المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌مقَدّمة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله - مختصر طبقات الحنابلة - ط الترقي

[جميل الشطي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقَدّمة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد فيقول العبد الفقير محمد جميل ابن الفاضل الكامل الشيخ عمر أفندي إبن العالم المحقق المرحوم الشيخ محمد أفندي ابن العلامة الشهير المبرور الشيخ حسن أفندي إبن الحاج عمر جلبي المعروف بابن شطي البغدادي أصلا، الإمام الحنبلي في الجامع الأموي بدمشق الشام حالا، أحسن الله حاله، وسدد أقواله وأعماله، لا يخفى أن سير الرجال من علم التاريخ قد طالما شغلت الأفكار، وحلت محل الاعتبار، وما زالت أجلة العلماء في جميع الأمصار والأعصار، يصنفون الأسفار، في تلك الأخبار. ولكن مشاربهم مختلفة ومقاصدهم شتى. فمنهم من تقيدوا بالزمان فترجموا رجال القرون قرنًا بعد آخر. ومنهم من تقيدوا بالمكان فترجموا رجال بلدة دون أخرى. ومنهم من تقيدوا بالفنون فكان هؤلاء أحسن عملًا من أولئك. إذ لا ريب خدمة العلم المطلقة خير من خدمة الزمان والمكان مقيدين ومن هؤلاء المؤرخين من وضعوا طبقات المذاهب الأربعة وفي جملتهم طبقات السادة الحنابلة رحمهم الله تعالى فقد اطلعت على الطبقات التي وضعها الشيخ العلامة القاضي عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن العليمي المقدسي ووصل فيها إلى سنة تسعماية للهجرة. ثم وجدت أن العلامة الأديب السيد محمد كمال الدين ابن السيد محمد شرِيف ابن شمس الدين محمد الغزي العامري مفتي الشافعية بدمشق جزاه الله خيرًا قد

وضع على الطبقات المذكورة ذيلًا وصل فيه من الحد الذي وقف عليه العليمي إلى سنة سبع ومائتين وألف. وقد رأيت عندي تراجم متفرقة لبعض علماء مذهبنا الأحمد مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه فجعلتها ذيلًا لطبقات الغزي المذكور ومن ثم أحببت أن أختصر شيئًا من طبقات العليمي والغزي أضيف إليه ذيلي الأنف ذكره ليجئ من

ص: 2

ذلك كتاب يجمع أخبار المشاهير من علمائنا منذ عصر إمامنا إلى عصرنا هذا وأرجو أن يكون عملي مقبولا. وبعين الرضا مشمولًا، إن شاء الله تعالى.

ص: 3

‌قال العليمي

رحمه الله تعالى: الحمد لله على لطفه وإحسانه حمدًا يليق بجلال عظمته وعز سلطانه، والشكر له على فضله وامتنانه، شكرًا لا يحصيه كاتب بقلمه ولا ناطق بلسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أرسله إلى الثقلين وأيده بسلطانه صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأنصاره وأعوانه، صلاة وسلامًا دائمين ما تحرك فلك في دورانه أما بعد فهذا مختصر استخرت الله في جمعه وترتيبه وسألته المعونة لي بفضله في وضعه وتهذيبه يتضمن نبذة من ترجمة إمامنا المبجل والحبر المفضل الرباني عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني إمام أهل السنة وآخر المجتهدين من الأئمة رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة منقلبه ومثواه وأحواله ومناقبه وذكر محنته وتاريخ مولده ووفاته وتراجم أصحابه رحمة الله عليهم فاذكر أولًا ما تيسر من مناقب الإِمام رضي الله عنه ثم أذكر أصحابه الذين عاصروه فابتدئ بذكر من توفي منهم قبله ثم أذكر من توفي بعده ثم أذكر من لم تؤرخ وفاته من الفقهاء الذين كانوا على مذهبه في الأصول والفروع ونقلوه عنه إلى من بعدهم إلي أن وصل الينا. وأسرد أسماءهم متوالية ليتميزوا عن غيرهم من أصحابه الذين قرأوا عليه في الحديث وغيره ورووا عنه من غير المشهورين بالتمذهب بمذهبه في فروع الفقه. ثم أذكر أسماء الأصحاب من بعد الطبقة الأولى مرتبًا على الطبقات والوفيات ومن لم أطلع على تاريخ وفاته ذكرت اسمه وما وقفت عليه من ترجمته والعصر الذي كان موجودًا فيه أن عملته وأوجزت لفظه حسب الامكان وحذفت الأسانيد مما رويته فيه من الأحاديث الشريفة في بعض التراجم طلبًا للاختصار وسميته بالمنهج الأحمد في تراجم

أصحاب الإِمام أحمد والله سبحانه المسؤول أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم وأن ينفع به إنه بعباده رؤوف رحيم.

*‌

‌ الإِمام المبجّل أحمد بن محمد بن حنبل:

‌ذكر ما تيسر من مناقبه

هو الإِمام البارع المجمع على جلالته وإمامته وورعه وزهادته وحفظه ووفور عقله وعلمه وسيادته إمام المحدثين والناصر للدين عن السنة والصابر في المحنة ومن

ص: 3

لم تر عين مثله علمًا وزهدًا وديانة وأمانة الإمام الذي لا يجارى والفحل الذي لا يبارى ومن أجمع أئمة الدين على تقدمه في شأنه ونبله وعلو مكانه والذي له من المناقب ما لا يعد ولا يحصى وقام الله مقامًا لولاه لضعف الإِسلام واندرس العلم ومشى الناس على أعقابهم القهقري. إمام الأئمة رباني الأمة عالي الهمة ناصر الإِسلام والسنة شجرة نسبه في الأصل خليلية وفي الفرع إسماعيلية وأوراقها ربيعية وعروقها شيبانية استنار ذكره في الأمصار استنارة الشمس في النهار فهو صيرفي الحديث ينتقد الطيب من الخبيث قيس في الزهد والعلم بالحسن البصري وفي الرقائق والدقائق بذي النون المصري وفي التفسير ومعانيه بإبن عباس وفي التشديد على أهل البدع بعمر بن الخطاب الشديد البأس قام بإحياء الدين ونصره دون جميع أهل عصره وذب عن حريم الملة بسيف الكتاب والسنة حين برز الشيطان بجنوده وافتخر بكثرة عديدة حتى أظهر السنة من بعد ما اختفت وأقام قواعد الدين من بعد ما عفت فهو إمام أئمة الإِسلام وحجة الله على الأنام عليه أفضل التحية والسلام.

فهو الإِمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنسى بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن عمن بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهيسع بن حمل بن البت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وعَلَى جميع الأنبياء والمرسلين.

فهذا هو المروي عن عبد الله إبن الإِمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهما ونقل ابن الجوزي وغير واحد من المؤرخين أن إبراهيم الخليل عليه السلام إبن تارح وهو آزر بن ناحور بن سارعوغ بن رعون بن فالغ بن عابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لامخ ويقال لأمل بن متشولخ بن خنوخ وهو إدريس بن يرد بن مهلابيل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم عليه السلام.

حملت به أمه بمرو وقدمت بغداد وهي حامل به فولدته في ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة وكان أبوه محمد والي سرخس وكان من أبناء الدعوة العباسية توفي وله ثلاثون سنة وكانت وفاته سنة تسع وسبعين ومائة فكانت لوائح النجابة تظهر منه

ص: 4

زمن الصبا وكان حفظه للعلم من ذلك الزمان غزيرًا وعلمه به متوفرًا وكان في الكتاب وهو غلام يعرف فضله وسافر في طلب العلم أسفارًا كثيرة إلى البلاد الكوفة والبصرة والحجاز ومكة والمدينة واليمن والشام والثغور والسواحل والمغرب والجزائر والعراقين جميعًا وأرض فارس وبلاد خراسان والجبال والأطراف وغير ذلك طلب الحديث وهو إبن ست عشرة سنة وخرج إلى الكوفة سنة مات هشيم سنة 183 وهو أول سفره وخرج إلى البصرة سنة 186 وخرج إلى سفيان بن عيينة إلى مكة سنة 187 وقد مات الفضل بن عياض وهي أول سنة حج فيها وخرج إلى عبد الرزاق بصنعاء اليمن سنة 197 ورافق يحيى بن معين وحج خمس حجات ثلاث حجج ماشيًا واثنتين راكبًا وكان من أصحاب الإِمام الشافعي رضي الله عنه وخواصه ولم يزل مصاحبه إلى أن ارتحل الشافعي إلى مصر وكان الإمام الشافعي يجله ويثني عليه ثناء حسنًا قال حرملة سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول عند قدومه إلى مصر من العراق ما خلفت بالعراق أحدًا يشبه أحمد بن حنبل وقال الربيع بن سليمان قال لنا الشافعي رضي الله عنه أحمد بن حنبل إمام في ثمان خصال إمام في الحديث إمام في الفقه إمام في اللغة إمام في القرآن إمام في الفقر إمام في الزهد إمام في الورع إمام في السنة.

‌ذكر قوة فهمه وغزارة علمه

عن أحمد بن صعيد قال ما رأيت أسود رأس أحفظ لحديث رسول الله

صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أبي عبد الله أحمد بن حنبل وعن إبراهيم الحربي قال رأيت أحمد بن حنبل فرأيت كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف يقول ما شاء ويمسك عما شاء قال: أبو جعفر التستري قيل لأبي زرعة من رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ فقال أحمد بن حنبل حزرت كتبه في اليوم الذي مات فيه فبلغت اثنى عشر حملًا وعدلًا وكل ذلك كان يحفظه عن ظهر قلبه.

‌ذكر مصنفاته

صنف المسند وهو ثلاثون ألف حديث وكان ابتداؤه فيه سنة 180 وكان

ص: 5

يقول لابنه عبد الله احتفظ بهذا المسند فإنه سيكون للناس إمامًا وعن حنبل بن إسحاق قال جمعنا أحمد بن حنبل أنا وصالح وعبد الله وقرأ علينا المسند وما سمعه منه غيرنا وقال لنا هذا الكتاب قد جمعته وأتقنته من أكثر من سبعمائة ألف وخمسين ألفا فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه فإن وجدتموه فيه وإلا فليس بحجة - وصنف التفسير وهو مائة ألف وعشرون ألف حديث - وصنف التاريخ والناسخ والمنسوخ والمقدم والمؤخر في كتاب الله تعالى وجوابات القرآن والرد على الزنادقة في دعواهم التناقض في القرآن والرد على الجهمية وفضائل الصحابة والمناسك الكبير والصغير وكتاب الزهد وحديث شعبة وغير ذلك من الكتب.

‌ذكر بعض ما أنشده من الشعر له ولغيره

عن أحمد بن يحيى قال كنت أحب أن أرى أحمد بن حنبل فسرت إليه فلما دخلت عليه قال لي فيم جئت قلت في النحو والعربية فأنشد أحمد بن حنبل رضي الله عنه:

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل

خلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة

ولا أن ما يخفى عليه يغيب

لهونا عن الأعمال حتى تتابعت

ذنوب على آثارهن ذنوب

فيا ليت أن الله يغفر ما مضى

ويأذن في توباتنا فنتوب

إذا ما مضى القرن الذي أنت فيهم

وخلفت في قرن فأنت غريب

وعن علي بن خشرم أنه سمع أحمد بن حنبل يقول:

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها

من الحرام ويبقى الأثم والعار

تبقى عواقب سوء من مغبتها

لاخير في لذة من بعدها النار

وروي من قوله في علي بن المديني:

يا ابن المديني الذي عرضت له

دنيا فجاد بدينه لينالها

ماذا دعاك إلى انتحال مقالة

قد كنت تزعم كافرًا من قالها

أمر بدا لك رشده فتبعته

أم زهرة الدنيا أردت نوالها

ولقد عهدتك مرة متشددًا

صعب المفادة التي تدعى لها

ص: 6

إن المرزأ من يصاب بدينه

لا من يرزأ ناقة وفصالها

‌ذكر هيئته ووصفه

كان الإِمام أحمد رضي الله عنه شيخًا أسمر شديد السمرة طوالا وخضب رأسه ولحيته بالحناء وهو إبن ثلاث وستين سنة خضابا ليسى بالقاني وكان حسن الوجه في لحيته شعرات سود وثيابه كانت غلاظًا إلا أنها بيض وقال عبد الله ابَنه ما مشى أبى في سوق قط وكان رحمه الله أصبر الناس على الوحدة ولم يره أحد إلا في المسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض وعن الحسين بن إسماعيل قال سمعت أبي يقول كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة ألاف أو يزيدون أقل من خمسمائة يكتبون والباقون يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت وعن أبي بكر المطوعي قال اختلفت إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل اثنتي عشرة سنة وهو يقرأ المسند على أولاده فما كتبت منه حديثًا واحدًا إما كنت انظر إلى هديه وأخلاقه وآدابه.

‌ذكر حسن أخلاقه وعشرته

عن أبي داود السجستاني قال لم يكن أحمد بن حنبل يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا فإن ذكر العلم تكلم وقال مجالس أحمد بن حنبل مجالس الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا ما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط وعن الحسين بن المناوي قال سمعت جدي يقول كان أحمد من أحيى الناس وأكرمهم نفسًا وأحسنهم عشرة وأدبًا كثير الاطراق والغض معرضًا عن القبيح واللغو لا يسمع منه إلا المذاكرة بالحديث وذكر الصالحين والزهاد في وقار وسكون ولفظ حسن وإذا لقيه إنسان بشَ به وأقبل عليه وكان يتواضع للشيوخ تواضعًا شديدًا وكانوا يكرمونه ويعظمونه وسئل لم لا تصحب الناس قال لوحشة الفراق وعن إسحاق بن هانئ قال كنا عند أبي عبد الله أحمد بن حنبل في منزله ومعنا المروذي ومهنا بن يحيى الشامي فدق داق الباب وقال المروذي ها هنا وكان المروذي كره أن يعلم موضعه فوضع مهنا بن يحيى إصبعه في راحته وقال ليس المروذي ها هنا وما يصنع المروذي ها هنا فضحك أحمد ولم ينكر ذلك.

‌ذكر محنته رضي الله عنه

وسبب ذلك أنه لم تزل الناس على ما كان عليه السلف وقولهم أن القرآن غير

ص: 7

مخلوق حتى ظهرت المعتزلة الضالة وقالت يخلق القرآن وكان الناس في زمن أمير المؤمنين هارون الرشيد على ما كان عليه السلف كما روي عن محمد بن نوح قال سمعت هارون أمير المؤمنين يقول بلغني أن بشر المريسي زعم أن القرآن مخلوق على أن ظفرني الله به لأقتلنه قتلة ما قتلها أحد قط. واستمر الأمر كذلك في زمن الأمين محمد بن هارون الرشيد. ثم ولي المأمون أبو جعفر عبد الله بن هارون الرشيد وكانت ولايته في الحرم وقيل في رجب سنة ثمان وتسعين ومائة فصار إليه قوم من المعتزلة وأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل وحسنوا له قبيح القول بخلق القرآن فصار إلى مقالتهم وقدر أنه في آخر عمره خرج من بغداد لغزو بلاد الروم فعن له أن يكتب إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب صاحب الشرطة ببغداد أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن. فاستدعى جماعة من

العلماء والقضاة وأئمة الحديث ودعاهم إلى ذلك فامتنعوا فهددهم فأجاب أكثرهم مكرهين واستمر الإمام أحمد رضي الله عنه على الامتناع فلما أصر حمل على بعير وسيروه إلى الخليفة فبلغه توعد الخليفة له بالقتل إن لم يجب إلى القول بخلق القرآن فتوجه الإمام أحمد بالدعاء إلى الله تعالى أن لا يجمع بينه وبينه فبينما هو في الطريق قبل وصوله إليه إذ جاءهم الصريخ بموت المأمون وكان موته في شهر رجب سنة ثمان عشرة ومائتين. فرد الإِمام أحمد إلى بغداد وحبس - ثم ولي الخلافة المعتصم وهو أبو اسحاق محمد بن هارون الرشيد وقدم من بلاد الروم فدخل بغداد في مستهل شهر رمضان سنة ثمان عشرة ومائتين فامتحن الإِمام وضرب بين يديه في الشهر المذكور وكان ما كان. . . ثم أمر الخليفة بحبسه فبقي محبوسًا نحو ثمانية وعشرين شهرًا آخرها رمضان سنة عشرين ومائتين - ثم في ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين ولي الواثق وهو أبو جعفر هارون بن المعتصم فلم يتعرض للإِمام في شيء وإنما امره أن يختفي فاختفى الإمام إلى أن توفي الواثق - ولما ولي المتوكل وهو أبو الفضل جعفر بن المعتصم وكانت ولايته في ذي الحجة سنة اثنين وثلاثين ومائتين خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد وطعن عليهم. فيما كانوا يقولونه من خلق القرآن ونهى عن الجدل والمناظرة في الآراء وعاقب عليه وأمر بإظهار الرواية للحديث فأظهر الله به السنة وأمات البدعة فاستبشر الناس بولايته وأمر بالقبض على

ص: 8

وزيره الزيات فوضعه في تنور إلى أن مات. وذلك سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وابتلي قاضي القضاة أحمد بن أبي داود بالفالج بعد موت الوزير بسبعة وأربعين يومًا فولي القضاء مكانه ولده محمد فلم تكن طريقته مرضية ثم سخط المتوكل عل أحمد بن أبي داود وولده في سنة 239 وأخذ جميع ضياع الأب وأمواله وأخذ من الولد مائة وعشرين ألف دينار وجوهرًا بأربعين ألف دينار وسيره إلى بغداد وولى القاضي يحيى بن أكتم قضاء القضاة وكان من أئمة الدين وعلماء السنة ثم مات ابن أبي داود بمرض الفالج في المحرم سنة أربعين ومائتين ومات ولده محمد قبله بعشرين يومًا وكان بشر المريسي قد أهلكه الله ومات في ذي الحجة سنة 218 وعن عمران بن موسى قال دخلت على أبي العروق الجلاد الذي ضرب الإمام أحمد

لانظر إليه فمكث خمسًا وأربعين يومًا ينبح كما ينبح الكلب وقد انتقم الله من كل خصومه المبتدعين الذين سعوا في أمره وخذلهم ونصره عليهم بحول الله وقوته وبركة كتابه العزيز وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وشرع المتوكل في الإحسان إلى الإِمام وتعظيمه وإكرامه وكتب إلى نائبه بغداد إسحاق بن إبراهيم أن يبعث إليه بالإِمام أحمد فبعث به معظمًا مكرمًا إلى الخليفة بسر من رأى قال عبد الله بن أحمد وبعث المتوكل يقول أحببت أن أراك وأن أتبرك بدعائك وأنزلنا دارًا والمتوكل يرانا من وراء الستر فأمر لأبي بثياب ودراهم وخلعة فبكى وقال أنسلم من هؤلاء منذ ستين سنة فلما كان آخر العمر ابتليت بهم ولما جاؤوا بالخلعة لم يمسها فجعلها على كتفيه فما زال يتحرك حتى رمى بها وأبى أن يقبل المال فقبل له أن رددتُه وجد عليك في نفسه ففرقه على مستحقيه ولم يأخذ منه شيئًا وكان كل يوم يرسل إليه من طعامه الخاص فلا يأكل منه لقمة قال صالح وأمر المتوكل أن يشرى له في دارًا فقال أبي يا صالح إن أقررت لهم بشراء دار لتكونن القطيعة بيني وبينك فلم يزل يدفع شراء الدار حتى اندفع ثم عاد إلى بغداد وكان المتوكل لا يولي احدًا إلا بمشورة الإمام أحمد ومكث الإمام إلى حين وفاته قل أن يأتي يوم إلا ورسالة الخليفة تنفذ إليه في أمور يشاوره فيها رحمهما الله تعالى.

‌ذكر وفاته رضي الله عنه

مرض الإِمام ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول فأقبل الناس لعيادته

ص: 9

وكثروا ولزموا الباب بالليل والنهار وسمع السلطان بكثرة الناس فوكل ببابه وباب الزقاق المرابطة وأصحاب الأخبار فأغلق باب الزقاق وكان الناس بالشوارع والمساجد حتى تعطل بعض الباعة وكان ابن عطاء يتعاهده بالغداة والعشي ولم يجتمعا وجاء إليه حاجب ابن طاهر وقالا أن الأمير يقرئك السلام وهو يشتهي أن يراك فقال له هذا مما أكره وجاء بنو هاشم فدخلوا عليه وجعلوا يبكون وجاء قوم من القضاة وغيرهم فلم يؤذن لهم وكان يخدمه في أموره المروذي وكان قد كتب وصيته فقال اقرأوها فقرئت عليه ونسختها (بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به أحمد بن محمد بن حنبل أوصى أنه يشهد أن لا

إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره عَلَى الدين كله ولو كره المشركون وأوصى من أطاعه من أهله وقرابته أن يعبدوا الله تعالى في العابدين وأن يحمدوه في الحامدين وأن ينصحوا لجماعة المسلمين وإني رضيت بالله ربًا وبالإِسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا وأوصى أن لعبد الله فوران علي نحوًا من خمسين دينارًا وهو يصدق فيما قال فيقضى ماله على من غلة الدار إن شاء الله تعالى) انتهى. فلما مات أحله فوران من دينه ولم يأخذه فإنه كان من أعظم أصحابه ثم أن الإمام استدعى بالصبيان من ذريته فجعلوا ينضمون إليه وجعل يشمهم ويمسح بيده على رؤوسهم وعينه تدمع فقال له رجل لا تغتم لهم يا أبا عبد الله فأشار بيده أن لا وجعل يدعو لهم واشتدت به العلة يوم الخميس قال المروذي فلما كانت ليلة الجمعة ثقل وظننت أنه قبض وأردنا أن نمده فجعل يقبض قدميه وهو موجه وجعلنا نلقنه فيقول لا إله إلا الله وهو مستقبل القبلة بقدميه فلما كان يوم الجمعة اجتمع الناس حتى ملأوا السكك والشوارع فلما كان النهار من يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين قبض رحمه الله وله سبع وسبعون سنة وكان مرضه تسعة أيام وبعض العاشر فصاح الناس وعلت الأصوات بالبكاء حتى كأن الدنيا قد ارتجت وقعد الناس فخفنا أن ندع الجمعة فأشرفت عليهم فأخبرتهم أنا نخرجه بعد صلاة الجمعة قال المروذي فلما فرغنا من غسله وأردنا أن نكفنه غلبنا عليه بنو هاشم وجعلوا يبكون عليه ويأتون بأولادهم فيبكون عليه ويقبلونه وكان له ثلاث شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فأوصى أن يجعل في كل عين شعرة وعلى لسانه شعرة

ص: 10

ووضعناه على السرير وشددناه بالعمائم وحمل جنازته وصلى عليه محمد بن عبد الله بن طاهر وكانت الصفوف من الميدان إلى باب القطيعة وحزر من حضرها من الرجال بمائة ألف ومن النساء بستين ألفًا غير من كان في الطرق وفي السفن. وعلى السطوح وقيل أكثر من ذلك ودفن بباب حرب ببغداد وقبره ظاهر مشهور يزار ويتبرك به وما خلف إلا ستة قطع أو سبعة في خرقة كان يمسح بها وجهه وقال أمير المؤمنين المتوكل لمحمد بن عبد الله بن طاهر طوبى لك صليت على أحمد بن حنبل وعن

أبي الحسن التميمي عن أبيه عن جده أنه حضر جنازة الإمام أحمد قال فمكثت طول الأسبوع رجاء أن أصل إلى قبره فلم أصل من ازدحام الناس عليه وأسلم يوم مات أحمد بن حنبل عشرون ألفًا من اليهود والنصارى والمجوس ووقع عليه المآتم من جميع الطوائف وكان الإمام أحمد يقول بيننا وبينهم يوم الجنائز يعني أهل البدع - وكان له كرامات واضحة رضي الله عنه فمن كراماته ما روي عن ابنه عبد الله قال رأيت أبي حرج على النمل أن تخرج من داره ثم رأيت النمل قد خرجت نملًا سودًا فلم أرها بعد ذلك وقال أبو طالب علي بن أحمد دخلت يومًا على أبي عبد الله وهو يملي وأنا أكتب فاندق قلمي فأخذ قلمًا فأعطانيه فجئت بالقلم إلى أبي علي الجعفري فقلت هذا قلم أبي عبد الله أعطانيه فقال لغلامه خذ القلم فضعه في النخلة عسى تحمل فوضعه فيها فحملت النخلة - وروي عن قاضي القضاة ابن الحسين الزيني أن الحريق وقع في دارهم فاحترق ما فيها إلا كتاب كان فيه شيء بخط الإِمام أحمد وذكر الشيخ الإمام أبو الفرج بن الجوزي قال لما وقع الغريق ببغداد سنة أربع وخمسين وخمسمائة وغرقت كتبي سلم لي مجلد فيه ورقات من خط الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وعن الربيع بن سليمان قال كتب الشافعي كتابًا إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل ثم قال لي يا أبا سليمان انحدر بكتابي هذا إلى العراق إلى أحمد بن حنبل ولا تقرأه فأخذت الكتاب وخرجت من مصر حتى قدمت العراق فوافيت مسجد أحمد بن حنبل فصادفه يصلي الفجر فصليت معه وكنت لم أركع السنة فقمت أركع عقيب الصلاة فجعل ينظر إلي مليًا حتى عوفني فلما سلمت من صلاتي سلمت عليه وأوصلت كتابي إليه فجعل يسألني عن الشافعي طويلًا قبل أن ينظر في الكتاب ثم فضه وقرأه حتى إذا بلغ موضعًا منه بكى وقال أرجو من الله تعالى أن يحقق ما قاله الشافعي

ص: 11

قلت يا أبا عبد الله أي شيء قد كتب إليك قال أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه وهو يقول له يا ابن إدريس بشر هذا الفتى أبا عبد الله أحمد بن حنبل أنه سيمتحن في دين الله ويدعي أن يقول القرآن مخلوق فلا يفعل وأنه سيضرب بالسياط فإن الله عز وجل ينشر له بذلك علمًا لا ينطوي إلى يوم القيامة فقلت البشارة فأي شيء جائزتي عليها وكان عليه ثوبان فنزع

أحدهما فدفعه إلي وكان مما يلي جلده وأعطاني جواب الكتاب فخرجت حتى قدمت عَلَى الشافعي فأخبرته بما جرى قال فأين الثوب قلت هو ذا قال لا نبتاعه منك ولا نستهديك ولكن اغسله وجئنا به قال فغسلته وحملت مائه إليه فتركه في قنينة فكنت أراه في كل يوم يأخذ منه فيمسح على وجهه تبركًا بأحمد بن حنبل رضي الله عنهما. ومن ورعه أنه نهى ولديه وعمه عن أخذ العطاء من مال الخليفة فاعتذروا بالحاجة فهجرهم شهرًا وأجرى عليه المتوكل وعلى ولده وأهله أربعة آلاف درهم في كل شهر فبعث إليه أبو عبد الله أنهم في كفاية فبعث إليه المتوكل إنما هذا لولدك ما لك ولهذا وقال أحمد بن محمد التستري أتى على أحمد ثلاثة أيام ما طعم فيها شيئًا فبعث إلى صديق له فافترض منه شيئًا من دقيق فعرف أهله شدة حاجته إليه فخبزه عاجلًا فلما وضع بين يديه قال كيف خبزتم هذا بسرعة قالوا كان تنور صالح مسجورًا فخبزناه عاجلًا قال ارفعوه ولم يأكل منه لأن صالحًا ولي القضاء قال ابن عساكر لما ولي ابنه صالح القضاء كان بينه وبينه باب فسده الإمام أحمد وله غير ذلك شيء كثير رحمه الله تعالى.

‌ذكر ما قيل فيه من الأشعار والمراثي

قال إسماعيل الترمذي في قصيدة أنشدها أحمد بن حنبل رحمه الله وهو في سجن المحنة:

إذا ذكر الأشياخ يومًا وحرروا

فاحمد من بين المشايخ جوهر

دقيق أديم الوجه حلو مهذب

لدى كل ذي علم وتقوى موقر

لعمرك ما يهوى لأحمد نكبة

من الناس إلا ناقص العقل مغور

هو المحنة اليوم الذي يبتلى به

فيعتبر السني فينا ويسبر

شجى في حلوق الملحدين وقرة

لا عين أهل النسك عف مشمر

ص: 12

جرى سابقًا في حلبة الصدق والتقى

كما طبق الطرف الجواد المضمر

إذا افتخر الأقوام يومًا بسيد

ففيه لنا والحمد لله مفخر

فقل للأولى يشنونه لصلاحه

وعفته والمرء بالجهل يعذر

جُعلتم فداء أجمعين لنعله

فإنكم منها أذل وأحقر

لريحانه القراء تبغون عثرة

وكلكم من جيفة الكلب أقذر

فيا أيها الساعي ليدرك شأوه

رويدك عن إدراكه سنقصر

تمسك بالعلم الذي كان قد وعى

ولم يلهه عنه الخبيص المزعفر

ولا بغلة هملاجة مغربية

ولا حلة تطوى سرارًا وتنشر

ولا منزل بالساج والكلس متقن

ينقش فيه جصه ويصور

ولا أمة براقة الجيد حلوة

بمنطقها تصمي الحكيم وتسحر

حمى نفسه الدنيا وقد سنحت له

فمنزله إلا من القوت مقفر

فإن يك في الدنيا مقلا فإنه

من الأرب المحمود والعلم مكثر

ومما ينسب للإمام الشافعي:

أضحى ابن حنبل حجة مبرورة

ويحب أحمد يعرف المتنسك

وإذا رأيت لأحمد متنقصًا

فاعلم بأن ستوره ستهتك

ومما ينسب له أيضًا:

قالوا يزورك أحمد وتزوه

قلت الفضائل لا تفارق منزله

إن زارني فبفضله أو زرته

فلفضله فالفضل في الحالين له

وحكى أن الإِمام رضي الله عنه قال في حق الشافعي:

إن نختلف نسبًا يؤلف بيننا

أدب أقمناه مقام الوالد

أو يفترق ماء البلاد فوردنا

عذب تحدر من إناء واحد

ص: 13

‌الطبقة الأولى: فيمن عاصروه وأخذ عنهم وأخذوا عنه ممن لم يكن متمذهبًا بمذهبه

*‌

‌ الشيخ معروف الكرخي

معروف بن الفيرزوان أبو محفوظ العابد المعروف بالكرخي منسوب إلى كرخ بغداد وكان أحد المشهورين بالزهد والعزوف عن الدنيا يغشاه الصالحون ويتبرك بمقامه العارفون وكان يوصف بأنه مجاب الدعوة وحكى عنه كرامات وأسند عنه أحاديث كثيرة عن بكر بن حنيس والربيع بن صبيح وغيرهما روى عنه خلف بن هشام البزار وزكريا بن يحيى المروزدي ويحيى بن أبي طالب وحكى عن إمامنا قال رأيت أحمد بن حنبل فتى عليه آثار النسك سمعته يقول كلامًا جمع فيه الخير وسمعته يقول من علم أنه إذا مات نسي أحسن ولم يسي وكان أحمد بن حنبل يقول معروف الكرخي من الابدال وهو مجاب الدعوة وذكر في مجلس أحمد أمر معروف الكرخي فقال بعض من حضر هو قصير العلم فقال أحمد امسك عافاك الله وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف وحكى إسماعيل بن شداد قال: قال لنا سفيان بن عيينة من أين أنتم قلنا من أهل بغداد فقال ما فعل ذلك الحبر الذي فيكم قلنا من هو قال أبو محفوظ معروف قال قلنا بخير قال لا يزال أهل تلك المدينة بخير ما بقي فيهم وقال إبراهيم الحربي قبر معروف الترياق المجرب وقال رجل لمعروف أوصني فقال توكل على الله وأكثر ذكر الموت حتى لا يكون لك جليس غيره واعلم أن الناس لا ينفعونك ولا يضرونك ولا يمنعونك وقال معروف أني لأجد ألم الندم بعد الموت منذ الساعة وقال إذا أراد الله

بعبد خيرًا فتح عليه باب العمل وأغلق عنه باب الجدل وإذا أراد الله بعبد شرًا فتح له باب الجدل وأغلق عنه باب العمل وقال معروف بلغني أن من لعن إمامًا حرم عدله وقال معروف من صلى ست ركعات بعد المغرب غفر له ذنوب أربعين سنة وقال صدقة المقابري رأيت معروفًا في النوم وكأن أهل القبور جلوس وهو يختلف بينهم بالزيحان فقلت يا أبا محفوظ اليس قدمت فقال:

موت التقي حياة لا نفاد لها

قد مات قوم وهم في الناس أحياء

ومات معروف سنة مائتين رحمه الله تعالى ونفعنا به آمين.

ص: 14

*‌

‌ الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي

محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السايب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف القرشي يجتمع مع النبي عليه السلام في عبد مناف. أبو عبد الله الشافعي الإِمام الأعظم والحبر المكرم أحد الأئمة المجتهدين الأعلام إمام أهل السنة ركن الإسلام لقي جد شافع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع وكان أبوه السايب صاحب راية بني هاشم يوم بدر فأسر وفدى نفسه ثم أسلم فقيل له لم لم تسلم قبل أن تفدي نفسك فقال ما كنت لأحرم المؤمنين طمعًا لهم في ولد الشافعي بغزة من الشام على الأصع سنة خمسين ومائة سنة وفاة الإِمام أبي حنيفة وقيل في اليوم الذي مات فيه ونشأ بمكة وكتب العلم بها وبالمدينة وقدم بغداد مرتين وخرج إلى مصر فنزلها وكان وصوله إليها سنة تسع وتسعين ومائة ولم يزل بها إلى وفاته سمع مالك بن أنس وإبراهيم بن سعد وسفيان بن عيينة واجتمع مع إمامنا وسمع منه وذاكره ونقل عنه وحاضره ذكره الأئمة الحفاظ منهم أبو حاتم الرازي وقال تعلم الإِمام الشافعي أشياء من معرفة الحديث من أحمد بن حنبل وقال إسحاق بن حنبل كان الشافعي يأتي أبا عبد الله عندنا عامة النهار يتذاكران الفقه وما أخرج الشافعي في كتبه حدثني بعض أصحابنا عن إسماعيل وأبي معاوية والعراقيين فهو عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل وقال فضل بن زياد عن أحمد أنه جالس الشافعي بمكة

فأخذ عنه التفتيق وكلام قريش وأخذ الشافعي عنه معرفة الحديث قال عبد الله وسمعت أبي وذكر الشافعي يقول ما استفاد منا أكثر مما استفدناه عنه وقال الخطيب في أول كتاب السابق واللاحق حدث عن أحمد بن حنبل أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي وأبو القاسم البغوي فتوفي الشافعي سنة أربع ومائتين وتوفى البغوي سنة سبع عشرة وثلاثمائة وقال الربيع كان الشافعي يختم في كل ليلة ختمة فإذا كان شهر رمضان ختم في كل ليلة ختمة وفي كل يوم ختمة وقال أحمد بن حنبل ستة أدعو لهم سحرًا أحدهم الشافعي رضي الله عنه قال الشافعي حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين قال الربيع بن سليمان كان الشافعي يفتي وهو ابن خمس عشرة سنة قال إسحاق بن راهويه لقيني أحمد بن حنبل بمكة فقال

ص: 15

تعال حتى أريك رجلًا لم تر عيناك مثله فأراني الشافعي وكان رضي الله عنه كثير المناقب جم المفاخر منقطع القرين اجتمعت فيه من العلوم بكتاب الله تعالى وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة وآثارهم واختلاف أقاويل العلماء وغير ذلك من معرفة كلام العرب واللغة والعربية والشعر ما لم يجتمع في غيره حتى أن الأصمعي مع جلالة قدره في هذا الشأن قرأ عليه أشعار المذللين ومناقب الشافعي وفضائله كثيرة لا يمكن حصرها وتحتمل الأفراد بالتأليف وهو اول من تكلم في اصول الفقه وهو الذي استنبطه وقال أبو ثور من زعم أنه رأى مثل محمد بن إدريس في علمه وفصاحته ومعرفته وثباته وتمكينه فقد كذب وقال الإمام أحمد بن حنبل ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته منه. ومن أولاد الشافعي أبو عثمان محمد كان قاضي مدينة حلب وتوفي الإِمام الشافعي بمصر يوم الجمعة ودفن من يومه بعد العصر آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين بالقرافة الصغرى وقبره مشهور بزار نفعنا الله به وحكى الزعفراني قال سمعت أحمد بن حنبل يقول رأيت في المنام كأن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات وكأن الناس قد أقبلوا إلى جنازته قال فأصبحت ونظرنا فإذا الشافعي قد مات في ذلك اليوم.

- تم المختصر من الطبقة الأولى -

*‌

‌ إسحاق عم الإِمام أحمد

إسحاق بن حنبل بن هلال بن أسد أبو يعقوب الشيباني عم إمامنا أحمد سمع يزيد بن هارون والحسين بن محمد المروذي روى عنه ابنه حنبل ومحمد بن يوسف الجوهري وكان ثقة ولد سنة إحدى وستين ومائة وكان ملازمًا في أكثر أوقاته مجلس أحمد ونقل عنه أشياء كثيرة قال المروذي سمعت أبا عبد الله وقال له عمه لو دخلت إلى الخليفة فإنك تكرم عليه قال إنما غمي من كرامتي عليه توفي إسحاق بن حنبل سنة ثلاث وخمسين ومائتن عن اثنتين وتسعين سنة رحمه الله.

*‌

‌ صالح ابن الإمام أحمد

أبو الفضل صالح أكبر أولاد الإِمام ولد سنة ثلاث ومائتين سمع أباه وأبا علي المديني وأبا الوليد الطيالسي وإبراهيم بن الفضل الدارع روى عنه ابنه زهير وابن

ص: 16

القاسم البغوي ومحمد بن جعفر الخرائطي ويحيى بن صاعد ومحمد بن مخلد وعبد الرحمن بن أبي حاتم وأبو الحسين بن المناوي وأبو الحسن بن بشار وأبو بكر الخلال وقال كان الناس يكتبون إليه من المواضع يسأل لهم عن المسائل فوقعت إليه مسائل جياد وكان معيلا على حداثته وكان سخيًا بطول ذكر سخائه أن يرسم في كتاب ولي قضاء أصفهان ودخل إليها فبدأ بالمسجد فدخله وصلى ركعتين واجتمع الناس والشيوخ وجلس وقرئ عهده الذي كتب له الخليفة فجعل يبكي فبكى الشيوخ الذين قربوا منه فلما فرغ من قراءة العهد جعل المشايخ يدعون له ويقولون ما في بلدنا أحد الا وهو يحب أبا عبد الله ويميل إليك فقال لهم ما تدرون ما الذي أبكاني ذكرت أبي رحمه الله أن يراني في مثل هذا الحال كان يبعث خلفي إذا جاء رجل زاهد أو رجل صالح متقشف لأنظر إليه يحب أن أكون مثلهم ولكن الله يعلم ما دخلت في هذا الأمر إلا لدين قد غلبني وكثر عيالي وكان صالح قد ولي القضاء بطرسوس قبل أصبهان وتوفي بأصبهان ودفن إلى قرب قبر حمامة الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان سنة ست وستين ومائتين وله ثلاث وستون سنة وله أولاد منهم زهير وأحمد رحمه الله تعالى.

*‌

‌ حنبل ابن عم الإمام

حنبل بن إسحاق بن حنبل أبو علي الشيباني ابن عم إمامنا وأبا نعيم الفضل بن ركين وأبا غسان مالك بن إسماعيل وعفان بن مسلم وسعيد بن سليمان وعازم بن الفضل وسليمان بن حرب حدث عنه ابنه وقد اختلف في اسم ابنه فقوم قالوا عبيد الله وقوم قالوا عبد الله ويحيى بن صاعد وأبو بكر الخلال وغيرهم وكان ثقة ثبتًا وسئل عنه الدارقطني فقال كان صدوقًا قال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول من زعم أن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر بالله وكذب بالقرآن ورد على الله أمره يستتاب فإن تاب وإلا قتل والله تعالى لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة توفى بأواسط جمادي الأولى سنة ثلاث وسبعين ومائتين رحمه الله تعالى.

*‌

‌ أبو بكر المروذي

أحمد بن محمد بن الحجاج بن عبد العزيز أبو بكر المروذي كانت أمه مروذية وأبوه خوارزميا وهو المقدم من أصحاب أحمد لورعه وفضله وكان إمامنا يأنس به وينبسط إليه

ص: 17

روي عنه مسائل كثيرة منها قال سمعت أبا عبد الله يقول يكره للرجل أن ينام بعد العصر ويخاف على عقله قال أبو بكر الخلال خرج أبو بكر المروذي إلى الغرف فشيعه الناس إلى سامرا فجعل يردهم فحزروا فإذا هم بسامرا سوى من رجع نحو خمسين ألفا فقيل له يا أبا بكر أحمد الله فهذا علم قد نشر لك قال فبكى ثم قال ليس هذا العلم لي إنما هذا علم أحمد بي حنبل توفي المروذي في جمادي الأولى سنة خمس وسبعين ومائتين ودفن عند رجل قبر الإِمام رحمه الله تعالى.

* عبد الله ابن الإِمام

‌عبد الله ابن الإمام

أحمد بن محمد بن حنبل أبو عبد الرحمن حدث عن أبيه وعن عبد الأعلى بن حماد. وكامل بن طلحة ويحيى بن معين وخلق كثير روى عنه أبو القاسم البغوي وعبد الله بن إسحاق المدايني وأبو بكر الخلال وغيرهم وكان

ثقة ثبتًا فهمًا ولد في جمادي الآخرة سنة ثلاث عشرة ومائتين روى عبد الله عن أبيه قال أرواح الكفار في النار وأرواح المؤمنين في الجنة والأبدان في الدنيا يعذب الله من يشاء ويرحم من يشاء ولا نقول إنهما يفنيان بل هما عند الله عز وجل باقيان وقال عبد الله بن أحمد سألت أبي متى يجوز سماع الصبي في الحديث قال إذا عقل وضبط وسمعت أبي وسئل عن القراءة بالالحان فقال محدث قال القاضي أبو الحسين قرأت في كتاب أبي الحسين بن المناوي وذكر عبد الله وصالحًا فقال كان صالح قليل الكتاب عن أبيه فأما عبد الله فلم يكن في الدنيا أحدا روى منه عن أبيه رحمهما الله سمع منه المسند وهو ثلاثون ألفًا والتفسير وهو مائة وعشرون ألفًا سمع منها ثمانين ألفًا والباقي وجادة وسمع الناسخ والمنسوخ والتاريخ وحديث شعبة والمقدم والمؤخر من كتاب الله تعالى وجوابات القرآن والمناسك الكبير والصغير وغير ذلك قال عبد الله كل شيء أقول قاله أبي فقد سمعته مرتين وثلاثًا وأقله مرة وقال عبد الله قال أبي قبور أهل السنة من أهل الكبائر روضة وقبور أهل البدع من الزهاد حفرة فساق أهل السنة أولياء الله وزهاد أهل البدعة أعداء الله وقال عبد الله قال أبي قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة وسلسلت فيه الشياطين وأغلقت أبواب جهنم قلت لأبي قد نرى المجنون يصرع في رمضان فقال هكذا الحديث ولا نتكلم في هذا وقال عبد الله سئل

ص: 18

أبي لم لا تصحب الناس قال لوحشة الفراق توفي عبد الله بن أحمد في يوم الأحد ودفن في آخر النهار لتسع بقين من جمادي الآخرة سنة تسعين ومائتين ودفن في مقابر باب التبن وصلى عليه زهير بن صالح بن أحمد وكان يصبغ بالحمرة كثيف اللحية وعاش سبعًا وسبعين سنة رحمه الله تعالى.

*‌

‌ أحمد حفيد الإِمام

أحمد بن صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل روى عن جده الإِمام أحمد قال حدثنا جدي أحمد بن حنبل حدثنا روح بن عبادة عن مالك بن أنس عن سفيان الثوري عن ابن جريج عن عطاء عن عائشة قالت كنت أغتسل انا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد رحمه الله.

*‌

‌ أحمد ابن عم الإِمام

أحمد بن عبد الله بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني ابن عم إمامنا جالس إمامنا وسمع منه أشياء وحدث عن محمد بن الصباح الدولابي وروى عنه عبد الله ابن إمامنا أحمد وغيره رحمه الله تعالى.

*‌

‌ عباسة بنت الفضل زوجة الإِمام وأم ابنه صالح

كان أحمد يثني عليها وسمعت منه أشياء وماتت في حياته قال زهير بن صالح بن أحمد تزوج جدي أم أبي عباسة بنت الفضل وهي من العرب من المربض ولم يولد له منها غير أبي ثم توفيت قال أحمد أقامت أم صالح عندي عشرين سنة فما اختلفت أنا وهي في كلمة.

*‌

‌ ريحانة بنت عم الإِمام وزوجته وأم ابنه عبد الله

تزوجها الإِمام لما ماتت أم صالح وكانت بفرد عين فأقام معها سبعًا وقالت له بعدما دخلت بأيام هل تنكر مني شيئًا فقال لا إلا هذه النعل التي تلبسينها لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فباعتها واشترت مقطوعًا فكانت تلبسه ولم يولد له منها غير عبد الله سمعت من الإِمام أحمد أشياء رحمها الله تعالى.

- تم المختصر من ذيل الطبقة الأولى -

قال المؤلف العليمي رحمه الله: قد بلغ عدد أصحاب الإِمام الذي عاصروه وروى

ص: 19

عنهم ورووا عنه ثمانية وسبعين وخمسمائة فمنهم من كانوا على مذهبه في الأصول والفروع ونقل الفقه عنهم إلى من بعدهم حتى وصل إلينا وقد بلغ عدد هؤلاء مائة وثلاثة وثلاثين نفسًا وهم:

أحمد بن جعفر الوكيعي. محمد بن الحكم. أحمد بن نصر الخزاعي. عبيد الله بن سعيد السرخسي. أحمد بن الحسن الترمذي. هارون بن عبد الله الحمال. أحمد أبو طالب المشكاتي. أحمد بن منيع البغوي. عصمة بن أبي

عصمة. أحمد بن إبراهيم الدورقي. أخوه يعقوب. أحمد بن صالح المصري. الحسن بن الصباح الواسطي. هارون المستملي. إسحاق بن منصور الكوسج. عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق. زياد بن أيوب دلونه. إسحاق بن حنبل عم الإِمام. يوسف بن موسى بن راشد. محمد بن صاعقة. عبد الله فوران. الحسن بن عبد العزيز بن الوزير. أبو علي الجدامي. أحمد بن الفرات الضبي. إسحاق بن إبراهيم البغوي. أيوب بن إسحاق أخو يحيى. أبو بكر الأثرم. خطاب بن بشر. عبد الله أبو زرعة الرازي. أحمد بن منور الزمادي. إبراهيم بن هاني صالح وعبد الله ولدا الإِمام الحسن بن ثواب محمد بن إبراهيم البوشنجي إسماعيل أبو النصر العجلي العباس بن محمد الدوري محمد بن حبيب البزاز محمد أبو جعفر الوراق الجرجاني أحمد بن سعيد الزهري أحمد بن محمد بن واصل المقري حنبل بن إسحاق ابن عم الإِمام عبد الملك الميمون أبو بكر المروذي إسحاق بن إبراهيم بن هاني أحمد بن ملاعب أحمد بن بشر الطيالسي. أبو داود السجستاني أحمد بن يحيى الحلواني أحمد بن مطين محمد بن حماد صاحب خلف محمد بن إدريس أبو حاتم الحنظلي عبد الكريم بن الهيثم أحمد بن خيثمة. جعفر بن محمد الصايغ عبد الرحمن أبو زرعة الدمشقي محمد بن إسماعيل الترمذي. أبو بكر بن أبي الدنيا أبو بكر بن المنذر إبراهيم بن إسحاق السراج محمد بن ماهان إسحاق بن حسن الحربي زكريا بن يحيى الناقد أهدم بن أحرم المزني محمد بشر أخو خطاب بشر بن موسى الأسدي أحمد بن يحيى ثعلب أحمد بن محمد بن عبد الله بن صدقة موسى بن هارون الحمال إبراهيم بن هاشم البغوي أحمد بن محمد البراثي محمد بن الحسن بن بدينا عبد الله أبو القاسم ابن بنت أحمد بن منيع

ص: 20

البغوي محمد بن داود المصيصي محمد بن عبد العزيز السؤددي محمد بن موسى بن مشيش محمد بن موسى بن أبي موسى محمد بن هبيرة البغوي محمد بن يحيى الكحال محمد بن يزيد أبو بكر المستملي أحمد بن إبراهيم الكوفي أحمد بن سعيد الدارمي أحمد بن صالح ابن الإِمام أحمد بن عبد الله بن حنبل ابن عم الإِمام أحمد أبو بكر البواري قاضي تكريت أحمد بن القاسم صاحب أبي عبيد أحمد بن محمد المزني أحمد أبو الحارث

الصايغ أحمد بن محمد بن عبد ربه أحمد بن محمد بن يحيى الكحال أحمد بن نصر أبو حامد الخفاف أحمد بن هاشم الأنطاكي. أحمد بن أبي عبده إبراهيم بن الحارث الطرسوسي إبراهيم بن زياد الصائغ إبراهيم بن عبد الله بن مهران إبراهيم بن محمد بن الحارث الأصبهاني إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني إسماعيل الشالنجي إسحاق بن الجراح بكر بن محمد النسائي جعفر بن محمد النسائي الحسن بن زياد الحسن بن علي الإسكافي الحسن بن محمد الأنماطي الحسين بن إسحاق الخرقي حرب الكرماني حبيش بن سندي زياد بن يحيى بن عبد الملك بن مروان سلمة بن شبيب النيسابوري سندي بن أبي بكر الخواتيمي طاهر بن محمد التميمي عبيد الله بن أحمد بن عبيد ابن أخي الإمام عبيد الله بن محمد الفقيه المروذي عبد الرحمن أبو الفضل المتطيب علي بن أحمد الأنماطي علي بن أحمد بن ابنة معاوية علي بن الحسين المصري علي بن الحسن بن زياد علي بن سعيد النسوي علي بن عبد الصمد الطيالسي عبدوس بن مالك العطار الفضل بن زياد القطان الفرج بن الصباح البرزاطي موسى بن عيسى الجصاص ميمون بن الأصبغ مثني بن جامع مهنا بن يحيى الشامي يحيى بن زكريا صاحب إسحاق بن راهويه يحيى بن يزداد أبو الصقر يعقوب بن بختان يعقوب بن العباس الهاشمي يوسف بن موسى العطاب الحربي.

فهؤلاء هم الحنبليون من أصحاب الإِمام أحمد ممن ذكرت تراجمهم في هذا الكتاب فمنهم المقل عنه ومنهم المكثر وهم أيضًا متفاوتون في المنزلة عند الإِمام أحمد والنقل عنه والضبط والحفظ. ولنذكر الآن أسماء فقهاء الحنابلة من بعد الطبقة الأولى مرتبين على الطبقات والوفيات كما تقدم الوعد به في أول الكتاب ونجعل كل طبقة

ص: 21

منهم على مرتبتين فأقول وبالله العصمة والتوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل. انتهى.

*‌

‌ زهير بن صالح ابن الإِمام أحمد

حدث عن جماعة منهم والده روى عنه جماعة منهم ابن أخيه محمد بن أحمد بن صالح وأبو بكر النجار و‌

‌أبو بكر الخلال

قال الخلال حدثني زهير بن

صالح قال حدثنا أبي قال قلت لأبي الصلاة بوضوء واحد أحب اليك أم تتوضأ لكل صلاة قال أن قوي أن يصلي بوضوء واحد فلا بأس به ليت أنا قوينا عليه ما لروحه قال أحمد بن كامل ومات زهير بن صالح بن أحمد سنة ثلاث وثلاثمائة رحمه الله.

* أبو بكر الخلال

أحمد بن محمد بن هارون أبو بكر المعروف بالخلال له التفاسير الدائرة والكتب السائرة من ذلك الجامع لعلوم الإِمام أحمد لم يصنف في المذهب مثله والعلل والسنة والطبقات والعلم وتفسير الغريب والأدب وأخلاق أحمد وغير ذلك سمع من جماعة من أصحاب إمامنا وغيرهم ممن يكثر تعدادهم ويشق إحصاؤهم منهم صالح وعبد الله ابنا الإِمام وحنبل ابن عمه وإبراهيم الحربي وأبو داود السجستاني ورحل إلى أقاصي البلاد في جمع مسائل أحمد وسماعها ممن سمعها من أحمد فسبق إلى ما لم يسبق إليه سابق ولم يلحقه بعده لاحق وسئل الخلال عن طير وقع في قدر فقال إن كانت القدر تغلي فاللحم وما فيها يجذب النجاسة فيراق كله وإن كانت قد هدأت غسل اللحم وما فيها وأهريق الماء وقال بلغني أن أحمد سئل عن الزاهد يكون زاهدًا ومعه مائة دينار قال نعم على شريطة أنه إذا زادت لم يفرح وإذا نقصت لم يحزن وكانت حلقة الخلال بجامع المهدي وتوفي يوم الجمعة قبل الصلاة ليومين خليا من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثلاثمائة ودفن إلى جنب المروذي عند رجلي أحمد رحمه الله تعالى.

*‌

‌ أبو بكر بن أبي داود السجستاني

عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني أبو بكر بن أبي داود رحل به أبوه من سجستان فطوف به شرقًا وغربًا وأسمعه من علماء ذلك الوقت واستوطن بغداد وصنف المسند والسنن والتفسير والقرائات والناسخ والمنسوخ وغير ذلك وكان فهما عالما حافظا سمع جماعة من أب الإِمام أحمد وغيرهم وحدث عنه جماعة منهم الدارقطني ونصب له السلطان المنبر

ص: 22

فحدث عليه ورحل إلى

سجستان فأملى عليهم من حفظه ثلاثين ألف حديث روى على المحدث عن عبيد الله الفقيه قال أنشدنا أبو بكر بن أبي داود من حفظه لنفسه:

تمسك بحبل واتبع الهدى

ولا تك بدعيًا لعلك تفلح

ودن بكتاب الله والسنن التي

أتت عن رسول الله تنجو وتربح

وقل غير مخلوق كلام مليكنا

بذلك دان الأتقياء وافصحوا

ولا تقل بالقرآن بالوقف قائلا

كما قال اتباع لجهم واسجحوا

ولا تقل القرآن خلق قرائة

فإن كلام الله باللفظ يوضح

وقل يتجلى الله للخلق جهرة

كما البدر لا يخفى وربك أوضح

وليس بمولود وليس بوالد

وليس له شبه تعالى المسبح

وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا

بمصداق ما قلنا حديث مصحح

رواه جرير عن مقال محمد

فقل مثل ما قد قال في ذاك تنجح

وقد ينكر الجهمي أيضًا يمينه

وكلتا يديه بالفواضل تنفح

وقل ينزل الجبار في كل ليلة

بلا كيف جل الواحد المتمدح

إلى طبق الدنيا يمن بفضله

فتفرج أبواب السماء وتفتح

يقول ألا مستغفر أنا غافر

ومستمنح خيرا ورزقًا فأمنح

روى ذاك قوم لا يرد حديثهم

الا خاب قوم كذبوهم وقبحوا

وقل أن خير الناس بعد محمد

وزيراه قدمًا ثم عثمان الأرجح

ورابعهم خير البرية بعدهم

علي حليف الخير بالخير منجح

وإنهم والرهط لا ريب فيهم

على نجب الفردوس في الخلد تسرح

سعيد وسعد وابن عوف وطلحة

وعامر فهرٍ والزبير الممدح

وعائش أم المؤمنين وخالنا

معاوية أكرم به فهو مصلح

وأنصاره والهاجرون ديارهم

بنصرهم عن ظلمة النار زحزحوا

ومن بعدهم والتابعون بحسن ما

حذوا حذوهم قولًا وفعلا فافلحوا

وقل خير قول في الصحابة كلهم

ولا تك طعانًا تعيب وتجرح

فقد نطق الوحي المبين بفضلهم

وفي الفتح آي في الصحابة تمدح

ص: 23

وبالقدر المقدور أيقن فإنه

دعامة عقد الدين والدين أقبح

ولا تنكرن جهرًا نكيرًا ومنكرًا

ولا الخوض والميزان أنك تنصح

وقل يخرج الله العظيم بفضله

من النار أجسادًا من اللحم تطرح

على النهر في الفردوس تحيي بمائة

كحبة حمل السيل إذ جاء يطفح

وإن رسول الله للخلق شافع

وإن عذاب القبر بالحق موضح

ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا

فكلهم يعصي وذو العرش يصفح

وقل إنما الإيمان قول ونية

وفعل على قول النبي مصرح

وينقص طورًا بالمعاصي وتارة

بطاعته ينمو وفي الوزن يرجح

ولا تعتقد رأي الخوارج أنه

مقال لمن يهواه يردي ويفضح

ولا تك مرجيا لعوبا بدينه

ألا إنما المرجي بالدين يمرح

ولا تك من قوم تلهوا بدينهم

فتطعن في أهل الحديث وتقدح

ودع عنك آراء الرجال وقولهم

فقول رسول الله أزكى وأشرح

إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه

فأنت على خير تبيت وتصبح

قال ابن بطة قال ابن أبي داود هذا قولي وقول أبي وقول أحمد بن حنبل وقول من أدركنا من أهل العلم ومن لم ندرك فيما بلغنا عنه فمن قال غير هذا فقد كذب مولده سنة ثلاثين ومائتين قال وأول ما كتبت سنة إحدى وأربعين ومائتين وتوفي وهو ابن ست وثمانين وستة أشهر وأيام قيل صلى عليه ثمانين مرة حتى أنفذ المقتدر بالله جماعة فخلصوا جنازته ودفنوه يوم الأحد لاثنتي عشرة بقيت من ذي الحجة سنة ست عشرة وثلاثمائة أخرج بعد صلاة الغداة ودفن بعد صلاة الظهر وخلف ثمانية أولاد رحمهم الله تعالى.

*‌

‌ أحمد بن محمد بن صالح ابن الإِمام

أبو جعفر حدث عن عم أبيه عبد الله ابن الإِمام أحمد وعن عمه أحمد بن صالح. وعن عمه زهير بن صالح وغيرهم روى عنه جماعة منهم أبو القاسم الوراق والدارقطني وغيرهما وتوفي سنة ثلاثين وثلاثمائة رحمه الله تعالى.

ص: 24

*‌

‌ أبو بكر غلام الخلال

عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد بن معروف أبو بكر المعروف بغلام الخلال حدث عن جماعة منهم أبو القاسم البغوي وعبد الله بن أحمد وأبو بكر بن أبي داود روى عنه جماعة منهم أبو عبد الله بن حامد وكان من أهل العلم والديانة والعبادة وله المصنفات في العلوم المختلفات وهي الشافي والمقنع وتفسير القرآن والخلاف مع الشافعي وكتاب القولين وزاد المسافر والتنبيه وغير ذلك وله اختيارات خالف فيها شيخه الخلال منها أن المرأة إذا وقفت إلى جنب الرجل بطلت صلاة من يليلها من الرجال ومنها أن الكفر ملل وذكره القاضي أبو يعلى فقال كان ذا دين وأخا ورع علامة بارعًا في علم مذهب أحمد بن حنبل وذكر تصانيفه وتعظيمه في النفوس وتقدمه عند السلطان ووقعت له كرامات نفيسة وكان مع تصانيفه في الأصول والفروع له قدم في تفسير القرآن ومعرفة معانيه وتوفي في شوال لعشر بقين من يوم الجمعة بعد الصلاة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ونقل عنه أنه قال وهو في علته أنا عندكم إلى يوم الجمعة فقيل له يعافيك الله فقال سمعت أبا بكر الخلال يقول سمعت أبا بكر المروذي يقول عاش أحمد بن حنبل ثمانيًا وسبعين سنة ومات يوم الجمعة ودفن بعد الصلاة وعاش أبو بكر المروذي ثمانيا وسبعين سنة ومات يوم الجمعة ودفن بعد الصلاة وعاش أبو بكر الخلال ثمانيا وسبعين سنة ومات يوم الجمعة ودفن بعد الصلاة وأنا عندكم إلى يوم الجمعة ولي ثمان وسبعون سنة فلما كان يوم الجمعة مات ودفن بعد الصلاة وهذه كرامة حسنة وكان يوم موته عظيمًا لكثرة الجمع رحمه الله تعالى.

*‌

‌ أبو القاسم الخرقي

عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد أبو القاسم الخرقي قرأ العلم على أبيه الحسين وغيره ممن قرأه عَلَى أبي بكر المروذي وحرب الكرماني وصالح وعبد الله ابني إمامنا له المصنفات الكبيرة في المذهب لم ينتشر منها إلا المختصر في الفقه لأنه خرج عن مدينة السلام لما ظهر سب الصحابة رضي الله عنهم وأودع كتبه في

درب سليمان فاحترقت الدار التي كانت فيها ولم تكن انتشرت لبعده عن البلد قرأ عليه جماعة من شيوخ المذهب منهم عبد الله بن بطة وأبو الحسين التميمي وأبو الحسين بن سمعون قال القاضي

ص: 25

قرأت بخط أبي إسحاق البرمكي أن عدد مسائل المختصر ألفان وثلاثمائة مسألة - قال وقال أبو عبد الله بن القفاعي وجدت بخط شيخنا أبي حفص العكبري قال سمعت الشيخ أبا عبد الله بن بطة يقول توفي أبو القاسم سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ودفن بدمشق وزرت قبره رحمه الله رحمة واسعة آمين.

*‌

‌ ابن حامد الوراق

الحسن بن حامد بن علي بن مروان أبو عبد الله البغدادي إمام الحنابلة في زمانه ومدرسهم ومفتيهم له المصنفات في العلوم المختلفات له الجامع في المذهب نحو أربعمائة جزء وله تهذيب الأجوبة وشرح الخرقي وشرح أصول الدين وأصول الفقه ناظر أبا أحمد الإسفرائيني في وجوب الصيام ليلة الغمام في دار الإِمام القائم بأمر الله بحيث يسمع الخليفة الكلام فخرجت الجائزة السنية له من أمير المؤمنين فردها مع حاجة إلى بعضها فضلًا عن جميعها تعففًا وتنزهًا وكان ينسخ بيده ويقتات من أجرته فسمي ابن حامد الوراق وكان كثير الحج قال أبو بكر الخياط سألت الشيخ أبا عبد الله بن حامد إمام الحنبلية في وقته عند خروجه إلى الحج في سنة اثنتين وأربعمائة فقلت على من ندرس وإلى من نجلس فقال إلى هذا الفتى وأشار إلى القاضي أبي بعلي توفي راجعًا من مكة بقرب واقصة سنة ثلاث وأربعمائة رحمه الله تعالى.

*‌

‌ القاضي الكبير أبو يعلي

محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفرا إمام الحنابلة كان عالم زمانه وفريد عصره مولده في محرم سنة ثمانين وثلاثمائة وعنه انتشر مذهب الإِمام أحمد وكان له في الأصول والفروع القدم العالي والخطر الرفيع عند الإِمامين القادر بالله والقائم بأمر الله وكان على متن الإِمام أحمد رضي الله عنه

ولم يزل على طول الزمان يزداد جلالة وعلمًا وأما شيوخه فكثيرة ومنهم من سمع عن البغوي عن الإِمام كأبي القاسم بن جبارة وأبي القاسم موسى بن عيسى السراج وأما أصحابه فكثيرة أيضًا ولما توفي ابن مأكولا قاضي القضاة روسل المترجم ليلي القضاء بدار الخلافة والحريم فامتنع فلما لم يجد بدًا اشترط عليهم شرائط منها أنه لا يحضر المواكب ولا يخرج للاستقبالات ولا يقصد دار السلطان ويستخلف من ينوب عنه في الحريم

ص: 26

فأجيب إلى ذلك ثم أضيف إلى الحريم قضاء حران وحلوان فاستتاب فيهما وامتدحه أهل العلم بأبيات منها:

الحنبليون قوم لا شبيه لهم

في الدين والزهد والتقوى إذا ذكروا

أحكامهم بكتاب الله مذ خلقوا

وبالحديث وما جاءت به النذر

إن الإِمام أبا يعلي فقيههم

حبر عروق بما يأتي وما يذر

حضر الناس مجلسه وهو يملي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الجمعة بجامع المنصور على كرسي عبد الله بن الإِمام أحمد وما رأى الناس في زمانهم مجلسًا للحديث اجتمع فيه ذلك الجم الغفير من الأعيان وأماثل الزمان وكان يومًا مشهودًا وأما مصنفاته فكثيرة جدًا منها أحكام القرآن ومسائل الإيمان والمعتمد والمقتبس وعيون المسائل والرد على المجسمة وأربع مقدمات في أحوال الديانات وإثبات إمامة الخلفاء الأربعة وتبرئة معاوية وفضائل أحمد ومقدمة في الأدب وتفضيل الفقر على المعنى وشرح الخرقي وكتاب الروايتين والخلاف الكبير والخصال والأقسام وفيه يقول بعضهم:

قد نظرنا مصنفات الإِمام

فسبرنا شريعة الإسلام

ما رأينا مصنفًا جمع العـ

ــــلم مع الاختصار والإفهام

مثل ما صنف الإِمام أبو يعـ

ـــــــلى كتاب الخصال والاقسام

توفي ليلة الاثنين بعد العشائين تاسع عشر رمضان سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ورثي بقصائد وفي جملتها:

عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترى

في الناس منه ولا من علمه خلفا

أثنى عليه ابن الجوزي ولم تزل العلماء تثني عليه طبقة بعد طبقة إلى يومنا

هذا رحمه الله تعالى - يقول المختصر: إن صاحب الترجمة هو أول من وضع طبقات الحنابلة وجميع من ذيلوا وجمعوا وصنفوا من بعدهم عيال عليه وإن اختلفت عباراتهم وفي المكتبة الظاهرية بدمشق الآن نسخة قديمة من الطبقات المذكورة.

*‌

‌ جعفر السراج

جعفر بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن جعفر السراج المقري المحدث الأديب

ص: 27

أبو محمد ولد سنة سبع عشرة وأربعمائة وقرأ القرآن بالروايات واقرأ سنين سافر إلى البلاد وسمع خلقًا كثيرًا خرج له الخطيب خمسة أجزاء تعرف بالسراجيات وكان أدبيًا شاعرًا لطيفًا صدوقًا ثقة مأمونًا عالمًا فهما صالحا حسن الطريقة مع ظرفه ولطف أخلاقه وصنف كتبًا حسانًا منها مصارع العشاق وحكم الصبيان ومناقب السودان وشعره مطبوع نظم كتبًا كثيرة منها المبتدأ ومناسك الحج والخرقي والتنبيه ومن شعره:

بان الخليط فادمعي

وجدًا عليهم تستهل

وحدا بهم حادي الفرا

ق عن المنازل فاستقلوا

قل للذين ترحلوا

عن ناظري والقلب حلوا

ودمي بلا جرم أتيـ

ــــت غداة بينهم استحلوا

ما ضرهم لو انهلوا

من ماء وصلهم وعلوا

ومن شعره أيضًا:

قل للذين بجهلهم

اضحوا يعيبون المحابر

لولا المحابر والمعا

لم والصحايف والدفاتر

والحافظون شريعة الـ

ــــمبعوث من خير العشائر

والناقلون حديثه

عن كابر ثبت فكابر

لرأيت من شبع الضلا

ل عساكرًا قتلوا عساكر

كل يقول بجهله

والله للمظلوم ناصر

قال ابن الجوزي توفي ليلة الأحد العشرين من صفر سنة خمسمائة رحمه الله تعالى.

*‌

‌ أبو الخطاب الكلوذاني.

محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذاني البغدادي الفقيه أحد أئمة المذهب وأعيانه ولد سنة اثنين وثلاثين وأربعمائة وسمع الحديث من القاضي أبي يعلي وطبقته ودرس الفقه عليه ولزمه حتى برع في المذهب والخلاف وقرأ الفرائض على الوني وبرع فيها وصار في الفقه فريد عصره ودرس وأفتى وصنف كتبًا حسانًا في الفقه والفرائض والأصول والخلاف ومنها الهداية في الفقه والخلاف الكبير

ص: 28

المسمى بالانتصار في المسائل الكبار والخلاف الصغير المسمى برؤوس المسائل والتهذيب في الفرائض والتمهيد في أصول الفقه والعبادات الخمس ومناسك الحج وكانت له يد حسنة في الأدب وله قصيدة دالية في السنة معروفة أولها:

دع عنك تذكار الخليط المنجد

والسوق نجو الآنسات الخرد

وله من قصيدة:

يا من يخاف الأثم في وصل أما

تخاف في صفك دمي المآثم

وجاءت له فتوى في بيتي شعر وهما:

قل للإِمام أبي الخطاب مسألة

جائت إليك وما يرجى سواك لها

ماذا على رجل أم الصلاة فمذ

لاحت لناظره ذات الجمال لها

فكتبت عليها:

قل للأديب الذي وافى بمسألة

سرت فؤادي لما أن أصخت لها

إن الذي فتنته عن عبادته

خريدة ذات حسن فانثني ولها

إن تاب ثم قضى عنه عبادته

فرحمة الله تغشى من عصى لها

وله مقطوعات عديدة وكان حسن الأخلاق ظريفًا مليح النادرة سريع

الجواب وكان مع ذلك كامل الدين غزير العقل جميل السيرة مرضي الفعل محمود الطريقة قرأ عليه الفقه جماعة من أئمة المذهب منهم الشيخ عبد القادر الجيلي وكان الكيا الهرايسي إذا رأى الشيخ أبا الخطاب مقبلًا قال جاء الفقه وكان فقيهًا عظيمًا كثير الفقه وله مسائل انفرد بها عن الأصحاب توفى يوم الأربعاء ثالث جمادي الآخرة سنة عشر وخمسمائة وترك يوم الخميس ودفن يوم الجمعة في جمع عظيم وحشد كبير ودفن قريبًا من قبر الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

- يقول المختصر محمد جميل الشطي قد وفقت ولله الحمد فطبعت القصيدة الدالية المنوه عنها في دمشق سنة 326 برسالة لطيفة وهي عبارة عن 43 بيتًا.

*‌

‌ أبو الوفاء بن عقيل

علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد البغدادي الظفري المقري الفقيه الأصولي الواعظ المتكلم أبو الوفاء أحد الأعلام وشيخ الإسلام ولد سنة إحدى

ص: 29

وثلاثين وأربعمائة وأخذ عن مشايخ كثيرين وكان له الخاطر العاطر والفهم الثاقب والفطنة البغدادية والبحث عن الغوامض والدقائق والتبريز في المناظرة على الأقران والتصانيف الكبار ومن طالع أو قرأ شيئًا من خواطره وواقعاته في كتابه المسمى بالفنون وهو مائتا مجلد عرف مقدار الرجل وكان رحمه الله عظيم الحرمة وافر الجلالة عند الخلفاء والملوك وكان شهمًا مقدامًا على الأكابر بالإنكار بلفظه وخطه ولما توفي الخليفة المستظهر غسله ابن عقيل مع البستي قال ابن عقيل ولما تولى المسترشد تلقاني ثلاثة من المستخدمين يقول كل واحد منهم قد طلبك مولانا أمير المؤمنين ثلاث مرات فلما صرت بالحضرة قال لي قاضي القضاة وهو قائم بين يديه طلبك مولانا أمير المؤمنين ثلاث مرات فقلت ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ثم مددت يدي فبسط يده الشريفة فصافحته بعد السلام وبايعته فقلت أبايع سيدنا ومولانا أمير المؤمنين المسترشد بالله على كتاب الله وسنة رسوله وسنة الخلفاء الراشدين ما أطاق واستطاع وله الطاعة مني وكان ابن عقيل رحمه الله من أفاضل العالم وأذكياء بني آدم مفرط الذكاء متسع الدائرة في العلوم وكان خبيرًا بالكلام ذكر ابن الجوزي وغيره عنه أنه قال أنا أقطع بأن الصحابة

ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت قال الحافظ ضياء الدين المقدسي كتب بعضهم إلى أبي الوفا بن عقيل يقول له صف لي أصحاب الإمام أحمد على ما عرفت به من الأنصاف فكتب إليه يقول هم - قوم خشن تقلصت أخلاقهم عن المخالطة وغلظت طباعهم عن المداخلة وغلب عليهم الجد وقل عندهم الهزل وعزت نفوسهم عن ذل المراباة وفزعوا عن الآراء إلى الروايات وتمسكوا بالظاهر تخرجا عن التأويل وغلبت عليهم الأعمال الصالحة فلم يدققوا في العلوم الغامضة بل دققوا في الورع وأخذوا ما ظهر من العلوم وما وراء ذلك قالوا الله أعلم بما فيها خشية باريها ولم أحفظ على أحد منهم تشبيهًا إنما غلب عليهم التحري لإيمانهم بظواهر الآي والأخبار من غير تأويل ولا إنكار والله يعلم أنني لا أعتقد في الإِسلام طائفة محقة خالية من البدع سوى من سلك هذا الطريق

ص: 30

والسلام - وكان ابن عقيل يقول لا يعظم عندك بذلك نفسك في سبيل الله فهي التي بذلتها بالأمس في حب مغنية وهوى أمرد وخاطرت بها في الأسفار لأجل زيادة الدنيا فلما جئت إلى طاعة الله عظمت ما بذلتها والله ما يحسن بذل النفس إلا لمن إذا أباد أعاد وإذا أعاد أفاد وإذا أفاد خلد فائدته على الأباد ذاك والله يحسن فيه بذل النفوس وإبانة الرؤوس أليس هو القائل {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} ، روى المترجم بسنده عن أحمد بن نصر قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت يا رسول الله من تركت لنا في عصرنا هذا نقتدي به قال عليكم بأحمد بن حنبل - ولابن عقيل تصانيف كثيرة في أنواع العلم وأكبر تصانيفه كتاب الفنون وهو كتاب كبير جدًا فيه فوائد كثيرة جليلة في الوعظ والتفسير والفقه والأصلين والنحو واللغة والشعر والتاريخ والحكايات وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له وخواطره ونتائج فكره قيدها فيه قال ابن الجوزي وهذا الكتاب مائتا مجلدة وقع لي منه نحو من مائة وخمسين مجلدة وقال الحافظ الذهبي في تاريخه لم يصنف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب قال ابن رجب وأخبرني أبو حفص عمر بن علي القزويني ببغداد قال سمعت بعض مشايخنا يقول هو ثمان مائة مجلدة وله في الفقه كتاب الفصول ويسمى كفاية المغني في عشر مجلدات وعمدة الأدلة والمفردات والمجالس النظريات

والتذكرة مجلد والإشارة مجلد لطيف وهو مختصر كتاب الروايتين والوجهين والمنثور وله في الأصلين الإرشاد في أصول الدين والواضح في أصول الفقه والانتصار لأهل الحديث مجلد ونفي التشبيه ومسائل مشكلة في آيات من القرآن وأحاديث سئل عنها فأجاب وله كتاب تهذيب النفس وكتاب تفضيل العبادات على نعيم الجنات وكان ابن عقيل كثير التعظيم للإِمام أحمد وأصحابه والرد على مخالفيهم وله مسائل كثيرة ينفرد بها ويخالف فيها المذهب ومن كلامه الحسن في صفة الأرض أيام الربيع وإن الأرض أهدت إلى السماء غبرتها بترقية الغيوم فكستها السماء زهرتها من الكواكب والنجوم" توفي أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله بكرة الجمعة ثاني عشر جمادي الأولى سنة ثلاث عشرة وخمس مائة وصلي عليه في جامعي القصر والمنصور وحزر من اجتمع في جنازته بثلاث

ص: 31

مائة ودفن في دكة قبر الإِمام أحمد - وكان له ولدان ماتا في حياته أحدهما أبو الحسن عقيل كان في غاية الحسن وكان شابًا فهما ذا خط حسن ولد في رمضان سنة إحدى وثمانين وأربع مائة وسمع من جماعة وتفقه على أبيه وكان فقيهًا فاضلًا يقول الشعر ويحضر المواكب توفي يوم الثلاثاء منتصف محرم سنة عشر وخمسمائة وصلي عليه يوم الأربعاء ودفن في داره بالمظفر به فلما مات أبوه نقل معه إلى دكة الإِمام أحمد رضي الله عنه والولد الآخر أبو منصور هبة الله ولد في ذي الحجة سنة أربع وسبعين وأربعمائة وحفظ القرآن وتفقه وظهر منه أشياء تذكر من عقل غزير ودين متين ثم مرض وطال مرضه وأنفق عليه أبوه اموالًا في المرض ثم توفي رحمه الله سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وله نحو أربعة عشرة سنة وحمل أبو الوفا في نفسه من شدة الألم أمرًا عظيمًا ولكنه تصبر ولم يظهر منه جزع وكان يقول لولا أن القلوب توقن باجتماع ثان لتفطرت المرائر لفراق المحبوبين رحمهم الله تعالى.

*‌

‌ أبو الحسن الزاغوني

أحد أعيان المذهب البغدادي الفقيه المحدث الواعظ ولد سنة خمس وخمسين وأربعمائة وله تصانيف كثيرة منها في الفقه الإقناع في مجلد والواضح والخلاف الكبير والمفردات في مجلدين وهي مائة مسألة ومصنف في الدور

والوصايا والإيضاح في أصول الدين مجلد وغرر البيان في أصول الفقه مجلدات عدة وله ديوان خطب ومجالس في الوعظ وتاريخ علماء السنيين من أول ولاية المسترشد إلى وفاته هو ومناسك الحج وفتاوي ومسائل في القرآن والفتاوي الرحبية حدث بالكثير وروى عنه خلق وتفقه عليه جماعة منهم ابن الجوزي توفي يوم الأحد سادس عشر المحرم سنة سبع وعشرين وخمس مائة ودفن بمقبرة الإِمام أحمد رحمهما الله تعالى.

*‌

‌ أبو حازم ابن القاضي أبي يعلى

محمد بن محمد بن الحسين بن الفرا ولد في صفر سنة سبع وخمسين وأربعمائة وكان من الفقهاء الزاهدين والأخيار الصالحين له كتاب التبصرة في الخلاف وكتاب

ص: 32

رؤوس المسائل وشرح مختصر الخرقي وغير ذلك توفي يوم الاثنين تاسع عشري صفر سنة سبع وعشرين وخمسمائة وصلى عليه يوم الثلاثاء ودفن بداره ثم نقل سنة أربع وثلاثين إلى مقبرة الإِمام أحمد رضي الله عنه ودفن عند أبيه رحمهما الله.

*‌

‌ الشيخ زين الدين علي بن المنجا

الشيخ الإِمام الفقيه الواعظ المفسر زين الدين أبو الحسن علي بن رضي الدين أبي الطاهر إبراهيم بن منجا بن غانم الأنصاري الدمشقي المعروف بابن منجا نزيل مصر سبط الشيخ أبي الفرج الشيرازي الذي نشر مذهب الإِمام أحمد بالقدس الشريف وما حوله ولد الشيخ زين الدين بدمشق سنة 508 أو سنة 510 وكان من أعيان اهل العلم وله رأي صائب وكان الملك صلاح الدين يسميه عمرو بن العاص ويعمل برأيه ويكاتبه ويحضر مجلسه وكان له جاه عظيم وحرمة زائدة حضر فتح المقدس مع الملك صلاح الدين وجلس للوعظ عقب صلاة الجمعة بالمسجد الأقصى وكان مجلسًا حافلًا حصل فيه الأنس والبهجة والخشوع وتوفي في ثاني وقيل سابع رمضان سنة تسع وخمسين وخمسمائة بالقاهرة. ودفن من الغد بالمقطم رحمه الله تعالى.

*‌

‌ القاضي أبو يعلي الصغير

محمد بن محمد بن محمد بن الحسين بن الفرا القاضي عماد الدين أبو يعلي الصغير ابن القاضي أبي حازم ابن القاضي الكبير أبي يعلي شيخ المذهب في وقته ولد سنة أربع وتسعين وأربعمائة وسمع من أبيه وعمه وجماعة وظهر له ولابن الجواليقي إجازة من الحريري صاحب المقامات وتفقه على أبيه وعمه وبرع في المذهب والخلاف والمناظرة وأفتى ودرس وكان ذا ذكاء مفرط وذهن ثاقب وفصاحة وحسن عبارة عطر بالرياسة خليق بالتصدر أعرف الناس باختلاف أقوال الفقهاء ظهر علمه في الآفاق ولي القضاء بباب الأزج ثم ولي قضاء واسط سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وبقي مدة بها حاكمًا ثم عزله قاضي القضاة ثم قدم بغداد بعد إحدى عشرة سنة وقد ذهب بصره فلازم بيته وبنيت مدرسة بالريان للحنابلة ففوض أمرها إليه وكان ذا فصاحة ولسن ومن كتبه إلى بعض العلماء (فلو إن الكرم مقلة كان هو إنسانها أو المجد لغة كان هو لسانها أو السؤدد دهر لكان ربيع أزمانه أو الشرف عمر لكان صفو ريعانه) ولإِبن

ص: 33

الجوزي فيه مدائح كثيرة صنف القاضي أبو يعلي تصانيف كثيرة منها التعليقة في الخلاف والمفردات وشرح المذهب والنكت والإِشارات في المسائل المفردات وقرأ عليه المذهب والخلاف وحدث وسمع منه جماعة كثيرة توفي ليلة السبت خامس جمادي الأولى سنة ستين وخمسمائة وصلى عليه ولده أبو منصور بجامع القصر ودفن بمقبرة باب حرب عند أبيه وجده وكان ولده المذكور فاضلًا أديبًا ولد سنة ست وثلاثين وتوفي شابًا سنة خمس وسبعين وخمسمائة رحمهم الله.

*‌

‌ الشيخ عبد القادر الجيلاني

عبد القادر بن أبي صالح عبد الله بن جنكي دوست بن أبي عبد الله الجيلي ثم البغدادي الشيخ الإِمام العالم السيد الكبير الزاهد شيخ العصر وقدوة العارفين وسلطان المشايخ وسيد أهل الطريقة في وقته محيي الدين أبو محمد صاحب المقامات والمواهب والكرامات والخوارق الباهرات والعلوم والمعارف والأحوال المشهورة وبعض المؤرخين يذكر له نسبة إلى علي بن أبي طالب رضي

الله عنه وهو سبط أبي عبد الله الصومعي وبه كان يعرف حين كان بجيلان ولد الشيخ محيي الدين سنة سبعين وأربعمائة بكيلان وأما صفته فكان نحيف البدن مربوع القامة عريض الصدر عريض اللحية طويلها أسمر اللون مقرون الحاجبين ذا صوت جهوري وسمت بهي وقدر علي وعلم وفي وكان إمام الحنابلة وشيخهم في عصره قدم بغداد شابًا ابن سبع عشرة سنة واشتغل بالقرآن حتى أتقنه وتفقه بأبي الوفاء بن عقيل وأبي الخطاب الكلوذاني والقاضي أبي الحسين بن الفرا والقاضي أبي سعد المخرمي مذهبًا وخلافًا وفروعًا وأصولًا وقرأ الأدب وسمع الحديث من جماعة كثيرين وصحب من مشايخ الطريقة الشيخ أبا الخير الدياس وأخذ عنه علم الطريقة وتأدب به وأخذ الخرقة الشريفة من يد شيخه القاضي أبي سعد المخزمي بالسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقد مجلس الوعظ سنة إحدى وعشرين وخمسمائة وقد أظهر الله تعالى الحكمة من قلبه على لسانه ولما ضاق على الناس الموضع حمل كرسي الشيخ إلى خارج البلد وجعل في المصلى وكان الناس يجيئون على الخيل والبغال والحمير والجمال ويقفون كالسور وكان يحضر المجلس نحو سبعين ألفًا ويتوب عنده خلق كثير ودرس بمدرسة أستاذه

ص: 34

المخرمي بباب الأزج وأقام بها إلى أن مات ودفن بها وهي المنسوبة إليه الآن وكان تصدر بها للتدريس والفتوى وجلس بها للوعظ وقصدت للزيارات والنذور وتتلمذ له خلق كثير من الفقهاء والعلماء وأرباب الأحوال والمقامات وقد انتمى إليه خلق من أعيان العلماء أخذوا عنه العلوم الشرعية وسمعوا منه السنة النبوية منهم القاضي أبو يعلي الصغير وقاضي القضاة علي وأخوه القاضي حسين بن الدامغاني ومن المقادسة الحافظ عبد الغني وأخوه والشيخ موفق الدين بن قدامة وأخوه الشيخ أبو عمر وكان للشيخ عبد القادر تلميذ يقال له عمر الحلاوي خرج من بغداد وغاب ولقيت ثلاثمائة وستين شيخًا من الأولياء فما منهم من أحد إلا يقول الشيخ عبد القادر شيخنا وطريقنا إلى الله عز وجل ومدة كلامه على الناس أربعون سنة أولها سنة إحدى وعشرين وآخرها سنة إحدى وستين وخمسمائة ومدة تصدره للتدريس والفتوى بمدرسته ثلاث وثلاثون سنة أولها سنة ثمان وعشرين وآخرها سنة إحدى وستين وخمسمائة وكان يكتب ما يقوله في مجلسه أربعمائة محبرة عالم وغيره وكان كثيرًا ما يخطو في الهواء في مجلسه على رؤوس الناس

خطوات ثم يرجع إلى الكرسي وكان يلبس لباس العلماء ويتطيلس ويركب البغلة وترفع الغاشية بين يديه وعطس يوم جمعة فشمته الناس حتى سمعت في الناس ضجة عظيمة يقولون يرحمك الله وكان الخليفة المستنجد بالله في مقصورة في الجامع فقال ما هذه الضجة فقيل له عطس الشيخ عبد القادر وكان يفتي على مذهب الشافعي وأحمد وأما كراماته وأخباره بالمغيبات فكثيرة جدًا وله كلام في الحقائق كثير أيضًا وللشيخ عبد القادر رحمه الله كلام حسن في التوحيد والصفات والقدر وله كتاب الغنية لطالبي طريق الحق وله كتاب فتوح الغيب وجمع أصحابه من مجالسه في الوعظ كثيرًا وكان متمسكًا بالسنة مبالغًا في الرد على من خالفها وأخباره ومناقبه كثيرة وقد صنف فيها الناس المصنفات الكبار وأحواله في الزهد والعلم أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر. توفي رحمه الله ليلة السبت ثامن ربيع الآخر سنة إحدى وستين وخمسمائة بعد المغرب ودفن من وقته بمدرسته وبلغ تسعين سنة وصلى عليه ولده عبد الوهاب وقبره ظاهر بمدرسته ببغداد رحمه الله تعالى.

ص: 35

(يقول المختصر) روى المؤلف العليمي عن الشيخ بسنده إلى ابن كعب بن مالك عن أبيه قال فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا أراد سفرًا إلا يوم الخميس.

*‌

‌ الحافظ جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي

عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النظر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه القرشي التميمي البكري البغدادي المحدث الحافظ المفسر الفقيه الواعظ الأديب الإِمام القدوة أستاذ الأئمة حبر الأمة بحر العلوم سيد الحفاظ فارس المعاني والألفاظ فريد العصر فريع الدهر شيخ الإسلام قدوة الأنام علامة الزمان ترجمان القرآن قامع المبتدعين سلطان المتكلمين جمال الدين أبو الفرج المعروف بابن الجوزي ولد سنة إحدى عشرة وخمسمائة وتوفي والده سنة أربع عشرة

وخمسمائة فكفلته أمه وعمته وكان أهله تجارًا بالنحاس ولما ترعرع سمع الحديث وأول مشايخه أبو الفضل بن ناصر وحفظ القرآن وقرأه بالروايات عَلَى جماعة وعني بالطلب وذكر في مشيخته من كبار مشايخه سبعة وثمانين شيخًا من أعيان المذهب وغيرهم ووعظ وهو صغير جدًا وحزر الجمع في أول يوم وعظ فيه بخمسين ألفًا وصحب في الفقه ابن الزاغوني ثم صحب كلا من أبي بكر الدينوري وأبي يعلى الصغير وأبي حكيم النهروائي وقرأ الأدب عَلَى أبي منصور الجواليقي ووعظ في جامع المنصور وغيره سنة سبع وعشرين وخمسمائة واشتهر أمره من ذلك الوقت وأخذ في التصنيف والجمع وعظم شأنه في ولاية الوزير أبي هبيرة ولما ولي المستنجد بالله الخلافة خلع عليه خلعة مع الشيخ عبد القادر وأمثاله وأذن لهم في الجلوس بجامع القصر فتكلم الشيخ أبو الفرج وكان يحزر مجلسه على الدوام بعشرة آلاف وخمسة عشر ألفًا.

وقدم مرة إلى بغداد واعظ يقال له البروي فتعصب في كلام على الحنابلة كثيرًا فلم تطل مدته حتى هلك وكان في تلك الأيام قد تشيع الأسود للشيعة فانبط ووقع ميتًا فجلس الشيخ عقيب ذلك وقال في أثناء كلامه: كم براق مبتدع بأصحاب

ص: 36

أحمد وأرعد فحظي هو بالدرهم وهم بالعيش الأرغد وأما أنت يا أبعد فإن أردت أن تموت وإن أردت أن تحرد مات البروي وانبط الأسود وقال له قائل: ما فيك عيب إلا أنك حنبلي فأنشد:

وعيرني الواشون أني أحبها

وتلك شكاة ظاهر لك عارها

وكتب إليه رجل في رقعة والله ما أستطيع أن أراك فقال: أعمش وشمس كيف تراها ثم إذا خلوت في البيت عرست الدر في أرض القراطيس وإذا جلست للناس دفعت بدرياق العلم سموم الهوى أحميكم عن طعام البدع وتأبون إلا التخليط والطبيب مبغوض وأسند للشيخ مدرستان بعد وفاة شيخه النهرواني وفي خلافة المستضيء قوي اتصال الشيخ به وصنف له الكتاب الذي سماه المصباح المضي في دولة المستضي وكتابًا آخر لما خطب له بمصر سماه النصر عَلَى مصر وحظي عنده وحصل له من القبول وحضور الخلفاء في مجالسه ما لا يكاد يوصف ثم بنى مدرسته ودرس بها سنة سبعين وذكر أول يوم تدريسه.

بها أربعة عشر بحثًا من فنون العلم وبهذه السنة انتهى تفسيره للقرآن على المنبر فسجد عليه سجدة الشكر وقال ما عرفت أن واعظًا فسر القرآن كله في مجلس الوعظ منذ نزل القرآن ثم في شعبان أسندت إليه مدرسة أخرى كتب اسمه على حائطها وبنى له دكة في جامع القصر فجلس فيها يوم الجمعة ثالث رمضان وحضر الخليفة مجالسه غير مرة وتكلم يوم عاشوراء سنة أربع وسبعين وأمير المؤمنين حاضر فقال: لو إني مثلت بين يدي السدة الشريفة لقلت يا أمير المؤمنين كن لله سبحانه مع حاجتك إليه كما كان لك مع غناه عنك أنه لم يجعل أحدًا فوقك فلا ترض أن يكون أحد أشكر له منك فتصدق أمير المؤمنين يومئذ بصدقات وأطلق محبوسين وتقدم أمير المؤمنين في هذه السنة بعمل لوح ينصب على قبر الإِمام أحمد وحصل للشيخ أبي الفرج والحنابلة بسببه التعظيم الزائد وجعل الناس يقولون للشيخ أبي الفرج هذا كله بسببك فإنه ما ارتفع هذا المذهب عند السلطان إلا بسماع كلامك وتكلم يومًا بحضرة الخليفة فحكى له موعظة شيبان للرشيد وقوله له في كلامه يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك وإن سكت خفت عليك وأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك والحاصل أن مجالسه

ص: 37

الوعظية لم يكن لها نظير ولم يسمع بمثلها وكانت عظيمة النفع يتذكر بها الغافلون ويتعلم منها الجاهلون ويتوب فيها المذنبون ويسلم فيها المشركون.

وقال على المنبر في آخر عمره كتبت بأصبعي هاتين ألفي مجلدة وتاب على يدي مائة ألف وأسلم على يدي عشرون ألف يهودي ونصراني وله التصانيف في فنون العلم من التفسير والفقه والحديث وهو أحسن فنونه والوعظ والرقائق والتواريخ وغير ذلك وإليه انتهت معرفة الحديث وعلومه والوقوف عَلَى صحيحه من سقيمه وله فيه المصنفات من المسانيد والأبواب والرجال ومعرفة ما يحتج به في أبواب الأحكام والفقه وما لا يحتج به من الأحاديث الواهية والموضوعة وله في الوعظ العبارات الرائقة والإشارات الفائقة وكان من أحسن الناس كلامًا وأتمهم نظامًا وأعذبهم لسانًا وأجودهم بيانًا وبورك له في عمره وعمله فروى الكثير وسمع الناس منه أكثر من أربعين سنة وحدث بمصنفاته مرارًا ومن إنشاده لنفسه وهو بواسط:

يا ساكن الدنيا تأهب

وانتظر يوم الفراقِ

واعد زادًا للرحيل

فسوف يجدي بالرفاق

وابكِ الذنوب بأدمع

تنهل من سحب المآقي

يا من أضاع زمانه

أرضيت ما يفنى بباقي

وكان يكتب في اليوم أربع كراريس ويرتفع له كل سنة من كتابته ما بين خمسين مجلد إلى ستين ويقال أنه جمعت براية أقلامه التي كتب بها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحصل منها شيء كثير وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته ففعل ذلك فكفت وفضل منها وكان له في كل علم مشاركة وأوقف كتبه على مدرسته التي بناها بدرب دينار وسئل عن عدد مصنفاته فقال زيادة على ثلاثمائة وأربعين مصنفًا منها ما هو عشرين مجلدًا ومنها ما هو كراس واحد ولم يترك فنا إلا وله فيه مصنف وكان كثير الاطلاع على مصنفات الناس حسن التبويب والترتيب وقال الشيخ أول ما صنفت وألفت ولي من العمر ثلاث عشرة سنة.

ومن تصانيفه المغني في التفسير أحد وثمانون جزءًا. زاد المسير في علم التفسير. عمدة الراسخ في معرفة المنسوخ والناسخ. منهاج الوصول إلى علم الأصول خمسة أجزاء. جامع المسانيد بالحض على الأسانيد. الموضوعات

ص: 38

من الأحاديث المرفوعات مجلدان. العلل المتناهية في الأحاديث الواهية. موت الخضر مجلد. مختصره جزء. فضائل عمر بن الخطاب مجلد. فضائل عمر بن عبد العزيز مجلد. مناقب الإِمام أحمد مجلد. مناقب الإِمام الشافعي جزء. مناقب معروف الكرخي جزء. مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن. وله في علوم الوعظ أكثر من مائة مجلد منها اليواقيت. اللؤلؤ. منتخب المنتخب. شاهد ومشهود. مغاني المعاني. إيقاظ الوسنان من الرقدات بأحوال الحيوان والنبات. منتهى المشتهى. تلبيس إبليس. إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء. عطف العلماء على الأمراء والأمراء على العلماء. المقامات مجلد. الطب الروحاني جزء. الوفا بفضائل المصطفى مجلدان. منهاج الإصابة في محبة الصحابة. مناقب أبي بكر مجلد. مناقب علي مجلد. فضائل العرب مجلد. المختار من

الأشعار عشر مجلدات. الفصول الوعظية على حروف المعجم. سلوة الأحزان عشر مجلدات. المجالس اليوسفية في الوعظ كتبها لابنه يوسف - قال الحافظ الذهبي ما علمت أن أحدًا من العلماء صنف ما صنفه هذا الرجل - وقال يومًا وقد طرب أهل مجلسه فهمتم فهمتم.

وسأله رجل أيما أفضل أسمح أو أستغفر فقال الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون منه إلى البخور وقال في حديث أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين: إنما طالت أعمار الأوائل لطول البادية فلما شارف الركب بلد الإقامة قيل حثوا المطي ومن كلماته الحسنة من قنع طاب عيشه ومن طمع طال طيشه وقال لصاحب له أنت في أوسع العذر من التأخر عني لثقتي بك وفي أضيقه من شوقي إليك وقيل له إن فلانًا أوصى فقال يا مفرطين ما تطينون سطوحكم إلا في كانون.

ويحكى أنه وقع النزاع ببغداد بين السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعلي ورضي الكل بما يقوله الشيخ فأقاما من يسأله عن ذلك وهو على الكرسي في مجلس وعظه فقال على البديهة أفضلهما من كانت ابنته تحته ونزل في الحال حتى لا يراجع فكل من الفريقين احتج بها لنفسه ومما ينسب إليه من الشعر:

تملكوا واحتكموا

وصار قلبي لهم

تصرفوا في ملكهم

فلا يقال ظلموا

إن وصلوا محبهم

أو قطعوا فهم هم

ص: 39

اصبر لما شاؤوا وإن

ساء الذي قد حكموا

يا أرض سلع خبري

وحدثيني عنهم

يا ليت شعري اذحدوا

أأنجدوا أم اتهموا

تشتاقهم أرض منى

وتشتكيهم زمزم

ومن كلامه قدس الله روحه:

يا أهل حب الفانية

أهل القلوب القاسية

أهل الخلاف والفرا

ق والذنوب الرابية

أهل النكوس والنقو

ص والعيوب البادية

أهل المخاط والبصا

ق والعظام الواهية

ما سمعوا ما فهموا

ما قلت من كلاميه

تكبرو تجبروا

باعوا الجنان العالية

تنعموا تترفوا

وآثروا الرفاهية

إن هي إلا أخذة

سارية أو غادية

وقد حوتهم جنة

أو قعر نار حامية

وقال كل كاسب

مالي وأين ماليه

وقال كل سيد

جاهي عدمت جاهية

وقال ذو السلطان حيـ

ـــن ذل واسلطانية

أين أبي أين اخي

أين مضى غلمانيه

يومئذ ترى العيـ

ون بالدماء باكية

كل يقول حسرتي

خسرت واحرمانيه

يا ليتني مت وقد

حرمت من أفعاليه

ياليت قلبي لم يكن

مع القلوب القاسية

يا ليتها يا ليتها

كانت علي القاضية

قرأ العلم على الشيخ أبي الفرج جماعة من أعيان المذهب وسمع الحديث وغيره من تصانيفه خلق لا يحصون كثرة وممن روى عنه الشيخ موفق الدين والحافظ

ص: 40

عبد الغني - وقد نالته محنة في آخر عمره وحمل إلى واسط وحبس بدار فيها وكان بعض الناس يدخلون عليه ويسمعون منه وبقي على ذلك من سنة تسعين إلى سنة خمس وتسعين وخمسمائة فافرج عنه وقدم بغداد وخرج خلق كثير لتلقيه وفرح به أهل بغداد فرحًا عظيمًا وخلع عليه وجلس عند تربة أم الخليفة للوعظ وأنشد:

شقينا بالنوى زمنًا فلما

تلاقينا كانا ما شقينا

سخطنا عندما جنت الليالي

فما زالت بنا حتى رضينا

سعدنا بالوصال وكم شقينا

بكاسات الصدود وكم ضنينا

فمن لم يحيى بعد الموت يومًا

فأنا بعد ما متنا حيينا

ولم يزل الشيخ على عادته الأولى في الوعظ ونشر العلم وكتابته إلى أن مات قال سبطه أبو المظفر جلس جدي يوم السبت سابع شهر رمضان وكنت حاضرًا فأنشدنا أبياتًا قطع عليها المجلس أولها.

الله أسأل ان يطول مدتي

وأنال بالأنعام ما في منيتي

ثم نزل من المنبر فمرض خمسة أيام وتوفي ليلة الجمعة بين العشائين ثالث عشر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة في داره واجتمع أهل بغداد وغلقت الأسواق وقد غسل وقت السحر وشد تابوته بالحبال وحمل إلى تربة أم الخليفة مكان جلوسه فصلى عليه ابنه أبو القاسم علي ثم ذهبوا به إلى جامع المنصور فصلوا عليه وكان يومًا مشهودًا ودفن عند قبر الإِمام أحمد وحزن الناس عليه حزنًا شديدًا وباتوا عند قبره يختمون الختمات بالقناديل والشموع ورؤيت له المنامات الصالحة وأنشد القادر العلوي قصيدة مطلعها:

الدهر من شر يغر ويخدع

وزخارف الدنيا تميل وتطمع

وأوصى أن يكتب على قبره:

يا كثير الصفح عمن

كثر الذنب لديه

جاءك المذنب يرجو

الصفح عن جرم يديه

أنا ضيف وجزاء

الضيف إحسان إليه

ص: 41

وكان له من الذكور ثلاثة أولاد أولهم أبو بكر عبد العزيز مات بالموصل في حياة والده سنة أربع وخمسين وخمسمائة وكان فقيهًا واعظًا والثاني أبو القاسم علي توفي سنة ثلاثين وستمائة وله ثمانون سنة والثالث أبو محمد يوسف الآتي ذكره رحمهم الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ أبو عمر بن قدامة

محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر بن عبد الله الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الصالح الزاهد العابد الشيخ أبو عمر مولده سنة ثمان

وعشرين وخمسمائة بجماعيل وهاجر والده به وبأخيه الشيخ موفق الدين وأهلهم إلى دمشق سنة إحدى وخمسين وخمسمائة لاستيلاء الأفرنج على الأرض المقدسة فنزلوا بمسجد أبي صالح ظاهر باب شرقي فأقاموا به مدة نحو سنتين ثم انتقلوا إلى الجبل حفظ الشيخ أبو عمر القرآن وقرأه بحرف أبي عمرو وسمع الحديث من والده ومن جماعة وقدم مصر فسمع بها وخرج له الحافظ عبد الغني المقدسي أربعين حديثًا من رواياته حدث بها وسمع منه جماعة منهم ولده قاضي القضاة شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن وحفظ مختصر الخرقي في الفقه وتفقه في المذهب وقرأ النحو بمصر وكتب بخطه كثيرًا ومما كتبه المغني في الفقه لأخيه الشيخ موفق الدين وكتب مصاحف كثيرة وكتب الخرقي للناس والكل بغير أجرة وكان سريع الكتابة وربما كتب في اليوم كراسين بالقطع الكبير وقد جمع الله له معرفة الفقه والفرائض والنحو مع الزهد والعمل وقضاء حوائج الناس وكان لا يكاد يسمع حديثًا إلا عمل به وكان يصلي بالناس في نصف شعبان مائة ركعة وهو شيخ كبير وكان أنشط الجماعة وكان لا يترك قيام الليل من وقت شبابه وسافر هو وجماعة فقام في الليل يصلي ويحرس الجماعة وقلل الأكل في مرضه قبل موته حتى عاد كالعود ومات وهو عاقد على أصابعه يسبح ولما نزل صلاح الدين عَلَى القدس كان هو وأخوه الموفق والجماعة في خيمة فجاء العادل إلى زيارته وهو في الصلاة فما قطعها ولا التفت ولا ترك ورده وكان يحضر الغزوات مع الملك صلاح الدين وكراماته كثيرة وفضائله غزيرة وكان يخطب بجامع الجبل وله حرمة عند السلطان نور الدين

ص: 42

محمود بن زنكي وله آثار جميلة منها مدرسته المشهورة بالجبل وهي وقف على أهل القرآن والفقه وقد صارت هذه المدرسة مأوى العلماء العاملين ومسكن الفقهاء الصالحين وقد رأس جماعة من مجاوريها وصاروا من أعيان المذهب ووجوه الناس وكان عَلَى مذهب السلف الصالح متمسكًا بالكتاب والسنة والآثار المروية وأنشد لنفسه:

أوصيكم في القول بالقرآن

بقول أهل الحق والايقان

ليس بمخلوق ولا بفاني

لكن كلام الملك الديان

آياته مشرقة المعاني

متلوة في اللفظ باللسان

محفوظة في الصدر والجنان

مكتوبة في الصحف بالبنان

والقول في الصفات يا أخواتي

كالذات والعلم مع البيان

امرارها من غير ما نكران

من غير تشبيه ولا عدوان

مرض الشيخ أبو عمر أيامًا فلما كان عشية الاثنين ثامن عشر ربيع الأول سنة سبع وستمائة جمع أهله واستقبل القبلة وأوصاهم بتقوى الله ومراقبته وأمرهم بقراءة ياسين وكان آخر كلامه أن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون توفي رحمه الله وغسل في السحر ولم يتخلف عن جنازته أحد من القضاة والعلماء والأمراء والأعيان وعامة الخلق وكان يومًا مشهودًا ومات عن ثمانين سنة ولم يخلف دينارًا ولا درهمًا ولما مات رأى بعض الصالحين في منامه تلك الليلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول من زار أبا عمر ليلة الجمعة فكأنما رأى الكعبة فاخلعوا نعالكم قبل أن تصلوا إليه وحزر من حضر جنازته بعشرين ألفًا ورثاه الأديب أبو عبد الله محمد بن سعد المقدسي بقصيدة منها:

أبعد أن فقدت عيني أبا عمر

يضمني في بقايا العمر عمرانُ

ما للمساجد منه اليوم مقفرة

كأنها بعد ذاك الجمع قبعان

وكان والده الشيخ أبو العباس أحمد خطيب جماعيل رجلًا صالحًا زاهدًا عابدًا صاحب كرامات وأحوال حدث وروى عنه ولده أبو عمر والموفق ولد سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وتوفي سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ودفن بسفح قاسيون وإلى جانبه دفن ولده أبو عمر رحمهما الله تعالى.

ص: 43

*‌

‌ أبو البقاء العكبري

عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري ثم البغدادي الأزجي المقري الفقيه المفسر الفرضي اللغوي النحوي الضرير محب الدين أبو البقاء ولد ببغداد سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة وقرأ القرآن وسمع الحديث من جماعة وقرأ الفقه على القاضي أبي يعلى الصغير وأبي حكيم النهرواني حتى برع فيه وأخذ النحو عن أبي محمد بن الخشاب وأبي البركات بن نجاح واللغة عن ابن القصاب وبرع في فنون

عديدة من العلم وصنف التصانيف الكثيرة ورحلت إليه الطلبة من النواحي وأقرأ المذهب والفرائض والنحو واللغة وانتفع به خلق كثير وكان أوحد زمانه في النحو واللغة والحساب والفرائض والجبر والمقابلة والفقه وإعراب القرآن والقرائات الشاذة وله في كل هذه العلوم تصانيف وكان ثقة متدينًا حسن الأخلاق متواضعًا كثير المحفوظ محبًا للاشتغال ليلًا ونهارًا وأضر في صباه بالجدري وكان إذا أراد أن يصنف كتابًا أحضر له بعض تلامذته مصنفات في ذلك الفن وقرأ عليه فما حصل في خاطره أملاه وجاء إليه جماعة من الشافعية فقالوا انتقل إلى مذهبنا ونعطيك تدريس النحو واللغة بالنظامية فأقسم وقال لو أقمتموني وصببتم علي الذهب حتى أنواري ما رجعت عن مذهبي.

ومن تصانيفه تفسير القرآن. التبيان في إعراب القرآن. إعراب الحديث. التعليق في مسائل الخلاف. شرح الهداية لأبي الخطاب في الفقه. بلغة الرائض في علم الفرائض. التلخيص في النحو. شرح الحماسة. شرح الألفاظ اللغوية من المقامات الحريرية شرح خطب ابن نباتة شرح لغة الفقه. شرح ديوان المتنبي. تهذيب الإنسان بتقويم اللسان. الأعراب عن علل الاعراب وغير ذلك ومن شعره يمدح الوزير ابن القصاب:

بك أضحى جيد الزمان محلى

بعدما كان من حلاه مخلى

لا يجاريك في تجاريك خلق

أنت أعلى قدرا وأغلى محلا

عشت تحيي ما قد أميت من العـ

ـقل وتنفي جورًا وتطرد محلا

ومن إنشاده:

صاد قلبي على العقيق غزال

ذو نفار وصاله ما ينال

ص: 44

فاتر الطرف يحسب الجفن منه

ناعسًا والنعاس منه دلال

أخذ العربية عنه خلق كثير وأخذ عنه الفقه جماعة من الأصحاب وسمع منه الحديث خلق كثير وروى عنه جماعة وتوفي ليلة الأحد ثامن ربيع الآخر سنة ست عشرة وستمائة ودفن من الغد بمقبرة الإِمام أحمد بباب حرب رحمه الله تعالى.

*‌

‌ شيخ الإِسلام موفق الدين بن قدامة - صاحب المغني والمقنع

عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر بن عبد الله المقدسي ثم الدمشقي الصالحي الفقيه الزاهد الرباني إمام السنة مفتي الأمة شيخ الإِسلام سيد العلماء الأعلام علم الزهاد أوحد العباد إمام المحدثين آخر المجتهدين موفق الدين أبو محمد أخو الشيخ أبي عمر المتقدم ذكره ولد في شعبان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة بجماعيل وقدم دمشق مع أهله وله عشر سنين سمع من والده ومن جماعة ورحل إلى بغداد هو وابن خالته الحافظ عبد الغني سنة إحدى وستين وسمع الكثير من الشيخ عبد القادر ولازم بعده أبا الفتح بن المثنى وقرأ عليه المذهب والخلاف والأصول حتى برع وكانت إقامته في بغداد نحوًا من أربع سنين وحج سنة أربع وسبعين ثم اشتغل بتصنيف كتاب المغني في شرح الخرقي فبلغ الأمل في إتمامه وهو كتاب بليغ في المذهب عشر مجلدات تعب عليه وأجاد فيه وجمل به المذهب وقرأ عليه جماعة وقد انتفع بعلمه طائفة كبيرة ونشأ على سمت أبيه وأخيه في الخير والعبادة وكان كثير الحياء عزوفًا عن الدنيا وأهلها هينا لينًا متواضعًا محبًا للمساكين حسن الأخلاق جوادًا سخيًا من رآه كأنما رأى بعض الصحابة ولا يصلي ركعتي السنة غالبًا إلا في بيته اتباعًا للسنة وقد أخذ بمجامع الحقائق النقلية والعقلية فأما الحديث فهو سابق فرسانه وأما الفقه فهو فارس ميدانه وكان مجلسه عامرًا بالفقهاء والمحدثين وأهل الخير وصار في آخر عمره يقصده كل أحد وكان كثير العبادة دائم التهجيد لم ير مثله ولم ير مثل نفسه وكان بعد موت أخيه أبي عمر هو الذي يؤم بالجامع المظفري ويخطب يوم الجمعة وجاءه مرة الملك العزيز ابن الملك العادل يزوره فصادفه يصلي فلم

ص: 45

يتجوز في صلاته ثم اجتمع به ومن أظرف ما حكى عنه أنه كان يجعل في عمامته ورقة مصرورة فيها رمل يرمل به ما يكتبه للناس من الفتاوى والإجازات وغيرها فاتفق ليلة أنه بينما كان ماضيًا من الجامع المظفري إلى بيته إذ خطفت عمامته فقال لخاطفها يا أخي خذ من العمامة الورقة المصرورة بما فيها ورد عليَّ العمامة أغطي بها رأسي وأنت في أوسع الحل مما في الورقة فظن الخاطف أنها فضة لأنه رآها

ثقيلة فأخذها ورد العمامة وخلص الشيخ عمامته بهذا الوجه الطيف. قال الشيخ تقي الدين بن تيمية ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من الشيخ الموفق وكان لا يكاد يناظر أحدًا إلا وهو يبتسم حتى قال بعض الناس هذا الشيخ يقتل خصمه بتبسمه وكان يشتغل عليه الناس من بكرة إلى ارتفاع النهار ثم يقرأون عليه بعد الظهر أما من الحديث أو من تصانيفه إلى المغرب ومناقبه وفضائله أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر - ومن كراماته ما حدث به العفيف كتايب (كذا) بن أحمد بن مهدي البانياسي بعد وفاة الشيخ بأيام قال رأيت الشيخ الموفق على حافة النهر يتوضأ فلما توضأ أخذ قبقابه ومشى على الماء إلى الجانب الآخر ثم لبس القبقاب وصعد إلى المدرسة يعني مدرسة أخيه أبي عمر ثم حلف كتايب بالله لقد رأيته يعني ومالي في الكذب حاجة وكتمت ذلك في حياته - ومن مصنفاته في أصول الدين وهي أحسنها الروضة مجلد. البرهان في مسألة القرآن ذم التأويل جزء كتاب القدر جزآن رسالة إلى الشيخ فخر الدين بن تيمية في تخليد أهل البدع في النار. ومنها في الحديث مختصر العلل للحلال مجلد ضخم - ومنها في الفقه المغني عشر مجلدات وهو من كتب الدنيا الكافي أربع مجلدات. المقنع مجلد. مختصر الهداية مجلد. العمدة مجلد صغير. ذم الوسواس وفتاوي ورسائل شتى - وله في الفضائل والزهد والرقائق شيء كثير وانتفع بتصانيفه المسلمون عمومًا وأهل المذهب خصوصًا وانتشرت واشتهرت بحسن قصده وإخلاصه في تصنيفها ولا سيما كتاب المغني فإنه عظم النفع به ونقل عن العز بن عبد السلام أنه قال لم تطب نفسي بالفتيا حتى صار عندي نسخة من المغنى وللشيخ موفق الدين نظم كثير حسن فمنه قوله:

ص: 46

لا تجلسن بباب من

يأبى عليك دخول داره

وتقول حاجاتي إليـ

ــه يعوقها إن لم أداره

واتركه واقصد ربها

تفضي ورب الدار كاره

تفقه على الشيخ موفق الدين خلق كثير منهم ابن أخيه قاضي القضاة شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر وسمع منه الحديث خلائق وروى عنه جماعة توفي رحمه الله يوم السبت يوم عيد الفطر سنة عشرين وستمائة بمنزله

بدمشق وصلى عليه من الغد وحمل إلى سفح قاسيون فدفن به وكان له جمع عظيم وكان له أولاد ماتوا كلهم في حياته وانقطع عقبه رحمه الله تعالى ومما رثي الشيخ به قصيدة أولها:

لم يبق لي بعد الموفق رغبة

في العيش إن العيش سم منقع

صدر الزمان وعيه وطرازه

ركن الأنام الزاهد المتورع

بحر العلوم أبو الفضائل كلها

شمل الشريعة بعده لا يجمع

*‌

‌ الشيخ فخر الدين بن تيمية

محمد بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحرافي الفقيه المفسر الخطيب الواعظ فخر الدين أبو عبد الله شيخ حران وخطيبها ولد في آخر شعبان سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة بحران وكان والده زاهدًا يعد من الابدال قرأ القرآن واشتغل بالعلم من صغره ورحل إلى بغداد وسمع بها من جماعة وتفقه ببغداد على ابن المنى وغيره وبحران على أحمد بن أبي الوفا وغيره ولازم ابن الجوزي ببغداد وسمع منه كثيرًا وقرأ كتابه زاد المسير في التفسير وبرع في الفقه والتفسير وغيرهما وعاد إلى حران فجد في الاشتغال، ثم درس ووعظ وصنف فسر القرآن الكريم في جامع حران خمس مرات آخرها سنة عشر وستمائة وأولها سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وكان رجلًا صالحًا يذكر له كرامات وخوارق وولي الخطابة والإِمامة بجامع حران والتدريس بالمدرسة النورية فيها وانتهت إليه رياسة حران وبنى مدرسة بها - وله تصانيف منها التفسير الكبير في مجلدات وهو تفسير حسن جدًا ومنها ثلاث مصنفات في المذهب على طريقة البسيط والوسيط والوجيز للغزالي وله ديوان خطب جمعية وهو مشهور ومصنفات في الوعظ والموضح في

ص: 47

الفرائض وكانت بينه وبين الشيخ موفق الدين مراسلات وأخذ العلم عن الشيخ فخر الدين جماعة منهم ولده عبد الغني خطيب حران وابن أخيه مجد الدين وسمع منه خلق كثير وله شعر كثير حسن ومنه قوله.

سلام عليكم مضى ما مضى

فراقي لكم لم يكن عن رضا

سلوا الليل عني مذ غبتم

وجفني بالنوم ما غمضا

أحباب قلبي وحق الذي

بمر الفراق علينا قضى

لئن عاد عيد اجتماعي بكم

وعوفيت من حادث أمرضا

لالتقين مطاياكم

بوجهي وأفرشه في الفضا

ولو كان حبوا على جبهتي

ولو لعج الوجه جمر الغضا

فأحيي وأنشد من فرحتي

سلام عليكم مضى ما مضى

توفي رحمه الله يوم الخميس عاشر صفر سنة اثنتين وعشرين وستمائة بحران ورؤيت له منامات صالحة رحمه الله تعالى.

*‌

‌ سيف الدين بن فخر الدين بن تيمية

عبد الغني بن محمد بن الخضر بن تيمية الحراني خطيب حران وابن خطيبها سيف الدين أبو محمد وتقدم ذكر والده ولد في ثاني صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بحران وسمع بها من والده وأخذ العلم عنه ورحل إلى بغداد فسمع بها وقرأ وعاد إلى حران وقام مقام والده بعد وفاته وكان يخطب ويعظ ويفتي ويدرس ويلقي التفسير في الجامع على الكرسي وله الزوائد على تفسير الوالد وإعداد القرب إلى ساكني الترب توفي سابع عشر المحرم سنة تسع وثلاثين وستمائة بحران رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الحافظ ضياء الدين المقدسي

محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور السعدي المقدسي الصالحي الحافظ الكبير ضياء الدين أبو عبد الله محدث عصره ووحيد دهره وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره والإسهاب في أمره ولد في سنة تسع وستين وخمسمائة وسمع بدمشق وبمصر وببغداد من ابن الجوزي وبأصبهان وهمدان

ص: 48

ونيسابور وهراء ومرو وكتب بخطه الكثير من الكتب ويقال أنه كتب عن أزيد من خمسمائة شيخ وكان حافظًا متقنًا ثبتًا ثقة صدوقًا نبيلًا حجة عالمًا بالحديث وأحوال الرجال له تخريجات وهو ورع تقي زاهد عابد لم ير مثله في نزاهته وعفته وحسن طريقته شديد التحري في الرواية مجتهدًا في العبادة منقطعًا

عن الناس طارحًا للتكلف بنى مدرسته على باب الجامع المظفري بسفح قاسيون ووقف عليها كتبه وكان يبني منها جانبًا ويصبر إلى أن يجتمع معه ما يبني به ولم يقبل من أحد فيها شيئًا تورعًا ومناقبه كثيرة - ومن تصانيفه الأحاديث المختارة وهي الأحاديث التي يصلح أن يحتج بها سوى ما في الصحيحين خرجها من مسموعاته كتب منها تسعين جزءًا ولم تكمل قال بعض الأئمة هي خير من صحيح الحاكم ومنها كتاب فضائل الأعمال أربعة اجزاء. وفضائل الشام ثلاثة أجزاء. وذم المسكر جزء. وسبب هجرة المقادسة إلى دمشق. وتحريم الغيبة جزء. والاستدراك على الحافظ عبد الغني. وأحاديث الحرف والصوت. والأمر باتباع السنن واجتناب البدع جزء وله غير ذلك شيء كثير وقد روى عنه جماعة من الحفاظ وخلق كثير توفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.

*‌

‌ مجد الدين بن تيمية

عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن تيمية ابن أخي الشيخ فخر الدين الفقيه الإِمام المقري المحدث المفسر الأصولي النحوي مجد الدين أبو البركات شيخ الإِسلام فقيه الوقت أحد الأعلام ولد سنة تسعين وخمسمائة تقريبًا بحران وحفظ القرآن وسمع من عمه وغيره ورحل إلى بغداد مع ابن عمه عبد الغني فسمع بها من جماعة واشتغل بالفقه والخلاف والعربية وكانت إقامته بها ست سنوات ثم رجع إلى حران ثم عاد إلى بغداد وقرأ القراءات وتفقه على ابن الحلاوي والفخر إسماعيل وأتقن العربية والحساب والجبر والمقابلة والفرائض على أبي البقاء العكبري وبرع وعرض مصنفه جنة الناظر على شيخه الفخر إسماعيل وهو ابن ستة عشر عامًا فكتب له عليه عبارة مدحه بها وكان الشيخ جمال الدين بن مالك يقول أُلين الفقه للشيخ المجد كما ألين الحديد لداود - وقد حدث بالحجاز والعراق والشام وبلده

ص: 49

حران وصنف ودرس وكان من أعيان العلماء وأكابر الفضلاء وبيته مشهور بالعلم والدين والحديث وكان عجبًا في حفظ الأحاديث وسردها وحفظ مذاهب الناس بلا كلفة وحكى البرهان المراغي أنه

اجتمع بالشيخ المجد فأورد نكتة عليه فقال المجد الجواب عنها من ستين وجهًا الأول كذا والثاني كذا وسردها إلى آخرها ثم قال للبرهان قد رضينا منك بإعادة الأجوبة فخضع وانبهر وكان المجد معدوم النظير في زمانه رأسًا في الفقه وأصوله بارعًا في الحديث ومعافيه له اليد الطولى في معرفة القراءات والتفسير - ومن تصانيفه أرجوزة في علم القراءات. الأحكام الكبرى في عدة مجلدات. المنتفى من أحاديث الأحكام وهو الكتاب المشهور انتقاه من الأحكام الكبرى. المحرر في الفقه. منتهى الغاية في شرح الهداية بيض منه أربع مجلدات كبار. مسودة في أصول الفقه زاد فيها ولده ثم حفيده قرأ عليه القرآت جماعة وأخذ الفقه عنه ولده عبد الحليم وابن تميم وغيرهما وسمع منه خلق وروى عنه جماعة توفي بعد العصر يوم الجمعة يوم عيد الفطر سنة ثلاث وخمسين وستمائة ودفن بكرة السبت وكان في جنازته خلق كثير جدًا ودفن بمقبرة الحنابلة بحران وتوفيت زوجته ابنة عمه الشيخ فخر الدين قبله بيوم رحمهما الله تعالى.

*‌

‌ محيي الدين بن جمال الدين الجوزي

يوسف بن عبد الرحمن بن علي الجوزي البغدادي الفقيه الأصولي الواعظ الصاحب الشهيد أستاذ الخلافة المستعصية اشتغل بالفقه والخلاف والأصول وبرع في ذلك ووعظ وأفتى ودرس وولي الحسبة في جانبي بغداد والنظر في الوقوف العامة وغيرهما من الولايات الجليلة وله تصانيف وسمع منه خلق وكان من صدور الإِسلام وأكابرهم ذا سمت ووقار وعقل ورياسة وكان له الحظوة عند الخليفة الناصر ولد سنة ثمانين وخمسمائة وقتل سنة ست وخمسين وستمائة هو وأولاده الثلاثة الشيخ جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن وشرف الدين عبد الله وتاج الدين عبد الكريم وكلهم أفاضل وكلهم تولى حسبة بغداد قتلوا لما دخل هولاكو ملك التتار إلى بغداد وقتل الخليفة المستعصم وأعيان الدولة وأكابر العلماء رحمهم

ص: 50

الله تعالى أمين (يقول المختصر محمد جميل الشطي) ومن آثاره بدمشق المدرسة الجوزية في سوق البزورية وجامع الجوزي في سوق العمارة.

*‌

‌ الأديب جمال الدين الصرصري

يحيى بن يوسف بن يحيى الأنصاري الصرصري الزيراني الضرير الفقيه الأديب اللغوي الشاعر الزاهد جمال الدين أبو زكريا صاحب الديوان الذي مدح به النبي صلى الله عليه وسلم قرأ وروى وحفظ ونظم في فنون شتى وحدث وسمع منه جماعة وكان صالحًا قدوة ولد سنة ثمان وثمانين وقتل لما دخل التتار إلى بغداد سنة ست وخمسين وستمائة وحمل إلى صرصر فدفن بها رحمه الله. انتهى - يقول المختصر - وللمترجم نظم الخرقي منظومة أخرى في الفقه مطلعها:

إلا أن حمد الله أفضل ما ابتدى

به حسبة في مصدر بعد مورد

*‌

‌ شيخ الإِسلام شمس الدين بن قدامة

عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامه المقدسي الجماعيلي الأصل الفقيه الإِمام الزاهد الخطيب قاضي القضاة شيخ الإِسلام شمس الدين ولد سنة سبع وتسعين وخمسمائة بسفح قاسيون سمع من أبيه وعمه الموفق وغيرهما وتفقه على عمه ودرس وأفتى وانتهت إليه رياسة المذهب بل رياسة العلم جمعت ترجمته وأخباره في مائة وخمسين جزءًا قال الذهبي ما رأيت سيرة عالم أطول منها وكان النووي يقول هو أجل شيوخي ولي القضاء اثنتي عشرة سنة منذ سنة أربع وستين وستمائة جاءه به العهد من مصر ولم يتناول معلومًا ثم عزل نفسه وبقي القضاء شاغرًا حتى وليه ولده نجم الدين ثم قاضي الجبل ابن قدامه أخذ عنه العلم الشيخ تقي الدين بن تيمية وغيره وروى عنه خلق كثير وتوفي ليلة الثلاثاء سلخ ربيع الآخر سنة إثنتين وثمانين وستمائة ودفن من الغد عند والده بسفح قاسيون ورثاه نحو من ثلاثين شاعرًا منهم الشهاب محمود وهو من تلامذته قال في مطلع قصيدته:

ما للوجود وقد علاه ظلام

أعراه خطب أم عداه مرام

*‌

‌ الشيخ عبد الحليم بن تيمية

عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي شهاب

ص: 51

الدين أبو المحاسن والد شيخ الإِسلام ابن تيمية ولد بحران سنة سبع وعشرين وستمائة وسمع من والده المجد وغيره وقرأ العلم عَلَى والده وتفنن في الفضائل وأفتى ودرس وصنف وصار بعد أبيه شيخ حران وخطيبه وحاكمه وكان كثير الفوائد له يد طولى في الفرائض والحساب والهيئة دينًا متواضعًا حسن الأخلاق تفقه عليه ولداه أبو العباس وأبو محمد وكان قدومه إلى دمشق بأهله وأقاربه مهاجرًا سنة سبع وستين وستمائة قال الذهبي وكان الشهاب من أنجم الهدى وإنما اختفى بين نور القمر وضوء الشمس يشير إلى أبيه وابنه وباشر بدمشق مشيخة دار الحديث السكرية بالقصاعين وكان يسكن بها وكان له كرسي بالجامع يتكلم عليه أيام الجمع ولما توفي خلفه فيها ولده أبو العباس وله تعاليق وفوائد ومصنف في علوم عدة توفي ليلة الأحد سلخ ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وستمائة ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.

*‌

‌ القاضي نجم الدين بن حمدان

أحمد بن حمدان بن شبيب النميري الحراني الفقيه الأصولي القاضي نجم الدين أبو عبد الله نزيل القاهرة صاحب التصانيف ولد سنة ثلاث وستمائة بحران وسمع بها وبحلب ودمشق والقدس وقرأ على الشيوخ وتفقه على الناصحين الحرانيين وأخذ عن الفخر بن تيمية وجالس ابن أخيه المجد وانتهت إليه معرفة المذهب ودقائقه وكان عارفًا بالأصلين والخلاف والأدب وصنف تصانيف كثيرة منها الرعاية الصغرى والكبرى ومقدمة في أصول الدين وصفة المفتي والمستفتي وقصيدة في السنة وغير ذلك وولي نيابة القضاء بالقاهرة وتفقه به وتخرج عليه جماعة وحدث بالكثير وعمر وأسن وتوفي بالقاهرة سنة خمس وتسعين وستمائة وتوفي أخوه تقي الدين شبيب الأديب البارع الشاعر المفلق الطبيب الكحال في ربيع الآخر من السنة المذكورة وهو في عشر الثمانين رحمهما الله تعالى.

*‌

‌ نجم الدين الطوفي

سليمان بن عبد القوى بن عبد الكريم بن سعيد الطوفي الصرصري ثم البغدادي الفقيه الأصولي المتفنن نجم الدين أبو الربيع ولد سنة بضع وسبعين وستمائة بطوفي

ص: 52

وتردد إلى صرصر وتفقه بها ودخل بغداد وقرأ على فضلائها وسمع بها الحديث من جماعة وسافر إلى دمشق وسمع بها الحديث ولقي الشيخ تقي الدين بن تيمية وغيره وجالسهم ثم سافر إلى مصر فسمع بها من القاضي سعد الدين الحارثي وقرأ على أبي حيان النحوي مختصره لكتاب سيبويه وجاور بالحرمين وسمع وقرأ بهما الكثير وأقام بالقاهرة مدة ويقال أن له بقوص خزانة كتب من تصانيفه وامتحن في آخر عمره وصرف عما كان بيده من المدارس وحبس أيامًا ثم أطلق فخرج إلى قوص ثم حج سنة أربع عشرة وجاور سنة خمس عشرة وسبعمائة ثم حج ونزل إلى الشام فأدركه الأجل في بلد سيدنا الخليل عليه السلام في رجب سنة ست عشرة وسبعمائة ومدح الإِمام بقصيدة أولها:

ألذ من الصوت الرخيم إذا شذا

وأحسن من وجه الحبيب إذا بدا

ثناء على الحبر الإِمام ابن حنبل

إمام التقي محيي الشريعة أحمدا

*‌

‌ عبد الله بن عبد الحليم بن تيمية

شرف الدين أبو محمد أخو شيخ الإِسلام تقي الدين الفقيه الإمام الزاهد العابد القدوة المتقن ولد بحران سنة ست وستين وستمائة وقدم دمشق مع أهله رضيعًا سمع المسند والصحيحين وكتب السنن وتفقه في المذهب حتى برع وأفتى ومهر في الفرائض والحساب والهيئة والأصلين والعربية وله مشاركة قوية في الحديث ودرس في الحنبلية وكان شجاعًا مقدامًا زاهدًا ورعًا كثير العبادة والمراقبة وكان له يد طولى في معرفة تراجم السلف حبس مع أخيه في الديار المصرية مدة وكان حسن العبارة قويًا في دينه جيد التفقه مستحضرًا لمذهبه ملازمًا لأنواع الخير حلو المذاكرة مع ترك التكلف والقناعة باليسير توفي يوم الأربعاء رابع عشر جمادي الأولى سنة سبع وعشرين وسبعمائة بدمشق وصلي عليه بالجامع

وحمل إلى باب القلعة فصلي عليه مرة أخرى وصلى عليه أخواه الشيخ تقي الدين والشيخ زين الدين عبد الرحمن وهما محبوسان بالقلعة وكان وقتا مشهودًا ثم صلي عليه ثالثة ورابعة وحمل إلى مقابر الصوفية فدفن بها رحمه الله.

ص: 53

*‌

‌ شيخ الإِسلام تقي الدين أحمد بن تيمية

تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني نزيل دمشق الشيخ الإِمام العالم المحقق الحافظ المجتهد المحدث المفسر القدوة الزاهد نادرة العصر شيخ الإِسلام قدوة الأنام علامة الزمان صاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره ولد بحران يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة وقدم والده به وبأخويه إلى دمشق سنة سبع وستين وستمائة وكانوا قد خرجوا من حران مهاجرين بسبب التتار فأخذ الفقه والأصول عن والده وسمع عن خلق كثيرين منهم الشيخ شمس الدين بن قدامة والشيخ زين الدين بن المنجا والمجد بن عساكر وأخذ العربية عن ابن عبد القوى ثم أخذ كتاب سيبويه فتأمله وفهمه وعنى بالحديث وسمع الكتب الستة والمسند مرات وأقبل على تفسير القرآن الكريم فبرز فيه وأحكم أصول الفقه والفرائض والحساب والجبر والمقابلة وغير ذلك ونظر في الكلام والفلسفة وبرز في ذلك على أهله ورد على رؤسائهم وأكابرهم ومهر في هذه الفضائل وتأهل للتدريس والفتوى وله دون العشرين سنة وتضلع في علم الحديث وحفظه حتى قالوا كل حدث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث وإذا تكلم في علم ظن سامعه أنه لا يعرف غيره وكلامه في تصانيفه كله عجائب وكان يكتب في اليوم والليلة نحو أربع كراريس وكتب الحموية في قعدة واحدة وهي أزيد من ذلك وقد درس بالسكرية والحنبلية في دمشق وأمده الله تعالى بكثرة الكتب وسرعة الحفظ وقوة الإدراك والفهم وألف في أكثر العلوم التآليف العديدة وصنف التصانيف المفيدة في التفسير والفقه والأصول والحديث والكلام والردود على الفرق الضالة والمبتدعة وله الفتاوي المفصلة في حل المسائل المعضلة - فمن أعيان مصنفاته

كتاب الايمان مجلد. كتاب الاستقامة مجلدان. جواب الاعتراضات المصرية على الفتاوي الحموية أربع مجلدات. بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعمهم الكلامية ست مجلدات كبار. كتاب المحنة المصرية مجلدان. المسائل الاسكندرية مجلد. الفتاوي المصرية سبع مجلدات. وكلها

ص: 54

ما عدا كتاب الايمان كان صنفها في السجن وهو في مصر في مدة سبع سنين وكتب معها أكثر من مائة لفة ورق أيضًا. كتاب رد تعارض العقل والنقل أربع مجلدات كبار. الجواب عما أورده الشيخ كمال الدين الشريشي على هذا الكتاب نحو مجلد. كتاب منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية أربع مجلدات. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح مجلدان. شرح أول المحصل للرازي مجلد. شرح بضعة عشر مسألة من الأربعين للرازي مجلدان. الرد على المنطق مجلد كبير. الرد عَلَى البكري في مسألة الاستغاثة مجلد. الرد على أهل كسروان الروافض مجلدان. الرد على من قال أن معجزات الأنبياء قوى نفسانية مجلد شرح عقيدة الأصفهاني مجلد. شرح العمدة للشيخ موفق الدين كتب منه أربع مجلدات تعليقة على المحرر في عدة مجلدات. الصارم المسلول على شاتم الرسول مجلد. بيان الدليل على بطلان التحليل مجلد. اقتضاء الصراط المستقيم في محالفة أصحاب الجحيم مجلد التحرير في مسألة حفير مجلد. الرد على من رد عليه في مسألة الطلاق ثلاث مجلدات كتاب تحقيق الفرقان بين الطلاق والايمان مجلد كبير. الرد على الاخنائي في مسألة الزيارة مجلد - وأما القواعد المتوسطة والصغار وأجوبة الفتاوي فلا يمكن الإحاطة بها لكثرتها وانتشارها وتفرقها ومن أشهرها الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. الفرقان بين الحق والبطلان السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية. رفع الملام عن الأئمة الأعلام. والكل منها مجلد لطيف وله اختيارات مشهورة انفرد بها عن مذهبه بل عن المذاهب الأربعة - وقد قام على الشيخ خلق من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه فجرى بينه وبينهم حملات حربية ووقعات شامية ومصرية وهي كثيرة فمنها أنه امتحن سنة خمس وسبعمائة بالسؤال عن معتقده بأمر السلطان فجمع نائبه القضاة والعلماء بالنصر وأحضر الشيخ وسأله عن ذلك فبعث الشيخ فأحضر من

داره العقيدة الواسطية فقرأوها في ثلاثة مجالس ووقع الاتفاق على أنها عقيدة سنية سلفية ثم تعصب عليه جماعة في مصر فطلبه ابن مخلوق قاضي المالكية إلى القاهرة على البريد فوصلها في حادي عشر رمضان من السنة المذكورة وحبس بالقلعة وعقد له مجلس فلم

ص: 55

يثبت عليه شيء ثم حبس هو وأخوه شرف الدين في برج ويقال أن شرف الدين هذا ابتهل ودعا الله عليهم فمنعه الشيخ وقال له بل قل اللهم هب لهم نورًا يهتدون به وفي ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة أطلق الشيخ من السجن فأقام بمصر يقرئ العلم ويجتمع عليه الخلق ثم حصل منازعة بينه وبين جماعة من الصوفية فحبس ثم أخرج إلى الاسكندرية إلى برج حسن ولما تولى الملك الناصر محمد بن قلاون في شوال سنة تسع وسبعمائة أحضر الشيخ إلى القاهرة وأكرمه إكرامًا زائدًا وتلقاه في مجلس حافل فيه القضاة والفقهاء وأعيان الدولة وسكن الشيخ بالقاهرة والناس يترددون إليه ثم قدم دمشق هو وأخواه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن عام اثني عشر وسبعمائة بنية الجهاد لما قدم السلطان لكشف التتار فخرج خلق كثير لتلقيه وسر الناس بمقدمة وفي سنة ثمان عشرة وسبعمائة ورد من السلطان أمر يمنعه من الفتوى في مسألة الطلاق وعقد له مجلس بدار السعادة ثم عقد له ثانية ثم ثالثة وحبس بالقلعة ثم حبس مرة أخرى ومنع بسبب ذلك من الفتيا مطلقًا فأقام مدة يفتي بلسانه ويقول لا يسعني كتم العلم ثم تكلموا معه في مسألة المنع من السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه فحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهرًا حتى مات رحمه الله وقد بقي مدة في القلعة يكتب العلم ويصنفه ويرسل إلى أصحابه الرسائل حتى أنه قال قد فتح الله علي بهذا الحصن هذه المرة معاني القرآن ومن أصول العلم بأشياء مات كثير من أهل العلم يتمنونها ثم أنه منع من الكتابة ولم يترك عنده دواة ولا قلم ولا ورق فأقبل على التلاوة والتهجد والذكر. وقال مرة ما بصنع أعدائي بي أنا بستاني في صدري أين رحت فهو معي أنا حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة ولما دخل القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب وقد حدث الشيخ كثيرًا وسمع منه خلق من الحفاظ

وغيرهم من الحديث ومن تصانيفه - وبالجملة فكان الشيخ لمزيد علمه لا تقوى عَلَى مناظرته الخصوم ولشدة لهجته لا يثبت على عشرته أحد إلا قليلًا حتى أن أبا حيان المفسر النحوي كان اجتمع به وامتدحه بأبيات نظمها بديهة وأنشده

ص: 56

إياها وهي قوله:

لما أتانا تقي الدين لاح لنا

داع إلى الله ما له وَزَرُ

على محياه من سيما الأولى صحبوا

خير البرية نور دونه القمر

حبر تسربل منه دهره حبرًا

بحر تقاذف من أمواجه الدرر

قام ابن تيمية في نصر شرعتنا

مقام سيد تيم إذ مضت مضر

وأظهر الحق إذا اثاره اندرست

وأخمد الشر إذ طارت له شرر

يا من يحدث عن علم الكتاب اصخ

هذا الإِمام الذي قد كان ينتظر

ثم ناظره ابن حيان في مسألة احتج فيها بكلام لسيبويه فقال له الشيخ ما كان سيبويه نبي النحو ولا معصومًا بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعًا لا تفهمها أنت فكان ذلك سبب المقاطعة بينهما فذكره أبو حيان في تفسيره البحر ومختصره النهر بكل سوء - وكتب قاضي القضاة ابن الزملكاني تحت طرة بعض كتب الشيخ ما صورته:

ماذا يقول الواصفون له

وصفاته جلت عن الحصر

هو حجة لله قاهرة

هو بيننا أعجوبة الدهر

هو آية في الخلق ظاهرة

أنواره أربت على الفجر

وقال العلامة ابن حجى أنشدني الشيخ شمس الدين الموصلي لنفسه:

أن كان إثبات الصفات جميعها

من غير كيف موجبًا لومى

وأصير تيميًا بذلك عندكم

فالمسلمون جميعهم تيمي

ولم يل الشيخ شيئًا من الولايات مع تأهله لذلك وتمكنه بل كان متقللًا زاهدًا قانعًا باليسير إلى آخر حياته وكان دخوله القلعة في شعبان سنة ست وعشرين وتوفي بها ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين

وسبعمائة بعد أن مرض بضعة وعشرين يومًا فأعلن لموته في القلعة وفي منائر دمشق فاجتمع الناس في القلعة حتى خرجت جنازته باحتفال عظيم جدًا ثم جيء بها إلى جامع دمشق فصلي عليها في المقصورة مرارًا ثم خرج الخلق بالجنازة حتى وصلوا بها إلى مقابر الصوفية فدفن الشيخ بها وقد أغلقت دمشق في ذلك اليوم وكان يومًا مشهودًا لم يعهد مثله وختمت على قبره ختمات وأسرجت له مصابيح وأفرد

ص: 57

له الشمس بن عبد الهادي المقدسي وهو من أخص تلامذته ترجمة في مجلدة وكذلك أبو حفص عمر بن علي البزار البغدادي في كراريس وترجمه كاتم السر بالديار المصرية والشامية في تاريخه ووضع فيه الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي كتاب الرد الوافر عَلَى من قال أن من سمي ابن تيمية شيخ الإِسلام فهو كافر وقد قرظه جماعة من مشاهير العلماء بمصر وأنشد الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي يرثي الشيخ بأبيات مطلعها:

يا موت خذ من أردتُ أو فدع

محوت رسم العلوم والورع

وقال فيه الإِمام ابن الوردي:

عثى في عرضه قوم سلاط

لهم من نثر جوهره التقاط

تقي الدين أحمد خير حبر

خروق المعضلات به تخاط

توفي وهو محبوس فريد

وليس له إلى الدنيا انبساط

ولو حضروه حين قضى لالفوا

ملائكة النعيم به أحاطوا

قضى نحبا وليس له قرين

ولا لنظيره ألف القماط

فتى في علمه أضحى فريدًا

وحل المشكلات به يناط

وكان إلى التقى يدعو البرايا

وينهي فرقة فسقوا ولاطوا

وكان الجن تفرق من سطاه

بوعظ للقلوب هو السياط

فيا لله ما قد ضم لحد

ويا لله ما غطى البلاط

هم حسدوه لما لم ينالوا

منا فيه فقد مكروا وشاطوا

وكانوا عن طرائفه كسالى

ولكن في أذاه لهم نشاط

وحبس الدر في الأصداف فخر

وعند الشيخ في السجن اغتباط

بآل الهاشمي له اقتداء

فقد ذاقوا المنون ولم يواطوا

بنو تيمية كانوا فبانوا

نجوم العلم أدركها انهباط

ولكن يا ندامة حابسيه

فشك الشرك كان به يماط

ويا فرح اليهود بما فعلتم

فإن الضد يعجبه الخباط

ألم يك فيكم رجل رشيد

يرى سجن الإمام فيستشاط

إمام لا ولاية كان يرجو

ولا وقف عليه ولا رباط

ص: 58

ولا جاراكم في كسب مال

ولم يعهد له بكم اختلاط

ففيم سجنتموه وعظتموه

أما لجزا أذيته اشتراط

وسجن الشيخ لا يرضاه مثلى

ففيه لقدر مثلكم انحطاط

أما والله لولا كتم سري

وخوف الشر لانحل الرباط

وكنت أقول ما عندي ولكن

بأهل العلم ما حسن اشتطاط

فما أحد إلى الإنصاف يدعو

وكل في هواه له انخراط

سيظهر قصدكم يا حابسيه

وننبئكم إذا نصب الصراط

فها هو مات عنكم واسترحتم

فعاطوا ما أردتم أن تعاطوا

وحلوا واعقدوا من غير رد

عليكم قد طوى ذاك البساط

وكان الشيخ أبيض اللون أسود الرأس واللحية قليل الشيب شعره إلى شحمتي أذنيه كأن عينيه لسانان ناطقان ربعة من الرجال بعيد ما بين المنكبين جهوري الصوت ولم يتزوج حتى مات رحمه الله ورضي عنه وجزاه عن الإِسلام والمسلمين خيرًا كثيرًا آمين.

يقول المختصر: معلوم أن الشيخ قد أفرده بالترجمة حفاظ ومؤرخون وعلماء كثيرون فأطالوا في سيرته وأطنبو وبسطوا وأسهموا وإن بعض هذه الكتب قد طبع ونشر ولذا فقد حررنا ترجمته هنا بما نرجو أن يكون فيه بلاغ لمحبيه وحجة على اللاغين فيه والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

*‌

‌ شهاب الدين أحمد بن جبارة

الشيخ شهاب الدين أبو العباس أحمد ابن الشيخ تقي الدين أبي عبد الله محمد بن عبد المولى بن جبارة المقدسي المقري الفقيه الأصولي النحوي ولد سنة

سبع وأربعين أو ثمان وأربعين وستمائة وسمع الحديث من جماعة وارتحل إلى مصر فقرأ بها القرآن وأصول والعربية وبرع في ذلك وتفقه في المذهب ثم استوطن بيت المقدس فتصدر لاقراء القرآن والعربية وصنف شرحًا يسيرًا للشاطبية وشرحًا آخر للرائية في الرسم وشرحًا لألفية ابن معطي وصنف تفسيرًا وأشياء في القرآن وكان صالحًا متعففًا خشن العيش جم الفضائل ماهرًا متفننًا مقرئًا بارعًا

ص: 59

فقيهًا نحويًا نشأ في صلاح ودين وزهد وانتهت إليه مشيخة بيت المقدس وحج وجاور بمكة وكان يعد من العلماء الصالحين الأخيار توفي بالقدس الشريف فجأة سحر يوم الأحد رابع رجب سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ودفن في اليوم المذكور بملأ وصلي عليه بجامع دمشق صلاة الغائب في سادس عشر الشهر المزبور.

*‌

‌ الشيخ صفي الدين البغدادي

عبد المؤمن بن عبد الحق بن عبد الله البغدادي الفقيه الإمام الفرضي المتفنن صفي الدين أبو الفضائل ولد سنة ثمان وخمسين وستمائة ببغداد وسمع الحديث بها وبدمشق وبمكة وتفقه وبرع ومهر في الفنون الرياضية واشتغل بالأعمال الديوانية مدة ثم أقبل عَلَى العلم مطالعة وكتابة وتصنيفًا وتدريسًا واشتغالًا وإفتاء إلى حين موته وكتب الكثير بخطه الحسن وكان ذا ذهن حاد وذكاء وفطنة وأقبل أخيرًا على التصنيف فصنف في علوم كثيرة واختصر كتبًا كثيرة وله تسهيل الوصول في علم الأصول وتحقيق الأمل في علمي الأصول والجدل ومختصره قواعد الأصول وغير ذلك وعني بالحديث وخرج لنفسه معجمًا استعان في معرفة أحوال الشاميين منهم بالذهبي والبرزالي وحدث به وبكثير من مسموعاته وسمع منه خلق كثير وأجاز لابن رجب ودرس بالمدرسة البشيرية للحنابلة وكان ذا أخلاق حسنة عظيم الحرمة شريف النفس لا يغشى الأكابر ولا يزاحمهم في المناصب وله شعر كثير جيد وتفرد في وقته ببغداد في علمي الفرائض والحساب واجتمع بالشيخ تقي الدين بن تيمية بدمشق وكان من محاسن زمانه في بلده ومن نظمه:

لا ترج غير الله سبحانه

واقطع عرى الأمال من خلقه

لا تطلبن الفضل من غيره

واضنن بماء الوجه واستبقه

فالرزق مقسوم وما لامرئ

سوى الذي قدر من رزقه

والفقر خير للفتى من غنى

يكون طول الدهر في رقة

وكانت وفاته سنة تسع وثلاثين وسبعمائة ودفن بمقبرة الإِمام أحمد رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي المقدسي

محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد

ص: 60

بن قدامة المقدسي الجماعيلي الأصل ثم الصالحي المقري الفقيه المحدث الحافظ الناقد النحوي المتفنن شمس الدين أبو عبد الله ولد سنة أربع وسبعمائة وسمع من أكابر عصره وقرأ الأصلين والعربية وتفقه على الشيخ تقي الدين بن تيمية ولازمه كثيرًا وكتب في ترجمته ووقائعه أجزاء معروفة ودرس وأفتى وله تصانيف منها تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق لابن الجوزي ومن تصانيفه ما اخترمته المنية قبل إتمامه توفي سنة أربع وأربعين وسبعمائة عن أربعين سنة ودفن بالسفح القاسيوني رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ شمس الدين محمد بن قيم الجوزية

محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي ثم الدمشقي الشيخ الإِمام العلامة الفقيه الأصولي المفسر المحدث العارف الصوفي ذو اليد الطولى الآخذ من كل علم بالنصيب الأوفى صاحب التصانيف العديدة المشهورة شرقًا وغربًا والتآليف المفيدة المقبولة عجمًا وعربًا شمس الدين أبو عبد الله ولد سنة إحدى وتسعين وستمائة وسمع من جماعة وتفقه وأفتى ولازم الشيخ تقي الدين الملازمة التامة وكان أخص تلامذته وتفنن في علوم الإسلام فكان إليه المنتهى في التفسير وأصول الدين وكان في الحديث والاستنباط منه لا يجاري وله اليد العليا في الفقه وأصوله والعربية وغير ذلك وكان ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية

عالمًا بالسلوك والتصوف وتصانيفه مملوءة بذلك وفيه يقول القاضي برهان الدين الزرعي ما تحت أديم السماء أوسع منه علمًا ودرس بالصدرية وأم بالجوزية مدة طويلة وكتب بخطه ما لا يوصف كثرة - وقد امتحن فحبس مرات ومنها مع الشيخ تقي الدين في قلعة دمشق منفردًا عنه ولم يفرج عنه حتى مات الشيخ وكان يتلو القرآن ويتدبره ففتح عليه خير كثير - ومن مصنفاته الكبرى كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد أربع مجلدات. هداية الحيارى في الرد على اليهود والنصارى مجلد. تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته مجلد. سفر الهجرتين وباب السعادتين مجلد ضخم. شرح منازل السائرين. شرح أسماء الكتاب العزيز. زاد المسافرين مجلد. نقد المنقول مجلد. نزهة المشتاقين مجلد. الداء والدواء مجلد. تحفة الودود في أحكام المولود

ص: 61

مجلد اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية مجلد رفع اليدين في الصلاة مجلد تفضيل مكة على المدينة مجلد فضل العلم مجلد عدة الصابرين مجلد كتاب الكبائر مجلد حكم تارك الصلاة مجلد موت المؤمن وحياته مجلد التحرير فيما يحل ويحرم من لباس الحرير جوابات عابدي الصلبان بطلان الكيمياء من أربعين وجهًا مجلد الفرق بين الخلة والمحبة مجلد الكلم الطيب والعمل الصالح مجلد الفتح القدسي أمثال القرآن ايمان القرآن المسائل الطرابلسية ثلاث مجلدات الصراط المستقيم في أحكام أهل الجحيم كتاب الطاعون اعلام الموقعين عن رب العالمين ثلاث مجلدات بدائع الفوائد مجلدان جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام مجلد إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان مجلد مفتاح دار السعادة مجلد ضخم كتاب الروح مجلد حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح مجلد الصواعق المنزلة عَلَى الجهمية والمعطلة مجلدات الكافية في الانتصار للفرقة الناجية وهي قصيدة نونية في السنة مجلد عقد الاخاء بين الكلم الطيب والعمل الصالح المرفوع إلى السماء مجلد ضخم بيان الدليل على استغناء المسابقة عن التحليل مجلد الطرق الحكمية مجلد نكاح المحرم مجلد إغمام هلال رمضان التحفة المكية شرح على الأسماء الحسنى شرح على ألفية ابن مالك - وبالجملة فمصنفات الشيخ كثيرة ومقبولة عند الموافق والمخالف وكان شديد المحبة للعلم وكتابته ومطالعته وتصنيفه واقتناء كتبه وقد اقتنى من الكتب ما لا يحصل لغيره توفي ليلة الخميس ثلث عشري رجب سنة إحدى

وخمسين وسبعمائة ودفن بمقبرة الباب الصغير رحمه الله تعالى وجزاه عن الإِسلام خيرًا كثيرًا.

*‌

‌ قاضي القضاة شمس الدين بن مفلح الراميني

محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج المقدسي ثم الصالحي الراميني الشيخ الإِمام العالم العلامة أقضى القضاة شمس الدين أبو عبد الله وحيد دهره وفريد عصره شيخ الإِسلام واحد الأئمة الأعلام قال ابن القيم ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإِمام أحمد من ابن مفلح حضر عند الشيخ تقي الدين بن تيمية ونقل عنه كثيرًا وكان يقول له ما أنت ابن مفلح بل أنت مفلح وكان أخبر الناس بمسائله واختياراته

ص: 62

حتى كان ابن القيم يراجعه بذلك وله على المقنع نحو ثلاثين مجلدًا وعلى المنتقى مجلدان وله كتاب الفروع في الفقه وهو من أجل الكتب وأنفعها وأجمعها للفوائد لكنه لم يبيضه وله كتاب في أصول الفقه ليس للحنابلة أحسن منه وله غير ذلك توفي يوم الخميس ثاني رجب سنة ثلاث وستين وسبعمائة وصلي عليه بالجامع المظفري ودفن بالروضة رحمه الله تعالى.

*‌

‌ قاضي القضاة موفق الدين الحجاوي

عبد الله بن محمد الحجاوي الشيخ الإِمام العالم العلامة شيخ الإِسلام موفق الدين أبو محمد قاضي القضاة بالديار المصرية ولد في حدود سنة تسعين وستمائة تفقه وأفتى ودرس وباشر القضاء بالديار المصرية من سنة ثمان وثلاثين إلى وفاته مع أحد عشر سلطانًا وحمدت سيرته في القضاء وانتشر في أيامه مذهب أحمد بالديار المصرية وكثر فقهاء الحنابلة بها وكانت وفاته سنة تسع وستين وسبعمائة بالمدرسة الصالحية ودفن بتربة باب النصر رحمه الله رحمة واسعة.

*‌

‌ قاضي القضاة جمال الدين المرداوي

يوسف بن محمد المرداوي الشيخ الإِمام العلامة الخاشع الناسك شيخ الإِسلام قاضي القضاة جمال الدين أبو المحاسن المرداوي باشر قضاء الحنابلة

بالشام من سنة خمسين وسبعمائة بعد تمنع وشروط شرطها واستمر فيه سبع عشرة سنة إلى أن عزل بابن قاضي الجبل سنة سبع وستين وسبعمائة وكان ناسكًا خاشعًا ولم يغير ملبسه وهيئته توفى سنة تسع وستين وسبعمائة وصلى عليه بالمظفري ودفن بتربة الموفق في الروضة من السفح القاسيوني رحمه الله تعالى.

*‌

‌ قاضي القضاة شرف الدين بن قاضي الجبل

أحمد بن الحسن بن عبد الله بن أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الشيخ العلامة جمال الإِسلام صدر الأئمة الإِعلام شيخ الحنابلة قاضي القضاة شرف الدين أبو العباس ولد يوم الاثنين تاسع شعبان سنة ثلاث وتسعين وستمائة كان متفننًا بالعلم قرأ على الشيخ تقي الدين بن تيمية عدة مصنفات في علوم شتى ودرس بعدة مدارس ثم طلب إلى مصر وعاد إلى الشام فأقام يدرس ويفتي إلى أن ولي

ص: 63

القضاء بعد جمال الدين المرداوي المقدم ذكره وكان عنده حب للمنصب وباشر القضاء دون أربع سنين إلى أن مات وهو قاض سنة إحدى وسبعين وسبعمائة وصلي عليه بالجامع المظفري ودفن بمقبرة جده ومن شعره رحمه الله:

الصالحية جنة

والصالحون بها أقاموا

فعلى الديار وأهلها

مني التحية والسلام

وله أيضًا:

نبيي أحمد وكذا إمامي

وشيخي أحمد كالبحر طامى

واسمي أحمد وبذاك أرجو

شفاعة سيد الرسل الكرام

انتهى (يقول المختصر محمد جميل الشطي) اطلعت لصاحب الترجمة على كتاب مختصر في الفقه اسمه كمسماه الفائق بخط الجمال بن عبد الهادي رحمهما الله.

*‌

‌ الحافظ زين الدين بن رجب

عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي ثم الدمشقي الشهير بابن رجب

الشيخ الإِمام العالم العامل العلامة الزاهد القدوة البركة الحافظ العمدة الثقة الحجة زين الملة والشريعة والدنيا والدين شيخ الإِسلام واحد الأعلام واعظ المسلمين مفيد المحدثين جمال المصنفين أبو الفرج زين الدين ابن الشيخ الإِمام المقري المحدث شهاب الدين قدم مع والده من بغداد إلى دمشق صغيرًا سنة أربع وأربعين وسبعمائة فسمع وحدث عن جماعة وكان أحد الأئمة الحفاظ والعلماء الزهاد اجتمعت الفرق عليه ومالت القلوب إليه وصنف المصنفات العظمى منها شرح جامع الترمذي وشرح أربعين النووي وفتح الباري في شرح البخاري وصل فيه إلى الجنائز وتراجم أصحاب المذهب ذيل بها على من تقدمه وله غير ذلك درس بالحنبلية وكان لا يعرف شيئًا من أمور الناس ولا يتردد إلى أحد وكان يسكن بالمدرسة السكرية بالقصاعين وتوفي ليلة الاثنين رابع رمضان سنة خمس وتسعين وسبعمائة ودفن بتربة الباب الصغير ووالده وجده ذكرهما هو في طبقاته رحمهم الله تعالى يقول المختصر: الذيل الذي وضعه صاحب الترجمة هو ذيل طبقات أبي يعلى وهو الآن موجود كما هي موجودة في مكتبة الملك الظاهر بدمشق يسر الله نشرهما أو نشر جامعهما العليمي آمين.

ص: 64

*‌

‌ قاضي القضاة تقي الدين بن مفلح

إبراهيم بن محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج المقدسي ثم الدمشقي الصالحي الشيخ الإِمام العلامة قاضي القضاة تقي الدين ويقال برهان الدين ابن قاضي القضاة شمس الدين المتقدمة ترجمته وهو ولد الصدر أبي بكر والنظام عمر ولد سنة 751 وحفظ القرآن وكتبًا كثيرة وأخذ عن أبيه والجمال المرداوي وأبي البقاء وغيرهم وسمع من أبي محمد بن القيم والصلاح بن أبي عمر والعرضي ورحل إلى مصر فسمع بها من القلانسي والخلاصي والفارقي ونحوهم وتكلم على الناس فأجاد ودرس فأفاد وولي قضاء الحنابلة بدمشق فحمدت سيرته وكان فاضلًا بارعًا إمامًا فقيهًا تقيًا دينًا أفتى ودرس وجمع وشاع اسمه واشتهر ذكره ولما طرف الشام تيمورلنك كان ممن تأخر بدمشق فخرج إليه وسعى في الصلح وكثر تردده إليه رجاء الدفع عن المسلمين ثم رجع إلى دمشق ومعه أهالي دمشق

مقررًا ما رامه من الصلح فلم يجب سؤاله وغدروا به ومرض عند رجوعهم وكانت وفاته بعد الفتنة بأرض البقاع في أواخر شعبان سنة ثلاث وثمانمائة رحمه الله.

*‌

‌ قاضي القضاة عز الدين المقدسي

محمد بن علي بن عبد الرحمن بن محمد المقدسي الصالحي الخطيب الشيخ الإِمام العالم العلامة قاضي القضاة عز الدين خطيب الجوامع المظفري وابن خطيبه ولد سنة أربع وستين وسبعمائة وحفظ وسمع وتفقه وكان له في التصنيف قلم جيد وكان خطيبًا بليغًا ومن مصنفاته النظم المفيد الأحمد في مفردات الإِمام أحمد وناب في القضاء بدمشق عن ابن المنجا ثم استقل بالوظيفة وكانت وفاته سنة عشرين وثمانمائة رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ شرف الدين بن مفلح

عبد الله بن محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج الراميني ثم الدمشقي الشيخ الإِمام علامة الزمان شيخ المسلمين شرف الدين أبو محمد مولده كما أخبر به في سنة ست أو سبع وخمسين وسبعمائة حفظ القرآن وكان يقوم به في التراويح كل سنة بجامع الأفرم وله محفوظات كثيرة منها المقنع في الفقه ومختصر ابن الحاجب في الأصول

ص: 65

وألفية ابن مالك في النحو وألفية الجويني في الحديث والانتصار في الحديث مؤلف جده جمال الدين المرداوي وكان علامة في الفقه يستحضر غالب فروع والده أستاذًا في الأصول بارعًا في التفسير والحديث مشاركًا في سوى ذلك وكان شيخ الحنابلة بالشام بل بالمملكة وأثنى عليه الأئمة في عصره وقد أخذ عن أخيه الشيخ برهان الدين المقدمة ترجمته وغيره وباشر نيابة الحكم قبل فتنة تيمورلنك وبعدها دهرًا طويلًا ثم ترك ذلك وكانت وفاته ليلة الجمعة ثاني ذي القعدة سنة ثلاثين وثمانمائة وصلي عليه بالجامع المظفري ودفن بالروضة رحمه الله.

*‌

‌ القاضي أكمل الدين بن مفلح

محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح ولد الذي قبله الشيخ الإِمام العالم المفتي الأصولي القاضي أكمل الدين أبو عبد الله لازم والده ومهر على يديه وناب في قضاء مصر وحصل له داء الفالج وكانت وفاته بدمشق سنة ست وخمسين وثمانمائة وصلى عليه بالجامع المظفري ودفن على والده إلى جانب جده قاضي القضاة شمس الدين وتقدمت ترجمتها رحمهم الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ تقي الدين بن قندس

أبو بكر بن إبراهيم بن يوسف بن قندس البعلي الشيخ الإِمام العالم العلامة صاحب الفنون ولد سنة تسع وثمانمائة تقريبًا وحفظ وسمع وتفقه وعني بالحديث وأذن له بالإفتاء والتدريس وكان متفننًا بالعلوم وأفاد الطلبة في مدرسة أبي عمر ثم ولي نيابة الحكم مدة ثم تركها وأقبل عَلَى العلم والكسب من يده كتب حاشية على الفروع وحاشية على المحرر ولم يزل كذلك إلى أن توفي في عاشورا سنة إحدى وستين وثمانمائة وصلي عليه بالجامع المظفري المعروف بجامع الحنابلة ودفن بالروضة من السفح القاسيوني وممن أخذ عنه شيخ المذهب علاء الدين المرداوي والشيخ تقي الدين الجراعي رحمهم الله.

*‌

‌ قاضي القضاة شمس الدين العليمي

محمد بن عبد الرحمن بن محمد العمري العليمي الخطيب الفقيه المحدث قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله ولد سنة سبع وثمانمائة بالرملة وبها نشأ وقرأ القرآن

ص: 66

وحفظه برواية عاصم وأتقنها واشتغل بالعلم عَلَى مذهب الإِمام أحمد وكل أسلافه شافعية وهو من بيت كبير ناب في الحكم بالرملة وسافر إلى الشام ومصر وبيت المقدس وأخذ عن علماء المذهب وأئمة الحديث وبرع وأفتى وولي قضاه الرملة استقلالًا ثم ولي قضاء القدس في أواخر دولة الملك الأشرف برسباي ثم أعيد إلى قضاء الرملة ثم إلى قضاء القدس في دولة الملك الظاهر جمقمق وأقام بها عشرين سنة متوالية وأضيف إليه قضاء الرملة والخليل ثم عزل وولي قضاء

الرملة فتوجه إليها وأقام بها مدة جزئية ودخل الوباء فتوفي به سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة ودفن على باب الجامع الأبيض ظاهر مدينة الرملة وقد انتهت إليه رئاسة الحنابلة بالقدس والرملة وما والاهما رحمه الله رحمة واسعة آمين.

يقول المختصر هذا المترجم هو والد المؤلف العليمي عليه الرحمة والرضوان.

*‌

‌ قاضي القضاة برهان الدين بن مفلح

إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح وتقدمت تراجم والده وجده ووالد جده الشيخ الإِمام العلامة المحقق الرحلة الحافظ المجتهد شيخ الإِسلام سيد العلماء والحكام ذو الدين المتين والورع المبين قاضي القضاة برهان الدين ابن أقضى القضاء أكمل الدين ابن العلامة الشيخ شرف الدين ابن قاضي القضاة شمس الدين كان من بيت علم ورياسة أفتى ودرس وناب في قضاء دمشق ثم استقل به وانتظم له الأمر وصنف شرح المقنع وطبقات الأصحاب وكتابًا في الأصول وغير ذلك وكانت مباشرته القضاء أكثر من أربعين سنة وانتهت إليه رياسة المذهب بل رياسة عصره ومحاسنه كثيرة وكانت وفاته سنة أربع وثمانين وثمانمائة وصلي عليه بالجامع المظفري ودفن بالروضة عند أسلافه رحمه الله ورضي عنه.

*‌

‌ قاضي القضاة بدر الدين محمد الجعفري

قاضي القضاة بدر الدين أبو عبد الله محمد بن قاضي القضاة شرف الدين أبي حاتم عبد القادر ابن شيخ الإِسلام شمس الدين أبي عبد الله محمد الجعفري النابلسي ولد سنة 791 أو سنة 792 بنابلس ونشأ على طريقة حسنة وهو من بيت علم ورياسة سمع من جده وابن العلائي وجماعة واشتغل بالعلم والأدب وحصل وباشر القضاء

ص: 67

بنابلس نيابة ثم وليه استقلالًا بعد سنة 840 ثم أضيف إليه قضاء القدس بعد عزل شمس الدين العليمي ثم عزل من القدس واستمر بنابلس ثم باشر قضاء القدس مرتين عوضًا عن القاضي العليمي ثم أعيد إلى قضاء نابلس

في المرتين وولي قضاء الرملة ونيابة الحكم بالديار المصرية وكان حسن السيرة عفيفًا مهيبًا وكان حسن الشكل منور الشيبة عليه الأبهة والوقار ونورانية العلم والتقوى وعمر ورزق الأولاد وألحق الأحفاد بالأجداد ومتع بدنياه ثم عزل عن قضاء نابلس فلم يلتفت إليه واستمر إلى أن توفي بنابلس يوم الخميس سادس عشر رمضان سنة إحدى وثمانين وثمانمائة وكان له عدة أولاد أمثلهم قاضي القضاة كمال الدين أبو الفضل محمد ولد بعد سنة 830 دأب وحصل وسافر في طلب العلم وأخذ عن المشايخ وبرع في المذهب وأذن له الشيخ علاء الدين المرداوي في الإفتاء والتدريس سنة 851 وتميز وأفتى وناظر وصار من أعيان المذهب وباشر القضاء نيابة عن والده بنابلس ثم باشر نيابة الحكم في مصر ثم ولي قضاء القدس والرملة في سنة 873 عوضًا عن القاضي العليمي ثم بعد وفاته أضيف إليه قضاء الرملة ثم قضاء نابلس وعزل في شعبان سنة 878 ثم أعيد في سنة 879 ثم عزل في سنة 882 وتوجه إلى دمشق فأقام نحو ثلاث سنوات ثم توجه إلى ثغر دمياط ثم سافر منه وانقطع خبره ثم ورد إلى القاهرة خبر وفاته بمدينة اسكندرية في سنة تسع وثمانين وثمانمائة رحمه الله.

*‌

‌ شيخ المذهب علاء الدين المرداوي - صاحب الإنصاف والتنقيح

علي بن سليمان بن أحمد بن محمد المرداوي السعدي ثم الصالحي الشيخ الإِمام العلامة المحقق المفنن أعجوبة الدهر شيخ المذهب وإمامه ومصححه ومنقحه شيخ الإِسلام محرر العلوم علاء الدين أبو الحسن ذو الدين الشامخ والعلم الراسخ صاحب التصانيف الفائقة والتآليف الرائقة مولده سنة سبع عشرة وثمانمائة خرج من بلده مردا في حال الشيبة فأقام بالخليل ثم قدم دمشق ونزل بمدرسة الشيخ أبي عمر واجتمع بالمشايخ وتفقه على ابن قندس شيخ المذهب في وقته فبرع وفضل وانتهت إليه رياسة المذهب وباشر نيابة الحكم دهرًا طويلًا وحسنت سيرته وصنف كتبًا كثيرة

ص: 68

أعظمها الإنصاف أربع مجلدات جعله على المقنع وهو من كتب الإسلام لم يسبق إليه وهو دليل على تبحره وسعة عمله

وكثرة اطلاعه فرغ من تصنيفه في سلخ ربيع الآخر سنة 867 وصنف التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع وهو مختصر الإنصاف مجلد لطيف فرغ منه في 16 شوال سنة 872 وصنف التحرير في أصول الفقه فرغ منه في 24 شوال سنة 877 وشرحه وله غير ذلك وانتفعت الناس بمصنفاته وتنزه عن مباشرة القضاء في أواخر عمره وصار قوله حجة في المذهب يعمل به ويعول عليه في التقوى والأحكام في جميع مملكة الإِسلام.

"قال المؤلف العليمي" ومن تلامذته شيخنا قاضي القضاة بدر الدين السعدي قاضي الديار المصرية وغالب من في المملكة من الفقهاء والعلماء وقضاة الإِسلام في هذا العصر وكان من أهل العلم والدين لا يتردد إلى أهل الدنيا وكان الأكابر والأعيان يقصدونه لزيارته والاستفادة منه والاستغناء في الأمور المهمة والوقائع المشكلة وحج بيت الله الحرام وزار بيت المقدس مرارًا ومحاسنه أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر وهو أعظم من أن ينبه مثلي على فضله توفي يوم الجمعة سادس جمادي الأولى سنة خمس وثمانين وثمانمائة بمنزله في الصالحية وصلي عليه بالجامع المظفري ودفن بسفح قاسيون بأرض اشتراها من ماله ولم يبق بعده من هو في معناه رحمه الله تعالى ورضي عنه آمين.

إلى هنا انتهى ما اختصرناه من طبقات العلامة العليمي الحنبلي

رحمه الله وجزاه خيرًا ويليه إن شاء الله مختصر ذيل

الكمال الغزي الشافعي كتبه محمد جميل الشطي الحنبلي

ص: 69

قصيدة نبوية

من نظم صاحب هذا المختصر عفي غنه

إلى كم أحاول نيل المنى

ألم يدن وصلك لي أم دنا

فإني إليك لفي حاجة

وإن كنت عن حاجتي في غنى

وروحي غدت منك في شدة

وجسمي بهجرك لي في ضنى

وقلبي تمزق من صبره

وعيني جرت في الهوى أعينا

قطعت حبالي ولم ترتجع

كأنك طلقتني بائنًا

أسير إليك وألوي عليك

وأفشي لديك حليف العنا

مزجنا بحب فصرنا نرى

أنا أنت حقًا وأنت أنا

فلا أنت مني سلوا ترى

ولست لحبي ترى من فنا

سلوك عني غدا نائيًا

وحبك في مهجتي ساكنًا

فأما نظرت أكن أعينا

وأما نطقت أكن ألسنا

ولست كمثلك صعبا أرى

ولست كمثلي ترى هينا

ويا ليت شعري هل ظاهرا

جفاؤك أم ظاهرا باطنا

* * * * *

رسول الرضى هذه حالتي

وهذا البلا من هنا وهنا

وقد ذبت شوقًا إلى أن أرى

حمى للعقيق وللمنحنى

هنيئًا لمن قام في بابه

وطوبى لمن أم ذاك الفنا

وهذا الطريق وهذا الرفيق

فسيروا بنا ثم سيروا بنا

قصدت حماك أروم لقاك

وأخشى جفاك وأبغى الهنا

وها قد وفدت فأين القرى

وها قد غرست فأين الجنى

فانك للعبد مهما تسوء

خلائقه لم تزل محسنا

وحاشاك تحرم من قد رجا

نداك إذا ما أتى مؤمنا

ص: 70

رجوت بجاهك كشف الأسى

وعفوا من الله عمن جنى

فهب لي قبولًا به ارتقى

مقامًا وهب لي رضا بينا

وصلى عليك إله الرضى

وأحسن من فضله ختمنا

‌مطبوعات صاحب المختصر

رسالة البسملة الشريفة رسالة التقليد والتلفيق رسالة فسخ النكاح (لجده الأعلى الشيخ حسن الشطي) مقدمة توفيق المواد النظامية لأحكام الشريعة المحمدية الفتح المبين في الفرائض مجموعة أقوال الإِمام داود الظاهري خريطة في فن المساحة (لجده الأدنى الشيخ محمد الشطي) ديوان الشيخ عبد السلام الشطي (جده لأمه) رسالة في فن اللوغارتمة الرسائل الفتحية (لعمه مراد

أفندي الشطي) عقيدة الكلوذاني متن في الفرائض منظومات رسالة قضاة الحنابلة بدمشق تعريب قانوني الأموال غير المنقولة انتقالًا وتصرفًا للمختصر وكلها تطلب منه.

ومن شعره الأخير

لقد خدم الأجداد من كان قبلهم

بما أذنكم تهواه طورًا وفوكم

فإن تطرحوا الأجداد من دون خدمة

فلا تأمنوا الأحفاد أن يطرحوكم

ص: 71

(يقول مختصر الطبقات محمد جميل الشطي

هذا أول ما اختصرناه)

(من طبقات العلامة الغزي وقد بدأ بترجمة سلفه العليمي)

(رحمهما الله تعالى فقال ما خلاصته)

(العلامة القاضي مجير الدين العليمي مؤلف الطبقات)

عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد العليمي وينتهي نسبه إلى الولي الشهير العارف بالله علي بن عليل ومنه إلى الصحابي الجليل عبد الله ابن أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهم كما ذكره صاحب الترجمة في الأنس الجليل وفي ترجمة والده من طبقاته وقال أن هذا النسب ثابت ومحكوم به لجده شمس الدين محمد بن يوسف المذكور ولدى قاضي القضاة شرف الدين ابن قاضي الجبل ابن قدامه الحنبلي في سنة 770 والعليمي نسبة إلى سيدي علي بن عليل المقدم ذكره المشهور بعلي بن عليم - فهو الإِمام العلامة المسند المؤرخ الفقيه الخطيب المحدث الأثري المتفنن في سائر العلوم المتخلي بقلائد المنطوق والمفهوم مجير الدين أبو اليمن ابن الإِمام شمس الدين أبي عبد الله محمد ابن الشيخ زين الدين أبي هريرة عبد الرحمن ابن الشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد العمري العليمي الحنبلي تفقه على ولده وأخذ عنه جملة من العلوم وأخذ ببيت المقدس عن العلامة الكمال بن أبي شريف ثم رحل سنة ثمانين وثمانية إلى القاهرة وأقام بها عاكفا على طلب العلوم ولزم قاضي الحنابلة بالديار المصرية بدر الدين محمد بن محمد بن أبي بكر السعدي وأقام تحت نظره وتفقه عليه أيضًا قال في طبقاته في ترجمة السعدي المزبور: ولقد أكرم مثواي عند تمثلي بين يديه لما قدمت إلى القاهرة وأقمت تحت نظره للاشتغال بالعلم الشريف

فأحسن إلى وتفضل علي وأفادني العلم وعاملني بالحلم ومكثت بالديار المصرية نحو عشر سنين إلى أن سافرت منها في سنة 889 وأنا مشمول منه بالصلات ومتصل من فضله بالحسنات ولما عزمت عَلَى السفر حضرت بين يديه واستأذنته فتألم لذلك وشق عليه وكنت أرجو الاجتماع به والابتهاج بمشاهدته فلم يقدر لي ذلك فجزاه الله عني خيرًا - انتهى وقفت له من المؤلفات على تفسير جليل على القرآن العظيم يشبه تفسير القاضي البيضاوي والتاريخ الحافل الذي سماه الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل

ص: 73

الحاوي لكل فائدة وغريبة ولتراجم أعيان البلدين وله الطبقات المشهورة التي سماها المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإِمام أحمد والتي لم يسمح الزمان بمثالها ولم ينسج ناسج على منوالها وله تاريخ جليل ابتدأ فيه من سيدنا آدم إلى سنة ست وتسعين وثمانمائة مرتبًا على السنين ذاكرًا فيه الحوادث العجيبة والوقائع الغريبة على وجه الاختصار وله غير ذلك من التآلف والفوائد وكلها عليها الرونق والبهجة لحسن إخلاصه ومزيد اختصاصه وولي القضاء بالقدس الشريف ونظر الأحكام الشرعية بها ولم أقف على تاريخ وفاته ولعله كان في أوائل هذا القرن العاشر رحمه الله تعالى رحمة واسعة آمين.

*‌

‌ القاضي شهاب الدين بن المنجا التنوخي

أحمد بن أسعد بن علي بن محمد بن محمد بن منجا بن أسعد القاضي شهاب الدين أبو العباس ابن القاضي وجيه الدين ابن قاضي القضاة علاء الدين ابن القاضي صلاح الدين ابن القاضي شرف الدين ابن الشيخ زين الدين ابن القاضي وجيه الدين التنوخي الصالحي الدمشقي الشيخ الإِمام العالم الفاضل التحرير الهمام ولد في سابع عشري صفر سنة سبع وعشرين وثمانمائة وحفظ القرآن العظيم واشتغل بالعلم ثم غلب عليه التصوف ثم عاد فقيهًا وولي نيابة الحكم للقاضي برهان الدين بن مفلح وغيره ثم غلب عليه جانب التصوف وبنى في منزله بحارة الفواخير لسبق التربة العادلية من سفح قاسيون رواقًا بمحراب وكان له النظم الحسن الرفيق وله كتاب العقيدة نظمًا في نحو سبعمائة بيت على طريقة السلف وقد أنكر عليه في بعضها الشيخ العلامة عبد

النبي المالكي وتوفي يوم الأربعاء خامس عشر جمادي الأولى سنة ثمان وتسعمائة وقد ترجمه النجم الغزي في كواكبه والنعيمي في تاريخة رحمهم الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ جمال الدين يوسف بن عبد الهادي

يوسف بن حسن بن أحمد بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة وينتهي نسبه إلى سالم ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمال الدين أبو المحاسن ابن القاضي بدر الدين أبي عبد الله ابن المسند شهاب الدين أبي العباس القرشي العدوي المقدسي الأصل الدمشقي

ص: 74

الصالحي الشهير بابن المبرد وهو لقب جده أحمد الشيخ الإِمام العالم العلامة نخبة المحدثين عمدة الحفاظ المسندين بقية السلف قدوة الخلف كان جبلًا من جبال العلم وفردًا من أفراد العالم عديم النظير في التحرير والتقرير آية عظمى وحجة من حجج الإِسلام كبرى بحر لا يدرك له قرار وبر لا يشق له غبار أعجوبة عصره في الفنون ونادرة دهره الذي لم تسمح بمثله السنون أفرده بالترجمة تلميذه المحدث شمس الدين بن طولون في مجلد حافل سماه الهادي إلى ترجمة يوسف بن عبد الهادي ولد في غزة محرم سنة إحدى وأربعين وثمانمائة بدمشق وقرأ القرآن على الشيخ أحمد المصري الحنبلي وغيره وصلى بالقرآن ثلاث مرات وأخذ العلم عن مشايخ كثيرة جدًا فقرأ المقنع على الشيخ تقي الدين الجراعي والشيخ تقي الدين بن قندس والقاضي علاء الدين المداوي وحضر دروس خلائق منهم القاضي برهان الدين بن مفلح والشيخ برهان الدين الزرعي وأخذ الحديث غن خلائق من أصحاب ابن حجر العسقلاني وابن العراقي والجمال بن الحرستاني وابن ناصر الدين محدث دمشق وأجاز له من مصر شيخ الإِسلام ابن حجر المتقدم ذكره والشهاب الحجازي والبرهان البعلي وغيرهم وكان إمامًا علامة يغلب عليه علم الحديث والفقه وله يد في غيرهما كالتفسير والتصوف والنحو والتصويف والمعاني والبيان وغير ذلك ودرس وأفتى وأجمعت الأمة على تقدمه وإمامته علامة يغلب عليه علم الحديث والفقه وله يد في غيرهما كالتفسير والتصوف والنحو والتصريف والمعاني والبيان

وغير ذلك ودرس وأفتى وأجمعت الأمة على تقدمه وإمامته وأطبقت الأئمة على فضله وجلالته وصنف ما يزيد على أربعمائة مصنف وغالبها في علم الحديث والسنن فمنها كتاب التبيين في طبقات المحدثين المتقدمين والمتأخرين في سبع مجلدات الرياض اليانعة في أعيان المائة التاسعة. مغني ذوي الأفهاء عن الكتب الكثيرة في الأحكام وهو كتاب جليل احتوى على مهمات مسائل الدين في المذاهب الأربعة وقد رأيت بخط صاحب الترجمة على ظهر هذا الكتاب هذين البيتين:

هذا كتاب قد سما في حصره

أوراقه من لطفه متعددة

جمع العلوم بلطفه فبجمعه

يغنيك من عشرين ألف مجلده

ولابن قاضي أذرعات مقرظًا الكتاب المذكور:

يا كتابًا أزرى بكل كتاب

هو في الأرض لوحنا المحفوظ

زاد ربي منشيه علما وفضلا

وهو بالعز والعلى ملحوظ

ص: 75

ومن مصنفاته الدر النقي في شرح ألفاظ الخرفي. الوقوف على لبس الصوف. غراس الآثار وثمار الأخبار ورايق الحكايات والأشعار في عشرة أجزاء الدر النفيس في أصحاب محمد بن إدريس. المطول في تاريخ القرن الأول في عشر مجلدات. شرح الخلاصة الألفية. المنيرة في حل مشكل السيرة في مجلدين وهو كتاب نفيس على سيرة ابن هشام. الفتاوي الأحمدية. الأربعين المختارة من حديث ابن أبي عمر. جزء فيه مختارات من مرويات والده. الرعاية في اختصار تخريج أحاديث الهداية. الصوت المسمع في تخريج أحاديث المقنع. الثغر الباسم في تخريج أحاديث مختصر أبي القاسم. الأربعين المختارة من حوالي مشيخة النظام بن مفلح. جمع العدد لرد قول المنكر بغير مستند. فضل السمر في ترجمة شيخ الإِسلام ابن أبي عمر. العلالة في مشروعية الدلالة. صدق التشوف إلى علم التصوف. العقد التمام فيمن زوجه النبي عليه الصلاة والسلام. عظيم المنة بنزه الجنة. البلاء بحصول الغلاء الاقتباس في وصيته عليه الصلاة والسلام لابن عباس. ارب العالم والمتعلم. ذم التعبير. التخريج

الصغير والتحبير الكبير. نزهة الرفاق في شرح حال الأسواق. عذق الأفكار في ذكر الأنهار. كشف الملمات في تعداد الحمامات. الاعانات على معرفة الخانات. ثمار المقاصد في ذكر المساجد. تهذيب النفس بالعلم والعمل. الأربعين المسلسلات من حديث سيد السادات. الأربعين المختارة من حديث جابر بن عبد الله. الأربعين المسلسلة بالقول. الأربعين المختارة من صحيح مسلم. الثلاثين التي رويت عن الإِمام أحمد في صحيح مسلم. الأربعين المختارة من عوالي جده. الإقناع في أدوية القلاع. الإتقان في أدوية اللثة والأسنان. الفنون من أدوية العيون. الجول على معرفة أدوية البول. إيضاح الفضية بمعرفة الأدوية القلبية. دواء المكترب من عضة الكلب الكلب. هداية الأخوان في أدوية الآذان الإتقان لأدوية الريقان. كمال الإصغاء إلى معرفة الأمعاء. هداية الاشراف لمعرفة ما يقطع الرعاف. الكمال في أدوية الصدر والسعال. العهدة لأدوية المعدة. تمام النوال في أدوية الطحال. الأدوية المفردة للعلل المعقدة. الرفق في أدوية الحلق. إرشاد المعتمد إلى أدوية الكبد. الأدوية الوافدة إلى الحمى الباردة. بلغة الأمال

ص: 76

بأدوية قطع الإسهال تعريف الجروح بما يدمل القروح. البيان لبديع خلق الإنسان. ذم الهوى والذعر من أحوال الزعر. الأغراب في أحكام الكلاب. لقط السنبل في أخبار البلبل. الصارم المفني في الرد على الحصني. النصيحة في تخريج الأحاديث النواوية بالأسانيد الصحيحة. جزء فيما عند الرازي من أحاديث الإِمام أحمد. جزء في الرواية عن الجن وحديثهم. جزء في فضل لا حول ولا قوة إلا بالله. الأربعين المسلسلة بالخلفاء. كتاب أخبار الأذكياء. الرثاء للصالحات من النساء شد الظهر لذكر ما يحتاج إليه من الزهر. الإرشاد إلى حكم موت الأولاد. أخبار الأخوان عن أحوال الجان. المشيخة الوسطى. الهدية لأدلة المسائل الخفية. المشيبة من الطب. وفاء العهود بأخبار اليهود في جزئين. تخريج حديث لا ترديد لأمس الضبط والتبيين لذوي العلل والعاهات من المحدثين. جزء في تخريج حديث الشفاء. السباعيات الواردة عن سيد السادات. جزء في أحاديث عمان البلقاء. النجاة بحمد الله إرشاد الملا إلى أن من عرف الناس خص البلا. إرشاد الفتى إلى أحاديث الشتاء محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن

الخطاب وغير ذلك - وغالب مؤلفاته أجزاء وكان كثير الكتابة سريع القلم وقل من يحسن قرائة خطه لاشتباكه وعدم إعجامه وقد أوقف جميع كتبه على المدرسة العمرية وهي يومئذ آلاف مؤلفة وصنف لها فهرسة في مجلد وبالجملة فقد كان إمامًا جليلًا عالمًا نبيلًا أفنى عمره بين علم وعبادة وتصنيف وإفادة وكانت وفاته يوم الاثنين سادس عشر المحرم سنة تسع وتسعمائة ودفن بسفح قاسيون وكانت جنازته حافلة رحمه الله رحمة واسعة آمين.

*‌

‌ الشيخ حسن المرداوي

حسن بن علي بن عبيد بن أحمد بن عبيد بن إبراهيم المرداوي الصالحي الشيخ الإِمام الفاضل بدر الدين أبو علي حفظ القرآن وعدة كتب واشتغل قديمًا على جماعات ترجمه الحافظ الشمس بن طولون فقال أخذ عن ابن السليمي والنظام بن مفلح وجماعة كثيرين ورحل إلى بعلبك مع الجمال بن عبد الهادي وكان له خط حسن وتسبب بالشهادة أجازني مشافهة غير ما مرة واستفدت منه عدة أشياء منها أن أبا العلا المعري قال:

ص: 77

إذا ما ذكرنا آدما وفعاله

وتزويجه بنتيه لابنيه في الخنا

علمنا بأن الخلق من نسل فاجر

وأن جميع الناس من عنصر الزنا

فرد عليه المترجم بقوله:

لعمرك أما فيك فالقول صادق

وتكذيب في الباقين من شط أودنا

كذلك إقرار الفتى لازم له

وفي غيره لغو بذا جاء شرعنا

وقال المعري أيضًا:

يد بخمس مئين عسجدا وديت

ما بالها قطعت في ربع دينار

تناقض مالها إلا السكوت له

ونستجير برب الناس من نار

فرد عليه أيضًا بقوله:

وقاية النفس أغلاها وأرخصها

وقاية المال فافهم حكمة الباري

ويروى هكذا:

عز القناعة أغلاها وأرخصها

ذل الخيانة فافهم حكمة الباري

واشتغل المترجم آخرًا على الشيخ زين الدين بن البجلي فقرأ عليه شرحيه

على الألفية وعلى الخزرجية وسمع غالب مسموعاته توفي يوم الخميس تاسع رمضان سنة عشر وتسعمائة ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.

*‌

‌ شهاب الدين العسكري مفتي الحنابلة بدمشق

أحمد بن عبد الله بن أحمد الدمشقي الصالحي الشهير بابن العسكري الشيخ الإمام العالم العلامة النحرير شهاب الدين مفتي السادة الحنابلة بدمشق كان صالحًا دينًا زاهدًا عابدًا مباركًا يكتب على الفتيا كتابة عظيمة ولم يكن له في زمنه نظير في العلم والتواضع والتقشف على طريقة السلف الصالح وكان منقطعًا عن الناس قليل المخلطة لهم وألف كتابًا في الفقه جمع فيه بين المقنع والتقبح ومات قبل أن يتمه في ذي الحجة سنة اثنى عشر وتسعمائة بدمشق وصلى عليه بجمع حافل ودفن بسفح قاسيون وكثر التأسف عليه انتهى ما في الكواكب - وقال الشمس بن طولون في ترجمته هو الشيخ الإِمام العالم الأوحد المحقق المتقن البحر العلامة شهاب الدين أبو العباس حفظ القرآن وتصدر للأقراء بمدرسة الشيخ أبي عمر وأجازه ابن الشريفة وابن

ص: 78

جوارش وغيرهما واشتغل على التقي ابن قندس ثم على القاضي علاء الدين المرداوي صاحب التنقيح وبرع ودرس وأفتى وصار إليه المرجع في عصره في مذهب أحمد وكان بينه وبين شيخنا عبد النبي تباغض بسبب ما نقل عنه إلى شيخنا من مسألة إثبات الحرف القديم ونحوها من المسائل الاعتقادية والظاهر أنه كان سالكًا فيها طريق السلف فإنه كثيرًا ما يحرضنا على مطالعة الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم للموفق بن قدامة وما كتبه ابن حجر على كتاب التوحيد من آخر شرحه للصحيح وكان ملازمًا لقراءة تفسير القرآن لشيخ السنة البغوي.

وذكر ابن طولون والنعيمي في وفاة صاحب الترجمة أنها كانت يوم الأحد خامس عشر ذي القعدة سنة عشر وتسعمائة وهو الأولى بالصواب رحمه الله تعالى.

*‌

‌ القاضي شهاب الدين الشبشبني

أحمد بن علي بن أحمد المصري الشهير بالشبشبني الشيخ الإِمام قاضي

القضاة بالديار المصرية شهاب الدين أبو حامد ابن العلامة نور الدين أبي الحسن ابن شهاب الدين أبي حامد ولد بمصر ونشأ بها وقرأ على علمائها فأخذ الفقه وغيره عن والده وعن الشيخ القاضي نصر الله بن أحمد الكناني ونبل قدره واستقر قاضيًا بمصر القاهرة عوضًا عن قاضي القضاة بدر الدين السعدي بعد استدعائه من الحرمين الشريفين بمرسوم الملك الناصر محمد بن قايتباي في يوم الاثنين من عشر ربيع الأول سنة ثلاث وتسعمائة فاستمر بها قاضيًا سنة وأربعة أشهر واثنين وعشرين يومًا ثم عزل بالقاضي بهاء الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر بن قدامة الدمشقي الحنبلي في يوم الاثنين حادي عشر رمضان سنة أربع وتسعمائة ثم صرف هذا بعد ثمانية وأربعين يومًا في دولة الملك الظاهرة قانصوه خال الملك الناصر المذكور وأعيد قاضي القضاة صاحب الترجمة فاستقام قاضيًا بمصر أربعة عشر سنة وثلاثة أشهر وتسعة أيام واستمر في الولاية إلى أن توفي وولى عوضه قضاء الحنابلة بمصر ولده قاضي القضاة عز الدين وكانت وفاة صاحب الترجمة يوم الأربعاء سابع صفر الخير سنة تسع عشرة وتسعمائة وكان رحمه الله من أعيان العلماء فقيهًا نحريرًا عالمًا كاملًا ذا هيبة وأبهة ووقار وصلى عليه صلاة الغائب في المسجد الأقصى وفي الجامع الأموي وقد ترجم والد

ص: 79

المترجم العلامة العليمي في طبقاته وأثنى عليه كثيرًا رحمهم الله جميعًا آمين.

*‌

‌ القاضي نجم الدين بن مفلح

عمر بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح الراميني الأصل الصالحي الدمشقي قاضي القضاة نجم الدين أبو حفص ابن قاضي القضاة شيخ الإِسلام برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم الشهير بابن مفلح قاضي قضاة الحنابلة بدمشق الشيخ الإِمام العالم العلامة البحر النحرير الجهبذ الفهامة شيخ الإِسلام أوحد العلماء الفخام تقدمت ترجمة أبيه وجده وأبي جده وجد جده ولد بدمشق سنة ثمان وأربعين وثمانمائة وأخذ الفقه وغيره عن والده وغيره ولما توفي والده في أواخر سنة أربع وثمانين وثمانمائة ولي مكانه قاضيًا بدمشق واستمر في القضاء إلى أن عزل في دولة الملك الظاهر قانصوه في شوال سنة أربع وتسعمائة

واستقر عرضه القاضي بهاء الدين بن قدامة ولم يقدر توجهه إلى دمشق فأعيد صاحب الترجمة إلى ولاية القضاء واستمر إلى أن عزل بالقاضي بهاء الدين المشار إليه في أواخر سنة تسع وتسعمائة وقدم إلى دمشق في أوائل سنة عشر وتسعمائة وهو متوعك البدن فأقام ثلاثة أشهر وتوفي في شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة فلم يزل صاحب الترجمة قاضيًا إلى أن توفي في شوال سنة تسع عشرة وتسعمائة وكانت وفاته ليلة الجمعة ثاني عشر الشهر المذكور وصلى عليه بعد صلاة الجمعة في الجامع الأموي وحضر للصلاة عليه نائب الشام سيباي والقضاة الثلاثة وخلائق لا تحصى ودفن على والده بالروضة من سفح جبل قاسيون.

قال المؤلف الغزي ورأيت بخط مفيد صاحب الترجمة القاضي أكمل الدين ما صورته ولما توفي جدي قاضي القضاة نجم الدين عمر المشار إليه في التاريخ المذكور تولى القضاء بدمشق ولده عمي قاضي القضاة شرف الدين عبد الله عوضًا عن والده بحكم وفاته واستمر قاضيًا إلى أن أزال الله دولة الجراكسة وتولى السلطان سليم خان بن عثمان فدخل دمشق سنة اثنين وعشرين وتسعمائة فرفع القضاة الأربعة وولى قضاء الشام لزين العابدين الفتري مفردًا واستمر إلى أن عاد السلطان من مصر انتهى قلت ومن ذلك العهد إلى زماننا هذا إنما ينصب قاضيًا للحنابلة أو الشافعية أو المالكية القاضي الحنفي المولى من طرف السلطان فهو قاضي القضاة وينصب له نوابًا من الحنفية

ص: 80

أيضًا في باقي محاكم دمشق والله أعلم.

يقول المختصر محمد جميل الشطي ولم يزل الحال كذلك إلى سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وألف وفيها صدرت الأوامر العلية بتوحيد المحاكم الشرعية فأبقيت محكمة الباب وألغيت سائر المحاكم وأقيم في المحكمة المذكورة "مشاور" ينوب عن القاضي في بعض الأمور وهذا القاضي يستنيب قاضيًا من الحنابلة وغيرهم لأجل تصحيح أمور الأوقاف المعروفة بدمشق جريًا على العادة القديمة والله أعلم.

*‌

‌ الشيخ بدر الدين حسين الأسطواني

حسين بن سليمان بن أحمد الشيخ الفاضل بدر الدين أبو عبد الله الشهير

بالأسطواني الدمشقي الصالحي قال الحافظ بن طولون حفظ القرآن بمدرسة أبي عمر وقرأ على شيخنا ابن أبي عمر الكتب الستة وقرأ وسمع ما لا يحصى من الأجزاء الحديثية عليه قال وسمعت بقراءته عدة أشياء وولي إمامة محراب الحنابلة بالجامع الأموي من الدولة العثمانية انتهى وقد حضر دروس البدر الغزي وكانت وفاته في صفر سنة اثنين وثلاثين وتسعمائة ودفن بمقبرة باب الفراديس المسماة بمرج الدحداح إحدى مقابر دمشق رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ شهاب الدين الشويكي

أحمد بن أحمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن أبي بكر بن أحمد الشويكي النابلسي ثم الدمشقي الصالحي أبو الفضل شهاب الدين الشيخ الإِمام العالم العلامة الحبر النحرير الفهامة الفقيه الورع الصالح الناسك مفتي السادة الحنابلة بدمشق ولد في سنة خمس وسبعين وثمانمائة تقريبًا بقرية الشويكة من بلاد نابلس ثم قدم دمشق وسكن صالحيتها وحفظ القرآن العظيم بمدرسة أبي عمر ومختصر الخرقي في الفقه والملحة الحريرية في علم العربية وغير ذلك ثم سمع الحديث على ناصر الدين بن زريق فنبل قدره وظهر فضله وحج وجاور بمكة ثم حج وجاور بالمدينة سنتين وصنف في مجاورته كتاب التوضيح جمع فيه بين المقنع والتنقيح الأول للموفق بن قدامة والثاني للعلاء المرداوي وزاد عليهما أشياء مهمة قال الحافظ بن طولون وسبقه شيخه الشهاب العسكري لكنه مات قبل إتمامه فإنه وصل فيه إلى الوصايا وكذلك عصريه أبو الفضل بن النجار ولكنه عقد عباراته انتهى قال الشمس بن طولون في وقائع سنة تسع وثلاثين وتسعمائة: في يوم

ص: 81

الجمعة سلخ جمادي الأولى صلي غائبة بالأموي على العلامتين شهاب الدين النشيلي الشافعي توفي بمكة وشهاب الدين الشويكي الحنبلي توفي بالمدينة رحمهما الله تعالى.

*‌

‌ الشهاب أحمد بن الحيط البعلي

أحمد المعروف بابن الحيط شهاب الدين البعلي أحد علماء الحنابلة بمدينة بعلبك الشيخ العلامة الفاضل الكامل الفقيه الهمام حامل لواء المذهب الحنبلي

على كاهله وأرقم رقاع الفتوى في الديار البعلية بأنامله ولد بها ونشأ طالبًا للعلم الشريف فقرأ على من فيها من العلماء وكانت وفاته بها في سنة اثنين وأربعين وتسعمائة وصلى عليه غائبة بدمشق يوم الجمعة ثالث عشري جمادي الأولى من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

*‌

‌ شمس الدين محمد الشويكي

محمد بن أحمد بن أحمد بن أحمد بن عمر الشويكي الصالحي الدمشقي الشيخ العلامة شمس الدين تقدمت ترجمة والده العلامة شهاب الدين وكان صاحب الترجمة فقيهًا متبحرًا أفتى على مذهب الإمام أحمد ثم امتنع من الإفتاء في الدولة الرومية وكان إمامًا في جامع الحاجبية أخذ عن والده وغيره وكان له التفوق في علمي الفرائض والحساب وعمل المناسخات والشجرات وله يد في غير ذلك من العلوم توفي يوم الاثنين يوم عاشوراء سنة سبع وأربعين وتسعمائة وكان موته بغتة عن نحو إحدى وأربعين سنة وصلى عليه بجامع الحنابلة ودفن في سفح قاسيون إلى جانب قبر العلامة علاء الدين المرداوي شرقي صفة الدعاء رحمه الله تعالى.

*‌

‌ قاضي القضاة شهاب الدين الفتوحي بن النجار

أحمد بن عبد العزيز بن علي بن إبراهيم بن رشد الفتوحي المعروف بابن النجار الشيخ الإِمام شيخ الإِسلام شهاب الدين قاضي قضاة الحنابلة بالديار المصرية الحبر الفقيه العلامة المتفنن المتقن النحرير العارف بالله تعالى أوحد عصره فضلًا وعلمًا وإتقانًا صاحب التآليف التي سارت شرقًا وغربًا، وتداولها الناس عجمًا وعربًا، شيخ أهل الحديث والأثر، جمال ذوي الأخبار والسير، حامل لواء المذهب، السالك في إقامة معالم السنن خير مذهب، المشتهر صيته في الأمصار، والطائر علمه في الأقطار، بدر أفق الديار المصرية والشامية، شمس سماء العلوم اللدنية والكسبية، جامع أشتات

ص: 82

العلوم والمعارف، حامل لواء الفواضل والعوارف - مولده سنة اثنين وستين وثمانمائة ومشايخه تزيد على

مائة وثلاثين شيخًا وشيخة منهم بدر الدين الصفدى القاهري الحنبلي والشهاب أحمد بن علي الشبشبني وغيرهما - سمع منه الشيخ رضى الدين بن الحنبلي مؤرخ حلب حين قدمها مع السلطان سليم خان سنة اثنين وعشرين وتسعمائة الحديث المسلسل بالأولية وقرأ عليه في الصرف وأجاز له ثم أجاز له بالقاهرة إجازة ثانية بجميع ما يجوز له وعنه روايته بشرطه - وذكره الشعراني في طبقاته أن صاحب الترجمة لم يل القضاء إلا بعد إكراه الغوري له المرة بعد المرة ثم ترك القضاء في الدولة العثمانية وأقبل على العبادة في آخر عمره وأكب على الاشتغال بالعلم حتى كأنه لم يشتغل بعلم قط مع أنه انتهت إليه الرياسة في تحقيق نقول مذهبه وفي علوم السنة والحديث وفي علم الطب والمعقولات وكان في أول عمره ينكر عَلَى الصوفية ثم لما اجتمع بسيدي علي الخواص أذعن لهم واعتقدهم وصار بعد ذلك يتأسف على عدم اجتماعه بالقوم من أول عمره ثم فتح عليه بالطريق وصار له كشف عظيم قبل موته انتهى ما في الكواكب وأخذ عن صاحب الترجمة جماعة من الأئمة منهم الإِمام شمس الدين الرملي القاهري صاحب شرح المنهاج المسمى بنهاية المحتاج ومفتي القدس الشيخ سراج الدين عمر بن محمد بن أبي اللطف المقدسي وكانت وفاة صاحب الترجمة سنة تسع وأربعين وتسعمائة وصلى عليه غائبة بدمشق يوم الجمعة يوم عيد الأضحى قال العارف الشعراني في ترجمته وهو آخر مشايخ الإِسلام من أولاد العرب انقراضًا قال النجم قلت هذا جار على اصطلاحهم في زمن الجراكسة من تلقيب كل من ولي قضاء القضاة بشيخ الإِسلام والمراد أنه آخر قضاة القضاة من أبناء العرب موتا بالقاهرة رحمه الله تعالى.

*‌

‌ قاضي القضاة نظام الدين النادفي

يحيى بن يوسف بن عبد الرحمن قاضي القضاة نظام الدين أبو المكارم الحلبي النادفي القادري سبط الأثير بن الشحنة وهو عم الشيخ رضي الدين بن الحنبلي مؤرخ حلب الشهباء شقيق والده مولده في سنة إحدى وسبعين وثمانمائة وتفقه على أبيه وبعض المصريين وأجاز له باستدعاء مع أبيه وأخيه جماعة من

المصريين منهم المحب أبو الفضل بن الشحنة والسرى عبد البر بن الشحنة الحنفان والقاضي زكريا الأنصاري والبرهان القلقشندي

ص: 83

والقطب الخيضري والحافظ الديمي والجمال يوسف بن شاهين الشافعيون وغيرهم وسمع على ابن الشحنة بقراءة أبيه ثلاثيات البخاري وعلى ابن شاهين سبط الحافظ بن حجر العسقلاني ثلاثيات الدارمي ثم لما عاد والده إلى حلب متوليًا قضاء الحنابلة ناب عنه فيه وسنه دون العشرين سنة فلما توفي والده أوائل سنة تسعمائة استقل بالقضاء بعده وبقي في الوظيفة إلى أن انصرمت دولة الجراكسة وكان آخر قاض حنبلي بحلب ثم ذهب بعد ذلك إلى دمشق وبقي بها مدة ثم استوطن مصر وولي بها نيابة قضاء الحنابلة بالصالحية النجمية وبغيرها وحج منها وجاور ثم عاد إلى حكمه وكان لطيف المعاشرة حسن المحاضرة رقيق النادرة حسن الملتقى حلو العبارة جميل المذاكرة يتلو القرآن العظيم بصوت حسن ونغمة طيبة توفي بمصر القاهرة سنة تسع وخمسين وتسعمائة ودفن بها رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الإِمام شرف الدين موسى الحجاوي "صاحب الإقناع"

موسى بن أحمد بن موسى بن سالم بن عيسى بن سالم الحجاوي المقدسي ثم الدمشقي الصالحي الإِمام العالم العلامة الحبر البحر الفهامة شيخ الإِسلام أبو النجا شرف الدين مفتي الحنابلة بدمشق والمعول عليه في الفقه بالديار الشامية حائز قصب السبق في مضمار الفضائل والفائز بالقدح المعلى لدى تزاحم الأفاضل جامع أشتات العلوم بدرسماء المنطوق والمفهوم صاحب المؤلفات التي سارت بها الركبان وتلقاها الناس بالقبول زمانًا بعد زمان والفتاوي التي اشتهرت شرقًا وغربًا وهم نفعها الناس عجمًا وعربًا الحبر بلا ارتياب والبحر المتلاطم العباب شمس أفق العلوم والمعارف قطب دائرة الفهوم والعوارف ذو التحقيقات الفائقة والتدقيقات الرائقة والتحريرات المقبولة والتقريرات التي هي بالإخلاص مشمولة - أخذ الفقه وغيره عن الإِمام العلامة شهاب الدين أحمد بن أحمد بن أحمد الشويكي الصالحي والإِمام الفقيه أبي حفص نجم الدين عمر بن

إبراهيم بن محمد بن مفلح الصالحي أيضًا المتقدم ذكرهما وعن العلامة أبي البركات محب الدين أحمد بن محمد خطيب مكة العقيلي وأجاز له مفتي دار العدل السيد كمال الدين محمد بن حمزة الحسيني بعد قراءته عليه مشيخته التي خرج لنفسه فيها أربعين حديثًا

ص: 84

بمنزله في دمشق ما يجوز له وعنه روايته بشرطه وكتب له خطه بذلك - وأخذ عنه جماعة من الأئمة منهم ولده الشيخ يحيى الحجاري والإِمام الشهير شهاب الدين أحمد الوفائي المفلحي والشيخ المسند إبراهيم بن محمد الأحدب الصالحي وأبو النور بن عثمان بن محمد بن إبراهيم الشهير بأبي جده وغيرهم وولي صاحب الترجمة إمامة الجامع المظفري بعد شهاب الدين المرداوي المعروف بابن الديوان - وترجمه الحافظ نجم الدين الغزي في الكواكب وقال انتهت إليه مشيخة السادة الحنابلة والفتوى وكان بيده تدريس الحنابلة بمدرسة الشيخ أبي عمر وتدريس في الجامع الأموي وممن انتفع به القاضي شمس الدين بن طريف والقاضي شمس الدين الرجيحي والقاضي شهاب الدين الشويكي وألف كتاب الإقناع جمع فيه المذهب وهو عمدة الحنابلة الآن وكانت وفاته ليلة الجمعة سابع عشر ربيع الأول سنة ثمان وستين وتسعمائة ودفن بسفح قاسيون وكانت جنازته حافلة وتأسف عليه الناس رحمه الله تعالى.

*‌

‌ القاضي برهان الدين ابن مفلح

إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح الراميني الأصل الدمشقي القاضي برهان الدين ابن قاضي القضاة نجم الدين ابن قاضي القضاة برهان الدين الشهير بابن مفلح العالم العلامة النحرير علم التقرير وعالم التحرير معدن الفروع الفقهية بحر القواعد الأحمدية عمدة أهل الأصول جامع أشتات المعقول والمنقول الفائق رياسة وأدبًا والحائز من أشتات الفضائل رتبًا بمجد يعلو على الفلك الأثير ورتبة تسمو السماكين بفضلها الكبير الكثير ولد في رابع عشر ربيع الآخر سنة ثلاث وتسعمائة بدمشق الشام ونشأ بها واشتغل على فضلائها وبرع في الفنون وأخذ الفقه عن والده وغيره واستجاز لنفسه ولاخوته وأولاده من جماعة من علماء دمشق ورؤسائها منهم

القاضي رضي الدين محمد الغزي العامري وولده شيخ الإِسلام بدر الدين وشيخ الإِسلام العلامة المحقق السيد كمال الدين بن حمزة الحسيني فأجازوه وأجازوا من ذكر معه قال النجم الغزي في الكواكب السائرة ودرس القاضي برهان الدين وأفتى وولي تدريس دار الحديث المخصوصة بالحنابلة في الصالحية ونظرها وناب في القضاء مرارًا وانتهت إليه رياسة الحنابلة بدمشق وكان له شهامة وحشمة وحسن هيئة وقال الإِمام

ص: 85

شرف الدين يونس العيتاوي في مجموعه الذي ترجم فيه مشايخه وأقرانه في حق صاحب الترجمة كان ذكيًا مستحضرًا لفروع مذهبه وولي القضاء ولحقه في آخر عمره قهر وقال أنه كان رئيسًا محتشمًا يعرف الناس ويراعي مقاديرهم ولم يزل عَلَى سيرته الحميدة وفكرته السديدة إلى أن توفي وكانت وفاته ليلة الاثنين ثالث عشري شعبان سنة تسع وستين وتسعمائة وصلى عليه العلامة البدر الغزي المقدم ذكره إمامًا بالجامع الأموي ودفن بسفح قاسيون بالروضة عند والده وأصيب قبل وفاته بولده الشاب الفاضل عبد الكريم الكاتب بالمحكمة الكبرى المتوفى فجأة سنة خمس وستين وتسعمائة فصبر واحتسب رحمهما الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ العارف محمد بن قيصر القبيباتي

محمد بن خليل شمس الدين الشهير بابن قيصر القبيباتي الدمشقي الشيخ الزاهد الصوفي العابد المعتقد المربي قدوة العباد ورئيس العباد أحد الأفراد وأوحد الأئمة الأمجاد صحب سيدي علي بن ميمون وتلميذه سيدي محمد بن عراق واجتمع بأكابر ذلك العصر وعلمائه كالتقوي بن قاضي عجلون وتوجه إلى بلاد الروم فاجتمع في حماه بالعارف الشيخ علوان الحموي وغيره وحصل له بالروم غاية الإكرام والتعظيم من إبراهيم باشا الوزير وأعيان الدولة وقضاة العسكر ثم رجع إلى دمشق وانجمع عن الناس وكان يقيم الذكر بعد صلاة الجمعة بالمشهد الشرقي داخل الجامع الأموي تحت المنارة الشرقية بحيث عرف المشهد به ثم يركب حماره ويذهب إلى منزله بالقبيات فلا يخرج منه إلى يوم الجمعة القابلة وكان نائب الشام عيسى باشا يحبه ويتردد إلى زيارته وكذلك الأمراء والقضاة

وللناس فيه اعتقاد تام وكان متقللًا من العيش قانعًا باليسير يؤثر لبس القطن الأبيض وكان يعتكف العشر الأواخر من رمضان بالجامع الأموي في المشهد المذكور وكان يحضر ختم الشيخ الطيبي كل سنة قال الشمس بن طولون في تاريخه وفي سنة 937 سألني الشيخ محمد بن قيصر القبيباتي الحنبلي في عمل شرح عَلَى أبيات ثلاث نظمها في عقيدته وهي:

في الله اعتقد الذي قد قاله

عن نفسه وكذا الذي قال الرسل

عنه بغير تأول في ذاته

وصفاته أو كل فعل قد فعل

ص: 86

فهو الإله الفرد ليس كمثله

شيء سواه وغير هذا لم أقل

قال النجم الغزي قدس سره قلت ووقفت على شرح ابن طولون على هذه الأبيات في تعاليقه بخطه والإيمان بما جاء في الكتاب والإخبار من الصفات من غير تأويل مذهب السلف وهو أسلم من مذهب التأويل وهو مذهب الخلف وكانت وفاة صاحب الترجمة في سنة خمس وسبعين وتسعمائة بمنزله بالقبيبات وكثر تأسف الناس عليه وازدحموا على حمل تابوته رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الإِمام تقي الدين بن النجار الفتوحي "صاحب المنتهى"

محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي المصري الشهير بابن النجار العالم العلامة الفقيه تقي الدين أبو بكر ابن الإِمام العالم العلامة شهاب الدين المتقدمة ترجمته ولد صاحب الترجمة بمصر القاهرة ونشأ بها وأخذ الفقه عن أبيه - ترجمه العارف عبد الوهاب الشعراني في ذيله على طبقات الأولياء له فقال ومنهم سيدنا ومولانا الشيخ الإِمام العلامة الشيخ تقي الدين ولد شيخ الإِسلام الشيخ شهاب الدين الشهير بابن النجار صحبته أربعين سنة فما رأيت عليه شيئًا يشينه في عرضه بل نشأ في عفة وصيانة ودين وعلم وأدب وديانة أخذ العلم عن والده شيخ الإِسلام المذكور وعن جماعة من أرباب المذاهب المخالفة وتبحر في العلوم حتى انتهت إليه الرياسة في مذهبه وأجمع الناس أنه إذا انتقل إلى رحمة الله مات

بذلك فقه الإِمام أحمد من مصر وسمعت هذا القول مرارًا من شيخنا الشيخ شهاب الدين الرملي وما سمعته قط يستغيب أحدًا من أقرانه ولا غيرهم ولا حسد أحدًا عَلَى شيء من أمور الدنيا ولا زاحم عليها وولي القضاء بسؤال جميع أهل مصر فأشار عليه بعض العلماء بالولاية وقال يتعين عليك ذلك فأجاب مصلحة المسلمين وما رأيت أحدًا أحلى منطقًا منه ولا أكثر أدبًا مع جليسه حتى يود أنه لا يفارقه ليلًا ولا نهارًا وبالجملة فأوصافه الجميلة تجل عن تصنيفي فأسأل الله تعالى أن يزيده من فضله علمًا وعملًا وورعًا إلى أن يلقاه وهو عنه راض آمين انتهى وكانت وفاة صاحب الترجمة في حدود سنة ثمانين وتسعمائة رحمه الله رحمة واسعة آمين.

ص: 87

*‌

‌ الشيخ شمس الدين الفارضي

محمد القاهري المعروف بالفارضي الشيخ الإِمام العلامة شمس الدين الشاعر المشهور الذي لم تسمح بمثله الدهور شيخ أهل الأدب ومن أتته الرقة والرشاقة من كل حدب مركز الفصاحة والبلاغة وأحد الأفراد في جودة السبك والصياغة فهو في هذا الشأن المشار إليه بالبنان والمضاهي لقيس سحبان ترجمه الحافظ نجم الدين الغزي في الكواكب فقال أخذ عن جماعة من علماء مصر واجتمع بشيخ الإِسلام البدر الغزي حين كان بالقاهرة سنة اثنين وخمسين وتسعمائة وكان بدينًا سمينًا فقال الوالد البدر المشار إليه يداعبه:

الفارضي الحنبلي الرضى

في النحو والشعر عظيم المثيل

فيل ومع ذا فهو خفة

نقلت كلا بل رزين ثقيل

ومن محاسنه أنه صلى شخص إلى جانبه ذات يوم فخفف جدًا فنهاه فقال أنا حنفي فقال الفارضي:

معاشر الناس جميعًا حسبما رسمت

أهل الهدى والحجى من كل من نبها

ما حرم العلم النعمان في سند

يومًا طمأنينة أصلا ولا كرها

وكونها عنده ليست بواجبة

لا يوجب الترك فيما قرر الفقهاء

فيا مصرًا على تفويتها أبدًا

عدوًا ننبه رحم الله الذي انتبها

وأنشدني شيخنا المحب الحنفي رحمه الله تعالى قال أنشدنا الفارضي لنفسه:

إلا خذ حكمة مني

وخل القيل والقالا

فساد الدين والدنيا

قبول الحاكم المالا

وأنشدنا شيخنا المشار إليه أن الفارضي قال يرثي الشيخ مغوش التونسي المغربي حين مات بمصر:

تقضى التونسي فقلت بيتًا

يروح كل ذي شجن ويونس

أتوحشنا وتؤنس بطن لحد

ولكن مثلما أوحشت تونس

انتهى كلام العجم الغزي في الكواكب وقال الشيخ عبد الحي العكري في الشذرات أنه كانت وفاة صاحب الترجمة سنة إحدى وثمانين وتسعمائة بمصر انتهى.

ص: 88

يقول المختصر: اطلعت لصاحب الترجمة على منظومة في الفرائض على مذهبنا الحنبلي قد شرحها العلامة الشنشوري في نحو ثلاثة كراريس بشرح سماء الدرة المضية في شرح الفارضية بديعة النظام جامعة للأحكام قابل بها منظومة الرحبي الشافعية وإليك مقدمتها:

قال الفقير الحنبلي محمد

أحمد ربي فهو مولى يحمد

ثم الصلاة والسلام أبدا

على النبي الهاشمي أحمدا

وبعده فالنظم تميل النفس له

يستحضر الحافظ منه المسأله

وهذه بها أراد الفارضي

معرفة الأهم في الفرائض

وجيزة والحشو فيها يندر

فاحفظ وحشو الرحبي سكر

الوارثون إجماعا

الابن وابنه ولو نأى وأبْ

جد له والأخ من حيث انتسب

وابن أخ والعم وابنه لا

للأم في الثلاث زوج ذو الولا

بنت وأم وابنة ابنٍ أطلقت

جدة أخت زوجة من عتقت

إلى آخرها

وهي مائة وستة وعشرون بيتا وكلها على هذا النمط الموجز رحمه الله تعالى وجزاه خيرًا آمين.

*‌

‌ الشيخ أبو الصفا محمد الاسطواني

محمد بن حسين بن سليمان أبو الصفا الشهير بالاسطواني الدمشقي الشيخ الفاضل الهمام إمام محراب الحنابلة بالجامع الشريف الأموي وتقدمت ترجمة أبيه البدر ترجمة النجم الغزي في كواكبه فقال أخبرني عنه ابن أخيه الشيخ محمد أنه مات يوم الأحد تاسع عشر جمادي سنة اثنين أو ثلاث وثمانين وتسعمائة ودفن بمقبرة مرج الدحداح رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ تقي الدين بن الذباح

أبو بكر بن إبراهيم بن محمد المهلل المعروف بابن الذباح ويعرف أيضًا لا سيما في بلاد اليمن بابن الحكيم المقدسي الأصل ثم الصالحي الدمشقي الشيخ العالم الصالح الورع

ص: 89

تقي الدين مولده باليمن سنة تسع وتسعمائة ترجمه الحافظ النجم الغزي فقال قرأ على شيخ الإسلام الوالد جانبا من صحيح مسلم وشيئا من تفسير القاضي البيضاوي وعرض عليه أماكن من الخرقى وسمع كثيرا من دروسه وكان يكتب كتب الصوفية كتب الفتوحات وغيرها للشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي قدس الله تعالى سره وكان يعتني بكلامه كثيرا وكان الناس يترددون إليه لكتابة الحروز وغيرها انتهى وكان صاحب الترجمة له محبة عظيمة للأولياء والصوفية عالما عاملا معتقدا للخاص والعام محببا للناس آية في الأنس واللطافة ذا هيبة ووقار وهداية واستبصار وأجمع الناس على اعتقاده وترك انتقاده ولم يزل على هذه الطريقة المثلى والصراط المستقيم إلى أن درج إلى مدارج العفو والغفران فتوفي في تاسع عشر رمضان سنة خمس وثمانين وتسعمائة وصلي عليه

بمشهد عظيم حافل ودفن بتربة مسجد الاقدام انتهى. وترجمه البدر حسن البوريني في تاريخه. فقال هو الشيخ الذي ثبت صلاحه وتقرر فلاحه وحسنت أحواله وصدقت أقواله وكان على أسلوب المتقدمين في سلوكه اجتمعت به في صالحية دمشق في حدود سنة خمس وسبعين وتسعمائة وكان ابتداء الاجتماع به في المدرسة العمرية لأنه كان إمامها وكانت له حجرة بها وكان يأتي إليها من بيته في الثلث الأخير من الليل فيشعل سراجه من قنديل المدرسة ويستفتح في قراءة القرآن العظيم إلى وقت الصلاة فيقوم ويصلي بالناس ثم يرجع إلى حجرته ويشتغل بالأوراد إلى طلوع الشمس فبعد ارتفاعها يصلي الضحى ثم يسير إلى المدرسة دار الحديث بالصالحية أيضًا فيدرس بها فقه الإمام أحمد وغير ذلك من حديث ونحو قرأت عليه بالمدرسة المذكورة الأذكار للإمام النووي وانتفعت بعلمه ودعائه وكان كثير التغفل فيما يتعلق بأمور الدنيا بحيث أنه كان يسأل غالب تلاميذه كل يوم عن أسمائهم ومن أي بلد هم وكانت معرفته بالعلم الروحاني مقطوعا بها من غير شبهة انتهى.

*‌

‌ الاستاذ محمد الخريشي

محمد بن أحمد المقدسي الشهير بالخريشي الشيخ العالم الفاضل الهمام الفقيه أوحد عصره فضلا ونبلا ووحيد دهره في العلوم عقدا وحلا ترجمه الأمين المحبي في تاريخه فقال ترجمه الشمس الداودي رحل إلى القاهرة واشتغل في الجامع الأزهر وغيره وأقام

ص: 90

بها مدة طويلة حتى برع وتميز وتأهل للتدريس والفتوى وأجيز بذلك من شيوخه المصريين ثم قدم إلى القدس وأقام بها ملازما على الدروس وكان عالما عاملا خاشعا ناسكا متقللا من الدنيا قانعا باليسير طويل التعبد كثير التهجد ملازما على تلاوة القرآن وتعليم العلم انتفع به أهل القدس انتفاعًا ظاهرًا وكثير من أهل نابلس وخصوصًا في العربية وكان إمام الحنابلة ومفتيهم في عصره وكان يعظ الناس ويذكرهم وحصل بينه وبين صاحبنا الشيخ محمد ابن شيخنا الشمس محمد بن أبي اللطف وحشة أدت إلى ترك ذلك قيل سببها أن الخريشي وقف على حكم العذبة والتلحي واستحباب ذلك فأرخى له

عذبة ثم تلحى وكان له طلبة ومحبون يعتقدونه فأخذوا بالاقتداء به وكثر متعاطو ذلك وصار بعض الناس يضحكون منه ومنهم ويأمرونهم بترك ذلك وهو يحملهم على الملازمة وعدم الالتفات لقول المنكرين فأدى ذلك إلى أن أفتى الشيخ محمد المذكور بأن التلحى بدعة ويعزر متعاطيه فتسلط السفهاء عَلَى المتلحين يؤذونهم ويؤذون الشيخ المذكور ويقولون هو مبتدع وسعوا في منعه من الوعظ فترك ذلك وتحمل الأذى وصبر فلم تمض مدة قليلة حتى مات الشيخ اللطافي مسكونا فصار الناس يقولون هذا من بركة الخريشي وانتصاره للسنة وكانت وفاة الخريشي ليلة الأحد ثالث عشر ربيع الثاني سنة إحدى بعد الألف والخريشي مصغرًا نسبة إلى قرية من قرى نابلس رحمه الله تعالى.

*‌

‌ القاضي شمس الدين سبط الرجيحي

محمد بن محمد بن أحمد بن عمر ابن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن علي بن عمر سبط الرجيحي الدمشقي قاضي القضاة شمس الدين الشيخ الإمام العالم الفاضل المسند الفقيه قاضي الحنابلة بدمشق الشام ومرجعهم عند اختلاف الأئمة الأعلام ترجمه المحبي في الخلاصة فقال أحد نواب الحكم بمحكمة الباب بدمشق وليس هو بابن المحتسب من أعيان صفد فصاهر الرجيحي المذكور ورأس بمصاهرته وولي نيابة القضاء نحو خمسين سنة منها بمحكمة الباب أربعين سنة وكان حسن الأخلاق منعما مثريا ظاهر الوضائة والنباهة وله محاضرة جيدة وكان في مبدأ أمره يخدم قاضي القضاة ولي الدين بن الفرفور ثم طلب

ص: 91

العلم وأخذ عن العلامة شيخ الإسلام القاضي رضى الدين الغزي العامري وتفقه بالشرف موسى الحجاوي والشيخ شهاب الدين بن سالم وولي قضاء الحنابلة بالمحكمة الكبرى في سنة ثلاث وستين وتسعمائة ونقل إلى نيابة الباب وسافر إلى مصرفي سنة إحدى وتسعين وتسعمائة واجتمع بالأستاذ محمد البكري وغيره واستمر بها مدة ثم عاد إلى دمشق وولي مكانه إلى أن مات وكان له حجرة بالمدرسة الباذرائية وكان محببا إلى الناس جميل اللقاء كثير التجمل وكان يلبس الثياب الواسعة والعمامة الكبيرة على طريقة أبناء العرب في الأكمام الواسعة

والعمامة المدرجة وإذا جلس في مجلس أو كان بين جماعة أخذ يتكلم في أخبار الناس ووقائعهم القديمة التي وقعت في آخر أيام الجراكسة وأوائل أيام العثامنة حتى ينصت له كل من حضر وكان شهود الزور يهابونه فلا يقدمون بحضرته على الشهادة وبالجملة فقد كان من الرؤساء الكبار قرأت بخط الطاراني أن ولادته كانت في سنة سبع عشرة وتسعمائة وتوفي نهار الجمعة سادس عشري شوال سنة اثنين بعد الألف ودفن بمقبرة الباب الصغير بالقرب من سيدنا بلال الحبشي رضي الله عنه وشهد جنازته خلق كثير وكتب وصيته قبل موته بمدة وأبقاها على وسادته بخلوته في الباذرائية ولما احتضر قال قد وضعت وصيتي تحت الوسادة فإذا مت خذوها واعملوا بما تضمنته ثم لما قضى نحبه أخرجت فوجد فيها جميع ما يملك وخلف شيئًا كثيرًا من كتب وأمتعة وغيرها انتهى ما نقله المحبي وترجمه النجم الغزي ثم قال ورأيته في المنام بعد سنين فقلت ما فعل الله بك فضحك إلي وقال يا مولانا الشيخ أما علمت أني مت ليلة الجمعة.

*‌

‌ الشهاب أحمد الشوبكي

أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن أحمد المعروف بالشوبكي أبو العباس شهاب الدين الفقيه الجهبذ التحرير وترجمه الأمين المحبي في تاريخه فقال كان من أفاضل الحنابلة بدمشق وكان غزير العلم سريع الفهم حسن المحاضرة فصيح العبارة وفيه تواضع وسخاء ولد بصالحية دمشق وحفظ القرآن العظيم والمقنع في الفقه وغيره عَلَى محرر المذهب الشرف موسى الحجاوي الصالحي وأخذ العربية وغيرها عن العلامة الشمس محمد بن طولون والمنلا محب الله والعلامة الشبشري والعلامة علاء الدين بن عماد الدين والشهاب

ص: 92

أحمد الطيبي الكبير ثم رحل إلى مصر وأخذ بها عن الجلة من العلماء كشيخ الإسلام تقي الدين الفتوحي شيخ الحنابلة بمصر ورجع إلى دمشق وأفتى بها ودرس نحو ستين سنة وسلم له فقهاء المذهب غير أنه كان يفتي بقول العلامة تقي الدين بن تيمية من تجويز التزويج بعد الطلقات الثلاث الدفعية وتولى صاحب الترجمة القضاء بالصالحية وقناة العوني والكبرى وكان يحكم ببيع الأوقاف إذا وجدت مسوغاتها وترك الصالحية

في أواخر عمره وقطن بدمشق وخطب مدة طويلة بجامع الأمير منجك باشا بمحلة الميدان وكان صوته حسنًا وتلاوته حسنة وامتحن مرات وسافر إلى قسطنطينية في بعضها وسرقت ثيابه وما كان يملك في منزله بدمشق دخل عليه اللصوص وأمسكوا لحيته وأرادوا قتله ونسب ذلك إلى غلام رومي وكانت ولادته في سابع عشر جمادي الآخرة سنة سبع وثلاثين وتسعمائة كما نقله الطاراني عنه وتوفي يوم عرفة بعد العصر تاسع ذي الحجة سنة سبع بعد الألف وصلي عليه بالجامع الأموي ودفن في سفح جبل قاسيون على أسلافه. الشويكيين وتقدمت ترجمة أبيه وجده رحمهم الله تعالى قال المؤلف الغزي ووقفت للمترجم على هذه الأبيات منسوبة إليه وهي:

سهرت أعين ونامت عيونُ

لأمور تكون أو لا تكون

فادرأ الهم ما استطعت عن النفـ

ـس فحملانك الهموم جنون

أن ربا كفاك ما كان بالأمـ

ـس سيكفيك في غد ما يكون

*‌

‌ القاضي أكمل الدين بن مفلح

محمد أكمل الدين بن إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن محمد أكمل الدين بن عبد الله بن محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج الشهير بالقاضي أكمل بن مفلح الراميني المقدسي الأصل الدمشقي الشيخ الإمام العالم البارع المؤرخ المسند الفقيه مولده بدمشق بعد عصر يوم الجمعة ثاني عشر جمادي الآخرة سنة ثلاثين وتسعمائة أخذ الحديث والفقه وغيرهما عن جماعة من أجلاء أهل القرن العاشر منهم والده القاضي برهان الدين وقد استجاز والده المذكور لنفسه ولاخوته وأولاده كما تقدم في ترجمته آنفًا وممن أخذ صاحب الترجمة عنهم واستجاز منهم الشيخ قطب الدين بن سلطان والشيخ شمس الدين بن طولون وأبو السعود أفندي مفتي الدولة العثمانية والسيد كمال الدفين بن حمزة والقاضي

ص: 93

رضي الدين الغزي وولده العلامة بدر الدين الغزي والشيخ إبراهيم بن جماعة والشيخ علي بن أبي اللطف المقدسي والشهاب أحمد المبلي المالكي قاضي القضاة بالقدس الشريف وقرأ بدمشق القرآن العظيم على شيخ الأقراء بها شهاب الدين

أحمد الطيبي إفرادًا وجمعًا للقراء السبعة وكان له خط حسن كتب به عدة كتب ومجاميع على كتابته رونق ظاهر وله تفنن في الكتابة ووضعها في جداول مستديرة ومستطيلة ومربعة إلى غير ذلك وله تآليف لطيفة منها تاريخ من آدم عليه السلام إلى دولة السلطان قايتباي وقطعة من تاريخ دمشق وما يتعلق بها وكتاب فيمن ولي قضاء الحنابلة استقلالًا في ولاية ملوك مصر ورسالة في تواريخ الأنبياء من لدن آدم إلى نبينا محمد صلى الله عليهم وسلم ورسالة مشتملة على مدة الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ورسالة في ذكر أخبار الملوك المصرية ورسالة مختصرة من كتاب أبي شامة في أخبار الدولتين النورية والصلاحية وغير ذلك من التعاليق والفوائد والأشعار والأدبيات والتاريخيات وله من الشعر:

أليس عجبًا أن حظيَ ناقص

وغيري له حظ وأني لأكمل

وقوله في ناعورة:

لقد كنت غصنًا في الرياض منعما

أميس ونصبي في أمان من الخفض

فصيرني صرف الزمان كما ترى

فبعضي كما لاقيت يبكي على بعض

وما ألطف قول ابن نباتة فيها:

وناعورة قالت وقد ضاع قلبها

وأضلعها كادت تعد من السقم

أدور على قلبي لأني فقدته

وأما دموعي فهي تجري على جسمي

وكانت وفاة القاضي أكمل في خامس عشري ذي الحجة سنة إحدى عشرة بعد الألف انتهى. يقول المختصر: هذا آخر من عرف من بني مفلح في دمشق وقد انقرضت هذه الأسرة ولم يبق منها سوى الأسباط وهم بنو الاسطواني الأسرة الكبيرة المعروفة بدمشق تولوا عنهم أوقافًا ووظائف كثيرة ومن الاتفاق العجيب أن صاحب الترجمة تلقى القضاء عن سبعة آباء فهو أكمل الدين محمد بن برهان الدين إبراهيم بن نجم الدين عمر بن برهان الدين إبراهيم بن أكمل الدين محمد بن شرف

ص: 94

الدين عبد الله بن شمس الدين محمد تلميذ ابن تيمية وقد أثبتنا تراجمهم جميعًا في هذا الكتاب فسبحان مغير الدول ومحول الأحوال.

*‌

‌ الشيخ ناصر الدين محمد الاسطواني

محمد بن محمد بن حسين بن سليمان الملقب ناصر الدين الشهير بالاسطواني الدمشقي أحد العدول بدمشق ترجمه الحافظ النجم الغزي في ذيل الكواكب فقال كان من أمثل الكتاب بمحكمة الباب وكان يكتب بين يدي قضاة القضاة حين عجز رئيس الكتاب جمال الدين بن يوسف العدوي وكان شيخنا شيخ الإسلام العيثاوي يثني عليه كثيرًا ويعدله ويقول هو أحسن الشهود كتابة وأدينهم وكان ساكنا صامتا قليل الكلام لا يدخل فيما لا يعنيه توفي في رجب سنة عشرين بعد الألف انتهى. وتقدمت ترجمة أبيه وجده وترجمه الأمين المحبي في تاريخه وقال أنه دفن بمقبرة باب الفراديس رحمه الله تعالى.

*‌

‌ العلامة يحيى بن الشرف موسى الحجاوي

يحيى بن موسى بن أحمد بن موسى بن سالم بن عيسى بن سالم الشهير بابن الحجاوي المقدسي الأصل الدمشقي المولد والمنشأ ثم الصالحي ثم القاهري الشيخ الإمام العالم البارع المسند المحدث الفقيه الفرضي أخذ الحديث وغيره بدمشق عن جماعة منهم والده المسند الإمام شرف الدين موسى الحجاوي مفتي الحنابلة بدمشق - وهو أخذ عن مفتي دار العدل السيد كمال الدين محمد بن حمزة الحسيني بعد قراءته عليه مشيخته التي خرج لنفسه فيها أربعين حديثًا - وهو أخذ عن جماعة كثيرين من أجلهم الحافظ بن حجر العسقلاني وممن أجاز صاحب الترجمة جدنا العلامة شيخ الإسلام. البدر الغزي العامري بمنظومة رأيتها بخط المجيز المشار إليه قال رضي الله عنه:

الحمد لله على تواتر

آلائه في باطن وظاهر

ثم الصلاة والسلام أبدًا

على النبي الهاشمي أحمدا

وآله وصحبه والتابعين

وعلماء الدين طرًا أجمعين

وبعد فالطفل اللبيب الألمعي

الحاذق النجل الأديب اللوذعي

الشيخ يحيى ابن الإمام المتقي

العالم العلامة المفنن

الشرفي موسى هو الحجاوي

نزهه الله عن المساوي

ص: 95

حضر عندي وعلي عرضًا

مواضعًا عرضا مجيدا مرتضى

من المصنف الذي للخرقي

العالم العلامة المحقق

أبرزها سردًا بحسن لفظه

بلا تكلف لها من حفظه

دلت على حفظ الكتاب كله

قرت به عيون كل أهله

وقد أجزته وقاه الله

سبحانه من كل ما يخشاه

بكل ما يجوز لي روايته

أو حل لي بين الورى درايته

وفقه الله لخير العمل

وصانه من الخطا والخطل

قد قال ذا محمد الغزي

العامري والده الرضىّ

عام ثمانين وتسعمائة

من السنين قد مضت للهجرة

والحمد لله تمام النظم

يعطر المبدا بحسن الختم

ثم رحل صاحب الترجمة بعد وفاة والده إلى القاهرة وأدرك بها جماعة من كبار العلماءَ كالتقي محمد الفتوحي وغيره ودرس بالجامع الأزهر وانتفعت به الطلبة وتخرجوا على يديه في علوم شتى ولم يزل ركنا للإفادة حتى توفي بالقاهرة المحروسة في أوائل هذا القرن وممن أخذ عن صاحب الترجمة الشيخ سلطان المزاحي والشيخ مرعي المقدسي والشيخ منصور بن يونس البهوتي المصري والقاضي محمود الحميدي الدمشقي ابن أخت صاحب الترجمة رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ محمد المرداوي

محمد بن أحمد المرداوي الأصل والشهرة القاهري الشيخ الإمام العالم العلامة الهمام الفقيه شيخ الحنابلة في عصره ومرجعهم كان جبلا من جبال العلم بحرًا من بحور الإتقان ترجمه المؤرخ الفاضل الأمين المحبي فقال شيخ الحنابلة في عصره بالقاهرة أخذ عن التقي محمد الفتوحي وعن الشيخ عبد الله الشنشوري الفرضي وأخذ عنه جماعة من الأفاضل منهم الشيخ مرعي المقدسي والشيخ منصور البهوتي والشيخ عثمان الفتوحي الحنبليون والشمس محمد الشوبري وأخوه الشهاب أحمد والشيخ سلطان المزاحي الشافعيون وكثير من أهل مصر وغيرهم وكانت وفاته بمصر في سنة ست وعشرين وألف ودفن بتربة المجاورين بالقرب من السراج الهندي رحمه الله.

ص: 96

*‌

‌ القاضي نور الدين محمود الحميدي

محمود بن محمد بن عبد الحميد الشهير بالحميدي الدمشقي الصالحي الشيخ الإمام العالم العامل المسند المحدث الفقيه المفنن الكامل أبو الثناء نور الدين المتبحر في العلوم الجامع بين المنطوق والمفهوم الحجة العمدة قاضي القضاة سبط شيخ الحنابلة الشرف موسى الحجاوي صاحب الإقناع ترجمه شيخ الإسلام النجم الغزي في ذيل الكواكب فقال سافر إلى مصر لطلب العلم والتجارة فأكرم مثواه خاله العلامة الشيخ يحيى الحجاوي واشتغل عنده في العلوم وقرأ عليه وعلى غيره وكان بارعًا فيها ثم رجع إلى دمشق فلازم الشيخ شمس الدين بن المنقار وانتسب إليه فسعى له في نيابة القضاء فولي بالصالحية ثم بالكبرى ثم بالباب بعد وفاة القاضي شمس الدين الرجيحي وتقدم على النواب لسنه وتصرفه مع استحضاره لمسائل القضاء حتى كان يأخذ على غيره من النواب في المذاهب الأخرى.

قال المؤلف الغزي وأخبرنا شيخ الإسلام والدي السيد محمد شريف عن شيخ الإسلام والده الشمس محمد الغزي عن العلامة السيد إبراهيم عن والده محدث دمشق السيد محمد بن حمزة عن خاتمة المحدثين بدمشق بدر الدين محمد البلباني تلميذ صاحب الترجمة أنه أخذ الحديث عن شيخ الإسلام ملحق الأحفاد بالأجداد جدنا البدر الغزي وعرض عليه المقنع وألفية ابن مالك من حفظه -

وترجمه العلامة السيد محمد أمين المحبي قال ولما مات القاضي شمس الدين سبط الرجيحي نقل إلى مكانه بمحكمة الباب فتغيرت أطواره وتناول وتوسع في الدنيا وأنشأ عقارات وعظم أمره وحصل له محنة أيام الحافظ أحمد باشا فأخذ منه مبلغًا له صورة ثم جرت له محنة أخرى في نيابة جركس محمد باشا وأخذ منه مالا أيضًا غير أنه تلافي خاطره ووقع في آخر الأمر منافرة بينه وبين القاضي يوسف بن كريم الدين ثم مرض وطال مرضه من القهر ولما علم أنه لم يبق له رجوى بذل مالا لقاضي القضاة بدمشق المولى عبد الله بن محمود العباسي على أن يولي نيابة الباب لولده القاضي محمد فولاه يوما واحدًا ثم سعى الكريمي عند القاضي بأن يولي نيابة الباب للقاضي عبد اللطيف ابن الشيخ أحمد

الوفائي وأن يولي ابن الحميدي بالمحكمة الكبرى

ص: 97

مكان القاضي عبد اللطيف ففعل ولم يتم للقاضي محمود مراده ولو لم يقبل ذلك لضاع عليه المال الذي بذله فبقي في حزنه وغيظه وقوي عليه المرض فمات مقهورا بعد أن أقعد شهورا وكانت وفاته يوم الجمعة سابع عشر جمادي الأولى سنة ثلاثين بعد الألف ودفن بمقبرة الباب الصغير انتهى وأخذ عن المترجم جماعة من الأئمة منهم ولده القاضي محمد والبدر محمد البلباني والشيخ عبد الباقي مفتي الحنابلة وغيرهم.

*‌

‌ العلامة الشيخ مرعي الكرمي - صاحب الغاية

مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر بن يوسف بن أحمد الكرمي نسبة إلى طور كرم قرية من قرى نابلس ثم المقدسي نزيل مصر القاهرة شيخ الإسلام أوحد العلماء الأعلام فريد عصره وزمانه ووحيد دهره وأوانه صاحب التآليف العديدة والتحريرات المفيدة العلامة بالتحقيق والفهامة بالتدقيق شرفت به البلاد المقدسة وصارت دعائم كمالاته على هام الفضائل مؤسسة العالم الرباني والهيكل الصمداني والإمام الثاني في حل المعاني ورصف المباني سما قدره رتبة السماكين ورقي مجده على فرق الفرقدين كان فردًا من أفراد العالم علمًا وفضلا واطلاعا، ويتيمة من خزائن الكون طال يدا وباعا، بحرا تتدفق أمواج قاموسه عن درر الفوائد الجسام، وأفقا تتلألأ أنوار شموسه في أفلاك الرقة والانسجام، جمع من العلوم أصنافا ومن الفهوم أضعافا وفاق في الجميع بالاتفاق وأضاءت بدور فضائله على سائر الآفاق وانعقد عليه الإجماع من أهل الخلاف والوفاق فهو الآية الكبرى والحجة العظمى والمحجة الواضحة البيضا. ترجمه السيد محمد أمين المحبي في تاريخه خلاصة الأثر في تراجم أعيان القرن الحادي عشر فقال هو أحد أكابر علماء الحنابلة بمصر كان إمامًا فقيهًا محدثًا ذا اطلاع واسع على نقول الفقه ودقائقه ومعرفة تامة بالعلوم المتداولة أخذ الفقه عن الشيخ محمد المرداوي وعن القاضي يحيى بن موسى الحجاوي ثم دخل مصر

وتوطنها وأخذ بها بقية العلوم من حديث وتفسير عن الشيخ الإمام محمد حجاوي الواعظ والمحقق أحمد الغنيمي وكثير من المشايخ المصريين وأجازه شيوخه

ص: 98

وتصدر للاقراءَ والتدريس بجامع الأزهر ثم تولى المشيخة بجامع السلطان حسن ثم أخذها عنه عصريه العلامه إبراهيم الميموني ووقع بينهما ما يقع بين الأقران وألف كل منهما في الآخر رسائل وكان منهمكا في العلوم انهماكا كليا قطع زمانه بالإفتاء والتدريس والتحقيق والتصنيف فسارت بتآليفه الركبان ومع كثرة أضداده وأعدائه ما أمكن أحدًا أن يطعن فيها ولا أن ينظر بعين الازدراء إليها وتآليفه رضي الله عنه كثيرة غزيرة منها كتاب غاية المنتهى في الفقه قريب من أربعين كراسًا وهو متن جمع من المسائل أقصاها وأدناها مشى فيه مشي المجتهدين في التصحيح والاختيار والترجيح وله كتاب دليل الطلب في الفقه نحو عشرة كراريس. دليل الطالبين لكلام النحويين. إرشاد من كان قصده إعراب لا إله إلا الله وحده. مقدمة الخائض في علم الفرائض. القول البديع في علم البديع. أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات. الآيات المحكمات والمتشابهات. قرة عين الودود بمعرفة المقصور والممدود. الفوائد الموضوعة في الأحاديث الموضوعة. بديع الإنشاء والصفات في المكاتبات والمراسلات. بهجة الناظرين في آيات المستدلين نحو عشرين كراسًا يشتمل على العجايب والغرايب. البرهان في تفسير القرآن لم يتم. تنوير أبصار المقلدين في مناقب الأئمة. المجتهدين. الكواكب الدرية في مناقب ابن تيمية. الأدلة الوفية بتصويب قول الفقهاء والصوفية. سلوك الطريقة في الجمع بين كلام أهل الشريعة والحقيقة. روض العارفين في تسليك المريدين. إيقاف العارفين على حكم أوقاف السلاطين. تهذيب الكلام في حكم أرض مصر والشام. تشويق الأنام إلى حج بيت الله الحرام. محرك سواكن الغرام إلى حج بيت الله الحرام. قلائد المرجان في الناسخ والمنسوخ من القرآن. أرواح الأشباح في الكلام على الأرواح. فرائد الفكر في المهدي المنتظر. إرشاد ذوي الإفهام لنزول عيسى عليه السلام. الروض النضر في الكلام على الخضر. تحقيق الظنون بأخبار الطاعون. كتاب فيما يفعله الأطباء والداعون لدفع شر الطاعون. تلخيص أوصاف المصطفى وذكر من بعده من الخلفاء. إتحاف ذوي الألباب في قوله تعالى يمحو الله ما يشاء

ويثبت وعنده أم الكتاب. أحكام الأساس في قوله تعالى أن أول بيت وضع للناس. تنبيه الماهر على غير ما هو المتبادر - أي من الأحاديث الواردة في الصفات

ص: 99

فتح المنان بتفسير آية الاستنان. الكلمات البينات في قوله تعالى وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات. أزهار الفلاة في آية قصر الصلاة. تحقيق الخلاف في أصحاب الأعراف. تحقيق البرهان في إثبات حقيقة الميزان. توقيف الفريقين على خلود أهل الدارين. توضيح البرهان في الفرق بين الإسلام والإيمان. إرشاد ذوي العرفان لما في العمر من الزيادة والنقصان. اللفظ الموطأ في بيان الصلاة الوسطى. قلائد العقيان في قوله تعالى أن الله يأمر بالعدل والإحسان. مسبوك الذهب في فضل العرب وشرف العلم على شرف النسب. شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور. رياض الأزهار في حكم السماع والأوتار والغناء والأشعار. تحقيق الرجحان بصوم يوم الشك من رمضان. تحقيق البرهان في شأن الدخان الذي بشر به الناس الآن. رفع التلبيس عمن توقف فيما كفر به إبليس. تحقيق المقالة هل الأفضل في حق النبي الولاية أو النبوة أو الرسالة. الحجج البينة في إبطال اليمين مع البينة. المسائل اللطيفة في فسخ الحج إلى العمرة الشريفة. المنير في استعمال الذهب والحرير. دليل الحكام في الوصول إلى دار السلام. نزهة الناظرين في فضل الغزاة والمجاهدين. بشرى من استبصر وامر بالمعروف ونهى عن المنكر. بشرى ذوي الإحسان فيمن يقضي حوائج الإخوان الحكم الملكية والكلم الأزهرية إخلاص الوداد في صدق الميعاد سلوان المصاب بفرقة الأحباب. تسكين الأشواق بأخبار العشاق منية المحبين وبغية العاشقين نزهة المتفكر لطائف المعارف. المسرة والبشارة في فضل السلطنة والوزارة نزهة الناظرين في تاريخ من ولى مصر من الخلفاء والسلاطين قلائد العقيان في فضائل آل عثمان - وغير ذلك من الفتاوي والرسائل النافعة التي تداولها الناس وتلقوها بالقبول وله رسالة سماها النادرة الغريبة والواقعة العجيبة مضمونها الشكوى من الميموني والحط عليه وله ديوان شعر مشهور ومن شعره قصيدة أولها:

يا ساحر الطرف يا من مهجتي سحرا

كم ذا تنام وكم أسهرتني سحرا

لو كنت تعلم ما ألقاه منك لما

أتعبت يا منيتي قلبا إليك سرا

هذا المحب لقد شاعت صبابته

بالروح والنفس يوما في الوصال شرى

ص: 100

وقوله

ولئن قلد الناس الأئمة أنني

لفي مذهب الحبر ابن حنبل راغب

أقلد فتواه وأعشق قوله

وللناس فيما يعشقون مذاهب

وكانت وفاة صاحب الترجمة بمصر في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وألف انتهى ورأيت لصاحب الترجمة أيضًا قوله:

إنما الناس بلاء ومحن

وهموم وغموم وفتن

وعناء وضناء قربهم

وهلاك ليس فيه مؤتمن

حسنوا ظاهرهم كي يخدعوا

ليس في باطنهم شيء حسن

فاحذرن عشرتهم واتركنها

واجتنبهم سيما هذا الزمن

*‌

‌ الشيخ إسحاق الخريشي

إسحاق بن محمد بن أحمد الشهير بالخريشي المقدسي شيخ القدس الشريف ومفتيها وابن مفتيها الشيخ الإمام العالم العامل الفاضل الهمام تقدمت ترجمة والده وولد هو ببيت المقدس ونشأ بها وترجمه المؤرخ الفاضل المحبي فقال كان عالمًا عاملًا أخذ من والده وأم بالمسجد الأقصى وكان إليه المنتهى في علم القراءات إلى العشر حسن الصوت والأداء لا يمل من سماعه طارحًا للتكلف مشتغلا دائمًا بقراءة كلام الله تعالى ووالده محمد صاحب المؤلفات العديدة مشهور وتوفي صاحب الترجمة في سنة خمس وثلاثين والف رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشهاب أحمد أبو الوفا بن مفلح

أحمد بن أبي الوفا علي بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج المفلحي الصالحي ثم الدمشقي شهاب الدين المكنى بأبي الوفاء ابن قاضي القضاة علاء الدين أبي الوفاء ابن قاضي القضاة برهان

الدين ابن قاضي القضاة أكمل الدين ابن قاضي القضاة شرف الدين ابن قاضي القضاة شمس الدين ابن الإمام زين الدين أبي المفاخر مفلح المقدسي الأصل الإمام العالم العلامة النحرير المحقق الكبير الفقيه المحدث الورع الزاهد الثبت الخير كان أحد العلماء بالشام الملازمين على تعليم العلم والفتيا وكان له المتانة الكاملة في الفقه والعربية والفرائض والحساب

ص: 101

والتاريخ ولأهل دمشق فيه اعتقاد عظيم وهو محله وأهله وكان متجنبا غالب الناس وله مداومة على تلاوة القرآن والعبادة أخذ عن الجلة من مشايخ عصره منهم جدنا العلامة شيخ الإسلام البدر محمد الغزي العامري والعلامة أبو الفدا إسماعيل بن إبراهيم النابلسي الشافعي وأخذ الفقه عن الفقيه الكبير الشرف موسى بن أحمد الحجاوي صاحب الإقناع وأخذ عن الإمام المحدث الكبير الشمس محمد بن طولون الصالحي وبرع في أنواع العلوم ودرس بعدة مدارس منها دار الحديث بصالحيه دمشق بالقرب من المدرسة الأتابكية وكان له بقعة تدريس بالجامع الأموي وعرض عليه قضاء الحنابلة بمحكمة الباب لما مات القاضي محمد سبط الرجيحي في زمن قاضي القضاة المولى مصطفى بن حسين بن المولى سنان صاحب حاشية التفسير فامتنع وبالغ القاضي ومن كان عنده من كبار العلماء في طلبه فلم ينخدع ولم يل القضاء واعتذر بثقل السمع وأنه لا يسمع ما يقوله المتداعيان بسهولة وذلك يقتضي صعوبة فصل الأحكام ولم يزل يتلطف بالقاضي حتى عفا عنه وكانت وفاته في جمادي الآخرة سنة ثمان وثلاثين وألف. هكذا ترجمه الفاضل المحبي وذكر وفاته - قال المؤلف الغزي - ورأيت بخط تلميذه العلامة عبد الباقي مفتي السادة الحنابلة ما نصه شيخنا الشيخ شهاب الدين أحمد الوفائي الحنبلي المفلحي سكن الصالحية أولا ثم مدينة دمشق أجمع الناس على جلالته ودينه بل وعَلَى ولايته توفي سنة خمس وثلاثين وألف ودفن في تربة الحنابلة بمرج الدحداح خارج باب الفراديس وأخبرني من أثق به يوم مات أنه عمر مائة سنة إلا سنة أدرك الشيخ موسى صاحب الإقناع وقرأ عليه وكان ملازما على التدريس في جامع بني أميه في كل العلوم الشرعية وآلاتها أعرف الناس في الفرائض والعربية وكان زاهدا متقللا في الدنيا لا يعرف تصنعا لا في لبسه ولا في عمته ولا في شيء من حركاته وسكناته وكان لا يستطيع أحدًا إذا صافحه بيده أن يرفعها ليقبلها لقوة أعضائه

ولامتناعه من ذلك مرجع أهل الشام ومعتقدهم انتهى بحروفه - وترجمه عصريه البدر حسن البوريني في تاريخه بنحو ما ذكر وأثنى عليه كثيرًا.

قال المؤلف الغزي ورأيت بخط حفيد عم صاحب الترجمة الفاضل المسند القاضي أكمل بن مفلح ما صورته أنشدني من لفظه لنفسه ابن العم أبو الوفا أحمد بن أبي الوفا بن مفلح:

ص: 102

شبيهة بدر التم بالله انجزى

وفاء لموعود له الضنك والبلوى

لقد ضاق ذرعا بالبعاد ومن يكن

ولوها بليلى لا تليق به الشكوى

رعى الله أيام الوصال وعطفها

عليّ فما أحلى ثناها وما أشهى

ومما أنشده لنفسه جواب عن لغز في سوسنه:

يا فاضلا فاق الأنام كلهم

تركتني في حيرة وفي وله

أبرزت في نظم القريض عجبا

أنعم به وقد كفيت أوله

انتهى. وأصيب صاحب الترجمة بولده القاضي عبد اللطيف المفلحي توفي في حياته (على حساب المحبي) وكان ولده هذا شيخًا فاضلًا جليلًا عالمًا كاملًا نبيلًا ترجمه المحبي في خلاصته فقال كان فقيهًا مشتغلا مشهور السمعة جريا في فصل الأمور أخذ عن والده ورحل إلى مصر في سنة 1005 وأخذ بها الحديث عن النور الزيادي وتفقه بالشيخ يحيى بن الشرف موسى الحجاوي وبالشيخ الإمام عبد الرحمن بن يوسف البهوتي وأجازاه بالفتوى والتدريس واستفاد وأفاد ثم رجع إلى دمشق سنة 1017 وولي قضاء الحنابلة بالمحكمة الكبرى أولا ثم صار قاضي قضاة الحنابلة بمحكمة الباب وتوفي في سادس عشر شعبان سنة ست وثلاثين وألف انتهى.

وممن أخذ عن صاحب الترجمة العلامة المسند الأثري الشيخ تقي الدين عبد الباقي مفتي الحنابلة بدمشق والشيخ ضياء الدين عبد الغني النابلسي الدمشقي جد الاستاذ عبد الغني النابلسي قدس الله سره والشيخ عماد الدين بن عبد الرحمن العمادي مفتي الحنفية بدمشق والشمس محمد البلباني والشيخ

منصور بن علي المصري الفرضي نزيل صالحية دمشق رحمه الله رحمة واسعة آمين.

*‌

‌ المسند عبد الرحمن البهوتي

عبد الرحمن بن يوسف بن علي الشيخ زين الدين ابن القاضي جمال الدين ابن الشيخ نور الدين البهوتي المصري الشيخ الإمام العالم العلامة المسند الأثري البركة الثقة العمدة الهمام الفقيه المتضلع من العلوم والفضائل خاتمة المعمرين ولد بمصر ونشأ بها وقرأ لكتب الستة وغيرها من كتب الحديث وروى المسلسل بالأولية عن الجمال يوسف ابن شيخ الإسلام القاضي زكريا الأنصاري وأخذ علوم الحديث عن الشمس الشامي

ص: 103

صاحب السيرة وتلميذ السيوطي ومن مشايخ صاحب الترجمة في الفقه والده وجده والشيخ تقي الدين محمد الفتوحي صاحب منتهى الإرادات وأخوه عبد الرحمن ابنا شيخ الإسلام الشهاب أحمد بن النجار الفتوحي والشيخ شهاب الدين البهوتي وغيرهم وكان صاحب الترجمة بحرًا من بحور العلم وركنا من أركان الفضل عالمًا بالمذاهب الأربعة وله شيوخ معلومون في كل منها وقد أخذ عنه جمع من الأئمة الأفاضل منهم الشيخ منصور البهوتي المصري والشيخ عبد الباقي مفتي الحنابلة الدمشقي وكان صاحب الترجمة في سنة أربعين وألف موجودًا في الإحياء رحمه الله هكذا ترجمه المحبي في تاريخه. وفي ثبت الشيخ عبد الباقي المشار إليه ما نصه ومن جملة مشايخي الشيخ عبد الرحمن البهوتي الحنبلي وعاش نحوًا من مائة وثلاثين سنة على ما هو مشهور وأخذ عنه كثيرون منهم الشيخ أحمد المقري المالكي وكتب لي خطه بعموم الإجازة سنة اثنين وثلاثين وألف ولكنه لم يكن في الجملة أعلى سندًا من غيره انتهى.

*‌

‌ العلامة الشيخ منصور البهوتي

منصور بن يونس بن صلاح الدين بن حسن بن أحمد بن علي بن إدريس الشهير ببهوتي المصري الشيخ الإمام شيخ الإسلام كان إمامًا هماما علامة في سائر العلوم فقيهًا متبحرًا اصوليا مفسرًا جبلا من جبال العلم وطودًا من أطواد

الحكمة وبحرًا من بحور الفضائل له اليد الطولى في الفقه والفرائض وغيرهما أخذ عن جماعة من الأعيان كالشيخ يحيى بن الشرف موسى الحجاوي الدمشقي والشيخ عبد الله الدنوشري الشافعي والجمال عبد القادر الدنوشري الحنبلي والنور على الحلبي والشهاب أحمد الوارثي الصديقي. ترجمه الأمين المحبي في تاريخه فقال شيخ الحنابلة بمصر وخاتمة علمائهم بها الذائع الصيت البالغ الشهرة كان عالمًا عاملًا ورعًا متبحرًا في العلوم الدينية صارفا أوقاته في تحرير المسائل الفقهية ورحل الناس إليه من الآفاق لأخذ مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه فإنه انفرد في عصره بالفقه وأخذ عن أكثر المتأخرين من الأصحاب الحنابلة منهم الجمال يوسف البهوتي والشيخ محمد البهوتي ومحمد بن أبي السرور البهوتي وإبراهيم بن أبي بكر الصالحي وغيرهم ومن مؤلفاته شرح الإقناع للمشرف موسى الحجاوي في ثلاثة أجزاء ضخام وحاشية على الإقناع

ص: 104

المذكور وشرح المنتهى لتقي الدين الفتوحي في ثلاثة أجزاء أيضًا وحاشية على المنتهى المذكور وشرح زاد المستقنع للحجاوي وشرح المفردات للشيخ محمد بن عبد الهادي المقدسي وكان ممن انتهى إليه التدريس والفتوى وكان سخيا له مكرام دارة. وكان في كل ليلة جمعة يجعل ضيافة ويدعو جماعته من المقادسة وإذا مرض منهم أحد عادة وأخذه إلى بيته ومرضه إلى أن يشفى وكانت الناس تأتيه بالصدقات فيفرقها على طلبته بالمجلس ولا يأخذ منها شيئًا وكانت وفاته ضحى يوم الجمعة عاشر شهر ربيع الثاني سنة إحدى وخمسين وألف بمصر القاهرة ودفن بتربة المجاورين انتهى.

قال المؤلف الغزي وترجمه شيخنا الشمس محمد السفاريني رحمه الله وقال في ترجمته هو أحد أعلام المذهب المتأخرين كان كثير العبادة غزير الإفادة والاستفادة رحل إليه الحنابلة من الديار الشامية والنواحي النجدية والأراضي المقدسية والضواحي البعلية وتمثلوا بين يديه وضربت الإبل اباطها إليه وعقدت عليه الخناصر. وقال من حظي بنظره هل من مفاخر فأخذ عنه الشيخ عبد الباقي الدمشقي والشيخ محمد الخلوتي والشيخ ياسين اللبدي والشيخ عبد الحق اللبدي والشيخ يوسف الكرمي في آخرين ومن مؤلفاته شرح الإقناع والمنتهى

والمفردات وزاد المستقنع وهو أحسن شروحه وله أيضًا حاشية على الإقناع والمنتهى وكتاب لطيف سماه عمدة الطالب وكان سخيا جوادًا له مكارم دارة وبشاشة سارة - ثم ذكر وفاته وقال ولم أعلم تاريخ مولده حتى الآن.

"قال الغزي" قلت ورأيت في حاشية تلميذه وابن أخته العلامة الخلوتي أنه كان مولد صاحب الترجمة سنة ألف من الهجرة كما أخبره بذلك فكان عمره إحدى وخمسين سنة رحمه الله رحمة واسعة.

(يقول المختصر). وقد عم الانتفاع بمؤلفات صاحب الترجمة فلم تزل تتداولها الأيدي ويقرأها أهل المذهب وغيرهم إلى يومنا هذا حتى أنه في سنة 1305 طبع شرح زاد المستنقع بدمشق ثم في سنة 1320 طبع شرح الإقناع وعلى هامشة شرح المنتهى بمصر ووزع هذا على طلبة العلم من الحنابلة مجانا ولم يطبع من فقه الحنابلة قبل أو بعد كتب المترجم المذكورة سوى شرح التغلبي على دليل

ص: 105

الطالب للشيخ مرعي طبع في مصر قديما وكتاب المقنع للشيخ الموفق بتعليقات عليه مجهولة طبع في مصر حديثًا جزى الله الساعين بنشر كتب الحنابلة خيرًا كثيرًا آمين.

*‌

‌ القاضي محمد بن طريف

محمد بن محمد المعروف بابن طريف الدمشقي الصالحي قاضي المحكمة العونية بدمشق ترجمه الأمين المحبي فقال كان من الفضلاء والأخيار الأتقياء عفيف النفس قانعا من الدنيا باليسير متجملا في كل أموره تولى نيابة القضاء بمحكمة قناة العوني مدة تزيد على أربعين سنة ولم ينسب إليه مكروه قرأت بخط الشيخ عبد الحق المرزناتي أنه أخبره بأن مولده في ذي الحجة سنة ثمان وسبعين وتسعمائة وتوفي نهار الخميس تاسع شوال سنة سبع وخمسين وألف وصلي عليه بالجامع المظفري ودفن بالروضة من السفح القاسيوني رحمه الله.

*‌

‌ الشيخ ياسين اللبدي

ياسين بن علي بن أحمد بن أحمد بن محمد اللبدي الشيخ الفقيه الفاضل

رحل إلى مصر لطلب العلم الشريف في سنة 1043 ومكث إلى سنة 1051 وأخذ الفقه عن الشيخ الإمام منصور البهوتي وأخذ الحديث والنحو عنه أيضًا وقرأ على الشيخ عامر الشيراوي شرح ألفية العراقي للقاضي زكريا وأجازه بها وبما تجوز له روايته وكان يفتي على مذهبه في بلاد نابلس وكان دينًا صالحا تقيا حافظا لكتاب الله تعالى وكانت وفاته في سنة ثمان وخمسين وألف تقريبًا رحمه الله وسائر المسلمين آمين.

*‌

‌ الشيخ أبو الصفا الاسطواني

أبو الصفا بن محمود بن أبي الصفا الشهير كسلفه بالاسطواني الدمشقي ترجمه الأمين المحبي في تاريخه فقال هو جدي لأمي ولد بدمشق ونشأ بها وكان حنبليا على مذهب أسلافه وله مشاركة جيدة في فقه مذهبهم وغيره وقرأ في آخر أمره فقه الحنفية على العلامة رمضان بن عبد الحق العكاري وكان من جملة الرؤساء وفضلاءُ الكتاب ولي خدما كثيرة من كتابات الخزينة والأوقاف وكان كاتبًا بليغًا كامل

ص: 106

العقل حسن الرأي ميمون النقيبة ورزق دنيا طائلة واسعة وكان كثير التنعم وافر العزة محفوظًا في الدنيا وبلغ من العمر كثيرًا وهو في نشاط الشبان وبالجملة فإنه كان ممن توفرت له الدواعي ونال من الأيام حظه وكان مع ذلك سمح الكف دائم البشر وكانت صدقاته على الفقراء دارة وخيراته واصلة. وانتفع به جماعة ومنه أثروا وبه استفادوا والحاصل أن كان من محاسن دهره وأكارم عصره وكانت وفاته في شهر ربيع الأول سنة ستين بعد الألف ودفن بمقبرة باب الفراديس في تربة الغرباء رحمه الله تعالى برحمته انتهى.

(يقول المختصر محمد جميل الشطي) هذا آخر الحنابلة من بني الاسطواني الذين عرفوا من أوائل القرن العاشر وهو كما ترى أول الحنفية منهم وقد تركوا مذهبهم الحنبلي لأسباب اجتماعية سامحهم الله غير أنهم لم يتركوا العلم ففضلهم بين الأنام مشهور وذكرهم على مدى الأيام مأثور.

*‌

‌ الشيخ عثمان الفتوحي

عثمان بن أحمد بن تقي الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن عبد

العزيز علي بن إبراهيم بن رشد الفتوحي القاهري الشهير بابن النجار أحد أجلاء علماءُ الحنابلة بمصر كان قاضيا بالمحكمة الكبرى بمصر فاضلًا جليلًا ذا وجاهة ومهابة عند عامة الناس وخاصتهم حسن السمت والسيرة والخلق قليل الكلام له في الفقه مهارة كلية وإحاطة بالعلوم العقلية والنقلية ولد بمصر وبها نشأ وأخذ الفقه عن والده وعمه الجمال يوسف وعن الإمام محمد المرداوي الشامي وعبد الرحمن البهوتي وأخذ العلوم العقلية عن كثيرين كالعلامة الشهاب إبراهيم اللقاني ومن عاصره وأخذ عنه جماعة كثيرون كولده القاضي محمد والقاضي محمد الحواوشي وعبد الله بن أحمد المقدسي وألف المؤلفات النافعة كالحاشية الجليلة على المنتهى في الفقه وكانت وفاته بمصر في شهور ربيع الأول سنة أربع وستين وألف دفن بتربة المجاورين تربة أبيه وجده رحمهم الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ عبد الحق المرزناتي

عبد الحق بن محمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن عمر بن إسماعيل بن أحمد بن الفرد الشيخ محيي الدين الأدهمي الدمشقي الصالحي الصوفي القادري المعروف بالمرزناتي ويتصل

ص: 107

نسبه بسلطان الأولياءِ إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه وكان صاحب الترجمة كوالده من مشاهير الصوفية بالشام له الوقار والهيبة وعنده إلمام بمعارف كثيرة وكان مع ذلك أديبا بارعًا حسن المحاضرة وله اطلاع كثير على الأشعار والنوادر ترجمه المحبي وقال: ورأيت بخطه مجموعًا فيه كل معنى نادر وحكاية مستلذة وكان رحل إلى الروم في سنة 1028 ونال بعض جهات في الشام ثم قدم دمشق وأقام في داره بالصالحية وكان مخالطا للأدباء وله كرم وإيثار لا يزال محله غاصا بأهل الأدب والمعرفة وكان يجري بينهم وبينه محاورات وكان ينظم الشعر وشعره مستحسن فمن مشهور ماله قوله وكتب به إلى فتح الله بن النحاس الحلبي الشاعر المشهور ويستدعيه إلى محله:

أن أغلق الأعداء أبوابهم

عني ولم يصغوا إلى نصحي

وزرتني يوما ولو ساعة

في الدهر تبغي بينهم نجحى

علمت أن الحق من لطفه

قد خصني بالنصر والفتح

لا زالت في عز مدى الدهر ما

غردت الأطيار في الصبح

فراجعه الفتح المذكور بقوله:

مولاي يا من خصه ربه

بين الورى بالنصر والفتح

في الظهر والعصر إلى بابكم

أسعى وفي المغرب والصبح

وكيف لا أسعى إلى باب من

في وجهه داع إلى النجح

لا زلت من قدح العدا سالما

ولا خلا زندك من قدح

ولصاحبه الترجمة أيضًا قوله:

إذا اجتمعت في المرء سبع خصائل

تدانت له الدنيا يقينًا بلا شك

حياء وعلم وانقياد وعفة

ولطف وإحسان ومعرفة التزكي

وقرأت بخطه أن ولادته كانت في أول ساعة من نهار الخميس ثامن ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وتسعمائة وتوفي ليلة الثلاثاء أربع عشر جمادي الأولى سنة سبعين وألف وصلى عليه بالجامع المظفري ودفن بروضة السفح القاسيوني والمرزناتي نسبة إلى جده الشيخ محيي الدين المرزناتي المقدم ذكره وأصله المرزبان وهو بالفراسية السلطان انتهى.

ص: 108

*‌

‌ القاضي نعمان الدمشقي

نعمان بن أحمد الدمشقي قاضي قضاة الحنابلة بمحكمة الباب بدمشق كان من فضلاء الحنابلة ووجهائهم تفقه على جماعة ولزم من أول عمره هو وأخوه الشيخ عبد السلام أديب الزمان أحمد بن شاهين وتخرجا عليه وانتفعا به علمًا وجاها وولي القاضي نعمان صاحب الترجمة النيابات بوسيلته والتقرب إليه إلى أن استقر آخرًا بالباب وكان أمثل القضاة في عصره وجيهًا مهابا نقي العرض عما يدنس ملازمًا خويصة نفسه ودرس بالمدرسة الحجازية وكان له بها خلوة يقيم بها أكثر أوقاته وكانت وفاته في سنة إحدى وسبعين وألف انتهى من تاريخ المحبي.

*‌

‌ المسند الشهير عبد الباقي الحنبلي مفتي الحنابلة بدمشق

عبد الباقي بن عبد الباقي بن عبد القادر بن عبد الباقي بن إبراهيم بن عمر بن محمد البعلي المولد الأزهري الطلب الدمشقي المنشأ والوفاة الإمام تقي الدين مفتي السادة الحنابلة بدمشق يعد الشهاب المفلحي شيخ الإسلام أوحد العلماء بقية السلف عمدة الخلف العلامة المحدث الفقيه المقري صاحب الفنون وغيث الإفادة الهتون المبرز في جميع العلوم الذي يهتدي به في أراضي الفضائل كما يهتدي بالنجوم أشع الدواوين تحريرًا وأوسع الدروس تقريرًا فهو وحيد دهره وفريد عصره وسيد شامه ومصره حاز فضلا وأفضالا ورقي رتبة عزت منالا بفكر ثاقب وذهن متوقد كتوقد الكواكب وعلم عزيز غزير وإتقان كبير كثير ولد هذا الهمام في بعلبك واشتهر بابن فقيه فصة وهي قرية ببعلبك من جهة دمشق كان أحد أجداده يخطب بها في كل جمعة وأجداده كلهم حنابلة قال رحمه الله في الثبت الذي جمعه وتعب عليه وسماه رياض الجنة في آثار أهل السنة وجدت بخط والدي أني ولدت ليلة السبت ثامن عشر ربيع الثاني سنة خمس وألف وحفظت القرآن على والدي وتولى قراءتي بنفسه وتيتمت بعد ذلك فشرعت بالاشتغال في طلب العلم فأخذت الفقه عن القاضي محمود بن عبد الحميد سمط الشيخ موسى الحجاوي وعن الشهاب أحمد الوفائي المفلحي ورحلت إلى مصر سنة 1029 فأخذت الفقه عن الشيخ منصور البهوتي الحنبلي والشيخ مرعي الكرمي والشيخ عبد القادر الدنوشري والشيخ يوسف الفتوحي وأخذت القراءات عن

ص: 109

الشيخ عبد الرحمن اليماني والحديث عن الشيخ إبراهيم اللقاني والشيخ أحمد المقري المغربي المالكي والفرائض عن الشيخ محمد الشمريسي وعن الإمام زين العابدين بن أبي درى المالكي وحضرت في باقي العلوم على كثير من مشايخ الجامع الأزهر ثم عدت إلى دمشق سنة اثنين وثلاثين وألف بإجازات الأشياخ بالفنون المزبورة وغيرها وبالافناء والتدريس فدرست في جامع بني أمية وقرأت بعد ذلك في الشام عَلَى شيخ الإسلام الشيخ عمر القاري في النحو المعاني والحديث والأصول وكتب لي إجازة وحججت سنة 1036 فأخذت عن جماعة من أهل مكة من أجلهم مولانا الشيخ محمد بن علان الصديقي وأجازني

وأخذت من أهل الحرم المدني عن جماعة من أجلهم الشيخ عبد الرحمن الخياري فقد أجازني ولله الحمد أهل مكة والمدينة ومصر ودمشق وبيت المقدس وأعلى أسانيدي في جميع مرويات الحافظ بن حجر وفي جميع كتب الحديث عن الشيخ حجازي الواعظ عن ابن أركماس عن الحافظ العسقلاني انتهى. وحضر صاحب الترجمة دروس الحديث تحت قبة النسر من الجامع الأموي عند الشمس الميداني ثم درس الحافظ شيخ الإسلام النجم الغزي ودروس التفسير عند الشيخ عبد الرحمن العمادي المفتي وأجاز له من مصر غير من تقدم ذكرهم وكلهم كتبوا له الاجازات وعنونوه فيها بالشيخ الإمام العلامة النحرير الفهامة إلى غير ذلك من الأوصاف وقد تصدر للاقراءَ بالجامع الأموي في سنة إحدى وأربعين وألف بكرة النهار وبين العشائين فقرأ الجامع الصغير في الحديث مرتين وتفسير الجلالين مرتين وقرأ صحيح البخاري بتمامه وصحيح مسلم والشفاء والمواهب والترغيب والترهيب والتذكرة للقرطبي وشرح البرأة والمنفرجة والشمائل والاحياء جميع ذلك بطرفيه ولازم ذلك ملازمة كلية بمحراب الحنابلة أولا ثم بمحراب الشافعية ولم ينفصل عن ذلك شتاء ولا صيفا ولا ليلة عيد حتى ليلة وفاة زوجته وحتى ليلة عرس ولديه وكان فيه نفع عظيم وله خلوة في المدرسة البدرأية معروفة به ودرس بالمدرسة العادلية الصغرى وصار خطيبًا بجامع منجك في محلة مسجد الاقصاب وأخذ عنه خلق كثير أجلهم الأستاذ الكبير برهان الدين إبراهيم الكوراني نزيل المدينة المنورة والأستاذ العارف الشيخ عبد الغني النابلسي وهو أبوه من الرضاع والسيد العالم محمد بن عبد الرسول البرزنجي المدني وولد صاحب الترجمة محدث دمشق الشيخ

ص: 110

محمد أبو المواهب والشيخ مصطفى بن سوار شيخ المحيا بدمشق والشيخ رمضان بن موسى العطيفي والشيخ عبد الحي العكري وغيرهم وله مؤلفات منها شرح على البخاري لم يكمله وكان شيخ القراء بدمشق ونظم الشعر إلا أن شعره شعر الفقهاء؟ وبالجملة ففي ذكر ما اشتمل عليه. من العلوم والأوصاف الحميدة ما يغني عن الشعر وأشباهه وكانت وفاته ليلة الثلاثاء سابع عشري ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وألف ودفن بتربة الغربا من مقبرة الفراديس رحمه الله تعالى.

*‌

‌ المسند شمس الدين محمد البلباني

محمد بن بدر الدين بن عبد القادر بن محمد البلباني البعلي ثم الدمشقي الصالحي الخزرجي الشيخ العلامة المحقق الفهامة الورع الزاهد العالم العامل القدوة الحجة خاتمة المسندين بقية السلف الصالحين شيخ الإسلام أبو عبد الله شمس الدين أحد الأئمة الزهاد وأوحد العلماء الأفراد ولد بدمشق سنة ست وألف ظنا كما قاله وكان من كبار أصحاب الشهاب أحمد أبي الوفا الوفائي في الفقه والحديث ثم زاد عليه في معرفة فقه المذاهب زيادة على مذهبه فكان يقرئ في المذاهب الأربعة وتفقه أيضًا على القاضي محمود الحميدي وسمع ببعلبك وبدمشق على الشهاب أحمد العيثاوي الكبير والشمس محمد الميداني وأفتى مدة عمره وانتهت إليه رئاسة العلم بالصالحية بعد الشيخ علي القبردي وكان عالمًا عاملًا ورعًا زاهدًا فقيهًا محدثًا عابدًا معمرًا قطع أوقاته في العبادة والعلم والكتابة والدرس حتى مكن الله تعالى منزلته من القلوب وأحبه الخاص والعام وكان ربانيا متألها متواضعًا مخفوض الجناح حسن الخلق والخلق والصحبة حلو العبارة كثير التحري في أمر الدين والدنيا منقطعًا إلى الله تعالى وكان كثيرًا ما يورد كلام الحافظ ابني الحسن علي بن أحمد الزيدي ويستحسنه وهو قوله اجعلوا النوافل كالفرائض والمعاصي كالكفر والشهوات كالسم ومخالطة الناس كالنار والغذاء كالدواء - (قال المؤلف الغزي) وقد عقد هذه المقالة جدي العلامة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن الغزي بقوله:

اجعل النفل كالفروض وقرب

الناس كالنار تنف هما وغما

واجعل الأكل كالدوا والمعاصي

مثل كفر وشهوة النفس سما

ص: 111

وكان صاحب الترجمة في أحواله مستقيمًا على نسق واحد وأوقاته مقسومة إلى أقسام إما صلاة أو قراءة قرآن أو كتابة اقراء وانتفع به خلق وأخذ عنه جمع من أعيان العلماءُ منهم الإمام المحقق محمد بن محمد المغربي والوزير الكبير مصطفى باشا بن محمد باشا الكوبري والشيخ أبو المواهب الحنبلي والشيخ عبد القادر بن عبد الهادي العمري وأبو الفلاح عبد الحي العكري الصالحي والأمين

المحبي والسيد سعدي ابن السيد عبد الرحمن بن حمزه الحسيني والشيخ إبراهيم الخياري المدني - وله من التآليف النافعة مختصر في الفقه صغير الحجم كثير الفائدة ومختصر في التجويد مشهور بالرسالة البلبانية وغير ذلك وله محاسن ولطائف وولي خطابة الجامع المظفري المعروف بجامع الحنابلة - وبالجملة فقد كان بقية السلف وبركة الخلف وكانت وفاته ليلة الخميس لتسع خلت من رجب سنة ثلاث وثمانين وألف وصلى عليه بالجامع المظفري المذكور ولده الفاضل الشيخ عبد الرحمن في جمع عظيم ودفن بسفح جبل قاسيون في الطرف الشرقي رحمه الله رحمة واسعة.

*‌

‌ الشيخ محمد الخلوتي

محمد بن أحمد بن علي البهوتي الشهير بالخلوتي المصري القاهري ابن أخت العلامة منصور البهوتي العالم العلم الفقيه النحرير إمام المنقول والمعقول مخرج الفروع على الأصول المحقق المدقق المفتي والمدرس بمصر القاهرة ولد بمصر ونشأ بها وأخذ الفقه عن العلامة عبد الرحمن البهوتي تلميذ محمد الشامي صاحب السيرة ولازم خاله شارح الإقناع والمنتهي ومحشيهما المقدم ذكره، وأخذ العلوم العقلية عن الشهاب الغنيمي وعليه تخرج وانتفع واختص بعده بالعلامة نور الدين على الشبراملسي ولازمه في دروسه في كثير من العلوم فكان لا يفارقه في العلوم النظرية وكان يجري بينهما في الدرس من المحاورات والنكات الدقيقة مالا يعرفه أحد من الحاضرين إلا من كان من أكابر المحققين وكان الشبراملسي يجله ويثني عليه ويعظمه ويحترمه ولا يخاطبه إلا بغاية التعظيم لما انطوى عليه من الفضل ولكونه رفيقه في الطلب ولم يزل ملازمًا له حتى مات وكتب كثيرًا من التحريرات منها تحريراته على الإقناع وعلى المنتهى جردت بعد موته من هوامش النسختين فبلغت حاشية الإقناع اثني عشر كراسا وحاشية المنتهى أربعين

ص: 112

كراسا وله حاشية على شرح العقائد للنسفية للسعد جردها من خط شيخه الشهاب أحمد الغنيمي فرتبها وله شعر لطيف منه قوله:

كأن الدهر في خفض الأعالي

وفي رفع الأسافل واللئام

فقيه عنده الأخبار صحت

بتفضيل السجود على القيام

وأخذ عن صاحب الترجمة جماعة من الفضلاءِ منهم الشيخ الإمام أبو المواهب الحنبلي وترجمه في مشيخته ومنهم الشيخ إسماعيل والشيخ إبراهيم الجينينيان والشيخ عيسى الكناني الصالحي والشيخ تاج الدين بن أحمد الشهير بالدهان المكي وغيرهم من أهل مصر والشام وكانت وفاته بمصر ليلة الجمعة تاسع عشر ذي الحجة الحرام سنة ثمان وثمانين وألف رحمه الله تعالى.

*‌

‌ المفنن الشيخ عبد الحي العكري - صاحب شذرات الذهب

عبد الحي بن أحمد بن محمد المعروف بابن العماد أبو الفلاح العكري بضم العين الدمشقي الصالحي الشيخ العالم الهمام المصنف الأديب المفنن الطرفة الاخباري العجيب الشأن في المذاكرة والاستحضار والتمتع بالخزائن العلمية وتقييد الشوارد من كل فن وكان من أعرف الناس بالفنون الكثيرة وأغزرهم إحاطة بالآثار وأجودهم مساجلة وأقدرهم على الكتابة والتحرير له من التصانيف شرحه على غاية المنتهى في الفقه للشيخ مرعي حرره تحريرًا أنيقا (يقول المختصر وصل فيه إلى باب الوكالة فقط فيا للأسف) وله التاريخ المشهور الذي سماه شذرات الذهب في أخبار من ذهب ابتدأ فيه من الهجرة إلى سنة ألف ومنها وذكر فيه ما وقع من الحوادث المشهورة وتراجم الأعوان من العلماء والملوك وغيرهم وجميع ذلك على سبيل الاختصار في مجلدين وله غير ذلك من الرسائل والتحريرات وخرج لنفسه ثبتا لمشايخه ومروياته - ولد بدمشق نهار الأربعاء ثامن رجب سنة اثنين وثلاثين وألف وبها نشأ وقرأ القرآن العظيم وطلب العلوم مشمرًا عن ساق الاجتهاد فأخذ عن أعلام الأشياخ بدمشق من أجلهم الأستاذ الكبير الشيخ أيوب الخلوتي وتلقى الفقه قراءة وأخذًا عن الشيخ تقي الدين عبد الباقي مفتي الحنابلة بدمشق وعن الإمام شمس الدين البلباني الصالحي المقدم ذكرهما وأجازوه

ص: 113

ثم رحل إلى القاهرة وأقام بها مدة طويلة للأخذ عن علمائها فأخذ بها

عن الشيخ سلطان المزاحي والنور على الشبراملسي والإمام شمس الدين محمد البابلي والشهاب أحمد القليوبي وغيرهم ثم رجع إلى دمشق وهو فضل ولزم الإفادة والتدريس وانتفع به كثير من أبناء عصره وكان لا يمل ولا يفتر من المذاكرة والاشتغال وكتب الكثير بخطه الحسن المضبوط وكان خطه حلو الأسلوب متناسبا قال تلميذه المحبي في تاريخه وكان مع كثرة امتزاجه بالأدب وأربابه مائل الطبع إلى نظم الشعر إلا أنه لم يتفق له نظم شيء فيما علمته منه ثم أخبرني بعض الإخوان أنه ذكر له أنه رأى في المنام كأنه ينشد هذين البيتين قال وأظن أنهما له وهما:

كنت في لجة المعاصي غريقًا

لم تصلني يد تروم خلاصي

أنقذتني يد العناية منها

بعد ظني أن لات حين مناص

وكنت في عنفوان عمري تلمذت له وأخذت عنه وكنت أرى لقيه فائدة اكتسبها وجملة فخر لا أتعداها فلزمته حتى قرأت عليه الصرف والحساب وكان يتحفني بفوائد جليلة ويلقيها على وحباني الدهر مدة بمجالسته فلم يزل يتردد إليَّ تردد الآسي إلى المريض حتى قدر الله تعالى لي الرحلة عن وطني إلى ديار الروم وطالت مدة غيبتي وأنا أشوق إليه من كل شيق حتى ورد عليَّ خبر موته وأنا بها فتجددت لوعتي أسفا على ماضي عهوده وحزنا على فقد فضائله وآدابه وكان قد حج فمات بمكة المشرفة وكانت وفاته سادس عشر ذي الحجة الحرام سنة تسع وثمانين وألف ودفن بالمعلا وكان عمره ثمانا وخمسين سنة انتهى كلام المحبي وأخذ عن صاحب الترجمة الشيخ عثمان بن أحمد بن عثمان النجدي والمؤرخ الشيخ مصطفى بن فتح الله الحموي المكي رحمه الله.

*‌

‌ الشيخ شهاب الدين أحمد الكرمي

أحمد بن يحيى بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر بن يوسف بن أحمد الكرمي ثم المقدسي الشيخ الفاضل العالم النبيل الفقيه شهاب الدين أبو العباس قال المحبي في ترجمته كان من العلماء العاملين والأولياء الزاهدين ولد ببيت المقدس في سنة ألف من الهجرة وقرأ القرآن بطور كرم وأخذ الطريق عن

العارف بالله محمد العلمي ورحل إلى القاهرة في سنة 1026 فأخذ بها الفقه وغيره عن عمه الشيخ مرعي الكرمي وعن

ص: 114

الشيخ منصور البهوتي وعن الشيخ يوسف بن محمد الفتوحي وأخذ النحو عن محمد الحموي والفرائض والحساب عن الشيخ عبد المنعم الشربوني والحديث عن الإمام الشيخ إبراهيم اللقاني والإمام الشيخ علي الأجهوري وكثيرين وكان ملازمًا مكانه المعروف بالجامع الأزهر مشتغلا بالعلوم الدينية لا يتردد إلى أحد من أرباب الدول قانعا باليسير من الرزق متقيدًا بصلاة الجماعة في الصف الأول في الأوقات الخمسة بالأزهر قليل الكلام حسن السيرة جامعًا لصفات الكمال ليس فيه شيءُ يشينه في آخرته ودنياه حكى عنه ولده الشيخ عبد الله أنه رأى الحق سبحانه وتعالى ثلاث مرات وفي إحداها رأى الملائكة ذاهبين به إلى النار فإذا بمناد من قبل الحق سبحانه ليس من أهلها اذهبوا به إلى الجنة فقام فرأى نفسه في الجامع الأزهر وكانت وفاته ليلة رابع عشر صفر الخير سنة إحدى وتسعين وألف ودفن بتربة المجاورين بقرب عمه الشيخ مرعي رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ إبراهيم الذنابي العوفي

إبراهيم بن أبي بكر بن إسماعيل الذنابي العوفي نسبة إلى سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الدمشقي الصالحي الأصل المصري المولد والوفاة كان من أعيان الأفاضل له اليد الطولى في الفرائض والحساب مع التبحر في الفقه وغيره من العلوم الدينية ولد بمصر ونشأ بها وأخذ الفقه عن العلامة منصور البهوتي والحديث عن جمع من شيوخ الأزهر وأجازه غالب شيوخه وألف مؤلفات نافعة منها شرح على منتهى الإرادات في الفقه في مجلدات ومناسك الحج في مجلدين ووسائل كثيرة في الفرائض والحساب وكان لطيف المذاكرة حسن المحاضرة قوي الفكرة واسع العقل وكان فيه رياسة وحشمة وكان حسن الخلق والأخلاق مع الكلام المفرط وكان يرجع إليه في المشكلات الدنيوية لكثرة خبرته في الأمور وبالجملة فقد كان من حسنات الزمان وكانت ولادته بالقاهرة سنة ثلاثين وألف وتوفي بها فجأة ظهر يوم الاثنين الرابع عشر من شهور ربيع الثاني

سنة أربع وتسعين وألف وصلي عليه يوم الثلاثاء ودفن بتربة الطويل عند والده رحمه الله تعالى انتهى من تاريخ المحبي.

ص: 115

*‌

‌ القاضي عبد اللطيف بن طريف

عبد اللطيف بن محمد بن محمد المعروف بابن طريف الدمشقي الصالحي قاضي القضاة ومرجع الحنابلة بدمشق كان عالمًا كاملًا عارفًا بمداخل القضاء وصنعة التوريق أمهر أهل فنه في عصره وصار رئيس الموقعين بالمحكمة العونية بدمشق وقد تقدمت ترجمة والده القاضي محمد وعنه تلقى صنعة التوريق وكتابة الصكوك الشرعية وكانت وفاته في سنة ثمان وتسعين وألف ودفن على والده بسفح جبل قاسيون بالروضة رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ أحمد السجان

أحمد بن علي الشهير بابن السجان البعلي مفتي الحنابلة ببعلبك الشيخ العالم العلامة الفقيه الفرضي النحوي الكامل الإمام المقري الصالح الناسك الدين قدم دمشق وقطن بها مجاورًا في المدرسة العمرية بصالحية دمشق وقرأ على العلامة الشيخ محمد بن بلبان الصالحي العربية والفرائض والحساب وتفوق بالفقه وكانت وفاته يوم الخميس آخر جمادي الثانية سنة أربع عشرة ومائة وألف ودفن ببعلبك عند الشيخ العارف الولي عبد الله اليونبني رحمه الله تعالى - انتهى من تاريخ المرادي.

*‌

‌ السيد مصطفى الجعفري

مصطفى بن صلاح الدين بن مصطفى المعروف كأسلافه بالحنبلي والجعفري النابلسي نقيب الأشراف بالديار النابلسية وعالم هاتيك المعالم السنية بين سيادة العلم والنسب وبلغ من الرياسة كوالده أعلى الرتب ولد بنابلس ونشأ بها وتلا القرآن العظيم وأخذ في طلب العلم فقرأ على والده المذكور وثقفه على عمه السيد أحمد وأخذ الحديث عن الشيخ أبي بكر الأحزمي شارح الجامع

الصغير وعن غيرهم ونبل قدره واشتهر بين العلماء أمره ودرس وأفاد وهرعت إليه الطلاب والوراد وكان رحمه الله تعالى كثير التهجد رحيب النادي كريم السجايا والأيادي وكانت وفاته في أواخر رمضان سنة خمس عشرة ومائة وألف ودفن بنابلس رحمه الله تعالى وجميع المسلمين انتهى منه.

*‌

‌ الشيخ عبد الجليل المواهبي

عبد الجليل بن أبي المواهب بن عبد الباقي الحنبلي الدمشقي الشهير بالمواهبي

ص: 116

الشيخ العالم المحقق المدقق الفهامة الإمام الفاضل ولد بدمشق في سادس شعبان سنة تسع وسبعين بعد الألف ونشأ بها في كنف والده العلامة المحدث الشيخ أبي المواهب (الآتية ترجمته) واشتغل بطلب العلم عليه ولازم الشيخ إبراهيم الفتال ومفتي دمشق الشيخ إسماعيل الحايك والشيخ عبد القادر بن عبد الهادي أخذ عنهم الأصلين والنحو والصرف والمعاني والبيان وأخذ الفقه والحديث ومصطلحه عن والده المقدم ذكره وقرأ على العلامة الشيخ عبد الرحيم الكابلي نزيل دمشق والشيخ عثمان القطان وأجازه المحقق الرباني الشيخ إبراهيم الكرواني نزيل المدينة المنورة والعلامة السيد محمد البرزنجي الكوراني نزيلها أيضًا وبرع صاحب الترجمة في المعقولات لا سيما النحو والصرف والمعاني والبيان وجلس للتدريس بالجامع الأموي وعكف عليه الطلبة للاستفادة وكان عجبًا في تقرير العبارة يؤديها بفصاحة وبيان وله من التآليف نظم الشافية في الصرف وشرحها شرحا حافلا وله تشطير بديع على ألفية ابن مالك في النحو وله ارجوزة في العروض وغير ذلك من الرسائل وكان وقورًا ساكنًا كثير البر بوالده وشوهد مرارًا إذا كان في درسه ومر عليه والده يقوم من الدرس ويأخذ مدارس والده منه ويمشي خلفه بأدب وسكينة ويلازم حضور دروس والده بالجامع الأموي بين العشائين وكان والده يحبه كثيرًا ويحترمه ويدعو له لما كان عليه من البر وملازمة الطاعات وكف اللسان عن اللغو والانقطاع عن الناس وكان ينظم الشعر الباهر فمنه قوله مشطرًا هذه الأبيات المنسوبة لابن عباس رضي الله عنهما.

(احبوا الخيل واصطبروا عليها)

فإن بها المسرة والكمالا

وراعوا حقها في كل وقت

(فإن العز فيها والجمالا)

(إذا ما الخيل ضيعها أناس)

أنلناها الترفه والدلالا

فخير في نواصيها اقتضى أن

(حفظناها فأشبهت العيالا)

(نقاسمها المعيشة كل يوم)

ولا نخشى لنعمتنا زوالا

ونلبسها المحاسن من حلي

(ونكسوها البراقع والجلالا)

وقوله مذيلا على البيت الأول:

ص: 117

إذا ملك لم يكن ذا هبه

فدعه فدولته ذاهبه

فجد للفقير بما يبتغي

وأفضل مالك كن واهبه

ولا تلق دهرك مستوهبا

فخير اليدين يد راهبه

وفي الله عن كل شيء غنى

فكن راغبا فيه أو راهبه

ونل طيب العيش وأنعم به

ولا تك أشعث كالراهبه

وعمرك رأس جميع الذي

ملكت فبالخير كن ناهبه

وحاذر معاصي الإله التي

تكون لأجر الفتى ناهبه

ومن مال ربك أنفق فما

تملكت عارية لاهبه

ودم في رضاه لنرقى العلا

وتنجو من ناره اللاهبه

وقوله في فوارة:

انظر إلى فوارة قد حكت

جارية قوامها كالغصين

أرخت على أعطافها حلية

بديعة مثل خيوط اللجين

وكانت وفاة المترجم في جمادي الثانية سنة تسع عشرة ومائة وألف ودفن بتربتهم شرقي مزار الشيخ بكار بمرج الدحداح وتأسف عليه الغالب من الناس لا سيما والده فصبر واحتسب ورثاه الشيخ سعدي العمري بقوله:

الاتبا ليومك من ذميم

أيا فرد الفضائل والفهوم

أبحت لنا به أسفًا وحزنا

يزيلان الحياة عن الجسوم

وغادرت الزمان بلا إمام

يرينا كيف فائدة العلوم

فلو تفدى النفوس فدتك منا

قلوب من حمامك في حميم

ولكن لا مرد لما قضاه

علينا الله في الأزل القديم

وحين قضى إمام العصر طرًا

أتى التاريخ بيتًا من نظيمي

جزاه الله عن دنياه مجدًا

وأسكنه جنات النعيم

*‌

‌ السيد عبد الله الجعفري

عبد الله بن أحمد بن مصطفى المعروف كأسلافه بالحنبلي والجعفري النابلسي السيد الفاضل الأديب الفرضي الكامل نقيب الأشراف بنابلس أخذ العلم عن أفاضل كرام

ص: 118

وكان له قدر راسخ في العبادة واجتهاد في الافادة وكان والده السيد شهاب الدين وعمه السيد صلاح الدين من أعيان نابلس وفضلائها وكانت وفاته في أواخر سنة عشرين ومائة وألف رحمه الله تعالى - انتهى من تاريخ المرادي وتقدمت ترجمة ابن عمه قريبًا.

*‌

‌ العلامة المحدث الشيخ أبو المواهب الحنبلي

أبو المواهب بن عبد الباقي بن عبد الباقي بن عبد القادر بن عبد الباقي البعلي الأصل الدمشقي مفتي الحنابلة بدمشق القطب الرباني والهيكل الصمداني الإمام العلامة الفقيه الكامل والمسند الحجة المحدث الفاضل الولي الخاشع التقي الناسك شيخ القراء والمحدثين فريد العصر أوحد الدهر كان إماما جليلا عالمًا عاملًا ورعًا زاهدًا عابدًا آية من آيات الله تعالى (وتقدمت ترجمة أبيه وابنه الجليلين) ولد بدمشق في رجب سنة أربع وأربعين وألف ونشأ بها في كنف والده وقرأ القرآن العظيم وحفظه وجود على والده المذكور ختمة للسبع من طريق الشاطبية وختمة للعشر من طريق الطيبة والدرة وقرأ عليه الشاطبية مع مطالعة شروحها وأخذ العلم عن جماعة كثيرين من دمشق ومصر والحرمين وأفرد لهم ثبتًا ذكر تراجمهم فيه فمن علماء دمشق النجم الغزي العامري حضر دروسه في صحيح البخاري في بقعة الحديث في الأشهر الثلاثة مدة مديدة وقرأ عليه ألفية

المصطلح وأجازه إجازة خاصة وحضر دروسه في المدرسة الشامية في شرح جمع الجوامع في الأصول ومنهم الشيخ محمد الخباز المعروف بالبطنبني والشيخ إبراهيم الفتال والشيخ إسماعيل النابلسي والد الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي والشيخ زين العابدين الغزي العامري قرأ عليه في الفرائض والحساب والمنلا محمود الكردي نزيل دمشق والعارف الشيخ أيوب الخلوتي والشيخ رمضان العكاري الحنفي والشيخ محمد نجم الدين الفرضي والشيخ محمد الاسطواني والعلامة السيد محمد بن كمال الدين بن حمزة الحسبني والشيخ محمد المحاسني ومحمد بن أحمد بن عبد الهادي ورمضان بن موسى العطيفي ورجب بن حسين الحموي المبداني وعلي بن إبراهيم القبردي وأجازه الشيخ محمد بن سليمان المغربي وأخذ عن الشيخ عيسى الجعفري نزيل المدينة والشيخ أحمد القشاشي المدني والشيخ محمد بن علان البكري وإبراهيم بن حسن الكوراني وغيرهم وارتحل إلى مصر سنة 1072 (فيه نظر) وأخذ

ص: 119

فيها عن جماعة منهم الشمس محمد البابلي والشيخ علي الشبراملسي والشيخ سلطان المزاحي والشيخ عبد السلام اللقاني ومحمد بن قاسم البقري ومحمد بن أحمد البهوتي وغيرهم ومات أبوه في غيبته بمصر فعاد إلى دمشق وجلس للتدريس مكان والده في محراب الشافعية بين العشائين وبكرة النهار لإقراء الدروس الخاصة فقرأ بين العشائين الصحيحين والجامعين الكبير والصغير للسيوطي والشفاء ورياض الصالحين للنووي وتهذيب الأخلاق لابن مسكويه واتحاف البررة بمناقب العشرة للمحب الطبري وغيرها من كتب الحديث والوعظ وأخذ عنه الحديث والقراءات والفرائض والفقه ومصطلح الحديث والنحو والمعاني والبيان أمم لا يخصون عددًا وانتفع الناس به طبقة بعد طبقة وألحق الأحفاد بالأجداد ولم ير مثله جلدًا على الطاعة مثابرًا عليها - وله من التآليف رسالة تتعلق بقوله تعالى مالك لا تأمنا على يوسف ورسالة في قوله تعالى فبدت لهما ورسالة في تعلمون في جميع القراءات بالخطاب والغيبة ورسالة في قواعد القراءة من طريق الطيبة وله بعض كتابة على صحيح البخاري بنى بها على كتابة لوالده عليه لم تكمل غير ذلك من التحريرات المفيدة - وكان يسقى به الغيث حتى استقى به في سنة 1108 فكان الناس قد قحطوا من المطر فصاموا ثلاثة أيام وخرجوا في اليوم الرابع إلى المصلى صيامًا فتقدم صاحب

الترجمة وصلى بالناس إماما بعد طلوع الشمس ثم نصب له كرسي في وسط المصلى فرقى عليه وخطب خطبة الاستسقاء وشرع في الدعاء وارتفع الضجيج والابتهال إلى الله تعالى وكثر بكاءَ الخلق وكان الفلاحون قد أحضروا جانبًا كبيرًا من البقر والمعز والغنم وأمسك المترجم بلحيته وبكى وقال إلهي لا تفضح هذه الشيبة بين عبادك فما نزل حتى خرج من جهة المغرب سحاب أسود بعد أن كانت الشمس نقية من أول الشتاء لم ير في السماء غيم ولم ينزل إلى الأرض قطرة ماء ثم تفرق الناس ورجعوا فلما أذن المغرب تلك الليلة انفتحت أبواب السماء بماء منهمر ودام المطر ثلاثة أيام بلياليها غزيرًا كثيرًا وفرج الله بفضله الكربة عن عباده - وله كرامات كثيرة وصدقات سرية عَلَى طلبة العلم وأهل الصلاح وكسبه من الحلال الصرف في التجارة بالعقول الصحيحة وكان لا يخاف في الله لومة لائم ولا كتاب الوزراء ولا غيرهم وله في ذلك آثار حسنة وأصيب بولده الشيخ عبد الجليل فصبر واحتسب ثم بولده الشيخ مصطفى وكان

ص: 120

شابا فصبر واحتسب كذلك ولم يزل على حالته الحسنى وطريقته المثلى إلى أن اختار الله له الدار الباقية وكانت وفاته عصر يوم الأربعاء التاسع والعشرين من شوال سنة ست وعشرين ومائة وألف ودفن بتربة مرج الدحداح رحمه الله ونفعنا ببركاته آمين - انتهى من تاريخ المرادي.

*‌

‌ العلامة الشيخ عبد القادر التغلبي

عبد القادر بن عمر بن عبد القادر بن عمر بن أبي تغلب بن سالم التغلبي الشيباني الصوفي الدمشقي الشيخ الإمام العالم الفقيه الفرضي الصالح العابد الناسك أبو التقي ولد في دمشق سنة اثنين وخمسين وألف وقرأ القرآن العظيم في صغره ولزم الشيخ عبد الباقي الحنبلي وولده الشيخ أبا المواهب وقرأ عليهما كتبًا كثيرة في عدة فنون وأعاد للثاني درسه بين العشائين من ابتداء سنة 1073 إلى أن توفي ولازم الشيخ محمد البلباني فقرأ عليه الفقه والفرائض والحساب وأجازه بمروياته وحضر دروس الشيخ محمد بن يحيى الخباز البطنيني الشافعي واجتمع بالمحقق الشيخ إبراهيم الكوراني المدني في إحدى حجاته سنة 1094 وأجاز له

وقرأ على الشيخ عثمان القطان والشيخ سعودي الغزي والشيخ منصور الفرضي والشيخ محمد الكتبي والشيخ إبراهيم الفنال ومحمد بن أحمد العمري بن عبد الهادي والشيخ أحمد النخلي وغيرهم من الأجلاء الذين يجمعهم ثبته وكان يرزق من عمل يده في تجليد الكتب ومن ملك له في قرية دوما وبارك الله له في رزقه فحج أربع مرات وكان يلازم الدرس لإقراء العلوم بالجامع الأموي بكرة النهار وبعد وفاة شيخه أبي المواهب بين العشائين بالجامع الأموي أيضًا وأخذ عنه خلق لا يحصون وانتفعوا به وكان دينا صالحا عابدًا خاشعًا ناسكًا مصون اللسان منورًا بشوش الوجه تعتقده الخاصة والعامة ويتبركون به ويكتب التمائم للمرضى والمصابين فينفعهم الله بذلك ولا يخالط الحكام ولا يدخل عليهم وصنف شرحًا على دليل الطالب (مطبوع معروف) وكانت وفاته ليلة الثلاثاء الثامن عشر من ربيع الآخر سنة خمس وثلاثين ومائة وألف ودفن تحت رجلي والده بمقبرة مرج الدحداح رحمه الله تعالى وأعاد علينا من بركاته انتهى منه.

*‌

‌ الشيخ محمد المواهبي

محمد بن عبد الجليل بن أبي المواهب بن عبد الباقي البعلي الأصل الدمشقي المعروف

ص: 121

بالمواهبي تقدم ذكر والده وجده (وأبي جده) وكان هذا عالمًا فاضلًا بارعًا مفتي الحنابلة بدمشق بعد جده أبي المواهب ولد في سنة إحدى ومائة وألف ونشأ في كنف والده وجده وأخذ الفقه والحديث والفرائض عنهما وقرأ في علوم العربية كالنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع عَلَى والده وقرأ في الفرائض على تلميذ جده الشيخ عبد القادر التغلبي وأجاز له الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي والشيخ إلياس الكردي نزيل دمشق وغيرهما وبرع وفضل وصارت فيه البركة التامة وجلس للتدريس بالجامع الأموي وقرأ عليه جماعة من الحنابلة وغيرهم وانتفعوا به وكان دينا متواضعا مواظبًا على حضور الجماعات والسعي إلى أماكن القربات وكانت وفاته في أوائل ذي الحجة سنة ثمان وأربعين ومائة وألف ودفن بتربة سلفه بمرج الدحداج رحمه الله تعالى - انتهى منه قدس الله روحه.

*‌

‌ الشيخ مصطفى بن عبد الحق اللبدي

مصطفى بن عبد الحق النابلسي اللبدي ثم الدمشقي الشيخ العالم الفقيه البارع الفرضي الحيسوب الإمام المتفرق العمدة عز الدين كان من أجل أهل عصره في الفقه وأصوله له الباع الطويل في علمي الفرائض والحساب قدم من بلده كفر اللبد في جبل نابلس إلى دمشق سنة إحدى عشرة ومائة وألف وسكن في المدرسة المرادية وطلب العلم ولازم أوحد عصره الشيخ أبا المواهب بن عبد الباقي مفتي الحنابلة بدمشق وأخذ عنه الفقه والحديث وأخذ أيضًا عن تلميذه أبي التقي عبد القادر بن عمر التغلبي فقرأ عليهما كتب عديدة في الفقه كدليل الطالب والمنتهى والإقناع وعدة كتب في الفرائض والحساب منها شرح الرحبية وشرح اللمع وشرح النزهة وشرح الفصول لشيخ الإسلام زكريا وشرح الترتيب للجمال عبد الله الشنشوري وقرأ على الفاضل محمد حفيد الشيخ أبي المواهب المقدم ذكره لما جلس في مكان جده في الجامع الأموي بين العشائين وأعاد له الدرس إلى أن توفي وأجاز له جميع شيوخه وأخذ أيضًا عن الشهاب أحمد بن عبد الكريم الغزي العامري وأجاز له الأستاذ العارف مصطفى بن كمال الدين البكري الصديقي سنة 1147 وترجمه الجد الشمس محمد بن عبد الرحمن الغزي بترجمة حسنة وقال في حقه وكان بارعًا في الفقه كثير الاستحضار لفروعه ماهرًا في الفرائض والحساب حتى كاد أن ينفرد بهذين الفنين بدمشق وكان دينًا صالحا ورعا متواضعًا ومناقبه جمة وكان بيني وبينه محبة في الله

ص: 122

انتهى قلت ودرس صاحب الترجمة بعد وفاة مشايخه في الجامع الأموي وأقبلت عليه الطلبة وانتفعوا به وصار إليه المرجع في عمل الشجرات والمناسخات وكانت وفاته كما قال الجد المذكور في غرة رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف وصلي عليه في الجامع المذكور ودفن بمرج الدحداح رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الواعظ الشيخ علي البرادعي

علي بن أحمد بن عبد الجليل بن إبراهيم الدمشقي الصالحي الشهير بالبرادعي الشيخ الإمام العالم النخبة النحرير العمدة الواعظ الهمام الأوحد أبو

الحسن نور الدين ولد بصالحية دمشق ونشأ بها وتلا القرآن العظيم ثم طلب العلم فأخذ عن مشايخ كثيرين كالشيخ أبي المواهب الحنبلي وتلميذه الشيخ عبد القادر التغلبي والشيخ محمد الكاملي والعارف الشيخ عبد الغني النابلسي ولازمه وحضر دروسه في تفسير القاضي البيضاوي وقرأ على السيد إبراهيم بن محمد بن حمزة في الحديث والمعقولات وانتفع به كثيرا وأخذ عن الملا إلياس الكوراني والشيخ إسماعيل اليازجي ونبل وفضل وتقدم على أقرانه بالعلم والعمل ودرس في المدرسة العمرية وفي داره وأقرأ الحديث في الجامع الجديد بصالحية دمشق وكان له مجلس وعظ تحت القبة عند باب المقصورة بعد صلاة الجمعة لا يتركه صيفا ولا شتاء وولى خطابة جامع سنان باشا وإمامة المدرسة العمرية وكان إذا قرأ العبارة يحفظها من مرة واحدة ولا تغيب عنه لشدة حفظه ولما توفى شيخه الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي تولى غسله بيده وكفنه وواراه التراب بوصية من الاستاذ بذلك وبالجملة فقد كان المترجم من أعيان العلماء وخاتمة الوعاظ بدمشق ولم يزل على طريقته المثلى وحالته الحسنة إلى أن توفي في سابع عشر ذي الحجة سنة خمس وخمسين ومائة وألف وصلى عليه في جامعة السليمية ودفن بسفح جبل قاسيون في الروضة رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ عبد الكريم الجراعي

عبد الكريم بن محيي الدين بن سليمان بن عبد الرحمن بن عبد الهادي بن علي بن محمد بن زيد الدمشقي الشهير بالجراعي الشيخ الصالح البركة الفاضل الهمام الكامل الأوحد عز الدين ولد بدمشق سنة ثمان وتسعين وألف ونشأ بها وطلب العلم فأخذ

ص: 123

الفقه عن الأستاذ أبي المواهب الحنبلي وعن ولده الشيخ عبد الجليل وعن الشيخ عبد القادر التغلبي وأخذ العربية والأصلين عن الشيخ عبد الجليل المذكور وعن الشيخ عثمان القطان والشيخ عبد الرحمن السليمي المجلد وأخذ الحديث والتصوف عن الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي وحضر دروس الحديث تحت القبة على الشيخ يونس المصري نزيل دمشق وأخذ الفرائض والحساب عن الشيخ محمد الخليلي الدمشقي صارت له الملكة التامة في الفقه

وكان شيخا صالحا حسن السيرة سالم السريرة وكانت وفاته بدمشق سنة إحدى وستين ومائة وألف رحمه الله.

*‌

‌ الشيخ محمد البعلي إمام الرابعة وقاضي الحنابلة بدمشق

محمد بن عبد اللطيف بن محمد بن الإمام عبد الباقي الحنبلي البعلي الأصل الدمشقي الشهير بإمام الرابعة الشيخ الفاضل النبيل الذكي التفوق مجير الدين ولد بدمشق ونشأ بها وأخذ عن عم أبيه العلامة المحدث الشيخ أبي المواهب وتلميذه أبي التقي عبد القادر التغلبي والشهاب أحمد بن عبد الكريم الغزي والشمس محمد بن عبد الرحمن الغزي وعليه تخرج وبه انتفع وكان يكتب بيده اليسرى ومع ذلك كان سريع الكتابة وخطه حسن مضبوط وأم بالحنابلة في محرابهم من الجامع الأموي وبها اشتهر وولى قضاء الحنابلة بدمشق بعد وفاة القاضي أسعد الوفائي فسار به على نهج الاستقامة وكان قصير القامة نحيف الجسم خفيف اللحية محببا للناس عشورا مطبوعًا محبًا للعلماء وأهل الدين متحريا أكل الحلال بالكسب من الكتابة وكانت وفاته بدمشق سنة ثلاث وستين ومائة وألف وصلى عليه في الجامع الأموي ودفن بمرج الدحداح ولم يعقب رحمه الله تعالى وإنما سميت صلاة الحنابلة الرابعة لأنها تكون رابعة الصلوات بالجماعة في الجامع الأموي (يقول المختصر) سقى الله أيام انتظام الجماعات فقد ابتدعوا اليوم إقامة الصلوات في أن واحد أما الحنابلة فلا يزالون على الفطرة.

*‌

‌ الشيخ عواد الكوري

عواد بن عبيد الله بن عابد الدمشقي الشهير بالكوري الشيخ الفقيه الواعظ الصالح الناسك العمدة القدوة البركة الأوحد بقية السلف الصالح أبو الفضائل ولد بالكورة وقدم دمشق وقرأ القرآن العظيم وشرع في طلب العلم فأخذ الفقيه والعربية عن الشيخ

ص: 124

الإمام أبي المواهب الحنبلي فقرأ عليه كتاب المنتهى بطرفيه والإقناع وقرأ على ولده أبي الفضل عبد الجليل وعلى الإمام عبد القادر التغلبي وأجازوا له بخطوطهم وأخذ الحديث عن الشهاب أحمد بن عبد

الكريم الغزي العامري والشمس محمد بن علي الكاملي والملا إلياس بن إبراهيم الكوراني وغيرهم ونبل قدره وغزر فضله ودرس في الجامع الأموي بعد وفاة مشايخه وأقبلت عليه الطلبة فكان يقرى في الفقه والعربية واشتهر بالفتوح وكان يغلب عليه الصلاح والتقوى ووعظ في الجامع المذكور على الكرسي وكان محل وعظه وكرسيه تجاه بيت الخطابة وكان الناس يزدحمون على سماع وعظه ويتبركون بتقبيل يديه والانتماء إليه وكانت وفاته بدمشق في صفر سنة ثمان وستين ومائة وألف رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ أحمد بن ذهلان النجدي

أحمد بن ذهلان بن عبد الله بن محمد بن ذهلان النجدي المقرني المتصل النسب بسيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه الشيخ الفاضل العالم الفقيه النخبة العمدة مفتي البلاد النجدية والديار الإحسائية أبو العباس شهاب الدين ولد في بلدة مقرن ونشأ في حجر والده وتلا عليه القرآن العظيم وأخذ عنه الفقه وغيره وأخذ أيضًا عن عالم البلاد النجدية ابن شحيم النجدي وبرع وفضل وصارت فيه البركة التامة في الفقه وولى قضاء بلاد نجد وإفتائها وسار في ذلك سيرًا حسنًا ولم يزل على طريقته المثلى حتى توفي وكانت وفاته سنة تسع وستين ومائة وألف ودفن هناك (قال المؤُلف الغزي) كذا أملاه علينا ولده صاحبنا الشيخ عبد العزيز من لفظه بدمشق رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ أحمد المواهبي

أحمد بن محمد بن عبد الجليل بن أبي المواهب بن عبد الباقي البعلي الأصل الدمشقي مفتي الحنابلة بدمشق الشيخ الفاضل الكامل الشاعر البارع الأوحد أبو العباس شهاب الدين الشهير بالمواهبي ولد بدمشق سنة أربع وعشرين ومائة وألف ونشأ في حجر والده وأخذ الفقه عنه وتلا القرآن العظيم على الإمام المقري عبد الرحمن بن أحمد النابلسي المكتبي وأجاز له جد والده الشيخ أبو المواهب والشمس محمد بن علي الكاملي والبدر محمد بن محمد الخليلي وغيرهم ولما توفي

والده سنة 1048 وجهت له عنه فتوى

ص: 125

السادة الحنابة وبقي مفتيًا لهم إلى وفاته وله شعر لطيف فمنه قوله:

تمتعتما يا ناظري بنظرة

وأوردتما قلبي أشد الموارد

أعيناي كفا عن فؤادي فإنه

من البغي سعى اثنين في قتل واحد

واجتمع بدمشق هو والشمس محمد بن أحمد السفاريني في منتزه بدمشق فانشد صاحب الترجمة مساجلا السفاريني بقوله:

أحبتنا لئن زالت عهود

لكم فعهودنا أبدًا تدوم

وإن طال الفراق بنا تركنا

قلوبا في دياركم تحوم

فقال الشمس السفاريني:

عسى ولعلما فرج قريب

تزول به المصائب والهموم

فعادته إذا ما ضاق أمر

أتي فرج به تبرا الكلوم

وابتنى صاحب الترجمة قاعة في داره فكتب له الأديب سعيد بن محمد الشهير بابن السمان قوله:

لله قاعة أنس طاب موردها

للوافدين وللالاف معهدها

حوت بدائع وشي لا يماثلها

زهر الرياض وزهر الأفق تجسدها

فالسعد في ربعها ألقى مقالده

وداعيات المنى فيها ترددها

قد شادها أحمد الوصف الجميل ومن

به عيون الأماني قر سؤددها

سليل قوم بها الأيام قد فخرت

وافتر عن مبسم الاسعاد مقصدها

لا زال من حادثات الدهر في دعة

من حلها ودواعي اليمن تقصدها

ما صاح في ربعها الأسنى مؤرخها

يا قاعة في مراقي المجد أحمدها

وكان صاحب الترجمة طويل القامة جسيم البدن أشقر اللون وكان له تردد على أعيان دمشق ورؤسائها وجسارة واقدام في الأمور ومشاركة في العلوم وكانت وفاته في العشرين من شعبان سنة اثنين وسبعين ومائة وألف وصلي عليه في

الجامع الأموي ودفن بتربة الذهبية عند قبور أسلافه وتقدمت تراجمهم جميعًا رحمهم الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ عمر الطوراني مفتي الحنابلة ببغداد

عمر بن مصطفى الشهير بالطوراني البغدادي الشيباني أحد خدام حضرة العارف

ص: 126

الرباني سيدي الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس الله سره الشيخ الصالح الفاضل النبيل البارع المتفوق نجم الدين ولد ببغداد ونشأ بها وقرأ على فضلائها فأخذ العلوم العقلية والنقلية عن الجمال عبد الله بن حسين السويدي الشافعي والعالم ياسين بن عبد القادر الهبتي الشافعي وتولى رياسة المؤذنين بجامع الأستاذ المنوه به وإفتاء السادة الحنابلة ببغداد واستمر على ذلك مدة من السنين يفتي ويقريء ويفيد ثم توجه لدار السلطنة العلية قسطنطينية المحمية وتزج بها وسكنها إلى أن توفي وكانت وفاته سنة أربع وثمانين ومائة ألف رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ عبد الله الحطابي

عبد الله بن شحاده السفاريني النابلسي الشهير بالحطاب الشيخ العالم الذكي الماهر المتقن المتفنن المحصل اللبيب الأوحد زكي الدين أخذ عن عالم الديار النابلسية الشيخ محمد السفاريني ثم قدم دمشق وأقام بها للأخذ والتحصيل فأخذ الفقه وأصوله عن شيخنا الشهاب أحمد بن عبد الله البعلي والعربية عن الشهاب أحمد بن علي المنبني قرأ عليه مغني اللبيب بطرفيه والأصول عن المحقق عليم الله بن عبد الشكور الهندي نزيل دمشق ثم رجع إلى دياره وكان يكتب الخط الحسن وكتب بخطه الأساس في اللغة للزمخشري وما زال منقطعًا في خدمة شيخه السفاريني المذكور حتى اخترمته المنية وكان نحيف الجسم ومع ذلك كانت له قوة زائدة على التهجد وقيام الليل وتلاوة القرآن وله فهم رائق وشعر فائق ومحاضرة لطيفة تؤذن برتبة منيفة وكانت وفاته سنة سبع وثمانين ومائة وألف ودفن بنابلس رحمه الله.

*‌

‌ العلامة الشيخ محمد السفاريني - صاحب العقيدة

محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني الشهرة والمولد النابلسي شيخنا الشيخ الإمام والحبر البحر الهمام العالم العامل والنحرير الكامل العلامة المحقق والفهامة المدقق صاحب التآليف الكثيرة والتصانيف الشهيرة بهجه الفقهاء والمحدثين شمس الدنيا والدين خاتمة الحنابلة في الديار النابلسية صاحب الفيوضات الآلهية والعلوم اللدنية عمدة المتأخرين حجة المناظرين مخرج الفروع على الأصول

ص: 127

الجامع بين المعقول والمنقول مطرز أردية الفتاوى النحرير مرجل هامات المباحث بتيجان التقرير سيد أهل التحقيق على التحقيق وسعد أرباب التدقيق بنظرة التدقيق - ولد رضي الله عنه بقرية سفارين من قرى نابلس سنة أربع عشرة ومائة ألف ونشأ بها وتلا القرآن العظيم ثم رحل منها إلى دمشق لطلب العلم مشمرا عن ساق الاجتهاد فقرأ على المتصدرين بها إذ ذاك من الأئمة كالأستاذ العارف الشيخ عبد الغني النابلسي الحنفي وجدي الشمس محمد بن عبد الرحمن الغزي الشافعي وأخذ الفقه عن جماعة كالشيخ عبد القادر التغلبي والشيخ مصطفى بن عبد الحق اللبدي وأخذ التفسير والحديث عمن ذكر وعن العلامة الشهاب أحمد بن علي المنيني والشيخ عبد الرحمن السليمي الشهير بالمجلد والشيخ مصطفى السواري شيخ المحيا النبوي بدمشق وانتفع ونفع وساد وبرع وبعد أن امتلأت صدفته بجواهر العلوم وطفح حوضه بماء المفهوم رجع من دمشق إلى قرية سفارين واستقام بها مدة ثم ارتحل منها إلى مدينة نابلس وتوطنها إلى وفاته وكان رحمه الله تعالى جليلا جميلًا صاحب سمت ووقار ومهابة واعتبار وكان كثير العبادة والأوراد ملازمًا على قيام الليل يحث الناس دائمًا عليه وكانت مجالسته لا تخلو من فائدة وكان يشغل أوقاته بالإفادة والاستفادة ويطرح المسائل على الطلاب والأقران وتدور بينه وبينهم المحاورات المفيدة وكان صادعا بالحق لا يماري فيه ولا يهاب بل كان يهابه الجميع من أعيان بلده وأمرائها يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وكان خيرًا جوادا لا يقتني شيئًا من الأمتعة والأسباب

الدنيوية سوى كتب العلم فإنه كان حريصًا على جمعها ويقول دائمًا أنا فقير من الكتب وكان ينفق كل ما يدخل إلى يده من الدنيا وعاش مدة عمره في بلده عزيزًا موقرًا محتشما وألف التآليف العديدة وصنف الأجوبة السديدة فمن تآليفه شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد في مجلد ضخم. وشرح نونية الصرصري سماها معارج الأنوار في سيرة النبي المختار في مجلدين. وتحبير الوفا في سيرة المصطفى مجلد وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب مجلد ضخم. والبحور الزاخرة في علوم الآخرة مجلد ضخم. وكشف اللثام في شرح عمدة الأحكام. ونتائج الأفكار في حديث سيد الاستغفار

ص: 128

والجواب المحرر في الكشف عن حال الخضر والاسكندر. وعرف الزرنب في شأن السنيدة زينب. والقول العلي في شرح أثر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. وشرح منظومة الكبائر الواقعة في الإقناع. ونظم الخصائص الواقعة فيه أيضًا. والدر المنظم في فضل شهر الله المحرم. وقرع السياط في قمع أهل اللواط. والملح الغرامية في شرح منظومة ابن فرح اللامية. والتحقيق في بطلان التلفيق (يقول المختصر هذه الرسالة ردَّ بها صاحب الترجمة على العلامة الشيخ مرعي الذي أفتى بجواز التلفيق ثم أن العلامة الجد الشيخ حسن الشطي تعقب الشيخ المترجم في هذه المسألة وناقشه فيها فأورد الرسالتين والمناقشة في باب الإِمامة من كتابه "تجريد زوائد الغاية والشرح" وأيد ما ذهب إليه الشيخ مرعي وكثير من العلماء من جواز التلفيق بشرطه وهو أن لا يكون بقصد تتبع الرخص وقد جردت هذا البحث برمته من كتاب الجد رحمه الله وطبعته في رسالة مستقلة سنة 1328 فليرجع إليها ولواقح الأفكار السنية في شرح منظومة الحافظ أبي بكر بن أبي داود الحائية مجلد (وقد سبق إثباتها في ترجمته في هذا المختصر) وتحفة النساك في فضل السواك والدرة المضية في عقد الفرقة المرضية. وشرحها المسمى لوامع الأنوار البهية وسواطع الآثار الأثرية مجلد ضخم (هذا الكتاب من أعظم كتب الشيخ الدالة على سعة علمه وقوة حجته وقد طبع بمصر سنة 1325 وعم النفع به) وتناضل العمال بشرح فضائل الأعمال. والدرر المصنوعات في الأحاديث الموضوعات. ورسالة في بيان الثلاث والسبعين فرقة والكلام عليها. واللمعة في فضائل الجمعة. والأجوبة النجدية عن الأسئلة النجدية والأجوبة الوهبية عن الأسئلة الزعبية.

وشرح دليل الطالب لم يكمل وتعزية اللبيب بأحب حبيب وغير ذلك - وأما الفتاوي التي كتب عليها الكراس والأقل والأكثر فكثيرة ولو جمعت لبلغت مجلدات وبالجملة فقد كان غرة عصره وشامة مصره لم يخلف بعده مثله وكان يدعى للملمات ويقصد في المهمات جسورًا على ردع الظالمين وزجر الباغين إذا رأى منكرًا أخذته رعدة وعلا صوته من الحدة وإذا سكن غيظه وبرد قيظه يقطر رقة ولطافة وحلاوة وظرافة وله الباع الطويل في علم التاريخ وحفظ وقائع الملوك والأمراء والعلماء والأدباء وكان يحفظ من أشعار العرب العرباء والمولدين شيئًا كثيرًا وله من الشعر في المراسلات والغزليات والوعظيات والمرثيات شيء كثير فمنه قوله:

ص: 129

مالي تحيرت دون الناس في أمري

أحس قلبي على مستوقد الجمر

أجوب في الأرض وحدي لا أرى أحدًا

أشكو إليه غراما حل في صدري

وقوله:

أحبة قلبي تزعموا أن حبكم

صحيح فإن كنتم كما تزعموا زوروا

وأحيوا فتى فت الغرام فؤاده

وإلا فدعوى حبكم كلها زور

وقوله وكتبه على شرح الملتقى للسيد مصطفى التميمي ارتجالا:

شرح عليه من القبول دلائل

ومن النقول عن الفحول غلائل

وبه البحوث عن الليوث وفيه من

علم الفروع مع الأصول مسائل

وإذا تصفحه اللبيب بدا له

فقه عليه من الجمال خمائل

وإذا رآه أخو النباهة والحجى

هاجت عليه من الغرام بلابل

إلى آخره. وقوله:

الصبر عيل من القلى

والنفس أمست في بلا

والجفن جف من البكا

والقلب في الشجوى غلى

وشكا اللسان فقال في

شكواه لا حول ولا

وقوله:

ومن العجائب والعجائب جمة

تسطو الظباء فتفرس الأسادا

وتقلب الأحوال في ذا الدهر قد

جعل الحمير الناهقات جيادا

وله غير ذلك من الأشعار والنظام والنثار وكانت وفاته في مدينة نابلس في شوال سنة ثمان وثمانين ومائة وألف ودفن من يومه في تربتها الشمالية وقبره ظاهر يزار ويتبرك به رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيرًا.

*‌

‌ الشيخ إبراهيم المواهبي

إبراهيم بن محمد بن عبد الجليل بن أبي المواهب بن عبد الباقي الدمشقي الشهير بالمواهبي مفتي الحنابلة بدمشق الشيخ الفاضل الصالح الكامل الفقيه البارع النبيل النبيه برهان الدين ولد بدمشق سنة خمس وأربعين ومائة وألف ونشأ بها وتلا القرآن العظيم على شيخنا مقري دمشق الشيخ محمد بن عبد الرحمن المكتبي النابلسي واشتغل

ص: 130

بعد ذلك بطلب العلم فقرأ الفقه والعربية عَلَى أمين فتواه في حياته شيخنا الشهاب أحمد بن عبد الله البعلي وعلى غيره وله إجازة من والده الشمس محمد المقدمة ترجمته ولما توفي أخوه الشهاب أحمد في سنة 1172 جلس مكانه للفتوى ووجهت له بمرسوم من قاضي القضاة بدمشق وبقي مفتيا إلى وفاته وكانت له عدة وظائف دينية وجهت له عن والده وأخيه فقام بها أحسن قيام وكان شهما متواضعا لين الجانب ذا ابهة ووقار نحيف الجسم فقيرًا صابرًا وامتحن فخلصه الله تعالى منها بحسن إخلاصه وبياض سريرته ولم يزل على أحسن حالة حتى توفي وكانت وفاته يوم الأربعاء رابع شوال سنة ثمان وثمانين ومائة وألف وصلي عليه بالجامع الشريف الأموي ودفن عند أسلافه بتربة الغربا من مرج الدحداح قرب قبر العارف الشيخ أيوب بن أحمد الخلوتي من جهة الشمال وأعقب ولدين ذكرين وفقهما الله تعالى.

(يقول المختصر محمد جميل الشطي) كان صاحب الترجمة آخر مفاتي الحنابلة من بني المواهبي بل آخر من عرف من هذه الأسرة الكريمة والسلسلة

العلمية التي كان أولها مسند دمشق العلامة الشيخ عبد الباقي الحنبلي جد جد صاحب الترجمة والله أعلم هل كان سبب انقراضهم واندراس رسومهم ترك العلم والاتكال على شهرة الآباء كما فعل الله ذلك بكثير من العائلات العلمية قديمًا وحديثًا - أو سلب الرياسة والوصائف من أيديهم حيث كانت تنشطهم للعلم والعمل فتحيي ذكرهم وتجعل خلفهم يتبع سلفهم أوامر أراده الله تعالى ألا وأن لكل نجم أفولا ولكل ناضر ذبولا "ولكل أجل كتاب" فسبحان الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية.

*‌

‌ العلامة الشيخ أحمد البعلي

أحمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن مصطفى الحلبي المحتد ثم البعلي الدمشقي المولد والسكن والوفاة مفتي السادة الحنابلة بدمشق بعد تلميذه المترجم قبله الشيخ الإمام العلامة العامل الفقيه الفرضي الحيسوبي الصوفي الخلوتي الخاشع الناسك النحرير الأوحد شيخنا وأستاذنا شهاب الدين كان مولده في ثامن رمضان سنة ثمان ومائة وألف بدمشق ونشأ بها في كنف والده وتلا القرآن العظيم ثم شرع في طلب العلم مشمرًا عن ساق الاجتهاد فأخذ التفسير والحديث وألفه عن والده الجمال

ص: 131

عبد الله بن أحمد البعلي وعن خاتمة المسندين الشيخ أبي المواهب مفتي الحنابلة بدمشق وعن حفيده الشيخ محمد بن عبد الجليل المواهبي والشيخ عبد القادر بن عمر التغلبي والشيخ عواد بن عبيد الله الكوري والشيخ مصطفى بن عبد الحق اللبدي وأخذ التفسير والحديث أيضًا وباقي العلوم عن جماعة كالأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي وجدي الشمس محمد بن عبد الرحمن الغزي العامري والمحدث الشيخ إسماعيل العجلوني الجراحي والشمس محمد بن علي الكاملي وولده العز عبد السلام وابن عمنا الشهاب أحمد بن عبد الكريم الغزي مفتي الشافعية بدمشق والشيخ محمد بن عيسى البناني الصالحي ولما قدم دمشق عالم الحجاز الشمس محمد بن عقيلة المكي سمع منه حديث الأولية وأجاز له بما تجوز له روايته وحج صاحب الترجمة سنة 1165 فأخذ بالمدينة المنورة عن الشيخ الإمام جعفر بن حسن بن

عبد الكريم البرزنجي وجميع من ذكر كتبوا له إجازات بخطوطهم وقفت عليها فرأيتها مشحونة بالثناء عليه وقد ألف شيخنا المترجم مؤلفات نافعة فمنها الروض الندي بشرح كافي المبتدي وذخر الحرير بشرح مختصر التحرير للتقي الفتوحي ومنية الرائض لشرح عمدة كل فارض وغير ذلك من التعليقات في الحساب والفرائض والفقه ودرس بالجامع الأموي فأفاد وأجاد وانتفع الناس به طبقة بعد طبقة وكان يأكل من كسب يمينه في حياكة "الألاجه" وفي آخر عمره ترك ذلك لعجزه وحج ودرس بالمدينة المنورة ولازمه جماعة من أهلها وما زال عَلَى أحسن حال وأبدع منوال إلى أن توفي في محرم سنة تسع وثمانين ومائة وألف ودفن بمقبرة الباب الصغير رحمه الله تعالى.

(يقول المختصر) إلى صاحب الترجمة ينتهي سند الفقه في ديارنا الشامية الآن بروايته عن الشيخ أبي المواهب عن والده الشيخ عبد الباقي الحنبلي صاحب الثبت المشهور جزاهم الله عنا خيرًا.

*‌

‌ الشيخ عبد الرحمن البعلي

عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد البعلي الخلوتي شقيق الذي قبله الشيخ الإمام العالم العامل الأديب البارع الفقيه المقري المفنن الأوحد زين الدين ولد بدمشق ضحوة يوم الأحد ثاني عشر جمادي الأولى سنة عشر ومائة وألف ونشأ بها وتلا القرآن على والده

ص: 132

في مدة يسيرة واشتغل بطلب العلم فقرأ على أبي الفضائل عواد بن عبيد الله الكوري في مقدمات العلوم ولازم دروس الأستاذ أبي المواهب بن عبد الباقي الحنبلي في الفقه والحديث نحو خمس سنين ودروس الفقيه الشيخ عبد القادر التغلبي في علوم شتى مدة خمس عشرة سنة وأجازاه إجازة عامة ثم لازم بعدها الشيخ محمد الموهبي حفيد أبي المواهب المذكور نحو تسع سنوات وأجازه وأخذ التفسير والتصوف عن العارف الشيخ عبد الغني النابلسي وحضر عليه الفتوحات المكية والفصوص وشرح الديوان الفارضي ولازمه نحو ثمان سنوات وأجازه إجازة عامة بخطه وأخذ طريق الخلوتية ومقدمات في الأدب عن الشيخ محمد الكناني الخلوتي ولازمه نحو خمسة عشر سنة وأجاز له وأخذ

أيضًا عن غير هؤلاء ثم ارتحل إلى الروم ورجع منها إلى حلب سنة 1144 فأخذ جملة من المنطق والأصلين عن الشيخ صالح البصري والشيخ محمد بن الزمار والشيخ قاسم البكرجي وقد ذكر سائر مشايخه في ثبته وعظم أمره واشتهر ذكره وله شعر لطيف جمعه في ديوان فمنه قوله مقتبسًا:

أعبد الله وأجاهد

فإذا فرغت فانصب

والزم التقوى خلوصًا

وإلى ربك فارغب

وله غير ذلك وكانت وفاته بحلب سنة اثنين وتسعين ومائة وألف ودفن بها رحمه الله تعالى (يقول المختصر) اطلعت عندنا على شرح لصاحب الترجمة على كتاب أخصر المختصرات للشمس محمد البلباني في مجلد تاريخ تأليفه سنة 1138 وعلى ظهر الشرح المذكور هذان البيتان منسوبين إلى المؤلف وهما:

عدة كتب ذا الكتاب عشره

مع ثمان كلها مشتهرة

أبوابه سبع فصول مائة

وستة وهي به منتشره

*‌

‌ الشيخ محمد اللبدي

محمد بن مصطفى بن عبد الحق اللبدي الأصل والشهرة الدمشقي المولد والوفاة مفتي السادة الحنابلة بدمشق بعد شيخنا الشهاب البعلي الشيخ العالم الفاضل الكامل المتفوق الفرضي الحيسوب الفقيه النحرير الصالح الناسك الهمام الأوحد مصلح الدين أحد أشياخنا الأئمة الأعلام كان مولده بدمشق سنة أربعين ومائة وألف ونشأ بها في كنف

ص: 133

والده المقدم ذكره وتلا القرآن العظيم على شيخنا محمد بن عبد الرحمن المكتبي وشرع في طلب العلم فأخذ الفقه عن شيخنا البعلي المقدم ذكره وأخذ بقية العلوم عن شيخنا علاء الدين علي بن صادق الطاغستاني وقرأ الأربعين النووية مع شرحها لابن حجر المكي وأول البخاري على الإمام عبد الرحمن بن جعفر الأزرملي نزيل دمشق وأجاز له وأخذ النحو عن الشيخ البركة أسعد بن عبد الرحمن المجلد السليمي ودرس في الجامع الأموي وانتفعت به الطلبة وخصوصًا الحنابلة ولم يزل على طريقة مثلى حتى توفي

وكانت وفاته قبيل فجر يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة سنة إحدى وتسعين ومائة وألف وصلي عليه عقب صلاة الظهر بالجامع الشريف الأموي ودفن بمرج الدحداح قريبًا من قبر شيخ شيوخه العلامة عبد القادر بن عمر التغلبي تجاه باب الجبانة الكبرى وأعقب ثلاثة أولاد ذكور رحمه الله تعالى.

*‌

‌ القاضي عبد الرحيم البرادعي

عبد الرحيم بن علي بن أحمد بن عبد الجليل بن إبراهيم الدمشقي الصالحي الشهير بالبرادعي الشيخ الفاضل الهمام الأوحد الكاتب الماهر قاضي الحنابلة بدمشق كان مولده بصالحية دمشق سنة سبع عشرة ومائة وألف ونشأ في كنف والده المقدمة ترجمته وقرأ القرآن العظيم على السيد ذيب بن أصلان البعلي المكتبي وشرع في طلب العلم فأخذ الفقه عن والده وعن الفقيه محمد بن عبد الجليل المواهبي وحضر دروس العارف الشيخ عبد الغني النابلسي وأخذ عن غيرهم ونبل قدره وعظم مجده وفخره وولي قضاء الحنابلة بدمشق مدة تزيد على ثلاثين سنة ولم يزل على طريقته المثلى إلى أن توفي وكانت وفاته يوم الاثنين خامس شهر ربيع الأول سنة أربع وتسعين ومائة وألف وصلى عليه بجامع السلطان سليم خان العثماني بصالحية دمشق ودفن بالروضة من السفح القاسيوني بجانب والده رحمه الله.

*‌

‌ السيد إسماعيل الجراعي مفتي الحنابلة بدمشق

إسماعيل بن عبد الكريم بن محيي الدين بن سليمان بن عبد الرحمن بن عبد الهادي بن علي بن محمد بن زيد الشهير بالجراعي الدمشقي الشريف لأمه النابلسي الأصل مفتي السادة الحنابلة بدمشق الشيخ الفاضل الأديب الفقيه الفرضي المحصل البارع المتفوق

ص: 134

ولد بدمشق في خامس ذي القعدة سنة أربع وثلاثين ومائة وألف ونشأ بها في كنف والده المقدمة ترجمته وتلا القرآن العظيم على الشيخ إسماعيل بن محمد اللبدي وأخذ علم القراءات عن الشيخ إبراهيم بن عباس الحافظ شيخ الأقراء بدمشق وعن الشيخ عبد الرحمن القاهري

مقري الديار المصرية حين قدم دمشق وأخذ عقائد تقي الدين بن تيمية الحراني وموفق الدين بن قدامة الصالحي والشمس محمد البلباني عن والده وأخذ عنه أيضًا الفقه والفرائض والحساب وأخذ النحو والمنطق والأصلين عن الشيخ أسعد بن عبد الرحمن المجلد السليمي والجد شيخ الإسلام (أو مفتي الشافعية بدمشق) الشمس محمد الغزي العامري والشهاب أحمد المنيني والجمال عبد الله البصروي والشرف موسى المحاسني والعماد إسماعيل العجلوني والعلامة علي الطاغستاني وأخذ الفقه أيضًا عن الشيخ عواد الكوري والشيخ مصطفى اللبدي والشيخ إسماعيل اللبدي المذكور وأخذ علم الحديث عن الشيخ صالح الجينيني وعن العجلوني المقدم ذكره وحضره في مجالس الحديث تحت القبة بالجامع الأموي ونبل قدره وغزر فضله وارتحل إلى قسطنطينية المحمية مرارًا وحظي ببعض الوظائف السلطانية من العثامنة والتداريس بدمشق واجتمع بأفاضل الروم وصدورها وفي سنة 1195 وجهت له فتوى الحنابلة بدمشق وعزل عنها الشيخ محمد بن أحمد البعلي الدمشقي ثم عزل عنها ووجهت للبعلي المرقوم ولم يزل كل منهما يعزل صاحبه حتى استقر أمرها لصاحب الترجمة وبقيت عليه إلى وفاته ودرس في الجامع الشريف الأموي بعد وفاة الشيخ محمد اللبدي وأقبلت عليه الطلبة من الحنابلة وغيرهم وتولى وظيفة التكلم على أوقاف الجامع المظفري بصالحية دمشق وكان كثير المخالطة لأمور الناس وألف مؤلفات نافعة فمنها شرح دليل الطالب في مجلدين قرظه له العلماء من أهل المذهب وغيره وشرح غاية المنتهى لم يكمله وشرح قصيدة ابن أبي عوانة الشاعر الجاهلي التي مطلعها:

أفاطم لو شهدت ببطن خبت

وقد لاقى الهز بر أخاك بشرا

وله عدة مقامات أنشأها في وقائع مخصوصة أوقفني على بعضها فرأيته في غاية النفاسة وكان بيني وبينه من المحبة والمودة ما لا مزيد عليه (هذا عجيب من المؤلف الغزي إذ صاحب الترجمة أكبر من والده فهو من طبقة شيوخه لا محالة وليت شعري ماذا يريد بهذا

ص: 135

وأمثاله مما وجدته في الأصل بخطه سامحه الله) وكان طويل القامة بشوشًا متواضعًا لطيف المحاضرة حلو المذاكرة بديع النكتة والنادرة ذا همة عالية في قضاء حوائج الناس مبادرًا إلى رد الحقوق إلى أهلها وله شعر

لطيف وكانت وفاته يوم الاثنين حادي عشر جمادي الأولى سنة اثنين ومائتين وألف بداره بزقاق الشالق بمحلة سويقة صاروجا وصلي عليه بجامع التوبة بعيد العصر ودفن بتربة مرج الدحداح قرب قبورنا رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ حامد اللبدي النابلسي

حامد بن مصطفى اللبدي الأصل النابلسي الشهرة الدمشقي المولد والوفاة الخلوتي شيخ السجادة الطباخية بدمشق بعد شيخنا البدر حسن المرجاني الشهير بالطباخ الشيخ الصالح البركة الدين الورع السالك الأوحد تقدمت ترجمة أبيه وأخيه وكان مولد هذا بدمشق سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف كما أخبرني بذلك من لفظه ونشأ بها وتلا القرآن العظيم عَلَى الشيخ الصالح سعيد بن محمد الجعفري وأخذ الفقه عن شيخنا الشهاب أحمد البعلي وبه انتفع وعانى صنعة التجليد فكان يأكل من كسب يده ثم تزوج بابنة شيخنا المرجاني المقدم ذكره ولازمه وخدم الطريق الخلوتي مدة ثم لما كان يوم الجمعة في جمادي الثانية سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف دعا البدر المرجاني المذكور جماعة من علماء دمشق إلى حجرته الغربية في الخانقاه السميساطية فعمل حلقة الذكر بعد صلاة الجمعة على عادتهم وأقام صاحب الترجمة خليفة عنه وأشهد من حضر عَلَى ذلك وبالجملة فكان المترجم رجلًا صالحًا ذا شيبة منورة ووجه وضيء بشوشا له تودد للناس ملازمًا لخويصة نفسه ولم يزل على طريقته المثلى وحالته الحسنة حتى توفاه الله تعالى وكانت وفاته يوم الأحد رابع عشري جمادي الثانية سنة خمس ومائتين وألف وصلي عليه وقت صلاة العصر في الجامع الأموي ودفن بمرج الدحداح رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ إبراهيم النجدي

إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان بن أبي يوسف النجدي الأصل والشهرة الأشيقري نسبة إلى بلدة من بلاد نجد نزيل دمشق الشيخ الفاضل الفقيه الفرضي المحصل اللبيب الناسك المتقشف بقية السلف الصالح برهان

الدين ولد في منتصف جمادي

ص: 136

الآخرة سنة ست وأربعين ومائة وألف وقرأ القرآن العظيم على محمد بن أحمد بن سيف وأحمد بن سليمان النجديين وأخذ بعد ذلك في طلب العلم فقرأ في مبادئ الفقه على خاله الشيخ عثمان بن عبد الله وحج من بلادهم ثلاث مرات وفي المرة الأخيرة قدم دمشق صحبة الركب الشامي فدخلها في صفر سنة 1181 واستقام بها لطلب العلم فأخذ الفقه وأصوله عن شيخنا الشهاب أحمد بن عبد الله البعلي والشيخ محمد بن مصطفى اللبدي وأخذ العربية عن شيخنا القطب عمر بن عبد الجليل البغدادي وحضر في الصحيحين على شيخنا الشهاب أحمد بن عبد الله العطار في الجامع الأموي بين العشائين وأخذ الفرائض عن الشيخ إبراهيم الكردي وحضر دروس شيخنا المحقق علي أفندي الطاغستاني ونبل قدره وعلا ذكره ودرس في الجامع المعمور الأموي بعد وفاة شيوخنا وأقبلت عليه الحنابلة وانتفعوا به وصار مرجعا في مسائل المذهب ودقائقه وكان فقيرًا صابرًا عليه سيما العلم والعمل والتقوى وكان متقللا من الدنيا معرضا عن زخارفها لا يتردد إلى أحد من أبنائها مثابرًا على صلاة الجماعة في الجامع الأموي مصون اللسان عن اللغو وبالجملة فهو آخر الفقهاء الحنابلة موتًا بدمشق ولم يزل على هذه الحالة حتى توفي مطعونا شهيدًا طعن ليلة الأربعاء سادس عشر شوال سنة خمس أو ست ومائتين وألف توفي بعيد عصر اليوم المذكور وهو في غاية من اليقظة وصلي عليه في مسجد الشيخ عبد الله المنكلاني بمحلة القيمرية ودفن قبيل الغروب في الجبانة الرسلانية تجاه السور الدمشقي وكثر الأسف عليه رحمه الله تعالى.

‌الشيخ محمد بن عبد الوهاب إمام الطائفة الوهابية وأمير البلاد النجدية

لم يذكره المؤلف الغزي في طبقاته هذه وإنما ذكره العم الفاضل مراد أفندى الشطي في رسالة انتقاها من كتاب أبجد العلوم للعلامة الشهير صديق حسن خان ملك بهوبال فقال ما خلاصته: هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن أحمد بن راشد بن يزيد بن محمد بن يزيد بن مشرف صاحب نجد وإليه تنتسب الطائفة الوهابية وهذا هو المعروف من نسبه ويُذكر أنه من مضر ثم بني تميم ولد سنة خمس عشرة ومائة وألف بالعينية من بلاد نجد ونشأ بها وقرأ القرآن وسمع الحديث وأخذ

ص: 137

عن أبيه وهم بيت فقه حنابلة ثم حج وقصد المدينة المنورة ثم تنقل مع أبيه إلى جريمل قرية من نجد أيضًا ولما مات أبوه رجع إلى العينية وأراد نشر الدعوة فرضي أهلها بذلك ثم خرج عنها بسبب إلى الدرعية وأطاعه أميرها محمد بن سعود من آل مقرن ويذكر أنه من بني حنيفة ثم من ربيعة وذلك في حدود سنة 1159 فانتشرت دعوته في نجد وشرقي بلاد العرب إلى عمان ولم يخرج عنها إلى الحجاز واليمن إلا في حدود المائتين والألف وكانت وفاته سنة ست ومائتين وألف

ومن مؤلفات صاحب الترجمة كتاب فيه نبذة في معرفة الدين الذى معرفته والعمل به سبب لدخول الجنة والجهل به وإضاعته سبب لدخول النار. وكتاب التوحيد المشتمل على مسائل من هذا الباب. وكتاب في مسائل خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عليه أهل الجاهلية من أهل الكتاب وغيرهم وهو مختصر في نحو كراسة. وكتاب كشف الشبهات في بيان التوحيد وما يخالفه والرد على المشركين. ورسالة في أربع قواعد من قواعد الدين في نحو ورقة، وكتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكتاب في تفسير شهادة لا إله إلا الله وكتاب في تفسير الفاتحة، ورسالة في معرفة العبد ربه ودينه ونبيه. ورسالة في بيان التوجه في الصلاة ورسالة في معني الكلمة الطيبة. ورسالة في تحريم التقليد

وهذا جل ما وقفت عليه من تآليفه وفيها ما يقبل ويرد وعلى كتابه التوحيد شرح مبسوط مفيد لحفيده مفتي الديار النجدية الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن صاحب الترجمة سماه فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد ولأتباعه أيضا رسائل منها الرسالة الدينية في معني الألوهية للشيخ عبد العزيز بن محمد بن سعود.

وبالجملة فالشيخ محمد بن عبد الوهاب ممن اختلف فيه اعتقاد الناس فمنهم من أثنى عليه في كل ما وضعه ونشره ودعا إليه وقاتل عليه فانتصر له وافتخر بالانتساب إليه وإلي طريقته، ومنهم من أساء الظن به كل الظن فرد عليه كل نقير وقطمير اختاره وذهب إليه وكفره وبدعه، ومنهم من سلك سبيل الإنصاف فقبل من أقواله ما كان صوابًا ورد ما خالف منها سنةً وكتابًا، ولعمري هذا هو الطريق السوي والصراط المستوي انتهى

(يقول الفقير محمد جميل الشطي) وقد اطلعت عندنا علي أربع رسائل للمترجم وأتباعه كتب عليها سيدنا الجد شيخ الحنابلة في عصره الشيخ حسن الشطى رحمه الله عبارات الرد والصد وقد أُرسلت إليه وقتئذ ليقرظ عليها فيما سمعنا

ص: 138

فمما كتبه عليها بخطه قوله في إحداها: أما بعد فقد تأملت هذه الرسالة المشتملة على تضليل وتكفير المسلمين وتحليل دمائهم وأموالهم ونقل كلام الأئمة وأنه موافق لما ادعاه صاحبها فهي في الافتراء والكذب بمكان عظيم قبح الله وجه جامعها وعامله بعمله السيء وردها واضح لمن كان من أهل الفضل فهي كغيرها من رسائلهم في ذلك فلا حاجة إلى الإطالة ومن طالع الكتاب المسمى بالصواعق والرعود في الرد على ابن سعود قضى بالعجب من أمرهم وأنهم توصلوا بالدين إلى الدنيا وقد أخمد الله فتنتهم وشتت شملهم وبقيت بقية من شيعتهم لأمر أراده الله تعالى وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم انتهى كلام الجد،

قلت: وحادثة الوهابية واستيلاؤهم على المدينة المنورة وما فعلوه بها مشهور كل ذلك وما زالوا مستمرين في سلطتهم وبغيهم يكفرون المسلمين ويدعون إلى ما عندهم من الدين، حتى أوفدت الدولة العثمانية محمد علي باشا بجيشه المصري فحاربهم وأجلاهم عن المدينة المنورة وأوقفهم عند حدهم وكان ذلك في حدود سنة 1250.

هذا وقد قلدوا الشيخ ابن تيمية في مسائل وفارقوه بمراحل ولولا خوف الفتن الدينية والسياسية لما انتسبوا إلى ابن حنبل ولا ابن تيمية فهم وصمة في مذهبنا النقي (وأين الشقي المستهام من التقي) ولم تزل نعرتهم فاشية ودعوتهم متمادية حتى سرت إلى كل فؤاد وذكرها الناس في كل ناد وخطب بها الغمر الجاهل ودعا إليها الغر الغافل وما أشبه هؤلاء بالخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه إذ فروا من الكفر فوقعوا فيه وتمسكوا بالدين فزادوا عليه ولا شك أن الزيادة في الدين نقصان والعطاء في غير محله حرمان ولا سيما أن تكفير المسلمين كفر، والخروج عما عليه سوادهم ضلال وخسر، اللهم إلا من اعتدل فبحث متنورا، وحقق متبصرا، ناهجا منهج السلف الصالحين والحنابلة الأثريين، فقد أفرطت الطائفة الأخرى في حشوها وجمودها ومكابرتها وتقليدها والحق لا يزال بين الإفراط والتفريط ومن نحو هذا الاعتدال كان مشرب أستاذنا العلامة الشيخ جمال الدين القاسمي قدس الله روحه.

وبالجملة فالفرقة الوهابية كما قال العلامة صديق حسن خان أحسن الله إليه يؤخذ من كلامهم ويرد، كما أن فيهم من يعد ومن لا يعد، وقد جرى ذكر مسائلهم في دمشق سنة 1319 فرد عليهم كل من العالمين الأستاذين الشيخ عطا أفندي الكسم والعم الشيخ مصطفى أفندى الشطي. فألف الأول رسالته الأقوال المرضية

ص: 139

في الرد على الوهابية، وألف الثاني رسالته النقول الشرعية في الرد على الوهابية. ثم إنه ألف العلامة الشيخ يوسف النبهاني كتابه شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق طعن فيه على الشيخ جمال الدين الأفغاني وتلميذه العلامة الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية وتلميذه صاحب مجلة المنار بمصر وعلى العلامة الكبير محمود أفندي الآلوسي مفتي بغداد وولده العلامة نعمان أفندي وابن أخيه السيد محمود شكرى أفندي وتكلم فيهم بكلمات جارحة. فانتدب هذا ورد على النبهاني المذكور بكتاب أطنب فيه وأسهب سماه غاية الأماني في الرد على النبهانى، ثم عمل الشيخ النبهاني أيضا قصيدته الرائية الصغري ورد فيها على من ذكر أيضاً فقابله بعض علماء نجد بثلاث قصائد من بحره وقافيته وكل ذلك مطبوع مشهور. ثم اطلعت على قصيدة أيضًا لبعض أصحابنا الفضلاء سماها الطامة الكبري على الرائية الصغرى كفانا الله الجدال ورزقنا الاعتدال في كل الأحوال

*‌

‌ الشيخ عبد الكريم الحيري

عبد الكريم بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن علي بن يوسف بن إبراهيم الحلبي الحيري المحتد والشهرة الشيخ الفاضل البارع الذكي المتفوق النحرير الهمام الأوحد عز الدين ولد بحلب في ثالث ربيع الثاني سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف وقرأ القرآن العظيم على البدر حسن بن أحمد السرميني الشافعي وأخذ عنه شيئًا من الفقه والعربية ثم طلب العلم فقرأ بحلب على الشيخ علي بن الزمار وعلى والده الشيخ محمد وأخذ بها عن الشريف مصطفى البكفالوني وعن قاسم بن أحمد البكرجي وأجاز له بمروياته وعن الشريف يوسف أفندي الشامي نقيب حلب وعن الشيخ طه الجبريني والسيد عبد السلام الحريري والشيخ علي بن مصطفى الدباغ الميقاتي مسند حلب وأجاز له ثم رحل إلى القاهرة سنة 1150 وأخذ بها عن جماعة من صدور علمائها كالشهاب الملوي والشهاب الجوهري والشهاب الدمنهوري والشمس الحفني وأخيه الجمال يوسف

ثم رجع إلى بيت المقدس وهو فاضل فأخذ بها عن الأستاذ مصطفى بن كمال الدين البكري وأجاز له وكان والد صاحب الترجمة قدم إلى دمشق سنة 1140 ومعه المترجم فاجتمع بالقطب الشيخ عبد الغني النابلسي وأخذ عنه ثم قدم دمشق أيضًا فأخذ عن الأستاذ الشيخ إسماعيل العجلوني والشيخ موسى المحاسني والشيخ محمود الكردي والشيخ علي الكزبري واجتمع بالولي الشيخ أحمد النحلاوي

ص: 140

وأخذ الطريقة القادرية بمصر عن الشيخ علي البيومي وألبسه الخرقة وأجازه ثم دخل حلب مسقط رأسه ودرس بجامعها وبالمدرسة العلمية ثم ذهب لدار السلطنة العلية قسطنطينية المحمية وتردد إليها مرارًا وولى القضاء مرارًا في عدة بلاد من الروم وحمدت سيرته ولازم من محمد حياتي زاده مفتي التخت العثماني ثم صار له اعتبار الخارج من فيض الله أفندي داماد زاده مفتي التخت المزبور ولم يزل يتنقل بالاعتبارات حتى وصل إلى اعتبار ابتداء التمثلي وكان لطيف الذات حلو المحاورة ظريف المذاكرة منور الوجه مضيء الشيبة وله شعر قليل أنشدني من لفظه لنفسه قوله مضمنا:

رسول الله ضاق بي الفضاء

وجل الخطب وانقطع الاخاء

وجاهك يا رسول الله جاه

رفيع ما لرفعته انتهاء

وبي وجل شديد من ذنوبي

وما أدري أعفو أم جزاء

وما كانت ذنوبي عن عناد

ولكن بالقضا غلب الشقاء

رسول الله حقق فيك ظني

فجودك ليس لي عنه غناء

سمعنا فيك مدحًا فابتهجنا

وسر قلوبنا هذا الثناء

وأجمل منك لم تر قط عين

وأكمل منك لم تلد النساء

خلقت مبرأً من كل عيب

كأنك قد خلقت كما تشاء

وقدم المترجم أخيرًا إلى دمشق في سنة 1204 ونزل بدار شيخ الإسلام العلامة الأثري أبي الفضل السيد محمد خليل أفندي المرادي مفتي دمشق (رحم الله روحه) فأكرمه وأحسن نزله واجتمعت به إذ ذاك وأخذت عنه وأجازني بعد إسماع الحديث المسلسل بالأولية وسمعت من فوائده ولطائفه ثم لما ذهب المولى

المزبور إلى حلب رجع المترجم صحبته إليها وبقى عَلَى أحسن سيرة وأطيب سريرة حتى توفي بحلب في شهر ربيع الأول سنة سبع ومائتين وألف رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ محمد أبو شعر وشعير

ذكره المؤلف في كتابه المورد الأنسي في ترجمة الشيخ عبد الغني النابلسي فقال هو محمد بن عبد الله بن محمد بن علي المعروف بأبي شعر وشعير النابلسي الأصل الدمشقي المولد والسكن والوفاة الشاغوري الشريف لأمه الفاضل الكامل الولي الصوفي المبارك

ص: 141

التقي النقي الأوحد بحر العلوم والأذواق شيخا تقي الدين قدم والده من بلدة نابلس إلى دمشق وتوطنها وتزوج بوالدة المترجم وهي أخت شيخنا (أو شيخ شيوخنا) الشهاب أحمد البعلي ولد صاحب الترجمة بدمشق سنة ثمان وعشرين ومائة وألف ونشأ بها في حجر والده المذكور وقرأ القرآن العظيم وطلب العلم وأخذ عن جماعة من العلماء منهم خاله الشهاب المذكور ثم أحضره والده بين يدي الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي واستجاز له منه فأجازه بما يجوز له وصافحه ثم سأله عن اسمه فقال له والده محمد فقال الأستاذ وأنا ألقبه بتقي الدين ثم أوصاه به وقال له احترس عليه فسيكون له شأن عظيم وقد صار لشيخنا المترجم أحوال عجيبة وأطوار غريبة؟ واعتقده العامة والخاصة حتى الوزراء والحكام يهدونه الهدايا الجليلة وينذرون له النذور لمآرب لهم فتقضى ويوفون بنذورهم ويقبلون شفاعاته ومن مؤلفاته كتاب عقيدة الغيب والصلوات المعروفة؟ وكانت وفاته عشية يوم الجمعة ثامن عشر شوال سنة سبع ومائتين وألف وصلي عليه بجامع سنان باشا ودفن بتربة الباب الصغير داخل بناء على جادة الطريق وقبره مشهور يزار ويتبرك به (يقول المختصر) أن الصلوات المنسوبة إلى صاحب الترجمة كلها ألفاظ سافلة رذيلة لا ندري كيف نأولها وعلى أي محمل نحملها مع اتفاق الجميع على اعتقاد ولايته وعلو قدره حتى أن العلامة المحدث الشيخ عبد الرحمن الكزبري ذكره في ثبته في عداد شيوخه وأثنى عليه كما أثنى عليه في هذه الترجمة المؤلف السيد كمال الدين الغزي مفتي

الشافعية بدمشق والذي أراه في مثل صاحب الترجمة من أرباب الأحوال السكوت عنهم بلا اعتقاد ولا انتقاد.

والسلام

فساد كبير عالم متهتك

وأكبر منه جاهل متنسك

هما فتنة في العالمين عظيمة

لمن بهما في دينه يتمسك

تم الجزء الثاني من مختصر طبقات الحنابلة رضي الله عنهم على يد الحقير محمد جميل الشطي الإمام الحنبلي بدمشق.

غفر الله له

ص: 142

‌كلمة للمختصر

إلى هنا انتهى ما اختصرناه من ذيل الفاضل السيد كمال الدين الغزي الشافعي جزاه الله خيرًا ولا بد لنا من كلمة في هذا الذيل وكيف وجدناه وكيف اختصرناه فقد كنا اطلعنا على نسخة المؤلف بخطه وتمتعنا بها زمنًا فوجدناها مخرومة بنقص طبقتين من سنة 1100 إلى سنة 1150 فاستدركناه بما وجدناه في تاريخ المرادي مختصرًا معزوًا على عادتنا. وأعظم من هذا ما تركه المؤلف خلال التراجم بياضًا لم يكتب فيه شيئًا ما بين سطر وصحيفة يريد الرجوع إليه كما وصل في كتابه إلى أبي شعر وشعير فأدركته المنية قبل بلوغ الأمنية وقد تصرفنا فيما كان من هذا القبيل واقعًا فيما اخترناه من التراجم بنقل عن مآخذ أخرى وتقريب بعض العبارات من بعض. ثم أن المؤلف عليه الرحمة كان مشربه في كتاب الاطناب في كثير من المواضع والتمدح في بعض الرجال؟ وغير ذلك ولذا فقد عنينا بتهذيب هذه الزوائد كي يشاكل الكتاب نوعًا ما كتاب العليمي الكاتب المجيد رحمة الله عليه ويكون له روح عصرية في الجملة حتى أننا حذفنا مقدمته وترجمة الإمام منه اكتفاء بترجمة العليمي الطويلة البديعة ونرجو أن يكون بذلك قد أحسنا عملا وخدمنا المؤلف وأحيينا أثره وعلى كل حال فهو جدير بالشكر

والثناء عَلَى فضله وسبقه لهذا الذيل مع تقصير الحنابلة أنفسهم في جمع مثله والحمد لله أولًا وآخرًا.

وكان الفراغ من طبع هذا الجزء في 25 ربيع الثاني سنة 1339. ويليه ذيله للمختصر وفقه الله تعالى.

ص: 143

(يقول جامع هذه الطبقات ومختصرها محمد جميل الشطي هذا أول ما جمعته من تراجم علمائنا المتأخرين من الحد الذي وقف عليه العلامة الغزي إلى يومنا هذا)

ولنذكر قبل الشروع في ذيلنا نبذة من ترجمة سلفنا الغزي المشار إليه كما فعل هو بسلفه عند استفتاح ذيله وذلك تنويهًا بفضله وشكرًا على صنعه وإن يكن غير حنبلي فإنه أخذ عن الحنابلة وخدمهم جزاه الله خيرًا بما لم يخدموا به أنفسهم فنقول ملخصين ترجمة عن تاريخنا روض البشر في أعيان القرن الثالث عشر الذي عنينا بجمعه منذ سنة 1323.

هو أبو الفضل كمال الدين محمد بن محمد شريف بن شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن زين العابدين بن زكريا بن بدر الدين محمد بن رضى الدين محمد بن رضى الدين محمد أيضًا ابن شهاب الدين أحمد الغزي العامري الدمشقي وأحمد هذا هو جد بني الغزي الأعلى الذي جاء من غزة هاشم إلى دمشق سنة 770 وتوفي سنة 822 - الشيخ العالم الفقيه الفرضي الأديب المتفنن المؤرخ النسابة الناظم الناثر الهمام الأوحد مفتي الشافعية بدمشق وابن مفاتيها وصدرها وابن صدورها صاحب التصانيف الفائقة والمجاميع الرائقة ولد بدمشق في تاسع عشر جمادي الثانية سنة 1173 ونشأ بها في حجر والده وقرأ القرآن على الشيخ محمد الحجاوي وأخذ العلم عن مشايخ كثيرين منهم الشيخ محمد سعيد السويدي البغدادي وتلقى عنه حديث الأولية والشيخ هبة الله الناجي والسيد كمال الدين البكري والشيخ عمر البغدادي نزيل دمشق وعلي أفندي الطاغستاني

والشمس محمد الكزبري والشهاب أحمد العطار والسيد محمد العاني والشيخ أحمد البعلي وتلميذه الشيخ محمد اللبدي واستجاز الشيخ يحيى الجامي المدني لما قدم إلى دمشق سنة 1205 وكثيرين غيره وولي إفتاء الشافعية بدمشق بعد وفاة والده في محرم سنة 1203 وألف مؤلفات لطيفة أغلبها في التاريخ والأدب فمنها هذه الطبقات التي سماها النعت الأكمل لأصحاب الإمام أحمد بن حنبل ورتبها على ثلاث عشرة طبقة كل طبقة لخمس عشرين سنة من أول القرن العاشر مصدرة بمقدمة ذكر فيها

ص: 145

سبب التأليف وشيوخه من الحنابلة وترجمة الإمام رضي الله عنه ومنها التذكرة الكمالية وهي عشرون جزءًا تحتوي على فوائد وآداب شتى وقد رأيت الطبقات والتذكرة في مكاتب آل المترجم بخط يده فإذا في الطبقات نقص لم يقدر له إكماله وفي التذكرة بياض كثير ومن مؤلفاته التامة المورد الأنسي في ترجمة الشيخ عبد الغني النابلسي وله غير ذلك وشعره كثير ونثره غزير وكان بينه وبين المولى خليل أفندي المرادي مفتي دمشق ومؤرخ القرن الثاني عشر صحبة شديدة ومحبة أكيدة ومكاتبات أدبية ومساجلات شعرية ولا عجب فإن بينهما جامعة الإفتاء والفتوة والأدب حتى نقل له المرادي في تاريخه المذكور شيئًا من الشعر وممن اجتمع بالمترجم الأديب الشهير السيد أحمد البربير والبيروتي فكتب إليه قوله:

ضقت لعبد الكمال ذرعًا

وزاد طول البعاد دائي

إن فراق الكمال نقص

حتى على البدر في السماء

يا سيدي زدت بعادي إلى

أن صار جسممي للتجافي خيال

أنقصت حظ الصب مع أنه

لم ير في خلق إلا الكمال

فإذا المترجم بقوله:

مولاي ياذا المكرمات التي

في نظمها والحسن تحكي اللآل

ومن رقى هام العلى وانتهى

لفضله بين الورى الانتهال

بمن حباكم رق قلب غنا

يحكم ذا وله واختيال

كفوا بساط الذل حلما ولا

تؤاخذوني بمطال المطال

وكانت وفاة صاحب الترجمة في صفر سنة 1214 عن 41 سنة ودفن في تربة الدحداح عند قبور عائلته الغزيه وعلى قبره تاريخ صديقه الأديب الفاضل السيد عبد الحليم اللوجي وهو قوله:

أيا سحب الرضا والعفو سحي

على قبر حوى النفس الزكية

محمد الفتى الغزي أرخ

كمال الدين مفتي الشافعية

وقد انقرض عقب صاحب الترجمة وإنما بقي عقب أخيه السيد عبد الغني أفندي فهو والد الأخوين العلامة عمر أفندي مفتي الشافعية بدمشق المتوفى منفيا سنة 1277

ص: 146

وإسماعيل أفندي أحد خلفاء مولانا خالد النقشبندي المتوفى حاجًا سنة 1247 وهما جدا الموجودين الآن بدمشق من بني الغزي رحم الله سلفهم ووفق خلفهم آمين.

*‌

‌ الشيخ مصطفى الدوماني

ذكره سيدي العم محمد مراد أفندي الشطي رحمه الله في مسودة له فقال هو الشيخ مصطفى الدوماني مولدًا وشهرة العلامة الفاضل المفسر الفقيه المتفنن ولد في قصبة دوما ونشأ في صالحية دمشق وأخذ عن الشيخ علي السليمي والملا علي أفندي الطاغستاني وغيرهما وكان آية باهرة من بداية أمره أقبل على حفظ المتون ونقل تقريرات الشيوخ وقد اشتهر أمره وعلا قدره وألف مؤلفات عديدة فما رأيته بخطه ضوء النيرين لفهم تفسير الجلالين في مجلدين وشرح على الكافي في علمي العروض. والقول في حاشية عَلَى دليل الطالب في الفقه نحو عشرة كراريس ورحل صاحب الترجمة إلى مصر وولى المشيخة على رواق الحنابلة في الأزهر ثم رحل إلى القسطنطينية وتوفي بها في خلافة السلطان عبد الحميد الأول رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ محمد هاشم الجعفري

أخبرنا عنه حفيد حفيده الفاضل الشيخ قاسم أفندي نزيل دمشق وغيره من أصحابنا الأدباء فهو محمد بن محمد زيتون بن حسن بن هاشم الجعفري

النابلسي العلامة الفاضل الفقيه القرضي الأديب الشاعر ولد بنابلس سنة 1156 ونشأ بها وتفقه على والده الشريف زيتون المقدم ذكره وعلى العلامة الشيخ محمد السفاريني وأخذ الحديث عن السيد محمد مرتضى الزبيدي ورحل إلى دمشق فأخذ عن الشهاب أحمد العطار وغيره ثم عاد إلى نابلس وأقام بها يدرس ويفيد وكان مقبول الشفاعة عند حكامها مسموع الكلمة بين أهلها ولما كانت حادثة الوهابية في الديار الحجازية وصُد الحاج الشامي عن دخول مكة سنة 1212 أوفده أسعد باشا العظم والي الشام وقتئذ هو والشيخ إسماعيل القدومي إلى رئيسهم الأمير ابن سعود فردا عليهم في قصة طويلة كان فيها ما كان ثم صنف صاحب الترجمة رسالة في ذلك وحج في تلك السنة وعاد إلى وطنه وما زال على حالته الرضية وطريقته السوية إلى أن توفى وكانت وفاته

ص: 147

سنة 1228 وبنو هاشم أو الجعفري في نابلس بيت علم ومجد قديما وحديثا ونسبتهم إلى سيدنا جعفر بن أبي طالب وللمترجم في ذلك رسالة سماها العروض المعطار في نسب السادة آل جعفر الطيار رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ غنام النجدي

ترجمه العم المقدم ذكره فقال هو الشيخ غنام بن محمد بن غنام الزبيري أصلًا النجدي مولدًا الدمشقي سكنًا العالم المتضلع الفاضل الكامل المحدث الفقيه الفرضي الحيسوبي أخذ الفقه عن العلامة الشيخ أحمد البعلي والحديث عن الشهاب أحمد العطار كتب له إجازة بخطه على ظهر ثبته وأخذ بقية المعلوم عن علماء عصره وكان له وللشيخ مصطفى السيوطي الآتية ترجمته المنتهى في معرفة الفقه والفرائض والإطلاع على غوامضهما ويوجد له تقارير وأبحاث كثيرة على هوامش شرح المنتهى بحثًا مع الأصحاب وحلًا لمشكل كلامهم وقد أخذ عنه الفقه سيدي العلامة الجد والشيخ سعيد السفاريني وغيرهما وانتفع به الطلبة انتفاعًا كثيرًا وقرأت بخط الجد المذكور أنه توفي يوم السبت ثامن ذي القعدة سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف ودفن بالمقبرة الذهبية من مرج الدحداح وقال الجد مؤرخًا وفاته:

جدث ثوى فيه الهمام الأمثل

غنام ذو الفضل الذي لا يحجب

قد كان عونًا للذي رام العلى

لا زال في دار الرضا يتقلب

لما دعى قالوا نجا أرخ أجل

بشرى له في جنة لا يعطب

*‌

‌ الشيخ مصطفى السيوطي مفتي الحنابلة بدمشق

قال العم في ترجمته هو الشيخ مصطفى بن سعد بن عبده السيوطي شهرة الرحيباني مولدًا الدمشقي الشيخ الإمام العلامة الفقيه الفرضي المحقق الكامل أوحد زمانه مفتي الحنابلة بدمشق بعد السيد إسماعيل الجراعي ولد سنة خمس وستين ومائة وألف في قرية الرحيبة من أعمال دمشق ثم رحل منها إلى دمشق الشام فأخذ بها الفقه عن بقية السلف الشيخ أحمد البعلي وبه تخرج وانتفع وعن الشيخ محمد بن مصطفى اللبدي آل نابلسي وقرأ على العلامة علي أفندي الطاغتستاني مدرس قبة النسر والشيخ محمد بن علي السليمي والشيخ محمد الكاملي وغيرهم وكان إمام الحنابلة في عصره أعجوبة في

ص: 148

استحضار كلام الأصحاب انتهت إليه رياسة الفقه وشدت الرحال للأخذ عنه وكان حافظًا مقبلًا على شأنه لين العريكة حلو المفاكهة له مكارم دارة وبشاشة سارة ولي نظارة الجامع الأموي في دمشق والجامع المظفر في صالحيتها مدة طويلة فحمدت سيرته ولم يذكر عنه ما يشينه - ومن مؤلفاته الكتاب العظيم المسمى بمطالب أولي النهي في شرح غاية منتهى ثلاث مجلدات ضخام وله كتاب سماه تحفة العباد فيما في اليوم والليلة من الأوراد جمعه من الأصول الستة وله تحريرات وفتاوي لو جمعت لبلغت مجلدًا وقد روى عنه وانتفع به أناس كثيرون من النجديين النابلسيين وغيرهم وقد أخذ عنه الفقه العلامة الجد وانتفع به وقرأت بخطه تاريخ وفاته وذلك ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الثاني سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف وصلي عليه بجامع بني أمية وكانت جنازته حافلة ودفن بتربة الذهبية حذاء آل أبي المواهب الحنبلي ورثاه تلميذه الشيخ سعيد السفاريني بقصيدة مطلعها:

سهم الحمام على الخليقة منتضي

صبرًا وتسليمًا لما حكم القضا

انتهى قلت أن كتاب غاية المنتهى قد صنفه الشيخ مرعي الكرمي جمعًا

بين الإقناع والمنتهى وصاحب الترجمة شرحه بشرحه المذكور ولما وقع الاعتراض من بعض علماء نجد على مواضع في المتن والشرح المذكورين انتصر المرحوم الجد المذكور فجرد ما زاد منهما على الأصلين المذكورين وبحث وحقق فأيد منها ما شهدت له النقول والروايات ورد منها ما لم يقم عليه دليل كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه الذي سماه منحة مولى الفتح في تجريد زوائد الغاية والشرح وقد تأدب مع شيخه غاية الأدب رحمهما الله تعالى وجمع المسلمين آمين.

*‌

‌ الأدب المفنن الشيخ عثمان بن سند

ترجمه العم مراد أفندي المذكور فقال هو عثمان بن سند النجدي ثم البصري الوائلي نسبة إلى وائل بن قاسط بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان الإمام العلامة والرحلة الفهامة حسان زمانه وبديع أوانه خاتمة البلغاء ونادرة النبغاء رحل إلى العراق وأخذ عن علمائها كالصدر السيد محمد أسعد الحيدري مفتي الحنفية والشافعية ببغداد والسيد محمد أمين مفتي الحلة والسيد أحمد الحياتي قاضي بغداد وعلامة العراق والشام

ص: 149

الملا علي ابن الملا محمد سعيد السويدي والسيد زين العابدين جمل الليل المدني حين وروده إلى بغداد والبصرة وحرر له إجازة فيها هذا البيت:

انا الدخيل إذا عدت أصول علا

فكيف أذكر إسنادي لدى ابن سند

وغيرهم من علماء الحجاز والعراق ومن كلامه في مدح مولانا خالد النقشبندي قوله في مطلع قصيدة غراء:

أيها اللائم دع عنك الملاما

وأدر لي من سلاف القوم جاما

وهي طويلة بديعة اشتمل عليها كتابه أصفى الموارد من سلسال أحوال الإمام خالد وهو كتاب نفيس يحتوي على فوائد تاريخية وفرائد أدبية ومن اطلع عليه علم ما للمترجم من اليد الطولى في فنون الأدب نظمًا ونثرًا وقد صار طبعه في مصر سنة 1313 ومن مؤلفاته الجمة نظم الكافي في العروض والقوافي ونظم عوامل الجرجاني وشرحها ونظم الشافية في علم التصريف ونظم مغني اللبيب

ينوف على خمسة آلاف بيت ونظم الورقات لإمام الحرمين وشرحه ونظم النخبة في الحساب وشرحه وله نظم القواعد وهو مشتمل على غزل بديع ونظم في الاستعارة وله رد على دعبل الخزاعي الرافضي في عدة قصائد منها قصيدة ميمية ضمنها أنواع البديع مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة سماها القرضاب في نحر من سب أكارم الأصحاب ألفها سنة 1218 وله كتاب منظوم مدح به الإمام أحمد رضي الله عنه وله تاريخ سماه مطالع السعود بطيب أخبار الوالي داود استدعاه من أجله الوزير العالم داود باشا والي بغداد المنوه به فأكرمه وأجله ورفع مقامه ومحله وولاه مدرسة المغامسية بالبصرة وهو كتاب في نحو أربعين كراسًا جمع من وقائع القرن الثاني عشر والثالث عشر غرائب وفوائد أخنت عليها يد الزمان ولولاه لما كانت هذه الوقائع إلا في صندوق النسيان ابتدأ فيه من سنة 1188 وانتهى إلى سنة 1242 وقد اختصره الفاضل الشيخ أمين الحلواني المدني في كراريس وطبع هذا المختصر في بومباي سنة 1304 واطلعت عليه - وله تاريخ على نحو سلافة العصر سماه الغرر في وجوه القرن الثالث عشر لم يتم والله أعلم وقد ذكر صاحب الترجمة وأثنى عليه جمع من الأئمة الأفاضل حتى أن مولانا الشيخ خالد كان

ص: 150

يقول عنه حريري الزمان وممن أثنى عليه الفاضل أحمد الشرواني اليمني في حديقة الأفراح لإزالة الأتراح قال: القول فيه أنه طرفة الراغب وبغية المستفيد الطالب وجامع سور البيان ومفسر آياتها بألطف تبيان أفضل من أعرب عن فنون لسان العرب وهو إذا نظم أعجب وإذا نثر أطرب فوالعصر أنه لإمام هذا العصر أخبرني بديع الزمان شيخنا الشيخ عبد الله بن عثمان أن هذا الفاضل الأديب أبدع في نظمه مغني اللبيب وأبرز أسرار البدائع بتصانيفه المشتملة على اللطائف والروائع ومن شعره:

قد زارني والليل يحكي فرعه

ظبى الشذا أنا في النحول كخصره

فجنيت من وجناته ما اشتهى

ورشفت من حبيب بحمرة ثغره

وسكرت حتى مست مثل قوامه

طربا ولم أشعر عواقب وزره

ويطربني قوله لا فض فوه:

قلت لما قال لي خشف الغلا

صف عذاري وقوامي واعجلا

يا عديم المثل قد كلفتني

غير ما أقدر حتى قلت لا

أي لا أقدر من الاكتفاء ولا هي جوابه فاللام عذاره والألف قوامه انتهى. قال العلم ولم أقف على ترجمة مستقلة لهذا الحبر الهمام بل وفقت فوقفت على كتاب بخطه أرسله إلى العلامة الشيخ غنام النجدي نزيل دمشق طلب فيه منه إرسال ما يتيسر له من تراجم أجلاء دمشق وذكر لنفسه المؤلفات المذكورة وقد عاش بعد ذلك سنين ولا شك أنه ألف فيها مؤلفات أخرى وكانت وفاته سنة 1250 كما ذكره الشيخ أمين المذكور في مختصر المطالع المقدم ذكره رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ مصطفى البرقاوي قاضي الحنابلة بدمشق

أخبرنا بعض المؤرخين فقال هو مصطفى بن سليمان بن سلمان بن محمد مزهر النابلسي البرقاوي مولدًا وشهرة الدمشقي الشيخ الفاضل العالم البارع الكاتب الماهر قدم دمشق وأخذ عن علمائها وأدرك الشمس محمد الكزبري والشهاب أحمد العطار ولازمهما الملازمة التامة ثم بعد وفاتهما لزم ولديهما العلامتين الشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ حامد العطار وتفقه عَلَى الشيخ مصطفى السيوطي (المقدمة ترجمته) وكان ذا هيبة ووقار ولي قضاء السادة الحنابلة بدمشق سنة 1320

ص: 151

وتصدر للقضاء والإمضاء في المحاكم الشرعية ولم يزل على حالته إلى أن توفي وكانت وفاته في سابع عشر ذي القعدة سنة 1250 ودفن بمقبرة الباب الصغير قريبًا من قبور بني الكزبري رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الخطاط المفنن الشيخ عبد اللطيف الشطي

عبد اللطيف بن خضر بن معروف بن عبد الله بن مصطفى بن شطي المعروف بالشطي البغدادي مولدًا الدمشقي موطنًا ووفاة كان من الأفاضل الصالحين خطاطًا متفننا كاتبًا مخترعًا مدهشًا ذا فكر ثاقب ورأي صائب كتب بخطه البديع من القطع وصنع من التحف ما لم يزل باقيًا حتى الآن منشورًا في البيوت مذكورًا في الألسن وأقدم ما رأيته منها قطعة مؤرخة في سنة 1203 أخذ

الخط وفنونه عن العالم الصوفي الكاتب الشيخ مصطفى بن عبد الله بن محمود الكردي المتوفى بدمشق سنة 1202 ومن لطائف صاحب الترجمة ما حدثنا به العالم المقري الشيخ عبد الله الحموي وكان قد أدركه قال طلب من المترجم قطعة تعلق فوق ضريح سيدنا يحيى في الجامع الأموي فكتب لهم قطعة فيها قوله تعالى {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} فوضعوها على الضريح المنوه به فلما رآها العلامة الشيخ حامد العطار قال لمن معه ما كتب هذه القطعة إلا حنبلي؟ قالوا له نعم كتبها الحاج عبد اللطيف شطي - ومن نوادره المشهورة ما حدثنا به العم الكبير العلامة الشيخ أحمد الشطي قال كان طرق أحد اللصوص داره التي هي الآن دار بني النابلسي في دخلة بني الشطي من محلة العمارة وتكررَ نزله عليه فتفكر في أمره واصطنع له فجا يقبض عَلَى رجله إذا نزل وجعله بصورة الكرسي ثم وضعه في الموضع الذي ينزل اللص منه فلما كان الليل نزل اللص ووضع رجله على الكرسي المذكور فقبض على رجله وآثر اللص على نفسه فتخلص من الفخ وفر هاربا والدم يقطر من رجله فلما خرج صاحب الترجمة إلى السطح عرف تفلت اللص من الفخ وانجراحه به فتعقب في الصباح أثر الدم حتى عرف دار اللص فذهب إليه وتهدده بالبطش والإهانة فشكى له حاله وتاب على يديه ثم أكرمه صاحب الترجمة وعفا عنه - وأخبرنا العم المذكور أنه كان لبعض أعيان دمشق زوجان من

ص: 152

(وروير) أو نحوه قد فقد أحدهما فأتى إلى المترجم بالآخر وطلب منه أن يصنع له مثله ففعل وأتقن حتى جاء صاحبهما المصنوع له فلم يكد يفرق بينهما - واطلعت أنا الفقير محمد جميل الشطي على قنينته من البلور قالوا أنها لا تقبل التحليل لها فوهة لا تدخل الاصبع منها وهي مكتوبة من داخلها بالحبر الأسود وفي ضمنها أدوات كبيرة خشبية بحيث إذا رآها الرائي يأخذه العجب من أمرها - وعلى كرة أرضية مركوزة على أسكملة لطيفة وعليها رسوم الأفلاك والمنازل بصورة تروق الناظر وتسر الخاطر وله غير ذلك من التحف النفيسة وكانت وفاته سنة اثنين وخمسين ومائتين وألف ودفن في مقبرة آل شطى من السفح القاسيوني وقد رثاه ابن عمه سيدي الجد الكبير ببيتين كتبهما بخطه عَلَى لوخ قبره وهما.

يا غافلًا هب واعتبر بما صرنا

واغنم حياتك قبل أن تجاورنا

وقدم الخير ثم كن على وجل

وسل مليكا بعفوه يبادرنا

تذييل - وممن اشتهر من عائلتنا بالخط وأكثر من الكتابة الحاج عبد الفتاح بن عبد القادر بن عبد الله الشطي فإنه كان عَلَى جانب من التقوى والصلاح اعتراه في أول كهولته ضعف في بصره فابتهل إلى الله عز وجل عازمًا أن عافاه ليصرفن عمره في كتابة كتب العلم فاستجاب الله دعاءه ووفى بعهده فإنه لم يشتغل بسوى الكتابة إلى آخر عمره ومما كتبه مصحفان وربعة والصحيحان وشرح القسطلاني في ست مجلدات والدر المنثور في تفسير القرآن بالمأثور للسيوطي في مجلدين وطبقات الحنابلة للعلمي أرخها في سنة 1195 وهي التي اطلعنا عليها واختصرنا منها صدر كتابنا هذا وغير ذلك - ومن كتابنا الأفاضل ولده الشيخ عبد الوهاب المتوفى سنة 1193 اطلعت له على إجازة من الشيخ أحمد البعلي بخطه مؤرخة في سنة 1188 - ومنهم أخو صاحب الترجمة الحاج محمد أمين ابن الحاج خضر شطي المتوفى سنة 1243 رأيت بخطه شرح دليل الطالب فرغ منه سنة 1173 ومنهم الحاج مصطفى بن عبد الله بن مصطفى الشطي كتب شرح الإقناع وأرخه سنة 1165 ومنهم الحاج محمود بن معروف الشطي المتوفي سنة 1201 وولده عبد الله

ص: 153

المتوفى سنة 1198 وعمنا الحاج خليل حلبي ابن الحاج عمر الشطي متولي المدرسة البدرأية بدمشق المتوفى سنة 1253 رحمة الله عليهم أجمعين.

*‌

‌ الشيخ محمد سعدي السيوطي

ذكره العم الفاضل المتفنن مراد أفندي الشطي في مسودة الطبقات فقال هو سعدي بن مصطفى بن سعد السيوطي الرحباني الدمشقي مفتي الحنابلة بدمشق وابن مفتيها تولى الإفتاء بعد وفاة والده سنة 1243 وكان صالحًا دينًا عفيفًا زاهدًا محمود السيرة فقيها في المذهب وكان ضعيفا في العربية بحيث يصحح له الفتوى العلامة الجد الشيخ حسن الشطي وقد تفقه على والده وعلى‌

‌ الشيخ إبراهيم الكفيري

ورأيت تاريخ وفاته بخط الجد المذكور وذلك في خامس

عشر شوال سنة ست وخمسين ومائتين وألف رحمه الله تعالى.

* الشيخ إبراهيم الكفيري

ذكره العم في مسودته المذكورة فقال هو العالم الفاضل الفقيه الفرضي الأوحد تفقه على الشيخ مصطفى السيوطي والشيخ غنام النجدي وقرأ على غيرهما وكان يحفظ المنتهى عن ظهر قلب ويقرره للطلبة مع شرحه بحيث أن الطلبة كانت تصحح نسخ المنتهى من حفظه وكان صالحا ورعا ناسكا زاهدًا ملازمًا داره بمحلة القيمرية وكانت الطلبة تأتيه إلى داره المذكورة وكان العلامة الجد يعظمه وإذا أتاه بعض الطلبة لقراءة الفقه أرسله إليه ولم ينصب نفسه لإقراء الفقه إلا بعد وفاته وقد توفى عام ثلاثة وستين ومائتين وألف تقريبًا وممن أخذ عنه الشيخ محمد خطيب دوما والشيخ عبيد القدومي النابلسي والشيخ أحمد القدومي الدمشقي وولده الشيخ صالح الكفيري المتوفى سنة 1282 رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ مصطفى الشطي

مصطفى بن محمود بن معروف بن عبد الله بن مصطفى الشطي البغدادي الأصل الدمشقي الكرخي نسبة إلى الولي المشهور سيدنا الشيخ معروف الكرخي وهذه النسبة مستفيضة في بغداد معروفة لبني الشطي حتى الآن ولهم فيها آثار ومآثر منها جامع القزازة الحاوي على مقبرة عظيمة قديمة وأغلب آل شطي

ص: 154

مدفونون بها وهو الآن بيد بني البرزنجي من أسباطهم هناك وقد انقرض الذكور منهم بالطاعون سنة 1227 وكان آخرهم الحاج إسماعيل شطي المتوفى سنة 1229 وكان قبل ذلك في حدود سنة 1180 ورد منهم إلى دمشق تجارًا كل من والد صاحب الترجمة الحاج محمود جلبي والحاج عمر جلبي والحاج خضر جلبي أولاد الحاج معروف جلبي وابن عمهم الحاج عبد الفتاح فنزلوا في ديارهم المعروفة بهم قرب المدرسة البدرأية بدمشق وتجارتهم في خان أسعد باشا العظم بسوق البزورية ثم نشأ صاحب الترجمة في صيانة وورع وكان من العلماء العاملين والأولياء الكاملين عابدًا ناسكًا مجتنبًا للشبهات مشتغلا بأنواع القربات مشهورًا

بالصلاح والتقوى بحيث كان مثال الورع في دمشق رأيت نبذة من ترجمته بخط حفيده الشيخ عبد السلام الشطي قال ما خلاصته حدثني جدي رحمه الله مرارًا عديدة أن مولده بدمشق سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف ونشأ في حجر والده المتوفى سنة 1201 ثم بعد ذلك بقي المترجم عند والدته مع أخويه الأكبرين الحاج أحمد والحاج محمد إلى أن بلغ من العمر ثلاثًا وعشرين سنة وكان إذ ذاك قد حفظ القرآن وبرع العلوم فحج بيت الله الحرام وفاز بزيارة النبي عليه السلام وقد قرأ في الفقه على العلامة الشيخ مصطفى الرحيباني الشهير بالسيوطي ومن مقروآته عليه شرحه الذي صنفه على كتاب غاية المنتهى وأخذ التفسير والحديث عن الشمس محمد الكزبري والشهاب أحمد العطار والنحو والصرف وغيرهما من الآلات عن الشيخ القادر الميداني وأخذ عن غيرهم من شيوخ دمشق انتهى. ثم أكب المترجم على العبادة والتلاوة مشتغلا بالتجارة مع أخويه المذكورين بورع تام وتقوى زائدة وقد اشتهر أمرهم وارتفع ذكرهم وامتدحوا بقصائد غراء منها قصيدة بديعة مذيلة بنثر لطيف من إنشاء العلامة الشيخ محمد المسيري المقدسي في مدح المترجم وأخيه الحاج محمد المتوفى سنة 1242 وقد ذكرها سيدي العم مراد أفندي في كشكوله قال المسيري:

سقى الله وادي الشام ذا الرفع والهبط

بواكر غيث بين عال ومنحط

وحيى ربوعًا قد برزن كواكبا

تميس كما ماس الخرائد بالمرط

وأرج أرجاها بأشذى عواطر

ومبهجا للمسرعين وللمبطي

ص: 155

بلاد بها ينسى الغريب بلاده

ويسلو أهاليه مع الصحاب والرهط

بلاد بها روض المسرة فائح

وبدر علاها لا يميل إلى حط

يضوع بها ضوع المسرة عابقًا

وتنهل مزن البشر فيها بلا قنط

تكنفها الجنات من كل جانب

فأربى الشذا فيها على المسك والقسط

وكم نهر فيها يجوس خلالها

وكم جدول ينساب في الدر كالرقط

وكم من مزارات بها ومشاهد

يلوح سناها للمصيب وللمخطي

وكم ماجد فيها وكم عالم بها

تجربه ذيلا على زبة القرط

وكم صالح قد حل في فيح سوحها

به يستقي غيث السماء إذا يبطئ

أخا الحزم يمم نجوها واثو عدنها

وجزلجها وأهبط ببحبوحة الشط

تجد مستناخًا آهلا ومبوأ

رحيبًا وقومًا فضلهم جل عن ضبط

بهم سارت الركبان في كل وجهة

وطيب ثناهم قد دعا الناس للغبط

أناس تراهم لا تتوق نفوسهم

لغير العلى من غير شوب ولا خلط

وهمتهم غرس المكارم في الورى

وكسب المعالي والتقصي عن الرمط

وكم أسسوا آثار فضل ومهدوا

قواعد بر بدرها غير منحط

ولم تلق فيهم غير بر وماجد

وذلك دأب للشباب وللشمط

تنبه كل للمراد من الدنا

فسارع في مرضاة خالقه المعطي

ولم يثنهم عن منهج الرشد صارف

ولا غرت الدنيا بشيل ولا حط

ولا نظروا شذرًا ولا أثروا بها

ولا اشتغلوا بالثلب والطعن والغمط

نواديهم بالعلم والذكر حية

وأرقابهم عن منتمى الخير لا تخطي

وسيرتهم بين الأنام حميدة

ومنهجهم جار على منهج القسط

ومنزلهم مأوى الكرامة دائمًا

وشأنهم يرضي الإله بلا سخط

وما الشام إلا مقلة هم سوادها

وسمط لال هم فرائد في السمط

وما الشام في البلدان إلا قصيدة

وهم بيتها أكرم بالآباء والسبط

أدام إلهي فضلهم متضاعفًا

ورشحهم بالأيد والفضل والبسط

وصانهم من كلّ كرب وآفة

ومن شر ذي ومن كيد ذي ضغط

ص: 156

ولا زال عون الله يرعى ديارهم

ومزن عطاياهم تسح ولا تبطي

إن أحسن ما جرى به القلم في ميدان الكلام وتفجرت به ينابيع البلاغة وصغت له آذان الأفهام وتجلت به وجوه الطروس في كل رحيل ومقام وحسنت به مطالع الابتداء وتزينت به مقاطع الاختتام سلام تهطل مواطره في سوح تلك الأندية وتتضوع زواكيه وتتمايل أزاهره في رياض تلك الأفنية وتتجلى شموسه على تلك المعاهد والأبنية وتتسابق جياد سوابقه إلى تلك النواحي والأرجية أخص بذلك توأمي الفضل ورضيعي لبانه وممتطيي صهوة المجد وممسكي عنانه وراسمي خطط البر ومؤسسي بنيانه وغارسي دوحته ومطيلي أفنانه الجنابين الفخيمين سيدي الحاج محمد وسيدي الحاج مصطفى لا زال ينبوع الفضل

ومعدن الوفا ولا قطع المولى عنهما عوائد كرمه وإحسانه ولا عدتهما سوابغ فضله وامتنانه انتهى كلام المسيري. وذكر العم في كشكوله أيضًا قصيدة في مدح صاحب الترجمة طويلة الذيل للعلامة السيد عبد الله المكتبي مطلعها:

قم يا نديم بدورنا قد تاهوا

في ذا الجمال وللشجي أتاهوا

ويحكى عن المترجم مناقب في الورع يطول ذكرها جدًا ولم يزل على وتيرة العبادة والنسك وحسن السيرة إلى أن توفاه الله تعالى وكانت وفاته ليلة الجمعة سلخ جمادي الثانية سنة تسع وستين ومائتين وألف ودفن في سفح قاسيون في تربتنا الشطية قرب المغارة الجوعية رحمه الله تعالى وأرخ وفاته العالم الشيخ إبراهيم العطار بقوله:

مرقد من جنة الخلد به

ماجد بعهد مولاه وفي

كامل مهذب ذو ورع

بكت التقوى عليه أسفا

ورده القرآن يتلو مخلصًا

وحديث الهاشمي المصطفى

إن رضوان الإله اتحفا

أرخوا طيبا ضريح مصطفى

*‌

‌ العلامة الشيخ حسن الشطي

ترجمه حفيده أستاذي العم مراد أفندي رحمه الله في مسودته فهو حسن بن عمر بن معروف الشطي الدمشقي مولدًا ووفاة البغدادي أصلا الشيخ الإمام العلامة

ص: 157

المحدث الفقيه النحوي الفرضي الحيسوبي الثبت الثقة الورع التقي شيخ الحنابلة ومرجعهم وإمام الفرضيين ومسندهم جدنا الأعظم وإمامنا الأفخم ولد قدس الله روحه بدمشق في صفر سنة خمس ومائتين وألف ونشأ في حجر والده في صيانة ورفاهية وتوفي والده في سنة 1218 فأخذ في طلب العلم وأدرك الشمس محمد الكزبري والشهاب أحمد العطار فأخذ عنهما وتفقه على الشيخ مصطفى السيوطي والشيخ غنام النجدي وحضر في الفرائض والنحو على الشيخ عبد الله الكردي وقرأ على الشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ حامد العطار والشيخ عبد الرحمن الطيبي والشيخ يحيى المصالحي وملا علي أفندي السويدي والشيخ خليل

الخشه وأخذ حديث الأولية عن الشيخ عمر المجتهد وأخذ عن غيرهم بدمشق ورحل إلى بغداد سنة 1226 فأخذ عن مشايخ أجلهم الشيخ محمد البكيري وتشرف بالأقطار الحجازية سنة 1232 فأخذ عن مشايخ من أجلهم الشيخ محمد طاهر الكوراني وألف صاحب الترجمة المؤلفات النافعة منها منحة مولى الفتح في تجريد زوائد الغاية والشرح أي غاية الشيخ مرعي الكرمي وشرح شيخه السيوطي مجلد كبير والنثار على الاظهار مجلد. ومختصر شرح العقيدة للسفاريني مجلد. وبسط الراحة لتناول المساحة مجلد. وشرح على رسالة في أن المصدرية. وشرح على الكافي في العروض والقوافي. وشرح على حزب النواوي. ومنسك كبير. ومعراج. ومولد وعقيدة. وثبت. ورسالة في البسملة. ورسالة في فسخ النكاح. وقد طبعتهما مع رسالة في التقليد والتلفيق استخرجتها من كتاب المنحة المقدم ذكره وذلك في دمشق سنة 1328 - وكان صاحب الترجمة متبحرًا في العلوم متحليًا بحلى المنطوق والمفهوم خدم مذهب الإمام أحمد بن حنبل الخدمة التامة فكان حامل لوائه وانتهى إليه علم الفرائض فكان محيي رمته. وكان شأنه العلم والعبادة وكسبه كأسلافه الصالحين من التجارة الخالصة ولمزيد ورعه لم يعهد له مداخلة في أمور الحكومة حتى تولى مريدوه المناصب العلمية وهم خاضعون لفضله وجلالته ولا اشتغال فأخذوا عنه فنون الفرائض والحساب والمساحة واشتغلوا بها حال حياته وبعد وفاته انتشرت هذه العلوم بدمشق وغيرها وكان له الفضل التام والخير العام في فقهنا الحنبلي فإنه انفرد به في عصره حتى

ص: 158

رحل إليه الطالبون من البلاد النجدية والديار النابلسية ودوما ورحيبة وضمير وغيرها فأخذوا عنه الفقه رواية ودراية وتلقوه خلفًا بعد سلف وكانت دروسه في داره وفي محراب الحنابلة من الجامع الأموي وكان عليه تولية وتدريس المدرسة الباذرائية وهي من أعمر المدارس وأزهرها بدمشق وكان له في الدين والورع أمور كثيرة شهيرة ومن نوابغ تلامذته الذين أخذوا عنه وانتفعوا به مفتي دمشق السيد محمود أفندي حمزة وأخوه أسعد أفندي وقاضي دمشق سعيد أفندي الاسطواني ورضا أفندي الغزي وأخوه حسين أفندي والشيخ بكري والشيخ عمر والشيخ إبراهيم أحفاد الشهاب العطار والشيخ أحمد مسلم الكزبري والقاضي الشافعي الشيخ سليم سبط الطيبي والمفتي الشافعي محمد أفندي الغزي

ودرويش أفندي العجلاني والقاضي الحنبلي الشيخ محمد البرقاوي والمفتي الحنبلي الشيخ سعيد السيوطي والشيخ محمد الطيبي مفتي البلاد الحورانية والشيخ عبد الله القدومي شيخ الديار النابلسية والشيخ يوسف البرقاوي شيخ رواق الحنابلة في الأزهر والشيخ محمد خطيب دوما وغيرهم من دمشقيين وآفاقيين وكان له نظم قليل فمنه قوله مقرظا على بديعية خليل أغا الوكيل:

باهى البها أبدي لنا غرا سمت

تزهو بما قد زانها حسانها

قد وشحت ببدائع ونفائس

وطرائف سرت بها أخدانها

ثم قال:

يا عاذ لي في حبها دع عنك ذا

إن لم تدع غارت لها شجعانها

وفى بأنواع البديع نظامها

وبمدح طه زينت تيجانها

فخليلنا أسدى لنا معروفه

مذ صاغها فتقاصرت أقرانها

لا زال يرتع في ميادين العلى

ما جددا أيامنا ملوانها

وكتب إليه بعض الأدباء

أيا حسنا تباعد عن محب

وبالأوراق رق له وأملى

وثقنا أن حبل الود منكم

ملى من حبال الوصل أملى

فهل للهجر عندك من وصال

تجود به عَلَى المشتاق أم لا

فأجابه بقوله:

أيا خلا حوى لطفا وأولى

من المعروف خدنا ثم أولى

ص: 159

لئن تنصف فقد صوبت رأيا

وأن تسمح وتعذر فهو أولى

ففي الأيام ما يدهي ويلهي

وهل يجديك قولي دعه أولا

وامتدح المترجم العلامة الشيخ مصطفى المغربي إمام المالكية بالجامع الأموي فقال:

خليليَ أن جزت المجاز إلى الشط

وحزت مجاز الفوز من حسن الشط

وفي قطع الأزهار نزهت ناظرًا

بوادي حماة الشام عن أيمن الشط

فحط رحالًا واجتن القطف ناضرًا

وعرج بمرتقى به حسن شطى

محط رجال بالإرادة نمقوا

بنيل معالي القرب عن شقة الشط

كفيل كريم كهف كل كلائة

كفايته كاف الكفاءة كالشط

صدوق صؤم صالح صدعه صدا

صلات صلاة صاد صاعدة الشط

فلا تمضع القربض كالماء تبتغي

مطاعمه وخذ مسانمة الشط

ولم يزل صاحب الترجمة على طريقته المثلى وحالته الحسنى إلى أن توفي وكانت وفاته بعيد الغروب ليلة السبت رابع عشر جمادي الثانية سنة أربع وسبعين ومائتين وألف ودفن بمحفل عظيم في السفح القاسيوني في مقبرة بني الشطي المعروفة بتربة البغاددة وأرخ وفاته العلامة محمود أفندي حمزه بقوله:

هل كوكب العلم استكن

تحت الثرى غض الأديم

أم تخذ القبر وطن

لما رأى أن لا نديم

يا فاضلًا في كل فن

من بعده الفضل عقيم

كم ذاله فينا منن

مازت لنا الفهم السقيم

قد ملأ الدنيا

حزن بندبه هذا الكريم

هو أن يكن شطى السكن

لكنه مولاه الرحيم

حررت لما أن سكن

في ظل مولاه الرحيم

تاريخه الشطي حسن

يقر في دار النعيم

*‌

‌ سعيد أفندي السيوطي

أخبرنا عنه ولده العالم توفيق أفندي فهو سعيد بن مصطفى بن سعد السيوطي

ص: 160

الرحيباني الأصل الدمشقي الشيخ الفقيه الفاضل النبيل الهمام مفتي الحنابلة بدمشق بعد أخيه الشيخ محمد سعدي المتوفى سنة 1256 ولد بدمشق سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف ونشأ في حجر والده وأخيه المقدم ذكرهما ثم أخذ في طلب العلم فنفقه على أخيه المذكور وعَلَى جدنا العلامة الشيخ حسن الشطي وحضر في علوم الآلات على العلامة الكبير الشيخ سعيد الحلبي وولي نظارة

الجامع الأموي بعد أخيه إلى سنة 1264 وفيها فصل من النظارة المذكورة وأقيم في مكانه رضا أفندي الغزي وولي أيضًا نيابة قضاء السلط وكان عليه من أسلافه جملة وظائف دينية منها تولية الجامع المظفري المعروف بجامع الحنابلة في صالحية دمشق فاستمر بها وبالفتوى إلى أن توفى وكانت وفاته في ثامن عشري المحرم سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف رحمه الله تعالى آمين.

*‌

‌ الشيخ محمد الشرفي مفتي الحنابلة بمكة

ترجمه سيدي العم العالم المفنن محمد مراد أفندي في مسودة طبقات الحنابلة له فقال هو الشيخ محمد بن عبد الله بن حميد مفتي الحنابلة بمكة المكرمة الإمام العلامة الفقيه المحدث المتقن كان ذا علم وسيع وفهم رفيع بالغًا أعلى مراتب التقوى مرجعًا لأرباب العلم الفتوى كثير المحبة والاعتناء بشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية وتلامذته له القدم الراسخ في المعلوم العقلية والنقلية دار البلاد ودخل دمشق ونزل في دارنا أيامًا واجتمع بجلة من أعيان دمشق وعلمائها وصار بينه وبين سيدي الوالد صاحب التآليف الشيخ محمد والعم مفتي الحنابلة الشيخ أحمد ألفة أكيدة ومحبة شديدة وأثنيا عليه وذكرا له هما عالية وقد أخذ صاحب الترجمة عن جملة من المشايخ الأجلاء منهم السيد محمد السنوسي روى عنه حديث الأولية ولازمه سنين عديدة وأجازه بثبته وروى بالإجازة العامة عن المحدثين الشيخ عابد السندي والشيخ محمد الأهدل وأخذ علوم الآلات عن العلامة محمود أفندي الألوسي مفتي بغداد والشيخ إبراهيم السقا الأزهري وتفقه في المذهب على الشيخ محمد الهديبي نزيل المدينة المنورة المتوفى بها سنة 1261 وهو تفقه على العلامة الشيخ محمد بن فيروز الاحسائي نزيل البصرة المتوفى سنة 1216 ويروى صاحب الترجمة الفقه أيضًا عن الشيخ عبد الجبار البصري نزيل المدينة عن الشيخ مصطفى السيوطي مفتي

ص: 161

الحنابلة بدمشق وألف مؤلفات منها السحب الوابلة على أضرحة الحنابلة وكانت وفاته سنة خمس وتسعين ومائتين وألف رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ عبد السلام الشطي

ترجمه سيدي العم مراد أفندي في مسودته المنوه بها فهو عبد السلام بن عبد الرحمن بن مصطفى بن محمود الشطي الدمشقي جدي لأمي العالم الفاضل العابد الناسك الأديب الشاعر اللوذعي اللطيف كان من محاسن دمشق وظرفائها حسن العشرة لطيف المذاكرة مفننًا بالأدب يغلب عليه الصلاح ولد بدمشق سنة ست وخمسين ومائتين وألف وجاء تاريخه بالحسن ظهر قرأ القرآن وتعلم الخط وهو صغير جدًا وأخذ عن مشايخ كثيرين منهم الشيخ عبد الله الحلبي والشيخ محمد الجوخدار والشيخ عبد الرحمن بيازيد وأحمد أفندي الاستانبولي والشيخ أحمد مسلم الكزبري والشيخ مصطفى المغربي نزيل دمشق والشيخ صالح جعفر والشيخ عمر العطار وحضر في الفقه وغيره دروس الجد الشيخ حسن الشطي ثم ولده العم الشيخ أحمد الشطي ولازم الشيخ سليم العطار الملازمة التامة في التفسير والحديث وغيرهما وحج مرتين سنة 1274 وسنة 1284 ودخل مصر وغيرها فاستجاز من أجلة الشيوخ كالشيخ إبراهيم الباجوري والشيخ إبراهيم السقا والشيخ مصطفى المبلط والشيخ محمد البنا مفتي اسكندريه والشيخ داود البغدادي النقشبندي والشيخ جمال المكي رئيس المدرسين في المسجد الحرام والسيد أحمد محيى الدين الحسيني مفتي غزه وأخذ الطريقة القادرية عن السيد محمد نوري القادري ورحل إلى قسطنطينية سنة 1293 ووجه عليه تدريس أدرنه وخصص له راتب من الصرح السلطاني وأم في محراب الحنابلة من الجامع الأموي احتسابا وكان مشهورا بالذكاء واللطف التام مع الورع الزائد لا سيما في يتعلق بالطهارة وكان له مزاح ودعابه بحيث لا يمل جليسه منه ولا يعدل صاحبه عنه وله شعر في غاية السلاسه وربما عمل القصيدة الموزونة ولم يعلم من أي بحر هي لم يزل في أرغد عيش وأحسن حال حتى وقعت مسألة كسر البسيط التي عمل فيها قصيدته:

كسر البسيط برأيه المعكوس

وأتى لدرس العلم بعد دروس

فانتصر الأمير عبد القادر الجزائري للشيخ الطنطاوي الذي انكسر البسيط

ص: 162

على يده فأرسل إلى المترجم فأهانه في داره بحضور جماعة من العلماء فبعد ذلك

أغبر عيش صاحب الترجمة وتكدر صفاؤه وأخيرًا تنبه الأمير لغلطه فأرسل إليه صرة فيها خمسون ليرة فردها وأرسل يقول أنا لا أبيع مصيبتي (وعند الله تجتمع الخصوم) ثم جاء الأمير بنفسه إلى دار المترجم فأخذ بيده واستسمح منه ولي قصيدة في هذه القصة من البحر والقافية نضرب عنها صفحا. وقد جمعت لجدي المترجم ديوانًا في أحاسن منظوماته طبعته في بيروت سنة 1325 وإليك شيئًا منها قال رحمه الله متوسلًا:

إليك رسول الله أشكو نوائبا

لقد أنحلت جسمي وأعمت بصيرتي

وقد زاد بي سقمي وطال تمرضي

وقد ضاق بي صدري وصرت بحيرة

وحالي لا يخفاك تفصيل شرحه

فجد لي بكشف الضر واقبل عريضتي

فيا خير خلق الله بالشرف الورى

على بابك العالي أنخت مطيتي

وفيك لقد أملت نيل مقاصدي

وأرجوك يا مختار إبراء علتي

عليك صلاة الله ثم سلامه

وآلك والأصحاب في كل طرفة

وقال عاقدا حديث الرحمة المسلسل بالأولية:

لقد روينا حديثا عن مشايخنا

مسلسلا أولياء جاء منتظما

أن ترحموا تُرحموا دنيا وآخرة

فإنما يرحم الرحمن من رحما

وله في مدح الولي الشهير الشيخ حسن الراعي دفين قصبة قطنا:

في حاء حبك لم أزل مترقيًا

وبسين سرك لا أخاف ضياعي

وبنون نورك في الأنام مهابتي

ورعايتي إذ أنت نعم الراعي

وقال في شرح المنتهى ودليل الطالب من كتبنا الفقهية:

يا من يروم بفقهه

في الدين نيل مطالب

اقرأ الشرح المنتهى

واحفظ دليل الطالب

وقال مضمنا مصراع بيت للعارف بن الفارض:

أجريت من شوقي إليك مدامعي

وازداد من عشقي عليك تلهفي

لو كنت تعرف حالتي لرحمتني

روحي فداك عرفت أم لم تعرف

وقال هذا المقطوع مطرزًا باسم (سعيد):

ص: 163

(سلي همومي بعودك أيها المحبوب

عودك جرحني وعني لم تزل محجوب)

(يكفيك يا منيتي صيرتني مسلوب

داوي بوصلك فؤادي إنه المطلوب)

وقال فيه العالم الشيخ صالح المنير:

بدا عبد السلام ففاح منه

شذا يسمو على زهر الرياض

ومذ حيى غدا كالبدر يزهو

بياض في بياض في بياض

وقال فيه مصباح أفندي محرم من أدباء بيروت:

أنعم بليلة أنس أنت مظهرها

يا من يجل عن التشبيه مظهره

دامت لياليك أفراحًا بكل هنا

بدر السعود علينا أنت مبدره

وقد ألف رسائل لطيفة واجتمع عنده من الكتاب ما لم يجتمع عند غيره فأوقف البعض منها على ذريته وبيع أغلبها في تركته وكانت وفاته فجأة ليلة إحدى عشري محرم سنة خمس وتسعين ومائتين وألف عن 39 عامًا ودفن في التربة الذهبية بمشهد حافل ولم يعقب ذكرًا رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ محمد البرقاوي

أخبرنا عنه ولده الفاضل سعيد أفندي فهو محمد بن مصطفى بن سليمان البرقاوي أصلا وشهرة الدمشقي الشيخ الجليل الفاضل النبيل المعمر قاضي الحنابلة وابن قاضيها ولد بدمشق في حدود سنة عشرين ومائتين وألف ونشأ في حجر والده المقدمة ترجمته وأخذ الفقه عنه وعن جدنا العلامة الشيخ حسن الشطي وحضر في بعض العلوم عَلَى العلامة الكبير الشيخ سعيد الحلبي والشيخ أحمد مسلم الكزبري وصار رئيس الكتاب في محكمة السنانية ثم في البزورية ثم في العونية وتولى القضاء بعد وفاة والده سنة 1250 فاستمر به في العونية إلى أن توفي وكانت وفاته يوم الاثنين تاسع عشر صفر سنة سبع وتسعين ومائتين وألف -

أقول ويحكى أنه كان لصاحب الترجمة أقدام في مسائل الطلاق والفسخ حتى وقعت حادثة فسخ في المحكمة الشرعية سنة 1259 اجتمع لها عند القاضي جمع من المشايخ الكرام فتصدى للفسخ كل من المترجم وسعيد أفندي السيوطي المفتي الحنبلي ففسخا عقد الزوجة التي غاب زوجها

ص: 164

ولم يقنع القاضي العام إذ ذاك السيد محمد نظيف أفندي فأرسل إلى سيدي الجد المنوه به يسأله عنها لما سمع من أنه هو شيخ الحنابلة وإمامهم في العلم والعمل فأفتى الجد المشار إليه بفساده لعدم استيفاء شروطه ثم صححه المذكوران لدى القاضي المذكور في غيبة الجد فعندها بادر الجد رحمه الله فحضر إلى مجلس القاضي وأرعد وأبرق وتلا عليهم النص حتى أبطل القاضي الحكم المذكور وعزل المترجم وولى مكانه الشيخ عبد الحفيظ النابلسي مدة ثم طلب من الجد المقدم ذكره أن يحرر هذه المسألة في رسالة فصنف سيدنا الجد رسالته "الفوز بالنجاح في حكم مسألة فسخ النكاح" المطبوعة سنة 1328 ومن غريب الاتفاق أنه لم يمض على هذه الحادثة بضعة أيام حتى حضر الزوج الأول من غيبته وقبض على زمام زوجته وشكر للجد حسن مساعيه - وقد تولي القضاء بعد صاحب الترجمة سيدي العم الكبير الشيخ أحمد الشطي فصار بعده يحكم ويقضي ويكتب ويمضي ولم تطل مدته فيه ففي سنة 1298 وقعت حادثة حكم فيها بقواعد المذهب فلما علم بذلك القاضي العام وقتئذ موسى كاظم أفندي قال كيف لا ترفع إلي مثل هذه المهمة وأنا القاضي العام ثم أصدر أمره بإلغاء القضائين الحنبلي والشافعي من أصلهما فتعطلت الأوقاف على أربابها أشهرًا ثم ألح على القاضي المذكور بعض أعيان دمشق بأن يعيد الحالة إلى ما كانت عليه فأعاد الشافعي وأبى أن يعيد العم فطلب الوظيفة حينئذ توفيق أفندي السيوطي سليل الإفتاء الحنبلي وكان من الكتاب بمحكمة الباب فولاه إياها على أنه هو والشافعي نائبان من قبله ولم يزل توفيق أفندي المقدم ذكره نائبًا حنبليًا في المحاكم الشرعية إلى سنة 1327 وفيها ولاني السيد محمد رفعت أفندي ابن مصطفى فائق أفندي قاضي دمشق وابن قاضيها النيابة الحنبلية في محكمة السنانيه ثم في محكمة العونيه بمرسوم من قبله وما زلت بها إلى أن ألغيت محاكم الأطراف بمقتضى التنسيقات العمومية فبقي السيوطي في محكمة الباب إلى ختام ربيع الثاني سنة 1339 وفيه صدر الأمر

السامي بتوجيه القضاء عليَّ وتقرير المذكور في الإفتاء وظيفة أسلافه فباشرته في المحكمة الشرعية بدمشق حسب العوائد القديمة ولم أزل فيه إلى يومنا هذا. فرحم الله المترجم وبني البرقاوي وبني السيوطي وبني الشطي وجميع الحنابلة خصوصا وسائر المسلمين عموما آمين.

ص: 165

*‌

‌ الشيخ عبيد القدومي

عبيد بن عبيد الله القدومي موطنًا وشهرة كتب إلينا عنه الفاضل الشيخ يوسف ابن العلامة الشيخ عبد الله صوفان القدومي فقال هو عالم كبير وفاضل شهير بحر استمدت منه جداول الأفاضل وروض قامت به الفنون على كل غصن مائل كان غرة في جبهة الديار النابلسية وعلمًا في طراز الطائفة الحنبلية فقيها محدثا تاريخيا صالحا تقيا ولد سنة اثني عشر ومائتين وألف بقرية كفر قدوم من قرى نابلس ونشأ منشأ حسنا ثم رحل إلى دمشق لطلب العلم فلازم الأستاذين الشيخ سعيد الحلبي والشيخ إبراهيم الكفيري وغيرهما من الأعلام حتى فاق وبرع ثم رجع إلى وطنه المذكور في زال يفيد ويستفيد ويبدي ويعيد مع الجاه والقبول عند الخاص والعام حتى دنا كوكبه المشرق إلى الغروب وكانت وفاته سنة ثمان وتسعين ومائتين وألف وقبره معروف في بلده ومن شعره رحمه الله قوله مخمسًا:

لقد قد ميل الغصن قلبي وسائني

وأجج نارًا في قرار مساكني

وفي شهر نيسان تحرك ساكني

تقنع ورد الحسن في خد فاتني

فلم أستطع قطفا فذبت من الوجد

لقد طفت حول البيت أرنو خياله

ودوما أجوب الليل حتى أناله

ومذ رمت أرجو وصله ونواله

وحاولت منه خلسة فبنى له

سياجًا من الريحان خوفًا على الورد

*‌

‌ الشيخ محمد الشطي

ترجمه ولده سيدي العم مراد أفندي فقال هو محمد بن حسن بن عمر بن

معروف الشطي الدمشقي العالم الفاضل النحرير الكامل الفقيه الفرضي الحيسوبي الهمام الأوحد كان من أعيان العلماء سخيًا ودودًا حسن العشرة ولد بدمشق يوم السبت عاشر جمادي الثانية سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف ونشأ في حجر والده الإمام المقدمة ترجمته وكان والده لشدته يمنعه هو وشقيقه العم الآتية ترجمته أن يخرجا من الدار في صغرهما إلا مع رجل مسن تقي حرصًا على تعليمهما وتأديبهما حتى نشأ كما أحب وكان تضرب المثل بحسن تربيتهما وقد قرأ المترجم القرآن العظيم وجوده وحفظه على

ص: 166

الشيخ مصطفى التلي ولازم دروس والده المنوه به فقها وفرائض وحسابا وتفسيرًا وحديثًا وتوحيدًا ونحوًا وصرفًا إلى غير ذلك وبه تخرج وانتفع ثم بعد وفاته لازم شيخ دمشق الشيخ عبد الله الحلبي فحضر عليه في الأشموني والمغني لابن هشام والدر المختار في فقه الحنفية وطرفا من البخاري في درس قبة النسر وكان استجاز له والده من أئمة دمشق الشيخ سعيد الحلبي والشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ حامد العطار والشيخ عيد الرحمن الطيبي ونزيل دمشق الشيخ محمد التميمي فأجازوه وروى عنهم حديث الأولية وقرأ في الفقه أيضًا على تلميذ والده الشيخ مصطفى الكرمي واستجاز من الشيخ أحمد البغال والشيخ قاسم الحلاق وأخذ الطريقة الشاذلية عن الشيخ محمد الفاسي المكي ولما ورد إلى دمشق الشيخ محمد أكرم الأفغاني لازمه مدة وحضر عنده في الهيئة والفلك وكتب له إجازة عامة وكان لصاحب الترجمة وأخيه العلامة الشيخ أحمد المنتهى في الفقه والفرائض والحساب والهندسة بحيث لا يشق لهما غبار ولا يجري معهما في مضمار وكانا مرجع أهل دمشق في المناسخات والمساحات وتقسيم المياه والدور والأراضي وألف المترجم مؤلفات جمة منها رسالة صغيرة في الفرائض ألفها سنة 1376 وهي أول مؤلفاته ورسالة أبكر منها طبعت في دمشق سنة 1313 برخصة نظارة المعارف وهي مشهورة وكتاب صحائف الرائض في علم الفرائض نحو سبعين صحيفة جعل في كل صحيفة منه بحثًا مخصوصًا وكتاب بسط الراحة لتناول المساحة اختصره من كتاب والده وسماه باسمه وذيله بخريطة فيها رسم الأشكال الهندسية مع بيان مساحتها وقد كان قدمهما إلى استانبول وصدر أمر النظارة المذكورة بمكافاته عليهما برتبة علمية وذلك سنة 1292 وله رسالة أصغر منهما بكراسين وأصغر في كراس واحد وله

مقدمة في توفيق المواد النظامية لأحكام الشريعة المحمدية عليه رخصة النظارة المنوه بها سنة 1303 (وقد طبع في مصر سنة 1325 على يد حفيد المترجم صاحب هذا المختصر) وتسهيل الأحكام فيما تحتاج إليه الحكام رتبه على نيف وألف مادة والمطالب الوفية فيما تحتاج إليه النواب الشرعية والقواعد الحنبلية في التصرفات الأملاكية وكتاب في الحساب في

ص: 167

ثلاث كراريس ونصف وشرح على الدور الأعلى ورسالة في مصطلح الحديث وله خريطة في النحو سلك فيها مسلك الاظهار واختصر معراج والده ومنسكه وجمع دفترًا كبيرًا لتقسيم مياه دمشق يُرجع إليه الآن وله رسائل لم تتم في الفرائض والحساب والنحو وغير ذلك وكان يميل إلى إحياء المذاهب المندرسة ونشرها وله اطلاع واسع عَلَى أقوال المجتهدين حتى أن العلامة السيد محمود أفندي حمزة مفتي دمشق كان طلب منه جمع مسائل الإمام داود الظاهري فجمع رسالته في ذلك في بضعة أيام (وقد طبعها الفقير جامع هذا الكتاب ومختصره بنظر من أستاذي القاسمي رحمه الله تعالى) ووجه على صاحب الترجمة رتبة تدريس أدرنه في حياة والده سنة 1273 ثم صار عضوًا في قومسيون الأوقاف وفي مجلس المعارف وفرضيًا لدائرة البلدية وفي سنة 1294 صار وكيل نيابة قضاء طبريا وفي سنة 1298 ولي نيابة قضاء راشيا فسار فيها سيرة حسنة وفي آخر مدتها الرسمية وقع عنده دعوى بين أهالي القصبة من الدروز فأنفذ حكمه على أحد الفريقين فثار فريق كبير من الأهالي حتى كادت أن تكون فتنة وأبلغ الأمر إلى حمدي باشا والي سورية فاستدعى المترجم وألزمه بيته أيامًا فاستقال من نيابته المذكورة ثم في سنة 1304 صار رئيس الكتاب بمحكمة العونية ثم في محكمة الميدان وتركها قبيل وفاته وكان له درس في رمضان بالجامع الأموي وعليه وعلى أخيه المذكور وظيفة التولية والتدريس في المدرسة البدرأية بدمشق وكان له آراء إصلاحية في أمور شتى يعرضها على رجل الحكومة فتقدرها له وتعمل بها ومنها مد خط حديدي من دمشق إلى مكة. وقد أخذ عنه وانتفع به جماعة كثيرون من علماء يومنا في الفقه والفرائض من دمشقيين ونابلسيين ونجديين وغيرهم وما زال مثابرًا على علمه وعمله إلى أن توفي وكانت وفاته بعد عصر الخميس ودفن صباح الجمعة خامس رمضان سنة سبع وثلاثمائة وألف وكانت جنازته حافلة جدًا ودفن بمقبرة الذهبية رحمه الله تعالى انتهى محررًا. وقد

أعقب أولاده الأربعة سيدي الوالد الشيخ عمر أفندي الآتية ترجمته وأشقائه الشيخ معروف أفندي المولود سنة 1286 والمتوفى شابًا سنة 1317 وكان فرضيًا تقيًا كاملًا حضر دروس والده وعمه وغيرهما وصار كاتبًا في محكمة البزورية ثم في محكمة الباب وكان عليه إمامة جامع السادات

ص: 168

في محلة مسجد الأقصاب ولم يعقب ذكرًا رحمه الله ومحمد مراد أفندي الآتية ترجمته والشيخ حسن أفندي سلمه الله تعالى.

تذييل: كانت ولادة العم حسن أفندي في 16 جمادي الأولى سنة 1297 وهو قرين نشأتي أخذ القراءة والكتابة والإملاء عن الفاضلين الشيخ أبي الخير الطالوي والشيخ أبي الخير المنير ولازم بعض المكاتب والدوائر الرسمية وحفظ القرآن على الشيخ عبد الله الصواف وحضر على الشيخ عطا الكسم مفتي دمشق الآن في النحو وقرأ على شقيقه الولد المومأ إليه في الفقه والفرائض وغيرهما وعليه تخرج في إنشاء الصكوك الشرعية ولازم شقيقه العم مراد أفندي وأخذ خط التعليق عنه ثم عن الأستاذ المفنن مصطفى أفندي السباعي حتى برع فيه وحضر دروس عمه الأستاذ المقدم ذكره وصار مقيدًا بمحكمة السنانية ثم بمحكمة الباب وفي سنة 1320 صار كاتبًا في المحكمة المذكورة بزمن قاضي دمشق عبد الرحمن نسيب أفندي وفي سنة 1326 صار رئيس الكتاب بمحكمة قضاء دوما وتأيدت وظيفته في التنسيقات العمومية ولم يزل بها إلى آخر عهد الحكومة التركية ولما تألفت حكومتنا العربية سنة 1337 دخل في امتحان القضاة ومن ثم وجه عليه منصب القضاء في النبك ولم يزل فيه حتى الآن وقد سلك في النبك مسلكه في دوما من التحري والعفة وعدم الدخول فيما لا يعنيه وهو من أرباب العقل والفضل والمعرفة وله فطنة وروية وأخلاق رضية بارك الله فيه.

*‌

‌ الشيخ محمد خطيب دوما

ترجمه العم المرحوم مراد أفندي في مسودة طبقات الحنابلة له فقال هو محمد بن عثمان بن عباس بن محمد بن عثمان بن رجب بن زين الدين بن خطاب بن سيف الدين الحوراني المليحي الأصل ثم الرحيباني ثم الدوماني المفسر

المحدث الفقيه الأصولي الفرضي الحيسوبي الميقاتي الفلكي العالم العلامة التقي الأوحد نادرة زمانه وخلاصة أوانه البحر الزخار والغيث المدرار فخر المجالس ودرة النفائس ولد سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف بقصبة دوما ونشأ على تقى وطاعة ثم بعد أن اشتدت قواه رحل إلى دمشق لأجل الطلب فلازم الجد العلامة الشهير الشيخ حسن الشطي للاشتغال بالفقه وغيره فقرأ عليه دليل

ص: 169

الطالب وشرحه وشرح زاد المستفتح وشرح المنتهى وشرح الإقناع مع مراجعة شرح الغاية للسيوطي وقرأ عليه في الفرائض شرح الرحبية للشنشوري وفي العربية كتاب الشيخ خالد وشرح الأزهرية وشرحي القطر للمصنف والفاكهي وشرحي الألفية لابن عقيل والأشموني وفي الأصول شرح مختصر النحرير وحضر عليه أيضًا في المعاني والبيان والبديع والحساب والجبر والمقابلة وغير ذلك ولازمه الملازمة التامة وخدمه الخدمة الصادقة وانتفع به انتفاعًا كثيرًا وبه تخرج وأخذ أيضًا عن الشيخ سعيد الحلبي وعمر أفندي الغزي والشيخ محمد الجوخدار وكنت سألته مرة عما قرأه من العلوم فقال أكثر قراءتي كانت في التفسير والحديث والفقه والنحو وأما المعاني والبيان والبديع فقرأت فيها كتابًا واحدًا وأما المنطق فقرأت فيه الفتاوي وقول أحمد وقرأت من بقية العلوم كتابًا كتابًا لا ذوق طعم فمي فيها انتهى كلامه. وقد أتقن صاحب الترجمة فن التشريح والميقات أخذًا عن الجد المنوه به عملا ثم رجع إلى دوما واستقام بها مدة طويلة وحصل جاهًا واسعًا وشهرة عظيمة وكان مهيبًا جسورًا فاضلا حافظًا للقرآن العظيم لا يفتر لسانه من تلاوته وسافر إلى مصر وأقام بها نحو ستة أشهر وأجازه علماء الأزهر إذ ذاك كالشيخ إبراهيم السقا والشيخ مصطفى المبلط وأضرابهما ثم عاد إلى بلده واستقر بها إمامًا وخطيبًا ومدرسًا في جامعها الكبير كما سبق لأبيه وجده من قبله.

ولم يزل يقريء ويفيد إلى أن حصل له فتنة عظيمة من أهالي بلده فآذوه وتكلموا فيه بما لا يليق بمنصب العلم فرحل إلى دمشق واستوطنها وهجر دوما وخذل الله أعداءه ودمرهم وبقي على هذه الحالة نحو سبعة عشر عامًا ينشر علم الفقه والنحو والأصول والميقات ثم في سنة 1303 صار يتردد إلى دوما ويجعل

نصف إقامته فيها ونصفها في دمشق ينشر العلم في الموضعين ثم سافر إلى الحجاز سنة 1305 فحج بيت الله الحرام ثم رجع إلى المدينة المنورة فأقام بها وأقبل عليه أهلها وولي هناك تدريس الحنابلة وأوقافهم ورحلت إليه الطلبة من البلاد وانتفع به خلق كثير ثم عزم على الرجوع إلى دمشق فرأى في منامه صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم فأمره بالإقامة وبشره بأن اللقاء قريب فثنى عزمه عن ذلك ولم يزل عَلَى التدريس والعبادة إلى أن توفي في العشر الثاني من ذي الحجة سنة ثمان وثلاثمائة وألف ودفن بالبقيع وكان قليل العناية

ص: 170

بالتأليف لم يؤلف سوى مولد ضمنه أسماء السور ومنسك اختصره من منسك الشيخ الجد رحمهما الله تعالى والمسلمين أجمعين.

*‌

‌ الشيخ أحمد بن عبيد القدومي

أحمد بن عبيد بن عبيد الله القدومي شهرة ووطنًا كتب إلينا عنه الفاضل الشيخ يوسف القدومي من أساتذة نابلس فقال هو عالم كامل وفاضل ابن فاضل أثمر غصنه في دمشق الشام وأدرك من بها من الأعلام اشترك مع أخيه الشيخ محمد (الآتية ترجمته) في الأخذ عن ينبوع الفضائل ومعدن الفواضل الشيخ حسن الشطي رحمه الله تعالى. كانت ولادته سنة ثلاث وخمسين ومائتين وألف وأقام مدة في دمشق يطلب العلم ثم عاد إلى قريته كفر قدوم من أعمال نابلس وبقي مقيما بها مدرسًا في مسجدها يقريء ويفيد إلى أن وافاه الحمام وأحسن الله له الختام وكان فقيها مفسرًا جيد الفهم معروفا بالتؤدة ولين الجانب وكانت وفاته سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف رحمه الله.

*‌

‌ راغب أفندي البرقاوي

أخبرنا عنه شقيقه الفاضل سعيد أفندي فهو راغب بن محمد بن مصطفى البرقاوي أصلا الحنبلي شهرة الدمشقي العالم الفقيه الفرضي النبيه كان جسورًا مقداما فصيحا لسنًا ولد بدمشق سنة سبع وستين ومائتين وألف تقريبًا ونشأ في حجر والده قاضي الحنابلة بدمشق المقدمة ترجمته وأخذ عنه وعن سعيد أفندي

السيوطي والجد الشيخ محمد الشطي وأخيه الشيخ أحمد الشطي وصار كاتبا بمحكمة السنانيه ثم بمحكمة العونيه ثم بمحكمة الباب وبعد وفاة والده صار رئيس الكتاب بالعونية المذكورة ثم بمحكمة الميدان ثم دخل مسلك القضاة فولي نيابة صفد وحاصبيا وغيرهما إلى أن صار نائبا في قضاء السليمية التابع إلى لواء حماه فمرض اثناه نيابته هذه فحضر إلى دمشق وازداد به المرض فتوفي وكانت وفاته في حادي عشر رمضان المبارك سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف ومن أولاده الفاضل شاكر بك الحنبلي من رجال حكومتنا الملكية ومن النوابغ المنوه بهم بارك الله فيه ورحم سلفه آمين.

ص: 171

*‌

‌ مراد أفندي الشطي

محمد مراد بن محمد بن حسن الشطي الدمشقي أستاذي وعمي الأديب الأريب والشاب النجيب والآخذ من كل علم بنصيب العالم المتفنن الكاتب المجيد الدراكة الألمعي النبيل النبيه نادرة زمانه كان رحمه الله أعجوبة في جمعه بين العلوم الدينية والفنون العصرية بحيث أدرك على قصر عمره ما تقصر الشيوخ عن إدراكه علمًا وفهمًا وأدبًا جمًا:

إن الهلال إذا رأيت نموه

أيقنت أن سيكون بدرًا كاملا

ولد بدمشق يوم الثلاثاء ثامن رجب سنة تسع وثمانين ومائتين وألف ونشأ في حجر والده وعمه وتأدب بآدابهما وقرأ وكتب وهو دون عشر سنين ثم دخل المدرسة الجقماقية وهي يومئذ من مكاتب الحكومة المنوه بها فحاز فيها ما حاز وفاز منها بما فاز ونال الشهادة سنة 1305 مقرونة بجائزة ثمينة ثم لازم بعض دوائر الحكومة واستقر في كتابة الدفتر الخاقاني بدمشق مشتغلا مع ذلك بالقراءات والكتابات فحضر دروس والده المقدمة ترجمته وعمه الآتي ذكره في الفقه والفرائض والحساب والهندسة وغير ذلك وأجازاه عامة وخاصة وأخذ الحديث عن العلامة الشيخ بكري العطار وأجازه والعلامة الشيخ بدر الدين المغربي والمنطق والمعاني والبيان عن العلامة الشيخ عمر العطار وكتب له إجازة سنة 1308 والنحو والصرف عن العالمين الشيخ محمد العطار والشيخ رشيد سنان

وعلم الهيئة والربع المجيب عن الشيخ حسين موسى والجبر والمقابلة عن الأستاذ العلامة الشيخ محمد الطيبي ولازم أخيرًا العلامة الشهير الشيخ طاهر الجزائري وانتفع به كثيرًا وكان لهذا الأستاذ آمال فيه وطالما ذكره وأثنى عليه وقد قرأ عليه تيسير الوصول إلى جامع الأصول المتضمن للكتب الستة وأجز به وبغيره ثم حضر عليه تفسير القاضي البيضاوي فاخترمته المنية قبل إتمامه وكان عارفا باللغتين الفارسية والتركية وكان له الباع الطويل في فنون الخط من النسخ وتعليق وكوفي أخذها عن الفاضل ناظم بك نزيل دمشق وعن المتفنن مصطفى أفندي السباعي ثم كتب بخطه النفيس من الكتب والرسائل شيئًا كثيرًا وأحسن آثاره مدبجات الإمام عبد المنعم الأندلسي المحفوظة في

ص: 172

المكتبة الظاهرية بدمشق وألف رسائل لطيفة منها كشف المغيب في العمل بالربع المجيب وتحفة النساك في فضائل السواك والكواكب المتقابلة في الجبر والمقابلة ومسودات تاريخية ومكاتبات أدبية وقد قرأت عليه أنا وشقيقه الأصغر حسن أفندي في النحو والأخلاق وأخذنا عنه الخط وكان له شعر قليل فمنه قوله:

خالق الناس بخلق حسن

ترتقي أسنى المقام الأحسن

واعتبر في حال أهل الزمن

وانتبه من غمرات الوسن

وتيقن أن زرع الاحن

موجب حقًا لحصد المحن

وقال مشطرًا بيتين مشهورين وأجاد:

(إذا العشرون من شعبان ولت)

فبادر للتقى حق البدار

ولا تسمع لعمر قال جهلا

(فواصل شرب ليلك بالنهار)

(ولا تشرب بأقداح صغار)

فليس مآل ذا إلا النار

وتب واعبد وفي الطاعات فاسلك

(فقد ضاق الزمان عن الصغار)

وقال مؤرخًا عزل المشير عثمان نوري باشا والي سورية على أثر ثورة الدروز في سنة 1314:

عزل الطغاة واجب

قبل وقوع الحسرة

فالوالي أرخوا عزل

بعد خراب البصرة

وقال في غالب:

يعاكسني الظلوم بما أعاني

ويزعم أنه في الكل غالب

وأني لا أقابله ولكن

إله العرش حسبي فهو غالب

وله غير ذلك من الأشعار والنظام والنثار وكان تقيا ورعًا له غيرة دينية وحمية وطنية ولم يتزوج فلم يعقب سوى آثار مبرورة وأعمال مشكورة وقد تمرض أشهرا وكانت وفاته يوم الثلاثاء عاشر ذي القعدة سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف ودفن بالمقبرة الذهبية في دمشق وقد رثيته بقصيدة أثبتها في آخر الرسائل الفاتحية التي جمعتها سنة 1320 وطبعتها في بيروت 1323 وهي قولي:

سقاك الله عيني يا مراد

وحيى الله عهدك يا مراد

ص: 173

وشيد فضلك الأجلى سناه

وخلد ذكرك الأحلى مراد

وأبكي بعدك الدنيا دماء

وأضحك قربك الأخرى مراد

بمنقبة ومرتبة وشأن

ومكرمة ومأثرة مراد

وأعمال وآثار جياد

وأخلاق وآداب مراد

كأنك في سماء الفكر شمس

وفي بحر الحجى ذر مراد

كأنك في بني الشطي قلب

وفي أجسامهم روح مراد

كأنك في ربوع الحق سيف

وفي صحف الهدى قلم مراد

لعمر الله فقدك كان هولا

وحزنًا للورى طرًا مراد

فوا لهفي لعيشك ربع قرن

وموتك وهو عن عقم مراد

حباك الله بالحسنى رضاء

وحفك بالعلي لطفًا مراد

وهذا مظهر قد طبت فيه

وتاريخ له ختم مراد

*‌

‌ الشيخ علي المنصور الكرمي

ترجمه لنا ولده الأستاذ الفاضل الشيخ سعيد أفندي فقال: هو الشيخ العالم الفاضل الفقيه النحرير الهمام ولد سنة ثلاثين ومائتين وألف في بلده طور كرم إحدى قرى نابلس فقرأ القرآن على الشيخ محمد الطياح ثم تاقت نفسه إلى

طلب العلم فرحل إلى دمشق وهي إذ ذاك مأهولة فأخذ فقه الحنابلة عن الأستاذين الفاضلين الشيخ إبراهيم الكفيري والشيخ حسن الشطي ولازم هذا الأخير مدة طويلة كان في آخرها معينًا له على بياض تآليفه التي منها مختصر الغاية ومختصر عقيدة السفاريين وأخذ عنه علم الفرائض حيث كان منفردًا به وأخذ بقية العلوم عن أجلاء شيوخ ذلك العصر مثل الشيخ سعيد الحلبي والشيخ حامد العطار والشيخ الكزبري والشيخ الطيبي وغيرهم - ولما دخل دمشق إبراهيم باشا المصري أخذه من المدرسة المرادية وأدخله في سلك العسكرية. كغيره من أبناء نابلس ولكنه لم يدخل بصفة جندي بل امتحنته لجنة مخصوصة في الخط والحساب ولما وجدته فائقا فيهما عين ملازما ثانيا وتوجه مع الجيش وحضر وقعة "نزب" المشهورة وبعد أن انتهت تلك الفتنة رجع مع الجيش إلى مصر وكان وصل إلى رتبة (قول أغامي)

ص: 174

فلما وصل الجيش إلى الرملة هرب منه راجعا إلى بلده ثم إلى دمشق حيث أكمل تحصيله وصار أمينا ووكيلا للشيخ سعدي السيوطي مفتي الحنابلة ومتولي الجامع الأموي مدة طويلة ثم رجع إلى بلده فكان مرجعا للحنابلة في بلاد نابلس وتولى القضاء هناك مرارًا كان فيها مثال العدل والحق إلى أن انتقل بالوفاة إلى رحمة ربه في يوم الجمعة خامس عشر رجب سنة خمس عشرة وثلاثمائة وألف ودفن في مقبرة بلده بعد أن أوصى وصية مطولة رحمه الله تعالى.

‌الشيخ أحمد الشطي

أحمد بن حسن بن عمر بن معروف الشطي الدمشقي مفتي الحنابلة بدمشق وأحد علمائها الأعلام القائمين بإفادة الخاص والعام العالم الكبير والجهبذ الخطير المحدث الفقيه الفرضي الحيسوبي الفهامة الدراكة الثبت الحجة الصالح التقي أستاذي وعم والدي ولد ليلة السبت رابع عشري بصفر سنة إحدى وخمسين ومائتين وألف ونشأ في حجر والده الإمام المقدمة ترجمته عَلَى أحسن تربية وأتم أدب كما ذكر في ترجمة أخيه سيدي الجد وكان لوالده ميل إليه ونظر عليه وقد قرأ القرآن وجوده وحفظه على الشيخ مصطفى التلي ثم لازم دروس والده من حديث وفقه وفرائض وحساب ومساحة ونحو وغير ذلك وبه انتفع وتخرج

واستجاز له والده من علماء عصره كالحلبي والكزبري والعطار والطيبي والتميمي نزيل دمشق فأجازوه وروى عنهم حديث الرحمة بأولية حقيقية واستجاز من الشيخ أحمد البغال والشيخ قاسم الحلاق وغيرهما ولازم بعد وفاة والده الشيخ عبد الله الحلبي فحضر دروسه ولما توفي والده المنوه به سنة 1274 قدم للتدريس في مكانه فدرس في محراب الحنابلة من الجامع الأموي في محفل عظيم من علماء دمشق وكلهم أثنى عليه وشكر همته وكان حلو التقرير حسن التعبير طلق اللسان ثابت الجنان واستمر يدرس به في رمضان إلى وفاته وأما دروسه ودروس أخيه الخاصة في دارهما فكانت شائقة للغاية بحيث أنها قد تزيد على عشرة دروس في كل يوم وليلة ويجتمع عليهما العدد الكثير من الطلبة وكان صاحب الترجمة يقريء في الحديث والفقه والفرائض والحساب والنحو وكان درسه جم الفوائد مقبولا ولم يؤلف شيئًا ومع ذلك فكانت له حواش

ص: 175

نفيسة على بعض كتب الفقه والفرائض وقد أخذ عنه وانتفع به خلق كثيرون سيما من النجديين والنابلسيين ودوما ورحيبه وغيرها وهم علماء العصر ورجاله الآن وفي سنة 1273 وجه عليه تدريس أدرنه في حياة والده وفي صفر سنة 1288 وجهت له فتوى الحنابلة عن المرحوم سعيد أفندي السيوطي المقدمة ترجمته بمرسوم من قاضي دمشق حسب العادة القديمة فتصدر وأفتى ونفع في حوادث شتى وجمع البعض من فتاويه فجاء رسالة صغيرة. وفي سنة 1295 ولي نيابة محكمة العونية بمحلة العمارة ولما توفي الشيخ محمد البرقاوي قاضي الحنابلة ولي القضاء في مكانه ثم عزل عنه وألغي القضاء من أصله في حادثة الشيخ الطنطاوي مع بني الصلاحي وهي دعوى معروفة. وكان ترك له أخوه سيدي الجد فرضية البلدية في دمشق لما ولي القضاء في راشيا فاستقر بها وبالفتوى إلى وفاته وكان عليه وعَلَى أخيه الجد تولية الجامع المظفري المعروف بجامع الحنابلة وتولية المدرسة البدرئية وتدريسها وكان مرجعًا في المشكلات وعمدة في المعضلات وبالجملة فقد كان حسنة من حسنات الدهر وكانت وفاته فجأة عقب نزوله من وادي الغزي قرب الربوة وذلك ليلة الاثنين ثاني عشري صفر سنة ست عشرة وثلاثمائة وألف ودفن بتربة الذهبية بدمشق وأعقب أولاده الأربعة الشيخ مصطفى أفندي وطاهر أفندي وعبد اللطيف أفندي حفظهم الله وسعيد أفندي المولود سنة 1295 والمتوفى سنة 1315 وكان

شابا ذكيا المعيا حضر في مباديء العلم على والده وأخيه الأكبر رحمه الله تعالى.

تذييل: كانت ولادة ابن العم الشيخ مصطفى المقدم ذكرة في سنة 1372 ونشأ في حجر والده وعمه وقرأ القرآن العظيم عَلَى الشيخ أحمد القدومي الآتية ترجمته وأخذ الخط عن سليم أفندي نزيل البدرأية ولازم دروس والده وعمه في الفقه والفرائض وغيرهما وقرأ في النحو والصرف وغير ذلك على العلامتين الشيخ سليم العطار والشيخ بكري العطار وحصل وبرع وفي سنة 1294 وجهت عليه خطابة المدرسة المذكورة ببراءة سلطانية ولم يزل قائما بها حتى الآن وفي سنة 1300 تقريبا صار كاتبا في محكمة البزورية مدة قليلة وحج مرتين سنة 1305 وسنة 1308 وفي سنة 1305 المذكورة اجتمع بالشيخ محمد الدندراوي خليفة الأستاذ إبراهيم الرشيد

ص: 176

خليفة سيدي أحمد بن إدريس فأخذ عنه علم التصوف وصار من خلفائه في الشام ثم عقد مجالس الذكر في مدرستنا البدرأية من ذلك العهد إلى سنة 1319 وفيها ورد أمر الدندراوي المذكور من مكة المكرمة بابطال الذكر من المدرسة المذكورة وقد لازم الأستاذ العلامة الشيخ بدر الدين المغربي الملازمة التامة وحضر دروسه الخاصة والعامة واختص به وغلب عليه حب الصوفية أصحاب وحدة الوجود والعناية بكلامهم وطريقهم بحيث صار له ذلك مشربا يطنب فيه ويدعو إليه وقد درس في المدرسة المذكورة وانتفع به الطلبة في الفقه والنحو وغير ذلك وكان في سنة 1316 ولي فرضية البلدية بعد وفاة والده ولم تطل مدته بها فتركها إلى غير أهلها وكان ما كان ولما جرى تنسيق الحكومة العثمانية سنة 1327 ولي تدريس قضاء دوما فصار يخرج إليها في بعض أيام الأسبوع ثم في سنة 1331 وجهت عليه فتوى القضاء المذكور فاستقر بها وبالتدريس واستقام في القصبة المذكورة إلى يومنا هذا وهو لأبدع من رجال العلم والفضل فقيه نبيه جليل نبيل لطيف المحاورة والمسامرة ألف رسالة في الرد على الوهابية وفي آخرها مبحث في التصوف طبعت في بيروت سنة 1330 وقد ينظم الشعر فمنه ما كتبه إلى بعض رجال الدولة:

لقد غرست يد الإحسان منكم

غراسًا يكتسي أزهى الملابس

جداول جودكم أن أدركته

فمخضر وإلا فهو يابس

وكانت ولادة أخيه طاهر أفندي في سنة 1283 ونشأ في حجر والده وعمه أيضًا وسلك مسلك الفتوة فلم يتقيد بالعلم وصار مأمور تزكية في محكمة البزورية مدة ثم صار كاتب نفوس في قضاء وادي المعجم ثم وظف في دائرة الأوقاف بالشام وفي سنة 1310 ولي أمانة صندوق البلدية بدمشق ثم ولي أمانة صندوق الطابو بدمشق مدة طويلة إلى أن ألغي الصندوق المذكور ولما جرت التنسيقات العمومية سنة 1327 صار مفتشًا للتحصيلات في جملة أقضية تنقل بينها وفي الحكومة العربية وظف في السكة الحجازية ثم في مناطق البلدية حتى الآن وهو من ذوي المروؤة والشهامة حسن الصحبة والعشرة حفظه الله.

وكانت ولادة عبد اللطيف أفندي سنة 1305 ونشأ في حجر والده ثم أخويه

ص: 177

المقدم ذكرهما ودخل المكاتب الابتدائية وأحرز الشهادة منها ثم دخل تلميذًا في دار المعلمين بدمشق فأتم مدته ونال الشهادة منه سنة 1330 وكان من مقدميه المشار إليهم في النبوغ والذكاء ثم صار من معلمي مكتب (نمونة ترقي) في المدرسة الظاهرية وفي سنة 1332 ولي مديرية المكتب المذكور وهو إذ ذاك من المكاتب الثانوية في الفنون المتداولة والأولوية في حسن التربية والأدب ولم يزل بها إلى أن انقرضت الحكومة التركية ولما تألفت حكومتنا العربية سنة 1337 صار منشئًا أول لمجلس الشورى بدمشق فحسنت سيرته وظهرت خبرته ومعرفته وهو من الشبان الأذكياء مشغوف بالعلم وطلبه موسوم بالعقل وحسن الأخلاق ودود ألوف بارك الله فيه.

*‌

‌ الشيخ عبد الغني اللبدي

عبد الغني بن ياسين اللبدي النابلسي كتب إلينا عنه الأستاذ الشيخ يوسف القدومي من فضلاء نابلس فقال هو عالم جليل وفاضل نبيل ولد في سنة 1262 وطلب العلم في مصر وكان جل انتفاعه على العلامة الشيخ يوسف البرقاوي شيخ رواق الحنابلة بالجامع الأزهر ثم حج وجاور بمكة المكرمة سنين عديدة وصار مدرسًا بحرمها الشريف وألف حاشية على شرح دليل الطالب تدل

على فضله وسعة اطلاعه وكان تقيًا نقيًا مهيبًا حسن الهيئة ولم يزل مجاورًا مقبلا على شأنه حتى توفي بمكة المنوه بقدرها وكانت وفاته سنة سبع عشرة وثلاثمائة وألف رحمه الله تعالى.

*‌

‌ الشيخ محمد بن عبيد القدومي

محمد بن عبيد القدومي النابلسي وتقدمت ترجمة أبيه وأخيه كتب إلينا عنه ولده المذكور قائلًا أنه ولد سنة تسع وأربعين ومائتين وألف وهاجر في طلب العلم إلى دمشق الشام فأخذ عن تاج علمائها الأعلام الشيخ حسن الشطي عليه رحمة الكريم المعطي وكان صاحب الترجمة عالمًا فاضلًا شاعرًا ناثرًا فقيهًا عابدًا سريع الفهم له محاسن جمة ومدائح نبوية وله اليد الطولى في فن التاريخ ولا سيما في أخبار العرب والملوك الإسلامية وقد كف بصره في أواخر عمره وبقي في قريته كفر قدوم مقيما على النفع والطاعة مع حسن المحاضرة ولطف المسامرة لا يمل جليسه منه إلى أن توفي وكانت وفاته سنة ثمان عشرة وثلاثمائة وألف رحمه الله.

ص: 178

*‌

‌ الشيخ يوسف البرقاوي

يوسف البرقاوي مولدًا وشهرة المصري موطنا ووفاة شيخ رواق الحنابلة في الجامع الأزهر بمصر الشيخ العلامة الفقيه النحرير العالم العامل الفاضل الكامل الأستاذ الهمام ولد في بلدة برقا من أعمال نابلس بعد سنة خمسين ومائتين وألف ورحل في طلب العلم إلى دمشق فلازم الجد الشيخ حسن الشطي إمام الحنابلة في عصره وحضر عليه في الأصولين والفقه والفرائض والنحو وانتفع في مباديه بالشيخ عبد الله صوقان القدومي تلميذ الجد المنوه به وبرع وتفوق ثم عاد إلى بلده فدرس وأفاد ثم رحل إلى مصر وجاور في أزهرها الشريف مدة إلى أن صار شيخ رواق الحنابلة ثم رحل إليه الطلبة من الآفاق وانتفعوا به في الفقه وغيره وكان من أجل أهل زمانه علما وفهما مع التواضع ولين الجانب وشهرته العلمية تغني عن الإطناب في أوصافه العلية. وقد كان أستاذي العم مراد أفندي رحمه الله كتب إليه سنة 1314 وهو إذ ذاك شيخ الرواق المذكور يطلب منه إرسال نبذة من ترجمته فأرسل ذلك إليه مع التواضع الزائد والخجل من ترجمة نفسه ثم

فقدت هذه الترجمة بين أوراق العم المذكور وعلى كل فهذا ما بلغناه من ترجمته ولعل فيه كفاية وكانت وفاته في حدود سنة عشرين وثلاثمائة وألف رحمه الله رحمة واسعة آمين.

*‌

‌ الشيخ عبد القادر الشطي

عبد القادر بن محمد صالح بن محمد أمين بن خضر بن معروف بن عبد الله بن مصطفى الشطي البغدادي الأصل الكرخي النسب الدمشقي الشيخ الفاضل كان لطيفا ألمعيًا ظريفا لوذعيا حسن السلوك والصحبة ولد بدمشق سنة ست وأربعين ومائتين وألف تقريبا ونشأ في حجر والده ولما توفي والده سنة 1259 كان المترجم صغيرًا فكفله ابن عم جده العالم الصالح الحاج مصطفى الشطي وحضر مجالس الأشياخ ودروس العلماء كالشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ عبد الرحمن الطيبي والجد الشيخ حسن الشطي وغيرهم ولم يتقيد بطلب العلم فكان يتعاطى في مبادي أمره البيع والشراء ثم لما كانت حادثة النصارى سنة 1276 نسب إليه منها شيء فنفي مع من نفي إلى جهات بعيدة وبقي منفيا عدة سنين ثم لما عاد إلى دمشق واستقام أمره صار كاتبا في

ص: 179

محكمة الميدان ثم ولي أمانة بيت المال بدمشق سنة 1286 ثم مديرية الأيتام سنة 1297 ثم في نحو سنة 1303 صار رئيس الكتاب بالمحكمة الكبرى المعروفة بالبزورية وفي سنة 1315 وجهت له نيابة المحكمة المذكورة فاستمر بها إلى وفاته ومع ذلك فكان حلو المفاكهة حسن العشرة متجملا بالمحاسن. وكانت وفاته في أواسط شوال سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وألف وقد ناهز السبعين ودفن بمقبرة الدحداح بدمشق وأعقب أولادًا توفي اثنان منهما في حياته أحدهما محمد صالح مات شابا في الأستانة والآخر محمود أفندي مات سنة 1317 بدمشق عن نحو خمس وأربعين سنة وكان نائب التذكيه بمحكمة الباب ثم بالسنانيه وكان كوالده حالا وقالا وفيه تودد وحسن عشرة توفي بمرض طويل رحمهم الله وأموات المسلمين آمين.

*‌

‌ الشيخ أحمد القدومي

أحمد بن حسين أبو سعيد القدومي النابلسي ثم الدمشقي الشيخ الفاضل

الفقيه الكامل العابد الزاهد المعتقد. المبارك المعمر ولد في قرية كفر قدوم من بلاد نابلس ونشأ بها ثم قدم إلى دمشق في حدود سنة 1260 وهو شاب فلازم سيدنا الجد الشيخ حسن الشطي الملازمة التامة وخدمه الخدمة الصادقة وحضر دروسه الخاصة والعامة وأخذ الفقه عنه وعن الشيخ إبراهيم الكفيري وكان يحضر دروس التفسير والحديث عند المرحوم الشيخ سليم العطار وكان ولاه الجد المنوه به خدمة مدرستنا البدرأية وأسكنه دارها الجوالية فبقي على ذلك أيام الجد وولديه المرحومين وأحفاده المحفوظين إلى أن توفي وقد تفقه عليه جماعة من الحنابلة وانتفعوا به وسمعت من فوائده واستجزته فأجازني جزاه الله خيرًا وكان يحفظ تفسير الأجلين ولا يفتر لسانه عن التلاوة والذكر وإذا تلا القرآن يفسره تفسيرًا حسنًا وكان مستحضرًا لمسائل الفقه قوي الحافظه وضيءُ الوجه منور الشيبة ذا دين ويقين وصلاح مبين وللناس فيه اعتقاد عظيم ويدعونه لقراءة الختمات ويستخيرون عنده وكان إذا مرت به آية وعيد يقول أو لا يرون الأفلاك السماوية والآيات البرية والبحرية قاتلهم الله يأكلون خيره ويعبدون غيره ونحو ذلك وكان إذا مس أحد المدرسة المذكورة بأذى يبطش به بطش الشباب ولا يخشى ولا يهاب وشوهد مرة في بعض الأسواق وأمامه أحد أعيان الذميين راكبًا

ص: 180

على فرس فلما رآه ابتدره بقوله يا أخباث أما أخذ عليكم العهد سيدنا عمر أن لا تركبوا الخيل قاتلكم الله غير ذلك مما يدل على قوة إيمانه وسلامة صدره وكانت وفاته بعد أن مرض بالإسهال شهورًا ليلة الجمعة سادس ربيع الثاني سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وألف وقد ناهز الثمانين وصلي عليه في الجامع الأموي بعد صلاة الجمعة ودفن في مقبرة الباب الصغير عند قبور بني الطنطاوي لأنهم تزوجوا بنتين له بين والد وولد وأعقب المترجم ولدين لم يكونا على طريقته رحمه الله آمين.

*‌

‌ سعيد أفندي البرقاوي

سعيد بن محمد بن مصطفى البرقاوي الشهير بالحنبلي تقدمت ترجمة جده ووالده وأخيه وكان هذا فاضلًا كاملًا نبيلًا نبيهًا ولد بدمشق سنة سبعين ومائتين

وألف تقريبًا ونشأ في حجر والده وطلب العلم في بداية امره فأخذ عن والده وسعيد أفندي السيوطي والجد الشيخ محمد الشطي وأخيه الشيخ أحمد الشطي وصار كاتبا في معية والده بمحكمة السنانية ثم بالبزورية ثم بالعونية وبعد وفاة والده صار رئيس الكتاب في محكمة دوما الشرعية ثم في محكمة قطنا وكلتاهما قضاء تابع لدمشق ثم دخل المترجم في سلك النيابات فولي نيابة المعرة ثم نيابة البقاع فأتم مدتها الرسمية في سنة 1223 ثم أنه عاد إلى دمشق وأقام بها متوددًا للناس متجملا بالمحاسن إلى أن كان يوم الجمعة ختام شهر رمضان المبارك سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وألف فبعد أن صلى الجمعة وانصرف إلى داره بمحلة الشاغور انقبض قلبه وهو في الطريق فلما وصل إلى الدار أُغمي عليه وما لبث أن فاضت روحه وتوفي فجأة فغسل وكفن ثم حضروا به إلى الجامع الأموي بعد العصر فصلينا عليه ونحن في غاية الأسف لما كان بيننا من الاجتماع والمؤانسة في المدة الأخيرة حتى أخذنا عنه ترجمة والده وأخيه راغب أفندي وعرفنا بالجملة ترجمته أيضًا وأظنه دفن بتربة الباب الصغير عند أسلافه رحمه الله وإيانا وقد أعقب ولديه مصطفى أفندي الذي سلك مسلك والده وتوفي بالأستانة سنة 1328 تقريبا ونجيب أفندي الموجود الآن وفقه الله.

*‌

‌ الشيخ عبد الله صوفان القدومي

عبد الله بن عوده بن عبد الله صوفان ابن العالم الصالح الشيخ عيسى القدومي مولدًا

ص: 181

ومنشأ ثم النابلسي موطنًا ووفاة ترجمه لنا ولده الفاضل الشيخ يوسف أفندي مراسلة قال هو الأستاذ العلامة الفقيه المحدث الناهج المنهج الأحمد والمحيى لمذهب أحمد عالم الديار النابلسية وبركة البلاد الحجازية كان مولده بقرية كفر قدوم سنة ست وأربعين ومائتين وألف وبها نشأ وحفظ القرآن الكريم وجالس أهل الصلاح والأدب وفي سنة 1363 خرج في طلب العلم إلى دمشق الشام فاجتمع على جل علمائها الأعلام ولازم الأستاذ الفاضل صاحب المناقب السنية الشيخ حسن الشطي سيد الطائفة الحنبلية فأخذ عنه الفقه والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية ولما أن جنى زهر تلك المنازل وحسا صفو

هاتيك المناهل عاد إلى وطنه فاستقام فيه مدة ثم كثرت هناك المشاغب والاحن فعزم عَلَى مفارقة ذلك الوطن وأم مدينة نابلس وبها سكن وكان ذلك عام 1287 فرحل إليه الطالبون وانتفع به الراغبون وكان كثير الاعتناء بتلامذته ولا سيما المبتديء منهم وكانت إقامته في مدرسة الجامع الصلاحي الكبير وهو دمث الأخلاق حلو الشمائل حسن المذاكرة جيد التعبير والتقرير أخذت عنه البلاد الحجازية والشامية علمي الحديث رواية ودراية ورزق الحظوة والجاه فوق النظائر والأشباه ومن مصنفاته كتاب المنهج الأحمد في درأ المثالب التي تنمي لمذهب الإمام أحمد وبغية النساك والعباد في البحث عن ماهية الصلاح والفساد وهداية الراغب وكفاية الطالب مرتب ترتيب أبواب البخاري والأجوبة الدرية في دفع الشبه والمطاعن الواردة عَلَى الملة الإسلامية والأجوبة العلية على الأسئلة الرافعية في علم التوحيد وطوالع الأنوار البهية جوابا عن خمسين مسألة في العلم المذكور والرحلة الحجازية أودعها الأبحاث الشريفة التي كانت تقع بينه وبين العلماء في رحلته المدنية وهي مطبوعة معروفة وله من الرسائل المختصرة شيء كثير وفي سنة 1318 زار بيت المقدس وبلد سيدنا إبراهيم الخليل فدعته النفحات القدسية إلى البلاد الحجازية فأقام يخدم السنة السنية في الأعتاب النبوية وانتفع به خلق كثيرون في الفقه والحديث وكان في موسم الحج من كل سنة يحج ويؤدي المناسك الشريفة وربما زار وطنه في خلال ذلك فتهزه نسمات العود والرجوع ولم يزل على حالته الحسنة يتردد بين المدينة المنورة ووطنه المذكور إلى أن كانت وفاته بنابلس وهو يصلي

ص: 182

الجمعة في الجامع الكبير الصلاحي في اليوم العاشر من المحرم سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وألف وشيعت جنازته من الغد وصلي عليه في الجامع المذكور بجمع حافل وكان يومًا مشهودًا ودفن في مقبرة نابلس بجوار العلامة الشهير الشيخ محمد السفاريني ورثاه جماعة من أهل العلم ومنهم الشيخ منيب هاشم مفتي الدار النابلسية حيث قال في مرثيته:

الله أكبر فالمصاب تناهى

والدين ثلمته استطار عناها

شمل البلاء العالمين فلا ترى

نفسًا ولم تك زعزعت أحشاها

فاليوم مات الحجة العلم الذي

لدلائل التحقيق شاد بناها

علامة العصر المدقق والذي

بسنائه فاق الدروس سناها

هو عابد لله أخلص قصده

من آل صوفان يجل تقاها

يا طالما انتفع الأنام بفضله

وروت من الإرشاد عنه مناها

فلتبكه بقع الدروس فيالها

من روضة أرجت به أرجاها

ولتبك نابلس على طود مضى

قد كان مصدر نفعها ورجاها

أسفًا على ذاك الحلال وهيبة

كان الزمان لعزها يخشاها

فالله يعظم أجرنا ويعمه

بالفضل في دار يدوم هناها

ويضاعف الأجر الجزيل لآله

والمسلمين ففقده أعياها

ومما جاء في تاريخ وفاته:

ناديت لما أن دعى بسجوده

أرخ لعبد الله حسن ختام

انتهى يقول المختصر: وما تقدم ذكره من تدريس صاحب الترجمة في الحرم الشريف النبوي إنما هو وظيفة معلومة كان المترجم فيها خلفًا للمرحوم الشيخ محمد خطيب دوما كما ذكرنا ذلك في ترجمته وبالجملة فقد أثنى على صاحب الترجمة كل من لقيه وعرفه في العلم والورع والتمسك بطريقة السلف - واطلعت عندنا على مسودة إجازة كتبها لصاحب الترجمة سيدي الجد وأخوه سنة 1305 بناء على طلبه وفوات أخذه الإجازة من والدهما المنوه به - وأعقب المترجم ولديه العالمين الفاضلين الشيخ

ص: 183

محمود أفندي المولود سنة 1287 وصديقنا الشيخ يوسف أفندي المولود سنة 1290 سلمهما الله تعالى ورحم والدهما آمين.

*‌

‌ الشيخ موسى القدومي

موسى بن عيسى بن عبد الله صوفان ابن الشيخ عيسى القدومي النابلسي المترجم في تاريخ المرادي كتب إلينا عنه قريبه الشيخ يوسف أفندي وغيره فهو الشيخ العالم العلامة المحقق المدقق الفهامة المفسر المحدث الأصولي النحوي المتفنن الأستاذ الهمام الأوحد ولد في سنة خمس وستين ومائتين وألف ورحل في طلب العلم إلى دمشق وجنى فيها من ثمار الفنون ما تقر به العيون فأخذ الفقه والفرائض والتوحيد عن العالمين الجليلين الجد الشيخ محمد وأخيه الشيخ أحمد

ولدي الإمام الأستاذ الشيخ حسن الشطي، والتفسير والحديث والنحو والصرف والمنطق عن الأساتذة المشاهير محمد أفندي المنيني والشيخ سليم العطار والشيخ بكري العطار وكتبوا له إجازات حافلة سنة 1289 ونظم له الشيخ عبد السلام الشطي الإجازة الشطية وقال فيها:

محصل المنطوق والمفهوم

موسى بن عيسى الحنبلي القدومى

ثم عاد إلى وطنه وسكن مدينة نابلس فشارك ابن عمه الأستاذ الشيخ عبد الله المقدمة ترجمته في التدريس بمدرسة الجامع الصلاحي الكبير ولما هاجر الأستاذ المنوه به إلى الديار الحجازية انفرد صاحب الترجمة بالتدريس في نابلس فأفاد وأجاد وقصدته الطلاب والوراد وعم النفع به في الديار النابلسية وكان يقريء في فنون شتى عالي الهمة لا تأخذه في الله لومة لائم وفي سنة 1331 وجه عليه من الدولة العثمانية رتبة أزمير ولم تزل تلك المدرسة قائمة به على قدم وساق حتى أصبحت خاوية على عروشها بإعلان السفر البري في الدولة المذكورة سنة 1332 ثم ما زال صاحب الترجمة على طريقته المثلى إلى أن توفي ليلة عيد الفطر سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وألف عن 71 عامًا وصلي عليه بمشهد حافل ودفن قريبًا من العلامة السفاريني رحمه الله رحمة واسعة وقد رثاه تلميذه الشيخ أحمد البسطامي بمرثية طويلة قال في مطلعها:

جل المصاب فوطأة الأحزان

عظمت فشبت نارها بجنان

وأرخ وفاته بعضهم بقوله:

ص: 184

ضريح طوى من كان للعلم قاموسا

فأصبح رمسًا بالفضائل مأنوسا

سلالة صوفان إمام محدث

أنار وأحيى العلم بحثًا وتدريسا

سعى للقاء الله في العيد سائلًا

رضاء إله جل فضلًا وتقديسًا

لهذا بشير العفو نادى مؤرخًا

بسعي لقد أوتيت سؤلك يا موسى

*‌

‌ عمر أفندي الشطي

سيدي ووالدي ومن أخذت عنه طريقتي وتالدي قدمت تراجم أبيه وجده

وجملة من أقربائه فهو عمر بن محمد بن حسن الشطي الدمشقي الشيخ العالم الفقيه الفرضي الحاسب الكاتب الأوحد خاتمة العصابة الحنبلية وبقية السلالة الفرضية ولد في 10 جمادي الأولى سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف ونشأ في حجر أبيه وعمه المقدم ذكرهما وقرأ القرآن على شيخنا الشيخ خليل الدبسي وأخذ الخط عن سليم أفندي نزيل مدرستنا البدرأية ثم دخل المدرسة الجقماقية فتلقى فيها مباديء العلوم عند أمثال محمد أفندي المرعشي والشيخ رشيد سنان وحضر دروس والده وعمه في الفقه والفرائض وغير ذلك وقرأ على العلامة الشيخ عمر العطار وكتب له إجازة عامة سنة 1308 ولازم دروس العلامة الشهير الشيخ سليم العطار ثم دروس شيخنا العلامة الشيخ بكري العطار ثم لازم العالم الفقيه الشيخ راغب السادات وحصل على إجازتهما وقد برع في الفقه والفرائض والحساب والمساحة علمًا وعملًا ودرس فيها وفي سنة 1300 وجهت عليه إمامة جامع الخريزانية ثم في سنة 1335 نقل منها إلى إمامة مدرستنا المذكورة وكان في سنة 1296 صار كاتبًا في محكمة البزورية ثم في سنة 1304 نقل إلى الكتابة في محكمة الباب من محاكم دمشق الشرعية فبقي مدة طويلة كان فيها عمدة في عمل المناسخات وقسمة الأملاك والمياه وغير ذلك وحمدت الناس سيرته وقدرت قضاة العدل قدره ولله الحمد وفي سنة 1327 ولي رياسة الكتاب في محكمة البزورية المذكورة ولما ألغيت محاكم الأطراف في التنسيقات التركية صار مفتيا ومدرسا في حوران على أن يؤدي وظيفته في أمانة الفتوى بدمشق فبقي على ذلك إلى آخر الحكومة التركية تراجعه الناس في الحوادث الشرعية وتنتخبه المحاكم العدلية في الكشوف الحقوقية فيحسن الخدمة ويعرب عن همة وأي همة وقد يقبل الوكالات والدخول في الخصومات إلى أن يرضى الطرفان ويأخذ

ص: 185

كل ذي حق حقه وكان له في ذلك سعة صدر وحسن فهم - وقد ذكر لفرضية البلدية حين استقال ابن عمه منها سنة 1318 فلم يعبأ بها ثم في حكومتنا العربية ذكر للقضاء الحنبلي وصدر الأمر العالي به فلم يتم له حتى توليته بعده وذقت فراقه وبعده وكان رحم الله روحه سخي الطبع عزيز النفس حسن السمت صبورًا حمولا متحريًا لدينه متحليا بالشهامة والمروءة هينا لينا يغلب عليه الرضاء والمسألة دمث الأخلاق جدًا يكره الدخول فيما لا يعنيه والتعرض لمحدثات الأمور ولم يزل

على حالته الرضية حتى مرض أياما قلائل وكانت وفاته ليلة الثلاثاء رابع شعبان سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف وصلي عليه في الجامع الأموي بمشهد عظيم ودفن في التربة الذهبية قريبا من والده وعمه وقد بكته القلوب والعيون بالدماء والدموع وأعقب أربعة ذكور أكبرهم هذا الفقير ثم زكي أفندي وشوكت أفندي وضياء الدين أفندي تغمده الله برحمته وجزاه عنا خير ما جزى والدًا عن ولده آمين وقد تلطف أستاذنا العلامة الجليل الشيخ محمد الطيبي مفتي حوران فكتب إليه في سنة 1317 مطرزًا:

ع عماد عباد الله في الردع والنفع

ش شعاع بقاع العدل في مركز الوضع

م مداد مراد الهادي جل جلاله

ط طلاء ضياء الحق في محكم الصنع

ر رضيه لبا التوفيق فاق وانه

ي يراع مدار الحكم في مجلس الشرع

وقلت أثناء تحريري هذه السطور أرثيه وأؤرخه:

يا من تجلى علمه بيننا

ومن نراه عمر الثاني

قد كنت عونا للجميع ففز

بجنة أرخ وغفران

ص: 186

يقول جامع الكتاب ومختصره محمد جميل الشطي القاضي والإمام الحنبلي بدمشق حالا إلى هنا انتهى ما جمعناه واختصرناه من طبقات الحنابلة أسلافنا وعلمائنا رضي الله عنهم وقدس أرواحهم آمين. وقد كان جمعي واختصاري له في سنة 1325 ثم أني هذبته وبيضته سنة 1335 ثم أعدت النظر فيه أثناء طبعه وكان الفراغ من إحسان وضعه أحكام طبعه في 12 جمادي الثانية سنة 1339 هجرية الموافق 20 شباط سنة 1921 ميلادية والحمد لله رب العالمين وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 186

‌الأستاذ العلامة الأديب السيد الشيخ عبد الله العلمي الحسني الغزي نزيل دمشق يقرظ هذا الكتاب

لقاضي الحنابل فضل جزيلْ

بمختصر الطبقات الجليل

فمن جال فيه يقل مادحًا

كتاب الجميل كتاب جميل

الشقيق النبيل محمد زكي أفندي يرثي السيد الوالد

أجسامنا تحنو وأرواحنا

تصبو إلى لقياك في كل آن

أف لدار لست حلًا بها

وحبذا دارك بين الجنان

‌العلامة الزمخشري يذم السلفية

لجماعة سموا هواهم سنة

وجماعة حمر لعمري موكفه

قد شبهوه بخلقه فتخوفوا

شنع الورى فتستروا بالبلكفه

‌الرد عليه

لجماعة يقضي ويمضي عقلهم

في نقلهم بقر لعمري مهمله

قد عطلوا آياته فتخوفوا

شنع الورى فتستروا تابأ وله

‌يقولون

يقولون في أصحاب أحمد قلة

فقلت لهم أن الكرام قليل

‌خاتمة

أنا حنبلي ما حييت وإن أمت

فوصيتي للناس أن يتحنبلوا

ص: 187