المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مفهوم الأسماء والصفات (الحلقة الثامنة) … مفهوم الأسماء والصفات سعد ندا المدرس بالجامعة - مفهوم الأسماء والصفات - ٥٥ - ٥٦

[سعد بن عبد الرحمن ندا]

فهرس الكتاب

مفهوم الأسماء والصفات (الحلقة الثامنة)

مفهوم الأسماء والصفات

سعد ندا المدرس بالجامعة الإسلامية

أحمد الله تبارك وتعالى، وأثني عليه الخير كله، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، وأسأل الله ربي أن يديم علينا نعمة عقيدة التوحيد، وأن يثبت قلوبنا عليها، وأن يختم لنا بها ختام الإيمان.

وإتماما للحلقات السمع الماضية، أواصل -بحول الله وقوته- بحثي في محاولة لبيان ما يوفقني الله تعالى إلى فهمه من معاني أسمائه الحسنى.

* وقد كان البحث في الحلقات السابقة في اسم (الحميد) سبحانه، وأنه قد اقترن باسم (الغني) سبحانه عشر مرات، ذكرتُ منها بعضا، أضيفُ إليه قولهُ تعالى:{وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} (إبراهيم:8) . والمعنى أنه سبحانه غني عن شكر عباده، وهو الحميد المحمود وإنْ كفره من كفره، كقوله:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} الآية، وقوله:{فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، وفى صحيح مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال:"يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلاِ واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أَولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أَفجر قلب رجل واحدٍ منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أَن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيتُ كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر" فسبحانه وتعالى الغني الحميد1.

وقد جاء في جامع البيان أن معنى الآية أَن الله غني عن خلقه وشكرهم، وهو سبحانه مستحق للحمد في ذاته، وإن لم يحمده الحامدون2.

1 تفسير ابن كثير جـ 2 ص 525.

2 جامع البيان في تفسير القرآن للإبجي جـ 1 ص 357.

ص: 124

وذكر الإمام الشوكاني أن معنى الآية أَن الله تعالى غني عن شكركم، لا يحتاج إليه ولا يلحقه بذلك نقص، وهو سبحانه مستوجبٌ للحمد لذاته، لكثرة إنعامه وإن لم تشكروه أو يحمده غيركم من الملائكة1.

وجاء في تيسير الكريم الرحمن أن المعنى أن الطاعات لا تزيد في ملكه والمعاصي لا تنقص، وهو كامل الغنى، حميد في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، ليست له من الصفات إلا كل صفة حمد وكمال، ولا من الأسماء إلا كل اسم حسن، ولا من الأفعال إلا كل فعل جميل2.

وجاء في صفوة التفاسير أن معنى الآية أنه سبحانه غني عن شكر عباده، مستحق للحمد في ذاته، وهو المحمود وإن كفره من كفره3.

أقول:

واقتران اسم (الحميد) سبحانه باسم (الغني) جل وعلا، أفهم منه أنه تبارك وتعالى هو الغني غنىً مطلقا، وجميع خزائن أنواع الخير لديه، بَيْدَ أنه لا يُنزل منها على عباده إلا بمقادير معينة بحكمة تامة، كما يقول تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجرات آية 21) ، ومن ثم فهو سبحانه لا يحتاج إلى واحد من خلقه مهما علا قدره وامتد سلطانه، إذ الحاجة مظهر من مظاهر الضعف، والضعيف المحتاج إلى غيره لا يصلح أَن يكون إلهاً، ولما كان الله عز وجل من صفاته الغنى المطلق عن كل ما خلق، فإنه الجدير حقاً بأن يكون رباً وإلهاً لجميع ما خلق، وأنَّ كل خلقه محتاجون إليه أعظم احتياج، ومدينون له بكافة أنواع الحمد، لأنه مصدر كافة أنواع النعم، وفي هذا يقول عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر آية 15) .

وقد اقترن اسم (الحميد) سبحانه باسمه (العزيز) ثلاث مرات4 وذلك في قوله تعالى: {الر، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم آية 1) .

وتقتضي الفائدة- ولو أن موضعها في هذا المقام استطرد أرجو أن يكون نافعاً إن شاء

1 فتح القدير جـ 3 ص 96.

2 تيسير الكريم الرحمن جـ 4 ص 62.

3 صفوة التفاسير المجلد 2 ص 91.

4 المعجم المفهرس.

ص: 125

الله- أن أوجز ما قيل في الحروف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن الكريم بمناسبة ذكر آية مفتتح سورة إبراهيم عليه السلام ، وذلك على الوجه التالي:

تبلغ الحروف في أوائل السور- بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفاً، وهي (أ-ل-م-ص-ر-ك-هـ- ع- ي- ط- س-ح-ق- ن) يجمعها قولك (نَص حَكِيمٌ قَاطِعٌ له سر) وهي نصف حروف الهجاء عدداً- وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة قال عنها الزمخشري إنها على أصناف أجناس الحروف يعني: من المهموسة والمجهورة، ومن الرخوة والشديدة، ومن المطبقة والمفتوحة ومن المستعلية والمنخفضة. ومن حروف القلقلة، ثم قال: وقد جاء منها على حرف واحد مثل (ص-ن-ق) ، وعلى حرفين مثل (حم) ، وعلى ثلاثة أحرف مثل (الم) ، وعلى أربعة مثل (المر- المص) ، وعلى خمسة أحرف مثل (كهعيص- حم عسق) لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف، وعلى حرفين، وعلى ثلاثة. وعلى أربعة، وعلى خمسة لا أكثر.

وقد اتجه المفسرون في الحروف المقطعة إتجاهين: الإتجاه الأول: أنها مما استأثر الله بعلمه، فردوا علمها إلى الله ولم يفسروها.

والإتجاه الثاني: فسروها واختلفوا في معناها، فقيل: إنها أسماء للسور، وذلك لما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة الم السجدة، وهل أتى على الإنسان". وقيل: إنها اسم من أسماء الله تعالى- فقد روى ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال (سألت السدي عن حم وطس وألم فقال: قال ابن عباس هي اسم الله الأعظم) .

وأما عن الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور فقد ذكرت أقوال لعل أصحها أنها وردت بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها. وقد حكى هذا القول الرازي عن المبرد وجمع من المحققينْ، والقرطبي عن الفراء وقطرب، وحكاه الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر، وذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وحكاه عنه الحافظ أبو الحجاج المزي.

وقد ذهب إلى هذا الرأي الحافظ ابن كثير وقال: ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة، ولهذا يقول تعالى:{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة آية 1. 2) ، {الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ

ص: 126

بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْه} (آل عمران آية 1. 2. 3) ، {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} (الأعراف آية 1. 2) ، {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} (إبراهيم آية 1) ، {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (السجدة آية 1، 2) ، {حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الشورى آية 1، 2، 3) ، وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر، والله أعلم1. هذا ما يتعلق بالحروف المقطعة.

أما آية مفتتح سورة إبراهيم فمعناها- بعد الحروف المقطعة- أن هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد وهو القرآن العظيم الذي هو أشرف كتاب أنزله الله من السماء على أشرف رسول بعثه الله في الأرض إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم، لتخرج به الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد، بإذن ربهم لأنه هو الهادي لمن قدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره، يهديهم إلى صراط العزيز الذي لا يمانَع ولا يغالَب، بل هو القاهر لكل ما سواه، الحميد أي المحمود في جميع أفعاله، وأقواله، وشرعه، وأمره، ونهيه، الصادق في خبره2.

وقال الإمام الشوكاني إن معنى الآية المذكورة أننا أنزلنا الكتاب إليك يا محمد، لتخرج الناس من ظلمات الكفر والجهل والضلالة إلى نور الإيمان والعلم والهداية، جعل الكفر بمنزلة الظلمات، والإيمان بمنزلة النور، واللام في: لتخرج للغرض والغاية، والتعريف في الناس للجنس. والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم يخرج الناس بالكتاب المشتمل على ما شرعه الله لهم من الشرائع مما كانوا فيه من الظلمات إلى ما صاروا إليه من النور، وذلك بإذن ربهم إلى صراط العزيز القادر الغالب، الحميد الكامل في استحقاق الحمد3.

ومعنى الآية في جامع البيان: أنه كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس بدعوتك إياهم إلى ما فيه من أنواع الضلال إلى الهدى بأمر الله وتوفيقه إلى صراط العزيز الغالب، الحميد المستحق للحمد4.

ومعنى الآية في تفسير الكريم الرحمن: أنه تعالى نزل كتابه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لنفع الخلق، ليخرج الناس من ظلمات الجهل، والكفر، والأخلاق السيئة،

1 تفسير الحافظ ابن كثير الجزء الأول ص 36-39.

2 تفسير ابن كثير الجزء 3 ص 523 بقليل تصرف.

3 فتح القدير الجزء 3 ص 93 بقليل تصرف.

4 جامع البيان في تفسير القرآن ص 356.

ص: 127

وأنوع المعاصي إلى نور العلم والإيمان، والأخلاق الحسنة، ولا يحصل منهم المراد المحبوب لله إلا بإرادة من الله ومعونة، ففيه حث للعباد على الإستعانة بربهم. ثم فسر النور الذي يهديهم إليه هذا الكتاب فقال: إلى صراط العزيز الحميد، أي الموصل إليه، وإلى دار كرامته، المشتمل على العلم بالحق والعمل به.

وفى ذكر العزيز الحميد بعد ذكر الصراط المتصل إليه إشارة إلى أن من سلكه فهو عزيز بعزة الله، قوي ولو لم يكن له أنصار إلا الله، محمود في أموره، حسن العاقبة، وليدل ذلك على أن صراط الله من أكبر الأدلة على ما لله من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وأن الذي نصبه لعباده عزيز السلطان، حميد في أقواله، وأفعاله، وأحكامه، وأنه مألوه معبود بالعبادات التي هي منازل الصراط المستقيم1.

ومعنى الآية في صفوة التفاسير: أن هذا الكتاب المعجز مؤلف من جنس هذه الحروف المقطعة، فأتوا بمثله إن استطعتم، وقد أنزلناه عليك يا محمد لم تنشئه أنت، وإنما أوحيناه إليك، لتخرج البشرية من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والإيمان، بأمر الله وتوفيقه، إلى طريق الله العزيز الذي لا يغالب، المحمود بكل لسان، الممجد في كل مكان2.

أقول:

واقتران اسم (الحميد) سبحانه باسم (العزيز) جل وعلا، أفهم منه أنه تبارك وتعالى هو العزيز بعظمته وجلاله وقدرته وقهره وغلبته وسلطانه على كل ما خلق، وأن العزة صفة من صفات كماله، فمن أرادها فليهرع إلى مالكها لينقذه من ذلته، ويعزه سبحانه بعزته، كما أمرنا تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} (فاطر آية 10) ، ومع ذلك فلو نال العبد العزة من خالقه سبحانه، فإن عزته محدودةٌ بحدود تناسب بشريته وما جبلها الله عليه من طاقات وقُدرْات، لكن عزة الله ذي الجلال مطْلقَةٌ لَا نِهَايَةَ لها تًناسب عظمته وجلاله. ورغم أنه جل وعلا العزيز القوي، الغالب، القاهر، فهو كذلك المحبوب، (الحميد) سبحانه، بمعنى المحمود المستحق أن يحمد بجميع أنوع المحامد، حتى ولو لم يحمده بعض العُمي المتخبطين ممن جحدوا نعمه وفضله وكماله وجلاله، إذ هو الجدير بكافة ألوان الحمد، والأهل لها، على وجه الثبات والاستمرار، ذلك بأن صفات كماله سبحانه – ومنها صفة العزة وصفة الحمد- ملازمة له لا تنفك عنه لحظةً ما، فمن أراد كذلك أن يحَمد على قوله، وعلى فعله، فليلتزمْ نهجَ (الحميد) سبحانه، ولنا في رسولنا الكريم محمد صلى

1 تيسير الكريم الرحمن الجزء 4 ص 60.

2 صفوة التفاسير المجلد 2 ص 90.

ص: 128

الله عليه وسلم أسوة حسنة، إذ أنه حين التزم نهج الله (الحميد) كان مما وعده تعالى به يوم القيامة أن يبعثه مقاماً يحمد فيه وذلك في قوله عز وجل:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} (الإسراء آية 79) .

وعاب الله على أولئك الذين ساءت أفعالهم، ورغم ذلك يحبون أن يحمدهم الناس على تمسكهم بالحق وهم على ضلال، ثم توعدهم سبحانه بالعذاب الأليم، فقال جل وعلا:{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران آية 188) .

والذي ألفه الناس فيما يتعاملون به بينهم، أن الشخص إذا كان قوياً متسلطاً على غيره، غالباً قاهراً لمن دونه، أن يكون مثل هذا الشخص مكروها غير محبوب ولا ممدوح، لكن الله عز وجل-ولله المثل الأعلى- رغم سلطانه وقوته، وقهره وغلبته، وهيمنته وعزته، فإنه تعالى هو المحبوب غاية الحب لكمال نعمه على خلقه، وهو الحميد المحمود غاية الحمد لكمال صفاته التي تغاير تماماً صفات خلقه، وإن اشتركت أحياناً ألفاظ هذه الصفات، ذلك بأنه سبحانه لا يمَاثِلُهُ واحدٌ من خلقه، ولا يماثِلُ واحداً من خلقه، فهو تعالى كما وصف نفسه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى آية 11) . أي ليس له تعالى مثيل ولا نظير، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد.

وقال القرطبي: والذي يعتَقَدُ في هذا الباب أن الله -جلّ أسمه- لا يشبه شيئاً من مخلوقاته. ولا يشبَّه به أحد، وما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي، إذ صفات الخالق عز وجل بخلاف صفات المخلوقات، وإذْ صفاتهم لا تنفكُّ عن الأعراض والأغراض، وهو تعالى منزهُ عن ذلك، وقد قال بعض المحققين: التوحيد إثبات ذاتٍ غير مشبهةٍ للذوات، ولا معطَلةٍ من الصفات، إذ ليس كذاته -سبحانه- ذات، ولا كأسمائه أسماء، ولا كأفعاله أفعال -وهذا هو مذهب أهل الحق، أهل السنة والجماعة1.

والموضع الثاني الذي اقترن به اسم (الحميد) سبحانه باسم (العزيز) هو قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (سبأ آية 6) . ومعنى هذه الآية أن المؤمنين بما أنزل على الرسل إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار بالذي كانوا قد علموه من كتب الله تعالى في الدنيا، رأوه حينئذ عين اليقين، وأن هذا الحق هو وحده الذي يهدي إلى صراط العزيز المنيع

1 تفسير القرطبي الجزء 16 ص 8 بقليل تصرف.

ص: 129

الجناب، الذي لا يًغَالبَ ولا يًمَانَع، بل قهر كل شيء وغلبه، وهو الحميد في جميع أقواله، وأفعاله، وشرعه، وقدره، وهو المحمود في ذلك كله جل وعلا1.

ومعنى الآية في جامع البيان أن الذين أوتوا العلم كمؤمني أهل الكتاب أو كالصحابة ومن تبعهم يرون -عند مجيء الساعة- أن القرآن هو الحق عياناً كما علموه الآن برهاناً وهو يهدي إلى صراط العزيز الحميد وهو دين الإسلام.

وذكر الشوكاني معنى قوله تعالى: {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ، أنه يهدي إلى طريق العزيز في ملكه، الحميد عند خلقه، والمراد أنه يهدي إلى دين الله وهو التوحيد2.

ومعنى الآية في صفوة التفاسير أن القرآن يرشد من تمسك به إلى طريق الله العزيز أي الغالب الذي لا يقهر، الحميد أي المحمود في ذاته وصفاته وأفعاله3.

والموضع الثالث الذي اقترن به اسم (الحميد) سبحانه باسم (العزيز) قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَاّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} . ومعنى هذه الآية أنه ما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله (العزيز) الذي لا يضام من لاذ بجنابه المنيع. (الحميد) في جميع أقواله، وأفعاله، وشرعه، وقدره، وإن كان قد قدر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفار به، فهو العزيز الحميد وإن خفي سبب ذلك على كثير من الناس4.

1 تفسير ابن كثير الجزء 3 ص 526 بقليل تصرف.

2 فتح القدير الجزء 4 ص 313.

3 صفوة التفاسير المجلد 2 ص 546

4 تفسير ابن كثير الجزء 4 ص 493.

ص: 130