولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللهُ أَنْ يَغْفِرَهُ، إِلَّا الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِرًا، أَوِ الرَّجُلُ يَقْتُلُ المُؤْمِنَ مُتَعَمِّدًا))
(3)
.
وتقتضي الآيةُ وهذه الآثارُ: أنَّ للقتلِ حُكْمًا يَخُصُّهُ مِنْ بينِ سائرِ المعاصي)
(4)
.
(1)
أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (7/ 349) حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن ابن عيينة، عن أبي الزناد، قال: سمعت رجلًا، يحدث خارجة بن زيد بن ثابت، عن زيد بن ثابت، قال: سمعت أباك، يقول: فذكره.
(2)
لم نجده بهذا اللفظ، وقد رواه ابن جرير في «تفسيره» (7/ 348)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (5/ 433، رقم 27732)، والخلال في «السنة» (4/ 93، رقم 1240) بلفظ: «هُمَا الْمُبْهَمَتَانِ: الشِّرْكُ وَالْقَتْلُ» وإسناده صحيح. قال الحافظ في الفتح (8/ 496): «وقول ابن عباس بأن المؤمن إذا قتل مؤمنًا متعمدًا لا توبة له: مشهور عنه
…
».
(3)
أخرجه أحمد (16907)، والنسائي (3984)، والحاكم (8031) من طريق صفوان بن عيسى، قال: أخبرنا ثور بن يزيد، عن أبي عون، عن أبي إدريس الخولاني، عن معاوية، به.
وأخرجه الطبراني في «الكبير» (19/ رقم 856، و 858) من طريقين عن أبي عون به.
وأبو عون - وهو الأنصاري الشامي - لم يوثقه غير ابن حبان!
وللحديث شاهد عن أبي الدرداء: أخرجه أبو داود (4270)، وابن حبان (5980)، والحاكم (8032) من طريق خالد بن دهقان، عن عبد الله بن أبي زكريا، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء به.
(4)
«التسهيل» (2/ 95 - 96).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قولُهُ: (وهذه الآيةُ مُعضِلةٌ على مذهبِ الأشعريَّةِ وغيرِهم
…
)، إلخ:
ما ذكَرَه مِنْ أنَّ هذه الآيةَ مُعضِلةٌ «أي: مُشكِلةٌ إشكالًا قويًّا» على مذهبِ الأشاعِرةِ وغيرهم مِنْ القائِلِينَ بأنَّ عصاةَ الموحِّدين لا يخلَّدون في النار، وأجاب مِنْ جهةِ الأشاعِرةِ وغيرِهم مِنْ القائلِينَ بعدمِ خلودِ أهلِ الكبائرِ في النارِ بأربعةِ أجوِبة
(1)
:
أجوَدُها: تفسيرُ الخلودِ بالمُكْثِ الطويل، وأجوَدُ منه: تقييدُ الآيةِ بما تواتَرَتْ به السُّنَّةُ مِنْ خروجِ عُصاةِ الموحِّدينَ مِنْ النارِ بشفاعةِ الشافِعِين، ورحمةِ أرحَمِ الراحمين.
وكذلك: ما ذكَرَهُ مِنْ احتجاجِ المعتزِلةِ بهذه الآيةِ على قولهم بتخليدِ أهلِ الكبائِرِ في النارِ:
ما ذكَرَهُ مِنْ المذهبَيْنِ في تخليدِ العصاةِ صحيحٌ، ولكنَّه رحمه الله ذكَرَ احتجاجَ المعتزِلةِ على مذهَبِهم بأثرِ ابن عبَّاس، وزيدٍ، وبالحديث، ولم يُجِبْ عن ذلك، بل أيَّده بقوله:«وتقتضي الآيةُ وهذه الآثارُ: أنَّ للقتلِ حُكْمًا يَخُصُّهُ مِنْ بينِ سائرِ المعاصي» ؛ وهذا يَجعَلُ في كلامِهِ نوعَ تناقُض؛ لأنه قد أجاب عن الآية.
وأمَّا أثَرُ ابنِ عبَّاسٍ وزيدٍ، والحديثُ، فلا تقاوِمُ دَلَالَتُها دَلَالةَ قولِه تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} في موضعَيْنِ مِنْ سورة «النساءِ»
(2)
،
(1)
ينظر: «شرح النووي على مسلم» (17/ 83)، و «فتح الباري» لابن حجر (8/ 496).
(2)
سورة النساء: 48، 116.
وهي التي ذكَرَ فيها وعيدَ القاتِلِ بالخلودِ في النار، ولا تقاوِمُ دلالةَ السُّنَّةِ على خروجِ عصاةِ الموحِّدين مِنْ النار.
وقد أجمَعَ أهلُ السُّنَّةِ على ما دلَّت عليه آيتا النساء، وما دَلَّ عليه حديثُ الشفاعةِ، والله أعلم.
(43)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({يُبَيِّتُونَ} [النساء: 81] أي: يُدبِّرون ليلًا، وإنما سُمِّي التدبير قولًا؛ لأنه كلامُ النفس، وربما كان معه كلام باللسان)
(1)
.
قوله: (أي: يُدبِّرون ليلًا) معناه: أن هؤلاء المنافقين إذا غابوا وخلا بعضهم ببعض دبروا فيما بينهم تدبيرًا لكيد النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقالوا: ما لا يرضاه الله من الكلام، وقول ابن جزي:(وإنما سُمِّي التدبير قولًا؛ لأنه كلامُ النفس، وربما كان معه كلام باللسان) معناه: أن التدبير أصله التفكير، وهو قولٌ في النفس، وقد يتبعه قولٌ باللسان، ولا إشكال في هذا الكلام؛ فلا يحتاج إلى تعليق.
(1)
«التسهيل» (2/ 110).
(44)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({مَا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ} [النساء: 147] المعنى: أيُّ حاجةٍ أو منفعة لله بعذابكم وهو الغنيُّ عنكم!
وقدَّم الشكر على الإيمان؛ لأنَّ العبد ينظر إلى النعم فيَشكر عليها ثم يؤمن بالمنعِم، فكأنَّ الشكر سببٌ للإيمان متقدِّمٌ عليه)
(1)
.
قوله: (أيُّ حاجةٍ أو منفعة لله) إلخ: ما قاله رحمه الله في تفسير هذه الجملة الإنشائية {مَا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ} = قول صحيح، وهو معنى ما ذكره ابن جرير
(2)
، ولكن هذا التفسير يحتاج إلى إيضاح؛ ويحصل ذلك بمعرفة أن الخطاب للمنافقين كما يقتضيه السياق، وقد توعدهم الله في أول الآية بالدرك الأسفل من النار، ثم استثنى الذين تابوا واعتصموا بالله، وأخلصوا دينهم لله، فهؤلاء ناجون مع المؤمنين، ومأجورون أجرًا عظيمًا، ثم أكد نفي العذاب عن التائبين؛ لأنه تعالى لا يعذب من يعذبه إلا جزاء على السيئات، فمن شكر وآمن فلا يعذبه؛ لعدم قيام سبب العذاب به، فلا يعذب أحدًا بغير ذنب، ومعنى ذلك أنه
(1)
«التسهيل» (2/ 125).
(2)
ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 623 - 624).
لا يعذب أحدًا لحاجته إلى التعذيب، أو لمنفعة تعود إليه تعالى، كلَّا؛ فذلك ممتنع؛ لكمال عدله وكمال غناه.
وأما ما علَّل به تقديم الشكر على الإيمان من أن الشكر وسيلة إلى الإيمان، فالظاهر العكس؛ فإن الإيمان بالله ورسله أعظمُ باعث على الشكر، وحينئذ فيمكن أن يقال في تقديم الشكر على الإيمان وإن كان ثمرة للإيمان: فإنه يتضمن درجة الكمال من الإيمان، وكمال الإيمان أعلى من مطلق الإيمان، ويؤيد هذا التوجيه قوله تعالى في نوح عليه السلام:{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)} [الإسراء]، وقوله صلى الله عليه وسلم:((أفلا أكون عبدا شكورًا))
(1)
، فجعل صلى الله عليه وسلم الشكر غاية مطلوبه
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (1130)، ومسلم (2819) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(2)
ينظر علو منزلة الشكر في: «مدارج السالكين» (2/ 232 - 234).
سورة المائدة
(45)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِين (27)} [المائدة]؛ استدَلَّ بها المعتزِلةُ وغيرُهم على أنَّ العاصيَ لا يُتقبَّلُ عمَلُهُ.
وتأوَّلها الأشعريَّة: بأن التقوى هنا يراد بها: تقوى الشِّرْك)
(1)
.
قولُهُ: (استدَلَّ بها المعتزِلة
…
) إلخ:
ذكر المؤلِّفُ قولَ المعتزِلةِ وقولَ الأشاعِرة، وظاهِرُ كلامِه: أنه يرُدُّ قولَ المعتزِلة، ويرضى قولَ الأشاعِرة.
وقولُ المعتزِلة ظاهِرُ الفساد؛ لأنه مبنيٌّ على أنَّ العاصيَ عندهم ليس بمؤمِنٍ، وشرطُ قَبُولِ العمَلِ: الإيمانُ.
وأمَّا قولُ الأشاعِرةِ: فصحيحٌ مِنْ جهةِ أنَّ الشركَ يُحبِطُ العمَل.
(1)
«التسهيل» (2/ 167).
لكنَّ هذا القولَ يقتضي أنَّ مَنْ لم يكن مشرِكًا، فاللهُ يَقبَلُ عمَلَهُ مطلَقًا.
وليس هذا بمستقيمٍ؛ فإنَّ المؤمِنَ الموحِّدَ قد يَعرِضُ له في العملِ ما يُبطِلُه؛ كالرياءِ، والمَنِّ والأَذَى في الصَّدَقة، ومخالَفةِ السُّنَّة.
ومِن الخطأ في فهمِ الآيةِ: ظنُّ بعضِ الناسِ أنَّ المرادَ أنَّ اللهَ لا يتقبَّلُ إلا مِنْ تَقِيٍّ فاعلٍ للمأمورات، تاركٍ للمعاصي؛ وهذا يَؤُولُ إلى قول المعتزِلة.
والصوابُ في الآية: أنَّ اللهَ لا يتقبَّلُ إلا ممَّن اتقَى اللهَ في عمَلِهِ ذلك؛ بأنْ أتى به على الوجهِ المشروع؛ خالصًا صوابًا، ولم يأتِ بما يُبطِلُه، والله أعلم.
(46)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] هم الأنبياء الذين بين موسى ومحمد عليهما السلام.
ومعنى {أَسْلَمُوا} هنا: أَخلصوا لله، وهي صفة مدح أُريد بها التَّعريض باليهود؛ لأنهم بخلاف هذه الصفة.
وليس المراد هنا: الإسلام الذي هو ضدُّ الكفر؛ لأن الأنبياء لا يقال فيهم: أسلموا على هذا المعنى؛ لأنهم لم يكفروا قط، وإنما هو كقول إبراهيم عليه السلام:{أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِين (131)} [البقرة]، وقوله تعالى:{فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ} [آل عمران: 20])
(1)
.
قوله: (ومعنى {أَسْلَمُوا} هنا: أَخلصوا لله
…
إلى آخره) يريد: رحمه الله أن ليس معنى: أسلموا؛ أي: دخلوا في الإسلام كما يقال للكافر أسلم لأنهم لم يزالوا مسلمين فلا بد من تأويل {أَسْلَمُوا} ب «أخلصوا» ، وقوله رحمه الله:(صفة مدح أُريد بها التَّعريض باليهود) يعني: أن اليهود يدعون الإسلام، ولكنهم لم يخلصوا دينهم لله، وعلى هذا فلا إشكال في كلام المؤلف فلا يحتاج إلى تعليق.
(1)
«التسهيل» (2/ 179 - 180).
(47)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَمَنْ لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون (44)} [المائدة: 44] قال ابن عباس: نزلت الثلاثةُ في اليهود؛ {الْكَافِرُون} ، و {الظالمون} ، و {الفاسقون}
(1)
. وقد روي في هذا أحاديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وقال جماعة: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود والمسلمين وغيرهم، إلَّا أن الكفر في حق المسلمين كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان)
(3)
.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في «التفسير» (750)، وأحمد (2212)، وأبو داود (3576)، والطبراني (10/ 302، رقم 10732) من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس.
وإسناده حسن، فعبد الرحمن بن أبي الزناد قال عنه الذهبي في «الميزان» (4908):«وهو إن شاء الله حسن الحال في الرواية» . وقال الحافظ: «صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد، وكان فقيها» كما في «التقريب» (3861)، والأثر هذا حسنه الألباني في «الصحيحة» (2552).
(2)
أخرجه مسلم (1700) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
(3)
«التسهيل» (2/ 180).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله: (إلَّا أن الكفر في حق المسلمين كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان) في هذا الإطلاق نظر؛ فإن حكم المسلم بغير شرع الله له أحوال: منها ما هو كفر أكبر، أي: ردة عن الإسلام، وذلك إذا اتخذ قانونًا بدلًا عن الشريعة، يحكم بهذا القانون، ويفرض الحكم به والتحاكم إليه، ولو خالف حكم الشريعة. وتارة يحكم القاضي المسلم في قضية جزئية بخلاف ما يعلمه من حكم الشريعة لهوًى من محاباة صديق أو قريب، أو لرشوة تبذل له، فهذا معصية، ويمكن أن يقال: كفر دون كفر، وعليه ينزَّل قول ابن عباس في الآية:«كفر دون كفر»
(1)
، وقد فات المفسِّرَ رحمه الله مراعاة هذا التفصيل الذي نبَّه عليه بعض أهل العلم في هذا العصر؛ لما ابتليت به الأمة في كثير من البلاد الإسلامية من تحكيم القوانين المخالفة لشريعة الإسلام، وإعطاء هذه القوانين كل ما يجب بشريعة الله من وجوب الحكم بها، والتحاكم إليها، والرضا، وعقوبة من خالفها، وفي حكم من وضع القانون وفرضه مَنْ رضي
(1)
أخرجه الحاكم (3219)، ومن طريقه البيهقي في «السنن» (15854)، عن أحمد بن سليمان الموصلي، ثنا علي بن حرب، ثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاووس، قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنه «ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرًا ينقل عن الملة، {وَمَنْ لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون (44)} [المائدة]، كفر دون كفر. قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» .
وهشام بن حجير صدوق له أوهام. «التقريب» (7288)، وله شواهد بنحوه عن ابن عباس وعطاء وطاوس. ينظر:«تفسير عبد الرزاق» (717)، وتفسير سعيد بن منصور (749)، و «تعظيم قدر الصلاة» (2/ 521 - 522)، و «تفسير الطبري» (8/ 463 - 466)، و «الصحيحة» (2552).
به وحكم به
(1)
. نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يمنَّ علينا بالعفو والعافية في ديننا ودنيانا.
(1)
ينظر: «جواب في الإيمان ونواقضه» لشيخنا (ص 30 - 31)، وللاستزادة ينظر:«رسالة تحكيم القوانين» للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.
(48)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] تغليظٌ في الوعيد، فمن كان يعتقد مُعتقَدهم فهو منهم من كل وجه، ومن خالفهم في اعتقادهم وأحبَّهم فهو منهم في المقت عند الله، واستحقاقِ العقوبة)
(1)
.
قوله رحمه الله: (تغليظ في الوعيد) إلخ، وجهه: أن ظاهر الآية كفرُ كلِّ من يتولاهم، والتولي درجات، فلا بد من التفصيل في حكم المتولِّي، ولهذا فصَّل رحمه الله، وفرَّق بين من تولَّاهم بموافقتهم على اعتقادهم، فقال: إنه منهم من كل وجه، فيكون كافرا كَكُفر اليهود والنصارى، أمَّا من لم يوافقهم لكن أحبَّهم، فلا يكون كذلك، أي: كافرا، لكن يشركهم في الوعيد، فيكون ممقوتًا عند الله؛ لمحبته أعداءه، وهذا تفصيل حسنٌ، لكنه غير كافٍ ولا شافٍ؛ لأنه جعل التولِّي على درجتين، والتولِّي أكثر من ذلك؛ فإنه يكون بالدخول في دينهم، وحينئذ يكون منهم حقيقة، ويكون بإظهار الرضا عن دينهم مصانعة لهم، وبهذا يرتكب ناقضًا من نواقض الإسلام، وتارة يكون بنصرهم في حربهم للمسلمين، وهذا كالذي قبله، وتولي المنافقين من هذا القبيل.
(1)
«التسهيل» (2/ 186).
وتارة يكون بمحبتهم المحبة الطبيعية لقرابة أو منفعة دنيوية، وهذه المحبة تكون معصية إذا اقترنت بترك واجب كالجهاد في سبيل الله أو فعل محرم؛ كطاعتهم فيما لا يصل إلى نوع من الكفر؛ فإن طاعتهم في الكفر كفر، وطاعتهم فيما دونه معصية، وهذا مقام عظيم، أعني حكم تولِّي الكفار؛ فإنه يتفاوت تفاوتًا عظيمًا بحسب ما يقوم بالقلوب، وبحسب ما يظهر من الأقوال والأعمال، فأمر تولي الكافرين مقام عظيم يجب التفقه فيه، والحذر من الوقوع فيه.
(49)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسيرِ قولِهِ تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]:
(عبارةٌ عن إنعامِهِ وجُودِه؛ وإنما ثُنِّيَتِ اليدانِ هنا، وأُفرِدَتْ في قول اليهود: {يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]؛ ليكونَ ردًّا عليهم، ومبالَغةً في وصفِهِ تعالى بالجُود؛ كقول العرَب: فلانٌ يُعطِي بكلتا يدَيْهِ: إذا كان عظيمَ السَّخَاءِ)
(1)
.
قولُهُ في تفسير بسط اليدين: (عبارةٌ عن إنعامِهِ وجُودِهِ
…
) إلخ:
إنْ أراد بذلك تفسيرَ اليدَيْنِ، فهذا تأويلٌ يجري على طريقةِ أهلِ التأويلِ مِنْ نفاةِ الصفات
(2)
؛ فإنَّهم يَجمَعون بين التعطيلِ والتحريفِ.
وإنْ أراد ما يدلُّ عليه بسطُ اليدَيْنِ من الجودِ كثرةِ الإنفاقِ، فهو معنًى صحيحٌ؛ يؤيِّدُهُ قولُهُ تعالى:{يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} [المائدة: 64]، ولا يقتضي ذلك نفيَ حقيقةِ اليدَيْنِ؛ وسياقُ كلامِ المؤلِّفِ يُشعِرُ بالنفيِ،
(1)
«التسهيل» (2/ 195).
(2)
ينظر: «أساس التقديس» للرازي (ص 161). وينظر الرد على تحريفهم لدلالة الآيات في: «نقض الدارمي» (1/ 230)، و «الإبانة» للأشعري (ص 126)، و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 260)، و «مجموع الفتاوى» (6/ 362)، و «مختصر الصواعق» (3/ 946).
ولْيُرْجَعْ في معرِفةِ حقيقةِ مذهبِهِ إلى كلامِهِ عندَ قولِه تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]:
فإنه قال هناك: «قولُه: {بِيَدَيَّ} مِنْ المتشابِه الذي ينبغي الإيمانُ به، وتسليمُ علمِ حقيقتِهِ إلى الله. وقال المتأوِّلُونَ: هو عبارةٌ عن القُدْرة» . اه.
وقال نظيرَ ذلك عند قولِهِ تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71]
(1)
.
ويظهَرُ مِنْ ذلك: أنَّ ابنَ جُزَيٍّ يذهبُ إلى التفويضِ، وحقيقتُهُ: إجراءُ النصوصِ ألفاظًا مِنْ غير فَهْمٍ لمعناها.
والتفويضُ والتأويلُ مذهبانِ لنفاةِ الصفاتِ؛ كلِّها أو بعضِها.
(1)
ينظر على التوالي: «التسهيل» (3/ 731)، (3/ 648 - 649).
(50)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسيرِ قولِهِ تعالى عن عيسى عليه السلام: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]:
(أي: تَعلَمُ معلومي، ولا أَعلَمُ معلومَك، ولكنه سَلَكَ باللفظِ مسلَكَ المشاكَلةِ؛ فقال: {فِي نَفْسِكَ}؛ مقابَلةً لقولِه: {فِي نَفْسِي})
(1)
.
قولُهُ في تفسيرِ الآية: (أي: تَعلَمُ معلومي، ولا أعلَمُ معلومَك
…
)، إلخ:
هذا تفسيرٌ منه للموصولِ في الموضعَيْنِ: {مَا فِي نَفْسِي} ، و {مَا فِي نَفْسِكَ}؛ فيكونُ المعنى: تَعلَمُ الذي أَعْلَمُه، ولا أَعلَمُ الذي تَعلَمُه، وهذا يَشمَلُ ما يُبدِي وما يُخفِي، وهذا أعَمُّ مما يدلُّ عليه لفظُ الآية.
واللهُ تعالى يعلمُ ما يبديهِ العبدُ وما يخفيهِ: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ} [آل عمران: 29].
والعبدُ يعلمُ مِنْ معلومِ اللهِ ما أعلَمَه به، ولا يعلمُ العبدُ ما يخفيهِ سبحانه؛ فلا يعلمُ ما استأثَرَ اللهُ بعلمِه، ولا كلَّ ما أَعلَمَ به بعضَ عبادِه؛ فقولُ عيسى عليه السلام:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} ؛ أي: ما أُخْفِيهِ، {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}؛ أي: ما تُخْفِيهِ.
(1)
«التسهيل» (2/ 236).
ولم يذكُرِ المؤلِّفُ رحمه الله معنى «النَّفْسِ» في الآية، وأَلْيَقُ معاني «النَّفْسِ» في مثلِ هذا السياق: أنْ يرادَ بها الذاتُ؛ كما يقالُ: جاء محمَّدٌ نَفْسُهُ، وهذا الشيءُ نَفْسُ ذاك؛ أي: هو هو، ومِن هذا القبيلِ قولُهُ تعالى:{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَّفْسِهَا} [النحل: 111]، وما ذُكر من تفسير النفس بالذات نقله شيخُ الإسلام ابن تيمية عن جمهور العلماء
(1)
، والله أعلم.
(1)
«مجموع الفتاوى» (9/ 292). وينظر: «بيان تلبيس الجهمية» (7/ 423)
سورة الأنعام
(51)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(
…
ثُمَّ أقام عَلَيه الحُجَّة بقولِهِ: {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِين (76)} [الأنعام] أي: لا أُحبُّ عبادةَ المتغيِّرين؛ لأن التغيُّرَ دليلٌ على الحدوثِ، والحدوثُ ليسَ مِنْ صفاتِ الإلهِ، ثُمَّ استمرَّ على ذلك المنهاجِ في القمرِ وفي الشَّمسِ، فلمَّا أوضح البرهانَ، وأقامَ عليهم الحُجةَ، جاهَرَهم بالبراءَةِ مِنْ باطلِهم؛ فقال:{إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون (78)} [الأنعام]، ثُمَّ أعلَنَ بعبادتِهِ لله وتوحيدِهِ له فقال:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام: 79]، ووصف اللهَ تعالى بوصْفٍ يقتضي توحيدَهُ وانفرادَهُ بالملْك.
فإن قيل: لمَ احتَجَّ بالأُفولِ دُون الطُّلوع، وكلاهما دليلٌ على الحدُوث؛ لأنهما انتقالٌ مِنْ حَالٍ إلى حال؟
فالجواب: أنه أظهرُ في الدلالة؛ لأنه انتقالٌ مع اختفاء واحتجاب)
(1)
.
(1)
«التسهيل» (2/ 281).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله: ( .. ثم أقام عليهِ الحجةَ بقوله: {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِين (76)} أي: لا أحب عبادةَ المتغيِّرين؛ لأن التغيُّرَ دليلٌ على الحدوثِ)، إلخ، عليه في هذا الكلام مأخذان:
أحدهما: تفسير الأفول بالتغيُّر، وهو من التَّفسيرِ باللازم؛ فإنَّ أفلَ في اللغة بمعنى: غاب
(1)
، والأُفُولُ هو: الغيابُ بعْدَ الظُّهور، فعليه؛ يكون {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِين (76)} أي: الغائبين بعد الظهور
(2)
.
الثاني: جزمُه بأنَّ كلَّ متغيِّرٍ محدَثٌ؛ فيقتضي ذلك نفيَ التغيُّرِ عن اللهِ، وابنُ جزي وأمثالُه يطلقون نفيَ التغيُّرِ عنِ الله بهذه الشُّبهة
(3)
،
(1)
ينظر: «الصحاح» (4/ 1623)، و «لسان العرب» (11/ 18).
(2)
ينظر: «تفسير الطبري» (9/ 356).
(3)
أورد ابنُ القيم تأويلَ المتكلمين للحركة بالأفول في النوع الرابع من أنواع التأويل الباطل: «ما لم يُؤلف استعمالُهُ في ذلك المعنى في لغة المخاطَب وإن أُلِفَ في الاصطلاح الحادث» . ثم قال: وهذا موضعٌ زلَّت فيه أقدامُ كثيرٍ من الناس؛ حيث تأوَّلوا كثيرًا من ألفاظ النصوص بما لم يُؤلف استعمالُ اللفظ له في لغة العرب البتة، وإن كان معهودًا في اصطلاح المتأخرين، وهذا مما ينبغي التنبُّهُ له؛ فإنه حصل بسببه من الكذب على الله ورسوله ما حصل، كما تأولت طائفة قوله تعالى: فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 76]. بالحركة، وقالوا: استدل بحركته على بطلان ربوبيته، ولا يعرف في لغة العرب التي نزل بها القرآن أن الأفول هو الحركة في موضع واحد البتة». «الصواعق المرسلة» (1/ 30).
وينظر إبطال استدلالهم بقصة إبراهيم على ما يدعونه من دليل حدوث الأجسام: «نقض الدارمي» (1/ 357)، و «مجموع الفتاوى» (6/ 252) و (6/ 284)، و «درء التعارض» (1/ 109) و (1/ 310) و (8/ 355 - 356، 9/ 82 - 84)، و «منهاج السنة» (1/ 202) و (2/ 193)، و «بغية المرتاد» (ص 358)، و «شرح حديث =
والصواب: أنَّ التَّغيُّرَ مِنْ الألفاظِ المحدَثةِ المجمَلَةِ التي لا تجوز إضافتُها إلى الله، لا نفيًا ولا إثباتًا، إلا بعد الاستفصال عن مُرادِ المتكلِّمِ بها؛ فإنْ أرادَ حقًّا قُبِل، وإنْ أرادَ باطلًا رُدَّ، وإن أرادهما؛ مُيِّز الباطلُ مِنْ الحقِّ.
فعلى هذا؛ إنْ أُريد بالتغيُّرِ: قيامُ الأفعالِ الاختياريَّةِ بهِ سبحانه؛ فالنفيُ باطلٌ، والإثباتُ حقٌّ، وإنْ أُريد بالتغيُّر: النقصُ بعدَ الكمالِ في ذاتِه تعالى وصفاتِه = فالنَّفيُ حقٌّ، والإثباتُ باطلٌ
(1)
، وابنُ جزي وأمثالُهُ هُمْ مِنْ نُفاة الصِّفاتِ الفعليَّةِ في الجُملَة.
=النزول» (ص 162 - 168)، و «الرد عل المنطقيين» (ص 304 - 307)، و «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (3/ 993)، والأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات والرد عليها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 429).
(1)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (6/ 249)، و «درء التعارض» (2/ 185) و (4/ 71)، و «منهاج السنة» (2/ 546)، و «شرح حديث النزول» (ص 179)، و «مختصر الصواعق» (3/ 1230).
(52)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسيرِ قولِه تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَّمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُون (131)} [الأنعام]:
({بِظُلْمٍ} ، فيه وجهان:
أحدُهما: أنَّ اللهَ لم يكنْ لِيُهْلِكَ القُرى دون بعثِ رسلٍ إليهم؛ فيكونَ إهلاكُهم ظُلْمًا؛ إذْ لم يُنذِرْهم؛ فهو كقولِه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا (15)} [الإسراء].
والآخَر: أنَّ اللهَ لا يُهلِكُ القُرى بظلمٍ إذا ظلَمُوا دون أن يُنذِرَهم؛ ففاعلُ الظُّلْمِ - على هذا -: أهلُ القُرى، وغَفْلَتُهم: عدَمُ إنذارِهم.
حكى الوجهَيْنِ ابنُ عطيَّةَ
(1)
والزمخشريُّ
(2)
، والوجهُ الأوَّلُ صحيح على مذهبِ المعتزِلة، ولا يصحُّ على مذهبِ أهلِ السُّنَّة؛ لأنَّ اللهَ لو أهلَكَ عبادَهُ بغيرِ ذنبٍ، لم يكنْ ظالمًا عندَهم)
(3)
.
قولُه: (ولا يصحُّ على مذهبِ أهلِ السُّنَّةِ)، يريدُ: الأشاعرةَ؛ فمِن مذهَبِهم: أنَّ كلَّ ممكِنٍ جائزٌ على الربِّ فِعْلُهُ؛ فعندَهم: يجوز أن يعذِّبَ
(1)
ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 463).
(2)
ينظر: «الكشاف» (2/ 67).
(3)
«التسهيل» (2/ 306).
أولياءَه، وأن ينعِّمَ أعداءَه
(1)
؛ فعليه: يجوزُ أن يعذِّبَ مَنْ شاءَ بغيرِ ذنبٍ، أو يعذِّبَهُ بذنبِ غيرِه.
ومنشأُ هذا المذهَبِ: هو أنَّ مَرَدَّ أفعالِ الله تعالى وشَرْعِهِ عندهم محضُ المشيئة؛ فلا حِكْمةَ ولا غايةَ في مفعولاتِهِ ومأموراتِه، والظلمُ عندَهم هو المستحيلُ لذاتِه؛ كالجمعِ بين النقيضَيْنِ؛ قال ابن القيِّم:
وَالظُّلْمُ عِنْدَهُمُ المُحَالُ لِذَاتِهِ
…
أَنَّى يُنَزَّهُ عَنْهُ ذُو السُّلْطَانِ؟
(2)
وأمَّا الظلمُ عند أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، فهو أن يعذِّبَ أحدًا بغيرِ ذنب، أو أن يعذِّبَهُ بذنبِ غيرِه
(3)
، وقد حرَّم اللهُ تعالى ذلك على نَفْسِه؛ قال في الحديثِ القدسيِّ:((يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا))
(4)
، وقد نزَّه اللهُ نَفْسَهُ عن الظلمِ في آياتٍ كثيرة؛ قال تعالى:{وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِين (108)} [آل عمران]، وقال سبحانه:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد (46)} [فصلت].
والظلمُ عند أهلِ السُّنَّةِ: مقدورٌ لله، لكنَّه لا يَفعَلُهُ؛ لكمالِ عدلِهِ وحكمتِه
(5)
وأمَّا الظلمُ عند الأشاعِرة: فهو غيرُ مقدورٍ له؛ لأنه عندهم
(1)
«منهاج السنة» (1/ 134 - 135)، و «جامع الرسائل -رسالة في معنى كون الرب عادلًا وفي تنزهه عن الظلم -» (1/ 121)، و «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (3/ 1323).
(2)
«الكافية الشافية» (1/ 63 رقم 57 ط. المجمع).
(3)
ينظر: «منهاج السنة» (1/ 139)، و «جامع الرسائل» (1/ 123).
(4)
أخرجه مسلم (2577)؛ من حديث أبي ذر الغِفَاري رضي الله عنه.
(5)
ينظر: «منهاج السنة» (1/ 135 - 137)، و «جامع الرسائل» (1/ 129).
من الممتنعِ لذاتِه
(1)
. والمدحُ والكمالُ إنما يكونُ في تركِ الظلمِ مع القُدْرةِ عليه.
(1)
ينظر: «منهاج السنة» (1/ 134 - 135)، و «جامع الرسائل» (1/ 127)، و «شفاء العليل» (ص 275).
سورة الأعراف
(53)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]؛ حيثُ وقَع:
حمَلَهُ قومٌ على ظاهِره؛ منهم ابنُ أبي زَيْدٍ
(1)
وغيرُه.
وتأوَّلَهُ قومٌ: بمعنى: قصَدَ؛ كقولِه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} [البقرة: 29].
ولو كان كذلك، لقال: ثُمَّ استَوَى إلى العرش.
وتأوَّله الأشعريَّة: أنَّ معنى استَوَى: استَوْلَى بالمُلْكِ والقُدْرةِ.
(1)
هو القيرواني، عالم أهل المغرب، أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، المالكي، ويقال له: مالك الصغير.
وكان أحد من برز في العلم والعمل. قال القاضي عياض: «حاز رئاسة الدين والدنيا، ورحل إليه من الأقطار ونجب أصحابه، وكثر الآخذون عنه، وهو الذي لخص المذهب، وملأ البلاد من تواليفه» . ينظر: «ترتيب المدارك وتقريب المسالك» (6/ 215)، و «السير» (17/ 10، رقم 4).
وكلامه الذي أشار إليه المصنف ذكره في مقدِّمة «رسالته» (ص 487/ ضمن مجموعة «الردود» للشيخ بكر أبو زيد، وينظر: «مجموع الفتاوى» (5/ 182).
والحَقُّ: الإيمانُ به مِنْ غيرِ تكييفٍ؛ فإنَّ السلامةَ في التسليم، وللهِ دَرُّ الإمامِ مالكِ بنِ أنسٍ في قولِهِ للذي سألَهُ عن ذلك:«الاستواءُ معلوم، والكيفيَّةُ مجهولة، والسؤالُ عن هذا بِدْعة»
(1)
.
وقد رُوِيَ مثلُ قولِ مالكٍ عن أبي حَنِيفة
(2)
، وجَعْفَرٍ الصادق، والحسَنِ البَصْري
(3)
.
ولم يتكلَّم الصحابة ولا التابِعون في معنى الاستواءِ، بل أمسَكُوا عنه؛ ولذلك قال مالك:«السؤالُ عنه بِدْعة» )
(4)
.
قولُهُ: ({اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ؛ حيثُ وقَع
…
) إلخ:
ذكَرَ فيه مذاهب:
الأوَّل: إجراؤُهُ على ظاهِرِه، ونسَبَهُ لابنِ أبي زَيْدٍ المالكي.
(1)
ذكره ابن عبد البر في «التمهيد» (7/ 138) وقال: «وقد روينا عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال في قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه] مثل قول مالك هذا سواء» .
(2)
ينظر: «الفقه الأبسط» المنسوب لأبي حنيفة (ص 135)، و «مجموع الفتاوى» (5/ 46)، و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 193)، و «درء التعارض» (6/ 263)، و «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 195 - ط عالم الفوائد)، و «العلو» للذهبي (ص 134)، ورسالة «أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة» للخميّس (ص 307).
(3)
وروي كذلك عن أم سلمة، أخرجه اللالكائي في «السنة» رقم (663)، ومن طريقه أخرجه ابن قدامة في «إثبات صفة العلو» رقم (67)، وأشار إليه ابن حجر في «الفتح» (13/ 406)، وشيخ الإسلام في «الفتاوى» (5/ 365)، وأورده الذهبي في «العلو» (ص 81) وقال:«فأما عن أم سلمة فلا يصح؛ لأن أبا كنانة ليس بثقة، وأبو عمير لا أعرفه» .
(4)
«التسهيل» (2/ 348 - 349).
الثاني: مذهبُ أهلِ التأويل، ومنهم الأشاعِرة، وبعضُهم قال: استَوَى: قصَدَ، وقالتِ الأشاعِرة: استَوَى بالمُلْكِ والقُدْرة
(1)
.
الثالث: مذهبُ الصحابةِ والأئمَّة، وهو الإيمانُ به مِنْ غيرِ تكييفٍ، وقرَّر هذا القولَ بقوله:«والحَقُّ: الإيمانُ به مِنْ غيرِ تكييفٍ؛ فإنَّ السلامةَ في التسليم» .
وكلامُهُ هنا متردِّدٌ بين الإثباتِ مِنْ غيرِ تكييف، وبين التفويض؛ ولذا استشهَدَ بقولِ الإمامِ مالكٍ وغيرِه:«الاستواءُ معلوم، والكيفُ مجهول» ، ولكنه قال:«ولم يتكلَّم الصحابة ولا التابِعون في معنى الاستواء، بل أمسَكُوا عنه» ، قال:«ولذا قال مالك: والسؤالُ عنه بِدْعة» .
ومفهومُ كلامِ المؤلِّف رحمه الله: أنَّ السؤالَ عن معنى الاستواءِ بِدْعة.
وهذا خطأ؛ فالذي سُئِلَ عنه مالك، وقال:«السؤالُ عنه بِدْعة» هو الكيفيَّة؛ لأنه قال: «الاستواءُ معلوم» ؛ أي: معناه، «والكَيْفُ مجهول، والسؤالُ عنه بِدْعة» ؛ أي: السؤالُ عن الكَيْف
(2)
.
وقد أخطَأَ ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله أيضًا في زعمِهِ: أنَّ الصحابةَ والتابِعِينَ لم يتكلَّموا في معنى «استَوَى»
(3)
.
(1)
ينظر: «مختصر الصواعق» (3/ 888).
(2)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (5/ 181).
(3)
أورد البخاري في صحيحه (9/ 124) قبل حديث (7418)«باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} [هود: 7]، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم (129)} [التوبة]. قال: قال أبو العالية: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}: «ارتفع» ، وقال مجاهد:{اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} «علا» . ووصله الحافظ في «التغليق» (5/ 344). وينظر: «تفسير الطبري» (1/ 456)، والقرطبي (7/ 219)، و «الأسماء والصفات» للبيهقي (2/ 303)، و «مختصر الصواعق» (3/ 926).
والصوابُ: هو إثباتُ الاستواءِ للهِ على العَرْشِ بمعناه المعلومِ - وهو: علا وارتفَعَ - مع نَفْيِ التمثيل، ونفيِ العلمِ بالكيفيَّة.
ومَن يتدبَّرْ كلامَ ابنِ جُزَيٍّ، يُدرِكْ أنه إلى التفويضِ أميَلُ؛ أي: تفويضِ معنى الاستواء، أو هو قولُهُ الذي يقولُ به، والله أعلم.
(54)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(واعلم أن الخوف على ثلاث درجات:
الأولى: أن يكون ضعيفًا يخطُر على القلب، ولا يؤثِّر في الباطن ولا في الظاهر، فوجود هذا كالعدم.
والثانية: أن يكون قويًّا فيوقظ العبد من الغفلة، ويحمله على الاستقامة.
والثالثة: أن يشتدَّ حتى يبلغ إلى القنوط واليأس، وهذا لا يجوز، وخير الأمور أوسطها.
* والناس في الخوف على ثلاث مقامات:
فخوف العامة: من الذنوب.
وخوف الخاصة: من الخاتمة.
وخوف خاصة الخاصة: من السَّابقة؛ فإن الخاتمة مبنيَّةٌ عليها.
* والرجاء على ثلاث درجات:
الأولى: رجاء رحمة الله مع التسبُّب فيها بفعل طاعته وترك معصيته؛ فهذا هو الرجاء المحمود.
والثانية: الرجاء مع التفريط والعصيان؛ فهذا غرورٌ.
والثالثة: أن يَقوى الرجاء حتى يبلغ الأمن؛ فهذا حرام.
* والناس في الرجاء على ثلاث مقامات:
فمقام العامة: رجاء ثواب الله.
ومقام الخاصة: رجاء رضوان الله.
ومقام خاصة الخاصة: رجاء لقاء الله حبًّا فيه وشوقًا إليه)
(1)
.
قوله رحمه الله: (الخوف على ثلاث درجات) إلخ، الخوف منزلة من منازل الإيمان، ومن أفضل أعمال القلوب، وأصله خوف الله، قال تعالى:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران]، وقال:{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44]، وقال سبحانه:{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2].
وقول المؤلف: إنه على ثلاث درجات: صحيح. وقوله: ضعيف لا يؤثر في الباطن ولا في الظاهر: هو صحيح أيضًا، ولكن قوله: وجوده كعدمه: فيه نظر؛ لأن هذا القدر من الخوف دليلُ الإيمان، وعدمه دليلٌ على عدم الإيمان.
وقوله: (الثانية: أن يكون قويًّا) إلخ: صحيح.
وقوله: (الثالثة: أن يشتدَّ حتى يبلغ إلى القنوط واليأس) إلخ: صحيح، ولكن قوله:(لا يجوز): فيه قصور، بل القنوط من رحمة الله
(1)
«التسهيل» (2/ 351 - 352).
كبيرة من كبائر الذنوب، وقد يؤول إلى الكفر؛ لقوله تعالى:{إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُون (87)} [يوسف].
وقول المؤلف: (خير الأمور أوساطها): حقٌّ.
وقوله: (والناس في الخوف على ثلاث مقامات).
في هذا التصنيف نظر؛ فإن تقسيم المؤمنين إلى عامة وخاصة وخاصة الخاصة من مصطلحات الصوفية؛ فجميع المؤمنين يخافون من الذنوب، ومن سوء الخاتمة، ومما سبق به القدر من السعادة والشقاوة، وأصل الخوف هو خوف الله وخوف عذابه، قال تعالى:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وقال: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57]، والذنوب لا يعصم منها إلا الله، وما وقع منها فبقدر الله، وأمر الخاتمة إلى الله، فعاد الأمر كلُّه لله، ولا ريب أن المؤمنين متفاضلون في الخوف الواجب، وهو ما تضمَّنته الدرجة الثانية، لا الخوف الضعيف ولا الشديد؛ فأهل هذه الدرجة منهم الكُمَّل، ومنهم المقصِّرون، ومنهم المقتصدون، على حد قوله تعالى:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير (32)} [فاطر].
وقوله: (والرجاء على ثلاث درجات) إلخ: الرجاء منزلة من منازل قلوب السائرين إلى الله، وهو طمع في محبوب، وهو مقابل للخوف؛ لأنه حذر من مرهوب، وكلٌّ منهما - أعني الخوف والرجاء - من العبد مطلوب، وقد أثنى الله على الراجين أعظم من ثنائه على الخائفين؛
لأن مبنى الرجاء حسنُ الظن بالله، وقد ورد ذكر الرجاء في القرآن في آيات كثيرة، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم (218)} [البقرة]، وقال سبحانه:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف]، وقال سبحانه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب]، وقال:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء].
وقد جعل المفسِّر الرجاء ثلاث درجات باعتبار ما يُحمد وما يُذم: فالمحمود منها هو الدرجة الأولى، وهو الرجاء مع التصديق بالعمل، والثانية مذمومة؛ لأنه رجاء مع التفريط، فهو رجاء كاذب، وحقيقته التمنِّي، والدرجة الثالثة قال فيها المفسِّر: حرام؛ لأنه متضمِّن لعدم الخوف من الله، وحقيقته الأمن من مكر الله، وهو من كبائر الذنوب، واقتصار المؤلف فيه على مطلق التحريم تقصير.
ثم جعل الناس في الرجاء ثلاثة مقامات، وذلك باعتبار متعلَّق الرجاء عندهم؛ وهي: مقام العامة، ومقام الخاصَّة، ومقام خاصَّة الخاصَّة، وفي هذا التقسيم جرى المؤلف على طريقة الصوفية بذكر الخاصَّة وخاصَّة الخاصَّة، وهو تعبير لا يعرف في كلام السلف من الصحابة والتابعين، وأيضًا: لم يحرر المؤلف متعلَّق الرجاء، ولم يذكر دليله؛ فإنَّ رضا الله ولقاءه - وهما مطلب أهل المقام الثاني والثالث - داخلان في المعنى العام للثواب الذي جعله المؤلف مطلب أهل
المقام الأول، وكأنه خصَّ الثواب بما في الجنة من المطاعم والمشارب والأزواج، والحقُّ أن الثواب لا يختص بذلك.
نعم: بعض الثواب أعلى من بعض، ولهذا قال بعض المحققين من أهل العلم: إن النظر إلى الله تعالى ورضوانه داخل في معنى الجنة التي وعد الله بها المؤمنين؛ لأن كل من دخل الجنة نال رضوان الله، وفاز بلقائه
(1)
.
وأما الأدلة من القرآن على فضل الرجاء ومتعلَّقه فقد تقدمت الإشارة إليها أول التعليق.
(1)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 62)، (10/ 240 - 241)، (28/ 443)، و «مختصر الفتاوى المصرية» (ص 128)، و «مدارج السالكين» (2/ 79 - 80).
(55)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(واستدلَّ الأشعرية بذلك على أن رؤية الله جائزةٌ عقلًا، وأنها لو كانت محالًا لم يسألها موسى؛ فإن الأنبياء عليهم السلام يعلمون ما يجوز على الله وما يستحيل عليه)
(1)
.
قوله: (واستدلَّ الأشعرية بذلك على أن رؤية الله جائزةٌ عقلاً) إلخ: من المعروف أن الأشاعرة يثبتون رؤية المؤمنين لربهم، مع أنهم في حقيقة الأمر لا يثبتون الرؤية التي دلَّت عليها نصوص الكتاب والسنة، بل ولا الرؤية التي يدل عليها العقل؛ إذ يقولون: إنه تعالى يُرى لا في جهة، والحامل لهم على ذلك نفيهم العلو، ومعنى هذا أنه يُرى، لكن لا عن الأيمان، ولا عن الشمال، ولا فوق، فضلا عن التحت، وهذه رؤية لا حقيقة لها في العقل ولا في الشرع، ولهذا ألحقهم بعض أئمة السنة بمن ينفي الرؤية، كالمعتزلة
(2)
.
(1)
«التسهيل» (2/ 383).
(2)
ينظر: «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 432 - 435)(4/ 399 - 480)، و «منهاج السنة» (2/ 325 - 329)، و «مجموع الفتاوى» (16/ 82 - 86)، و «الصواعق المرسلة» (4/ 1331 - 1334)، و «شرح الطحاوية» لشيخنا (ص 117).
وقول المفسِّر: إن الأشاعرة استدلوا على جواز الرؤية عقلا بسؤال موسى عليه السلام رؤية ربه، فيه تقصير من وجهين:
أحدهما: تخصيص هذا الاستدلال بالأشاعرة؛ فأهل السنة يشاركونهم في ذلك.
الثاني: أن هذه الآية هي الدليل على إثبات الرؤية، ولمثبتي الرؤية من أهل السنة والأشاعرة أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، كقوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة (23)} [القيامة]، وقوله صلى الله عليه وسلم:((إنكم سترون ربكم))
(1)
.
والحق أن المؤمنين يرون ربهم من فوقهم، كما يقتضيه قوله صلى الله عليه وسلم:((إنكم سترون ربكم، كما ترون القمر، وكما ترون الشمس صحوا ليس دونها سحاب))
(2)
، وهذا من تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي؛ فرؤية المؤمنين لربهم كرؤية الناس للشمس والقمر من وجوه؛ كعدم الإحاطة، والرؤية من فوق، والوضوح
(3)
؛ لذلك فلا يضامون في رؤيته، ولا يضارُّون، كما جاء في الحديث
(4)
. والله أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (554)، ومسلم (633) عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وأحاديث الرؤية متواترة، رواها سبعة وعشرون صحابيًّا، ساقها ابن القيم. ينظر:«حادي الأرواح» (2/ 625 - 685)، و «نظم المتناثر» (ص 238، رقم 307).
(2)
أخرجه بنحوه البخاري (6573)، ومسلم (182) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
ينظر: «بغية المرتاد» (ص 529)، و «بيان تلبيس الجهمية» (4/ 433)، و «درء التعارض» (1/ 252)، و «شرح التدمرية» لشيخنا (ص 275)، و «شرح الطحاوية» لشيخنا (ص 116).
(4)
تقدم وهو تمام حديث جرير السابق.
(56)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] أي: سمُّوه بأسمائه، وهذا إباحةٌ لإطلاق الأسماء على الله تعالى:
فأمَّا ما ورد منها في القرآن أو في الحديث: فيجوز إطلاقه على الله إجماعًا.
وأمَّا ما لم يَرِد، وفيه مدحٌ لا تتعلَّق به شبهة:
فأجاز أبو بكر ابن الطيب
(1)
إطلاقَه على الله.
ومنع ذلك أبو الحسن الأشعريُّ وغيره، ورأوا أن أسماء الله موقوفةٌ على ما ورد في القرآن والحديث)
(2)
.
قوله: (أي: سمُّوه بأسمائه) إلخ، هذا أحد التفسيرين في معنى {فَادْعُوهُ بِهَا} ، والباء على هذا للتعدية، وقيل: ادعوه بها، أي: توسلوا
(1)
أبو بكر ابن الطيب: الباقلاني، محمد بن الطيب بن محمد، أبو بكر، القاضي، البصري، المالكي، الأشعري، علَم متكلم شهير، كان يُضرب المثل بفهمه وذكائه، انتصر لطريقة أبي الحسن الأشعري، وقد يخالفه في مضائق؛ فإنه من نظرائه. له مصنفات عدة؛ منها:«إعجاز القرآن» ، و «التمهيد» ، و «الإنصاف فيما يجب اعتقاده» ، وغيرها، توفي سنة (403 هـ). ينظر:«ترتيب المدارك» (7/ 44)، و «السير» (17/ 190).
(2)
«التسهيل» (2/ 420 - 421).
بها، كما تقول: يا غفور اغفر لي، يا رحيم ارحمني، والباء على هذا سببية
(1)
، ثم ما ذكره المؤلف من التفصيل في أسماء الله مستقيم، ومضمونه أنَّ الله لا يسمَّى إلا بما سمَّى به نفسه أو ما سمَّاه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو معنى قول المؤلف:(موقوفة)، أي: توقيفية، وأما ما لم يرد في كتاب ولا سنة، وهو صفة مدح، فيجوز الإخبار به عن الله، ولا يعدُّ من أسمائه، كالقديم والمنشئ والمحْكِم والصانع
(2)
.
(1)
ينظر: «تفسير الماوردي» (2/ 282)، و «التفسير البسيط» (9/ 480)، و «البحر المحيط» (5/ 231)، و «بدائع الفوائد» (1/ 288 - 289).
(2)
ينظر: «الجواب الصحيح» (5/ 8)، و «درء التعارض» (1/ 297 - 298)، و «مجموع الفتاوى» (6/ 142)، و «بدائع الفوائد» (1/ 284)، و «التعليق على القواعد المثلى» لشيخنا (ص 68).
(57)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين (183)} [الأعراف]؛ سمَّى فِعْلَهُ بهم كَيْدًا؛ لأنه شبيهٌ بالكَيْدِ في أنَّ ظاهرَهُ إحسان، وباطِنَهُ خِذْلان)
(1)
.
قولُهُ: (سمَّى فِعْلَهُ بهم كَيْدًا
…
)، إلخ:
هذا يتضمَّنُ أنَّ ما يفعلُهُ الربُّ عز وجل بالكافِرِينَ مِنَ الاستدراجِ ليس بكَيْدٍ حقيقةً، بل هو مجرَّدُ تسميةٍ؛ فهو كيدٌ لفظًا لا معنًى.
وهذا خطأ؛ لأنه صرفٌ لِلَّفْظِ عن ظاهِرِهِ بلا مُوجِب
(2)
؛ كيف وقد أكَّده اللهُ بالمصدَرِ المؤكِّدِ كما في قولِهِ: {وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} [الطارق: 16]؟! فهو تعالى يكيدُ الكافِرِينَ ويمكُرُ بهم؛ جزاءً على كَيْدِهم ومَكْرِهم؛ جزاءً وفاقًا.
(1)
«التسهيل» (2/ 422).
(2)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (7/ 111).
سورة الأنفال
(58)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] أي: قَوِي تصديقهم ويقينهم، خلافًا لمن قال: إن الإيمان لا يزيد، وإن زيادته إنما هي بالعمل)
(1)
.
قوله: «قَوِي تصديقهم ويقينهم» إلخ، ما اختار المؤلف من إثبات زيادة الإيمان ومتعلَّقها، وهو إيمان القلب ويقينه هو الصواب، وقوله:«خلافًا لمن قال: إن الإيمان لا يزيد، وإن زيادته إنما هي بالعمل» ، وهم المرجئة، ومنهم الأشاعرة، ويخصون زيادته بزيادة العمل، وما اختار المؤلف هو مذهب أهل السنة، فمن أصولهم أن الإيمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف، ودلائل ذلك من الكتاب والسنة كثيرة معلومة، كقوله تعالى:{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]، وقوله:{فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران: 173]، وقوله سبحانه:{زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]، وقوله صلى الله عليه وسلم:((وذلك أضعف الإيمان))
(2)
.
(1)
«التسهيل» (2/ 440).
(2)
أخرجه مسلم (49) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
سورة التوبة
(59)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79]: تسميةٌ للعقوبةِ باسمِ الذَّنْب)
(1)
.
قولُ ابنِ جُزَيٍّ رحمه الله: (تسميةٌ للعقوبةِ باسمِ الذَّنْب):
معنى كلامِهِ: أنَّ الله لا يَسْخَرُ حقيقةً بالمنافِقِين، بل هذا مِنْ تسميةِ العقوبةِ باسمِ الذَّنْبِ الذي ارتكَبُوهُ، وهو سُخْرِيَتُهم بالمؤمِنِينَ المتصدِّقين؛ وهذا معنى قولِ بعضهم: هذا مِنْ قَبِيلِ المشاكَلةِ؛ يَعْنُونَ: المشاكَلَةَ اللفظيَّة؛ كما قالوا مثلَ ذلك في المَكْرِ والكَيْدِ والاستهزاءِ والخِدَاع
(2)
.
وليس هذا صوابًا، بل الصوابُ: أنَّ اللهَ يمكُرُ حقيقةً بالماكِرِينَ مِنْ الكافِرِينَ والمنافِقين، ويَخدَعُ المخادِعِين، ويَستهزِئُ بالمستهزِئِين، ويسخَرُ بالساخِرِينَ.
(1)
«التسهيل» (2/ 512).
(2)
ينظر: «مختصر الصواعق» (3/ 738).
ومِن ذلك: إملاؤُهُ تعالى للكافِرِينَ واستدراجُهم، وإظهارُهُ سبحانه قَبُولَ ما أظهَرَهُ المنافِقُونَ مِنْ الإيمان، فيَحسَبُونَ أنهم خدَعُوا اللهَ بما أظهَرُوهُ مِنْ العمل، وهو تعالى محمودٌ على ذلك؛ لأنه عدلٌ.
ومِن مكرِ اللهِ واستهزائِهِ بالمنافِقِينَ يومَ القيامةِ: أنهم يكونون مع المؤمنين، فيُعْطَوْنَ أنوارًا حتى يظنُّوا أنهم ناجُونَ، وليسوا بناجين؛ كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُّورِكُمْ
…
} الآياتِ [الحديد: 13 - 15].
ومِن مكرِ الله بالكافِرِين: ما ذكَرَهُ في قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُون (44)} [الأنعام]، والله أعلم.
(60)
قال ابن جزي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104]:
(قيل: معناه: يأمر بها، وقيل: يقبلها من عباده)
(1)
.
قوله رحمه الله: (قيل: معناه: يأمر بها، وقيل: يقبلها من عباده) ذكَر في تفسير أخذ الله الصدقات قولين؛ أحدهما: أن معناه الأمر بها، والثاني: أنه يقبلها، ولم يرجِّح، ولا ريب أن تفسير الأخذ بالأمر صرفٌ للكلام عن ظاهره إلى معنى بعيد عن مدلول اللفظ، وأما تفسيره بالقبول، فهو قريب، فيكون من قبيل التجوز بالأخذ عن القبول؛ لأنه سببه، ومع ذلك فلا موجب لصرف اللفظ عن حقيقته، وهو الأخذ باليد، كيف وقد جاء التصريح بالأخذ باليمين في الحديث المتفق عليه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه)) الحديث
(2)
، وفي مسلم:((إلا أخذها الرحمن بيمينه)) الحديث
(3)
، فثبت أن الأخذ في الآية على حقيقته، ويؤيده أنه قد جاء التصريح بالأخذ باليد في غير الصدقة، وهو قوله
(1)
«التسهيل» (2/ 522).
(2)
أخرجه البخاري (1410) واللفظ له، ومسلم (1014) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
مسلم (1014).
صلى الله عليه وسلم: ((يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه)) الحديث
(1)
، فعلم ممَّا تقدم أن الأخذ فعلٌ من أفعال الرب تعالى التي تكون بمشيئته، وقائمة بذاته، فيجب فيها ما يجب في سائر الصفات، وهو إجراؤها على ظاهرها وإثباتها مع نفي التشبيه، ونفي العلم بالكيفية، ومما يؤكد ما سبق أن الله تعالى ذكر الأخذ مضافًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، فدلَّ ذلك أن الأخذ من الأفعال التي تضاف إلى الخالق على ما يليق به، وتضاف إلى المخلوق على ما يليق به، كالحبِّ والرِّضا والاستواء، وليس الحب كالحب، ولا الرضا كالرضا، ولا الاستواء كالاستواء، وكذلك ليس الأخذ كالأخذ، والله أعلم.
(1)
أخرجه مسلم (2788) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
سورة يونس
(61)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلَالُ} [يونس: 32] أي: عبادة غير الله ضلالٌ بعد وضوح الحق.
وتدلُّ الآية على أنه ليس بين الحق والباطل منزلة في علم الاعتقادات؛ إذ الحق فيها في طرف واحد، بخلاف مسائل الفروع)
(1)
.
قوله: (وتدلُّ الآية على أنه ليس بين الحق والباطل منزلة) إلخ؛ ما قاله رحمه الله من دلالة الآية على أنه لا واسطة بين الحق والباطل صحيح، وهو ظاهر الآية، كما قال، فمعنى الآية: فما لم يكن من الحق فهو باطل؛ فالحق والباطل نقيضان، لا يجتمعان ولا يرتفعان؛ فلا يكون الشيء حقًّا باطلًا، ولا يكون لا حقًّا ولا باطلًا، وهذا معنى قول المؤلف: إنه لا واسطة بين الحق والباطل، لكن المؤلف رحمه الله قصر الآية على مسائل الاعتقاد دون مسائل الفروع، والصواب أن الآية
(1)
«التسهيل» (2/ 547).
عامة، ولا ريب أن الاختلاف في العقائد اختلاف تضاد، فما خرج عن الحق الذي قام عليه الدليل فهو باطل، وأما الاختلاف في الفروع فهو نوعان: اختلاف تضاد، واختلاف تنوع
(1)
؛ فما كان من اختلاف التضاد فيدخل في معنى الآية، مثل من يقول في شيء: هذا حلال، ويقول المخالف: بل هو حرام، فما كان منهما هو الحق فالآخر باطل؛ لقوله تعالى:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلَالُ} ، ومعلوم أنه لا يمتنع أن يكون الشيء حلالًا حرامًا من وجه واحد، ولا يكون لا حلالًا ولا حرامًا، وعليه فلا يكون المختلفان في اختلاف التضاد مصيبَيْن، ولا يكون كلٌّ منهما مخطئًا؛ لأنه في الأول ينتفي النقيضان، وفي الثاني يجتمع النقيضان، وخلاصة القول أن ما علم أنه الحق بالدليل، فما خالفه فهو باطل ولا بد، وعليه فتبقى الآية على إطلاقها، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلَالُ} .
(1)
ينظر نوعا الاختلاف وحكمهما مع ذكر الأمثلة في: «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/ 148 - 165).
سورة الرعد
(62)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد: 2] {ثُمَّ} هنا لترتيب الأخبار، لا لترتيب وقوع الأمر؛ فإن العرش كان قبل خلق السماوات)
(1)
.
قوله: ({ثُمَّ} هنا لترتيب الأخبار، لا لترتيب وقوع الأمر) إلخ: يفهم من كلامه رحمه الله أن الآية لا تدل على أن استواء الله على عرشه كان بعد خلق السماوات والأرض، كما يقتضيه عطف الفعل على الفعل، بل قوله:(فإن العرش كان قبل خلق السماوات) يدل على أنه يذهب إلى أن الاستواء على العرش كان قبل خلق السماوات والأرض، وهذا يقتضي أن الاستواء تابع لوجود العرش، فيلزم من ذلك أنه تعالى لم يزل مستويا على العرش منذ خلقه، وهذا خلاف ظاهر القرآن؛ لأن الأصل في المعطوف ب «ثم» أنه بعد المعطوف عليه، بل هو متراخ عنه، ولا أعلم قائلًا بهذا ممَّن يقتدى به من الأئمة، أعني أنه تعالى لم يزل مستويا على العرش منذ خلقه، بل ولا أعلم من تعرَّض لهذه المسألة
(1)
«التسهيل» (2/ 667).
بنفي ولا إثبات، أي: استواء الله على عرشه قبل خلق السماوات والأرض، لكن ذكر المسألة الشيخ العلامة محمد العثيمين رحمه الله في شرح العقيدة الواسطية، واختار التوقف
(1)
. هذا؛ والذي ينبغي القطع به أن الله بعد خلق السماوات والأرض استوى على عرشه، وما قبل ذلك فيسكت عنه، ولا يتعرض له بنفي ولا إثبات؛ لعدم الدليل على النفي أو الإثبات. والله أعلم.
وبعد: فيزيد المقام إيضاحًا الإجابة عن الأسئلة الآتية: الأول: هل استوى الله على العرش بعد خلق السماوات والأرض؟ الجواب: نعم؛ يقينًا وقطعًا؛ لأن هذا موجبُ خبر الله عن نفسه.
ثانياً: هل كان الله عند خلق السماوات والأرض مستويا على العرش؟ الجواب: لا؛ لم يكن مستويا على العرش عند خلق السماوات والأرض؛ إذ يمتنع في الكلام أن يقال لمن كان قائما: ثم قام، أو لمن كان قاعدا: ثم قعد، فقوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يدل على إثبات الاستواء بعد خلق السماوات والأرض، وعلى نفيه عند خلق السماوات والأرض، يوضحه أن الله لو كان مستويا على العرش عند خلق السماوات والأرض لم يصح في اللسان أن يقال فيه: ثم استوى على العرش، كما تقدم.
ثالثاً: هل استوى الله على العرش قبل الاستواء الذي أخبر عنه بعد خلق السماوات والأرض؟ الجواب: هذا هو الذي لم يأت فيه بيان، فيجب الإمساك عن القول فيه. الله أعلم.
(1)
«شرح العقيدة الواسطية» (1/ 385 - 386).
سورة إبراهيم
(63)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [إبراهيم: 10]:
قال الزمخشريُّ وأهلُ مذهبِهِ مِنْ المعتزِلة: «معناه: يؤخِّرَكُمْ إنْ آمنتم إلى آجالِكم، وإنْ لم تُؤمِنوا، عاجَلَكُمْ بالهلاك قبلَ ذلك الوقت»
(1)
؛ وهذا بناءٌ على قولِهِم بالأَجَلَيْنِ.
وأهلُ السُّنَّةِ: يَأْبَوْنَ هذا؛ فإنَّ الأجلَ عندَهم واحدٌ محتوم)
(2)
.
قولُ ابنِ جُزَيٍّ رحمه الله: (وهذا بناءٌ على قولِهم - أي: المعتزِلةِ - بالأَجَلَيْن):
(1)
«الكشاف» (2/ 543 ط. دار الكتاب العربي).
(2)
«التسهيل» (2/ 695).
هذا صحيحٌ عن المعتزِلة؛ ومعناه: أنَّ المعتزِلة يقولون: إنَّ المقتولَ ومَن يُعاجَلُ بالعقوبة، له أجلٌ متأخِّرٌ لو لم يُقتَلْ أو يُعاجَلْ، لانتهى إليه، ولِقَتْلِهِ أو تعجيلِ عقوبتِهِ أجلٌ متقدِّم
(1)
.
وقال بعضُهم عن المعتزِلة: إنَّ الأجَلَ واحدٌ، وهو الأجَلُ المسمَّى، وإنَّ المقتولَ مقطوعٌ عليه أجلُه، وكذا مَنْ يُعاجَلُ بالعقوبةِ بسببِ كُفْرِه.
والحقُّ: أنَّ الأجَلَ الذي قدَّره اللهُ في علمِهِ وكتابِهِ واحدٌ؛ سواءٌ كان متقدِّمًا أو متأخِّرًا، ولا يقَعُ إلا هو؛ فالمتقدِّمُ لا يتأخَّر، والمتأخِّرُ لا يتقدَّم؛ كما قال تعالى:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُون (34)} [الأعراف]، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً} [آل عمران: 145].
وهذا معنى ما أشار إليه المؤلِّفُ في قولِه: (وأهلُ السُّنَّةِ: يَأْبَوْنَ هذا؛ فإنَّ الأجلَ عندَهم واحدٌ محتوم)، والله أعلم
(2)
.
(1)
ينظر: «مقالات الإسلاميين» (1/ 204).
(2)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (8/ 516).
سورة النحل
(64)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]؛ هذا إخبارٌ عن الملائكة، وهو بيانُ نفيِ الاستكبارِ.
ويَحتمِلُ أنْ يريدَ: فوقيَّةَ القُدْرةِ والعَظَمة.
أو يكونَ مِنْ المشكِلاتِ التي يُمسَكُ عن تأويلِها.
وقيل: معناه: يَخافُونَ أنْ يُرسِلَ عليهم عذابًا مِنْ فوقهم)
(1)
.
قولُهُ: (بيانُ نفيِ الاستكبارِ)، يريدُ: أنَّ قولَهُ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} [النحل: 50] تفسيرٌ لقوله: {لَا يَسْتَكْبِرُون (49)} [النحل].
ثم تردَّد رحمه الله، وعفا عنا وعنه - في توجيهِ قولِهِ تعالى:{مِنْ فَوْقِهِمْ} بين التفويضِ والتأويلِ:
فقال: (ويَحتمِلُ أنْ يريدَ: فوقيَّةَ القُدْرةِ والعَظَمة)؛ وهذا تأويلٌ.
(1)
«التسهيل» (2/ 752).
وقال: (أو يكونَ مِنْ المشكِلاتِ التي يُمسَكُ عن تأويلِها)؛ وهذا تفويضٌ.
وقال: (وقيل: معناه: يَخافُونَ أنْ يُرسِلَ عليهم عذابًا مِنْ فوقهم)؛ وهذا تأويلٌ؛ لأنه صرفٌ للَّفظِ عن ظاهِره، وهو في الحقيقة تحريفٌ؛ لأنه لا دليلَ يدلُّ عليه.
ولجوءُ المؤلِّفِ في توجيهِ الآيةِ إلى التفويضِ والتأويل، راجعٌ إلى نفيِ الفوقيَّةِ الحقيقيَّةِ لله تعالى بذاتِهِ فوقَ جميعِ المخلوقات، وهو مذهبُ الأشاعِرة
(1)
؛ وعلى هذا: فالمؤلِّفُ يذهبُ مَذْهَبَهم.
ومذهبُ أهلِ السُّنَّةِ: أنَّ اللهَ بذاتِهِ فوقَ سماواتِهِ، على عرشِهِ، بائنٌ مِنْ خَلْقِه
(2)
.
(1)
ينظر: «الإرشاد» للجويني (ص 39)، و «الاقتصاد في الاعتقاد» للغزالي (ص 33)، و «أساس التقديس» للرازي (ص 30).
(2)
ينظر هامش التعليق رقم (39).
(65)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} [النحل: 60] أي: الوصف الأعلى؛ من الغنى عن كل شيء، والنزاهة عن صفات المخلوقين)
(1)
.
قوله: (أي: الوصف الأعلى
…
إلى آخره) معناه: أن المثل الأعلى يتضمن إثبات كل صفة كمال، وهي: صفات الله العليا، ويتضمن تنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين، وهذا حق.
(1)
«التسهيل» (2/ 756).
سورةالإسراء
(66)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(واختلف العلماء في كيفية الإسراء:
فقال الجمهور: كان بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه.
وقال قوم: كان بروحه خاصة وكانت رؤيا نوم حقٍّ.
فحجة الجمهور: أنه لو كان منامًا لم تنكره قريش، ولم يكن في ذلك ما يكذِّب به الكفار، ألَا ترى قول أم هانئٍ له: لا تخبرْ بذلك فيكذبَك قومك!
(1)
.
(1)
أخرجه - بنحوه - أبو يعلي الموصلي في معجمه (10)، ومن طريقه الضياء المقدسي في فضائل بيت المقدس (52)، عن محمد بن إسماعيل الوساوسي، قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن أبي صالح مولى أم هانئ، عن أم هانئ قالت: «
…
أنشدك الله يا ابن عم أن تحدث بهذا قرشيًّا؛ فيكذبك من صدقك».
وفي إسناده: محمد بن إسماعيل الوساوسي، قال أحمد بن عمرو البزار الحافظ:«كان يضع الحديث» .
وقال الدارقطني وغيره: ضعيف. ينظر: «الميزان» (7222).
وحجة من قال: إن الإسراء كان منامًا: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} {الإسراء 60} [الإسراء: 60]، وإنما تقال الرؤيا في المنام، ويقال فيما يُرى بالعين: رؤية، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال:((بينما أنا بين النائم واليقظان .. )) وذكَر الإسراء، وقال في آخر الحديث:((فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام .. ))
(1)
.
وجمع بعض الناس بين الأدلة فقال: إن الإسراء كان مرتين: إحداهما: بالجسد، والأخرى: بالروح، وأن الإسراء بالجسد كان من مكة إلى بيت المقدس، وهو الذي أنكرته قريش، وأن الإسراء بالروح كان إلى السماوات السبع، ليلة فرضت الصلوات الخمس، ولقي الأنبياء في السماوات)
(2)
.
اقتصر المؤلف رحمه الله على ذكر اختلاف العلماء في الإسراء؛ هل كان بروحه صلى الله عليه وسلم، أو بجسده، أو بروحه وجسده معًا، وهل كان يقظة أو منامًا، وذكر بعض الوجوه من أدلة المختلفين، ولم ينص على الصواب في ذلك، وإن كان يظهر من سياق كلامه أنه يميل إلى أن الإسراء كان بروحه صلى الله عليه وسلم وجسده، وأنه كان يقظة لا منامًا،
(1)
أخرجه البخاري (7517) عن أنس من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر القاضي، وقال المحققون: إن هذا وهم من شريك، وقد وهم في هذا الحديث في مواضع عدة. ينظر:«صحيح مسلم» (162)، و «زاد المعاد» (3/ 42)، و «تفسير ابن كثير» (5/ 7)، و «فتح الباري» (13/ 485)، و «شرح الطحاوية» لشيخنا (ص 148 - 149).
(2)
«التسهيل» (2/ 791).
وهذا هو الحق، ومما يدل على ذلك قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] والعبد اسم للروح والبدن جميعًا، وحكى المؤلف رحمه الله قول من جمع بين الأدلة بأن الإسراء كان مرتين، فكان مرة يقظة ومرة منامًا، وأقره، أي: لم يضعفه، وهو قول ضعيف عند المحققين من أهل العلم؛ إذْ يمتنع في حكمة الله أن يفرض سبحانه الصلوات خمسين على النبي وأمته، ثم يخففها إلى خمس، ثم يفرضها خمسين مرة أخرى، ثم يخففها، وهذا لازم القول بتعدد الإسراء والمعراج. والله أعلم
(1)
.
(1)
ينظر: «زاد المعاد» (3/ 40 - 42)، و «فتح الباري» (7/ 197 - 198)، و «شرح الطحاوية» لشيخنا (ص 147 - 150).
سورة الكهف
(67)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا} [الكهف: 65] هو الخضر {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً} يعني النبوة على قول من قال: إن الخضر نبيٌّ.
وقيل: إنه ليس بنبيٍّ، ولكنه وليٌّ.
وتظهر نبوته من هذه القصة؛ لأنه فعل أشياء لا يعملها إلَّا بوحي.
واختُلف أيضًا: هل مات أو هو حيٌّ إلى الآن؟ ويذكر كثيرٌ من الصُّلَحاء أنهم يرونه ويكلِّمهم)
(1)
.
قوله في تفسير العبد في الآية: (هو الخضر) حقٌّ، وهو متفق عليه بين المفسرين، ودلَّت عليه السنة، كما في حديث ابن عباس في الصحيحين
(2)
، وذكر المؤلف رحمه الله الخلاف في شأن الخضر في مسألتين: في نبوته، وهل هو حي أو ميت؟ وذكر ما يرجح القول
(1)
«التسهيل» (3/ 42).
(2)
أخرجه البخاري (122)، ومسلم (2380).
بنبوته، مما ورد في قصته في الآيات، ولا ريب أن القول بنبوته قول قوي، ولكن لا يقطع بذلك
(1)
.
وأما القول بحياة الخضر فهو قول باطل؛ إذ لا دليل يدل على بقائه، وما ذكره المؤلف من رؤية بعض الصالحين له فليس مما يعول عليه في إثبات الأمور الغيبية، وهي من دعاوى الصوفية، كما يذكرون أنهم يرون النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بعض مجالسهم للذكر يقظة لا مناما، والمحققون من أهل العلم على خلاف هذا القول، أعني ما يدَّعى من حياة الخضر، قالوا: مما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34]، قالوا: ولو كان الخضر حيًّا لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به؛ فإنه لا يسعه إلا اتباعه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في موسى:((لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني)) رواه أحمد وغيره
(2)
.
(1)
وممن قال بنبوته: عبد الله بن عمرو، والضحاك بن مزاحم، واختاره: القرطبي، وابن حجر، والشنقيطي. ينظر:«زاد المسير» (3/ 105)، و «تفسير القرطبي» (11/ 16)، و «زهر النضر» لابن حجر (ص 66 - 68)، و «أضواء البيان -ط. المجمع-» (4/ 2082 - 208).
(2)
أخرجه أحمد (15156)، والدارمي (449)، وابن عبد البر في «الجامع» (1497) من طريق مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال:((أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا، ما وسعه إلا أن يتبعني)). =
وظاهر من سياق كلام المؤلف أنه يميل إلى القول بحياة الخضر؛ لأنه استشهد له ولم يضعفه، عفا الله عنه، وغفر له
(1)
.
=وهذا إسناد ضعيف؛ لضعف مجالد بن سعيد. قال الحافظ: «ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره» «التقريب» (6478)، لكن له شواهد عن عبد الله بن ثابت، وعقبة بن عامر، وحفصة، وغيرهم، انظرها في «إرواء الغليل» (1589).
وقال الألباني: «وجملة القول: أن مجيء الحديث في هذه الطرق المتباينة، والألفاظ المتقاربة لمما يدل على أن مجالد بن سعيد قد حفظ الحديث، فهو على أقل تقدير حديث حسن» .
(1)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (4/ 337)، (27/ 100 - 102)، و «جامع المسائل» (5/ 133 - 137)، (9/ 60)، و «منهاج السنة» (1/ 96 - 97)، (4/ 93 - 94)، و «الرد على المنطقيين «(ص 227)، و «المنار المنيف» (ص 63 - 69)، و «أضواء البيان» (4/ 208 - 226).
تنبيه:
ما جاء في «مجموع الفتاوى» (4/ 338) من القول بحياة الخضر مشكل؛ ولهذا شكك جامع الفتاوى الشيخ الرحمن بن القاسم فيها؛ حيث علق على أولها بقوله: «هكذا وجدت هذه الرسالة» ، والذي يظهر أنها ليست له، فهي تخالف ما قرره شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع، كما تقدم من أن الخضر قد مات. أو لعله منتزع من سياقه إذ نقله عن القائلين بحياته. وينظر:«الافتراض دفع الاعتراض» للخضيري، نشر مع «الروض النضر» بتحقيق محمد العلاوة، (ص 164)، و «صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف» (ص 35 - 37).
(68)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} الآيةَ [الكهف: 109]؛ إخبارٌ عن اتساعِ عِلْمِ الله تعالى.
و «الكَلِماتُ» : هي المعاني القائمةُ بالنَّفْسِ، وهي المعلوماتُ؛ فمعنى الآيةِ: لو كُتِبَ عِلْمُ اللهِ بمِدَادِ البحرِ، لَنَفِدَ البحرُ، ولم يَنفَدْ علمُ الله، وكذلك: لو جِيءَ ببحرٍ آخَرَ مثلِهِ؛ وذلك لأنَّ البحرَ متناهٍ، وعلمُ اللهِ غيرُ متناهٍ)
(1)
.
قولُ ابنِ جُزَيٍّ رحمه الله: (إخبارٌ عن اتساعِ عِلْمِ الله تعالى
…
) إلخ:
هذا صريحٌ بتأويلِ كلامِ اللهِ بعِلْمِهِ؛ فالآيةُ عند المؤلِّفِ إخبارٌ عن سَعَةِ علمِ الله، لا عن دَوَامِ كَلَامِه، وقد بنى هذا التأويلَ على قولِ الأشاعرةِ في «كلامِ اللهِ»: بأنه معنًى نفسيٌّ غيرُ مسموعٍ منه؛ وذلك في قوله: (والكَلِماتُ: هي المعاني القائمةُ بالنَّفْسِ).
وهذا ظاهرٌ في أنَّ المؤلِّفَ يقرِّرُ القولَ بالمعنى النَّفْسيِّ.
(1)
«التسهيل» (3/ 58).
وقولُ الأشاعِرةِ في كلامِ اللهِ قولٌ باطِلٌ مناقِضٌ لدَلَالةِ العقلِ والشرع؛ فهو - عندهم - معنًى نفسيٌّ ليس بصوتٍ ولا حرفٍ، واحدٌ لا يتعدَّدُ، قديمٌ لا تتعلَّقُ به مشيئةُ اللهِ
(1)
.
وهذا خلافُ ما عليه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ مِنْ السلفِ ومَن تَبِعَهم؛ فكلامُ اللهِ - عند أهل السُّنَّة -: كلامٌ مسموع؛ كما سَمِعَ موسى كلامَ اللهِ مِنْ الله؛ أي: بلا واسطةٍ، وهو متعدِّدٌ، فهو حروفٌ وكلمات، وسُوَرٌ وآيات، وهو سبحانه يتكلَّمُ بما شاء، إذا شاء، كيفَ شاء، متى شاء؛ كما أخبَرَ أنه قالَ ويقول، ونادى وينادي؛ كما دلَّت على ذلك الآيات، والله أعلم
(2)
.
(1)
ينظر: «الإنصاف» للباقلاني (ص 80)، و «الإرشاد» للجويني (ص 102)، و «الاقتصاد» للغزالي (ص 67)، و «غاية المرام» للآمدي (ص 97)، و «المواقف» للإيجي (ص 293، 294)، و «مجموع الفتاوى» (12/ 120)، و «درء التعارض» (2/ 18)، و «التسعينية» (2/ 432 - 434)، و «شرح حديث النزول» (ص 169 - 170)، و «مختصر الصواعق» (4/ 1309).
(2)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (12/ 52) و (12/ 163 - 173) و (17/ 165 - 166)، و «منهاج السنة» (5/ 416)، و «درء التعارض» (2/ 255)، و «شرح الأصبهانية» (ص 453)، والنبوات (1/ 590)، و «التسعينية» (2/ 574)، و «مختصر الصواعق» (4/ 1314)، و «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (3/ 1253).
سورة طه
(69)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} [طه]؛ أي: تُرَبَّى ويُحْسَنُ إليك، بمَرْأًى منِّي وحِفْظٍ)
(1)
.
قولُهُ: (تُرَبَّى ويُحْسَنُ إليك):
هذا صحيح؛ وهو الذي يقتضيه السياق، وتدُلُّ عليه الجملة؛ فقوله:(تُرَبَّى)، هو معنى «تُصْنَع» .
وقولُهُ: (بمَرْأًى منِّي)، يدلُّ له قولُهُ تعالى:{عَلَى عَيْنِي (39)} ؛ فدلَّت الآيةُ على:
- إثباتِ العَيْنِ لله بلا كيفٍ؛ كما تفيدُهُ الإضافةُ
(2)
.
(1)
«التسهيل» (3/ 99).
(2)
ينظر: «الإبانة» للأشعري (ص 120)، و «نقض الدارمي» (1/ 304)، و «التوحيد» لابن خزيمة (1/ 96)، و «الجواب الصحيح» (4/ 413)، و «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 474)، و «مختصر الصواعق» (1/ 64 - 69).
- وعلى أنَّ اللهَ يَرَى؛ كما قال تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه].
وذِكْرُ الرؤيةِ يقتضي الحفظَ مِنْ كلِّ شَرّ.
ولم يتعرَّضِ المؤلِّف لإثباتِ العَيْنِ أو نَفْيِها؛ فلعلَّهُ آثَرَ الإمساكَ على طريقةِ أهلِ التفويضِ مِنْ النفاةِ لحقائقِ الصفات؛ وهو الغالِبُ عليه رحمه الله في هذا الكتاب؛ كما تقدَّم، والله أعلم.
(70)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)} [طه]: عبارةٌ عن الكرامةِ والتقريبِ؛ أي: استخلَصْتُكَ وجَعَلْتُكَ مَوضِعَ صنيعتي وإحساني)
(1)
.
قولُهُ في قولِهِ تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)} : (عبارةٌ عن الكرامةِ والتقريبِ
…
) إلخ: صحيحٌ.
وقولُهُ: (عبارةٌ)، أي: الاصطناعُ عبارةٌ عن الكرامةِ والتقريبِ؛ أي: معناه الكرامةُ والتقريبُ؛ ف {اصْطَنَعْتُكَ} - كما قال المؤلِّف -: (أي: استخلَصْتُكَ وجَعَلْتُكَ مَوضِعَ صنيعتي وإحساني).
وقولُهُ تعالى: {لِنَفْسِي} ؛ أي: جعلتُكَ مِنْ خاصَّتي؛ كقولِه تعالى عن المَلِكِ: {ائْتُونِي بِهِ} ؛ يعني: يُوسُفَ، {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف: 54].
(1)
«التسهيل» (3/ 101).
(71)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82]؛ المغفِرةُ لمن تابَ: حاصِلةٌ ولا بُدَّ، والمغفِرةُ للمؤمِنِ الذي لم يَتُبْ: في مشيئةِ اللهِ عند أهلِ السُّنَّة.
وقالت المعتزِلة: لا يُغفَرُ إلا لمن تاب)
(1)
.
قولُهُ: (المغفِرةُ لمن تابَ: حاصِلةٌ ولا بُدَّ
…
) إلخ:
صحيحٌ؛ لقوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم (53)} [الزمر]؛ وهذه الآيةُ لمن تاب، أمَّا مَنْ لم يَتُبْ، فما دُونَ الشركِ، فمغفرتُهُ مقيَّدةٌ بالمشيئة؛ لقوله تعالى:{إِنَّ اللّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48].
وقولُ المعتزِلة: «لا يُغفَرُ إلا لمن تاب» ، بَنَوْا عليه القولَ بتخليدِ أهلِ الكبائِرِ في النار.
(1)
«التسهيل» (3/ 110 - 111).
سورة الأنبياء
(72)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله: ({مَا يَأْتِيهِم مِنْ ذِكْرٍ مَنْ رَبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]؛ يعني بالذِّكْرِ: القرآنَ، و {مُّحْدَثٍ}؛ أي: محدَثَ النزولِ)
(1)
.
قولُهُ: (يعني بالذِّكْرِ: القرآنَ، و {مُّحْدَثٍ}؛ أي: محدَثَ النزولِ):
لا إشكالَ فيه؛ فالذِّكْرُ مِنْ أسماءِ القرآنِ؛ كما قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُون (50)} [الأنبياء].
وقولُهُ: (أي: محدَثَ النزولِ)، موافِقٌ لما نقَلَهُ ابنُ جريرٍ عن أهل التأويل؛ فإنه قال:«ما يُحدِثُ اللهُ مِنْ تنزيلِ شيءٍ مِنْ هذا القرآنِ للناسِ» ، وأسنَدَهُ إلى قتادةَ
(2)
.
وهذا موافِقٌ أيضًا لبعضِ أجوبةِ الإمامِ أحمَدَ رحمه الله؛ حِينَ احتجَّتِ المعتزِلةُ بهذه الآيةِ على أنَّ القرآنَ مخلوقٌ
(3)
، ومع هذا نقولُ: إنَّ ما
(1)
«التسهيل» (3/ 131).
(2)
«تفسير الطبري» (16/ 222).
(3)
ينظر: «البداية والنهاية» (14/ 385، 400 ط. دار هجر).
قاله ابن جرير مع جلالة قَدْرِهِ وقَدْر من نقل عنه، وهو قتادة: مُتضمِّنٌ لصرف الكلام عن ظاهره؛ ف «مُحْدَث» في الآية وصفٌ للذِّكرِ لا للإنزال. والله أعلم.
(73)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} [الأنبياء: 75]؛ أي: في الجَنَّة، أو في أهلِ رَحْمَتِنا)
(1)
.
كلٌّ مِنْ التفسيرَيْنِ صحيحٌ، وإنْ كان الأوَّلُ هو الجاريَ على الظاهِر.
ويدُلُّ لصحَّةِ التفسيرَيْنِ: قولُه تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر]، وقولُه:{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون (107)} [آل عمران]، وقولُه سبحانه عن سُلَيْمانَ عليه السلام:{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِين (19)} [النمل]، وقال اللهُ في الحديثِ القُدْسيِّ للجَنَّةِ:((أَنْتِ رَحْمَتِي؛ أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي))
(2)
. والله أعلم.
(1)
«التسهيل» (3/ 156).
(2)
أخرجه البخاري (4850)، ومسلم (2846)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
سورة الحج
(74)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج: 70]؛ يعني: اللَّوْحَ المحفوظَ، والإشارةُ ب {ذَلِكَ}: إلى معلوماتِ الله)
(1)
.
قولُهُ: (يعني: اللَّوْحَ المحفوظَ)، صحيحٌ، وكذلك قوله:(والإشارةُ ب {ذَلِكَ}: إلى معلوماتِ الله)، صحيحٌ أيضًا، ومعلوماتُ اللهِ المشارُ إليها هي ما تضمَّنه الاسمُ الموصولُ في قولِه تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ} [الحج: 70]؛ فكلُّ ما في السماءِ والأرضِ معلومٌ لله، ومكتوبٌ في أُمِّ الكتابِ اللوحِ المحفوظ.
والآيةُ دالَّةٌ على مرتبتَيْنِ مِنْ مراتبِ الإيمانِ بالقَدَرِ، وهما مرتبتا العِلْمِ والكتابةِ
(2)
، والله أعلم.
سورة المؤمنون
(75)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({أَحْسَنُ الْخَالِقِين (14)} [المؤمنون]؛ أي: أحسَنُ الخالِقِينَ خَلْقًا، فحُذِفَ التمييزُ؛ لدَلَالةِ الكلامِ عليه.
وفسَّر بعضُهم: {الْخَالِقِين} بالمقدِّرين؛ فرارًا مِنْ وصفِ المخلوقِ بأنه خالِقٌ؛ ولا يجبُ أن يُنفَى عن المخلوقِ: أنه خالِقٌ بمعنى صانعٍ؛ كقولِه: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ} [المائدة: 110]، وإنما الذي يجبُ أن يُنفَى عنه معنى الاختراعِ والإيجادِ مِنْ العدَمِ؛ فهذا هو الذي انفرَدَ اللهُ به)
(1)
.
الخلقُ - في اللغةِ - يأتي بمعنى: الإيجادِ بعدَ عَدَمٍ، ويأتي بمعنى: التقديرِ
(2)
؛ ومنه قولُ زُهَيْرِ بن أبي سُلْمَى
(3)
:
(1)
«التسهيل» (3/ 231 - 232).
(2)
ينظر: «لسان العرب» (10/ 85).
(3)
مِنْ قصيدةٍ له يَمدَحُ بها هَرِمَ بنَ سِنَان. انظر: «ديوانه» صنعة الأَعْلَم (ص 119 ط. قباوة).
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ
ضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
وقد جاء المعنيانِ في القرآنِ فيما يضاف إلى الله، ولكن المعنى الأوَّل هو الأكثر، وشواهِدُهُ بتصاريفِ مادَّتِهِ لا تُحصَر:
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [ق: 38]، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الأنبياء: 33]، {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37]، {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّار (14)} [الرحمن]، {خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1].
ومِن الخَلْقِ بمعنى التقديرِ: قولُهُ تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ} [الحشر: 24]؛ فالخالقُ: هو المقدِّرُ لما يريدُ إيجادَهُ، والبارئُ: هو المُخرِجُ لِمَا قدَّره إلى الوجودِ.
ويَحتمِلُ المعنيَيْنِ قولُهُ تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين (14)} [المؤمنون].
ولم يأتِ في القرآنِ «الخَلْقُ» مضافًا إلى غيرِ الله؛ إلا ما جاء في الخبَرِ عن عيسى عليه السلام: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، والأظهَرُ: أنَّ الخَلْقَ هنا بمعنى التقديرِ؛ فهو عليه السلام لا يُوجِدُ طيرًا، وإنما يَخلُقُ ما هو كهَيْئةِ الطَّيْرِ؛ فينفُخُ فيه؛ فيكونُ طَيْرًا بإذنِ الله.
وبهذا يُعلَمُ: أنه لم يأتِ «الخَلْقُ» بمعنى الإيجادِ في القرآنِ مضافًا لغيرِ اللهِ مطلَقًا، ولا يُستعمَلُ في لسانِ المسلِمِينَ إضافةُ الخَلْقِ لغيرِ
الله، بل نفَى سبحانه وتعالى «الخَلْقَ» عن كلِّ ما يعبُدُهُ المشرِكُونَ:{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُون (191)} [الأعراف]، {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُون (17)} [النحل]، حتى ما يَنحَتُهُ المشرِكونَ مِنْ الأصنامِ، أضاف اللهُ خَلْقَها إليه؛ قال تعالى:{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُون (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون (96)} [الصافَّات].
وعلى هذا: فلا يجوزُ إضافةُ مصنوعاتِ البشَرِ إلى صانعيها بلفظ «الخَلْق» ، بل اللهُ خالِقُها بالأسبابِ التي خلَقَها وقدَّرها.
وعلى هذا: فتعقُّبُ المؤلِّفِ لمن قال: «{أَحْسَنُ الْخَالِقِين (14)} [المؤمنون]: أحسَنُ المقدِّرِينَ» : ضعيفٌ.
وقول المؤلف: (مِنْ عدَمٍ)، الصوابُ أن يقول: بعدَ عَدمٍ، أو عنْ عدمٍ.
وعبارةُ المؤلِّف: (مِنْ عدَمٍ)، في قولِه:(وإنَّما الذي يجبُ أن يُنفَى عنه معنى الاختراعِ والإيجادِ مِنْ العدَمِ)
(1)
.
(1)
ينظر: «مسألة حدوث العالم» لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 41 - 42).
سورة النور
(76)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: 35]؛ «النُّورُ» : يُطلَقُ حقيقةً: على الضَّوْءِ الذي يُدرَكُ بالأبصارِ، ومجازًا: على المعاني التي تُدرَكُ بالقلوبِ، واللهُ ليس كمثلِهِ شيءٌ؛ فتأويلُ الآيةِ:
- اللهُ ذو نُورِ السماواتِ والأرضِ.
- أو وصَفَ نفسَهُ بأنه نُورٌ؛ كما تقولُ: «زيدٌ كَرَمٌ» : إذا أَرَدتَّ المبالَغةَ في أنه كريمٌ.
فإنْ أرادَ ب «النُّورِ» : المُدرَكَ بالأبصارِ:
فمعنى: {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} : أنه خلَقَ النُّورَ الذي فيهما؛ مِنْ الشمسِ والقمَرِ والنجوم، أو أنه خلَقَهُما وأخرَجَهُما مِنْ العدَمِ إلى الوجودِ
(1)
، فإنما ظهَرَتْ به كما تَظهَرُ الأشياءُ بالضوءِ.
(1)
تقدَّم الكلام على هذه العبارةِ: «مِنْ عدَم» ، و «عن عدَم» في التعليقِ السابق.
ومِن هذا المعنى: قرأ عليُّ بن أبي طالبٍ
(1)
: {اللَّهُ نَوَّرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} بفتحِ النونِ والواوِ والراءِ، وتشديدِ الواو؛ أي: جعَلَ فيهما النُّورَ.
وإنْ أرادَ ب «النُّورِ» : المُدرَكَ بالقلوبِ:
فمعنى: {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} : جاعِلُ النُّورِ في قلوبِ أهلِ السماواتِ والأرضِ؛ ولهذا قال ابن عبَّاس: معناه: «هادي أهلِ السماواتِ والأرضِ» )
(2)
.
قولُ المؤلِّف رحمه الله: ({اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ؛ «النُّورُ» : يُطلَقُ حقيقةً: على الضَّوْءِ الذي يُدرَكُ بالأبصارِ، ومجازًا: على المعاني التي تُدرَكُ بالقلوبِ
…
)، إلخ:
النُّورُ نوعانِ: مخلوقٌ، وغيرُ مخلوقٍ هو صفةُ اللهِ تعالى
(3)
؛ قال ابن القيِّم رحمه الله
(4)
:
وَالنُّورُ ذُو نَوْعَيْنِ مَخْلُوقٌ وَوَصْ
فٌ مَا هُمَا وَاللهِ مُتَّحِدَانِ
(1)
وقرأ بها غيرُهُ أيضًا. انظر: «تفسير ابن عطية» (6/ 385 ط. وزارة الأوقاف قطر)، و «تفسير أبي حيان» (8/ 42 ط. دار الفكر)، و «الدر المصون» (8/ 403 ط. الخراط)، و «معجم القراءات» (6/ 264).
(2)
«التسهيل» (3/ 298 - 299).
(3)
ينظر: «بيان تلبيس الجهمية» (8/ 66)، و «مجموع الفتاوى» (6/ 374 - 396)، و «مختصر الصواعق» (3/ 1024)، و «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 18 ط. المجمع).
(4)
في «الكافية الشافية» (1/ 736 رقم 3375 - 3376 ط. المجمع).
وَكَذَلِكَ المَخْلُوقُ ذُو نَوْعَيْنِ مَحْ
سُوسٌ وَمَعْقُولٌ هُمَا شَيْئَانِ
وعلى ذلك: فما ذكره المؤلِّف من أن النُّور نوعان: حسيٌّ ومعنويٌّ؛ هو صحيحٌ ومعلوم؛ وهما نَوْعَا النُّورِ المخلوقِ؛ كما سبَقَ في كلامِ ابنِ القيِّم، وهذا يقتضي أنَّ معنى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ؛ أي: مُنوِّرُهما بالنُّورِ الحِسِّيِّ والمعنويِّ
(1)
:
بالنُّورِ الحسيِّ؛ وهو: ما خلَقَهُ فيهما مِنْ الأنوار؛ كالشمسِ والقمرِ والنجوم.
وبالنُّورِ المعنويِّ؛ وهو: هُدَاهُ الذي يجعَلُهُ في قلوبِ أنبيائِهِ وأوليائِهِ وملائكتِه.
هذا؛ وقد سمَّى الله وَحْيَهُ الذي بعَثَ به رسلَهُ: نُورًا وهدًى؛ قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [التغابن: 8]، وقال في الوحيِ:{وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، ونظائرُ هذا متعدِّدة؛ وهذا معنى ما جاء عن ابن عبَّاس؛ قال:«{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}؛ أي: هادي أهلِ السماواتِ والأرضِ» ؛ كما ذكَرَهُ المؤلِّف رحمه الله
(2)
.
(1)
وقد قُرئ شاذًّا: {اللَّهُ مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وقيل: هذا ورَدَ تفسيرًا عن الحسَن والضَّحَّاك. انظر: «تفسير البيضاوي» (4/ 107)، و «تفسير أبي حيَّان» (8/ 42)، و «الدر المصون» (8/ 403)، و «معجم القراءات» (6/ 264).
(2)
وقد أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (8/ 2593)، عن ابن عبَّاس. وانظر:«الدر المنثور» (11/ 60 - 61).
وقد جاء في السُّنَّةِ نظيرُ ما في آيةِ النور؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((وَلَكَ الحَمْدُ؛ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ))
(1)
.
وإذا كان اللهُ مُنوِّرَ السماواتِ والأرضِ، والنُّورُ كمالٌ، فهو أحقُّ أن يكونَ النُّورُ صفةً له؛ إذْ كلُّ كمالٍ ثبَتَ للمخلوقِ لا نقصَ فيه، فالخالقُ أولى به، ومُعطِي الكمالِ أحقُّ به.
ولكنْ لم يثبُتْ أنَّ «النُّورَ» اسمٌ مِنْ أسمائِهِ تعالى؛ بَلِ الاسمُ الذي نطَقَ به الكتابُ والسُّنَّةِ: {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ؛ فيُدعَى بهذا الاسمِ؛ كما دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا قولُ المؤلِّف: (أو وصَفَ نفسَهُ بأنه نُورٌ):
فهذا لا يَصِحُّ؛ لأنَّ لفظَ النُّورِ في الآيةِ مقيَّدٌ بالإضافةِ إلى السماواتِ والأرضِ؛ فلم يقُلْ تعالى: «اللهُ نُورٌ» ، بل قال:{نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، وتقدَّم معنى: نُورِ السماواتِ والأرضِ.
وهذا الاسمُ: «نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ» ، نظيرُ:«رَبِّ السَّمَاوَاتِ والأرضِ» ، و «قَيُّومِ السماواتِ والأرضِ» ، لكنْ «قيُّوم» جاء في القرآنِ معرَّفًا غيرَ مضاف، وفي السُّنَّةِ جاء مضافًا وغيرَ مضاف، والله أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (1120)، ومسلم (769)؛ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(77)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ} [النور: 39]، ضميرُ الفاعلِ في «وَجَدَ»: للكافر، والضميرُ في «عندَهُ»: لعمَلِهِ، والمعنى: وجَدَ اللهَ عندَهُ بالجزاءِ، أو وجَدَ زَبَانِيَةَ اللهِ)
(1)
.
قولُ المؤلِّفِ رحمه الله: (وجَدَ اللهَ عندَهُ بالجزاءِ)؛ أي: وجَدَ جزاءَ عمَلِهِ الذي أعدَّه اللهُ له:
هذا معنًى صحيحٌ؛ ولا يمنعُ أنْ يكونَ مِنْ معنى الآيةِ: أنَّ الكافرَ يَجِدُ اللهَ يومَ القيامةِ؛ أي: يَلْقَاهُ، فيوبِّخُهُ على كُفْرِه؛ كما قال تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُون (30)} [الأنعام]، ولكن المؤلف لا يقرُّ هذه العنديةَ المتضمنةَ للقاء اللهِ؛ لأنَّ من ينفي العلوَّ، ويقول بأن الله في كلِّ مكانٍ لا يكون بعضُ المخلوقاتِ عندَه أو أقربَ إليه من بعضٍ، وهو ما يقتضيه مذهب المؤلف، كما تقدم في مواضع. والله أعلم.
(1)
«التسهيل» (3/ 305 - 306).
سورة الفرقان
(78)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا} [الفرقان: 23]؛ أي: قصَدْنا إلى أعمالِهم؛ فلفظُ القدومِ مجازٌ، وقيل: هو قدومُ الملائكةِ، أسنَدَهُ اللهُ إلى نفسِهِ؛ لأنه عن أمرِهِ)
(1)
.
قولُ المؤلِّفِ رحمه الله: (قصَدْنا إلى أعمالِهم؛ فلفظُ القدومِ مجازٌ):
قولُهُ: ({وَقَدِمْنَا
…
} أي: قصَدْنا)، هو معنى ما جاء عن السلف؛ إذْ قالوا في تفسيرِ الآية: قَدِمْنا؛ أي: عَمَدْنا
(2)
، والمقتضِي لهذا التفسيرِ هو تعدِيَةُ الفعلِ ب «إلى»؛ ف «قَدِمَ» مضمَّنٌ معنى: قصَدَ أو عمَدَ، والفعلُ المضمَّنُ لمعنَى فعلٍ آخَرَ يفيدُ معنى الفعلَيْنِ؛ كما هو معلومٌ؛ وعليه: فقولُهُ تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا} ، يفيد معنى «قَدِمَ» ، الذي فيه معنى: أَتَى، أو جاءَ، وفيه معنى: عمَدَ أو قصَدَ.
(1)
«التسهيل» (3/ 333).
(2)
ينظر: «تفسير الطبري» (17/ 430).
وعلى هذا: فليس في الآيةِ مجازٌ، بل في الآيةِ تضمينُ الفعلِ معنى فعلٍ آخَرَ؛ كما تقدَّم.
وعُلِمَ مما تقدَّم: أنه يُمكِنُ أن يُستدَلَّ بالآيةِ على إثباتِ المجيءِ لله، لكنَّ إضافةَ الفعلِ إلى صيغةِ الجمعِ تفيدُ مجيءَ الملائكةِ أيضًا؛ كما جاء الخبَرُ عن الأمرَيْنِ - مجيءِ اللهِ، ومجيءِ ملائكتِهِ - في غيرِ موضع؛ كما قال تعالى:{وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر]، وقال:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة: 210].
ولهذا يشيرُ قولُ المؤلِّف: (وقيل: هو قدومُ الملائكةِ)؛ أي: مجيئُهم، والقائلُ بذلك الأشبَهُ أنه مِنْ نفاةِ الصفاتِ الفعليَّةِ عن الله؛ كالمجيءِ والإتيانِ.
والحقُّ: أنه تعالى يجيءُ كما يشاءُ؛ كما أخبَرَ عن نفسِهِ في عددٍ مِنْ الآيات
(1)
، والأظهَرُ: أنَّ منها هذه الآيةَ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} [الفرقان: 23].
(1)
ينظر: «مختصر الصواعق» (3/ 856).
سورة الشعراء
(79)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في قولِه تعالى: {كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُون (15)} [الشعراء]:
({مُّسْتَمِعُون}، لفظُهُ جمعٌ، وورَدَ مَورِدَ تعظيمِ اللهِ تعالى، ويَحتمِلُ: أنْ تكونَ الملائكةُ هي التي تَستمِعُ بأمرِ الله؛ لأنَّ اللهَ لا يُوصَفُ بالاستماعِ، وإنما يُوصَفُ بالسمعِ؛ والأوَّل أحسَن، وتأويلُهُ: أنَّ في الاستماعِ اعتناءً واهتمامًا بالأمرِ، ليست في صيغةِ «سَامِعُونَ»)
(1)
.
قولُه: (ورَدَ مَورِدَ تعظيمِ الله)؛ معناه: أنَّ اللهَ ذكَرَ نفسَهُ بصيغةِ الجمعِ وهو واحدٌ؛ للدَّلَالةِ على عظمتِهِ تعالى، وهذا معنًى صحيحٌ؛ فإنه تعالى:
- يذكُرُ نَفْسَهُ بصيغةِ المفرَدِ، مُظهَرًا أو مُضمَرًا؛ للدَّلَالةِ على التوحيدِ.
(1)
«التسهيل» (3/ 358 - 359).
- ويذكُرُ نَفْسَهُ بصيغةِ الجمعِ، مُظهَرًا أو مُضمَرًا؛ للدَّلَالةِ على عظمتِهِ؛ لكثرةِ أسمائِهِ وصفاتِهِ، وكثرةِ عبيدِهِ وجنودِهِ، وشواهدُ هذا في القرآن كثيرةٌ؛ كما في هذه الآية:{إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُون (15)} [الشعراء]، وكقولِه تعالى:{وَإِنَّا لَمُوسِعُون (47)} [الذاريات]، وقولِه:{فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)} [الذاريات]، وقولِه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون (9)} [الحجر]، وقولِه تبارَكَ اسمُه:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح]، وقولِه:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71].
وقد يراد بهذه الصيغةِ الملائكةُ؛ كقولِه تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَه (18)} [القيامة]، فالمرادُ: قراءةُ جبريلَ، وقولِه سبحانه:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد (16)} [ق]، والمرادُ: قربُ الملائكةِ الحافِظِينَ الكاتِبِينَ لعمَلِ العبدِ.
وقد تدُلُّ هذه الصيغةُ على الأمرَيْنِ معًا: على التعظيمِ، وعلى إرادةِ الملائكة، ومِن ذلك هذه الآيةُ:{إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُون (15)} [الشعراء]؛ فاللهُ يَستمِعُ، والملائكةُ يَستمِعُونَ؛ كما قال:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه]، وقال سبحانه:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون (80)} [الزخرف].
وقولُ المؤلِّفِ: (إنَّ اللهَ لا يُوصَفُ بالاستماعِ، وإنَّما يُوصَفُ بالسمعِ):
هذا غَلَطٌ منه رحمه الله؛ منشؤُهُ نفيُ الأفعالِ الاختياريَّةِ عن الله
(1)
، وهي التي تكونُ بمشيئتِهِ تعالى، وهو المعروفُ مِنْ مذهبِ الأشاعرة؛ كيف وقد أخبَرَ تعالى عن نفسِهِ في هذه الآيةِ بصيغةِ الجمعِ بأنه مُستمِعٌ؟!
(1)
ينظر: هامش التعليق رقم (11).
ويَشهَدُ لذلك: ما جاء في السُّنَّةِ، وهو قولُهُ صلى الله عليه وسلم:((مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ كَأَذَنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالقُرْآنِ، يَجْهَرُ بِهِ))
(1)
، وقولُهُ:((مَا أَذِنَ))؛ أي: ما استمَعَ، والأَذَنُ - بالتحريك - الاستماعُ
(2)
؛ فالاستماعُ فِعْلٌ مِنْ اللهِ يكونُ بمشيئتِهِ؛ فهو تعالى يَسمَعُ جميعَ الأصوات، ويَستمِعُ لما شاء منها
(3)
، ومِن ذلك: ما جاء في الآيةِ والحديثِ؛ فالاستماعُ أخصُّ مِنْ السماع؛ فكلُّ استماعٍ متضمِّنٌ للسماع، دون العَكْس، والله أعلم.
(1)
أخرجه مسلم (793)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
ينظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 33).
(3)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (13/ 133).
سورة النمل
(80)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في قولِهِ تعالى: {فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (8)} [النمل]:
({وَسُبْحَانَ اللَّهِ} [النمل: 8]، يَحتمِلُ: أن يكونَ مما قيل في النداءِ لموسى عليه السلام، أو يكونَ مستأنَفًا؛ وعلى كلا الوجهَيْنِ: قُصِدَ به تنزيهُ اللهِ مما عسى أن يخطُرَ ببالِ السامعِ في معنى النداءِ، وفي قولِه: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [النمل: 8]؛ إذْ قال بعضُ الناسِ فيه ما يجبُ تنزيهُ اللهِ عنه)
(1)
.
قولُ المؤلِّفِ رحمه الله: ({وَسُبْحَانَ اللَّهِ} [النمل: 8]، يَحتمِلُ أن يكونَ مما قيل في النداءِ لموسى عليه السلام
…
) إلخ:
الأظهَرُ: أنَّ ذلك مِنْ جملةِ ما قِيلَ لموسى عليه السلام في النداءِ، وهو مع ذلك دالٌّ على تنزيهِ اللهِ عن كلِّ نقص، والتنزيهُ هو مدلولُ الكلمةِ في كلِّ مواردها، وفي هذا تعليمٌ لموسى عليه السلام ما يستحِقُّهُ الربُّ مِنْ التنزيه؛ كما
(1)
«التسهيل» (3/ 389).
علَّمه تعالى ما يستحِقُّهُ من الإلهيَّة والربوبيَّة والتنزيه عن الشركِ في قولِه: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه]، وقولِه:{إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين (30)} [القصص].
وأمَّا قولُ المؤلِّفِ: (أو يكونَ مستأنَفًا؛ وعلى كلا الوجهَيْنِ: قُصِدَ به تنزيهُ اللهِ):
فهذا القَدْرُ مِنْ عبارتِهِ صحيحٌ، ولا إشكالَ فيه؛ ولكنه - عفا الله عنه - قيَّد التنزيهَ بقولِه: (مما عسى أن يخطُرَ ببالِ السامعِ في معنى النداءِ
…
)، إلخ، وقد أجمَلَ وأبهَمَ ما عسى أن يخطُرَ ببالِ السامعِ مِنْ معنى النداءِ، وكذا لم يوضِّحْ ما قاله بعضُ الناسِ في الآيةِ مما يجبُ تنزيهُ اللهِ عنه.
ولهذا صار كلامُهُ غامضًا لا يفيدُ السامعَ معنى محدَّدًا، ولا يَفهَمُ مرادَهُ إلا مَنْ يَعرِفُ مذهبَهُ في كلامِ الله.
وإذْ قد عُلِمَ مما تقدَّم: أنَّ المؤلِّفَ على طريقةِ الأشاعرةِ، ومذهبُ الأشاعرةِ في كلامِ اللهِ: أنه معنًى نفسيٌّ قديمٌ، ليس بصوتٍ ولا حرفٍ، ولا يكونُ بمشيئتِهِ
(1)
-: فالذي يَحذَرُهُ المؤلِّفُ: أن يُفهَمَ مِنْ لفظِ النداءِ: أنَّ كلامَهُ تعالى بصوتٍ؛ لأنَّ النداءَ: هو الخطابُ بصوتٍ رفيعٍ مسموعٍ، ومذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ: أنَّ كلامَ اللهِ يكونُ بصوتٍ، مناداةً ومناجاةً؛ فاللهُ نادى موسى وناجاه
(2)
.
(1)
ينظر: هامش التعليق رقم (68).
(2)
ينظر: هامش التعليق رقم (68).
وأمَّا قولُهُ: (قال بعضُ الناسِ فيه ما يجبُ تنزيهُ اللهِ عنه)، فلعلَّه يريدُ قولَ مَنْ قال:«المرادُ ب {مَنْ فِي النَّارِ}: هو اللهُ» ؛ وهذا القولُ يَستعظِمُهُ مَنْ لم يَعرِفْ مرادَ مَنْ قال ذلك مِنْ السلفِ؛ فقد جاء عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: {أَنْ بُورِكَ} : أنْ قُدِّسَ، وأنَّ النارَ هي نُورٌ
(1)
، وبمعرِفةِ ذلك يزولُ الإشكال
(2)
.
(1)
ينظر: «تفسير الطبري» (18/ 10).
(2)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (5/ 460 - 464).
(81)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسيرِ قولِه تعالى: {قُلْ لاَّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النمل: 65]:
(فإنْ قيل: كيف قال: {إِلاَّ اللَّهُ} بالرفعِ على البدَلِ، والبدلُ لا يصحُّ إلا إذا كان الاستثناءُ متصِلًا، ويكونُ ما بعد «إلَّا» مِنْ جنسِ ما قبلَها؛ واللهُ تعالى ليس ممَّن في السماواتِ والأرضِ باتفاقٍ:
فإنَّ القائلين بالجهةِ والمكانِ يقولون: «إنه فوقَ السماواتِ والأرضِ» .
والقائلين بنفيِ الجهةِ يقولون: «إنه تعالى ليس فيهما، ولا فوقَهما، ولا داخلًا فيهما، ولا خارجًا عنهما» .
فهو - على هذا - استثناءٌ منقطِعٌ؛ فكان يجبُ أن يكونَ منصوبًا؟
فالجوابُ مِنْ أربعةِ أوجُه:
الأوَّل: أنَّ البدَلَ هنا جاء على لغةِ بني تميمٍ في البدَلِ، وإنْ كان منقطِعًا؛ كقولهم:«ما في الدارِ أحدٌ إلا حِمَارٌ» بالرفعِ، والحمارُ ليس مِنْ الأَحَدِينَ.
وهذا ضعيف؛ لأنَّ القرآنَ نزَلَ بلغةِ أهلِ الحجازِ، لا بلغةِ بني تَمِيم.
والثاني: أنَّ اللهَ في السماواتِ والأرضِ بعلمِهِ؛ كما قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4]؛ يعني: بعِلْمِه؛ فجاء البدَلُ على هذا المعنى.
وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قولَه: {فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، وقَعَتْ فيه لفظةُ «في» الظرفيَّة الحقيقيَّة وهي في حقِّ اللهِ على هذا المعنى للظرفيَّةِ المجازيَّةِ، ولا يجوزُ استعمالُ لفظةٍ واحدةٍ في الحقيقةِ والمجازِ في حالةٍ واحدةٍ عند المحقِّقين.
الجوابُ الثالث: أنَّ قولَه: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، يرادُ به: كلُّ موجودٍ؛ فكأنه قال: مَنْ في الوجودِ؛ فيكونُ الاستثناءُ على هذا متصِلًا، فيَصِحُّ الرفعُ على البدَلِ.
وإنما قال: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ؛ جَرْيًا على منهاجِ كلامِ العرَب؛ فهو لفظٌ خاصُّ يرادُ به ما هو أعَمُّ منه.
الجوابُ الرابع: أن يكونَ الاستثناءُ متصِلًا على أن يُتأوَّلَ: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} في حقِّ الله؛ كما يُتأوَّلُ قولُه: {أَأَمِنتُم مَنْ فِي السَّمَاء} [الملك: 16]، وحديثُ السوداءِ، وشبهُ ذلك)
(1)
.
قولُ المؤلِّفِ رحمه الله: (واللهُ تعالى ليس ممَّن في السماواتِ والأرضِ باتفاقٍ
…
)، إلخ:
بنى المؤلِّف على قولِه: (إنَّ الله تعالى ليس ممَّن في السماواتِ والأرضِ باتفاقٍ): أنَّ الاستثناءَ في قولِه تعالى: {إِلاَّ اللَّهُ} منقطِع، وهو يقتضي نصبَ الاسمِ الشريف، والقراءةُ بالرفعِ، وذكَرَ عن هذا الإشكال
(1)
«التسهيل» (3/ 411 - 412).
أربعةَ أجوبة، وليس مقصودُنا في هذه التعليقاتِ التعقُّباتِ اللغويَّة، بل التعقُّباتِ العقديَّة
(1)
.
والذي يُهِمُّنا هنا قولُه: (واللهُ تعالى ليس ممَّن في السماواتِ والأرضِ باتفاقٍ)؛ يريد: باتفاقِ المثبِتِينَ للعلوِّ والنافِينَ له، وهم مَنْ عبَّر عنهم بالمثبتينَ للجِهَةِ والنافِين؛ فإنَّهم جميعًا يقولون: إنه تعالى ليس داخِلَ العالَم:
فالمُثبِتون للعلوِّ يقولون: «إنه تعالى فوقَ العالَمِ على العرش» .
ونفاةُ العلوِّ يقولون: «إنه تعالى لا داخِلَ العالَمِ ولا خارِجَ العالَمِ» ؛ وهم مَنْ عبَّر عنهم بنفاةِ الجهة؛ يقول: «والقائلون بنفيِ الجهةِ يقولون: إنه تعالى ليس فيهما، ولا فوقَهما، ولا داخلًا فيهما، ولا خارجًا عنهما» .
فعلى كلا القولَيْنِ: فاللهُ ليس في السماءِ ولا في الأرضِ؛ وهذا معنى قولِه: (باتفاق).
والحقُّ: أنه تعالى فوقَ سماواتِهِ على عرشِهِ؛ وهو ما دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةِ، والعقلُ والفِطْرة، ويقابِلُ ذلك قولانِ باطلان
(2)
.
(1)
لكنَّ قوله في الجواب الأوَّل مِنْ الأجوبة الأربعة: «إنَّ القرآن نزَلَ بلغة أهل الحجاز، لا بلغة بني تَمِيم» ، لا يسلَّم له على الإطلاق، بل هذا باعتبارِ الأغلَب، ومما جاء في القرآن على لغة تَمِيم: إدغامُ المضعَّف المجزوم؛ في نحوِ قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ} [الحشر: 4]، كما نقله السيوطي في «الإتقان» عن ابن مالك، وعلى لغة تَمِيم أيضًا قولُهُ تعالى:{فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} [الفرقان: 5]؛ مِنْ أَمْلَى، لا مِنْ أَمْلَلَ؛ كما في «التفسير البسيط» للواحديِّ وغيره.
(2)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (5/ 267 - 309).
أحدُهما: أنه تعالى داخلٌ في المخلوقات؛ أي: أنَّه تعالى حالٌّ فيها؛ فهو في كلِّ مكان؛ وهذا قولُ حلوليَّةِ الجهميَّة.
الثاني: أنه تعالى لا داخِلَ العالَمِ ولا خارِجَهُ؛ وهو قولُ معطِّلةِ الجهميَّةِ ونفاتِهِمْ؛ وقد ذكره المؤلِّفُ عن نفاةِ الجهة.
وكلا القولين باطل، والثاني أبطل؛ فإنه مع مناقضتِهِ للسمعِ، مناقِضٌ للعقلِ أظهَرَ مناقضة؛ فإنَّ مِنْ الممتنِعِ أن يكونَ موجودٌ لا داخِلَ العالَمِ ولا خارجَه؛ فإنَّ ذلك مِنْ سَلْبِ النقيضَيْنِ الذي لا يصحُّ إلا في المعدومِ، فإذا أُضِيفَ إلى ذلك: أنه موجودٌ، تضمَّن أنه موجودٌ معدومٌ؛ وهذا جمعٌ بين النقيضَيْنِ، الذي هو أحدُ الممتنِعاتِ المُتَّفَقِ عليها، والقولُ بنفيِ الجهةِ وما تفرَّع عنه هو المشهورُ مِنْ مذهبِ الأشاعِرة
(1)
.
(1)
ينظر هامش التعليق رقم (39).
(82)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً} [النمل: 82]؛ أي: إذا حان وقتُ عَذَابِهم، الذي تضمَّنه القولُ الأزليُّ مِنْ اللهِ في ذلك، وهو قضاؤُه)
(1)
.
قولُ المؤلِّفِ رحمه الله: (إذا حان وقتُ عَذَابِهم
…
)، إلخ:
في تفسيرِ وقوعِ القولِ بقربِ وقتِ العذابِ نظرٌ؛ والأظهَرُ أنَّ قولَه: {وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} }؛ أي: حَقَّ القولُ عليهم
(2)
، وهو حكمُ اللهِ بأنهم لا يُؤمِنون؛ كما قال تعالى:{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُون (7)} [يس].
ولا ريبَ أنَّ ما حَقَّ عليهم مِنْ القولِ بأنهم لا يُؤمِنون هي كلمتُهُ تعالى القدريَّة؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُون (96) وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس]، وقال:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِين (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُون (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُون (173)} [الصافات].
فمعنى: {وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} ؛ أي: وقَعَ عليهم مُوجَبُ كلمتِهِ تعالى السابقةِ في الحكمِ: بأنَّهم لا يُؤمِنون.
(1)
«التسهيل» (3/ 416).
(2)
ينظر: «تفسير الطبري» (18/ 119).
فهذه كلماتُهُ الكونيَّةُ سبَقَتْ لقومٍ في الشقاوةِ، ولقومٍ بالسعادةِ؛ كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُون (101)} [الأنبياء]، وقال سبحانه:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِين (171)
…
} الآيتَيْنِ [الصافَّات].
وقولُ المؤلِّف: (القولُ الأَزَلِيُّ مِنْ الله)، الأزليُّ: هو الذي لا بدايةَ له؛ وهذا يجري على قولِ الأشاعرةِ: إنَّ كلامَ اللهِ قديمٌ بقِدَمِهِ سبحانه؛ لأنَّ كلامَ الله عندَهم لا تتعلَّقُ به المشيئة
(1)
، ولا ريبَ: أنَّ كلماتِهِ القَدَريَّةَ صادِرةٌ عن مشيئتِهِ تعالى، وما كان بمشيئةٍ يمتنِعُ أنْ يكون أزليًّا، وكلماتُهُ تعالى التي أخبَرَ أنها سبَقَتْ يَحتمِلُ أن تكون عند كتابةِ المقاديرِ في أمِّ الكتابِ، والله أعلم.
(1)
ينظر: هامش التعليق رقم (68).
سورة القصص
(83)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} [القصص: 62]؛ العاملُ في الظرفِ مُضمَرٌ، وفاعلُ «يُنادِي»: اللهُ تعالى، ويَحتمِلُ: أن يكونَ نداؤُهُ بواسطةٍ أو بغيرِ واسطةٍ)
(1)
.
قولُ المؤلِّفِ رحمه الله: (ويَحتمِلُ أن يكونَ نداؤُهُ بواسطةٍ أو بغيرِ واسطةٍ). أقول: في هذا الترُّدد نظرٌ؛ والصوابُ أنه ناداهم بغير واسطة، وذلك لوجهَيْن:
1 -
أنَّه إذا كان بغير واسطة كان حقيقة، وإذا كان بواسطة كان مجازًا، والأصل الحقيقة.
2 -
أنَّ تكليمَه تعالى أو نداءَه لمن شاء بلا واسطةٍ مُمكنٌ، ليس بمُمتَنع؛ بدليل أن الله تعالى كلَّم موسى بلا واسطة، فقال:{وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء] فأكَّد الفعلَ بالمصدر للدلالة على
(1)
«التسهيل» (3/ 447).
الحقيقة. وأيضًا: لو أراد أنَّه كلَّمه بواسطة لقيَّد ذلك، مثل: كلَّمه بأن أرسل رسولًا. ويُؤيِّد ذلك، أن تكليم موسى بواسطةٍ ينافي اختصاصَ موسى بالتَّكليم، فكلُّ الرُّسُل كلَّمهم الله بواسطة الرسول من الملائكة. والله أعلم.
(84)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68]؛ «ما» : نافيةٌ، والمعنى: ما كان للعبادِ اختيارٌ؛ إنما الاختيارُ والإرادةُ لله وحدَهُ؛ فالوقفُ على قولِه: {وَيَخْتَارُ} [القصص: 68].
وقيل: إنَّ «ما» : مفعولةٌ ب «يَخْتَارُ» ، ومعنى {الْخِيَرَةُ} على هذا: الخَيْرُ والمصلَحةُ.
وهذا يجري على قول المعتزِلة، وذلك ضعيف؛ لرفعِ {الْخِيَرَةُ} ؛ على أنها اسمُ «كان» ، ولو كانتْ «ما» مفعولةً، لكان اسمُ «كان» مُضمَرًا يعودُ على «ما» ، وكانت «الخِيَرَةُ» منصوبةً على أنها خبَرُ «كان» .
وقد اعتذَرَ عن هذا مَنْ قال: إنَّ «ما» مفعولةٌ؛ بأنْ قال: تقديرُ الكلام: «يختارُ ما كان لهم الخِيَرَةُ فيه» ، ثُمَّ حُذِفَ الجارُّ والمجرور؛ وهذا ضعيف)
(1)
.
قولُ المؤلِّفِ رحمه الله: («ما» : نافيةٌ، والمعنى: ما كان للعبادِ اختيارٌ
…
)، إلخ:
(1)
«التسهيل» (3/ 449 - 450).
أصاب المؤلِّف في ترجيحِ أنَّ «ما» نافيةٌ، وفي تضعيفِ القولِ بأنها موصولةٌ.
وما أورَدَهُ على القولِ الثاني مِنْ جهةِ إعرابِ: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} ، صحيحٌ أيضًا، وكذا ما يَرِدُ عليه مِنْ جهةِ المعنى، وهو أنه يَلزَمُ أن يكونَ المعنى: يَخْتارُ ما فيه الخِيَرَةُ للعبادِ؛ وبهذا تمسَّك بعضُ المعتزِلةِ في قولهم بوجوبِ فعلِ الأصلَحِ على الله؛ كما أشار إليه المؤلِّف.
وقد اختار القولَ الأوَّلَ كثيرٌ من المفسِّرين؛ وهو الصواب، وقد رجَّحه ابنُ القيِّمِ مِنْ وجوهٍ؛ فانظُرْها في «زاد المعاد»
(1)
، والله أعلم.
(1)
«زاد المعاد» (1/ 39 - 42).
سورة الروم
(85)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]؛ أي: الإعادةُ يومَ القيامةِ أهوَنُ عليه مِنْ الخِلْقةِ الأُولى؛ وهذا تقريبٌ لفهمِ السامعِ، وتحقيقٌ للبعثِ؛ فإنَّ مَنْ صنَعَ صنعةً أوَّلَ مرَّةٍ، كانت أسهَلَ عليه ثانيَ مرَّة، ولكنَّ الأمورَ كلَّها متساوِيةٌ عند الله؛ فإنَّ كلَّ شيءٍ على اللهِ يسيرٌ)
(1)
.
قولُ المؤلِّفِ رحمه الله: (هذا تقريبٌ لفهمِ السامعِ، وتحقيقٌ للبعثِ
…
)، إلخ:
يريدُ: أنَّ أفعَلَ التفضيلِ ليس على بابه؛ فلا يدل على أن الإعادة أيسرُ على اللهِ مِنْ البَدْءِ: «الخَلْقِ الأوَّلِ» ؛ لأنَّ قدرتَهُ تعالى على الأشياءِ واحدة، والأشياءُ بالنسبةِ لقدرتِهِ سواءٌ؛ فليس شيءٌ منها أيسَرَ على اللهِ مِنْ شيء، وإنما ذكَرَ أفعلَ التفضيلِ تقريبًا للمخاطَبِينَ؛ لأنَّ المستقِرَّ في عقولِهم أنَّ الإعادةَ أهوَنُ مِنْ البدءِ؛ وهذا توجيهٌ صحيح.
(1)
«التسهيل» (3/ 491).
وفي الآية: توجيهٌ آخَرُ صحيحٌ أيضًا؛ وهو أنَّ أفعَلَ التفضيلِ ليس على بابِهِ؛ أي: ليس المقصودُ منه المفاضَلةَ بين شيئَيْن، بل المرادُ إثباتُ الوصفِ؛ وعلى هذا: فقولُهُ تعالى: {أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ؛ أي: هَيِّنٌ عليه، فيكونُ مِنْ قبيلِ الصفةِ المشبَّهة؛ والله أعلم
(1)
.
(1)
ينظر: «تفسير الطبري» (18/ 485).
سورة لقمان
(86)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} الآيةَ [لقمان: 27]؛ إخبارٌ بكثرة كلمات الله، والمراد: اتساع علمه)
(1)
.
قوله: (والمراد اتساع علمه): هذا صريح في تأويل كلمات الله بعلم الله، وهذا خلاف مذهب أهل السنة والجماعة، وهو الفرق بين علم الله، وكلام الله؛ فعلم الله صفة ذاتية ثابتة للرَّب أزلًا وأبدًا، ولا تتعلق بها المشيئة، وأما الكلام فصفة فعلية تتعلق بها المشيئة، أي: إنه تعالى يتكلم بما شاء إذا شاء، وكلماته سبحانه لا تحصى، ولا نهاية لها، كما تدل عليه الآية المذكورة في سورة لقمان، وآية الكهف:{قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف]، والذي يبدو أن المؤلف ومن قال بقوله حملهم على هذا التأويل - الذي هو في الحقيقة تحريف - الفرارُ من إثبات
(1)
«التسهيل» (3/ 510).
التعدد في كلام الله؛ لأنه خلاف أصل الأشاعرة في كلام الله، وهو أنه معنى نفسي واحد، لا تعدد فيه، وهو خلاف ما دلَّ عليه القرآن في آيتي الكهف ولقمان، كما يفيده لفظ الجمع في {كَلِمَاتُ} ، وكما في قوله تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام: 115] بالجمع على إحدى القراءتين
(1)
.
إذا علم ما تقدم فالصواب أن الكلمات جمع كلمة، وكلمات الله كلُّها من كلامه، ومثل هذه الآيات من أدلة أهل السنة على إثبات كلام الله، وكما دل القرآن على التعدد في كلام الله فقد دلت السنة على ذلك في أحاديث عدة؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم:((أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق))
(2)
وما أشبهه، وقوله في التسبيح الذي رغب فيه صلى الله عليه وسلم:((ومداد كلماته))
(3)
،
(4)
.
(1)
ينظر: «السبعة في القراءات» (ص 266)، و «النشر في القراءات العشر» (2/ 262).
(2)
أخرجه بنحوه مسلم (2708) عن خولة بنت حكيم رضي الله عنها.
(3)
أخرجه مسلم (2726) عن جويرية رضي الله عنها.
(4)
ينظر: التعليق رقم (68).
سورة السجدة
(87)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُّوحِهِ} [السجدة: 9]، عبارةٌ عن إيجادِ الحياةِ فيه، وأُضِيفَتِ الرُّوحُ إلى اللهِ إضافةَ مِلْكٍ إلى مالكٍ، وقد يرادُ بها الاختصاصُ؛ لأنَّ الرُّوحَ لا يَعلَمُ كُنْهَهُ إلا اللهُ)
(1)
.
قولُ المؤلِّفِ رحمه الله: ({وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُّوحِهِ} [السجدة: 9]، عبارةٌ عن إيجادِ الحياةِ فيه
…
)، إلخ:
يريدُ المؤلِّفُ: أنَّ النفخَ في آدَمَ مِنْ الرُّوحِ عبارةٌ عن إيجادِ الحياةِ فيه، وهذا تأويلٌ للنَّفْخِ؛ فيَظهَرُ منه: أنه لا يُثبِتُ إضافةَ النفخِ إلى اللهِ؛ لأن من مذهبه نفيَ الأفعالِ الاختياريَّة عن الله تعالى.
ولا مُوجِبَ للعدولِ عن ظاهرِ القرآن؛ فاللهُ تعالى أضافَ نَفْخَ الرُّوحِ في آدَمَ إلى نفسِهِ المقدَّسةِ في ثلاثةِ مواضع:
(1)
«التسهيل» (3/ 517).
في سورةِ «الحِجْر» ؛ قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)} .
وقال في سورةِ «ص» : {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} .
وقال في «السَّجْدة» : {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُّوحِهِ} [السجدة: 9]؛ أي: الإنسانَ الذي بدَأَهُ مِنْ طِينٍ، وهو آدَمُ؛ كما في آيتي «الحِجْرِ» ، و «ص» .
وعليه: فالنفخُ مِنْ أفعالِ اللهِ تعالى التي تكونُ بمشيئتِهِ سبحانه؛ فهو تعالى ينفُخُ فيما شاء، ما شاء، كيف شاء، والله أعلم
(1)
.
(1)
ينظر: «الاختلاف في اللفظ» لابن قتيبة (ص 44)، و «الروح» لابن القيم (ص 154 - 156).
سورة سبأ
(88)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيب (50)} [سبأ]؛ يعني: قُرْبَهُ تعالى بعلمِهِ وإحاطتِهِ)
(1)
.
قولُهُ: (يعني: قُرْبَهُ تعالى بعلمِهِ وإحاطتِهِ)؛ معناه: إثباتُ القُرْبِ العامِّ؛ كالمعيَّةِ العامَّةِ المقتضيةِ للعلمِ، فيَؤُولُ المعنى إلى أنه تعالى قريبٌ مِنْ كلِّ أحدٍ، ومِن كلِّ شيءٍ، كما أنَّه مع كلِّ أحدٍ، بعلمِهِ وإحاطتِهِ.
وهذا الذي ذهَبَ إليه المؤلِّفُ مِنْ إثباتِ القُرْبِ العامِّ الراجعِ إلى العلمِ، هو المناسِبُ لمذهبِ متأخري الأشاعرةِ؛ فإنَّهم لا يُثبِتُونَ للهِ قُرْبًا خاصًّا مِنْ بعضِ العبادِ؛ كالملائكةِ الذين عندَهُ؛ فليس أحدٌ مِنْ العبادِ أقربَ إليه مِنْ أحد
(2)
؛ وذلك لقولِهم: «إنه تعالى في كلِّ مكانٍ أو لا داخل العالم ولا خارجه» ؛ كما تقدَّم ذكرُ ذلك عنهم، وسبَقَ التعليقُ
(1)
«التسهيل» (3/ 598).
(2)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (5/ 226 - 255).
عليه عند كلام المؤلِّف على قولِهِ تعالى: {قُلْ لاَّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النمل: 65]، والله أعلم
(1)
.
(1)
ينظر: التعليق رقم (81).
سورة فاطر
(89)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} الآية [فاطر: 10].
فيه ثلاثة أقوال:
والثالث: أن ضمير الفاعل: للعمل الصالح، وضمير المفعول: للكلم الطيب، والمعنى على هذا: أن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب، فلا يُقبل الكلمُ إلَّا ممن له عمل صالح.
روي هذا المعنى عن ابن عباس، واستبعده ابن عطية، وقال: لم يصح عنه؛ لأن اعتقاد أهل السنة أن الله يتقبَّل من كل مسلم، قال: وقد يستقيم بأن يُتأوَّل: أن الله يزيد في رفعه وحسن موقعه)
(1)
.
قوله: (فيه ثلاثة أقوال)، قال:(والثالث: أن ضمير الفاعل:) - أي: لفعل «يرفع» - (للعمل الصالح، وضمير المفعول: للكلم الطيب)،
(1)
التسهيل (3/ 605 - 606).
وهذا الذي شرحه المؤلف هو قول جمهور المفسرين، وهو المروي عن ابن عباس، كما ذكره المؤلف
(1)
، وذكر أن موجَب هذا أن الكلم الطيب لا يُقبل إلا ممَّن له عمل صالح، ونقل الاعتراض عليه عن ابن عطية؛ وعبارة ابن عطية في هذا:«هذا قول يرده معتقد أهل الحق والسنة، ولا يصح عن ابن عباس، والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله تعالى وقال كلامًا طيبًا؛ فإنه مكتوب له متقبل منه، وله حسناته وعليه سيئاته» اه
(2)
، وما قاله ابن عطية من معتقد أهل السنة أن الله يقبل العمل الصالح من العبد صحيح، ولكن في وروده على التفسير المشهور للآية نظر؛ فالله يقبل عمل العبد وإن كان عاصيًا ما اتقى الشرك، واتقى الله في عمله المعيَّن؛ لقوله تعالى:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِين (27)} [المائدة]
(3)
، وذكر المؤلف القولين الآخرين؛ أحدهما: أن ضمير الفاعل يعود إلى الله، فهو سبحانه الذي يرفع العمل الصالح ويقبله، والثاني: أن ضمير الفاعل يعود إلى الكلم، أي: الكلم يرفع العمل الصالح، وهذان القولان ضعيفان؛ إذْ مقتضاهما نصب العمل على الاشتغال، وهذا لم يُقرأ به إلا في بعض القراءات الشاذة
(4)
، وبهذا يترجح القول الأول المرويُّ عن السلف عن ابن عباس وغيره،
(1)
ينظر: «تفسير الطبري» (19/ 338 - 340)، و «زاد المسير» (3/ 507)، و «تفسير ابن كثير» (6/ 537).
(2)
ينظر: «المحرر الوجيز» (7/ 206).
(3)
ينظر: «الإيمان الأوسط» (ص 347)، «مجموع الفتاوى» (10/ 322)، (11/ 662)، و «منهاج السنة» (5/ 296)، (6/ 216). وينظر: التعليق رقم (45).
(4)
هي قراءة عيسى بن عمر وابن أبي عبلة. ينظر: «مختصر شواذ القراءات» لابن خالويه (ص 124)، و «شواذ القراءات للكرماني» (ص 394 - 395).
ويدفع عنه الاعتراض الذي أورده ابن عطية أن أجلَّ العمل الصالح الإيمانُ، كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: ((إيمان بالله ورسوله))
(1)
، ومعلوم أن من لا إيمان له لا يرتفع له عمل؛ فالإيمان شرط قبول العمل، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 124]، وقال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} [النحل: 97]، فالإيمان بالله ورسوله أجلُّ عمل يرتفع به الكلم الطيب وغيره من كل عمل صالح.
(1)
أخرجه البخاري (26)، ومسلم (83) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(90)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله عند تفسيرِ قولِه تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11]:
(فإنْ قيل: إنَّ التعميرَ والنقصَ لا يَجتمِعانِ لشخصٍ واحدٍ؛ فكيف أعاد الضميرَ في قولِه: {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} على الشخصِ المعمَّر؟
فالجوابُ مِنْ ثلاثةِ أوجُه:
الأوَّل - وهو الصحيحُ -: أنَّ المعنى: ما يُعمَّرُ مِنْ أحدٍ ولا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلا في كتابٍ؛ فوضَعَ {مِنْ مُّعَمَّرٍ} في موضعِ «مِنْ أَحَدٍ» ، وليس المرادُ شخصًا واحدًا، وإنما ذلك كقولِك:«لا يُعاقِبُ اللهُ عبدًا ولا يُثِيبُهُ إلا بحَقٍّ» .
والثاني: أنَّ المعنى: لا يزادُ في عُمُرِ إنسانٍ ولا يُنْقَصُ مِنْ عمرِهِ إلا في كتابٍ؛ وذلك أن يُكتَبَ في اللوحِ المحفوظِ: أنَّ فلانًا إنْ تصدَّقَ، فعمرُهُ سِتُّونَ سنةً، وإنْ لم يتصدَّقْ، فعمرُهُ أربعونَ؛ وهذا ظاهرُ قولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:((صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي العُمُرِ))
(1)
، إلَّا أنَّ ذلك مذهبُ
(1)
روي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وعن ابن مسعود، وعن أبي أمامة، وعن أبي سعيد، وعن أم سلمة، وعن عبد الله بن جعفر
…
وفي أسانيدها مقال وبعضها منكر، وقد صححه بعض العلماء بمجموع طرقه. ينظر:«البدر المنير» (7/ 407)، و «مجمع الزوائد» (3/ 115)، و «التلخيص الحبير» (3/ 247، رقم 1428)، و «المقاصد الحسنة» رقم (618)، و «السلسلة الصحيحة» (4/ 535، رقم 1908).
المعتزِلةِ القائلِينَ بالأَجَلَيْنِ، وليس مذهبَ الأشعريَّة، وقد قال كَعْبٌ حين طُعِنَ عُمَرُ:«لَوْ دَعَا اللهَ، لَزَادَ فِي أَجَلِهِ» ؛ فأنكَرَ الناسُ ذلك عليه؛ فاحتَجَّ بهذه الآيةِ
(1)
.
والثالثُ: أنَّ التعميرَ: هو كَتْبُ ما يُستقبَلُ مِنْ العُمُر، والنقصَ: هو كتبُ ما مضى منه في اللوحِ المحفوظِ؛ وذلك في حَقِّ كلِّ شخص)
(2)
.
قولُ المؤلِّفِ رحمه الله في الوجهِ الثاني مِنْ وجوهِ مرجِعِ الضميرِ في قولِه: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} : إنَّ المرادَ: مَنْ يُعمَّرُ بسببٍ؛ كالصَّدَقةِ، أو يُنْقَصُ مِنْ عمرِهِ؛ لعدَمِ ذلك؛ فمَن تصدَّقَ أو وصَلَ رحمَهُ، زِيدَ في عمرِهِ، بخلافِ مَنْ ليس كذلك، واعترَضَ رحمه الله على هذا الوجهِ: بأنه يوافِقُ قولَ المعتزِلةِ القائلِينَ بالأجلَيْنِ، وأنه خلافُ قولِ الأشاعِرةِ.
ولا شكَّ: أنَّ قولَ المعتزِلةِ بأنَّ للإنسانِ أجلَيْنِ مكتوبَيْنِ؛ أحدُهما معلَّقٌ على سببٍ، وهذا السبَبُ غيرُ معلومٍ لله، وغيرُ مكتوبٍ.
ولا ريبَ أنَّ هذا القولَ باطلٌ.
(1)
أخرجه معمر بن راشد في «جامعه» (20386)، والفريابي في «القدر» (442) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: لما طعن عمر رضي الله عنه قال كعب: «لو دعا عمر لأخر في أجله» .
ولفظ الفريابي: «لو دعا الله عمر لأخر في أجله» .
وأورده - باللفظ الذي ذكره ابن جزي - النحاس في «معاني القرآن» (5/ 445) فقال: «وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن كعب الأحبار
…
»، وذكره.
(2)
«التسهيل» (3/ 607 - 608).
وأهلُ السُّنَّةِ يقولونَ بما دلَّت عليه السُّنَّةُ؛ بأنَّ طُولَ العمرِ قد يكون بسببٍ مِنْ قِبَلِ العبدِ؛ كالبِرِّ والصلةِ؛ فمَن عُمِّرَ بهذا السببِ، فالسبَبُ والمسبَّبُ قد سبَقَ بهما علمُ اللهِ وكتابُهُ؛ بمعنى: أنَّ اللهَ قد عَلِمَ وكتَبَ أنَّ هذا يطولُ عمرُهُ بذلك السبب، ويَعلَمُ سبحانه أنه لو لم يكنْ منه ذلك السببُ، لكان عمرُهُ دون ذلك؛ فهما - عند أهل السُّنَّةِ - أجَلَانِ:
أجَلٌ معلومٌ مكتوبٌ هو وسبَبُهُ؛ فلا يقَعُ سواهُ.
وأجَلٌ معلومٌ أنه لا يقَعُ لعدَمِ وقوعِ سببِه؛ فهو غيرُ مكتوب.
فعِلْمُ اللهِ شاملٌ لما كان وما يكونُ، وما لا يكونُ، لوكان كيف يكون.
وبذلك يُعلَمُ: أنه لا تغيُّرَ في علمِ اللهِ، ولا في كتابِهِ، ويمتنِعُ أن يحدُثَ ما يُوجِبُ ذلك؛ أي: التغييرَ في علمِ اللهِ وكتابِه.
وأمَّا المعتزِلةُ: فقولُهم بالأجَلَيْنِ، معناه - على ما ذكَرَهُ عنهم أبو منصورٍ الماتُرِيدِيُّ في «تفسيره»
(1)
- أنَّ اللهَ تعالى يَجعَلُ لكلِّ أحدٍ أجلَيْنِ، فإذا وصَلَ رَحِمَهُ، أماتَهُ في أبعَدَ الأجلَيْنِ، وإذا لم يصلْ، جعَلَ أجلَهُ الأوَّلَ.
قال أبو منصورٍ متعقِّبًا: «فهذا أمرُ مَنْ يَجهَلُ العواقبَ، فأمَّا مَنْ كان عالمًا بالعواقبِ، فلا؛ لأنَّه بُدُوٌّ ورجوعٌ عمَّا تقدَّم مِنْ الأمر» . اه-.
ومِن فروعِ قولِ المعتزِلة: أنَّ أفعالَ العبادِ غيرُ مخلوقةٍ لهم ولا مقدَّرةٍ
(2)
، ومِن فروعِ ذلك: أنَّ المقتولَ مقطوعٌ عليه أجَلُهُ
(3)
.
وأهلُ السُّنَّةِ يقولون: إنَّ المقتولَ ميِّتٌ بأجَلِهِ
(4)
.
(1)
تفسير الماتريدي، المسمى ب «تأويلات أهل السُّنة» (1/ 491).
(2)
ينظر: «مقالات الإسلاميين» (1/ 181)، و «مجموع الفتاوى» (8/ 11).
(3)
ينظر: «مقالات الإسلاميين» (1/ 204).
(4)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (8/ 516).
سورة يس
(91)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيم (81)} [يس] في ذِكْر هذين الاسمين أيضًا استدلالٌ على البعث، وكذلك في قوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (82)} [يس]؛ لأن هذه عبارةٌ عن قدرته على جميع الأشياء، ولا شكَّ أن الخلَّاق العليم القدير لا يصعب عليه إعادة الأجساد)
(1)
.
قوله: (عبارةٌ عن قدرته): لا يريد رحمه الله بقوله: (عبارةٌ عن قدرته) أن هذا مدلولُ اللفظ؛ إذْ ليس معنى «خلَّاق» أنه على كل شيء قدير، بل هذا المعنى هو لازم معنى الآية؛ فالآية تدل على عموم قدرته تعالى بطريق اللزوم أو التضمُّن، لا بطريق المطابقة؛ فكونه تعالى خلَّاقا يستلزم أنه على كل شيء قدير، أو يتضمَّن هذا المعنى، فليس في عبارة المؤلف ما يؤخذ عليه، والله أعلم.
(1)
«التسهيل» (2/ 652).
سورة الصافات
(92)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُون (12)} [الصافات]؛ أي: عَجِبْتَ يا محمَّدُ مِنْ ضلالِهم وإعراضِهم عن الحقِّ، أو عَجِبْتَ مِنْ قدرةِ اللهِ على هذه المخلوقاتِ العظامِ المذكورة.
وقرَأَ حمزةُ والكسائيُّ: {عَجِبْتُ} بضمِّ التاء
(1)
، وأشكَلَ ذلك على مَنْ يقولُ: إنَّ التعجُّبَ مستحيلٌ على الله:
فتأوَّله بمعنى: أنه جعَلَهُ على حالٍ تَعَجَّبَ منها الناسُ.
وقيل: تقديرُهُ: قُلْ يا محمَّدُ: عَجِبْتُ.
وقد جاء التعجُّبُ مِنْ الله في القرآنِ والحديث؛ كقولِهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنَ الشَّابِّ لَيْسَ لَهُ صَبْوَةٌ))
(2)
؛ وهو صفةُ فعلٍ.
(1)
ينظر: «تفسير الطبري» (19/ 513)، و «حجة القراءات» لابن زنجلة (ص 606).
(2)
أخرجه أحمد (17371)، وأبو يعلى (1749)، والطبراني في «الكبير» (17/ رقم 853) من طريق ابن لهيعة، عن أبي عشانة، عن عقبة بن عامر، به.
أورده الهيثمي في «المجمع» (10/ 270) وقال: «رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني، وإسناده حسَن» . =
وإنَّما جعَلُوهُ مستحيلًا على الله؛ لأنَّهم قالوا: إنَّ التعجُّبَ استعظامٌ خَفِيَ سببُهُ، والصوابُ: أنه لا يَلزَمُ أن يكونَ خفيَّ السببِ، بل هو لمجرَّدِ الاستعظام؛ فعلى هذا لا يستحيلُ على الله)
(1)
.
قولُ المؤلِّفِ رحمه الله: (وأشكَلَ ذلك
…
)، إلخ:
أي: نِسْبةُ العَجَبِ إلى اللهِ؛ كما في القراءةِ المشارِ إليها، وهي قراءةٌ سبعيَّة؛ أي: أشكَلَ ذلك على نفاةِ العَجَبِ عن اللهِ، وهم كلُّ مَنْ ينفي قيامَ الصفاتِ الفعليَّةِ بالله؛ كالأشاعِرةِ، والكُلَّابيَّةِ
(2)
.
=وقال السخاوي في «المقاصد الحسنة» رقم (241): «وكذا هو عند أحمد وأبي يعلى، وسنده حسَن، وضعَّفه شيخنا في (فتاويه)؛ لأجل ابن لَهِيعة» .
وابن لهيعة ضعيف عند الأئمة المحققين مطلقًا. ينظر: «تهذيب التهذيب» (5/ 373، رقم 648).
ويغني عنه: حديث أبي هريرة: ((لقد عَجِبَ اللهُ عز وجل أو ضحك - من فلان وفلانة)) أخرجه البخاري (4889) واللفظ له، ومسلم (2054) (172) ولفظه:«قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة» .
وحديثه الآخر: ((عَجِبَ اللهُ من قوم يدخلون الجنة في السلاسل)) أخرجه البخاري (3010).
(1)
«التسهيل» (3/ 657 - 658).
(2)
هم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب القطان البصري (المتوفي بعد سنة 240 هـ وحددها البعض بسنة 241 هـ)، رأس المتكلمين بالبصرة في زمانه، أخذ عنه الكلام: داود الظاهري، والحارث المحاسبي، وسلك طريقته أبو الحسن الأشعري بعد رجوعه عن الاعتزال؛ كما قال شيخ الإسلام في «درء التعارض» (2/ 16). يثبت ابن كلاب الأسماء والصفات لله تعالى، كما يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعين، والاستواء والعلو، إلا أنه ينفي الصفات الاختيارية بناء على نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، وأوجب له ذلك: القول بأزلية صفات الأفعال، =
والماتُرِيدِيَّةِ
(1)
، وهم الذين عناهُمُ المؤلِّفُ بقولِه:«إنَّهم يقولونَ: إنَّ التعجُّبَ مستحيلٌ على الله؛ لأنه استعظامُ شيءٍ خَفِيَ سببُهُ» .
وقد خالَفَهم المؤلِّفُ في تفسيرِ التعجُّبِ، فجوَّزه على الله، واستشهَدَ له ببعضِ ما جاء في السُّنَّة؛ وقد أصاب في ذلك.
والذين نفَوا العجَبَ عن الله، أوَّلوا ما جاء في القرآنِ والسُّنَّة، مما يدُلُّ على إثباتِ العجَبِ بتأويلاتٍ، منها ما أورَدَهُ المؤلِّف؛ فجمَعُوا بين التعطيلِ بنفيِ الصفاتِ، والتحريفِ بتأويلِ الآياتِ.
=وهو أول من ابتدع القول بالكلام النفسي، وقال في كلام الله والقرآن قوله المشهور، وهو أنه ليس بحروف ولا صوت، وأنه معنى واحد، وأن القرآن الذي يتلى هو حكاية عن كلام الله مع قوله: إن القرآن غير مخلوق! ينظر تفصيل مذهبه في: «مقالات الإسلاميين» (1/ 138)، و «مجموع الفتاوى» (3/ 102) و (12/ 165، و 367، و 376) و (16/ 407)، و «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (1/ 438)، و «رسالة الآراء الكلابية العقدية وأثرها في الأشعرية» للباحثة هدى الشلالي (ص 91 - 190).
(1)
وهم أتباع أبي منصور الماتريدي، محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي (258 - 333 هـ). والماتريدي نسبة إلى ماتريد وهي محلة قرب سمرقند، المدينة المشهورة ببلاد ما وراء النهر التي سميت وعرفت فيما بعد بتركستان. لم يحظ الماتريدي باهتمام المؤلفين في الملل والنحل، وليس له في كتب شيخ الإسلام إلا إشارات عابرة، ومع هذا الإغفال لشخصيته إلا أن فكره انتشر انتشارًا واسعًا ودان به كثيرٌ من المسلمين. تشترك الماتريدية مع الأشاعرة في كثير من القضايا المنهجية التي انحرفوا بها عن الوحي وإجماع السلف؛ كتقديم العقل على النقل، وتعطيل الصفات الخبرية والاختيارية، ونفي العلو والاستواء .. إلخ واقتربوا من المعتزلة في الغلو في العقليات، والإفراط في استخدام علم الكلام المذموم، وانتهاج مسلكهم في النظر والاستدلال! ينظر تفصيل مذهبهم في:«الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات» لشمس الأفغاني السلفي.
والجاري على مذهبِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: إثباتُ العجَبِ مِنْ اللهِ
(1)
، كغيرِهِ مِنْ الصفاتِ التي ورَدَ بها الكتابُ والسُّنَّة؛ كالغضَبِ والرضا، والمحبَّةِ والكَرَاهة، وليس شيءٌ مِنْ ذلك يُشبِهُ صفاتِ المخلوقِين، فليس عَجَبُ اللهِ كعَجَبِ المخلوق، ولا حبُّه كحبِّه، ولا رضاهُ كرضاه، وهذا هو الحقُّ الذي قامت عليه الأدلَّةُ مِنْ الكتاب والسُّنَّة.
(1)
ينظر: «الحجة لقوام السنة» الأصبهاني (1/ 470) و (2/ 490)، و «السنة» لابن أبي عاصم (1/ 249)، و «الإبانة» لابن بطة (7/ 131)، و «إبطال التأويلات» لأبي يعلى (1/ 244)، و «مجموع الفتاوى» (6/ 123 - 124).
(93)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسيرِ قولِه تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِين (99)} [الصافات]:
(وقالت المتصوفة: معناه: إني ذاهب إلى ربي بقلبي، أي: مقبلٌ على الله بكليته، تاركٌ لما سواه)
(1)
.
قوله: (قالت المتصوفة) إلخ، نقله هذا التأويل للآية عن الصوفية دون تعقب إقرارٌ له، وهذا التأويل في نفسه معنى حقٌّ؛ فلا ريب أن إبراهيم مقبلٌ على ربه بكليَّة قلبه، كيف وقد قال الله فيه:{إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيم (84)} [الصافات]؟! لكنْ جعْلُ هذا المعنى تفسيرا للآية ليس بمستقيم؛ لأنه خلاف تفسير السَّلف للآية؛ فالسَّلف ومن تبعهم على أن المراد بالآية الهجرةُ من العراق إلى الشام
(2)
، فقوله في الصافات:{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِين (99)} ، هو المذكور في سورة العنكبوت:{وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم (26)} ، فالآيتان في هجرة البدن، لا في هجرة القلب؛ فإبراهيم لم يزل مهاجراً إلى ربه بقلبه.
(1)
«التسهيل» (3/ 676).
(2)
ينظر: «تفسير الطبري» (19/ 576 - 577)، و «المحرر الوجيز» (7/ 300)، و «زاد المسير» (3/ 546).
سورة ص
(94)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] الضمير في {قَالَ} لله عز وجل، و {بِيَدَيَّ} من المتشابه الذي ينبغي الإيمان به، وتسليم علم حقيقته إلى الله، وقال المتأوّلون: هو عبارة عن القدرة، وقال القاضي أبو بكر ابنُ الطيب: إن اليد والعين والوجه صفاتُ ذاتٍ زائدةٌ على الصفات المتقرّرة.
قال ابن عطية: «وهذا قول مرغوب عنه» )
(1)
.
قوله رحمه الله: (من المتشابه الذي ينبغي الإيمان به) إلخ، يعني أن هذه الآية المتضمنة إثبات يدين لله من الآي المتشابه المذكور في قوله تعالى:{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، ومن المذاهب في المتشابه من القرآن أنه الذي لا يعلم تفسيره إلا الله، أي: لا يعلم معناه والمراد به إلا الله، مستدلين بقوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} ، وتفسير المتشابه
(1)
«التسهيل» (3/ 731 - 732).
بهذا مردود؛ لأن الله أمر بتدبر القرآن كله، وذمَّ المعرضين عن تدبره، وما لا يفهم معناه لا يؤمر بتدبره؛ لأنه لا معنى له؛ ككلام الأعجمي لا يؤمر العربي بتدبره، وأيضًا فإنه على تقدير أن المتشابه من القرآن ما لا يُفهم معناه لا يكون هدى ولا بيانا ولا شفاءً، فعلم بذلك بطلان هذا المذهب في معنى المتشابه من القرآن، ونفاة الصفات أو كثير منها - كالأشاعرة - يجعلون نصوص ما ينفونه من المتشابه، أي: مما لا يعلم معناه إلا الله
(1)
، وقد نصَّ ابن جزي رحمه الله على أن هذه الآية {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} من المتشابه الذي فسَّره بالمعنى المتقدم في المتشابه، وهذا يقتضي أنه لا يثبت لله يدين حقيقة؛ لأنه اعتبر لفظ اليدين من المتشابه الذي يؤمَن بلفظه، وتفوَّض حقيقته إلى الله، وهذا هو مذهب أهل التفويض من النفاة؛ لأنه جعل مقابله قول أهل التأويل الذين يفسِّرون اليدين بالقدرة، وابن جزي على خلاف قولهم، وأما ذكره لقول أبي بكر الباقلاني المتضمِّن لإثبات الصفات التي ذكرها، فمقصود ابن جزي - والله أعلم - تعقُّب ابن عطية له بقوله:«وهذا قول مرغوب عنه»
(2)
، وقد ظهر بعد المراجعة أن ابن عطية نفسه ينكر على
(1)
أفاض شيخ الإسلام في إبطال مذهب التفويض، ورده من ستة أوجه في:«مجموع الفتاوى» (5/ 156 - 163)، وفي «جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية» (10 - 16). وينظر أيضًا:«درء التعارض» (5/ 378 - 379)، و «مجموع الفتاوى» (17/ 425)، و «شرح التدمرية» لشيخنا (ص 296)، و «توضيح مقدمة التفسير» لشيخنا (ص 34 - 35)، و «مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات» د. أحمد القاضي (ص 515 - 538).
(2)
ينظر: «المحرر الوجيز» (7/ 364).
أبي بكر الباقلاني إثبات هذه الصفات زائدةً على الصفات المتقررة، ولعلهم يريدون بالمتقررة الصفات السبع، وهي القدرة والعلم إلخ، وظهر أيضًا أن ابن عطية من أهل التأويل؛ لأنه فسَّر اليدين بالقدرة، فظهر من سياق كلام ابن جزيٍّ أنه ذكر قول ابن عطية شاهدًا لمذهب أهل التأويل الذين فسَّروا اليدين بالقدرة، فتبيَّن من مجموع كلام ابن جزي أنه من النُّفاة أهل التفويض، وأنَّ ابن عطية من النفاة أهل التأويل، وأبا بكر الباقلاني من أهل الإثبات للصفات الخبرية، كاليدين والعينين والوجه، فالحقُّ مع أبي بكر الباقلاني في إثبات هذه الصفات، ومذهب ابن جزي وابن عطية في نفي حقائق هذه الصفات وتفويض معناها أو تأويلها باطلٌ مخالفٌ لمذهب أهل السنة والجماعة الذين يثبتون جميع صفات الله التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ويُجرون النصوص على ظاهرها مثبتين ما دلَّت عليه معرضين عن تأويلها بخلاف ظاهرها، وهذا معنى قول بعض السلف: أمِرُّوها كما جاءت، بلا كيف
(1)
، والله أعلم.
(1)
جاء عن الزهري، ومكحول، والأوزاعي، وسفيان، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، وغيرهم. ينظر:«الغنية» للخطابي (ص 38)، و «السنة» للالكائي (3/ 582، رقم 930)، (3/ 478 رقم 735)، و «السنة» للخلال (1/ 259، رقم 313)، و «الشريعة» (3/ 1146، رقم 720)، و «جامع بيان العلم» (2/ 943 رقم 1801)، و «الأسماء والصفات للبيهقي» (2/ 377، رقم 955).
سورة الزمر
(95)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]؛ تأوَّل الأشعريَّةُ هذه الآيةَ على وجهَيْنِ:
أحدُهما: أن الرِّضَا بمعنى الإرادةِ، ويعني ب «عِبَادِهِ»: مَنْ قضَى اللهُ له بالإيمانِ والوفاةِ عليه؛ فهو كقولِه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42].
والآخَرُ: أنَّ الرضا غيرُ الإرادة، والعبادُ على هذا للعمومِ؛ أي: لا يَرضَى الكفرَ لأحدٍ مِنْ البشَر، وإنْ كان قد أراد أن يقَعَ مِنْ بعضِهم؛ فهو لم يَرْضَهُ دِينًا ولا شَرْعًا، وأرادَهُ وقوعًا ووجودًا.
وأمَّا المعتزِلةُ: فالرِّضا عندهم بمعنى الإرادة، والعبادُ على العموم؛ جَرْيًا على قاعدتِهم في القَدَرِ وأفعالِ العباد)
(1)
.
(1)
«التسهيل» (3/ 740 - 741).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ذكَرَ المؤلِّفُ الوجهَيْنِ عن الأشاعرة، ولم يرجِّح، والصوابُ هو القولُ الثاني، وهو أنَّ الرضا غيرُ الإرادةِ، وأنه لا تلازُمَ بين الرضا والإرادةِ الكونيَّة؛ وعلى هذا: فاللهُ لا يرضى الكفرَ لأحدٍ مِنْ عباده، وإنْ كان قد يشاؤُهُ مِنْ بعضهم؛ فالكافِرُ قد شاء اللهُ منه الكفرَ، وإنْ كان لا يرضاهُ منه؛ وهذا يوافِقُ قولَ أهلِ السُّنَّة
(1)
.
(1)
ينظر: جزء القدر من «مجموع الفتاوى» (8/ 159، و 188، و 190، و 476)، و «الرسالة الأكملية -مجموع الفتاوى-» (6/ 115 - 116)، و «جواب أهل العلم والإيمان -مجموع الفتاوى-» (17/ 101)، و «منهاج السنة» (3/ 158)، و «التسعينية» (3/ 975)، و «مجموع الفتاوى» (18/ 132)، و «شفاء العليل» (ص 47 - 49. ط. دار المعرفة بيروت)، و «مدارج السالكين» (1/ 264 - 268. ط. دار الكتاب العربي).
(96)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
(وقال ابن عطية: هي جواب لقوله: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} [الزمر: 58]؛ فإن معناه يقتضي أن العمر لم يتَّسع للنظر فقيل له: {بلى} على وجه الردِّ عليه)
(1)
.
قول ابن عطية: «فإن معناه يقتضي أن العمر لم يتَّسع للنظر»
(2)
إلخ، يريد أنَّ معنى قول المتمنِّي للكرَّة الاعتذار أنَّ عمره لم يتسع للنظر؛ فهو يطلب العودة إلى الدنيا؛ لينظر فيُحسِن، فجاء الجواب بأنه قد جاءتك الآيات البيِّنات فكذَّبت بها، واستكبرت عن الانقياد لها، وكنتَ بهذا التكذيب والاستكبار من الكافرين، فلا عذر لك في قصر العمر، وعدم اتساعه للنظر، ويبطل هذا الاعتذار قوله تعالى لمن سأل الرجعة:{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37].
(1)
«التسهيل» (3/ 763).
(2)
قال: «وقوله: بَلى جواب لنفي مقدر في قوله: هذه النفس كأنها قالت: فعمري في الدنيا لم يتسع للنظر، أو قالت: فإني لم يتبين لي الأمر في الدنيا ونحو هذا، وحق بَلى أن تجيء بعد نفي عليه تقرير» . «المحرر الوجيز» (7/ 407).
سورة الشورى
(97)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [الشورى: 5] أي: يتشقَّقْنَ من خوف الله وتعظيم جلاله.
وقيل: من قول الكفار: «اتخذ الله ولدًا» ، فهي كالآية التي في «مريم» .
قال ابن عطية: وما وقع للمفسِّرين هنا من ذكر الثِّقَل ونحوه مردودٌ؛ لأن الله تعالى لا يوصف به)
(1)
.
قوله: (وقيل: من قول الكفار) إلخ، هذا المعنى صحيح؛ لدلالة آية سورة مريم عليه، ولكن تفسير هذه الآية به ضعيف؛ لأنه لا ذكر لقول الكفار في هذه الآية من سورة «الشورى» ، فالصواب في هذه الآية هو القول الأول؛ لتقدم قوله تعالى:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم (4)} [الشورى]
(2)
.
(1)
«التسهيل» (4/ 28).
(2)
وهو قول ابن عباس، والضحاك، وقتادة، والسدي، وكعب الأحبار، واختاره: الطبري، والزجاج. ينظر:«تفسير الطبري» (20/ 466 - 468)، و «معاني القرآن للزجاج» (4/ 394)، و «تفسير ابن كثير» (7/ 190).
وقوله: (قال ابن عطية: وما وقع للمفسرين هنا من ذكر الثقل) إلخ: جزْمُ ابن عطية بنفي الثقل عن الله فيه نظر؛ لأنه لم يذكر على النفي دليلاً، والظاهر أن نفي الثقل عند ابن عطية ونحوه مبنيٌّ على نفي الجسم عن الله عندهم، وهو - أعني الجسم - لم يرد في الكتاب ولا في السنة نفيه ولا إثباته، ولهذا فأهل السنة لا يطلقونه نفيًا ولا إثباتًا؛ لأنه لم يرد فيه شيء، ولأنه لفظ مجمل يحتمل حقًّا وباطلًا، ولذا يوجبون الاستفصال عن مراد من تكلم به؛ فإن أراد حقًّا قُبل، وإن أراد باطلًا رُدَّ
(1)
. وأما الثِّقل فلا أعلم أنه ورد مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديث الأطيط، وفيه:((وإن له أطيطًا كأطيط الرحل الجديد إذا رُكِب من ثقله))، أي: الكرسي، كما في حديث عبد الله بن خليفة عند ابن جرير
(2)
،.
(1)
ينظر: «العقيدة التدمرية» مع شرح شيخنا (ص 406) و (ص 243)، و «درء التعارض» (1/ 76 و 229 و 238) و (5/ 85)، و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 219، 272، 289 - 290، 372)، و «مجموع الفتاوى» (3/ 347)، (12/ 114)، و «منهاج السنة» (2/ 217 و 554). وينظر: معاني الجسم في اللغة واصطلاح المتكلمين في: «درء التعارض» (1/ 119)، و «مجموع الفتاوى» (12/ 316)، و «شرح التدمرية» (ص 210).
(2)
أخرجه الطبري (4/ 540) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة؛ فعظم الرب تعالى ذكره، ثم قال:((إن كرسيه وسع السماوات والأرض، وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع))، ثم قال بأصابعه فجمعها:((وإن له أطيطًا كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله)).
وأخرجه ابن جرير من طريق أخرى عن إسرائيل نفسه به؛ إلا أنه زاد في إسناده فقال: عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.=
وفي معناه حديث جبير بن مطعم في العرش عند أبي داود وغيره
(1)
.
وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (4/ 345)، والبزار (325) من هذه الطريق إلى قوله:((وإن له أطيطًا كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله)).
وللحديث ثلاث علل:
الأولى: جهالة عبد الله بن خليفة؛ قال الذهبي: «لا يكاد يعرف» «الميزان» (4290).
الثانية: لا يُعرف له سماع من عمر. قال ابن كثير: «وفي سماعه من عمر نظر» . «تفسيره» (1/ 681).
الثالثة: الاضطراب، فمرة يرويه عبد اللَّه بن خليفة مرسلًا، ومرة يرويه عن عمر من قوله.
وقال ابن كثير في «التفسير» (1/ 681): «عن عبد الله بن خليفة، وليس بذاك المشهور، وفي سماعه من عمر نظر، ثم منهم من يرويه عنه عن عمر موقوفًا، ومنهم من يرويه عنه مرسلًا، ومنهم من يزيد في متنه زيادة غريبة، ومنهم من يحذفها» .
وقد أعله شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (16/ 434 - 436)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 4 - 6)، وقال الألباني في «الضعيفة»:(4978): «منكر» .
(1)
أخرجه أبو داود (4726)، وابن أبي عاصم في «السنة» (575)، وابن خزيمة في «التوحيد» (1/ 239) من طرق، عن وهب بن جرير: حدثني أبي قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث، عن يعقوب بن عتبة، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه عن، جده قال: قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أعرابيٌّ، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، جَهِدَتِ الأنفُسُ، وضَاعَتِ العيالُ، ونُهِكَتِ الأموالُ، وهَلَكت الأنعامُ، فاسْتَسْقِ الله عز وجل لنا، فإنا نستشفِعُ بكَ على الله، ونستشفع بالله عليكَ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:((ويحَكَ! أتدري ما تقول؟)) وسبَّحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يُسَبِّحُ حتى عُرِفَ ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال:((ويْحَكَ! إنه لا يُستشفَعُ بالله على أحدٍ مِنْ خلقه، شأنُ الله أعظمُ من ذلك، ويْحَكَ! أتدري ما الله، إن عَرشَه على سماواته لهكذا - وقال بإصبعه مثلَ القُبّة عليه - وأنَّه ليَئِطُّ به أطِيطَ الرّحْلِ بالراكب)).
وإسناده ضعيف، محمَّد بن إسحاق لم يُصرِّح بالتحديث وهو مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شر منهم، وصفه بذلك أحمد والدارقطني وغيرهما. «طبقات المدلسين» (ص 51، رقم 125). =
لكن جاء في بعض الآثار عن ابن عباس وغيره في تفسير هذه الآية أنه قال: {يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} : قال: «يعني من ثقل الرحمن وعظمته تبارك وتعالى» رواه ابن جرير
(1)
، وهو ما أشار إليه ابن عطية، ومثل هذه الآثار لا تكفي في إثبات صفة لذاته تعالى، فيجب التوقف عن إضافة الثِّقل إلى الله تعالى، إثباتًا أو نفيًا، ولكن هناك حديث قد يفهم منه إضافة الثقل إلى الله، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:((لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فتقول: قط قط وعزتك، ويزوى بعضها إلى بعض))
(2)
.
=وجبير بن محمَّد - وهو ابن جبير بن مطعم بن عدي - روى له أبو داود هذا الحديث الواحد، وقد تفرد به. وذكره البخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 224 رقم 2277)، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/ 513 رقم 2120) ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً، فهو في عداد المجهولين. وقال الحافظ في «التقريب» (902):«مقبول» ؛ أي: حين يتابع، وإلا فلين كما ذكر في المقدمة.
(1)
ينظر: «تفسير الطبري» (20/ 466).
(2)
أخرجه البخاري (6661)، ومسلم (2848) عن أنس رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.
(98)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] تنزيهٌ لله تعالى عن مشابهة المخلوقين)
(1)
.
قوله: (عن مشابهة المخلوقين) معلوم بالضرورة أن الله منزَّه عن أن يشابه أحدًا من المخلوقين، وعن أن يشابهه أحدٌ من المخلوقين
(2)
، ونفيُ أيِّ واحد منهما يستلزم نفي الآخر، ولكن الذي صرَّحت بنفيه نصوص القرآن هو تشبيه المخلوق بالخالق؛ فمن ذلك قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي ليس شيء من الموجودات مثلَه، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} [الإخلاص] أي: ليس أحد من الخلق كفوًا له، أي: مثلًا له، ومن ذلك نفي النِّدِّ والسَّمِيِّ، كقوله تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم] أي: شبيهًا أو نظيرًا من خلقه، وقوله سبحانه:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً} [البقرة: 22] أي: لا تجعلوا لله نظراء في استحقاق الإلهية، ولم يأت نصٌّ في نفي أن يكون تعالى مثلًا لبعض خلقه،
(1)
«التسهيل» (4/ 31).
(2)
ينظر بطلان نوعي التشبيه في: «الجواب الصحيح» (2/ 140)، و (2/ 261)، و «درء التعارض» (7/ 95)، و «مجموع الفتاوى» (10/ 55)، «الجواب الكافي» (ص 313)، «شرح العقيدة التدمرية» لشيخنا (ص 78 - 79).
ولكن نفي الأول يستلزم نفي الثاني، ولعل تصريح الآيات بنفي الأول، أي: مماثلة المخلوق للخالق؛ لأنه هو الواقع من المشركين، فكل من عبد مع الله غيره فقد جعله مثلاً لله، ومن ذلك شرك النصارى؛ فإنهم جعلوا المسيح إلها، كما أخبر الله عنهم بقوله:{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]. فقول ابن جزي في الآية: «تنزيهٌ لله تعالى عن مشابهة المخلوقين» هذا ما تدل عليه الآية بطريق اللزوم، أما منطوق الآية فهو تنزيه الله أن يماثله شيء من المخلوقين، فلو قال ابن جزي: تنزيه لله أن يماثله شيء من المخلوقين، كان أولى؛ ليوافق منطوق الآية
(1)
، والآية دالة على نفي التشبيه بنوعيه؛ فتدل على نفي الأول بدلالة المنطوق، وعلى نفي الثاني: بطريق اللزوم، كما تقدم، ومع ذلك فعبارة ابن جزي تحتمل المعنيين؛ لجواز إضافة المصدر إلى فاعله وإلى مفعوله.
(1)
ينظر: «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 387)، (3/ 134 - 136)، (6/ 485) وما بعده، و «جواب الاعتراضات المصرية» (ص 152)، و «مجموع الفتاوى» (3/ 166)، و «درء التعارض» (5/ 327).
سورة الفتح
(99)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسيرِ قولِه تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]:
(وذلك على وجهِ التخييلِ والتمثيلِ؛ يريدُ: أنَّ يَدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم التي تعلو أيديَ المبايِعِينَ له هي يَدُ اللهِ في المعنى، وإنْ لم تكن كذلك في الحقيقةِ، وإنما المرادُ: أنَّ عَقْدَ ميثاقِ البَيْعةِ مع الرسولِ صلى الله عليه وسلم كعَقْدِهِ مع الله؛ كقولِهِ: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء: 80].
وتأوَّل المتأوِّلونَ ذلك: بأنَّ يَدَ اللهِ معناها: النِّعْمةُ أو القوَّة؛ وهذا بعيدٌ هنا)
(1)
.
قولُهُ: (وذلك على وجهِ التخييلِ والتمثيلِ
…
)، إلخ:
(1)
«التسهيل» (4/ 149).
قد أحسَنَ المؤلِّفُ في ترجيحِ هذا الرأي، وتنظيرِ الآيةِ بقولِهِ تعالى:{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء: 80]، وأحسَنَ في ردِّه قولَ المتأوِّلينَ اليَدَ بالنِّعْمة
(1)
.
وما رجَّحه هو ما ذكَرَهُ ابنُ القيِّم رحمه الله، والآيةُ مع هذا تدُلُّ على إثباتِ اليدِ للهِ تعالى
(2)
.
(1)
ينظر: «نقض الدارمي» (1/ 230 - 299)، و «الإبانة» للأشعري (1/ 125 - 140)، و «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 478 - 485)، و «مختصر الصواعق» (3/ 946 - 992).
(2)
ينظر: «مختصر الصواعق» (3/ 989). وانظر: الكلام على صفة اليَدِ في: «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 250، 260 - 268، و 336 - 340) و (5/ 478 - 485) و «التدمرية» (ص 73 - 76) ومع شرح شيخنا (ص 263 - 269)، و «الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز -مجموع الفتاوى-» (6/ 362 - 373)، و «درء التعارض» (7/ 267)، و «الرسالة الأكملية -مجموع الفتاوى-» (6/ 92).
سورة الحجرات
(100)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات: 11] يريدُ ب «الِاسْمِ» : أنْ يسمَّى الإنسانُ فاسقًا، بعد أن سُمِّيَ مؤمِنًا؛ وفي ذلك ثلاثةُ أوجه:
أحدُها: استقباحُ الجمعِ بين الفسوقِ وبين الإيمانِ؛ فمعنى ذلك: أنَّ مَنْ فعَلَ شيئًا مِنْ هذه الأشياءِ التي نُهِيَ عنها، فهو فاسقٌ، وإنْ كان مؤمِنًا.
والآخَر: بئسَ ما يقولُهُ الرَّجُلُ للآخَرِ: «يا فاسقُ» بعد إيمانِه؛ كقولِهم لمن أسلَمَ مِنْ اليهود: «يا يهوديُّ» .
الثالثُ: أن يُجعَلَ مَنْ فسَقَ غيرَ مؤمِنٍ؛ وهذا على مذهبِ المعتزِلة)
(1)
.
قولُ المؤلِّفِ: (الثالثُ: أن يُجعَلَ مَنْ فسَقَ غيرَ مؤمِنٍ
…
)، إلخ:
الفرقُ بين الوجهِ الثاني والثالثِ: أنَّ المراد بالوجهِ الثاني: مَنْ أطلَقَ على أخيهِ: «فَاسِق» ؛ على وجهِ السَّبِّ مغايَظةً له لخصومةٍ بينهما.
(1)
«التسهيل» (4/ 178).
فأمَّا الثالثُ، فمعناه: الحكمُ على المسلِمِ العاصي: بأنه فاسِقٌ، وليس بمؤمِنٍ، فيُخرِجُهُ عن الإيمان، ويَجعَلُهُ في منزِلةٍ بين الإيمانِ والكفر؛ وهذا - كما قال المؤلِّفُ - على مذهَبِ المعتزِلة؛ فإنهم يَجعَلُونَ مرتكِبَ الكبيرةِ في منزِلةٍ بين المنزِلَتَيْنِ، لا هو مؤمِنٌ، ولا هو كافرٌ
(1)
:
فخالَفُوا أهلَ السُّنَّةِ الذين يقولونَ: «إنَّ مرتكِبَ الكبيرةِ معه أصلُ الإيمان؛ فهو مؤمِنٌ ناقصُ الإيمان»
(2)
.
وخالَفُوا الخوارجَ الذين يقولونَ: «مرتكِبُ الكبيرةِ كافِرٌ»
(3)
.
ثم يتفِقُ الخوارجُ والمعتزِلةُ على حُكْمِهِ في الآخِرة، وهو الخلودُ في النار
(4)
.
(1)
ينظر: «مقالات الإسلاميين» (1/ 213)، و «مجموع الفتاوى» (7/ 257، و 331، و 484).
(2)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (7/ 241 - 242، و 353 - 360، 524 - 525، 679).
(3)
ينظر: «مقالات الإسلاميين» (1/ 84)، و «مجموع الفتاوى» (7/ 501).
(4)
ينظر: «مقالات الإسلاميين» (1/ 109)، و «مجموع الفتاوى» (7/ 222) و (12/ 480).
سورة النجم
(101)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسيرِ قولِه تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)} [النجم]:
(وهذا الذي ذكَرْنا: أنَّ هذه الضمائرَ المتقدِّمةَ لجبريلَ، هو الصحيحُ، وقد ورَدَ ذلك عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيح
(1)
.
وقيل: إنَّها للهِ تعالى؛ وهذا القولُ يَرُدُّ عليه الحديثُ والعقلُ؛ إذْ يجبُ تنزيهُ اللهِ تعالى عن تلك الأوصافِ مِنْ الدُّنُوِّ والتدلِّي وغيرِ ذلك)
(2)
.
قولُ المؤلِّفِ: (وهذا الذي ذكَرْنا: أنَّ هذه الضمائرَ المتقدِّمةَ لجبريلَ، هو الصحيحُ
…
)، إلخ:
قد أصاب المؤلِّفُ في تصحيحِهِ أنَّ الضمائرَ في الآياتِ لجبريلَ عليه السلام.
(1)
يشير إلى حديثِ عائشةَ رضي الله عنها لمَّا سُئِلَتْ عن قولِه: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)} ، قالت:«ذَاكَ جِبْرِيلُ» ؛ أخرجه البخاريُّ (3235)؛ وسيشيرُ إليه شيخُنا في الكلامِ على القولِ الثاني.
(2)
«التسهيل» (4/ 237).
وأمَّا قولُهُ في تضعيفِ القولِ الثاني: أنَّ الضمائرَ تعودُ إلى اللهِ: «إنَّ هذا القولَ يَرُدُّ عليه الحديثُ والعقلُ» :
يريدُ بالحديثِ: ما رواه البخاريُّ
(1)
، عن عائشةَ رضي الله عنها لمَّا سُئِلَتْ عن قولِه:{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)} }، قالت:«ذَاكَ جِبْرِيلُ» .
وأمَّا قولُ المؤلِّفِ: (والعقلُ)، فمعناه: أنَّ العقلَ يَدُلُّ على امتناعِ الدُّنُوِّ مِنْ اللهِ تعالى؛ وهذا يجري على مذهبِ مَنْ ينفي علوَّ اللهِ فوق المخلوقات، وينفي قيامَ الأفعالِ الاختياريَّةِ به سبحانه.
وهذا خلافُ ما دلَّت عليه نصوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ مِنْ علوِّهِ تعالى فوقَ سماواتِهِ على عرشِهِ، وأنه فعَّالٌ لما يريد، والله أعلم
(2)
.
(1)
«صحيح البخاري» (3235).
(2)
ينظر: هامش التعليق رقم (39)، و (11).
سورة الحديد
(102)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد: 3]؛ أي: ليس لوجودِهِ بدايةٌ، ولا لبقائِهِ نهايةٌ.
{وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3]:
أي: «الظاهرُ» للعقولِ بالأدلَّةِ والبراهينِ الدالَّةِ عليه، «الباطنُ» الذي لا تُدرِكُهُ الأبصارُ، أو «الباطِنُ»: الذي لا تَصِلُ العقولُ إلى معرِفةِ كُنْهِ ذاتِه.
وقيل: «الظَّاهِرُ» : العالي على كلِّ شيء؛ فهو مِنْ قولِكَ: «ظَهَرْتُ على الشيءِ» : إذا عَلَوْتَ عليه، و «البَاطِنُ»: الذي بطَنَ كلَّ شيءٍ؛ أي: عَلِمَ باطنَهُ.
والأوَّلُ أظهَرُ وأرجَح)
(1)
.
قولُ المؤلِّفِ: (والأوَّلُ أظهَرُ وأرجَح):
(1)
«التسهيل» (4/ 309).
يريد: القولَ الأوَّلَ في تفسيرِ الظاهِرِ والباطِنِ مِنْ أسماءِ الله، والصوابُ في تفسيرِ هذَيْنِ الاسمَيْنِ هو القولُ الثاني؛ لأنه الموافِقُ لتفسيرِهِ صلى الله عليه وسلم؛ إذْ قال في الدعاءِ:((وَأَنْتَ الظَّاهِرُ؛ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ؛ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ))
(1)
.
وإنَّما رجَّح المؤلِّفُ القولَ الأوَّلَ؛ فرارًا مِنْ إثباتِ علوِّه تعالى بذاتِهِ فوقَ مخلوقاتِهِ، ونفيُ ذلك هو مذهبُ الأشاعِرةِ، وإثباتُهُ هو مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ؛ كما تقدَّم قريبًا
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم (2713)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
ينظر: التعليق رقم (81)، (77)، (39).
(103)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في تفسيرِ قولِهِ تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27]:
(وإعرابُ «رَهْبَانِيَّةً» : معطوفٌ على «رَأْفَةً وَرَحْمَةً» ؛ أي: جعَلَ اللهُ في قلوبِهم الرأفةَ والرحمةَ والرهبانيَّةَ، و «ابْتَدَعُوهَا»: صفةٌ للرهبانيَّة، والجَعْلُ هنا بمعنى الخَلْقِ.
والمعتزِلةُ يُعرِبونَ: «رَهْبَانِيَّةً» مفعولًا بفعلٍ مضمَرٍ يفسِّرُه: «ابْتَدَعُوهَا»
(1)
؛ لأنَّ مذهبَهَم: أنَّ الإنسانَ يخلُقُ أفعالَهُ؛ فأعرَبُوها على مذهَبِهم، وكذلك أعرَبَها أبو عليٍّ الفارسيُّ
(2)
، وذكَرَ الزمخشريُّ الوجهَيْن
(3)
(4)
.
قولُ المؤلِّفِ: (وإعرابُ «رَهْبَانِيَّةً» : معطوفٌ على «رَأْفَةً وَرَحْمَةً»
…
)، إلخ:
(1)
والتقديرُ: وابتدَعُوا رهبانيَّةً ابتدَعُوها؛ يعني: وأحدَثُوها مِنْ عندِ أنفُسِهم ونَذَرُوها؛ كما في «الكشاف» للزمخشري (4/ 482). ونحوه في «مدارج السالكين» (2/ 60).
(2)
نقله عنه أبو حيَّان في «البحر المحيط» (10/ 115)، والسمين الحلبي في «الدر المصون» (10/ 255).
(3)
في «الكشَّاف» (4/ 482). وانظر تعليقَ ابنِ المنيِّرِ عليه.
(4)
«التسهيل» (4/ 325 - 326).
تضمَّن كلامُ المؤلِّفِ ذكرَ الوجهَيْنِ في إعرابِ «رَهْبَانِيَّةً» ؛ هل هي عطفٌ على «رَأْفَةً وَرَحْمَةً» ، أو نصبٌ على الاشتغالِ بفعلٍ محذوفٍ يفسِّرُهُ ما بعده، والتقديرُ: وابتدَعُوا رهبانيَّةً؟ ورجَّح المؤلِّفُ الوجهَ الأوَّل، ونسَبَ الثانيَ للمعتزِلة؛ حيثُ زعَمُوا أنَّ ذلك لئلا يتعلَّقَ الجَعْلُ - بمعنى الخلقِ - بالرهبانيَّةِ، وهي مِنْ فعلِ العبدِ، وعندَهم: أنَّ العبدَ هو الذي يخلُقُ فعلَهُ.
والإعرابُ الثاني هو الراجِحُ، وقد ذهَبَ إليه جَمْعٌ؛ كالزَّجَّاجِ
(1)
والعُكْبَريِّ
(2)
، والبغويِّ
(3)
والقُرْطُبيِّ
(4)
، وابنِ القيِّمِ
(5)
وابنِ عاشورٍ
(6)
وغيرِهم؛ وذلك لأنَّ مفعولَ «جعَلَ» في الآيةِ مقيَّدٌ في القلوبِ: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ} [الحديد: 27]، والرهبانيَّةُ: سلوكٌ ظاهِرٌ، وليس في إعرابِ «رهبانيَّةً» على الوجهِ الثاني، حجَّةٌ للمعتزِلة، ولا منفعةٌ للمخالِف؛ قاله الشيخُ الطاهِرُ بنُ عاشورٍ رحمه الله
(7)
.
(1)
في «معاني القرآن وإعرابه» (5/ 130).
(2)
في «التبيان في إعراب القرآن» (2/ 1211).
(3)
في «تفسيره» (8/ 42 ط. طيبة).
(4)
في «تفسيره» (20/ 271 ط. الرسالة).
(5)
في «مدارج السالكين» (2/ 60 ط. الفقي).
(6)
في «التحرير والتنوير» (27/ 422 - 423).
(7)
في «التحرير والتنوير» (27/ 423). وقد جعَلَ أبو حيَّانَ هذا الإعرابَ إعرابَ المعتزِلةِ، ونسَبَهُ لأبي عليٍّ الفارسيِّ والزمخشريِّ؛ كما فعَلَ المؤلِّفُ هنا، وضعَّفه مِنْ جهةِ صناعةِ العربيَّةِ، لكنْ أجاب السَّمِينُ الحلبيُّ عن ذلك. انظر:«البحر المحيط» (10/ 115)، و «الدر المصون» (10/ 255).
سورة الملك
(104)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُون (27)} [الملك]: تَفْتَعِلُونَ مِنْ الدعاء؛ أي: تطلُبُونَ وتستعجِلُونَ به، والقائلون لذلك: الملائكةُ، أو يقالُ لهم بلسانِ الحالِ)
(1)
.
قولُهُ تعالى: {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُون (27)} [الملك]:
نظيرُهُ قولُهُ سبحانه: {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُون (14)} [الذاريات]؛ وهذا معنى ما قاله المؤلِّفُ: أنه افتِعالٌ مِنْ الدعاءِ؛ بمعنى: طَلَبِ الشيءِ، وعُدِّيَ بالباءِ؛ كقولِهِ تعالى:{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع (1)} [المعارج].
وقولُ المؤلِّفِ: (والقائلون لذلك: الملائكةُ، أو يقالُ لهم بلسانِ الحالِ):
(1)
«التسهيل» (4/ 447).
منشَأُ هذا التردُّدِ: أنَّ الفعلَ مبنيٌّ للمفعولِ: «قِيلَ» ؛ فيَحتمِلُ ما ذكَرَهُ المؤلِّفُ، ويَحتمِلُ أنَّ القائلَ هو اللهُ؛ توبيخًا للكافِرِين؛ كقولِهِ تعالى:{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُون (34)} [الأحقاف]، والله أعلم.
سورة القلم
(105)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]؛ قال المتأوِّلون: ذلك عبارةٌ عن هَوْلِ يومِ القيامةِ وشِدَّتِه، وفي الحديثِ الصحيحِ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: ((يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ القِيَامَةِ: لِتَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ؛ فَيَتَّبِعُ الشَّمْسَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ، وَيَتَّبِعُ القَمَرَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ القَمَرَ، وَيَتَّبِعُ كُلُّ أَحَدٍ مَا كَانَ يَعْبُدُ، ثُمَّ تَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، مَعَهُمُ مُنَافِقُوهُمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا شَأْنُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَنْتَظِرُ رَبَّنَا، قَالَ: فَيَجِيئُهُمُ اللهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي عَرَفُوهُ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُونَهُ بِعَلَامَةٍ تَرَوْنَهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ؛ فَيَكْشِفُ لَهُمْ عَنْ سَاقٍ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ؛ أَنْتَ رَبُّنَا، وَيَخِرُّونَ لِلسُّجُودِ، فَيَسْجُدُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَتَرْجِعُ أَصْلَابُ المُنَافِقِينَ عَظْمًا وَاحِدًا، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سُجُودًا))
(1)
، وتأويلُ الحديثِ كتأويلِ الآيةِ)
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (4919) مختصرًا، ومسلم (183) واللفظ له، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
«التسهيل» (4/ 461).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قولُ المؤلِّفِ رحمه الله: ({يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]؛ قال المتأوِّلون: ذلك عبارةٌ عن هَوْلِ يومِ القيامةِ وشِدَّتِهِ
…
)، إلخ:
اكتفى المؤلِّف رحمه الله بذكرِ قولِ المتأوِّلين في الآية، وهو أنَّ معنى {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}؛ أي: يُكشَفُ عن هَوْلِ يومِ القيامة، والساقُ على هذا هي الشِّدَّةُ، ومِن معاني الساق في اللغة: الشِّدَّةُ
(1)
؛ كقولِه تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاق (29)} [القيامة]؛ أي: اتصَلَتِ الشِّدَّةُ بالشِّدَّةِ عند الموت
(2)
، وذكَرَ المؤلِّفُ الحديثَ، وأجراه مُجْرَى الآية.
والقولُ الثاني - الذي أعرَضَ عنه المؤلِّفُ -: أنَّ المرادَ بالساقِ: ساقُ اللهِ تعالى؛ كما في روايةٍ في الصحيحِ: ((فَيَكشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ))
(3)
؛ فالحديثُ يفسِّرُ الآيةَ، فيكونُ معناها: يومَ يَكشِفُ ربُّنا عن ساقِه.
ويؤيِّدُ ذلك: أنه حينئذٍ يسجُدُ له كلُّ مَنْ كان يسجُدُ في الدنيا استجابةً وطاعة، ويَعجِزُ المنافِقونَ عن السجود؛ كما يدُلُّ لذلك الآيةُ والحديث، والآيةُ تَحتمِلُ القولَيْن، وتفسيرُها بما دَلَّ عليه الحديثُ أولى؛ فإنَّ السُّنَّةَ تفسِّرُ القرآن
(4)
.
(1)
ينظر: «لسان العرب» (10/ 168).
(2)
ينظر: «تفسير الطبري» (23/ 515).
(3)
هذا لفظ البخاري (4919).
(4)
ينظر: «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 472 - 474)، و «مجموع الفتاوى» (6/ 394 - 395)، و «مختصر الصواعق» (1/ 61 - 64).
سورة المعارج
(106)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِج (3)} [المعارج]: جمعُ مَعْرَجٍ، وهو المَصعَدُ إلى عُلْوٍ؛ كالسُّلَّمِ والمَدارِجِ التي يُرتقَى بها.
قال ابن عطيَّة: «هي هنا مستعارةٌ في الفضائلِ والصفاتِ الحَمِيدة، وقيل: هي المَرَاقِي إلى السماءِ»
(1)
؛ وهذا أظهَرُ؛ لأنه فسَّرها بما بعدَها مِنْ عروجِ الملائكةِ والرُّوحِ إليه؛ أي: إلى عرشِهِ، ومِن حيثُ تَهبِطُ أوامرُهُ وقضاياه؛ فالعروجُ: هو مِنْ الأرضِ إلى العَرْش)
(2)
.
قولُ المؤلِّفِ رحمه الله: (قال ابنُ عطيَّة: «هي هنا مستعارةٌ في الفضائلِ والصفاتِ الحَمِيدة»):
يريدُ ابنُ عطيَّةَ: أنَّ المعارِجَ أمورٌ معنويَّةٌ، وهي صفاتُ الكمالِ؛ فلا تدلُّ على علوِّ الذاتِ في حقِّه تعالى، بل على علوِّ القَدْر، وهذا يتفِقُ مع مذهبِ نفاةِ علوِّ اللهِ بذاتِه.
(1)
«المحرر الوجيز» (8/ 401 ط. وزارة الأوقاف- قطر).
(2)
«التسهيل» (4/ 483).
ولكنَّ ابنَ جُزَيٍّ رحمه الله رجَّح أنَّ المعارجَ هي المَصاعِدُ إلى السماء؛ بدليلِ قولِه تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج]، ولكنه قال:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} ؛ أي: إلى عرشِهِ.
وهذا تأويلٌ بصرفِ الكلامِ عن ظاهِرِه، وهو أنها تعرُجُ إلى الله، ولا مُوجِبَ لهذا التأويلِ إلا النَّزْعةُ إلى نفيِ العلوِّ الذي هو مذهَبُ القومِ.
وقد جاء في السُّنَّةِ: ما يشهدُ لظاهِرِ الآية، وهو قولُهُ صلى الله عليه وسلم:((يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ))، وفيه: ((ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ - كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي
…
))؛ الحديثَ
(1)
.
والصوابُ في الآيةِ: أنَّ الملائكةَ والرُّوحَ تَعرُجُ إلى اللهِ
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (7429)، ومسلم (632)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
وقد استدل بهذه الآية على إثبات صفة العلو لله جمعٌ من الأئمة. ينظر: «الرد على الجهمية» للإمام أحمد (ص 146 - دار الثبات)، و «التوحيد» لابن خزيمة (1/ 257)، و «نقض الدارمي» (1/ 444 - 445)، و «الإبانة الكبرى» لابن بطة (7/ 138)، و «التمهيد» لابن عبد البر (7/ 129 - 130)، و «الإبانة» للأشعري (ص 113)، و «مجموع الفتاوى» (5/ 13).
سورة الإنسان
(107)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: 3]؛ أي: سبيلَ الخيرِ والشرِّ؛ ولذلك قسم الإنسانَ إلى قسمَيْنِ: شاكرٍ وكفورٍ، وهما حالانِ مِنْ الضميرِ في:{هَدَيْنَاهُ} .
و «الهُدَى» هنا بمعنى: بيانِ الطريقَيْنِ، ومَوهِبةِ العقلِ الذي يُميَّزُ به بينَهما.
ويَحتمِلُ: أن يكونَ بمعنى الإرشادِ؛ أي: هَدَى المؤمِنَ للإيمانِ، والكافِرَ للكفرِ؛ {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِنْدِ اللّهِ} [النساء: 78])
(1)
.
قولُ المؤلِّفِ رحمه الله: (ويَحتمِلُ: أن يكونَ بمعنى الإرشادِ
…
)، إلخ:
يريدُ: أنَّ الهُدَى في قولِه: {هَدَيْنَاهُ} ، يَحتمِلُ أن يكونَ بمعنى: أرشدناهُ:
(1)
«التسهيل» (4/ 561).
فإنْ كان الإرشادُ عنده بمعنى: دَلَلْناهُ، فهو بمعنى البيانِ؛ وهو المعنى الأوَّلُ الذي ذكَرَهُ المؤلِّف.
وإنْ كان بمعنى: دَعَوْناهُ إليه، فلا يصحُّ؛ فإنه تعالى لا يدعو إلا إلى سبيلِ الحقِّ، وطريقِ الخير.
وعلى هذا: فالصوابُ: أنَّ «الهُدَى» بمعنى البيانِ، وهو المعنى الأوَّلُ الذي قدَّمه المؤلِّف.
وقولُه: {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِنْدِ اللّهِ} [النساء: 78]؛ أي: الهُدَى والضلالُ، والكفرُ والإيمانُ؛ كلٌّ مِنْ عندِ الله؛ أي: بقَدَرِهِ ومشيئتِه، وهذا هو معنى الإيمانِ بالقَدَرِ خيرِهِ وشرِّه.
وقولُه: (ومَوهِبةِ العقلِ الذي يُميَّزُ به بينَهما)، لعلَّه يريدُ: أنَّ العقلَ مما يُميَّزُ به بين طريقِ الخيرِ وطريقِ الشرِّ، لا أنه يستقِلُّ بذلك، بل التمييزُ التامُّ بين الطريقَيْنِ إنما يكونُ بما بعَثَ اللهُ به رسولَهُ مِنْ الهُدَى ودِينِ الحقّ:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم (52)} [الشورى].
سورة الليل
(108)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)} [الليل]؛ أي: بيانَ الخيرِ والشرِّ، وليس المرادُ الإرشادَ عند الأشعريَّةِ؛ خلافًا للمعتزِلةِ)
(1)
.
انظر التعليقَ الذي قبلَ هذا؛ فإنَّ كلامَ المؤلِّفِ هنا نظيرُ كلامِهِ على آيةِ الإنسان: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} [الإنسان].
(1)
«التسهيل» (4/ 705).
سورة العاديات
(109)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود (6)} [العاديات]؛ هذا جوابُ القسَمِ، و «الكَنُودُ»: الكفورُ للنِّعْمة؛ فالتقديرُ: إنَّ الإنسانَ لِنِعْمةِ ربِّه لكفورٌ، و «الإنسان»: جِنْسٌ.
وقيل: «الكَنُودُ» : العاصي.
وقال بعضُ الصوفيَّة: «الكَنُودُ» : الذي يعبُدُ اللهَ على عِوَضٍ)
(1)
.
قولُهُ: (وقال بعضُ الصوفيَّةِ: الكَنُودُ: الذي يعبُدُ اللهَ على عِوَضٍ):
معناه عندهم: الذي يعبُدُ اللهَ رَغْبةً في الثوابِ، وخَوْفًا مِنْ العقابِ؛ وهذا مذمومٌ عندهم.
وقولهم هذا هو مِنْ بِدَعِهم، لكنَّ المؤلِّفَ رحمه الله حكاه، ولم يُعلِّق عليه
(2)
.
(1)
«التسهيل» (4/ 747 - 748).
(2)
ينظر: التعليق رقم (25).
سورة القارعة
(110)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله:
({فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُه (6)} [القارعة] هو جمع ميزان، أو جمع موزون.
وميزان الأعمال يوم القيامة له لسان وكِفَّتان عند الجمهور.
وقال قوم: هو عبارة عن العدل)
(1)
.
قوله: (له لسان وكِفَّتان عند الجمهور) من عقيدة أهل السنة الجماعة إثبات ميزان الأعمال يوم القيامة، ولم يأت ذكر ميزان الأعمال في القرآن مفردًا، بل بصيغة الجمع «موازين» ، فقيل: جمع ميزان أو موزون، كما ذكر المؤلف، وإنما جاء مفردا في السنة في أحاديث، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:((والحمد لله تملأ الميزان))
(2)
، وقوله:((كلمتان خفيفتان على اللسان)) الحديث، وفيه:((ثقيلتان في الميزان))
(3)
، وظاهر الأدلة أنه ميزان حسِّي،
(1)
«التسهيل» (4/ 752).
(2)
أخرجه مسلم (223) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (6406)، ومسلم (2694) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وله كِفَّتان توضع فيهما الحسنات والسيئات، وقد ورد ذكر الكِفَّتين في بعض الأحاديث، وأما اللسان فلا أعلم أنه ورد في شيء مرفوع، ولكن هذا هو المشهور في كلام من تكلَّم عن الميزان من أهل السنة، وإثبات اللسان لميزان الأعمال يتوقف على قيام الدليل
(1)
، وتفسيره بالعدل هو قول المعتزلة، وهو من التأويل المذموم الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره بغير حجة
(2)
، والمؤلف رحمه الله اكتفى بذكر الأقوال دون ترجيح؛ فليس له في هذا الموضع مذهب.
(1)
روى الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه قال: «الميزان له لسان وكفتان
…
»، أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 447 رقم 277). والكلبي متهم بالكذب، قال البخاري: أبو النضر الكلبي تركه يحيى وابن مهدي. ثم قال البخاري: قال علي: حدثنا يحيى، عن سفيان، قال لي الكلبي: كل ما حدثتك عن أبي صالح فهو كذب. ينظر: «الميزان» (7574).
وجاء في «شرح أصول أهل السنة» للالكائي (6/ 1245 رقم 2210) عن عبد الملك بن أبي سليمان، قال:«ذكر الميزان عند الحسن، فقال: له لسان وكفتان» .
ونقل الحافظ عن أبي إسحاق الزجاج أنه قال: «أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال» «فتح الباري» (13/ 578).
وينظر: «مقالات الإسلاميين» (2/ 353)، و «شرح السنة» للبربهاري (ص 42 رقم 15)، و «الحجة في بيان المحجة» (1/ 250)، و «لمعة الاعتقاد» بشرح شيخنا (ص 95).
(2)
ينظر: «مقالات الإسلاميين» (2/ 354)، و «التذكرة» للقرطبي (ص 722 - 723)، و «مجموع الفتاوى» (4/ 302)، و «شرح العقيدة الطحاوية» (2/ 613).
(111)
قال ابنُ جُزَيٍّ رحمه الله في ختامِ الكتاب:
(وأنا أَرغَبُ إلى الله، كما أعانَنِي بفضلِهِ على هذا الكتاب، أن يَجعَلَهُ مُوجِبًا لدخولي الجَنَّةَ مِنْ غيرِ حسابٍ ولا عذاب؛ بحُرْمةِ القرآنِ العظيم، وشفاعةِ محمَّدٍ رسولِهِ المصطفَى الكريم)
(1)
.
قولُه: (بحُرْمةِ القرآنِ العظيم، وشفاعةِ محمَّدٍ رسولِهِ المصطفَى الكريم):
كان الأَوْلى بالمؤلِّفِ رحمه الله التوسُّلُ إلى اللهِ بأسمائِهِ وصفاتِهِ؛ كما قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وكما جاء في السُّنَّة: ((اللَّهُمَّ؛ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الحَمْدَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ
…
))؛ الحديثَ
(2)
.
(1)
«التسهيل» (4/ 808).
(2)
أخرجه أحمد (12611)، وأبو داود (1495)، والنسائي (1300)، وابن حبان (893)، والحاكم (1856) من طرق، عن خلف بن خليفة، عن حفص بن عمر - ابن أخي أنس -، عن أنس، به.
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. وقد روي من وجه آخر عن أنس بن مالك» .=
وما ذكَرَهُ مِنْ التوسُّلِ بحُرْمةِ القرآنِ وشفاعةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لا دليلَ عليه؛ فغفَرَ اللهُ له، ورَحِمَهُ، وضاعَفَ مَثُوبَتَه
(1)
.
هذا ما تيسر إملاؤه، وكان آخر ذلك يومَ الثلاثاء، ثالثَ عشَرَ جُمَادى الآخِرة، لعام 1437 هـ، ولله الحمد والمنة.
وقد لحق زيادة على ما سبق التعليق على تسعة وثلاثين موضعًا فكانت العدة مئة وأحد عشر موضعًا، وكان آخره في يوم الأحد الرابع والعشرين من شهر صفر من عام اثنين وأربعين وأربع مئة بعد الألف.
=قلنا: حفص بن عمر لم يخرج له مسلم! وهو صدوق، وخلف بن خليفة اختلط في آخره فترك أحمد وغيره حديثه، وذكر الحاكم في المدخل أن مسلمًا إنما أخرج له في الشواهد. ينظر:«التهذيب» (3/ 150، رقم 289).
وأخرجه الترمذي (3856) من طريق سعيد بن زربي، عن عاصم الأحول وثابت البناني، كلاهما عن أنس، به. وقال:«هذا حديث غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير هذا الوجه عن أنس» .
وسعيد بن زربي: منكر الحديث؛ كما في التقريب رقم (2304).
وأخرجه ابن ماجه (3858) من طريق أبي خزيمة العبدي، عن أنس بن سيرين، عن أنس بن مالك، به.
وأبو خزيمة العبدي نصر بن مرداس، قال أبو حاتم: لا بأس به. وقال الحافظ: «صدوق» .
(1)
ينظر: «قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة -مجموع الفتاوى-» (1/ 142) و (27/ 83) وما بعده، و «التوسل أنواعه وأحكامه» للألباني، و «التوصل إلى حقيقة التوسل» لمحمد نسيب الرفاعي.
قائمة المصادر والمراجع
(أ)
1.
الإبانة الكبرى لابن بطة، جماعة من المحققين، دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض.
2.
الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري، تحقيق د. فوقية حسين محمود، دار الأنصار - القاهرة، الطبعة الأولى، 1397 هـ.
3.
اجتماع الجيوش الإسلامية، ابن القيم، تحقيق د. عواد عبد الله المعتق، مطابع الفرزدق التجارية - الرياض، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1988 م.
4.
الإحاطة في أخبار غرناطة، أبو عبد الله بن سعد بن أحمد السلماني (لسان الدين ابن الخطيب)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1424 هـ.
5.
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1399 هـ.
6.
الاستغاثة في الرد على البكري، ابن تيمية، تحقيق د. عبد الله بن دجين السهلي، دار المنهاج للنشر والتوزيع، الرياض - المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1426 هـ.
7.
الأسماء والصفات، البيهقي، تحقيق عبد الله بن محمد الحاشدي، مكتبة السوادي، جدة-المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1993 م.
8.
اشتقاق أسماء الله، عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، تحقيق د. عبد الحسين المبارك، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1406 هـ - 1986 م.
9.
اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، تحقيق د. ناصر العقل، دار عالم الكتب، بيروت، الطبعة السابعة، 1419 هـ - 1999 م.
10.
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، المطابع الأهلية، الرياض، 1403 هـ، وطبعة دار عالم الفوائد.
11.
الإيمان، أبو عبيد القاسم بن سلام، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1421 هـ -2000 م.
12.
الإيمان، ابن منده، تحقيق د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الثانية، 1406 هـ.
13.
الإيمان، ابن تيمية، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، عمان- الأردن، الطبعة الخامسة، 1416 هـ-1996 م.
14.
الإيمان الأوسط = شرح حديث جبريل، ابن تيمية، تحقيق علي بن بخيت الزهراني، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، طبعة 1423 هـ.
(ب)
15.
البحر المحيط في التفسير، أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي، تحقيق صدقي محمد جميل، دار الفكر - بيروت، الطبعة: 1420 هـ.
16.
بدائع الفوائد، ابن القيم، دار الكتاب العربي، بيروت. وطبعة دار عالم الفوائد.
17.
البداية والنهاية، ابن كثير، دار هجر، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م.
18.
بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة= السبعينية، ابن تيمية، تحقيق د. موسى سليمان الدويش، مكتبة العلوم والحكم، الطبعة الأولى، 1415 هـ.
19.
بيان تلبيس الجهمية، ابن تيمية، مجموعة من المحققين، مجمع الملك فهد، الطبعة الأولى، 1426 هـ.
20.
بيان الوهم والإيهام، ابن القطان الفاسي، تحقيق د. الحسين آيت سعيد، دار طيبة - الرياض، الطبعة الأولى، 1418 هـ-1997 م.
(ت)
21.
تاريخ دمشق، ابن عساكر، تحقيق عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر، 1415 هـ - 1995 م.
22.
التاريخ الكبير، محمد بن إسماعيل البخاري، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد - الدكن.
23.
التبيان في أيمان القرآن، ابن قيم الجوزية، تحقيق عبد الله بن سالم البطاطي، دار عالم الفوائد - مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1429 هـ.
24.
التدمرية، ابن تيمية، تحقيق د. محمد بن عودة السعوي، مكتبة العبيكان - الرياض، الطبعة السادسة، 1421 هـ - 2000 م.
25.
التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984 م.
26.
ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض، مطبعة فضالة، المحمدية، المغرب، الطبعة الأولى.
27.
التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي، تحقيق علي الصالحي، دار طيبة الخضراء، الطبعة الأولى، 1439 هـ.
28.
تعظيم قدر الصلاة، محمد بن نصر المَرْوَزِي، تحقيق د. عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، مكتبة الدار - المدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1406 هـ.
29.
التعليق على القواعد المثلى، عبد الرحمن البراك، إعداد عبد الله المزروع، دار التدمرية، الرياض، الطبعة الثانية، 1432 هـ - 2011 م.
30.
التعليقات على المخالفات العقدية في فتح الباري، عبد الرحمن البراك، دار التوحيد للنشر، الطبعة الأولى، 1433 هـ.
31.
التفسير، سعيد بن منصور، تحقيق د سعد بن عبد الله آل حميد، دار الصميعي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م.
32.
تفسير أسماء الله الحسنى، أبو إسحاق الزجاج، تحقيق أحمد يوسف الدقاق، دار الثقافة العربية.
33.
التفسير البسيط، علي بن أحمد الواحدي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى، 1430 هـ.
34.
تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1420 هـ - 1999 م.
35.
تقريب التهذيب، الحافظ ابن حجر، تحقيق محمد عوامة، دار الرشيد - سوريا، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م.
36.
تهذيب التهذيب، ابن حجر، مطبعة دائرة المعارف النظامية، الهند، الطبعة الأولى، 1326 هـ.
37.
تهذيب اللغة، محمد بن أحمد بن الأزهري، تحقيق محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الأولى، 2001 م
38.
توضيح مقاصد العقيدة الواسطية، عبد الرحمن البراك، إعداد عبد الرحمن بن صالح السديس، دار التدمرية، الطبعة الثالثة، 1432 هـ.
39.
توضيح مقدمة التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية، عبد الرحمن البراك، مؤسسة وقف الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك، الطبعة الأولى، 1440 هـ.
40.
التوحيد وإثبات صفات الرب، ابن خزيمة، تحقيق عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان، مكتبة الرشد - السعودية - الرياض، الطبعة الخامسة، 1414 هـ - 1994 م.
41.
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1420 هـ -2000 م.
(ج)
42.
جامع البيان في تفسير القرآن، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001 م.
43.
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق أبو الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، السعودية، الطبعة الأولى، 1414 هـ- 1994 م.
44.
جامع الرسائل، ابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، دار العطاء - الرياض، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001 م.
45.
جامع العلوم والحكم، ابن رجب الحنبلي، تحقيق شعيب الأرناؤوط - إبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة السابعة، 1419 هـ.
46.
جامع المسائل، ابن تيمية، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة - المملكة العربية السعودية.
47.
جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية، ابن تيمية، تحقيق محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد - مكة، الطبعة الأولى، 1429 هـ.
48.
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ابن تيمية، تحقيق علي بن حسن، وعبد العزيز بن إبراهيم، وحمدان بن محمد، دار العاصمة، السعودية، الطبعة الثانية، 1419 هـ - 1999 م.
49.
جواب في الإيمان ونواقضه، عبد الرحمن البراك، اعتناء عبد الرحمن بن صالح السديس، دار التدمرية، الطبعة الأولى، 1473 هـ - 2016 م.
50.
الجواب الكافي= الداء والدواء، ابن قيم الجوزية، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة - المملكة العربية السعودية.
(ح)
51.
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، ابن قيم الجوزية، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة - المملكة العربية السعودية.
52.
الحجة في بيان المحجة، الأصبهاني التيمي، تحقيق محمد بن ربيع المدخلي، دار الراية-السعودية، الرياض، الطبعة الثانية، 1419 هـ - 1999 م.
(د)
53.
درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام بالرياض، الطبعة الثانية، 1411 هـ - 1991 م.
54.
الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، الحافظ ابن حجر، تحقيق محمد عبد المعيد ضان، مجلس دائرة المعارف العثمانية - صيدر أباد، الهند، الطبعة الثانية، 1392 هـ - 1972 م.
55.
الدر المنثور، السيوطي، دار الفكر - بيروت.
(ر)
56.
الرسالة التدمرية، أبو العباس أحمد بن تيمية، المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة الثالثة، 1400 هـ.
57.
الرسالة القشيرية، عبد الكريم بن هوازن القشيري، تحقيق عبد الحليم محمود، ومحمود بن الشريف، دار المعارف، القاهرة.
(ز)
58.
زاد المسير في علم التفسير، عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، تحقيق عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الأولى، 1422 هـ.
59.
زاد المعاد، ابن القيم، تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة السابعة والعشرون، 1415 هـ -1994 م.
60.
الزهد، أحمد بن حنبل، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م.
61.
الزهد، عبد الله بن المبارك، دار الكتب العلمية، بيروت.
62.
الزهد، هَنَّاد بن السَّرِي، تحقيق عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي - الكويت، الطبعة الأولى، 1406 هـ.
63.
الزهد، وكيع بن الجراح، تحقيق عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، مكتبة الدار، المدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1404 هـ - 1984 م.
64.
الزهر النضر في حال الخضر، ابن حجر العسقلاني، تحقيق صلاح مقبول أحمد، مجمع البحوث الإسلامية، الهند، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1988 م.
(س)
65.
السبعة في القراءات، أبو بكر أحمد بن موسى بن مجاهد، تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف - مصر، الطبعة الثانية، 1400 هـ.
66.
سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض.
67.
السنة، عبد الله بن أحمد، تحقيق د. محمد بن سعيد بن سالم القحطاني، دار ابن القيم - الدمام، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م.
68.
السنة، أبو بكر الخلال، تحقيق د. عطية الزهراني، دار الراية - الرياض، الطبعة الأولى، 1410 هـ - 1989 م.
69.
السنة، لابن أبي عاصم، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1400 هـ.
70.
السنة = شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، هبة الله بن الحسن اللالكائي، تحقيق أحمد بن سعد الغامدي، دار طيبة - السعودية، الطبعة الثامنة، 1423 هـ - 2003 م ..
71.
السنن الكبرى، النسائي، تحقيق حسن عبد المنعم شلبي، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م.
72.
السنن الكبرى، البيهقي، تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة، 1424 هـ - 2003 م.
73.
سنن الترمذي، أبو عيسى الترمذي، تحقيق د. بشار عواد، دار الغرب الإسلامي - بيروت، سنة النشر: 1998 م.
74.
سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت.
75.
سنن ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي.
76.
سنن النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب، الطبعة الثانية، 1406 هـ-1986 م.
77.
سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1405 هـ.
(ش)
78.
شأن الدعاء، أبو سليمان الخطابي، تحقيق أحمد يوسف الدّقاق، دار الثقافة العربية، الطبعة الثالثة، 1412 هـ - 1992 م.
79.
شرح الأصبهانية، ابن تيمية، تحقيق د محمد السعوي، مكتبة دار المنهاج- الرياض، الطبعة الأولى، 1430 هـ.
80.
شرح حديث النزول، ابن تيمية، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الخامسة، 1397 هـ-1977 م.
81.
شرح العقيدة التدمرية، عبد الرحمن البراك، إعداد عبد الرحمن السديس، دار التدمرية، الرياض، الطبعة الثالثة، 1434 هـ - 2013 م.
82.
شرح صحيح مسلم، أبو زكريا يحيي بن شرف النووي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الثانية، 1392 هـ.
83.
شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز الحنفي، تحقيق شعيب الأرناؤوط - عبد الله بن المحسن التركي، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة العاشرة، 1417 هـ - 1997 م.
84.
شرح العقيدة الطحاوية، عبد الرحمن البراك، إعداد: عبد الرحمن بن صالح السديس، دار التدمرية، الطبعة الثالثة، 1434 هـ.
85.
شرح العقيدة الواسطية، محمد بن صالح العثيمين، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة السادسة، 1421 هـ.
86.
الشريعة، أبو بكر محمد بن الحسين الآجري، تحقيق د. عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي، دار الوطن - الرياض- السعودية، الطبعة الثانية، 1420 هـ - 1999 م.
87.
شرح علل الترمذي، ابن رجب، تحقيق د. همام عبد الرحيم سعيد، مكتبة المنار - الزرقاء - الأردن، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م.
88.
شرح القصيدة الدالية للكلوذاني، عبد الرحمن بن ناصر البراك، إعداد ياسر بن سعد بن بدر العسكر، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، 1430 هـ - 2009 م.
89.
شرح كلمة الإخلاص لابن رجب، عبد الرحمن بن ناصر البراك، إعداد ياسر بن سعد بن بدر العسكر، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، 1435 هـ - 2014 م.
90.
شرح المصطلحات الفلسفية، مجمع البحوث الإسلامية - مشهد، الطبعة الأولى، 1414 هـ.
91.
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ابن قيم الجوزية، دار المعرفة، بيروت، طبعة 1398 هـ-1978 م.
92.
شواذ القراءات، محمد بن أبي نصر الكرماني، تحقيق شمران العجلي، مؤسسة البلاغ، بيروت.
(ص)
93.
الصارم المسلول على شاتم الرسول، ابن تيمية، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، الناشر الحرس الوطني السعودي، المملكة العربية السعودية.
94.
الصحاح، الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة الرابعة، 1407 هـ - 1987 م.
95.
صحيح أبي داود - الأم، محمد ناصر الدين الألباني، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، الكويت، الطبعة الأولى، 1423 هـ - 2002 م.
96.
صحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى، 1422 هـ.
97.
صحيح الترغيب والترهيب، المنذري، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف الرياض - المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م.
98.
صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1988 م.
99.
الصفدية، ابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، مكتبة ابن تيمية، مصر، الطبعة الثانية، 1406 هـ.
100.
الصواعق المرسلة، ابن القيم، تحقيق د. علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة -الرياض، الطبعة الأولى، 1408 هـ.
(ط)
101.
طبقات الصوفية، أبو عبد الرحمن السلمي، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1419 هـ- 1998 م.
102.
طريق الهجرتين وباب السعادتين، ابن قيم الجوزية، دار عالم الفوائد، مكة، الطبعة الأولى، 1429 هـ.
(غ)
103.
غاية النهاية في طبقات القراء، ابن الجزري، تحقيق ج. برجستراسر، طبعة 1351 هـ، مكتبة ابن تيمية.
(ف)
104.
فتح الباري، ابن رجب الحنبلي، جماعة من المحققين، مكتبة الغرباء الأثرية - المدينة النبوية.
105.
فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار المعرفة - بيروت، 1379 هـ.
106.
الفتوى الحموية، تحقيق د. حمد بن عبد المحسن التويجري، دار الصميعي - الرياض، الطبعة الثانية، 1425 هـ -2004 م.
107.
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ابن تيمية، تحقيق د. عبد الرحمن بن عبد الكريم اليحيى، دار الفضيلة، الرياض.
108.
فيض القدير شرح الجامع الصغير، عبد الرؤوف المناوي، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، الطبعة الأولى، 1356 هـ.
(ل)
109.
لسان العرب، ابن منظور، دار صادر - بيروت، الطبعة الثالثة، - 1414 هـ.
(م)
110.
المحرر الوجيز، عبد الحق بن عطية الأندلسي، تحقيق الرحالي الفاروق وغيره، مطبوعات وزارة الشؤون الإسلامية في قطر، الطبعة الثانية، 1428 هـ.
111.
مجمع الزوائد، الهيثمي، تحقيق حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1414 هـ - 1994 م.
112.
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب ابن قاسم، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض.
113.
مختصر في شواذ القرآن من كتاب البديع، ابن خالويه، مكتبة المتنبي، القاهرة.
114.
مختصر الصواعق المرسلة، ابن القيم، تحقيق د. الحسن بن عبد الرحمن العلوي، أضواء السلف - الرياض.
115.
مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية، محمد بن علي البعليّ، تحقيق عبد المجيد سليم - محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية.
116.
مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، تحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثالثة، 1416 هـ - 1996 م، وطبعة محمد حامد الفقي.
117.
مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات، أحمد بن عبد الرحمن القاضي، دار العاصمة، الطبعة الثانية، 1439 هـ-2018 م.
118.
المسالك في شرح موطَّأ مالك، أبو بكر بن العربي المعافري الإشبيلي المالكي، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1428 هـ - 2007 م.
119.
المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله النيسابوري الحاكم، مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1411 هـ-1990 م.
120.
المسند، أحمد بن حنبل الشيباني، تحقيق شعيب الأرناؤوط - عادل مرشد، وآخرون، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م.
121.
المسند، الحميدي، تحقيق حسين سليم أسد، دار السقا، دمشق - سوريا، الطبعة الأولى، 1996 م.
122.
مسند أبي يعلى، أبو يعلى الموصلي، تحقيق حسين سليم، دار المأمون، بيروت، الطبعة الأولى، 1404 هـ.
123.
مصنف ابن أبي شيبة، تحقيق كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة الأولى، 1409 هـ.
124.
معاني القرآن وإعرابه، أبو إسحاق الزجاج، تحقيق عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب - بيروت، الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م.
125.
المعجم الكبير، الحافظ أبو القاسم الطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية - القاهرة، الطبعة الثانية.
126.
مقالات الإسلاميين، أبو الحسن الأشعري، تحقيق نعيم زرزور، المكتبة العصرية، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م.
127.
موقف ابن تيمية من الأشاعرة، عبد الرحمن المحمود، مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1995 م.
128.
منهاج السنة، ابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، أشرفت على طباعته جامعة الإمام، الطبعة الأولى، 1406 هـ.
129.
ميزان الاعتدال، الذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1382 هـ - 1963 م.
(ن)
130.
النبوات، ابن تيمية، تحقيق عبد العزيز بن صالح الطويان، أضواء السلف، الرياض، الطبعة الأولى، 1420 هـ-2000 م.
131.
نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر، عبد الرحمن بن الجوزي، تحقيق محمد عبد الكريم كاظم الراضي، مؤسسة الرسالة - لبنان - بيروت، الطبعة الأولى، 1404 هـ - 1984 م.
132.
النشر في القراءات العشر، محمد بن محمد بن يوسف ابن الجزري، تحقيق علي محمد الضباع، المطبعة التجارية الكبرى.
133.
نظم المتناثر من الحديث المتواتر، محمد بن أبي الفيض الكتاني، شرف حجازي، دار الكتب السلفية، مصر، الطبعة الثانية.
134.
نقض الدارمي على المريسي، عثمان بن سعيد الدارمي، تحقيق رشيد بن حسن الألمعي، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1998 م.
135.
النكت والعيون= تفسير الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد الماوردي، تحقيق السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان.
136.
النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، تحقيق محمود الطناحي وطاهر أحمد الزاوي، المكتبة العلمية - بيروت، 1399 هـ - 1979 م.