المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الرسالة الخامسة عشرة في معنى: {أَغْنَى عَنْهُ} - معنى {أغنى عنه} - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ٧

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

الرسالة الخامسة عشرة

في معنى: {أَغْنَى عَنْهُ}

ص: 293

بسم الله الرحمن الرحيم

[ص 29] الغنى: عدم الحاجة، والإغناء: إعدام الحاجة، ثم من الأشياء ما يحتاج الإنسان إلى حصوله كالمال، ومنها ما يحتاج إلى دفعه كالعذاب.

فإذا نظرنا إلى حالك مع المال، وجدناك طالبًا، والمال مطلوبًا، فأنت محتاج، والمال محتاج إليه.

وإذا نظرنا إلى حالك مع العذاب حين يُخشى أن ينالك، وجدنا الأمر كأنه عكس ما مضى، كأن العذاب هو الطالب المحتاج، وكأنك أنت المطلوب المحتاج إليك.

على هذا الأساس جرى استعمال كلمة "أغنى" ومشتقاتها في الكلام. يأتي الطالب مفعولاً به منصوبًا، والمطلوب مجرورًا بـ"عن"، فانقسمت إلى ضربين:

الأول: ما كان على ظاهره، كالإنسان والمال. يأتي الإنسان منصوبًا، والمال مجرورًا بـ"عن"، كقولك لأخيك: قد أغناني الله عن مالك.

وقال تبارك وتعالى (9/ 82): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .

قال ابن إسحاق: "قالوا لَتُقطَعنّ عنا الأسواقُ، ولَتهلكنّ التجارة، ولَيذهبنّ عنا ما كنا نصيب فيها من المرافق"

(1)

. فكأنه قال: فسوف يغنيكم

(1)

"سيرة ابن هشام"(2/ 547)، "تفسير الطبري"(شاكر 14/ 197).

ص: 295

الله

عن الأموال التي كانت تحصل لكم من التجارة مع المشركين.

الضرب الثاني: ما جاء على الاعتبار الآخر، كالإنسان والعذاب الواقع، أو المتوقع. يأتي العذاب منصوبًا، والإنسان مجرورًا بـ"عن". قال الله تبارك وتعالى (40/ 47):{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} .

وغالب ما في القرآن من كلمة "أغنى" أو مشتقاتها وارد على هذا الضرب الثاني، [ص 30] ولكنه قد يترك المنصوب، وقد يترك المجرور بـ"عن"، وقد يتركان معًا؛ ويقع الاختلاف في التفسير.

وقد فصلت العرب بين الضربين، فجعلت مصدر "أغنى" من الضرب الثاني "الغَناء" بالفتح والمد.

وفي "لسان العرب"

(1)

: "قال ابن بري: الغَناء: مصدر أغنى عنك أي كفاك". ثم قال بعد: "أغْنِها عنَّا أي اصرِفْها وكُفَّها". ثم قال: " يقال: أغْنِ عنّي شرَّك، أي اصرِفْه وكُفَّه. ومنه قوله تعالى:{لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 19].

وأرى أنه إذا فُهِمَ ما تقدّم، ورُوعي في الفهم والتقدير كان أجدر بالإصابة.

ولا ريب أنه إذا حذف المفعول المنصوب، كما في قوله تعالى:{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ} [المسد: 2] صح تفسير {أَغْنَى عَنْهُ} بقولك: نفعه، ولذلك

(1)

(15/ 138 - 139 غني).

ص: 296

يفسّر

كثير منهم المصدر وهو "الغناء" بالنفع.

وكأنهم لهذا يستغربون نصب الكلمة للمفعول به، فيجعلون {شَيْئًا} في الآية السابقة مفعولاً مطلقًا، يقولون: أي شيئًا من الإغناء، أو نحو ذلك. وهذه ــ فيما أرى ــ غفلة عن الأساس الذي تقدم بيانه.

فنرى الزمخشري يقدرها في بعض المواضع بما يقتضيه السياق، فيقول:"من عذاب الله" كما في "تفسيره"(58/ 17)

(1)

و (66/ 10)

(2)

. مع أنه أولَ ما وقعت (3: 10){إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} ، قال:" (من) في قوله: {مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} مثله في قوله: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله، أو من طاعة الله {شَيْئًا} أي بدل رحمة الله وطاعته، وبدل الحق"

(3)

.

وهذا تعسّف وغفلة عن السياق وعن الأساس الذي مرّ بيانُه.

(1)

يعني تفسير قوله تعالى في سورة المجادلة (17): {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} . قال في "الكشاف"(4/ 495): " {مِنَ اللَّهِ} من عذاب الله {شَيْئًا} قليلاً من الإغناء".

(2)

وذلك قوله تعالى في سورة التحريم (10): {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} . قال الزمخشري: "لم يغن الرسولان عنهما

إغناءً ما من عذاب الله". "الكشاف" (4/ 571).

(3)

"الكشاف"(1/ 339).

ص: 297

وذكر الآلوسي

(1)

في الآية [ص 31] أوجهًا، أولاها بالصواب أن أصل الكلام: شيئًا من عذاب الله، فقوله:"من عذاب الله" في الأصل نعت لقوله: {شَيْئًا} ، ولكن تقدم النعت فكان حالاً

(2)

.

هذا، وقد تُفسَّر "أغنى" في الضرب الثاني بقولهم: دفع، كفّ، صرف، أبعد؛ تُحْمل؛ بحسب اختلاف المواضع. وهذه كلُّها تُبقي الكلام على نظمه.

وقد تفسر بقولهم: "كفى"، وهذه تغيّر نظم الكلام. وكذلك "نفع".

وأرى أن كلمة "دفع" تصلح في جميع المواضع، وهي الموافقة لما قدمت في الأساس، وإن كان غيرها في بعض المواضع أنسب منها.

وكذلك كلمة "كفى" تصلح، ولكنها تُغيِّر نظم الكلام، وتُوقع في اشتباه المعنى.

فأما قوله تعالى (10/ 31): {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} إلى قوله (10/ 36): {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}

(3)

فقد تقدّم عن الكشاف أن المعنى: إن الظن لا يغني بدلَ الحقِّ إغناءً ما. ويفسر الحقّ

(1)

"روح المعاني"(3/ 93).

(2)

انظر: "البحر المحيط"(3/ 35). و"شيئًا" في هذا الوجه مفعول به، و"من" للتبعيض.

(3)

وانظر الكلام على الآية في "الأنوار الكاشفة" للمؤلف (ص 336).

ص: 298

بالعلم. وحاصله: أن الظن لا يغني بدل العلم إغناءً ما، أي أنه إنما يُعتدُّ بالعلم، وأما

الظن فلا اعتداد به.

وبهذا قال كثيرون، أو الأكثرون، ثم يخصصون الآية بمعرفة الله، وما وليها من العقائد. ويقولون: المعتبر فيها العلم القطعي، ولا يفيد الظن فيها شيئًا، فأما ما عدا ذلك كالأحكام الفقهية فهي مخصوصة من هذا، فإن الظن معتبر فيها.

ومنهم من يقول: الظن الذي ثبت شرعًا الاعتداد به يرجع إلى أصول قطعية، فمن قضى بشهادة عدلين [ص 32] فإنما قضى بالدليل القطعي الذي يوجب القضاء بشهادة عدلين. وكذا من اعتدَّ بدلالة ظنية من القرآن، إنما عمل بالدليل القطعي القاضي بوجوب الأخذ بمثل ذلك. وهكذا من أخذ بحديث صحيح، إنما عمل بالدليل القاطع الموجب العملَ بمثل ذلك.

وأنت ترى أن هذا التفسير يخالف الأساس في كلمة "يغني" ويخالف مواقعها الكثيرة في القرآن.

ومشى ابن جرير على ذلك المعنى

(1)

.

واقتصر ابن كثير على قوله: "لا يغني عنهم شيئًا"

(2)

.

وقال البغوي: "لا يدفع عنهم من عذاب الله شيئًا، وقيل: لا تقوم مقام العلم"

(3)

.

(1)

"تفسير ابن جرير"(شاكر 15/ 89).

(2)

"تفسير ابن كثير"(2/ 399).

(3)

"معالم التنزيل"(2/ 363).

ص: 299

وقوله: "لا تقوم مقام العلم" هو المعنى المتقدم، فأما قوله:"لا يدفع عنهم من عذاب الله شيئًا"، فهو في الجملة المعنى الذي يقتضيه الأساس المتقدم، ومواقع الكلمة في القرآن، إلا أن قوله:"من عذاب الله" لا يخلو من بعد؛ لأن كلمة "الحق" إما أن يكون حملها على أنها اسم الله عز وجل، ثم قدر كلمة "عذاب"؛ وإما أن يكون حملها على أن المراد بها العذاب.

والذي يقتضيه السياق أن تكون كلمة "الحق" هنا هي ما تقدم في الآيات في قوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] فالحق هو الأمر الثابت قطعًا. فتوحُّد الله تعالى باستحقاق العبادة أمر ثابت قطعًا، كما تقتضيه الآيات السابقة، وهو حق يُطالَب العباد ليعترفوا به، ويعملوا بحسبه. والمشركون يحاولون دفع هذا الحق بتخرُّصاتهم التي غايتها في نفسها أن تفيد ظنًّا ما، والظنُّ لا يدفع شيئًا من الحق اليقيني، فيتحصَّل من هذا أن الظن لا يعارض القطع.

وهذا المعنى ــ مع كونه موافقًا لأساس كلمة "يغني" ولمواقعها في أكثر الآيات ولمقتضى السياق ــ حق في نفسه، لا يرد عليه شيء مما تقدم، ولا ما يورد على ذلك من إنكار بعض أئمة العربية مجيء كلمة "من" للبدلية، ولا غير ذلك.

ولكن يبقى علينا أن هذه الجملة: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36][ص 33] وردت في موضع آخر من القرآن، قد لا يحتمل هذا المعنى، بل قد يتعين فيها المعنى الذي قاله الجمهور، فلننظر في ذلك.

قال الله تبارك وتعالى (53/ 20): {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا

ص: 300

قِسْمَةٌ

ضِيزَى} إلى أن قال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} إلى قوله: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} .

جرى الجمهور هنا على ذلك المعنى: أن الظن لا يغني بدل العلم، أي لا يقوم مقامه. وذكر البغوي ما يوافقه، ثم قال:"وقيل: الحق بمعنى العذاب، أي إن ظنهم لا ينقذهم من العذاب"

(1)

.

وقد يقال: إن السياق يعيِّن قول الجمهور دون القول الذي قدمناه: أنّ الظنّ لا يدفع شيئًا من الحق.

والصواب: أنّ السياق يوافق هذا المعنى، فكلمة "الهدى" من قوله:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} مثل كلمة الحق في قوله تعالى هناك: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} فالهدى هو الحق الثابت قطعًا، فهو المراد في قوله:{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} .

وكأنه قيل: وجاءهم من ربهم الحق الثابت اليقيني في أنه لم يلد ولم يولد، وأن الملائكة عباد من عباده، ليسوا بنات له ولا إناثًا، وهم في زعمهم أن الملائكة بنات الله ليس لهم علم يستندون إليه سوى الظن، وهوى النفوس. فيتبعون الظن، ويحاولون أن يدفعوا به ذلك الحق اليقيني؛ وإن الظن لا يدفع شيئًا من اليقين، فالظن لا يعارض القطع.

(1)

"معالم التنزيل"(4/ 259).

ص: 301

فقد بان أنه ليس في هذا الموضع ما يدفع المعنى المختار المطابق لأساس كلمة "يغني" في العربية، ولمواقعها الكثيرة في القرآن مع موافقته للسياق، وأنه لا يرد عليه شيء، كما تقدم.

ص: 302